إن هذا الموقف يحمل دلالات عدة تطرح إمكانية وصفه بالجمود أو الركود أو الإفلاس الفكري، غير أن هذه النتيجة ربما تنفيها احتمالات أخرى؛ إذ إنها يمكن أن تكون إعلاناً عن إغلاق باب «الاجتهاد الليبرالي»، ورفضاً لإعادة تجديد الرؤى حول وظيفة التراث في النهضة المنشودة على أساس أن «الحكم» السابق بإقصائه من قبل السلف الليبرالي أصبح عند المثقف الليبرالي العربي المعاصر القول الفصل، أما ظاهرة اجترار الفكرة نفسها بصورة أو بأخرى في وقتنا الراهن؛ فربما تكون على سبيل التأكيد والثبات على الموقف. وفي رأينا أن كل هذه الاحتمالات ليس لها إلا معنى واحد وهي الدوغمائية الرافضة للحوار ليس مع الطرح الإسلامي السائد والمتنامي الآن؛ ولكن مع الواقع العربي الذي يرفض تغريب قيمه وتزييف ذاكرته الجماعية.
والنتيجة كانت جلية وواضحة، وهي أن المجتمع العربي ـ وبعد مرور مائتي عام من عمر العربي الحديث ـ لا يتجه نحو «العلمنة» ولا نحو «الحداثة» المستندة في مضامينها ومحتواها إلى الإطار المرجعي القيمي الغربي، ولا يعتمد النمط الرأسمالي الليبرالي، ولم يتخذه نمطاً أمثل للفرد والدولة والمجتمع، ولم تستطع «الاشتراكية» المدججة بالسلطة وبزعامات «كاريزمية» في عقدي الخمسينيات والستينيات أن تجد لنفسها موطئ قدم من المحيط إلى الخليج؛ ولكنه ـ أي المجتمع العربي ـ يتجه نحو إحياء تراثه والتمسك أكثر بمرجعيته الدينية متمثلة في كتاب الله وسنة نبيه ، متحدياً ما يحيط به من ترتيبات وتحولات دولية تحاول إيهامه بأن العالم كله يتجه نحو «الليبرالية»!
------------------
(*) صدر هذا الكتاب عام 1925م، فأثار أكبر معركة فكرية في تاريخنا الحديث؛ إذ غدا هذا الكتاب ـ كما يقول د. محمد عمارة ـ أهم وثيقة في يد «العلمانيين» الذين يريدون للشرق أن يعزل الإسلام عن الدولة والمجتمع كما عزل الغرب المسيحية عنها، راجع د. محمد عمارة «أزمة الفكر الإسلامي المعاصر»، دار الشرق الأوسط للنشر، القاهرة، د. ت، ص 92.
وأشير هنا إلى أن الشيخ علي عبد الرازق شُكل له ـ بسبب كتابه هذا ـ مجلس تأديب من مفتي الديار المصرية، وبعض مشايخ القضاء الشرعي في 17 من سبتمبر 1925م، وقرر بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق من وظيفته وإخراجه من زمرة العلماء، راجع: «من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي» د. غالي شكري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة القاهرة، 1993م، ص 158، 159.
(1) يقول ابن خلدون: «ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله»، ويقول أيضاً: «والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في مَنْ غلبها» انظر المقدمة، طبعة دار ومكتبة الهلال، بيروت 1991م، ص 151، 152.
(2) من آثار مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق (جمع وتقديم)، دار المعارف، القاهرة، ط 1957م، ص 80.
(1) اليوم والغد، سلامة موسى، المطبعة العصرية، القاهرة، 1927م، ص 241 ـ 257.
(2) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، د. غالي شكري، الدار العربية، للكتاب، ط 1983م، ص 178.
(3) الفكر العربي المعاصر، هاشم صالح، ومسألة (الحركات الأصولية)، مجلة الوحدة، السنة (8)، العدد 96 سبتمبر 1994م، ص 74، 75.
(4) صدمة الحداثة، أدونيس (د. علي أحمد سعيد)، طبعة دار العودة بيروت، طبعة الرابعة، ص 156.
(5) في حوار أجراه معه أحمد الشيخ، نشر بعد اغتياله في مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 22/6/1992م، ص 8.
(6) النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، د. هشام شرابي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، مايو 1995م، ص 30.
(7) التثقيف الذاتي، سلامة موسى، القاهرة، مطبعة التقدم (د. ت)، ص 80.
=============(31/385)
(31/386)
بيانٌ ناري من د .سعيد من لشارون
إنَّ الحمدَ لله نحمدهُ ونسعينهُ ونستهديه، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- تسليماً كثيراً. أما بعد:
أمةَ الإسلام : ألوانٌ من الدمارِ، وصورٌ من الإرهاب، طائراتٌ تقصف، ودباباتٌ تدمر، وأصواتُ القذائفِ تصمُ الآذانَ بالليلِ والنهار، البيوتُ تتهاوى على رؤوسِ أصحابِها الآمنين، الحرائقُ تشتعلُ في كلِ مكان، والدخانُ يكّون سحائبَ تحجبُ الرؤية .
طفلٌ حائرٌ يتلفتُ حولَه لا يدري أين يسير ؟ والدهشةُ تعقدُ لسانَهُ من الهولِ الذي أطارَ صوابَه ؟!! وامرأةٌ عجوزٌ تسيرُ في كلِ اتجاهٍ والرعبُ والخوفُ يملأُ جوانِحَها، لا تدري ماذا تصنع ؟ وانجلى الغبارُ عن أسرٍ كاملةٍ تحتَ الأنقاض ، وأشلاءٍ ممزقةٍ في الأزقةٍ والطرقات، والجرحى ينزفُون وقد مُنعت سياراتُ الإسعافِ من الوصولِ إليهم، والجثثُ لم تجدْ من يُواريها، وجنودُ الاحتلالِ ودباباتُهم منتشرةٌ في أنحاءِ المدينة، نموذجٌ متكررٌ على أرضِ فلسطين الأبيةِ الصامدة، أرضُ الأنبياء ،ومسرى محمدٍ r ، الأرضُ المباركة، يعبثُ فيها إخوانُ القردةِ والخنازيرِ فساداً ودمرا .
دمُ المصلين في المحرابِ ينهمرُ *** والمستغيثونَ لا رجعٌ ولا أثرُ
والقدسُ في قيدها حسناءُ قد سُلبتْ *** عيونُها من عذابِ الصمتِ تنتظرُ
سلوا الملايينَ من أبناءِ أمتنِا *** كم ذُبِحوا وبأيدي خائنٍ نُحِروا
سلوا بلادي سلوا لبنانَ *** ما برحتْ دماؤنا في ثراها بَعدُ تَستعرُ
تُساءِلُ الليلَ والأفلاكَ ما فعلتْ ؟ *** جحافلُ الحقِ لما جاءَها الخبرُ ؟
هل جُهزت في حياضِ النيلِ ألويةٌ *** هل في العراقِ ونجدٍ جلجلَ الغير
هل قامَ مليونُ مهديٍّ لنصرتِها *** هل صامِتُ الناسِ هل أودى بها الضجرُ
هل أجهشتْ في بيوتِ اللهِ عاكفةٌ *** كلُّ القبائلِ والأحياءِ والأسرُ
أما لنا من صلاحِ الدينِ يعُتِقُنا *** فقد تطاولَ باستعبادِنا الغجرُ
إذا تطاولَ بالأهرامِ منهزمٌ *** فنحنُ أهرامُنا سلمانُ أو عمرُ
أهرامنُا شادَها طه *** دعائِمُها وحيٌ من الله لا طينٌ ولا حجرُ
أهرامنُا في ذرى الأفلاكِ شامخةٌ *** هي السماحةُ وهي المجدُ والظفرُ
أمة الإسلام : لقد ملّت الأمةُ من النواحِ والبكاء، ولم يجدْ شيئاً، وآن لها أن تنظرَ في قضيتِها بوعيٍ وإدراك، وتتجهَ باتجاهِ الحلِ الصحيحِ الناجعِ لمشكلتِها مهما كانَ قاسياً ومُكَلفا، ومهما ترتبَ على ذلكَ من خصوماتٍ وعداواتٍ، وتجدولَ حركتَها بالاتجاهِ الصحيحِ بحيثُ لا تتراجعُ إلى الوراء.
أيُّها المسلمون : إنَّ ما يجري الآنَ على أرضِ فلسطين مؤامرةٌ محليةٌ وإقليميةٌ ودولية .
إنَّ المخلصين من أبناءِ فلسطين يُشكلون عقبةً أمامَ الحلولِ الاستسلاميةِ، وأطروحاتِ الانبطاحِ لليهودِ، وأمامَ مشاريعِ التطبيعِ، ومسخِ الأمةِ المسلمةِ لصالحِ إخوانِ القردةِ والخنازير، ومن أجلِ عيونِ عُبَادِ الصليب ، ولذا تواطأتِ القوى المحليةُ والإقليميةُ والدوليةُ للقيامِ بهذه المسرحيةِ لتحقيقِ ما يلي :
أولاً : تلميعُ القياداتِ المتصيهنةِ وإبرازُها على أنَّها رموزٌ وطنيةٌ مجاهدةٌ، تعرضتِ للموتِ على يدِ يهود ، وهُم في حقيقتِهم من بطانةِ يهودٍ وأولياءِهم .
ثانياً : تصفيةُ القياداتِ المخلصةِ من الإسلاميين والوطنيين، لينفتحَ الطريقُ أمامَ مخططاتِ الأعداء .
ثالثاً : تدميرُ البنيةِ التحتيةِ للشعبِ الفلسطيني، حتى ينتشرَ الجهلُ والفقرُ في صفوفِه، وحتى يكون دائمَ الحاجةِ إلى إعانةِ يهود ، ممَّا يعني حياةَ الذلِ والضعفِ والهوانِ، تحت سيطرةِ اليهودِ الغاصبين.
رابعاً : القضاءُ على الوجودِ الإسلامي، وتدميرُ الصحوةِ الإسلامية ، ومنعُ أيِّ نشاطٍ إسلامي ، وعلمنةُ الشعبِ بالقوةِ حتى لا ينتجَ الكوادرَ الإسلامية، والتي تقفُ في وجهِ المخططاتِ الصهيونيةِ والصليبيةِ في المنطقة، وتقفُ وراءَ هذه المسرحيةِ وترعاها، وتتابعُ فصولهَا رائدةُ الصليبةِِ العالمية، ودولةُ الاستكبارِ العالمي، راعيةُ السلامِ أمريكا، راعيةُ السلام !! عجباً من التلاعبِ بالمصطلحاتِ !! واستغلالِ الآخرين والتضليلِ الإعلامي، أيُّ سلامٍ ترعاه ؟ أهُو ما حصلَ في هيروشيما ونجازاكي، حين ألقت القنبلةَ الذريةَ فقتلتِ الآلاف ، وأصابت مئاتُ الآلافِ بأنواعٍ من الدمارِ وأهلكتِ الحرثُ والنسل ؟!!أو ما حصلَ في فيتنامِ أو الفلبينِ أو أندونسيا؟!
إنَّ ما يجري اليومَ على أرضِ العراقِ الأبية، وفي فلسطينَ الصامدةِ، شاهدٌ حيٌ على مدى الإرهابِ الذي بلغتُهُ هذه الدولةُ الكافرةُ الباغيةُ الظالمة، ويدلُ على مدى الحقدِ الذي يحملُهُ عُبَّادُ الصليبِ للمسلمين فوقَ كلِ أرضٍ وتحتَ كلِ سماء، سواءٌ كانوا عرباً أو عجما .
لقد أفرزتْ هذه الأحداثُ عدداً من الدروسِ المهمةِ التي لابدَّ من الوقوفِ عندها، فمن تلك الدروسِ والعبر :بن ناصر الغامدي ضد شانئيه والمستعدين عليه
الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي أقض مضاجعَ الحداثيين والليبرالين برسالة الدكتوراه " الانحراف العقدي في أدب الحداثةِ وفكرها . دراسة نقدية شرعيةٌ " ، فرموه عن قوسٍ واحدٍ ، وألبوا عليهِ ، ومن آخرِ فقاعاتهم التي حبكوها في جنحِ الليلِ كما هي عادتهم استعداء السلطانِ عليه ، وهي طريقةٌ معروفةٌ .
ومن حقِّ الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي أن يدافعَ عن نفسهِ ، وقد قام الدكتور بذلك ، وأرسل إليّ بياناً أبان فيه الوجه الحقيقي للمستعدين عليه خادم الحرمين ، ولعلكم تنظرون بأنفسكم ، وتحكمون بعقولكم ، أيّ قومٍ هؤلاءِ ؟! وهذه الحلقةُ للدكتور سعيد بن ناصر هي الأولى ، وستتبعها حلقاتٌ أخرى .
وأتركُ لكم التعليق .
* حسين بافقيه وابراهيم شحبي ونادين البدير وعلي العميم وشاكر النابلسي يدافعون عن هؤلاء وأقوالهم
شن الليبراليون (جدا) !!!! حملة منسقة ضد كتابي الانحرافات العقدية وآخر (ليبراليتهم / حريتهم) استعداء خادم الحرمين على الكتاب ومؤلفه ومشرف البحث ومجيزيه وجامعة الإمام ، مستخدمين عصا ( التكفير) ومتكئين - وهماً - على سلطة الدولة ، ومتكئين - حقيقةً - على القوة الأمريكية ، لمحاكمة الكتاب والكاتب ، غير عابئين مطلقا بمشاعر الملايين الذين يسوؤهم أن يسخر أحد بربهم وإلههم ، وأصل الأصول في عقائدهم ، وغير مكترثين بالحقائق الموجودة في الكتاب ، وهذا نموذج الموضوعة الليبرالية المزعومة ، ومن أجل ذلك نقلت بعض المقاطع من البحث لطرحها على جمهور العقلاء ، ليحكموا إن كان هؤلاء الذين هاجموا الكتاب يتحرون الحقيقة أم في قلوبهم أمور أخرى؟؟!! ولكي نترك لكل قاريء ( يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبياً ) أن يحكم وفق إيمانه ، هل الذين يشتمون الله - جل وتعالى وتقدس - ويستخفون به ويسخرون منه ويصفونه بأبشع الأوصاف ، هل هؤلاء ممن يستحق الاحترام والتبجيل والدفاع ؟
الحلقة الأولى :
سخريتهم بالله وشتمهم له سبحانه
* يقول رشيد بوجدرة في رواية ألف وعام من الحنين قول من أشنع الأقوال - أستغفر الله من إيراده: ( المنامة ... بلدة تعودوا أن يقولوا عنها بأن الله تبرزها في يوم من أيام الغضب ) رشيد بوجدرة ألف وعام من الحنين : ص 11 - 12.
* ويقول أنسي الحاج :
( تقتل الكلمة جسدالله بعد قتل الله روحاً وجسداً )(6)خواتم ص 19
* ويقول أنسي الحاج :
( العشق الأول الأقرب مايكون إلى دهشة الله الأولى بمن خلق ) خواتم : ص 34
ويقول :
( سوء التفاهم يرافق كل نفس ، كل عمل ؟
الله خلق الإنسان وسرعان ماندم وقال : ما هكذا كان المقصود أن يصير ) خواتم : ص 67
ويقول :
( تعكس البركة زرقة السماء أنقى مما يعكسها النهر
الله في البركة مطمئن وفي النهر منزعج
الصمد يرتاح في جمود الحركة ويراقبها بعيون الغدران
والمستنقعات
هل يستطيع الله أن يبطل إلهاً ) خواتم : ص 68
* يقول ادونيس:
الأخلاق التقليدية هي التي تعيش الخوف من الله ، وتنبع من هذا الخوف ، الأخلاق التي يدعو إليها جبران هي التي تعيش موت الله ) الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة : ص 178 - 179.
* يقول انطون مقدسي:
( ... كل ما في الدنيا مجاني لا ثمن لشيء ؛ لأن الرب مجاني ... )
(1) قضايا وشهادات 3 شتاء 1991 م/1411 هـ . من حوار مع أنطون مقدسي : ص 21 أجراه سعدالله ونوس .
* ويقول معين بسيسو
( باسمك تلك المومس
ترقص بقناع الرب
باسمك يتدحرج
رأس الرب ( معين بسيسو الأعمال الشعرية الكاملة : ص 251 .
* ويقول سميح القاسم
( مأساتك السوداء كانت منذ قال الله فليكن الوجود وكان ثم بدا له أن يصنع الشمس اللعينة والحياة) سميح القاسم في ديوانه : ص 306 .
* يقول محمد الماغوط :
(لماذا خلقني ؟
وهل كنت أوقظه بسبابتي كي يخلقني ) ( محمد الماغوط في الآثار الكاملة : ص 218 .
* وتقول نوال السعداوي
(وإذا سأله المدرس سؤالاً تلفت حوله متحيراً وبدأ بتهتهة ، وحين يضحك التلاميذ يقول : لو كانت هناك عدالة في الكون لما خلقني الله ، اتهته وجميعهم لايتهتهون ، وهمس في أذني بصوت خافت : الله غير موجود لأن العدالة غير موجودة ، وهمست في أذنه بدوري : لو كان الله موجوداً لما كان الوفاء يقابله الخيانة والخيانة يقابلها الوفاء ، وكنت يا أمي تلميذاً في التاسعة من عمري وهو زميلي وربط بيني وبينه الإيمان العميق بعدم وجود الله ، وظلت قدرتي على الإيمان بالله مرتبطة بقدرتك على خيانة أبي ... ). رواية سقوط الإمام : ص 75
* ويقول عبد الرحمن منيف في رواية مدن الملح ( ... يارب يا صاحب الخيمة الرزقاء أنت العالي وتعرف بالقلوب احرس الوادي وجنبه البلاء ) . مدن الملح 1/59
ويقول ايضا:
( أخطر شيء في هذه الحياة بعدالله والمال هو السروال ، إذا كانت دكته قاسية أتعب ، وإذا ارتخت دكته أشقى وأتعب ) . مدن الملح 5/95
* يقول السياب :
( وأبصر الله على هيئة نخلة كتاج نخلة يبيض
في الظلام
أحسه يقول : يا بني يا غلام
وهبتك الحياة والحنان والنجوم ) ديوان السياب : ص 147
ويقول السياب ايضا :(31/387)
( هل أن جيكور كانت قبل جيكور في خاطر الله
في نبع من النور ) ديوان السياب : ص 188 .
ويقول السياب أيضا :
( لولاك ما كان وجه الله من قدري ) ديوان السياب : ص 190.
و السياب له قصيدة بعنوان " في المغرب العربي " تطفح بالكفر الصريح والسخرية بالله - جَلَّ وَعَلاَ - وبالقضاء والقدر وبالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه مقاطع منها :
( فنحن جميعنا أموات
أنا ومحمد والله
وهذا قبرنا أنقاض مئذنة معفرة
عليها يكتب اسم محمد والله ... ) ديوان السياب ص 395 .
* وقول نازك الملائكة :
( وأضحك ضحكة رب كئيب * * * تَمرد مخلوقه الكافر ) ديوان نازك 2/53
* ويقول البياتي :
( فاسكبي روحك الحنون بروحي * * * لأرى من صفائه وجه ربي ) ديوان البياتي 1/69 .
* ويقول صلاح عبدالصبور عن لوركا الشيوعي الأسباني :
( ... أمّا الكلمات الحلوة والممرورة
فقد انسابت جدول
يمضي حيث سقطت ، وعض التراب فمك
حتى يغفى في حضن الله الغاضب
يرجوه أن يعفوا عن خفراءٍ بلداء
قتلوا آخر أبناء الرب ) ديوان صلاح عبدالصبور : ص 230
* ويصف يوسف الخال الرب - جَلَّ وَعَلاَ - بأوصاف خبيثة فيقول :
( وحين أموت خذوا جسدي
ولاتدفنوه
لئلا يقوم مع الفجر يوماً
ويكشف سر الإله
مع الشوق يحلو لنا الانتظار
وإن فرغت خمرة في الكؤوس
فها هو ذا الرب بين الحضور ) الأعمال الشعرية الكاملة ليوسف الخال ص 354 .
* ويقول جبرا إبراهيم جبرا :
( والله يهدر صوته بين الشجر ) المجموعة الشعرية الكاملة لجبرا : ص 129
ويقول :
( يا حمل الله الحامل خطايا العالم ارحمنا ) المجموعة الشعرية الكاملة لجبرا : ص 139
* ويقول توفيق الصايغ :
( من جير دم لجوليا
الحوارية العذراء
عذرتها ألهتها
أهلت أمها أن تُمسى
حماةَ الله ) الأعمال الكاملة لتوفيق الصايغ : ص 305
ويقول توفيق الصائغ ايضا :
( الإله الصبي
كيف يُشيخُنا
يقلبنا زبانية ؟
المكتنز الخدين كإليتين
كيف يحفرفي خدودنا
وتحت عيوننا الجور ؟ ) الأعمال الكاملة لتوفيق الصايغ : ص 311-312
* ويقول سعدي يوسف في مقطع بعنوان " رفض " :
( أنا في انتظار يديكَ يا رباً يسير على الرمال
... وبقيت أنت ...
الهي الرملي مجهول الصفات
إلاّ من الألم المقدس في انتظاري
وأنا أشق الرمل لكني أغوص
أحصي اللانهاية في النهاية
كنبيك الممنوع صلباً عن طواطمهم
متألماً حتى الشهادة ) ديوان سعدي يوسف : ص 517 .
* ويقول مظفر النواب :
( هل تاب النورس من ثقل جناحين المكسورين ؟
وهل تاب الطين الفاغم في رفع امرأة خاطئة ؟! .
فأتوب !
هل تاب الخالق من خمر الخلق
ومسح كفيه الخالقتين لكل الأوزار الحلوة في الأرض
فتلك ذنوب
تعال لبستان السر
أريك الرب على أصغر برعم ورد
يتضوع من قدميه الطيب
قدماه ملوثتان بشوق ركوب الخيل
وتاء التأنيث على خفيه تذوب ) مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية قراءة في تجربته الشعرية لعبدالقادر الحصيني وهاني الخير : ص 62 .
ويقول :
( يا من رأى الله شاحنة ليس تلوي ) مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية قراءة في تجربته الشعرية لعبدالقادر الحصيني وهاني الخير : ص 63 ص 118 .
ويقول :
( فالبلاد التي هو منها
سراب
. تخاف الحقائق منه
فإن سكن الخلق
يأخذ عزلته بزوايا من الله عابقة بالشراب
ويثمل بالله سبحانه
والبلاد التي درجات الكحول بها
لم تصلها الخمور
وبالوهم يسكرها بين حين وحين ) مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية قراءة في تجربته الشعرية لعبدالقادر الحصيني وهاني الخير : ص 141 . .
* ويقول أمل دنقل :
( شفتاي نبيذ معصور
صدري جنتك الموعودة
وذراعاي وساد الرب ) الأعمال الشعرية لأمل دنقل : ص 48 .
ويقول :
( من يفترس الحمل الجائع .
غير الذئب الشبعان
ارتاح الرب الخالق في اليوم السابع
لكن .. لم يسترح الإنسان ) الأعمال الشعرية لأمل دنقل : ص 148 .
* ويقول نزار قباني وقد أغرق وأكثر من السخرية والاستخفاف بالله تعالى ، ومن ذلك يقول عن محبوبته :
( إني أحبك من خلال كآبتي
وجهاً كوجه الله ليس يطال ) الأعمال الشعرية لنزار 1/493 .
ويقول :
( امرأة ناهية كالرب في السماء ) الأعمال الشعرية لنزار 1/523 .
ويقول :
( مادمت يا عصفورتي حبيبتي
إذن فإن الله في السماء ) . الأعمال الشعرية لنزار1/737 .
ويقول مخاطباً محبوبته وأنه حين يحبها :
( يكون الله سعيداً في حجرته القمرية ) . الأعمال الشعرية لنزار2/188 .
ويقول :
( الله يفتش في خارطة الجنة عن لبنان ) . الأعمال الشعرية لنزار2/323 و 3/587
* ويقول عن عشيقته :
( حين وزع الله النساء على الرجال
وأعطاني إياك
شعرت ..
أنه انحاز بصورة مكشوفة إليّ
وخالف كل الكتب السماوية التي ألفها
فأعطاني النبيذ وأعطاهم الحنطة
ألبسني الحرير وألبسهم القطن
أهدى إلي الوردة
وأهداهم الغصن
حين عرفني الله عليك
ذهب إلى بيته
فكرت أن أكتب له رسالة
على ورق أزرق
وأضعها في مغلف أزرق
وأغسلها بالدمع الأزرق
أبدؤها بعبارة : يا صديقي
كنت أريد أن أشكره
لأنه اختارك لي ..
فالله - كما قالوا لي -
لايستلم إلاّ رسائل الحب
ولايجاوب إلاّ عليها
حين استلمت مكافأتي
ورجعت أحملك على راحة يدي
كزهرة مانوليا(31/388)
بست يد الله
ويبست القمر والكواكب
واحداً .. واحداً ) . الأعمال الشعرية لنزار 2/404
ويقول :
( لأنني أحبك
يحدث شيء غير عادي
في تقاليد السماء
يصبح الملائكة أحراراً في ممارسة الحب
ويتزوج الله حبيبته ) . الأعمال الشعرية لنزار 2/442 . 2/442 .
* ويقول محمود درويش :
( نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير ) ديوان محمود درويش : ص 24 .
ويقول :
( هكذا الدنيا
وأنت الآن يا جلاد أقوى
وُلد اللهُ
وكان الشرطي ) ديوان محمود درويش : ص . 264 ، 266 ، 268
ويقول : ( يومُكِ خارج الأيام والموتى
وخارج ذكريات الله والفرح البديل ) ديوان محمود درويش : ص 554 .
* ويقول معين بسيسو :
( لم يبق سوى الله
يعدو كغزال أخضر تتبعه كل كلاب الصيد
ويتبعه الكذب على فرس شهباء
سنطارده ، سنصيد لك الله
من باعوا الشاعر يا سيدتي
سيبيعون الله ) الأعمال الشعرية لمعين بسيسو : ص 341 .
* ويقول معين بسيسو:
( وطرقت جميع الأبواب
أخفتني عاهرة
كان الله معي
لكن الله هناك يدلي بشهادته
في مركز بوليس
- فُتح المحضر ...
- ما اسمك ؟
- كم عمرك ... ؟
- ما عنوانك ... ؟
- مهنتك ... وكانت مهنته الله .
صبغوا بالحبر أصابعه
أخذوا بصمات الله
والتقطوا صورته
كان الله معي
لكن الله ورائي كان هو المخبر
آلة تسجيل قد غرست في قلبي
آلة تسجيل قد غرست في قلب الله ) الأعمال الشعرية لمعين بسيسو : ص 440 - 441
ويقول عن بيروت :
( أيتها المدينة السحابة الرصاصة الرغيف
......
ها أنت مثل الله
في يديه السلسلة
لا أنت سنبلة
لا أنت قنبلة ) الأعمال الشعرية لمعين بسيسو : ص ص 336 .. .
* ويقول سميح القاسم :
( والله نحن نشاؤه بغرورنا
شيئاً له قسماتنا الشوهاء ترسمه أنانياتنا ) ديوان سميح القاسم : ص 318 .
ويقول عن هروشيما :
( من أي أعماق البشر
يتفجر الموت الزؤام على البشر ؟ !
ولأي كهف ينزوي الله المعفر بالغبار
وبالدخان وبالشرر ؟ ) ديوان سميح القاسم : ص ص 324 - 325.
ويقول :
( حين قيل : انقضى كل شيء
كانت المئذنة
شارب الله تحت النعال الغريبة ) ديوان سميح القاسم : ص 417
ويقول :
( الحزن ياسمين
في وطن العجائب السبعين
والفقر موسيقى
وقتل الله في كمين خبزٌ ) ديوان سميح القاسم : ص . 654
* ويقول توفيق زياد :
( وإلى الأشجار أو العمدان
وإلى الريح وجه الله العريان ) ديوان توفيق زياد : ص 513 .
* ويقول عبدالعزيز المقالح
( يكاد النهار على أفقهم أن يموت ويحتضر الله والعقل خلف معابدهم في البيوت ) . ديوان المقالح ص 339 .
ويقول :
( تحت جلدي تعيشين نبكي معاً ونصلي نجوع ونعري ، نجدف في الله والشعب يضبطنا عسس الليل ) ديوان المقالح ص 535 .
* ويقول محمد الماغوط :
( يارب
أيها القمر المنهوك القوي
أيها الإله المسافر كنهد قديم
يقولون أنك في كل مكان
على عتبة المبغى ، وفي صراخ الخيول
بين الأنهار الجميلة
وتحت ورق الصفصاف الحزين
كن معنا في هذه العيون المهشمة
والأصابع الجرباء
أعطنا امرأة شهية في ضوء القمر ) . الآثار الكاملة لمحمد الماغوط : ص 61
ويقول :
( إنني أعد ملفاً ضخماً
عن العذاب البشري
لأرفعه إلى الله
فور توقيعه بشفاه الجياع
وأهداب المنتظرين
ولكن ياأيها التعساء في كل مكان
جُلَّ ما أخشاه
أن يكون الله أميّاً ) الآثار الكاملة لمحمد الماغوط : ص265.
* ويقول محمد الفيتوري :
( لا شيء لكي أكتب كلمة
فالكلمة في شفة الله
والله على الأرض سجين ) . ديوان الفيتوري 1/378
ويقول أيضاً :
( عندنا غسلتني المحبة
أبصرت في وجهها الله
حدقت في مقلتيه المفرغتين
من الشمس والحلم
حتى تساقط نصف القناع ) . ديوان الفيتوري 2/145 .
* ويقول ممدوح عدوان في تهكم واضح :
( ويباغتني الله في نعمة
تنتقي صفوة القوم
كيف أصدق أن لدى الله نبع حنان
ولايتطلع يوماً إلى قهرنا
ولايرى البشر الساكنين زرائب
والآكلات بأثدائهن بلا شبع
حيث صنعة العهر أمان من الفقر
والموت جوعاً
وكيف تغافل كي لايرى الآكلين النفايات
في مدن من مناسف
لايسند القلب في ضعفه
تحت عبء الهموم
الهي الذي قيل لي إنه صاغني مثله
كنت أرغب لو صغته شبهي
كنت أسكنته وطناً
يتفنن كيف سيبكيه في كل يوم
يشكك في خلقه
ويطالبه أن يصفق للظلم ... ) . الأعمال الشعرية للممدوح عدوان جـ 2 للخوف كل الزمان : ص 17 - 18
إلى أن يقول :
( فتبارك هذا الإله
الذي كان يرفض أن يتمرغ في عيشنا
لم يكن يتقن اللعب فوق المزابل
لم يعرف السير في قسوة الوعر
لم يعرف النوم جوعاً
ولم يعطنا ما يواجه هذا البلاء
ها هو الله يأتي أخيراً
على هيئة الطير
ينقر أرواحنا ... ) . الأعمال الشعرية للممدوح عدوان جـ 2 للخوف كل الزمان : ص 17 - 18
* ويقول أحمد دحبور :
( على القناة علامة
ودم على الجولان
وأسأل : أين وجه الله
تأخذني كواكب سبعة وتعيدني مئة ) ديوان أحمد دحبور : ص 347 - 348 .
* ويقول محمد علي شمس الدين في ديوانه غيم لأحلام الملك المخلوع :
( احتفال بمجيء الليل
" فطم " احتفلت بمجيء الليل
أخذت زينة نهديها
وتعرت لتصير أشد نقاء من قلب الله ) ( غيم لأحلام الملك المخلوع : ص31 )(31/389)
وكلامهم الخبيث النجس من هذا النوع كثير ، أكثر من قدرتي على إحصائه ، وأوسع من حيز هذا المقال ، وفي الشواهد السالفة مايدل بجلاء على مقاصد هؤلاء في تحطيم الدين ومحو آثاره من النفوس وتدنيس أجل وأعظم شيء في عقيدة المسلمين والعجيب أن يتصدى هولاء -بفحيح أفعواني - للدفاع عن هؤلاء بحجة (الإبداع) الذي جعلوه في مقام أعلى من مقام الله عزوجل ، وأعلى من مقام أي شيء مقدس، وكما قال الله تعالى ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) فهاهم يدافعون عن الشاتمين لله تعالى والمستخفين به مستغلين الوضع الراهن المتمثل في التفجير والتكفير فقاموا بخلط الأمور لتمرير عقائدهم وتبرئة رموزهم ، فجعلوا كل من تحدث عن انحراف عقدي وكل من كشف الشاتمين لله ورسوله والساخرين بالدين ،جعلوه مكفرا واستعدوا عليه السلطة!!!
عجبا لهذه (الحرية الليبرالية) ما أوضح تناقضها وما أشد تعصبها، يدعون حرية الرأي والحوار واحترام رأي الأكثرية ، وفي الوقت نفسه يستعدون الأمم المتحدة على من أوضح رأيه ضد (المحتل في العراق) ويستعدون الحكام ضد من كشف بالحقائق مقدار انحرافهم (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر) .
ألا فليعلموا أن ديننا وعقائدنا ومقدساتنا أغلى عندنا من أرواحنا، وكل مسلم كذلك، ولن يخيفنا تحريضهم لأن من يحرضونه من الحكام المسلمين إذا اطلع على هذه الأقوال التي يدافعون عن أصحابها لن يسعه إلا أن يقف في صف الحق والعدل والخير ضد الباطل والظلم والشر .
قال الله تعالى (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ) سورة النساء 107-109
ولعل لنا لقاء في حلقات أخرى إن شاء الله، لكشف حقائق أخرى
سعيد بن ناصر الغامدي
4/11/1426
الحلقة الثانية :
سخرية الحداثيين بالنبوة والانبياء
ظننت أن الحملة ضد كتاب الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها قد اقتصر على من ذكرنا اسماءهم في الحلقة الاولى من الذين أخذتهم الحمية في الدفاع عن المبدعين العرب الذين نقلنا شتمهم لله تعالى
لكن وجدت الحملة تتواصل عبر مواقع (إيلاف) (دار الندوة) (قناة الحرة) فهل هناك أوضح دلالة على (الحمية الحداثية) في الدفاع عن رموزهم .
ويقولون (ثقافة الكراهة ) (ثقافة الشتم) ( ثقافة التكفير) ... الخ
أيها العقلا ء : من الذي يفعل ذلك ؟؟
أليس الذي يشتم الله تعالى وأنبياءه ودينه هو الذي يبث (ثقافة الكراهة) كراهية الله تعالى وكراهية رسله الكرام ؟؟!!
من الذي يبث (ثقافة الشتم) شتم الله تعالى وشتم خير خلقه ؟؟!!
من الذي يبث (ثقافة التكفير) باسم حرية التفكير ؟؟!!
أليس أولى بالذين أخذتهم الغيرة على هؤلاء الشاتمين المستخفين بالله تعالى أن يغاروا على دينهم من عبث العابثين وتدنيس المنحرفين ؟؟!!
غضبوا وثارت إنسانيتهم الليبرالية لأني وصفت الفيتوري بنص أخذته من ناقد حداثي ، وهو نص لا يقصد به السخرية من خلقته وإنما لذكر سبب موقفه الساخط من لونه الأسود والغاضب بسببه على كل أبيض ، في عقد متراكمة ينفس عنها بالافتخار بالزنجية وبغض الأبيض وقد شرحت ذلك ودللت عليه في الرسالة .
وفي الوقت نفسه يدافعون عن أحد رفاقهم وهو يستطيل بالسخرية من هيئة وشكل زميله في الجامعة في قضية ما زالت دليلا على مقدار الإنصاف والعدل (الليبرالي) والحرية والمساواة المدعاة .
وفي الوقت ذاته يدافعون عن الذين يسخرون بأنبياء الله ويستخفون بهم وينزلون من قدرهم .
واليكم أقوال ( المبدعين !!! الحداثيين !! ) التي تثبت ذلك ، وليحكم كل مسلم بنفسه ويرى على أي شيء تحمس المدافعون عنهم ؟!
* تقول نوال سعداوي عن البنت الشخصية الرئيسية في روايتها سقوط الإمام : ( ... الا تكون ابنتي هي بنت الله يسمونها المسيحة ، وتصبح واحدة من الأنبياء ) . سقوط الإمام ص 9
* يقول سميح القاسم :
( من أي أعماق البشر
يتفجر الموت الزؤام على البشر ؟
ولأي كهف ينزوي الله المعفر بالغبار
وبالدخان وبالشرر ؟
وبأي معراج يلوذ الأنبياء الصالحون
غداة تربد الصور ؟
بالحظ ؟ بالمقسوم ؟ بالمكتوب في غيب القدر ؟ ! ) ديوان سميح 325.
ثم يتحدث سميح القاسم عن النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً :
( حراء هل هجرت حمامتك الوديعة ؟
هل جفتك العنكبوت ؟ ...
عادت ( منى ) وأبو لهب
عادا فما تبت وتب !
والكعبة استخذت منابرها للغو خوارج
لا الله يكبح من جماح ضلالهم ، لا الأنبياء
ولا الكتب !
واستشهد الأنصار وانهارت مدينتهم
وشرّعت المساجد للصوص المارقين !
والله أكبر لكنة جوفاء
تطلقها نفايات المسوخ التافهين
فاركب بعيرك يا محمد
وتعال لي في الشمس معبد ) سميح القاسم ص 320 - 322 .
أمّا سميح القاسم فيجعل مجموعة من الداعرين أنبياء ، وذلك في قوله :
( باختصار
يومها كنا رجالاً أربعة
من صغار الأنبياء
معنا خمس صبايا
حسناً - خمس نساء
حسناً - خمس بغايا ! ) . ديوان سميح القاسم ص 230
ويصف عصابات الشيوعيين بأنهم :(31/390)
( صنعوا الحياة ... ونسقوا خضر الجنائين في الجليد
وهناك منجم أنبياء
جلدوا القياصرة الطغاة الأغبياء ) . ديوان سميح القاسم ص 347 .
* ويقول نزارقباني مخاطباً عشيقته :
( تعري واشطري شفتي إلى نصفين يا موسى بسيناء ) . الأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني 1/656
أمّا نزار قباني فيقول في وصف ثور أسباني في حلبة مصارعة الثيران مشبها له بالانبياء : ( برغم النزيف الذي يعتريه
برغم السهام الدفينه فيه
يظل القتيل على ما به
أجل وأكبر من قاتليه
نزيف الأنبياء
كوريدا ... كوريدا
ويندفع الثور نحو الرداء
قوياً عنيداً
ويسقط في ساحة الملعب
كأي شهيد .. كأي نبي
ولايتخلى عن الكبرياء ) الأعمال الشعرية لنزار قباني 1/561 - 562 .
* يقول نزار قباني على سبيل التهكم :
( وأنبياء الله يعرفونني
عليهم الصلاة والسلام
الصلوات الخمس لا أقطعها
يا سادتي الكرام
وخطبة الجمعة لاتفوتني
يا سادتي الكرام
من ربع قرن وأنا
أمارس الركوع والسجود
أمارس القيام والقعود ) .
ثم عقب بعد ذكر هذه الأعمال والعقائد الإسلامية وغيرها :
( وهكذا يا سادتي الكرام
قضيت عشرين سنة
أعيش في حظيرة الأغنام
أعلف كالأغنام
أنام كالأغنام
أبول كالأغنام
أدور كالحبة في مسبحة الإمام
لا عقلي لي لا رأس لا أقدام
استنشق الزكام من لحيته
والسل في العظام
قضيت عشرين سنة
مكوماً كرزمة القش على السجادة الحمراء
أجلد كل جمعة بخطبة غراء ) المصدر السابق الاعمال الشعرية لنزار 3/132 - 133 .
ومن أمثلة أقواله الرديئة ، مخاطبته للخامس من حزيران قائلاً :
( سوف ننسيك فلسطين
ونستأصل عن عينيك أشجار الدموع
وسنلقي سورة الرحمن
والفتح ، ونغتال يسوع ) الاعمال الشعرية لنزار 3/212 .
ويقول نزار قباني : ( لاتخجلي مني فهذي فرصتي * * * لأكون رباً أو أكون رسولاً ) الاعمال الشعرية لنزار 2/761 .
ويقول : ( وأنا حتى أمارس النبوة بحاجة إليك ) الاعمال الشعرية 2/861 ..
وعباراته النرجسية المتعالية كثيرة جداً ، ولا ريب أن وصفه نفسه بالنبوة هو تدنيس عظيم لهذا اللقب المقدس
* يقول ادونيس : ( الله والأنبياء والفضيلة والآخرة ألفاظاً رتبتها الأجيال الغابرة وهي قائمة بقوة الاستمرار لا بقوة الحقيقة ، ... والتمسك بهذه التقاليد موت والمتمسكون بها أموات ، وعلى كل من يريد التحرر منها أن يتحول إلى حفار قبور ، لكي يدفن أولاً هذه التقاليد ، كمقدمة ضرورية لتحرره ) انظر : الثابت والمتحول 3 - صدمة الحداثة : ص 136 - 137 .
* يقول أدونيس في ديوانه : ( دماء ، لا عاصمٌ ، والنبيون ماتوا ) الأعمال الشعرية لأدونيس 1/474 .
* يقول ادونيس : ( ها غزال التاريخ يفتح احشائي ، نهر العبيد
يهدر ، لم يبق نبي إلاّ تصعلك ، لم يبق إله ...
هاتوا فؤوسكم نحمل الله كشيخ يموت
نفتح للشمس طريقاً غير المآذن ، للطفل كتاباً غير الملائك
للحالم عيناً غير المدينة والكوفة هاتوا فؤوسكم ) الأعمال الشعرية لأدونيس 2/266 .
* يقول عبد الوهاب المؤدب : ( إن محمداً كان رجل ثقافة ، فلمذا ادعو أنه أمي ، لايقرأ ولايكتب ؟ أمن أجل إضفاء مصداقية أكبر وشرعية أعظم تزيد الرسالة نفاذاً في النفوس ؟ فكل كلام علمي يتلفظ به أمي ، لابد من أن يتجاوز قائله ليصبح مصدره إلهياً ) رأيهم في الإسلام : ص 225.
* يقول السياب: ( والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين نصباً يخلد عار آدم واندحار الأنبياء ) ديوان السياب : ص 529 .
وفي مقطع آخر تبدو عقيدته في الأنبياء وفي نبوة صلى الله عليه وسلم فيقول : ( كفرت بأمة الصحراء ووحي الأنبياء على ثراها في مغاور مكةٍ أو عند واديها ) ديوان السياب : ص 642
* يقول د / سيد البحراوي في كتابه " البحث عن لؤلؤة المستحيل " (ص142) : ( وقصة طوفان نوح هي قصة أسطورية وردت في التوراة والقرآن وفي أساطير شعوب أخرى ... ، ويذهب بعض العلماء إلى محاولة تأكيد أن الطوفان قد حدث بالفعل نتيجة لتحولات جيولوجية محددة في نهاية العصر الجليدي الأخير )
* ويقول محمود درويش : ( ولم يسأل سوى الكُتَّاب عن شكل الصراع الطبقي
ثم ناداه السؤال الأبدي الاغتراب الحجري
قلت : من أي نبي كافر قد جاءك البعد النهائي ؟ ) ديوان درويش ص 591 .
وفي خطاب آخر يوجهه إلى " الأخضر " الرمز الذي يمتدحه ويثني عليه غاية الامتداح والثناء ، ويقول له : ( يا أخضر ! لايقترب الله كثيراً من سؤالي ...
ولتحاول أيها الأخضر
أن تأتي من اليأس إلى اليأس
وحيداً يائساً كالأنبياء ) ديوان درويش : ص 634 - 635 .
يقول محمود درويش : ( صار جلدي حذاء
للأساطير والأنبياء ) ديوان محمود درويش ص 292 .
ويتفنن محمود درويش في إطلاق أسماء وأوصاف الرسل على الشعر والشعراء ، ومن ذلك أنه لم يجعل الشاعر مجرد نبي بل وصفه بأنه يوجد الأنبياء : ( نحن في دنيا جديدة
مات ما فات ، فمن يكتب قصيده
في زمان الريح والذرة
يخلق أنبياء ) ديوان محمود درويش 55 . وفي مقطوعة طويلة مليئة بالشتائم والعداوة والاستهانة بالدين ورموزه وقضاياه عنوانها " تلك صورتها وهذا انتحار العاشق "
أورد هنا أسطراً منها يقول فيها : ( لا لنبوءة العراف(31/391)
يومك خارج الأيام والموتى
وخارج ذكريات الله والفرح البديل ) ديوان محمود درويش ص 554 .
( والليل سقف اللص والقديس
قبعة النبي وبزة البوليس ) ديوان محمود درويش 557
* ويقول معين بسيسو : ( للذي بعدي السموات : امرأة
وأنا لي الأنبياء
آه ما أحلى السماء
حين يطرد منها الأنبياء ) الأعمال الشعرية الكاملة لمعين بسيسو : ص 576 .
* ومن أقوال محمد الفيتوري التي ضارع فيها غيره من الحداثيين في الاستهانة بالرسل والرسالات قوله : ( ولئن القدر السيد عبد يتأله
والنبوات مظلّة
والديانات تعله
هب من كل ضريح في بلادي
كل ميت مندثر
كل روح منكسر
ناقماً على البشر
كل أعداء البشر
كافراً بالسماء ، والقضاء والقدر ) ديوان الفيتوري 1/113 .
* ويقول الفيتوري : ( ويطل يسوع
الثلج يغطي بردته البيضاء :
- ها أنت أتيت
غريباً يقطر وجهك حزناً
حيث مشيت
مسيرة ألفي عام
لا خبزك أنت ولا ملح الأديان
الحق أقول ..
الخالق والمأساة هو الإنسان
ويغيب يسوع
وتلوح وجوه الاثني عشر
- الاسفار اهترأت ) ديوان الفيتوري 1/458 - 459 .
أمَّا محمد الفيتوري فيتحدث في مقدمة ديوانه عن تأثره بجبران واصفاً له بقوله : ( جبران ذلك النبي الضائع ) ديوان الفيتوري 1/21 .
أمَّا أنه ضائع فنعم ، وأمّا أنه نبي فلا ولا كرامة .
* يقول عبد الرحن المنيف على لسان إحدى شخصيات روايته مدن الملح :
( إذا لم يبك الأطفال من الجوعوالألم ، فلابد أن تكون عندهم أسبابهم
وبعد قليل وبسخرية : ( ربّما يريدون أن يصبحوا ملوكاً أو أنبياء بسرعة ... ) مدن الملح 5 - بادية الظلمات : ص 96 - 97 .
* وفي ختام كتاب " الثابت والمتحول " أقر أدونيس صراحة باعتناقه وتأييده وامتداحه للرازي الملحد جاحد النبوات ، حيث يقول : ( لقد نقد الرازي النبوة والوحي وأبطلهما ، وكان في ذلك متقدماً جداً على نقد النصوص الدينية في أوروبا في القرن السابع عشر ، أن موقفه العقلي نفي للتدين الإيماني ، ودعوة إلى إلحاد يقيم الطبيعة والمحسوس مقام الغيب ، ويرى في تأملهما ودراستهما الشروط الأول للمعرفة ، وحلول الطبيعة محل الوحي جعل العالم مفتوحاً أمام العقل : فإذا كان للوحي بداية ونهاية فليس للطبيعة بداية ونهاية ، إنها إذن خارج الماضي والحاضر : إنها المستقبل أبداً .
لقد مهد الرازي وابن الراوندي للتحرر من الانغلاقية الدينية ، ففي مجتمع تأسس على الدين ، باسم الدين ، كالمجتمع العربي ، لابد أن يبدأ النقد فيه بنقد الدين ذاته ) الثابت والمتحول 2/214.
* يقول انسي الحاج : ( وحده الشعر عرف الحقيقة البشعة ، عرف كل الحقيقة ، أكثر من الأنبياء والآلهة ) مجلة الناقد - العدد 18 كانون أول 1989 م/1410 هـ : ص 8 من مقال لأنسي الحاج .
* ومحمد جمال باروت يضع عنواناً في كتابه " الحداثة الأولى " عن " الشاعر الحداثي كنبي وضحية " في سياق حديثه عن تجربة مجلة شعر فيقول : ( ... المثل الجمالية في " شعر " هي مثل ميتافيزيقية تغور في الغصات والمشكلات الكيانية للذات ككائن مفرد ، فتكتشفه كنبي وضحية في الآن ذاته ، " يحيا مصلوباً فوق الخيط الذي يصل بين سيزيف والمسيح " كما يعبر أدونيس عن الكائن الميتافيزيقي ) الحداثة الأولى ص 73 .
ونحو ذلك قوله : ( عند حركة مجلة شعر يرى " البيان الشعري " في الشاعر درجة من درجات النبي العارف الحاوي لكل شيء ، والشكاك بكل شيء ، ويرى في التجربة الشعرية درجة من درجات النبوة ) الحداثة الأولى ص 223 .
* أمَّا محمد الماغوط فيزيد على ادعائه النبوة ، السخرية والاستهانة بالأنبياء ، وذلك في قوله : ( فأنا نبي لاينقصني إلاّ اللحية والعكاز والصحراء ) الآثار الكاملة لمحمد الماغوط ص 233 .
* واما أحمد دحبور فإنه يرثي أحد رفاقه واسمه محمد القيسي فيقول عنه : ( ... وكان اغتراب ورؤيا طويلة وكان نبي إلى الله يعرج ) . ديوان أحمد دحبور ص 167 .
* ويشبهه مديح معين بسيسو لزعيم الشيوعيين في العراق في مقطوعة بعنوان " سورة يوسف سلمان " اليهودي المعروف ماركسيا باسم فهد ، ويقول فيها : ( قلت السلام على النبي والرسالة ) . الأعمال الشعرية الكاملة ص 695 .
وهذا تدنيس لهذه المصطلحات الشرعية العظيمة بإلصاقها بهذا الشيوعي الملحد ، اليهودي
* وعبدالعزيز المقالح يصف الفدائي الفلسطيني قائلاً : ( لولم تكن نبي هذا العصر حامل البشارة الكبير
فمن إذن تكون
من معجزاتك الكثيرة الكثيرة
انك لاتموت
كطائر الفينيق لاتموت ) . ديوان المقالح ص 130
جزاكَ اللهُ خيراً يا دكتور سعيد على تعريةِ أفكارِ من يسمون أنفسهم بـ " المثقفين " !
يا أهلَ الإسلام . . . هل تسمى هذه الألفاظُ ثقافةٌ أم . . . ؟
لا تُستغربُ الحملة ضد الدكتور سعيد فالصراخُ على قدر الألم
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
=============(31/392)
(31/393)
الإسلام السياسي سلسلة (قبسات من كتاب الله ) :
القبس الحادي عشر
قال تعالى: ((وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ)) (يونس: 78 ).
إنّها تهمة قديمة، وجهها الملأ من قوم فرعون لموسى وهارون - عليهما السلام -، تهمة استغلال الدين للحصول على مكاسب سياسية، وهو ما يعبّر عنه اليوم خصومُ الدعوة من المنافقين وغيرهم بـ (الإسلام السياسي) (!).
فهذا المصطلح ليس جديداً حادثاً، وإنّما هو موروث عن إمام الطغاة والمستكبرين فرعون اللعين، لتشويه صورة أولئك الدعاة المخلصين، والتنفير عنهم، وإظهارهم بأنّهم وصوليون انتهازيون، وهو أسلوب رخيص مكشوف، فإنّ الدعاة لو أرادوا مكاسب سياسية- كما زعم أولئك المفسدون - لسلكوا مسالك المنافقين المتستّرين بالدين تارة، وبالوطنية تارة، وبما يسمّى بالليبرالية الإسلاميّة تارة أخرى، وبغير ذلك من المسميات حسب ما تقتضيه الظروف والأحوال.
وها هنا مسألة تشكل على كثير من الناس حتى المثقّفين منهم، ألا وهي علاقة الديني بالسياسي، فأقول: إنّ ممّا ينبغي أن يعلمه كلّ مسلم أنّ الدين - الذي هو الإسلام- اسم جامع لكلّ مناحي الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعيّة، وحتى الرياضية والفنيّة، وغيرها، وإنّ من الخطأ الفادح، والجهل الفاضح، أن يُجعل السياسي في مقابل الديني، فهذه طريقة أهل العلمنة للتلبيس على الناس، فالسياسة جزء من الدين، كما الاقتصاد والاجتماع.. الخ، ولكن، هل من الممكن أن يُجعل أحدهما وسيلة لتدعيم الآخر ونصرته ؟ أقول: نعم، والناس في ذلك صنفان.
أحدهما: من يتوسّل بالسياسي من أجل تحقيق الديني ونصرته، إعلاءً لكلمة الله تعالى، وهذه هي طريقة الأنبياء - عليهم السلام- وأتباعهم من الدعاة المخلصين، ولعلّ أوضح الأمثلة على ذلك: ما فعله نبيّ الله يوسف عليه السلام من تولّي ملك مصر من أجل نصرة دين الله، وإقامة العدل الذي يحبّه الله تعالى، بل إنّ لنبيّنا محمّد r أوفر الحظّ والنصيب من ذلك، فهو أعظم سياسي في التاريخ.
ويدخل في هذا الصنف ولكن بوجهة مغايرة: من يستغل السياسي من أجل تحقيق دين باطل أو معتقد فاسد ونصرته، كما فعل المأمون حين امتحن أهل السنة بما يُعرف بفتنة خلق القرآن، وإنّما أراد نصر مذهب الاعتزال، وكما تفعل اليوم قوى اليمين المتطرّف في دول عديدة من العالم.
الصنف الثاني: على العكس من الصنف الأوّل، وهو من يتوسّل بالديني من أجل تحقيق مكاسب سياسيّة، وهؤلاء هم الوصوليون حقاً، أو حسب المصطلح الشرعي: المنافقون، وهم مهما تستّروا بالدين؛ فإنّهم مكشوفون مفضوحون، كما قال الله تعالى عنهم: (( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ )) (محمد: 30) .
وبهذا التفصيل يزول الإشكال الذي قد يلتبس على الناس حول علاقة الديني بالسياسي، وتتضح التهمة التي طالما تعلّق بها أعداء الرسل والدعاة، والله تعالى أعلى وأعلم.
=============(31/394)
(31/395)
"ليبرالي السعودية" لم ينجح أحد !
الراصد لما يُطرح من قبل من أطلقوا على أنفسهم وصف (ليبراليين) أو (علمانيين) لايجدهم حقيقةً يستحقون هذا الوصف وإن خبث ! لانختلف كمسلمين أو على أقل تقدير كعقلاء أن مايطرحه (ربعنا) لايتعدى المرأة، فلايكاد يخلو ما نسميه تجاوزاً مقال إلا ونجد الدندنة على المرأة وليت الأمر يقتصر على ذكر المراة بما يحترم العقل والكرامة بل طرحٌ خلاعيٌ مُقزز تشمئز منه النفوس السوية فضلاً عن كونها مُسلمة !
* في الجهة المقابلة عندما نقرأ لأحدٍ من مُفكري الغرب -المُضحك في الأمر أن قبلة ربعنا موليةً إليهم- فأقول عندما نقرأ لأحدٍ من مُفكري الغرب نجد أن هُناك طرحاً يستحق أن يُحترم ويُنقد ويُقرأ له وإن كان فيه مافيه لكنه يبقى طرحاً منطقياً يستحق الوقوف عليه هذا من جهة الطرح أما من جهة الإنتاج فنرى أن لهم من المشاريع والأفكار التي قد عادت على دولهم بالنفع في مُختلف المجالات وإن خبثت لكنها تبقى إنتاجاً ..
* (ربعنا) لاهم في العير ولا في النعير، لاهم الذين تسمكوا بدينهم ولاهم الذين أجادوا ما أطلقوه على أنفسهم من ألقاب، بل مجرد خربشات شهوانية يدفعها الشبق في أغلب أحواله ويزعلون لا سميناهم دشير وألا شهوانيين !
* أنقد الدين والمتدينين والممارسات الدينية بيديك ورجليك (1) لكن قدم لي مشروع يستحق الوقوف عليه بديلاً للمشروع الإسلامي لا تُقدم لي خربشات شهوانية وتمتطي صهوة النقد وأنت خالي الوفاض بلا مشروع بلا هدف بلا نتيجة ساعتها يمكنكم النجاح في أنتخابات القمامة !
الليبرالية تلقى مصرعها
* هل أولئك الذين ينادون بالليبرالية، ممن يعيش في بلاد إسلامية، يدركون مفهوم الليبرالية ، كما قُرر له ووُضع، أم أن لهم مفهوماً يختلف عن ذلك؟! إن مفهوم الليبرالية، كما وُضع له في الغرب، يصطدم بالدين الإسلامي، بل كافة الشرائع، في أصول لايُستهان بها، كاستبدال الحكم الإلهي بالحكم البشري، فيما يُسمى بالديمقراطية، وكذا الحرية المُطلقة في الاعتقادات، بالتغيير والتبديل، وغير ذلك، فكيف يستقيم لمن يفهم هذه الحقائق عن الليبرالية أن يدعو لها، ويزعم صلاحها، وهي مُعارضة تماما للإسلام إذا كان مُسلما؟!
* أما إن كان له مفهوم خاص عن الليبرالية ، لا يتعارض مع الأصول الشرعية، فالحق أن هذا ليس هو الليبرالية ، بل هو شيء آخر ! فمن مباديء الليبرالية أنها لاتمنع أي دين، ولاتدعو إلى أية عقيدة في حين القوم يقولون يجب أن لا تتعارض مع مباديء الدين الإسلامي ! هل يوجد أكبر من هذا التناقض !؟ والقوم حقيقةً يُجيدون التقيّة وقد يكون هذا المبدأ صورياً وتُخفيه القلوب للتلبيس على البُسطاء وقد يصل إلى حُكّامٍ وحُكماء ! ..
العلمانية هي الليبرالية
* بعد أن هيء الله لهذه الأمة من عرّى العلمانية وجعلها شذر مذر أمتطى القوم صهوة الليبرالية محاولين بذلك التلبيس ولكن هيهات هيهات، فالعلمانية تعني فصل الدين عن السياسة، كما تعني فصل الدين عن النشاط البشري بعامة، وعلى مثل هذا المبدأ يقوم المذهب الليبرالي في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية، والفكرية، بل لاتكون الدولة ليبرالية إلا حيث تكون العلمانية، ولاتكون علمانية إلا حيث تكون الليبرالية ..
الليبرالية والإسلام
الراصد لما يُطرح من قبل القوم يجد أن النقد مُنصبّاً على الإسلام فقط لا غير، وليت النقد موضوعي أو بشاهد ودليل لا !؟ يأتي بنص يبني عليه أفكاره ثم يقوم بنقض هذه الأفكار ! والإسلام ولله الحمد والمنة لايوجد فيه تناقض لكنها ثقافة التلبيس، فأقول الراصد لطرحهم يجد أن النقد مُنصباً على الإسلام وهو الدين الكامل فأين النقد للنصرانية واليهودية والبوذية وبقية الأديان التي ما أنزل الله بها من سلطان ؟! ولما التسامح مع بقية الأديان إلا الإسلام !؟ إذن وراء الأكمة ما وراءها، وفي حقيقة الأمر أن الليبرالية نبتٌ يهودي ماسوني هدفها أبعاد المُسلمين عن دينهم وقياداتهم ليسهل السيطرة عليه وقد زرعوا أبواقاً لهم في كل مُجتمع مُسلم لكي يؤتى من أهله وهذه الحقيقة التي لايستطيع الكثير البوح أو التصريح بها إما لجهل وإما عن إصرارٍ وترصُد !
الليبرالية في ظاهرها الرحمة ومن باطنها العذاب: في الظاهر تسامح ومن الباطن وسيلة قمعية
* يقول الخبير الفرنسي بشؤون الإسلام السياسي أوليفيه روا : عندما يكون على الغرب الاختيار بين العلمانية والديمقراطية، فهو يختار العلمانية دائماً، وعندما تكون العلمانية في كفة والديمقراطية في كفة كما في الجزائر وتركيا فالغرب يختار دائماً العلمانية لا الديمقراطية، الغرب يفضل قيام نظام تسلطي دكتاتوري على وصول الإسلاميين إلى السلطة ..(31/396)
* تحدث أدوارد ما نسفليد و جاك سنايدر عن فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وحزب الرفاة في تركيا وضرورة (ضربهما) يقولان : في كلتا الحالتين، كان لا بد من أنتهاك المسار الديمقراطي، وذلك لإيقاف ما أسفرت عنه العملية الديمقراطية نفسها، فقد عبر كثير من المراقبين والحكومات عن ارتياحهما لهذا، مبررين ذلك بأنه من الأفضل وجود حكومة فاشية نستطيع التعامل معها، بدلاً من حكومة إسلامية لا نستطيع التعامل معها !
* يقول الدكتور برهان غليون المعروف : ليس صحيحا أن الذي يعيق الأنظمة العربية مثلا عن تحقيق الديمقراطية هو خوفها من الإسلاميين، بل هي لم ترفع شعار الديمقراطية إلا لمواجهتهم وبسببهم، إن تفجر الأزمة - كما هي اليوم - لتبدو وكأنها مواجهة أهلية شاملة، لم تحصل إلا بسبب طفوح الكيل من الغش والخداع والكذب والتلاعب بعقول الشعب، واحتقار ذكائه ومخيلته، إن ما نسميه بالمجتمع " المدني " ومنظماته هو اليوم نهب لأجهزة المخابرات وضحية لها،إن الحركات الإسلامية لم تتوسع إلا لأن السلطات القائمة رفضت أي تشغيل للقنوات السياسية الطبيعية ، وحاولت منع المجتمع من التنفس والحياة ، وهذه الحركات تشكل آخر تعبير سياسي عن روح الثورة والتمرد الكامنة في شعب اغتصب حقه في المشاركة والحياة منذ عقود ..
* ويعتب على أصحابة قائلاً : من هم الإسلاميون ، غير إخواننا وأبنائنا وبناتنا ؟ أليسوا هم أنفسهم القوى التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات الكبرى المادية والمعنوية، الخارجية والداخلية التي تعمل لتدميرنا ؟!
الليبرالية والبكاء على الحريّات والرأي والرأي الآخر إلى متى !؟ أرحلوا عنّا فالمُجتمع لا يُريدكم !
* تنتابني نوبة من الضحك عندما أستمع أو أقرأ لعلماني أو ليبرالي سمّهم ما شئت عندما يتحدث عن الحريّات والرأي والرأي الآخر ! ومن يملك وسائل الإعلام المرأي منه والمقروء ؟ ومن يُحدّد من يكتب وماذا يكتب !؟ أليست عصابتكم ؟! هذه صحافتكم وهذا أعلامكم تسرحون وتمرحون فيه منذ (عقود) وكُلّما زدتم في غيّكم زاد المُجتمع نفوراً منكم، فهل يحق لهم البُكاء على الحريات أم على الأهداف التي رسموها ورأوا أنها أصدمت بهذا المُجتمع الذي يرفضهم ولم يجدوا مايعلّقوا عليه فشلهم سوى شماعة الحريّات ؟! ثم هاهنا سؤالٌ يطرح نفسه أليس من مباديء الليبرالية حرية التعبير فلما الضيق عندما يأتي من يخالفكم !؟
الليبرالية وأستغلال الأحداث وتوظيفها لضرب الدولة والمُجتمع (التفجيرات أنموذجاً) !
* عندما يمرّ بلدٌ من البلدان بمحنة تجد أن المُجتمع يقف جنباً إلى جنب مع دولته حتى وإن أختلف معها في توجّهٍ ما يُستثنى من ذلك الخونة ومنهم الليبراليين فالأحداث التي تمر بها البلاد يحاول الليبراليين الظهور بصورة الوطني تقيّة كتقيّة الرافضة (2) وليتهم يتمسحون بالوطنية التي كلنا نعرفها لا !؟ هي وطنية أخرى تسعى لزعزعة الأمن ودق أسفين بين القيادة السياسية والدينية من جهة والمُجتمع الذي هو مُتدينٌ بطبعه من جهة أخرى، والمُستفيد الأول من هذه الأحداث هم هؤلاء حيث يسعون إلى تأجيجها وهذا مُشاهد عندما تقوم الدولة بمد يد أو العفو أو جهود المصلحين لأحتواء هذه الفتنة تجدهم يسعودن إلى تأجيج هذه الفتنة لأن أنطفاء هذه الفتنة وزوالها يعني القضاء على فكرهم الذي أكتسب صبغة شرعية من خلالها، في الظاهر يسعون إلى إخماد هذه الفتنة والباطن يؤججونها، وللمزيد يُرجى قرآءة هذا المقال http://alsaha2.fa r es.net/sahat?128@246.AkyxtBpeZy صلى الله عليه وسلم 1@.1dd85870
الليبرالية والتشدق بالوطنية الزائفة
* يقول شاكر النابلسي في معرض كلامه بمناسبة احتفال موقع إيلاف بمرور ثلاث سنوات على افتتاحه يقول أن المباديء الرئيسية لهذا التيار هو : أن الحرية العربية والديمقراطية العربية مطلبان حيويان لاستمرار الوجود العربي. وأن تحقيق الحرية العربية والديمقراطية العربية غير موقوف على الداخل أو على العنصر العربي. فالتدخل الخارجي عند تقاطع المصالح شرعي ومطلوب ومرغوب. فاهلاً بالحرية وأهلاً بالديمقراطية سواء جاءت على ظهر جمل عربي، أو على ظهر دبابة أجنبية. ولعل العراق هو النموذج الواضح الآن ..
* وعلى هذا يقوم فكر القوم فالولاء للغرب حتى وإن كان الغرب لا يُريدهم، وهي من المباديء الأساسية لليبرالية التي لا يستطيع (ربعنا) البوح بها وبنظرهم أن النظام القائم في هذه البلاد نظام تسلطي قمعي يحد من الحريّات وعندما نبحث عن هذه الحريّات نجدها لاتتعدى مابين السرة والركبة، حتى أن بعض مُنظّريهم ملّ مثالاً يقول إن الديمقراطية ليست حلاً لأن فيها تقييد لحريات الأقلية فياليت شعري ماذا سيقول عندما تُطالب الأقلية بزوال الأكثرية !؟
رضى ليبراليو العرب بالغرب، والغرب ضربهم بالحذاء !
* يقول مراد هوفمان : إن الغرب يتسامح مع كل المعتقدات والملل ، حتى مع عبدة الشيطان ، ولكنه لا يظهر أي تسامح مع المسلمين، فكل شيئ مسموح إلا أن تكون مسلمًا !؟ ثم يأتينا من يقول أن ليبرالي مُسلم !(31/397)
* يقول محمد أركون : على الرغم من أني أحد الباحثين المسلمين المعتنقين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينية، إلا أنهم - أي الفرنسيين - يستمرون في النظر إليّ وكأني مسلم تقليدي! فالمسلم في نظرهم -أي مسلم- شخص مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة ودينه الخالص وجهاده المقدس وقمعه للمرأة وجهله بحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية ومعارضته الأزلية والجوهرية للعلمنة، هذا هو المسلم ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا! والمثقف الموصوف بالمسلم يشار إليه دائماً بضمير الغائب: فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثله أو هضمه في المجتمعات الأوروبية لأنه يستعصي على كل تحديث أو حداثة !
* فهل يعي القوم أن الطريق الذي يسيرون عليه لن يوردهم إلا المهالك خسروا الدنيا وسيخسرون الآخرة إن لم يتوبوا ويراجعوا أنفسهم، ويعودا إلى حياض الدين والمُجتمع عندها سيكون لهم صولة وجولة وسيجدون من يستمع لهم ؟
والحمدلله رب العالمين.
........................................
(1) هي هُنا من باب التحدي، والشيء بالشيء يُذكر أن ربعنا نقدهم مُنصب على الجانب الديني أو الإجتماعي وعندما ننظر إلى نظرائهم في الغرب نرى هذا الأمر لكن ليست بالصورة الموجودة عندنا فتجد هناك نقد شامل لجميع المجالات والشخصيات فحتى النقد لم ينجح أحد !
(2) القاسم المُشترك بين الليبراليين والرافضة هو التقيّة للوصول للهدف، كما يُلاحظ في الآونة الأخيرة لوبي رافضي-ليبرالي همّه تقويض هذا الدين ورموزه من جهة ودق أسفين بين الدولة والمُجتمع من جهة أخرى مُستغلين بذلك ما يجري على أرض الوطن من أحداث وهذا الأمر يحتاج إلى بحث خاص ..
(3) كتبت هذا الموضوع من عدة مراجع ومقالات والله ولي التوفيق.
=============(31/398)
(31/399)
لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ونجحت الليبرالية الغربية؟
صخرة الخلاص
في البدء قالت.. "كيركبا تريك" المستشارة في إدارة الرئيس "ريغان" وممثلة أمريكا في الأمم المتحدة، تؤكد أن الديمقراطية مجرد لعبة لتحقيق مصالح الغرب، وأن قيم الغرب وسياساته خاضعة للعبة المعايير المزدوجة.. تقول :
( إنه ينبغي علينا عدم تشجيع الديمقراطية في وقت تكون فيه الحكومة المؤيدة من قبلنا تصارع أعداءها من أجل البقاء، وإن الإصلاحات المقترحة بعد ذلك لا بد أن يكون منها إحداث التغيير، وليس إقامة ديمقراطية).
تساؤل عقلي مشروع يطوف في أذهان بعض الإسلاميين والعلمانيين العرب: لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة؟
وجواب هذا التساؤل معلق على جواب تساؤل آخر: فهل يوجد أصلاً ليبرالية عربية حقيقية؟!
هنا جوهر المشكلة لأن بعض الإسلاميين وخصومهم يخلطون بين العلمانية وبين الليبرالية، فلا يلزم من كون الإنسان علمانياً أن يكون ليبرالياً، إذ العلمانية موقف أيديولوجي فكري من الدين أو النص أو المقدس، فالعلماني قد يكون ديكتاتورياً -وهذا الغالب- وقد يتحالف مع الشيطان، ومع الديكتاتور، ومع أي جهة كانت، ما دامت تساعده في إدارة رحى معركته ضد الدين أو ضد المتدينين.
لذا فلا وجود موضوعي لليبرالية عربية، ولا أدل على ذلك من غياب ممارسة حقيقية للتسامح واحترام المخالف، وغياب أي مشروع إصلاحي مدني حقيقي، ينفع المواطن العربي في عالمنا العربي المتألم!
إن سلوك العلماني العربي جعل "الليبرالية" كلمة مكروهة مشوهة تحتقرها الجماهير الصارخة بآلامها، لأنها تشاهد بأم أعينها خيانة النخب العلمانية العربية لهمومها وآمالها، ولا تجد من هذه النخب إلا تحالفاً وتبريراً للدكتاتور، مع أن هذه النخب المتخمة بالعلمنة تصيح صباح مساء قائلة: قدسوا الحرية كي لا يدوسكم الطغاة!
وهم كل يوم بل كل لحظة يدوسون هموم الشعوب، ويتحالفون مع الشيطان الأصغر والأكبر، كي يتمكنوا من أغراضهم الخاصة، ونزواتهم الشخصية.
العقلاء -يا سادة- مع اختلافهم وتباين توجهاتهم فإنهم قد يحترمون من يخالفهم إذا رأوه صادقاً مع نفسه ومبادئه. إن الليبرالي الذي يؤمن بمبادئه ويمارسها حقيقة، ويدافع عن كرامة الناس وحقوقهم، ويتسامح مع خصومه، ويتقبلهم، يضع له خصومه حساباً لأنهم يعلمون أنه مؤمن حقيقة بقضيته.
ومن يتأمل الصحابي الكريم "عمرو بن العاص" الذي يقول عن الروم.. ما ورد في صحيح مسلم ما قد يبيّن بعض طباع هؤلاء الناس، مع إنصافهم وعدم غمط حقهم. فقد روى مسلم عن المستورد القرشي أنه قال عند "عمرو بن العاص" رضي الله عنه :
(سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " . فقال له عمرو : أبصر ما تقول . قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً :
إنهم لأحلم الناس عند فتنة .
وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة .
و أوشكهم كرة بعد فرة .
وخيرهم لمسكين و يتيم وضعيف .
وخامسة حسنة وجميلة : و أمنعهم من ظلم الملوك).
فتأملوا كلام هذا الصحابي العظيم رضي الله عنه، وكيف أنصفهم وشهد لهم بما هم أهله، مع كفرهم وعداوتهم، وتأملوا في المقابل المثقف العلماني العربي فستجدونه -في أكثر الأحيان- متسلطاً دكتاتوراً محارباً للدين في أصوله وتفاصيله، لا يهمه مسكين أو يتيم، بل سليط اللسان بذيء الألفاظ، إذا خاصم فجر، عنده كل القابلية لأن يطعن في أعراض خصومه بالبهتان، تجده يمارس أشد أنواع الإقصاء، فهو دغمائي، سادي -كما يعبرون- ليس عنده أي قابلية لأن يتسامح.
وما أجمل ما صوره النصراني العلماني ( رفيق حبيب ) لهذه النخبة حينما قال:
(الانبهار بالغرب أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب ، ولكن لدى وكلاء الغرب كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة ، إن وكلاء الغرب يشكون من عدم إتاحة الفرصة كاملة لحرية البحث ويؤكدون أن حضارتنا وتراثنا قيود على البحث العلمي ، والحقيقة أن هذه الشكوى تنبع من قضية على جانب كبير من الخطورة ، لأن تطبيق العلم الغربي في سياق حضارتنا يمثل تعديا على كل مقدسات الأمة ولذلك فانه يواجه من مجموع الأمة ومن هنا يشكو وكلاء الغرب بسبب إن حرية البحث العلمي مقيدة والحقيقة أن التعدي على مقدسات الأمة مقيد ) .
العلماني يريد أن يمارس حريته -عبثه- مع المقدس لأنه يرى أن لا مقدس إلا هو، الدين لا قداسة له، هو متغير ومتحول، وغير ثابت، لكن الديكتاتور عند العلماني العربي ثابت غير متحول، ولذا فهو يلعق حذاء الدكتاتور ويسبح بحمده، يغرد بسرد إنجازاته، إنه يعبده ويتخذه آلهة، ولا ينبس بكليمة صغيرة من أجل ضمير الشعب المطحون تحت قهر الفقر والذل!(31/400)
العلماني العربي قوي شجاع حينما يتكلم عن الله سبحانه، وعن دينه، يدعي بطولة رخيصة، فإذا ثارت الجماهير المؤمنة صارخة متألمة من أجل ربها وحبيبها نبيها ودينها، صاح العلماني العربي: أين الحرية؟ أين التسامح؟ أين قبول الرأي الأخر؟!
يا له من شجاع وجريء على دين الله، ويا له من جبان ورعديد ومنافق حينما يتحدث عن الديكتاتور!
إن الجماهير مقتت من يطنطن بالحرية وتراه لا يمارس حريته إلا حينما يتحدث عن الله ودينه، لكنه لا يتحدث بهذه الحرية حينما سرقت اللقمة الصغيرة من أفواه ملايين الشعوب، ولم يتحدث عن الأيتام، عن الفساد، عن مشاريع حقيقية ينتفع بها الإنسان.
إن ما تروجه العلمانية الغربية والأمريكية، والتي تتشدق بالحرية والديمقراطية هذه الأيام وقبلها هي أبعد ما تكون عن تطبيقها وممارستها في العالم العربي والإسلام، لأنها تعتقد أننا غير قابلين لمثل هذه القيم، ومهما تشدقوا فثقوا أن ديمقراطيتهم لا تباع ولا تستبدل، إن الديمقراطية مجرد فزاعة للأنظمة وللحكومات، وجزرة للشعوب اللاهثة.
ولذا نتفهم وجهة نظر الخبير الفرنسي بشؤون الإسلام السياسي "أوليفيه روا" حينما يتحدث عن خيارات الغرب تجاه الحرية والديمقراطية في العالم العربي البائس؛ حينما تتعرض مصالحه للخطر، فهنا يضحي بقيمه وتعاليمه المقدسة، في سبيل الحفاظ على مصالحه.. يقول:
(عندما يكون على الغرب الاختيار بين العلمانية والديمقراطية، فهو يختار العلمانية دائماً، وعندما تكون العلمانية في كفة والديمقراطية في كفة كما في الجزائر وتركيا فالغرب يختار دائماً العلمانية لا الديمقراطية، الغرب يفضل قيام نظام تسلطي دكتاتوري على وصول الإسلاميين إلى السلطة).
وقد أكد هذه الحقيقة ودون مواربة أو خجل ( أدوارد ما نسفليد - وجاك سنايدر ) عندما تحدثا عن فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وحزب الرفاة في تركيا وضرورة ضربهما.. يقولان :
( في كلتا الحالتين، كان لا بد من انتهاك المسار الديمقراطي، وذلك لإيقاف ما أسفرت عنه العملية الديمقراطية نفسها، فقد عبر كثير من المراقبين والحكومات عن ارتياحهما لهذا، مبررين ذلك بأنه من الأفضل وجود حكومة " فاشية " نستطيع التعامل معها، بدلاً من حكومة إسلامية لا نستطيع التعامل معها).
ولذا يقرر الغرب أنه من الخطأ الاستراتيجي دعم أعظم القيم الغربية "الديمقراطية و الحرية" قيمةً في بلدان تتقاطع مصالحها مع تلك القيم، وهذه الحقيقة يقررها المفكر الغربي "روبرت كانمان" في كتاب ألفه لهذا الغرض اسماه ب " الديمقراطية والمعايير المزدوجة " ومما قاله في هذا الكتاب:
( إن الجميع - في الغرب - يتفق على أنه من الخطر دعم الديمقراطية بجميع صورها في العالم الإسلامي ).
وإذا كان العلماني العربي يدرك ذلك سياسياً، فهو لا يجد غضاضة في وضع يده في يد أعداء دينه ووطنه، والصياح دائماً بالحرية التي تعني له: أنه يجب أن يلعن الدين ويشتم الله بدون أن يضايقه أحد، وهو يعلم أن الغرب لن ُيصدر أقدس قيمه "الحرية" لحفنة من البشر يراهم دون قيمة البشر !
وحينما نتجه للمرأة وما أدراك ما المرأة؟! تجده يتحدث عن المرأة.. عفواً .. ليست المرأة الإنسان، ليست المرأة الأم.. ليست المرأة اليتيمة.. ليست المرأة الفقيرة.. إنه يتحدث عن المرأة الصغيرة الجميلة، إنه يريد أن لا يتعطل نصف المجتمع في البيوت لصناعة الجيل القادم رجلاً ونساءً، إنه يريد أن يعمل نصف المجتمع قريباً منه وتحت ناظريه، ليخلو البيت !
ألم يقل كبيرهم العلماني المشهور "بوعلي ياسين" :
( الرجل المثقف -العلماني- في مجتمعنا يدعو إلى المساواة ويطالب المرأة بأن تكون ندا للرجل ولكنه نادرا ما يتزوج هذه المرأة المتساوية معه أو الند له ، إنه يقبلها صديقة ورفيقة وزميلة لكنه يخافها ويبتعد عنها كزوجة .. إنه يريدها غرّة، ولذلك تراه يركض وراء المراهقات ).
إن الليبرالي الغربي -المؤمن بكرامة أمته- قدم نفسه وحياته قبل كلماته في الصحف المستأجرة، مات هو يخدم قضيته، ضحى من أجلها، مات وهو صارخ بها، لأنه يعتقد أن الكرامة ملك للإنسان في بلاده يجب الحصول عليها، وهي حريته وليبراليته، ولذا وقف ضد الدكتاتور، ومات تحت جنازير دباباته، وقتل برصاصه، لكنه عاد وفي كل مرة حتى بناء حلمه على أرض الحقيقة.
في أمريكا حينما ضربت في صباح عجيب، في ضحى 11 سبتمبر، توحدت العقول والقلوب، وتوحد اليمين مع اليسار، وتوحدت الديمقراطية مع الجمهورية، وتوحد الشمال مع الجنوب، وتوحد العلماني والليبرالي مع الزعيم الراديكالي الأصولي الإنجليكاني!
لقد تناسوا كل خلافاتهم وتوحدوا في وجه العدو الخارجي، لقد قرر زعيمهم "بوش" الإنجليكاني الجديد أن يتحفظ على بعض حقوق الليبرالية في وقت الأزمة، فأقروا له وأخبتوا، طاعة وحباً كرامة، لقد صارت أمريكا -يا سادة- كقطعة معدنٍ صلبة في زمن الضربة.(31/401)
لكن -ويا أسفي على لكن- تجد العكس عندنا، دهمنا العدو بخيله ورجله، بصحفه وقنواته، سدد سهامه للنيل من بلادنا وشعبنا وقيادتنا وتقسيم وطننا، طعن في عقيدتنا، وتهجم على عقولنا، وسخر من كرامتنا، وداس على عزتنا.. فماذا فعلنا؟
شُتت الجهود، وتفرقنا، وتمزقنا، وصار العلماني يرحب بالفاتح الجديد ويرحب به، ويهدد من خلاله قائلاً: [ غيروا بأنفسكم أحسن من يجيكم من يغيركم بالعصى] !
لقد ابتزوا في الفتنة، وشطروا البلاد، وجعلوا منبر الكلمة منبراً للطعن في ضمير الأمة، وتشتيت كلمتها، وطعن في علمائها، لقد ابتغوا الفتنة وقلبوا الأمور، واستأجروا كل مريض وصاحب سوابق، لقد مزقوا عقل الوطن وضميره وانتماءه.
ثم خرجت خارجة من شباب الوطن تضرب بره وفاجره، ولا تتحاشى مؤمنه، كفرت بطاعة الإمام، وقتل أهل الإسلام والأوثان، فبكى الوطن، واشتكى الدين إلى الله، وسكبت العبرات على عقول تاهت ووجوهٍ شاهت.
قفز الليبرالي في منبر الكلمة وفرح بهذا الخنجر الذي طعن خاصرة الوطن والإيمان، فاستثمره لصالحه، وظفه لخدمت أجندته الخاصة، فمال على كل ما هو إسلامي فعاث به ضرباً باليمين وضرباً بالشمال.. وإلى الله المشتكى.
فبدل أن تتوحد الجهود وتتراص الأقدام، وتجتمع القلوب في أزمنة الفتنة، صارت فتنة فوق فتنة!!
فكان العلماني العربي مفلساً ليس عنده أدنى ذرة لأن يضحي لأجل مبدأ، أو دين، أو وطن، بل عنده كل الاستعداد لأن يضع نفسه ويده مع أعداء أمته ودينه ووطنه، عنده استعداد للدفاع عن إسرائيل، وتبرير جرائم الأمريكان في كل مكان، وتحويل فضيحة سجن أبوغريب إلى حديثة الزهور، مع أن الليبرالي الأمريكي لا يزال صارخاً يدين جرائم بلاده!
مفارقة غريبة.. قد يفسرها فهم كثير من العلمانيين أن الحرية هي الجنس، أو المزيد من الجنس، والفوضوية، وعدم المسؤولية، والعبث بأي شيء.
لهذا السبب كره الناس هؤلاء، ورفضوهم .. وهكذ1 فشلوا، وسوف يفشلون دائماً.
لقد أعجبني ما قاله الدكتور ( برهان غليون ) أستاذ كبير في جامعة السوربون، علماني يساري التوجه، ولكنه منصف وباحث جاد وحيادي :
( ليس صحيحا أن الذي يعيق الأنظمة العربية مثلا عن تحقيق الديمقراطية هو خوفها من الإسلاميين، بل هي لم ترفع شعار الديمقراطية إلا لمواجهتهم وبسببهم، إن تفجر الأزمة - كما هي اليوم - لتبدو وكأنها مواجهة أهلية شاملة، لم تحصل إلا بسبب طفوح الكيل من الغش والخداع والكذب والتلاعب بعقول الشعب، واحتقار ذكائه ومخيلته، إن ما نسميه بالمجتمع " المدني " ومنظماته هو اليوم نهب لأجهزة المخابرات وضحية لها.
إن الحركات الإسلامية لم تتوسع إلا لأن السلطات القائمة رفضت أي تشغيل للقنوات السياسية الطبيعية ، وحاولت منع المجتمع من التنفس والحياة ، وهذه الحركات تشكل آخر تعبير سياسي عن روح الثورة والتمرد الكامنة في شعب اغتصب حقه في المشاركة والحياة منذ عقود ) .
ثم يعتب الدكتور غليون على النخب العلمانية في معاونتها للطغاة في القضاء على المتدينين، بحجة العمل للديمقراطية وتنظيف الساحة منهم، وأن الحكام في الجزائر قتلوا مالا يقل عن (30) ألف إسلامي بحجة تنظيف الساحة منهم !!!
يقول الدكتور غليون بالحرف الواحد :
( من هم الإسلاميون ، غير إخواننا وأبنائنا وبناتنا ؟ أليسوا هم أنفسهم القوى التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات الكبرى المادية والمعنوية، الخارجية والداخلية التي تعمل لتدميرنا ؟؟ ) .
وأخيراً ... هل يفهم العلماني العربي ما يقوله "صاموئيل هنتنغتون" الخبير في وزارة الخارجية الأمريكية :
( إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست الإسلاميين المتطرفين، وإنما الإسلام ككل، فالإسلام بكل طوائفه وفي مختلف دوله عبارة عن حضارة كاملة تشتمل الدين والدنيا، وكل مظاهر الحياة اليومية، ولذا قلت إن الإسلام ونظام الدول الغربية لن يلتقيا، إن المسلمين يعلنون في وجه كل غربي إن دينهم هو الأحسن وأن عاداتهم وتقاليدهم هي الأفضل، كلهم يقول ذلك المتطرف والمعتدل).
=============(31/402)
(31/403)
الليبراليون وحديث الإفك
ماجد بن محمد الجهني
الظهران
لقد جاء مؤتمر الحوار الوطني الثالث المنعقد في المدينة المنورة ليمثل منعطفاً هاماً ومصيرياً لأنه يناقش قضيةً حساسةً من أخطر قضايا الأمة ألا وهي قضية المرأة والتي أخذت أبعاداً خطيرةً في الداخل والخارج خصوصاً مع الممارسات المنفلتة والمعهودة دوماً على التيار الليبرالي في السعودية وغيرها من الدول العربية، ذلك التيار الذي لا يطل برأسه بقوة إلا في حال الأزمات التي تكتنف الأمة فهو يرى في مآسي الأمة واستقواء الآخر المهيمن على تفكير وتوجهات الليبراليين فرصةً سانحةً لتنفيذ مشروع العمر ومشوار الدهر الذي سار عليه الليبراليون ردحاً من الزمن بذلوا فيه ما بذلوا من الأموال والأوقات والرحلات والكتابات التي أحصيت على كل واحد منهم في ميزان لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها.
نعود إلى أروقة ذلك المؤتمر الذي أوضح لنا بجلاء عن نفسيةٍ عجيبةٍ غريبةٍ يعيشها التيار الليبرالي ، ففي أول مكاشفةٍ حقيقيةٍ ومواجهةٍ صريحةٍ تحت مظلة الحوار التي لطالما أزعج الليبراليون بها الآخرين تجلت الحقائق وبان الزيف وظهر السلوك الطفو لي الذي اعتاد عليه الليبراليون ( إذا لم تكن معي فأنت متشدد ومتطرف وغير واقعي وإقصائي لا تتعايش مع الآخر) ولعل شيئاً من هذا قد ظهر من خلال ما كتبه مراسلهم المعروف في جريدة الحياة اللندنية في عدد يوم الاثنين الموافق 26/4/1425هـ تعليقاً على الأطروحة الجريئة من الدكتور محمد العريفي والذي اكتفى بذكر جزء من الحقيقة لكي يظهر لنا بجلاء العقلية التي يعيش بها الإقصائيون الذين ينطبق عليهم المثل الشهير " رمتني بدائها وانسلت".
لقد أراد هؤلاء القوم وهم القلة التي تملك البوق الكبير ممثلاً في الإعلام أن يوهمونا أن مداخلة الدكتور محمد العريفي هي إساءة للمرأة السعودية وأخذوا يتباكون على منبر الحوار واصفين رأي مخالفهم بالاعتداء الصارخ على المرأة السعودية التي أرادوا أن يمثلوها بالقوة دون تفويض من أحد مع أن الرأي العام العالمي وليس السعودي يعرف جيداً ماهية توجهات الأغلبية من نساء المملكة العربية السعودية ولولا علمهم بذلك لما تسابقوا مستغلين الظروف العالمية ومظاهرة أوليائهم في الداخل لهم لكي يمرروا من تحت الأقدام مخطط إفساد المرأة السعودية الذي يريده الليبراليون لها.
إنني أتساءل وأنا أستمع لهذا الصراخ الذي يجيده هؤلاء القوم : أين الحديث عن حرية الرأي؟ وأين الحديث عن مناقشة قضايانا بهدوء؟ ولماذا وأنتم تخلعون على أنفسكم أردية الانفتاح على الآخر لماذا هذه الأوصاف المقذعة لكل من يخالفكم منطلقاً من أصول شرعية؟ولماذا ولماذا ولماذا؟.
والعجب العجاب هو مطالبة الدكتورة سهام الصويغ حيث طالبت الدكتور العريفي بألا يستخدم المنبر الحواري للتأليب وتصفية الحسابات والتشنجات وتقديم الاتهامات غير الصحيحة؟؟؟!!!! فيا سبحان الله ما أغرب هؤلاء القوم وما أشد تملصهم من الحقائق ولكنني أقولها وبكل صراحة للدكتورة وللتيار الليبرالي في السعودية : هل تريدون منا أن نذكركم بأسماء من ألبوا على مساجدنا وعلى علمائنا وعلى دعاتنا ودعوتنا ؟ وهل تريدون أن نذكركم إن كنتم قد نسيتم أو تناسيتم بمن ألب على مناهج تعليمنا ؟ وعلى مدارس وحلقات تحفيظنا ؟ هل تريدون أن نسرد لكم قائمةً بمن حرض على مراكز أبنائنا الصيفية؟ هل تريدون أن نذكركم بمن سخر من لحانا وثيابنا متناسياً أنها سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؟ هل تريدون أن نذكركم بقائمة المستغلين لأحداث الحادي عشر من سبتمبر لكي يغربوا المجتمع وينشروا فيه أنموذج الحياة الغربية البائس؟.
إننا لو فعلنا ذلك لربما أغمي على الدكتورة سهام ولم تكفها نوبة البكاء التي اكتفت بها صاحبتها في منتدى الحوار الوطني ولكنني أكتفي بالإشارة وعلتي في ذلك المثل العربي الشهير أيضاً" والحر تكفيه الإشارة".
لقد أوضح هذا المؤتمر الفشل الذريع والإفلاس الشنيع الذي يمر به التيار الليبرالي في المنطقة العربية وإنني أجزم بأن أرض الحرمين المباركة هي أرض خصبة لا تنبت إلا طيباً وهي لن تسمح بأن تقصقص تعاليم الشرع المطهر في جميع جوانب حياتها ومن ذلك الجانب المتعلق بالمرأة وإنني أحسب أن موضوعاً حساساً كهذا يجب أن يكون القول الفصل فيه للشرع المطهر فهذه قضية من قضايا التشريع الإلهي يجب أن يكون الفصل فيها لله ولرسوله ، وعلينا أن نعلم بأن المرأة المسلمة في العالم الإسلامي عموماً وفي السعودية خصوصاً مرت وتمر بمؤامرات متتالية علينا أن نتنبه لها وننتبه إلى أن أخطرها هو مايمارس في هذه الفترة العصيبة التي جاء معها العدو وهو مصمم على تغيير دين الأمة وهويتها وأخلاقها وهو مايوجب الحذر واليقظة من الجميع رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً.(31/404)
لقد كانت مداخلة الدكتور محمد العريفي وفقه الله في محلها ولكن يبدو أن البعض تمرس على أن يتكلم في جو لايجيبه فيه إلا رجع صوته وصدى كلماته فلما حانت ساعة الحقيقة والمواجهة الشفافة لم يتمالك نفسه لأن حرية الرأي التي ينادي بها ليس المقصود منها سماع أصوات الآخرين ولكن المقصود منها أن يتكلم هو وينصت الآخرون ولهذا يبدوا أن القوم لم يتحملوا ذلك فبدأوا بنسج خيوط الهجوم على الدكتور في المؤتمر ومطالبته بالاعتذار عن حق قاله مع أن الكثير ممن حضر منهم لم يعتذر إلى الآن عن باطل دبجه يراعه وعن إفك اقترفه قلمه باسم الحرية.
مؤتمر المدينة جاء ساخناً يوم أمس وهو مايبشر رغم حجم مايراد بالمرأة المسلمة وماقطع فيه من مشوار بأن هذه البلاد بإذن الله قادرة على أن تنفي خبثها كيف وقد أشربهم المكان ذلك أو ليست المدينة تنفي خبثها؟.
============(31/405)
(31/406)
وفي السعودية ...... ( لحى ليبراليه ) !!
سليمان بن صالح الخراشي
كنت قد كتبتُ قبل عام تقريباً مذكرة بعنوان " العصرانية قنطرة العلمانية " بينت فيها أن التغريب غزا المجتمعات الإسلامية بطريقتين:
إما بطريقة مباشرة؛ كما في المجتمعات التي لا تركن إلى هيئة شرعية بارزة، حيث لا توجد عوائق أمام التغريب . وإما بطريقة غير مباشرة بل من خلال (وسيط)؛ وذلك في المجتمعات التي تركن إلى هيئة شرعية بارزة؛ كالبلاد المصرية -لوجود الأزهر وعلمائه-، ومثلها السعودية.
والوسيط هنا هو "العصرانية" التي تحقق الأهداف التي يريدها أعداء الإسلام (من غزاة وعلمانيين) لكن بمسوح شرعي، وقد قام بهذا الدور في مصر جماعة (الأفغاني) -الرجل المشبوه- فمكنوا للاحتلال ثم للعلمانية الصريحة في بلادهم.
ولهذا وجد هؤلاء كل حفاوة ودعم من المستعمر ومن حزب المنافقين تمثل في تصديرهم في الإعلام وتصويرهم أمام عامة المسلمين بأنهم يمثلون ( الإعتدال ) و( الوسطية ) !! في مقابل المتشددين والمنغلقين ...الخ !؛ نظراً للدور الذي قاموا به، وقد نقلتُ شيئاً من أقوال الطائفتين في مدح (جماعة الأفغاني) في المذكرة السابقة، وتجمع لي من ذلك فيما بعد شيء كثير أضيفه لاحقاً -إن شاء الله-.
ومن ذلك مقولة ( النصراني الماركسي !) جورج طرابيشي : ( من وجهة نظر مرحلية فإن مهمة ثورة لاهوتية لاتزال مطروحة على جدول أعمال العقل العربي ، وهي ثورة يزيد ضرورتها إلحاحًا مايشهده العالم العربي اليوم من صحوة ... - إلى أن يقول - وعلى أي حال فليس لنا أن نتصور فولتيرًا عربيًا بدون لوثر مسلم ) !! ( مجلة أبواب ، 16/114-115). أي أنه لا علمانية دون عصرانية تمهد لها .
وانظر أيضًا ماذكره عبدالإله بلقزيز في كتابه ( الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر ، ص 285 ) .
ثم اطلعتُ على كتاب للدكتور (رفعت السعيد) -الشيوعي المصري المعروف- بعنوان "عمائم ليبرالية" ! يثني فيه على الجماعة ( العصرانية ) المذكورة في مصر، وينوه بجهودها في تغريب البلاد أو مايسميه "تنويرها"!، ويعترف صراحة في (ص157) بأنه أراد بهذا الكتاب أن يُسهم -كما يقول- ( في المعركة الدائرة لم تزل، والتي من فرط الظلام الفكري الذي فرضه المتأسلمون فرضت علينا أن نخوضها متراجعين ومتحصنين بآراء عمائم هي بالضرورة أعمق مرجعية وأكثر دراية بالشأن الديني) !!
فهو يقر بأن استعانته بهذه الفئة العصرانية (المعممة) ليس حباً فيها؛ إنما لأجل أنها تمثل (القنطرة) التي تحمل العلمنة إلى البلاد الإسلامية التي تصعب علمنتها مباشرة؛ ولأنها أقدر على خداع بعض المسلمين بما تحمله من علم شرعي سوف يُسخر لهدم الدين من داخله! -كما يزعمون-، وهذا يذكرنا بوصية محمد عبده لشيخه الأفغاني بقوله: "لا تقطع رأس الدين إلا بسيف الدين" !!
فطليعة الفئة العصرانية في مصر (الطهطاوي، الأفغاني، محمد عبده، الكواكب، علي عبد الرازق..) أدت الدور المناط بها دون أن تخلع (عمائمها)؛ لأن هذه (العمائم) شعار مهم في تلك المرحلة لتسهيل المهمة. حتى إذا استقر الأمر لهم رأينا كثيراً من الجيل الثاني للعصرانية يكشف عن وجهه القبيح، ويجاهر بعلمانيته، ويلقي هذه العمائم وراءه ظهرياً (سعد زغلول، أحمد لطفي السيد، قام أمين ...).
صلى المصلي لأمر كان يطلبه
فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما!
وسبب ذلك أن العصرانية مجرد وسيط أو ناقل غير ثابت، فهي كاللهب الذي يشع ثم سرعان ما ينطفئ بعد أن يقضي مهمته، والعصراني كمن يسير على رجل واحدة، سرعان ما يتعثر فيسقط بعد أن يتشبع بالفكر العلماني المصادم للدين الذي قد يصل به إلى الإلحاد -نسأل الله العافية- بسبب استغراقه في هذا الفكر الخبيث وتحطيمه لكل المقدسات ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه فيعود سوياً يمشي على صراط مستقيم. (قارن برشيد رضا الذي نبذ العصرانية بعد أن انكشف أمرها وعاد إلى دعوة الكتاب والسنة، ولله الحمد، ولا ينفي هذا بقاء لوثة من لوثاتها في تراثه، ولكن شتان بينه وبين من انتكس وارتكس).
أقول -بعد هذا- : وفي السعودية بدأنا نلمح ظهور "اللحى الليبرالية"!! من أصناف الشاذين والطامحين ، هذه اللحى التي أصبح (البعض) يمكنها من التصدر في الصحف والقنوات لتؤدي ما أدته أختها في مصر، وليس من المستغرب بعد أن عرفتَ الدور المناط بها أن ترى هذه "اللحى الليبرالية" تنسف ثوابت الدين وأصوله، وتقع في العظائم والمكفرات، بدعوى الاجتهاد وحرية الخلاف... الخ دعاواهم. لكن هذا الاجتهاد المزعوم لا يطال أمر اللحية التي يتحلون بها!! (وحلقها هو مجرد معصية).
والسبب: أن هذه "اللحية" -مهما تضاءلت !- لابد أن تبقى كما بقيت "العمامة" على رؤوس طلائع العصرانية في مصر. فهي (جواز المرور) الذي سوف يسهل مهمة العملية التي كلفوا بها، ولذلك لن تمس بسوء مهما كانت الظروف!
ولكني أقول لهذه "اللحى الليبرالية":
ليس الخليل كما قد كنت تعهده *** قد بدل الله ذاك الخل ألوانا
وأقول لهم -أيضاً- ما قاله الشاعر في أسلافهم بمصر:
ليت شعري ماذا دهي مصر حتى *** عاث فيها أولئك المارقونا(31/407)
ودعا الناس للضلال دعاة *** وادعى العلم أجهل الجاهلينا
ليس فيهم إلا جهول ولكن *** قد رأوا أن يعلموا العالمينا
هل سمعتم يوماً بغير بصير *** قائد في الطريق للمبصرينا
يزعمون (الإصلاح) للدين فاعجب *** لشياطين يصلحون الدينا !
فإن كانت (العصرانية) في مصر قد نجحت وأدت دورها البغيض؛ نظراً لحداثة التجربة، ومساعدة الظروف التي من أهمها: احتضان (أحد الشيوخ المعممين) لها، وكونها واجهت مجتمعاً مليئاً بالبدع والخرافة -إلا ما رحم ربي-، فإنها -بحول الله- ستفشل في بلاد التوحيد؛ لعدة أمور :
أولا : أن المسلمين قد وعوا الدرس جيداً -ولله الحمد- ولن يُلدغوا من هذا الجحر مرة ثانية .
ثانيًا : أننا رأينا هذه العصرانية لا زالت تراوح مكانها وتبحث يمنةً ويسرة علها تجد "شيخاً" تتترس وراءه -ولن تجده بإذن الله-.
ثالثًا : أننا رأيناها قد اصطدمت بمجتمع سلفي واعٍ تحطمت عنده ضلالات عديدة أراد أصحابها نشرها فيه، لكنهم باؤا بالخزي والفشل، مجتمع لا تغره الشعارات ولا الزخارف، ولا مكان فيه لغير دعوة الكتاب والسنة ، مجتمع يأخذ من الحضارة المادية محاسنها ويلفظ مساؤيها ، فليس فيه ( فصام نكد ) بين الإثنين .
واجبنا لمواجهة هذه الفئة الضالة:
1- أما واجب ولاة الأمر - وفقهم الله- لطاعته فهو: أن يأخذوا حذرهم من هذه الأفكار العصرانية التي بدأت تتسلل إلى عقول الشواذ، ومتابعة من يقف وراءها من "القادمين المشبوهين"!؛ لأنها -كما اتضح للعيان- تقوض الأساسات التي قامت عليها حكومة هذه البلاد، وتبطن الشر والسوء لحكامها وأهلها، فهي لا تقل خطراً عن أفكار الغلاة والمتشددين من أصحاب التفجيرات وقتل معصومي الدماء، فكلا الطائفتين شر ووبال على هذه البلاد، وكلاهما تعملان لمصلحة أعداء الإسلام، وتهيئان له الأرضية، وتزعزعان وحدتنا الأمنية والفكرية، وتجعلان المسلمين نهباً للشعارات والتشرذم والتنازع.
فالواجب التصدي بحزم لهذه الفئة الضالة كما تصدينا -ولله الحمد- لأختها, وعدم تمكينها من الإعلام، بل تصدير علماء الإسلام الكبار الذين يتعبدون الله بطاعة ولاة الأمور، ولا يبطنون خلاف ما يُظهرون، ويجمعون الناس على ذلك . وهم ( صمام الأمان ) - بعد الله - لهذا المجتمع كما اتضح ذلك للعيان في عدة أحداث مرت بالبلاد .
2- وأما واجب العلماء والدعاة: فهو أن يفضحوا -ما استطاعوا- هذه الفئة، ويبينوا زيفها وباطلها، ويُصدروا البيانات والفتاوى الرادعة والزاجرة لمعتنقيها، وأن لا يتورط (البعض) بمجاملتهم أو التستر عليهم أو تهوين شأن خطرهم تحت أي مسوغ ، فقد انكشف الغطاء لكل ذي لب، ورأينا هذه الطائفة (العصرانية) المخذولة تقف مع العدو في خندقه، وتهدد حصوننا من داخلها. وما بحث تعديل المناهج المقدم في مؤتمر الحوار عنا ببعيد !
3- وأما واجب شباب الإسلام: فهو أن يحذروا أفكار أصحاب "اللحى الليبرالية" مهما تزخرف وازينت، فإن حقيقتها ومصيرها منابذة الإسلام وأهله، والارتكاس في الانحرافات والكفريات، وأن يجانبوا أهلها ؛ فإن الله يقول (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)، ويقول (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم..) ويقول (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم). وأن يتصدوا لهم عبر الإعلام وعبر شبكة الأنترنت ، وليلزموا - قبل هذا - دعوة الكتاب والسنة وعلماءهم الكبار المشهود لهم بالعلم والتقى والصلاح من السائرين على الصراط المستقيم دون تقلب أو ذبذبة أو شك أو ريب.
ختامًا : أسأل الله أن يهدي أصحاب ( اللحى الليبرالية ) ، وأن يوقظ قلوبهم قبل أن يوغلوا في هذا الدرب المظلم الذي يسلخهم رويدًا رويدًا عن دين الإسلام ، وأن يتعظوا بمصير أسلافهم في مصر ، وأن لا يكونوا مطية لأعداء الأمة . كما أسأله تعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يكفينا شر كل ذي شر، وأن يباعد بيننا وبين أسباب غضبه، ويتوفانا مسلمين غير مفتونين. وصلى الله على نبينا محمد وأله وصبحه وسلم.
============(31/408)
(31/409)
ثقافة التلبيس (4)"المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية "
التبشير " بالمجتمع المدني " هو الموضة الجديدة على ألسنة وأقلام العلمانيين والعصرانيين من ذوي " اللحى الليبرالية " ! ؛ فلا يكاد يخلو حديث أو مقال لهم دون الإشارة أو الدعوة إليه بصفته البلسم الشافي لجميع أدواء الأمة وخلافاتها ، وإنقاذها من " الماضويين " " السلفويين " ... الخ !!
وهذا " المجتمع المدني " - كما سيأتي - مخلف آخر من مخلفات و " استوكات " المجتمع الغربي العلماني المصدرة إلينا - كالعادة - ليتلقفها الأذناب ويروجوا لها تمهيدا لإدخال مجتمعاتنا ومسخها داخل المنظومة الغربية .. فلا عجب أن يحتفي به " بنو علمان " من متبعي سنن من كان قبلنا حذو القذة بالقذة ، حتى قال قائلهم : ( إن المجتمع المدني والعلمانية مطلوبان في المجتمع العربي ) ! ( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 31 ) .
ولكن العجب أن يتابعهم على هذا : أفراد الطائفة المخذولة المسمون " بالعصرانيين " أصحاب " اللحى " من مدعي الأسلمة !!
ويلزمهم - في نظري - أمران :
1- إما أن يكونوا يجهلون حقيقة هذا المصطلح " العلماني " ، ومصادمته الصريحة للإسلام ، ولكنهم سمعوا القوم يرددونه فرددوه تبعًا لهم كالببغاء عقله في أذنيه ! ، وهذه مصيبة ؛ أن يدعوا إلى أمر لايعلمون حقيقته .
2- وإما أن يكونوا يعلمون حقيقة هذا المصطلح ، فهم يتبنونه عن علم ، ومع سابق الإصرار والترصد . وهذا ما أميل إليه !! واعذروني على إساءة الظن بهم ؛ لأن مقالاتهم وأحوالهم التي ظهرت وتبينت للمسلمين تؤكد ظني ، فلم يعد هناك مجال للمجاملة أو إحسان الظن .. فلا فرق بين الطائفتين " العلمانية ، والعصرانية " سوى هذه " اللحى " التي هي شعار تتطلبه هذه المرحلة ! - وإلا فالجميع - كما تبين في مواقف عديدة - بسبب تضخم الحياة الدنيا في عقولهم يأملون باستبعاد الإسلام وأحكامه عن دنياهم .. ظانين أنهم بهذا الفعل يلحقون بركب الغرب ، غير متعظين بتجارب إخوانهم في بلاد إسلامية كثيرة حكموها بعلمانيتهم وبتحجيمهم للإسلام وأهله ، فلم يخلفوا بعدهم سوى البؤس الديني والدنيوي ، متجاهلين عن عمد فشل إسقاط النموذج الغربي على الإسلام الذي لم يكن في يوم ما معارضًا لأي تقدم دنيوي مفيد .
بل إنني أرى أن أصحاب " اللحى الليبرالية " أخطر وأخبث من " بني علمان " ؛ نظرًا لإنخداع المسلمين بظواهرهم ، وخلفيتهم الشرعية . ولهذا تجد " بني علمان " قد سلموا لهم راية الإفساد ، ومكنوهم من المنابر ، وأغرقوهم بالمديح والثناء في مقالات وكلمات تجمع عندي منها الكثير .. ليس حبًا فيهم ، ولكن ليتخذوهم حصان ( بل حمار ! ) طروادة يغزون به حصون الأمة من داخلها .
وقد أعجبتني كلمة - مناسبة لهذا المقام - قالها الشيخ سلمان العودة في رده القديم على الغزالي ؛ قال ( ص 88 ) : ( فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف ؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين ، أو غيرهم ، فطاروا بها كل مطار ، وصوروها ونشروها ، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة . وهم يعتبرون فكر الشيخ " مرحلة مؤقتة يواجهون بها الدعاة في هذه المرحلة .. وبعدما تتجاوز المرحلة هذا الأمر سوف يتجاوز هؤلاء فكر الشيخ ، ويعتبرونه فكرا قديما عفى عليه الزمن ، وينتقلون إلى كاتب آخر يكون أكثر تحررا وانفتاحا ، ومرونة من فكر الشيخ ) .
المجتمع المدني :
لقد أحببت أن أبين - بإيجاز - لإخوتي الكرام : حقيقة هذا المصطلح الوافد الذي بدأ يشنف أسماعنا وأبصارنا صباح مساء ، لكي لا يغتر أحد " بدسمه " ويغفل عن " سمه " ، ونكون على حذر من مكر أعداء الإسلام ممن يتمنون أن يحصروه داخل المسجد ، كما حصره أسيادهم داخل الكنيسة . وليهلك - بعد هذا - من هلك عن بينة .
وسيكون هذا التوضيح والبيان بواسطة نقولات صريحة عن مفكرين متنوعين هضموا هذا المصطلح ، وجهر كثير منهم بمناقضته للإسلام واتكائه على " العلمانية " " اللادينية " :
نشأته وماهيته :
- نشأ هذا المصطلح لدى الغرب بعد صراعهم المرير مع الكنيسة وما يسمونه " الحكم بالحق الإلهي " ؛ يهدفون من خلاله إلى تنحية دينهم " المحرف " عن شؤون الحياة الدنيا ؛ لأنه يعارضها .
- يقول الدكتور كمال عبداللطيف : (من بين المفاهيم السياسية التي أصبحت تستعمل بوفرة في الكتابات السياسية العربية المعاصرة ؛ مفهوم المجتمع المدني ، ولا شك أن اتساع دائرة استعماله في حقل هذه الكتابة يندرج ضمن دائرة العناية المستجدة في الفكر السياسي العربي بالمنظومة الليبرالية) . (المجتمع المدني ، ملاحظات حول تشكل المفهوم وتطوره ، ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، عدد 55 ، ص 64 ) .
-ويقول - أيضًا - : ( اقترن المجتمع المدني بالمجال الدنيوي ، حيث يتخلص مجال السياسة من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنسي ، أي من هيمنة المقدس ، وتصبح الدولة والقوانين والمؤسسات نتاجاً للتجربة التاريخية المستقلة عن مجال الروحي في صورته الدينية ) . ( السابق ، ص 66 ) .(31/410)
- و( قد أوضح كل من جون لوك وجان جاك رو سو أهمية المجتمع المدني كمحصلة للتعاقد في تنظيم المجتمع ، انطلاقاً من شرعية المصلحة ، وضد كل وصاية سماوية) . ( السابق ، ص 66 ) .
- ( قد دخل المجتمع المدني في أوروبا حوالي عام 1400م بجملة دلالات أتى بها الخطيب والأديب الروماني ماركوس توليوس شيشرون في القرن الأول قبل الميلاد) . ( من عناوين المجتمع القادم ، سهيل عروسي ، ص 157 ) .
- لقد ( ظهرت فكرة المجتمع المدني مقابلاً ونقيضاَ للسلطة الدينية المسيحية ولنموذج الدولة الشمولية . ولقد نشأ هذا المفهوم في مناخات الصراع مع الكنيسة وأنموذج الدولة الشمولية تواصلاً مع مفهوم الديمقراطية وحرية الفرد وتشجيعاً لمبادراته باعتبار الأصل ، وحدأ من تمدد الدولة والكنيسة معاً بعد أن تم تحرير الدولة باعتبارها نشاطاً دنيوياً محكوماً بالعقل والقانون ، وبعد أن انتقلت فكرة السيادة المطلقة التي كانت للكنيسة باعتبارها تجسيداً للمسيح الذي تجسد فيه الرب ). ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ، الغنوشي ، ص 54 ) .
- ( يرتبط ظهور مصطلح " المجتمع المدني " بظهور نظريات العقد الاجتماعي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في المجتمعات الغربية للدلالة على مجتمع المواطنين الأحرار الذين اختاروا بإرادتهم الطوعية حكومتهم ، وظل هذا المصطلح متداولاً في أوساط المفكرين الاجتماعيين وبخاصة هيغل وماركس إلى أواخر القرن التاسع عشر ، ثم انحسر عن الحياة الفكرية والسياسية وانطوى في زوايا النسيان طوال القرن العشرين ، وعاد إلى اللمعان والظهور وبقوة في العقد الأخير من القرن العشرين ، حيث شاع استعماله في أدبيات العلوم الاجتماعية ، وراج في الأوساط الأكاديمية والعلمية سواء على المستوى العالمي أو العربي ) . ( الأستاذ عبد الحميد الأنصاري :نحو مفهوم عربي إسلامي للمجتمع المدني ، ، مجلة المستقبل العربي عدد 272ص 95 ) .
- لقد ( ظهر مصطلح " المجتمع المدني " في مقابل " المجتمع الطبيعي "من ناحية ، "والمجتمع الديني" من ناحية أخرى ، وذلك في أول نشأة المصطلح في سياق نظريات التعاقد خلال الفترة الممتدة من النهضة إلى القرن الثامن عشر في أوربا وكان المصطلح محملاً بشحنه دنيوية أرضية ضد فكرة الحق الإلهي التي كانت تحكم المجتمع الأوربي) . ( السابق ، ص 96 ) .
- ( إن المجتمع المدني قد تبلور في سياق نظريات التعاقد كما نادى به فلاسفة العقد الاجتماعي إبان القرن الثامن عشر ، تعبيراً عن المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة ، وتأسست على عقد اجتماعي ) . ( السابق ، 103 ) .
- ( إن المجتمع المدني نشأ من خلال نضال المجتمعات الغربية ضد السلطة التي كانت تجمع بين المدني والكنسي بهدف الفصل بينهما ، وهو المبدأ الذي عارضه الإسلام باعتباره نظاماً كلياً شمولياً) . ( السابق ، 102 ) .
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة أنظمة من القيم والمعتقدات : الليبرالية والرأسمالية والعلمانية ، وهي لا تتحقق مع القيم الإسلامية) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يقوم المجتمع المدني على قيم نسبية تسمح بالاختلاف والتنوع ، ولا توجد للمجتمع المدني قيم مطلقة .. بينما قيم المؤسسات الدينية والأحزاب الإسلامية مطلقة ، وتقوم على حراسة قيم مطلقة) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يشكل المجتمع المدني البنية التحتية للديمقراطية ، وهو أشبه بالشرايين والقنوات التي يجري فيها السائل الحيوي للديمقراطية ، وهما وجهان لعملة واحدة هي " الحرية " . وإذا كان من المسلمات أنه لاتنمية من دون ديمقراطية ، فكذلك لاديمقراطية من غير مجتمع مدني يكون كالأب الشرعي أو الأم الحاضنة التي تضمن للديمقراطية النمو والاستمرار والازدهار) . ( السابق ، 97 ) .
- ( المجتمع المدني هو بالأساس ذلك المجتمع غير الديني ، أي المجتمع المنعتق سياسياً من السلطة المطلقة الدينية التيوقراطية). ( المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي ،توفيق المديني ، ص 45 ) .
- ( العلمانية روح المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 67 ) .
- ( المجتمع المدني مؤسس على العقلانية والعلمانية) . ( السابق ، ص 68 ) .
- ( إن الحرية الفردية تشكل أساس المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 68 ) .
- (إن التحرر السياسي في المجتمع المدني قد قاد إلى تحرر الإنسان من الدين) . ( السابق ، ص 69 ) .
- ( يقيم - أي المجتمع المدني - الدولة على أساس دنيوي ، ملغيًا المفهوم القديم القائم على الحكم بالحق الإلهي ) . ( مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي د / أحمد شكر الصبيحي ، ص 120) .
- ( إن المجتمع المدني قرين الفكر الغربي ) . ( السابق ، ص 17 ) .
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها : الليبرالية ، وثانيها : الرأسمالية ، وثالثها : العلمانية . وهذه القيم والمعتقدات الثلاثة بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تتفق مع القيم الإسلامية ) . ( السابق ، ص 41 ) .(31/411)
- ( كان مجرد تعبير عن انتقال مبدأ السيادة من السماء "الحكم بالحق الإلهي" إلى الأرض "الحكم على أساس العقد الاجتماعي" ) . (المجتمع المدني ، دراسة نقدية ، د/ عزمي بشارة ص 12) .
- و ( يرى مجدي حماد - أيضًا - : أن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها الليبرالية ، وثانيها الرأسمالية ، وثالثها العلمانية ) . ( إشكالية مفهوم المجتمع المدني ، د كريم أبوحلاوة ، ص 150 ) .
-( ومن هنا يُعرف المجتمع المدني أو العلماني بأنه المجتمع المستقل في تنظيم حياته المدنية ـ الاجتماعية عن أية افتراضات مسبقة عن ، ولوجود الإنسان ومجتمعه . ومن هنا كذلك ينبغي أن تكون علاقات العيش الإنساني ـ الاجتماعي في المجتمع المدني محكومة بنواظم العقل ـ العلم البشري ، حسبما تقوله العلمانية ، لكن نواظم العقل متبدلة بتبدل مراحل العيش والارتقاء الإنساني ، ومتغيرة بتغير المكان والزمان وإن كانت محكومة بمبدأ أساسي هو الحفاظ على مبدأ الوجود واستمراريته ، ومن ثم الوجود الآمن والعادل . في مثل هذه الحال تكون الاعتقادات الإيمانية الأيديولوجية الفكرية شأنا خاصاً من شؤون الضمير الفردي في اعتقاداته وآرائه الفكرية والإيمانية والاجتماعية والسياسية ، وإلا فإن فرض رأي ضمير على ضمير آخر هو بداية التسلط ، ومن ثم العنف المتبادل ، فالمجتمع المدني إذن ، آو العمران على لغة ابن خلدون ، يفترض فكرة " العقد الاجتماعي " بين أطراف المجموعة الاجتماعية وبين البشر عموما ، وفي مثل هذه الحالة يمكن للحكومة أن تكون حكما ومراقبا ، وليس مجرد ممثل لأيديولوجية آو طبقة مسيطرة ) .( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 26 - 27 ) .
-( ومن هنا نستطيع القول إن المجتمع المدني ترتيب جديد للمجموعات الاجتماعية لا يأخذ بعين الاعتبار رغبة أي من التنظيمات والعقائد الاجتماعية والشخصية الموروثة في فرض نفسها على المجتمع ، حتى وإن تماسست في مؤسسات ، كالدين والطائفية والعشيرة ، بل والحزب السياسي ، بل ويقاوم رغبة أو محاولة أية مجموعة اجتماعية السيطرة على باقي المجموعات باسم الصحة المطلقة لعقيدتها ، وفي المقابل تحاول العلمانية والمجتمع المدني ترتيب علاقات وحياة المجموعات سلميا ، وجعل العقل والعلم والدين والمصلحة المشتركة ، أي الاعتراف المتبادل بالمصالح وحرية الاعتقاد ووجوب الاحتكام إلى المؤسسات التمثيلية البشرية غير المقيدة بأية صفة إطلاقية دينية كانت أم دنيوية ، فالعلمانية لا تتطلب التخلي عن العقيدة والرأي بل وتعرف أن هذا غير ممكن ، لكنها تريد الامتناع عن فرض هذا الرأي بأي شكل من أشكال العنف والضغط أو الإكراه ، حتى ولو كان ذلك علي شكل ترغيب أو ترهيب ) . ( السابق ، ص 27 ) .
- ( المجتمع المدني هو نقيض المجتمع الديني كما هو معروف ) . ( السابق ، ص 29 ) .
معوقات تحقيق المجتمع المدني لدى العلمانيين :
-( دون تحقيق مجتمعات مدنية في بلداننا العربية عوائق شتى ، يحصرها بعض الباحثين في أربع نقاط :
الأولي :.....الثانية :.......
الثالثة : منظومة العلاقات والتفاعلات القائمة على الدين الإسلامي ) !! . ( الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني ، فهمية شرف الدين ، مجلة المستقبل العربي ، ص 42 ) .
- ( لا يختلف معظم المحللين والباحثين الاجتماعيين على أن المنظومة التربوية السائدة في المجتمعات العربية هي سبب رئيسي من أسباب تأخر المجتمعات العربية ) . (تقف منظومة تربوية متكاملة تبدأ من الأسرة وتنتهي في شبكة العلاقات السياسية أي في تلك العلاقة مابين " رب البيت " و " رب الوطن " و " رب العالمين " يجمع بينها جميعها مفهوم الطاعة الذي ينتج الولاء و التبعية ، وعندما تكون الطاعة هي القيمة الأولي في المجتمع تنتفي الإرادة ، وينحسر الاختيار الحر) . !! ( السابق ، 46، 47 ) .
حكمه :
- " المجتمع المدني " مجتمع علماني كما سبق باعتراف أهله والمعجبين به ، فهو يساوي بين الإسلام والديانات المحرفة أو البشرية ، ويهمشه ، ويبعده عن مجالات الحياة ؛ وهذا كفر لاشك فيه . وليطالع من يريد الزيادة : رسالة ( العلمانية ) للشيخ سفر الحوالي - حفظه الله - ( فصل : حكم العلمانية في الإسلام ) . وكتاب ( كسر الصنم العلماني ) للأستاذ محمد شاكر الشريف - سلمه الله - .
- ( إن مفهوم المجتمع المدني ( أوروبياً ) مرتبط بجدلية التاريخ الأوربي ، ولا يجوز ترجمة تطور هذا المفهوم على دولة الإسلام في مختلف مراحلها ذلك أن دولة الإسلام دولية موضوعية جمعت الدين والدنيا) . ( مجلة الفيصل ، العدد 202 ، العرب والمجتمع المدني ، د / عمر فوزي نجاري ، ص 19 ) .
تنبيهات :
التنبيه الأول : قال العلماني محمد كامل الخطيب :( بالنسبة للمجتمع العربي تحديداً ، فالدعوة للمجتمع المدني العلماني ، ما تزال جديدة جدة عملية التمدين ، وربما يمكن تأريخ ابتدائها بتلك الرسالة التي أرسلها إبراهيم باشا ابن محمد علي إلى متسلم اللاذقية في 24 ربيع الثاني 1248 ، ( 1809 م ) وفيها يقول :(31/412)
" الإسلام والنصارى جميعهم رعايانا، وأمر المذهب ماله بحكم السياسة ، فيلزم أن يكون كل بحاله ، المؤمن يجري إسلامه والعيسوي كذلك ، ولا أحد يتسلط على أحد " .
وبعد إبراهيم باشا ، الذي قارب العلمانية لأسباب إدارية وسياسية ، أتى المفكرون ؛ فدعا للعلمانية والمجتمع المدني كتاب ومفكرون من أمثال شبلي شميل ولطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق وطه حسين وجبران خليل جبران وعبد الرحمن الشهبندر وسلامة موسى وقسطنطين زريق وغالبية المفكرين القوميين والماركسيين ، وربما كانت الأنظمة العربية التي تحكم باسم الفكر القومي من آثار الدعوة للمجتمع المدني والعلمانية في العصر الحديث ، على الرغم من أنها لم تستطع ممارسة وتحقيق إلا القليل القليل من سمات المجتمع المدني ، ومن العلمانية ، بل إنها ، وفي حالات كثيرة ناقضت المجتمع المدني والعلمانية في ممارساتها وسياساتها ، فمزقت المجتمع وعملت على تهديده ) .( مرجع سابق ، ص 28 - 29 ) .
التنبيه الثاني : فتن بعض الإسلاميين بالمجتمع المدني كما فتنوا قبله بالديمقراطية !! كل هذا لأجل الهرب من تسلط الدول العربية التي عاشوا فيها ؛ كمصر وتونس وغيرها ؛ فأصبحوا كما قيل : كالمستجير من الرمضاء بالنار !
والعجب أن صراخهم ملأ الفضاء دعوة وتبشيرًا بالدولة الإسلامية التي يسعون إليها ! فيما هم - في الواقع - يلمعون الأنظمة الكفرية ( الديمقراطية ، المجتمع المدني .. ) ، فماهذا التناقض ؟! ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟
ألا يدل هذا على أنهم لا زالوا غير مقتنعين بالحكم الإسلامي ؟!
وأنهم لازالوا يخلطون بينه وبين " الحكم الديني " الذي وجد في الغرب ؟!
وإلا فلماذا يتجاوزونه ويجتهدون في " ترقيع " أفكار الغرب ، وجلبها لديار المسلمين ؟! أليس هذا من الخيانة والتلبيس على الأمة ؟!
والمضحك أن هؤلاء الإسلاميين عندما تبنوا أفكار الغرب زعموا أنهم سيجرون عليها بعض " التعديلات " لتكون مناسبة لنا !
فزعم بعضهم ( كالقرضاوي ) المفتون بالديمقراطية أن ( السلطة المنتخبة لاتملك حق التشريع فيما لم يأذن به الله . لا يملك أن تحل حرامًا أو تحرم حلالا ) !! ( انظر : كتابه : الحلول المستوردة ، ص 77-78 ) . وأن ( لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع ) !! ( انظر : فتاوى معاصرة 2/646) .
وهل سيقر لك سدنة الديمقراطية بهذا التحكم في ديمقراطيتهم ؟! إنك إن فعلت ذلك لن يكون " المعدل " ديمقراطية !! وإنما سيكون إسلاما ! فريح بالك وادع للإسلام مباشرة ! ( انظر الرد عليه تفصيلا في كتاب : القرضاوي في الميزان ) .
ثم جاء آخر من " الترقيعيين " وهو الغنوشي مبشرًا بالمجتمع المدني الذي سيخلصنا من " الدول المتسلطة " وألف كتابًا بعنوان ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ) أتى فيه بما لم تستطعه الأوائل ! حيث خالف إجماع العارفين بالمجتمع المدني وأهله عندما قال ( ص 104 ) : ( لاتعتبر العلمانية فكرة مساعدة على نشأة المجتمع المدني ) !! ، وعندما زعم ( ص 108 ) : ( أن فكرة العلمانية ..ضد المجتمع المدني ) !! كل هذا لأجل تلميع صورة هذا المجتمع العلماني بين المسلمين .
قد يقول قائل : لماذا لانعذر القرضاوي والغنوشي في دعوتهم للديمقراطية والمجتمع المدني ، وهم قد عاشوا في مجتمعات جمعت بين الحكم بالطاغوت والظلم ، فبعض الكفر أهون من بعض ؟ وكفر الديمقراطية والمجتمع المدني قد يقبله العالم بخلاف الدعوة للحكم الإسلامي ؟
أقول :
1- لو سلك هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع الحكام - كافرهم أو ظالمهم - لما تعرضوا لما تعرضوا له ، ولما اضطروا لقبول هذه الكفريات .( وتفصيل هذا يطول ) وقارن حالهم بحال دعاة السنة في تلك البلاد كيف أثمرت دعوتهم ، لولا أن أفسدها هؤلاء عليهم بحماقاتهم .
2- أنهم - من واقع حالهم - غير مضطرين أبدا لهذه الكفريات كلها ، التي تقضت أعمارهم في سبيل تقريرها في بلاد المسلمين . فلوا ركزوا جهودهم على بيان أهمية الحكم بالشريعة ، وحسنوه للحكام وللناس لكان خيرا لهم ، فإن قبل منهم وإلا فهم معذورون ........ ولكن : فاقد الشيئ لايعطيه !
3- أنهم عندما دعوا لما سبق من كفريات لم يقروا بمخالفتها للإسلام ، وأنهم إنما أكرهوا عليها . بل ادعوا أنها لاتنافي الإسلام مجرين عليها تعديلاتهم الخيالية . وهذا تلبيس ومكابرة .
ماعذر الحامد والفالح والطريفي ؟!
أولئك عاشوا في بلاد متسلطة لم تحكم بالشرع ، ولم يعذروا بانحرافهم عن المنهج الشرعي في التعامل مع الولاة الذي قادهم إلى تلكم الكفريات . فماظنك بأناس يعيشون في بلاد التوحيد والدعوة ، التي يحكم فيها بالشرع ، وتظهر فيها السنة وأهلها ، والفضيلة وحماتها .. ثم يستبدلون هذا كله بالدعوة والتلميع لذلك المجتمع المدني " الكفري " ؟!(31/413)
أما الحامد : فهو الدكتور عبدالله الحامد ، " الأديب " المعروف الذي جعل ديدنه في كل لقاء يعمل معه : المناداة بهذا المجتمع المدني الذي سيخلصنا من الإستبداد و .. و .. الخ الشعارات ! ( انظر لقاءه مع قناة الجزيرة مثلا ) . وقد ألف لأجل هذا كتابيه : " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " !! و " نظرية المجتمع المدني في الإسلام " . ولي معه جولة قادمة - إن شاء الله - .
وأما الفالح : فهو الدكتور متروك الفالح ، أحد دكاترة جامعة الملك سعود ، ألف كتابًا " وصفيًا " بعنوان " المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية - دراسة مقارنة لإشكالية المجتمع المدني في ضوء تريف المدن " . حاول فيه كغيره اجراء " تعديلات " و " تحكمات " على مجتمعه المدني ليتوافق مع واقعنا . ( انظر ص 151 من كتابه ) .
وأما الطريفي : فهو عادل بن زيد الطريفي ، كاتب صحفي مغرم بالتعالم ولوك المصطلحات الغربية ، بدأ من صحيفة المحايد ، ثم انتقل إلى جريدة الوطن . كتب مقالا بعنوان " أين هو المجتمع المدني في مشروعات الإصلاح العربية ؟ " ( الوطن / 1279) : يبشر فيه الدول العربية بفوائد الأخذ بالمجتمع المدني ! ويحذرهم من " الأصولية الدينية " !! و" الانغلاق السلفوي " !! وقد رد عليه الأستاذ سعيد الغامدي - وفقه الله - .
قد يقال : عذرهم أنه يوجد في مجتمعنا " أثرة " ، وقد وقع على بعضهم " ظلم " فروا منه إلى هذه الأفكار التي تقيهم من التسلط .
فأقول : سبحان الله ! أيفر من " الظلم " إلى " الكفر " ؟!
أيفر من دولة إسلامية فيها أثرة ، لكن أعلام التوحيد والشريعة والفضيلة فيها ظاهرة مرفوعة ، أهلها مجتمعون ... إلى " مجتمع مدني كفري " ترتفع فيه أعلام الكفر والبدعة ، والتحزب والتفرق ، ويرتع فيه أرباب الخنا والرذيلة بقوانين تحميهم !!
عجبًا لكم !
أليست ( الفتنة أشد من القتل ) ؟!
ثم أقول : لو التزم هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع ولاتهم لما وقع عليهم هذا الظلم . فلماذا الإثارة ومنازعة الأمر أهله ؟ وقد تبين وتأكد للعقلاء عبر التاريخ أن هذا المسلك التصادمي يفسد ولا يصلح ، والواقع شاهد .
ولو اشتغل هؤلاء بالدعوة إلى دين الله وتوحيده وناصحوا من ولاه الله أمرهم ؛ لبوركت جهودهم وأثمرت كغيرهم ممن نفع الله بهم البلاد والعباد . لكنهم أشغلوا أنفسهم فيما حذرهم منه رسول ا صلى الله عليه وسلم من " عدم منازعة الأمر أهله " فضروا أنفسهم وأضروا غيرهم . ثم لجؤا إلى هذه الدعوات " الكفرية " التي ظنوها تنقذهم مما هم فيه ، حتى أشربوها في قلوبهم - والعياذ بالله -
وأقول لهم أيضا : ومايدرينا أنكم لو تسلطتم علينا أن لا تظلموا ولاتستأثروا !! وحال إخوانكم في دول أخرى تمكنوا منها لا يبشر بخير !
ختامًا : أسأل الله أن يبصر شباب الإسلام بانحرافات من يزعمون " الإصلاح " ومجابهة الظلم والأثرة وهم يقودونهم إلى " الكفر " والإنسلاخ من الدين وهم لايشعرون .. وأن يجعلهم متنبهين لما يراد بهم : لاتخدعهم زخارف الألفاظ ولا تدغدغهم الشعارات الكاذبة .
والله الموفق .
==============(31/414)
(31/415)
لكي تكون ( ليبرالياً ) !!
من الأمثال الشعبية الدارجة عندنا قولهم : (عنز بدو طاحت في مريسة).. والمريسة طعامٌ حلوٌ لذيذ مكوّن من خليط التمر والماء بعد هرسهما ومرسهما، ولم يكن معروفاً عند البدو، فإذا رأته عنزهم التي لم تعتد إلا على أكل البرسيم؛ انهمكت في الأكل منه بشراهة..
تذكّرت هذا المثل عند قراءتي لمقال لأحد الكُتّاب المحلّيّين الذي عُرف عنه كثرة الحديث عن قصص الغزل والغرام وما يتعلّق بالنساء والغناء والأندية الرياضية... وفي المقابل هجومه المتواصل على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراكز الصيفية وضرورة إغلاقها في أسرع وقت ممكن لأنّها في نظره هي مصدر الإرهاب !!
وفي مطلع الإجازة الصيفية الماضية، نشرت الجريدة التي يكتب فيها، خبراً عن افتتاح عدد من المراكز الصيفية، فثارت ثائرته، ودبّج مقالاً يعيد فيه اسطوانته السنوية المشروخة بضرورة إغلاق المراكز الصيفية، وصرف الشباب قصراً إلى الأندية الرياضية (الهلال، الاتحاد، النصر) على حد تعبيره.. لكنّه في هذه المرّة أضاف إضافة جديدة تُعدّ في هذه الأيّام موضة صحفية جديدة لمن أراد أن يكون كما يقال ليبرالياً متحرّراً !!، هذه الإضافة هي ترديد مصطلح (الأدلجة) وتصريفه ، حيث كرّر الكاتب هذه الكلمة ومشتقاتها في مواضع عدّة من مقاله القصير بشكل يدعو إلى الاشمئزاز، ومن ذلك قوله: (الأسئلة المبطّنة بالأيدلوجيا) ، (أفكار وأيدلوجيا) ، (حماس أيدلوجي) ، (مسألة أيدلوجية) ، (التوجيه الأيدلوجي) وهلمّ جرّاً...!!! ثمّ اطلعت له على مقال آخر كرر في هذه الكلمة تسع مرّات، إحداها في العنوان !!!.
وهذا الكاتب يُعد من الكّتّاب التافهين الذين لا يحملون فكراً يستحقّ أن يُردّ عليه، لكنّه رأى الموجة المتهالكة المسمّاة بالليبرالية قادمة فركبها، على حدّ قول المثل الشعبي الآخَر: (مع الخيل يا شقرا) ، وحتّى يُقال إنّه مثقّف..
أمّا أصحاب ما يُسمّى بالفكر الليبرالي؛ فإنّهم عند حديثهم عن خصومهم الذين ينعتونهم استهزاءً بالإسلامويين (!) والصحويين (!) يتعمّدون إيراد هذا المصطلح وترديده لما يحمل في مضمونه من أبشع أنواع الاتهام والتشويه والتضليل وسوء الظنّ، في الوقت الذي يتحدّثون فيه كثيراً عن وجوب إحسان الظنّ بالآخر المختلف، والتسامح معه، ويعنون بذلك أنفسهم !!
وبعيداً عن أدلجة هؤلاء وركاكتهم ومكرهم، فنحن لدينا (أدلجة) أخرى حثّنا عليها نبيّنا الكريم - عليه من ربّه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم - وذلك بقوله: (( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنّ سلعة الله غالية، ألا إنّ سلعة الله هي الجنّة )) .
ومعنى أدلج : أي سار بالليل، لأنّ الذي يسير بالليل تُطوى له الأرض فيقطع من المسافة ما لا يقطعها من يسير بالنهار، والمقصود هنا السير الحثيث إلى الآخرة والجنّة، فلله ما أفصحك وأنصحك لأمتك يا رسول الله:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى لمطايانا بذكرك هاديا
وفي الختام، اسمحوا لي أن أعيد مطلع مقالتي هذه على الطريقة الليبرالية :
(من الأمثال الشعبية الأيدلوجية الدارجة عندنا قولهم : ( عنز بدو مؤدلجة ، طاحت في مريسة أيدلوجية )، والمريسة طعام حلو لذيذ مؤدلج ، مكون من خليط التمر والماء الأيدلوجيين بعد هرسهما ومرسهما، ولم يكن معروفاً عند البدو المتأدلجين، فإذا رأته عنزهم المؤدلجة التي لم تعتد على البرسيم الأيدلوجي، انهمكت في الأكل منه بشراهة أيدلوجية...الخ..) .
وسلامتكم أيّها المتأدلجون.
==============(31/416)
(31/417)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني
رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية
بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(31/418)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(31/419)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(31/420)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (libe r alism ) ص 525, دار العلم للملايين - بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي - الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.
============(31/421)
(31/422)
"التنويريون السعوديون" ..قراءة هادئة وسط الضجيج
د.مسفر بن علي القحطاني
الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
عندما كثر الحديث عن الغلو والإرهاب في الآونة الأخيرة خصوصاً خلال العامين الماضيين ؛ برزت على السطح كثير من الأفكار التصحيحية والإصلاحية وأطراً عدة للخروج من مأزق التكفير والتطرف وتهم الجمود الفكري والانغلاق الفقهي الذي وجه نحو الخطاب الإسلامي المعاصر. فكانت فرصة مهمة للمراجعة وإعادة النظر في كثير من الأولويات وتراتيب العمل الإسلامي والإصلاحي عموما .
ونظراً لكون المقام منصباً نحو التطرف والغلو كأساس للمراجعات , كان لابد لهذا التطرف أن يغري البعض بأفكار متطرفة في المقابل , قد تتفق أو تختلف من حيث القوة ولكنها تعاكسه من حيث الاتجاه.
فظهرت على الساحة الفكرية - متزامنة مع وهج الانفتاح الإعلامي العولمي- أطياف متعددة لرؤى تجديدية كان بعضها شديد القابلية لأسر اللحظة الحاضرة والمعطيات الجاهزة والبيئة المحيطة. فلم تأت بجديد بقدر ما هو إسماع بالتجديد . وبرزت تيارات فكرية بُعثت من جديد في وطننا بعد ركود دام عقود من الزمن عاشت عصرها الذهبي في بعض الأقطار الإسلامية .
كان من أبرزها حضوراً في الأزمة الراهنة " التيار التنويري " أو " العقلاني " ذو الثقافة والفلسفة الإسلامية .وقد حمل إرثه الإصلاحي طليعة من المثقفين السعوديين , برز منهم على الساحة الإعلامية بعض الشباب المثقف والمتحمس أيضا للصدام والمستعد لخوض معارك البقاء والمنعتق من قيد الأيدلوجيات التقليدية أو الحركية, مما أدى إلى سجالات ومعارك اقصائية شهدتها ساحات الإنترنت وبعض صحفنا اليومية وسط مناخات فكرية قاسية وثقافات كانت تحرم هذا الطرح جملة وتفصيلا.
إن شيوع استخدام مصطلح " التنوير " في وصف هذا الفكر الناشيء من قِبل أصحابه وغيرهم , يدعونا لدراسة الامتداد التاريخي والفكري للفلسفة التنويرية التي نشأت في أوائل القرن السابع عشر الميلادي , والتي يحلم البعض بمحاكاتها كتجربة رائدة يمكن تكرارها في المجتمعات المماثلة .. حيث انطلقت بداية التنوير العقلي والتحرر من القيود الدينية والسلطوية بشكل واضح مع الثورة الإنجليزية عام 1688م ,كتب أثناءها "جون لوك" مقالته "حول التسامح " ثم مقالته في "الفهم الإنساني " والتي أدت إلى حراك ثقافي وسياسي منع الاستبداد الكاثوليكي وسمح للبروتستانت وغيرهم بحرية العبادة والتعليم , وقد صدر قانون " التسامح " 1689م ليجعل انجلترا في تلك الحقبة أكثر دول أوروبا حرية وليبرالية .
خلال القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي برز النتاج الفكري والعلمي لفلاسفة التنوير والذي أطاح بجانب كبير من العقيدة المسيحية , وجعل العقل آلة الفهم للطبيعة والكون والحياة , وأُسقط كل ما هو خارق للطبيعة أو غيبي , وبدأ النقد اللاذع لسلطة الكنيسة وهيمنتها الإقطاعية الاستبدادية على الفكر والسياسة والمجتمع . من خلال تبطين النقد في بعض الروايات الدرامية الفلسفية ؛كان أشهرها "إيلويز الجديدة " لجان جاك روسو , و"رسائل فارسية " لمنتسكيو , و "كانديرا" لفولتير , و" جاك القدري " لديدرو وغيرها من الروايات والمقالات , والتي أثارت الكنيسة وأتباعها فحرّمت قرأتها وتداولها في وقت انتشرت الصالونات الأدبية في كثير من المدن الأوربية كان أشهرها الصالونات الباريسية المحمومة بالنقد والإلحاد الذي بدأ يظهر على بعض الفلاسفة التنويريين.
في تلك الآونة برز النتاج العقلي الثائر على السلطة الكهنوتية التي جسدت القدر الإلهي المرسوم الذي لا يحيد عنه إلا هالك , وانتهى احتكار الرهبان والقساوسة للفلسفة والعلم . حينها توالدت النظريات الفلسفية العقلانية الصارخة على يدي " هيلفتيوس" و" ديكارت " و "سبنيوزا" بلغت قمتها وتطورها على يدي "هيجل" الذي تعدّ فلسفته الأعمق في الفكر الأوربي الحديث .
ثم خرجت النظريات الاجتماعية التنويرية فاتسق نظامها المعرفي في مشروع "كانت" و "فيكو" . كما برزت النظريات الاقتصادية من خلال "أدم سميث " و"ماركس" , ويعتبر " ميكافيلي " أول فيلسوف سياسي تنويري يضع مشروع الدولة المركزية البرجوازية , وبدأ المنهج التجريبي العلمي يتبلور على يدي " فرانسيس بيكون " و " نيوتن " و " غاليليو ".. , حينها تصاعد الحراك الفكري والثقافي إلى حراك اجتماعي وسياسي هيج الجماهير الفقيرة المقهورة في فرنسا وبقية الدول الإوروبية وحتى أمريكا الى انتهاج الثورة على الدولة والكنيسة .(1)(31/423)
أمتد الأثر الفكري للثورة الفرنسية مع امتدادها العسكري وكذلك من خلال الاتصال الغربي بالمشرق الإسلامي وقد أوجد هذا الاتصال الثقافي ذو النزعة الطوباوية إلى تأثر بعض المثقفين المسلمين بمباديء التنوير الفلسفي والعقلاني كالطهطاوي والأفغاني وخير الدين التونسي والكواكبي وغيرهم , وانتشرت مؤلفاتهم وأفكارهم الإصلاحية في عموم البلاد الإسلامية حتى جاء الجيل الأكثر وعياً بالفكر التنويري الغربي كزكي نجيب محمود و العشماوي وحسن حنفي وجمال البنا والجابري وأركون ..فحاولوا تأطير الفكر والمزاوجة بينه وبين الفلسفة الاسلامية بنفض الغبار عن فكر ابن رشد وابن سيناء والفارابي وعموم الفكر الاعتزالي والباطني مما ولّد أجنة مشوهة بقيت حبيسة أسوار " المدينة الفاضلة " ولا أدري عن مدى صمودها لتغيرات العصر وتحدياته القادمة إذا تجسدت في أرض الواقع ؟!.
ومازالت هذه الأجيال التنويرية تتوارث الأفكار والرؤى القديمة نفسها التي وضعها جيل التأسيس الأول مع كثرة حديثهم عن ا لتحرر و التجديد والانعتاق من التسلط الديني التقليدي و الموروثات القديمة!! , بينما لا نجد نقداً موضوعياً للفكر التنويري الغربي يوازي نقدهم الشديد " للتراث الديني" و " العقل العربي " كما فعل الجابري , أو "الفكر الإسلامي " كما فعل أركون وحنفي وغيرهم , في حين كانت هناك مدارس بدأت تنشأ في الغرب لنقد فلسفة التنوير وثورته الدامية من كبار الفلاسفة كما فعل " ماركس " في نقد " برجوازية الثورة " و "فرويد" و "نتشه" في الثورة على العقل والتأكيد على الدور النفسي والغريزي من أجل النفاذ إلى ما وراء الواجهة العقلانية (2)...
وهنا أسأل إخواننا التنويريين السعوديين هل يعني هذا المسمى ( التنوير) الامتداد التاريخي والفكري لمن سبق من فلاسفة التنوير أم أنها ظاهرة إعجاب منبهر جاءت في لحظة عناد مع الواقع ؟ ..
بقي أن نعرف هل هناك ملامح فكرية عامة تجمع أطياف هذا التيار الناشيء ؟ .. الحقيقة أنني لم أطلع على رسم واضح يعبرون فيه عن سماتهم المنهجية ومعالمهم الفكرية بصراحة , وأعتقد أن لهذا مبرراته الزمانية والمكانية والردود الإقصائية المتوقعة , ولكني سأحاول جمع بعض الرؤى العجلى كمحاولة أولى لفتح باب المزيد من الدراسات العلمية و الموضوعية للدارسين و الباحثين في هذا الموضوع . ألخصها فيما يلي :
1- أن هذا الفكر مازال جديدا لجيل الشباب ومعالمه مازلت لم تهضمها ثقافتهم وبناءهم المعرفي السابق , مع شدة حماسهم لاطروحاته التجديدية، وليس من المتوقع إمكانية تنظيم ملفاتهم وأوراقهم المبعثرة في الفترة القادمة لاختلاف طبائعهم وموروثاتهم السابقة ومرور بعضهم بمراهقة فكرية حادة قد تبطل كل مشروعاتهم الإصلاحية .
2- الغلو في نقد المدرسة السلفية التقليدية وإظهار جمودها وانغلاقها على الواقع المعاصر مما حدا بكل الناقمين عليها والمخالفين لها أن ينظموا في خندق هذا التيار مع تباين أطيافهم وانتماءاتهم الفكرية , واعتقد لولا قميص النقد للسلفية وردة الفعل من المقابل لما اجتمعوا على هذا التيار في خندق واحد ليثأروا لبعضهم ويتنادوا في منتدياتهم " التحاورية" أو في واديهم المقدس " طوى " أو من خلال مقالاتهم في صحفنا اليومية .
3- الاعتماد في تفسير النصوص الشرعية والأحكام الثابتة على العقل المجرد والمصلحة الذوقية وتأويلها وتنزيلها على الواقع من خلال هذه الرؤية باعتبارها الأوفق لحياة الناس المعاصرة , ونقد الكثير من القواعد الأصولية بحجة تضييقها لمساحة المباح والعفو في الشريعة الإسلامية .
4- الدعوة لتجديد الفكر الإسلامي وتأطيره من جديد ، وربط النهضة بالمشروع الحضاري الشامل بالمفهوم الحداثي المعاصر .
5- نقد التيارات الإسلامية الحركية من غير تمييز واتهامها في مقاصدها بتسييس الدين لصالحها ووصمها بالانتهازية وربطها أحيانا بالعمالة لدول أجنبية .
6- التأكيد المستمر على خيار الديمقراطية في الإصلاح , والعمل على إقامة دولة المؤسسات وتحقيق مفهوم المجتمع المدني من خلال المنظار الليبرالي التقدمي .
7- الدعوة لـ" الإسلام المستنير " كمخرج من الجمود والتقليد الذي تعيشه بعض المجتمعات الإسلامية الخليجية , وكمفهوم للدين يتوافق مع ديمقراطية الغرب ومبادىء المجتمع المدني , كما تبرز أهميته في قابليته للتشكل لأي صياغة ليبرالية يستدعيها موقفهم القيمي , وهذا ما جعل التيار الليبرالي يتبناهم ويفسح المجال لهم في كثير من منابره الثقافية والإعلامية .
8- تجلية التاريخ الإسلامي- بدأ من عهد الخلفاء الراشدين -بدراسة سلبياته وإيجابياته وأسباب انحرافاته السياسية والفكرية, وتمجيد الأفكار والحركات الباطنية والاعتزالية والفلسفية كنوع من التحرر الفكري العقلاني والنهوض الثوري في وجه الرجعية التراثية .(31/424)
إن هذه الملامح وإن كانت مشتركة عند الأكثر إلا أنها قد تزيد أو تنقص عند أفرادهم حسب ميولهم الثقافية وحاجة الوسط الذي يعيشون فيه لتغليب نوع معين من جوانب الإصلاح التنويري . والحقيقة أن هذا الفكر مع كل الإشكاليات المثارة عليه قد حمل معه صواباً كثيراً ورؤى تجديدية واقعية وغنية بالمعرفة وبالوعي الحضاري لبعض المشكلات و القضايا الإسلامية المعاصرة والمستقبلية .
إن رموز التيار التنويري السعودي لهم شهرتهم في الوسط الفكري المحلي والعربي , ولكني تعمدت عدم ذكرهم بأعيانهم في مقالي , لان أكثرهم لم يخرج بعد من مخاض هذه التجربة الفكرية , وفكره الإصلاحي لم ينضج ولم يستقر , كما أن البعض مازال ممسكاً بزمام حب الإثارة والبحث عن الشهرة الثقافية والصعود فوق أي ركام كان .
ولعل الظروف المتوترة التي تمر بها المملكة اليوم من جرّاء أعمال التفجير والتخريب الإرهابي أو من خلال الضغط والاتهام الخارجي يدعو الجميع لتجاوز مرحلة الاحتقان الحاصل بين هذا التيار التنويري وغيره من التيارات المحافظة , ويردم الهوة التي حفرتها الاتهامات المتبادلة بالوقوف خلف الغلو والتكفير . وبإعمال بسيط لفقه الاولويات والموازنات وحتمية المرحلة و طبيعة المواجهة فإن عوامل الاتفاق قد تتجاوز نقاط الافتراق وبشكل كبير , إذا وعينا حجم المتغيرات السياسية والاجتماعية القادمة .
إن الغرب في أزمته الراهنة في الشرق الأوسط بدأ يراهن من أجل إعادة تشكيل المنطقة و كسب التأييد الشعبي لإصلاحاته الديمقراطية على ما اسماهم بـ"الإسلاميين الليبراليين " وقد وعد أكثر من مسؤول أمريكي بالدعم المادي لفكرة " التسامح الديني" و " الإسلام المستنير " في المنطقة (3) , فهل يعي التيار التنويري موقعه الحالي في الأزمة الراهنة ؟.
وفي الختام .. أتمنى أن تكون قراءتي الموجزة للفكر التنويري السعودي هادئة رغم الضجيج وغبش الرؤية .. وأن نتعامل معها كظاهرة صحية تستوجب النقد والتقويم ولا أبريء نفسي و زلات قلمي من التجاوز والخلل .. ولكنها دعوة عامة للتحاور المثمر الجاد والتثاقف المستمر حتى لو فقدنا أدواته وضعينا أدبياته ..
mesfe r @kfupm.edu.sa
---------------------
[1] انظر:كتاب( التنوير ) , تاليف : لويد سبنسر واندريه كراوز (مترجم) ؛ وكتاب (الفلسفة والإنسان ) تأليف: د. فيصل عباس ..
[2] انظر : كتاب (تاريخ الثورة الفرنسية) تأليف : البير سوبول , القسم الثاني من الكتاب لتلحظ عظم البشاعة والظلامية التي قام بها الثوار ؛ كتاب (التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر ) تاليف : د. عبد الرحيم عبد الرحمن , الفصل التاسع ؛ كتاب (الفلسفة والإنسان) تأليف : د. فيصل عباس من ص249-276 .
[3] انظر : مقال (بعد تفجيرات بالي .. أمريكا تدعم الإسلام اللطيف) للكاتب الصحفي صهيب جاسم , نشر في موقع اسلام أون لاين في 28/12/2002م ؛ ومقال (الإستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه العالم العربي و الإسلامي ) للكاتب كمال السعيد , جريدة الشعب 8/2/2002م .
============(31/425)
(31/426)
مواقف الليبراليين تجاه سبِّ الرسول
خباب بن مروان الحمد
(1)
حقاًَ لم نتفاجأ من موقف النابت على أعين الغزاة ، حامد كرزاي الذي عارض إجماع البلدان الإسلاميَّة ـ رسمياً وشعبياً ـ وعبَّر خلال زيارته للدنمارك عن رضاه كرجل مسلم!! عن التفسيرات التي قدَّمتَّها (كوبنهاجن) للإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال معلناً:(الواقع أنَّ الصحافة حرَّة في الدنمارك كما في أفغانستان اليوم).
أتساءل حينها: هل يسمح كرزاي بأنَّ يسبَّ شخصه في الصحف الأفغانيَّة الحرَّة؟ أو يكتب أحد من ملالي الطالبان مقالاً يتَّهمه فيه بالعمالة والخيانة لشعبه وأمَّته الأفغانيَّة ، بعد أن أسلمها للهوان والذلَّة إبَّان مشاركته لأمريكا في حربها على الإسلام ؟ وبما أنَّه رئيس للحريَّة الأفغانيَّة فهل سيسمح لمن شاء بأن يتحدَّث بما شاء لأن قوانين الحريَّة ، تسمح بذلك عنده؟
فمثلاً: هل يسمح ويرضى حامد كرزاي كرجل مسلم! بأن تُسبَّ الحكومة الأمريكيَّة في الصحف الأفغانيَّة الحرَّة ، ومن ثمَّ يقدِّم كاتب المقال التفسيرات التي يراها مسوِّغة لمقاله بسبِّ أمريكا وأذنابها.
أجزم مسبقاً وبدون تردُّد أن الوضع يختلف تماماً في الفكر الكرزايي ! فقد يُلْحَق صاحب المقالة في سجون (باغرام) وإخواتها التي يقدِّم المسؤولون فيها كامل حريَّتهم للتعبير عن الغضب ضد المتطرفين ـ على حدِّ زعمهم ـ ! لأنَّهم يعيشون تحت ظلِّ الديموقراطيَّة الأفغانيَّة الجديدة ، ولله درُّ من قال:
يُقاد للسجن من سبَّ الزعيم ومن * * *سبَّ الرسول فإنَّ الناس أحرار
(2)
أحد المواقع الإخباريَّة على الإنترنت ينشر استفتاءً واستطلاعاً للرأي ؛ عن الموقف من نشر صور مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وهل هي من حريَّة الرأي التي لا تستدعي الغضب ؟ ويُظْهِرُ أصحاب هذا الموقع أنَّ (54 % ) يرون أنَّ هذا من قبيل حريَّة الرأي ويعقِّب الموقع إزاء ذلك: بأنَّ هذا استطلاع لا يبرهن ولا يقتضي صحَّة ذلك أو أنَّ هذا هو الحقيقة !!
مع أنَّ المتابع للمعلِّقين على نتيجة ذلك الاستطلاع يلحظ بأنَّ 95% منهم فأكثر يستهجنون تلك الرسومات الساخرة برسول الله صلى الله عليه وسلم بل من غير المسلمين كما يظهر للمراقب القارئ لتلك التعليقات.
و نحن لا ننسى أنَّ هذا الموقع قد أجرى استطلاعاً سابقاً حول تطبيق حدِّ الردَّة الذي أثبتته شريعة الإسلام ، وهل يخالف حقوق الإنسان أم لا؟
وقد أظهر هذا الموقع على صفحته الرئيسيَّة رأي الرافضين لذلك وهم 42% ممَّن رفضوا حدَّ الردَّة لمخالفته لحقوق الإنسان ، وأخفوا رأي الموافقين على إقامة حدِّ الردَّة في الاستطلاع نفسه وهم الأكثريَّة بنسبة 55% لأنَّهم يعتبرون ذلك من أحكام الإسلام ... ودعونا نقول: أين النزاهة والأمانة في نقل الأخبار على حقيقتها أيها الليبراليُّون المتحررون من قيد اللاَّحريَّة ؟! أم أنَّ حريَّة التلاعب في نقل الأخبار أباحت لكم أن تظهروا ما تشاؤون وتخفوا ما تشاؤون ؟ أتواصيتم به بل أنتم قوم طاغون.
ثمَّ هل قضايا الشريعة وثوابتها تحتاج لاستطلاعات واستفتاءات للعقول البشريَّة والأدمغة الإنسانيَّة المتغذِّية على فتات الخبز لكي تبدي رأيها حول ثوابت الشريعة ومحكماتها؟! إنَّ ذلك لشيء عجاب!
(3)
يكتب أحدهم مقالاً في أحد المواقع الإخباريَّة على الإنترنت ذائعة الصيت ، وفي إحدى الجرائد التي تعنى بالقضايا الاقتصاديَّة ، ملخَّصه لماذا تقاطع الشعوب الإسلاميَّة دولة الدنمارك التي تسعى إلى تقديم جسور التعايش السلمي بينه وبين المسلمين ؟ وما ذنب هذا البلد بأن تقاطع منتجاته بجريرة صحيفة أساءت لرسول الله ؟ بل ينصُّ قائلاً بأنَّ المسلمين:(عمَّموا خطأ جريدة على دولة كاملة لا تملك بحكم القانون أي سيطرة على هذه الجريدة)!!
يقول هذا ذلك الرجل مع أنَّه يعلم بأنَّ قوانين هذا البلد يمنع من الإساءة لأيِّ ديانة أو شخصيَّة دينيَّة ، ثمَّ إنَّ دعواه بأنَّه لمَ نقاطع منتجات بلد الدنمارك بذنب صحيفة أخطأت بحقِّ رسول الله ، فالجواب عليه : لقد أثبتت الإحصاءات الواضحة بأنَّ غالبيَّة شعب الدنمارك لم يرضَ بأن يعتذر بالإساءة لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي هذا فيما أظهر استطلاع للرأي نُشر الأحد أن غالبية الدانماركيين لا يشعرون بأن على حكومتهم ووسائل إعلامهم أن تعتذر للمسلمين. وقال 79% ممن شملهم الاستطلاع: إن رئيس الوزراء يجب ألا يعتذر نيابة عن الدانمارك ، بينما قال 18% : إن عليه الاعتذار.
ومن ناحية أخرى قال 62% :إنه لا يتعين على الصحيفة تقديم اعتذار بينما قال 31% إن عليها أن تعتذر، كما ذكر ذلك موقع(إسلام أون لاين).(31/427)
وهذا أحد المنهزمين من قومنا ينشر مقالاً في إحدى الجرائد السيَّارة بعنوان : لا تقاطعوا المنتجات الدنماركيَّة ! يبدي فيه أنَّ العاطفة الجيَّاشة التي أدَّت بالمسلمين بمقاطعة المنتجات الدنماركيَّة تجاه السخرية من الصحف الدنماركيَّة بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تفيد شيئاً وأنَّ هذه المقاطعة غير ذات جدوى اقتصاديَّة ، لأنَّ المتضررين من المقاطعة هم الوكلاء التجاريون الذين يحملون امتياز بيعها في البلدان الإسلاميَّة.
ولا أدري من نصَّب هذا ليكون محامياً عن المنتجات الدنماركيَّة ، أو وكَّله لنصح المسلمين بعدم مقاطعة منتجات الدنمارك ؟ وكذلك هل ظهر أحد من هؤلاء الوكلاء التجاريون وأعلن أنَّه تضرَّر من هذه المقاطعة ؟ بل العكس خلاف ذلك فقد رأيناهم تداعو بكلِّ شجاعة لطلب المقاطعة ، فهل هذا المسكين أحرص من التُّجَّار على أموالهم أم أنَّها عقليات التطبيع ! وحتَّى حكومات البلاد الإسلاميَّة لم تعلِّق بشيء على المقاطعة الشعبية الإسلاميَّة للمنتجات الدنماركيَّة ، ولم تلزم أصحاب الشركات والمؤسَّسات بالتعامل الاقتصادي معها.
ثمَّ هؤلاء الصحافيون الذين يشكِّكون بجدوى المقاطعة ، هل تغافلوا عن النداءات الدنماركيَّة التي تستنجد بالاتحاد الأوروبي لإنهاء المقاطعة الإسلاميَّة لمنتجاتها؟ وهل تغابوا عن الخسائر الدنماركيَّة التي ستصاب بها حين تقاطع دول الخليج العربي فقط منتجاتها خلال فترة قصيرة ، حيث ستبلغ حجم خسائر الدنمارك إلى أكثر من 40 مليون كراون؟ ويكفي أنَّ شركة (آرلا) الدنماركيَّة قالت : إنَّها ستخسر ما يقارب 10 ملايين كرونة يومياً بما يعادل مليون ونصف دولاراً أمريكياً نتيجة للمقاطعة في السعودية فقط ، فما بالك بالبلدان الإسلاميَّة الأخرى ، بل أعلنت إحدى الشركات بأنَّه إذا استمرَّت المقاطعة لأسبوع واحد فربَّما تضطر لإغلاق مصانعها في الدنمارك الذي يعمل فيه 160 عاملاً.
ولهذا فلتبشر الدنمارك وحكومتها العنصريَّة بخيار الشعوب الإسلاميَّة بمقاطعتها لمنتجاتها تحت شعار:(إذا كان لكم حرية الرأي،فإنَّ لنا حرية الاختيار)ويستحيل على أيِّ حكومة أن تجبر إرادة الشعوب على ذلك.
قارئي العزيز: ينبغي علينا أن نتكاتف بهذه المقاطعة ولو اعتذرت الصحف الدنماركيَّة ، ولو اعتذر الدنمارك كلُّه ، لأنَّ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن نرعاه ونحميه من أيِّ أحد يستهزئ به ولو تاب ، وماذا لو سبَّ صاحب شركة آباءنا وأمَّهاتنا ثم اعتذر لنا بعد ذلك ؟ إنَّنا سنجد في أنفسنا عليه بعض الشيء ولو اعتذر ولن نتعامل معه،فكيف برسول الأمَّة الإسلاميَّة محمد بن عبدالله ـ عليه صلوات ربِّنا وسلامه ـ ؟
فلنجتمع يا شباب الدين قاطبة *** لنصرة الحقِّ في جدٍّ من العمل
وأيسر الأمر أن تلقي بضاعتهم***ردَّت إليهم جزاء المارق الثَّمل
وأختم مبشِّراً بأنَّه لابدَّ من يوم للدنمارك يقتصُّ فيه الله لشخص رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّه سبحانه وتعالى متكفِّلٌ بالانتقام لرسوله ، وقد قال ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ:(إنَّ الله منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممَّن طعن عليه وسبَّه ، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب ؛ إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد) (الصارم المسلول2/233) وقال (2/318):(ولعلَّك لا تجد أحداً آذى نبيَّاً من الأنبياء ثمَّ لم يتب إلاَّ ولابدَّ أن يصيبه الله بقارعة) وقال:( ومن سنَّة الله أن يعذِّب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين) ولهذا نقول بملء أفواهنا للدنمارك وأهلها: انتظروا بعقاب من عند الله ؛ فإنَّا لمنتظرون ! وصدق الله ـ جلَّ وتقدَّس ـ(فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وأخيراً : يا ليبراليُّون ماذا كنَّا ننتظر منكم غير هذا اللمز من طرفٍ خفي ، أو السكوت على تلك الإساءة ؟! فلسنا أغبياء بدرجة كافية.
==============(31/428)
(31/429)
خريف الليبراليين
نظرات في أزمة الليبراليين مع حدث الاستهزاء بالنبي الأمين r
عبدالله بن صالح العجيري
إن في حالة الغضب الذي تعيشه الأمة اليوم لتعبيرا صادقا عن المحبة التي تملأ النفوس ، وتعتلج في القلوب ، وتسري في الأرواح ، تجاه صلى الله عليه وسلم ، أشرف الناس ، وأحسن الناس ، وسيد الناس ، بأبي هو وأمي r ، وهذا الغضب هو الحق الأول الذي تقدمه الأمة نصرة لنبيها الكريم صلى الله عليه وسلم ، والذي يستتبع حقوقا وواجبات أخر ، إنه الغضب الواجب الذي سنه لنا رسول ا صلى الله عليه وسلم حين نرى محارم الله تنتهك ، وهو الغضب الذي يزعج البدن للتحرك ، والعقل للتفكير طلبا للنصرة ، كلٌ بحسبه ، وحسب موقعه ، وعلى وسعه وطاقته ، بالحكمة التي تصلح ولا تفسد ، وتبني ولا تهدم ، فلا تهور وطيش ، ولا توان وكسل ، بل وضع للشئ في موضعه المناسب ، وفي وقته الصحيح ، وإن فيما يرى من مظاهر الغضب والنصرة لدليلا على الخير المتأصل في كيان هذه الأمة والمستقر في وجدانها ، وهل كان يُنتظر من أمة الإسلام إلا هذا ، وهل كان يُظن بها إلا ما وقع ، إنها أيام الغضب والفرح ، الغضب للرسول وعلى أعداء الرسو صلى الله عليه وسلم ، والفرح بنصرة النبي وما تحقق للأمة من مكاسب ونجاحات ، لكن مما يؤلم ويؤذي ما يُرى من إعراض البعض عن مشاركة الأمة غضبتها ، بله نصرتها لنبيها r ، فخنسوا وسكتوا ، ثم سكتوا ، ثم نطقوا فبئس ما نطقوا ، وليتهم ما فعلوا ، فلا هم بالذين نصروا صلى الله عليه وسلم ، ولا هم الذين تركوا الأمة وخيارها في نصرته ، إنهم مسوخ بشرية القالب ناطق بالعربية والضاد لكن القلب غربي الهوى ، قد ركبوا موجة الأحداث لكن في الوقت الضائع ، وسبحوا في بحره لكن بعكس التيار ، ليثبتوا للأمة أنهم في واد والأمة كلها في واد آخر ، فلا الهم هو الهم ، ولا القضية هي القضية ، ولا المصالح هي المصالح ، لهم برنامجهم الخاص والذي يريدون تمريره ، ولهم خطتهم التي يريدون تنفيذها ، قد وجدوا في الأحداث تعطيلا للمخطط ، وعائقا لتمرير المشروع ، فأخذوا في الالتفاف حول الحدث محاولين تجاوز العوائق ، ولملمة المشروع ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، فخرجوا من بعد صمت ليدعوا الأمة إلى التسامح والعفو والتهدئة ، في وقت يأبى العدو أن يتقدم باعتذار بل يزيد من سخريته وباستهتار ، وكتبوا ليجروا الأمة لمعركة داخلية ، بدل توحيد الصف لصد الهجمة الخارجية ، ونطقوا بالسوء لتصفية الحسابات وتوزيع التهم وكيل الشتائم ، وكان الظن أن مقام صلى الله عليه وسلم محل وفاق وكلمة إجماع ، وأن هذا المقام متى مس فالكل سيقول كلمته الواضحة البينة في نصرت صلى الله عليه وسلم لا التواء فيها ولا غموض ، فخيب القوم الظن وأظهروا قبيح ما تكنه الأفئدة والقلوب ، فطعنوا الأمة في الظهر ، وحاولوا الاصطياد في الماء العكر ، وأقدموا على تفريق الصف في ظرف الأمة كلها مستنفرة في وجه عدو واحد ، فأضحى كشف هذا التوجه المشؤوم واجبا نصرة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ونصحا للأمة ، وفضحا لهذا التيار ، وتسجيلا لمواقف السوء هذه ليحفظها التاريخ ، و(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).
(1)(31/430)
من دعوات هذا التيار المشبوهة والتي بدأت تتضح أبعادها ، وتتكشف ملامحها ، دعوتهم إلى (التسامح مع الآخر) والتي علا صوتهم بها ، وتتابعت كتاباتهم فيها ، والتسامح متى وضع في موضعه الصالح له واللائق به كان خلقا إسلاميا مندوبا إليه ، لا شك في ذلك ولا ارتياب ، شأنه في ذلك شأن غيره من الأخلاق ، لكنهم بما يسطرون اليوم يكشفون عن حقيقة دعوتهم المشبوهة هذه ، وأن التسامح المطلوب ليس هو ذاك التسامح الشرعي ، والذي جاء الحض عليه والأمر به ، كلا ، إنما هو لون جديد من التسامح ، أبعد مدى وأوسع مساحة ، إنه التسامح مع من اعتدى ، وأذل ، وأهان ، ووجه الصفعة بعد الصفعة ، وأعظم في الفرية ، ويدعون أن هذا سنة نبوية ، وطريقة محمدية ، فهل على الآخذ به من ملام ، وما علم القوم أن صلى الله عليه وسلم كان حكيما بل سيد الحكماء ، يزن الأمور بالعدل ، ويضع الدواء على الجرح ، ويقدر المصالح والعواقب ، فكما ترك ابن أبي سلول بلا عقاب ، أخذ عقبة بن أبي معيط بما أساء ، وكما قال لقريش: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) أمر بقتل ابن خطل ولو كان متعلقا بأستار الكعبة وهكذا ، فليس الأمر كما يراد تصويره ، تسامح مطلق ، أو عقاب مطلق، وإنما إلباس كل حدث لبوسه ، وإعطاء كل مسألة حقها ، وأحسب أن ما يجري اليوم من انتهاكات صارخة لدين الإسلام ونبي الإسلام لا محل فيه للتغافر والمسامحة والتجاوز ، وإنما الواجب القيام بالنصرة ، والغضب لله ، واستيفاء الحقوق ، أما دعوة الأمة إلى التغافل عن حجم المأساة ، والإعراض عن عظم الجريمة ، وفتح أبواب التسامح والمسامحة للمخطئين ، وأن يقتصر النقد -إن كان- على الكلمة الطيبة ، والعبارة اللينة ، والأسلوب الهادئ ، من غير جرح شعور ولا إيلام ، وكأن الأمة هي الجانية لا المجني عليها ، وكأننا من ظلمنا لا من ظُلمنا ، وكأن الاعتداء واقع منا لا بنا ، فليس بصحيح ولا مشروع ، بل بذله والحالة هذه مناقضة لمثل قوله تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ، والقوم ظالمون ما في ذلك من شك ، إن التسامح المشروع لا يكون إلا إذا صادف محلا مناسبا ، وإن أولئك المستهزئين بمقام صلى الله عليه وسلم ليسوا موضعا صالحا للتسامح ، وإن التسامح مع أولئك المجرمين جريمة شرعية لا يجوز أن يكون بحال ، وليس للأمة الحق في التنازل عن حقه الشريف r تحت لافتة التسامح والمسامحة ، وليت شعري أي عيش يبقى وأي حياة تطيب يوم يمس جناب صلى الله عليه وسلم والأمة تقف موقف المتفرج المتسامح ، المتغاضية عن صفعات الخصوم ، والتي لا تطالب بحقها ، فإن طلبته فعلى استحياء ، إن إجماع الأمة عامة منعقد على حرمة التسامح مع ساب صلى الله عليه وسلم ، وما قال عالم ولا شبه عالم بمثل ما يريده هؤلاء منا ، وفي كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية عظة وعبرة.
والقوم بدعوتهم للتسامح والتغافر والتجاوز عن الإساءة يلملمون ما تبقى من مشروعهم الخاسر التقارب والتقريب بين المسلم والكافر تحت شعارات التعايش والتسامح والسلام ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخطط إلغاء عقيدة الولاء والبراء ، وهم معذورون فيما يفعلون فالخطب جلل ، والأمر عظيم ، والأحداث تجري على خلاف الهوى والمخطط ، فليس لهم إلا هذا المركب الصعب ليركبوه ولعل وعسى ، لقد ظهر للجميع حقيقة حال (الآخر)! منا ، واستبان للناس مدى الاحترام الذي تكنه صدروهم وقلوبهم لنا ولديننا ، وأن الأحقاد الصليبية لا تزال تتسكع على الجسد الأوروبي ، وأن النظرة السلبية للمسلمين لا زالت المسيطرة على المشهد الغربي ، وأنهم لا زالوا يعانون من عقدة (الإسلامافوبيا) ، وأقوال عقلائهم ومنصفيهم شاهدة بهذا وما أكثرها، وتاريخ الأمة السابق وواقعها المعاش خير شاهد ، وإن تغافل عن هذا كله المستغربون ولجوا وجعجعوا ، بالله عليكم أي حقد وبغض أظهر مما وقع وجرى حيال نبي أمة المليار مسلم ، وأي طعنة أنفذ وأنكى من هذه الطعنة ، وأي إهانة وصفعة وركلة أشد من هذه الإهانة ، ثم يكبر على أولئك الظالمين بعد هذا كله أن يقدموا كلمة (اعتذار) ، فكيف بما فوقه ، وقد اتضح للجميع أن مقام نبينا صلى الله عليه وسلموأمته من بعده لا تساوى عندهم شيئا في مقابل حقهم -المزعوم- في ممارسة حرية التعبير ، وإن فيما نرى من تسارع محموم لنشر صور الإفك هذه ، وذلك التعاضد والتناصر الذي يُرى ، والتصريحات العدائية التي نتلقاها عن اليمين والشمال لدلالة على أن الأمر أكبر مما نظن ، وأنه أوسع دائرة مما نحسب ، وصدق الله القائل (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ، ولكن أصحابنا من دعاة التسامح لا يعقلون.
(2)(31/431)
من غرائب المواقف المثبَتَة على هذا التيار تبرير ما وقع من اعتداء ، والاعتذار عما حصل من إساءة ، والمدافعة عن المجرمين المعتدين ، في محاولة لامتصاص الغضب والتهدئة ، وذلك بمختلف التبريرات ، وأنواع الاعتذارات ، فبعضهم1 يصرح بأن المسلمين هم السبب فيما وقع ، على قاعدة (لعن الله من لعن والديه ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أم الرجل فيسب أمه)! ، فما وقع من اعتداء على جناب صلى الله عليه وسلم حلقة في سلسلة من الاعتداء المتبادل والذي انتهى إلى ما انتهى إليه ، هكذا والله يسطرون ، وهكذا يحملون أهل الإسلام تبعة ما جرى ، ويجري ، وكأنهم ليسوا منا ، وكأنهم الناطق الرسمي باسم المعتدين ، إنهم بمنطقهم الغريب هذا يقلبون الطاولة على أهل الإسلام فيجعلونهم معتدِين بعد أن كانوا مُعتدَى عليهم ، ويُظهرونهم في مظهر الظالم بدل أن يكونوا مظلومين ، و(البادي أظلم)! ، إن الدعاوى من أسهل الأمور ، ووضع السيناريو على حسب المزاج من أيسر الأشياء ، لكن الصعب تقديم الأدلة ، ووضع البراهين ، وسياق الحجج ، وإلا فليخبرونا عن هذا المسلسل المزعوم في الدنمارك والذي أدى إلى ما نرى ونسمع ، متى ابتدأ ، وكيف كانت حلقاته ، وأين محال الاعتداء من الطرف الإسلامي والذي استفز مخالفيه فقالوا ما قالوا ، وأقدموا على ما أقدموا عليه ، فإن عجزوا وخرجوا من هذه صفرا -وإنهم لخارجون بها- فسقطة تستدعي تراجعا وأوبة ، ولا يخفى أن المسألة أعمق غورا من مجرد التهارج والجهل بين فئات محدودة من هنا وهناك كما يظهر لكل ناظر في مسلسل الأحداث.
والقوم في دفاعهم المشبوه هذا يذهبون إلى أبعد من هذا في تحميل المسلمين مسؤولية الأحداث ، وأن السبب في استفحال الأمر عدم كفاءة القيادات الإسلامية بالدنمارك في معالجة المشكلة بالأساليب القانونية ، وفشلهم في رفع الدعاوى القضائية2 ، وكأن المسكين لا يعلم أن المسلمين هناك قد بذلوا الجهد في إيصال صوتهم لكنهم قوبلوا بالغطرسة والعنجهية الدنماركية ، هذه الغطرسة التي تأبى على القوم تقديم الاعتذار الصريح مع التصعيد الحاصل فكيف ولمّا يتم التصعيد ، إن طلب المسلمين -يا أستاذ- برفع القضية قد رفض ، بل رفض رئيس الوزراء الدنماركي استقبال السفراء العرب ، لقد سدت الأبواب ، وأغقلت المنافذ ، وهمش المسلمون ، فكيف يحملون تبعة هذه الجريمة يا فهيم.
وأطرف من هذا وأغرب ما سطره آخر زاعما أن جميع ما يرى من أحداث إنما هو بتدبير جماعات ذات صلة بتنظيم (القاعدة)! إي والله! ، وذلك لتعكير أجواء الصفاء بين العالم الإسلامي والعالم الغربي ، ولئلا يقال متقول أو مفتر أسوق هذا النص لأحدهم بحروفه يقول: (وتقول مصادر مخابرات أوروبية ، وبلد إسلامي أفريقي أنها حذرت بلدانا إسلامية من خطة يدبرها «ناشطون دنماركيون» مع «منظمات سرية» يحتمل اختراقها من القاعدة ، تهدف لصدام بين الغرب والمسلمين، وهو من أهداف زعماء الإرهاب، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري ، وبدلا من أن تأمر الحكومات الإسلامية مخابراتها بالتحقيق في مصادر تمويل حملة «أئمة كوبنهاجن» وصلاتهم والإخوان والطالبان وجماعات تخريب أخرى تعمل في الظلام، استغل بعضها الأزمة لصالح أجندتهم السياسية)3 ، أرأيتم كيف يتم الاستغفال ، وتمرر الأكاذيب ، وتنشر الشائعات ، ألم أقل لكم إن الخطب جلل ، وإن الأمر صعب ، وإن الأحداث قد آذت أهل هذا التيار ، فولجوا هذا السبيل ، وسلكوا هذا الطريق ، لعلهم يثورون في سماء الحقيقة الغبار ، أو يغطوا شمسها عن الأبصار ، لكن للناس عقول ، ولعل عقول القوم في إجازة.(31/432)
ومن غريب ما يعتذر به القوم عن الإساءة الواقعة ، وما يقدمونه من تبريرات ، الزعم بأن ما وقع من سخرية واستهزاء عائد إلى طبيعة الدنماركيين المتفلتة ، وهوسهم بالتحرر والانطلاق ، وعشقهم لحرية التعبير ، مع عدم التدين ، وعدم الإيمان ، وأنه ليس ثمة حقد مزعوم ، ولا عداوة متوهمة ، ولا قضية بينهم وبين رسولنا r ، فلا ينبغي أن تُضخم المسألة ، وأن تُخرج عن هذا السياق فالأمر لا يعدو أن يكون سوء تفاهم ، وعدم تقدير للعواقب ليس إلا ، وأن إخراج القضية عن هذا الإطار تصعيد لا مصلحة فيه ، بل هو تصعيد مقصود لأهداف تحتية ، ومصالح شخصية ، ومكاسب فئوية4 ، بل إثارة الموضوع أصلا وإخراجه من الصعيد المحلي الدنماركي ليكون شأنا عالميا غير صحيح ، وأن الواجب محاسبة المسؤولين عن هذه (الشوشرة العالمية)5 التي لا فائدة فيها ، ولا أدري لما التغابي عما وقع ، ولما التعامي عما حدث ، ولما لا ينصف القوم ويُقروا بالحقائق كما هي بموضوعية وعدل ، وينظروا فيما يجري على الأرض كما هو ، لا أن يسعوا في لي عنق الأحداث لأفكار مسبّقة ، ويحملوا الواقع ما لا يحتمل ، ما نشر إساءة ، وما نشر دليل على صورة نمطية سلبية للإسلام ، وما نشر ينم عن عداوة مستقرة في النفوس ، هكذا هو الأمر ببساطة ومن غير تعقيد ، وبالله عليكم من نظر في تلكم الصور الآثمة هل يظن في راسمها أنه محب للنبي أو على الأقل محايد في نظرته إليه أم أنه مبغض له معاد؟ ألم يصوروه مرتديا عمامة على صورة قنبلة إشارة إلى دمويته وأنه لا يعدو أن يكون إرهابيا ، والإرهابي عدو! ، ألم يصوروه بصورة قبيحة حاملا في يده خنجرا كأنه جزار ومن خلفه امرأتان منقبتان ، بل صوروه بما هو أقبح وأشنع بأبي هو وأمي r ، أهكذا يصورون نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي من يزايد علينا ، ويريد إقناعنا بأنه ليس ثمة عداوة ولا حقد! ولا كراهية ولا شحناء! إن في هذا الاستهزاء المشين بمقام نبينا الأمين لدليلا على قبيح ما يضمرونه حيال نبينا وديننا ، وفي تصريحاتهم وكلماتهم ومواقفهم ما يدل على أن الأمر ليس تسلية بريئة ، أو تجاوزا ينبغي أن يتغاضى عنه ، كلا ، إنه خطأ ، وإنه اعتداء ، وإنه جريمة لا ينبغي السكوت عليها ، فأقصروا عن التبرير والمدافعة ، وانأوا بأنفسكم عن السقوط في هذه الهوة ، فإنها سقطة يوشك أن لا تقوموا بعدها ، فالناس تحفظ ، والتاريخ يسجل ، ولا مخرج لكم إلا إعلان البراءة مما سطرتموه ، ولعل وعسى.
(3)
من قبائح هذا التيار وأهله أنهم سعوا في مثل هذا الظرف الذي تعيشه الأمة إلى افتعال المعارك ، وإشعال الخصومات ، في محاولة لصرف المعركة الحاصلة بين المسلمين والمعتدين على جناب صلى الله عليه وسلم ، لتحول المسألة إلى لون من الاحتراب الداخلي ، هذا منتصر غالب ، وذاك منهزم خاسر ، هذا (ربيع المتطرفين)6 ، وهذا أوان المتشددين (وصناع الكوابيس)7 ، تصفية للحسابات ، وإلقاء للاتهامات ، وإنقاذا لما يمكن إنقاذه من مشاريع ومخططات ، فصوروا ما يُرى من ردة الفعل الشعبية ، وهذا الحراك العام تجاه ما وقع من عداء سافر ، بأنه كان بمؤامرة وتخطيط ، وأن الأمر قد بيت بليل بهيم ، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تحريكا من صناع الكوابيس أهل التباغض والعداوة والشحناء ، وأن الأمة قد تبع لهم كالقطيع يتبع راعيه ، من غير فكر ولا تروي ، سمعوا لهم وأطاعوا ، وأنصتوا إليهم وأجابوا ، وما علم القوم أن هذه الحمية التي وقعت ، وهذه الكراهية التي ظهرت ، إنما هي بسبب الغضبة الإيمانية التي تجري في شرايين هذه الأمة ، غضبا لله ورسوله ، والذي لا يكون المؤمن مؤمنا إلا به ، فليس ثمة استلاب مزعوم ، ولا تحريك مدعى إلا تحريك عقيدة الأمة للأمة ، وإلا بالله عليكم من حرك جمهور المسلمين للمقاطعة مثلا ، أفتوى أطلقها فلان أو فلان ، أو توجيه من علان ، أم الواقع شاهد بأنها حركة شعبية عامة ابتدأت منها وانتهت إليها ، ووجد المسلمون أنفسهم منقادين لها قياما بواجب نصرت صلى الله عليه وسلم وذبا عن حياضه ، إن الموقف من الرسو صلى الله عليه وسلم قضية جوهرية مشتركة بين كل منتسب للإسلام ، سنيا كان أو بدعيا ، عدلا كان أو فاسقا ، فلا يلام مسلم على غضب يغضبه أو كراهية وبغض تقع في قلبه متى مس مقام صلى الله عليه وسلم بتعد واستهزاء ، بل الملام من لم يغضبها ولم يمتلئ قلبه من الكراهية والبغضاء لكل متسبب فيها ، إن تصوير الحدث على هذا النحو تصوير مغلوط ، وإنه لمن سوء الظن بالناس ، وإنه لعقدة يجب عليهم أن يتخلوا عنها ، وطريقة يجب عليهم أن يتجنبوها ، إن الظرف حساس ، والأمر عظيم ، والانتهاك صارخ ، ونحن في غنى عن افتعال المعارك ، واستحداث الأزمات ، إن هَمّ المسلمين الأوحد هو الانتصار للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، على مختلف مذاهبهم ، وطرائقهم ، وفصائلهم ، فإن شئتم أن تكونوا معهم في سفينة النجاة فاركبوا بشرط أن تتركوها تجري وألا تسعوا في خرقها وإغراقها.
(4)(31/433)
مساكين هم ليبراليونا ، مستوردي القيم والأفكار والمناهج الغربية ، الذين حاولوا إقناع الأمة بالإقبال على الحضارة الغربية بكليتها ، بخيرها وشرها ، بحلوها ومرها ، بما يُحب منها وما يُكره ، وصاحوا بأنه لا محل للانتقاء فليست الحضارة (بقالة) تأخذ منها وتذر ، إنما تؤخذ جميعا أو تترك جميعا ، ولا مجال للترك! مساكين هم لطالما أُحرجوا من مصدري الأفكار ، وبائعي القيم ، تلك القيم التي شهد العالم أجمع زيفها وهزالها ، فكم تشدق الغرب بحقوق الإنسان ، وأضحى الجميع يعلم مواصفات هذا الإنسان محل الرعاية وصاحب الحقوق ، شرقوا وغربوا بالدعوة إلى الديمقراطية ، ثم أرادوا فرضها بالعصا الغليظة وبالدكتاتورية ، تنادوا للتسامح ثم وأدوها في معتقلاتهم وسجونهم في أبو غريب وغوانتناموا وغيرها ، واليوم الأمة مدعوة إلى النظر إلى قيمة غربية جديدة ، تظهر نفسها للعالم في أقبح صورة ، وأكلح وجه ، إنها (حرية التعبير) ، الحرية التي لا تعرف الحدود ولا القيود ، ولا محرم فيها ولا محظور ، حرية لا عيب فيها ، حرية لا يعدلها في القداسة قيمة أخرى ، حتى أضحت الحرية اليوم أقدس من الرب جل وعلا في الضمير الغربي ، فلهم أن يتكلموا عن الرب بما شاؤوا ، وكيف شاؤوا ، ممارسة لحرية التعبير ، (نعم لنا الحق أن نرسم كاريكاتيرا عن الله)! كما قالها شقي من أشقيائهم عليه لعنة الله ، أما انتقاد حرية التعبير أو المساس من جنابها المقدس ، فحرام حتى على (حرية التعبير)!! لقد قالها المخلصون من قبل إن الحرية المزعومة عند دعاة الليبرالية ليس لها حدود تقف عندها ، فلا شرع يحوطها ، ولا عقل يحرسها ، وانظروا كيف ينتقدون الثوابت تحت شعارات الحق النسبي ، وانظروا كيف يطعنون في المسلمات عبر بوابة حرية التعبير ، وقد دفع الليبراليون عندنا التهمة ما استطاعوا وأنكروا ، وقالوا: سوء فهم لليبرالية ، وسوء ظن بالليبراليين ، وجهل بالثوابت ، وجهل بالمسلمات ، ثم تجئ الليبرالية الأصلية اليوم ، الليبرالية الأم ، والمُصدّر الأساس للفكرة لتقولها بملء الفم: ليس لحرية التعبير حد تنتهي إليه ، وليس لأحد الحق في المساس من جنابها المقدس أو النيل منها ، والحرية متى قيدت لم تعد حرية ، وصار صاحبها أسير القيد ، فلا ثوابت ولا مسلمات ، بل الكل خاضع للنقد ، بل وللاستهزاء والسخرية ، إن العالم الغربي يعيش أزمة حقيقية حيال هذه القيمة التي ضخمت وضخمت حتى غدت دينا جديدا يعبد فيها صاحبها هواه من دون الله ، ولم تعد للقيم الإنسانية والمفاهيم البشرية ما يكافئها وما يدانيها ، وما أزمتنا التي نعيشها اليوم معهم حيال ما وقع وجرى لنبينا r إلا أنموذجا لتضخم هذه القيمة عندهم حتى يوشك أن يتلفهم ويهلكهم وقد فعل ، لقد اعتذروا لنا عن الاعتذار بدعوى حرية التعبير ، وصار السب والاستهزاء حقا مكفولا ترعاه الحكومات والدول الغربية تحت هذا البند (حرية التعبير) ، وصار معتنقوا هذا المبدأ وهم كثرة كاثرة مشاريع سب وشتيمة وإن لم يمارسوه ، إذ هم يبيحونه ويجوزونه وكفى بها جريمة ، ومن رضي بما وقع كمن فعل وقال ، لقد أظهروا تضامنهم وتآزرهم لضمان حقهم في حرية التعبير بإعادة نشر الصور هنا وهناك ، وليذهب المسلمون إلى الجحيم! وأعلنوا لنا مرارا أنهم غير مستعدين للتنازل عن حقهم المزعوم هذا لأي كان ، بل قال رئيس الوزراء الدنماركي: (القضية تتركز على حرية التعبير في الغرب مقابل المحرمات في الاسلام) ، وهكذا يريدون إقناعنا بقيمة حرية التعبير عندهم ، وأنه لا محل للتفاوض حولها ، ولا مجال للأخذ والعطاء ، ثم يأتي الليبراليون ويريدون إقناعنا باعتذارهم السخيف هذا ، فيقولون فيه: اعتذار (حقيقي) و(صحيح)!8 بل وتجاوزوا هذا ليؤكدوا على قداسة حرية التعبير وعدم تقبل فكرة التدخل في الصحافة على أي وجه وأي صورة9 ، حتى أنهم طعنوا في مواقف بعض الكفار الإيجابية من الأزمة واتهموهم بالانتهازية وأن الواجب عليهم (التأكيد على مبادئ حرية التعبير واحترام القانون)!10 وأن ما يرى من تهويل المسلمين لما وقع في جناب صلى الله عليه وسلم عائد إلى عدم ممارستهم لهذه الحرية جراء ما يعانونه من قمع وكبت ، ولو أنهم ذاقوا طعمها لما قاموا ولما تحركوا ، فسحقا لهم ولحريتهم المزعومة هذه ، وهكذا يكون انتصار الليبراليون لقضيانا وإلا فلا! ، وبهذه المواقف يؤكد الليبراليون انسلاخهم عن الأمة فكرا ومنهجا وسلوكا.(31/434)
ومع ما تقدم فمن العجيب أن فقاعة (حرية التعبير) هذه لا تلبث أن تتوارى زائلة إن مس جناب اليهود ، أو طعن في السامية ، أو شكك في محرقة الهوليكوست ، ليعلم الجميع أن الحضارة الغربية حضارة ازدواجية ، حضارة الكيل بمكيالين ، لا أخلاق ولا قيم تقوم عليها ، ولا مبادئ تستمر عليها ، إنما القيمة المقدسة الوحيدة عندهم -على الحقيقة- المصلحة ليس إلا ، فأينما كانت المصلحة فثم دينهم وشرعهم ، وإن داسوا في سبيل تحصيلها على الأديان والمبادئ والقيم ، وانظر إليهم اليوم كيف يتواصون بحرية التعبير ويتنادون بها ، ثم يستنفرون العالم للضغط على الشعوب المسلمة لوقف ثورة الغضب وإنهاء حالة المقاطعة ، وكأن حق التعبير حق خاص بهم فقط ، وأن الشعوب المسلمة حقها الكبت والحرمان ، إن ما يجري على الساحة من منازعة ومخاصمة حول حرية التعبير وحدوده قد كشف عن سوءة العالم الغربي والحضارة الغربية ، وإن ما يرى من التهارج حول حرية التعبير لمحرج جدا لليبراليي الداخل ، الذين أفنوا أعمارهم في التغني بالقيم الغربية ، والحضارة الغربية ، ثم تفجؤهم اللطمة بعد اللطمة لعلهم يتنبهون ، ومن غفوتهم يستيقظون ، وعلى دينهم يقبلون ، فيطلعوا على زيف القيم ، وهشاشة الحضارة ، حضارة الغرب التي لا روح فيها ولا خلق ، حضارة اللادين التي لا تعرف معروفا لا تنكر منكرا إلا ما أشرب من هواها ، فيتوقفوا عن التوريد ، ويقاطعوا تلكم الأفكار ، ويكشفوا الزيف ، ويفضحوا الباطل ، فيكفروا عما تقدم من خطايا عسى أن يغفر لهم.
(5)
مما جعجع به الليبراليون وهولوا حوله الأغلبية الصامتة في المجتمعات المسلمة ، فما إن يقع لخصومهم من الإسلاميين انتصار إلا وتراهم يسارعون: لا تفرحوا ، فالجمهور ليسوا معكم ، و(الأغلبية صامتة) ، والناظر في العالم الإسلامي شرقا وغربا يشهد الحضور الشعبي الواسع الداعم للحركة الإسلامية لكن القوم يتعامون عنه ويصمون الآذان ، موهمين أنفسهم أن (الأغلبية الصامتة) معهم وأنها غير موافقة لما يدور على الساحة ، وما يقع على الأرض ، لكن اللافت للنظر في هذا الحدث أن الأمة كلها قد قالت كلمتها ، وعبرت عن رأيها بوضوح (إلا رسول ا صلى الله عليه وسلم )! وأجمعت على خيار المقاطعة الشعبية العامة للبضائع الدنماركية فماذا كانت النتيجة حين غدت الأمة (أغلبية ناطقة) ، لقد وسمهم أولئك بالغوغائية ، وقصر النظر ، وأنهم لا عقول لهم تحركهم وإنما المحرك العواطف ليس إلا ، وأنهم مسلوبوا العقول ، ولولا الخوف منهم لنطق العقلاء (وهم الليبراليون طبعا) وبينوا الواجب ، لكنهم خنسوا لجبنهم أدام الله عليهم الجن ، فإن تشجعوا وتكلموا فإشارة هنا وكليمة هناك ، وقذف للحجر من مكان بعيد ، والجرئ من يتستر خلف الألفاظ ويتوارى خلف المصطلحات ، فالهجوم اليوم على (صناع الكوابيس) ، (والمتطرفين) ، (والغوغاء) ، أما تحديد الحقائق ، وتسمية الأشياء بمسمياتها ، والوضوح الوضوح في النقد ، فهم عنه بمعزل ، أليس من الغريب أن دعاة (الرأي والرأي الآخر) قد ضاقوا ذرعا بالرأي الآخر ، فانبروا لـ(مقاطعة المقاطعة) مثلا ، رافعين شعار (لا لمقاطعة البضائع الدنماركية)11 ، متنقصين بحماسة ظاهرة خيار الأمة في المقاطعة بأسلوب استفزازي ، تصل بصاحبها إلى حد اتهام الأمة بالسطحية والسذاجة ، ومتابعة العواطف دون العقول ، وأن ما يرى لا يعدو أن يكون ظاهرة صوتية ليس إلا ، وما الأمر إلا كزوبعة في فنجان ، هكذا تكون حماستهم لتسجيل مواقفهم في مصادمة الأمة والسبح ضد التيار بدل تسجيل المواقف في موافقة الحق الذي عليه سواد الأمة على مذهب (خالف تعرف)! ، لينكشف للجميع أنهم ليسوا المؤهلين لنقل هم الأمة ، ونبض الشارع ، ومن يطالع طرحهم بهذا الخصوص يعلم أنهم ملفوظون على المستوى الشعبي ، وأن ما يسطرونه في هذا السياق محل رفض ومقاطعة.
(6)(31/435)
من المظاهر اللافتة للنظر هذا التحرك الليبرالي المشبوه لإنهاء الأزمة بأقل مكاسب ممكنة للمسلمين ، وأكبر قدر من الأرباح للمعتدين ، وإلا فما الذي يفسر هذا التعجل المريب في نشر وترويج وقبول كل ما يُدعى أنه اعتذار لمجرد أنه مصدر بكلمة (اعتذار) ، وإن كان عند أهل البصيرة والعمى ليس اعتذارا ولا حتى شبه اعتذار12 ، وطالع ما شئت من الاعتذارات المقدمة حتى اليوم هل تجد فيها تجريما لما وقع أو تخطئة لما جرى ، غاية الأمر أنهم يقولون: إننا نأسف إن آذينا مشاعركم ، لكن لنا الحق في سب نبيكم!! فهل يسمى هذا اعتذارا يا عباد الله ، أم هو جرم جديد يحتاج إلى اعتذار ، وهل يصح أن تُنهى الأزمة بمثل هذا الكلام ، وأن يقال فيهم: (خير الخطائين التوابين!!)13 ، إن الأمة اليوم تقف موقف قوة يمكنها من تحقيق أكبر قدر من المكاسب ، ومع كل يوم يمر يكون للأمة الحق أن ترفع سقف المطالبات ، استجابة للواقع وتفاعلا مع الأحداث ، ولو أن أصحاب البقر كانوا أذكياءا لأنهوا الأزمة من أولها بالاعتذار الصريح وأغلقوا الملف قبل وصوله للعالم الإسلامي ، لكن للغباء والغطرسة الدنماركية ضريبتها والتي يجب أن تؤخذ منهم ، ولا يصح أن يتنازل عنها بحال ، إننا لا نريد التعجيز أو وضع المطالبات الممتنعة المستحيلة في ظرف استضعاف تعيشه الأمة على الصعيد العالمي ، لكننا نريد أن نخرج من هذه الأزمة بأكبر قدر من المكاسب والأرباح الممكنة ، والتي تكفل لنا وتضمن فيما تضمن حقنا في عدم وقوع مثل هذا الانتهاك مجددا ، وحقنا في نشر ديننا والدعوة إليه كما هو من غير تحريف أو تشويه ، وليحفظ التاريخ لنا هذا الموقف وهذه الوقفة ، ولتكون الدنمارك أنموذجا لما يمكن أن يحصل متى ما مس جناب نبينا بسخرية أو استهزاء ، أما محاولة إغلاق ملف القضية بأي وسيلة وكيفما اتفق فخيانة لجناب صلى الله عليه وسلم وأمته ينبغي أن تكون محل المحاسبة والجزاء ، وهي دليل على ضيق عطن بما يحصل ، وأن تطويل الأزمة ليست في صالح القوم ، ألم أقل إن المشروع الليبرالي معطل ، وأن فصل الخريف هذا لا بد أن ينتهى أو يُنهى!
الهوامش:
1 انظر مثلا مقال (ربيع المتطرفين) لحمزة المزيني ، جريدة الوطن ، 10/1/1427هـ.
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006.../w r ite r s04.htm
2 انظر مثلا مقال (ربيع المتطرفين) لحمزة المزيني ، جريدة الوطن ، 10/1/1427هـ.
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006.../w r ite r s04.htm
3 من مقال (زلزال الكاريكاتير..جراحة دقيقة في جسد الحدث) لعادل درويش ، جريدة الشرق الأوسط ، 12/1/1427هـ.
http://www.asha r qalawsat.com/leade صلى الله عليه وسلم ...761&issue=9937
4 انظر مثلا من مقال (تهدئة الخواطر) لعبدالله أبو السمح ، جريدة عكاظ ، 12/1/1427هـ.
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/200...A r t_317739.XML
ومقال (تأملات في الحدث) ، لعبدالله العسكر ، جريدة عكاظ ، 9/1/1427هـ.
http://www.al r iyadh.com/2006/02/08/a r ticle128970.html
ومقال (الإساءة للأديان..رؤية في كيفية الخروج من نفق الدمار) لطارق رمضان ، جريدة الشرق الأوسط 7/1/1427هـ.
http://www.asha r qalawsat.com/leade صلى الله عليه وسلم ...929&issue=9932
ومقال (المسكوت عنه في مسألة الكاريكاتير) لسعد بن طفلة ، جريدة الشرق الأوسط ، 12/1/1427 هـ.
http://www.asha r qalawsat.com/leade صلى الله عليه وسلم ...767&issue=9937
ومقال (صراع حضارات..من إنتاج عاصمة الزبدة) لإياد أبو شقرا ، جريدة الشرق الأوسط ، 7/1/1427هـ
http://www.asha r qalawsat.com/leade صلى الله عليه وسلم ...930&issue=9932
5 انظر مقال (زلزال الكاريكاتير..جراحة دقيقة في جسد الحدث) لعادل درويش ، جريدة الشرق الأوسط ، 12/1/1427هـ.
http://www.asha r qalawsat.com/leade صلى الله عليه وسلم ...761&issue=9937
6 انظر مقال (ربيع المتطرفين) لحمزة المزيني ، جريدة الوطن ، 10/1/1427هـ.
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006.../w r ite r s04.htm
ومقال (التطرف..ركوب موجة مكشوفة) لأحمد الربعي ، جريدة الشرق الأوسط ، 8/1/1427هـ.
http://www.asha r qalawsat.com/leade صلى الله عليه وسلم ...a r ticle=347093
ومقال (نيران صديقة!) لحسين شبكشي ، جريدة الشرق الأوسط ، 7/1/1427هـ.
http://www.asha r qalawsat.com/leade صلى الله عليه وسلم ...931&issue=9932
7 انظر مقال (صانعوا الكوابيس: بعدما اختطفوا عقولنا يريدون خطف قرارنا) لجمال خاشقجي ، جريدة الوطن ، 8/1/1427هـ..
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006.../w r ite r s03.htm(31/436)
8 انظر مقال (صانعوا الكوابيس: بعدما اختطفوا عقولنا يريدون خطف قرارنا) لجمال خاشقجي ، جريدة الوطن ، 8/1/1427هـ..
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006..
انظر مقال (زلزال الكاريكاتير..جراحة دقيقة في جسد الحدث) لعادل درويش ، جريدة الشرق الأوسط ، 12/1/1427هـ.
ومقال (الإساءة للأديان..رؤية في كيفية الخروج من نفق الدمار) لطارق رمضان ، جريدة الشرق الأوسط / 7/1/1427هـ.
ومقال (صراع حضارات..من إنتاج عاصمة الزبدة) لإياد أبو شقرا ، جريدة الشرق الأوسط ، 7/1/1427هـ
ومقال (فريق من أسوأ المحامين) لأحمد الربعي ، جريدة الشرق الأوسط ، 6/1/1427هـ
11 انظر مقال (لا تقاطعوا المنتجات الدنماركية) لمحمد جزائري ، جريدة الشرق الأوسط ، 18/12/1426هـ
12 انظر مثلا مقال (زلزال الكاريكاتير..جراحة دقيقة في جسد الحدث) لعادل درويش ، جريدة الشرق الأوسط ، 12/1/1427هـ.
ومقال (صانعوا الكوابيس: بعدما اختطفوا عقولنا يريدون خطف قرارنا) لجمال خاشقجي ، جريدة الوطن ، 8/1/1427هـ..
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006.
ومقال انظر مقال (ربيع المتطرفين) لحمزة المزيني ، جريدة الوطن ، 10/1/1427هـ.
http://www.alwatan.com.sa/daily/2006...
13 ومقال (المسكوت عنه في مسألة الكاريكاتير) لسعد بن طفلة ، جريدة الشرق الأوسط ، 12/1/1427 هـ.
===============(31/437)
(31/438)
شئ من الغثاء الليبرالي..
رد على مقال (الدنمارك مرة أخرى: ماذا بعد؟!) لمشاري الذايدي
عبدالله بن صالح العجيري
إن من فوائد هذه الأزمة -أزمة الاستهزاء برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم - تمايز الصفوف ، واستبانة السبل ، وانكشاف بواطن النفوس ، وإن هذه لمن الخير الذي قدره الله في هذا الحدث ، وفي كل قدر لله خير ، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) فالأمة المسلمة قد هبت ووثبت نصرة لنبيها r ليعلم العالم أجمع أن أمة الإسلام أمة حية وأنها لم ولن تموت ، وليعلم أهل الإسلام حقيقة المنسلخين عنها فكرا ومنهجا وسلوكا وإن نطقوا بالضاد ، وتكلموا بالعربية ، وتسموا بعبدالله وعبدالرحمن ومحمد! ووالله لقد مللت من النظر في هذا الغثاء الليبرالي حيال ما وقع من انتهاك ، وتلك الإسطوانة المشروخة التي يرددونها ، يأخذها الواحد منهم عن صاحبه ، مكررين للمعنى الواحد هنا وهناك ، (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) ، ووالله ما كنت أظن ولا أحسب أن ينبري منتسب للإسلام في هذا الظرف ليقف على الضفة الأخرى في مقابل الأمة يلومها على غضبتها ، ويطلب منها التهدئة ، والمسامحة والإغضاء ، وكأن الأمة هي الظالمة الجانية ، وأنه مقدر عليها فقط أن تتلقى الصفعات يمينا وشمالا ، كلما مال رأسها في ناحية فواجب عليها أن تديره تحسبا للصفعة الجديدة ، إن الحكمة في إدارة الصراع ، وحسن التقدير ، ومعرفة العواقب ، مطلب لا شك فيه ولا ارتياب ، ومحاولة ترشيد هذه الغضبة واستثمارها استثمارا إيجابيا بناءا مشروع ، لكن القوم بكتاباتهم وممارساتهم قد خرجوا عن حدود الحكمة المطلوبة إلى التفريط المحرم ، التفريط في حق صلى الله عليه وسلم وإنه لعظيم ، والتفريط في حق الأمة المسلمة ، وبين يدي مقال للكاتب مشاري الذايدي والذي لا يخرج فيه كاتبه عن سيرة من تقدمه من كتاب هذا التيار بعنوان (الدنمارك مرة أخرى: ماذا بعد؟!) والمنشور في جريدة الشرق الأوسط 22/2/1427هـ ، وقد تناول في مقاله هذا فيما تناول قضية الاعتذارات الدنماركية والمقدمة من الصحيفة والحكومة الآثمة ، فيقول:
(هل المطلوب الاعتذار من قبل الحكومة الدنماركية، ومن الجريدة الدنماركية؟ اذا كان الامر كذلك فماذا عن الاعتذار المتكرر الذي صدر من جهات دنماركية، وآخرها الصحيفة نفسها التي نشرت فيها الرسومات، ونشر اعتذارها باللغة العربية، وكررت فيه جمل الاعتذار اكثر من مرة، ونشر على صفحة كاملة في جريدة «الشرق الاوسط» وغيرها...؟)
وقد اطلع الناس على هذه الاعتذارات ، وأحسب أنه قد صار واضحا حقيقة هذه الاعتذارات المزعومة ، وإن أصر البعض على التغابي والتعامي ، وأنها إلى الإهانة أقرب ، وأنه ينبغي أن يُعتذر للأمة من هذا اللون من الاعتذار ، إذ زبدة الاعتذار المزعوم وخلاصته كما رأينا وسمعنا: (نأسف إن آذينا مشاعركم ، لكن لنا الحق في سب نبيكم!) ، هذا حقيقة الحال ، وجلية الأمر ، وصفة الاعتذار الذي يروج له الكاتب وغيره ، ويعتب في مقاله على من لا يروجه ، ويُدين من لا يقبله ، بل ويتجاوزه إلى السخرية ممن طعن فيه ، أو شكك ، فيقول منتقدا منتقدي هذا الاعتذار:
(في حين يراها البعض الآخر غير كافية ولا دقيقة، وتحول هؤلاء الى خبراء في اللغات الأوروبية، وفرقوا بين الأسف والاعتذار، وتحول آخرون الى خبراء قانون، فقالوا هل الإعتذار يسقط الجرم أم لا...؟).
أرأيتم كيف تروج الأباطيل ، وتمرر الأكاذيب ، ويستغفل الناس ، في الوقت الذي تصرح فيه الصحيفة الآثمة المعتدية بتكذيب ما يروج في صحفنا من اعتذارات ، وأنها إعلانات مزيفة مزورة كما هو منشور ومعلن ، وإني لأتساءل لماذا يكون ليبراليونا أكثر حماسة في الدفع عن المعتدين من المعتدين أنفسهم ، وما بالهم أحرص عليهم منهم ، وما الذي يحملهم على أداء هذه الأدوار المشبوهة في ترويج الزيف والإفك والكذب تحت لافتة الاعتذار ، ثم يطالبون الأمة بقبوله دون قيد وشرط؟
إن الأزمة التي تُرى قد أحرجت اللبيراليين وآذتهم ولا شك ، وعطلت مشروعاتهم في تغريب الأمة ، ومخططاتهم في تمييع علاقة المسلمين بالكفار تحت شعارات (التسامح مع الآخر) وغيرها ، فغدا الخروج من الأزمة مطلبا ملحا لا نصرة للنبي r وأخذا بحقه ، كلا ، فلهذه رجالها من أبناء الأمة المسلمة أهل الغيرة والمحبة الصادقة للنبي الكريم وهم السواد الأعظم ، وإنما ليستمروا في توريد القيم الغربية ، ويتابعوا مسلسلهم التغريبي المشؤوم ، لقد جاء هذا الحدث كالصاعقة عليهم ، وأثبت ما كان يقوله خصومهم عن حقيقة أولئك الكفار المعتدين ، وما تكنه نفوسهم وقلوبهم تجاه المسلمين ، (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ، فعادت مشاريعهم الكاسدة إلى نقطة الصفر ، وبدؤوا العمل من جديد ، لا بورك سعيهم.(31/439)
بل إن الكاتب ينتقد ما يرى من غضب إسلامي ، ويرى أن ردة الفعل قد تجاوزت الحد ، وأن تناول الحدث خارج عن حدود الطبيعة ، وأن الأمر لم يكن يستحق هذا الغليان الحاصل ، ويستدل لذلك -وانظر لحسن الاستدلال!- بقصة وقف عليها حسب أنها تخدمه فساقها ليبين لنا عن حقيقة العقل المركب في جسمه ، فيقول:
(هناك تناول غير طبيعي للازمة، يتجاوز حتى ما جرى في التاريخ الاسلامي، ومن قبل اجيال الاسلام الاولى.
وهنا احب ان اضرب هذا المثال، واسوق هذا الخبر:
روى المحدث الحاكم النيسابوري في مستدركه عن هشام بن العاص قال: بعثت انا ورجل الى هرقل صاحب الروم ندعوه للاسلام، (في زمن خلافة ابي بكر الصديق)، وذكر قصة طويلة ملخصها انهم دخلوا على ملك الروم ومجلسه وبطارقته، وقال عن الملك هرقل: «أََمر لَنا بمنزل حسن، ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا، فأرسل الينا ليلا فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار، عليها ابواب، ففتح بيتا وقفلا، فاستخرج حريرة سوداء، فنشرناها فإذا فيها صورة حمراء، واذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الاليتين، لم ار مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ظفيرتان احسن ما خلق الله، فقال أتعرفون هذا؟ قلنا لا، قال: هذا ادم عليه السلام، ثم فتح بابا اخر فاستخرج منه حريرة سوداء، واذا فيها صورة بيضاء، واذا له شعر كشعر القطط، احمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا، قال هذا نوح عليه السلام».
وهكذا مضى في وصف مثير لصور الانبياء واحدا واحدا ، بناء على صورهم في المناديل الحريرية، قال هشام: «ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، وإذا شاب شديد سواد اللحية، كثير الشعر حسن العينين حسن الوجه، فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا، قال هذا عيسى بن مريم عليه السلام، قلنا من اين لك هذه الصور، لأنا نعلم انها على ما صورت عليه الانبياء عليهم السلام، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله»، يقول هشام: «فلما أتينا ابا بكر الصديق رضي الله عنه فحدثناه بما أرانا وبما قال لنا وما أجازنا، بكى ابو بكر». يقول المفسر ابن كثير الدمشقي بعد ذكره لهذا الاثر العظيم: «اسناده لا بأس به».
ثم اورد اثرا اخر رواه الطبراني عن الصحابي جبير بن مطعم انه قال: خرجت تاجرا الى الشام، قال فلما كنت بأدنى الشام لقيني رجل من اهل الكتاب، فقال هل عندكم رجل نبي، قلت نعم، قال هل تعرف صورته اذا رأيتها، قلت نعم، فأدخلني بيتا فيه صور، فلم ار صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينا انا كذلك، اذ دخل رجل منهم علينا، فقال فيم انتم، فأخبرناه، فذهب بنا، الى منزله، فساعة ما دخلت نظرت الى صورة النبي صلى الله عليه وسلم ».
ماذا لو ان هذه الصور والرسولمات وجدت في عصرنا؟! هل ستسيل شوارع بيشاور، حنقا، ونيجيريا نارا؟!)
وسقت الكلام بطوله هنا ليعرف الإنسان حقيقة الرجل ، وأن الهوى هو المحرك للاستشهاد والنقل ، وأن القوم مستميتون في المدافعة عن الغرب وتثبيط الأمة ولو بالاستشهادات الخارجة عن حد الصواب والمنطق ، وليت شعري أي سؤال هذا الذي يعقب به على القصص المتقدمة: (ماذا لو ان هذه الصور والرسولمات وجدت في عصرنا؟! هل ستسيل شوارع بيشاور، حنقا، ونيجيريا نارا؟!).
والأمر بين وواضح لا يحتاج إلى علامة استفهام ولا تعجب ، إذ الفرق شاسع بين ما سقته هنا -يا فهيم!- وما ابتلينا به ، إن ما حصل ووقع اليوم ليس مجرد تصوير -يا فهيم!- للنبي الكريم ، مع اعتقادنا حرمته لتحريم صلى الله عليه وسلم له ، وإنما الذي حصل عبارة عن كاريكاتيرات! وصور ساخرة! فأين هذا من هذا ، وهل يصح أن تقاس ردة الفعل هنا على ردة الفعل هناك ، إن ما وقع في حق صلى الله عليه وسلم ليس مجرد تصوير ، بل ما وقع استهزاء ، وسخرية ، وسب له بأبي هو وأمي فأين يُذهب بكم؟ ودعني أقلب السؤال: لو قدر أن هذه صور الاستهزاء الآثمة هذه ظهرت في عصر من تقدم من سلفنا فكيف ستكون الحال ، وكيف ستكون الهبة؟! أحسب أن الجواب واضح وبين ، وفي قصة فتح عمورية عظة وعبرة ، والغريب أن الكاتب يعلم أن استدلاله غير مستقيم ، ويعرف بطلان هذا الاستشهاد ، وأنه قياس مع الفارق ، فيقول:
(أعرف أن الشكل السخيف الذي خرجت به الصور والرسولم الدنماركية التي تحمل طابعا ساخرا، هو منبع النقمة الاسلامية، ولكن أردت القول، أن هناك خروجا عن المألوف في تناول هذه المسألة).(31/440)
فإذا كنت تعلم -يا فهيم!- سبب النقمة فلما أوردت القصة الطويلة؟ ولما كان هذا التساؤل السخيف ولما أحوجتنا إلى المناقشة والرد؟ ولما هذا الأسلوب في الاستغفال؟ ألأنك تريد تكثير الكلام؟ أم لأن القصة فيها كلمتي صورة ونبي فسارعت لنسخها ولزقها في مقالك؟ أم أنك أوردتها ولعل وعسى أن تنطلي على واحد أو اثنين؟ أم تريد أن تقول أنك مطلع -ما شاء الله- على تفسير الحافظ ابن كثير أو المستدرك للحاكم؟ أم ماذا؟؟ إن من يتعامل مع قضايا الأمة بهذا النفس ، ويتعاطى مع مصائبها بهذا الأسلوب ، لا يصح أن يكون مأمونا على فكر ، ولا مستودعا لثقافة ، ولا محلا لأخذ أو تلقي ، إنها خيانات علمية علنية تروج لأهداف (تحتية)! وياليت القوم بقوا في أقبيتهم ساكتين حتى تهدأ العاصفة ، ويمر الحدث ، بدل هذا الطرح السخيف ، ولو فعلوا لكان خيرا لهم ، ولكان أخف لجرمهم ، أما وقد نطقوا فستسجل عليهم هذه المواقف ، وستضبط عليهم ، وسيعلم الناس حقيقة هذا التيار ، وأن الليبراليين قد نزلوا واديا غير وادي الأمة يوم انتصرت الأمة لنبيها r.
==============(31/441)
(31/442)
قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية
[B]المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
كلية الشريعة
قسم الثقافة الإسلامية
قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية
دراسة نقدية في ضوء الإسلام
رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في الثقافة الإسلامية
إعداد
الدكتور فؤاد بن عبدالكريم بن عبدالعزيز العبدالكريم
المقدِّمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (( ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( ( ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71) ( ( ).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ( ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار( ).
إن للمرأة في الإسلام مكانة عظيمة ومرتبة جليلة، فقد رفع الإسلام منزلتها بعد أن كانت مهانة عند العرب قبل الإسلام وعند الأمم الأخرى، فجعلها في منزلة واحدة مع الرجل من حيث قبول الأعمال الصالحة.
قال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ( ). وقال ( في الحديث الصحيح: { إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ } رواه الإمام أحمد، وأبو داود - واللفظ له -، والترمذي، والدارمي ( ).
وأعطاها حقوقها التي سلبت منها - كالكرامة الإنسانية -، وحقوقها المالية، والاجتماعية، وغيرها من الحقوق التي جاء بها الإسلام، كما أنه قد راعى تكوينها فخصها ببعض الحقوق والواجبات.
وقد أكرم الله هذه البلاد - بلاد الحرمين الشريفين - بأن كان دستورها الكتاب والسنة؛ فأصبح للمرأة في هذا البلد الطاهر مكانتها المستمدة من الشرع الحنيف؛ بحيث كانت الأنظمة المتعلقة بأوضاعها متأسسة على عقيدة الإسلام ومنبثقة من شريعته؛ مما جعل المرأة في هذه البلاد تتمتع بمكانة رفيعة في المجتمع، وغدت محسودة من المجتمعات الأخرى غير الإسلامية؛ حتى إنه كان هناك محاولات لجر المرأة المسلمة ليكون واقعها كواقع المرأة في المجتمعات المعاصرة - وذلك من خلال ندوات ومؤتمرات عالمية تعقد لهذا الشأن -. ولكن هذه البلاد - بولاتها وعلمائها - ولله الحمد فطنت لهذا الأمر المخالف لعقيدتها وشريعتها، فبادرت إلى إعلان موقفها الواضح برفض الأفكار التي ينادى ويروج لها في مثل هذه الندوات والمؤتمرات العالمية التي تعنى بالمرأة والأسرة؛ وذلك لمخالفتها للإسلام، ومن ذلك رفض المملكة العربية السعودية المشاركة في مؤتمر السكان والتنمية، الذي عقد بالقاهرة عام (1415هـ-1994م)، ومؤتمر المرأة الرابع الذي عقد ببكين عام (1416هـ-1995م)، وإصدار بيان يكشف المخالفات الصريحة للإسلام في هذين المؤتمرين (انظر صورة من بياني هيئة كبار العلماء حول هذين المؤتمرين في ملاحق الرسالة).
وتجسيداً لموقف هذه البلاد وتأكيداً لمنهجها في رفض ما يخالف الشريعة الإسلامية، وحرصاً على الإسهام في تجلية هذا الموقف النبيل، أحببت أن أبحث في قضايا المرأة المثارة في هذه المؤتمرات التي تنطلق من تصور مناقض للإسلام.
* أهمية الموضوع:
إن هيمنة الحضارة المعاصرة ذات البعد الغربي فكرياً وثقافياً وسلوكياً، قد أدى إلى قيام محاولات عديدة للسعي إلى تسويق قيم الحضارة المعاصرة من خلال ترويج فكرة العالمية ( ) - خاصة في جانبها الاجتماعي والسلوكي -، وقد قامت هيئة الأمم المتحدة بأنشطة في هذا المجال؛ وذلك بعقد الندوات والمؤتمرات العالمية واستصدار الصكوك والوثائق حيال العديد من القضايا الاجتماعية، مثل قضايا التنمية الاجتماعية، والسكان، والمرأة، ومن ذلك:
- المؤتمر العالمي الأول للسكان، المنعقد في (بوخارست/رومانيا)، عام (1394هـ-1974م).
- المؤتمر العالمي للسنة الدولية للمرأة، المنعقد في مكسيكو عام (1395هـ 1975م).
- المؤتمر العالمي عن عقد الأمم المتحدة للمرأة، المنعقد في كوبنهاجن عام (1400هـ-1980م).
- المؤتمر الدولي المعني بالسكان، المنعقد في مكسيكو عام (1404هـ-1984م).(31/443)
- دورة اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة، المنعقدة في نيويورك عام (1404هـ-1984م).
- المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم عقد الأمم المتحدة للمرأة، المنعقد بنيروبي عام (1405هـ-1985م).
- مؤتمر الأمم المتحدة عن البيئة والتنمية، المنعقد في ريودي جانيرو عام (1412هـ -1992م).
- مؤتمر الأمم المتحدة عن حقوق الإنسان، المنعقد في فيينا عام (1413هـ-1993م).
- المؤتمر الأمم الدولي عن السكان والتنمية، المنعقد بالقاهرة عام (1415هـ-1994م).
- مؤتمر الأمم المتحدة عن التنمية الاجتماعية، المنعقد في كوبنهاجن عام (1415هـ-1995م).
- المؤتمر الدولي الرابع المعني بالمرأة، المنعقد في بكين عام (1416هـ-1995م).
- مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل الثاني)، المنعقد في إسطنبول/تركيا)، عام (1417هـ -1996م).
هذا بالإضافة إلى صدور عدد من الصكوك والمواثيق الدولية ذات الصلة بالمسألة الاجتماعية، مثل :
- ميثاق الأمم المتحدة، الصادر بتاريخ 1364هـ-1945م.
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر بتاريخ 1367هـ-1948م.
- الاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة، عام 1372هـ-1952م.
- العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عام 1386هـ- 1966م.
- العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، عام 1386هـ-1966م.
- الإعلان الخاص بالقضاء على التمييز ضد المرأة، عام 1387هـ-1967م.
- إعلان طهران عام 1388هـ- 1968م.
- اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، عام 1399هـ-1979م.
- إستراتيجيات نيروبي التطلعية للنهوض بالمرأة، عام 1405هـ-1985م.
وكان من أهم القضايا المطروحة في المؤتمرات والمواثيق السابقة هي قضية المرأة، وقد ظهرت الأهمية الكبرى لهذه القضية في سياق هذه المؤتمرات من خلال الظواهر التالية:
1 - إنها قضية تثار في كل المؤتمرات المذكورة سلفاً، وتكاد تكون القاسم المشترك بينها جميعاً.
2 - إنه عقد لقضية المرأة سلسلة من المؤتمرات الخاصة بها، ومن آخرها المؤتمر الرابع المعني بالمرأة والذي عقد في الصين، وهو آخر هذه المؤتمرات، فهو تقويم لما سبقه وتأكيد للتوجهات العملية والسلوكية فيها تجاه المرأة.
3 - إن هذه المؤتمرات تقوم على فكرة مخالفة - من حيث الأصل - للإسلام حيال طبيعة المرأة ووظيفتها في الحياة.
4 - إن طرح هذه الفكرة قد يساعد على ترويج أفكار هذه المؤتمرات وإقناع المجتمعات الإسلامية بها من خلال آليات دولية كثيرة اجتماعية كانت، أو إعلامية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو غير ذلك.
5 - بروز دور الجمعيات النسائية العربية في مؤتمرات المرأة وفي متابعة تنفيذ قراراته، كما حصل في مؤتمر واشنطن في شهر إبريل من العام الميلادي 1996م، للمرأة العربية بشأن متابعة تنفيذ توصيات مؤتمر بكين.
6 - إنه في ظل ظاهرة الوعي بدأت تبرز مواقف إسلامية ناقدة لهذه المؤتمرات، وذلك من عدد من الهيئات والمؤسسات الإسلامية الرسمية وغير الرسمية، مثل : هيئة كبار العلماء، ورابطة العالم الإسلامي في المملكة العربية السعودية وغيرها.
* أسباب اختيار الموضوع:
قد رأيت - بعد الاستخارة واستشارة أهل العلم والفضل - أن أقوم بدراسة تقويمية لهذه الطروحات تجاه المرأة وأهم الخطط المقترحة فيها. كما رأيت المبادرة بتقديم نقد إسلامي لهذه الطروحات العالمية في هذا الوقت للأسباب الآتية:
أولاً: إنه لم يسبق أن قدمت دراسات إسلامية ناقدة ووافية تجاه هذا النوع من المؤتمرات - حسب علمي -.
ثانياً: إن دراسة هذه القضايا في المؤتمرات السابقة ونقدها - من وجهة النظر الإسلامية - ستكون أيضاً دراسة ونقداً للمؤتمرات اللاحقة؛ للاتفاق بينها في المضمون والاستراتيجيات - كما هو متوقع -.
ثالثاً: إنه سيفيد - بإذن الله - في أي موقف مستقبلي تجاه المؤتمرات اللاحقة المماثلة.
رابعاً: إن فيه تحفيزاً للباحثين للمبادرة في تقديم دراسات ورؤى إسلامية تجاه ما يستجد من طروحات عالمية - في المسألة الاجتماعية - مخالفة للدين الإسلامي.
خامساً: إن قضية المرأة من أهم قضايا الخلاف الحضاري بين الإسلام والحضارات الأخرى.
*الدراسات السابقة للموضوع:
كما أشرت في الفقرة السابقة فلم يسبق أن قدمت دراسات علمية إسلامية ناقدة ووافية تجاه هذه القضية في هذه المؤتمرات إلا ما أصدرته بعض الهيئات الإسلامية - كهيئة كبار العلماء أو رابطة العالم الإسلامي أو الأزهر أو لجنة المنظمات غير الإسلامية - تجاه مؤتمر السكان والتنمية في القاهرة، ومؤتمر المرأة الرابع في بكين، وهي عبارة عن مواقف تجاه وثيقتي المؤتمرين والمشاركة فيهما، وليست دراسة عنهما - وقد أفردت لهذه المواقف فصلاً مستقلاً في نهاية هذا البحث -.
كما إنه صدر كتاب بعنوان: (( وثيقة مؤتمر السكان والتنمية - رؤية شرعية)) للدكتور (الحسيني سليمان جاد)، وعدد صفحاته مائة وثمانون صفحة، وهو من سلسلة كتاب الأمة، وتحدث فيه عن الأسرة في الفقه الإسلامي، ثم رؤية مجملة لأهم مضامين الوثيقة، وأخيراً رؤية مفصلة لأهم قضايا الوثيقة، تحدث فيها عن قضيتين:(31/444)
الأولى: المساواة بين الرجل والمرأة.
الثانية: الإجهاض.
وهذا الكتاب وإن كان جهداً موفقاً في بابه، إلا أنه غير مستوف لقضايا المرأة المختلفة في هذه المؤتمرات.
لأجل هذا أحببت أن تكون أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه دراسة نقدية تجاه قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية، وأسميتها: ((قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية، دراسة نقدية في ضوء الإسلام)).
*منهج البحث :
وقد سلكت في هذا البحث منهجاً وصفياً في عرض القضايا الأساسية للمرأة، ومنطلقاتها من خلال وثائق المؤتمرات، كما استخدمت المنهج التاريخي في تتبع بعض قضايا المرأة في هذه المؤتمرات، كقضية تقديم الثقافة الجنسية للجنسين في المدارس الغربية، وقضية خروج المرأة للعمل، وكذلك قضية الحقوق السياسية للمرأة الأوربية، وغيرها من القضايا، واستخدمت المنهج التحليلي النقدي في تحليل وثائق المؤتمرات المتعلقة بالمرأة، ونقدها في ضوء المصادر الإسلامية، مبرزاً الموقف الإسلامي من هذه القضايا.
كما عملت على ما يلي:
1 - أبنت مواضع الآيات القرآنية من السور.
فإن ورد في متن الرسالة آية، أو جزء من آية، فأعزوها في الحاشية بهذه الطريقة: - مثلاً -: سورة البقرة الآية (30).
وإن كان الذي في المتن آيات متتابعات من نفس السورة، فقد اكتفيت بأرقام الآيات المذكورة مع الآيات في المتن، وأكتب في الحاشية اسم السورة فقط.
2 - تخريج الأحاديث النبوية الواردة في البحث.
فإن كان الحديث الوارد في البحث في الصحيحين أو في أحدهما، اكتفيت بذلك، وإلا بحثت عنه في السنن والمسانيد، مع إيراد أقوال بعض أهل العلم - أحياناً - في الحكم على بعض الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً - إن كان الأمر يقتضي ذلك -. ويكون تخريج الحديث في الحاشية بهذه الطريقة: - مثال -: صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب علامة الإيمان حب الأنصار - رقم الحديث (17). وهذا الطريقة التزمت بها في الكتب التسعة التالية: (صحيح البخاري - صحيح مسلم - مسند الإمام أحمد - سنن أبي داود - سنن الترمذي - سنن النسائي - سنن ابن ماجه - موطأ الإمام مالك - سنن الدارمي). وأما غيرها من كتب المعاجم والسنن، فلم التزم بهذه الطريقة.
3 - الرجوع للمصادر الأصلية.
وقد رجعت للمصادر الأصلية (كأمهات كتب التفسير، وأمهات كتب السنة، وأمهات كتب المذاهب الفقهية، والمعاجم اللغوية، وأمهات كتب التراجم)، وغيرها من المصادر الأصلية.
4 - التعريف ببعض المصطلحات والكلمات الغريبة.
5 - التعريف بالأعلام غير المشهورين.
وقد عرفت ببعض الأعلام غير المشهورين من المسلمين وغيرهم، وأما من لم أجد له ترجمة من غير المشهورين - والشهرة مسألة نسبية -؛ لكونهم مغمورين - كبعض الكتاب، والصحفيين، والأطباء، وغيرهم - فلم أعرف بهم.
6 - التزمت بقواعد اللغة وعلامات الترقيم.
7 - ألحقت البحث مجموعة من الفهارس لتسهيل الرجوع إليه:
(فهرس الآيات - فهرس الأحاديث النبوية - فهرس الآثار - فهرس المؤتمرات الدولية محل البحث - فهرس الملاحق - فهرس المصادر والمراجع - فهرس الموضوعات).
8 - ألحقت البحث بملاحق هي نماذج من وثائق المؤتمرات، والاتفاقيات الصادرة عن الأمم المتحدة، وما يرتبط بذلك.
أهم الصعوبات التي واجهتها في هذه الرسالة:
1 - ندرة وثائق المؤتمرات التي أنا بصدد دراستها، فباستثناء وثيقتي مؤتمري السكان والتنمية بالقاهرة عام (1415هـ-1994م)، والمؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين عام (1416هـ- 1995م)، التي تم الحصول على نسخة منهما باللغة العربية - وهي لغة رئيس من لغات الأمم المتحدة المعتمدة في كتابة الوثائق والمؤتمرات والصكوك الدولية - بيسر وسهولة؛ وذلك لقرب العهد بالمؤتمرين، والهالة الإعلامية التي صاحبتهما، والمواقف الرافضة لما ورد في هذين المؤتمرين، أما بقية المؤتمرات فلم أجد أي نسخة منها - حتى في فرع هيئة الأمم المتحدة بالرياض -، إلا بعض الأوراق والملازم المتفرقة لمؤتمر المرأة الثاني في كوبنهاجن بالدنمارك عام (1400هـ-1980م )، ومؤتمر المرأة الثالث في نيروبي بكينيا عام (1405هـ - 1985م) التي وجدتها في مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض؛ مما اضطرني للبحث عن بقية وثائق هذه المؤتمرات - باللغة العربية - في المقر الرئيس للأمم المتحدة بنيويورك - عن طريق أحد الإخوة العاملين في المعهد الإسلامي بواشنطن التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -، فلم أجد شيئاً، وكذلك لا يوجد أي نسخة لأي مؤتمر في المقر الرئيس الثاني للأمم المتحدة في جنيف.
عند ذلك قمت برحلة علمية - وذلك في صيف عام 1418هـ، وبعد موافقة فضيلة المشرف على الرسالة بارك الله فيه - إلى كل من مصر وسوريا والبحرين.
أما البحرين، فقد اعتذرت بعض الجمعيات النسائية فيها عن وجود نسخ من وثائق المؤتمرات بحوزتها - بالرغم من مشاركة بعض الجمعيات النسائية في بعض هذه المؤتمرات !!-.
وأما سوريا، فقد أمدتني بعض الجمعيات النسائية فيها بما تملك من وثائق - وهي عبارة عن أوراق وملازم متفرقة عن بعض المؤتمرات الدولية -.(31/445)
وأما مصر، فقد اتجهت إلى مكتبة أحد فروع الأمم المتحدة، وذلك في القاهرة، ووجدت فيها وثائق المؤتمرات التي كنت أبحث عنها، وقد سمح لي بالاطلاع على الوثائق فقط، دون إعارتها أو تصويرها، بحجة أنه لا يوجد إلا نسخة واحدة فقط من كل وثيقة.
وقد حاولت تصوير هذه الوثائق، فلم أستطع؛ وذلك للرفض التام من قبل المسؤول عن مكتبة الأمم المتحدة - رغم أن هذه الوثائق لا تتصف بالخصوصية والسرية -.
وبعد محاولات استمرت قرابة عامين - بالتحديد في شهر رمضان من عام 1420هـ -، استطعت - ولله الحمد والمنة - الحصول على نسخة من بعض المؤتمرات التي أبحث عنها - بعد اتصال هاتفي من الملحق الثقافي للمملكة في مصر للمسؤول في فرع الأمم المتحدة بالقاهرة -.
ولا تزال هناك بعض الوثائق لم أستطع العثور عليها - كالمؤتمر العالمي الأول للمرأة، المنعقد بالمكسيك عام (1395هـ- 1975م) -، أسأل الله أن يوفقني للحصول عليها.
2 - قلة المتخصصين في قضايا المرأة المعاصرة - رغم الأهمية المتزايدة لذلك -؛ مما أدى إلى ندرة ما ألف حول حول هذه المؤتمرات، فكل ما كتب حول هذه المؤتمرات - حسب علمي - إنما هي مواقف لبعض الهيئات والمنظمات الإسلامية والعلماء، أو تقارير وكتابات صحفية - عدا الكتاب الذي أشرت إليه آنفاً -؛ مما أسهم في صعوبة موضوع البحث، كونه - لأول مرة - يتم تدارس قضايا المرأة في هذه المؤتمرات الدولية بهذه الطريقة التفصيلية.
3 - تشعب القضايا التي نوقشت في هذه الرسالة، فمن القضايا التي تمت مناقشتها في الباب التمهيدي للرسالة:
العلمانية، والحرية، والعولمة، والعالمية: وبيان معاني هذه المصطلحات والأفكار، وعلاقتها بقضية المرأة، ونقد ذلك كله.
ومن القضايا التي نوقشت في الباب الأول للرسالة:
المساواة، والتنمية، والسلم (وهي التي تشكل العقد الأممي الذي قامت عليه مؤتمرات المرأة). وبيان معاني هذه المصطلحات وعلاقتها بقضية المرأة، ونقد ذلك كله.
ومن القضايا التي نوقشت في الباب الثاني للرسالة ( التي بحثتها هذه المؤتمرات):
القضايا الأخلاقية والاجتماعية، ومن ذلك:
حرية العلاقات الجنسية، وتشمل: (الصحة الجنسية، والصحة الإنجابية) - ما يسمى بالحمل غير المرغوب فيه، ووسائل منعه - إهمال دور الأسرة في البناء الاجتماعي وتهميشه - السماح بأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج - التنفير من الزواج المبكر - تحديد النسل - سلب قوامة الرجال على النساء - سلب ولاية الآباء على الأبناء.
القضايا التعليمية، ومن ذلك:
التعليم المختلط بين الجنسين، والتثقيف الجنسي.
القضايا الصحية، ومن ذلك:
الإجهاض، والأمراض الجنسية، وختان الأنثى.
القضايا الاقتصادية، ومن أمثلة ذلك:
عمل المرأة، وحق الملكية، وحق الإرث، والحصول على الائتمان (أي القروض الربوية).
القضايا السياسية، ومن أمثلة ذلك:
تولي المرأة للقضاء، وتولي المرأة للإمامة العظمى، والحقوق السياسية للمرأة الغربية، ومشاركة المرأة في الأنشطة السياسية المختلفة (كحق الانتخاب ناخبة أو منتخَبة، أو أن تكون من أهل الحل والعقد - مجلس الشورى -، أو أن تكون وزيرة، أو أن تشارك في لجان أو وفود خارجية..).
ثم القضية الأخيرة التي نوقشت في فصل مستقل، كان عنوانه (فصل ختامي في الموقف من المشاركة في هذه المؤتمرات).
وهذه القضايا المختلفة والمتشعبة في هذه الرسالة استدعت أموراً، منها:
أ - فرز القضية الواحدة من كل وثيقة مؤتمر، ومن ثم تصنيفها حسب الجانب الذي تتبعه (كالجانب الاجتماعي، أو الصحي، أو الاقتصادي،وهكذا)؛
وهذا الأمر استدعى مضي وقت طويل لقراءة وثائق المؤتمرات - التي بلغت حوالي خمسمائة وألف صفحة، عدا وثائق الأمم المتحدة واتفاقياتها -، ومن ثم فرز هذه القضايا - خاصة مع تأخر الحصول على بعض الوثائق -.
ب - الرجوع إلى عدد كبير - بلغ أكثر من ستمائة - من المصادر، والمراجع، والصحف والمجلات، في بيان هذه القضايا ومدى خطورتها، والرد عليها من خلال موقف الإسلام منها، هذا بالإضافة إلى التقارير والنشرات والكتب التي تصدرها الأمم المتحدة.
ج - تداخل بعض قضايا البحث مع بعضها الآخر، كتداخل قضية العلمانية مع الحرية - في الباب التمهيدي -، وتداخل قضية التنمية - في الفصل الثاني من الباب الأول - مع عمل المرأة - في الفصل الرابع من الباب الثاني -، وتداخل قضية الحرية - في الباب التمهيدي - مع الحرية الجنسية، والصحة الجنسية والإنجابية - في الفصل الأول من الباب الثاني -، وكذلك مع الأمراض الجنسية - في الفصل الثالث من الباب الثاني -، وتداخل قضية المساواة - في الفصل الأول من الباب الأول - مع مسائل مختلفة في فصول متفرقة من الرسالة: كمسألة القوامة، ومسألة الميراث، ومسألة الحقوق المالية للمرأة، وغيرها من المسائل، وتداخل قضية السلم - في الفصل الثالث من الباب الأول - مع الحقوق السياسية للمرأة - في الفصل الخامس من الباب الثاني من الرسالة -، وغير ذلك من الأمثلة.(31/446)
وهذا التداخل أدى إلى أن يكون هناك إحالات إلى مباحث متأخرة من الرسالة - خلاف الأمر المعتاد من أن الإحالة تكون إلى أمر متقدم -، وهذا الأمر فعلته اضطراراً لا اختياراً.
بل إن تداخل القضايا واجهته في إجراءات وتوصيات وثائق هذه المؤتمرات، ففي بعض الأحايين يكون الإجراء الواحد يتحدث عن عدة قضايا معاً، كالحديث عن المساواة، والأمراض الجنسية، والميراث، والتنفير من خفاض
الأنثى. وهذا الأمر يتكرر كثيراً، ومن يطّلع على إحدى وثائق هذه المؤتمرات، سيجد الأمر واضحاً.
4 - إن وثائق هذه المؤتمرات كتبت بلغة فيها تلاعب كبير بالألفاظ والمصطلحات، وفيها تمويه وتعمية - كما أشار إلى ذلك بعض من اطلع على هذه المؤتمرات، كالبيان الذي صدر عن هيئة كبار العلماء، وغيرهم من الدعاة والمصلحين والكتاب -، وهذا أمر مقصود؛ حتى لا يفهم المقصود من بعض التوصيات، فتوقع الدول المشاركة في هذه المؤتمرات على تلك التوصيات، دون معرفة بمغزاها الحقيقي( ).
وهذا مما دعاني - أحياناً - إلى الإطالة في ذكر بعض إجراءات مباحث الرسالة التي نصت عليها وثائق وتقارير هذه المؤتمرات؛ حتى يوضح بعضها بعضاً.
بالإضافة إلى أن كثرة ذكر الإجراءات في القضية الواحدة يجلي -بوضوح- محاولة الغرب فرض مشاكله التي يعيشها، ومحاولة علاجها من خلال هذه المؤتمرات، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: ما يتعلق بالاتصالات الجنسية المحرمة، وما ينتج عنها من أمراض جنسية مدمرة، فإن وثائق هذه المؤتمرات طافحة بالحديث عن الأمراض الجنسية وكيفية معالجتها.
خطة البحث:
يحتوي البحث على مقدمة وثلاثة أبواب وفصل ختامي وخاتمة وملاحق وفهارس.
- المقدمة:
وتشمل:
- أهمية الموضوع وأسباب اختياره.
- الدراسات السابقة.
- منهج البحث.
- خطة البحث.
* باب تمهيدي: الأسس العامة لقضايا المرأة في المؤتمرات الدولية.
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: العلمانية.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: العلمانية وعلاقتها بقضية المرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فكرة العلمانية.
المطلب الثاني: علاقة العلمانية بقضية المرأة.
المبحث الثاني: نقد العلمانية، وعلاقتها بقضية المرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد فكرة العلمانية.
المطلب الثاني: نقد علاقة العلمانية بقضية المرأة.
الفصل الثاني : الحرية عند الغرب.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الحرية عند الغرب وعلاقتها بقضية المرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فكرة الحرية عند الغرب.
المطلب الثاني: علاقة الحرية بقضية المرأة.
المبحث الثاني: نقد الحرية عند الغرب، وعلاقتها بقضية المرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد فكرة الحرية عند الغرب.
المطلب الثاني: نقد علاقة الحرية بقضية المرأة.
الفصل الثالث: العولمة والعالمية في الحضارة الغربية المعاصرة.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: فكرة العولمة والعالمية في الحضارة الغربية المعاصرة، وعلاقتها بقضية المرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: فكرة العولمة والعالمية في الحضارة الغربية المعاصرة.
المطلب الثاني: علاقة العولمة والعالمية بقضية المرأة.
المبحث الثاني: نقد فكرة العولمة والعالمية في الحضارة المعاصرة، وعلاقتها بالمرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد فكرة العولمة والعالمية في الحضارة الغربية المعاصرة.
المطلب الثاني: نقد علاقة العولمة والعالمية بقضية المرأة.
الباب الأول: العقد الأممي لقضايا المرأة في المؤتمرات الدولية.
وفيه مدخل وثلاثة فصول:
مدخل: عرض موجز للعقد الأممي.
الفصل الأول: المساواة في العقد الأممي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم المساواة، وعلاقته بالمرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم المساواة.
المطلب الثاني : علاقة مفهوم المساواة بقضية المرأة.
المبحث الثاني : نقد مفهوم المساواة، وعلاقته بالمرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد مفهوم المساواة.
المطلب الثاني: نقد علاقة مفهوم المساواة بقضية المرأة.
الفصل الثاني: التنمية في العقد الأممي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم التنمية وعلاقته بالمرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم التنمية.
المطلب الثاني: علاقة مفهوم التنمية بقضية المرأة.
المبحث الثاني: نقد مفهوم التنمية، وعلاقته بالمرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد مفهوم التنمية.
المطلب الثاني: نقد علاقة مفهوم التنمية بقضية المرأة.
الفصل الثالث: السلم في العقد الأممي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: مفهوم السلم وعلاقته بالمرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: مفهوم السلم.
المطلب الثاني: علاقة مفهوم السلم بقضية المرأة.
المبحث الثاني: نقد مفهوم السلم، وعلاقته بقضية المرأة.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد مفهوم السلم.
المطلب الثاني: نقد علاقة مفهوم السلم بقضية المرأة.
الباب الثاني : الإجراءات التنفيذية للعقد الأممي حول المرأة.
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول : الإجراءات في المجال الخلقي والاجتماعي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: بيان الإجراءات في المجال الخلقي والاجتماعي.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في المجال الخلقي.
المطلب الثاني: في المجال الاجتماعي.(31/447)
المبحث الثاني: نقد الإجراءات الخلقية والاجتماعية.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد الإجراءات في المجال الخلقي.
المطلب الثاني: نقد الإجراءات في المجال الاجتماعي.
الفصل الثاني : الإجراءات في المجال التعليمي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: بيان الإجراءات في المجال التعليمي.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إجراءات التعليم المختلط وتطويره.
المطلب الثاني: إجراءات تقديم الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكر.
المبحث الثاني: نقد الإجراءات التعليمية.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد إجراءات التعليم المختلط.
المطلب الثاني: نقد إجراءات تقديم الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكر.
الفصل الثالث: الإجراءات في المجال الصحي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: بيان الإجراءات في المجال الصحي.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الإجراءات المتعلقة بالإجهاض.
المطلب الثاني: الإجراءات المتعلقة بالنساء المصابات بالأمراض الجنسية.
المطلب الثالث: الموقف من خفاض الأنثى.
المبحث الثاني : نقد الإجراءات الصحية.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: نقد الإجراءات المتعلقة بالإجهاض.
المطلب الثاني: نقد الإجراءات المتعلقة بالنساء المصابات بالأمراض الجنسية.
المطلب الثالث: نقد الموقف من خفاض الأنثى.
الفصل الرابع : الإجراءات في المجال الاقتصادي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: بيان الإجراءات في المجال الاقتصادي.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إجراءات عمل المرأة.
المطلب الثاني: إجراءات حصول المرأة على الموارد الاقتصادية.
المبحث الثاني: نقد الإجراءات الاقتصادية.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: نقد إجراءات عمل المرأة.
المطلب الثاني: نقد إجراءات حصول المرأة على الموارد الاقتصادية.
الفصل الخامس : الإجراءات في المجال السياسي.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: بيان إجراءات مشاركة المرأة في الولايات العظمى للدولة ونقدها.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إجراءات مشاركة المرأة في الولايات العظمى للدولة.
المطلب الثاني: نقد إجراءات مشاركة المرأة في الولايات العظمى للدولة.
المبحث الثاني: بيان إجراءات مشاركة المرأة في الأنشطة السياسية ونقدها.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: إجراءات مشاركة المرأة في الأنشطة السياسية.
المطلب الثاني: نقد إجراءات مشاركة المرأة في الأنشطة السياسية.
فصل ختامي: في الموقف من المشاركة في هذه المؤتمرات.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: موقف المشاركين وحججهم.
المبحث الثاني: موقف المقاطعين وحججهم.
المبحث الثالث: الموقف الصحيح ومبرراته.
* الخاتمة : وتشمل:
أولاً: خلاصة البحث ونتائجه.
ثانياً: التوصيات.
* الملاحق.
* الفهارس.
* المراجع.
* شكر وتقدير:
وفي ختام مقدمة هذه الرسالة أشكر الله عز وجل على نعمه الكثيرة، ومنها: نعمة تيسير إنهاء هذا البحث، وكذلك أشكر والديّ الفاضلين اللذين كانا سبباً في وجودي - بعد الله جل وعلا -، كما أتقدم بالشكر لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ممثلة بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض، حيث أتاحت لي فرصة بحث ودراسة هذا الموضوع المهم في جنباتها.
كما أشكر كل من مد يد العون لي، ووجهني وأعانني بأي شكل من أشكال العون والمساعدة خلال فترة إعداد هذه الرسالة. سائلاً الله عز وجل أن يجزيهم عني خير الجزاء، وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم.
وأخص بجزيل الشكر، ووافر العرفان، المشرف على الرسالة، فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ محمد بن عبدالله عرفة، الأستاذ بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - سابقاً -، عضو مجلس الشورى - حالياً -، الذي غمرني بفضله، ووسعني بحسن خلقه، وفتح لي قلبه وداره، وأغدق عليّ من وقته وعلمه، وأحاطني باهتمامه ورعايته، طيلة فترة البحث، على الرغم من كثرة مشاغله، فجزاه الله عني خير الجزاء، ونفع به الإسلام والمسلمين.
كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى كل من أسدى إلي نصحاً وتوجيهاً، وبذل من وقته وفكره، وأخص منهم:
فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم بن ناصر الناصر، وفضيلة الدكتور عبدالله العويسي، وفضيلة الدكتور أحمد الحسيني، وغيرهم من المشايخ الأفاضل.
كما أتقدم بالشكر إلى الأستاذ عبدالعزيز بن حمد السحيباني، رئيس قسم المخطوطات بمكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض، حيث قدم لي جميع التسهيلات الممكنة منذ بداية البحث إلى نهايته. فجزى الله الجميع خير الجزاء، وجعل ما قدموه في موازين حسناتهم يوم القيامة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
باب تمهيدي:
الأسس العامة لقضايا المرأة في المؤتمرات الدولية
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: العلمانية.
الفصل الثاني : الحرية عند الغرب.
الفصل الثالث: العولمة والعالمية في الحضارة الغربية المعاصرة.
الفصل الأول:
العلمانية
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: العلمانية وعلاقتها بقضية المرأة.
المبحث الثاني: نقد العلمانية وعلاقتها بقضية المرأة.
المبحث الأول: العلمانية وعلاقتها بقضية المرأة.
المطلب الأول: فكرة العلمانية(31/448)
ويتضمن هذا المطلب ما يلي:
أولاً: العلمانية في الفكر الغربي.
ثانياً: العلمانية في الفكر العربي المعاصر.
ثالثاً: تاريخ نشأة العلمانية.
رابعاً: أسباب نشأة العلمانية.
أولاً: العلمانية في المفهوم الغربي:
يعود أصل كلمة العلمانية إلى اللغة اللاتينية: (( وهي مأخوذة من كلمة: ((SECULA r ISMوتعني الدنيا، أو الدنيوية أو غير دينية)) ( ).
((والعَلْماني (SECULA r ) نسبة إلى العَلْم بمعنى العالَم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي)) ( ).
أما دائرة المعارف البريطانية فهي تتحدث عن العلمانية تحت مادة (SECULA r ISM) فتقول: ((إنها حركة اجتماعية تهدف إلى إبعاد الناس عن الاهتمام بالآخرة، وذلك بعد أن انصرف الناس الانصراف الكلي للتأمل بالآخرة خلال القرون الوسطى، فجاءت هذه النزعة نتيجة لأسباب عدة، لتنمو فيما بعد وتصبح اتجاهاً مضاداً للدين)) ( ).
وضمن هذا التعريف يمكن أن نقول: إن العلمانية حركة تأريخية حملت الأفراد داخل المجتمع الغربي من الحكم الثيوقراطي( ) - أي الديني - إلى المدنية الأرضية. وفي هذا السياق، لم يعد الإنسان مجبراً على تنظيم أفكاره، وأعماله وفق معايير فُرضت على أنها إرادات إلهية، بل إنه يجد مبادئ ومقاييس وجوده وعلاقاته في ذاته لا خارجها ( ).
ويقول قاموس (وبستر) " العالم الجديد "، شارحاً المادة نفسها:
((1- الروح الدنيوية أو الاتجاهات الدنيوية - ونحو ذلك -. وهي على الخصوص: نظام من المبادئ والتطبيقات ( P r ACTICES ) يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة.
2- الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لا دخل لها في شؤون الدولة - خاصة التربية العامة-))( ).
ويقول معجم (أكسفورد) شرحاً لكلمة ( Secula r ):
((1- دنيوي، أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً؛ مثل التربية غير الدينية، أو الفن، أو الموسيقا غير الدينية، أو السلطة غير الدينية (الحكومة المناقضة للكنيسة).
2- الرأي الذي يقول بأنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية))( ).
ويقول المستشرق ( أربري ) في كتابه (الدين في الشرق الأوسط) عن الكلمة نفسها : ((إن المادية العلمية، والإنسانية، والمذهب الطبيعي، والوضعية كلها أشكال اللادينية، واللادينية صفة مميزة لأوربا وأمريكا، ومع أن مظاهرها موجودة في الشرق الأوسط فإنها لم تتخذ أي صيغة فلسفية أو أدبية محددة، والنموذج الرئيسي لها هو فصل الدين عن الدولة في الجمهورية التركية)) ( ).
ومما سبق عن مفهوم العلمانية في الفكر الغربي الأوربي، تبين لنا أن العلمانية نسبة غير صحيحة إلى العلم؛ لأنها لا ترتبط بالعلم من حيث اشتقاقها اللغوي، ولكنها لا تنفك عنه من حيث ظهورها؛ لأن كلمة العلمانية عندما ترجمت إلى اللغة العربية إنما ترجمت بهذا اللفظ - العلمانية - [ذات الصلة اللفظية بالعلم]؛ لأن الذين تولوا الترجمة لم يفهموا من كلمتي الدين والعلم إلا ما يفهمه الغربي النصراني منها، والدين والعلم في مفهوم الإنسان الغربي متضادان متعارضان، فما يكون دينياً لا يكون علمياً، وما يكون علمياً لا يكون دينياً، فالعلم والعقل يقعان في مقابل الدين، والعلمانية والعقلانية في الصف المضاد للدين ( ).
ثانياً: مفهوم العلمانية في الفكر العربي المعاصر:
عندما نقلت العلمانية إلى اللغة العربية لم تُنقل بمعناها (غير دينية)، وإنما ترجمت إلى كلمة: (العلمانية)، وتم تداولها على لسان المفكرين والسياسيين، حيث اتخذها بعضهم دعوة يبشرون بها، وآخرون عملوا على محاربتها.
وحينما نُقلت هذه الكلمة إلى العالم الإسلامي - بمفهومها ونظامها -، تم ربطها بالعلم الذي يحبه المسلمون، ((وساعدهم في هذا الأمر أن العلم الأوربي التجريبي قد نما وازدهر في عهد محاربة الدين ونبذ الكنيسة التي ناصبت العداء للعلم والعلماء)) ( ).
وهناك من ينطقونها بكسر العين (العِلْمانية) نسبة إلى (العِلْم) بكسر فسكون - وهذا هو الأشهر -، ومن ينطقونها بفتح العين (العَلْمانية) نسبة إلى (العَلْم) بفتح فسكون، بمعنى (العالم)، أي الدنيا وعليه جرى المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية.
والكلمة - على كل حال كسرت عينها أو فتحت - مترجمة عن اللغات الأوربية - كما تم بيان ذلك -. وكان يمكن أن تترجم بلفظة (غير دينية)؛ لأن معنى الكلمة الأجنبية ما ليس بديني، وكل ما ليس بديني، هو غير ديني، ولكن اختيرت كلمة (علماني)، - أو مدني -؛ لأنها أقل إثارة من كلمة (غير ديني)( ).
وكما أن لفظ الكلمة دخيل على معاجمنا العربية، فإن معناها ومدلولها - سواء أكانت بكسر العين أو فتحها - ما يقابل (الدين)، فالعلماني ما ليس بديني، ومقابله الديني، أو الكهنوتي، وكأن مدلول (العِلمانية) المتفق عليه يعني: عزل الدين عن الدولة، وعن حياة المجتمع، وإبقاءه حبيساً في ضمير الفرد، لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه، فإن سمح له بالتعبير عن نفسه، ففي الشعائر التعبدية، والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة، ونحوها( ).(31/449)
* أول من دعا إلى العلمانية في المجتمع الإسلامي:
ليس غريباً أن يكون أول من دعا إلى العلمانية - في العالم الإسلامي - بشعارها الصريح أو تحت أسماء أخرى كالقومية والوطنية هم نصارى الشرق، فإن الحياة المطمئنة التي كفلها لهم المجتمع الإسلامي - بل مراعاتهم في كثير من الأحيان - لم تؤد إلى شكر هذا المجتمع على هذه المعاملة الحسنة، بل على العكس من ذلك، فقد كانوا يدركون أن هيمنة الشريعة الإسلامية على الحياة لا تمكنهم من الحصول على شهواتهم وأهوائهم؛ فاستماتوا - من أجل ذلك - في سبيل إنهاء هذه الهيمنة وإحلال الأنظمة غير الدينية محلها، وانطلاقاً من ذلك وجد المخطط اليهودي الصليبي فيهم بغيته المنشودة لهدم الخلافة الإسلامية، وبالتالي القضاء على الحكم الإسلامي، وذلك بعزل الشريعة عن ميدان الحياة وتوجيه المجتمع.
ولم يكن يخفى على هؤلاء ما ألحقته العلمانية بدينهم في أوربا، بل إن ذلك هو الدافع للمناداة بها في الشرق لكي تقضي على الإسلام أيضاً.
وقد كان يروج للعلمانية في العالم الإسلامي بمجموعة من الأكاذيب، منها:
1 - أنها سر التقدم في أوربا.
2 - أنها الأسلوب الوحيد لتحرير العلم من الدين.
3 - أن الإسلام الحاكم للحياة الدنيا قضية مرفوضة أساساً، وأنه - أي الإسلام الحاكم - أثبت فشله في التطبيق.
4 - أن العلمانية لا تتعارض مع الإسلام ( ).
ثالثاً: نشأة العلمانية وتاريخها:
كان الغرب النصراني في ظروفه الدينية المتردية هو البيئة الصالحة، والتربة الخصبة التي نبتت فيها شجرة العلمانية وترعرعت، وقد كانت فرنسا بعد ثورتها المشهورة هي أول دولة تقيم نظامها على أساس الفكر العلماني، ولم يكن هذا الذي حدث من ظهور الفكر العلماني والتقيد به، بما يتضمنه من إلحاد، وإبعاد للدين عن كافة مجالات الحياة، بالإضافة إلى بغض الدين ومعاداته، ومعاداة أهله، أقول لم يكن هذا حدثاً غريباً في بابه؛ ذلك لأن الدين عندهم حينئذ لم يكن يمثل وحي الله الخالص الذي أوحاه الله إلى عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام -، وإنما تدخلت فيه أيدي التحريف والتزييف، فبدلت وغيرت، وأضافت وحذفت، فكان من نتيجة ذلك أن تعارض الدين المبدل مع مصالح الناس في دنياهم أو معاملاتهم، في الوقت نفسه الذي تعارض مع حقائق العلم الثابتة، ولم تكتف الكنيسة - الممثلة للدين عندهم - بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل، حتى جعلت ذلك ديناً يجب الالتزام والتقيد به وحاكمت إليه العلماء المكتشفين، والمخترعين، أو عاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية المناقضة للدين المبدل، فاتهمتهم بالزندقة والإلحاد، فقتلت من قتلت، وحرقت من حرقت، وسجنت من سجنت( ).
ومن جانب آخر فإن الكنيسة - الممثلة للدين عند النصارى - أقامت تحالفاً غير شريف مع الحكام الظالمين، وأسبغت عليهم هالات من التقديس والعصمة، أو سوغت لهم كل ما يأتون به من جرائم وفظائع في حق شعوبهم، زاعمة أن هذا هو الدين الذي ينبغي على الجميع الرضوخ له والرضا به.
ومن هنا بدأ الناس هناك يبحثون عن مهرب لهم من سجن الكنيسة ومن طغيانها.
ولم يكن مخرجهم الذي اختاروه - إذ ذاك -، إلا الخروج على ذلك الدين الذي يحارب العلم ويناصر المجرمين، والتمرد عليه، وإبعاده وطرده، من كافة جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والأخلاقية، وغيرها ( ).
ولقد كان للنصارى العرب المقيمين في بلاد المسلمين دور كبير، وأثر خطير، في نقل الفكر العلماني، كما كان أيضاً للبعثات التعليمية التي ذهب بموجبها طلاب مسلمون إلى بلاد الغرب لتلقي أنواع العلوم الحديثة أثر كبير في نقل الفكر العلماني ومظاهره إلى بلاد المسلمين، حيث افتتن الطلاب هناك بما رأوا من مظاهر التقدم العلمي وآثاره، فرجعوا إلى بلادهم محملين بكل ما رأوا من عادات وتقاليد، ونظم اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، عاملين على نشرها والدعوة إليها، في الوقت نفسه الذي تلقاهم الناس فيه بالقبول الحسن، توهماً منهم أن هؤلاء المبعوثين هم حملة العلم النافع، وأصحاب المعرفة الصحيحة، ولم تكن تلك العادات والنظم والتقاليد التي تشبع بها هؤلاء المبعوثون وعظموا شأنها - عند رجوعهم إلى بلادهم -، إلا عادات وتقاليد ونظم مجتمع رافض لكل ما له علاقة أو صلة بالدين( ).
ومما يدل على خطورة هذا الأمر ما أشار إليه أحد رموز الغرب( )، حيث يقول: ((كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء من إفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في {أمستردام، ولندن، والنرويج، وبلجيكا، وباريس}، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو، ويتعلمون لغتنا، وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم - أحياناً - زيجات أوربية، ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية.(31/450)
كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوربا، ثم نرسلهم إلى بلادهم وأي بلاد؟! بلاد من كانت أبوابهم مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة لهم رجساً ونجساً، ولكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم كنا نصيح من أمستردام، أو باريس، أو برلين: (الإخاء البشري)، فيرتد رجع أصواتنا من أقاصي إفريقيا، أو الشرق الأوسط، أو شمالي إفريقيا، كنا نقول: ليحل المذهب الإنساني - أو دين الإنسانية - محل الأديان المختلفة، وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم، وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم)) ( ).
رابعاً: أسباب نشأة العلمانية:
سأذكر هنا الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في بداية التاريخ الحديث للغرب، وكل هذه الأسباب راجع إلى أخطاء من يسمون عندهم برجال الدين - وليس الدين ذاته -، وتتمثل هذه الأسباب - باختصار شديد - فيما يلي:
- الحجر على العقول وتكبيل كل إبداع فكري:
نشأ النزاع بين العلم والدين المحرف في أوربا، فأخمدت شعلة العلم وانتصر الدين المحض، من خلال سلسلة الاضطهادات التي ابتلي بها رجال العلم بدوافع دينية سوغت لها الكنيسة مسبقاً.
- الحجر على القلوب:
المتمثل في صكوك الغفران، وهو عبارة عن قطعة من الورق كان يبذل فيها الوعد للمذنب لقاء قدر من المال بإنقاص المدة التي سوف يمكثها في المطهر.
- تحالف الكنيسة مع الأسر الحاكمة:
حيث كانت الأخيرة تستمد بقاءها من صلتها النسبية بأحد القساوسة أو المطارنة، ولا يبالي الشعب بتصرفاتهم بعد ذلك - مهما كانت -؛ لأنهم مقدسون بالصلة النسبية - حسب زعمهم -.
- تحريف الكنيسة للتعاليم النصرانية:
لقد بلغ سخط الشعب الأوربي ذروته عندما أضاف رجال الدين إلى التعاليم النصرانية اختلافات مستمدة من الوثنية اليونانية التي عملت على مسخ الدين النصراني.
ومن الأمور التي حرفتها الكنيسة:
- الختان، فقد كان واجباً ثم أصبح حراماً.
- الميتة، إذ كانت محرمة فأضحت مباحة.
- الزواج، فقد كان حلالاً لرجال الدين، فأصبح محظوراً…، إلى غير ذلك من الانحرافات.
- اضطهاد الأقليات الطائفية:
وقد تمثل هذا الاضطهاد في حروب الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا.
- دور اليهود:
كان على اليهود الموجودين في أرجاء أوربا، اختراق المجتمع النصراني، فالعداء قديم جداً بين اليهودية والنصرانية لذلك استغل اليهود ثغرة العداء بين عامة الناس والكنيسة، ودعوا من خلال ذلك إلى إبعاد الدين النصراني عن ساحة الحكم( ).
ونخلص مما سبق عن العلمانية بأنها مفهوم غربي سياسي نشأ حوالي القرن التاسع عشر الميلادي، فأدى إلى إبعاد الدين عن الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والثقافية، وكان لب العلمانية هو نبذ الدين وإقصاءه عن الحياة العملية.
المطلب الثاني: علاقة العلمانية بقضية المرأة
أولاً: العلمانية وقضية المرأة:
عندما نظر دعاة العلمانية إلى المرأة في جميع مجالات الحياة، لم يفرقوا بينها وبين الرجل في الناحية الاجتماعية، أو السياسية، أو الاقتصادية.
ونبذت أوربا الدين والأخلاق، وأصبحت القيم العليا عندها هي المصلحة وحدها؛ لأن الدين الذي نبذته أوربا حين قامت علمانيتها لم يكن حقيقة الدين المنزل من السماء، بل كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الأوربية، أو في أفكار الناس ووجدانهم.
ونورد هنا بعض الأمثلة على واقع المرأة في الغرب، ولعل أبرز ما يتعلق بالمرأة: القضايا الاجتماعية والأخلاقية، وإن المصائب التي يوقعها المجتمع على المرأة هي في الواقع معاول تهدم المجتمع بكامله؛ لأنه لا انفصام بين مشكلة المرأة في ذاتها، ومشكلة المجتمع الذي تعيش فيه تلك المرأة.
كان مفهوم دعوى (تحرير المرأة) - السائد في أوربا - يؤكد أن على المرأة أن تنبذ الدين لتحصل على حقوقها، فإذا لم تنبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق.
وهكذا أرادوا من المرأة أن تتحرر من دينها، ومن شرفها، ومن قيمها؛ حتى يتهدم بيتها، ومن ثم يتهدم المجتمع، وتنتشر الفوضى والرذيلة، ولم يكتفوا بذلك، بل أرادوا أن يهدموا المجتمع المسلم - وذلك من خلال الذين تربوا على موائدهم وشربوا من ألبانهم -، فقاموا بدورهم خير قيام ونفذوا تعاليم أسيادهم ونشروا الفساد في الأرض وادعوا أن الإسلام ظلم المرأة … إلى غيرها من الدعاوى الباطلة.
ومن أمثلة هؤلاء (رفاعة الطهطاوي) ( )، فكل ما كتبه إنما هو صدى لتفكير أوربا - وبخاصة فرنسا -، وأفكاره تظهر - لأول مرة - في المجتمع المسلم، فقد وضع البذور؛ من أجل الأخذ بنظم الغرب العلمانية، ثم تعهد هذه من جاء بعده بالسقي والرعاية، حتى نمت وضربت جذورها في الأرض( ). ((فلأول مرة في البيئة المسلمة نجد كلاماً عن الحرية بوصفها الأساس في نهضة أية أمة، وفي تقدمها..، ثم نرى - بعد ذلك - كلاماً كثيراً عن المرأة، لا شك أنه من وحي الحياة الاجتماعية الأوربية، مثل: تعليم البنات، ومنع تعدد الزوجات، واختلاط الجنسين)) ( ).(31/451)
وكذلك من هؤلاء ( )من له مقال أسماه (ردة في عالم المرأة( )) يهاجم فيه المرأة المسلمة، ويهاجم الدين والمتدينين، ويدعو فيه المرأة المسلمة إلى خلع الحجاب، وإلقائه في البحر؛ ليصبح نسياً منسياً!!، كما يدعو المرأة المسلمة إلى محاكاة المرأة الغربية في كل ما تأتي وما تذر( ).
فالقضية - إذن - ليست تشكيكاً وشبهات، بل سلخ وعلمنة واجتثاث، ثم محاولة للإذابة في كيان آخر وثقافة مغايرة، هي العلمانية التي يرون أنها الأحدث والأرقى ( ).
وكانت بعض الجوانب الاجتماعية تحكمها أعراف مستمدة من روح الدين، ومن ذلك الحفاظ على الأسرة، والزواج المبكر، وقوامة الرجل وقيامه بالإنفاق، واستقرار المرأة في بيتها وتفرغها للأمومة وتدبير المنزل ورعاية النشء، ومحافظتها على عرضها قبل الزواج وبعده، واعتبار ذلك جزءاً من مقومات الأسرة وركناً أساسياً من أركانها، والتعاون بين أفراد المجتمع..، وما إلى ذلك من العلاقات الاجتماعية القائمة على وصايا الدين، ولكن ذلك كله لم يرق لأعداء الدين فقرروا تغييره، وإنشاء بديل منه لا يقوم على أساس الدين.
كان التغيير في المبدأ هو تغيير (السند)، أو (المنبع)، مع محاولة المحافظة على شيء من الأخلاق، أي البحث عن منبع آخر للقيم الاجتماعية غير الدين، فليكن هو (الطبيعة)، أو ليكن هو (النفس الإنسانية) ذاتها…، المهم ألا يكون المرجع الذي تستمد منه القيم هو الوحي الرباني.
ولكن القيم لم تكن لتستمر في فاعليتها بعد أن تنقطع عن معينها الحقيقي - وهو الدين والوحي الرباني -، ثم إن الهزات العنيفة التي أحدثتها الثورة الصناعية في أوربا جاءت والقيم مهتزة بالفعل، قائمة على غير أساس حقيقي يقيها من الهزات، فإذا انهارت هذه القيم سريعاً فلا عجب، وإذا أفلح المفسدون في هدمها بوسائلهم الشريرة بعد أن استعصت عليهم خلال عدد يتطاول من القرون فلا عجب كذلك…، فالجدار القائم على غير أساس ينتظر من يهزه ليسقط إذا لم يتداع من تلقاء نفسه، بينما الجدار القائم على أساس متين لا يتزلزل إلا بالجهد الجهيد( ).
ثانياً: أثر الثورة الصناعية:
جاء أصحاب الثورة الصناعية فحرروا المرأة - أي استعبدوها -، وحرروا الرجل - كذلك -؛ لأغراضهم الخاصة. وكانت أغراضهم قدراً من الشر لا يخطر على بال الإنسان.تحررت المرأة فتحللت من القيود كلها، وفي مقدمتها قيود الدين وقيود الأخلاق. وطالبت بالمساواة الكاملة مع الرجل فرفضت أن يكون قيماً عليها؛ لأن القوامة لا تصلح بين الأنداد، واشتغلت، فانشغلت عن مهمتها الأولى في تربية النشء..، وتفككت الأسرة وانحل البيت وتشرد الأطفال، وتكونت منهم عصابات جانحة ترتكب الجرائم لمجرد سد الفراغ.
وانحلت روابط المجتمع فصار كل إنسان يعيش وحده حتى الأسرة … الزوج له عمله ومغامراته، والزوجة لها عملها ومغامراتها..، والأولاد يغادرون البيت في سن معينة ولا يعودون بعد ذلك، ولا يربطهم بالأب أو الأم رباط، إلا زيارات خاطفة في مناسبات متباعدة في أحسن الأحوال.
ويكبر الأبوان في تلك العزلة الباردة فلا يجدان من يطرق عليهما الباب..، فينشدان سلواهما في الكلاب! وانتشر الشذوذ لأسباب كثيرة، من بينها - كما يقولون هم بأفواههم - رفض المرأة للقوامة وضياع سيطرة الأب( ).
وفي جانب آخر من الأرض قامت فلسفة بشرية مغايرة، وإن كانت تشترك معها في تحطيم كيان الأسرة …، وتشترك معها في حل روابط المجتمع ولكنها تختلف عنها في الطريقة.
في الأولى: يتم تحطيم المجتمع عن طريق تضخيم الفرد وجعله هو الأساس الذي تفرد بذاتيته الزائدة عن الحد.
وأما الثانية: فتجعل المجموع هو الأساس لا الفرد، فتسحق الفرد من أجل المجموع، ثم تعود فتحطم المجتمع نتيجة تحويله إلى مجموعة من الأصفار كل منهم بلا مشاعر ولا كيان ( ).
وكانت الكنيسة تردد ما قالته الأساطير الإغريقية من أن المرأة هي سبب الشر في الأرض، وهو ما عمقته التوراة المحرفة، بجعلها المرأة سبباً في إغواء الرجل والوقوع في الخطيئة.
وبقيام الثورة الفرنسية بدأت الشرارة الأولى في القضية التي سميت (قضية المرأة) وتعتقد إحدى النساء الغربيات ( ): ((أن الثورة في ظاهرها لم تفد النساء فائدة مباشرة، وترى أن فائدتها تعود إلى أن النظرية المعنوية للحرية البشرية قد ساءت، وكان لابد من أن تظهر دلائلها إن عاجلاً وإن آجلاً)) ( ).
وعندما خرجت المرأة من بيتها وزاحمت الرجال سموا هذا التحول الاجتماعي (تحريراً للمرأة)، وقد انتشر هذا الاصطلاح في الصحافة حتى صار رمزاً خدّاعاً للمخطط الصهيوني الذي يخططون له في الخفاء، ويسعون إلى تحقيقه في أرض الواقع، ولقد كانت جهود المستشرقين منصبة على القضاء على الكيان الإسلامي الضخم، وسد كل الطرق التي قد تهيئ لبعث الحياة فيها ( ).
ثالثا: قضية حقوق المرأة في العالم الإسلامي:
لقد ركز أعداء الإسلام على قضية حقوق المرأة - وهم يعلمون أنها دعوى باطلة -؛ لأنهم يعلمون نتائجها المتعددة، التي منها:
- الطعن في الشريعة ذاتها؛ لأنها سبب احتقار المرأة بزعمهم.
- نشر الإباحية والانحلال في المجتمع الإسلامي.(31/452)
- القضاء على الأسرة، ومن ثم تجهيل النشء بدينه، وتربية أبناء الإسلام كما يشاءون.
فقالوا بأن الإسلام يحتقر المرأة لذاتها، ولا يجعل لها قيمة معنوية سوى الاستمتاع المجرد، وأنه يبيح بيع وشراء وسبي النساء، وأنه يوجب على المرأة أن تعيش وتموت جاهلة مهملة بما يفرض عليها من الحجاب…، ومزاعم أخرى كثيرة روجوا لها، وكان الواقع السيئ يمدهم بأدلتها ليسهل لهم إثارة هذه القضية( ).
لقد كان مفهوم حقوق المرأة في أوربا مرتبطاً بتحريرها من الدين، فإذا لم تنبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق، ودعا لهذا المفهوم المبتعثون إلى أوربا- كما سبقت الإشارة إلى ذلك -.
وبدؤوا ينشرون سمومهم في المجتمع، حتى قيل صراحة: إن الحجاب وسيلة إلى نشر الفواحش، وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة، ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق.
وهكذا نجحت العلمانية في إفساد المرأة المسلمة وإشاعة الدياثة في المجتمع، فوضعت المخططات الماكرة لهدم المجتمعات الإسلامية -وينطبق هذا الأمر على المطالبين بالمساواة بين الجنسين في الخروج إلى العمل، وفي كافة مناحي الحياة-، وهذه الدعوة العلمانية أعقبتها فتنة عظيمة فانحسر الحجاب، وعمّ السفور واختلط الرجال بالنساء بحجة زمالة التعليم والعمل، وأصبحت الأخلاق في خطر عظيم، وانحلت الأسر، وضاع الأولاد.
إن ما يريده أعداء الإسلام اليوم، هو سلب المرأة كرامتها وانتزاع حقوقها.
إن أعداء الإسلام اليوم - بل أعداء الإنسانية من الكفار والمنافقين والذين في قلوبهم مرض - أغاظهم ما نالته المرأة المسلمة من كرامة وعزة وصيانة في الإسلام؛ لأن أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين يريدون أن تكون المرأة أداة تدمير، وحُبالة يصطادون بها ضعاف الإيمان وأصحاب الغرائز الجانحة، بعد أن يشبعوا منها شهواتهم المسعورة، كما قال الله تعالى: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ( ( ).
والذين في قلوبهم مرض من المسلمين يريدون من المرأة أن تكون سلعة رخيصة في معرض أصحاب الشهوات والنزعات الشيطانية.. سلعة مكشوفة أمام أعينهم يتمتعون بجمال منظرها أو يصلون منها إلى ما هو أقبح من ذلك.
ولذلك حرصوا على أن تخرج من بيتها لتشارك الرجال في أعمالهم جنباً إلى جنب، أو لتخدم الرجال ممرضة في المستشفى، أو مضيفة في الطائرة، أو دارسة أو مدرسة في فصول الدراسة المختلطة، أو ممثلة في المسرح، أو مغنية، أو مذيعة في وسائل الإعلام المختلفة، سافرة فاتنة بصورتها وصوتها.
واتخذت المجلات الخليعة من صور الفتيات الفاتنات العاريات وسيلة لترويج مجلاتهم وتسويقها. واتخذ بعض التجار وبعض أصحاب المصانع من هذه الصور أيضاً وسيلة لترويج بضائعهم حيث وضعوا هذه الصور على معروضاتهم ومنتجاتهم.
وبسبب هذه الإجراءات الخاطئة تخلت النساء عن وظيفتهن الحقيقية في البيوت، مما اضطر أزواجهن إلى جلب الخادمات الأجنبيات لتربية أولادهم وتنظيم شؤون بيوتهم، مما سبب كثيراً من الفتن وجلب شروراً عظيمة ( ).
رابعاً: مطالب دعاة حقوق المرأة:
1 - المطالبة بالمساواة:
وبعد الاختلاط، ومزاولة العمل في المكاتب الرسمية، وفي إدارة الشركات وإنتاجها، تطلعت المرأة إلى المساواة مع الرجل في جميع مجالات الحياة المختلفة، كالمساواة في الحقوق الاقتصادية - مثل الوظيفة، وأجر العمل، والميراث ( )-، والمساواة في الحقوق السياسية - كحق التصويت، والمشاركة في الانتخابات، وتسلم الوظائف السياسية العليا ( ) -.
2 - المطالبة بالاستقلال الاجتماعي( ):
وصل الحال بحرية المرأة الشخصية إلى رفض الزواج كنظام في بناء الأسرة، وإيثار العلاقة المؤقتة بين الرجل والمرأة على السكن والإقامة المستمرة، وممارسة العلاقة الجنسية بينهما؛ كي تبتعد كلية عن قيود الطلاق المعقدة هناك، وهي التي تفرضها المجتمعات الغربية في الأحوال الشخصية ( ).
المبحث الثاني: نقد العلمانية
المطلب الأول: نقد فكرة العلمانية.
ويتضمن هذا المطلب:
1 - مدخل. 2 - آثار العلمانية على المجتمع المسلم. 3 - بيان مخالفتها للحضارة الإسلامية.
1 - المدخل:
العلمانية فكرة مستوردة، لا يماري في ذلك أحد من دعاتها، ومعنى ذلك - بداهة - أنها ليست من صميم الإسلام، ولا هي حتى من إنتاج المنتسبين إليه، وهذه بضاعة نحن في غنى عنها، وإن كانت نافعة ومجدية بالنسبة للمجتمعات والظروف التي أنتجتها.
إن العلمانية كانت رد فعل طارئ لدين محرف، وأوضاع خاطئة كذلك، فأوربا نكبت بالكنيسة وتعاليمها المحرفة وطغيانها الأعمى، وسارت أحقاباً من الدهر تتعثر في ركابها، ثم انتفضت عليها وتمردت على سلطتها، فانتقلت إلى انحراف آخر، وسارت في خط مضاد هو أعظم خطراً وأسوأ مصيراً.
انتقلت من جاهلية تلبس مسوح الدين إلى جاهلية ترتدي مسوح التقدم والتطور، وهربت من طغيان رجال الدين والإقطاعيين فوقعت في قبضة الرأسماليين وأعضاء الحزب الشيوعي( ).
ويا ليتهم إذ خرجوا على هذا الدين المبدل اهتدوا إلى دين الإسلام، بل إنهم أعلنوها حرباً على الدين عامة.(31/453)
وإذا كان هذا الذي حدث في بلاد الغرب النصراني ليس بغريب، فإنه غير ممكن في الإسلام - بل ولا متصور الوقوع -، فوحي الله في الإسلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأن الله حفظه من التحريف والتبديل، ولا يمكن أن يزاد فيه أو ينقص منه - للسبب ذاته -، وهو - في الوقت نفسه - لا يحابي أحداً - سواء كان حاكماً أو محكوماً -، فالكل أمام شريعته سواء، وهو - أيضاً - يحافظ على مصالح الناس الحقيقية، فليس فيه تشريع واحد يعارض مصلحة البشرية، وهو أيضاً يحرص على العلم ويحض عليه، وليس فيه نص شرعي صحيح يعارض حقيقة علمية( ).
إن تقسيم شؤون الحياة إلى ما هو ديني، وغير ديني، تقسيم غير إسلامي، بل هو مستورد مأخوذ من الغرب النصراني. وما نراه اليوم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من تقسيمات للحياة، وللناس، وللمؤسسات إلى ديني، وغير ديني، ليس من الإسلام في شيء.
لم يكن في الإسلام - كما في عصورنا الأخيرة إلى اليوم - تعليم ديني وتعليم غير ديني، ولم يكن في الإسلام أناس يسمون رجال الدين، وآخرون يسمون رجال العلم أو السياسة أو الدنيا.
ولم يعرف الإسلام سلطتين: إحداها دينية، والأخرى زمنية أو دنيوية، ولم يُعرف في تراث الإسلام دين لا سياسة فيه، ولا سياسة لا دين لها.
لقد كان الدين نموذجاً ممتزجاً بالحياة كلها، امتزاج الروح بالجسم فلا يوجد شيء منفصل اسمه الروح، ولا شيء منفصل اسمه الجسم، وكذلك كان الدين والعلم، أو الدين والدنيا، أو الدين والدولة في الإسلام.
إن العلمانية (بضاعة غربية) لم تنبت في أرضنا، ولا تستقيم مع عقائدنا ومسلماتنا الفكرية( ).
إن الإسلام حق كله، خير كله، عدل كله، ومن هنا فإن كل الأفكار والمناهج التي ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والتخلص منه، ما كان لها أن تظهر بل ما كان لها أن تجد آذاناً تسمع في بلاد المسلمين لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة التي صادفت - في الوقت نفسه -، قلوباً من حقائق الإيمان خاوية، وعقولاً من التفكير الصحيح عاطلة، ودنيا في مجال التمدن ضائعة متخلفة ( ).
2 - آثار العلمانية على المجتمع المسلم:
كان لتسرب العلمانية إلى المجتمع الإسلامي أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم، وهذه بعض آثار العلمانية الخبيثة:
- رفض الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى.
- تحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه.
- إفساد التعليم عن طريق بث الأفكار العلمانية، وتقليص المواد الدينية، ومنع تدريس النصوص التي تكشف زيفهم، وإبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس.
- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية.
- محاربة الدعوة الإسلامية.
- مطاردة الدعاة إلى الله عز وجل.
- إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله.
- الدعوة إلى القومية والوطنية ( ).
(( إن العلمانية لا بد أن تمارس الانحرافات التالية: (1) - أنها تمنع الحواجز المقفلة بين عالمي الروح والمادة. (2) - لا تنظر إلى القيم الروحية نظرة إيجابية. (3) - وهي كذلك تحكم على الإنسان بالتشتت. (4) - تتناقض مع نفسها عندما تريد فصل الدين عن السياسة؛ لأن هذه أداة غير أخلاقية.. فهي تأخذ بمبدأ الغاية تبرر الواسطة، وتمارس هذا المبدأ غير الأخلاقي باسم التحرر، والتقدمية، والإنسانية. (5) - العلمانية تعتقد بأن الدين بعيد عن السياسة، وفي هذا جهل تام بطبيعة كل من الدين والسياسة)) ( ).
إن العلمانية - باختصار - نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض - تماماً - مع شهادة « لا إله إلا الله » من ناحيتين أساسيتين متلازمتين:
الأولى: من ناحية كونها - أي العلمانية - حكماً بغير ما أنزل الله.
الثانية: من ناحية كونها شركاً في عبادة الله.
إن العلمانية تعني - بداهة - الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة الله، وقبول الحكم والتشريع من دون الله، والطاعة والاتباع للطواغيت، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين، أو بعبارة أخرى فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة، ومن ثم فهي نظام جاهلي لا مكان لمعتقداته، ولا لنظامه، ولا لشرائعه في دائرة الإسلام. بل هو نظام كافر بنص القرآن الكريم( )، قال سبحانه وتعالى: ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( ( ).
إن الإسلام - الدين الحق - لم يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أي لم يعزل أمور الدولة عن المجتمع، وأيضاً فهو لم يضع لدولة المسلمين النظم والقوانين والنظريات، وإنما اتخذ لنفسه موقفاً وسطاً في هذا الميدان. منسقاً - في ذلك - مع النمط الذي يتميز به في العديد من الأمور، فلأنه - أي الإسلام - الشريعة الخاتمة، ولأن أمور الدولة والمجتمع والحياة في تطور مستمر لا يتوقف، وفي تسارع دائم، لم يشأ الله عز وجل أن يوحي بنصوص حاكمة مفصلة، ضابطة لكل أمر من الأمور الثلاثة - التي مر ذكرها -، على عكس موضوع المرأة في الإسلام، إذ جعله الله في أحكام مفصلة تضبطه؛ لأنه غير قابل للتطور مع استمرار الحياة.(31/454)
ولأنه - أي الإسلام -لم يتخير موقف (الفصل بين الدين والدنيا) - والدولة جزء منها- كان انحيازه لموقف (التمييز) بينهما. فلا فصل ولا وحدة، وإنما تمييز، فهو لا يضع النظم، ولا النظريات، ولا القوانين، التي تركها للعقل والتجربة، وإنما وضع الفلسفة، والمثل، والمعايير، والمقاصد، والغايات التي تحكم أطر هذه النظريات، والنظم، والقوانين.
فهو - مثلاً - قد جعل الشورى فلسفة للنظام السياسي، دون أن يضع نظاماً سياسياً، وجعل ملكية رقبة المال والثروة لله سبحانه وتعالى، وجعل الإنسان خليفته ونائبه ووكيله في هذا المال، وتلك هي فلسفة نظامه المالي، الذي يتحدد ويتطور على النحو الذي يقترب بالإنسان من تحقيق هذه الفلسفة، كما جعل (المصلحة) ونفي (الضرر والضرار) المعيار الذي يحكم أطر النظم، والقوانين، والنظريات، على اختلاف العصور والنظم والحضارات ( ).
3 - مخالفتها للحضارة الإسلامية:
إن الإسلام لا يعرف الكهنوت، ولا يقف حجر عثرة في وجه العقل البشري، وإنما ينميه ويوجهه، ويرفع مكانته، وقد لفت القرآن الكريم أنظار الناس إلى الكون وما فيه، وحث على تدبره والإفادة منه، وجعل ذلك سبيل الاستدلال الفطري على توحيد الله تعالى، كما قال تعالى: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ( ( )، وقال عز وجل: ( أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(20) ( ( ).
إن الإيمان بالله يقتضي تحكيم شريعته في الحياة كلها، وليس في حياة الإنسان الخاصة وحدها، وإلا كان كفراً صريحاً.
ليس هناك شيء لله وآخر للناس - ولو كانوا قياصرة -؛ لأن الكون كله لله، فالإسلام يجعل الحياة كلها متجهة نحو خالقها في اتباع هديه وابتغاء
مرضاته، أي أن الحياة الاجتماعية كالحياة الفردية، تقوم على الهدي الإلهي في كافة أنظمتها، وهذا هو ما نعنيه عندما نقول: الإسلام دين ودولة ( ).
المطلب الثاني: نقد علاقة العلمانية بقضية المرأة.
إن العلمانية صناعة إنسانية، جاءت لتخريب الأوطان والدين والتاريخ والمجتمع.
ومن التخريب الاجتماعي الذي تمارسه العلمانية في بلاد المسلمين الدعوة إلى تحرير المرأة، أي: خروجها عن دينها وانحرافها؛ حتى يتهدم بيتها، ومن ثم يتهدم المجتمع، وتنتشر الرذيلة وتضيع القيم والمبادئ، حتى آل الأمر إلى الواقع المؤلم الذي عبر عنه أحد الغربيين بقوله: ((إن التأثير الغربي الذي يظهر في كل المجالات، ويقلب - رأساً على عقب - المجتمع الإسلامي، لا يبدو في جلاء أفضل مما يبدو في تحرير المرأة)) ( ).
ومن هنا فلا عجب أن نسمع - بين الحين والحين - عن جرائم اجتماعية تضاهي الجرائم التي تحدث في أوربا وأمريكا من قتل واختطاف واغتصاب وتشريد. ولا عجب أن تنتشر الأمراض الاجتماعية الفتاكة الناشئة عن فقد كل من الجنسين لخصائصه المميزة.
((إن التربية غير السليمة لا يمكن أن تنتج إلا جيلاً غير سليم، هاهو ذا الجيل المعاصر المكدود تتجاذبه الشهوات والشبهات، وتمزقه التناقضات والغوايات، وتغتاله النزوات المتهورة والإغراءات القاتلة، فلا يستطيع إلا أن يسلم نفسه ذليلاً لشياطين الجن والإنس، ينهشون فكره وجسمه، ويلهبون ظهره بسياطهم؛ حتى يسقط شلواً ممزقاً على مرتع الفسق والإباحية))( ).
* شهادة العلماء الغربيين في ترابط الدين والدولة:
يقول أحد العلماء الغربيين( ): ((الإسلام هو الدين الوحيد بين جميع الأديان الذي أوجد بتعاليمه السامية عقبات كثيرة تجاه ميل الشعوب إلى الفسق والفجور، ويكفيه فخراً أنه قدس النسل وعظمه؛ ليرغب الرجل بالزواج، ويعرض عن الزنى المحرم شرعاً وتشريعاً، وإن الإسلام قد حَلَّ - بعقلية عالية عادلة - أغلب المسائل الاجتماعية التي لم تزل إلى لآن تشغل مشرعي الغرب بتعقيداتها)).
إن المجتمع الذي لم يتحل بالقيم، يتحول إلى غابة، والطبع - إذا لم يرتبط بالسلوك الرفيع - يتحول إلى همجية، والحياة - إذا لم يضبطها قانون من السماء- تتحول إلى فوضى.
هكذا بدأت العلمانية بتقويض أركان المجتمع عندما زعمت أن تحرير المرأة يقتضي انسلاخها من دينها، وخروجها على قانون السماء الذي يضبط الحياة الزوجية.
فبعد أن قاست المرأة الغربية مرارة الألم، رجع بعضهن إلى البيت إلى العش الذي خلقت من أجله، فتقول إحداهن: ((لا أحد يصدق أني - بالفعل - اخترت البقاء بجوار طفلي وفضلت هذا على الجمع بين العمل والبيت، وربما أكون موضة قديمة، ولكن يوماً ما سيعتبر الآخرون أن قراري بتكريس ذكائي وحيويتي وقدرتي على الابتكار من أجل طفلي أمراً طيباً)).
ثم تستطرد الكاتبة معللة ضرورة وجودها في البيت في أبلغ تعبير فتقول:
((ليس هناك مدرسة في العالم في حاجة إليَّ، مثل حاجة أطفالي إليّ))( ).
سبحان الله!! أي نداء للفطرة أقوى من هذا المنطق، وأي حقيقة ناصعة أكثر من هذا الإعلان يا دعاة تحرير المرأة؟.
* علاقة العلمانية بقضايا المرأة في المؤتمرات الدولية:(31/455)
إن علاقة قضايا المرأة، وحل مشاكلها، ونيلها لحقوقها، - المدنية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والصحية.. وغيرها من الحقوق - بالعلمانية التي تفصل هذه القضايا والحقوق عن الدين، يظهر جلياً في مناقشة هذه القضايا في المؤتمرات الدولية التي يشرف عليها الغرب - ممثلاً بهيئة الأمم المتحدة -، فجميع قضايا المرأة التي نوقشت في هذه المؤتمرات - التي اطلعت عليها - لم يكن للدين فيها ذكر، وإنما دينهم الذي يستندون إليه في حل مشاكل المرأة، والمطالبة بحقوقها - من وجهة نظرهم - هو دستور هيئة الأمم المتحدة وميثاقها ( )- الذي أبرم في سان فرانسيسكو بتاريخ (16/7/1364هـ-26/6/1945م-)، وما تبعه من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - الذي أعلن في عام (1367هـ 1948م)( )، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة( ) - التي اعتمدت في عام (1399هـ -1979م)، واعتبرت الأساس الذي اعتمدت عليه الأمم المتحدة في مؤتمرات المرأة اللاحقة.
بل إنها تنص في اتفاقاتها وصكوكها التي تصدرها، وإجراءاتها التي تنادي بها، على إبعاد الدين - باعتباره شكلاً من أشكال التمييز ضد المرأة -.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان - مثلاً - ينص في مادته الثانية ( ) على أن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان دون أي تمييز من أي نوع - لا سيما التمييز بسبب الجنس أو الدين -.
واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، تنص في فقرتها رقم (و) من المادة الثانية( ) على اتخاذ جميع التدابير المناسبة - بما في ذلك التشريعي منها - لتغيير أو إبطال القائم من القوانين، والأنظمة، والأعراف، والممارسات، التي تشكل تمييزاً ضد المرأة.
وهكذا فإن مفهوم العلمانية -في فصلها الدين عن جميع مجالات الحياة- يظهر جلياً في مناقشة قضايا المرأة في هذه المؤتمرات الدولية - محل البحث -، التي سيتم التطرق إليها في أبواب وفصول هذه الرسالة.
الفصل الثاني:
الحرية عند الغرب
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الحرية عند الغرب وعلاقتها بقضية المرأة.
المبحث الثاني: نقد الحرية عند الغرب وعلاقتها بقضية المرأة.
المبحث الأول: الحرية عند الغرب، وعلاقتها بقضية المرأة.
المطلب الأول: فكرة الحرية عند الغرب.
وهو يتضمن مدخلاً وأربع مسائل، هي:
1 - التعريف اللغوي والاصطلاحي لكلمة الحرية.
2 - الاتجاه إلى الواقعية في فهم الحرية في العصر الحديث.
3 - استخدام مفهوم الحرية.
4 - الأسباب والعوامل التي ساهمت في انتشار مفهوم الحرية.
مدخل:
- تاريخ فكرة الحرية عند الغرب:
إن مفهوم الحرية من المفاهيم والمصطلحات الواسعة التي تعددت فيها الرؤى، فالبعض يعد الحرية قيمة تُورَث وتوَرَّث، كما يورث الميراث المادي، فهي عنده للصفوة المتميزة بميزة عرقية أو دينية.
وقد كان هذا المفهوم سائداً في الممالك الوثنية إبان هيمنة الكنيسة على العقلية الأوربية؛ حيث كانوا يزعمون أنهم أبناء الحرة؛ ولذلك فهم يقتلون كل من يعارضهم، حتى وإن كان من أتباع الكنيسة، ومثال ذلك واضح في محاكم التفتيش، فلا رأي، ولا تفكير، ولا تعبير، ولا نشر إلا بإذن الكنيسة، فهي وحدها وصفوة الملوك والنبلاء، أقدر الناس على الوصول إلى الرأي الصائب ومعرفة الحقيقة.
ثم جاءت فلسفة الحرية المطلقة كنقيض للفلسفة التسلطية، فقالت بالحرية المطلقة، وهي: الخلوص من كل قيد، والقدرة على الفعل مطلقاً.
ولقد أدرك الفلاسفة في المجتمعات الغربية فساد الحرية الفوضوية، التي تزعم أن الحرية هي نقيض الالتزام، فظهرت فلسفة الحرية الاجتماعية، وانبثقت منها نظرية الحرية والمسؤولية الاجتماعية( ).
1 - التعريف الاصطلاحي لكلمة الحرية:
أشار معجم (المصطلحات القانونية) إلى أن الحرية تعني: ((الخير الأسمى، بالنسبة للفرد أو للشعب؛ بهدف العيش بعيداً عن أي استعباد، أو استغلال، أو اضطهاد، أو هيمنة داخلية أو خارجية))( ).
وهناك من عرف الحرية بأنها: ((حالة الفرد الذي لا ترد عليه أية قيود، ويتصرف حسب إرادته وطبيعته)) ( ).
- مفهوم الحرية في عصر النهضة:
انقسم المفكرون في عصر النهضة، وفلاسفتها، في تعريف الحرية إلى مدرستين:
المدرسة الأولى، ترى أن الحرية هي: ((قدرة الإنسان، أو سلطته في التصرف)).
وهذه المدرسة ترى أن الحرية إرادة، ولهذا تعرفها بأنها: ((قدرة الإنسان أو سلطته في أن يفعل، أو أن يقدم على أن يفعل أي تصرف معين)).
أما المدرسة الثانية فترى أن الحرية: ((حكم العقل)).
وهذه المدرسة ترى أن الحرية إرادة خاضعة للعقل، أو هي: ((حكومة العقل والضمير))( ).
مفهوم الحرية في إعلان حقوق الإنسان:
إن المقصود بالحرية - كما حددتها المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر سنة (1204هـ -1789م) - ما يلي:(31/456)
((قدرة الإنسان على إتيان كل عمل لا يضر بالآخرين)) ( ). وهذا التعريف يعطي مفهوماً موسعاً للحرية، بشكل يمنع أي مضايقة، غير أن (المادة الخامسة) من هذا الإعلان، تولت تحديد هذا المفهوم، بالنص على أنه: (( لا يمكن للقانون أن يمنع سوى الأعمال الضارة بالمجتمع )). ومن ثم فيمكن لعمل ما أن يضر بفرد من الأفراد دون أن يمس المجتمع( )؛ ولأجل ذلك فقد عرف (لوك) الحرية بأنها:
((الحق في فعل شيء يسمح به القانون)) ( ).
إن فلسفة الديمقراطية الغربية عن الحرية، يمثلها إعلان حقوق الإنسان فيما يتعلق بالحرية - الصادر في بداية عصر الثورة الفرنسية.
أما الأنظمة الشيوعية (الماركسية)، فيمثل فلسفتها مذهب (ماركس( )) - كما فسره لينين( ) وغيره في الاتحاد السوفييتي - عقب نجاح الثورة الشيوعية فيها، في (محرم عام 1336هـ -نوفمبر عام 1917م)، وهو مذهب يصبغ كل مظاهر الحياة بصبغة تختلف كثيراً عما هو سائد في الديمقراطية الغربية.
فالحرية في المعسكرين الغربي والشرقي تعني التحرر من (سلطة)، لكنها في المفهوم الغربي تحرر الإنسان المحكوم من استبداد سلطة الحكم السياسية. وفي المفهوم الشرقي تحرر الإنسان في نطاق المجتمع من طغيان السيطرة الاجتماعية، التي ستتيحها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (الأرض، ورأس المال، والعمل) ( ).
ولقد أوضح الفلاسفة الغربيون أهمية حرية الفرد، وأثرها على ارتقاء الإنسان بها إلى طبيعته الإنسانية القائمة على الاختيار والمسؤولية. وقد اكتسبت الحرية قيمتها التاريخية من ثورات الديمقراطية في إنجلترا، والولايات المتحدة، وبشكل خاص مع الثورة الفرنسية( ).
2 - الاتجاه إلى الواقعية في فهم الحرية في العصر الحديث:
إن الإنسان ليس كائناً منعزلاً عن أقرانه، حتى تتحقق حريته بتصرف إرادي من جانبه، وإنما هو إنسان يعيش في مجتمع، ويخضع لدولة؛ ولذلك فليس ثمة محل للحديث عن الحرية المجردة، باعتبارها أمراً يخص الفرد وحده، وإنما يجب أن ينظر إليها في ضوء علاقة الإنسان بالمجتمع الذي يعيش فيه، والدولة التي تحكمه.
وقد نظر فقهاء الغرب إلى الحرية على هذا النحو - حقيقة -، غير أنهم انقسموا إلى فريقين تبعاً للزاوية التي اتخذوها للوصول إلى ما يبتغون.
فالفريق الأول نظر إليها على أنها - أي الحرية - هي التي تخلص الفرد من قيود معينة يفرضها التعقيد الذي يصاحب تطور المجتمع، وما يقتضيه هذا التطور من أساليب التحضر المعقدة.
أما الفريق الثاني فقد نظر إليها على أنها هي التي توصل المجتمع كله إلى حياة متحضرة.
والمتأمل في النظريتين - العاطفية والتقدمية -، يجد أنهما صدرتا عن تصور جديد للحرية، هو: اختفاء القيود( ).
3 - استخدام مفهوم الحرية:
إن لمفهوم الحرية استخداماً خاصاً في تاريخ الفكر الفلسفي، إذ تشير هذه الكلمة إلى الظروف الناشئة عن علاقة الإنسان بالإنسان، أو إلى الظروف الخاصة بالحياة الاجتماعية.
ومن المعروف أنه عندما يقيد معنى هذه الكلمة، تنشأ اختلافات بين المفكرين والباحثين في وجهات النظر في تحديد مفهومها.
وفي كل الأحوال تتضمن كلمة (الحرية) معنى ((انعدام القسر))، وهذا ما يؤكده - في هذا الحال - المفهوم التقليدي الأوربي - من خلال المفهوم الليبرالي والفردي - الذي يشير إلى حالة تتميز بانعدام التقيد، أو القسر الذي يمكن أن يفرضه إنسان على إنسان آخر.
فالإنسان حر بقدر ما يتمكن من اختيار أهدافه، ونهج سلوكه، دون أن يرغم على عمل لم يختره بنفسه. وهذا النوع من الحرية يدعى بالحرية الليبرالية.
والشروط الضرورية لوجود الحرية - بالنسبة لمن يعتنق هذا المبدأ -، ما يلي:
1 - عدم وجود القسر الخارجي، أو غياب القيود التي تمنع المرء من اختيار أمر ما يود اختياره.
2 - انعدام الحالات الطبعية التي تمنع المرء من تحقيق هدف مختار.
3 - امتلاك الوسيلة - أو القوة - لتحقيق الهدف الذي يختاره الإنسان بمحض إرادته؛ لأن امتلاك الوسيلة أو القوة لتحقيق الأهداف المفضلة جزء من الحرية. وهذا يؤكد مقولة: (المرء حر في عمل شيء ما، يتضمن أن المرء قادر على تنفيذ هذا العمل) ( ).
وقد أفادت نداءات الحرية الفردية - ابتداء من عصر النهضة، ثم في عصر ثورة الحضارة الصناعية -، حق المرء في التفرد وتنمية ذاته علماً ومالاً وفهماً متمايزاً لواقع حياته، وصورة مستقبله( ).
وبما أن الفرد يعيش في مجتمع يعتبر أن الغاية الأولى للنظام الجماعي هي احترام حرية الفرد، واحترام إرادته، كان من الواجب أن تكون روابطه بغيره من أفراد الجماعة، أساسها الإرادة الحرة، فلا يخضع لواجبات إلا إذا ارتضاها مختاراً، وكل التزام أساسه الرضا والاختيار يتمشى مع القانون الطبعي؛ لأن هذا القانون إنما يقوم على الحرية الشخصية ووجوب احترامها.
فالإرادة - إذاً - هي مبدأ القانون، وهي الغاية التي ينتهى إليها، وما مهمة القانون إلا تحقيق حرية كل فرد، بحيث لا تتعارض مع حرية الآخرين( ).
4 - الأسباب والعوامل التي ساهمت في انتشار مفهوم الحرية:(31/457)
منذ نشأت الدولة - في العصور القديمة -، والسلطة السياسية تظهر مساوئها من خلال استغلالها للأفراد، وإهدارها للحقوق والحريات.
وقد تعرضت مسألة الحرية لأزمات خانقة عديدة، وخاصة في الأنظمة الاستبدادية، والعهود القديمة للملوك، الذين يدعون أنهم يملكون بمقتضى نظرية التفويض - أو الحق الإلهي المطلق -، التصرف في حريات الناس ومصادرتها. وقد كانت سياستهم تلك سبباً في تفجر الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي (1204هـ -1789م).
لقد مرت الحقوق والحريات في النظم السياسية الغربية المعاصرة بأزمات عديدة؛ لأسباب مختلفة، هي:
1 - أسباب خاصة: أي حاجة الإنسان إلى الاحتفاظ بخصوصياته، وعدم تطاول الآخرين عليها، وإصراره على ممارسة تصرفات معينة؛ لتحقيق مصالحه ورغباته.
2 - أسباب سياسية: فالحرص على البقاء في الحكم والسلطة السياسية، أدى بكل فئة سياسية - لاعتبارات خاصة مختلفة - إلى انتهاك الحريات وتجاوزها، وإغفال عواقب التجاوزات؛ مما أوضح أن الديمقراطيات ليست حرة بطبيعتها - حتى فيما يسمى بالحكومات المعتدلة -؛ ومما يؤكد ذلك:
أ - حرية الرأي: فالديمقراطية الغربية - وخاصة في الولايات المتحدة - لم تكفل حريات الرأي، وأصبحت هذه الحرية أكثر الحريات تعرضاً للتضييق.
ب - حرية الاجتماع: لم تتوافر الحصانات الكافية لهذه الحرية في الولايات المتحدة، وبريطانيا.
ج - حرية الصحافة: فقد تعددت القيود المفروضة على الصحافة.
3 - أسباب اجتماعية: فقد وضعت قيود على الحقوق والحريات؛ ضماناً لعدم تسلط الأغلبية، وإهدار حقوقها وحرياتها.
4 - أسباب اقتصادية: إن تطور الصناعة، وسيطرة أرباب الصناعة على النشاط الاقتصادي، كل ذلك أدى إلى ظهور التعارض بين الحريات التقليدية المختلفة.
5 - أسباب فنية: فالتطورات الفنية زودت العالم الرأسمالي بوسائل غير عادية للتوسع الاقتصادي؛ حيث مكنت الوسائل الحديثة - ومن أهمها الصحافة، والإذاعة، والسينما، والتلفاز - من نشر الأفكار، ومن التأثير والسيطرة على الرأي العام( ).
أما الأنظمة الشيوعية (الماركسية)، فإنها وإن سقطت في معظم أنحاء العالم، فلم يبق منها إلا بقية قليلة - كالصين وكوبا -، إلا أنه بالإمكان الإشارة إلى مفهوم الحرية وحقيقتها وواقعها في تلك الأنظمة - من باب مقارنتها بالأنظمة الديمقراطية الغربية -.
فهذه الأنظمة تصبغ كل مظاهر الحياة بصبغة تختلف كلياً عما هو سائد في الأنظمة الغربية، فقد كانت السيادة والسلطة للأعضاء البارزين في الحزب الشيوعي، وأما بقية الشيوعيين فحقوقهم وحرياتهم مهدرة - في الغالب -.
والأنظمة الغربية تعتبر أكثر كفالة للحرية الشخصية من الأنظمة الماركسية - ذات الصبغة الاستبدادية -، وإن كان هدفها البعيد - كما يزعمون - هو الحرية.
كما أنه ليس هناك حرية سياسية في النظام الشيوعي، وحرية الرأي في روسيا تقتصر على العمال فقط. أما الصحافة - لدى الشيوعيين - فهي الوسيلة التي يستطيع بها الحزب أن يؤثر على رأي الجماهير.
أما حرية تكوين النقابات والجمعيات، فهي مقصورة على تنظيم الدولة، ولا يتمتع بمزاياها وحقوقها غير عضو النقابة.
والحرية الدينية معدومة؛ لأن مبدأ ماركس مؤسس الشيوعية: ((الدين أفيون الشعوب).
والواقع أن الدولة الشيوعية تمارس سلطات شاملة، فهي تستطيع أن تتدخل في كافة المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، وتوجهها كما تشاء، كما أن حقوق الأفراد وحرياتهم لا تتمتع بأي ضمانات في مواجهة سلطات الدولة.
وحرية الرأي لا مكان لها - بداهة - في النظام الشيوعي. أما حرية الاجتماعات فهي تخضع لرقابة الحزب الشيوعي، والرقابة الإدارية تحدث عن طريق التراخيص. وأما حرية الصحافة فإن كل وسائل الإعلام تخضع لرقابة الحكومة( ).
المطلب الثاني: علاقة الحرية بقضية المرأة.
وهو يتضمن مدخلاً وثلاثة جوانب:
الجانب الأول: المساواة بين الرجال والنساء.
الجانب الثاني: استقلال النساء بأمور معايشهن.
الجانب الثالث: الاختلاط المطلق بين الرجال والنساء.
مدخل:
لم تحظ المرأة في تاريخ الحضارات القديمة بأي نظرة إنسانية كريمة، وإنما كانت عند الرومان، واليونان، وفي شريعة حمورابي، وعند الهنود، واليهود، والنصارى وغيرهم، كانت محتقرة، وملعونة؛ لأنها أغوت آدم، ورجساً من عمل الشيطان، بل هي أحياناً تعد في عداد الماشية المملوكة.
وأما الحضارة المصرية القديمة فهي الحضارة الوحيدة التي أعطت المرأة حقوقاً أشبه بحقوق الرجل، ولكنها أدنى من منزلة الرجل.
وأما عند العرب في الجاهلية، فكانت المرأة تئن من ظلم المجتمع لها، فلا حق لها في الإرث، وليس لها حق على زوجها، وكانت تورث كرهاً، وكان الآباء يتشاءمون من ولادة الأنثى، كما أن بعض القبائل كان
نشر بتاريخ 25-07-2007
==============(31/458)
(31/459)
"المرأة في المؤتمرات الدولية"؟!!.
خريطة الموضوع:
1-…تفسير العنوان.
2-…تقرير وتأصيل للحقوق الإنسانية.
3-…تصوير لقضية حقوق المرأة.
4-…مناقشة وتحليل التصوير.
5-…تاريخ المؤتمرات.
6-…القرارات والتوصيات.
7-…تحليل ومناقشة القرارات.
8-… الختام.
*…*…*
1-…تفسير العنوان:
"المرأة في المؤتمرات الدولية":
-…"المرأة": إنسان، هو القسم الآخر من النوع الإنساني، وهي شقيق الرجل.
-…"في": حرف جر، دال على ظرف حالي.
-…"المؤتمرات": جمع مؤتمر، ومعناها: المجامع التي يأتمر فيها المجتمعون؛ أي يأمر فيه بعضهم بعضا، ليجتمعوا - كلهم، أو جلّهم - على أمر واحد، في آخر المؤتمر.
-…"الدولية": جمع دولة، والياء للنسبة؛ أي المجامع بصبغتها الشاملة لدول العالم: جميعها، أو جلّها.
فتفسير العنوان: حال ووضع المرأة خصوصا، دون القسم الآخر من النوع الإنساني: الرجل. في هذه التجمعات المؤتمرة، من دول شتى.. حالها بالنظر إلى الأوامر الصادرة بشأنها.
*…*…*
2- تقرير وتأصيل للحقوق الإنسانية.
أساس قضية المرأة هو: الحقوق. فالباعث لعقد المؤتمرات هو: إعطاء المرأة حقوقها.
ومسألة الحقوق، من جهة الأصل الشاملة لكل إنسان، مؤصلة ومقررة بالكيفية التالية:
-…أولا: للإنسان (ذكرا، أو أنثى) حقوق ثبتت بالدين، وأخرى ثبتت بالعقل، ولا تعارض بينهما.
-…ثانيا: منعه من حقوقه تلك: ظلم. وإعطاؤه إياها: عدل.
-…ثالثا: إذا ظلم، فالظلم قبيح: دينا، وعقلا. فلا بد أن يزال.
-…رابعا: كل وسيلة تزيله فهو فرض مطلوب.
فهذا التقرير والتأصيل العام في كل الحقوق، لكل إنسان، ذكرا أو أنثى: متفق عليه بين جميع العقلاء.
ثم إن الأول منه محل خلاف، من جهة تحديد منابع الحقوق ومصادرها، بين المتدينين وغير المتدينين !!. لكنهم جميعا متفقون على الأصل: أن للإنسان حقوقا.
*…*…*
3- تصوير لقضية حقوق المرأة.
التقرير والتأصيل الآنف بنى عليه المؤتمرون في قضية المرأة: تصورهم لما يعتبرونه مشكلة المرأة. والتصوير التالي عرض وتحليل لمقدمات القضية، ثم نتيجتها:
-…أولا: المرأة لها حقوق.
-…ثانيا: المرأة منعت من حقوقها، وذلك ظلم.
-…ثالثا: الظلم يزال فرضا.
-…رابعا: وسيلة الإزالة فرض مطلوب.
-…خامسا: المؤتمرات وسيلة من وسائل الإزالة، فهي مطلوبة.
هذه المقدمات ينتج عنها:
"أن القرارات الصادرة عن هذه المؤتمرات بحق المرأة مفروضة؛ لأن بها يزال الظلم، وتنال حقوقها".
فهذه المؤتمرات قد بنيت على فرضية، هي عندهم حقيقة:
"أن المرأة ممنوعة من حقوقها".
وقد سموا منع المرأة من حقوقها: اضطهادا. وإعطاءها حقوقها: تحريرا..!!.
باعتبار أن منعها من حقوقها سببه - كما هو تعبيرهم - : القيود المفروض عليها من جهة الرجل.
والقيود إنما تزول بالتحرر منها؛ أي فكّها، والانفلات منها.
ومن هنا سميت هذه الحركة المختصة بهذا النشاط: حركة تحرير المرأة. والقضية: تحرير المرأة.
*…*…*
4- مناقشة وتحليل التصوير.
مقدمات التصوير الآنفة، لقضية حقوق المرأة: من ناحية السرد، وكون كل مقدمة مبنية على ما قبلها: مسلّم به، لا خلاف عليها؛ فترتيبها منطقي، عقلي صحيح.. فالصورة الشكلية للمقدمات، ثم نتيجتها صحيحة.
غير أن هاهنا أمرا جديرا بالتنبيه، هو:
أن تحديد مضمون المقدمة الأولى، وما يراد بها، قد يغير هذا الحكم من التسليم إلى الاعتراض والتنديد..!!.
كيف يكون ذلك ؟!.
يقال: إن المقدمة الأولى قيل فيها: المرأة لها حقوق. وهي صحيحة؛ فمن حيث المبدأ: للمرأة حقوق. وكذا: الرجل، وكذا البهائم، والنباتات، والجمادات. كل كيان قائم في هذا العالم له حقوق، بحسب منزلته، والإنسان أعظم الكائنات حقوقا لشرفه.
لكن ومع الإقرار بحقوق المرأة؛ كونها إنسانا وكيانا، إلا إن هذه الحقوق بالتأكيد ليست مطلقة، بل مقيدة. وهذا التقرير مسلّم به، لا يخالف فيه عاقل.. فلا أحد يقول: إن من حقوق المرأة تملك مال غيرها.. مثلا.
ولا نظن القائمين على مؤتمرات المرأة يجهلون هذه الحقيقة.. ومن هذه المسلّمة ننطلق لنقول:
تلك الحقوق المقيدة ما حدّها ؟، وما المصدر الذي يرجع إليه لتحديد حدودها ؟.
إن الحدود والقيود إما أن تكون دينية، أو لا دينية.. ولا ثالث، والأمر المؤكد أن الحدود التي تحد بها هذه المؤتمرات حقوق المرأة ليست دينية، لا من قريب ولا من بعيد.
هذا التأكيد مستفاد من معرفتنا باتجاه هذه المنظمة العالمية: هيئة الأمم المتحدة. التي ترعى هذه المؤتمرات؛ فإنها تقوم على المبدأ العلماني: فصل الدين عن الحياة. فقراراتها، وقرارات مؤتمراتها لا تصدر عن نصوص دينية، ولا تعتمد على أية شريعة إلهية، سواء في ذلك شريعة: الإسلام، أو اليهودية، أو النصرانية.
ثم إن القرارات نفسها خالية من أي مستند أو استدلال ديني، ويوجد في كثير من بنودها ما يعارض الدين.
فالمبدأ: "العلماني". هو المحتضن لهذه الحقوق، فما كان منها منسجما معه فهو من الحقوق، وإلا فلا.
فهل معرفتنا هذه، بعلمانية هذه القرارات، وأن الحقوق تقررت في إطار علماني: يفيد في تحديد هذه الحقوق بالتفصيل الدقيق ؟.(31/460)
الجواب: ليس بعد.. فالعلمانية نظام حكم عام شامل، ينتظم فيه جميع الأفراد، والجماعات، والأديان، والمذاهب، لا يختص بجهة معينة كالمرأة، فمعرفة أن العلمانية محتضن لحقوق المرأة، لا يستفاد منه تحديد هذه الحقوق، غاية ما يستفاد الإطار العام الحقوق، مثل أنه لا يشترط فيها ألا تخالف دينا، أو عرفا، أو تقليدا.
وعليه فالحدود المفصلة لهذه الحقوق، والمصدر والمنبع الممد لها، لم يزل بحاجة إلى توضيح وتعريف..؟!!.
وهذا ما سنفعله:
*…*…*
عند دراسة دساتير ومواثيق الأمم المتحدة وقرارات مؤتمراتها المتعلقة بالمرأة، نلحظ شيئا لافتاً..؟!!:
نلحظ أنها تتوافق وتتطابق مع نظرة الغرب إلى حقوق المرأة، في الناحية النظرية تفصيلا، والتطبيقية جملة.
والفكرة الغربية لحقوق المرأة مبناها على المبدأ: الليبرالي. ومعناه: الحرية. وفي تعريفه يقولون:
-…" التخلص من التسلط الخارجي: الدين، المجتمع، القبيلة، الأسرة. وطاعة قوانين النفس وأحكامها".
فهذا المبدأ يتوافق كليا مع المبدأ العلماني، فكلاهما يرفض الخضوع للدين.
فحقوق المرأة تحد بحدود الحرية، فكل ما كان من حرية المرأة، فهو من حقوقها، كالرجل..
والمرأة في المفهوم الغربي: لها الحق أن تفعل ما تشاء، تهب نفسها لمن تشاء، تتزوج من تشاء، حتى لو أنثى مثلها، وأن تجهض حملها، وتمارس الحياة الجنسية منذ فترة مبكرة، وأن تتساوى مع الرجل في كافة الحقوق، دون تمييز بأي شكل من الأشكال.. وهكذا، وكل ذلك تحت قانون الحرية.
فهكذا هي حدود حقوق المرأة في هذه القرارات الأممية..!!.
وهنا ملاحظات:
أولا: اختلاف النتيجة باختلاف صورة القضية.
يقال هنا: على هذه الحقوق بنيت صورة المعادلة فكانت كالتالي:
-…هذه الحقوق - في الإطار العلماني، والأساس الليبرالي - : هي حقوق المرأة.
-…ومنعها من هذه الحقوق ظلم، وإزالة الظلم فرض مطلوب، ووسيلة الإزالة مطلوبة، والمؤتمرات وسيلة.
-…فقراراتها الجارية في إطار علماني وأساس ليبرالي إذن: مُلزِمة؛ لأن بها يزال الظلم.
هكذا هي قضية المرأة.. عند من يؤمن بالمبدأين العلماني والليبرالي..!!.
لكن ما حال من لم يؤمن بهما ؟!.
من قَبِل بالحقوق في هذا الإطار وهذا البناء: هو الذي يقبل القرارات الصادرة وفق هذه الأسس..
لكن من لم يقبل فلا يلزمه أن يقبل تلك القرارات، وتنهار صورة المسالة عنده حينئذ:
-…فلا يكون منع المرأة من الحرية اللبيرالية، في الإطار العلماني: مصادرة لحقوقها.
-…ومن ثم فلا ظلم عليها في هذا النوع من المنع.
-…وعليه فلا حاجة لإزالة شيء غير موجود، ولا لاتخاذ الوسائل، ولا عقد المؤتمرات، ولا إصدار القرارات في إطار علماني ليبرالي.
ذلك لأن صورة الحقوق هذه غير متفق عليها، ومثل هذه المؤتمرات لا بد أن تتبنى قرارا يحوي رأي الجميع، ويأخذ خياراتهم بعين الاعتبار؛ كونها تقع تحت رعاية الأمم المتحدة، الممثلة لجميع شعوب العالم، والتي ينبغي لها أن تكون إلى جانب كل الدول وسيادتها، تحميها من الانتهاك، أو التدخل في شؤونها ؟!!.
ثانيا: هل يصح تعميم المشكلة الخاصة ؟.
قد تبين أن هذه القرارات بنيت على المبدأ العلماني كإطار عام للحقوق، وعلى المبدأ الليبرالي كصور وأشكال لهذه الحقوق.
وهذه المبادئ غربية بحتة، وأفكار نتجت في بيئة كان لها ظرفها الخاصة، ليس بالضرورة أن تكون البيئات والمجتمعات الأخرى مرت بالظرف ذاته.
فلو فرض جدلا أنها مبادئ صالحة لبيئة مثل أوربا وأمريكا.. فهل لا بد من صلاحها لغيرها ؟!.
هل من الضرورة أن تكون ملائمة لكافة دول العالم، وشعوب العالم ؟!.
كثير من هذه الدول لم تمر بما مرت بها أوربا، ولم تعان ظروفها كظروف أوربا، فكيف تلزم بأن تنتهج ذات النهج، وتسلك ذات السبيل ؟!.
ثالثا: أين احترام المبدأ، أم هو الإرهاب ؟!.
إن الغرب والأمم المتحدة نفسها ما فئت ترفع شعار:
احترام الآخر، وقبول الآخر، وعدم إقصاء الآخر، وعدم إلغاء الآخر.. إلخ.
لكن أليست هذه الهيئة نفسها تمارس: احتقار الآخر، ورفض الآخر، وإقصاء الآخر، وإلغاء الآخر..!!. حينما تفرض قرارات مؤتمراتها المصوغة سلفا، على شعوب العالم، وهذه الشعوب فيها ثقافات وقناعات مختلفة، وهي ملتئمة تماما مع نفسها متوافقة، ليس لديها المشكلات التي لدى الغرب، والنساء فيها ليس لديهن من المشكلات، كتلك التي تؤرق المرأة الغربية ؟!.
أليست هذه الهيئة تناقض نفسها ؟!!..
يوما تظهر بصورة المثالي، المحترم لإرادة الشعوب، الرافض قسرها وإجبارها على ما لا تريد.
ويوما تقول: ما أريكم إلا ما أرى !!.
وهذا ما هو معمول به الآن، ولا يُدرى ماذا يكون غدا ؟!.
ربما ستفرض على الدول الممتنعة، من العمل بالقرارات المختصة بالمرأة، عقوبات اقتصادية، وحصارا دوليا..
أو ربما جرت كبرى الدول جيوشها؛ لتأديب الممتنعين، وإخضاعهم بالقوة والإرهاب لتفعيل القرارات؟!.
لا ندري كل ذلك وارد، غير ممتنع من جهة: العقل، والواقع ..!!.(31/461)
فهذه المؤتمرات تقوم فكرتها على: أن ما يصدر عنها من قرارات فهي ملزمة لكافة الدول. والقائمون عليها يسعون لتحقيق هذا الهدف، بالاستعانة بالدول الكبرى للضغط على الدول الضعيفة في هذا الاتجاه.
وأمام هذه الأمور نتساءل:
-…هل هذه حكومة عالمية، تحكم جميع الدول والشعوب، فتأمر بما تشاء ؟.
-…هل انتفت سيادة الحكومات والشعوب على دولها، فصارت تحكم من قبل هؤلاء المؤتمرين ؟.
-…أين حرية الشعوب في اختيار مصيرها ؟، لم يفرض عليها قرارات لم تصنعها، ولم تطالب بها ؟.
-…أليس من بنود هيئة الأمم المتحدة: أن كل دولة لها سيادة كاملة على حدودها وشعوبها، ولا يصح لأخرى أن تنتهك سيادتها تلك ؟، فإذا فرضت عليها هذه القرارات أو تلك: فأين هي سيادتها ؟.
الواضح أن مثل هذه المؤتمرات، التي تتم تحت رعاية الأمم المتحدة: تضع العين على مصداقية هذه المنظمة. فبدل أن تكون نصيرة وعونا للشعوب الضعيفة، هاهي عون للدول الكبرى، تنفذ سياستها، وتكون الجلاد والعصا لإخضاع الدول والشعوب، والتدخل في شؤونها.
يقولون:
ثمة انتهاك وظلم للإنسان والمرأة، هنا وهناك، يجب أن يزال، وهيئة الأمم معنية بتحقيق العدل.
ويقال: نعم.. الظلم غير مقبول، والمسألة ليست في هذه، إنما في تفسير الظلم والانتهاك: ما هو ؟.
فهذه المؤتمرات تفرض رؤيتها، فما تعده ظلما فهو ظلم، والعدل هو ما تراه. وبذلك تجعل الشيء ظلما، وقد يكون عند غيرها عدلا. وتجعل الشيء عدلا، وقد يكون عند غيرها ظلما..!!.
نعم، هناك نوع من الظلم، يتفق الجميع على كونه ظلما. كالإيذاء الجسدي، والاغتصاب.
لكن هناك أمورا هي في عيون المؤتمرين ظلم، ليست كذلك عند شعوب العالم إلا الشذاذ، مثل المنع من زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة..!!.
السعي في فرض هذه القرارات على الشعوب، ينافي الميثاق العام أن: الشعوب لها الحق في اختيار طريقها. والدول الكبرى لا تسمع، ولا تسمح لدول أخرى أن تتدخل بفرض القوانين عليها، في أي مجال: اجتماعي، أو سياسي، أو ثقافي، أو اقتصادي. فلا حق لها إذن أن تفرض إرادتها على غيرها.
وإذا جاز لهذه الدول الكبرى أن تتدخل في الدول الأخرى بتغيير قوانينها، وامتثالها لقرارات هذه المؤتمرات: فمن الجائز أن تتدخل هذه الأخرى في شؤونها لتغيير قوانينها، فكما أن هذه تتحفظ على قوانين بعض الدول، كذلك تلك الدول تتحفظ على جملة من قوانينها، ولو كانت دولة كبرى.!!.
والواقع أن هذا الإلزام بالمثل من الأماني التي لا تتحقق إلا بشروط، فما دامت هذه الدول ضعيفة ذليلة، فما لها إلا الخضوع والخنوع، ولن تفكر يوما في فرض إرادتها على الدول الكبرى، إلا إن انسلخت من ذلتها، ولبست ثوب العزة، ولن يضرها بعدئذ ضعفها، أمام قوة أكبر منها..!!.
*…*…*
هذه محاكمة إلى قانون الغرب نفسه، وقانون الهيئة نفسها، من فمهم ندينهم.. لم نحاكمهم إلى دين، ولا إلى شريعة، ما حاكمناهم إلا إلى ما يدينون به: إلى المبدأ العلماني، والليبرالي.
فالعلمانية كما يقررونها مذهب يقوم على الحياد إزاء كل الأديان، والمذاهب، والأجناس؛ أي يترك لكل أهل ملة الحرية في التدين بما شاءوا.. لكن هؤلاء انقلبوا على دينهم ومذهبهم هذا، فصاروا منحازين إلى فئة، يبتغون حمل كافة الفئات على مذهب واحد.
والليبرالية تقرر الحرية، حرية أن يختار المرء ما يشاء، وأن ما يختاره الإنسان لنفسه هو الأحسن، ولو كان عند غيره هو الأسوء.. لكنهم انقلبوا على مذهبهم هذا، لما جعلوا من خيارهم هو الأمثل والأحسن، وأنه ينبغي أن يكون الناس على المثال الذي صنعوه.
فهذا هو الاعتراض على صورة القضية لديهم، وهذا ملخصه:
-…أن حقوق المرأة - في هذه المؤتمرات - نابعة من مذهب لا ديني، هو العلمانية.
-…أن حقوق المرأة تسير وفق النهج الليبرالي، دون اعتبار لأحكام: دين، أو مجتمع، أو أو أسرة.
-…أن المؤتمرين حينما يفرضون قراراتهم على الشعوب كافة، مستخدمين في ذلك سلطان الدول الكبرى، فإنهم يرتدون عن مبادئ العلمانية والليبرالية نفسها، ويمارسون ما ينهون عنه من إقصاء وإلغاء الآخر.
*…*…*
5- تاريخ المؤتمرات.
كل المؤتمرات تمت برعاية من هيئة الأمم المتحدة، أو لجان تابعة لها..!!.
فقد بدأ اهتمام الهيئة بالمرأة منذ عام ستة وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد (1365هـ)؛ أي بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وفي المواد الأولى لدستور الهيئة وميثاقها، الذي كتب في سان فرانسيسكو عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف للميلاد (16/7/1364، 26/6/1945): التأكيد على مبدأ المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق. وهذه قضية لازالت الهيئة تؤكد عليها، في اتفاقياتها، ومؤتمراتها.
واللجان التابعة للهيئة المعنية بالمرأة هي:
1-…لجنة مركز المرأة.
2-…صندوق الأمم المتحدة للسكان.
3-…صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة.
4-…برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
5-…المعهد الدولي للبحث والتدريب من أجل النهوض بالمرأة.
6-…جامعة الأمم المتحدة.
7-…معهد الأمم المتحدة لبحوث التنمية الاجتماعية.
8-…اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة.
9-…منظمة الأمم المتحدة للطفولة.(31/462)
10-…منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة.
وغيرها..
أما المؤتمرات الخاصة بالمرأة، المنعقدة تحت رعاية هذه الهيئة، فهي من حيث الترتيب الزمني كالتالي:
1-…مؤتمر مكسيكو ستي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة، والتنمية، والسلم. عقد عام 1975م/1395. واعتبر ذلك العام: العام العالمي للمرأة. واعتمد فيه أول خطة عالمية متعلقة بوضع المرأة.
2-…في عام 1399هـ - 1979م عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمراً تحت شعار (القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة) وخرج المؤتمرون باتفاقية تتضمن ثلاثين مادة وردت في ستة أجزاء، للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. وجاءت هذه الاتفاقية لأول مرة بصيغة ملزمة قانونياً للدول التي توافق عليها، إما بتصديقها أو بالانضمام إليها. وقد بلغ عدد الدول التي انضمت إلى هذه الاتفاقية مائة وثلاثاً وثلاثين دولة، إلى ما قبل مؤتمر بكين عام 1995م.
3-… في عام 1400هـ -1980م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة : المساواة والتنمية والسلم) وهو المؤتمر الثاني الخاص بالمرأة؛ وذلك لاستعراض وتقويم التقدم المحرز في تنفيذ توصيات المؤتمر العالمي الأول للسنة الدولية للمرأة والذي عقد عام 1395هـ - 1975م في المكسيك، ولتعديل البرامج المتعلقة بالنصف الثاني من العقد الأممي للمرأة، مع التركيز على الموضوع الفرعي للمؤتمر: العمالة والصحة والتعليم.
4-…في عام 1405هـ - 1985م عقد (المؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة : المساواة والتنمية والسلم) في (نيروبي) بكينيا - المؤتمر الثالث الخاص بالمرأة - الذي عرف باسم (إستراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض بالمرأة) وذلك من عام 1406-1420هـ/ 1986حتى عام 2000م.
5-…في عام 1416هـ - 1995م عقدت الأمم المتحدة (المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة)، في (بكين) بالصين. وقد دعت فيه إلى مضاعفة الجهود والإجراءات الرامية إلى تحقيق أهداف استراتيجيات نيروبي التطلعية للنهوض بالمرأة بنهاية القرن الحالي.
بالإضافة إلى هذه المؤتمرات الخاصة بالمرأة فهناك مؤتمرات أقامتها الأمم المتحدة خاصة بالسكان، إلا أنها ناقشت - من ضمن وثائقها - قضايا متعلقة بالمرأة، هي:
1-…في عام 1394هـ - 1974م أقيم المؤتمر العالمي الأول للسكان (بوخارست - رومانيا)، وقد اعتمدت في هذا المؤتمر خطة عمل عالمية.
2-…في عام 1404هـ - 1984م أقيم المؤتمر الدولي المعني بالسكان) في (مكسيكو سيتي - بالمكسيك).
3-… في عام 1415هـ - 1994م أقيم المؤتمر الدولي للسكان والتنمية) في (القاهرة) بمصر.
كما أقيمت مؤتمرات أخرى للأمم المتحدة نوقشت فيها بعض قضايا المرأة، من هذه المؤتمرات:
1-…المؤتمر العالمي لتوفير التعليم للجميع، والمنعقد في (جومتيان-تايلند) عام 1410هـ -1990م.
2-… مؤتمر القمة العالمي من أجل الطفل، والمنعقد في (نيويورك - الولايات المتحدة الأمريكية) عام 1410هـ - 1990م.
3-…المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية، والمنعقد في (ريودي جانيرو-البرازيل) عام 1412هـ - 1992م.
4-… المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في (فينا - النمسا)، أو ما يسمى إعلان وبرنامج عمل فينا، عام 1413هـ - 1993م. وطالب هذا المؤتمر الأمم المتحدة بالتصديق العالمي من قبل جميع الدول على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بحلول عام 1420هـ -2000م.
5-…إعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد النساء، وذلك في عام 1413هـ - 1993م.
6-… مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية، الذي أقيم في (كوبنهاجن - الدنمارك) عام 1415هـ - 1995م.
7-…مؤتمر الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (الموئل الثاني )، الذي انعقد في (إستنبول - تركيا) عام 1416هـ - 1996م.
8-… مؤتمر الأمم المتحدة للمرأة عام (1420هـ -2000م) المساواة والتنمية والسلام في القرن الحادي والعشرين، الذي انعقد في (نيويورك - الولايات المتحدة الأمريكية). ويعتبر أهم هدف في هذا المؤتمر هو: الوصول إلى صيغة نهائية ملزمة للدول، بخصوص القضايا المطروحة على أجندة هذا المؤتمر، التي صدرت بحقها توصيات ومقررات في المؤتمرات الدولية السابقة، تحت إشراف الأمم المتحدة.
ولأهمية هذا المؤتمر - وتعويل التيار النسوي العالمي عليه -؛ فقد أقيمت عدة مؤتمرات إقليمية لمتابعة توصيات مؤتمر بكين، والتمهيد لهذا المؤتمر المسمى: (( المؤتمر التنسيقي الدولي للنظر في نتائج وتطبيق قرارات المؤتمرات الأممية للمرأة)). ومن هذه المؤتمرات الإقليمية:
1-…اجتماع في نيويورك في شهر مارس عام 2000م، تحت شعار [ بكين +5] (إشارة إلى السنوات الخمس التي مضت على مؤتمر بكين)، جرت في هذا الاجتماع محاولة لإدخال تعديلات على وثيقة مؤتمر بكين.
2-…المؤتمر النسائي الإفريقي السادس في نوفمبر 1999م في أديس أبابا، نظمه المركز الأفريقي التابع للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية.(31/463)
3-…مؤتمر - شبيه لما سبق - في عمان بالأردن، وفي بيروت، وذلك في أواخر عام (1420هـ -1999م)، نظمته اللجنة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا، التابعة للأمم المتحدة.
وهكذا يظهر - بوضوح - اهتمام الأمم المتحدة القوي بالمرأة وقضاياها، من خلال هذا العدد الهائل من الاتفاقيات والمؤتمرات العالمية التي تقيمها، وتشرف على صياغة وثائقها عبر المنظمات والوكالات التابعة لها.
…………[ انظر: العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. فؤاد العبد الكريم]
*…*…*
6- القرارات والتوصيات.
ليس ما يؤخذ على هذه القرارات ينحصر في مخالفته لصريح الدين الإسلامي، وكافة الأديان؛ فإن فيها بنودا تعد انقلابا على ثقافات كافة الشعوب، منذ بدء التاريخ الإنساني..!!.
إنهم يبتغون تغيير وجه العلاقة بين الجنسين كليا.. بعد أن غيروه جزئيا، وأدخلوا على الشعوب أخلاقا وثقافات لم تعرف إلا في المجتمعات البدائية، الجاهلة بكل أنواع العلوم، والآداب، والأذواق، التي كانت تتمتع بها المجتمعات المتحضرة.
فهي توجهات تخالف: الفكر الإنساني، والطبيعة الإنسانية، والتاريخ الإنساني.
فمشكلتهم ليست مع المسلمين، ولا الإسلام، إنما مع كل العقلاء وأصحاب الفكر السليم في شعوب العالم.
وهذه جملة من هذه القرارات، ليست على سبيل التتبع، وإنما قلنا: قرارات؛ كونها ليست مجرد توصيات، بل صيغت لتنفذ، ولو بالضغط، وربما الحرب مستقبلا ؟!!..:
*…*…*
1-…في تقرير المؤتمر الدولي للسكان، في مكسيكو سيتي (1984-1404):
"ينبغي أن تكون السياسات الأسرية - التي تعتمدها، أو تشجعها الحكومات - حساسة؛ للحاجة إلى ما يلي:
-…تقديم الدعم المالي، أو أي دعم آخر إلى الوالدين - بما في ذلك الوالد غير المتزوج، أو الوالدة غير المتزوجة خلال الفترات التي تسبق أو تلي ميلاد الطفل…
-…مساعدة الزوجين والوالدين الشُبّان - بما في ذلك الوالد غير المتزوج، أو الوالدة غير المتزوجة - في الحصول على سكن مناسب".
-…"تعترف خطة العمل العالمية للسكان بالأسرة - بأشكالها المتعددة - باعتبارها الوحدة الأساسية للمجتمع، وتوصي بإعطائها حماية قانونية، والأسرة مرت - ولا تزال تمر - بتغيرات أساسية في بنيتها ووظيفتها".
-…"ينبغي أن تبذل الحكومات المعنية جهودا لرفع سن الزواج في البلدان التي ما زال سن الزواج فيها منخفضة جدا".
-…"تشجيع التثقيف المجتمعي؛ بغية تغيير المواقف الحضارية التي تقرر الحمل في سن مبكرة، اعترافا بأن حدوث الحمل لدى المراهقات - سواء كن متزوجات أم غير متزوجات - له آثار ضارة على معدل تفشي الأمراض والوفيات بين الأمهات والأطفال على السواء".
*…*…*
2-…في تقرير المؤتمر العالمي للمرأة في كوبنهاجن (1400هـ- 1980):
-…"ينبغي الإسهام في إحداث تغيير في المواقف بالقضاء على الأنماط التقليدية لدوري الرجل والمرأة، والعمل على خلق صور جديدة أكثر إيجابية عن مشاركة المرأة في الأسرة وسوق العمل، وفي الحياة الاجتماعية والعامة".
-…"فحص المناهج والمواد التعليمية؛ بغية إزالة ما قد يكون فيها من تحيز جنسي، وإزالة الصورة التقليدية لأدوار الفتيات والنساء، والعمل على إيجاد موارد ومواد للمناهج التي لا تميز بين الجنسين".
-…"تعزيز سبل وصول الفتيات إلى المهن التي يسيطر عليها الذكور في العادة".
-…"تفسر المساواة هنا: على أنها لا تعني فقط المساواة القانونية، والقضاء على التمييز القانوني، ولكنها تعني أيضا المساواة في الحقوق، والمسؤوليات، والفرص المتعلقة بإشراك المرأة في التنمية".
-…"توفير المساعدة اللازمة لإقامة تعليم مختلط، متى كان ذلك ممكنا، وتوفير معلمين مدربين من كلا الجنسين".
*…*…*
3-…في تقرير المؤتمر الدولي للسكان والتنمية في القاهرة (1415هـ-1994):
-…"ينبغي أن تقوم الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص بالاستثمار في جميع جوانب الصحة الإنجابية، بما في ذلك تنظيم الأسرة، والصحة الجنسية، وتعزيز ذلك ورصده وتقييمه".
-…"إن من الأمور الأساسية تحسين الاتصال بين الرجل والمرأة، فيما يتعلق بقضايا الحياة الجنسية والصحة الإنجابية".
-…"تشجيع التطوير المناسب للحياة الجنسية المسؤولة، بما يسمح بوجود علاقات المساواة والاحترام المتبادل بين الجنسين، ويسهم في تحسين نوعية حياة الأفراد".
-…"ينبغي العمل على إتاحة الرفالات والعقاقير للوقاية من الأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي، وتوفيرها على نطاق واسع، وبأسعار متهاودة، مع إدراجها في جميع قوائم العقاقير الأساسية".
-…"منع حالات الحمل غير المرغوب فيه".
-…"ينبغي للمجتمع الدولي أن يتحرك من أجل توريد وسائل منع الحمل".
-…"المراهقات اللاتي يحملن يحتجن إلى دعم خاص من أسرهن ومجتمعهن المحلي، خلال فترة الحمل ورعاية الطفولة المبكرة".
-…"توجد أشكال مختلفة للأسرة تبعا لاختلاف النظم الثقافية، والسياسية، والاجتماعية".(31/464)
-…"اشتراك المرأة اشتراكا كاملا، وعلى قدم المساواة في الحياة: المدنية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية. على كل من الصعيدين الوطني، والإقليمي، والدولي. وإزالة جميع أشكال التمييز على أساس الجنس، هما من الأهداف التي تحظى بالأولوية لدى المجتمع الدولي".
-…"ينبغي إزالة أوجه الجور والحواجز القائمة، التي تقف أمام المرأة في مكان العمل".
*…*…*
4-…في تقرير المؤتمر العالمي للمرأة في بكين (1416هـ-1995):
-…"محدودية ما يتمتع به كثير من النساء من سلطان على حياتهن الجنسية والإنجابية، والافتقار إلى التأثير في عملية صنع القرار، هي من الحقائق الاجتماعية التي تترك أثرا معاكسا على صحة المرأة".
-…"المواقف السلبية تجاه المرأة أو الفتاة، والقدر المحدود من سيطرة كثير من النساء والفتيات على حياتهن الجنسية والإنجابية".
-…"للمرأة حقها في أن تتحكم، وأن تبت بحرية ومسؤولية، في المسائل المتصلة بحياتها الجنسية".
-…"توجد أشكال مختلفة للأسر في النظم الثقافية، والسياسية، والاجتماعية المختلفة".
-…"وضع سياسات في مجال التعليم تتناول - في جملة أمور - تغيير الاتجاهات التي تعزز تقسيم العمل على أساس نوع الجنس، بغية تعزيز مفهوم اقتسام المسؤوليات الأسرية في العمل، وفي المنزل".
-…"ينبغي تعزيز الاستقلال الاقتصادي للمرأة، بما في ذلك توفير فرص العمل لها".
-…"سنّ وتعزيز القوانين التي تقر بتكافؤ الفرص، واتخاذ إجراءات إيجابية في هذا الشأن، وضمان الامتثال لها من جانب القطاعين العام والخاص، باتباع أساليب مختلفة".
-…"بلوغ الهدف المشترك، المتمثل في تحقيق المساواة بين الجنسين، في جميع أنحاء العالم".
-…"تعزيز المشاركة الكاملة، والمتساوية للبنات في الأنشطة غير المدرسية، مثل الألعاب الرياضية، والأنشطة المسرحية، والثقافية".
*…*…*
5-…في تقرير المؤتمر العالمي للمرأة في نيروبي (1405هـ-1985):
-…"وتسليما بأن الحمل الذي يحدث للمراهقات - سواء المتزوجات منهن أو غير المتزوجات - لها آثار معاكسة، بالنسبة لأمراض الأم والطفل ووفياتهما، يهاب بالحكومات أن تضع سياسات لتشجيع التأخير في إنجاب الطفل".
-…"هناك حاجة إلى استبعاد عبارات مثل (رب الأسرة)، وإدخال عبارات أخرى على درجة من الشمول تكفي للتعبير عن دور المرأة - على نحو مناسب - في الوثائق القانونية، ضمانا لحقوقها".
-…"على الحكومات أن تشجع المشاركة الكاملة للمرأة، في مجموع المهن، خاصة في الميادين التي كانت تعتبر - فيما سبق- وقفا على الرجال؛ بغية تحطيم الحواجز والمحظورات المهنية. وينبغي ورضع برامج لتحقيق المساواة في العمالة؛ من أجل إشراك المرأة في جميع الأنشطة الاقتصادية على قدم المساواة مع الرجل".
-…"ينبغي أن تزال إزالة تامة العقبات التي تعترض تحقيق المساواة بالنسبة للمرأة، التي تتسبب فيها القوالب النمطية الجامدة، والتصورات والمواقف تجاه المرأة، وتتطلب إزالة هذه الحواجز، بالإضافة إلى التشريع".
-…"ينبغي تشجيع الأخذ بطرائق جديدة في التعليم؛ للتدليل - بوضوح - على المساواة بين الجنسين. كما يجب أن تكون البرامج، والمناهج الدراسية، ومستويات التعليم، والتدريب واحدة بالنسبة للذكور والإناث".
[ العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. فؤاد العبد الكريم]
*…*…*
7- تحليل ومناقشة القرارات.
تلخص تلك القرارات فيما يلي:
1-…المساواة بين المرأة والرجل مساواة كلية، في كافة الحقوق. وهذا البند عامل مشترك في جميع القرارات الصادرة من هذه المؤتمرات، منذ البدايات.
2-…مطالبة الدول بإقرار الحرية الجنسية لغير المتزوجين، من الجنسين، حتى الصغار من المراهقين والمراهقات، وبتقديم الرعاية لهم، في الوقاية، والصحة، والسكن، ودعوة الأسر باحتضانهم.
3-…في الوقت نفسه: مطالبة الحكومات برفع سن الزواج..؟!!!.
4-…إباحة الشذوذ الجنسي وهو: زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة. تحت مسمى "الأشكال المختلفة للأسرة"، ويدخل تحت هذا المسمى أيضا الأسرة من رجل وامرأة لا تربطهما علاقة شرعية.
5-…إلغاء مفهوم "رب الأسرة"، بما يعني إلغاء قوامة الرجل على المرأة.
6-…الدعوة إلى الاختلاط بين الجنسين في الأعمال وغير ذلك.
7-…وضع سياسات لتغيير الاتجاهات التي تعزز تقسيم العمل على أساس الجنس.
8-…تغيير المناهج التعليمية، وإيجاد مناهج لا تميز بين الجنسين.
9-…تسخير وسائل الإعلام والمناهج التعليمية لتثقيف المجتمع بالنواحي الجنسية، والمساواة.
ولن نناقش في هذه المحاولة، سوى المسائل التي تلتبس على بعض الناس، مثل: المساواة، ورب الأسرة، والاختلاط. أما الشذوذ، والحرية الجنسية، فهي انحرافات جلية.
*…*…*
-…أولا: المساواة:
جاء في مؤتمر بكين: "بلوغ الهدف المشترك، المتمثل في تحقيق المساواة بين الجنسين، في جميع أنحاء العالم".
----
أول استعمال لهذا المبدأ حدث في شعار الثورة الفرنسية: حرية، إخاء، مساواة.(31/465)
حينها كان أمنية تمناها جميع من عانى من: الأنظمة الملكية الدكتاتورية، والسلطة البابوية، والاضطهاد الإقطاعي. حيث حرمت شعوب أوربا من أبسط حقوقها، التي استأثر بها جمع من المتسلطين.
كان الشعار جميلا، لكن أحدا لم ينفذ إلى العمق، ليدرك كنهه وماهيته..!!.
لم يسأل أحد: في أي شيء تكون المساواة ؟:
أمساواة بين العالم والجاهل ؟، أمساواة بين المجتهد والكسول ؟، أمساواة بين العامل والعاطل ؟.
أم مساواة بين الناس في الحقوق العامة الأساسية: كالسكن، والعمل، والتعليم، وإبداء الرأي ؟.
قدر من المساواة مطلوب، لا شك.. هي التي لا تصلح حياة الإنسان وكرامته من دونها.
فأما المساواة المطلقة فظلم ظاهر: ظلم أن يساوى في المكافأة بين العامل والمهمل، والعالم والعامي. لكن ذلك الشعار لم يفصل، ولم يبين حدود المساواة، بل أطلق، ليبقى محل الجدل والتوهم، والاستعمال السيء إذا لزم.
ولما أرادت الشيوعية المساواة بين الناس في ذلك: كان من نتيجتها تراجع الإنتاج، وضعف الاقتصاد. فأي شيء يغري الإنسان في العمل الجاد، إذا كان ما يعطاه في الآخر، هو ما يعطاه المتواني في عمل ؟!.
ولو عدنا إلى المساواة بين الرجل والمرأة: نجد التضليل ذاته يعاد ويكرر هنا..!!.
فكيف يساوى مساواة مطلقة، بين اثنين مختلفين في الجنس، ولو اتفقا في النوع ؟!.
هذا شيء يخالف: الخلقة، والجبلة، والفطرة، والعقل، والدين..!!.
المرأة في شكلها، وتكوينها، وروحها، وعقلها شيء آخر غير الرجل.. والوظائف تختلف تبعا لذلك؛ ولذا نرى المرأة لا تقوى على كثير من أعمال الرجل، خاصة الشاقة منها.
ونحن نتحدث عن مساواة مطلقة، هي التي تدعو إليها هذه القرارات. أما المقيدة، فقد تقدم أن قدرا من المساواة مطلوب، تلك التي تكون في الحقوق العامة، التي لا تصلح حياة الإنسان وكرامته إلا بها.
وفي المساواة المطلقة انتهاك لحياة المرأة وكرامتها؛ فعندما تطالب المرأة أن تكون رجلا، فهذا انتهاك ظاهر لأنوثتها، الذي تعتز بها، وليس من امرأة إلا وتعتز بأنوثتها، وليس في أمانيها أن تصبح رجلا.
فالمطالبة بمساواتها المطلقة بالرجل لا يكون إلا بأحد أمرين:
-…إما أن تترك أنوثتها، لتكون ذكرا حقيقة لا مجازا، وهذا مستحيل.
-…وإما أن يترك الرجل رجولته، ليكون أثنى حقيقة لا مجازا، وهذا مستحيل أيضا، وهم لا يدعون إليه.
نعم.. هذه القرارات تطلب من المرأة أن تكون رجلا، والدليل:
-…أنها تقرر أن المرأة لها أن تعمل نفس عمل الرجل، وفي أعماله أشياء لا تطيقها المرأة، إلا أن تكون رجلا
-…أنها تقرر سلب قوامة الرجل عليها، لتكون شريكا له، وفي هذا مساواته بالرجل.
-…هذه القرارات تخرج المرأة من طبيعتها، ولا تخرج الرجل من طبيعته، لم تطلب من الرجل أن يدع عمله، واختصاصه، بل طلبت من المرأة أن تدع عملها، واختصاصها، لتتولى مهام مثل مهام الرجل، بغير فرق.
وأكبر دليل على استحالة حصول هذه المساواة بهذا المفهوم المقرر:
أن الغرب أول من دعا لمثل هذا المفهوم، منذ ما يزيد على القرنين، من حين بدء الثورة الصناعية، وإلى اليوم لم تنل المرأة الغربية القدر المطلوب الحسن من هذه المساواة، دع عنك المطلقة منها، فعلى سبيل المثال:
-…أجرها على النصف والثلث من أجر الرجل، وهي تقوم بالعمل نفسه الذي يقوم به للرجل.
ومثل هذا الظلم لا يوجد في كثير من البلدان، خاصة الإسلامية، التي تحصل فيها المرأة على كامل حقوقها المالية، مثل الرجل بلا فرق.
حقيقة الأمر: أن الدعوة إلى حقوق المرأة ومساواتها بالرجل لم يكن الغرض منه سوى:
-…رفع قوامة الرجل عنها.
-…وأن تمنح حريتها الجنسية، لتتمتع بجسدها وتمتع من شاءت.
-…تحت حماية القانون، ورقابته.
-…هذا هو الغرض.. لا غير.
ولا أدل على هذا من التركيز الشديد على مسألة الجنس، والحرية الجنسية للمرأة، في كافة المؤتمرات، وكثير من البنود والقرارات، فكثرتها ملفتة للنظر، يعطي دليلا على أن الغاية كلها تدور حول الجنس.
ولأن هذا هو الباعث للبحث في حقوق المرأة، فإن الغرب أكد ودلل على أن هذا هو هدفه وغايته؛ لما منح المرأة هذا الحق، كما هو تعبيرهم، ثم حرموها من الحقوق الأخرى، وفيها ما هو حق لها حقيقة، كمساواتها بالرجل في الأجور، وفيها ما هو من دعاواهم، كحقها في الترشح، والوزارة، والرئاسة، والقضاء، والمناصب العليا، والقيادات:
-…فلو ذهبت تحصي عدد رؤساء الدول من النساء مدة قرن وزيادة، ما وجدت إلا واحدة أو اثنتين.
-…أو وزيرات، ما وجدت شيئا يستحق الذكر.
-…أو جنرالات حرب، وقادة عسكريين من النساء، لم تجد شيئا ذا بال.
-…أو قاضيات، فأعداد لا تتناسب مع النسب النسوية.
ما وجدت إلا: سكرتيرات، عاملات نظافة، نادلات، بائعات هوى، بغايا، فتيات دعاية وإعلان، عارضات أزياء، ممثلات، مغنيات، كانسات للطرق، عاملات في المحطات، ممرضات، حاضنات، بائعات.
كلها أعمال متدنية، ليست راقية، ولا بأعمال وعدت بها المرأة، لما نودي بمساواتها بالرجل..!!.
فهل ظلمها الغرب، أو احتال عليها، أو نسي وعوده ؟!.(31/466)
كل ذلك جائز، لكن الحقيقة أن المرأة نفسها لم تخلق لما كانوا يدعون إليه، ولو خلقت لمثل ذلك، لكسرت كل العوائق، ووصلت بكثافة نسائية إلى كل تلك المناصب التي حرمت منها، كما وصلت إلى ما دونها.!!.
الغرب أكبر شاهد على فساد هذه المؤتمرات وقراراتها:
-…شاهد بأن شعار حقوق المرأة، لن يعطي المرأة إلا الحرية الجنسية، والتخلص من قوامة أبيها الشفيق، لتكون تحت قوامة كل عشيق، وكل محتال.
-…شاهد بأن المرأة لن تصل إلى ما قيل لها أنها تصل إليه: إلى المساواة بالرجل.
-…شاهد أنها ستشقى، وتخسر حنان البيت والأسرة، والأولاد، والأبوين، والإخوة والأخوات، لتعيش في غربة موحشة، وحياة فردية ليس فيها أنيس.
-…شاهد أنها لن تجني من الحقوق إلا: الاغتصاب، والنصب، والاحتيال، وبيع الجسد، والتقوت بالشرف.
وهاهي هذه المؤتمرات تعيد الكرة من جديد، وهاهم الأوفياء لها يسعون في الأرض بهذه القرارات، لتنفذ، وهانحن نراها تسري بيننا كالسرطان، لا طبيب قادر على إيقافها، ولا دواء يمكن به علاجها..!!.
*…*…*
-…ثانيا: رب الأسرة.
جاء في مؤتمر نيروبي: "هناك حاجة إلى استبعاد عبارات مثل (رب الأسرة)".
----
في هذا العالم: لا يوجد مجتمع صغير أم كبير إلا وله: رئيس ومرؤوس.. مدير وموظفون.. ملك ورعية.. حاكم ومحكومون. من: المدرسة، إلى المؤسسة، إلى الشركة، إلى الدائرة، إلى الوزارة، إلى الدولة.
ولا أحد يجادل في هذه الوضعية، ولم نسمع بأحد عاقل ينادي بمدرسة بلا مدير، أو شركة بلا رئيس، أو دولة بلا حاكم؛ ولم نر فاهما يقترح وجود مديرين، أو رئيسين، في أي عمل مشترك، حتى في صنع الطعام.
والسبب بدهي لا يحتاج إلى تذكير؛ فتنظيم الأمر، والقضاء على الفوضى، وتحصيل الأهداف المرجوة من تلك الاجتماعات، لا تتم إلا بهذه الطريقة فقط.
ولو حصل اختلال لهذا الترتيب: حصل اللغط والفوضى، وانتفى الأمن والأمان، وتعطلت المصالح.
هذه المسلمة البدهية يريد هؤلاء المؤتمرون، ومن وراءهم: نقضها، وفسخها، وإقناعنا بضرورة وصلاحية ذلك لنظام الأسرة خصوصا، دون باقي الأنظمة.
لم الأسرة بالذات ؟!!..
أليست الأسرة مجتمعا كسائر تلك المجتمعات، تحتاج إلى مسؤول ورئيس قيّم ؟!.
أليست الأسرة أخطر المجتمعات وأهمها، من جهة التربية والإصلاح؛ فأغلب سنوات الطفل يكون فيها، يتلقى عنها، ويتعلم فيها، فإذا كانت صالحة، كان صالحا، وإلا فلا..
والأسرة لن تكون صالحة، ولن تعطي الطفل ما يحتاجه من الرعاية والتربية، إلا وهي في حال استقرار. فكيف للأسرة أن تنعم بالاستقرار مع إلغاء منصب الرئيس والمدير والمسؤول فيها ؟.
بل كيف يستقر حال الزوجين، ولا مسؤول في الأسرة، يكون فيصلا في كل خلاف ؟!.
فالمعادلة كما يلي:
-…المقدمة الأولى: كل تجمع يحتاج إلى مدير.
-…المقدمة الثانية: الأسرة نوع من أنواع التجمع.
-…النتيجة: الأسرة تحتاج إلى مدير.
من نازع في هذه النتيجة، فأحد أمرين:
-…إما أنه ينازع في المقدمة الأولى، فيزعم أن التجمعات لا تحتاج إلى مدير.
-…وإما أنه ينازع في المقدمة الثانية، فيزعم أن الأسرة ليست نوعا من أنواع التجمع.
وحينئذ - في كلا الحالتين - فالنزاع في المسلّمات، ومن نازع في المسلّمات فلا يلومنّ إلا نفسه.
أما الذي يسلّم بهما - وليس له إلا هذا - فعليه وجوبا أن يسلّم بالنتيجة.
*…*…*
وإذا حصل التسليم بالنتيجة، فالأسرة لا بد لها من رب، فمن يكون هذا الرب ؟.
الجواب المنطقي: أحدهما: إما الزوج، أو الزوجة. ولا ثالث، وبعدئذ ينظر في أصلحهما لهذه المسؤولية.
فهل المرأة مهيئة لهذه المسؤولية، ومستعدة لها ؟.
وبعيدا عن العاطفة: هل المرأة قادرة على إدارة سفينة الأسرة، فتكون المخططة، والمنظمة، والمسؤولة عن تقويم الأولاد، وتأديبهم، والسعي في قوتهم، والإنفاق عليهم، وحمايتهم، وصونهم، والانتقال بهم من مكان إلى آخر، وعلاجهم، والذهاب بهم إلى الأطباء. مع أعبائها الأخرى، التي ليس في وسع الرجال القيام بها: من حمل، وولادة، ورضاع، وحضانة. وما يعتريها من نفاس، وحيض ؟.
ولا يعترض هنا: بأن ثمة نساء قادرات على كل هذا ؟.
فالمسألة المطروحة هنا: بحسب حال عموم النساء، وليس بحسب حال بعضهن. فعموم النساء هل يقدرن على القيام بهذه المهام المضنية، التي تحتاج إلى صبر طويل، وعمل شاق، وحزم وقوة ؟.
الجواب: كلا، عموم النساء عاجزات عن هذا، وليس هذا عيبا فيهن، بل عجزهن في القيام بهذه الأعمال، كعجز الرجل عن القيام بحضانة الطفل ورعايته، وكعجزه عن القيام بشؤون البيت، وتنظيمه وترتيبه.
عجز هنا، وعجز هناك.. واقتدار هنا، واقتدار هناك..
فالحكمة أن يكلف الإنسان بالعمل الذي يقدر عليه، وليس من الحكمة تكليفه بما لا يقدر عليه.
وقد جربت المرأة أن تتكلف عمل الرجل، لتكون شريكا له، فرجعت مقرة أنها لم تخلق لعمل كهذا، بل خلقت لأعمال البيت والأمومة، تلك الأعمال الجليلة، التي لازال المؤتمرون يكرهونها إليها، ويقبحونها في عينها، حتى صدقت، فجربت غيرها، فتيقنت أنها خدعت خدعة كبرى ..؟!!
وإن كنتم في ريب: فاسألوا العاملات، والموظفات، واللاتي اقتحمن أعمال الرجال ؟.
*…*…*(31/467)
فإذا ثبت أن المرأة غير مؤهلة للقيام بدور رب الأسرة، فما بقي إلا الرجل ..!!.
ثم إن كون الرجل رب الأسرة، لا يخول له أن يتحكم تحكما مطلقا، ويكون جبارا دكتاتورا؛ فإن من أهم أسباب فشل المؤسسات والشركات، وأي نوع من أنواع التجمعات، وضعف إنتاجها، وإفلاسها، وعدم تحقيق أهدافها: أن يستبد المدير المسؤول بالأمر، فلا يكون لمن معه أي خيار، ولا مشورة، ولا رأي.
وكذا الأسرة، تفشل إذا اتبع ربها هذا الأسلوب..
فإذا قيل: إن الرجل بحكم أنه رب الأسرة، أساء استغلال منصبه هذا، فما كان من حل إلا إلغاء هذا المنصب، وجعله شراكة بينه وبين المرأة، ضمانا لعدم تكرار المشكلة.
فيقال: إذن طبقوا هذه القاعدة المحدثة على: المدارس، والمؤسسات، والوزارات، والدول.
فإن فيها من الفساد والاستغلال شيئا لا يخفى، واعقدوا المؤتمرات، وأصدروا القرارات والتوصيات بجعل الإدارة في هذه التجمعات شراكة بين الأعضاء، ليس لها رئيس.. فهل سيفعلون ؟.
كلا، والسبب ظاهر: إنهم يريدون الأسرة، فقط الأسرة..!!.
أما غيرها فلهم لمشكلاتها حلول أخرى، ليس منها إلغاء مفهوم: "رب العمل".. ؟!!! .
*…*…*
-…ثالثا: الاختلاط.
جاء في مؤتمر كوبنهاجن: "توفير المساعدة اللازمة لإقامة تعليم مختلط".
جاء في مؤتمر القاهرة: "ينبغي إزالة أوجه الجور والحواجز القائمة، التي تقف أمام المرأة في مكان العمل".
-----
يعنون بالاختلاط: تعليم وعمل مشترك بين الجنسين. وهو ضد الفصل في هذا النشاطات.
فهل من حقوق المرأة أن تختلط بالرجال ؟.
الحقوق - كما تقدم - هي: التي لا تصلح حياة الإنسان وكرامته إلا بها.
فهل حياة المرأة لا تصلح، وكرامتها لا تتم إلا بأن تخالط الرجال في التعليم، والعمل ؟.
ما الذي تخسره المرأة إن هي تباعدت، فتعلمت، وعملت في بيئة نسائية خاصة ؟.
وما الذي تكسبه إن اختلطت بالرجال ؟.
ولو فرض أن للاختلاط مكاسب، مثلما ما يقال: اكتساب الخبرة، والمعرفة، والثقة، والاحترام.
فما نسبة هذه المكاسب إلى الخسائر ؟!..
أو لا خسائر في الاختلاط ؟!!.
أو خسائر تغتفر في بحور المكاسب ؟!!.
مسائل لا بد من الإجابة عنها بصدق، ونصح؛ فتجارب الاختلاط عرفتنا بالمكاسب والخسائر، وصار من السهل جدا المقارنة بينهما، فأصحاب الشأن، أولئك الذين خاضوا تجربة الاختلاط - خصوصا النساء - كل يوم يحكون للعالم عن تجربتهم، فماذا يقولون ؟.
إنهم يحذرون من الاختلاط، ويدعون إلى الفصل بين الجنسين:
-…فها هو الرئيس الأمريكي جورج بوش يدعو إلى الفصل بين الطلاب والطالبات في المدارس.
-…وهاهو وزير التربية الأمريكي ينادي بالفصل بين الذكور والإناث في المدارس.
-…وهاهي المدارس والكليات والمعاهد الخاصة بالإناث تنتشر في الولايات المتحدة الأمريكية، وتنتشر كذلك في دول أوربا.
-…وكثير من الكتّاب والكاتبات وأصحاب الفكر في الغرب يحذرون من الاختلاط في التعليم: [انظر: مقولاتهم، ودراساتهم في كتاب: العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. ص232-239]
-…كما يحذرون من العمل المختلط. [انظر: مقولاتهم، ودراساتهم في كتاب: العدوان على المرأة في المؤتمرات الدولية. ص311-318. كذلك كتاب: عمل المرأة في الميزان. لمحمد علي البار]
بعد تجربة دامت أكثر من قرنين يرتدون عن وصايا فرويد ونظرياته حول الكبت..!!.
فما الذي حصل ؟.
-…الذي حصل: انتشار حالات الاغتصاب من الذكور للإناث، في كل مكان، حتى في دورات المياه.
-…الذي حصل: تدني مستوى التحصيل عند الجنسين، لاشتغال كل جنس بلفت نظر الآخر.
-…الذي حصل: حمل الفتيات سفاحا في سن مبكرة، ودخولهن عالم الأمومة، وحالات الإجهاض.
-…الذي حصل: ظلم المرأة، وابتزازها، وتحطيم معنوياتها، واستغلال جسدها.
-…الذي حصل: تحرش جنسي من الرئيس للموظفة، والمدير للمعلمة.
-…الذي حصل: آلام ومشاكل نفسية عانت منها الفتاة، والمرأة، ولازمتها طيلة الحياة.
هذه الأمور هي التي أعادوا لأجلها النظر في الاختلاط بين الجنسين.. والسلبيات غير هذه كثيرة، لكنهم وبحسب فهمهم للحريات، لا تعنيهم تلك السلبيات كثيرا.
فهذه هي الخسائر، إزاء ما يمكن اعتباره مكاسب، فأين هذه من هذه ؟.
المشكلة تكمن في: أن الغرب يدرك هذه المخاطر، ثم هو يوجه هذه المنظمات لتكرار تجربته في دول أخرى.
مما يدل على أن ثمة أيدٍ تعمل على نشر سلبيات وأخطاء الغرب، لتعم العالم كله، لتؤدي الدور نفسه التي أدته في الغرب، وتتجرع الشعوب نفس الداء الذي تجرعه الغرب.
*…*…*
إن معرفة الآثار السيئة للاختلاط لا تتوقف على التجربة، فنفس معرفة طبيعة الرجل، ونظرته إلى المرأة، وافتتانه بها، وطلبه إياها.. ومعرفة طبيعة المرأة، وميلها إلى الرجل، وإغرائه: يكفي في إدراك خطر الاختلاط.
لكنا صرنا في زمن نناقش فيه البدهيات:
-…لإقناع من ذهبت عقولهم من رؤسهم، فما عادوا يميزون بين البدهي، والذي يحتاج إلى برهان.
-…ولإبطال حجج من فسد سلوكهم، فصاروا يدللون مع على محاسن الاختلاط، مع كونهم أول من يعرف خطره، لكنهم يحبون ذلك..!!.(31/468)
كل عاقل يدرك فتنة الرجل بالمرأة، والعالم كل يدرك؛ وآية ذلك: استعمالها أداة للإغراء في الدعايات، والأفلام، والأزياء، والبضائع. ولجلب الزبائن إلى المحلات، والمؤسسات، والشركات.
وكل إنسان يدرك أن المرأة تنجذب إلى الرجل؛ وآية ذلك: سعيها في الزينة كلما خرجت ودخلت.
وإذا كان كذلك: فما يكون إلا اجتمعا ؟.
لا ريب يكون مقدمات العلاقة الجنسية: نظر، وتأمل، وتحرش.. إلخ، وربما وقع المحذور نفسه.
وفي كل مجتمع مختلط يعيش كلا من الرجل والمرأة حالة نفسية من التجاذب، فإما أن يميل، وإما أن يتحمل من الهوى ما يتحمل..
فلم هذا العناء، من أمر أقله أحواله: تعب النفس، وانشغال الخاطر، ووساوس الشيطان الرجيم.؟.
وفي مقابله لا مكاسب تذكر، بل تراجع وضعف في التحصيل، والإنتاج.. ثم إباحية، وعلاقة غير مشروعة، وحمل مبكر، وإجهاض، وأولاد لقطاء، يحرمون حنان الأسرة، والأبوّة، والأمومة. وأمراض نفسية واجتماعية، وحقد على المجتمع، وانتقام، وأجيال لا تعرف القيم والفضائل..؟!!.
*…*…*
8- الختام.
المرأة.. ذاك المخلوق، شقيق الرجل، الذي يمثل ما لا يقل عن نصف سكان العالم: شغل الجميع بقضيته، فليس لهم إلا الحديث عن المرأة: ماذا فعلت ؟، وماذا ستفعل ؟، ومتى وكيف ستفعل ؟.
أما هي فكما قال المتنبئ:
أنام ملء جفوني عن شواردها…ويسهر الخلق جراها ويختصم
وهذا قاله على سبيل الفخر، حيث ينظم المعاني ويلقيها، ثم يترك الخلق يسهرون عليها، ويختصمون فيها.
أما هي فقد أسهرت الخلق، وهي لا تدري.. وهم يختصمون فيها، وهي لا تعلم !!.
فالرجل هو الذي يأخذ بقضيتها، فيرعاها ويحميها، أو يضيعها ويفسدها.. وهي تتبع خطواته، ليس لها غير ذلك.. هذا هو الواقع ..!!.
-…فهل في هذا تأكيد على مبدأ: قوامة الرجل ؟.
فهذا هو طبعها وجبلتها: خضوعها للرجل. حتى لو أنكرت ذلك، فهذا مصيرها، وقدرها.
-…أم تأكيد على وصفها بكونها: من الغافلات ؟.
وهذا وصف سيق في معرض المدح لها: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات ..}؛ أي الغافلة عن الشر.
في كل حال، وفي مثل هذه الأحوال: ينبغي على المرأة أن تكون يقظة، حذرة. ترعى قضاياها بنفسها، وتهتم لشؤونها قبل غيرها. ولا ينبغي لها أن تقف موقف الناظر لما تصير إليه الأمور المتعلقة بها ..!!.
إن كل ما يطرح اليوم من قضايا تتعلق بحقوق المرأة: قد عرفت آثارها، وسلبياتها، ومفاسدها.
فأمم قد جربت.. ودول قد وقعت.. ونساء وفتيات قد تحررن، واختلطن، وفعلن كل ما يحلو لهن.
مرّ على التجربة أكثر من قرن، وكل خفايا التجربة ظاهرة، بمقدور كل فتاة أن تصل إليها، دون أية مشقة، لتعرف من خلالها: ما الذي يحدث لها: إن هي تبعت، وقبلت مثل هذه القرارات، والتوصيات.
والتجميل والتزيين لوجه كالح، أسود، متجعد: لا يخدع إلا النائم، الغافل، أو فاسد النظر، مريض القلب.
وقد صيغت كلمات هذه المؤتمرات بجمل وكلمات تخدع، وتعمي. اتخذت مظهر الحريص، وصورة الناصح، فخليت من التجريح، ومن التصريح. وعرضت كل تلك الموبقات تحفها: الزهور، والورود، والعطور.
-…وكم من سمّ وضع في عسل.
-…وكم من حية أخفيت بين جواهر ودرر.
غير أن هذه السموم صارت اليوم بادية؛ للتجربة.. والحيات ظاهرة؛ كذلك للتجربة.
-…هي معركة المرأة: تكون، أو لا تكون..
-…معركة فضيلة، ورذيلة.
-…معركة حياة، وبقاء.
-…معركة دين، ولا دين.
=================(31/469)
(31/470)
الجناية الدنمركية :تأمّلات في ضياء ( لا تحسبوه شراً لكم ) !
د. سعد بن مطر العتيبي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، محمد رسول الله ، حجة الله على الخلق ، القائل : (( و الذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، لا يهودي و لا نصراني ، ثم يموت و لم يؤمن بالذي أرسلت ، إلا كان من أصحاب النار )) ..
1) عظيم هذا الدِّين لا يغالب ، بل هو ظاهر على الدين كلِّه .. قوي هذا الحق لا يُغلب ، مهما قلّ أتباعه على الحقيقة .. هو كالعجين في أسوء حالات النيل منه ، يُضغط في قبضة اليد بشدّة وعنف ، فيخرج من بين الأصابع - رغماً عن الحاقد - دون أن ينقص منه شيء ، وكأنَّما هو يتحدّى .. فبدل أن كان محشوراً في مكان ، إذا هو يخرج من كل مكان !
2) نظرت إلى الصور التي رسمها الرّسامون اللبراليون في الجريدة الدنمركية التي تتربع على عنوانها نجمة سداسية ! فلم أر فيها غير صور الرسامين الوقحين ذاتهم وإن زعموا أنها خيالاتهم القذرة ، فليس لما رأيناه أي ارتباط بالحبيب r ؛ فإنَّ من رأى رسول ا صلى الله عليه وسلم في المنام على غير - صفته الخَلقية والخُلقيّة - فما رآه .. وقد قا صلى الله عليه وسلم : (من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي ) ، وهكذا شياطين الدنمرك لن تبلغ منه شتيمة ، وإنَّما تشتم رسومات رسمتها ، وكأنَّما يعنيهم بقول صلى الله عليه وسلم في كفّار قريش : (( انظروا كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم ، إنهم يشتمون مذمَّما ويلعنون مذمما ؟ وأنا محمد ! )) ! ..
فو الله إنِّي لأتخيل في الرسومات من رسمها ليس إلا ، كيف ونحن نعرف وصف صلى الله عليه وسلم : الجمال والكمال ، وما لقائل فيه مدخل ، وقد عرف قدره العقلاء ، حتى من المستشرقين المنصفين من غير أهل الإسلام ، وما وصفوه إلا بالثناء ، ولو وجدوا خلافه لما تأخّروا .
3) رأينا خُلق العداوة والحقد فيما يطرحه ( الآخر ) رأي العين ، فصار علم اليقين عندي عين اليقين : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }آل عمران118..
4) وجدنا اللبرالية في صورتها الحقيقية - دون رتوش ، أو تسويق مغشوش - وجدناها كما هي فكراً وأيديلوجية ، لا مجرد وسيلة وآلية ، كما يحاول استغفالنا متلقوها بالسند النازل ! وجدنا اللبرالية على حقيقتها : فكرا لا يعترف بالثوابت والمقدّسات في أيِّ دين ، وسلّم نيلٍ من مسلّمات المسلمين ..
وارجعوا في بيان هذه الحقيقة إلى عدد من كتب من يُسمّون بالمحافظين الغربيين ، وعلى سبيل المثال : كتاب ( موت الغرب ) لباتريك جيه . بوكانن . ولا سيما ربع الكتاب الأخير ..
وأمَّا إن عدتم إلى المنتديات العربية التي ترعى اللبرالية ، فلن تحتاجوا دليلاً يثبت ما أقول ، غير قراءة العناوين : فهي في كثير منها ما بين احتقار للدين ، وشتم للمتدينين ، ونيل من المسلمات العقدية ، والشرائع الدينية ، وتشكيك في الخالق ، وهيام في المخلوق ..
وأما إن أردت - أخي - المشاركة فيها للاعتراض على النيل من الثوابت ووصف القرآن بالأساطير ، فستأتيك اللبرالية في حقيقتها ويأتيك المشرف بكل وقاحة ، ليعلن الزندقة قائلاً : هذه حرية رأي ، الكاتب طرح ما لديه ، ولا أرى في ذلك قدحاً في القرآن ! .
وحينها لا تتعجب من انتساب هذا للبرالية ، فهي الزندقة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ، لكنك لن تجد بداً من العجب ممن ينتسب للبرالية ويدعي أنَّه مسلم عادي ( هكذا يصف بعضهم نفسه ) ، هنا نقول له بهدوء : إذاً فلست ليبراليا ، فاحمد الله على العافية ..
وعوداً إلى الفقرة ذاتها واستشهاداً بالواقع في الجناية الدنمركية أقول :
ألم تدفع الحكومة الدنمركية اعتراضات المسلمين عليها بحجة أنَّها حكومة ليبرالية ! وأنَّ الحزب الحاكم حزب ليبرالي ، وهو إنَّما يطبِّق مقتضيات اللبرالية في عدم اعتراضه على سوء الأدب في النيل من المقدسات ، حتى ول تعلق الأمر بالأنبياء كل الأنبياء ؟! ألم يقف عدد كثير من رجال الدِّين الدنمركيين مع المسلمين في رفض هذه الفكرة ؟!.
أظن أنَّ الوقوف في وجه اللبرالية من كل الأطياف الدينية هو بعض السِّرّ في المسألة ..
فاللبرالية فكر لا يعرف شيئاً مقدساً سوى النخبة التي تروِّجه والأفكار القلقة التي يطرحها ، واللبرالية ذات عمق يهودي صهيوني ( أسأل الله عز وجل أن ييسر كشفه بالوثائق في شبكة القلم كما وعد بعض الأساتذة الخبراء ) ولعلكم رأيتم النجمة السداسية البرتقالية التي تتربع على عنوان صحيفة ( اليولاندس بوستن ) التي تولت كبر هذا الإفك على خير البرية r ، فلست أدري ما سرّها مع أنَّ علم البلد يحمل الصليب !(31/471)
5) ألم تروا اللبراليين العرب قد تضامونا مع أولئك بالسكوت عنهم ، على أمل أن تمرّ العاصفة دون أن ينالهم منها شيء ؟! فهم إمَّا أن يقفوا مع الأمَّة ، ويعلنوا الولاء للعقيدة الإسلامية وقدسيتها ، وحينئذٍ يُبطِلون الفكر الذي ينتسبون إليه من أساسه ، أو أن يسوِّغوا لأولئك جنايتهم ؛ والتسويغ ليس سوى اعترافاً بالتطرف الفكري للبرالية ، وكلا الأمرين - عند كثير منهم - مرَّ مذاقه ، وهو يكشف أكثر من أن يستر ! وأمَّا الخيار الذي نودّه لهم ، فهو : ، أن يُثبتوا للأمة أنَّهم مؤمنون حقاً ، لا يُقرّون النيل من رسل الله عز وجل ومن خاتمهم صلى الله عليه وسلم ؛ فيشاركوا في حملة الأمَّة مشاركة إيجابية ، ويتوقّفوا هم عن النيل من الدِّين تحت مسميات مختلفة ، منها ( التأويل ) على غير علم ، الذي استند إليه رئيس تحرير الصحيفة الدنمركية في تسويغ فعلته القذرة . وحينئذ - فقط - ستقتنع الأمَّة بأنَّهم منها ، وسنعلم أنَّهم صادقون .
6) رأيت أنَّ هذا الهجوم في باطنه نوع من الدعاية لنا ، وهي مكسب .. نعم إنَّها دعاية غير مقصودة ، لكنَّها تبقى مدافع معادية ، إلا أنَّها مثل مدافع سنغافورة ، موجهة في الاتجاه الخاطيء ، كما يصف جيمس كيرث نظرية صامويل هنتنغتون صراع الحضارات في ناشيونال انترست .
كان التجار الدنمركيون يُصدرون لنا ، دون أن يعلم الشعب الدنمركي من نحن وأين نعيش ؟ لكنَّهم الآن لا يعرفون كبار المستوردين فقط ، بل عرفوا عنا أكثر من ذي قبل ، عرفوا حتى محلاتنا التجارية التي أعلنت مقاطعتهم !
7) رأيت أنَّ الأمَّة لا يحدها حدود ، ولا تحتويها أقاليم ، وهنا نحيي الجالية الإسلامية الدنمركية التي استنفرت الأمة في نصرة صلى الله عليه وسلم ، فلم يرعبها سجن بعض قياداتها ، ولم يرهبها التلويح لها بالأذى ، فهي تمشي بخطوات سلمية عاقلة متزنة ، تسلك الآلية الديمقراطية وفق المباح المتاح .
8) رأيت أنَّ الوعي بأدوات الضغط العصرية الشرعية ، قد وصل إلى قدر جيد من النضج على جميع المستويات - في زمن أقلّ مما كنّا نتوقع - : الشعبية والرسمية ، فرأينا النهضة القوية في التلويح بالمحاكمة للجناة ، والبدء بذلك ، وتكرار المحاولة واستخدام آلية متطورة في المناورة .. ورأينا دخول الجامعة العربية على الخط ، بشكل لم نكن نتوقعه من قبل .. ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) ..
وكذا موقف عدد من الدول العربية ..
ورأينا التلويح بالمقاطعة في التلميح بأهمية العلاقات الاقتصادية في بيان مجلس الوزراء في المملكة .. والآن وأنا أكتب هذا المقال بلغني أن حكومة المملكة العربية السعودية استدعت سفيرها لدى الدنمارك ، فلله الحمد والمنّة على هذه الخطوة الرائدة المناسبة ، وهي لغة دبلوماسية معروفة الأثر ..
كما سرنا كثيرا بيان سماحة شيخنا مفتي عام المملكة حول الموضوع ومشاركاته الإعلامية الداعمة ، ولا سيما لقناة المجد الفضائية التي رتّبت حملات متتالية للتوعية بالموضوع ، أثاب الله القائمين عليها ، وجزاهم عن الأمة خيرا ..
9) كما رأينا الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية تحت شعار ( إذا كان لكم حرية الرأي ، فإنَّ لنا حرية الاختيار ) !.
رأينا التجار الشرفاء يصدرون قرارات المقاطعة داخل مؤسساتهم التجارية .. رأينا الأطفال يتساءلون كم الرقم الرامز للصناعة الدنماركية ! رأينا ورأينا ورأينا .. فاللهم لك الحمد والمنّة .. ونتمنى لو وقِّعت مواثيق شرف في هذا الشأن بين رجال الأعمال ، فكم في ذلك من نفع ، ولو لم يكن سوى التخويف والردع . وإنَّا لنتطلع للمزيد بإذن الله تعالى ..
10) وجدنا أمامنا الكثير من الخيارات والأفكار التي طرحها كثيرون من حملة همِّ نصر الدين على اختلاف مستوياتهم ، فليتنا نجمعها ونفعِّل ما يمكن تفعيله منها ، فهي أفكار جاءت بعد عصف ذهني من الأمة وليس من أفراد أو فئات معينة ، وبعضها متقدِّم جداً ، يدل على اعتزاز كبير وعظيم ، كادت الأمة تفقده بعد سلسلة من النكسات المحدودة التي طالما عمّمنا آثارها ، حتى شعر بعضنا بالهزيمة النفسية ، وما أقسى انهزام العزيز ، وأتعس انحناء الحر ..
11) رأيت أن الحملات الإسلامية والجهود السابقة في قضايا مماثلة ، قد أثمرت ثماراً يانعة ، ولم تكن كما كان يقال : مجرد ردِّ فعل ..
فالنصر ووسائل النصر تراكمية ، وإن فرح الأعداء بسكونها حينا من الدّهر .. ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) .. فليت نعيد النظر في كثرة جلدنا للذات ..
وصدق الله العظيم : {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }غافر51 ليست هذه سوى خواطر وإلماحات ربما غفل عنها بعضنا ، رأيت تدوينها مع ضيق الوقت ، لعل الله ينفع بها ، ويجعلنا في زمرة الناصرين لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
كتبه / سعد بن مطر العتيبي . 26/12/1426
==============(31/472)
(31/473)
الصحافة وصناعة الكراهة
عبد الرحيم السلمي
عضو مكتب الدعوة والإرشاد بجدة
تؤدي الصحافة في هذا العصر دورا حيويا في صناعة التفكير لدى الناس، لسهولة اللغة، وبساطة العرض الذي يكون في مقالاتها وتحقيقاتها.
وأي صحافة في أي بلد يجب أن تكون ممثلة للشعب ، تنطق بمصالحه ، وتعالج مشكلاته ، وتناقش قضاياه بأمانه وإنصاف وموضوعية.
ولكن المشكلة الكبرى إذا سيطرت على الصحافة مجموعة معينة ذات فكر محدد لا يمثل الشعب ، ولا يهمه من القضايا إلا ما يخدم فكره ويوصل إلى أهدافه الخاصة .
وهذا بالتحديد ما تعاني منه الصحافة في السعودية ،فقد سيطر عليها تحت جنح الظلام (مجموعة فكرية) معينة تهمش قضايا البلد المصلحيّة وتجعل من القضايا الجانبية بل والضارة في كثير من الأحيان أمورا مهمه لا لشيء إلا لأنها تخدم أفكارهم الخاصة .
إن المتابع للشأن الصحفي يفجأه هذا التناقض المريع بين صحافة بلادنا وأساس الشرعيّة الذي قامت عليه الدولة .
فالفكر الأساسي الذي قامت عليه الدولة هو الفكر الإسلامي السلفي ،وهذا ما يردده حكامها في كل مناسبة ،وهو ما يعرفه من درس نشأة الدولة وأساس الشرعية فيها.
فهذه الدولة لم تقم على سواعد العلمانيين ،ولم توحّد على أساس ليبرالي مناف لكمال هذا الدين وشموله ولا يشكل هؤلاء أغلبية في بلادنا بل هم أقلية محدودة تريد أن تنقل الناس إلى وضع معين مخالف لحقيقة الإسلام وروحه . والحقيقة التاريخية يعرفها كل أحد وهي أن أرومة هذه البلاد هو دينها الذي لا يمكن التنازل على تحت أي سبب كائنا ما كان .
ومع ذلك تطالعنا الصحافة هذه الأيام بسيل جارف من المقالات التي تصف بالإرهاب وتفريخه كل عمل دعوي إسلامي مثل المناهج الدينيّة ، وحلقات التحفيظ ، والجمعيات الخيرية ، والمخيمات الدعوية ، والتسجيلات الإسلامية وغيرها من الأنشطة الدعوية المباركة التي تملأ البلاد طولا وعرضا .
إن تصوير هذه المشاريع العظيمة التي انتفع الناس منها بأنها تولد الإرهاب وتغيّب البسمة وتصادم التحديث إلى آخر الهذيان في صحافتنا هو صناعة للكراهة وترسيخ للعداوة وبذر للفرقة ، وإفساد للقلوب وتشويه للنوايا .
لقد أزعجنا هؤلاء الكتاب في الكلام حول موضوع الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين وأنه يصنع الكراهة مع (الآخر) ، وصوروا أنفسهم بأصحاب القلوب النظيفة من الحقد والكراهة ، وأنها طاهره من البغضاء والعداوة مع الآخر ، ولكن المقالات الأخيرة وضحّت أ ن مطالبتهم بنبذ الكراهة هي في مجال التعامل مع الكفّار والمنافقين ، أما في مجال التعامل مع الدعاة الى الله تعالى ، والمصلحين ، والمجاهدين ، فقد ظهر بعض ما تخفي صدورهم من الكراهة .
إنني لا ألوم هؤلاء الكتاب لأن كل اناء بما فيه ينضح ، وهو فكر دخيل معروف لدينا من قديم ، ولكنني ألوم العلماء وطلاب العلم على سكوتهم وعدم الوقوف بحزم مع هذه النماذج المنحرفة .
أعتقد أنه لابد من مطالبة الدولة- على أقل تقدير -بالسماح لصحف اسلامية مستقلة توضح الحق وتبين فساد الباطل من باب تكافؤ الفرص .
أما أن يبقى هؤلاء المنحرفون يكتبون ما يحلو لهم ويصورون للناس الباطل في صورة الحق فهذا مالا يجوز السكوت عليه .
ولو أن الدولة أجرت تحقيقا مستقلا ومنصفا في توجه الصحافة ومدى خدمة القضايا الوطنية لتوصلت الى أن التحيز لفكر معين سمة بارزة في عامة الصحافة سواء في المقالات ، أو المقابلات ، أو التحقيقات الصحفية ، بل حتى في صياغة الأخبار المحلية وطريقة عرض الصور ، ومتابعة الشؤون الثقافية والفكرية .
ولعل مؤتمر الحوار الوطني شاهد عيان في هذا الصدد ، عندما همشت قضايا المرأة الحقيقية والمصلحية مثل العنوسة ، والفقر ، و التحرش الجنسي ، وغيرها ، وأبرزت أخبار هامشية وضعت في غير سياقها لاعطاء انطباع معين حول المشاركين والتوصيات التي شعروا أنها لاتخدم فكرهم الخاص بشكل كبير .
وهكذا المقابلات مع محمد علوي المالكي ، وحسن الصفار ، وحسين بن اسماعيل المكرمي الإسماعيلي وتصويرهم بأنهم مظلومون مفترى عليهم مع أن الأول فيه فتوى موثقة لأقواله الداعية للشرك والوثنية ، والشعية والإسماعيلية من دعاة الشرك دون مواربة أو استحياء
فالصحافة تسير في اتجاه مناقض للهيئات الشرعية والعلمية الأكاديمية ، بل تسعى لإقناع المواطن بأن علماء البلاد وطلبة العلم وأساتذة الجامعات من الإسلاميين متشددون لا يصلحون للفتوى والتوجيه .(31/474)
ولا يجوزلمتحذلق أن يقول : إن هذا من حرية الرأي والتعبير ، لأن حرية الرأي مضبوطة بعدم الطعن والذم لمشاريع الآخرين بغرض التشويه ، وهذه الحرية مضبوطة بعدم الدخول في القضايا الشرعية بدون علم ، وأيضا مضبوطة بعدم وجود أجندة خاصة وتكتل لتحقيق هذه الإجندة ، وأيضا لابد في حرية الرأي من تكافأ الفرص بالسماح لطلاب العلم بصحافة حرة تبين الحقيقة . والصحافة تجاوزت كل الضوابط والحدود المعروفة ، نعم هي حرية لكنها لطرف واحد يريد تشويه مقومات البلد الأساسية وهي الدعوة والقضاء والإفتاء ومؤسسات العلم الشرعي وغيرها ، ويريد تطبيق قائمة من الأفكار والأوضاع الإجتماعية ولو بتمزيق وحدته وصنع الكراهة فيه .
ان السكوت عن العبث الفكري الصحفي مصيبة كبيرة لأن المتابعين لها كثير وما تغرسه في الشعور الباطن في الناس يشكل خطورة متناهية ومن أبرز ماتغرسه الصحافة في مشاعر الناس الكراهة والبغضاء للصالحين . فهل يتكلم العلماء وطلاب العلم مع المسؤولين في هذه الأزمة بوضوح تام ؟
============(31/475)
(31/476)
تقرير " AND 2007 " خطير جدا تفاصيل خطيرة عنه يجب معرفتها !
عَبْداللَّه بن محمد زُقَيْل
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ..
قال تعالى : " وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ " [ البقرة : 120 ] .
وقال تعالى : " وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ " [ البقرة : 217 ] .
وقال تعالى : " وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ " [ الأنعام : 55 ] .
صدر عن " مؤسسة راند r AND Co r po r ation " تقريرها الأخير 2007م ، والذي مكثت مؤسسة راند ثلاث سنوات في إعداده ، وتقاريرها التي تُصدرها ترسم خطةُ للسياسية الإمريكية في التعاملِ مع الأحداث في العالم أجمع ، ومنها منطقة ما يسمونه بـ " الشرق الأوسط " ، وقد حمل التقرير الأخير قضايا خطيرة جداً ، وعنون للتقرير " بناء شبكات مسلمة معتدلة Building Mode r ate Muslim Netwo r ks " ، وهو عنوان يحملُ في ثناياه خطط خطيرة جداً .
دعوني أضع بين أيديكم ملخصاً جاهزاً للتقرير نشر في عددٍ من المواقع لتعلموا خطورته ، ولتأخذوا حذركم مما نحن مقبلون عليه ، ولنعلم أن هؤلاء القوم يعملون ليلا ونهاراً سراً وعلانيةً لحرب هذا الدين ، ومحاولة زرعِ إسلام جديد بتفاصيل أمريكية أو " إسلام ليبرالي " على وزن " إسلام شيوعي " .
ولا بد للحكومات أن تَحذرَ وتُحذر من هذا التقرير فهو يحمل في طياتهِ خطراً على العالم الإسلامي من جهةِ دعمه وبقوة لليبراليين ليكونوا أداةً وعملاء لتحقيق ما ورد في التقرير .
ملحوظة مهمة : تذكروا تفاصيل التقرير وأنزلوها على الواقع .
اللهم احفظ علينا ديننا ، وثوابتنا ، وعقيدتنا ، وردّ كيد الخونة والعملاء في نحورهم .
رابط التقرير كاملا باللغة الإنجليزية
لماذا تبني أمريكا " شبكات مسلمة معتدلة " علمانية ؟
محمد جمال عرفة
المحلل السياسي بشبكة إسلام أون لاين.نت
انقلاب.. هي الكلمة الصحيحة التي يمكن أن نصف بها الموقف الأمريكي - حسبما قدمته مؤسسة "راند" r AND البحثية التابعة للقوات الجوية الأمريكية في تقريرها الأخير "بناء شبكات مسلمة معتدلة" Building Mode r ate Muslim Netwo r ks- بشأن التعامل مع "المسلمين"، وليس "الإسلاميين" فقط مستقبلاً! .
فالتقرير الذي أصدرته هذه المؤسسة البحثية التي تدعمها المؤسسة العسكرية الأمريكية - التي تبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 150 مليون دولار - والذي يقع في 217 صفحة لا تنبع خطورته من جراءته في طرح أفكار جديدة للتعامل مع "المسلمين" وتغيير معتقداتهم وثقافتهم من الداخل فقط تحت دعاوى "الاعتدال" بالمفهوم الأمريكي، وإنما يطرح الخبرات السابقة في التعامل مع الشيوعية للاستفادة منها في محاربة الإسلام والمسلمين وإنشاء مسلمين معتدلين !.
بل إن التقرير يحدد بدقة مدهشة صفات هؤلاء "المعتدلين" المطلوب التعاون معهم -بالمواصفات الأمريكية- بأنهم هؤلاء الليبراليين والعلمانيين الموالين للغرب والذين لا يؤمنون بالشريعة الإسلامية ويطرح مقياسًا أمريكيًّا من عشرة نقاط ليحدد بمقتضاه كل شخص هل هو "معتدل" أم لا، ليطرح في النهاية -على الإدارة الأمريكية- خططًا لبناء هذه "الشبكات المعتدلة" التي تؤمن بالإسلام "التقليدي" أو "الصوفي" الذي لا يضر مصالح أمريكا ، خصوصًا في أطراف العالم الإسلامي (آسيا وأوروبا) .
أما " الانقلاب " المقصود في بداية هذا المقال فيقصد به أن تقارير "راند" ومؤسسات بحثية أمريكية أخرى عديدة ظلت تتحدث عن مساندة إسلاميين معتدلين في مواجهة المتطرفين، ولكن في تقرير 2007 الأخير تم وضع كل "المسلمين" في سلة واحدة.
إعادة ضبط الإسلام !
الأكثر خطورة في تقرير مؤسسة "راند" الأخير -الذي غالبًا ما تظهر آثار تقاريرها في السياسية الأمريكية مثل "إشعال الصراع بين السنة والشيعة" و"العداء للسعودية" ويتحدث باسم "أمريكا"- أنه يدعو لما يسميه "ضبط الإسلام" نفسه - وليس "الإسلاميين" ليكون متمشيًا مع "الواقع المعاصر". ويدعو للدخول في بنيته التحتية بهدف تكرار ما فعله الغرب مع التجربة الشيوعية، وبالتالي لم يَعُد يتحدث عن ضبط "الإسلاميين" أو التفريق بين مسلم معتدل ومسلم راديكالي، ولكن وضعهم في سلة واحدة!.
فتقارير "راند" الأخيرة -تقرير 2004- كانت تشجيع إدارة بوش على محاربة "الإسلاميين المتطرفين" عبر: خدمات علمانية (بديلة)، ويدعون لـ"الإسلام المدني"، بمعنى دعم جماعات المجتمع المسلم المدني التي تدافع عن "الاعتدال والحداثة"، وقطع الموارد عن المتطرفين، بمعنى التدخل في عمليتي التمويل وشبكة التمويل، بل وتربية كوادر مسلمة عسكرية علمانية في أمريكا تتفق مصالحها مع مصالح أمريكا للاستعانة بها في أوقات الحاجة.(31/477)
ولكن في التقرير الحالي " بناء شبكات مسلمة معتدلة "، يبدو أن الهدف يتعلق بتغيير الإسلام نفسه والمسلمين ككل بعدما ظهر لهم في التجارب السابقة أنه لا فارق بين " معتدل " و" متطرف " وأن الجميع يؤمن بجدوى الشريعة في حياة المسلم، والأمر يتطلب " اللعب في الفكر والمعتقد ذاتهما " .
من هو " المعتدل ".. أمريكيًّا ؟
من يقرأ التقرير سوف يلحظ بوضوح أنه يخلط بشكل مستمر وشبه متعمد ما بين "الإسلاميين" و"الراديكاليين" و"المتطرفين"، ولكنه يطالب بدعم أو خلق تيار "اعتدال" ليبرالي مسلم جديد أو Modeويضع تعريفات محددة لهذا " الاعتدال الأمريكي " ، بل وشروط معينة من تنطبق عليه فهو " معتدل " - وفقًا للمفهوم الأمريكي للاعتدال، ومن لا تنطبق عليه فهو متطرف.
ووفقًا لما يذكره التقرير، فالتيار (الإسلامي) المعتدل المقصود هو ذلك التيار الذي :
1 - يرى عدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
2 - يؤمن بحرية المرأة في اختيار "الرفيق"، وليس الزوج.
3 - يؤمن بحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة.
4 - يدعم التيارات الليبرالية.
5 - يؤمن بتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: "التيار الديني التقليدي" أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية وليست له اهتمامات أخرى، و"التيار الديني الصوفي" - يصفونه بأنه التيار الذي يقبل الصلاة في القبور (!) - وبشرط أن يعارض كل منها ما يطرحه " التيار الوهابي ".
ويلاحظ هنا أن التقرير يستشهد بمقولة لدينس روس المبعوث الأمريكي السابق للشرق الأوسط يتحدث فيها عن ضرورة إنشاء ما يسميه (سيكولار - secula r - دعوة) أو (دعوة علمانية) ! ، والمقصود هنا هو إنشاء مؤسسات علمانية تقدم نفس الخدمات التطوعية التي تقدمها المنظمات الإسلامية ، سواء كانت قوافل طبية أو كفالة يتيم أو دعم أسري وغيرها.
أما الطريف هنا فهو أن الدراسة تضع 11 سؤالاً لمعرفة ما هو تعريف (المعتدل) - من وجهة النظر الأمريكية - وتكون بمثابة اختبار يعطي للشخص المعرفة إذا كان معتدلاً أم لا ؟. وهذه المعايير هي :
1 - أن الديمقراطية هي المضمون الغربي للديمقراطية.
2 - أنها تعني معارضة "مبادئ دولة إسلامية".
3 - أن الخط الفاصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف هو تطبيق الشريعة.
4 - أن المعتدل هو من يفسر واقع المرأة على أنه الواقع المعاصر، وليس ما كان عليه وضعها في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم .
5 - هل تدعم وتوافق على العنف؟ وهل دعمته في حياتك من قبل أو وافقت عليه؟.
6 - هل توافق على الديمقراطية بمعناها الواسع.. أي حقوق الإنسان الغربية (بما فيها الشذوذ وغيره)؟.
7 - هل لديك أي استثناءات على هذه الديمقراطية (مثل حرية الفرد في تغيير دينه)؟
8 - هل تؤمن بحق الإنسان في تغيير دينه؟.
9 - هل تعتقد أن الدولة يجب أن تطبق الجانب الجنائي من الشريعة؟ وهل توافق على تطبيق الشريعة في جانبها المدني فقط (الأخلاق وغيره)؟، هل توافق على أن الشريعة يمكن أن تقبل تحت غطاء علماني (أي القبول بتشريعات أخرى من غير الشريعة)؟.
10- هل تعتقد أنه يمكن للأقليات أن تتولى المناصب العليا ؟ وهل يمكن لغير المسلم أن يبني بحرية معابده في الدول الإسلامية ؟.
وبحسب الإجابة على هذه الأسئلة سوف يتم تصنيفه هل هو معتدل ( أمريكيًّا ) أم متطرف ؟!
ويذكر التقرير ثلاثة أنواع ممن يسميهم (المعتدلين) في العالم الإسلامي، وهم :
(أولاً) : العلماني الليبرالي الذي لا يؤمن بدور للدين.
(ثانيًا) : "أعداء المشايخ".. ويقصد بهم هنا من يسميهم التقرير " الأتاتوركيين " - أنصار العلمانية التركية - وبعض " التونسيين " .
(ثالثًا) : الإسلاميون الذين لا يرون مشكلة في تعارض الديمقراطية الغربية مع الإسلام.
ثم يقول بوضوح إن التيار المعتدل هم من : يزورون الأضرحة، والمتصوفون ومن لا يجتهدون .
الأطراف.. بدل المركز العربي للإسلام
وينفق التقرير جزءًا كبيرًا منه (فصلان من عشرة فصول) في التركيز على ضرورة أن يتم التركيز على "أطراف" العالم الإسلامي وتجاهل "المركز" -يقصد به المنطقة العربية- بغرض دعم ما يسمونه " الاعتدال في أطراف العالم الإسلامي " خصوصًا في آسيا وأوروبا وغيرها.
أما الهدف فهو أن تخرج الأفكار الإسلامية المؤثرة على مجمل العالم الإسلامي من هذه الأطراف وليس من المركز (العربي) الذي أصبح ينتشر فيه "التطرف"، وبحيث تصبح هذه الأطراف هي المصدرة للفكر الإسلامي المعتدل الجديد، ولا تخرج الأفكار من المركز!.
بل إن التقرير يطرح هنا طريقة غريبة في الحوار مع المسلمين بهدف تغييرهم تتلخص في: تغيير من نحاوره، وتحجيمه عن القيام بأعماله، أو "انتظار الفرصة المناسبة" بدون أن يحدد ما يعني بالفرصة المناسبة .(31/478)
وهنا يركز في فصليه السادس والسابع على تجربة الأطراف في آسيا وأوروبا على التوالي، ويطرح أسماء مؤسسات وأشخاص في آسيا وأوروبا "ينبغي" العمل معها ودعمها بالمال، ويضرب أمثلة بتجارب مشوّهة تشوِّه دور الإسلام بالفعل مطلوب التعاون معها ودعمها، مثل دعم موقع سعودي يرى مثلاً أن الأحاديث حول شهادة (ألا إله إلا الله.. وأن محمدًا رسول الله) ليست ثابتة ! .
احذروا دور المسجد
والغريب أن التقرير يركز في فصله الأول (المقدمة) على ما يعتبره " خطورة دور المسجد " - ضمن هجومه على التيار الإسلامي - باعتبار أنه (المسجد) الساحة الوحيدة للمعارضة على أسس الشريعة ؛ ولذلك يدعو لدعم " الدعاة الذين يعملون من خارج المسجد " (!) ، ولا ينسى أن يحذر من سطوة المال - يقصد به المال السعودي الوهابي - الذي يدعم تنظيم التيار الإسلامي، مؤكدًا أنه لا بد من تقليل تقدم هذا التيار الديني لصالح التيار العلماني التقليدي الديني ( وفق المفهوم الأمريكي للاعتدال ) ، بغرض " تسوية الملعب " كي يتقدم " التيار التقليدي" ! .
بعبارة أخرى يركز التقرير هنا على أن الطريق الصحيح لمحاربة المسلمين هو بناء أرضية من المسلمين أنفسهم من أعداء التيار الإسلامي، مثلما حدث في أوروبا الشرقية وروسيا حينما تم بناء منظمات معادية للشيوعية من أبناء الدول الشيوعية نفسها.
وربما لهذا أفرد التقرير فصله الثاني للتركيز على فكرة الحرب البادرة والاستفادة من الخبرة الأمريكية في ضرب التيار الشيوعي من الداخل في تقديم نموذج مشابه لصانع القرار الأمريكي كي يستفيد منها في المواجهة المشابهة مع التيار الإسلامي، وركّز هنا على جانبين :
(الأول) خاص بخبرة الاستعانة بالطابور الخامس من المهاجرين البولنديين والشيوعيين للغرب ومعهم المفكرين الأمريكيين لتمهيد أرض المعركة ونشر القيم الغربية .
و(الثاني) خاص بالجانب الإعلامي مثل تجربة (راديو ليبرتي) الموجه لروسيا، فضلاً عن إنشاء قسم خاص في المخابرات الأمريكية دوره هو التغيير الفكري لمواقف وآراء طلاب ومفكري الدول الشيوعية وتقديم العالم لهم من وجهة نظر غربية محببة. بل يطرح التقرير هنا أفكارًا بشأن كيفية استخدام الدين ضد الشيوعية، كنوع من الإسقاط لبيان أنه يمكن -العكس- باستخدام العلمانية ضد الدين في الدول الإسلامية ! .
ومع أن الفصل الثالث من دراسة (راند) يركز على بحث أوجه التشابه أو الخلاف بين أسلحة الحرب البادرة في هدم الشيوعية، وأسلحة الحرب الحالية ضد الفكر الإسلامي، ويؤكد أن هناك أوجه تشابه أبرزها أن الصراع مع الشيوعية كان فكريًّا مثلما هو الحال مع العالم الإسلامي، فهو يعترف بأن عقبات هذه السياسة أعمق مع المسلمين.
ويذكر من أوجه الخلاف -عما حدث في الحرب البادرة- بأن أهداف الشيوعية كانت واضحة للغرب وكان من السهل محاربتها، بعكس أهداف التيار الإسلامي غير الواضحة للغرب، كما أن الشيوعية كانت هناك آليات للتفاوض معها (عبر أجهزة الأمم المتحدة وغيرها) ، بعكس التيار الإسلامي غير المحدد في كتلة واحدة محددة كالشيوعية، أما الأهم فهو المخاوف - كما يعترف التقرير - من أن ينظر لمحاولات " تحرير" العالم الاسلامي أو اعتداله على الطريقة الغربية على أنه غزو واحتلال فكري ، فضلاً عن صعوبة ضرب وتحجيم الدول التي تقف خلف الفكر الوهابي (السعودية) ؛ لأنها في نفس الوقت دول ترتبط أمريكا بمصالح معها (البترول - مناطق النفوذ) .
مرحبًا بالدول المتسلطة لا للديمقراطية
وربما لهذا يقول التقرير صراحة إن هناك مشكلة أمريكية في الضغط على حكومات وأنظمة الدول العربية والإسلامية المتسلطة للحصول على الديمقراطية، ما يعني ضمنًا التوقف عن دعم برامج الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي والتوقف عن الضغط للمجيء بالديمقراطية.
ويقول - في مقدمة الفصل الخامس - إن أمريكا دعمت في أوقات سابقة ما اعتبرته قوى معتدلة إسلامية في الأردن والمغرب (حزب العدالة والتنمية) و" فوجئنا أننا أخطأنا وأننا دعمنا غير المعتدلين " ! ، كما لا ينسى أن يشير لمشكلة في التأثير - بالمعونة الأمريكية - على التيار الإسلامي في دول غنية مثل دول الخليج ( مثلما يحدث في دول فقيرة ) ، ومن ثَم صعوبة ضرب التيار الإسلامي الحقيقي في هذه الدول الإسلامية الغنية.
والملفت هنا أن التقرير يسرد قائمة بمن يعتبرهم من المعتدلين في العديد من الدول العربية ودول الخليج ، ما يعني حرقهم أو ربما قطع خط الرجعة عليهم للعودة عن العمالة لأمريكا، ويطرح أفكارًا لمواجهة اتهام أنصاره بالعمالة، ويؤكد أهمية برامج التلفزيون التي تركز على فكرة (التعايش) مع الغرب.(31/479)
الدراسة أو التقرير خطيرة كما هو واضح ومليئة بالأفكار السامة التي تركز على ما يسمونه " علمنة الإسلام " ، ومناصرة العلمانيين ودعمهم في المرحلة المقبلة، ويصعب جمع ما فيها في تقرير واحد، ولكن الأمر المؤكد أن الدراسة تركز - كما يقول مؤلفها الرئيسي في حوار صحفي - على أن " الهدف ليس طرح الصراع بين العالم الإسلامي والغرب ، وإنما بين العالم الإسلامي بعضه بعضًا "... أي ضرب الإسلام والمسلمين من الداخل على غرار تجربة ضرب الشيوعية .
مؤسسة أمريكية مدعومة تدعو إلى دعم شخصيات وشبكات مسلمة " تتبنى العلمانية وأفكار الصوفية "
الثلاثاء 10 نيسان (أبريل) 2007
القاهرة - خدمة قدس برس
في تقريره الأخير المقدم للإدارة الأمريكية، بشان التعامل مع "الإسلاميين" أو العالم الإسلامي، طرح مركز دراسات "راند r AND" البحثي التابعة للقوات الجوية الأمريكية فكرة بناء ما أسماه "شبكات مسلمة معتدلة" Building Mode r ate Muslim Netwo r ks، داعيا لتصنيف "المعتدل" أو مقياس هذا "الاعتدال" بأنه الشخص أو الجهة التي لا تؤمن بالشريعة الإسلامية، وتتبنى الدعوة العلمانية، ويتبنى الأفكار الدينية التقليدية كالصوفية.
ودعا التقرير، الذي صدر في 26 آذار (مارس) 2007، وعرضه الدكتور باسم خفاجي، مدير المركز العربي للدراسات الإنسانية في مائدة مستديرة بالمركز بالقاهرة مساء الأحد الماضي، إلى توجه جديد بشأن التعامل مع "المسلمين" ككل، وليس "الإسلاميين" فقط عبر ما أسماه "إعادة ضبط الإسلام"، ليكون متمشيا مع "الواقع المعاصر"، والدعوة للدخول في بنيته التحتية بهدف تكرار ما فعله الغرب لهدم التجربة الشيوعية.
وأشار الدكتور "خفاجي"، مدير العلاقات العامة السابق بمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير)، إلى أن هذه المؤسسة البحثية (راند) التي تدعمها المؤسسة العسكرية الأمريكية - والتي تبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 150 مليون دولار، تتميز تقاريرها بأنها تلقي اهتماما لدي المؤسسة الأمريكية، وأن تقاريرها السابقة خصوصا تقرير 2004، بشأن "إشعال الصراع بين السنة والشيعة"، و"العداء للسعودية"، ظهرت أثارها بالفعل في السياسية الأمريكية ما يظهر خطورة دراستها الأخيرة خصوصا أنها لم تلق، على غير المعتاد، رواجا إعلاميا أمريكيا، ما قد يكون أمرا متعمدا في غفلة المسلمين، حسب تعبيره.
رافض الشريعة .. معتدل
ويحدد التقرير بدقة، صفات هؤلاء المسلمين "المعتدلين" المطلوب التعاون معهم، بالمواصفات الأمريكية، بأنهم الليبراليون والعلمانيون الموالون للغرب، والذين لا يؤمنون بالشريعة الإسلامية، ويطرح مقياسا أمريكيا من عشرة نقاط ليحدد بمقتضاه كل شخص هل هو "معتدل" أم لا، ليقترح في النهاية - على الإدارة الأمريكية - خططا لبناء هذه "الشبكات المعتدلة" التي تؤمن بالإسلام "التقليدي" أو "الصوفي" الذي لا يضر مصالح أمريكا خصوصا في أطراف العالم الإسلامي (أسيا وأوروبا) .
كما يحذر التقرير مما يعتبره "خطورة دور المسجد"، باعتبار أنه الساحة الوحيدة للمعارضة على أسس الشريعة، ولذلك يدعو لدعم "الدعاة الذين يعملون من خارج المسجد"، ولا ينسى أن يحذر من ما أطلق عليها "سطوة المال السعودي الوهابي"، ويشجع فكرة "التعايش".
ويلاحظ الدكتور "خفاجي"، أن تقرير "راند" الأخير يسعى لخلق ما يسميه دنيس روس المبعوث الأمريكي السابق للشرق الأوسط ( سيكولار - secula r - دعوة) أو (دعوة علمانية)، وربما المقصود هنا هو "علمنة الدعوة الإسلامية" أو إنشاء مؤسسات علمانية إسلامية تقدم نفس الخدمات التطوعية التي تقدمها المنظمات الإسلامية التي تعارضها أمريكا، سواء كانت قوافل طبية أو كفالة يتيم أو دعم أسري وغيرها.
مواصفات أمريكية لـ "المعتدل"
ويؤكد تقرير مؤسسة راند، الذي يقع في 217 صفحة منها 145 صفحة، تتضمن الدراسة والتوصيات، أن هناك ثلاثة أنواع ممن يسميهم (المعتدلين) في العالم الإسلامي، هم : العلماني الليبرالي الذي لا يؤمن بدور للدين، و"أعداء المشايخ".. ويضرب مثلا بهم بـ "الاتاتوركيين"، وأنصار العلمانية التركية، وبعض "التونسيين" حسبما يقول التقرير، إضافة إلى المسلمين الذين لا يرون مشكلة في تعارض الديمقراطية الغربية مع الإسلام.
ثم يقول بوضوح إن التيار المعتدل (في التعريف الأمريكي) هم من : يزورون الأضرحة، والمتصوفون والرافضون للاحتكام للشريعة، والمؤمنون بحرية المرأة في اختيار "الرفيق وليس الزوج"، وحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة، ويروج التقرير لتيارين دينيين إسلاميين فقط هما: "التيار الديني التقليدي"، أي تيار رجل الشارع الذي يصلي بصورة عادية وليست له اهتمامات أخرى، و"التيار الديني الصوفي"، يصفه التقرير بأنه التيار الذي يقبل الصلاة في القبور، وبشرط أن يعارض كلا منها ما يطرحه "التيار الوهابي".
إهمال العرب(31/480)
ويؤكد التقرير، الذي يقع في عشرة فصول، أن هناك حاجة للتركيز على "أطراف" العالم الإسلامي في أسيا وأوروبا، وتجاهل "المركز"، يقصد به المنطقة العربية، بغرض دعم ما يسمونه "الاعتدال في أطراف العالم الإسلامي"، خصوصا في أسيا وأوروبا وغيرها، وذلك بهدف أن تخرج الأفكار الإسلامية المؤثرة على مجمل العالم الإسلامي، من هذه الأطراف وليس من المركز الذي أصبح ينتشر فيه "التطرف"، وبحيث تصبح هذه الأطراف هي المصدرة للفكر الإسلامي المعتدل الجديد وفق المعايير الأمريكية، ولا تخرج الأفكار من المركز.
ويطرح التقرير أسماء مؤسسات وأشخاص في أسيا وأوروبا يدعو للعمل معها ودعمها بالمال، ويضرب أمثلة بتجارب مشوهة تشوه دور الإسلام بالفعل مطلوب التعاون معها ودعمها مثل دعم موقع سعودي خاص على الإنترنت يزعم أن الأحاديث النبوية حول شهادة " لا الله إلا الله وان محمد رسول الله " ليست ثابتة ومؤكدة .
كذلك تطرح دراسة راند، بوضوح فكرة الاستعانة بتجربة الحرب البادرة لضرب الشيوعية من الداخل في التعامل المستقبلي مع العالم الإسلامي، عن طريق بناء أرضية من المسلمين أنفسهم من أعداء التيار الإسلامي الحقيقي، مثلما حدث في أوروبا الشرقية وروسيا حينما تم بناء منظمات معادية للشيوعية من أبناء الدول الشيوعية نفسها، والاهتمام بالجانب الإعلامي مثل تجربة "راديو ليبرتي" الموجه لروسيا، فضلا عن إنشاء قسم خاص في المخابرات الأمريكية، دوره هو التغيير الفكري لمواقف وأراء طلاب ومفكري الدول الشيوعية، وتقديم العالم لهم من وجهة نظر غربية محببة.
671 مليون ميزانية "الحرة" و"سوا"
وفي هذا الصدد يشير الدكتور خفاجي، إلى أن التقرير ذكر مبالغ غير عادية للإنفاق على ميزانية قناة "الحرة" الفضائية الأمريكية، وراديو "سوا" تبلغ 671 مليون دولار سنويا، وطلبوا 50 مليون دولار أخرى "لمواجهة الأزمات"، وهو ما يعادل 4 مليار جنية مصري، أو 10 مليون جنية يوميا، ويزيد بدرجة غير معقولة مقارنة بفضائيات عربية ضخمة كالجزيرة والعربية ميزانيتها لا تزيد عن 50 مليون دولار سنويا، ما يرجح احتمال وجود "عمليات تمويل بطرق غير مباشرة " في هذه القنوات.
"مرحبا بالتسلط .. لا للديمقراطية"
ويؤكد تقرير "راند" صراحة، أن هناك مشكلة أمريكية في الضغط على حكومات وأنظمة الدول العربية والإسلامية المتسلطة للحصول على الديمقراطية، بسبب المصالح الأمريكية في التعامل مع هذه الحكومات، ما يعني ضمنا التوقف عن دعم برامج الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي والتوقف عن الضغط للمجيء بالديمقراطية.
ويقول، في مقدمة الفصل الخامس، إن أمريكا دعمت في أوقات سابقة ما اعتبرته قوي معتدلة إسلامية في الأردن والمغرب (حزب العدالة والتنمية) و" فوجئنا أننا أخطأنا وأننا دعمنا غير المعتدلين"، كما لا ينسي أن يشير لمشكلة في التأثير، بالمعونة الأمريكية، على التيار الإسلامي في دول غنية مثل دول الخليج ( مثلما يحدث في دول فقيرة) ، ومن ثم صعوبة ضرب التيار الإسلامي الحقيقي في هذه الدول الإسلامية الغنية.
ويلفت الدكتور خفاجي الأنظار إلى أن التقرير يسرد قائمة بمن يعتبرهم من المعتدلين في العديد من الدول العربية ودول الخليج، ما يعني حرقهم أو ربما قطع خط الرجعة عليهم للعودة عن العمالة لأمريكا، حسبما رجح خبراء شاركوا في المائدة المستديرة لمناقشة التقرير الأمريكي.
المصدر : أخبار الشرق
في أمان اللّه / «نظرية المؤامرة» و «نظرية البلاهة» !
أحمد الديين
هناك اتهام جاهز ومعلّب ضد أي متسائل عن نوايا السياسات الغربية تجاه العرب والمسلمين، أو باحث عن دوافعها، ومحاول لتفسير مقاصدها، بأنّه مصاب بمرض «نظرية المؤامرة» !
بالطبع المؤامرة ليست هي المحرك الأول ولا حتى الوحيد للتاريخ والأحداث والصراعات والحروب، ولكن المؤامرة موجودة في التاريخ، وهي عنصر محرك للأحداث، وأداة تُستخدَم في الصراعات، وليست هناك حروب خالية من المؤامرات... سواءً كانت حروباً عسكرية «ساخنة» أو «حروباً باردة» مثل ، التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية حتى بداية تسعينيات القرن العشرين بين المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الاشتراكي الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق ...
وكذلك هي الحال في الحرب الباردة الجديدة، التي اتخذت أول الأمر اسم «صراع الحضارات» بين الغرب والإسلام، حيث جرى استهداف الإسلام والمسلمين كأعداء بديلين للحضارة الغربية بعد سقوط العدو السابق الممثّل في المعسكر الاستراكي، وها هي هذه الحرب الباردة الراهنة تتخذ عناوين جديدة اليوم، مرة تحمل اسم «الحرب ضد الإرهاب»، مع الخلط المتعمد بين المقاومة العادلة والإرهاب المدان، ومرة أخرى تحمل اسم محاربة «الفاشية الإسلامية»، وغير ذلك من عناوين !(31/481)
الجديد أنّه في السادس والعشرين من شهر مارس الفائت نشرت «مؤسسة راند» الأميركية تقريراً يحمل عنوان: «بناء شبكات مسلمة معتدلة»، وهو باختصار تقرير يتضمن «مؤامرة معلنة» لا يستطيع تجاهلها أشد الناس سذاجة وبلاهة ممَنْ اعتادوا اتهام مخالفيهم المشككين بأنّهم «مصابون بمرض نظرية المؤامرة» !
وحتى يصبح الأمر واضحاً، فإنّ «مؤسسة راند»، التي يتكون اسمهما من اختصار كلمتي الأبحاث والتطوير باللغة الانكليزية، تأسست في 14 مايو 1948 فترة الحرب الباردة، ومقرها الرئيسي الآن سانتا مونيكا في كاليفورنيا، ويعمل فيها نحو 1600 موظف معظمهم من الباحثين والأكاديميين، وهي تقوم بجمع أكبر قدر من المعلومات، حيث تتولى تحليلها؛ وإعداد تقارير عنها؛ وإجراء أبحاث حولها، تتركز حول الشؤون الدولية، والأمن القومي، والسلامة العامة، والإرهاب والأمن الداخلي، وتقدّمها إلى صناع القرار في الولايات المتحدة الأميركية... أي هي باختصار مؤسسة استخباراتية «مستقلة» تعمل في إطار مدني !
أما التقرير الأخير، الذي أصدرته «مؤسسة راند» المعنون : «بناء شبكات مسلمة معتدلة» فوفقاً لعرض مسهب قام به الدكتور باسم خفاجي مدير المركز العربي للدراسات الإنسانية، فمكوّن من 217 صفحة، ويقع في عشرة فصول، وهو يطرح الاستفادة من خبرات الحرب الباردة السابقة بين المعسكرين الرأسمالي الغربي والاشتراكي الشرقي في الصراع بين الغرب والإسلاميين ولاحتواء الحركات الإسلامية، فيدعو إلى تجنيد مثقفين إسلاميين ورجال دين مسلمين، والاستفادة من الصوفيين، واستغلال العلمانيين في المجتمعات المسلمة، ويقترح على صناع القرار في الولايات المتحدة استخدام القطاع الخاص الأميركي وليس المؤسسات الحكومية لتنفيذ مخططاته، ولإبعاد شبهة العمالة عن المتعاونين ...
ويدعو إلى نقل الصراع ليتحول إلى صراع بين العالم العربي المسلم وبين الأجزاء الأخرى غير العربية من العالم الإسلامي، ولأن يصبح الصراع أيضاً بين الإسلاميين أنفسهم، مع دعم التيار العلماني الليبرالي في مواجهة صعود الإسلاميين سياسياً ... ولنتذكر فقط أنّه خلال الحرب الباردة سعى الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية لدعم التيار الإسلامي في مواجهة التيار اليساري القومي ... وقبله في نهاية خمسينيات القرن العشرين بذل الغرب جهوداً من أجل استخدام القوميين العرب في الصراع ضد التيار اليساري الماركسي ... وهكذا دواليك !
ومع ذلك لا يزال هناك مَنْ ينكر وجود المؤامرات، ويتهم المتسائلين عن النوايا والسياسات الغربية والباحثين عن دوافعها ومقاصدها بأنّهم مصابون بمرض «نظرية المؤامرة» ... ولكن ماذا عن أولئك المصابين بمرض «نظرية البلاهة» ؟!
المصدر : جريدة الرأي
العداء للسعودية
أميمة أحمد الجلاهمة
أشعر بأن الواجب يحتم علي أن أوجه الشكر والامتنان للمواقع الإسلامية الإلكترونية، المتميزة في طرحها ومتابعتها للأحداث، فمع قلة رفقتي لها مقارنة بأبناء هذا الجيل إلا أنها كعادتها دوما سخية معطاءة سواء مع المقبلين أو المدبرين، مواقع كهذه لا تنأى بنفسها عن بيان خطط معلنة لمؤسسات غربية تهدف لإصابتنا في مقتل.
والعنوان الذي سطر أعلاه ليس من نتاج مخيلتي بل من خلال عرض تقرير أمريكي وصلني من خلال أحد تلك المواقع الإلكترونية، وهو التقرير الذي وضعت بنوده مؤسسة (راند) البحثية والتابعة للقوات الجوية الأمريكية، والخطير في هذه المؤسسة يكمن في كونها قادرة على تحريك السياسة الأمريكية الخارجية والداخلية، إذ غالبا ما تظهر آثارها على هذه السياسة، خصوصا التقرير الذي اعتمدته عام 2004م والذي دعت فيه إلى (إشعال الصراع بين السنة والشيعة)، و(العداء للسعودية). وغني عن البيان أن هناك من اعتمد تلك التوصيات وقام بتطبيقها، نجح في بعضها مع الأسف، والعراق الجريح يصرخ بهذا، وفشل في بعضها ولله الحمد والمنة.
على أية حال التقرير الأمريكي الذي عنون بـ(بناء شبكات مسلمة معتدلة) والذي نحن بصدد التحدث عنه هنا، صدر في 26مارس 2007م، وعرضه الدكتور "باسم خفاجي" في القاهرة، وهو مدير العلاقات العامة السابق بمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية "كير"، والمدير الحالي للمركز العربي للدراسات الإنسانية. ولن أكون مبالغة لو قلت إن تقريراً كهذا يدفعنا دفعا للاهتمام بجوهر القضايا وترك القشور، خاصة في المملكة العربية السعودية، البلاد التي هي مطمع الكثيرين ممن قد يتعاملون اليوم معنا كأصدقاء وغدا قد نراهم طامعين في الحصول على نصيب من الكبش الثمين الذي عرفوه وعايشوه، واعتادوا تناول الطعام على مائدته كرما منه وحبا.(31/482)
لا، لست مبالغة، ولا متوجسة، ولا متشائمة، وآمل ألا تكون نهايتي ونهاية قومي - حفظهم الله - كنهاية زرقاء اليمامة وقومها. فنحن على يقين بصدق الإحصاءات العالمية التي تؤكد خصوبة هذه الأرض وأهلها، فغناها وافر - ولله الحمد - ورجالها ونساؤها مباركون، إلى حد أصبح شبابنا بنين وبنات، هم معظم سكان البلاد، وبالتالي من الواجب علينا أن نهتم بهم وبفكرهم، ونحاول إيصال الحقائق لهم دون مواربة، ودون تحيز، نوضح لهم حقيقة ما نجده من تهديد من فئة إرهابية ليست منا فكرا وسلوكا، كما نوضح لهم في المقابل حقيقة الفكر النشط المنظم المدعوم من الخارج، فكر يعمل على توجيه ولاء هؤلاء الفتية والفتيات للغرب قلبا وقالبا، فالمؤسسات التعليمية والبحثية والإعلامية الخارجية تحاول جاهدة تغيير مفاهيم أبنائنا بحيث يزدرون كل ما هو موروث، ويجلون كل ما عداه من مفاهيم وأفكار وأنظمة اجتماعية، وحبذا لو تعارضت هذه المفاهيم والنظم المستوردة مع معطيات ديننا الإسلامي وتقاليدنا المتوارثة، وحتى أكون واضحة في حديثي أفيد القارئ بأن تجربتي والتي استقيتها منذ نعومة أظفاري ومن خلال مؤسسات تعليمية خارجية، تجعلني أجزم أن ذلك هو ما يراد لنا من البعض.
ولنرجع إلى خلاصة هذا التقرير الخطير، لقد حدد صفات المسلم المعتدل المستهدف بالدعم بالآتي: "الليبراليون الموالون للغرب، الذين لا يؤمنون بضرورة الالتزام بالشريعة الإسلامية، الرافضون للاحتكام للشريعة، المؤمنون بحرية المرأة في الاختيار والتعايش مع الرفيق- العشيق - وليس الزوج"، ولم يكتف التقرير بذلك بل حدد بعشر نقاط مقياسا يقاس من خلاله اعتدال المسلم المستهدف، فهو يروج لتيارين دينيين إسلاميين فقط هما : " التيار التقليدي " أي التيار المواطن البسيط الذي يكتفي بأداء الصلاة بصورة روتينية وليس له أدنى اهتمامات أخرى، و"التيار الديني الصوفي" الذي لا يضر مصالح أمريكا بشكل خاص، كما لا بد أن يكون أصحاب هذا التيار ممن يزورون الأضرحة، الشرط المعتمد لكل من هذين التيارين أن يكون كل منهما معارضا لكل ما يطرحه التيار الوهابي ولذا كان طبيعيا أن يحذر من "سطوة المال السعودي الوهابي" ولسنا بحاجة لبيان أن الدعوة الوهابية نابعة جملة وتفصيلا من المذهب الحنبلي، ولسنا في حاجة لبيان أننا لا نعرف الدعوة الإصلاحية للإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله بالوهابية، ولسنا بحاجة أيضا لبيان أنهم عند ذكر "الوهابية" إنما يقصدون الإشارة إلى بلادنا المملكة العربية السعودية.
والغريب في هذا التقرير كما أشار الدكتور خفاجي في عرضه أن تقاريره السابقة كانت تزعم أنها تدعو لمساندة المسلمين المعتدلين، في حين جاء تقرير عام 2007م واضعا كل المسلمين في سلة واحدة، إذ دعا إلى التعامل مع المسلمين ككل لا الإسلاميين المتطرفين، فقد عبر عن ذلك بقوله "إعادة ضبط الإسلام" دون تفريق بين المتطرف المنبوذ حتى من قومه، وبين المعتدلين الذين هم الغالبية العظمى من المسلمين كما يطرح تقرير "راند" وضع فكرة الاستعانة بتجربة الحرب الباردة لضرب الشيوعية من الداخل، في التعامل المستقبلي مع العالم الإسلامي، عن طريق بناء أرضية من المسلمين أنفسهم من أعداء التيار الإسلامي، والاهتمام بالجانب الإعلامي مثل تجربة راديو (ليبرتي) الذي كان موجها لروسيا الشيوعية، وهنا أشار الدكتور خفاجي لما تنفقه الفضائية "الحرة" وراديو "سوا" من مبالغ تصل إلى(671) مليون دولار سنويا، تتكفل بدفعها وتوفيرها الإدارة الأمريكية، علما أن الدستور الأمريكي ينص صراحة على عدم تمويل الحكومة الأمريكية لأي مؤسسة إعلامية !
ولست هنا في موضع الفكاهة لأضحك أو لأضحككم على ما قد يعتبره بعضنا أضغاث أحلام، إذ حقيقة أخشى أن يضحكوا هم في النهاية لو عمدنا مع سبق الإصرار والترصد إلى إهمال توضيح الحقائق لأبنائنا وبناتنا، فالأفكار الغربية تروج عامدة تخدير عقولهم عن طريق تشويه مقدراتنا الدينية والوطنية، مستخدمة مصطلحات فارغة في مضامينها، فتلك ديموقراطية تدار عجلتها على أرضهم بأموال أصحاب المصالح، وتلك حرية هي أشبه بالإباحية الفوضوية من حرية العقلاء، وهذا دين ووطن يراد أن يفرغ من مضامينه لتحل بدلا منها مضامين غريبة موحشة.
إن ما أطلبه اليوم أوجهه للوطن "المملكة العربية السعودية" بشكل خاص، وللعالم العربي والإسلامي بشكل عام، ولكل المؤسسات الدينية والفكرية والإدارية والإعلامية، للنظر للقريب والبعيد من أيامنا، لنخطط لسنوات قد لا نكون سائرين على الأرض حينها، لنعيش لا ليومنا أو لغدنا القريب بل للبعيد، لننظر إلى عام 1450هـ 2030م.(31/483)
أما صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير عسير، فقد أعلن الأسبوع المنصرم عن دراسة مستقبلية طموحة تم اعتمادها - ولله الحمد - للتنفيذ على أرض عسير في غضون ربع القرن القادم، الدراسة تهدف ليس فقط لتنمية أرض عسير وثرواتها، بل أيضا لتنمية الإنسان العسيري ذكرا كان أم امرأة، له دون غيره أطالب ومن منطلق رئاسته لمؤسسة الفكر العربي بالعمل على دعوة الدكتور "باسم خفاجي" وأمثاله ليكون ضمن أعضاء (مؤسسة الفكر العربي) خاصة أن له تجربة في خدمة المراكز البحثية الفكرية، كما أنه حاليا مدير" المركز العربي للدراسات الإنسانية" وإن كنت أتمنى أن يصلني ما يؤكد أنه حاليا يحمل عضوية المؤسسة.
المصدر : جريدة الوطن
وصفة أمريكية جديدة لبناء شبكات الإسلاميين " المعتدلين " (1-2)
تقرير واشنطن - خليل العناني
لا يزال الغرب مسكوناً بهاجس التطرف الإسلامي، ولا تزال الكثير من مؤسسات ومراكز الأبحاث الأمريكية تقوم بالعديد من الدراسات والأبحاث حول كيفية تقويض والحد من المد الأصولي الذي تراها عنصراً رئيسياً في تهديد المصالح الغربية حول العالم.
ويعتقد البعض أن أحد الأدوات الرئيسية لمواجهة هذا المد المتصاعد تكمن في تقوية ما أطلق عليه تيارات "الإسلام المعتدل" باعتبارها حائط الدفاع الأول في مواجهة انتشار التطرف والتشدد في العالم الإسلامي. وتعتبر الدراسة التي أعدتها شارلي بينارد الباحثة بمؤسسة "راند" للدراسات ونشرت عام 2004 أحد العلامات البارزة في هذا المجال، والتي صنفت فيها الإسلام السياسي إلي أشكال متعددة، كان أهمها "الإسلام المعتدل".
قبل أيام قليلة أصدرت مؤسسة "راند" دراسة شاملة حول " بناء شبكات من المسلمين المعتدلين في العالم الإسلامي" شارك فيها أربعة باحثين في مقدمتهم شارلي بينارد وأنجل رابسا ولويل شوارتز وبيتر سكيل. وتنطلق الدراسة من فرضية أساسية مفادها أن الصراع مع العالم الإسلامي هو بالأساس "صراع أفكار" وأن التحدي الرئيسي الذي يواجه الغرب يكمن فيما إذا كان العالم الإسلامي سوف يقف في مواجهة المد الجهادي الأصولي، أم أنه سيقع ضحية للعنف وعدم التسامح.
وقد قامت هذه الفرضية علي عاملين أساسيين أولهما أنه علي الرغم من ضآلة حجم الإسلاميين الراديكاليين في العالم الإسلامي، إلا أنهم الأكثر نفوذاً وتأثيراً ووصولا لكل بقعة يسكنها الإسلام سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية. وثانيهما ضعف التيارات الإسلامية المعتدلة والليبرالية والتي لا يوجد لديها شبكات واسعة حول العالم كتلك التي يملكها الأصوليون.
وانطلاقاً من هذه الفرضية فإن الخيط الرئيسي في الدراسة يصب في منحي ضرورة قيام الولايات المتحدة بتوفير المساندة للإسلاميين المعتدلين من خلال بناء شبكات واسعة وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم لبناء حائط صد في مواجهة الشبكات الأصولية. وفي هذا الإطار تضع الدراسة ما تطلق عليه "خارطة طريق" يمكن للولايات المتحدة السير عليها من أجل خلق أجيال من الإسلاميين المعتدلين يمكن من خلالهم مواجهة التيارات الأصولية. وتوصي الدراسة بإمكانية الاستفادة في بناء هذه الشبكات من تجربة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي السابق طيلة النصف الأخير من القرن الماضي.
تنقسم الدراسة، التي تقع في 217 صفحة، إلي مقدمة وعشرة أجزاء، يمكن استعراضها علي حلقتين، وفي هذه الحلقة نتعرض للأفكار التالية :
تحدي الإسلام الراديكالي وحتمية البحث عن حلفاء
تكتسب التفسيرات الراديكالية للإسلام مساحة كبيرة في المجتمعات الإسلامية، وذلك لأسباب عديدة منها انتشار الأدبيات والمصادر المتشددة لشرح الدين الإسلامي، فضلاً عن المناخ السلبي الذي تفرزه البنية السلطوية للنظم السياسية في العالم الإسلامي، ناهيك عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي تجعل المسجد بمثابة المؤسسة الوحيدة التي تستوعب مشاعر الإحباط وعدم الرضاء لدي العديد من المسلمين.
وانطلاقاً من هذه الخلفية يقدم الإسلاميون الراديكاليون أنفسهم باعتبارهم البديل الوحيد للأنظمة الاستبدادية وللخروج من هذه الحال المأساوية. وهم يديرون معركتهم مع هذه النظم من خلال استخدام وسائل الإعلام والمنابر السياسية المختلفة لرفع درجة السخط واليأس السياسي لدي المجتمعات من الأوضاع القائمة.
وفي كل الأحوال ينجح الراديكاليون والنظم السلطوية في تهميش وإضعاف ما يمكن أن يطلق عليه "المسلمين المعتدلين" وذلك علي غرار ما يحدث في مصر وإيران والسودان. حيث يواجَه هؤلاء إما بالقتل أو بالهروب خارج بلادهم.
ويمتلك الراديكاليون مزيتين لا تتوافرن لنظرائهم من المعتدلين أولاهما، التمويل، وفي هذا الإطار تشير الدراسة إلي الدور الذي قامت به السعودية في تمويل الإسلاميين المتشددين من أجل نشر المذهب الوهابي خارج السعودية وذلك علي مدار ثلاثة عقود. وثانيتهما التنظيم القوي الذي يتمتع به الراديكاليون، حيث نحج هؤلاء بحسب في بناء وتطوير شبكات تنظيمية علي مدار السنوات الماضية من أجل مد أنشطتها إلي خارج بلدانها.(31/484)
وتمكن هاتين المزيتين الإسلاميين الراديكاليين من الانتشار والتأثير، وذلك برغم ضآلتهم العددية مقارنة بالمعتدلين، وهو ما يفرض علي الولايات المتحدة ضرورة العمل من أجل توفير هذه المزايا لدعم موقف المعتدلين، ويمكن في هذا الإطار الاستفادة مما قامت به الولايات المتحدة لمواجهة الاتحاد السوفيتي السابق عبر بناء شبكات من المتحالفين والشركاء داخل البلدان الاشتراكية والشيوعية وذلك عبر استخدام كافة الوسائل بما فيها الأنشطة الخفية لوكالة الاستخبارات المركزية CIA.
بيد أن صناع السياسة في الولايات المتحدة يواجهون، بحسب الدراسة، ثلاثة تحديات رئيسية تختلف كلياً عما كان عليه الحال إبان الحرب الباردة. أولها، يتعلق بصعوبة الاختيار بين استراتيجيتي الدفاع أم الهجوم، فالبعض فضل اللجوء للاستراتيجية الهجومية من أجل خلخلة النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق، من خلال خلق شبكات داخلية لمهاجمة كافة الحكومات الشيوعية. في حين اعتقد البعض الأخر ضرورة اللجوء للاستراتيجية الدفاعية من خلال اعتماد استراتيجية "الاحتواء" من خلال دعم الحكومات الديمقراطية في أوروبا الغربية وآسيا وأمريكا اللاتينية.
التحدي الثاني يتمثل في كيفية حفاظ الحلفاء المحليين علي مصداقيتهم أمام شعوبهم بسبب ارتباطهم بالولايات المتحدة، ولذا فقد حاولوا وضع مسافة واضحة بين أنشطتهم وعلاقتهم بواشنطن.
أما التحدي الثالث فيتمثل في شكل وبنية التحالف الذي يمكن بناءه في مواجهة الشيوعية، وهل يتم من خلال العلاقة مع الاشتراكيين السابقين الذي تحولوا ضد الشيوعية، ولكنهم أيضا ينتقدون السياسة الخارجية الأمريكية، أم البحث عن شركاء آخرين؟ وفي النهاية لجأت الولايات المتحدة إلي بناء تحالف كبير يضم جميع من ينتقد الأيديولوجية الشيوعية، لذا تم تأسيس ما يطلق عليه "كونجرس الحرية الثقافية".
وقد وضعت الدراسة جدولاً توضيحياً لمعرفة الفروق الرئيسية بين استراتيجية بناء الشبكات إبان مرحلة الحرب الباردة، وبناءها في الوقت الراهن وذلك علي النحو التالي :
تحدي بناء الشبكات .. مقارنة بين الحرب الباردة والشرق الأوسط
وتشير الدراسة إلي أن أهم الشركاء "المحتملين" في مواجهة الإسلام الراديكالي هم المسلمون الليبراليون والعلمانيون الذين يؤمنون بقيم الليبرالية الغربية وأسلوب الحياة في المجتمعات الغربية الحديثة.والذين يمكن من خلالهم محاربة الأيديولوجية الإسلامية المتشددة والراديكالية، ويمكن أن يكون لهم دور مؤثر في "حرب الأفكار".
بيد أن الدراسة تؤكد علي أنه لابد من توفير كافة مصادر التمويل التي تمكن هؤلاء المعتدلين من نشر أفكارهم وحصد مؤدين وأنصار لهم داخل المجتمعات الإسلامية، وتوفير الدعم السياسي من خلال الضغط علي الحكومات السلطوية للسماح لهم بالتحرك بحرية ودون قيود.
الجهود الأمريكية لكبح جماح الإسلام الراديكالي
مثلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، دافعاً قويا للإدارة الأمريكية من أجل إعادة تقييم سياسات ومشروعات الأمن القومي الأمريكي، وقد تم تخصيص موارد كثيرة من أجل توفير الحماية للأراضي الأمريكية ومواطنيها من أية تهديد إرهابي. وهو ما أسفر عن زيادة مخصصات الجيش الأمريكي وأجهزة الاستخبارات الأمريكية فضلاً عن تدشين وزارة للأمن الوطني .
واتسعت برامج مكافحة الإرهاب لتشمل ليس فقط محاكمة ومقاضاة المتورطين في الأنشطة الإرهابية، وإنما أيضا التعاطي مع المصادر الحقيقية والبعيدة للإرهاب، ممثلة في إعادة هيكلة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلدان التي تمثل مصدراً رئيسياً لظهور الإرهابيين، وذلك علي حد وصف الدراسة. وهو ما ترجم عملياً في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي الأمريكي" التي أصدرتها الإدارة الأمريكية في سبتمبر عام 2002، والتي تبنت فكرة نشر الديمقراطية والحرية خارج الحدود الأمريكية، أو ما أطلق عليها الرئيس بوش في خطابه الشهير أوائل عام 2002 "أجندة الحرية".
وتؤكد الدراسة أنه رغم الجهود التي بذلتها الإدارة الأمريكية طيلة الأعوام الخمس الماضية لنشر الديمقراطية والحرية، والدفع نحو مزيد من الإصلاح السياسي في البلدان السلطوية، إلا أنها لم تحقق النتائج المرجوة ودفعت نحول حال من عدم الاستقرار في بعضها، في حين لم تحقق تقدماً يذكر في بلدان مثل باكستان ومصر.
وتلفت الدراسة الانتباه إلي أن "أجندة الحرية" اعتبرت الاستراتيجية الكبرى G r and St r ategy لإدارة الرئيس بوش لم تركز علي إيجاد حلفاء يمكن الاعتماد عليهم في بناء شبكات من المسلمين المعتدلين، وتري أن التحدي الحقيقي الذي يواجه الولايات المتحدة، والدول الغربية عموماً، يكمن في عدم امتلاكهم استراتيجية واضحة عن ماهية هؤلاء المعتدلين، وما هي فرص بناء شبكات تحالفيه معهم، وما هي أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف؟(31/485)
وعطفاً علي عدم وضوح الرؤية الأمريكية فيما يخص " حرب الأفكار " فقد لجأت إلي مجموعة من السياسات التقليدية مثل فرض الدمقرطة والحكم الرشيد، ودعم المجتمع المدني، ودعم التحرير السياسي والاقتصادي، وتغيير المناهج التعليمية والتثقيفية، فإنها قد وضعت نفسها في مواجهة ثلاثة مخاطر رئيسية أولها يتعلق بفقدان البوصلة، حيث فقد بعض الإسلاميون المعتدلون قدراً من مصداقيتهم بسبب العلاقة مع الولايات المتحدة كما هو الحال مع حزب العدالة والتنمية المغربي، وحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن. والثاني يتعلق بضياع الوقت والجهد بسبب ازدواجية الأنشطة التي تقوم بها الهيئات غير الحكومية. والثالث هو ضياع الفرص الحقيقية للتغيير، وذلك بسبب التداخل الشديد في الاتصالات والعلاقات البينية التي تمارسها البيروقراطية الأمريكية.
وسط هذا الوضع المعقد تضيع الجهود الأمريكية للتعرف علي المسلمين المعتدلين وتوفير الدعم اللازم لجهودهم. لذا تقرر الدراسة أن بناء شبكات المسلمين المعتدلين يمكن أن تتم من خلال ثلاثة مستويات أولها مساندة الشبكات القائمة، وثانيها التعريف الدقيق للشبكات المحتملة ودعم نموها، وثالثها تعزيز قيم التعددية والتسامح التي قد تساهم في نمو هذه الشبكات.
خارطة طريق لبناء شبكات الإسلاميين المعتدلين في العالم الإسلامي
تشير الدراسة إلي أن نقطة البدء الرئيسية التي يجب علي الولايات المتحدة البدء بها في بناء شبكات من الإسلاميين المعتدلين تكمن في تعريف وتحديد هوية هؤلاء الإسلاميين. وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلي أنه يمكن التغلب علي صعوبة تحديد ماهية هؤلاء المعتدلين من خلال اللجوء إلي التصنيفات التي وضعتها بعض الدراسات السابقة التي قام بها بعض باحثي معهد راند مثل دارسة شارلي بينارد "الإسلام المدني الديمقراطي"، ودراسة "أنجل رابسا" "العالم الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر".
ولهذا الغرض فقد وضعت الدراسة بعض الملامح الرئيسية التي يمكن من خلالها تحديد ماهية الإسلاميين المعتدلين أهمها ما يلي :
1 - القبول بالديمقراطية : يعتبر قبول قيم الديمقراطية الغربية مؤشراً مهماً علي التعرف علي الإسلاميين المعتدلين، فبعض الإسلاميين يقبل بالنسخة الغربية للديمقراطية، في حين أن البعض الأخر يقبل منها ما يتوائم مع المبادئ الإسلامية خصوصاً مبدأ "الشورى" ويرونه مرادفاً للديمقراطية.
كما أن الإيمان بالديمقراطية يعني في المقابل رفض فكرة الدولة الإسلامية التي يتحكم فيها رجال الدين كما هو الحال في إيران، لذا يؤمن الإسلاميون المعتدلون بأن لا أحد يملك الحديث نيابة عن " الله ".
2 - القبول بالمصادر غير المتعصبة في تشريع القوانين: وهنا تشير الدراسة إلي أن أحد الفروق الرئيسية بين الإسلاميين الراديكاليين والمعتدلين هو الموقف من مسألة تطبيق الشريعة.
فالتفسيرات التقليدية للشريعة لا تتناسب مع مبادئ الديمقراطية، ولا تحترم حقوق الإنسان، وتدلل الدراسة علي ذلك من خلال مقال للكاتب السوداني "عبد الله بن نعيم" قال فيه بأن الرجال والنساء والمؤمنين وغير المؤمنين لا يمتلكون حقوقاً متساوية في الشريعة الإسلامية.
3 - احترام حقوق النساء والأقليات الدينية: وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلي أن المعتدلين أكثر قبولاً بالنساء والأقليات المختلفة دينياً، ويرون بأن الأوضاع التمييزية للنساء والأقليات في القرآن يجب إعادة النظر فيها، نظراً لاختلاف الظروف الراهنة عن تلك التي كانت موجودة إبان العصري النبوي الشريف.
وهم يدافعون عن حق النساء والأقليات في الحصول علي كافة المزايا والحقوق في المجتمع.
4 - نبذ الإرهاب والعنف غير المشروع : وهنا تؤكد الدراسة علي أن الإسلاميين المعتدلين يؤمنون، كما هو الحال في معظم الأديان، بفكرة " الحرب العادلة " ، ولكن يجب تحديد الموقف من استخدام العنف، ومتي يكون مشروعاً أو غير مشروع ؟
وفي نهاية هذا الجزء تضع الدراسة مجموعة من التساؤلات، أشبه بمقياس للفرز بين الإسلاميين المعتدلين، وأولئك الذين يتخفون وراء مقولات الاعتدال والديمقراطية كما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وذلك علي حد قول الدراسة.
هذه الأسئلة هي بمثابة اختبار لإثبات مدي اعتدال أي جماعة إسلامية من عدمه وتتمثل فيما يلي:
- هل الجماعة تتساهل مع العنف أو تمارسه؟ وإذا لم تكن تتساهل معه فهل مارسته في الماضي؟
- هل الجماعة تؤيد الديمقراطية باعتبارها حق من حقوق الإنسان؟
- هل تحترم الجماعة كافة القوانين والتشريعات الدولية لحماية حقوق الإنسان؟
- هل لديها أية استثناءات في احترام حقوق الإنسان (مثل الحرية الدينية علي سبيل المثال) ؟
- هل تؤمن بأن تغيير الديانة أحد حقوق الإنسان؟
- هل تؤمن بضرورة أن تطبق الدولة قانوناً جنائياً (الحدود) يتطابق مع الشريعة الإسلامية؟
- هل تؤمن بضرورة أن تفرض الدولة قانوناً مدنياً متلائما مع الشريعة؟ وهل تؤمن بحق الآخرين في عدم الاحتكام بمثل هذا القانون والرغبة في العيش في كنف قانوني علماني؟
- هل تؤمن بضرورة أن تحصل الأقليات الدينية علي نفس حقوق الأغلبية ؟(31/486)
- هل تؤمن بحق الأقليات الدينية في بناء دور العبادة الخاصة بهم في البلدان الإسلامية ؟
- هل تؤمن بأن يقوم النظام القانوني علي مبادئ غير دينية ؟
ملحوظة : ركزوا على الملامح الرئيسية التي جاءت في أربع نقاط في تحديد ماهية الإسلاميين المعتدلين ، وطبقوها على واقع الحال .
وللموضوع بقية ومعلومات مهمة جداً ...
وصفة أمريكية لدعم فكر الإسلام المعتدل (2-2)
تقرير واشنطن - خليل العناني
نستعرض في هذه الحلقة الجزء الثاني من الدراسة التي أعدتها مؤسسة "راند" الأمريكية حول كيفية بناء شبكات من الإسلاميين المعتدلين، وهي الدراسة التي شارك في إعدادها أربعة باحثين في مقدمتهم شارلي بينارد وأنجل رابسا ولويل شوارتز وبيتر سكيل. وعرض تقرير واشنطن الجزء الأول الأسبوع الماضي.
حلفاء محتملون ...علمانيون وليبراليون ومتصوفة
تشير الدراسة إلي أن هناك ثلاثة قطاعات مهمة في العالم الإسلامي قد تمثل نواة جيدة لبناء شبكات من الإسلاميين المعتدلين من أجل مواجهة المتطرفين الإسلاميين . وهذه القطاعات هي العلمانيين والإسلاميين الليبراليين والمعتدلين التقليديين بما فيهم المتصوفة .
بالنسبة للعلمانيين تشير الدراسة إلي أن التيار العلماني في العالم الإسلامي، خصوصاً في البلدان العربية، يعاني من الضعف والتهميش نظراً للعلاقة الوثيقة التي نشأت بين العلمانية والنظم الشمولية.
وتشير الدراسة إلي وجود ثلاثة أنواع من العلمانيين أولها، العلمانيين الليبراليين وهم الذين يؤيدون تطبيق القوانين العلمانية في الدول الإسلامية.
وهم يؤمنون بالقيم العلمانية الغربية التي تقوم علي ما يسمي بـ" الدين المدني ".
أما النوع الثاني من العلمانيين فتطلق عليه الدراسة اسم "الأتاتوركيين" نسبة إلي العلمانية التركية، التي تحرم أي مظاهر للدين في الحياة العامة كالمدارس أو الأماكن العامة. وهي أقرب ما تكون للنموذج الفرنسي والتونسي، وخير مثال علي ذلك موقفهم من قضية الحجاب.
أما النوع الثالث فتطلق عليه الدراسة "العلمانيين السلطويين" وقائمتهم تشمل البعثيين والناصريين والشيوعيين الجدد. وعلي الرغم من علمانيتهم الظاهرة إلا أن هؤلاء قد يتمسكون ببعض الرموز الدينية من الناحية الشكلية فقط من أجل كسب التعاطف الشعبي علي غرار ما فعل الرئيس العراقي السابق صدام حسين
أما بالنسبة للإسلاميين الليبراليين، فعلي الرغم من أنهم يختلفون مع العلمانيين في أيديولوجيتهم السياسية، إلا أنهم يحملون أجندة فكرية وسياسية تتلاءم تماماً مع القيم الغربية، وهم يأتون من أوساط الإسلاميين التحديثين .
وتشير الدراسة إلي أبرز أمثلة هؤلاء هو الناشط الإسلامي في ماليزيا "عليل أبصار عبد الله" وشبكته الليبرالية .
وتري الدراسة أن هؤلاء لديهم نموذج خاص من الليبرالية الإسلامية يتواءم مع الديمقراطية الليبرالية الغربية خصوصاً فيما يتعلق بالديمقراطية وشكل الدولة وحقوق الإنسان والتعددية السياسية. بل الأكثر أن موقفهم من مسألة تطبيق الشريعة متقدم وبناء، علي حد وصف الدراسة، حيث ينظرون إلي الشريعة باعتبارها منتج تاريخي وأن بعض أحكامها لم يعد يتناسب مع الوضع الراهن. وفي هذا الإطار تشير الدراسة إلي ما كتبه الناشط السياسي التونسي "محمد شرفي" في كتابه ( الإسلام والحرية .. الالتباس التاريخي ) من أن الشريعة الإسلامية إبان الحكمين الأموي والعباسي كانت تعبيراً عن التحالف بين رجال الحكم ورجال الدين.
وبالنسبة للإسلاميين التقليديين والصوفيين، تشير الدراسة إلي أنهم يشكلون الغالبية العظمي من سكان العالم الإسلامي، وهم يعبرون عن الإسلام المحافظ، ويؤكدون علي السير علي خطي السلف، والتمسك بالجانب الروحي للإسلام. وهم يعتمدون علي المذاهب الأربعة في فهمهم للإسلام.
ووفقاً لهذه الدراسة فإن هؤلاء الإسلاميين من ألد أعداء الوهابيين والسلفيين الجهاديين .
وتشير الدراسة إلي أن الصوفية تتمتع بمكانة ميزة في كل من البوسنة وسوريا وكازاخستان وإيران وإندونيسيا، في حين أنهم يأخذون شكلاً رسميا في المغرب وتركيا والهند وألبانيا وماليزيا. وتري الدراسة إلي أن بعض الجماعات الصوفية متشددة ومتطرفة، وتشير في هذا الصدد إلي "جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية أحباش" المتواجدة في لبنان.
وبالنسبة للدراسة فإن النموذج الذي تقدمه تجربة " فتح الله جولن " في تركيا تعد مثالاً للصوفية المتمدينة ، فهي تعارض سياسة الدولة لفرض الشريعة الإسلامية، ويري أن علي الدولة ألا تسعي لفرض الدين علي المجتمع باعتبار أن الدين يمثل شكل من أشكال الخصوصية الفردية.
هل يمكن دمج الإسلاميين ؟
تشير الدراسة إلي الجدل المحتدم في الولايات المتحدة وأوروبا حول الموقف من دمج الإسلاميين في العملية السياسية، والتعامل معهم باعتبارهم شركاء . وتستعرض الدراسة وجهتي نظر مختلفتين حول هذه المسألة. الأولي تتبني الدمج وتقوم علي ثلاث حجج، أولها أن الإسلاميين يمثلون البديل المحتمل للنظم الشمولية في العالم الإسلامي خصوصاً في العالم العربي .(31/487)
ثانيها أن العديد من الجماعات الإسلامية تتبني أجندة ديمقراطية تقوم علي احترام التعددية وحقوق الأقليات كما هو الحال مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية. ثالثها، أن هؤلاء الإسلاميين الأكثر قدرة علي مواجهة الخطر الراديكالي الذي يمارس العنف والإرهاب، وهم أقدر علي ذلك من رجال الدين التقليديين.
في حين تقوم وجهة النظر الأخرى التي تعارض دمج الإسلاميين ومعاملتهم كشركاء علي ثلاث حجج، أولها عدم التأكد من أن خطاب الإسلاميين بشأن موقفهم من الديمقراطية يعبر عن موقف تكتيكي أم استراتيجي.
وما إذا كانوا سيقبلون بمبدأ الفصل بين الدين والدولة، وما إذا كانت فكرة الدولة الإسلامية لا تزال تهيمن علي مخيلتهم أم لا؟. ثانيها، إنه ربما يقوم هؤلاء الإسلاميين، علي المدى القصير، بدور فعال في مواجهة الجهاديين، وهو ما قد يفقدهم المصداقية أمام الشعوب، وتكون مواجهتهم مرتفعة الثمن في المدى الطويل.
وثالثها، أن أفضل طريق للتعاطي مع هؤلاء الإسلاميين يكون فقط من خلال تقوية شبكاتهم وجعلهم نداً لغيرهم من الجماعات قبل الحديث عن شراكة وتحالف معهم.
وتخلص الدراسة في هذا الجزء إلي أن خمسة فئات يجب دعمها في العالم الإسلامي وهي، فئة الأكاديميين والمفكرين الليبراليين والعلمانيين، وفئة الشباب من رجال الدين وفئة نشطاء المجتمع المدني، وفئة الناشطين في مجال حقوق المرأة، وفئة الكتاب والصحفيين والإعلاميين.
الجناح الأوروبي للشبكة
تولي الدراسة اهتماما واضحاً للدور الذي يمكن أن تقوم به التجمعات الإسلامية في أوروبا في دعم شبكات المعتدلين الإسلاميين، حيث يصل عدد المسلمين في الدول الأوروبية إلي 15 مليون نسمة، بحسب الدراسة.
وتحذر الدراسة من التعاطي مع عدد من زعماء المراكز الإسلامية في أوروبا باعتبارهم معتدلين ومنهم الإمام عبده لبن رئيس المركز الإسلامي في الدانمرك الذي لعب دوراً سلبياً في أزمة الرسوم الدانمركية، وذلك علي حد وصف الدراسة.
في حين تشير الدراسة إلي ضرورة دعم المعتدلين الذين يعرفون أنفسهم باعتبارهم مسلمين أوروبيين، وتذكر هنا منتدى طلاب الاتحاد الأوروبي الذي يقوم بتنظيم برامج للتبادل الطلابي والثقافي لدعم فكرة الإسلام الليبرالي المعتدل.
ويشارك في أنشطة هذه المؤسسة العديد من الصحفيين والكتاب والمثقفين، ومنهم ناصر خاضر عضو البرلمان الدانمركي عن الحزب الليبرالي الاجتماعي، ورشيد كاشي عضو البرلمان الفرنسي، والتونسية سامية لبيدا مؤسسة مجموعة من الجمعيات غير الحكومية لتقديم الصوت الإسلامي المعتدل في أوروبا.
فضلاً عن الشيخ الهادي الصباح أمام مسجد " باسوا " بألمانيا، الذي يدين العنف والتمييز ضد المسيحيين. وصهيب بن الشيخ، الذي يدين الأصولية.
أما علي مستوي المؤسسات فتشير الدارسة إلي " الاتحاد الأسباني للجمعيات الإسلامية " ، والاتحاد الوطني لمسلمي فرنسا، والمجلس الإسلامي البريطاني، فضلاً عن التجمعات الإسلامية في دول البلقان.
جناح جنوب شرق آسيا
تؤكد الدراسة علي أن بناء الشبكة في جنوب شرق آسيا لابد وأن ينطلق من ترسيخ التعاون مع مؤسسة "نهضة الأمة" التي تضم ما يقرب من 15 ألف شخص، والمؤسسة "المحمدية" التي تضم شبكة من المؤسسات التعليمية والاجتماعية.
أيضا هناك شبكة الإسلاميين الليبراليين التي تكونت عام 2001 في مواجهة المد الأصولي الذي واجه أندونيسيا، والتي يرأسها "عليل أبصر عبد الله" الذي أصدر الإسلاميون المحافظون فتوى بتكفيره عام 2004، في حين أصدرت هيئة العلماء بإندونيسيا فتوى بإدانة أفكار التعددية والليبرالية والعلمانية واتهمتها بأنها معادية للإسلام.
وترصد الدراسة مجموعة من المؤسسات في جنوب شرق آسيا يمكن النظر إليها باعتبارها من الشركاء المحتملين في شبكة الإسلاميين المعتدلين ومنها المدارس الإسلامية المنتشرة في جنوب شرق آسيا خاصة مدارس الفلاحين والطلبة.
جناح الشرق الأوسط
تشير الدراسة إلي مدي ضعف شبكات الإسلام المعتدل في الشرق الأوسط وهو ما يتطلب بحسب الدراسة خلق تيارات ليبرالية من أجل خطف التفسيرات المتطرفة للإسلام من أفواه الراديكاليين.
وتؤكد الدراسة أنه في ظل غياب مؤسسات ليبرالية فإن " المساجد " تظل الأداة الوحيدة للتجنيد السياسي .
وتري الدراسة أن التيار الليبرالي في مصر بحاجة للمساعدة، وأن هناك من يدعو لطلب الدعم من الولايات المتحدة من أجل بناء شبكات ليبرالية لزيادة التفاعل بين المثقفين الليبراليين. ذلك أن الإسلام "المصري" بطبيعته معتدل، ويتناقض مع نظيره السعودي.
في حين تعد الأردن بلداً نموذجياً لبناء شبكات معتدلة في العالم العربي، وتستشهد الدراسة في هذا الإطار بما قاله الدكتور مصطفي الحمارنة مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بعمان من أن "المجتمع الأردني أكثر نضجاً من الحكومة" وأن هناك طلب داخلي قوي علي الإصلاح والدمقرطة.(31/488)
وتشير الدراسة إلي أن معظم بلدان الخليج لديها إسلام معتدل كما هو الحال في الكويت والبحرين والإمارات، ولكن المشكلة أنه لا توجد شبكات تنظم المعتدلين في علاقات تفاعلية. في حين ينعم السلفيون والصوفيون بهذه الشبكات والروابط علي حد وصف الدراسة.
بالنسبة للكويت فإن جماعة الإخوان المسلمين تهيمن علي جامعة الكويت وعلي بيت المال الكويتي، في حين يكافح الليبراليون في الكويت من أجل دعم الديمقراطية والتعددية والاعتدال.
ومنهم علي سبيل المثال د. أحمد بشارة الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي في الكويت، د. شملان العيسي مدير مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت. ومحمد الجاسم رئيس تحرير جريدة الوطن.
أما البحرين فتتمتع بمجتمع مدني حيوي ونابض، علي حد وصف الدراسة، وقد نجحت القوي الإسلامية بمختلف أشكالها من سلفيين وشيعة وإخوان مسلمين من حصد معظم المقاعد البرلمانية في انتخابات 2002. كما أن هناك دور فاعل للكتلة الاقتصادية التي تدافع عن الحريات واحترام حقوق الإنسان والاقتصاد الحر.
أما في الإمارات خاصة في دبي وأبو ظبي فلا يوجد تيار ليبرالي حقيقي، وباستثناء ملتقي دبي الإصلاحي، وجمعية حقوق الإنسان في دبي لا توجد مؤسسات للتعبير.
وتدور معظم أسماء المثقفين المعتدلين حول الدكتور محمد الركن مساعد عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات، وعبد الغفار حسين رئيس الجمعية الإماراتية لحقوق الإنسان.
وعلي صعيد المشروعات البحثية تشير الدراسة إلي أن هناك مجموعة من المشاريع التي تقوم بها بعض المؤسسات الغربية من أجل دعم الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، منها علي سبيل المثال مؤسسة بن رشد لدعم حرية التفكير التي تتخذ من ألمانيا مقراً لها تدعم المفكرين العرب المستقلين، وقد أنشئت عام 1998.
أيضا هناك مركز دراسات الإسلام والديمقراطية الموجود بواشنطن ينظم دورات وبرامج تدريبية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ولقاءات للحوار في الأردن والمغرب والجزائر ومصر.
ويتركز عمل المركز في عقد جلسات حوار بين مثقفين من مختلف التوجهات الفكرية من أجل تقريب وجهات النظر حول العديد من القضايا، كما أنه مهتم بتدريب طلاب من الشرق الأوسط علي مفاهيم الديمقراطية.
العلمانيون .. الحلقة المنسية في حرب الأفكار
تشير الدراسة إلي أن أحد الأطراف القوية التي يمكنها أن تلعب دوراً مؤثراً في حرب الأفكار هم العلمانيون في العالم الإسلامي، بيد أن ثمة عراقيل تواجه نمو التيار العلماني لعل أهمها :
- ارتباط العلمانية، خصوصاً في العالم العربي، بالعديد من النظم الشمولية السلطوية .
- ارتباط العلمانية بالتيار اليساري سواء كفرادى أو مجموعات، وهو ما يواجه بمعارضة دائمة، خاصة في الولايات المتحدة، حيث أن هناك حساسية من مراكز الأبحاث لدعم هذه التيارات .
- يحوط مفهوم العلمانية الكثير من الغموض خصوصاً في العالم العربي، خاصة وأن البعض ينظر إليها باعتبارها ضد الدين.
بيد أن ذلك لا يعني أنه من الصعوبة دعم التيار العلماني، حيث تشير الدراسة إلي بعض الكتاب العلمانيين في العالم العربي الذين يجب دعمهم، مثل الشاعر العربي علي أحمد سعيد المعروف باسم "أدونيس"، والمثقف المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد، والمهندس الهندي "أصغر علي"، والفنان اللبناني مارسيل خليفة.
أما علي المستوي المؤسسي فتشير الدراسة إلي بعض المؤسسات العلمانية ومنها "ائتلاف المسلمين الأحرار" الذي أسسه المحامي الفلسطيني كمال نواش وله 12 فرع في الولايات المتحدة وفرع في كندا وأخر بمصر. ومؤسسة الدراسات الإسلامية التي أسسها أصغر علي في الهند عام 1980.
توصيات الدراسة
في نهاية الدراسة يشير الباحثون إلي مجموعة من التوصيات التي يجب علي الولايات المتحدة الالتفات إليها ويمكن إيجازها فيما يلي :
- أن تشرع الولايات المتحدة في بناء شبكات من الإسلاميين المعتدلين، وأن يكون ذلك جزء من الاستراتيجية الأمريكية الشاملة حول هذا الملف وهو ما يمكن تحقيقه من خلال وجود جهاز مؤسسي يقوم بهذا الجهد.
- يجب أن تهتم الإدارة الأمريكية من خلال مبادرة دعم الديمقراطية في الشرق الأوسط ببناء علاقات مع كل من العلمانيين ورجال الدين المعتدلين والمفكرين والصحفيين والناشطين في مجال المرأة.
- وضع برامج محددة في مجالات التعليم الديمقراطي، الإعلام، جمعيات الدفاع المدنية.
- عقد ورش عمل ودورات للمعتدلين والليبراليين والاستماع إلي أفكارهم .
- بناء شبكة دولية لربط الليبراليين والمعتدلين الإسلاميين حول العالم ووضع برنامج محدد لتطوير أدواتهم وإمكاناتهم.
ملاحظة : دققوا في الأسماء المذكورة في التقرير ، والتي ستجد الدعم الكامل من أمريكا .
تقرير (راند) .. معايير أمريكية للإسلام المعتدل
القاهرة/علي عليوه 2/4/1428 19/04/2007(31/489)
منذُ أيام صدر تقرير 2007 لمؤسسة (راند) الأمريكية للأبحاث، وهي المؤسسة التي تتبع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وتلعب دوراً مهمًّا في اتخاذ القرار داخل هذه المؤسسة الأمريكية الهامّة، وأشرف على إعداده (أنجيل سبارا) الذي كان يعمل بوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكية، ويقع في أكثر من مائتي صفحة، ويرسُم ملامح إستراتيجية للتعامل مع المسلمين المقيمين فيما أسماه بـ (العالم المسلم) ، وليس الإسلامي، واستخدم مصطلحات ذات مدلولاتٍ جديدة مثل "المسلم المعتدل" ، و"المسلم الراديكالي" , و"دول الأطراف" , و"دول القلب" , وغيرها مستفيداً من الخبرة المخابراتية الأمريكية في التعامل مع الاتحاد السوفيتي إبّان الحرب الباردة.
الاعتدالُ في المفْهُومِ الأمريكي
ومن معايير الاعتدال التي وضعها التقرير رفض تطبيق الشريعة الإسلامية، وتبني منظومة القيم الليبرالية الأمريكية التي تقوم على الفصل بين الدين, والدولة، واعتبار العقيدة شأناً فردياً بين الإنسان وربه، ولا علاقة لها بتنظيم شؤون الحياة, ورفض العنف، وتبني منظومة حقوق الإنسان التي تعتبر الشذوذ و"تغيير الفرد لدينه" ضمن هذه الحقوق، وتمَّ وضع استبيان من أحد عشر سؤالاً؛ لتحديد الشخص المعتدل.
أما الراديكالي أو المتطرِّف فهو من يتمسَّك بتطبيق الشريعة الإسلامية، ويسعى لإقامة الدولة الإسلامية, ويتبنى الفكر السلفي, ويرفض الديمقراطية، والليبرالية الغربية، وما يرتبط بها من منظومات حقوق الإنسان المنبثقة عن المنظور الغربي، ويرى أن من حقِّه استخدام العنف كأداةٍ للتغيير.
ويتضمَّن التقرير تفاصيل التعامل الأمريكي مع المسلمين بعد تصنيفهم، منها الوقوف إلى جانب العلمَانيين, والليبراليين, والمعتدلين (وفق المفهومِ الأمريكي للاعتدال)؛ لضرب غير المعتدلين, و دعم المعتدلين مالياً, ومعنوياً، وتصعيدهم للمناصب القيادية داخل دولهم؛ ليكونوا أنصاراً للإدارة الأمريكية في سياستها تجاه العالَمَين العربي والإسلامي.
ويشير إلى أن أحد مصادر هذا التمويل سيتمُّ من خلال الميزانيات الضخمة لإذاعتي (الحرّة), و(سوا) الأمريكيتين التي بلغت عام 2007 أكثر من (671) مليون دولار، وهناك مطالب لزيادتها بـ(50) مليون إضافية، يُستخدمُ الجزء اليسير منها؛ لتشغيل المحطتين، والباقي سيُنفقُ بشكلٍ غيرِ مُعلن؛ لدعم المعتدلين والليبراليين, والعلمانيين.
وشدَّد التقرير على ضرورة تشجيع الدعاة الجدد، الذين ينشطون خارج الإطار الرسمي على وضع رؤى إسلامية جديدة، تؤيد الليبرالية, والعلمانية بما يُنتج إسلاماً جديداً منفتحاً, ومعتدلاً، وترويج هذا النوع من الإسلام بين العامة، ونشرِه بكلِّ الطُرُق المتاحة، وتشجيع هؤلاء الليبراليين, والعلمانيين, والمسلمين "المعتدلين" على تكوينِ جمعيّةٍ عالمية للاعتدال، يكون لها فروعٌ, وروابط داخل البلدان العربية, والإسلامية.
أهم ما يلفت الانتباه في التقرير أنه ينقل معركة الإدارة الأمريكية، ضدّ العالم الإسلامي من مستوى الغزو العسكري الحالي، إلى معركة فيما بين المسلمين أنفسهم الذين يُراد لهم أن ينقسموا إلى معتدلين, ومتطرفين، وفق المفهوم الأمريكي ثُمَّ يتمُّ إشعال فتيلِ الصراع بينهم، وبذلك يتمُّ إضافة سببٍ جديدٍ للصراعات الداخلية، والاقتتال إلى جانب الأسباب العِرقية, والطائفية الموجودة بالفعل، والتي يتمُّ تغذيتها لتزداد المنطقة احتقاناً للوصول بشكلٍ أسرع لمرحلة الفوضى الخلَّاقة التي أشارت إليها كوندليزا رايس؛ لتحقيق الشرق الأوسط الجديد.
الجديد في التقرير أنه وضع معايير جديدة للاعتدال والراديكالية لم تكن معتادة من قبل، وأهميته ترجع إلى أن توصيات التقارير السابقة لنفس المؤسسة هي التي طُبِّقت في العراق، وأثمرت تلك الحرب الطائفية الطاحنة بين العراقيين، ويوصي بنقل تلك الخبرة إلى البلدان العربية, والإسلامية الأخرى؛ للتسريع بعملية التقسيم والتفتيت.
اختراق الجيوش
ويتضمَّن التقرير توصيات أخرى، منها حجب التمويل عن الجماعات الإسلامية، وتدريب كوادر عسكريّة من المنتمين لجيوش الدول الإسلامية، من المُتّصِفين بالاعتدال على القِيم الأمريكية؛ للاستعانة بهم عند الحاجة, وتغيير المناهج الدينية في البلدان الإسلامية؛ لتكونَ أكثر ليبرالية، وتشجيع إنشاء الجماعات أو الشبكات المعتدلة لمواجهة الدعوات المتطرِّفة، حيثُ يشير التقرير إلى أن المسلمين الليبراليين والمعتدلين لا يملكون شبكات فعَّالة، كالتي أنشأها المتطرِّفون لتوفير الحماية للجماعات المعتدلة.
ويوصي بقيام الولايات المتّحدة بمساعدة المُعتدلين الذين يفتقرون إلى الموارد اللازمة لإنشاء هذه الشبكات بأنفسهم، وإيجاد مجموعات إسلامية تدعو لما يسميه البعض دين أمريكي جديد، مثل الدعوة لعدم تطبيق الحدود، و جواز إمامة المرأة للصلاة، وقبول التطبيع مع إسرائيل.
ويدعو التقرير إلى تمزيق الشبكات المتطرِّفة، ويتطلَّب ذلك معرفة نقاط الضعف التي تعاني منها، ومن ثمَّ وضع إستراتيجية تستهدف تمزيق, وتفكيك هذه الشبكات، والعمل على تمكين المسلمين المعتدلين.(31/490)
دعم جهود الحكومات, والمُنظَّمات الإسلامية المُعتدلة، للتأكد من أن المساجد لا يتمّ استخدامها منابر للأفكار المتطرِّفة، ودعم الإسلام المدني، ومنح الأولوية لمساعدة جهود المنظمات العلمانية، والمنظمات الإسلامية المُعتدلة؛ للقيام بأنشطة تعليمية, وثقافية ذات طابع جماهيري، و تطوير المؤسسات الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني.
المصدر : الإسلام اليوم
مركز "راند": الإسلام "المعتدل" هو الحل لأمريكا
مركز "راند" بواشنطن*
قراءة وترجمة: شيرين حامد فهمي**
03/05/2005
غلاف كتاب العالم المسلم بعد 11-9
"العالم المسلم بعد 11/9" هو كتاب أصدره مركز "راند" في أكثر من 500 صفحة في عام 2004 لبحث التفاعلات والديناميات المؤدية إلى حدوث التغيرات الدينية-السياسية التي يشهدها المسرح الإسلامي الراهن بهدف إمداد صانعي السياسة الأمريكية برؤية شاملة عن الأحداث والتوجهات الواقعة حاليا في العالم الإسلامي.
ويقدم الكتاب في محوره الأول خريطة شاملة للتوجهات الأيديولوجية في المناطق المختلفة بالعالم الإسلامي مشيرا إلى أن المسلمين لا يختلفون فقط في الرؤى الدينية، بل يختلفون أيضا في الرؤى السياسية والاجتماعية مثل الحكومة والقانون وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والتعليم.
وما يلفت النظر أن هذا الكتاب يصنع مساواة مفتعلة بين الإسلام "المعتدل" وبين "العلمانية" ويقسم العالم الإسلامي تقسيما قسريا حيث يتم مثلا تعريف منطقة معينة في العالم المسلم كونها "سلفية"، وأخرى "راديكالية"، وثالثة "معتدلة"...إلخ. وهو أمر غير جائز منطقيا أو علميا لأن التصنيف وفق الطريقة المادية المطلقة لا يتفق مع الطبيعة البشرية.
ومن خلال هذا التقسيم يتناول الجزء الثاني من الكتاب الخلافات القائمة بين المسلمين بعضهم البعض، مع تركيزه على خلافين أساسيين هما الخلاف السني-الشيعي والخلاف العربي-غير العربي حيث يخلص إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تثبت ولاءها للشيعة العراقية لصد المد الشيعي الإيراني رغم صعوبة ذلك، كما يرى أن مركز ثقل الإسلام سيتجه حتما ناحية "الأطراف" غير العربية التي تتسم بطبيعة أكثر ديناميكية، وكذلك بطبيعة أكثر ديمقراطية علمانية مقارنة بالدول العربية التي تشهد أدنى مستويات التقدم والتحضر مقارنة بالمناطق النامية الأخرى.
دوافع الإسلاميين الراديكاليين
وبعد أن قام الكتاب بتقسيم العالم الإسلامي وبيان الخلافات القائمة بين المسلمين سعى إلى توظيف هذا المدخل ليقوم في المحور الثالث بدراسة الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الإسلاميين الراديكاليين، حيث يستنتج أن هناك ثلاثة أسباب كبرى تضافرت مع بعضها البعض هي: الظروف أو الأحوال ذات الصفة الاستمرارية أو شبه الاستمرارية، وهي الـconditions؛ والعمليات التي تتطور عبر فترة ممتدة من الوقت، وهي الـp r ocesses؛ والأحداث الكبيرة - مثل الحروب والثورات - التي كان لها تأثير كبير في تغيير التفاعلات السياسية في دولة ما بشكل جذري، وهي الـcatalytic events.
1ـ الأحوال الغالبة الدائمة:
يذكر الكتاب ثلاثة عوامل كان لها أثر فعال في تشكيل البيئة السياسة بالعالم المسلم. أولها يتمثل في فشل النماذج السياسية والاقتصادية التي سادت بعد تخلصه من الاحتلال الأجنبي. ذلك الفشل الذي فرخ جميع أشكال التعصب والتطرف المشهودة حاليا على الساحة الإسلامية، والذي أدى إلى ظهور العامل الثاني الذي يسمى "المناهضة البنيوية للغرب" أو st r uctu r al anti-Weste r nism؛ وهي مناهضة سرعان ما تتفجر بمجرد ظهور أي سياسة أمريكية "مستفزة. وهى مناهضة متجذرة في العمق، مما يُصعّب اقتلاعها أو تليينها، مهما بلغت الوسائل الأمريكية من حنكة أو دبلوماسية. وأخيرا، فإن ثالث هذه الأحوال تمثل في تفتت مركزية السلطة الدينية للإسلام السُني الأمر الذي جعله عرضة لاستغلال المتطرفين والمتشددين ذوي الصيت الديني الواسع.
2 ـ العمليات المتطورة المتغيرة:
أدرج الكتاب تحت هذا البند العديد من العمليات التي أدت بكثير من المسلمين إلى انتهاج الإسلام "الراديكالي"؛ ومنها:
1) انتشار الصحوة الإسلامية في وسط المسلمين على امتداد العقود الثلاثة الماضية، وتسببها في خلق فجوة كبيرة بين المسلمين القوميين المؤمنين بالقومية العربية وبين المسلمين المؤمنين بالحل الإسلامي.
2) ضخ التمويلات الخارجية التي تستهدف دعم المتطرفين والمتشددين، وأكثرها التمويلات السعودية الساعية إلى نشر الفكر الراديكالي العنيف، وإلى ترويج الأيديولوجية الوهابية عبر القنوات العامة والخاصة.
3) تعانق التطرف مع القبلية، إذ يرى الكتاب وجود علاقة وطيدة بين المجتمعات القبلية وبين التشدد الديني؛ فغياب سلطة مركزية قوية في وسط المجتمع القبلي تهيئ الأخير وتشجعه على خلق أنواع خاصة به من التطرف والتشدد الديني.(31/491)
4) تنامي الشبكات الإسلامية الراديكالية التي تجمع تحت لوائها أصنافا متباينة من البشر ولكن ذات خلفية دينية واحدة؛ وهي إما شبكات تجمع المال، أو تجمع أهل الشتات، أو تجمع قلوب وأفئدة الناس.
5) ظهور طفرة في الفضائيات في البلدان الإسلامية، وأعظمها أثرا قناة "الجزيرة" الفضائية وما يشبهها من قنوات تعمل على إثارة الشعور لدى المسلم العادي بأنه "ضحية"، فكيف سيكون الأثر على المسلم المتشدد؟.
3 ـ الأحداث الجوهرية الدافعة:
أما الأحداث الجوهرية الدافعة التي ذكرها الكتاب، فهي تتلخص في الآتي: الثورة الإيرانية؛ الحرب الأفغانية؛ حرب الخليج 1991؛ الحرب العالمية على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ غزو العراق 2003.
واللافت للانتباه أن الكتاب لم يدرج الصراعين العربي الإسرائيلي والهندي الباكستاني من ضمن الأحداث الجوهرية الدافعة، بل أدرجهما من ضمن "العمليات" التي شكلت الحوار السياسي في كل من الشرق الأوسط وجنوب آسيا على امتداد نصف قرن، والتي أخرت النضج السياسي في كل من العالم العربي وباكستان نتيجة لانصرافهما عن الأزمات والإشكاليات الداخلية، كما يرى الكتاب.
فعلى سبيل المثال، أدت أحداث 11 سبتمبر 2001 إلى إعادة الشراكة الإستراتيجية بين عدد من الدول المسلمة أبرزها باكستان وبين الإدارة الأمريكية؛ وذلك في ظل الحرب العالمية على الإرهاب.
أما حرب العراق في عام 2003، فقد أدت بدورها إلى زرع القوة الأمريكية في داخل المنطقة العربية الإسلامية؛ وهو حدث يعتبر طفرة حقيقية على مسار العلاقات الأمريكية العربية الممتدة على مدار نصف قرن، ويعتقد الكتاب أن هذا الوضع لم يؤد فقط إلى ظهور القوى الإسلامية "المتطرفة" على المستويين السُني والشيعي، وإنما أدى أيضا إلى صراع بين النموذج الديمقراطي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تدشينه ليصير أول تجربة ديمقراطية في الشرق الأوسط وبين النموذج "المتطرف" الذي يسعى "المتطرفون" إلى تطبيقه.
سيناريوهات المواجهة الأمريكية
أكثر ما يشدد عليه الكتاب هو ظاهرة انتشار التفسيرات الراديكالية حول الإسلام، وتمكنها من العقول المسلمة. وهي بالطبع ظاهرة تُزعج الإدارة الأمريكية التي ستجد عنتا شديدا في إقناع العقول المسلمة بأفكارها الليبرالية المناهضة للراديكالية، مما سيعني تعطيل المصالح الأمريكية في العالم المسلم. ومن ثم فإن "حرب الأفكار" ليست بالحرب السهلة؛ بل هي حرب في غاية الصعوبة من وجهة نظر مؤلفي الكتاب. والسؤال المطروح الآن هو: كيف يمكن للولايات المتحدة أن تتفاعل مع التحديات والفرص التي تفرضها الساحة المسلمة اليوم؟ وهنا يطرح الكتاب "الراندي" سلسلة من المقترحات الاجتماعية والسياسة والعسكرية:
1 ـ إيجاد شبكات إسلامية "معتدلة":
يدعو الكتاب إلى مساعدة المسلمين "المعتدلين" و"الليبراليين" على توصيل أصواتهم إلى بقية المجتمعات المسلمة من خلال خلق شبكات ضخمة تتحدث بلسانهم وتعبر عن أفكارهم. ويقول: "إن الحرب من أجل الإسلام سوف تتطلب خلق جماعات ليبرالية بهدف إنقاذ الإسلام من خاطفيه، وإن إيجاد شبكة دولية يعتبر خطوة في غاية الأهمية؛ لأنها ستوفر منبرا أساسيا لتوصيل رسالة المعتدلين وستوفر لهم قدرا من الحماية، إلا أن المعتدلين ليس لديهم المصادر لخلق مثل هذه الشبكة الدولية".
2 ـ إتلاف الشبكات الراديكالية:
على الناحية الأخرى، يدعو الكتاب إلى اتباع إستراتيجية الإتلاف لكل الشبكات التي تستخدم العنف. ويتطلب ذلك قدرا كبيرا من الجهد من الإدارة الأمريكية، لكي تتفحص من خلاله أصول ومصادر الشبكات الإسلامية المتواجدة على الساحة. ومثل هذه الخطوة ستصب بالتأكيد في دعم "المعتدلين" وتقوية شوكتهم.
ويعتقد مؤلفو الكتاب أن تمويل المنظمات الراديكالية ينبع أصلا من السعودية ومن دول خليجية أخرى. ومن ثم فهم يرون ضرورة مراقبة عملية دوران تلك التمويلات، خاصة عند طرفي البداية والنهاية، وتزويد الدول الإسلامية بجميع القدرات التقنية الممكنة التي تساعد على مراقبة التدفقات المالية بسرعة وسهولة.
3 ـ تشجيع إصلاح المدارس الدينية والمساجد:
يعتبر الكتاب المدارس "الراديكالية" المنتشرة من باكستان إلى جنوب شرق آسيا رافدا أساسيا من روافد الحركات الراديكالية الإرهابية؛ ومن ثم ينادي الإدارة الأمريكية والمؤسسات الدولية ودولا أخرى متضررة من تلك الحركات والجماعات بتكثيف الجهود الرامية إلى إصلاح تلك المدارس عبر إعدادها وتجهيزها لتقدم تعليما حديثا يمد الطالب المسلم بالقدرات "السوقية" والتجارية. كذلك ينادي الكتاب الإدارة الأمريكية بتأييد جهود الحكومات والمنظمات المسلمة المعتدلة في جعل المساجد صرحا لخدمة المجتمعات المسلمة، وليس ساحة لنشر الأيديولوجيات الراديكالية.
4 ـ توسيع الفرص الاقتصادية:(31/492)
يرى الكتاب أن توسيع الفرص الاقتصادية لدى الشباب المسلم هي التي ستصرفه عن الالتحاق بالمنظمات الراديكالية. ومن ثم يدعو إلى حتمية قيام الإدارة الأمريكية بالمبادرات التي من شأنها تحسين الحالة الاقتصادية لدى هؤلاء الشباب، على أن تكون المعونات الأمريكية معتمدة أصلا على المنظمات غير الحكومية المتواجدة في المنطقة؛ وكذلك أن تكون ملائمة للأوضاع المحلية. إضافة إلى ضرورة تدشين برامج ثقافية وتعليمية في الدول المسلمة لتقوم بوأد الأفكار "الراديكالية" وأن تستبدل بها الأفكار "العلمانية" أو "المعتدلة".
5 ـ دعم الإسلام المدني:
يمثل دعم العلاقات مع جماعات المجتمع الإسلامي المدني التي تسعى إلى تطبيق الاعتدال والحداثة مكونا فعالا في السياسة الأمريكية تجاه العالم المسلم". لذا يضع الكتاب هذا الهدف على سلم الأولويات عبر المشاركة الأمريكية في تنمية وتطوير المؤسسات المدنية الديمقراطية التي لم تر النور حتى الآن.
6 ـ الموازنة بين حرب الإرهاب ودمقرطة الدول الإسلامية:
يحذر الكتاب الإدارة الأمريكية في إطار حربها على الإرهاب من خطر الوقوع في الفخ الذي يرسمه لها الإسلاميون الراديكاليون وهو أنها تخوض حربا ضد الإسلام، فالإدارة الأمريكية ملزمة بإفهام الشعوب المسلمة بمدى رفضها للأنظمة المسلمة الديكتاتورية، وسعيها إلى تحقيق تحول ديمقراطي فعال في أنحاء العالم المسلم؛ ومواصلة حربها على الإرهاب في نفس الوقت حتى ولو استخدمها الراديكاليون كثغرة للنفاذ من خلالها.
7 ـ إدماج الإسلاميين في السياسة العامة:
هناك اعتقاد سائد يقول: بمجرد وصول الإسلاميين إلى السلطة فستكون هناك قطيعة مع الديمقراطية والحرية؛ إلا أن الكتاب يأمل في انقشاع ذلك الخطر تدريجيا إذا ما تدرب الإسلاميون -تدريجيا أيضا- على التعامل واقعيا وتطبيقا مع المؤسسات الديمقراطية. وهذا لن يتأتى إلا من خلال انخراط الإسلاميين (حتى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في مصر) في داخل العملية الديمقراطية؛ فذلك هو خير ضامن لإنهاء حالات العنف المتفشية وسط الإسلاميين، كما يرى الكتاب.
8 ـ العمل مع المسلمين المغتربين:
يلفت مؤلفو الكتاب الانتباه إلى المسلمين المغتربين كعنصر أساسي ومهم في مساعدة الولايات المتحدة في تحقيق مصالحها داخل العالم المسلم. فعلى سبيل المثال، تعتبر المجتمعات المسلمة المتواجدة في الولايات المتحدة، بما لديها من مخزون ثقافي عالٍ، تعتبر رأس حربة لإحياء الديمقراطية والتعددية في العالم المسلم. إلا أنه لا بد من انتهاج الحيطة عند إدراج المنظمات الإسلامية غير القومية في أي تنمية ديمقراطية.
9 ـ إعادة العلاقات العسكرية مع الدول الإسلامية الرئيسية:
يطالب الكتاب الولايات المتحدة بضرورة تفعيل العلاقات العسكرية مع الدول الإسلامية لأن إيجاد ضباط مسلمين مُدربين أمريكيا؛ من خلال برامج مثل "التعليم والتدريب العسكري الدولي" لا تضمن فقط عدم تعرض القادة العسكريين المسلمين إلى القيم والممارسات الأمريكية، بل تضمن أيضا تزايد النفوذ الأمريكي في المنطقة العربية الإسلامية.
10 ـ بناء قدرات عسكرية مناسبة:
يطالب مؤلفو الكتاب الإدارة الأمريكية بضرورة تخفيض عدتها العسكرية في العالم الإسلامي، والعمل بدلا من ذلك على دعم وجودها الاستخباراتي والنفسي والمدني، الأمر الذي يقضي على ذريعة الوجود العسكري الأمريكي لاستخدام العنف. كذلك فإن توفير الجهود والعمليات العسكرية من أجل تكثيفها فيما هو أثمن -مثل الشئون المدنية والاقتصادية والسياسة- سوف يصب بدوره في المصلحة الأمريكية بالمنطقة.
خلاصة القول: إن هذا الكتاب يقدم إستراتيجية للإدارة الأمريكية للتعامل مع الإسلام تقوم على استخدام القوة الرخوة من خلال دعم الإسلاميين المعتدلين وإحداث العديد من التغييرات الثقافية والسياسية عبر دعم المجتمع المدني المسلم وتوسيع الفرص الاقتصادية والاتجاه نحو الديمقراطية. ويطالب في نفس الوقت بالتركيز على الوجود الاقتصادي والمدني والاستخباراتي بدلا من الوجود العسكري..
فهل ستعمل الإدارة الأمريكية الحالية بالنصيحة "الراندية"؟.
لعل في التصريحات الأخيرة لمسئولي الإدارة الأمريكية التي تحمل توجها نحو التواصل مع القوى الإسلامية المعتدلة في العالم العربي ما يشير إلى ذلك.
المصدر : إسلام أون لاين
خطة "راند" لكشف المنافقين !
ياسر الشهري
لأول مرة تصل مؤسسة راند إلى طرح عقلاني يستحق التقدير، التقرير الأخير 2007م يؤكد هذا الأمر، فهو يعترف ضمنيا بالكثير من الحقائق التي جاء بها الإسلام؛ وإن كان اعترافه بها بهدف مواجهتها وهدم القناعات المبنية حولها !! .
يعترف التقرير أنه لا مكان -في هذا العالم- للجمع بين النقيضين أفكار الإسلام مع أفكار الديمقراطية (الحق مع الباطل)، وأن الإسلام كفكره لا يقبل الديمقراطية بأفكارها وطروحاتها المختلفة، ولا غيرها من الأفكار والأيديولوجيات المختلفة، لذا ينصحون بأن يستثني الإسلام من قاعدة دعاوى التعددية؛ باعتبار اعتناقه رفض وإقصاء للأفكار والأيديولوجيات الأخرى !!.(31/493)
إنهم بذلك يؤكدون أصلا عظيما من أصول الدين؛ بُحت "أصوات الغيورين" وهم يعلمونه للأمة؛ أنه لا مكان للنقاش والحوار ما دام النص الشرعي واضحا في المسألة، وأن ذلك من التعقيب على أحكام الله -سبحانه وتعالى- التي لا معقب لها، وأن رأي الإنسان في هذه الحالة؛ إما أن يقول : (سمعنا وأطعنا : إتباع) أو الخذلان والمهانة إن لم يسمع ولم يُطع.
ويعترف التقرير - بعد تخبطاته في نسخة القديمة - أن الاعتماد على الأشخاص كان من أسباب قصور الخطط السابقة للحكومة الأمريكية، لذا عمد التقرير إلى وضع خطة تستهدف الفكرة الإسلامية - المشكلة ذاتها - من أصولها وجذورها، فحدد سمات الأفكار الرئيسة التي سيجري العمل على ترسيخها، ثم اشترط في من يقدم الدعم والمساندة لتحقيق أهداف الحكومة الأمريكية (أفراد، مؤسسات، حكومات) أن يكون ممن يعتنق تلك الأفكار، وهي في غالبها سمات المنافقين كما نص عليها القرآن الكريم، وهذا بحد ذاته إفصاح عن حقيقة المعركة وتأكيد على التصنيف القرآني للناس (مسلم، كافر، منافق) الذي جرى العمل لسنوات طويلة على تمييعه في نفوس المسلمين، وكشف لطبيعة العلاقة الأزلية بين النفاق والكفر.
تحتاج الأمة للحصول على مثل تقرير راند 2007م إلى الكثير من التضحيات التي قد تطال رموزها!! من العلماء والمفكرين المخلصين، وتحتاج كذلك إلى إمكانات مادية وتقنية لا يمكن أن تتاح لأصحاب الحق؛ بحرية في هذه المرحلة على الأقل، كما تحتاج إلى الصبر لمواجهة الهجمة الشرسة وحملة التشويه التي تنتظرها في حال أصدرت مثل هذا التقرير!! من إعلام المسلمين قبل غيرهم!!
ولكن،، بفضل الله جاء التقرير -الأخير لمؤسسة راند 2007م - من داخل أمريكا !!، يحمل في ثناياه بشائر النصر والتمكين لهذا الدين ويكشف العجز والخذلان الذي يتقلب فيه أعداء الدين في داخل المجتمعات الإسلامية (جميع المنافقين) وخارجها (بعض الكافرين) ، ويحدد بجلاء العلاقة الوثيقة والأصل المشترك بين النفاق والكفر في محاور بارزة: (عدم تحكيم الشريعة في كل شؤون الحياة، عدم قيام الدولة الإسلامية، فساد المرأة أصل التغيير، محاربة!!! فكرة الجهاد وتجريمها، حرية تغيير الدين أو تعديله أو تكوين مزيج منه!!، الحرية الجنسية) .
أراهن أن هذا التقرير بمثابة الكارثة على عملاء أمريكيا في داخل البلدان المسلمة، ولكن تبقى آليات المنافقين (المخادعة، والكذب) حائلا دون توبتهم بعد هذه الفضيحة التاريخية إلا أن يشاء الله. إن المتأمل في السمات التي اشتمل عليها مقياس راند للمسلمين المعتدلين!، وللمنتج المستقبلي من المسلمين، الذي سينتج بواسطة: "الولايات المتحدة وحلفائها" ليتوهم أنهم قد رجعوا إلى "سورة التوبة" في استنباط مكونات مقياسهم للمنافقين ومشروعاتهم، لذا يمكن استخدام هذا المقياس (الأمريكي) في كشف أفعال المنافقين في الواقع ولن ينبس أحدهم بكلمة (المتشددين، أو الإقصائيين، أو أصحاب الرأي الأوحد) لأن "أمريكا" هي مصدر المقياس!.
لقد اختصر التقرير الكثير من التفاصيل التي كتبت للرد على المخالفين لمنهج أهل السنة والجماعة، فقد أظهر -التقرير- تصنيفه لكافة المعتقدات والآراء والأفكار التي تتشبث بها الفرق والطوائف التي انحرفت عن منهج الإسلام من المبتدعة وأصحاب الشركيات؛ ضمن سمات الإسلام المستقبلي الذي يتسيد فيه الباطل ويُغيب فيه الحق ( زعموا! ) ؛ فتحدث التقرير عن أماله المعقودة على الطائفين بالأضرحة !!.. وجعل الوصول إلى هذه الوضعية ( طواف المسلمين بالأضرحة ) مقياسا على تحقيق الأهداف الأمريكية لتغيير "فكرة الإسلام" (التوحيد) ، وهذا يكشف بجلاء حقيقة الموحدين وطبيعة الآثار التي يتركها التوحيد على معتنقيه، وكما كان التوحيد ولا زال؛ القضية الأولى لدعاة الحق عبر تاريخ البشرية ومحور دعوة الرسل والأنبياء، فإن الكفر والشرك والبدع في المقابل هدف دعاة الباطل (شياطين الإنس والجن) ومحور مشروعاتهم وحركتهم في الحياة.
وتأكيدا على كشف التقرير عن البيئات التي يمكن أن يزدهر فيها النفاق وينمو (حول القبور) فإنه قد اقترح بعض الخطط للتضييق على المساجد وتحجيم دورها باعتبارها البيئة التي تنشأ فيها الأفكار المعارضة للديمقراطية!! وتزدهر فيها المعارضة الشرعية لمشروعات صناعة النفاق والكفر.
إن من أبرز ما يتميز به هذا التقرير أنه أعلن عن طبيعة المعركة {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} الأنعام33 . فالمعركة ليست مع متشددين ولا متطرفين ؛ إنها مع الفكرة نفسها (الإسلام) { .. وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ.. } جزء من آيةالبقرة217، أمام وقودها فهم أرذل البشر -المنافقون- نعوذ بالله من حالهم.(31/494)
التقرر - الهدية - يقدم تفسيرات لكثير من الأخطاء التي ترتكب بحق الشعوب المسلمة من الحكومات في العالم الإسلامي، فهو يطرح فكرة تغيير المعتقدات والثقافة بكل صراحة، ويعول على " الفكر السياسي الأتاتوركي والتونسي !! " في تحقيق أهدافه، ويشترط إخلاص المؤسسات والحكومات الصديقة في تبني تغيير الثقافة من الداخل، إيمانا منهم بدور النفاق.
الذي يقرأ التقرير سيجد إجابات عن تساؤلات ملحة حول عدد من القضايا في مجتمعات المسلمين، منها :
لماذا يجري التغيير الاجتماعي بالقوة ؟
ولماذا العمل على زيادة الفجوة بين الطبقات الاجتماعية من خلال القضاء على الطبقة الوسطى - الممولة للأعمال الدعوية والإغاثية - في غالب المجتمعات المسلمة ؟
لماذا تنهب أموال الناس في وضح النهار؟ لماذا الفساد الإداري والقضائي في العالم الإسلامي ؟
لماذا تشغل ساحات الثقافة بـ(عصرنة الإسلام : تنسيق!! الإسلام ليتواءم مع العصر) وليس بأسلمة العصر ! ؟
لماذا يصرخ الإعلام الرسمي و( التجاري ! ) في وجه القيم والأخلاق؛ علنا والرقيب والحسيب معني بحماية الساسة فقط ؟
لماذا حصرت قضايانا الاجتماعية في تجريد المرأة من كل فضيلة توصلها إلى طاعة ربها ؟
لماذا تتزايد البطالة في صفوف الشباب الذكور ، وثقافة الحرية الشخصية ؟
إن تقرير راند حجة كبيرة على كل مؤمن بالله واليوم الأخر، فالأعمال المطلوبة لهزيمة العدو كثيرة لكنها واضحة جدا، ومرتبة بحسب أولوياتها، تنطلق من إحسان المسلم لعلاقته الداخلية مع الله سبحانه وتعالى (تقديم القدوة) وإعمار المساجد بالطاعات، ثم القيام بالواجبات في المحيط الاجتماعي انطلاقا من إصلاح الأسرة، ثم الدائرة الأكبر؛ لتجفيف منابع القوة الأمريكية (النفاق) من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستمرار في العمل الجاد على هزيمة كل القيم المادية في الحياة، فذلك كفيل بهدم الكيان المادي (الولايات المتحدة) وغيرها من الكيانات الخاوية من المعاني السليمة للحياة.
كل الأحداث تسوق الناس - بأمر الله - نحو فهم صحيح للحياة، فالصراع الذي يتأجج يوما بعد يوم هو مواجهات قيمية وأخلاقية ، بين الأنظمة الأخلاقية في عالم البشرية (القديم والمعاصر والمستقبلي) ، وتلك الأنظمة لا تخرج عن الأنظمة الثلاثة التي يعرضها القرآن الكريم : النظام الأخلاقي الإسلامي : (يستمد قوته الإلزامية من حب الخالق ورجاء ما عنده) .
والنظام الأخلاقي الكفري : (يستمد قوته الإلزامية من هيمنة المحسوس (المادي) وقصور العقل عن تجاوز إطار الحس) .
والنظام الأخلاقي النفاقي : (يستمد قوته الإلزامية من "درجة قوة" ضغط النظام الأخلاقي الإسلامي) ، وهنا ينكشف تكتيك المعركة بين الأنظمة الثلاثة؛ فعندما تسود القوة الإلزامية لنظامنا الأخلاقي على حركتنا وفعلنا في الحياة؛ يُهدم الفكر المادي وتضعف هيمنة المحسوس، وبالتالي يضطر المنافق للمخادعة وكبح ثوراته في وجه الحق، إما إذا ضعفت القوة الإلزامية لنظامنا الأخلاقي في نفوسنا؛ فسوف ينتفش العدو، وفي كل الأحوال ؛ تتجلى الحقيقة: { .. قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ .. } جزء من آية آل عمران165. فلا عذر لأحد.
المصدر : موقع المسلم
المفهوم الأمريكي للاعتدال الإسلامي
قراءة في تقرير راند 2007م
د. باسم خفاجي
ملخص :
أصدرت مؤسسة راند الأمريكية مؤخراً تقريراً بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة)، يقدم توصيات محددة وعملية للحكومة الأمريكية أن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر. يوصي التقرير أن تدعم الإدارة الأمريكية قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها (تيارات متطرفة) .
كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية غربية، وليست مفاهيم إسلامية، وأن يكون هناك اختبار للاعتدال بالمفهوم الأمريكي يتم من خلاله تحديد من تعمل معهم الإدارة الأمريكية وتدعمهم في مقابل من تحاربهم وتحاول تحجيم نجاحاتهم. يقدم هذا المقال قراءة مختصرة لهذا التقرير، مع التركيز تحديداً على الجزء الخاص بتعريف الاعتدال من وجهة النظر الأمريكية، وكيفية إقامة تلك الشبكات المعتدلة بالمفهوم الأمريكي.
كما يتضمن المقال مجموعة من التوصيات حول الآليات العملية للتعامل مع مثل هذه التقارير، قبل أن تتحول توصياتها إلى سياسات أمريكية عامة تستخدم لتحجيم أو احتواء نهضة الأمة الإسلامية.
مقدمة :(31/495)
تسعى المراكز الفكرية الأمريكية المهتمة بالشرق الأوسط إلى تقديم العديد من التوصيات للإدارة الأمريكية لتوجيه المعركة الفكرية مع العالم الإسلامي. وتبرز مؤسسة راند وهي أكبر مركز فكري في العالم، كأحد أهم المؤسسات الفكرية الأمريكية المؤثرة على صناعة القرار في الإدارة الأمريكية الحالية، خاصة فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.
وقد أصدرت مؤسسة راند مؤخراً تقريراً في نهاية شهر مارس من عام 2007م (ربيع الأول 1428هـ) بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) ، وهو تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ هذا المركز الفكري الهام والمؤثر في إصدارها لتحديد الأطر الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي في الفترة التي أعقبت أحداث سبتمبر.
يقدم التقرير توصيات محددة وعملية للحكومة الأمريكية: أن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر عن طريق دعم قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها (تيارات متطرفة).
كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية غربية، وليست مفاهيم إسلامية. وقبل أن نتعرض لمحتوى ذلك التقرير وأهم ما ورد فيه من أفكار، فلعله من المهم إلقاء نظرة على التقارير السابقة لهذه المؤسسة الفكرية، وملاحظة العلاقة بين ما تطرحه من أفكار ورؤى، وما يتحول منها إلى سياسات عامة تتبناها الإدارة الأمريكية، وتفرضها على العالم الإسلامي والعربي.
تقارير سابقة :
اهتمت مؤسسة راند بما يسمى بالخطر الإسلامي منذ أكثر من ثمانية أعوام، وصدر عنها العديد من الدراسات التي لا يتسع المقام لعرضها، ولكننا نعرض فقط هنا أهم هذه التقارير، وأكثرها تأثيراً على الإدارة الأمريكية. وقد أصدرت مؤسسة راند كتاباً في عام 1999م، أي: قبل أحداث سبتمبر بعامين بعنوان (مواجهة الإرهاب الجديد)، وهو من إعداد مجموعة من الخبراء الأمريكيين، وصدر الكتاب في 153 صفحة، وهو خلاصة أفكار وأبحاث أهم خبراء (الإرهاب) في الولايات المتحدة، سواء في دوائر البحث والأكاديميات، أو دوائر السياسة والاستراتيجيات، من أمثال: إيان ليسر، وبروس هوفمان، وديفد رونفلت، وجون أركويلا، ومايكل زانيني؛ كما يذكر مركز كمبريدج بوك ريفيو الذي قام بإعداد قراءة متزنة لهذا التقرير. حاول الكتاب أن يجيب عن سؤال عمّا إذا كان (الإرهاب الجديد) يشكل خطراً استراتيجياً على الولايات المتحدة تحديداً أم لا؟ وأشار الكتاب إلى أن خطر الإرهاب الجديد سيتركز في منطقة الشرق الأوسط، وسيهدد مصالح كل من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.
وبعد أحداث سبتمبر قامت مؤسسة راند في عام 2004م بإصدار تقرير بعنوان (العالم المسلم بعد 11/9) في أكثر من 500 صفحة لبحث التفاعلات والديناميات المؤدية إلى حدوث التغيرات (الدينية - السياسية) التي يشهدها المسرح الإسلامي الراهن بهدف إمداد صانعي السياسة الأمريكية برؤية شاملة عن الأحداث والتوجهات الواقعة حالياً في العالم الإسلامي. قدم البحث في محوره الأول - كما تذكر باحثة متخصصة في العلوم السياسية - خريطة شاملة للتوجهات الأيديولوجية في المناطق المختلفة في العالم الإسلامي، مشيراً إلى أن المسلمين لا يختلفون فقط في الرؤى الدينية، بل يختلفون أيضاً في الرؤى السياسية والاجتماعية، مثل: الحكومة، والقانون، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والتعليم. وتذكر الباحثة أن البحث يصنع مساواة مفتعلة بين الإسلام (المعتدل) وبين (العَلْمانية)، ويقسم العالم الإسلامي تقسيماً قسرياً؛ حيث يتم ـ مثلاً ـ تعريف منطقة معينة في العالم المسلم في كونها (سلفية)، وأخرى (راديكالية)، وثالثة (معتدلة). وتناول الجزء الثاني من البحث الخلافات القائمة بين المسلمين بعضهم مع بعض، مع تركيزه على خلافين أساسيين هما (الخلاف السني - الشيعي) و (الخلاف العربي - غير العربي)؛ حيث يخلص إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تثبت ولاءها للشيعة العراقية لصدِّ المد الشيعي الإيراني رغم صعوبة ذلك (1) .(31/496)
أما في فبراير من عام 2005م فقد صدر لمؤسسة راند تقرير بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات)، ويرى التقرير - كما ينقل أحد الباحثين(2) - أنه لا يمكن إحداث الإصلاح المطلوب من دون فهم طبيعة الإسلام في المنطقة؛ الذي يقف سداً منيعاً أمام محاولات التغيير، وأنّ الحل يكمن في النظر إلى المسلمين عبر أربع فئات، هي: مسلمين أصوليين، مسلمين تقليديين، مسلمين حداثيين، ومسلمين علمانيين. أما فيما يتعلّق بالأصوليين فتقول (راند) : يجب محاربتهم واستئصالهم والقضاء عليهم، وأفضلهم هو ميّتهم لأنّهم يعادون الديمقراطية والغرب، ويتمسكون بما يسمى الجهاد وبالتفسير الدقيق للقرآن، وأنهم يريدون أن يعيدوا الخلافة الإسلامية، ويجب الحذر منهم لأنّهم لا يعارضون استخدام الوسائل الحديثة والعلم في تحقيق أهدافهم، وهم ذوو تمكُّن في الحجّة والمجادلة. ويدخل في هذا الباب السلفيون السنة، وأتباع تنظيم القاعدة والموالون لهم والمتعاطفون معهم، و (الوهّابيون)، كما يقول التقرير.
وفيما يتعلق بالتقليديين تقول (راند) : يجب عدم إتاحة أي فرصة لهم للتحالف مع الأصوليين ويجب دعمهم وتثقيفهم؛ ليشككوا بمبادئ الأصوليين وليصلوا إلى مستواهم في الحجّة والمجادلة، وفي هذا الإطار يجب تشجيع الاتجاهات الصوفية ومن ثم الشيعية (يقول ابن خلدون: لولا التشيع لما كان التصوف) ، ويجب دعم ونشر الفتاوى (الحنفية) لتقف في مقابل (الحنبلية) التي ترتكز عليها (الوهابية) وأفكار القاعدة وغيرها، مع التشديد على دعم الفئة المنفتحة من هؤلاء التقليديين.
وأوصى التقرير بأهمية أن (ندعم التقليديين ضدّ الأصوليين لنظهر لجموع المسلمين والمتدينين وللشباب والنساء من المسلمين في الغرب ما يلي عن الأصوليين : دحض نظريتهم عن الإسلام وعن تفوقه وقدرته، إظهار علاقات واتصالات مشبوهة لهم وغير قانونية، التوعية عن العواقب الوخيمة لأعمال العنف التي يتخذونها، إظهار هشاشة قدرتهم في الحكم وتخلّفهم، تغذية عوامل الفرقة بينهم، دفع الصحفيين للبحث عن جميع المعلومات والوسائل التي تشوه سمعتهم وفسادهم ونفاقهم وسوء أدبهم وقلّة إيمانهم، وتجنب إظهار أي بادرة احترام لهم ولأعمالهم أو إظهارهم كأبطال وإنما كجبناء ومخبولين وقتلة ومجرمين؛ كي لا يجتذبوا أحداً للتعاطف معهم) .
أما في العام الماضي فقد صدر لمؤسسة راند دراسة بعنوان ( ما بعد القاعدة ) ، وهي تقع في مجلدين :
الأول : حول حركة الجهاد العالمية ، والثاني : عن الحلقات الخارجية لعالم الإرهاب.
تبحث الدراسة في أربعة مباحث رئيسة، المبحث الأول عن القاعدة: العقيدة، والاستراتيجية، والتكتيك، والتمويل، والعمليات، وتغير الأشخاص، والمستقبل المحتمل.
أما المبحث الثاني فهو عن الجماعات الجهادية التي تبنت نظرة القاعدة العالمية، والتي ليست مرتبطة رسمياً بتنظيم القاعدة.
والمبحث الثالث حول الجماعات الإرهابية الإسلامية وغير الإسلامية والتي ليس لها أي صلات معروفة بالقاعدة، ولكنها تهدد المصالح الأمريكية والأصدقاء والحلفاء؛ كحماس وحزب الله، وغيرهما.
أما المبحث الأخير فهو عن الرابطة بين الإرهاب والجريمة المنظمة، ويتضمن ذلك طرق استعمال الإرهابيين للمنظمات الإجرامية في تمويل نشاطاتهم.
أشرف على إعداد تلك الدراسة (أنجل راباسا)، وهو معد الدراسة التي سيتناولها هذا المقال أيضاً. تدعو الدراسة الولايات المتحدة الأمريكية إلى توسيع الجهود بشكل كبير لتقويض الدعم للقاعدة وخاصة من داخل الدول الإسلامية، وتقول: إن نجاح مكافحة القاعدة (الجهاد العالمي) يتم من خلال مهاجمة العقيدة الجهادية العالمية، وقطع الصلات بين الجماعات الجهادية، وتعزيز قدرات دول المواجهة إلى مواجهة تهديدات الحركات الجهادية.
كما يقول التقرير : إن العقيدة الجهادية تواصل الانتشار وتلقى مزيداً من القبول في العالم الإسلامي، وهذا سينتج إرهابيين أكثر يجددون صفوف القاعدة، وإذا تم الطعن في هذه العقيدة ومصداقيتها فإن القاعدة ستنزوي وتموت. يؤكد التقرير أن طرق مكافحة الإرهاب التقليدية لا تكفي لهزيمة القاعدة، ويجب فهم أن الصراع مع القاعدة صراع سياسي وعقدي، وفي هذا يقول راباسا: «الحركة الجهادية العالمية حركة أيديولوجية متطرفة.. والحرب عليها في أبسط مستوى يكون بحرب الأفكار»، والهدف من ذلك ـ كما يقول التقرير ـ هو منع القاعدة من استغلال الخطاب الإسلامي والخطاب السياسي والذي استخدمته بكل براعة.
يرى التقرير أن تقويض العقيدة الجهادية العالمية من الخارج أمر صعب؛ فالقاعدة قد عبأت المسلمين ضد الغرب، لكن ليس كل الجماعات الجهادية تتفق مع القاعدة في النظرة العالمية؛ ولهذا السبب تدعو الدراسة الولايات المتحدة إلى قطع الصلة بين الجهاد العالمي والجهاد المحلي، وذلك بنشر وتأكيد الاختلافات بين حركة الجهاد العالمية (القاعدة) ، وبين حركات الجهاد المحلية التي لا تهدد الغرب.(31/497)
ومن المهم تأكيد وإبراز أن الدولة الإسلامية التي تسعى القاعدة إلى إقامتها ستستبعد التيارات الإسلامية الأخرى، وبالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة ستسعى إلى القضاء على الجماعات الإرهابية، وتعزيز قدرات الحكومات الحليفة والصديقة للتعامل مع التهديدات الإرهابية، لكن بصفة استشارية بتوفير مجال جمع البيانات والتحليل والتقرير.
تقرير راند لعام 2007م :
أصدرت مؤسسة راند مؤخراً تقريراً في نهاية شهر مارس من عام 2007م (ربيع الأول 1428هـ) بعنوان (بناء شبكات مسلمة معتدلة) وهو تقرير متمم لسلسلة التقارير التي بدأ هذا المركز الفكري والمؤثر في إصدارها؛ لتحديد الأطر الفكرية للمواجهة مع العالم الإسلامي في الفترة التي أعقبت أحداث سبتمبر. الجديد في تقرير هذا العام أنه يقدم توصيات محددة وعملية للحكومة الأمريكية: أن تعتمد على الخبرات السابقة أثناء الحرب الباردة في مواجهة المد الفكري الشيوعي، وأن تستفيد من تلك الخبرات في مواجهة التيار الإسلامي المعاصر.
كما يوصي التقرير أن تدعم الإدارة الأمريكية قيام شبكات وجماعات تمثل التيار العلماني والليبرالي والعصراني في العالم الإسلامي؛ لكي تتصدى تلك الشبكات والجماعات لأفكار وأطروحات التيارات الإسلامية التي يصنفها التقرير بالمجمل بأنها (تيارات متطرفة) .
كما يؤكد التقرير على الحاجة لأن يكون مفهوم الاعتدال ومواصفاته مفاهيم أمريكية غربية، وليست مفاهيم إسلامية، وأن يكون هناك اختبار للاعتدال بالمفهوم الأمريكي يتم من خلاله تحديد من تعمل معهم الإدارة الأمريكية وتدعمهم في مقابل من تحاربهم وتحاول تحجيم نجاحاتهم. يقدم هذا المقال قراءة لهذا التقرير، وتحديداً الجزء الخاص في ذلك التقرير والمتعلق بتعريف الاعتدال من وجهة النظر الإسلامية.
أعدَّ الدراسة مجموعة من الخبراء الأمريكيين العاملين بالمركز، ومن أبرزهم (أنجل راباسا)؛ وهو باحث أكاديمي، عَمِل سابقاً في عدد من المناصب الهامة في كل من وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية، ويجيد التحدث بأربع لغات غير اللغة الإنجليزية، وهي: الفرنسية، الإيطالية، اليونانية والإسبانية، وله عدد من الكتب والدراسات حول العالم الإسلامي.
يحاول التقرير ـ الذي صدر في 217 صفحة، وقُسِّم إلى مقدمة وتسعة فصول، وملخص للتقرير ـ أن ينقل طبيعة المواجهة الفكرية من مواجهة بين الإسلام والغرب؛ لكي تصبح مواجهة من نوع آخر بين العالم الغربي من ناحية والعالم المسلم من ناحية أخرى، على غرار الحرب الباردة التي كانت بين معسكرين شرقي وغربي. يؤكد التقرير أن الصراع هو صراع أفكار إضافة إلى الصراع العسكري أو الأمني، وأن حسم المعركة مع الإرهاب لن يتم فقط على الساحات الأمنية أو العسكرية، ولكن الأهم أن يهزم الفكر الإسلامي - الذي يصفه التقرير بالمتطرف - في ساحة الأفكار أيضاً.
يرى التقرير أن هذا الصراع الفطري يحتاج إلى الاستفادة من التجارب السابقة، ومن أهمها تجربة الصراع الفكري مع التيار الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة، ويوصي التقرير الولايات المتحدة أن تستفيد من تلك التجارب، وتبحث في أسباب نجاحها وما يمكن أن يتكرر ويستخدم مرة أخرى من وسائل وأدوات وخطط وبرامج في إدارة الصراع مع التيار الإسلامي.
يعقد التقرير مقارنة بين المعركة الفكرية مع التيار الشيوعي، وبين المواجهة الحالية مع العالم الإسلامي، ويفرد لذلك فصلاً كاملاً في الدراسة. وفي الجدول المرفق عرضاً لهذه المقارنة:
كما يرى التقرير أهمية استعادة تفسيرات الإسلام من أيدي التيار الإسلامي وتصحيحها (!) حتى تتماشى وتتناسب تلك التفسيرات مع واقع العالم اليوم وتتماشى مع القوانين والتشريعات الدولية في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا المرأة.
ويركز التقرير كذلك على أهمية إيجاد تعريف واضح ومحدد للاعتدال الإسلامي، وأن يصاغ هذا التعريف من قِبَل الغرب، وأن يصبح هذا التعريف هو الأداة والوسيلة لتحديد المعتدلين في العالم المسلم من أدعياء الاعتدال الذي لا يتوافق مع التعريف الأمريكي والغربي له. يؤكد التقرير أن هذا التعريف للاعتدال هو من أهم ما يمكن أن يساهم به التقرير في خدمة السياسة الأمريكية، وأن على أمريكا أن تدعم فقط الأفراد والمؤسسات التي تندرج تحت مفهوم الاعتدال بالتفسير الأمريكي له، والمقدم في هذا التقرير.
يوصي التقرير أن تهتم الولايات المتحدة الأمريكية بصناعة ودعم شبكة من التيار العلماني والليبرالي والعصراني ممن تنطبق عليهم شروط الاعتدال الإسلامي بالمفهوم الأمريكي، وأن تُستخدم هذه الشبكة في مواجهة التيار الإسلامي الذي يرى التقرير أنه لا يجب التعاون معه أو دعمه بأي شكل من الأشكال، رغم ادعاء بعض فئات هذا التيار أنها معتدلة، وأنها تدعو للتعايش والحوار وتنبذ العنف.(31/498)
ينصح التقرير بعدم التعاون مع كل فئات التيار الإسلامي، وأن يرتكز بناء شبكة التيار المعتدل على التيارات العلمانية والليبرالية والعصرانية فقط. ويجعل التقرير من المفهوم الجديد المقترح للاعتدال من وجهة النظر الأمريكية أحد أهم نتائج التقرير؛ ولذلك فإننا سنركز في هذا المقال على هذا المفهوم الخاص بالاعتدال الأمريكي، رغم أن التقرير يحوي العديد من القضايا الهامة الأخرى التي يجب دراستها وتحديد سبل التعامل معها، ونأمل أن يحدث ذلك في المستقبل القريب ومن خلال مقالات ودراسات أخرى.
ما مفهوم الاعتدال الأمريكي ؟
تشير الدراسة إلى أن نقطة البدء الرئيسة التي يجب على الولايات المتحدة العناية بها في بناء شبكات من المسلمين المعتدلين تكمن في تعريف وتحديد هوية هؤلاء المسلمين. وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلى أنه يمكن التغلب على صعوبة تحديد ماهية هؤلاء المعتدلين من خلال اللجوء إلى التصنيفات التي وضعتها بعض الدراسات السابقة التي قام بها بعض باحثي معهد (راند). ولهذا الغرض فقد وضعت الدراسة بعض الملامح الرئيسة التي يمكن من خلالها تحديد ماهية الإسلاميين المعتدلين، أهمها ما يلي(3) :
1- القبول بالديمقراطية : يعتبر قبول قِيَم الديمقراطية الغربية مؤشراً مهماً على التعرف على المعتدلين؛ فبعض المسلمين يقبل بالنسخة الغربية للديمقراطية، في حين أن بعضهم الآخر يقبل منها ما يتواءم مع المبادئ الإسلامية؛ خصوصاً مبدأ (الشورى) ويرونه مرادفاً للديمقراطية. كما أن الإيمان بالديمقراطية يعني في المقابل رفض فكرة الدولة الإسلامية.
2- القبول بالمصادر غير المذهبية في تشريع القوانين : وهنا تشير الدراسة إلى أن أحد الفروق الرئيسة بين الإسلاميين المتطرفين والمعتدلين هو الموقف من مسألة تطبيق الشريعة .
تؤكد الدراسة أن التفسيرات التقليدية للشريعة لا تتناسب مع مبادئ الديمقراطية، ولا تحترم حقوق الإنسان، وتدلل الدراسة على ذلك من خلال مقال للكاتب السوداني (عبد الله بن نعيم) قال فيه بأن الرجال والنساء والمؤمنين وغير المؤمنين لا يمتلكون حقوقاً متساوية في الشريعة الإسلامية.
3 - احترام حقوق النساء والأقليات الدينية : وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلى أن المعتدلين أكثر قبولاً بالنساء والأقليات المختلفة دينياً، ويرون بأن الأوضاع التمييزية للنساء والأقليات في القرآن يجب إعادة النظر فيها؛ نظراً لاختلاف الظروف الراهنة عن تلك التي كانت موجودة إبَّان عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم
4 ـ نبذ الإرهاب والعنف غير المشروع : تؤكد الدراسة هنا على أن الإسلاميين المعتدلين يؤمنون ـ كما هو الحال في معظم الأديان ـ بفكرة (الحرب العادلة) ، ولكن يجب تحديد الموقف من استخدام العنف ومتى يكون مشروعاً أو غير مشروع؟
اختبار الاعتدال ؟
يضع التقرير في الفصل الخامس مجموعة من الأسئلة التي يعدّها مقياساً للاعتدال، وأن الإجابة عن هذه الأسئلة تحدد ما إذا كان الفرد أو الجماعة يمكن أن يوصف بالاعتدال أم لا. يحذر التقرير أن التيار الإسلامي يدعي في بعض الأحيان أنه تيار معتدل ولكن وفق تفسير خاص به للاعتدال، وأن وجود قائمة من الأسئلة المختارة والمتفق عليها يمكن أن يحل هذه المشكلة، ويكشف للإدارة الأمريكية حقيقة نوايا الأفراد والجماعات من التيار الإسلامي ممّن يدَّعون الاعتدال أو يطالبون أن يعاملوا معاملة المعتدلين، وهو ما يجب أن يقتصر - حسب رؤية التقرير - على من يجتازون اختبار الاعتدال.
يضع التقرير 11 سؤالاً تشكِّل في مجملها المحددات الرئيسة لوصف الاعتدال المقترح أن تتبناه الإدارة الأمريكية. وهذه الأسئلة وردت بالتقرير، ونورد النص الإنجليزي لها حرصاً على دقة الترجمة؛ لأنه من المتوقع أن يمارس الإعلام التابع للإدارة الأمريكية الكثير من التحوير والتعديل في نص هذه الأسئلة عندما تترجم للغة العربية نظراً للحساسيات التي ستثيرها هذه الأسئلة في حال انتشارها في الإعلام العربي، وبين المفكرين والمثقفين والسياسيين في الدول العربية والإسلامية.
ولذلك نرى أهمية أن تكون الأسئلة باللغة الإنجليزية مرافقة للترجمة العربية لها. وهذه الأسئلة هي :
- هل يتقبّل الفرد أو الجماعة العنف أو يمارسه؟ وإذا لم يتقبل أو يدعم العنف الآن؛ فهل مارسه أو تقبّله في الماضي؟
- هل تؤيد الديمقراطية؟ وإن كان كذلك؛ فهل يتم تعريف الديمقراطية بمعناها الواسع من حيث ارتباطها بحقوق الأفراد؟
- هل تؤيد حقوق الإنسان المتفق عليها دولياً؟
- هل هناك أية استثناءات في ذلك (مثال: ما يتعلق بحرية الدين)؟
- هل تؤمن بأن تبديل الأديان من الحقوق الفردية؟
- هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات الجنائية؟
- هل تؤمن أن على الدولة أن تفرض تطبيق الشريعة في الجزء الخاص بالتشريعات المدنية؟ وهل تؤمن بوجوب وجود خيارات لا تستند للشريعة بالنسبة لمن يفضِّلون الرجوع إلى القوانين المدنية ضمن نظام تشريع علماني؟
- هل تؤمن بوجوب أن يحصل أعضاء الأقليات الدينية على حقوق كحقوق المسلمين تماماً؟(31/499)
- هل تؤمن بإمكانية أن يتولى أحد الأفراد من الأقليات الدينية مناصب سياسية عليا في دولة ذات أغلبية مسلمة؟
- هل تؤمن بحق أعضاء الأقليات الدينية في بناء وإدارة دور العبادة الخاصة بدينهم (كنائس أو معابد يهودية) في دول ذات أغلبية مسلمة؟
- هل تقبل بنظام تشريع يقوم على مبادئ تشريعية غير مذهبية؟
إن من يقرأ هذه اللائحة من الأسئلة يدرك على الفور أن تعريف الاعتدال بالمفهوم الأمريكي لا يعبر إلا عن المصالح الأمريكية الهادفة إلى تحويل المسلمين بعيداً عن الإسلام تحت دعوى الاعتدال العالمي. إننا أمام محاولة لإعادة تعريف مفهوم الاعتدال داخل المجتمع المسلم بحيث لا يستند التعريف من الآن فصاعداً إلى مبادئ الوسطية والتراحم التي حثت عليها الشريعة، وإنما أن تتحول هذه المبادئ إلى مجموعة من المسلَّمات الغربية التي تُقدَّم للعالم على أنها مبادئ دولية.
ومن المتوقع لاحقاً في حال إقرار هذه التوجهات ودفعها في الساحات الفكرية الدولية؛ أن تُمنَع شعوب العالم من رفضها أو حتى الاعتراض عليها بدعوى أن ذلك سيكون اعتراضاً على حقوق الإنسان الدولية أو الشرائع العالمية، كما حدث من قبل فيما يتعلق بما يسمى حقوق الإنسان؛ التي أصبحت مؤخراً حقوقاً للشواذ وحقوقاً لمخالفة الأخلاق والقيم والعادات.
ومن الملفت للنظر أن التقرير يؤكد أهمية استخراج النصوص الشرعية من التراث الإسلامي والتي يمكن أن تدعم هذه اللائحة وتؤكدها، وأن يُستخدَم الدعاة الجدد (أو الدعاة من الشباب كما أسماهم التقرير) لتحقيق ذلك والقيام بهذا الدور. ويوصي التقرير أن تكون الدعوة للاعتدال بعيداً عن المساجد، وأن تُستخدَم البرامج التلفازية والشخصيات ذات القبول الإعلامي والجماهيري من أجل تحقيق ذلك (!) .
كما يوصي التقرير أن يُستخدم التيار التقليدي والصوفي في مواجهة الإسلام السلفي. وقد تم تعريف التيار التقليدي في هذا التقرير: أنه التيار الذي يصلي في الأضرحة ـ بخلاف ما تدعو إليه الوهابية ـ ويميل إلى التمذهب، وعدم الاجتهاد، والميل نحو التصوف. يؤكد التقرير أن من مصلحة الغرب إيجاد أرضية تفاهم مشتركة مع التيار الصوفي والتقليدي من أجل التصدي للتيار الإسلامي.
ويؤكد التقرير على أهمية الاعتناء الأمريكي بالتعاون مع المعتدلين - وفق المفهوم الذي قدمته الدراسة - من العالم المسلم، مع التركيز على الفئات التالية :
المفكرين والأكاديميين من التحرريين والعَلْمانيين.
الدعاة الجدد المعتدلين.
القيادات الشعبية الفاعلة.
الحركات النسائية المطالبة بعدم المساواة.
الصحفيين والكُتّاب والمفكرين.
ويرى التقرير أن على الولايات المتحدة أن تحدد من يندرج تحت مفهوم الاعتدال الأمريكي من هذه الفئات السابقة، وأن يتم مساعدة ودعم المؤسسات القائمة لهذه الفئة، وأن تساهم الولايات المتحدة بدور قيادي في تكوين مؤسسات أخرى تدعم التيار المعتدل حسب المفهوم الأمريكي، وأن تساهم في تشجيع تكوين بيئة ثقافية وفكرية واجتماعية تدعم وتسهل وتشجع قيام المزيد من هذه المؤسسات التي تخدم المصالح الأمريكية وتواجه التيار الإسلامي.
ويوصي التقرير أيضاً بأهمية التركيز على الأطراف في الصراع مع التيار الإسلامي والبعد عن المركز؛ لصعوبة تحقيق انتصارات حقيقية في هذه المرحلة، وأن يتم عكس مسار الأفكار الحالي والذي يتحرك من المركز نحو الأطراف. يؤكد التقرير على أهمية استخدام الترجمة والآلة الإعلامية من أجل تحويل مسار الأفكار لتكون من الأطراف نحو المركز، أو من الدول الإسلامية التي يعتقد معدّو التقرير أنها أكثر اعتدالاً وانفتاحاً إلى المركز الذي يحدده التقرير بالعالم العربي.
كما يقدم التقرير العديد من النماذج للجهات والأشخاص الذين يمكن أن يوصفوا بالاعتدال، ومن يمكن دعمهم أو مساندتهم لتحقيق أهدافهم.
ومن المحزن أن من ضمن الأمثلة التي يقدمها التقرير في هذا الشأن مجلة تصدر في جنوب شرق آسيا أدارت حواراً خيالياً مع نبي الإسلام ، ومثال آخر لامرأة من باكستان تعيش في النرويج ، وتعمل في مجال الكوميديا المسرحية ، وتدخل إلى المسرح وهي ترتدي البرقع ، وتروي النكات عن الإسلام والمرأة المسلمة، ثم تخلع البرقع على المسرح ليظهر تحته فستان سهرة، ويرى التقرير أن هذا ضمن الاعتدال الواجب دعمه والتشجيع عليه .
كما يذكر التقرير نموذجاً آخر وهو موقع سعودي يتحدث عن أحاديث الشهادة وينكر صحتها، ولذلك لا يرى الحاجة للالتزام بها.
مقترحات للتعامل مع التقرير، وما يتعلق بالاعتدال :
إن هذا المقال المختصر هو مقدمة للتعريف بهذا التقرير الهام، وهناك الكثير من القضايا الأخرى التي أثارها التقرير، والتي يجب أن تتم دراستها وتحديد سبل مواجهتها والتعامل معها في دراسات وأبحاث أخرى كما أسلفنا. ولكننا نوصي ـ فيما يتعلق بموضوع التقرير بالعموم؛ وإعادة تعريف الاعتدال بالمفهوم الأمريكي بالخصوص ـ بالأمور التالية:(31/500)
ترجمة التقرير، وإتاحته في أسرع وقت ممكن لصُنّاع القرار في العالم العربي والإسلامي من العلماء والمفكرين والسياسيين، والتعاون من أجل فهم ما يعنيه هذا التقرير، وما يقدمه من توصيات للإدارة الأمريكية.
إعداد ردٍّ علمي يتناسب مع الطرح الذي قدمه التقرير فيما يتعلق بمفاهيم الاعتدال، والتحذير من اختطاف المصطلح من قِبَل أنصار التحرر والعَلْمانية والليبرالية في العالم العربي والغربي على حد سواء. نرى أهمية أن يؤكد العلماء والدعاة والمفكرون على مفاهيم الاعتدال الحقة التي دعا إليها الإسلام، وتوّجتها وسطية الأمة المسلمة، وحثَّت عليها الشرائع السماوية، وليس التشريعات العَلْمانية الموجهة سياسياً لقمع الآخر، وإفساد العقول، ومحاربة الأديان.
نؤكد على أهمية التعريف بالتقرير وما تضمنه من أفكار، والدقة في ترجمة المعاني الواردة فيه، وتفسير أسباب رغبة الإعلام الغربي في عدم الإعلان بوضوح عن صدور هذا التقرير؛ وهل هذا بسبب ما تضمنه من جرأة ومقترحات عملية، أم بسبب أن التقرير يقدم خريطة واضحة المعالم بالأسماء الشخصية وأسماء المؤسسات التي توصف من قِبَل معدِّي التقرير أنها (معتدلة) وفق التعريف الأمريكي المقترح للاعتدال؟
بيان أن المواجهة الفكرية مع الغرب قد بدأت من قِبَل الغرب، وأن المراكز الفكرية تقوم بحشد الآراء والتوجهات والموارد من أجل هذه المواجهة، سواء قبلنا بذلك أو استمر بعض منا في الدعوة فقط إلى التعايش والحوار. إن الأمة الإسلامية بأكملها تواجه حرباً فكرية بدأت وتمَّ حشد الأنصار لها، ولا بد أن يكون رد الفعل من قِبَل الأمة بجميع فئاتها متناسباً مع الخطر، وموحداً في مواجهة خصم يوحد فئاته، وأن تلتزم الأمة المسلمة في هذه المواجهة بالضوابط الشرعية التي تحكم العلاقة مع الخصوم والمنافسين والأعداء أيضاً.
الحث على حماية أطراف الأمة الإسلامية إضافة إلى حماية مركزها، وهو ما لا يجب أن يترك لأنصار الهجوم على أطراف الأمة كما يذكر التقرير ويؤكد في أكثر من مكان.
نوصي أن يكون الإعلام المتزن والجاد هو أحد أسلحة المواجهة الفكرية المضادة للدفاع عن حقوق الأمة المسلمة، وأن يبتعد ما أمكن عن الخطاب العاطفي غير العملي، مع عدم التقليل من دور العاطفة المتزنة والمنضبطة شرعاً في تحفيز الهمم وتقوية العزائم والدفاع الصادق عن مصالح وحقوق الأمة.
نوصي عموم المسلمين أن الولاء الحق لهذه الأمة في المرحلة القادمة يقتضي الدفاع عن الإسلام في مواجهة الحملات الهادفة إلى المساس به. ونوصي أنصار التيار الإسلامي ومحبيه أن الولاء الحق للإسلام في المرحلة القادمة يقتضي مواجهة الغرب فكرياً وحضارياً وثقافياً وغير ذلك؛ للدفاع عن أمتنا وحماية مصالحها وحقوقها
-----------------------------------------------
(*) مدير وحدة الدراسات والأبحاث في المركز العربي للدراسات الإنسانية ـ القاهرة .
(1) مركز (راند) : الإسلام (المعتدل) هو الحل لأمريكا، مركز (راند) بواشنطن، قراءة وترجمة: شيرين حامد فهمي، باحثة وأستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 25 مارس 2005م.
(2) للإسلاميين فقط: احذروا من أن يستغلّكم الأمريكيون في الحوار والتقارب المزعوم، علي حسن باكير، موقع مجلة العصر، 27 أبريل 2005م.
(3) (وصفة أمريكية جديدة لبناء شبكات الإسلاميين «المعتدلين») ، تقرير واشنطن، خليل العناني، 7 أبريل 2007م.
المصدر : مجلة البيان
خارطة «راند» لبناء شبكات الإسلام المعتدل !
خالد الفرم
تنشط حالياً العديد من مؤسسات الأبحاث والدراسات الأمريكية الاستراتيجية في دراسة كيفية تقويض المد الأصولي التي تراها عنصراً رئيساً في تهديد المصالح الغربية حول العالم، وقد خلصت بعض الدراسات إلى أن أحد المحركات الرئيسية لمواجهة هذا المد المتصاعد تكمن في تمتين تيارات «الإسلام المعتدل» باعتبارها خط الدفاع الأول في مواجهة انتشار التطرف والتشدد في العالم الإسلامي.(32/1)
الدراسة الأخيرة لمؤسسة (راند) التي تعتبر أشهر خزانات التفكير السياسي Think Tanks في الولايات المتحدة الأمريكية، والأقرب (عقدياً) للبنتاجون وفكر المحافظين الجدد، تمحورت حول كيفية بناء شبكة من الإسلاميين المعتدلين، وانطلقت الدراسة التي جاءت في 217 صفحة من فرضية أن الصراع مع العالم الإسلامي هو «صراع أفكار» وأن التحدي الرئيس الذي يواجه الغرب يكمن في قدرة العالم الإسلامي على ضبط المد الأصولي، وارتكزت الدراسة في فرضيتها على عاملين أساسيين أولهما أنه رغم ضآلة حجم الإسلاميين الراديكاليين في العالم الإسلامي، إلا أنهم الأكثر نفوذاً وتأثيراً ووصولاً لكل بقعة يسكنها الإسلام سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وثانيهما ضعف التيارات الإسلامية المعتدلة والليبرالية التي لا توجد لديها شبكات واسعة حول العالم كتلك التي يملكها الأصوليون. الجديد في استراتيجية (راند) استخدام مصطلح العالم المسلم، عوضاً عن العالم الإسلامي، لتمييز التعامل مع المسلمين، وتصنيف (راند) لأبناء المنطقة، إلى ثلاثة قطاعات رئيسة: المعتدلون التقليديون، المسلمون الليبراليون، والعلمانيون، وكذلك تغيير منهجية العمل الإعلامي/ السياسي من التركيز على القلب (المنطقة العربية) إلى التركيز على الأطراف الإسلامية (الأقل مقاومة) ماليزيا، اندونيسيا وغيرهما، كما تقترح الدراسة بناء شبكة الإسلام المعتدل من خلال أجنحة رئيسة، جناح أوروبا، جناح شرق آسيا، جناح الشرق الأوسط، للوصول إلى الأهداف الرئيسة.
وتبقى إشكاليات الاستراتيجيات الأمريكية الموجهة للشرق الأوسط أنها تتجاهل العناصر الرئيسة وتقفز من الأسباب إلى النتائج، وتعمل على معالجة الأعراض، عوضاً عن مداواة العلل، ففشل مشروع الدبلوماسية الشعبية لتحسين صورة أمريكا في العالم الإسلامي، انه كان (أحادي) التوجه، ويتجاهل أسباب الأزمات، بمعنى أن المشاريع الأمريكية الاستراتيجية لا تتضمن إجراء تحولات في العقيدة والسلوك الأمريكي نحو المنطقة وأهلها، وإجراء تغييرات في الخطاب والفعل الأمريكي السياسيين لجهة الموقف الأمريكي من الصراع العربي الإسرائيلي، والموقف من الإسلام، وبقية ملفات المنطقة.
كما أن الاستراتيجيات يفترض أن تكون نتاج عقل جمعي (فريق متنوع) وعبر سلسلة من ورش العمل ومجموعات التركيز، وليس فكر شخص أو شخصين يعتقدان بالحصول على تنازلات دون دفع تكاليف بالمعنى السياسي والحضاري.
المصدر : جريدة عكاظ
"راند" واللعب على الأطراف !
خالد عبدالله المشوح
اللعب على الأطراف ودعم الليبراليين والإسلام الصوفي وتحجيم دور المسجد أبرز القضايا التي طرحتها مؤسسة "راند" في تقريرها للعام 2007 م، وهي المؤسسة الأمريكية المؤثرة في السياسة الخارجية والتابعة لوزارة الدفاع الأمريكية والتي تبلغ ميزانيتها السنوية البحثية 150 مليون دولار، وهذا بلا شك يعد انقلابا وتحولا عما صدر من ذات المؤسسة سابقا ومنهجية البحث فيها، مما يعكس التحول في فهم المؤسسة لدور الدين في العالم الإسلامي حيث اقترح التقرير تكرار تجربة الحرب الباردة من خلال إعادة صياغة الإسلام عبر أسئلة اعتبرتها المعيار الصحيح للاعتدال الإسلامي وكان الجزء الغريب منها: أن الشبكات المعتدلة هي تلك التي لا تؤمن بالشريعة الإسلامية وتتبنى العلمانية وتمارس الإسلام الصوفي التقليدي! (الذي يقبل الصلاة في القبور) حسب التقرير، وهي كلها معايير غريبة لمقاييس الاعتدال الديني وإن كانت غير مسبوقة وتنبئ بمدى جهل تلك الدوائر بالمعتقدات الإسلامية لدى المسلمين وأنها ليست أيديولوجيات قابلة لبروستريكا شبيهة بتلك السوفيتية التي فككت الشيوعية بعد ذلك معلنة انتصار المعسكر الرأس مالي!
إن نشر الإسلام المعتدل لا يمكن أن يأتي بتوصية أمريكية أو غربية كما أن الديموقراطية لا تأتي على دبابة تحمل العلم الأمريكي، بل هو هم لدى المسلمين أنفسهم وشأن ديني داخلي لدى علمائهم ومثقفيهم ومفكريهم، لكن يوم أن عجزت هذه النخب عن طرح آرائها أو أنها لم تتناغم تلك الآراء مع (الإسلام الأمريكي) كما أسماه التقرير!، برزت أطروحات تشكل "راند" أحد أقطابها المحركة لاسيما وأن سياق تقرير المؤسسة طرح تحجيم وإخراج أكبر مؤثرين في العالم الإسلامي السلفية (الوهابية) والأزهر لما تشكلانه من جمود وعدم تناغم مع المشروع الأمريكي في المنطقة مما جعل كاتب التقرير يوصي باللعب على أطراف العالم الإسلامي كإندونيسيا وماليزيا وغيرها.
لكن إذا كانت الإدارة الأمريكية وخلال أربع سنوات فشلت في نشر الديموقراطية، وتداركت ذلك بالتوصية من جديد إلى إيقاف تصديرها ودعم إسلام معتدل من المنظور الأمريكي - بدل إسلاميين معتدلين - مما يعني تشكيل أجندة إسلام جديد برؤى جديدة تتوافق بشكل تام والأفكار الأمريكية وهو ما طرح في التقرير بالموقف من الشذوذ الجنسي وحرية المرأة في اختيار الرفيق وولاية المرأة وتولي غير المسلم للمسلمين والموقف من العلمانية والديموقراطية.
وهي كلها جزئيات في فهم الإسلام كديانة لكنها مفصلة للتعامل مع الإدارة الأمريكية كما هو وارد.(32/2)
التقرير يوضح مدى التخبط الكبير الذي تعيشه المؤسسة في فهم الإسلام أولا والمسلمين ثانيا وهو بلا شك ناتج عن عدم فهم الإسلام بمقوماته الأساسية التي تتقاطع مع بعض المفاهيم المادية التي يرتكز عليها الخطاب الغربي بشكله العام فالإسلام مادة وروح لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر وهو ما يعرف بالشريعة الإسلامية حيث يشكل الإسلام جزءاً كبيراً من حياة الناس العملية السلوكي منها والمادي.
إن تقارير مؤسسة "راند" تسهم في زيادة الهوة والصراع في العالم الإسلامي كما فعلت في العراق في دعم الصراع الطائفي ، ومن خلال دعم غير معلن لفئات نفعية وصولية محدثة تُسهم في صدام بين التيارات تتشكل على خلفيته صراعات قد تُزحزح أمن تلك الدول من خلال أطروحات خارجه عن نطاق التجديد أو التصحيح أقرب ما تكون إلى ثورات فكرية لا تتناسب مع مجتمع متفق على ثوابت محددة ورؤى متعددة.
المصدر : جريدة الوطن
راند توصي بدعم الليبراليين على حساب الإسلاميين
محمود جمعة-القاهرة
أصدرت مؤسسة "راند" الأميركية للأبحاث تقريرا بعنوان "بناء شبكات مسلمة معتدلة"، رصد لصراع الغرب مع "العالم المسلم" وحركاته السياسية، مؤكدا أن هذا الصراع لن يحسم عسكريا بل ثقافيا.
التقرير الذي صدر نهاية الشهر الماضي وصدرت نسخته الإنجليزية أمس قدم مجموعة توصيات لصانع القرار الأميركي ووضع معايير لتعريف "الاعتدال" بالمفهوم الأميركي، وطالب واشنطن بدعم التيار العلماني الليبرالي في مواجهة صعود الإسلاميين سياسيا.
ويتوقع أن يجد التقرير الذي عقد المركز العربي للدراسات الإنسانية بالقاهرة ندوة بشأنه تأثيرا وصدى كبيرين لدى صانع القرار في واشنطن، نظرا لأنه يقدم أفكارا وحلولا جديدة في وقت تعاني فيه الإدارة الأميركية من أزمة أفكار بعد فشل إستراتيجياتها في الشرق الأوسط خاصة في العراق وفلسطين.
تقرير مؤسسة راند الذي خرج في 10 فصول واستغرق إعداده 3 سنوات، طالب واشنطن بالإفادة من تجربة الحرب الباردة التي انتهت بسقوط النموذج الشيوعي، في "احتواء" الحركات الإسلامية، كما استعمل مصطلح العالم "المسلم" وليس "الإسلامي" بما يعني نقل الصراع مع مسلمي الغرب والدول غير الإسلامية.
وطالب التقرير الإدارة الأميركية بتركيز رسائلها الإعلامية على أطراف العالم الإسلامي مثل إندونيسيا والهند وماليزيا وأوروبا وأميركا بدلا من المركز المتمثل في المنطقة العربية، معتبرا أن التغيير في الأطراف أسهل ويحقق مكاسب أكبر.
وصنف التقرير الجماعات في العالم الإسلامي إلى ثلاث، الأولى "العلمانيون الليبراليون"، والثانية "أعداء المشايخ" مثل تركيا وتونس، والثالثة "الإسلاميون الذين لا يرون مشكلة في أن تكون الديمقراطية حاكمة على الدين".
وأوصى بالتعامل القوى مع الأولى والقليل مع الثانية وعدم التعامل مع المجموعة الأخيرة، وطالب كذلك بالتعامل مع "الإسلاميين التقليديين" وعرفهم بأنهم "الذين يقبلون بالصلاة في الأضرحة والقبور"، في إشارة واضحة للتيار الصوفي.
ويعرض التقرير في فصله الأول أهمية دور المسجد وأنه أصبح ساحة للمعارضة الإسلامية بعد تضييق الخناق الحكومي عليها، موصيا بدعم "الدعاة الجدد الذين يعملون خارج المساجد" والبرامج الإعلامية الإسلامية "المعتدلة".
وفي الفصل الثاني يرصد أوجه التشابه والاختلاف بين الحرب الباردة والصراع الحالي للغرب مع الإسلاميين، مقترحا استخدام الغرب لأساليب تلك الحرب مثل تجنيد مثقفين إسلاميين والإفادة من المهاجرين المسلمين في الغرب واستخدام منظمات المجتمع المدني لتقوية "المعتدلين" في مواجهة الإسلاميين.
وتطرق الفصلان الثالث والرابع لموضوع الديمقراطية، حيث اعترف التقرير بأن الدعوة الأميركية لتطبيق الديمقراطية في العالم الإسلامي يمكن أن تضعف حلفاء واشنطن الإستراتيجيين لأنها أفرزت صعودا سياسيا لمناهضي واشنطن.
أما الفصل الخامس فخصصه التقرير لتعريف "الاعتدال"، حيث وضع 11 سؤالا يتحدد وفق الإجابة عليها -بالمفهوم الأميركي- إطلاق صفة المعتدل أو المتطرف على الأشخاص والجماعات.
وتتعلق الأسئلة الـ11 بالموقف من العنف وتطبيق الديمقراطية وحرية الأديان وتعميم الشقين الجنائي والأخلاقي من الشريعة الإسلامية على القوانين المدنية والقبول بتولي شخصيات من الأقليات الدينية لمناصب رفيعة في الدول ذات الغالبية المسلمة والاعتراف بحقوق الإنسان العالمية.
وانتقد التقرير كذلك الأزهر الشريف وقال "إنه ليس الجهة الوحيدة لتخريج الفقهاء وإن هناك جهات أخرى مهملة إعلاميا تخرج فقهاء ودعاة أفضل من الأزهر".
وخصص التقرير الفصل الثامن للحديث عن الشرق الأوسط وحاجة واشنطن للتأكد من أن صراعها في هذه المنطقة هو صراع فكري وبالتالي لا يمكن حسمه عسكريا، مطالبا ببناء ديمقراطية في الشرق الأوسط على أساس علماني.(32/3)
ورصد التقرير في الفصل التاسع مشكلة اتهام المتعاونين مع واشنطن في مشروعها في العالم الإسلامي بـ"العمالة"، موصيا بتجنيد رجال دين مسلمين للبحث عن النصوص الشرعية والأدلة الفقهية التي تدعم بعض مواقف المعتدلين فيما يتعلق بقضايا حرية الرأي والاجتهاد وحقوق المرأة والأقليات وغيرها.
وقدم الفصل العاشر مجموعة من التوصيات النهائية لصانع القرار الأميركي، أهمها استخدام القطاع الخاص الأميركي وليس المؤسسات الحكومية لتنفيذ مشروع واشنطن بالمنطقة، والعمل على إبعاد شبهة العمالة عن المتعاونين، ونقل الصراع ليتحول إلى صراع بين الإسلاميين أنفسهم وأخيرا إنشاء جمعية عالمية لدعم "المعتدلين الإسلاميين" في مدينة ذات دلالة رمزية مثل "غرناطة"، دون تحديد رمزية تلك المدينة.
المصدر : الجزيرة نت
تقرير راند الأمريكي.. وراند "الإسلامي" المقابل !!
أمير سعيد
لا أحد يكره أن يتحلى مثقفونا باليقظة حيال أية مطامع عدائية تناوش أمتنا في مقومات قوتها ووحدتها العقدية والفكرية والاقتصادية وما إلى ذلك.
ولا أحد بوسعه أن يفرض عليهم عزلة في ملاحقة كل جديد في دنيا الاستراتيجيات، لاسيما تلك الصادرة من قلب الإمبراطورية الأمريكية الفاعلة في معظم الأحداث السياسية في العالم، خصوصاً فيما يتعلق بمحيطنا الإقليمي وداخل حدودنا المحلية.
كما أنه على حجم الأفعال تكون ردات الفعل عليها، ومتى كانت بالأصل كبيرة، استدعت كما من الدراسات حولها للتحذير من مغبة حصولها ولتحفيز أصحاب القضايا أن يسعوا للدفاع عنها ضد هجمات إمبراطورية تعبد لها الطريق دراسات استراتيجية صادرة عن مراكز بحوث هي للإدارات الأمريكية المتعاقبة في واشنطن كالأم الرؤوم وحاضنة السياسات المستقبلية.
رد الفعل إذ ينبغي له أن يكون مكافئاً لدراسة بحجم تقرير راند الصادر في شهر مارس الماضي، فإنه يستلزم له النهوض بذلك عبر عدة معطيات ومفاهيم، ترسم ملامح التعامل مع مثل هذه الإصدارات والمقالات والدراسات الغربية والعبرية، ومن ذلك:
• روح راند 2007 تتجلى في تقديم رؤية ثقافية في حلحلة المعضلة "الإسلامية" التي تقض مضاجع الأمريكيين إثر استراتيجية عسكرية بحتة أخفقت في العراق وأفغانستان، أبدت من خلال الواقع أن نشر الأمركة عبر طائرات الشبح وقاذفات بي 52، ليست ذات جدوى حقيقية في كسر شوكة هذه الأمة المسلمة، وأنه بعد 4 سنوات من الإخفاق، لابد من تقديم حلول جديدة تستبصر طريقها عبر المعطيات الجديدة التي أوجدتها الحروب على الأرض، كما أوجدها الإخفاق في سياسة اقترحها تقرير راند 2004 وتتمثل في استهداف من أسماهم بالمتطرفين الإسلاميين، والتشجيع "الظاهري" للدول العربية على نشر "الديمقراطية" فيما عرف بـ" الشرق الأوسط الجديد" عبر "معتدلين"، ومن ثم؛ فإن روح التقرير ثقافية تهدف إلى التغلغل لتغيير بنية المسلمين الثقافية بدلاً من الاقتصار على حقل كانت تسعى للعمل داخله في الماضي، وهو كسر شوكة "المتطرفين" وحدهم، وهذه الروح إذن تحمل معنى "المراجعة" وتنادي به وإن لم تذكر ذلك صراحة لسياسة لم يكتب لها النجاح من قبل خلال سنوات قليلة لا تزيد عن أربع سنوات.
وما نعنيه إذن هاهنا ليس التقرير ذاته الذي تناوله الزملاء الباحثون في هذا الصدد، وأجاد بعضهم في تفسيره ورسم ملامحه، وإنما هذه الروح التي ميزت هذا التقرير ولم يجر التعامل معها إلا من الزاوية السلبية، وهي زاوية العداء لهذه الأمة والتخطيط الهادف إلى تفكيكها وحرمانها عوامل قوتها ومحاولات استنهاضها، وقد كان بودي لو منحنا التقرير مسحة من الإنصاف في تناوله، بالنظر إليه من زاوية إيجابية تتعلق بطبيعة الشفافية التي حاول التقرير أن يتبعها وسياسة جلد الذات التي ارتسمت من خلالها رؤيته المستقبلية، إذ ما قدمه التقرير مغايراً عن سابقه هو تعبير عن رغبة في المراجعة وتطوير أدوات المواجهة، و هذا كله ليس مدحاً في التقرير بل قدح في استنكاف مقابل من قبل قوى إصلاحية عديدة في محيطنا الإسلامي، لم ينهزها إخفاق استراتيجيات وسياسات اتبعتها في الماضي ولم تؤت أكلاً ولم تغير واقعاً، وأبطأها اطمئنان إلى جادة تظن نفسها عليها، فضربت الذكر صفحاً عن مراجعة ذاتية لخطوات لم تحملها إلا إلى مزيد من الإخفاقات التي تسوقها على أنها سقوف الإنجازات ومنتهى المطامح والآمال..
ولربما كان راند مهماً، وكانت العناية به هامة، وقد قام بذلك ثلة من الخيرين ممن أطلقوا أبواق التحذير مما يحمله، وانطلقوا منبهين إلى خطورة جديده، وهو جهد مشكور، وفعل نَخالُه مأجوراً، بيد أنه في المقابل لابد من لفت ذواتنا إلى أن مراجعة ما صنعته سياسات بني جلدتنا من دعاة التغيير أو الإصلاح أولى بكثير من هذه النظرة بعيدة النظر التي تنظر إلى واشنطن ـ برغم الكراهية لسياستها ـ بأكثر مما ننظر إلى عواصمنا، وإلى ما تحصده أيدي هؤلاء الدعاة.(32/4)
قيمنا في الحقيقة تدعونا إلى عدم الاستنكاف عن المراجعة ومصارحة أنفسنا وإهدائها عيوبها كي نمضي في طريق نجدد فيه محاسبتنا لتحركاتنا وسياساتنا وأفكارنا بحيث لا يمنعنا اعتدادنا بآرائنا أن نسمع طرقات النقد وإن بدت عنيفة، وإذا كان البعض قد أذهلته الحوادث عن اتهام نفسه بالتقصير، وبمحدودية التأثير وقدرة الفعل والتماهي مع متطلبات المرحلة وأبجديات الصراع وعوارض الأحداث وتبدل الأزمنة وتغيّر الأحوال، ولم يرعو أن يرى جهده يسير في طريق متعرجة أو يعود القهقرى، ولم ينتبه لأدلة نقلية تنير له طريق، فليتعلم حتى من خصمه أو عدوه في مراجعة سياسته، وليطلب العلم ولو من راند!!
إن من اللائق أن ندير الحديث في المقابل لنسأل مجموعات من مريدي الإصلاح أو ظانيه، إن كان راند يقدم الآن وصفة جديدة في مقابل أخرى لم تمض عليها أكثر من أربع سنوات، لدولة بحجم الولايات المتحدة وبثقلها الاستراتيجي الذي لا يمكن تغييره بكل هذه السرعة، ألا يحق لمن رنا ببصره إلى واشنطن أن يعالج قصوراً اعتراه في مجموعة يمضي بهم في طريق هو يجهله سياسياً على الأقل؟!
ألا تراه إذ يندد بما جاء في التقرير أو يحاذره ـ وله كل الحق في ذلك ـ مدعواً لأن يتحلى بقدر أعلى من الشجاعة، فيعالج مسألة الجمود والإقصائية الحوارية في فريق، ويراجع ما جرته قلة الوعي والبراجماتية السياسية اللامسؤولة وغير المؤصلة في فريق، والوصولية في ثالث، واتباع الهوى وانتقائية الفقه في رابع، وأحادية النظرة واختزال التغيير في المواجهة المتهورة في خامس، والاقتصار على الدعوة الوديعة في سادس؟!
فكم من غارقين في الإخفاق لا يزالون في مقدم ركبان التغيير في عالمنا الإسلامي، وكم من سياسات خرقاء أعادت كثيرين إلى المربع الأول ونقطة الصفر أو ما دونها أحياناً..
• أما مجمل التقرير نفسه من جانبه الأكاديمي، فبديهي أن نذكر أن هذا التقرير ليس كتاباً مقدساً لا عندنا ولا عند واضعيه، وبالتالي فإن ما جاء به لا ينبغي أن تنسدل عليه ستائر القداسة وأكاليلها، وبرغم بديهية هذا المفهوم؛ فإن " هزيمة نفسية " حيال ما يترجم عن الغرب ـ لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية ـ و"إسرائيل" نجدها في بعض الأوقات من أناس طيبين في محيطنا الإسلامي تدعونا إلى إعادة التذكير بذلك، بخلاف أناس اعتادوا أن يصطادوا في الماء العكر باستخدام عبارات من داخل تقارير كهذه للتدليل على أشياء ربما ألقيت في طريق هؤلاء عمداً، فالذي قرره تقرير استخباري "إسرائيلي" نشر مؤخراً عن أن وسائل الإعلام العبرية قد بدأت منذ فترة ليست قصيرة بتوجيه القارئ العربي من خلال تقاريرها، حين وجدت أن ما يترجم عنها يكاد يكافئ ما يقرؤه مغتصبو فلسطين على قلة عددهم في محيط عربي كبير !!
وهذا ما جعل كبريات الصحف والفضائيات العبرية تهتم بقارئها ومشاهدها العربي كما العبري فتلقي أمامه ما تريد أن تلقيه، ومن هنا؛ فإنه من الواجب أن نؤكد على أن الحكم على "الدعاة الجدد" لا ينبغي أن يتم من خلال راند ولا غير راند من التقارير الغربية أو سواها من المصادر غير البريئة والتي قد يمكنها تشويه من أرادت من الأشخاص متى رأت أن لحديثها عنهم ثقلاً في عقول خصومها المأخوذين إليه؛ فليس من "خصائص أهل السنة والجماعة" الحكم على الرجال من خلال راند!! وإنما بمدى قربهم أو بعدهم عن ثوابتنا نحن.
• أيضا؛ فإن هذا التقرير أو غيره، هو من شأنه أن يخاطب الرأي العام مثلما هو يقدم توصيات لمطابخ صنع القرار، ولا يمكن الجزم بأيهما يطغى تأثيره على واضعي التقرير، أو لنفترض وضعاً قد يكون مألوفاً للبعض، وهو أن هذا التقرير هو النسخة العلنية من التقرير الأصلي، وعلينا أن ندرك أن قارئ التقرير ومترجميه إلى لغات الدنيا، هم أكثر بكثير جدا من صناع القرار الأمريكي الرئيسيين، وندرك أيضاً أن التقرير موجه إلى الرأي العام الأوروبي بالخصوص و الأمريكي بنحو أكثر خصوصية، وبالتالي فعلينا أن نقرأ من بين سطوره مثلاً، تشويهاً متعمداً لشخص النبي صلى الله عليه وسلم ، وللقرآن، ولسنته، وهدماً لثوابت أخرى، كصحة أحاديث البخاري، وبعض الأحكام المتعلقة بالمرأة وما إلى ذلك، وهي أمور موضوعة بهدف دعائي أكثر منه تنبؤاً بإرهاص يسبق ظهور استراتيجية ما إلى حيز التنفيذ..(32/5)
كما أننا من الممكن أن ننظر إليه كحالة معبرة عن توطئة رأي عام عالمي أو محلي للقبول بأشياء قد يجد البعض اعتراضاً عليها من الجانب "الأخلاقي والإنساني"، فمثلاً حينما كان الحديث يدور على الحروب الاستباقية خلال عهد كلينتون، كان المصطلح دعائياً في الحقيقة أكثر منه يمثل تحولاً استراتيجياً عملاقاً، فما درج عليه الغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص ليس إلا تجسيداً لهذه الحروب من قبل أن تهيئ لها المراكز البحثية هذا المسمى "اللطيف"، فهل كانت جميع الغزوات "الاستعمارية" إلا "حروباً استباقية"، بل هل قامت الولايات المتحدة نفسها بنَفَسِها الأوروبي بسياسية الأرض المحروقة حين انتزعت الهنود الحمر سكان القارة الأمريكية من بلدهم الأصلي وهجرتهم إلى الآخرة إلا بحرب استباقية شنتها عليهم حفاظاً على "مصالح" الرجل الأبيض في "وطنه الجديد" ؟!
• وعطفاً على النقطة السابقة، هل ترانا لاقينا جديداً يذكر في راند يستأهل حذراً مبالغاً فيه منه؟! ربما نعم، ثمة عبارات جديدة، وثمة مفردات جديدة.. تغيرات في المبنى، غير أن المعنى لم يتغير، فمعايير الاعتدال التي حواها التقرير والتي يرى الكثيرون أنه لا يمكن أن يقر بها مسلم، أو صاحب أدنى اعتزاز بثقافته الشرقية وحضارته ولو لم يكن مسلماً في بلاد العرب وغيرها، مرسومة في أدبيات كثيرة في التقارير الغربية، ومن لا يريد أن يحمل نفسه عناء الترجمة والبحث، فسيجدها في ثلاث كلمات "..حتى تتبع ملتهم"، ومن يعجب لحديث راند الصريح عن الصوفية ووجوب دعمها أمريكياً، فهو ذاهل في الحقيقة عن ممارسات جرت بالفعل خلال الحقبة "الاستعمارية" وبوسعه أن يعود إلى التاريخ الحديث وإلى كتابات المؤرخين عوضاً عن انتظار الجديد في تحليل التقرير الحديث، ومن يفهم راند على أنها مجاهرة بالعداء سافرة، فهو محق تماماً غير أنه لم يأت بجديد، ومن هاله أن يدعو التقرير إلى دعم الطابور الخامس في بلادنا فهو بحاجة لأن يقرأ رسائل بونابرت إلى هذا الطابور..
• غير أن التقرير في الحقيقة لم يخل من فوائد، نستطيع إجمالها فيما يلي :
1 ـ كشف عن دوران الغرب في حلقاته التقليدية المفرغة، ومنها مثلاً دعم حركات التصوف في بلادنا، أو هو أراد أن يوحي بذلك، وهو بنشر هذا التقرير بهذه الصراحة قد يكون يريد التمهيد لجولات تناوشية بين ما أسماه بالإسلام السني والإسلام الصوفي، أو للدقة يريد أن يغري كل طرف بمحاربة الآخر، فضلاً عن تقديم دعم حقيقي لبعض المنسوبين للأخير، وهو موضوع يستلزم نوعاً من الحذر في تناوله من قبل المنظرين المسلمين، لاسيما وتقرير 2004 كان يحمل في طياته "تبشيراً" بالاحتراب السني/الشيعي، وبالتالي؛ فإن الحكمة تقتضي النظر بروية لمثل هذه الأمور، لاسيما وأن الغرب يدرك أن التصوف إذا ما تم خصمه من الطرف السني فلن يكون إلا رصيداً عند الطرف الشيعي في المعادلة التي ساهم الغرب في إظهارها بهذا الوضوح، وإذا وضعنا في الاعتبار أن ما يسمى بالمجلس الأعلى لشيعة آل البيت في مصر يزعم وجود 10 ملايين شيعي في مصر استناداً إلى وجود الكثيرين من المتعاطفين فقط مع التصوف بكافة ألوانه من غلاته (وهم قلة) إلى معتدليه من المنتسبين اسماً إلى التصوف وهم من أهل القبلة المتلبسين ببعض المعاصي، فهو يعني أن التعامل غير الحكيم مع قضية كهذه استناداً إلى تحريش راند وغيرها، سيفضي ربما إلى مآلات غير محمودة على المدى القصير والمتوسط، وقد يوسع هوة يمكن تضييقها عبر الحوار والمناصحة والتوجيه، وعدم وضع كل الطرق الصوفية في خانة واحدة.
2 ـ بالحديث عن شق "الدعاة الجدد" ورغبة التقرير في أن يراهم جميعاً خارج المسجد، لا يمارسون وعظهم وتوجيههم وتعليمهم من داخله، إنما يطلق تحذيراً لابد أن يصخ آذان هؤلاء، بأنهم ربما قد يقعون تحت طائلة مشكلة لَطالما حذر منها المخلصون من الخشية من تفريغ المساجد من أدوارها التأثيرية التي كانت تقوم بها في السابق، واختزال فاعلية القدوة والمعايشة والتأثير الروحي في حيز الشاشة الضيق وجموده، وبثها التقني الخالي من انبثاث الروح التي تتجاوز حدود الكلمة وأناقة المشهد التلفزيوني، والذي بدا من قبل التقرير أنه مسألة متعمدة، تحدو هؤلاء إلى إعادة النظر في الاقتصار على هذا المشهد دون غيره مما يحدث التغيير الكيفي لا الكمي الذي يأخذ الجميع إلى خانة أرقام المشاهدين الهائلة.(32/6)
3 ـ ما يحمله التقرير من مفهوم جديد للاعتدال، هو يعني أموراً كثيرة ينبغي ملاحظتها ولو بصورة إجمالية، إذ إن الاعتدال وفق شروط راند الجديدة سيخرج كل الأمة الإسلامية عموماً من هذا الاختبار للاعتدال، وهو ما يستحضر فوراً السؤال التالي، هل يتسم القائمون على هذه المؤسسة البحثية بالسذاجة إلى هذا الحد لتجييش الجميع ضدهم؟ ربما كان هذا صحيحاً، بيد أن الأقرب للظن يعاكس هذا التصور، ويندرج تحته احتمالات منها الرغبة في بث الاطمئنان في نفس الخصم من الظن بعدم الوقوع تحت تأثير أدوات ترمي إلى زحزحته عن موطن ثباته المبدئي ارتكاناً إلى كونه ما زال خارج حيز الاعتدال، أو هو مسعى لممارسة الضغط على "الأصدقاء" لاتخاذ مواقف أكثر جرأة في الطرح، أو هو دعاية حربية نفسية ترنو إلى إشعار الخصم بأنه بات يفقد حصونه بصورة متسارعة ما يؤثر على معنوياته، أو هو رسالة للأجهزة المعنية في العالم الإسلامي بتوسيع دائرة الثقة الغائبة بينها وشعوبها.
4 ـ النمط الأكاديمي النوعي فيما يخص الفقه الإسلامي، بما يشعر بمشاركة شخصيات تنتسب للإسلام في صياغة هذا التقرير، لتعرضه لأمور بالغة الدقة ـ وإن عولجت برعونة وبانتقائية وبقدر من الجهالة ـ يصعب أن تكون الأسماء المعلنة لصياغته هي التي اجتهدت في الاسترسال بمثل هذه الحقول الإسلامية، وإذا أمعن بعضنا النظر في تناول التقرير مثلاً لمسألة التشكيك في صحة أحاديث البخاري أو في الطريقة التي محص بها أحاديثه، لأمكنه التقاط خيط قد يقوده لهوية بعض من شاركوا في صياغة التقرير، أو يؤرخ لمرحلة "استشراقية" جديدة.
• إنه مما يدمي النفس كمداً أحياناً، أن نشهد هذه السيول الجرارة المتدفقة من المقالات والتقارير والدراسات (وبعضها ـ أكرر ـ لها كل التقدير كطرقة على ناقوس خطر)، تتناول هذا التقرير وتفيض في شرحه والتحذير منه، وفي معظمها ذاهلة عن معالجة مناظرة لحال أمتنا وحال مصلحيها، تنشغل بالآخرين عن وضعية حشرتنا فيها سياسات بدأت إصلاحية فاستحالت تعويقية، إن كثيراً من الطرائق التي سلكها إصلاحيون في أمتنا غدت مسدودة، بفعل أمراض داخلية ناخرة حتى النخاع في جسد الإصلاح، وتحتاج إلى مراجعة وإلى شفافية وإلى مكاشفة، ودعونا إذن نكن أكثر صراحة:
ألسنا نتحدث كثيراً عن الخلاف المعتبر، ثم ندير له ظهرنا متى خالفنا مخالف، فمنحناه من فيض تهمنا المعلبة له بالتفريط أو التشديد ما تنوء بحمله الجبال؟
ألسنا نمارس سياسة إقصائية في الفقه أحياناً وفي الفكر أحياناً وفي الرأي السياسي أحياناً؟؟ أوليس ما يدور في منتدياتنا الحوارية حول المقاومة العراقية أو حول قضايانا العامة والخاصة أو حول مفكرينا وعلمائنا مدعاة للمراجعة والمكاشفة لنبحث فيما وراء هذا المنتوج التربوي العجيب؟!
وهل لقولنا أننا لسنا معصومين حظاً من اليقين في نفوس ألفت أن تراجِع ولا تراجَع حتى استمرأت فقه "الردود" وكتب "الردود"، فيما تمنح ذواتها معصومية لم تتوافر حتى لأبي بكر وعمر؟!
ألا ترون أننا نردد كمّا من النصوص بطريقة تشبه سبيل من لا تجاوز تراقيهم تلك النصوص، فتجدنا، نحْذَر "شحاً مطاعاً وهوى متبعاً" ثم نقع فيهما؟ أو نقرأ "تالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم" ثم نتسابق إليها تسابق الفراش إلى حتفه؟ أو نكتب "المسلم أخو المسلم لا يظلمه.." ثم نبني قواعد أعمالنا على الظلم ودفن الأخوة؟ أيستقيم أن نعرف الكبر بأنه "بطر الحق وغمط الناس" ثم نتخذ أسلوباً انتقائياً في البحث والتأصيل يبطر الحق، ثم نعمد إلى عباد الله فنغمطهم حقوقهم وأقدارهم؟!
إن بداية هذه الأمة الصحيحة كانت ببناء قواعد العدل والوعي والإحسان، ولم يجابه عمر الروم بترجمة التقارير وإنما بإنزال القيم مناط التطبيق، وحمل المبادئ فوق الأشخاص وزرع نبتة الأخوة الحقيقية.. بعد أن نقوم بكل هذا لا بأس أن نراجع راند، وبعد أن نكاشف أنفسنا يحق لنا أن نقرأ التوصيات لنناهضها.. لنعيد الانتباه هنا: تقرير راند صدر من مركز داخل دولة لا تستنكف أن تراجع سياستها كل عدة سنوات، فهل للقوم نصيب من المراجعة ولو بعد عقود من الإخفاق؟!
المصدر : موقع المسلم
أسماء الشبكة الأمريكية للمسلمين المعتدلين
محمد جمال عرفة
القاهرة - " القرآن نص أدبي يخضع للتحليل ".." الشريعة منتج تاريخي ".." الحج والصوم والزكاة ليسوا من أركان الإسلام ".." الحجاب لم يفرض على المسلمات ".. تلك نماذج من آراء مفكرين ومثقفين وسياسيين ترى مؤسسة "راند" البحثية الأمريكية الشهيرة أنهم يصلحون لبناء "شبكات مسلمة معتدلة" بهدف مواجهة الأفكار المتطرفة في العالم الإسلامي.
وفي دراستها الأخيرة الداعية لبناء "شبكات مسلمة معتدلة"، نشر المركز أسماء هذه الشخصيات فضلا عن أسماء مؤسسات عربية وآسيوية وأوروبية يرى أنهم "حلفاء" أو "دعائم"، من "المسلمين المعتدلين العلمانيين الليبراليين" يمكن أن تستفيد منهم الولايات المتحدة في بناء هذه الشبكات المعتدلة.(32/7)
ورغم اعتراف تقرير مؤسسة "راند" واسعة التأثير على دوائر صنع القرار الأمريكية، بأن هؤلاء المتعاونين قد ينظر إليهم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي على أنهم "عملاء"، فإنها أشارت إلى أدوار وأطروحات هؤلاء "المعتدلين" من العلمانيين والليبراليين خصوصا في المنطقة العربية وجنوب شرق آسيا وأوروبا، وهو ما فسره في وقت سابق الدكتور "باسم خفاجي"، مدير العلاقات العامة السابق بمجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) ، على أنه يهدف إلى "قطع خط الرجعة عنهم للعودة عن العمالة للولايات المتحدة".
وفي الشرق الأوسط - ورغم أن الدراسة تشير إلى ضعف شبكات الإسلام المعتدل في هذه المنطقة - يؤكد التقرير على وجود "معتدلين" مسلمين ومؤسسات "معتدلة" يمكن الاستفادة منها في تدشين مشروع بناء "الشبكات المسلمة المعتدلة" الذي تدعو إليه الدراسة، خصوصا في كل من مصر وتونس والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا ودول الخليج (الكويت والإمارات) .
في العالم العربي
وفي العالم العربي، تشير دراسة "راند" إلى أسماء كتاب معروفين بتوجهاتهم العلمانية وتدعو لدعمهم وتذكر أقوالهم وأعمالهم التي تعكس تصادمهم مع أصول الدين الإسلامي أحيانا، مثل الشاعر السوري علي أحمد سعيد المعروف باسم "أدونيس" الذي يقول إن الدين: "يجب أن يكون خبرة شخصية وروحية، وإن كل الأمور المدنية وشئون البشر يجب أن يختص بها القانون والناس".
كما تشير لأستاذ الجامعة المصري الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي تعرض للمحاكمة عام 1995 على خلفية قوله إن: "القران نص أدبي يخضع للتحليل"، والناشط السياسي التونسي "محمد شرفي" الذي يعتبر الشريعة "منتجا تاريخيا"، والمفكر السوري الدكتور محمد شحرور صاحب كتاب "الكتاب والقرآن" الذي أثار لغطا ووصفه البعض بأنه "سلمان رشدي" العرب، والذي لا يري أن الحج أو الصوم أو الزكاة من أركان الإسلام.
ومن الأسماء الأخرى المصنفة ضمن المعتدلين العرب في الخليج العربي، وفق التقرير، د.أحمد بشارة الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي في الكويت، ود.شملان العيسى مدير مركز الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية في جامعة الكويت، ومحمد الجاسم رئيس تحرير جريدة "الوطن" الكويتية، إضافة إلى الدكتور محمد الركن مساعد عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات، وعبد الغفار حسين رئيس الجمعية الإماراتية لحقوق الإنسان.
وتؤكد دراسة "راند" أن الأردن تعد "بلدا نموذجيا لبناء شبكات معتدلة في العالم العربي"، ويستشهد على ذلك بما قاله الدكتور مصطفى الحمارنة مدير مركز الدراسات الإستراتيجية بعمان من أن "المجتمع الأردني أكثر نضجا من الحكومة" وأن هناك طلبا داخليا قويا للإصلاح والديمقراطية، كما تؤكد أن الإسلام "المصري" بطبيعته معتدل، ويتناقض مع نظيره السعودي، وترى أن التيار الليبرالي في مصر "يحتاج للمساعدة" ، هناك من يدعو لطلب الدعم من الولايات المتحدة من أجل بناء شبكات ليبرالية لزيادة التفاعل بين المثقفين الليبراليين.
أما معظم بلدان الخليج بعكس السعودية فيوجد بها "إسلام معتدل" كما هو الحال في الكويت والبحرين والإمارات، ولكن "المشكلة أنه لا توجد شبكات تنظم هؤلاء المعتدلين في علاقات تفاعلية، مثلما يفعل نظراؤهم الإسلاميون السلفيون، بحسب الدراسة. وفي الكويت، يشير "راند" إلى أن جامعة الكويت وبيت المال الكويتي يسيطر عليهما تيار الإخوان المسلمين، في حين "يكافح الليبراليون في الكويت من أجل دعم الديمقراطية والتعددية والاعتدال".
الشبكة الأوروبية
وعلى الصعيد الأوروبي للشبكة، يدخل ضمن المقترحين للانضمام لهذه الشبكة الأمريكية بشكل عام مسلمو أوروبا الذين يقدرون بـ 15 مليون نسمة، بيد أن الدراسة مع هذا ترفض ضم بعض رموز التجمعات الإسلامية الأوروبية وتعتبرهم متطرفين لا معتدلين، مثل الشيخ "أبو لبن" رئيس المركز الإسلامي في الدانمارك الذي تقول إنه لعب "دورا سلبيا" في أزمة الرسوم الدانماركية، في إشارة منها على الأرجح للشيخ أحمد أبو لبن، أحد أشهر أئمة الدانمارك الذي وافته المنية مطلع فبراير الماضي. ومن المتوقع أن يكون أدرج اسمه في التقرير في وقت سابق على وفاته. وشارك الشيخ الراحل في رفع دعوى قضائية ضد الصحيفة التي نشرت الرسوم المسيئة في سبتمبر 2005.
ومن أشهر المعتدلين الأوروبيين، بحسب "راند"، "ناصر خضر" عضو البرلمان الدانماركي عن الحزب الليبرالي الاجتماعي الذي اعتبر أنه لا يجب معارضة الرسوم المسيئة للرسو صلى الله عليه وسلم والتي نشرتها صحيفة "يولاندز بوستن" الدانماركية، و"رشيد كاشي" عضو البرلمان الفرنسي، والتونسية "سامية لبيدا" ، اللذان يعملان ضمن "منتدى طلاب الاتحاد الأوروبي" الذي يقوم بتنظيم برامج للتبادل الطلابي والثقافي لدعم فكرة الإسلام الليبرالي المعتدل، إضافة إلى إمام مسجد "باسوا" بألمانيا، الذي يدين العنف والتمييز ضد المسيحيين، و"صهيب بن الشيخ" الذي يدين الأصولية.
أسماء المؤسسات(32/8)
أما على المستوى المؤسسي، فتشير الدراسة إلى بعض المؤسسات العلمانية ومنها "ائتلاف المسلمين الأحرار" الذي أسسه المحامي الفلسطيني كمال نواش وله 12 فرعا في الولايات المتحدة وفرع في كندا وآخر في مصر، ومؤسسة الدراسات الإسلامية التي أسسها المهندس الهندي "أصغر علي" في الهند عام 1980.
وفي الإمارات، هناك "ملتقى دبي الإصلاحي"، و"جمعية حقوق الإنسان في دبي" ، وكذلك "مؤسسة بن رشد لدعم حرية التفكير" التي تتخذ من ألمانيا مقرا لها وتدعم المفكرين العرب المستقلين، وقد أنشئت عام 1998.
أيضا أشار "راند" " إلى مركز دراسات الإسلام والديمقراطية" الموجود بواشنطن الذي ينظم دورات وبرامج تدريبية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ولقاءات للحوار في الأردن والمغرب والجزائر ومصر. ويتركز عمل المركز في عقد جلسات حوار بين مثقفين من مختلف التوجهات الفكرية من أجل تقريب وجهات النظر حول العديد من القضايا، كما أنه مهتم بتدريب طلاب من الشرق الأوسط على مفاهيم الديمقراطية.
ومن هذا النوع أيضا المؤسسات التي يديرها العلمانيون "الأتاتوركيون" - نسبة إلى العلمانية التركية- والتي تحرم أي مظاهر للدين في الحياة العامة كالمدارس أو الأماكن العامة ، فضلا عن المؤسسات الفرنسية المسلمة والتونسية التي لها موقف رافض في قضية الحجاب، بجانب مؤسسات بأوروبا منها: "الاتحاد الإسباني للجمعيات الإسلامية"، و"الاتحاد الوطني لمسلمي فرنسا"، و"المجلس الإسلامي البريطاني"، فضلا عن تجمعات إسلامية في دول البلقان.
أما في جنوب شرق آسيا، فمن المعتدلين المسلمين أمريكيا: مؤسسة "نهضة العلماء" في إندونيسيا التي تضم 15 ألف عضو، والمؤسسة "المحمدية" التي تضم شبكة من المؤسسات التعليمية والاجتماعية، و"شبكة الإسلاميين الليبراليين" التي تكونت عام 2001 لمواجهة المد الأصولي في إندونيسيا، ويرأسها "عليل أبصر عبد الله" الذي أصدر الإسلاميون المحافظون فتوى بتكفيره عام 2004.
نعم لليساريين والبعثيين
ولم يقتصر تصنيف "راند" للحلفاء المحتملين من "المعتدلين المسلمين" على ثلاثة قطاعات تقليدية، هي: "العلمانيون والليبراليون والصوفيون" ، ولكنه امتد إلى من يسميهم التقرير: "العلمانيين السلطويين"، ومنهم: "البعثيون والناصريون والشيوعيون الجدد" الذين "على الرغم من علمانيتهم الظاهرة فإنهم قد يتمسكون ببعض الرموز الدينية من الناحية الشكلية فقط من أجل كسب التعاطف الشعبي على غرار ما فعل الرئيس العراقي السابق صدام حسين". في أواخر فترة حكمه، حسبما يقول التقرير.
كذلك يطرح التقرير من يسميهم "الإسلاميين الليبراليين" ضمن الحلفاء، ويقول إنهم يختلفون مع "العلمانيين الليبراليين" في أيديولوجيتهم السياسية، إلا أنهم يحملون "أجندة فكرية وسياسية تتلاءم تماما مع القيم الغربية"، وهم يأتون من أوساط "الإسلاميين التحديثين" مثل الناشط الإسلامي في ماليزيا "عليل أبصر عبد الله" وشبكته الليبرالية.
وفي المقابل، يؤكد تقرير "راند" على الرفض التام لإدخال " الإسلاميين " ضمن شبكة المعتدلين هذه ، باعتبار أن " هناك شكوكا حول خطاب الإسلاميين بشأن موقفهم من الديمقراطية وهل يعبر عن موقف تكتيكي أم إستراتيجي، والشكوك حول ما إذا كانوا سيقبلون بمبدأ الفصل بين الدين والدولة، والتخلي عن فكرة الدولة الإسلامية " .
المصدر : إسلام أون لاين
الرسالة ترصد تفاعلات النخبة الفكرية الإسلامية مع تقرير راند 2007
سمير الزهراني ـ جدة - محمد سيد ـ القاهرة
نشرت الرسالة قبل عددين تقرير مؤسسة راند البحثية ، والذي كان بعنوان : «بناء شبكات مسلمة معتدلة». وتحظى تقارير هذه المؤسسة عادة بأهمية قصوى لدى صانع القرار الأمريكي، سواء على مستوى التنظير أو التطبيق. فقد تأسست «راند» في عام 1948م، ولها نفوذ كبير وتأثير نوعي على سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية، ولها علاقات وروابط مع وزارة الدفاع الأمريكية، فهي تشرف على ثلاث مراكز أبحاث تمولها وزارة الدفاع، وغالبا ما يتم العمل بتوجيهاتها، بناء على التقارير والأبحاث التي تقدمها للإدارة الأمريكية.
فيما يتعلق بتقرير «بناء شبكات مسلمة معتدلة»، فقد جاء في 217 صفحة توزعت على مقدمة, يليها تسعة فصول و من ثمّ فصل عاشر خاص بالخلاصة و التوصيات التي تمخّض عنها التقرير. و قد تمّ نشر هذا التقرير الذي أعده أربعة باحثين (أنجيل راباسا ـ تشيرل بنارد ـ لويل تشارتز ـ بيتر سيكل) في 27 آذار 2007م الحالي، وتمّ إرفاقه بملخص تنفيذي بنفس العنوان أيضا، من 18 صفحة. ويتناول التقرير عبر ثناياه عدّة مسائل متعلقة بالموضوع الأساس، لبناء شبكات مسلمة معتدلة، ومنها:
أولا : عرض وشرح للطريقة التي تمّ اعتمادها لإنشاء الشبكات بشكل فعلي خلال الحرب الباردة, وكيف تعرفت الولايات المتحدة على شركاء، وقامت بدعمهم وكيف حاولت تجنب تعريضهم لأي خطر.(32/9)
ثانيا : تحليل عناصر التشابه والاختلاف بين بيئة الحرب الباردة والبيئة القائمة اليوم، حيث الصراع مع الإسلام «الراديكالي»، وكيف يمكن لأوجه التشابه والاختلاف هذه أن تأثر على الجهود الأمريكية في بناء الشبكات اليوم.
ثالثا : تفحّص الإستراتيجيات والبرامج الأمريكية المتبّعة اليوم للانخراط في العالم المسلم.
رابعا وأخيرا : الاستفادة من معرفتنا حول الجهود التي بذلت في الحرب الباردة وعمال وتقارير «راند» السابقة حول الاتجاهات الإيديولوجية في العالم المسلم، وذلك من أجل إعداد وتطوير «خارطة طريق»، لإنشاء شبكات ومؤسسات مسلمة معتدلة. والمفتاح الأساس في هذه الدراسة، يكمن في أن الولايات المتّحدة قد فشلت في إيجاد شراكة مع معتدلين حقيقيين, والحصيلة النهائية لذلك واضحة تماما، ويجب العمل على تغييرها. الرسالة استشرفت آراء نخبة من المفكرين الإسلاميين حيال هذا التقرير وما قد يمثله من رسم لسياسة الولايات المتحدة في التعامل مع الدول والتيارات الإسلامية فإلى تفاصيل الاستطلاع ..
المصدر : جريدة المدينة - ملحق الرسالة
المؤامرة التي قال لها الجميع : لا !
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
بدايةً أتوجه بالشكر الجزيل لموقعِ "سبق" على إحسانهم الظن بي ، وإعطائي مساحةً للكتابة فيها ، مع علمي الجازم أنه يوجدُ من هو أولى وأفضل مني بهذه المساحة ، ولكني توكلتُ على الله مستعيناً به سائلاً المولى أن أكون عند حسن ظنهم .
عنونتُ لمقالي الأول " المؤامرة التي قال عنها الجميع : لا " ! ، قد يقولُ البعضُ : " أيُّ مؤامرة تقصد ؟ فالمؤامرات كثيرةٌ جداً " ، وأقولُ : " إنها مؤامرة مكثوا في تدبيرها ثلاث سنوات ، وخرجت للعالم بتفصاليها الدقيقة مكتوبةً مدونةً ، ولكن مع الثورةِ المعلوماتية " النت بالذات " أصبحت في متناول الجميع " .
قد تقولون : " ما هذه الطلاسم التي تتحدثُ عنها ، ليتك تفصح أكثر " ، أقولُ : إنه تقرير " راند 2007 r AND " الأخير " .
لست بصدد الحديث عن التقرير ، وتكرار ما قيل عنه فقد كفانا المؤنةَ كثيرٌ من المحللين والراصدين للتقرير دعوني أقفُ مع التقرير وقفاتٍ سريعةً :
الوقفة الأولى : تقرير "راند 2007 " ترى فيه مصداق قوله تعالى : " وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا " [ البقرة : 217 ] ، وقوله تعالى : " وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً " [ النساء : 89 ] ، وقوله تعالى : " وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ " [ القلم : 9 ] ، وقوله تعالى : " قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ " [ آل عمران : 118 ] ، فالحرب ضد هذا الدين قائمة إلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها ، ولا يشترط أن تكون حرباً بالأسلحة المعروفة فقد جربوا وفشلوا وعندما عجزوا غيروا خططهم واستراتجياتهم فجعلوها حرباً فكريةً للأمة .
الوقفة الثانية : صادف تقريرُ " راند 2007 " وعياً لم يكن موجوداً حين صدور التقارير السابقة بسبب أنها كانت قليلة التداول ، والمنشغلين بها قلة من أصحاب الاختصاص ، وقد كان من العوامل المؤثرة في ذلك الوعي انتشاره حين صدوره بسرعة ، وفي مدة قصيرة على الشبكة العنكبوتية ، وتناوَلَه كثير من المحللين والاختصاصيين بالترجمة والتحليل ، وبيانهم لما يحتويه من مصادمة واضحة لثوابت الأمة ، وفرض أناس لا قيمة لهم في الأمة مقارنة بالباقي منهم ، فهم لا يمثلون إلا شرذمة قليلة .
الوقفة الثالثة : ردّت الأمة ذلك التقرير جملةً وتفصيلاً ممثلة في عدد من علمائها ومفكريها لما فيه من تجديف ضد ثوابتها ، وعدم صحة ما ورد فيه ، والمنادة والتوصية بالتمكين للعلمانيين والليبراليين وبعض الفرق المنحرفة عن الدين الصحيح الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ، بل وصلت المؤامرة مداها في مطالبة التقرير باختراق الجيوش ، والعجيب أنهم يطلقون عليهم " معتدلين " ، فالذي يسخر بالرب في شعره ، والذي يشكك في القرآن ، والذي يهزأ بالدين ، والذي يشكك في ثوابت الأمة كلّ أولئك يسمون في قاموس تقرير " راند 2007 " " معتدلين " ! ، وقد أتى في التقرير ذكر بعض أسماء أولئك المعتدلين أمثال أدونيس ونصر أبو زيد ومارسيل خليفة !
وإليكم بعض أقوال علماء الأمة ومفكريها في ردّ التقرير أنقلها من موقع " إسلام أون لاين " . قال د. نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق وبلهجة حاسمة : " لا يمكن أن يفرض علينا أحد رؤيته " لافتا إلى أن "المعيار في هذا التقرير وغيره من أمثال التقارير الأمريكية ينبغي أن يكون رفض كل ما يتعارض مع العقيدة والشريعة" مشددا على أنه " لابد وأن نعلن أنه لا يمكن لأي قوة أن تجبرنا على تغيير عقيدتنا وشريعتنا ، وأن نطبق قول الله تعالى: " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ " .(32/10)
وفي حكم حاسم يؤكد الشيخ حسين حلاوة الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أنه " من الواضح أن معدي التقرير الصادر عن مؤسسة راند لم يرجعوا إلى مصادر الإسلام الحقيقية ليستقوا منها معلوماتهم ، وربما استقوا معلوماتهم تلك من بعض العلمانيين أو الحاقدين على الإسلام أو الجاهلين به ".
الدكتور طه جابر علواني يعلن رفضه المطلق ويوضح سبب رفضه فيقول : " من يعرف معنى الاعتدال ويؤمن به، ومعنى التطرف ويرفضه، وله مرجعية تحدد طبيعة المفهومين .. هذا الشخص أو الأمة أو الهيئة هو من له حق تحديد من هو المعتدل، ومن هو المتطرف ؟ وهذا ما لم يلاحظ فيما هو مطروح من قبل مركز (راند) الأمريكي " .
أما د. باسم خفاجي فقد قدم قراءة عن التقرير في مجلة " البيان " ( عدد ربيع الثاني 1428 - أبريل 2007 ) ، وأوصى في آخره بمقترحات للتعامل مع التقرير ، يرجعُ إليها في المصدر المذكور ، وأكتفي بذكر هؤلاء .
الوقفة الرابعة : طالب بعضُ من ينتسبون إلى الثقافة بإهمال مثل هذه التقارير ومنها تقرير " راند 2007 " ، وعدم الاهتمام بها ، لكنها قوبلت برفضٍ قوي واستغراب شديد ، ومن ذلك ما كتبه د. سعد بن مطر العتيبي في جريدة " الوطن " ( الخميس 9 ربيع الآخر 1428هـ الموافق 26 أبريل 2007م العدد - 2400 ) رداً على أحدهم حيث بين أن " متابعة ورصد وتفنيد التقارير الراندية واجب وطني مهم " ، وطرح د. سعد في آخر مقاله سؤالا مهما : " ومن الذي يحدِّد المسلمين المعتدلين ؟ أهي معايير التقرير التي وضعها في قالب أسئلة بلهاء ؟ أم هي المرجعية الإسلامية المتمثلة في أولي العلم بالشريعة الذين أحالنا الله تعالى إليهم في قوله سبحانه: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ؟ " .ا.هـ.
الوقفة الخامسة : يريد التقرير إيجادَ نوعيةٍ معينةٍ من المميعين الذين يسميهم " معتدلين " ليقدموا تنازلاتٍ مكتوبةً عن الثوابت الإسلامية كما فعل الكنسيون في " المدونةِ البابوية " ، وهذا ما ذكره د. سعد بن مطر العتيبي في برنامج " ساعة حوار " الأخير .
الوقفة السادسة والأخيرة : لا بد من تكاتف الجهود للوقوف في وجه هذا التقرير سواء من العلماء أو طلاب العلم أو المفكرين أو المثقفين أو الأكادميين ، وعلى الهيئات العلمية مثل هيئة كبار العلماء في بلادنا ، والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي وغيرهما إصدار بيانات توضح فيه خطر هذا التقرير وغيره من التقارير التي تعبثُ بثوابت الأمة ، وتفرضُ على الأمة إسلاماً بمواصفات أمريكية !
أخطر آليات الوصول للأماني الراندية
د. سعد بن مطر العتيبي
عضو هيئة التدريس بقسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء
د. سعد العتيبي كتب لنا في محاولة استشرافية حاذرة فقال : مما لا ينبغي الاختلاف فيه أن من واجبنا الإسلامي الوطني أن نعرف ما يُراد لنا ، وما يقال عنَّا ، وما يُفترى علينا ، لنشكر المنصِف ونُفنِّد افتراء المفتري ، بيانا للحق وزيادة توضيح له ، ونأخذ الحذر قبل وقوع الخطر امتثالا لقول الباري جل وعلا ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) .
وقبل الدخول في هذه المحاولة الاستشرافية الحاذرة أُنبِّه إلى مقولة لتشالز يوست ( Cha r les yost) جاء فيها : « الدرس الذي تعلمناه من حرب فيتنام : أن مقدرة الدول الكبرى على التدخل في الدول الأخرى بشكل فعّال قد تناقص وتضاءل في الزمان والمكان والتاريخ .ويمكن أن يتم تدخل دولة كبرى في حرب مع دولة أخرى عن طريق دولة حليفة لها ، وحتى إن فعلت ذلك ستكتشف لاحقاً أن ثمن التدخل يزيد كثيراً عن الفائدة المتوخاة ...» .
ولكن يبدو أن اليمينيين الذين يحكمون أمريكا حاليا يحتاجون إلى فيتنام أخرى ليتعلموا الدرس مرّة أخرى ، وهذا ما ظهرت بوادره في حروبهم التي أعلنوها بنشوة ، وسخّروا مؤسساتهم البحثية في مجاراتها مهما كانت النتائج ، وقد صرخ الأمريكان أنفسهم : لقد تحول العراق إلى فيتنام جديدة !!
1) ودخولاً في المراد : يُعدّ استبعاد البعد الديني - في الدراسة المستقبلية لعالمنا العربي والإسلامي ، مظهراً من مظاهر الدراسات الاستشراقية الحديثة أو ما يُعبّر عنه بمدرسة المستشرقين الجدد ، وقد أنصتُّ ليلةً لمحاضرةٍ كاملة من أحد هؤلاء المستشرقين ، صرّح في بدايتها بأنَّه استبعد ( البعد الديني ) من دراسته لما يعرف بالإسلام السياسي ؟! وهو موضوع محاضرته ؛ فأي موضوعية يمكن أن يقنعنا بها هذا المستشرق ! وقد بيّنت له في مداخلتي عليه ، بأن تصريحه إفصاح عن خطأ منهجي ، كشف لنا فيما بعد سرّ امتلاء محاضرته بالخلط والخبط ! الذي كان محلّ تندّر الحضور بعد ذلك ، وتتالت عليه المداخلات من عددٍ من الإخوة والأخوات تنتقد هذا الاستبعاد المستهجن للبعد الديني في دراسة الموضوعات والظواهر الإسلامية ..
ويبدو أن الرانديين ، لا يوافقون المستشرقين الجدد في نظرتهم هذه ، ولاسيما أنهم يخدمون ما يُعرف بالمحافظين الجدد .. ولكنَّهم فكّروا وقدّروا ، مستبطنين رؤية صمويل هنتجتون في صدام الحضارات !(32/11)
وأظنّ تقارير راند الأخيرة تشهد لما أقول ، فإنَّها حملت على عاتقها محاولة إبعاد الدين لا استبعاد البعد الديني .. ويكفينا لتبيّن خطورة تقاريرها التي تتبنى هذه السياسة : ما نعلمه من أنها إحدى المؤسسات المعنية بالدراسات المستقبلية والخطط الاستراتيجية الأمريكية ، ومع أنَّ مقرها في الولايات المتحدة الأمريكية ، إلا أنَّ لها مكتبا فاعلاً في دولة عربية مجاورة . ويتجلى خطرها أكثر وأكثر في استهداف تقريرها السابق تغيير الإسلام ذاته ، إذ كان عنوان ذلك التقرير : ( الإسلام الديمقراطي المدني : الشركاء والمصادر والاستراتيجياّت ) ، وقالت المشرفة على التقرير شاريل بينارد زوجة خليل زلماي ) ! مُلمِحَة إلى صعوبة المهمّة : « إنَّ تحويل ديانة عَالَم بكامله ليس بالأمر السهل . إذا كانت عملية بناء أمّة مهمّة خطيرة ، فإنَّ بناء الدِّين مسألة أكثر خطورة وتعقيداً منها « .
3) وعوداً على بدء ، فإنَّ من المهم في علم الدراسات المستقبلية : الاهتمام بالمعلومة المؤثِّرة ، حتى كان من قواعد هذا العلم قول بعض المختصين : ( اصدقني في المعلومة أصدقك في التنبؤ ) ..
ولمَّا كانت معلومات راند حديث نفس عدائي في حرف مكتوب ، صادر ممن يعلن عداوتنا ، ويكشف سوء رؤيته لنا ، فينبغي أن نقرأ التقرير قراءة استشرافية جادة ، لا تَغفل عن المنطلق الأيديلوجي والبعد الثقافي والإسقاط التاريخي الذي ينتهجه الرانديون في وضع استراتيجيتهم ضدنا ..
وبالعودة لتقرير راند السابق ( الإسلام الديمقراطي المدني ) نجد الآلية الأخطر لتحقيق مرامي التقرير مُعلنة في العنوان كما نجد تفاصيلها في صفحاته ؛ وفي مقابلة أجراها معها موقع Muslim Wakeup أكَّدت شاريل بينارد ذاتها : ضرورة دعم الحداثيين والمفكرين الذين يخدمون أهداف التقرير ومشاركتهم مشاركة فعالة، وذكرت أن هذا الدعم لا يلزم أن يكون علنياً وعلى الملأ! وحتى لو أدى هذا الدعم إلى اتهامهم بالعمالة للغرب فلا بأس؛ لأنهم مصنفين من قبل الأصوليين كأدوات للغرب على أية حال؛ لذلك فإنَّ دعمهم -على الأقل- يجعل ميدان الصراع بين الفريقين متوازنا نوعاً ما! وإذا كان هذا قول شيريل فليصدقوها أو ليكذبوها!
4) وفي التقرير الأخير ( بناء شبكات إسلامية معتدلة ) جاء التصريح بإسقاط مرحلة تاريخية قريبة على فكرته التصادمية مع الإسلام وأمة الإسلام كدرس من دروس الحرب الباردة ، بغية إقناع أصحاب القرار برؤيته عبر التذكير بنشوة آثار تلك الحرب ضد السوفييت ، منضما بذلك إلى من يعتبرون الإسلام العدو الجديد ، وهو ما لم يكتف التقرير بالإشارة إليه بوصفه دينا يحول دون الرضوخ للأمركة ، والقبول بالدمقرطة المغرية بزخرف القول ، دون وضعها في ميزان عدله - فحسب ، وإنَّما صرّح به في ثناياه .
وهذا ما صار أمراً مكشوفا يُعلنه المفكّرون الغربيون الأحرار من التبعية للمحافظين الجدد ، وللسياسة الخارجية الأمريكية ، وهذا ما أكَّده في كتابه ( أمريكا المستبدة ) إذ يقول : « أدركت الولايات المتحدة أن التنوع السياسي والجغرافي والتاريخي في العادات والتقاليد والمعتقدات والقوانين والثقافات يشكل حواجز و روادع إنسانية وأخلاقية أمام انتشارها فكان لابد من وضع خطط تفرض الرأي الواحد وتمحو هوية الآخرين « ، وأكتفي بإيراد هذا النص ، الذي يكشف لنا بعض خلفيات وضع الخطط الاستراتيجية للسياسة الأمريكية ، التي تُعد مؤسسة ( راند ) من أهم جهات تنظيرها إن لم تكن الأهم .
4) ما أحب التركيز عليه في قراءة التقرير قراءة استشرافية ، هو : لب الفكرة الراندية المتمثلة في وضع استراتيجية لتبديل الدين وتغيير أحكام شريعة رب العالمين . ولمَّا كان القوم لهم تجربة ناجحة في تبديل دينهم المحرّف ، فإنَّ من عبر التاريخ أنّ نضع خلفيتهم تلك أمام أعيننا ونحن نقرأ أفكارهم . ذلك أن علم الاستشراف يقوم على منهجيات تعتمد أمورا منها : وضع المشاهد المستقبلية ( السيناريوهات ) في ضوء أنماط المشاهد الماضية ، وبتعبير آخر : الإفادة من التجارب الناجحة في الماضي في وضع الاستراتيجيات للمستقبل .
والتجربة الخطيرة التي لا أظنها تغيب عن المنظرين الغربيين من الليبراليين على وجه الخصوص ، هي تلك الوثيقة الكنسية أو ( المدونة البابوية ) التي وضعتها الكنيسة الغربية لها ولأتباعها متخلية بها عن ثوابتها ، وما كانت تقضي به لنفسها من حقوق وما تضعه من واجبات ، لتحظر عليهم ما كان واجبا في ديانتها ، وتحجِّر عليهم ما كان واسعا في نظرها ، وتمنح فيه خصومها من اللادينيين مكاسب هائلة تتمثل في تخليها لهم عن الشؤون السياسية والعلمية وحتى الدينية تحت مسمى ( المدنية ) .(32/12)
وبغض النظر عن كيفية وقوع هذه التنازلات ، إلا أنها وقعت ! سواء كان ذلك نتيجة اختراق المجالس الكنسية من غير المتدينين بدينها ، أو كان نتيجة ضغوط هائلة تمثلت في أكوام من الاتهامات الخطيرة حول ظلمها وجورها وفسادها في موقف الدفاع الذي أدى إلى تخريب بيتها بيدها فانهارت مبادؤها التي كانت ترتسمها على مرّ حقبها التاريخية بجرة أقلام القساوسة والكهنة ..
وقفات مع تقرير راند
مبارك المصلح
فتح ملحقُ « الرسالة « مشكوراً في عددين ماضيين ملف تقرير « راند 2007 « ، ولم أجد صحيفة أعطت التقرير زخماً إعلامياً ، وبعداً استشرافياً كملحق « الرسالة « ، وشارك الشرعيون والمفكرون والمثقفون في طرح رؤيتهم عن التقرير ، ولا شك أن التقريرَ يمثلُ خطراً على العالم الإسلامي ، ومؤامرة واضحة كوضوح الشمس في رابعةِ النهار ، وفي مقالي هذا أضع بين يدي القراء - في نقاط - رؤيتي عن التقرير مشاركة مني لمن سبقني هنا .
النقطة الأولى : تقرير « راند 2007 « صورة من صور الصراع بين الحقّ والباطل ، فالنصارى يريدون لأهلِ الإسلام الصحيح أن يكونوا مثلهم في نصرانيتهم الخاوية المحرفة ، وقد أشار اللهُ إلى ذلك فقال تعالى : « وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً « [ النساء : 89 ] ، بل إنه حربٌ معلنة بغير سلاح لعجزهم عن قتال المسلمين ، وتجاربهم السابقة تثبت ذلك ، فلم يكن لهم حيلة إلا وضع الخطط والتقارير السرية أو المعلنة لتفصيل إسلامٍ أمريكي يوافق أجندتهم ، وصدق الله إذ يقول : « وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا « [ البقرة : 217 ] ، والقتال في الآية لا يشترطُ أن يكون بالسلاح الحسي ، بل داخل في ذلك مثل تقرير « راند 2007 « وما سبقها من تقارير ، فالحرب ضد هذا الدين قائمة إلى أن يرث اللهُ الأرض ومن عليها ، وما هذا التقرير إلا جزء يسير وبسيط مما في قلوبهم من حقد وحنق على الإسلامِ وأهله «» قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ « [ آل عمران : 118 ] .
النقطة الثانية : من نعمِ اللهِ علينا أن تقرير « راند 2007 « جاء في وقت الثورة المعلوماتية بجميع أنواعها [ التلفاز ، والإذاعة ، والصحف ، والشبكة العنكبوتية ] فصادف - ولله الحمد والمنة - وعياً لم يكن موجوداً حين صدور التقارير السابقة لأنها كانت قليلة التداول ، والمنشغلين بها قلة من أصحاب الاختصاص ، وقد كان من العوامل المؤثرة في ذلك الوعي انتشاره حين صدوره بسرعة ، وفي مدة قصيرة على الشبكة العنكبوتية ، وتناوَلَه كثير من المحللين والاختصاصيين بالترجمة والتحليل ، وبينوا ما يحتويه من مصادمة واضحة لثوابت الأمة ، وفرض أناس لا قيمة لهم في الأمة مقارنة بالباقي منهم ، فهم لا يمثلون إلا شرذمة قليلة ، بل عُرفوا عند أصحابِ الفطر السليمة والفراسة أنهم من المفسدين في الأرض الذين قال الله فيهم : « وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ .
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ « [ البقرة : 11 - 12 ] .
النقطة الثالثة : ردت الأمة تقرير « راند 2007 « بالذات جملة وتفصيلا وأجمع على ذلك العلماء والمفكرون والمثقفون والأكاديميون وغيرهم لما فيه من توصية لا يرضى عاقل بها وذلك بالتمكين للعلمانيين والليبراليين وبعض الفرق المنحرفة ، بل إن المؤامرة بلغت مداها الوقح في المطالبة باختراق الجيوش الإسلامية ! والعجب كل العجب أن يطلق في التقرير على العلمانيين والليبراليين معتدلون ! ، فالذي يسخر بالرب في شعره ، والمشكك في القرآن ، والساخر بالدين ، والطاعن في ثوابت الأمة كلّ أولئك يسمون في قاموس تقرير « راند 2007 « « معتدلين « ! ، وقد ذكر التقرير بعض أسماء من يسمون بالمعتدلين مع الأسف ، وأنه لا بد من دعمهم وتقوية شوكتهم ، وهذه من التوصيات التي جاءت في آخر التقرير والتي تقول : « يجب أن تهتم الإدارة الأمريكية من خلال مبادرة دعم الديمقراطية في الشرق الأوسط ببناء علاقات مع كل من العلمانيين ورجال الدين المعتدلين والمفكرين والصحفيين والناشطين في مجال المرأة « .
ولم يكتف التقرير بالدعم للأفراد بل وصل الدعم المادي القوي وبأموال خيالية لبعض القنوات الفضائية لممارسة الحرب الفكرية ، وقد أشار د. باسم خفاجي إلى ذلك أن التقرير ذكر مبالغ غير عادية للإنفاق على ميزانية قناة « الحرة « الفضائية الأمريكية ، وراديو « سوا « تبلغ 671 مليون دولار سنويا، وطلبوا 50 مليون دولار أخرى « لمواجهة الأزمات « ، وهو ما يعادل 4 مليارات جنيه مصري ، أو 10 ملايين جنيه يوميا ، ويزيد بدرجة غير معقولة مقارنة بفضائيات عربية ضخمة كالجزيرة والعربية التي لا تزيد ميزانيتها عن 50 مليون دولار سنويا ، ما يرجح احتمال وجود « عمليات تمويل بطرق غير مباشرة « في هذه القنوات .(32/13)
النقطة الرابعة : ظهرت مطالباتٌ بإهمال التقرير ، وعدم الاهتمام به ، وهو أمر مستغرب جداً ، بل كثير من الكُتاب في صحفنا لم يكتبوا عنه ، ومشكلتنا ومصيبتنا في أمثال هؤلاء الذين لا يريدون حتى التحذير من خطط الأعداء في حين أن الأعداء يعملون ليلاً ونهاراً سراً وعلانية عن طريق مراكز البحوث الاستراتيجية ، وفي هذا الصدد أعجبني ردّ د. سعد بن مطر العتيبي على أحد المطالبين بإهمال التقرير وقد بين الدكتور أن متابعة ورصد وتفنيد التقارير الراندية واجب وطني مهم ، وطرح د. سعد في آخر مقاله سؤالا مهما : « ومن الذي يحدِّد المسلمين المعتدلين ؟ أهي معايير التقرير التي وضعها في قالب أسئلة بلهاء ؟ أم هي المرجعية الإسلامية المتمثلة في أولي العلم بالشريعة الذين أحالنا الله تعالى إليهم في قوله سبحانه: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ؟ « .ا.هـ.
النقطة الخامسة : هناك نوعية معينة أشار إليها التقرير باسم المعتدلين أيضا ، ولكن ما دورهم ؟! لهم دور خطير ينبغي التفطن له وهو تقديم تنازلات مكتوبة عن الثوابت الإسلامية ، وباسم أنهم « إسلاميون « ، وهذا فيه شبه مما فعله الكنسيون في « المدونة البابوية « ، والتي أشار إليها د. سعد العتيبي في العدد الماضي هنا في الملحق ، ووصفها بقوله : « المدونة البابوية « التي وضعتها الكنيسة الغربية لها ولأتباعها متخلية بها عن ثوابتها ، وما كانت تقضي به لنفسها من حقوق وما تضعه من واجبات ، لتحظر عليهم ما كان واجبا في ديانتها ، وتحجِّر عليهم ما كان واسعا في نظرها ، وتمنح فيه خصومها من اللادينيين مكاسب هائلة تتمثل في تخليها لهم عن الشؤون السياسية والعلمية وحتى الدينية تحت مسمى ( المدنية ) « .ا.هـ.
إن مثل هؤلاء في القرآن : « وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ « [ القلم : 9 ] .
النقطة السادسة : بعد خروج تقرير « راند 2007 « ما دورنا تجاهه ؟!
أما دورنا كأمة مسلمة فإنه لا بد من تضافر الجهود وتكاتفها للوقوف في وجه مخططات الأعداء ومنها هذا التقرير ، وهذا يكون كلّ بحسبه ، فالعلماء ، والمفكرون ، والمثقفون ، والأكاديميون لهم دور في تحذير الأمة ، وعلى الهيئات والمجامع العلمية دور كبير في إصدار البيانات ، وعقد المؤتمرات والمحاضرات للتحذير من التقرير وغيره من التقارير التي تعبثُ بثوابت الأمة ، وتفرض عليها أناساً لم ولن يقبلهم المجتمع ، وفي نهاية المطاف فرض إسلام بمواصفات أمريكية .
المصدر : جريدة المدينة - ملحق الرسالة
أخطر آليات تحقيق الأماني الراندية ( محاولة استشرافية حاذرة )
د. سعد بن مطر العتيبي
عضو هيئة التدريس بقسم السياسة الشرعية بالمعهد العالي للقضاء
في حلقة ماضية ذكرَ أنّ علم ( استشراف المستقبل ) يقوم على منهجيات تعتمد أموراً كثيرة ، منها : وضع المشاهد المستقبلية ( السيناريوهات ) في ضوء أنماط المشاهد الماضية ، وبتعبير آخر : الإفادة من التجارب التاريخية الناجحة في وضع استراتيجيات مستقبلية مشابهة .
وأوضحت أنَّ التجربة التاريخية الخطيرة التي لا أظنها تغيب عن المنظرين الغربيين من الليبراليين على وجه الخصوص ، هي تلك الوثيقة الكنسية أو ( المدونة البابوية ) التي وضعتها الكنيسة الغربية لها ولأتباعها متخلية بها عن ثوابتها ، وما كانت تقضي به لنفسها من حقوق وما تضعه عن نفسها وأتباعها من واجبات ، لتحظر عليهم ما كان واجبا في ديانتها ، وتحجِّر عليهم ما كان واسعا في نظرها ، وتمنح فيه خصومها من اللادينيين مكاسب هائلة تتمثل في تخليها لهم عن الشؤون السياسية والعلمية وحتى الدينية تحت مسمى ( المدنية ) .
ومن أهم فوائد علم الاستشراف ( الدراسات المستقبلية ) : أنه يُعنى بكشف المشكلات المتوقعة قبل حدوثها ، ليتم التهيؤ لمواجهة تلك المشاكل ، ببذل الجهود البحثية ووضع التراتيب والخطط والسياسات المضادة ، لمنع وقوع تلك المشكلات في بداياتها أو الحد من آثارها بعد تقدّم خطواتها ؛ وهذا ما يطلق عليه بعض الباحثين : ( وظيفة الإنذار المبكر ) .
وإذا حاولنا استشراف المشهد المستقبلي للنموذج التاريخي المشار إليه في تحقيق الأماني الراندية ، وهو ما لم يصرح به التقرير المعلن لمؤسسة راند ، فإننا سنصل إلى نتائج تستوجب الحذر ، بل الحذر الشديد ، خشية أن نقع ضحايا لخطط معلنة !(32/14)
وفي بيان المشهد التاريخي ، سأبدأ بعرض بعض مواد تلك الوثيقة البابوية والتنازلات الكنسية ، التي وضعها المتدينون النصارى لغير المتدينين ، وإن شئت فقل : قدَّمها الكنسيون للملحدين دون مقابل ! وعنونها خبيرُ الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية أستاذُنا د. محمد بريش بـ ( الاستبداد الديني ! أو كشف اللثام عن المدونة البابوية للمحظور من الفكر والكلام - حفريات معرفية في جذور صراع الكنيسة مع العلمانية ) . ولم يجانب أستاذنا الحقيقة في عنوان دراسته ، فقد جاءت المادة (19 ) من تلك الوثيقة بتنازل كبير يمنح السلطة غير الدينية تحديد حقوق الكنيسة ، وهذا نص ما جاء في المدونة البابوية ! : « الكنيسة ليست مجتمعا صحيحا ومثالياً كامل الحريّة ، وليست لها حقوق خاصّة ودائمة ومخوّلة لها من طرف مؤسسها المقدس، بل من حق السلطة المدنية أن تحدد ما هي حقوق الكنيسة، وفي أي حدود يمكنها ممارسة تلك الحقوق « .
وجاءت المادة (31 ) بتنازل عن سلطتها في جانب الأحكام المدنية والجنائية ، ونصه : « إن المنتدى أو المحكمة الكنسية للأحكام الدنيوية لرجال الدين ، سواء على الصعيد المدني أو الجنائي ، يلزم أن تلغى كليّة ، وحتى بدون استشارة الكرسي البابوي ، ودون أي اعتبار لاحتجاجاته « .
بل منحت السلطة المدنية حق التدخل في القضايا التي تتعلق بالدين والتوجه الروحي ! كما في المادة (43) ونصها : « يحق للسلطة المدنية التدخل في القضايا التي تتعلق بالدين والأخلاق والتوجه الروحي، ومن ثم فإنه يمكنها الحكم على الأوامر والتوجيهات الصادرة عن قساوسة الكنيسة « .
وفي المادة (53) ألغت المدونة الكنسية القوانين التي تحمي ميثاق المجموعات الدينية ، وتعطي الحكومة الحق في مساندة من يتخلون عن دينهم ! : « يلزم إلغاء القوانين التي تحمي ميثاق المجموعات الدينية وحقوقها ووظائفها. يمكن للحكومة المدنية أن تساند كل أولئك الذين يرغبون في التخلي عن الحالة الدينية التي اعتنقوها ومخالفة عهودهم الرسمية، وفي نفس الوقت يمكنها -أي الحكومة المدنية- أن تحل كل هذه المجموعات الدينية، وكذلك الكنائس الجامعية، ومكاسبها البسيطة في حق الإشراف، وإخضاع ممتلكاتها ومداخلها لإدارة وقوة السلطة المدنية « .
وفي المادة (55) حققت المدونة البابوية أمنية العلمانيين ، بقولها : « يجب فصل الدين عن الدولة ، وفصل الدولة عن الكنيسة « !
ومن هنا يمكننا أن نبدأ قراءة استشرافية لتقرير راند المعنون بـ « بناء شبكات مسلمة معتدلة وذلك في نقاط تقتصر على الإشارات :
أولاً : لنفترض كيفية وقوع تلك التنازلات :
- ربما كانت نتيجة اختراق للمجالس الكنسية ممن يتظاهرون بالدين !
- أو نتيجة تغييرات تربوية وسلوكية طرأت على بعض القيادات الدينية نتيجة تأثرها بنظريات فلسفية مُخترِقة عالقة ، أو تصرفات كنسية متناقضة ، أو اضطهاد داخلي ، ونحو ذلك من المؤثِّرات ..
- أو نتيجة ضغوط هائلة تمثلت في أكوام من الاتهامات الخطيرة حول ظلم الكنيسة واستبدادها وفسادها وتشويه سمعتها ، لوضعها في موقف الدفاع ، حتى أخذت تدافع بتنازل تلو تنازل ، ويضغطون علميا ( والتصرفات الكنسية الاستبدادية وغيرها قابلة للنقد العلمي ولا شك وهو ما لا يصح إسقاطه على الإسلام ) ، ويضغطون إعلاميا ، حتى أدى ذلك في نهاية المطاف إلى انهيار أهم مبادئ الكنيسة ( المحرّفة ) التي كانت ترتسمها على مرّ حقبها التاريخية ، بأقلام القساوسة والكهنة نتيجة هذه الضغوط وإشغالها بالدفاع الذي يضطرها للتنازل ، ثم إقناعها بفشل مبادئها السائدة آنذاك وتنازلها عنها بإصدار المدونة آنفة الذكر ..
- وربما كانت هذه المدونة صنيع فئة أكثر حضوراً ، وأقوى أثراً وتأثيراً من الفئة المحافظة داخل الكنيسة ، في حين كان المحافظون صوتا خافتا عاجزا ، تمّ تجاوزه بقوة الخروج إلى الواقع بعد صنع قيادات بديلة .
ثانياً : لنقرأ لبّ تلك التنازلات في المشهد التاريخي :
مما يمكن ملاحظته عند محاولة قراءة ذلك المشهد التاريخي : أنَّ الدين لم يُستبعد تماما ، كأثر من آثار التنازلات الكنسية ، وإنّما جُسِّد في شعارات وطقوس ووظائف تابعة فارغة من معاني السيادة والتمكين ، ليحقق أغراض السياسيين اللادينيين في هدوء واطمئنان !
وهذا الأمر ذاته تحقق في الحالة الأوروبية المعاصرة ، فلا زلنا نجد النص على الدِّين في دساتير عدد من الدول ! وهو أمر يطول الحديث فيه وفي دلالاته .
- ومع ذلك فقد كان للمدونة البابوية أثر ظاهر في تغيير مناهج التعليم ، فكان من أُولى الخطوات التي نتجت عن التنازل الكنسي في المجال التعليمي : استبعاد ما يتعلق بذم اليهود في مناهج التعليم الأوربية !
- كما كان لتلك المدونة أثر أكبر في الجانب ( التقنيني ) والقضائي ، فقد تم إلغاء كل ما كان للكنيسة من ذلك ، بنص الماد ( 31 ) السابق ذكره ، بل أعطت المدونة الكنسية للعلمانيين حقا بالتدخل في القضايا الدينية والخلقية والروحية ! وهو ما نصت عليه المادة (43) .(32/15)
- وأمَّا حرية الخروج على الدين والتجديف الإلحادي فهذا لب المادة (53) من تلك المدونة التي صنعها رجال الدين !
- وأمَّا لبّ العلمانية في الناحية السياسية فهو ما نصت عليه المادة (55) التي أوجب فيها ( رجال الدين ) فصل الدين عن الدولة والدولة عن الدين !
وإذا عدنا إلى واقع أمتنا ، واستكملنا نظرتنا إليها بوضعها في مشهد ( راندي ) مستقبلي متواضع التحليل ، فإنَّنا سنجد من خطوات الواقع ما يعطي مشهدا للمستقبل - ما لم نُغير ما بأنفسنا - وذلك في جهتين :
الأولى : من جهة ظهور الدعوات التي يطمح الرانديون في تحقيقها ، وسأقتصر على أوضح أصولها :
1) ظهور الدعوات المناقضة للإسلام ، كالفكر العلماني والليبرالي وإن بلبوس إسلامي ، مستغلة الانحراف الفكري ، لفئة من المحسوبين على أهل العلم والدعوة ، منذ قرن ، كما في كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ، المنسوب لعلي عبد الرازق ) .
2) ظهور الدعوات التي تطالب بتغيير مناهج التعليم في البلاد الإسلامية ظهورا خطِرا ، كما نشهد المناداة الإعلامية بتغيير المناهج في جميع بلاد الإسلام دون استثناء ، ولم تخلُ تلك الدعوات من الإشارة إلى مراعاة الآخر ، وإن كان الآخر ذلك الصهيوني المحتل لفلسطين .
3) ظهور التحريفات في الدين وتأويل النصوص من عدد من الكتّاب ممن يحسبون على أمة الإسلام ، ممن بلغت بهم الجرأة أو الجهل أو الانهزامية حدّ المجاهرة بإحياء الدعوى القاديانية المنادية بإباحة الردة عن الإسلام ، وعدم تجريم فاعلها ، بل معاقبته ، وذلك ضمن مقولات باطلة منها : نفيهم لمشروعية عقوبة المرتد ، مع أنها دعوى قاديانية المنشأ ، باطلة بطلان الديانة القاديانية .
ومن يقرأ تاريخ القاديانية في الهند يجدها مشهدا تاريخيا من مشاهد تمرير المشروع الغربي ، إذ هي صنيعة الحاقدين من المستشرقين وعملاء الجيش الإنجليزي ، وما أشبه الليلة بالبارحة ، فتلك الهجمة الفكرية تسببت في ظهور فتاوى من بعض علماء الهند تضمنت تنازلات من أخطرها جعل جهاد المحتل أمراً غير مشروع !
وللفائدة أُحيل إلى كلام مؤصّل في الردّ على فكرة تطبيع الردّة تلك الفكرة الخطِرة ، وتفنيد قوي لشبهات المنقادين لها ، وهو للشيخ الدكتور / يوسف القرضاوي سلمه الله ، أُلخِّصُه في قوله : « أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد ، وإن اختلفوا في تحديدها، وجمهورهم على أنها القتل وهو رأي المذاهب الأربعة بل الثمانية «.
الثانية : من جهة الآليات التي يُتوقع لجوء منفذي المؤامرة الراندية ، في ضوء المشهد التاريخي للمدونة البابوية :
1) جمع شمل شتات ذوي الأفكار المنحرفة والسعي في التنسيق بينهم في صور متعدِّدة ، من مثل : المنتديات والمؤسسات الفكرية العامة في ظاهرها ، واللقاءات الشخصية والاستقطابية ، والإبراز الإعلامي لأشخاص مغمورين أو منحرفين معروفين ، وكذا التنظيمات التي تتخذ من ( مؤسسات المجتمع المدني ) شعارا ، ومن ( الليبرالية ) مسارا ، ومن ( المنح الأجنبية ) زادا للخيانة .
2) التنقّص من الشخصيات العلمية والدعوية ، الحقيقية كأفراد العلماء الربانيين ، والاعتبارية كهيئات الإفتاء ولجانه المعتبرة ؛ وذلك ابتغاء كسر جلال العلم وتحطيم محدِّدات المنهج ، وفتح الطريق للمشروع الأجنبي !
3) السعي في اختراق المجامع الفقهية والمجالس والروابط العلمية الإسلامية القائمة ، وتكوين أكثرية مطلقة ، ولو كانوا من الإداريين ، ليظهر أثرها في القرارات التي تتطلب تصويتا .
4) الضغط على المسلمين دولاً أو جمعيات أو مجامع فقهية أو مجالس إفتاء أو تجمعات إسلامية ، أو كلِّ ذلك ؛ لاستصدار بيانات ومواثيق متخاذلة تضع من المصلحة الملغية أو المتوهمة مستندا لتنازلاتها ، ثم تمرير مضامينها بشكل ما .
5) إيجاد مجامع أو مجالس أو روابط من المنحرفين فكريا ممن ينسبون للعلم الشرعي أو الدعوة الإسلامية ، وتلقيبهم بألقاب العلم والفتوى والفكر الإسلامي والخبرة إلخ .. ! ولا سيما في حال فشل محاولات الاختراق للمجامع الفقهية والمجالس الإفتائية القائمة .
6) استهداف إصدار بيان من علماء مسلمين ينتمون إلى مجمع فقهي يتبع منظومة الدول الإسلامية ، تُقدّم فيه تنازلات، على نمط المدونة البابوية : تنازلات عن المناهج التعليمية المحافظة وعن القضاء الشرعي حتى في الأسرة والأحوال الشخصية ، وعن الوقوف في وجه المرتدين بل وفتح المجال للردة الجماعية أمام إرساليات المنصرين ، ويُبقى فيه على مسمى الدِّين على النحو الوارد في تقرير راند 2003 م ، وربما يسمح بذكر الإسلام في بعض الدساتير الإسلامية ، وما تمثيلية ( الدستور العراقي ) عنا ببعيد .
7) استصدار قرارات من المجامع أو المجالس أو الروابط أو الجمعيات العلمية تخدم الأهداف الراندية .
8) فرض مقتضيات البيان والقرارات المجمعية على الدول الإسلامية التي تمتنع عن تطبيقه ، وذلك من خلال آليات ما يُعرف بـ ( الشرعية الدولية ) كميثاق الأمم المتحدة ، سلماً بالفصل الخامس وحربا بالفصل السابع ، بحجة حماية حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية ونحو ذلك من شعارات القوم .(32/16)
ولقد رأينا بوادر ذلك ، وهو ما حمل على كتابة هذه الرؤية الاستشرفية الحاذرة ، مع علمي بأنها دون التحقيق المطلوب ، وإننا لنناشد علماء الإسلام في المجامع الفقهية والتجمعات العلمية أن تقف وقفة الحامي لحمى الإسلام الذائد عن حياض الشريعة .
كما نناشد قادة الأمة الإسلامية أن يأخذوا كل الاحتمالات في الاعتبار ، ويقفوا بكل ما أوتوا من قوة في وجه كل محاولة لتغيير الدين أو التنقّص من ثوابته ، أو تشويه نقائه ، فإنهم مسؤولون أمام الله تعالى أولاً ثم أمام شعوبهم ، وتاريخ أمتهم ثانياً . وليس ذلك عسيرا ، فقد وقفت الدول الإسلامية الجادة ، في إبطال بعض المؤتمرات الدولية المُغرضة ، وقفة تشكر عليها .
وختاما أود التنبيه إلى أمر مهم ، لا يسعني تجاوز التنبيه عليه في هذا الموقف ، ألا وهو : أهمية البعد عن تصنيف الأشخاص والأعيان ، والمؤسسات الدعوية ، والعلماء والدعاة وغيرهم ، ضمن آليات المخططات الأجنبية دون برهان ودليل ، فكم اتهم أشخاص بما لم يخطر لهم على بال ، وبين يدي بعض المقالات والرسائل التي يسعى في نشرها بعض أهل الغيرة ، تجاوزت الحد في التخمين ، حتى نالت من بعض خيار المسلمين .
وإن مما يريب اللبيب ، وجود أسماء وطنية عرفت بشرفها ، في طيات تقارير أجنبية مُعلنة ، كما لا يُستبعد انطلاق تلك الرسائل والمقالات من جهات مغرضة أو أشخاص مغرضين ، وصدق الله العظيم : ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ، وإني لشاكر للإخوة الذين يتثبتون فيما يردهم من رسائل وما يقفون عليه من مقالات .
==============(32/17)
(32/18)
عبدالله القصيمي ...قصة إلحاد وحكاية ملحد
( مقال كتبته ما بين (1419- 1420هـ) يحكي قصة إلحاد عبدالله القصيمي ، ويحاول فهم الأسباب التي أدت إلى انحرافه وخروجه عن دائرة الإسلام ... هذا المقال هو مجرد محاولة للفهم لا غير ، لعلنا نصل من خلال هذه المحاولة إلى نتائج معقولة يمكن أعتبارها أسبابا يمكن الإطمئنان إليها في حدوث هذه الظاهرة الغربية من عالم نجدي ارتكس في حمئة الإلحاد !!!)
بيدي موضوع طالما تساءل عنه كثير من الناس، وأخذ الواحد منا يفكر فيه سواءً من أجل التطفل أو من أجل الحقيقة الغائبة والتي يبحث عنها !
لقد طرحت استفسارات كثيرة عن حقيقة (عبد الله القصيمي) وكيف تحول من رجل دين إلى ملحد هكذا دفعة واحدة ؟!
لقد أثار القصيمي حولة وأثناء حياته وبعد مماته آلاف علامات التعجب والاستفهام، فمن هو هذا القصيمي الذي أثار تلك الزوبعة ؟
( عبد الله القصيمي ... مفكر ... في سطور )
يتعجب البعض عندما يقرأ أو يسمع نبأ إلحاد رجل مثل الشيخ عبد الله القصيمي !
فمن عالم في الدين ينافح عنه ويناضل في سبيله إلى ملحد !
هل كان ملحداً في الأصل ؟ أو هل هو عالم أصلاً ؟
هناك أسئلة كثيرة يبحث الإنسان لها عن جوابا شافي في حالات كثيرة تشبه حالة القصيمي.
لقد كان عبد الله القصيمي طالباً للعلم ومتميزاً وكان منذ نعومة أظفاره وهو يشتعل ذكاءً ويتقد عبقرية، وشب مسلماً متديناً متحمساً للدين والدفاع عنه، ألف كثيراً من المؤلفات للدفاع عن الإسلام ونصر الدعوة السلفية والتصدي لأعداءها .
كان القصيمي يتمتع بذكاء وعبقرية وأسلوب ساحر جميل ، فهو كما يقال: أديب من الطراز الأول ومفكر من الدرجة الثانية .
يقول في حقه الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري :
(إن صحراء المنطقة الوسطى من الجزيرة العربية أنجبت مفكراً مليح الأسلوب، أشهد أنه يتفنن في عرض دعاوى الفلاسفة والعلماء الماديين من أمثال بخنر وسارتر... القصيمي يتقن رسم الصور ويسرف في الخيال ويغني وينوح إنه فنان متمزق إنه أديب ساخر ساحر ).
ساهم القصيمي في الدفاع عن الاسلام فألف كتباً عديدة في الرد على الشيعة وألف كتباً تصدى فيها للملاحدة الذين يتصيدون في الأحاديث النبوية ويثيرون عليها إشكالات ظاهرية، وهكذا كان سجل القصيمي حافلاً بالملاحم والجهود في خدمة الإسلام .
كانت نشأة عبدالله القصيمي في الجزيرة العربية ، وفيها ترعرع وفيها رضع فكره، نشأ القصيمي حياة مأساوية كادحة بائسة عابسة يابسة، كان لها أشد الأثر في تكوينه الشخصي والمزاجي.
من هو هذا الملحد القصيمي المليح ؟
هو : أبو محمد عبدالله بن علي الصعيدي القصيمي أحد رجالات الدعوة الوهابية ومن المنافحين عنها، قال عنه الشيخ ابراهيم عبد العزيزالسويح النجدي :
(هو الذي لقب نفسه بالقصيمي وإلا فلا يعرف له نسب من جهة أبيه في القصيم ).
كتب القصيمي في مرحلته الأولى كتباً عديدة في خدمة الاسلام ومن أشهرها كتابه ( الصراع بين الإسلام والوثنية ) وهو كتاب في الرد على الشيخ الشيعي محسن الأمين الذي هاجم الدعوة السلفية وتهجم على دعوة الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وعلى حكامها من آل سعود.
وقد كتب من هذا الكتاب (الصراع ) جزئين وكتب في آخر الجزء الثاني عبارة ( تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث إن شاء الله ... عبدالله القصيمي - القاهرة )
ولكن القصيمي ألحد وانحرف فلم يكمل هذا الكتاب العظيم !
وقد قال لي من أثق به في المصادر والمخطوطات : أن الكتاب كامل وأنه طبع في هذين الجزئين.
أحدثت جهود القصيمي آثارا طيبة في نفوس العلماء والمفكرين المناصرين لدعوة الحق فقال في حقه فضيلة الاستاذ الشيخ حسن القاياني" مجلة المقتطف -العدد 10 فبراير 1947" :
(معسكر الاصلاح في الشرق، قلبه هو السيد القصيمي نزيل القاهرة اليوم، نجدي في جبته
وقبائه ، وصمادته وعقاله ، إذا اكتحلت به عيناك لأول التماحته، قلت : زعيم من زعماء العشائر النجدية، تخلف عن عشيرته، لبعض طيته، حتى إذا جلست إليه فأصغيت إلى حديثه الطيب أصغيت الى عالم بحر يفهق بعلم ديني واجتماعي، تعرفت إلى العلم النجدي القصيمي ، فجلست إليه مرة ومرة، ثم شاهدته كرة، فناهيك منه داعية إصلاح، أكثر ما يلهج به الشرق وأدواؤه وجهله ودواؤه،
لم أقض العجب حين شهدت القصيمي من عربي في شمائله ، ملتف في شملته ، يروعك منه عالم في مدرسته، كاد يحيلني شرقياً بغيرته الشرقية ، وقد بنيت مصرياً،حيا الله السيد القصيمي، ما أصدق نظرته إلىالحياة وأبعد مرماه في الهداية ).
وقال أيضاً في مدح القصيمي الاستاذ الجليل الشيخ (عبد الظاهر أبو السمح ) أمام المسجد الحرام وخطيبه ومدير دار الحديث بمكة :
ألا في الله ماخط اليراع .... لنصر الدين واحتدم الصراع
صراع لا يماثله صراع .... تميد به الأباطح والتلاع
صراع بين إسلام وكفر .... يقوم به القصيمي الشجاع
خبير بالبطولة عبقري .... له في العلم والبرهان باع
يقول الحق لا يخشى ملاماً .... وذلك عنده نعم المتاع
يريك صراعه أسداً هصوراً .... له في خصمه أمر مطاع(32/19)
كأن بيانه سيل أتيّ .... تفيض به المسالك والبقاع
لقد أحسنت في رد عليهم .... وجئتهم بمالا يستطاع
(الى آخر القصيدة ....... والقصيدة طويلة )
وقال في حقه - متأسفاً على إلحاده - الشيخ (ابن عقيل الظاهري ) :
( أرجو له في شخصه أن يهديه الله للإيمان قبل الغرغرة ، فتكون خاتمته حسنة إن شاء الله ، فإن هذا الرجل الذي ألف " الصراع بين الإسلام والوثنية " ممن يؤسف له على الكفر ).
هذا هو أبو محمد عبدالله القصيمي قبل أن يتحول من دائرة الإسلام الى خارجها، وقد ألف القصيمي مجموعة كتب قبل إلحاده ومجاهرته بذلك، ومنها :
(1) الصراع بين الإسلام والوثنية . (وهو من أشهر كتبه قبل التحول )
(2) البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية .
( وهو كتاب يرد فيه على من يدعي جواز التوسل بالبشر )
(3) مشكلات الأحاديث النبوية وبيانها .
( وهو كتاب يرد فيه على علماء المادة والملاحدة ، ويبين أن لا تناقض بين الأحاديث النبيوية والعلم الحديث ! )
(4) الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم .
(5) شيوخ الأزهر .
(6) الثورة الوهابية .
(7) نقد كتاب (حياة محمد ) .
والسؤال المهم هو /
ما هو السبب الحقيقي وراء هذه الإنتكاسة لطالب علم متميز كان يرجى له أن يكون من العلماء والمفكرين الكبار ؟
هل كان السبب الحقيقي وراء إنتكاسته هو غروره ؟ هل هذا سبب مقنع ؟
هل كانت هذه الإنتكاسه فجأة وتكون بعلم الحساب إنتقال عكسي 180% ؟
أم هي عملية إنتقال بطيئة وبشكل تدرجي، ولم يظهر منها إلا نتائجها المخيفة والتي أعلن عنها صاحبها في كتابه ( هذه هي الأغلال ) ؟
أم أن الشك موجود عند غيره من العلماء ولكن القصيمي أبى الخنوع والركوع لسلطان الخرافة فأعلن الثورة وبدأ التمرد ؟
وعلى هذا يكون جميع العلماء شكاكا ! ويكون القصيمي أشجعهم فقط ؟!
هل كان القصيمي مقتنعاً فعلاً بإلحاده وببطلان الأديان ؟
أم هي ردة فعل عكسية حمقاء كانت نتيجة ضغوط نفسية متراكمة عند القصيمي ؟
وهل كان القصيمي مقتنعاً فعلاً - قبل إلحاده وأيام دفاعه عن الإسلام - بتدينه وإيمانه ؟
أم أنه في الأصل غير مقتنع !
بل كانت المسألة بالنسبة له ولغيره مسألة وراثة، والخروج عن الموروث عار والعار فضيحة ، والفضيحة حرمان، فالأفضل مغالبة الوساوس الشيطانية والركون الى التقاليد الموروثة ؟
هناك آراء متفاوته ومتضاربة أحياناً حول الأسباب الحقيقية وراء هذه الظاهرة الإلحادية القصيمية المتمثلة في شخص (عبدالله القصيمي القصيمي ) !
ولا أزعم أنني سأحصل على نتائج يقنية أو حتى أولية.. فقط ما سأعمله هو محاولة الفهم والتقريب لا غير !!!
(الرأي الأول ) :
مفاده أنه يستحيل أن ينقلب متدين متمسك إلى ملحد مرة واحدة؛ كما يستحيل أن ينتقل البندول من أقصى اليمين إلى أصى اليسار دفعة واحدة، لا بد من التدرج ولا بد من الاستدراج .
وعلى هذه النظرية يكون القصيمي بدأ مخلصا لدينه موقناً لعقيدته، لكنه مع الزمن بدأ يتساقط أمام سلطان الشك وبريق الريب والزيغ ، وظلت بذرة الشك كامنة حتى استحكمت وتمكنت فيه جيداً فأعلن إلحاده، بعد أن اجتثت تلك البذور ما بقي في قلبه من إيمان !
يقول الأستاذ عبدالله بن علي بن يابس ( وهو صديق القصيمي وصاحبه في أسفاره ) محدثاً عن حالة القصيمي ما نصه :
(كان القصيمي منذ أكثر من خمسة عشر عاماً تقريباً ، يجادل في البديهيات الدينية ، حتى أشتهر بكثرة جدله في الأمور الضرورية، وحتى كان يجادل بعض جلسائه في وجود نفسه، وحدثني صديق حميم من العلماء الأفاضل قال: كان القصيمي يأتي إليّ منذ خمسة عشر سنة تقريباً ويصرح لي بأنه تعتريه الشكوك إذا جن الليل ، فيسخن جسمه ، ويطير النوم من أجفانه .
قال : وكان يجادلني في الله، وفي النبي محمد، وكان يمتلأ بغضاً له وأحتقاراً، وكنت أجيء لزيارتكم فأجده يقرأ في صحيح مسلم مع بعض الأخوان، فترجع نفسي قائلة : لعلها وساوس وليست عقائد).
فهذا الرأي يبين لنا أن القصيمي كان مع دفاعه عن الإسلام وأهله كانت تأتيه نوازع شيطانية ، ووساوس، فتكدر عليه صفو الحياة وتسخن جسمه النحيل، وتطير من عينيه النوم اللذيذ كل ذلك بسبب ما يجده في هذا الشك من ألم وشقاء وحسرة تجعله لا يتلذذ بنومه بل جسمه ينتفض ويسخن لذلك، ولكن الشك القاتل جندله صريحاً مسفوك الدم والعقل والروح في بلاط الإلحاد!!!
(الرأي الثاني ) :
مفادها كما عبر عنها المفكر الشهير (ول . ديورانت ) عندما يتحدث عن الفيلسوف اليهودي الملحد - (اسبينوزا) فمما قله وهو يتحدث عن إلحاده : أننا نعلم أن كثيراً ممن يشك الدين هم رجال الدين أنفسهم لأنهم أطلعوا على حقيقة تدينهم !
وعلى ضوء هذا الرأي يكون القصيمي - بحكمه عالماً - وغيره من العلماء هم في الأصل شكاكاً فكلما تقدم الإنسان في العلم زادت المسائل المستعصية أمامه وزادت حيرته وقلقه وريبته، فكم من علماء متشكك! وكم من مفكرمرتاب! وكم من الشخصيات القلقة الخاضعة تحت سلطان الشك!(32/20)
ولكن البعض يواجه هذا الطوفان العارم بالهروب إلى التسليم الأعمى، ومنهم من يفر منه بإشغال نفسه وطرد هذه الوساوس، ومنهم من يتغلب سلطان الشك عليه فيرديه صريعا كالقصيمي مثلا ...
والفرق بين القصيمي وغيره أن القصيمي - كما يقول هذا الرأي - أمتلك الشجاعة الكافية لمواجهة الجمهور المتعنت المتعصب، وغيره خاف الفضيحة أو خاف من مغرم أو على مغنم!
والحقيقة أن هذا الرأي يجانب الصواب كثيراً، فالمقطوع به أنه كلما إزداد الإنسان تعمقاً في الحق كلما عرفه أكثر وتمسك به أكثر، وقد يكون هذا الرأي صحيحاً إذا ما قيس بالدين الفاسد أو الباطل، فحينما يتعمق الإنسان فيه يزداد يقيناً بفساده وبطلانه، فالقضية ليست قضية علماء الدين بقدر قضية الدين نفسه وهل هو دين حق أو باطل، وذلك ينطبق على جميع الأشياء الفكرية والنظرية وغيرها .
وحينما يقال عن الفيلسوف اليهودي المرتد (اسبينوزا) أنه عالم دين وأن سبب إلحاده هو دينه نفسه، فهذه المقولة صحيحة ولا غبار عليه، بل إنني أعد ذلك شهادة من هذا المفكر على أن الأديان المحرفة تحمل في طياتها بذور الشك والانهيار، وما اسبينوزا وغيره إلا خير شاهد .
والفرق بين الدين الحق والأديان الباطلة هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية مفرقاً بذلك بين الإسلام وغيره حيث قال :( الإسلام يأتي بما تحتار فيه العقول، لا ما تحيله ).
وهذه هي النقطة الجوهرية ، وهي حجر الزاوية وقطب الرحى في قولنا السابق، فالإسلام لا يعلم الناس المحالات العقلية أبداً ، بل أعظم عقائده فطرية يقينية تسلم بها جميع العقول على تفاوت إدراكاتها، فالعقائد في الإسلام واضحة سلسلة يسلم بها العقل وتذعن لها النفس .
(الرأي الثالث ) :
مفاده كما يقول الشيخ ابراهيم النجدي في كتابه :
( لقد استغرب الناس انقلاب هذا الرجل بهذه السرعة ، وانسلاخه من آيات الله التي تظاهر بنصرها من قبل، فذهبوا يتساءلون عن الأسباب التي أحدثت هذا الانهيار الخلقي والانقلاب المفاجيء الغريب والانسلاخ البلعامي المنكر، لأن هذا الرجل كان يتظاهر قبلاً بنصر السنة وقد ألف في ذلك كتباً معروفة .. وذهبوا يعللون هذا التراجع والتقهقر تعليلات شتى بحسب ما يظهر من القرائن ، فعلل كثير بأنه أرتشى من بعض الدعايات المحاربة للأديان!).
وخلاصة هذا الرأي أن القصيمي انقلب رأساً على عقب بسبب رغبته في المال، فارتشى من أجل ذلك، مع أني أرى أنه مستبعد قليلاً، خاصة إذا عرفنا أن القصيميكان يناصر دولة فتية غنية بترولية، ثم نقول ماذا جنى القصيمي من الأموال نتيجة إلحاده؟!
لقد شرد وطرد وهام على وجهه من بلد إلى بلد ، ومات منفياً وحيداً، ثم إن هذه صفة البرغماتية أسبعدها عن القصيمي من خلال تصفحي لآثاره وآثار خصومه.
فهذا الشيخ ابن عقيل الظاهري يقول عنه :
( ولا أنكر أن القصيمي كان مخلصاً في إلحاده أول الأمر لشبه عرضت له، وقد لاقى من ذلك مضايقة ومطاردة ).
ولندع القارىء الكريم يقرأ بنفسه ما كتبه القصيمي بخط يده يحكي فيه عن خواطره واعترافاته، يقول القصيمي :
( إن ذكرى تفيض بالمرارة والحسرة تعاودني كلما مر بخاطري عصر مشؤوم قضيته مسحورا بهذه الآراء - يقصد الدين - وكنت أفر من الحياة ومما يعلي من قيمة الحياة، فقد كنت لا أجد ما يحملني على أن أرفع قدمي لو علمت أني إذا رفعهتما تكشف ما تحتها عن أعز ما يتقاتل عليه الأحياء !
كان الغرور الديني قد أفسد عليّ كل شعور بالوجود وبجماله، وكنت مؤمنا بأن من في المجتمع لو كانوا يرون رأيي ويزهدون زهدي لوقفت الأعمال كلها، وكنت لا أخالق إنسانا رغبة فيما يتخالق الآخرون من أجله، وكان شعاري في تلك الفترة قول ذلك المغرور المخدوع مثلي :
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وكان يخيل إلي وإلى غروري الديني الأعمى أنه لاقوة كقوتي ، لأن الله معي واهب القوى !
فليقو العالم كما يشاء وليجمع من الأسباب ماطاب له فان ذلك كله لا قيمة له ولا خطر بالنسبة الى من استقوى بقوة الله ).
فأنت تلاحظ يا أخي القارئ أن القصيمي - كما يقول - قد سلك مسلكاً ليس هو حقيقة روح الإسلام بل هو أقرب إلى الرهبانية والتى ما أنزل الله بها من سلطان .
ولكن ما يهمنا هنا هو مدى مصداقية القصيمي ؟
فأنت تلاحظ أنه وكما ذكرنا سابقا كان صادقا مع نفسه متحمساً للدين والدفاع عنه، والزهد والتقشف الشديد بدرجة لا تطاق، وهكذا كانت لتلك الحالة ردة فعل قاسية عليه وكما يقال فإن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار معاكسة له في الإتجاه، ولذلكجاء في الحديث الشريف : (أوغل في الدين برفق ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) .
(الرأي الرابع ) :
مفاده أن القصيمي، لما ظهر أمره، وسطعت شمسه، ذاع صيته، أغتر بنفسه، وداخله الكبر والكبرياء، فكان عاقبة كبره وغروره أن خذله الله وتركه ونفسه فآثر الخلود للدنيا فسقط مع الساقطين لما انقطع منه توفيق الله !
وهذا الرأي القويّ يقدم شواهداً محسوسة تدعمه، ومن ذلك :(32/21)
قول القصيمي في مقدمة كتابه (الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم ) مادحاً نفسه :
لو أنصفوا كنت المقدم في الأمر *** ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكر
ولم يرغبوا إلا إليّ إذا ابتغوا *** رشاداً وحزماً يعزبان عن الفكر
ولم يذكروا غيري متى ذكر الذكا *** ولم يبصروا غيري لدى غيبة البدر
فما أنا إلا الشمس في غير برجها *** وما أنا إلا الدر في لجج البحر
متى جريت فكل الناس في أثري *** وإن وقفت فما في الناس من يجري
وقال مرة يثني على نفسه بأبيات ركيكة بعد قرأ كتاباً للمتنبي فكتب على هامشه :
كفى أحمداً أني نظرت كتابه *** لأن يدعي أن الإله مخاطبه
ولو شامني أني قرأت كتابه *** لقال إله الكون إني وخالقه !!
وقال مرة يثني على نفسه :
ولو أن ماعندي من العلم والفضل *** يقسم في الآفاق أغنى عن الرسل!
وقد لاحظ العلماء هذا الغلو في الثناء على الذات، فنبه الشيخ ( عبدالعزيز بن بشر ) أن صاحب هذا الكلام منحرف عن الإسلام، كما وبخه الشيخ فوزان السابق، ووبخه أيضاً الشيخ عبد العزيز بن راشد، وأخبره أن هذا كفر وضلال وأنه بهذا البيت ينشر لنفسه سمعة خبيثة، فتراجع القصيمي وحذف هذا البيت الأخير، بعد أن انتقده الناس وعابوه ووبخوه.
ولما ألحد القصيمي لم يترك طبعه هذا بل استمر عليه بشكل أبشع وأكبر، فهو يقدم كتبه الإلحادية بعبارات المديح والغطرسة اللامحدودة، ففي كتابه (هذه هي الأغلال ) كتب في الغلاف الخارجي عبارة : ( سيقول مؤرخو الفكر إنه بهذا الكتاب بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل ) !
وداخل الكتاب قال القصيمي عن كتابه :
( إن مافي هذا الكتاب من الحقائق الأزلية الأبدية التي تفتقدها أمة فتهوى ، وتأخذ بها أمة فتنهض ، ولن يوجد مسلم يستغني عن هذه الأفكار إذا أراد حياة صحيحة ) !
(الرأي الخامس ) :
وينطلق هذا الرأي من القاعدة الفيزيائية القائلة : ( لكل فعل ردت فعل مساوية له في المقدار معاكسة له في الاتجاه) وتفسير هذه النظرية كما يلي :
تقول أن عبد الله القصيمي - وغيره - كان في طبعه وفي تركيب مزاجه الاندفاعية والثورة، فهو من ناحية حيوية نفسانية جسدية مفعم بالتمرد والثورة والاندفاع والقوة والهيجان الشديد، وكان قبل إلحاده متمرداً ثائراً ضد أعداء الدين بشكل عنيف، يشتم هذا ويكفر هذا ويلعن هذا ويسخر من هذا، ويحطم هذا ويمرغ بهذا . وهكذا !!
إندفاع شديد وقوي ومفعم بالتولد الثوري الدائم، فعبد الله القصيمي - أو من يشابهه - لا يمكن أن يركن أو يسكن فهو دائماً دائب كالآلات الشيوعية في عمل دائب دائم، لا بد له من صراع مع أحد ولا بد أن يفتك بشيء، بالأمس كان صراعه مع الوثنية واليوم صار صراعه مع الإسلام !
فطبيعة تركيبه العقلي والنفسي تقضي عليه بأن يكون متطرفاً سواء لليمين أو لليسار، للإيمان أو للشيطان!
وصدق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما قال :
( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) .
وكم رأيت أنا من الشباب الذين كانوا في قمة العربدة وفي نهاية التطرف، وإذا بهم ينقلبون (180%) إلى متدينين أقوياء وأحيانا أكثر من اللازم، وكم رأيت أيضاً من الشباب المتطرف التكفيري الأهوج الأحمق وقد أنقلب رأساً على عقب إلى ماركسي أو ليبرالي أو لا ديني !!
ونذكر هنا شاهداً من أقوال القصيمي نفسه التي كتبها قبل إلحاده على هذا الرأي، والذي يدلل على طبع القصيمي المتأصل فيه وأنه كان متطرفا متمردا ثائرا لاعبا مستهترا، يرى دائما أنه في معركة ولا يهمه مع من تكون !
يقول القصيمي في كتابه ( شيوخ الأزهر ) بعد أن أزرى بشيخه وأستاذه ومعلمه الكفيف الشيخ يوسف الدجوي . بسبب خلاف شخصي بينهما، تطور وانتقل إلى الكتب والصحف والمجلات!! يقول القصيمي متحدثاً عن شيخه :( وكأني بالدجوي المغرور عندما يرى هذه البراهين إن كان يرى التي ما كانت تخطر على فؤاده إن كان له فؤاد يغضب ويصخب ، ويشتم ، ويقول ماهذه البلوى ؟
ما هذه المحنة التي خصصت بها ؟
ما هذا النجدي الذي يريد أن يأكلني ويشربني ؟
ما هذا العربي الذي منيت به لينزلني من منزلتي التي ارتقيتها بلقبي وكتبي وراتبي ورتبي وغفلة أهل العلم والفهم عني ؟
ويقول يا ليتنا أرضينا هذا النجدي وأسكتناه عنا ولو بملء فيه دراً ، ولو بكل ما نأخذه من راتب ، وما نملكه من متاع .
ويقول كنا حسبنا أننا قضينا عليه وألجمنا فاه بفصلنا إياه من الأزهر ... إلخ ).
أخي القارئ .... ها أنت تلاحظ القصيمي، هو هو ، لم يتغير في أسلوبه وطريقة تفكيره، اليوم يشتم شيخه المسكين الضرير يوسف الدجوي ويقول عنه ( مغرور - إن كان يرى - إن كان له فؤاد ) وتجد توافق عجيب في لغة الخطاب التي يوجهها للشيخ الدجوي بالأمس ولغة الخطاب التي وجهها لله سبحانه بعد إلحاده، الاختلاف فقط كان في مرمى الهدف ، فكان بالأمس شيخه الضرير يوسف الدجوي ، واليوم صار مرماه الله جل جلاله .(32/22)
فنسأل الله العافية والسلامة ، ونسأله التوسط الحقيقي بالتمسك الحقيقي بنصوص وروح القرآن والسنة كما تعلمناها من صلى الله عليه وسلم وكما نقلها لنا أصحابه وأهل بيته والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم جميعا .
(الرأي السادس) :
ويتجه هذا الرأي إلى أن القصيمي، كان من طباعه ركوب الموجات الفكرية في عصره، فحينما كانت الفرصة مناسبة للموجة السلفية ركبها وانتفع بها، حتى استنفذ أغراضه منها، فلما برزت موجات أخرى كالقومية واليسارية والشيوعية وغيرها، وظهرت قوتها الصحفية والإعلامية، توجه القصيمي لها وركب موجتها واستغل منابرها الصحفية.
فهذه - كما ترى - مجموعة من المحاولات لفهم السبب الحقيقي وراء انقلاب عبد الله القصيمي، يمكن أن ترفضها كلها ويمكن أن تقبل منها ما تشاء، ويمكن أن تجعلها جميعاً أسباباً تظافرت بمجموعها في إضلال القصيمي عن الصراط المستقيم .(32/23)
(32/24)
كتب وجهود عبد الله القصيمي بعد إلحاده :
أول انحراف ظاهري للقصيمي كان في كتابه (هذه هي الأغلال) ثم تلتها مجموعة كبيرة من المؤلفات، ومن مؤلفات القصيمي بعد إلحاده :
(1) (هذه هي الأغلال )
(2) (الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارات )
(3) ( لئلا يعود هارون الرشيد مرة أخرى )
(4) ( فرعون يكتب سفر التاريخ )
(5) ( كبرياء التاريخ في مأزق )
(6) ( هذا الكون ما ضميره ؟)
(7) (أيها العار إن المجد لك )
(8) (العرب ظاهرة صوتية)
(9) (العالم ليس عقلاً)
ويعد هذا الكتاب من أخطر كتبه وهو خلاصة فكره الإلحادي، وله أسماء أخرى، مثل :
(صحراء بلا أبعاد، عاشق لعار التاريخ، أيها العقل من رآك ).
ويلخص المفكر الشيخ ابن عقيل الظاهري ، الأفكار التي تدور حولها هذه الكتب فيقول :
( ومدار هذا الغثيان على العناصر التالية :
- إنكار الحقيقة الأزلية وما غيبه الله عن خلقه .
- مهاجمة الأديان والأنبياء .
- الإستخفاف بالموهبة العربية .
- التحدي للقضايا العربية والإسلامية .
- التغني بآلام الإنسان وتعاسته ).
وقد اجتمع عبد الله القصيمي بالمفكر الإسلامي سيد قطب وحاول الأول احتواء الثاني، ولكنه فشل في ذلك، وقد اكتشف سيد قطب خبث القصيمي فهاجمه وعراه بكل قوة في مقالات متعددة نشرة في المجلات والدوريات .
كما تحدث عن القصيمي الشيخ زاهد الكوثري واتخذه باباً لمهاجمة السلفية، كما فعل ذلك أيضا الشيخ محمد جواد مغنية.
وقد اجتمع القصيمي بالأستاذ حسين أفندي يوسف، ونشر عنه مقالاً في مجلة النذير، جاء فيه :
( أنه حدثه أحد الثقات أنه لقي القصيمي فقال له :
من أين أقبلت ؟
فقال : من عند هدى الشعراوي !
فقلت له مستغرباً : هدى الشعراوي ؟
فقال : نعم .
فقلت : وماذا تصنع عندها ؟
فقال : تعلمت منها علماً لا يعرفه علماء الأزهر !
فقلت : وماذا تعلمت منها ؟
فقال : تعلمت منها كيف أحطم الأغلال !
قلت : أي أغلال تعني ؟
قال : أعني هذا الحجاب )
( القصيمي وجيش الإنقاذ )
جيش الإنقاذ هو جمعية يديرها عبد الله القصيمي، مطالبها وأغراضها أن تجمع وتؤلف جمعاً لا فرق بين يهوديهم ولا نصرانيهم وبلشفيهم ومسلمهم وأن تضم إليها جميع النساء وأطلقوا عليهن اسم (المجندات ) واتخذت لها دار في شارع بالقاهرة
( تقويم لعلمية عبد الله القصيمي )
من خلال اطلاعي على كتب القصيمي قبل وبعد إلحاده، وصلت إلى نتائج قد سبقني إليها أُناس كثيرون هم أعلم وأخبر مني به، ومن أهم هذه النتائج التي تتعلق بتقييم لعلمية ومنهجية عبد الله القصيمي ما يلي :
(1) أن القصيمي أوتي بياناً رائعاً ، وحرفا رناناً له جرس في الآذان المصغية ، ساحراً في أسلوبه الأدبي، مصور يجيد رسم الصور الخيالية البديعة، يستطيع اللعب بالعبارات كيفما شاء وبكل عبقرية فذة .
يقول عنه ابن عقيل الظاهري :
( مفكر مليح الأسلوب، في أسلوبه طراوة، مع ضعف في اللغة، والقدرة على المغالطة والإثارة ، مسرف في الخيال، ومتقن رسم الصور ، أديب ساحر ).
(2) هناك خلل منهجي عند القصيمي، وقد يكون متعمداً، فهو لا يثبت في كتابه مراجعاً رجع إليه وهذا دليل على سرقاته العلمية الكثيرة !
فمثلاً كتابه ( البروق النجدية ) عبارة عن تصفيف وانتحال لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية ( التوسل والوسيلة ) وهناك فصل ضخم عن الإيمان اقتطعه من كتاب الأستاذ عبد المنعم خلاف، ولم يشر إلى ذلك مطلقا ، وله نصوص شعرية حرف فيه الكثير، وله نقولات كثيرة اقتطعها وحرف فيه الكثير.
وأما بالنسبة لمعرفته وإلمامة بالفلسفة، فيقول عنه ابن عقيل الظاهري :
( لقد قرأت كتب القصيمي بتمعن فلم أجد له فكراً متحرراً من بصمات أساطين الكفر والإلحاد، وهو لم يفهم حججهم ولم يحذق مناهجهم، وعبد الله أديب يفهم الفكر بإجمال، وليس فيلسوفا مستوعبا، وليس موهباً فطري التفكير ).
والخلاصة أن القصيمي في الفلسفة ليس مبدع ولا مستقل بل هو عالة يقتات على ما يفهمه من كلام فلاسفة الغرب .
(3) القصيمي ليس فيلسوف بل مسفسط (مغالط ) !
فهو لا يصدر في نقاشاته عن منهج منطقي له أصول معلومة وناضجة، متناقض بشكل ظاهر وكبير، وأفكاره غير واضحة وغير مرتبه، فتارة شيوعي مادي وتارة إباحي غربي ومرة صهيوني عميل ومرة ومرة ومرة، يغالط ويجيد فن الهروب من المسمسكات التي يفحم عندها، يستغل الأسلوب الأدبي في تمويه رأيه على طريقة الرمزية، كلامه هو عبارة عن دعاوى عريضة بلا برهان ولا دليل، يجرد المقولات من مذاهبها، ويفسر الألفاظ على هواه ليضلل عوام وانصاف المثقفين، القصيمي يستغل الوضع الراهن من ضعف وذلت العرب والمسلمون ليبرر الإنحلال من الإسلام والخروج و الإنعتاق من الأديان .
( أمثلة من النصوص التي كتبها عبد الله القصيمي)
(أ) نصوص كتبها قبل إلحاده :
- يقول القصيمي في كتابه ( الصراع ) تحت عنوان ( الشعاع الهابط ):(32/25)
( في سنة (؟) ميلادية فصلت الأرض من السماء فصلا تاماً وغلقت جميع أبواب السماء دون الأرض وأهلها ، وفزعت الأملاك إلى أقطار السماء وانقطع ذلك المدد الروحي الذي تعان به الأرض وأهلها على اجتياز ظلمات المادة وفسق المادة وكثافات المادة سيراً الى عالم الأرواح ومستقر الروحانيين ...
وفي ذات ليلة من عام 610م بينما كان الكون ساكناً صامتاً والاشياء راكدة مصغية متوجسة تتوقع حدوث أمر عظيم ، انغتحت فرجة من السماء تعلقت بها الأبصار انبعث منها شعاع قوي وهاج فهبط على غار يقيم هنالك في جانب من جوانب قرية تقع هنالك في جانب خامل مهجور من جوانب أركان الأرض الخاملة المهجورة ، يقيم في ذلك الغار رجل لا كالرجال يحمل نفسا لا كالأنفس وقبلا لا كالقلوب ... فكان الشعاع الهابط هو الاسلام ، وكان الغار هو حراء ، وكان هذا الرجل هو منقذ الانسانية الأكبر من كبوتها محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم )
- ويقول في كتابه (مشكلات الأحاديث النبوية ) :
( اللهم إنا نسألك الإيمان والطمأنينة ، ونعوذ بك اللهم من الشك والحيرة ، ونهدى لك أتم الحمد والثناء ....فهذا بيان لأحاديث صحيحة اشكلت على كبار العلماء ، فعجل فريق فكذبها وردها وتحامل عليها .. فجرأ العامة وأشباه العامة على ان يكذبوا كل مالم يحيطوا بعلمه ... فزاد كلامه أهل الشك شكاً وريبة ، وضل فريق في الشك والحيرة ، فرغب عن الدين وأوغل في الشهوات والملذات ، ونحن نسأل الله السلامة من ذلك كله ، كما نسأله لنا الرشاد والهداية فيما فعلنا وفيما سوف نفعل )
- ويقول في كتابه (البروق النجدية ) :
(اعلم ألهمني الله واياك الرشاد وجنبنا طريق الغي والفساد . إن العلم أفضل طلبة ، واعظم رغبة ... ونحن في زمان هرم خيره شباب شره نائم رشاده صاح فساده ... فهذه المجلات الشهرية والاسبوعية والجرائد اليومية مفعمة بالالحاد والفجور من الطعن على الله ورسوله ودينه وأفعاله ، والى الدعوة الى حانات الخمر وبيوت الرقص والعزف والربا والقمار، كأنهم في بلد لا يوجد به مسلم ولا كتاب إلهي ولا من يقر بالصانع !! ولا الجامع الازهر ... حنى عم المصاب وعظمت البلية ).
- ويقول في كتابه ( الثورة الوهابية ) ما ينم عن قناعة داخلية بأصالة الأخلاق والفضيلة وإن تنكر لها بعد الإلحاد:
( فحذار أيها العربي هذه الآفات وما يمس الأخلاق أو المعنويات الطيبة ، فما كالأخلاق مفقود ، ولقد علم الناس أن الأمم الظالمة المعتدية لا تقدم على غزو الأمم الضعيفة بالعدوان المسلح حتى تغزو أخلاقها ومعنوياتها فتنهكها وتضعفها وترميها بالفشل ، ثم تغزوها بالحديد والنار ، فلا تجد حينذاك مقاومة ولا دفاع ، أعني أنها تعمد إلى قوة الأمة المعنوية فتحطمها وتشذبها من أطرافها ، تارة بإفساد عقائدها بالشكوك والريب ، وتارة بإفساد أخلاقها بجلب الفجور وعرض الفجور )
ويقول أيضا :
( وربما قال البعض : إن الرد على الملحدين لا يجدي شيئاً ، لأن من دخل حظيرة الالحاد فهيهات أن يغادرها ، وهو احتجاج ضعيف مهين ، فان من ذاق حلاوة عقيدة التوحيد ولباب الاخلاص فهيهات أن يعافها ، فلم أسمع أن رجلاً دخل مذهب الموحدين وتطهر قبله من ارجاس الشرك فخرج منه ونكص عقبه ).
(ب) نصوص ما بعد إلحاده :
يقول : ( طبيعة المتدين غالياً طبيعة فاترة فاقدة للحرارة المولدة للحركة المولدة للأبداع ، ومن ثم فانك غير واجد أعجز ولا أوهى من الذين يربطون مصيرهم بالجمعيات الدينية ).
ويقول :( وقد اتصف أولئك - أي الغربيون - الذين جاؤا بالمخترعات التي نحيا بها هذه الحياة على حسابها بمعين من هذا الإيمان بالطبيعة ! ... وإن أولئك - المتدينين - يريدون كل شيء من السماء )
ويقول: ( ان المسلمين تعلموا كيف يبغضون العلوم ، والكافرين تعلموا كيف يغزون الجهل )
ويقول :( انه من الخير والصواب ألا يميز بين الرجال والنساء في الزي ولا في العمل )
ويقول :( من ذلك عملية الخصاء ولعل إلزام المرأة البيت لا يقل جهالة عن هذه العملية )
يقول القصيمي على غلاف كتابه هذا الكون ما ضميره :
( أنت نبي أو كاتب أو معلم أو داعية أو أديب أو شاعر أو مفكر لو وجد أو خطيب أو محاور أو متكلم عربي ... إذن أحذر هذه الآثام أو الجرائم )
ويقول في غلاف كتابه الوجه الآخر :
( إن الإنسان المثل الذي يجب أن يكون هو زنديق العقل قديس النفس والأخلاق ، هو العاصي المتمرد المحارب بتفكيره )
ويقول تحت هذا العنوان ( في غار حراء لم أجد الإله ولا الملاك ) :
( ذهبت إلى الغار .. غار حراء .. غار محمد وإلهه وملاكه .. إلى الغار العابس اليابس البائس اليائس ، ذهبت إليه استجابة للأوامر .
دخلت الغار ، دخلته .. صدمت .. ذهلت .. فجعت .. خجلت ، خجلت من نفسي وقومي وديني وتاريخي وإلهي ونبيي ومن قراءاتي ومحفوظاتي ..!
أهذ هو الغار.. غار حراء .. هو الذي لجأ واختبأ فيه الإله كل التاريخ !
ذهبت إليه إلى الغار غار القرآن المغلق والهادم لكل غار قبله ولكل غار بعده لأنه يجب أن يكون هو كل غار وآخر غار والغائر والغيور من كل غار ..!(32/26)
ذهبت إلى الغار الذي ولد وورث وعلم ولقن وألف وحرض وخلد أقسى أقوى أغبى واجهل وأدوم إلهيات ونبوات وديانات ووقاحات ووحشيات !
نعم ذهبت إلى الغار في طوفان من الانفعالات التي لا يستطيع تحديدها أو ضبطها ... جاء إلي ملاك الوحي .. جاء إلي بوجه وطلعة وملامح وتعبيرات وحركات وكلمات واعترافات لا بد أن توقظ وتحرك وتهز وتخيف وتفجع بلادة وخمول ونوم وموت وصمم وأمن الإله !
هكذا كان ملاك الوحي ومن معه يتكلمون .. تحت حوافز الصدق والتقوى وبنياتهما - أن يفعلوا ذلك تائبين ونادمين لا أن يفعلوه كما يفعله الإله حين يعلن ويعترف بكل السذاجة أو البلاهة أو الوقاحة أو السفاهة أو بالتفسير الذي لا تفسير له انه المريد المخطط الفاعل لكل شيء !
كم هو فظيع أنها لم توجد منظمات ومحاكم عالمية بل كونية يتألف قضاتها وشهودها من كل الشموس والنجوم .. لكي تحاكم توراة الإنسان وإنجيله وقرآنه على قسوته وفحشه ووقاحته وبلادته !
لقد مات هذا الغار ... لقد مات بأسلوب الانتحار لأنه أوحى إلى الإنسان العربي .. إلى النبي العربي ما أوحى .. ماذا أوحى إليه ؟
هل تستطيع كل الحسابات والإحصاءات أن تحصي أو تحسب الخسران الذي أصاب الحياة والإنسان من هذا الوحي والإيحاء ؟
هل أساء أي إله إلى نفسه مثل إساءته إليها بإيحائه ومخاطبته ومحاورته للإنسان العربي !
آه يا غار حراء ... هل وجد أو يمكن أن يوجد فاضح لآلهتك وأنبيائك وأبنائك أو فاضح لك بآلهتك وأنبيائك وأبنائك مثل إسرائيل ؟
اسمع يا إلهي ... اسمع بآذان غير آذانك التي جربناها وعرفناها ... ! لقد كان من صنع لك يا إلهي أذنيك اعظم فنان أي جعله لهما بلا وظيفة بل ضد الوظيفة المفروضة فيهما !
إني يا إلهي سأسأل هذا السؤال حتى دون أن تأذن أو تغفر بل حتى لو كان محتوما أن تقاسي من الغضب والحيرة والعجز والافتضاح !
لقد جئت يا إلهي في حجم ترفض كل الأحجام أن تكونه أو تكون شيئا منه أي في حجمه المادي أو المعنوي إنك يا إلهي بلا أي حجم .. إلخ ).
ويقول القصيمي تحت عنوان ( لماذا يسارع المتخلفون إلى الدخول في الإسلام ؟)
يقول :
( أعلن النبي محمد أنه آخر الأنبياء وانه بمجيئه قد اغلق أبواب السماء لئلا تتصل بالأرض أو تتحدث إليها بالأسلوب الذي تحدثت به إلى الأنبياء بعد أن قرأ ورأى وعرف ضخامة وفظاعة عدوان السماء على الأرض وتشويهها لها بإرسال من تسميهم بالأنبياء إليها .. بعد أن عرف قبح عدوان الأنبياء على الأرض لمعرفته بقبح عدوانه هو عليها .
فالنبي محمد يعني إعلان خطيئة مجيء الأنبياء والنبوات وأعلان التوبة الصادقة الحاسمة من ذلك مع كل الاعتذار إلى الحياة التي ما أقسى أطول ما تعذبت وتشوهت وقبحت وتقبحت وجهلت ورذلت ونذلت وهانت وحقدت أبغضت بمجيئهم ومجيئها أي بمجيء الأنبياء والنبوات !
لو كان الإله يعاقب الوثن على قدر كونه وثنا لما وجد أو عرف عقابا يكفي لمعاقبة النبي العربي ولمعاقبة النبوة العربية !
هل يمكن تصديق بأن وثنية التوحيد هي اضخم الوثنيات وبان جميع الوثنيات لا تستطيع أن تنافس الوثنية التي جاء بها نبي التوحيد محمد معلما ومنفذا لها ؟
هل وجد واصف هجا نفسه وموصوفه مثلما فعل محمد في وصفه لإلهه ؟
كيف وصف النبي العربي محمد للإله .. لمكره وخداعه وكيده ولحبه وبغضه ورضاه وغضبه ولسروره وكآبته وعداوته وشهواته وممارساته … انه لم يوجد ولن يوجد هاج مثل النبي محمد في هجوه للإله !
ولو وجد من يحتاج إلى مزيد من الاقتناع بذلك لوجب أن يقرأ كتاب العرب " القرآن " لتغرق اقتناعا بأن محمد النبي في مديحه للإله ليس إلا شاعرا عربيا يمدح سلطانه ، بل لكي تغرق اقتناعا بأن القرآن هو اشهر وأضخم وأقسى وافدح وافضح كتاب امتداح وهجاء وافتخار وادعاء وبأنه قد كان وسوف يظل بلا منافس في فضحه وافتضاحه.القرآن اقبح وافظع واوقح وانذل الأساليب والصيغ ... إلخ ).
واكتفي هنا بسرد عناوين بعض الفصول في كتابه هذا ..
- نحن خير أمة أخرجت للناس ولكن لماذا ؟
- لماذا لا نجد مسيحا ولا سقراطيا عربيا ؟
- السماء تستورد الإلهة .
- ارفض أن يجيء القرآن .
- احتلال الإله لعقولنا افدح أنواع الاحتلال .
- ارحموا الإله ... إلخ
هذه بعض النصوص التي ضمنها القصيمي كتابه ( هذا الكون ما ضميره ؟)
وهكذا يمضي القصيمي في جنونه وعتهه وفي سعاره الذي لا ينتهي، ولو خشيت أن أجلب الغثيان للقارئ لزدته من ذلك التقيؤ الشيء الكثير، وأعتذر إليكم جميعا في هذا النقل المقزز والمقذع، ولكن لكي تكون هذه حجة على من يدافع عن عبد الله القصيمي ويبررله !
( وقفه مع نقاد عبد الله القصيمي )
هذه وقفات مع بعض النقد الذي وجه إلى عبد الله القصيمي من أقطاب الفكر الماركسي والقومي والحداثي وغيرهم، حيث شهدوا بأن القصيمي عنده أزمة نفسية، ولذا فهو يمدر كل شيء لأنه أصلا مدمر روحياً ونفسياً، مدمر من كل ناحية !
(1) يقول حسين مروة ( اشتراكي قومي ) :(32/27)
(يبدو لي أن أول ما ينبغي إيضاحه منذ الآن ، هو أنه لم يكن عسيرا علي ، وليس عسيرا على أي قارئ غيري ، اكتشاف كون المؤلف " عبد الله القصيمي " خاضعا في معظم أفكاره وتأملاته وخواطره إلى عدد من الضغوط النفسية والفكرية العنيفة ، التي يصح أن نجعلها كلها في حالة أو وحدة تؤلف ما نسميه بالأزمة ، إذا لم نسمها عقدة ).
(2) ويقول أدونيس ( شيخ الحداثيين ) :
( عبد الله القصيمي لا تستطيع أن تمسك به ، فهو صراخ يقول كل شيء ولا يقول شيئا ، يخاطب الجميع ولا يخاطب أحدا ، إنه الوجه والقفا ).
(3) ويتحدث مخائيل نعيمة عن كتاب القصيمي ( العالم ليس عقلا ) فيقول :
( إنه كتاب هدم ونفي من الطراز الأول - هدم الآلهة والأخلاق والفضائل والثورات والمثل العليا والغايات الشريفة ، ولاعجب فأنت في أول فصل تنفي أن يكون لوجود الإنسان أي معنى ، والذي لا يعرف لوجود الإنسان ولعبقريته أي معنى كيف يكون لكلامه أي معنى ؟
إن قلمك ليقطر ألما ومرارة واشمئزازا وحقدا على خنوع الجماهير لا العباقرة ، ولو كان لمثل حقدك أن تصنع قنبلة لكانت أشد هولا من قنبلة هيروشيما ).
( شهادة القصيمي .... على نفسه بالمرض النفسي !! )
وهذه نصوص ننقلها لكم من كتاب القصيمي ( العالم ليس عقلا ) تبين مدى انهياره النفسي والعاطفي وما أصابه من عقد وأزمات، تخفي وراء الألفاظ الجميلة الأدبية ما تخفيه من ألم الحرمان، وصراع ومرض النفسي!
يقول القصيمي تحت عنوان ( قصيدة بلا عروض ) :
( إن كل دموع البشر تنصب في عيوني، وأحزانهم تتجمع في قلبي، وآلامهم تأكل أعضائي .. ليس لأني قديس، بل لأني مصاب بمرض الحساسية ) !!!
ويقول :
( دعوني أبكي فما أكثر الضاحكين في مواقف البكاء ، دعوني أحزن فما أكثر المبتهجين أمام مواكب الأحزان ، دعوني أنقد فما أكثر المعجبين بكل التوافه ، دعوني احتج على نفسي )
ويقول وهو يقصد نفسه :
( لا تسيئوا فهمه لا تنكروا عليه أن ينقد أو يتهم أو يعارض أو يتمرد أو يبالغ أو يقسو ... إنه ليس شريرا ولا عنيفا ولا عدوا ولا ملحدا ، ولكنه متألم حزين ، يبذل الحزن والألم بلا تدبير ولا تخطيط ، كما تبذل الزهرة أريجها أو الشمعة نورها ! لقد تناهى في حزنه وضعفه حتى بدا عنيفا ... ليس نقده إلا رثاء للعالم ورثاء لنفسه ، بل ليس نقده إلا تمزقا ذاتيا ).
( ما هو موقف الناس من القصيمي ؟ )
يقف الناس بالأمس واليوم من عبد الله القصيمي وقفات مختلفة ... يمكن أن نوجزها فيما يلي كما يقول ( بعض الباحثين ) :
(1) أناس استنكروا واشمأزوا وقرفوا من القصيمي وآثاره ، وحجتهم أنه رجل ارتد إلي الإلحاد بعد الإيمان بالله ، وبعد الاندفاع في تعظيم القيم الروحية . وأنه بلغ حدا بعيدا في التطاول على المعتقدات الدينية والروحية والتراث الأخلاقي ، وراح يدعو جهرة إلى الإلحاد والهدم ، بروح ملؤها النقمة على كل شيء !
(2) وأناس آخرون قرأوا ما كتبه القصيمي بكثير من السخرية ، واتهموه أنه مجنون ، أو أنه مصاب بمرض نفساني ، وحجتهم أن ما يكتبه كله متناقض ، كل سطر ينقض الذي قبله ، وهذا فريق استمسك بأحكام المنطق والعقل .
(3) وفريق ثالث قرأوا ما كتبه القصيمي بإعجاب لأنه أتى بما لم يأت به أحد قبله - على حد تعبيرهم .
وهذا فريق من الشباب الناشئ الذي لم يؤت ثقافة واسعة يستطيع أن يرد الأمور بها إلى نصابها ..!
ويمكن أن نبين هذا التقسيم أكثر كالتالي :
(أ) فئة يمثلها العلماء والمشايخ وكبار المفكرين الإسلاميين ، وهذه الفئة لما نظرت في فكر القصيمي وتطاوله على الذات الإلهية ، وطعنه في صلى الله عليه وسلم ، وطعنه في الدين ، حكمت بضلاله وكفره وارتداده بما قام لديها من براهين وأدلة من مقاله وكتابته تدل على انسلاخه من الدين ، وانعتاقه من ربقة الإيمان .
وهذه الفئة لم تعول كثيرا على الطرح الأدبي أو الجانب العقلي التحليلي النقدي بل ركزت على صلب الموضوع أساس الحكم ، وهو عقيدة الرجل في الله والرسالة والدين ، فوجدته ينقض كل ذلك بكلام واضح جلي لا يمكن تأويله أو حمله على وجه حسن .
(ب) فئة يمثلها جهابذة النقد الأدبي والعقلي والمنطقي ، من تيارات مختلفة ومتباينة ( كالشيوعية ، والاشتراكية ، والليبرالية ، والحداثية ) وهؤلاء نظروا لإنتاج القصيمي من ناحية حكم العقل والمنطق ، ووصلوا إلى أن فكر الرجل سطحي ومبعثر ومتناقض ومضطرب ، ولا يعد فكرا أكثر من أن يعد أوهام نفسية ، واضطرابات عقلية .
(ج) فئة يمثلها الشباب المندفع في أحضان الفلسفات الغربية، والمعجب بالثورة على كل شيء، كما يمثلها أصحاب المراهقة الفكرية، أو العبثية، وهذه الفئة تنظر إلى القصيمي كمثال التحرر والثورة والانطلاق .
( القصيمي وإعادة نشر رفات الأموات ! )
بدأت ألاحظ هذه الأيام اهتمام متزايد بشخصية عبد الله القصيمي !
ليس اهتماما علميا، ينقد فكر الرجل وانتاجه، كلا ... بل هو اهتمام دعائي إعلامي ، يروج لفكر عبد الله القصيمي، ولشخصيته؛ غاضا النظر عن حقيقة الرجل وخطورته وتهافت أطروحته !(32/28)
وهكذا بلينا في عالمنا الإسلامي - وللأسف - بثلة من الصحفيين ليس لهم هم إلا إخراج فرقعات وفقاعات إعلامية ليس لها هدف إلا الإثارة، دون النظر إلى حقيقة المثار هل هو من ثوابت الأمة وعقيدتها أم هو من الاجتهادات الفرعية .
وكم هو صادق من قال: إن في كل مجتمع ثمة طالب للشهرة ، البعض يريدها من أسهل وأقصر طريق ، ومن ثم فهو يتحدث عن الله أو كتابه أو سنة رسوله ، حديثا يعلم الكل عدم سلامته أو صدقه ، ومع ذلك نجد أن ذلك صار زادا يوميا ، هنا وهناك ، حتى صرنا ندور في حلقة مفرغة ، فالاستبداد يفضي إلى تخلف العقل، وتخلف العقل يؤدي إلى تخلف التربية ، وتخلف التربية يقود إلى نقد " التراث الديني " وهكذا نبقى كخنفسة في صوف ، ننتقل من المشاكل السياسية إلى المشاكل الثقافية والاجتماعية والتاريخية ، دون حسم لأي منها .
وهؤلاء " الأبطال " يخافون إلى حد " الموت " من الحاكم ، فلا يقولون في حقه كلمة ، لكنهم يظهرون عضلاتهم ضد الإسلام وضد الله تعالى وكتابه ورسوله، وأحيانا ضد الأمة وتاريخها وجميع ما أنجزت، لكننا لم نعرف لهم بطولات خارج ذلك .
ومن المقالات الحديثة التي طالعتنا بها الصحف العربية ، بخصوص عبد الله القصيمي، مقال كتبه أحدهم يقول فيه:
(إنه من المؤسف أن يتفجر في العالم العربي أديب بحجم القصيمي ولا نرى إلا نادرا من يكتب عنه ، أو يعمد من باب اللياقة إلى التذكير بأدبه وكتبه وأفكاره الفلسفية ، من المحزن أن يكون الجيل الجديد بعيدا كل البعد عن هذه المعرفة ).
أقول: عجيب والله !!! ومحزن حقا أن يحزن الكاتب - هداه الله - من أجل أن جيلنا هذا بعيد عن فكر عبد الله القصيمي، ألم يكن من الأجدر - لو كان منصفا - أن يقول: من المحزن أن يكون الجيل الجديد بعيدا كل البعد عن القرآن الكريم والسنة الشريفة ، قريبا جدا من القنوات المشفرة، والراقصة، والتجارية الإباحية ؟
نسأل الله لنا وله وللجميع الهداية والعافية ...
أخوكم/ صخرة الخلاص .
==============(32/29)
(32/30)
حوار موقع المسلم
مع الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل [1]
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
أجرى موقع المسلم حواراً مع فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز كامل، المحاضر السابق بجامعة الملك سعود، وعضو هيئة تحرير ومجلس إدارة مجلة البيان، حول عدة قضايا إسلامية وعربية.
دكتور عبد العزيز نرحب بكم أولاً في موقعكم موقع (المسلم)، ونود أن نستوضح منكم بعض القضايا الهامة..
أطلقتم صيحة تحذير قبل سنوات طويلة عبر كتابكم (قبل أن يهدم الأقصى) نبهتم فيه على الخطر الحقيقي الذي يهدد المسجد الأقصى، هل ترون أنه ليس هناك ما يحول الآن بين الكيان الصهيوني وبين هدم المسجد الأقصى؟
بحسب الأسباب المادية البحتة , فالأقصى بالفعل في خطر شديد , و موضوع هدم الأقصى بالنسبة لليهود عقيدة وليس مجرد مشروع هدم بناء لبناء مبنى آخر أو هدم مسجد لبناء معبد يهودي , الأمر بالنسبة لهم عقيدة ومرتبطة بمنظومة فكرية متشعبة يرتبط بعضها ببعض , بدء ا من السيطرة على أرض المسجد , وانتهاء بالسيطرة على العالم , مرورا بالاستيلاء على القدس كلها , وفلسطين كلها , وما يسمونه بأرض إسرائيل الكبرى كلها , وهذا ما فصلته في ذلك الكتاب الذي صدر منذ ما يزيد عن سبعة عشر عاما , والذي طبع مؤخرا باسم ( نذير ونفير) . لكن سؤالك عن عدم وجود ما يحول بين دولة اليهود وبين هذا المشروع الإجرامي التخريبي اليوم ، الجواب عنه أنه يحول بينهم وبين ذلك - بعد حفظ الله عز وجل - مواجهتهم لتحد وتهديد مساو في القوة ومضاد في الاتجاه , يكفي لردعهم , بمعنى أنه لو شعر اليهود أن كل يهودي في العالم وكل مصلحة يهودية في العالم مهددة بالفعل في حال إذا مُسّ المسجد الأقصى بسوء , فسوف يفكرون ألف مرة قبل المساس به , لكن هم إذا أمِنُوا جانب المسلمين وشعروا بأن الأمر يمكن أن يمر كغيره من البلايا التي نزلت على المسلمين دون أن يحركوا ساكناً خلال سنوات ما كان يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي , فإنهم لن يترددوا في افتعال أي أحداث تنتهي بهذه الكارثة , ينبغي على المسلمين أن يستشعروا هذا الأمر وأن يعرفوا ويوقنوا بأن اليهود الذين أُعدّ لمجيئهم إلى فلسطين منذ القرن التاسع عشر بحيث لم يكد القرن العشرون ينتصف حتى حققوا المشروع القديم وهو العودة إلى فلسطين, ثم خاضوا وخاض أعوانهم نيابة عنهم ست حروب على طريق إسرائيل الكبرى- وآخرها حرب العراق - هؤلاء لم يقيموا الدولة ولم يحتلوا القدس ولم يخضعوا العرب حولهم , إلا من أجل استكمال معالم الدولة الدينية اليهودية بالوصول إلى المسجد الأقصى لهدمه وبناء الهيكل الثالث مكانه , وهذا ما عبّر عنه العديد من زعمائهم عندما قالوا ( لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل ) و مثلما ذكرت في الكتب وفي المقالات المتعددة فإن الأقصى بالنسبة لهم قبلة ضائعة منذ أكثر من ألفي عام وهم مشتتون عن الوصول إليها طيلة هذه القرون الطويلة , فلا يمكن ولا يتصور أن يتنازلوا بسهولة عنها بعد أن وصلوا إليها إلا - كما ذكرت - إذا وجدوا صدا قوياً ًمن رجال أولي بأس شديد .
أزمة الرسوم البذيئة وردة الفعل عليها أثارت العديد من الملفات من بينها رد فعل المسلمين لو ما أقدم اليهود على هذا المخطط، واتجاه أوربا وأمريكا إلى التخلي عن حيادها لتمرير بعض المخططات الأخرى إلى غير ذلك كيف تقرؤون الأحداث من رؤيتكم ؟
مواقف النصارى فيما يتعلق بقضية المسجد الأقصى ليست محايدة أصلاً عن تتخلى عن حيادها عن حدوث أي جديد بالنسبة لتلك القضية , وفينبغي أن يعلم المسلمون أن هدم المسجد الأقصى وبناء ما يسمونه بالهيكل الثالث مكانه , إذا كان عقيدة يهودية كما أسلفت , فهو أيضاً عقيدة نصرانية , وبالذات عند النصارى البروتستانت الذين يدينون بغالبية مايدين به اليهود في النواحي الاعتقادية , ومن ضمن ذلك الاعتقاد بعودة منتظر في آخر الزمان, تكون عودة اليهود إلى فلسطين ممهدة لمجيئه والنصارى يعتقدون أن المنتظر هو عيسى ابن مريم نفسه , عليه السلام, أما اليهود فيعتقدون أنه نبي خاص بهم وهو آخر أنبيائهم . لهذا يتعاون اليهود والنصارى للتهيئة لمجيئه رغم اختلافهم في تعيين شخصه ,ومن أبرز أسباب مجئ ذلك المنتظر , إعادة بناء الهيكل ليكون مكاناً أو منبراً لدعوته عندما يعود ، حيث يفصل هو في ذلك الخلاف , ويلحق به من هم أولى به .(32/31)
فالشاهد في ذلك أن النصارى - و بالذات البروتستانت - يشاركون اليهود في هذه العقائد التي تهدف إلى اتخاذ القدس عاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية ,حتى يأتي زمان المسيح ويكون الهيكل قائماً مهيئا له في هذه العاصمة , وهذا يحل لنا إشكالا كبيرا في تفسير هذا التعاون غير المحدود بين اليهود والنصارى في كل مراحل الصراع مع العرب والمسلمين مع أن كل مصالحهم عندنا وليست عند اليهود . فبريطانيا التي انتعش فيها المذهب البروتستانتي هي بالذات التي حملت المشروع الصهيوني ورتبت له وخططت له ونفذته ومكنت اليهود من احتلال أرض فلسطين بعد أن احتلتها هي بنفسها لمدة 30سنة ,حتى إذا ما تهيأت هذه الأرض لليهود وتمكنوا فيها وأقاموا فيها الميليشيات العسكرية والمزارع والمصانع أذنت لهم بأن يعلنوا دولتهم , لتنسحب هي بجيوشها لكي يقيم اليهود دولتهم ويعلنوها مباشرة , ثم جاءت الولايات المتحدة الأمريكية بعدها لتستسلم هذه الراية , راية حمل اليهود , ولتكون بمثابة الحبل الثاني البشري الذي يُمد لهم كما قال الله عز وجل: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) (آل عمران: من الآية112)، فحبل الناس الأول كان هو حبل الإنجليز والآن هو حبل الأمريكان, نسأل الله عز وجل أن يقطع هذين الحبلين ليعود اليهود إلى ما كانوا عليه من ذلة.
هل تعتقد أن كثيراً من المفكرين والموجهين الإسلاميين قد فقدوا البوصلة في زمن العولمة والإعلام , بحيث باتوا في حيرة من الأولوية المطلوبة مع مستجدات الأحداث السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية.........؟
التعبير بفقد البوصلة , تعبير كبير, ولا نظن أن هذه الأمة الخيرية تفقد البوصلة أبدا ً, لأن الخير فيها _ كما أخبر صلى الله عليه وسلم _ إلى يوم القيامة , لكن بطبيعة الحال فالأمة تعيش في ظروف استثنائية منذ ما يزيد عن مائة عام , فمنذ أن مرضت الدولة العثمانية ثم سقطت والمسلمون يعيشون دون قيادة عالمية سياسية موحدة ولا قيادة شرعية عالمية موحدة ,أيضاً فبالتالي هذا أمر طبيعي أن تختلف الاجتهادات وتختلف التصورات في طريقة التعامل مع النوازل المتتابعة والمتكاثرة في هذا الظرف الاستثنائي الطويل , لكن مع ذلك نقول: إن الأمة لأنها أمة خير ، وخير أمة أُخرجت للناس ، قد أثبتت خيريتها من خلال قيامها بتوزيع أكثر فروض الكفاية التي كان ينبغي أن تقوم بها الدولة الإسلامية العالمية , قُسِّمت هذه الفروض الكفائية على فصائل العمل الإسلامي بمجموعها , فمنها ما يقوم بشأن العلم والتعليم والتربية الإسلامية , ومنها ما يقوم بالعمل الخيري و الإغاثي ,ومنها ما يقوم بالعمل الجهادي أو السياسي ,في ظل غياب أدوار الحكومات في أكثر بلدان العالم الإسلامي في خدمه الدين. وهذا سر بقاء هذه الأمة للآن , وإلا فإن فشدة ما يلاقيه أهل الإسلام من التحديات ومن العداوات المتعددة كان كافيا لأن يندثر الكثير من معالم هذه الأمة , لكننا نرى العكس يحدث , إذ إن معالم الدين تتجدد , والأمة تُقبل على العودة إلى الدين بخلاف ما كان يظن الأعداء , فالقول بأن الإسلاميين فقدوا البوصلة هذا , تعبير فيه - حقيقة ً- مبالغة , ونحن لا نريد أن نغمط الناس حقهم , ولا أن نجلد ذواتنا .
ربما كانت الأمة بحاجة إلى آليات جديدة للنهضة , لكن هل ترضون عن هذا الكم المتزايد من مواقع الإنترنت والبرامج الدعوية و اللجان والمؤتمرات المعقودة بكثرة , بمعنى آخر هل تخشون من تحول الوسيلة إلى غاية ؟
كل هذه البرامج أو المواقع أو المؤتمرات المعقودة أو الأنشطة الإسلامية بوجه عام , لا نستطيع أن نقول إن كثرتها غير مطلوبة فالكثرة مطلوبة لسبب وهو: أن واقع المسلمين فيه ما يستدعي بذل كل مستطاع من الجهود , لكن في النهاية التجربة تثبت أن النشاط الأقوى والنشاط الأصح والأكثر فائدة هو الذي يبقى , وهذه الكثرة الزائدة - إذا كانت زائدة بالفعل - فإنها تزول بطبيعة الأشياء (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) (الرعد: من الآية17) ، بالعكس الساحة الإسلامية تستوعب المزيد من الأنشطة وتستوعب المزيد من أوجه العمل الإسلامي في المجالات الدعوية والإعلامية والبحثية وغيرها , بل قد يقال في بعض الأحيان إننا لم نصل بعد إلى المستوى المطلوب من حيث الكم ولا الكيف , وقد يكون الكم طريقا لترسيب الكيف المنشود .
ما الذي يمكن لمراكز الدراسات الإسلامية أن تقدمه للأمة في ظل غياب دوائر لصنع القرارات الإسلامية التي تستمع إلى توصياتها, أم هل تعول تلك المراكز على صنع النخب فقط ؟(32/32)
لا نستطيع أن نسلم في البداية بأن هناك العديد من مراكز الدراسات الإسلامية بالمعنى الحقيقي ، فمراكز الدراسات الإسلامية هي بالفعل قليلة بل نادرة , إذا قيست بمستوى ما تحتاجه الأمة من دراسات جادة , فهذه مشكلة في حد ذاتها وهي ندرة وقلة بل ضعف هذه المراكز , ثم تأتي المشكلة الأخرى وهي أنه حتى في حال وجود مراكز إسلامية جادة تنشأ منها أبحاث مهمة بالفعل , تبرز مشكلة غياب أو انشغال الدوائر المعنية بالنظر فيها واتخاذ القرارات بشأنها في أحيان كثيرة ، وهذه مشكلة تؤرقنا نحن الكتاب والباحثين الإسلاميين , إذ كثيرا ما نتساءل: لمن نكتب ؟ ومن نخاطب ؟ إذا كان ما نكتبه وما نبحث فيه لا يجد من يناقشه , فضلا عن أن يتخذ بشأنه قرارا بالسلب وبالإيجاب , لا أ تحدث عن نفسي شخصيا , ولكن أتحدث عن العشرات من الباحثين والكتاب والمفكرين الجادين الذين قد يكتشفون أنهم يتحدثون الى بعض البسطاء المتعاطفين فقط , إنها أزمة حقيقية في الساحة الإسلامية , وقد طُرح نقاش منذ فترة قريبة في مثل هذه الموضوعات المتعلقة بأهمية إنشاء مراكز دراسات إسلامية , فكنت أقترح أن يكون من أولويات أنشطة أو فعاليات مثل هذه المراكز , أن تعكف على دراسات لتفعيل دور النخب في صناعة القرار , ووضع تصورات لكيفية إيجاد آلية لتفعيل القناعات الناشئة عن دراسات جادة , وإلا فهناك بالفعل أطروحات جادة , ولكنها تفتقد وتفتقر إلى من يقوم على متابعتها وتنفيذها , أو حتى مناقشتها بجدية , فنحن إذن أمام ثلاث أزمات في هذا الأمر:
الأولى: ندرة مراكز الدراسات الإسلامية الجادة والمنتجة ، هذا من ناحية.
الأمر الثاني: غياب- أوبالأحرى انشغال - الجهات المعنية بصنع القرار الإسلامي .
ثم يأتي الأمر الثالث: وهو أنه في حال وجود هذه الدوائر , فقلّما يتعامل بجدية واهتمام من قِبلها مع ماتنتهي إليه وتنادي به الدراسات الجادة التي تتوجه لعلاج الأزمات التي تواجه الأمة .
الولايات المتحدة كانت عازمة على المضي قدما في فتح ثغرة للعمل السياسي في المنطقة العربية , ومنه العمل السياسي الإسلامي , ثم تحركت جهات إسلامية بناء على ذلك لاستغلال تلك الثغرة , هل أصبح رد الفعل الإسلامي مرهونا نوعاً ما بما يصدر من واشنطن؟
الإسلاميون معذورون إذا حاولوا أن ينفذوا من أي ثغرة تُفتح إليهم , لأن أكثر الأبواب مؤصدة أمامهم , فإذا فُتحت بعض الأبواب تحت أي ظروف داخلية أو خارجية للوصول إلى عمل مشروع , فلا يُعاب على الإسلاميين أن يستغلوا هذه الفرص لأنها حقوقهم رُدّت إليهم , فالعمل السياسي الإسلامي أو العمل الدعوي أو الإعلامي عندما تُتاح الفرص له , لا يقال هنا إنه بات مرهوناً بما يصدر من واشنطن أو غيرها , فواشنطن وغيرها من عواصم الطغيان , ليست هي التي تهب الفرص للمسلمين أن يعملوا أو لا يعملوا بل الأصل أن تلك الجهات المعادية هي التي تغلق الأبواب أمام النشاط الإسلامي والعمل الإسلامي الجاد المشروع بكل أنواعه ، لكنها قد تفتح - كما ذُكر في السؤال - بعض الثغرات لأنواع من العمل السياسي أو غيره ، بطريقة محسوبة لا تخرج عن الخطوط الحمراء التي تضعها الولايات المتحدة الأمريكية أوغيرها من خلال النظر إلى مصالحها وإلى برامجها في المنطقة ، لذا نقول إن أي حق من حقوق المسلمين في النشاط سواء كان نشاطاً سياسياً أو إعلامياً أو دعوياً ينبغي استغلال فرصته كلما لاحت , لكن مع الحذر من أن يُستغل الإسلاميون ويكونوا جزء اً من برنامج خارجي أوبرنامج معادي لمصالح الأمة.
أجواء المراجعات التي تثار داخل التيار الإسلامي بين فترة وأخرى , هل ترى أن التيار السلفي بشقية العلمي والحركي بحاجة إلى مراجعة جذرية مماثلة الآن؟
أولاً كلمة تيار لا أحب التعبير بها, لأن أهل الإسلام جميعاً هم أمة وليسوا تيارا ً, وهذا من المصطلحات المغرضة التي أراد بها بعضهم أن يساوي بين أهل الإسلام وغيرهم , ممن ينطبق عليهم بالفعل وصف ( تيارات) فأي تيارات مخالفة للخط العام للأمة , هي بالفعل مجرد تيارات , هناك تيار علماني .. تيار ليبرالي.. تيار شيوعيي... أما أهل الإسلام , فلا يقال تيار إسلامي بل نحن أمة، الأمة الإسلامية هي الأصل والتيارات الأخرى هذه عارضة , لكن هناك داخل الصف الإسلامي والأمة الإسلامية توجهات وفصائل , تتفاوت قربا أوبعدا من المنهج الصحيح .(32/33)
أما التوجه السلفي الذي سألتَ عن ضرورة إجراء مراجعة جذرية بالنسبة له , فأقول إن المراجعات في الغالب تكون في المنهج الفكري والعقدي , والمناهج إذا كان فيها خلل واضح , يُطلب فيها بالفعل أن تراجع , لكن التوجه السلفي منهجه النظري على الأقل توجه لا ينبغي أن يقال إنه يحتاج إلى المراجعات أو التراجعات , لأنه المنهج المأخوذ عن السلف , وهو منهج منتهي من حيث تأصيله ومن حيث ثوابته , ومن ثم فإن من يدعو إلى مراجعة منهج السلف الذي يسير عليه التوجه السلفي ، دعوته نفسها تحتاج إلى مراجعة بل تراجع , لكن قد يوجد من يخطئ في الفهم أو التطبيق ، أما المنهج بذاته فهو لا يحتاج إلى مراجعة بل يحتاج إلى إخلاص و متابعة , لأنه منهج الفرقة الناجية , منهج أهل السنة والجماعة , فمن أخطأ في تطبيق هذا المنهج سواء من ناحية حركية أو من ناحية علمية أو تنفيذية , فهذا الذي يحتاج إلى مراجعات , وأيضا بعض أصحاب التوجه السلفي تحتاج طريقتهم في نشر المنهج وفي الدفاع عنه إلى تطوير, ولا نقول إلى مراجعات بالمعنى السائد لأن المراجعات استقرت - للأسف - , على أنها تراجعات وانتكاسات , مثلما حدث من بعض الجماعات في مصر , حيث أدانت نفسها وتاريخها وأدانت غيرها من الإسلاميين, وتبرعت بإحباط أعمالهم , ولم تزك إلا العلمانيين والمجرمين الذين لا يختلف في إجرامهم في حق الأمة وشريعتها وثوابتها الدينية , بل ومصالحها الدنيوية التي عادوا الدين وأهله من أجلها . التطوير مطلوب , وتعديل المسار في بعض نواحي الفهم والتطبيق مطلوب , لكن ما ليس مطلوبا أن نجعل المسلمين كالمجرمين , ثم نسمي ذلك مراجعات شجاعة .
إبان صدور مجلة المنار للشيخ رشيد رضا عليه - رحمة الله - كان للمقال الورقي تأثيره العظيم في نفوس النخبة الإسلامية , ومن ثم على الشعوب, لماذا ابتعد المقال المقروء وأيضاً المواد المرئية عن لعب الدور ذاته ؟
عندما صدرت مجلة المنار في وقتها كان الظرف مختلفا تماماً , فالمعروض من الفكر كان قليلا جداً , والأوقات كانت كثيرة جدا ً, ومساحة الفراغ المعرفي كانت أيضا واسعة جدا ً, لذلك كان طبيعياً أن تبرز هذه المجلة وتعطي هذا الدور البارز في وقته , والآن توجد مجلات كثيرة قد تكون أقوى وأنقى بكثير من مجلة المنار, لكنها ربما لم تأخذ ما أخذته المنار من منزلة , لا لضعفها أو لعزوف الناس عنها , ولكن لأن الكم المعروض الآن ضخم جداً , سواء في المادة ا لمقروءة أو المسموعة أو المرئية , إضافة إلى أن طبيعة العصر الآن وأوقات الفراغ عند الناس , ليسا كما كان الأمر أولاً, كما أن الفراغ المعرفي الذي كان موجوداً في بدايات القرن الماضي لم يعد الآن كما كان بعد الصحوة الإسلامية التي غطت جانباً كبيراً في النواحي العلمية وفي النواحي المتعلقة بالمفاهيم , فأصبح هناك ما يشبه حالة تشبع في بعض المجتمعات والبيئات , بمعنى أنه لم تعد هناك حاجة في نظر الكثيرين للإكثار من القراءة في الجوانب النظرية المفاهيمية , بقدر الحاجة إلى الجوانب العملية التطبيقية .
ألا ترون أن فكرة تجمعات علماء المسلمين هي فكرة ناجعة في التغيير أم أنها تسير ضد حقائق التاريخ ومعطياته ؟
فكرة تجمعات علماء المسلمين - كما وصفتها - هي أولاً ليست فكرة حتى نقول إنها تسير ضد حقائق التاريخ ومعطياته ، فتجمع علماء ودعاة المسلمين ليمثلوا في مجموعهم قيادة ومرجعية علمية للأمة , أو بالتعبير الأصح : يمثلون ولاية أمر علمية للأمة , هذا من الشرع , وليس مجرد فكرة ؛ لأن الله عز وجل قال : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: من الآية59)، وأكثر المفسرين على أن المقصود بأولي الأمر في الآية العلماء ، وبعضهم يقول العلماء والأمراء ، وإذا قلنا بالقول الثاني إن ولاة الأمر هم العلماء والأمراء أي الساسة وأهل العلم ، فإن ولاية الأمر السياسية أيضاً ترجع إلى ولاية الأمر العلمية , ولا تنضبط إلا بها ولا تأخذ مشروعيتها إلا منها ، إذن فولاية الأمر العلمية هذه إحدى الفرائض التي غُيِّبت والتي أُهمِلت, والتي تحتاج إلى إحياء على المستوى العالمي ، لا شك أن هناك في كل مجتمع وكل بلد مراجع علمية تخص هذه البيئة أو ذاك المجتمع , لكن أن يكون لأهل الإسلام جميعاً ولاية علمية يُرجَع إليها عند النوازل الكبرى وعند المسائل الشرعية والعقدية الدقيقة الحديثة أو القديمة , هذا الأمر ينبغي أن تتداعى إليه الجهود , وينظر في صيغة أكثر مناسبة لتفعيله . لأنه إحدى الفرائض الشرعية الغائبة.(32/34)
علاقة هذه الشرعة - ولا أقول الفكرة - في التغيير, علاقة مباشرة لأن المسلمين ذاقوا الكثير من المآسي ووقعوا في الكثير من المشكلات والأزمات بسبب عدم اجتماع الكلمة في القضايا الكبرى ,فكلمات أهل العلم في كثير من الأحيان تتفرق بحسب التوجهات الرسمية المحلية هنا وهناك ، وتتأثر المواقف بمؤثرات خارجية لا علاقة لها بالتأصيل العلمي ، لكن على كل حال في السنوات القليلة الماضية وُجدت بعض المحاولات لإيجاد مرجعية علمية أو ولاية أمر علمية , تحاول أن تأخذ صفة العالمية , لكنها في رأيي تمدح فقط من باب أنها فتحت الطريق, أو أنها مثّلت البداية القابلة للتطوير , و البدايات لها أحكامها دائما ً, ولا يُتصور أن تكون البداية مثالية في كل الأحوال , ولهذا فإن هذه البدايات , لا ترقى إلى المستوى المرجو والمأمول ، والسبب في ذلك هو ما أشرت إليه في إحدى المقالات في مجلة البيان وهي بعنوان (تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير ) حيث دعوت أو اقترحت إنشاء رابطة عالمية للدعاة , تكون نواة لإنشاء رابطة عالمية للعلماء , واشترطت فيها أو اشترطت لنجاحها - بحسب وجهة نظري واجتهادي -
أن تبتعد عن ثلاثة أمور:
تبتعد عن الرسمية .
وتبتعد عن الحزبية .
وتبتعد عن الإقليمية .
لكن : هل هناك فرص لنجاح مثل هذا المشروع في ظل حالة الفرقة الموجودة الآن ؟
أنا متأكد أن جهود التفريق التي تبذل , أضعاف أضعاف جهود التجميع , وفقه الوفاق شبه غائب , لأنه بينما للتفريق أشخاصه ورموزه وأقلامه ومنابره بل وجماعاته , فإن أشخاص ورموز وأقلام ومنابر التوفيق وجمع الكلمة أقل عددا وأضعف نشاطاوحماسا , إضافة إلي أن آفة الحزبيات والرسميات والإقليميات ,تنخر في معظم الجهود المبذولة في مشروعات التجميع , وعلى كل حال ,إذا أراد أي مشروع من هذا القبيل أن ينجح ، فينبغي أن يكون طويل النفس ومتجردا , و ينبغي ألا يرتبط بتوجه حزبي معين , ولا يرتبط بتوجه رسمي معين ، ولا يرتبط باتجاه إقليمي محدد ؛ لأن التوجه الحزبي في النهاية لمثل هذه التجمعات سوف يؤثر عليها ويحجمها , وسوف يفقدها صلاحياتها واحترامها الكامل عند غيرها من أصحاب التوجهات المختلفة , فالتوجه الواحد سوف يمثل مرجعية لمن يليه فقط, أما الباقون فقد لا يقبلون أن يمثلهم علمياً ومنهجياً أناس من اتجاه آخر , مهما كانت ادعاء ات هذا التوجه بأنه يمثل الجميع أو يمثل المنهج الوسط الذي ينبغي أن ينزل على رأيه الجميع .(32/35)
و التقيد الرسمي ينطبق عليه هذا القول أيضاً , وكذلك الإقليمي , فالتجمعات العلمية أو حتى الدعوية إذا كانت محصورة في قوالب رسمية أو حزبية أو إقليمية , فإنها تخدم في داخل قالبها المحدود فقط , لكننا نطمح إلى تجمع علمي دعوي عالمي يمثل مجموع المسلمين وفصائل الإسلاميين في العالم الإسلامي , وفي مقدمتهم العلماء والدعاة الممثلين لمنهج أهل السنة والجماعة ,فهؤلاء أولى من الرافضة وغيرهم من المبتدعة في تمثيل وتوجيه وقيادة الأمة علميا و عمليا , ودعني أقول لك: إن أعداء الأمة أنفسهم أصبحوا يوقنون أن أصحاب التوجه الممثل لأهل السنة والجماعة , يتحولون بانتظام إلى تمثيل الطليعة في الأمة , وقد خبر هؤلاء ذلك في أصقاع مختلفة من العالم الإسلامي ,وآخرها العراق , حتى أصبح هناك ما يشبه الترادف بين الإسلام وأهل السنة عندهم وبخاصة أصحاب التوجه السلفي , ولذلك تلاحظ أن جل الحرب العالمية على ما يسمى بالإرهاب في جانبها التعليمي والإعلامي والخيري , هي موجهة إلى المنهج السلفي وحملته قبل غيرهم , حتى إنه ليستعان عليهم بالمنحرفين في الأمة من علمانيين ورافضة وصوفية وغيرهم . ومع ذلك فإنني لاأقصد إلى تزكية أشخاص ولا جماعات بعينها على غيرها , ولكن أقصد تزكية منهج وتزكية معتقد أوقن ويوقن الجميع بمن فيهم الأعداء , أنه يمثل الإسلام الصحيح , وهو معتقد أهل السنة والجماعة الذي يحمله أصحاب التوجه السلفي ويدعون الأمة كلها للالتزمة به , و مع ذلك أيضا فإنني لا أميل إلى الاستمرار في استعمال وصف (السلفيين) لمن يحملون هذا المنهج ويدافعون عنه , بل أفضل الاقتصار على وصف أهل السنة والجماعة وحسب , لأسباب متعددة , منها : أنه الوصف الشرعي المستخدم عند السلف أنفسهم , والموافق لألفاظ النصوص الشرعية التي تصف الفرقة الناجية , ومنها : أن وصف ( السلفية ) حاولت بعض الشرائح احتكاره بلا حق ولا موجب , وحاولت تحت مسماه أن تشق الصفوف وتفرق الكلمة وتتعالى على الآخرين , ومنها : أن وصف (أهل السنة والجماعة ) هو الأكثر قبولا للانضباط العلمي والمنهجي , لأن أصول أهل السنة مستقرة , ولا يسهل إدخال ما ليس منها فيها ولا يسهل انتحالها من غيرأهلها , ومنها : أن انتعاش فرق الضلال في عصرنا , وانبعاثها بأصولها وأسمائها , يستدعي وضوحا في التفريق بين فرق الضلال بمجموعها والفرقة الناجية التي استقرت بأصولها واسمها , ومنها : أن أهل السنة أنفسهم شرائح وفصائل متنوعة , فمنهم العلماء وطلاب العلم , ومنهم العامة والبسطاء , ومنهم الطائعون والعصاة , ولايمكن اختزال هؤلاء جميعا في شريحة واحدة , وقطاع واحد وهو القطاع المعني بالعلم الشرعي , مع جمهوره من محبي العلم الشرعي , وهم ليسوا من أهله في الغالب ولا من طلابه بالمعنى الصحيح , وأخيرا , فإن وصف أهل السنة والجماعة هو الوعاء الأوسع والأرحب , الذي يستوعب ضم شرائح الإسلاميين جميعا تحت مسماه , وهو ما يعين على تحقيق فريضة الاعتصام بحبل الله التي يتشوق الصادقون ويتشوفون إلى بذل المستطاع في أدائها أو الوصول الى تطبيقها . باختصار فإن مشروع تجمع أو رابطة الدعاة والعلماء , ليس مجرد فكرة - في فهمي - بل هي شرعة , واجبة التنفيذ لتحقيق الاعتصام وتوحيد الكلمة على كلمة التوحيد , والأحداث تثبت أن المسلمين في حاجة إلى هذا الأمر لأن التحديات تتوالى والنوازل تكثر , وكل هذه الأمور تحتاج إلى التقريب بين المسلمين على كلمة سواء من كتاب ومن سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم , دون حزبيات ولا رسميات ولا عنصريات محلية أو إقليمية .
---------------------------
[1] نقله لصيد الفوائد محمد جلال القصاص
=============(32/36)
(32/37)
كيف نخاطب الجماهير .. ؟
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
درج عدد كبير من رموز الصحوة الإسلامية على مخاطبة الجماهير من خلال المنابر المختلفة ، ووجد كثير منهم - ولله الحمد - إقبالاً واسعاً ، والتفَّت الجموع بين أيديهم ، وهذه نعمة عظيمة يفتقدها كثير من رموز الفكر والأدب والثقافة الآخرين . ولهذا أحسب أنَّه من الواجب على الإسلاميين إعادة النظر في طروحاتهم وطريقتهم في الخطاب وتقويمها ، لتحصيل أعلى المصالح ودرء المفاسد قدر الإمكان ، والاستفادة من التجربة الماضية . وهاهنا أمور أرى أنه ينبغي مراعاتها في هذا الأسلوب أضعها بين أيديكم للحوار وتبادل الرأي حولها :
أولاً : الإيمان بالهدف :
مرَّ على الناس في العصور التاريخية المختلفة عدد من المصلحين والمفكرين ودعاة التغيير ، سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم . وبتتبع سيرهم وأخبارهم نجد أن صلة الجماهير بهم تزداد وترسخ مع الوقت إذا اطمأنوا إلى صدقهم وجديتهم وإيمانهم العميق بأهدافهم التي ينادون بها ، واستعدادهم القوي على تحمل تبعات تلك المبادئ ، والتضحية من أجلها . وفي المقابل نجد أن الجماهير تنفضُّ وتتفلت من تلك الرموز إذا رأت فيها العجز والهوان ، أو أحست ضعف مصداقيتها وجديتها ، وقديماً قال الرافعي : ( رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار شجعاناً ، ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة ) [1] .
ثانياً : الحذر من الخيلاء وحب الرياسة :
محبة الناس للمصلح وتجمُّعهم بين يديه فتنة عظيمة قد تطغى على بعض النفوس الضعيفة ، وتُنبت فيها الخيلاء والاستكبار وحب الرياسة ، وتصرفها عن كثير من معالي الأمور . وكم من الرموز التي تساقطت ولفظتها الجماهير ، أو تناستها ، حينما غلبت عليها تلك الشهوة ، وقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :
( ما ذئبان جائعان أُرسِلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) [2] .
ولهذا قال ابن تيمية : ( كان شداد بن أوس يقول : يا بقايا العرب ، يا بقايا العرب ، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية . قال أبو داود صاحب السنن :
الشهوة الخفية : حب الرياسة . وذلك أن حب الرياسة هي أصل البغي والظلم ) [3] . وقال أيضاً : ( وكثيراً ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها لله وعبوديتها له ) [4] .
وملاحظة النفس ومراجعتها من أعظم أبواب المجاهدة التي ينبغي للمرء أن يأخذ بها ، والغفلة عن ذلك قد تؤدي إلى الزلل ، ومن تعلَّق قلبه بحبِّ الظهور صغرت نفسه ، وغلبت عليه الأهواء الشخصية وتردَّى في سلسلة من الانحرافات التي تزيد بزيادة تلك الآفة القلبية ، وما أحسن قول الرافعي : ( إذا أسندت الأمة مناصبها الكبيرة إلى صغار النفوس كبرت بها رذائلهم لا نفوسهم ) [5] .
ثالثاً : الحذر من الانسياق الأعمى خلف العامة :
حينما يتصدر المرء لمخاطبة الجماهير قد يقع - من حيث لا يشعر ! - في دائرتهم ، فيقودونه ويدفعونه لمحبوباتهم ، ويزداد تأثره بمشاعرهم الجياشة عند كثرة الهتاف والتصفيق ، وتأخذه النشوة بكثرة الحشود ؛ ومعلوم أن نسبة كبيرة من أولئك العامة لا ينظرون إلى أبعد من مواقع أقدامهم ، ولا يحيطون بكثير من التداخلات الفكرية والسياسية ، ولا يَزِنون ردود الأفعال بالموازين العلمية .
وأحسب أن التأثر بالجماهير نوعان :
الأول : التأثر الإيجابي :
وهو في غاية الأهمية ؛ لأنهم يشعرون بالتفاعل والاهتمام ، ويحسون بأهمية آرائهم ، وقيمتهم المعنوية ، كما يحسون بدورهم في البناء والتغيير ، ممَّا يزيدهم ارتباطاً بدعاة الإصلاح ، ويحفزهم إلى المزيد من التجاوب والتعاون .
الثاني : التأثر السلبي :
حيث ينساق المرء وراء عواطفهم ، ويقع في شراكهم ، ويصبح برنامجه الإصلاحي مرتبطاً برغباتهم ، وخطته العملية متأثرة بأهوائهم ، وتكون النتيجة أن الجماهير هي التي تقوده ، وهو يحسب أنه يقودهم .. ! !
رابعاً : الدقة في الخطاب :
الخطيب الذي يتصدر لمخاطبة الجماهير لا يسلم من الخطأ والزلل ، حاله كحال غيره من المتحدثين ، ( وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوْب ) [6] .
ولكن خطأ الخطيب يكون على رؤوس المنابر يسمعه الناس كبيرهم وصغيرهم ، وقد يطير خطؤه في الآفاق . وبعض أصحاب النفوس المريضة يكون همه أن يتصيد العثرات ، ويتسقَّط الزلات ، وتكون فاكهته التي يتندر بها ويفرح ، ولهذا قال عمر بن الخطاب : ( ما كانت على أحد نعمة إلا كان لها حاسد ، ولو كان الرجل أقوم من القدح لوجد له غامزاً ) [7] . ولمَّا قال رجل للحسن البصري : يا أبا سعيد ! إنَّ هاهنا قوماً يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك ! فقال الحسن : ( يا هذا ! إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت ، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت ، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع ، إني لمَّا رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم ) [8] .(32/38)
إنَّ على من يتصدر لمخاطبة الناس أن يعتني بما يصدر عنه اعتناءاً شديداً ، وينتقي عباراته انتقاءاً دقيقاً ، ويحرص حرصاً كبيراً على أن يخرج كلامه بدقة وإتقان ، حتى ينفع سامعيه ويسد - قدر الطاقة - منافذ الهوى عند بعض الناس ، ومع ذلك كله لن يسلم أحد من الخطأ مهما بلغ حرصه ، ويعجبني المتحدث الذي يملك الجرأة والشجاعة على مراجعة أقواله ، ويوضح ما استشكله الناس عليه ، ويعترف بخطئه إن كان ثمة خطأ .
خامساً : الحذر من التعلق بالأشخاص :
من الآفات المزمنة التي تظهر عند كثير من الجماهير ؛ سواء أكان ذلك على المستوى الفكري أم الدعوي أم الاجتماعي أم الفقهي ... ونحوها : التعلق بالرموز والانكفاء عليها ، والشعور بأن هؤلاء وحدهم القادرون على إحياء الأمة والنهوض بها من كبوتها ، فإذا عجز هؤلاء أو حبسهم العذر أصيب الناس بالإحباط ، وثارت في كوامنهم دواعي العجز والحيرة ، ويؤدي التعلق بالأشخاص أحياناً إلى ازدراء مصلحين آخرين ربما لا يقلون عن غيرهم أصالة وفهماً وقدرة ، وقد يؤدي هذا التعلق إلى طمر الإمكانات الكامنة في بقية الأفراد ، أو عدم استغلال الفرص السانحة لهم .
وقد يُرسِّخ هذا المفهوم بعض هؤلاء الرموز ، ويدفع الناس إلى تقليده وتعظيمه ، بلسان المقال حيناً ، وبلسان الحال أحياناً أخرى . والتقليد قاصمة من القواصم التي تقتل كل ملكات الإبداع والتفكير ، وتحول الجماهير إلى مجرَّد قطعان هائمة يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال ، وهي تستجيب له بكل دعة وخنوع . والنجاح الحقيقي للمصلحين ليس بالقدرة على أن يصرفوا وجوه الناس إليهم فحسب ، بل بالقدرة على إحيائهم واستنبات البصيرة في عقولهم ؛ فمن تبعهم تبعهم بحجة وبرهان ، ولذا فإن الواجب على هؤلاء المصلحين أن يرسخوا ضرورة ارتباط الناس بالمنهج الصحيح وليس بذواتهم .
سادساً : وضوح الرؤية :
تتم مخاطبة الجماهير عند بعض المصلحين بطريقة تلقائية رتيبة ؛ حيث لا توجد لديهم رؤية واضحة ، ولا يدرون خلالها ما الأهداف ذات المدى البعيد التي يريدون الوصول إليها ؛ وقد ترى أن كثيراً من طروحاتهم الفكرية والدعوية مبنية على خواطر مشتتة تطرأ على أذهانهم من هنا أو هناك ، بل تلمس أحياناً أن بعضهم لا يعطي لنفسه فرصة التفكير في برنامجه العملي ، ولهذا تراه يجتر كثيراً من أقواله وأقوال غيره بدون بصيرة !
إن وضوح الأهداف يعين كثيراً في الاعتبار بالماضي واستبصار الحاضر واستشراف المستقبل ، ويدفع المرء إلى رسم أطر واضحة يعرف فيها بدقة : ما الموضوعات التي سوف يتحدث عنها ؟ ! وما القواعد التي يريد بناءها ؟ ! وما الأمراض الفكرية والمنهجية التي يقصد معالجتها ؟ ! وما أنسب السبل لتحقيق ذلك ؟ ويعرف في ذلك الأولويات التي ينبغي البدء بها ، ويحدد طريقة المعالجة ، ونحو ذلك مما يعدّ من البدهيات المنهجية التي لا غنى عنها .
سابعاً : تلمس احتياجات المخاطبين :
احتياجات الناس المنهجية والفكرية والعملية كثيرة جداً ، ويتميز المصلح الجاد بقدرته على تلمس احتياجات الناس ، وكم من الأشخاص الذين اعتادوا على مخاطبة الجماهير تراهم يشرِّقون ويغرِّبون ، ويتحدثون عن أشياء كثيرة ، لكنهم بعيدون عن نبض الشارع واهتمامات الناس .
ومعلوم بأن المستمع قد يقترب من المتحدث كثيراً ، ويألفه في بداية أمره ، لكنه يبتعد عنه شيئاً فشيئاً إذا فقد المادة الأصيلة المتجددة التي تشبع حاجاته وطموحاته ، ولا شك بأن الذي يشدُّ الجمهور ويوثق صلتهم بالمتحدث هو شعورهم بالحيوية والتجدد ، وهذا فيما أحسب أحد المعايير الرئيسة للاستمرارية والبقاء .
ثامناً : الحذر من الاكتفاء بالخطاب العاطفي :
يغلب على كثير ممَّن يعتني بمخاطبة الجماهير اعتماد الخطاب العاطفي الذي يُبنى على استثارة المشاعر ، ولا شك بأن هذا مطلوب ولا غنى للناس عنه ، ولكنه وحده لا يكفي على الإطلاق ، بل إن الاكتفاء به وحده قد يؤدي إلى خلل في البناء . نعم قد تجمِّع العاطفة أناساً كثيرين ، ولكنها وحدها لا تحيي أمة ، ولا تبني رجالاً ، ولا تجعلهم يثبتون أمام الأعاصير والفتن .
كثيرون أولئك الخطباء والمصلحون الذين يستطيعون تجميع الناس واستثارة عواطفهم ، ولكنَّ القلة القليلة منهم هي القادرة على إعادة بنائهم وتشكيل عقولهم وصناعتهم من جديد . وإنَّ من أكبر التحديات التي تواجه دعاة الإصلاح : هي القدرة على توظيف الطاقات ، واستثمارها في البناء والعطاء ، وكم هي الطاقات المهدرة التي طالما استهلكت في التصفيق والصراخ والهتافات الساخنة أو الباردة !
ولذا كان ممَّا ينبغي على دعاة الإصلاح إدراكه أنَّ من واجبهم التأثير الفكري والمنهجي على الجماهير ، ورفع مستواهم الثقافي ، وإحياء الوعي في صفوفهم ، وتربيتهم تربية راسخة عميقة ، والانتقال بهم من مرحلة تكثير السواد إلى مرحلة العطاء والوعي الإنتاجي .(32/39)
يخيَّل لبعض المصلحين حينما يرى أتباعه يحيطون به من كل جانب أنَّه لو دعاهم لتحرير القدس لما تخلف منهم رجل واحد ، ولخاضوا ألوان المخاطر لتحقيق هذه الغاية العظمى ، ولكنه يفاجأ بأنَّ كثيراً منهم سرعان ما يتخلف عنه ويتعذر بمعاذير واهية عند أول عقبة قد تواجهه في مسيرته ! ولست هنا أدعو إلى ترك الجماهير أو عدم الثقة بهم ، ولكنني أدعو إلى تغيير آلية الخطاب ليستوعب المتغيرات الاجتماعية والفكرية الحديثة .
لقد ظلت الجماهير عقوداً متتابعة مغيَّبة يعبث بعواطفها أدعياء التحرر والوطنية ، وها هنا يأتي دور المصلحين من جديد لإعادة تشكيل عقولهم وصناعة أفكارهم ، ولا شك بأن هذا يتطلب جهداً كبيراً ونَفَساً طويلاً .
تاسعاً : الارتقاء بمستوى الخطاب :
كثير من الطروحات التي نسمعها من الخطباء وأمثالهم تعالج هموم العامة ومشكلاتهم ، وتتوافق مع طموحاتهم وتطلعاتهم ، ولا شك بأن هذه الطموحات محدودة ، وتدور في أطر ضيقة ، وقد يغفل بعض أولئك الخطباء عن مخاطبة طبقات أخرى في المجتمع ، ولا بأس أن يوجد من يتخصص في مخاطبة العامة ويقصر اهتمامه في دائرتهم ، ولكن ليس من المقبول على الإطلاق أن يتوجه أكثر خطبائنا إلى هؤلاء ويغفلوا عن الدوائر الأخرى !
إننا نعيش في عصر الانفتاح الإعلامي الذي أدى إلى انفتاح اجتماعي وفكري عريضين ، وأصبحت قوة الخطاب وجاذبيته والتزامه بالمنهجية العلمية من أهم أدوات التأثير الفكري ، وأعتقد بأن الارتقاء بمستوى الطرح والمعالجة في غاية الأهمية ، فما يصلح في المدرسة قد لا يصلح في الجامعة ، وما يصلح في المسجد قد لا يصلح في وسائل الإعلام ، وما يصلح في هذا البلد قد لا يصلح في البلد الآخر .. وهكذا . وأذكر أنني استمعت ذات يوم إلى برنامج حواري اشترك فيه أحد المفكرين الإسلاميين مع مفكر ليبرالي ، فآلمني جداً أن صاحبنا كان يتحدث بلغة عاطفية خطابية هزيلة ، بينما كان يتحدث ذلك الليبرالي بطريقة مركزة تتسم بالذكاء والمراوغة ، شعرت من خلالها أنَّه يعرف ماذا يريد . ولا شك بأن الفتنة بمثل هذا كبيرة لجمهور عريض من العامة !
-----------------------------------
(1) مجلة الرسالة العدد (94) محرم 1354هـ .
(2) أخرجه : الترمذي في الزهد (4/508) رقم (2376) ، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5496) .
(3) شرح حديث أبي ذر (ص25) ، وانظر : رسالة في التوبة ضمن جامع الرسائل (1/ 233) .
(4) الفتاوي (10/215) .
(5) مجلة الرسالة العدد (84) ذو القعدة 1353هـ .
(6) تأويل مختلف الحديث (ص54) .
(7) بهجة المجالس وأنس المجالس ، لابن عبد البر القرطبي (1/406) .
(8) تبيين كذب المفتري ، لابن عساكر (ص422) .
المصدر : مجلة البيان
=============(32/40)
(32/41)
مصطلحات سياسية ومعانيها
سليمان بن صالح الخراشي
هذه مجموعة من " المصطلحات السياسية " التي تتردد كثيرًا في وسائل الإعلام أو المقالات والمواضيع السياسية أحببتُ نشرها للفائدة . وقد انتقيتها وهذبتها من كتاب " المصطلحات السياسية الشائعة " للأستاذ فهد بن عبدالله الربيعة . ومن أراد التوسع فليرجع إلى :
" موسوعة السياسة " التي يُشرف عليها الدكتور عبدالوهاب الكيالي ، و " القاموس السياسي " لأحمد عطية .
أرستقراطية :
تعني باللغة اليونانية سُلطة خواص الناس، وسياسياً تعني طبقة اجتماعية ذات منزلة عليا تتميز بكونها موضع اعتبار المجتمع ، وتتكون من الأعيان الذين وصلوا إلى مراتبهم ودورهم في المجتمع عن طريق الوراثة ،واستقرت هذه المراتب على أدوار الطبقات الاجتماعية الأخرى، وكانت طبقة الارستقراطية تتمثل في الأشراف الذين كانوا ضد الملكية في القرون الوسطى ،وعندما ثبتت سلطة الملوك بإقامة الدولة الحديثة تقلصت صلاحية هذه الطبقة السياسية واحتفظت بالامتيازات المنفعية، وتتعارض الارستقراطية مع الديمقراطية.
أنثروبولوجيا :
تعني باللغة اليونانية علم الإنسان ، وتدرس الأنثروبولوجيا نشأة الإنسان وتطوره وتميزه عن المجموعات الحيوانية ،كما أنها تقسم الجماعات الإنسانية إلى سلالات وفق أسس بيولوجية، وتدرس ثقافته ونشاطه.
أيديولوجية:
هي ناتج عملية تكوين نسق فكري عام يفسر الطبيعة والمجتمع والفرد، ويحدد موقف فكري معين يربط الأفكار في مختلف الميادين الفكرية والسياسية والأخلاقية والفلسفية.
أوتوقراطية :
مصطلح يطلق على الحكومة التي يرأسها شخص واحد، أو جماعة، أو حزب، لا يتقيد بدستور أو قانون، ويتمثل هذا الحكم في الاستبداد في إطلاق سلطات الفرد أو الحزب، وتوجد الأوتوقراطية في الأحزاب الفاشية أو الشبيهة بها، وتعني الكلمة باللاتينية الحكم الإلهي، أي أن وصول الشخص للحكم تم بموافقة إلهية، والاوتوقراطي هو الذي يحكم حكمًا مطلقًا ويقرر السياسة دون أية مساهمة من الجماعة، وتختلف الاوتوقراطية عن الديكتاتورية من حيث أن السلطة في الأوتوقراطية تخضع لولاء الرعية، بينما في الدكتاتورية فإن المحكومين يخضعون للسلطة بدافع الخوف وحده.
براغماتية (ذرائعية) :
براغماتية اسم مشتق من اللفظ اليوناني " براغما " ومعناه العمل، وهي مذهب فلسفي - سياسي يعتبر نجاح العمل المعيار الوحيد للحقيقة؛ فالسياسي البراغماتي يدعّي دائماً بأنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة التي قد يؤدي إليها قراره، وهو لا يتخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجية سياسية محددة ، وإنما من خلال النتيجة المتوقعة لعمل . والبراغماتيون لا يعترفون بوجود أنظمة ديمقراطية مثالية إلا أنهم في الواقع ينادون بأيديولوجية مثالية مستترة قائمة على الحرية المطلقة ، ومعاداة كل النظريات الشمولية وأولها الماركسية.
بروسترايكا :
هي عملية إعادة البناء في الاتحاد السوفيتي التي تولاها ميخائيل جورباتشوف وتشمل جميع النواحي في الاتحاد السوفيتي ، وقد سخر الحزب الشيوعي الحاكم لتحقيقها ، وهي تفكير وسياسة جديدة للاتحاد السوفيتي ونظرته للعالم ، وقد أدت تلك السياسة إلى اتخاذ مواقف غير متشددة تجاه بعض القضايا الدولية ، كما أنها اتسمت بالليونة والتخلي عن السياسات المتشددة للحزب الشيوعي السوفيتي .
بروليتاريا :
مصطلح سياسي يُطلق على طبقة العمال الأجراء الذين يشتغلون في الإنتاج الصناعي ومصدر دخلهم هو بيع ما يملكون من قوة العمل، وبهذا فهم يبيعون أنفسهم كأي سلعة تجارية.
وهذه الطبقة تعاني من الفقر نتيجة الاستغلال الرأسمالي لها، ولأنها هي التي تتأثر من غيرها بحالات الكساد والأزمات الدورية، وتتحمل هذه الطبقة جميع أعباء المجتمع دون التمتع بمميزات متكافئة لجهودها. وحسب المفهوم الماركسي فإن هذه الطبقة تجد نفسها مضطرة لتوحيد مواقفها ليصبح لها دور أكبر في المجتمع.
بورجوازية :
تعبير فرنسي الأصل كان يُطلق في المدن الكبيرة في العصور الوسطى على طبقة التجار وأصحاب الأعمال الذين كانوا يشغلون مركزاً وسطاً بين طبقة النبلاء من جهة والعمال من جهة أخرى، ومع انهيار المجتمع الإقطاعي قامت البورجوازية باستلام زمام الأمور الاقتصادية والسياسية واستفادت من نشوء العصر الصناعي ؛ حتى أصبحت تملك الثروات الزراعية والصناعية والعقارية، مما أدى إلى قيام الثورات الشعبية ضدها لاستلام السلطة عن طريق مصادرة الثروة الاقتصادية والسلطة السياسية.
والبورجوازية عند الاشتراكيين والشيوعيين تعني الطبقة الرأسمالية المستغلة في الحكومات الديمقراطية الغربية التي تملك وسائل الإنتاج.
بيروقراطية :(32/42)
البيروقراطية تعني نظام الحكم القائم في دولة ما يُشرف عليها ويوجهها ويديرها طبقة من كبار الموظفين الحريصين على استمرار وبقاء نظام الحكم لارتباطه بمصالحهم الشخصية ؛ حتى يصبحوا جزءً منه ويصبح النظام جزءً منهم، ويرافق البيروقراطية جملة من قواعد السلوك ونمط معين من التدابير تتصف في الغالب بالتقيد الحرفي بالقانون والتمسك الشكلي بظواهر التشريعات، فينتج عن ذلك " الروتين " ؛ وبهذا فهي تعتبر نقيضاً للثورية، حيث تنتهي معها روح المبادرة والإبداع وتتلاشى فاعلية الاجتهاد المنتجة ، ويسير كل شيء في عجلة البيروقراطية وفق قوالب جاهزة، تفتقر إلى الحيوية. والعدو الخطير للثورات هي البيروقراطية التي قد تكون نهاية معظم الثورات، كما أن المعنى الحرفي لكلمة بيروقراطية يعني حكم المكاتب.
تعددية :
مذهب ليبرالي يرى أن المجتمع يتكون من روابط سياسية وغير سياسية متعددة، لها مصالح مشروعة متفرقة، وأن هذا التعدد يمنع تمركز الحكم ، ويساعد على تحقيق المشاركة وتوزيع المنافع.
تكنوقراطية :
مصطلح سياسي نشأ مع اتساع الثورة الصناعية والتقدم التكنولوجي، وهو يعني (حكم التكنولوجية) أو حكم العلماء والتقنيين، وقد تزايدت قوة التكنوقراطيين نظراً لازدياد أهمية العلم ودخوله جميع المجالات وخاصة الاقتصادية والعسكرية منها، كما أن لهم السلطة في قرار تخصيص صرف الموارد والتخطيط الاستراتيجي والاقتصادي في الدول التكنوقراطية، وقد بدأت حركة التكنوقراطيين عام 1932 في الولايات المتحدة الأمريكية ،حيث كانت تتكون من المهندسين والعلماء والتي نشأت نتيجة طبيعة التقدم التكنولوجي.
أما المصطلح فقد استحدث عام 1919 على يد وليام هنري سميث الذي طالب بتولي الاختصاصيين العلميين مهام الحكم في المجتمع الفاضل.
ثيوقراطية :
نظام يستند إلى أفكار دينية مسيحية ويهودية ، وتعني الحكم بموجب الحق الإلهي ! ، وقد ظهر هذا النظام في العصور الوسطى في أوروبا على هيئة الدول الدينية التي تميزت بالتعصب الديني وكبت الحريات السياسية والاجتماعية ، ونتج عن ذلك مجتمعات متخلفة مستبدة سميت بالعصور المظلمة.
دكتاتورية :
كلمة ذات أصل يوناني رافقت المجتمعات البشرية منذ تأسيسها ، تدل في معناها السياسي حالياً على سياسة تصبح فيها جميع السلطات بيد شخص واحد يمارسها حسب إرادته، دون اشتراط موافقة الشعب على القرارات التي يتخذها.
ديماغوجية :
كلمة يونانية مشتقة من كلمة (ديموس)، وتعني الشعب، و(غوجية) وتعني العمل، أما معناها السياسي فيعني مجموعة الأساليب التي يتبعها السياسيون لخداع الشعب وإغراءه ظاهرياً للوصول للسلطة وخدمة مصالحهم.
ديمقراطية :
مصطلح يوناني مؤلف من لفظين الأول (ديموس) ومعناه الشعب، والآخر (كراتوس) ومعناه سيادة، فمعنى المصطلح إذاً سيادة الشعب أو حكم الشعب . والديمقراطية نظام سياسي اجتماعي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين ويوفر لهم المشاركة الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، والديمقراطية كنظام سياسي تقوم على حكم الشعب لنفسه مباشرة، أو بواسطة ممثلين منتخبين بحرية كاملة ( كما يُزعم ! ) ، وأما أن تكون الديمقراطية اجتماعية أي أنها أسلوب حياة يقوم على المساواة وحرية الرأي والتفكير، وأما أن تكون اقتصادية تنظم الإنتاج وتصون حقوق العمال، وتحقق العدالة الاجتماعية.
إن تشعب مقومات المعنى العام للديمقراطية وتعدد النظريات بشأنها، علاوة على تميز أنواعها وتعدد أنظمتها، والاختلاف حول غاياتها ، ومحاولة تطبيقها في مجتمعات ذات قيم وتكوينات اجتماعية وتاريخية مختلفة، يجعل مسألة تحديد نمط ديمقراطي دقيق وثابت مسألة غير واردة عملياً، إلا أن للنظام الديمقراطي ثلاثة أركان أساسية:
أ حكم الشعب .
ب-المساواة .
ج الحرية الفكرية .
ومعلوم استغلال الدول لهذا الشعار البراق الذي لم يجد تطبيقًا حقيقيًا له على أرض الواقع ؛ حتى في أعرق الدول ديمقراطية - كما يقال - . ومعلوم أيضًا تعارض بعض مكونات هذا الشعار البراق الذي افتُتن به البعض مع أحكام الإسلام .
راديكالية (جذرية) :
الراديكالية لغة نسبة إلى كلمة راديكال الفرنسية وتعني الجذر، واصطلاحاً تعني نهج الأحزاب والحركات السياسية الذي يتوجه إلى إحداث إصلاح شامل وعميق في بنية المجتمع، والراديكالية هي على تقاطع مع الليبرالية الإصلاحية التي يكتفي نهجها بالعمل على تحقيق بعض الإصلاحات في واقع المجتمع، والراديكالية نزعة تقدمية تنظر إلى مشاكل المجتمع ومعضلاته ومعوقاته نظرة شاملة تتناول مختلف ميادينه السياسية والدستورية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، بقصد إحداث تغير جذري في بنيته، لنقله من واقع التخلف والجمود إلى واقع التقدم والتطور.
ومصطلح الراديكالية يطلق الآن على الجماعات المتطرفة والمتشددة في مبادئها.
رأسمالية :(32/43)
الرأسمالية نظام اجتماعي اقتصادي تُطلق فيه حرية الفرد في المجتمع السياسي، للبحث وراء مصالحه الاقتصادية والمالية بهدف تحقيق أكبر ربح شخصي ممكن، وبوسائل مختلفة تتعارض في الغالب مع مصلحة الغالبية الساحقة في المجتمع... وبمعنى آخر : إن الفرد في ظل النظام الرأسمالي يتمتع بقدر وافر من الحرية في اختيار ما يراه مناسباً من الأعمال الاقتصادية الاستثمارية وبالطريقة التي يحددها من أجل تأمين رغباته وإرضاء جشعه، لهذا ارتبط النظام الرأسمالي بالحرية الاقتصادية أو ما يعرف بالنظام الاقتصادي الحر، وأحياناً يخلي الميدان نهائياً لتنافس الأفراد وتكالبهم على جمع الثروات عن طريق سوء استعمال الحرية التي أباحها النظام الرأسمالي.
رجعية :
مصطلح سياسي اجتماعي يدل على التيارات المعارضة للمفاهيم التقدمية الحديثة وذلك عن طريق التمسك بالتقاليد الموروثة، ويرتبط هذا المفهوم بالاتجاه اليميني المتعصب المعارض للتطورات الاجتماعية السياسية والاقتصادية إما من مواقع طبقية أو لتمسك موهوم بالتقاليد، وهي حركة تسعى إلى التشبث بالماضي؛ لأنه يمثل مصالح قطاعات خاصة من الشعب على حساب الصالح العام. ( وقد استورد المنافقون هذا المصطلح من الغرب وحاولوا إلصاقه بأهل الإسلام ! الداعين إلى تحكيم الكتاب والسنة ) .
شوفينية :
مصطلح سياسي من أصل فرنسي يرمز إلى التعصب القومي المتطرف، وتطور معنى المصطلح للدلالة على التعصب القومي الأعمى والعداء للأجانب، كما استخدم المصطلح لوصم الأفكار الفاشية والنازية في أوروبا، ويُنسب المصطلح إلى جندي فرنسي اسمه نيقولا شوفان حارب تحت قيادة نابليون وكان يُضرب به المثل لتعصبه لوطنه.
غيفارية :
نظرية سياسية يسارية نشأت في كوبا وانتشرت منها إلى كافة دول أمريكا اللاتينية، مؤسسها هو ارنتسوتشي غيفارا أحد أبرز قادة الثورة الكوبية، وهي نظرية أشد تماسكاً من الشيوعية، وتؤيد العنف الثوري ، وتركز على دور الفرد في مسار التاريخ، وهي تعتبر الإمبريالية الأمريكية العدو الرئيس للشعوب، وترفض الغيفارية استلام السلطة سلمياً وتركز على الكفاح المسلح وتتبنى النظريات الاشتراكية.
فاشية :
نظام فكري وأيديولوجي عنصري يقوم على تمجيد الفرد على حساب اضطهاد جماعي للشعوب، والفاشية تتمثل بسيطرة فئة دكتاتورية ضعيفة على مقدرات الأمة ككل، طريقها في ذلك العنف وسفك الدماء والحقد على حركة الشعب وحريته، والطراز الأوروبي يتمثل بنظام هتلر وفرانكو وموسيليني، وهناك عشرات التنظيمات الفاشية التي ما تزال موجودة حتى الآن ، وهي حالياً تجد صداها عند عصابات متعددة في العالم الثالث، واشتق اسم الفاشية من لفظ فاشيو الإيطالي ويعني حزمة من القضبان استخدمت رمزاً رومانياً يعني الوحدة والقوة، كما أنها تعني الجماعة التي انفصلت عن الحزب الاشتراكي الإيطالي بعد الحرب بزعامة موسيليني الذي يعتبر أول من نادى بالفاشية كمذهب سياسي.
فيدرالية :
نظام سياسي يقوم على بناء علاقات تعاون محل علاقات تبعية بين عدة دول يربطها اتحاد مركزي ؛ على أن يكون هذا الاتحاد مبنيًا على أساس الاعتراف بوجود حكومة مركزية لكل الدولة الاتحادية، وحكومات ذاتية للولايات أو المقاطعات التي تنقسم إليها الدولة، ويكون توزيع السلطات مقسماً بين الحكومات الإقليمية والحكومة المركزية.
كونفدرالية :
يُطلق على الكونفدرالية اسم الاتحاد التعاهدي أو الاستقلالي ؛ حيث تُبرم اتفاقيات بين عدة دول تهدف لتنظيم بعض الأهداف المشتركة بينها ؛ كالدفاع وتنسيق الشؤون الاقتصادية والثقافية ، وإقامة هيئة مشتركة تتولى تنسيق هذه الأهداف ، كما تحتفظ كل دولة من هذه الدول بشخصيتها القانونية وسيادتها الخارجية والداخلية ، ولكل منها رئيسها الخاص بها .
ليبرالية (تحررية) :
مذهب رأسمالي اقترن ظهوره بالثورة الصناعية وظهور الطبقة البرجوازية الوسطى في المجتمعات الأوروبية، وتمثل الليبرالية صراع الطبقة الصناعية والتجارية التي ظهرت مع الثورة الصناعية ضد القوى التقليدية الإقطاعية التي كانت تجمع بين الملكية الاستبدادية والكنيسة.
وتعني الليبرالية إنشاء حكومة برلمانية يتم فيها حق التمثيل السياسي لجميع المواطنين ، وحرية الكلمة والعبادة ، وإلغاء الامتيازات الطبقية، وحرية التجارة الخارجية ، وعدم تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد إلا إذا كان هذا التدخل يؤمن الحد الأدنى من الحرية الاقتصادية لجميع المواطنين.
( وقد افتُتن مقلدو الغرب لدينا بهذه الفكرة الجاهلية التي تُعارض أحكام الإسلام في كثير مما نادت به ؛ وعلى رأسه : حرية الكفر والضلال والجهر به ؛ والمساواة بين ما فرق الله بينه .. الخ الانحرافات التي ليس هنا مجال ذكرها ) .
مبدأ أيزنهاور:(32/44)
أعلنه الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في الخامس من يناير عام 1957م ضمن رسالة وجهها للكونجرس في سياق خطابه السنوي الذي ركز فيه على أهمية سد الفراغ السياسي الذي نتج في المنطقة العربية بعد انسحاب بريطانيا منها، وطالب الكونجرس بتفويض الإدارة الأمريكية بتقديم مساعدات عسكرية للدول التي تحتاجها للدفاع عن أمنها ضد الأخطار الشيوعية، وهو بذلك يرمي إلى عدم المواجهة المباشرة مع السوفيت وخلق المبررات، بل إناطة مهمة مقاومة النفوذ والتسلل السوفيتي إلى المناطق الحيوية بالنسبة للأمن الغربي بالدول المعنية الصديقة للولايات المتحدة عن طريق تزويدها بأسباب القوة لمقاومة الشيوعية ، وكذلك دعم تلك الدول اقتصادياً حتى لا تؤدي الأوضاع الاقتصادية السيئة إلى تنامي الأفكار الشيوعية.
ولاقى هذا المبدأ معارضة في بعض الدول العربية بدعوى أنه سيؤدي إلى ضرب العالم العربي في النهاية، عن طريق تقسيم الدول العربية إلى فريقين متضاربين : أحدهما مؤيد للشيوعية والآخر خاضع للهيمنة الغربية.
مبدأ ترومان :
أعلنه الرئيس الأمريكي هاري ترومان في مارس 1947 م للدفاع عن اليونان وتركيا وشرق البحر الأبيض المتوسط في وجه الأطماع السوفيتية، ودعم الحكومات المعارضة للأيديولوجيات السوفيتية الواقعة في هذه المنطقة، والهدف من هذا المبدأ هو خنق القوة السوفيتية ومنعها من التسرب إلى المناطق ذات الثقل الاستراتيجي والاقتصادي البارز بالنسبة للأمن الغربي.
مبدأ كارتر :
أعلنه الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، أكد فيه تصميم الولايات المتحدة على مقاومة أي خطر يهدد الخليج ؛ بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، وكانت جذور هذا المبدأ هي فكرة إنشاء قوات التدخل السريع للتدخل في المنطقة وحث حلفائها للمشاركة في هذه القوة، وقد أنشئت قيادة عسكرية مستقلة لهذه القوة عرفت (بالسنتكوم).
مبدأ مونرو:
وضعه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو عام 1823 م وحمل اسمه ؛ وينص على تطبيق سياسة شبه انعزالية في الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها الخارجية، وظل هذا المبدأ سائداً في محدودية الدور الأمريكي في السياسة الدولية حتى الحرب العالمية الثانية في القرن الحالي حين خرجت أمريكا إلى العالم كقوة دنيوية عظمى.
مبدأ نيكسون:
أعلنه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في يوليو عام 1969 م ؛ وينص على أن الولايات المتحدة ستعمل على تشجيع بلدان العالم الثالث على تحمل مسؤوليات أكبر في الدفاع عن نفسها، وأن يقتصر دور أمريكا على تقديم المشورة وتزويد تلك الدول بالخبرة والمساعدة ( ! )
مبدأ ويلسون :
وضعه الرئيس الأمريكي وودر ويلسون عام 1918 م ؛ ويتألف من 14 نقطة، ويركز على مبدأ الاهتمام بصورة أكبر بمستقبل السلم والأمن في الشرق الأوسط ، وكان هذا المبدأ ينص على علنية الاتفاقيات كأساس لمشروعيتها الدولية، وهو ما كان يحمل إدانة صريحة لاتفاقية سايكس بيكو التي سبقت إعلانه بسنتين، ولمبدأ الممارسات الدبلوماسية التآمرية التي مارستها تلك الدول.
كما دعا مبدأ ويلسون ضمن بنوده إلى منح القوميات التي كانت تخضع لسلطة الدولة العثمانية كل الضمانات التي تؤكد حقها في الأمن والتقدم والاستقلال، والطلب من حلفائه الأوروبيين التخلي عن سياساتهم الاستعمارية واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها ( ! )
ولما اصطدمت مبادئه بمعارضة حلفائه الأوروبيين في المؤتمر الذي عقد بعد الحرب العالمية الأولى في باريس، أمكن التوفيق بين الموقفين بالعثور على صيغة (الانتداب الدولي) المتمثل في إدارة المناطق بواسطة عصبة الأمم وبإشراف مباشر منها، على أن توكل المهمة لبريطانيا وفرنسا نيابة عن العصبة ( !)
يسار - يمين :
اصطلاحان استخدما في البرلمان البريطاني، حيث كان يجلس المؤيدون للسلطة في اليمين ، والمعارضون في اليسار ؛ فأصبح يُطلق على المعارضين للسلطة لقب اليسار، وتطور الاصطلاحان نظراً لتطور الأوضاع السياسية في دول العالم ؛ حيث أصبح يُطلق اليمين على الداعين للمحافظة على الأوضاع القائمة، ومصطلح اليسار على المطالبين بعمل تغييرات جذرية، ومن ثم تطور مفهوم المصطلحان إلى أن شاع استخدام مصطلح اليسار للدلالة على الاتجاهات الثورية ، واليمين للدلالة على الاتجاهات المحافظة، والاتجاهات التي لها صبغة دينية.
=================(32/45)
(32/46)
أمريكا.. وعدوى براقش
أحمد بن عبد المحسن العساف
براقش كلبة مشهورة عند العرب في أمثالهم؛ فهي التي نبحت بأعداء أهلها فدلت على مخبأهم حيث كانت نهايتهم على يد هؤلاء الأعداء؛ ولذا قالت العرب " على أهلها جنت براقش " وسار في الناس مثلاً علىكل مَنْ فعل ما يضر أهله وأتباعه.
والحكومة الأمريكية الحربية الحالية فعلت مثل براقش جناية على نفسها وحلفائها وأذيالها حين أقدمت على غزو بلاد المسلمين مبتدئة بأفغانستان والعراق.وقد سرت عدوى براقش للأمريكان من مكر الله بهم وإظهاره الحق ولو كره الكافرون والمنافقون.
وأول الجنايات كانت على الصورة الأمريكية اللامعة -زيفاً وخداعاً- حين أصبح عقلاء العالم يضحكون على حديث الرئيس الأمريكي وأركان حربه عن الحريات وحقوق الإنسان؛ وإن يكن لهذا القرن من أضحوكات فلا شك أن "حنان " بوش و "إنسانية " رامسفلد و " لطف " رايس هي النكتة السياسية الأكثر حضوراً.
وقد جنت أمريكا على حلفائها الأقوياء في أوروبا وغيرها ما بين سقوط حكومات ومظاهرات عارمة وسخرية متزايدة كما يحدث مع رئيس الوزراء البريطاني " بلير " الذي ينكس الإنجليز رؤوسهم خجلاً منه ومن تبعيته للقيصر الإرهابي بوش.
وعن " ليبرالي " العالم الإسلامي يطول الحديث؛ فكم من مرة ومرة صكوا أسماعنا بحضارة أمريكا وسمو الإنسان الأبيض وتعامله الرفيع؛ وكم هاجموا أي حكومة تتبنى الإسلام أو شيئاً منه كما حدث مع طالبان مثلا حين أقدمت على بعض التصرفات الاجتهادية؛ وكم كانت أحلامهم جميلة بالعيش الحر في " ظلال " المعتدي- المحرر- الأمريكي، لكن الله فضح ما كانوا يتباهون به فأصبح أقل القوم صفاقة يطرق ولا ينبس ببنت شفه حين يجري ذكر جرائم الغزاة البيض والسود من أبناء الأمة الأمريكية كما حدث في البلدين المسلمين من دمار وهتك أعراض الصغيرات واعتقال النساء وتعذيب الرجال بوحشية وسجن الناس بلا محاكمة. ومع إطراق كثير من " متلبرري " العصر لايزال غلاتهم في حمأة التيه " والتسويغ " حتى قالوا في الدفاع عن " صليبية " بوش " و " فاشيته " ما لم يقله كتاب الغرب؛ ونظن أن هؤلاء الغلاة الأتاتوركيين لو بال جندي أمريكي على رؤؤسهم لقالوا: منتج أمريكي لعلاج القشرة والقمل وكلف الوجه ورمد العيون ووقر الآذان وقلح الأسنان وبخر الأفواه وليضحك علينا بعدها من شاء من أمم الأرض.
ومما دل عليه القبح الأمريكي في بلدان المسلمين أن " التعايش " مع الطوائف الضالة أفيكة وكذبة مفتراة وخير برهان ما يجري على يد مجرمي الشيعة الروافض في العراق ضد " مواطنيهم " وهكذا يستعد كل شيعة للتعايش مع مواطنيهم على يد الأمريكان الذين يعرفون "ولاء" هذه الطوائف الثورية.
وللأمم المتحدة نصيب من " براقشية " أمريكا حين نسفت مُثل المنظمة وجعلت مجلس الأمن خلف ظهرها بل تحت قدمها عياناً يراه الأعشى قبل البصير؛ فلم يعد للمنظمة ولا " لأمينها " ومجلس أمنها أي قيمة بسبب أمريكا؛ وقد كان سقوط المنظمة وعدم صلاحيتها حديث مجالس وأسراراً مكتومة لا يكاد يعلن بها أحد قبل هذه الحروب.
ومن " تبرقش " أمريكا أنها - من حيث لا تدري- زكت أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح حين جعلتهم العدو الأول لها لأنهم يرفضون الخنوع لمطالب القوة الكبرى. وقد قضت أمريكا على الدعوات " الرخوة " التي يطلقها بعض الإسلاميين حتى لم يعد في بلاد المسلمين تجاهها إلا صقور وغربان وانتهى عصر الحمائم.
ومما جنته الولايات المتحدة أنها نبهت الحكومات الإسلامية إلى الطابور الخامس من " مواطني " تلك البلدان الذين اقترفوا الخيانة العظمى بالتواصل معها للضغط على بلدانهم وربما ألفت منهم " معارضة " أو حكومة منفى، وحقيق بالحكومات أن تتعامل بحزم مع هذا الطابور القزم قبل أن تمُنح لهم مقاليد الأمور على يد المحتل البراقشي.
وقد فضحت أمريكا باختيار النماذج النتنة ليقوموا مقامها في البلدان المحتلة كما حدث في أفغانستان حين جاءت بدمية ترى- قبحها الله - أن الإساءة للنبي r حرية صحفية؛ ولو أن مواطناً أفغانياً بصق على صورة هذا المذموم الكريهة لما عد هذا الفعل حرية سياسية، وهكذا هم " رجالات " الحرية الأمريكية وصنائعها.
ومع الاعتذار لبراقش وجنسها فلقد كانت حسنة النية نبيلة المقصد فيما يبدو؛ ومع أنها كلبة إلا أنها لم " تستكلب " كما فعلت هذه الحكومة العقور في حربها الصليبية الشنيعة على الإسلام والمسلمين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أحمد بن عبد المحسن العساف - الرياض
الثلاثاء 12 من شعبان 1427
=============(32/47)
(32/48)
عجز العقل العلماني
عيد الدويهيس
حقوق طبع هذا الكتاب مهداة من المؤلف إلى كل مسلم وجزى الله خيراً من طبعه أو أعان على طبعه وغفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين .
الطبعة الأولى
شوال 1420هجرية
يناير 2000 ميلادية
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا الكتاب عبارة عن رحلة للبحث عن الحقائق في عالم المبادئ ، رحلة تبحث أين الحق والصواب ؟ وأين الباطل والخطأ ؟ وما هو العلم وما هو الجهل؟ وسنتطرق فيه للعقل والفلسفة والدين والواقع والتاريخ ، وسنتحدث عن العلمانية والإسلام والرأسمالية والشيوعية وأصول العقائد والمبادئ، وما هو نصيبها من الحقائق والأوهام والظنون؟ وحاولت أن نخرج جميعاً من أي انحياز لبيئة أو انفعال أو ظن همنا هو الوصول للعلم والنور...........
أعطيت العلمانية حقها كاملاً بأن تدافع عن نفسها واستشهدت بما قاله أهلها ، وسرت معها حتى آخر الطريق وشرحت وجهة النظر الإسلامية بصورة موضوعية بعيداً عن تطرف المتطرفين ، وتساهل المفرطين .
هذا الكتاب عبارة عن عمليات جراحية في الأسس والأصول التي تنطلق منها المبادئ الرئيسية التي نعرفها من دينية وغير دينية هذه المبادئ التي تحدد لنا العقائد والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتحدد لنا معاني العدل والحرية وحقوق الإنسان ، أي : ما هي المبادئ الصحيحة وما هي الخاطئة ؟ والمبادئ الصحيحة أي الحقائق الفكرية هي الأساس في بناء الفرد والأسرة والشعب والدولة. والتطرق إلى موضوع بهذه الأهمية يتطلب الشرح والتفصيل والإثباتات والصبر ، ويتطلب القراءة العميقة المتأنية ، والقدرة على الربط بين الأفكار المختلفة ، وقد حاولت قدر المستطاع أن أكتب هذا الموضوع بطريقة علمية ومنطقية ، وأعطي كل موضوع حقه ، وأتمنى ألا يستعجل البعض في إطلاق أي اتهامات أو نقد فقد تم إعداد الكتاب بعد الرجوع إلى مراجع كثيرة ومتنوعة ، وبعد حصيلة كبيرة امتدت لسنين طويلة من القراءة والمعايشة والحوار في علوم كثيرة فكرية ومادية ، وأحمد الله سبحانه وتعالى الذي أنعم علي من خلال تعليمي وعملي وقراءاتي وعلاقاتي أن أتعامل مع أنواع مختلفة من العلوم كالكيمياء
والأحياء والبحث العلمي والإدارة والإسلام والفلسفة والعلمانية والرأسمالية والاشتراكية ، واستفدت من كل ما تعلمت في وضع النقاط على الحروف في الوصول للحقائق الفكرية .
أسئلة كثيرة يجيب عليها هذا الكتاب منها ما هي أنواع العلم ؟ وهل العلمانية هي الطريق إلى الحقائق ؟ وما هي العلاقة بين العلمانية والفلسفة ؟ وما هو الأسلوب الصحيح في الوصول للحقائق بنوعيها المادي والفكري ؟ وما هي العلاقة بين الإسلام والعقل ؟ وما هو العدل ؟ وما هي الحرية ؟ وهذه الأسئلة وغيرها تستحق أن نقف عندها ونتعمق فيها إذا كنا نريد أن نبني حياتنا على أسس علمية وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا لما يحبه ويرضاه ، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطل ويرزقنا اجتنابه، وفي الختام أجد من واجبي أن أشكر كل من ساعدني في إنجاز هذا الكتاب ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيهم خير الجزاء ، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم ، وأسال كل من انتفع بشيء منه أن يدعو لي ولوالدي وللمسلمين أجمعين .
عيد بطاح الدويهيس
الكويت في 2 جمادى الأولى 1420هـ
13 أغسطس 1999م
العلم الفكري والعلم المادي
من أهم القضايا التي ستساهم بإذن الله في وصولنا إلى الحقائق هو تقسيمها إلى قسمين رئيسين (هناك أقسام أخرى فرعية سنتطرق إليها لاحقاً )، وهما الحقائق الفكرية، والحقائق المادية، ولنسميهما، العلم الفكري والعلم المادي وعكسهما الجهل الفكري والجهل المادي .(32/49)
فالعلم الفكري هو الذي يبحث عن الحقائق في مجال العقائد والقضايا السياسية والحياة الاجتماعية، والحياة الاقتصادية أي هل الحق مع العقائد الدينية أو مع اللادينية (العلمانية) وهل نطبق في الاقتصاد والسياسة والحياة الاجتماعية النظام الرأسمالي أم الشيوعي أم الإسلامي ؟ وما هو التعريف الصحيح للحرية أو العدل ؟ وهل أصاب أو أخطأ هذا الفيلسوف أو ذاك في قوله ؟ وما هو موقفنا من الديمقراطية أو فصل الدين عن الدولة أو من الأحزاب السياسية ؟ وما هي مناهج الإصلاح الصحيحة ؟ وما هي الأسس الصحيحة للعلاقة الزوجية ؟ وكيف نربي أبناءنا ؟ وما هو الموقف الصحيح من الانتماءات العرقية ، وما في هذا العالم من عقائد أو أفكار وأنظمة وحكومات ؟ ومن هي قوى الخير والنور ؟ ومن هي قوى الشر والظلام ؟ ومن هو التقدمي ؟ ومن هو الرجعي ؟ ومن هو العالم ؟ ومن هو الجاهل ؟ فالعلم الفكري هو المبادئ والعقائد الصحيحة ، والجهل الفكري هو المبادئ والعقائد الخاطئة ، أما الحقائق المادية أي العلم المادي فهو الذي يتعلق بالأمور المادية مثل الكيمياء والفيزياء وعلم البحار والأحياء والطب والهندسة والحاسب الآلي والرياضيات والزراعة والتكنولوجيا والصناعة ... الخ وسنحاول أن نفرق في النقاط التالية بين العلم الفكري والعلم المادي :
1- الوصول إلى الحقائق المادية يتم من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج، أما الوصول للحقائق الفكرية فهو من خلال الأدلة الفكرية ، ففي العلم المادي يمكن من خلال مشاهدة تجربة غليان الماء عند 100 درجة مئوية في الظروف العادية أن نعتبر غليان الماء عند هذه الدرجة حقيقة مادية، أما بالنسبة للعلم الفكري فلا يمكن أن نحكم على صواب أو خطأ فكرة مثل هل لهذا الكون خالق؟ من خلال تجربة ومشاهدة واستنتاج، كما أن معرفة أي الأنظمة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية المناسبة لحياة البشر لا يمكن الوصول فيها إلى حقائق حاسمة من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج: وذلك لأن الإنسان لا يتصرف كما يتصرف الماء ( المادة ): فبعض البشر يطغى ويتكبر إذا حصل على المال الكثير، وبعضهم يتواضع،وبعضهم كريم ، وبعضهم بخيل ، وبعضهم يحسن لمن أحسن إليه ، وبعضهم يقابل الإحسان بالإساءة ، فلا يمكن أن نستنتج حقائق فكرية ، فالنتائج متناقضة في حين أن كل ماء يغلي عند 100 درجة مئوية في الظروف العادية ، كما أننا حتى لو أخضعنا شعبا لتجارب فكرية بأن نجعله يطبق الرأسمالية لخمس سنوات ، ثم الإسلام ثم الشيوعية: ونكتب مشاهداتنا واستنتاجاتنا فإن ذلك لن يوصلنا إلى حقائق فكرية لأن التصرفات ستكون متناقضة ومختلفة فهناك عوامل كثيرة ستؤثر في هذه التجارب مثل : نوعية الشعب ، والظروف المحيطة ومن هم لجنة التحكيم؟ وهل تصرف الناس بإخلاص أو أظهروا خلاف ما نشاهد منهم وغير ذلك. قال الأستاذ العقاد : " أما العلوم الطبيعية " المادية " نفسها فليس من شأنها أن تخول أصحابها حق القول الفصل في المباحث الإلهية والمسائل الأبدية ، لأنها : من جهة مقصورة على ما يقبل المشاهدة والتجربة والتسجيل ، ومن جهة أخرى مقصورة على نوع واحد من الموجودات " (1)
2- لا يختلف البشر حول الحقائق المادية في الطب والزراعة والكيمياء والهندسة ، فالجامعات والمدارس في الولايات المتحدة الأمريكية الرأسمالية ، وفي روسيا الشيوعية ، وفي الدول الإسلامية تدرس نفس الحقائق المادية ، وهي متفقة عليها ، فعلماء الفيزياء على سبيل المثال متفقون على ما يعتبر حقائق مادية في علم الفيزياء ، وأثبتوا ذلك من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج ، في حين أن الاختلافات الفكرية بين المتخصصين في العلوم الفكرية كبيرة ولا يوجد حولها اتفاق فكري عالمي ، أو حتى محلي ، فهناك من يقول عن الرأسمالية أنها حق وصواب وهناك من يقول عنها باطل وخطأ وكذلك الأمر بالنسبة للإسلام والشيوعية والبوذية والهندوسية والنازية والعلمانية والتصوف والإلحاد ... الخ فالعالم كان ولا زال مختلفاً أشد الخلاف فيما هو حقائق فكرية ، بل لم يتفق البشر حتى يومنا هذا على صواب نظام اقتصادي أو اجتماعي ، بل حتى لم يتفقوا على تعريف واحد للحرية ، أو للعدل ، مع أننا نعيش في آخر القرن العشرين : ولدينا آلاف الجامعات والمفكرين قال د. ألكسيس كاريل: " إن كلا من الملحد والروحاني يتفقان على تحليل قطعة صوديوم كلورايد ( الملح ) ، ولكن شتان بين رأييهما حول الذات الإنسانية " (2)(32/50)
3- حقق العلم المادي قفزات هائلة في مختلف فروعه ، فالطب اليوم متقدم بمئات المرات عن الطب قبل قرنين ، وتكنولوجيا الاتصالات حققت قفزات هائلة ، وعرفنا حقائق مادية كثيرة عن علم الكيمياء .. الخ ، ويتم تطوير المناهج التي تدرس هذه العلوم بسرعة كبيرة حتى تواكب الاختراعات والاكتشافات الجديدة ، ولا نجد في العلم المادي من يقول اليوم من علماء المادة أن الأرض ليست كروية ، أو أن الذرة أصغر مكون للمادة ، في حين أن العلم الفكري لا زال يناقش القضايا التي كان يناقشها منذ آلاف السنين حول وجود الله سبحانه وتعالى ، وصحة الأديان ، وأصلح الأنظمة لحياة الإنسان ، ومعاني العدل والحرية ، وأسس الأمن الوطني ، وحقوق المرأة ... إلخ فالشيوعية والعنصرية والطبقية والأديان السماوية .. الخ عقائد تتصارع منذ آلاف السنين ، ولا زالت تتصارع حتى يومنا هذا ، وهذا يعني أن العقل البشري لم يصل في العلم الفكري إلى تقدم وقفزات فكرية قال آلان ريكاردسون في محاضرته " حقائق الدين في عصر العلم " هذا لأن وجودنا الإنساني الأساسي لم يتبدل ، فما يجعلنا أناساً ، أي كائنات تتحدد علاقتها مع الله ومع الآخرين ، هو نفسه ما كان أيام قدامى المسرحيين والأنبياء والفلاسفة لذلك يستطيع المسرحيون والأنبياء والشعراء أن يخبرونا عن وجودنا الإنساني الأساسي ما يخبرنا إياه المحدثون " (1) وقال الأستاذ هنترميد " وهكذا فإن المبتدئين ، سواء كانوا من الواثقين أم من غير الواثقين بأنفسهم ، يكتشفون عادة أنهم ليسوا وحيدين في تفكيرهم ، إذ أنهم سرعان ما يعلمون أنه لا جديد - إلا القليل جداً - تحت شمس الفلسفة ولابد أن تمر بالمرء لحظة هائلة ، قد تملكه فيها فرحة طاغية ، أو خيبة أمل عميقة عندما يكتشف أنه شريك في الفكر لأفلاطون ، أوبار كلي ، أواسبينيوزا " (2) وقال الأستاذ أديب صعب " يخطئ من يظن أن الفلسفة القديمة كانت علما بدائيا يفتقر إلى التجربة الدقيقة " (3) وعموماً فالفلاسفة والمفكرون وعلماء الإسلام والأديان السماوية لم يكونوا يعيشون في أبراج عاجية منعزلين عن العالم والواقع ، بل قرأوا ودرسوا وتأملوا وفكروا وحللوا وكتبوا ، فالنقاش الفكري الراقي موجود والموضوعات التي تم مناقشتها هي نفسها المواضيع الحالية المتعلقة بالكون والحياة والإنسان ولكن لم يتم الاتفاق على حقائق فكرية معينة بينهم ، وهذا وضع سيستمر وللأبد ، ولكن من يريد أن يصل للحقائق الفكرية بصدق وإخلاص ويسلك الطريق المؤدي إليها سيهديه الله سبحانه وتعالى ، ووجود تناقضات فكرية لا يعارض تحقيق تقدم فكري جزئي في فترات مختلفة من التاريخ القديم والحديث لمفكرين أو دول ، كالاقتناع بالمساواة والعدل والمشاركة الشعبية في الحكم والمقصود هنا أن الحيرة والتناقض هو في الأغلبية الساحقة من القضايا الفكرية ، وهي مشكلة إنسانية قديمة وحديثة .
4- تسعى الدول لاكتساب الحقائق المادية ، والتعرف عليها بشتى الوسائل : من تعليم وتدريب وتجسس لمالها من تأثيرات تكنولوجية واقتصادية في حين أن أغلبها تحارب بشتى الوسائل الآراء الفكرية لأعدائها كما حصل بين الدول الرأسمالية والدول الشيوعية ، فلا تعتبر الدول الآراء الفكرية للأعداء وللآخرين " حقائق فكرية " تحتاجها للرقي والحضارة ، بل تعتبرها " أخطاء وأوهام فكرية " يجب محاربتها ، وهذا يفسر لنا لماذا أصبح المفكرون الشيوعيون منبوذين من الحكم الروسي الجديد بعد سقوط الشيوعية ، في حين أن علماء الفيزياء والطب وغيرهم من العلوم المادية سيبقى لهم مكان في روسيا للحاجة إليهم في الصناعة والزراعة والمستشفيات .
5- من الصعب أو المستحيل أن يتكلم في علم الكيمياء أو الرياضيات أو الطب من لم يدرسه ومن لم يلتزم بحقائقه ، ولو فعل أحدهم ذلك لقال عنه علماء هذا العلم بأنه جاهل . في حين أن الكثيرين يتكلمون في العلم الفكري سواء كانوا فلاسفة أو سياسيين أو مفكرين أو متخصصين في الدراسات الدينية ، بل بعضهم يعتبرون أنفسهم علماء فيه ، فالملحد يعتبر نفسه مثقفاً وواعياً ، وكذلك المسلم والمسيحي وغيرهم وبإمكان الإنسان العادي أن يتكلم في العلم الفكري ويكتب وينتقد ويشرح ويفتي ويحدد الصواب من الخطأ في عقائد وأحكام وأنظمة وأفكار، فمن الصعب أن يدخل أحد في العلوم المادية إن لم يكن ذا علم فيها حيث سيجد جبهة من العلماء يرفضونه في حين أن الدخول في العلوم الفكرية سهل لأن علماء هذا العلم مختلفين ومتناقضين ولا توجد عندهم حقائق فكرية متفق عليها ، أو حتى قواعد عامة .
فوائد تقسيم العلم إلى فكري ومادي :
1- ما نريد أن نصل إليه في هذا الكتاب هو الحقائق الفكرية ، أي العلم الفكري لأن هناك اتفاق بشري حول الحقائق المادية أي العلم المادي ، فحقائقه معروفة ولا اختلاف حولها وعلماؤه متفقون والنجاحات التي يحققها في شتى المجالات معروفة للجميع .(32/51)
2- تقسيم العلم إلى نوعين فكري ومادي، أي حقائق فكرية وحقائق مادية هو ابتعاد عن أغلب التقسيمات التي نجدها في الكتب، والتي أرى أن أغلبها ساهم في خلط الأوراق وضياع الحقائق الفكرية من أول الطريق ، حيث ناقش الموضوع من خلال عناوين مثل الفلسفة والدين أو العقل والدين أو الدين والعلم أو العلوم الدينوية والعلوم الآخروية أو الأمور الحسية والأمور الغيبية أو أهل الكنيسة وأهل العلم أو قضايا الإيمان وقضايا العقل أو العلم والإيمان ... الخ في حين أنني ناقشت الموضوع من حيث ما هي الحقائق الفكرية أي العلم الفكري وكيف نصل إليه؟ فالقضية هي ما هو العلم " الحقائق الفكرية " وما هو الجهل " الأوهام والظنون الخاطئة " وأي تصنيف غير ذلك سيؤدي إلى الضياع والحيرة فالحقيقة هي المقبولة سواء كانت دنيوية أو غيبية أو عقلية أو فلسفية ... الخ وما هو ليس بحقيقة ليس مقبولاً .
3- لا شك أن العقل هو وسيلتنا للوصول للحقائق الفكرية ، فلا يتم قبول شيء بدون دليل عقلي واضح ، وسنضع كل المبادئ الرئيسة في ميزان عقلي عادل وموضوعي ، وسنقارن في أصولها وجذورها وحقها من الأدلة العقلية ، ويكون بحثنا في الأساس نظرياً حتى نبتعد عن التطبيقات الصحيحة أو الخاطئة في الواقع البشري لأي فكر ، وسنبتعد عن التأثر بالقوة فالميزان هو العقل ، وليس ما تقوله دولة عظمى أو صغرى ، وسنبتعد كذلك عن التأثر بالبيئات وبالمعلومات الخاطئة والتجارب الشخصية ، فسنأخذ ما يقول أهل المبادئ عن مبادئهم لا ما يقوله خصومهم ، وسنبتعد عن الماضي والتاريخ وإذا نجحنا إن شاء الله في ذلك سنكون ابتعدنا كثيراً عن ظنون وشبهات ومعلومات خاطئة تؤدي إلى الضياع .
4- تقسيم الحقائق إلى مادية وفكرية ، والعلم إلى علم مادي وعلم فكري من شأنه أن يسهل علينا الاقتناع بان التطور في مجال العلم المادي لا يعني بالضرورة التقدم في العلم الفكري ، فالبعض يربط بين الموضوعين ، وهذا يعني أن تقدم الدول الغربية في العلوم المادية لا يعني أنها بالضرورة متقدمة في العلوم الفكرية ، فقد تكون كذلك أولا ، وهذا يفسر أيضاً
التقدم المادي التكنولوجي الأمريكي والياباني مع اختلافاتهما الفكرية الكبيرة ، كما أن العكس صحيح أيضاً ، وقد نجد دولاً متخلفة في المجالين معا ، كما أن الاختلاف بين العلم المادي والعلم الفكري يجعلنا نفهم أن معارضة بعض علماء الدين المسيحيين أو المسلمين أو غيرهم لحقائق مادية هو في أساسه تدخل في مجال غير مجالهم ، وهناك استثناءات سنتكلم عنها إن شاء الله تعالى في موضوع آخر ، كما أن تكلم أهل العلم المادي وخاصة العلماء منهم في القضايا الفكرية هو تكلم في مجال غير مجالهم ، كما أن استخدام الأساليب والمفاهيم والتجارب العلمية المادية في مجال العلم الفكري خطأ فادح ، وخلط للأوراق أدى إلى ضياع الحقائق الفكرية أو تشويهها .
5- من الأمور الهامة في بيان الحقائق الفكرية الاقتناع بأن هناك تشابه جزئي بين كثير من العقائد والأيدلوجيات ، فليس كل ما تقوله الشيوعية أو الرأسمالية خطأ ، بل هناك خطأ وصواب ، فمثلاً ليس الاختلاف بين النظام الإسلامي والدول الغربية هو في الديمقراطية وحقوق الإنسان وإنصاف المرأة ومبدأ الملكية الفردية أو المفاهيم الاقتصادية المتعلقة بدور القطاع الخاص والعرض والطلب وحرية التجارة والعمل والاستثمار أو السياسات الاقتصادية .. الخ بل الاختلاف هو مع العلمانية ، والهدف من الحياة والمفاهيم الصحيحة للحرية الشخصية ، وتحريم الزنا والخمر والربا ... الخ والذي يمكن اختصاره بكلمات قليلة في هل نختار توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته وشريعته ؟ أم نرفض ذلك ، أي هو اختلاف حول الحقائق الفكرية الكبرى ، ومثل هذا يقال أيضاً للاشتراكيين فنحن لا نختلف معهم حول أنصاف العمال والفقراء ومحاربة التبذير والإسراف والتعصب العرقي ، وهذا التشابه الفكري يجعلنا نقول بأن بعض المبادئ العلمانية حققت نجاحات جزئية ، وهذا لا يتعارض مع وجود جهل فكري كبير ، وفشل عريض في الجانب الأكثر منها ، فالمشكلة ليست فيما نتفق عليه بل في ما نختلف عليه ، لأنه منبع الشر والصراع في الأرض ، ونريد أن نعرف بأسلوب علمي ونقاش موضوعي من هو على حق ؟ ومن هو على باطل ؟ لأنه إذا كان من يعرف الحقائق المادية قادر على بناء مصانع ناجحة فإن من يعرف الحقائق الفكرية قادر إذا طبقها على بناء الفرد والأسرة والمجتمع والدولة على أسس من العدل والحرية والسعادة .(32/52)
6- بداية نحن أمام احتمالين أما أن تكون هناك حقائق فكرية أو لا توجد حقائق فكرية فإذا عجز العقل البشري عن الوصول للحقائق الفكرية ، فليس من حق أحد أن يقول إن مبادئي صحيحة ومبادئ الآخرين خاطئة لأنه لا توجد حقائق " علم فكري " ، أما إذا كانت هناك حقائق فكرية وصلنا إليها بعقولنا فإن هذه الحقائق هي النور والصواب والحكمة ويجب أن نستخدمها في حياتنا الفكرية بكافة جوانبها العقائدية والسياسية والشخصية ... الخ . فعلينا أن نقدسها وندافع عنها ولا نرفضها نتيجة أهواء أو شهوات أو تقاليد خاطئة أو اتباع للأباء والأجداد أو لمصالح أو لآراء شخصية أو تصويت شعبي أو قانوني أو رغبة حكومية ، فالحقائق تبقى حقائق حتى لو أنكرناها قال الأستاذ يوسف أبو الهيجاء " الحقيقة حقيقة سواء صدقت أنت بها أم لم تُصدق إنها حقيقة ولو لم يصدقها أي عقل . الحقيقة حقيقة لأنها حقيقة ، وليس حقيقة لأن هناك عقل أو عقول صدقت بها الحقيقة باقية خالدة ولم لم يكن ثمة عقل " (1) ومن صفات الحقيقة أنها فوق السلطات والأهواء والآراء والشهوات يربح ويسعد من يؤمن بها ويخسر ويشقى من يتجاهلها أو يرفضها باختصار الحقائق الفكرية لها نفس الحصانة العلمية للحقائق المادية، فالحقيقة الفكرية لا تتغير مع الزمن ، وهي قوة عظمى دائمة.
7- إذا كنا في مجال الحقائق المادية نستخدم عقولنا ونطبق التجربة والمشاهدة والاستنتاج، وما نصل إليه من حقائق نقبله بغض النظر عن آرائنا السابقة ، وتوقعاتنا وظنوننا فوصولنا إلى حقيقة أن الماء يغلي عند 100 درجة مئوية تجعل أي كلام غير هذا باطل ، ومرفوض ، فإن هذا هو المطلوب في الحقائق الفكرية نقول هذا لأننا نعلم أن هناك قناعات سابقة عند الكثيرين ، ونعلم أن هناك شبهات ومعلومات خاطئة نتوقع أن ترفض حتى ما يثبت العقل صوابه ، فالبعض قد يصل إلى الحقائق الفكرية أو بعضها ، ثم يقول لا أقبل هذا . هذا تطرف ، هذا جمود ، هذا ظلم في حين أن الصحيح أننا لن نستطيع أن نحدد أهذا تطرف أم عدل أم ظلم قبل أن نعرف أولاً ما هي الحقائق الفكرية ؟ فالظلم هو أن تنحرف أو ترفض هذه الحقائق والعدل هو أن تطبقها وقبل أن نجمع الحقائق الفكرية في مجال الحرية لن نستطيع تعريفها تعريفاً صحيحاً ، فالطريق الصحيح هو أن عقولنا هي التي ستوصلنا بإذن الله تعالى إلى الحقائق ، وأن وصولنا للحقائق هو الذي سيحدد لنا الحرية الصحيحة ، والعدل الصحيح والعقائد الصحيحة، ومن الأخطاء الكبرى في هذا الموضوع هو أن أدافع عن الحرية قبل أن أعرف ما هي الحقائق الفكرية لأن الحرية هنا تصبح إما هدف عام لا اختلاف بين البشر عليه ، أو مفاهيم كثيرة جداً متناقضة حسب ما لدى البشر من عقائد ، أي اعتقادات أن لديهم حقائق فكرية فالحقائق الفكرية هي التي تحدد معنى الحرية وليست الحرية هي التي تحدد لنا ما هي الحقائق ؟
8- يمكن تعريف المجتمع الراقي بأنه هو الذي يعرف ويطبق أكبر قدر من الحقائق الفكرية، والحقائق المادية ، وأن الفرد الراقي هو الذي تسلح بسلاح العلم الفكري ، وسلاح العلم المادي، فكلاهما له ثمرات طيبة يحتاجها الإنسان ، بل نرى أن الأولوية يجب أن تعطي للعلم الفكري لأنه مفتاح العدل والحرية والسعادة الأسرية والأخلاق الرفيعة والوفاء والتضحية والتواضع والتعاون والحب .. الخ وهذه الأمور لها علاقة بكل إنسان وعائلة وقبيلة وحزب وشعب وأمة ودولة ، فالعلم الفكري هو العمود الفقري لعقل الإنسان وعواطفه وسلوكه وعلاقاته ، فالجهل به سيؤدي إلى التعاسة والقلق والمشاكل والصراع .. الخ بحسب حجم الجهل ونوعه في حين أن أهمية العلم المادي أقل من ذلك ، ويكفيك منه مهنة كأن تكون طبيباً أو مدرساً أو عاملاً وقد تعيش طول عمرك وأنت لا تعرف أساسيات الكيمياء أو الزراعة أو الحاسب الآلي بل من يملك المال قد لا يحتاجه حتى لو تمتع بثمراته أما العلم الفكري فلا نستطيع الاستغناء عنه : أو الاكتفاء بأجزاء منه ، قال الأستاذ يوسف أبو الهيجاء : " إمتلاك الحقائق اللامادية أهم بكثير من امتلاك الحقائق المادية ، وإن خالطك شك فيما أقول فقارن بين هاتين الثمرتين امتلاك السيارة ، والشفاء من القلق ، أيهما أعظم وأهم ؟ ثمرة الحقائق المادية السيارة والراديو والتلفزيون ... وثمرة الحقائق الروحية الخلاص من القلق الذي هو مفتاح السعادة ، إن لم يكن هو السعادة بعينها " (1)(32/53)
9- يُقصد بالفلسفة : إيثار الحكمة ، أي البحث عن الحقائق بشكل عام سواء كانت مادية ، أو فكرية ، وأصبحت مع مرور الوقت متخصصة أكثر في القضايا الفكرية ، فالفلسفة والأديان والعلمانية والرأسمالية والشيوعية .. الخ هي جميعاً تبحث عن الحق والصواب في المجال الفكري ، أي تبحث عن الحقائق الفكرية ، ووجود التناقضات الكبيرة بين هذه المبادئ وغيرها أدى إلى اختلافات وصراعات فكرية وسياسية وعسكرية واقتصادية ، فألفت الكتب الكثيرة التي تنتقد وتمدح ، وأقيمت المؤتمرات والندوات ، وأنشئت المؤسسات والجامعات والمدارس ، ومن يقرأ في كتب الفلاسفة والعلمانية وعلماء الأديان وغيرهم سيجد أن البشرية بحاجة ماسة ، لأن تضع الجهود الكبيرة ، وتسلط كثيراً من الأضواء على هذا الموضوع ، وتفكر بعقل صحيح وبموضوعية لا نريد مناقشات بيزنطية ولا جدل ، ولا مؤتمرات للدعاية الفكرية والسياسية ، ولا نريد " صراعاً " فكرياً بل نريد أن يجتمع بعض المخلصين الواعين بهدف البحث عن الحقائق الفكرية لخدمة البشر نريد أن نتحاور وندرس ونفكر ونناقش من أجل الوصول للحقائق ، وليس لأي هدف آخر نريد أن نخرج من تعصب وتقليد ومعلومات خاطئة وبيئات تربوية عشنا بها ، وتضليل إعلامي ، وغش علمي نعم ستبقى أغلب هذه المبادئ فهناك جهل وتعصب ومصالح وضياع وستبقى الاختلافات والصراعات ، ولكن نريد أن يكون المخلصون في خندق الحق والحقائق والصواب والخير لا في خندق لا أدري أو عقيدة ضالة أو ضائعة فكل الخنادق الأخرى هي خنادق الباطل والخطأ والشر .
10- علم الواقع : هناك حقائق أخرى يمكن أن نسميها " علم الواقع " وهي تتعلق بالإجابة عن أسئلة مثل ما هي أسباب ارتفاع نسبة الطلاق في مجتمع ما ؟ وما هي العقائد الفعلية لجماعة أو حزب أو شعب ؟ وما الذي حدث في اليابان في القرن التاسع عشر ؟ وما هي حقائق الأوضاع الاقتصادية في الهند ؟ وما هي خلفيات هذا القرار أو الموقف ؟ ومن يتآمر على من ؟ ومن يملك أسلحة نووية ؟ وهناك اختلافات بين البشر في درجة معرفتهم بهذه الحقائق ، وهناك تناقضات كبيرة بينهم ، وحلها يتطلب جمع المعلومات الصحيحة ، وتحليلها كما يحدث في حل الغموض الذي يحدث في الجرائم ومعرفة هذه الحقائق أو بعضها ضروري ، ولكنها ليست موضوعنا في هذا الكتاب ، ومعرفة هذه الحقائق ذات أهمية خاصة في علم التاريخ وعلم السياسة وعلم الاقتصاد وأجزاء من علم الاجتماع وغير ذلك ، كما أن هناك علوم مثل الإدارة والتجارة والإعلام والموسيقى والشعر والأدب واللغات وغير ذلك ، وهي علوم وضع البشر لها أصولاً وقواعد وهي أيضاً ليست موضوعنا .
11- من الأمور الهامة جداً أن نعرف ما هو العلم ؟ وما هو الجهل ؟ فالعلم هو الحقيقة والحق والصواب والشيء الصحيح ، فعندما نقول في العلم المادي أن الماء يتكون من الهيدروجين والأوكسجين ، فإن هذه حقيقة مادية أي علم ، ومن يعرفها يكون عنده جزء من العلم المادي ، والحقائق المادية كثيرة جداً ، وكلما زاد الإنسان معرفة بها أصبح عنده علم ، وقد يتميز به حتى يصبح عالماً ، أما من يجهل هذه الحقائق المادية فعنده جهل بها ، وإذا كان لا يدري مما يتكون الماء ، ولا يعرف حقائق مادية كثيرة ، فهو جاهل بالعلم المادي ، وكذلك يُعتبر جاهلاً من يعطي إجابات خاطئة على الأسئلة المادية ، وهذا ينطبق أيضاً على العلم الفكري ، فمن لديه حقائق فكرية لديه علم ، والحقائق الفكرية هي الإجابات الصحيحة على الأسئلة الفكرية ، أما من يعطي إجابات خاطئة ، أو لا يدري ، فعنده جهل ، وهو جاهل إذا كان لا يعرف الإجابات الصحيحة على الأسئلة الهامة في العلم الفكري ، وقد يكون الإنسان مثقفاً فكرياً ويعرف معلومات فكرية كثيرة عن الإسلام والرأسمالية والشيوعية، وغيرها ولكن لا يعرف أيها المنهج الصحيح ، أو ما هي الإجابة الصحيحة على سؤال فكري مع معرفته بإجابات مختلف الاطراف ، فهذا عنده ثقافة ، وليس علم ، فهو مثقف ولكنه جاهل ، وهذا يعني عندنا أربع مستويات في دائرة الفكر : أولها وأفضلها علم وثقافة وثانيها علم بلا ثقافة ، وثالثها ثقافة بلا علم ، ورابعها لا علم ولا ثقافة .
أنواع العلم
تعريف العلم : هو الحقائق المادية والفكرية والواقعية ، وهذه أمور ثابتة لا تتغير مع الزمن ، وهي معلومات يقينية ليست ظنية ولا اجتهادية ولا افتراضية ، والوصول لها يتم من خلال أساليب علمية محددة ، والعلم هو إعطاء إجابات صحيحة على الأسئلة المطروحة ذات العلاقة .
تعريف الجهل : هو الظن والضياع ولا أدري ولا أعلم سواء في المجالات المادية أو الفكرية أو الواقعية ، وهو عدم معرفة الجواب الصحيح على الأسئلة المطروحة ، أو إعطاء إجابات خاطئة نابعة من آراء شخصية لم يتم الوصول لها بناء على أدلة يقينية .
أنواع العلم
الموضوع
…العلم المادي …
العلم الفكري
…علم الواقع …علوم الإدارة
والإعلام واللغات والموسيقى ...الخ
مجال الاختصاص …
الحقائق المادية(32/54)
…الحقائق العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية …حقائق عن الواقع الحديث والقديم للشعوب سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو تكنولوجية …مبادئ وأصول وضعها البشر في مجالات معينة للوصول لأغراض محددة
أمثلة من الأسئلة التي يتعامل معها العلم …ما هي درجة غليان الماء؟ ما هي الخواص الطبيعية لمادة الحديد ؟
ما هي العوامل المؤثرة في زراعة
…هل لهذه الكون خالق ؟
هل يوجد أنبياء ؟ هل الإسلام مبدأ صحيح ؟
هل العلمانية مبدأ
…ما هي أسباب ارتفاع نسبة الطلاق ؟
ما الذي حدث في اليابان في القرن التاسع
…ما هي قواعد اللغة الألمانية ؟
ما الفرق بين الخطط القصيرة والطويلة ؟ ما هي الآلات
القمح ؟
كيف نجري عملية جراحية ناجحة في القلب ؟
كم عدد النجوم في مجرة فلكية محددة ؟
…
صحيح ؟
هل الربا خير أم شر ؟ ما هي الحرية ؟
ما هي حقوق المرأة ؟
كيف نربي طفالنا تربية صحيحة ؟
…
عشر ؟
ما حقيقة الأوضاع الاقتصادية في الهند ؟ من يتآمر على من ؟ ما هي خلفيات هذا القرار ؟
…الموسيقية
الشرقية ؟
ما هي مبادئ الإدارة ؟
كيف نحقق نجاحاً إعلامياً ؟
المجالات والعلوم ذات العلاقة …
الكيمياء ، الفيزياء ، الطب ، الفلك ، الزراعة ، الهندسة ، الحاسب الآلي ... الخ
…الأديان السماوية وغير السماوية ، الفلسفة ، العلمانية ، الشيوعية ، الرأسمالية ، الوجودية ، النازية الاشتراكية .. الخ …التاريخ ، الواقع الاقتصادي ، الإحصاء ، أجزاء من علم السياسة ، أجزاء من علم الاجتماع .. الخ …الإدارة ، اللغات ، الإعلام ، الموسيقى ، الشعر ، الأدب ، المسرح ، التخطيط
الثمرات والفوائد المرجوة …من يعرف الإجابات الصحيحة أو كثيراً منها يكن عنده علم مادي وتقدم تكنولوجي ومن …من يعرف الإجابات الصحيحة يكن لديه علم فكري ومن يجهلها يكن لديه جهل …من يعرف الإجات الصحيحة يكون قادراً على التعامل مع الناس والأحداث والدول …معرفة الإجابات الصحيحة أحياناً تكون ضرورية كما في علم الإدارة وأحياناً لا فائدة منها كما
…يجهلها يكون متخلفاً مادياً وتكنولوجياً ، والتطور المادي يؤدي إلى تحقيق تقدم مادي وتكنولوجي ، أي بناء الأجهزة والسيارات والطرق والمباني وإنتاج الغذاء والدواء .. الخ …وتخلف فكري فالتطور الفكري يؤدي إلى تحقيق تقدم عقائدي واقتصادي واجتماعي وسياسي وأخلاقي ، أي بناء الأفراد والأسر والمجتمع على أسس صحيحة ... الخ …بصورة أفضل ، والتطور في هذا المجال يؤدي إلى تحقيق تقدم في اتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة وتطوير عملية الاجتهاد المادي والفكري …في الموسيقى ، والتطور في هذا المجال يؤدي إلى تحقيق تقدم إداري وتقدم في الاتصالات ، والإعلام ، هذا بالنسبة للعلوم النافعة منها فقط ،
الطريق إلى الوصول للعلم …
التجربة والمشاهدة والاستنتاج
الدليل الفكري (العقلي ) …جمع المعلومات الصحيحة من الشهود والكتب والجرائد وتحليلها ومشاورة المتخصصين والخبراء …
دراسة العلم على أيدي المتخصصين فيه
هل هناك اختلافات ؟ …الحقائق المادية واضحة ولا يوجد اختلاف بين البشر حولها ، ويوجد اتفاق على أسلوب الوصول إليها
…الاختلافات حول ما هي الحقائق الفكرية جذري وكبير ، وهناك اتهامات بالجهل والباطل والخطأ بين المتخصصين ، ولا يوجد اتفاق حول أسلوب الوصول إلى الحقائق الفكرية …يوجد اختلاف بين البشر في بعض أو كثير من الحقائق الواقعية لوجود معلومات خاطئة ، أو لخطأ في التحليل …لا يوجد اختلافات جذرية في هذه العلوم لأن أغلبها علوم وضعها البشر ، أي وضعوا لها معايير الصواب والخطأ
الإجابات العلمانية(32/55)
الصراع بين المخلصين: مجال العلم الفكري هو البحث عن الحقائق في العقائد والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والشخصية ، أي ما هي العقائد والأفكار الصحيحة ؟ وما هي الخاطئة ؟ وما هو الحق ؟ وما هو الباطل في الأيدلوجيات والمناهج والآراء الفكرية ؟ أي ما هو طريقنا لمعرفة هل الإسلام نظام فكري صحيح أم لا ، وكذلك بالنسبة للرأسمالية والشيوعية والمسيحية والاشتراكية والنازية واليهودية ... الخ ، ونحن نريد أن نعرف الحقائق الفكرية لأننا على أساسها نستطيع بناء حياة صحيحة في عقائدها واقتناعاتها وسلوكها ، وحتى نقف مع الحقيقة والنور والحكمة والبصيرة ، ونبتعد عن الجهل والظلام والضياع والحيرة ، فالحقائق هي التي ستوضح لنا العدل من الظلم ، والحرية من الفوضى ، والعبادة الصحيحة من العبادة الخاطئة ، والاعتدال من التطرف ... الخ ، وإذا عرفنا الحقائق الفكرية فسنستطيع تصنيف الأفراد والأنظمة والدول إلى أهل حق وحكمة وإلى أهل باطل وضلال سواء بصورة كلية أو جزئية ، ونستطيع حل كثير من الاختلافات والصراعات التي تحدث بين المخلصين من أصحاب المبادئ الكثيرة لأن اختلاف المخلصين سببه اعتقادهم أن مبادئهم صحيحة ، فالمبادئ الفكرية هي أساس اتخاذ الدساتير والقوانين والمواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهي المتحكمة في الأفراد والأسر والقبائل والشعوب والأمم ، ونعلم أن كثيراً من الأفراد والدول وغيرهم يتحركون بناء على مصالحهم وشهواتهم والطمع والخوف ... الخ إلا أن المخلصين هم الذين يتحركون بناء على اقتناعاتهم بأن هذا الأمر حق وواجب، فالاقتناعات الفكرية هي العمود الفقري لأعمال وأقوال وأهداف المخلصين، فهم اختلفوا وتصارعوا فيما بينهم لاعتقاد كل فريق منهم أنه يتملك الحقيقة الفكرية ، نريد أن نصرخ كما صرخ أرخميدس عندما أكتشف قانون الطفو المادي " وجدتها " نريد " وجدتها " ، في المجال الفكري قال الأستاذ يوسف أبو الهيجاء " أما من يريد أن يحس بمقدار ما تتمتع به مشكلة الحقيقة من أشكال فما عليه إلا أن يحاول - جاداً - أن يصنع من مجموعة أفراد أمة واحدة ، وما عليه إلا أن يُحاول فض خلاف تعمقت جذوره بين أقوام ، أو أن يجعل من الآخرين أو الأغيار على حد تعبير حكماء صهيون إخواناً عزيزين عليه بتبنيهم فكرة عزيزة عليه يتبناها " (1)
ما هي العلمانية ؟ تعود أصل كلمة العلمانية إلى اللاتينية : " وهي مأخوذة من كلمة Secula r ism وتعني الدنيا أو الدنيوية أو اللادينية " (1) " والعلمانية حركة تاريخية حملت الأفراد داخل المجتمع الغربي من المجتمع " الثيوقراطي " الديني إلى المدنية الأرضية ، وفي هذا السياق ، لم يعد الإنسان مجبراً على تنظيم أفكاره وأعماله وفق معايير فُرضت على أنها إرادات إلهية " (2) وجاء في قاموس اكسفورد التعريف التالي " العلمانية مفهوم يرى ضرورة أن تقوم الأخلاق والتعليم على أساس غير ديني " (3) وبكلمات أخرى يرى العلمانيون أنهم يستطيعون بعقولهم المجردة ، وبدون الحاجة إلى رسالات سماوية وأنبياء الوصول إلى العلم الفكري ( الحق والصواب ) في العقائد والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وأن العقل وحده قادر على تحديد العدل من الظلم ، والحرية من العبودية ، والحياة الزوجية السعيدة ، والنظام الاقتصادي الصحيح ... الخ قالت الأستاذة أنعام أحمد قدوح " تنحصر عناصر العلمانية الأساسية وخطها الفكري في جملة نقاط هي :
1. الدنيا أو الحياة الدنيوية
2. اللادين مقابل الدين
3. فصل الأخلاق عن الدين ، وكذلك فصل العلم عنه
4. إقامة دولة ذات مؤسسات سياسية على أساس غير ديني " (4)
وإذا كانت هذه هي العلمانية ، فمن المهم أن نفصلها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم التكنولوجي وغير ذلك من أمور يعتبرها البعض ذات علاقة بالعلمانية ، وهي فعلاً ليست كذلك فقد تكون علمانياً ولكنك لست ديمقراطياً ، أولا تؤمن بحقوق الإنسان ، كما أن تعريف العلمانية بأنها العالمية أو التحديث أو العقلانية أو العلمية هو من باب خلط الأوراق
وتضييع الحقائق والبديهيات فالعلمانية هي الطبعة الجديدة من اقتناعات الفلاسفة وآرائهم ، والعلمانية هي الامتداد الطبيعي للفلسفة والعلمانيون هم الفلاسفة الجدد .
أسئلة للعقل العلماني :
سنسأل الآن بعض الأسئلة الفكرية الهامة ، وسنرى بعد ذلك الإجابات التي قدمها لنا العقل العلماني ، وهل هي إجابات صحيحة أم لا ؟ وكيف وصل إليها ؟ ومن هذه الأسئلة
أ- في مجال العقائد : هل الله سبحانه وتعالى موجود أم لا ؟ وإذا كان موجوداً فما هي صفاته ؟ ولماذا خلقنا ؟ وما هو أصل الإنسان ؟ وهل هنالك حياة بعد الموت أم لا ؟ وهل هناك أنبياء أم لا ؟ وكيف نعبد الله بطريقة صحيحة ؟ وإذا لم يكن وجود الله سبحانه وتعالى حقيقة ، فما هو هدفنا من الحياة ؟ ومن يضع هذا الهدف ؟ وماذا سنفعل مع من يعارض هذا الهدف ؟(32/56)
ب- ما هو النظام الاقتصادي الصحيح ؟ هل هو النظام الرأسمالي أم الشيوعي أم الاشتراكي أم الإسلامي ؟ وهل النظام الربوي حق أم باطل ؟ وهل نسمح بوجود قطاع خاص أم نرفض ذلك ؟ وهل نسمح بالقمار أم لا ؟ وهل نوافق على أن تصل ثروة بعض البشر إلى الملايين من الدولارات أم لا ؟ وهل من حق الإنسان أن يتصرف بماله كيف يشاء ؟ وهل من حقه أن يتبرع به كله لأعمال الخير أو لجمعيات الرفق بالحيوان ؟ وهل من حق زوجته أن تشاركه في ماله أم لا ؟ وهل للفقراء حق في مال الأغنياء أم لا ؟
جـ- ما هو النظام السياسي الصحيح ؟ هل يحكمه العمال أم الأغنياء أم العلماء ؟ وهل يكون الحكم فيه للأغلبية أم للأقلية أم لفرد ؟ وما هي مواصفات الأغلبية هل هي عرقية أم سياسية أم دينية أم طبقية أم مهنية ؟ وما هي حقوق الأقلية ؟ وما هي حدود حرية الرأي ؟ أم أنها بلا حدود ؟ وهل نساوي بين العلماء والمثقفين وغيرهم في حقوق الانتخابات والترشيح أم لا ؟ وهل نسمح بوجود أحزاب دينية أو طبقية أو علمانية أو نرفض بعض أو كل هذا ؟ وما هو موقفنا من التعصب العرقي ؟ وما الفرق بين التعصب والانتماء العرقي ؟ وما هو موقفنا من تعارض المصالح بين العمال والتجار وبين المستأجر والمالك ؟ وهل الديمقراطية الصحيحة هي تلك التي في أمريكا أم هي التي في روسيا الشيوعية سابقاً ؟ وهل نساوي بين البشر في رواتبهم أم نرفض ذلك ؟ وهل العدالة الاجتماعية أهم كما تقول الشيوعية أم أن الحرية الفردية أهم كما تقول الرأسمالية ؟
د- ما هي أسس الحياة الزوجية الصحيحة ؟ وما هو الأسلوب التربوي الصحيح لتربية الأبناء ؟ وهل نسمح بالطلاق أم لا ؟ وما هي الحقوق والواجبات المترتبة عليه ؟ وكيف نوزع الميراث بطريقة عادلة ؟ ومن هم الورثة ؟ وهل الزنا حرية شخصية أم فساد مرفوض ؟ وهل نسمح ببيع المجلات والأفلام الجنسية ؟ وما هو نظام العقوبات العادل للمخدرات والاغتصاب والقتل والسرقة ...؟ وما هي السعادة ؟ وكيف نعالج الأمراض النفسية ؟ وهل نسمح بالإجهاض أم نرفضه ؟ وهل الأنانية صفة محمودة أم مذمومة ؟ وهل الغيرة ميزة أم صفة سيئة؟
إجابات العقل العلماني(32/57)
تعالوا لنرى ما هي الإجابات العلمانية على الأسئلة السابقة وغيرها سنجد الآلاف من الكتب العلمانية الحديثة والقديمة تعطي إجابات كثيرة متناقضة ، فلكل سؤال من الأسئلة السابقة سنجد إجابات علمانية متناقضة ، وسنأخذ الرأسمالية والشيوعية كعقائد علمانية رئيسة شغلت العالم في القرن العشرين لنبين طريقة التفكير العلماني ، وما هي الإجابات التي وصل إليها وما هي الأدلة التي يستخدمها العلمانيون لإثبات " صواب " عقائدهم ؟ وهذا لا يتعارض مع معرفتنا بسقوط أغلب الأنظمة الشيوعية في العالم لأننا نناقش هنا الشيوعية كعقيدة علمانية اقتنعت بصوابها كثير من العقول العلمانية وسيطرت كدول لعشرات السنين على نصف الكرة الأرضية ، ومن فوائد اختيار هذين النموذجين هو أننا عايشناهما ، وسمعنا آراء أصحابهما ، وكلاهما حاول أن يثبت أنه يتبع الأسلوب العلمي ، وأنه العلماني الحقيقي ، ووصل للعدل والحرية والمساواة ، وهناك عقائد علمانية كثيرة كالوجودية والمثالية والعنصرية والاشتراكية وغير ذلك ولكن أغلبها عالجت قضايا فكرية جزئية ، وهي يجهلها أغلب الناس ، وأكثر من يهتم بها الفلاسفة العلمانيون ، وبالتالي فتسليط الأضواء على الرأسمالية والشيوعية يعطينا مادة علمانية غنية بعقائدها وأدلتها وأفكارها وتطبيقاتها ونتائجها ولنبدأ الرحلة مع العلمانية ، وسنجد أن الرأسمالي يقول أن الرأسمالية هي أفضل نظام للبشر ، ألا ترى حرية الرأي في أمريكا ؟ ألا تعلم أن الاقتصاد الأمريكي هو أقوى اقتصاد في العالم ؟ وأن الأنظمة الغربية هي التي تقود التقدم المادي التكنولوجي ؟ وهي التي حققت نجاحات كثيرة في قضايا حقوق الإنسان ؟ وأن تداول السلطة يتم بطريقة سلمية ، وأن أغنى الشعوب هي شعوب الدول الرأسمالية الغربية ؟ ويكفي أن نعلم أن الولايات المتحدة تصدر القمح إلى عشرات الدول ، وبعضها دول شيوعية ... وإذا انتهت الرأسمالية من كلامها سنجد الشيوعية تقول إن ديمقراطية الرأسمالية كاذبة لأنها ديمقراطية الأغنياء فالفقير لا يستطيع أن يرشح نفسه للانتخابات لأن الترشيح يحتاج أموالاً كثيرة ، أما ديمقراطية الشيوعية فهي تمثيل حقيقي لأغلبية المواطنين من عمال وفقراء لأنهم هم الأغلبية ؟ كما أن الشيوعية لا تسمح بأن يسيطر الأغنياء على الإنتاج والوظائف فيضطهدوا العمال والضعفاء وهي لا تعترف بالانتماءات العرقية القومية والوطنية ، فهي عقيدة أممية تساوي بين جميع البشر ، ألا يكفي أن جعلت الشيوعية روسيا والصين من الدول العظمى القادرة على إنتاج أسلحة نووية ، ألا يكفي أن توفر الشيوعية العلاج والتعليم مجاناً للجميع ؟ وسترد الرأسمالية بقولها إن الشيوعية أنتجت الفقر والاستبداد ،فقد سيطر الحزب الشيوعي على الناس ، وأوجد أكبر ديكتاتورية في تاريخ البشر ، وتدخل حتى في اختيار أماكن العمل والسكن ومنعت الشيوعية الناس حتى من حرية الهرب من الدول الشيوعية ولا يوجد في الشيوعية حرية صحافة ، كما أن ستالين قتل الملايين من الروس والشعوب السوفيتية ، أما الاستبداد الفكري فحدث عنه ولا حرج ، فالشيوعية لم تضطهد الأديان السماوية فقط وتهدم الكثير من المساجد والكنائس بل اضطهدت كل الأفكار والعقائد العلمانية الأخرى ، ولم تسمح للفلاسفة الروس والأدباء بحرية القول بل حتى لم تسمح للشيوعيين بذلك فقد سيطرت على الناحية الفكرية مجموعة فلاسفة شيوعيين فرضوا على الشيوعيين وغيرهم ما يقرأون ، وما يقولون وسترد الشيوعية بقولها إن التطبيق الخاطئ هو الذي أنتج الاستبداد والفقر ، ففرقوا بين النظرية والتطبيق فليس كل من يدعي أنه شيوعي صادق في ذلك وهذا ما حدث في بعض الأنظمة كما أن الحرب الأمبريالية للشيوعية ساهمت في فقر وإضعاف بعض الدول الشيوعية ومن قال إن كل الدول الرأسمالية غنية ؟ ألا ترون الدول الرأسمالية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية . كما أن السيطرة الفكرية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي هدفها حماية الحقائق الفكرية من التشويه والأعداء الداخليين ، وكل ثروة في حاجة إلى فترة لبناء وطنها دون السماح بأي هزات فكرية أو سياسية وهذه مرحلة مؤقتة وبعد أن تثبت الشيوعية نفسها ستفتح الأبواب الثقافية كما أن الشيوعية ناقشت الرأسمالية وغيرها خارج الاتحاد السوفيتي ، فهي ليست عاجزة عن الحوار وكان المفكرون الشيوعيون موجودين في كل قارة ولهم ، أحزاب وكتب ومؤلفات وكانت كثير من الدول الرأسمالية تضطهدهم وتمنع كتبهم وتسجنهم .(32/58)
وإذا اعتبرنا ما فات معركة يصعب حسمها وسيحتار العقل في تقصي الحقائق وفي جمع المعلومات وفي التعرف على حقائق الواقع وماذا حدث ؟ ولماذا حدث ؟ وما هو الحقيقي والصادق ؟ وما هو الوهمي والكاذب ؟ سنجد أن الشيوعية تقول أن الحق معي لأنني بناء على أدلة " علمية " أثبت أن الله غير موجود وتأملت في تاريخ الإنسان فوجدت أن هناك علاقة وثيقة بين المصلحة وبين الإنسان ، وحركة التاريخ ، واستنتجت النظرية الماركسية ، وهذا ما يثبت أنني وصلت للحقائق الفكرية بطريق عقلي ، فقد بذلت جهوداً عقلية كبيرة حتى وصلت لهذه الحقائق ، فأنا العدو الأول لاستغلال البشر من قبل الإقطاعيين والأغنياء وأصحاب الأعمال والتجار وأنا أطبق المساواة الحقيقية بين جميع البشر ، ولا أجعل وسائل الإنتاج بيد أي فئة ما عدا العمال والفلاحين لأنهم هم من يقومون فعلاً بالإنتاج ودورهم أهم من المدراء وأصحاب العمل ولهذا قمت بتأميم المصانع الخاصة والمزارع وأنشأت قطاعاً عاماً قوياً يسعى لتحقيق فائدة الشعب ، ويديره أبناء الشعب ، وألغيت الصراع الطبقي ، وألغيت وسائل الإعلام الخاصة التي تسعى لمصالح التجار ، وتشوه الرأي العام ، ولا تهتم بمصالحه ، كما أنني لم أجامل كالرأسمالية بل حددت الحقائق في كل المجالات ، وحاربت الدين لأنه أفيون الشعوب ولأنه يمنع العمال من الثورة على الأغنياء ولا أومن بأي شيء عاطفي أو نفسي أو روحي أو أخلاقي فالأساس هو المصلحة ، وأهم شيء هو العمل والإنتاج ، والأهداف السامية هي التي تتعامل مع تضميد جروح الفقراء والمستضعفين ، وهؤلاء هم الفئة النقية الطاهرة في المجتمع ، وأنا أهتم كثيراً جداً بتقدير العلماء في العلوم المادية ، وأرى أن العلم المادي هو العلم الوحيد الصحيح ، وهو الذي يفسر جميع الظواهر المادية ، والفكرية ، أما الأخلاق والدين فهما خدعة بورجوازية تتستر من ورائها البورجوازية من أجل مطامعها ، كما أن العدل والمساواة بين الناس ستؤدي إلى توزيع الثروة والإنتاج والمكاسب ، وستؤدي إلى عدم الحاجة إلى السرقة لأن للجميع نفس الممتلكات ، ولا يوجد جوع ولا فقر ، فالسرقة هي وضع فرضته الأوضاع الأمبريالية ، وجعلت لها عقوبات رادعة حتى تحمي الأغنياء من الفقراء ، أما الرأسمالية فمبدأها الأقوى هو الذي يسيطر ويعيش وهي لا تعتمد في بنيانها الفكري على حقائق فكرية بل على التعايش مع الواقع والوصول إلى حلول وسط ، فهي تخضع للظروف والمصالح وليس للعقل البشري ، أما الرأسمالية فستقول إن عقلي أوصلني للحقائق ، فأنا فكرت بعقلي فوجدت أن الدين المسيحي خاطئ ، وأن فيه تناقض مع بعض الحقائق العلمية المادية التي اكتشفتها في الفلك ، وعلم الأحياء ، واقتنعت بأن ، العقل هو طريقي للتعرف على الحقائق وفتحت المجال للفلاسفة والمفكرين والسياسيين وغيرهم أن يختاروا أنظمتهم العقائدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وفتحت الأبواب الواسعة للنقاش والحوار ، ووضعت وثائق ودساتير وقوانين أدت إلى تبني مفاهيم محددة في قضايا الحرية والعدل والمساواة والاقتصاد ، منها حرية الرأي ، وأن الحكم هو للأغلبية ، وأن هناك حقوق للأقليات وأن الناس حرة في اختيار عقائدها ، فهذا الأمر لا تتدخل فيه الدولة ، كما أنها حرة في جوانب كثيرة من حياتها الشخصية وعلاقاتها الاجتماعية ، فلا أفرض عليها شيئاً ، ولا أحدد لها الصواب من الخطأ ، فبإمكانك في عقائدك أن تكون مسيحياً أو مسلماً أو بوذياً أو وجودياً أو رأسمالياً أو حتى شيوعياً أو لا تؤمن بأي عقائد وبإمكانك في حياتك الشخصية أن تكون عفيفاً أو زانياً ، وبإمكانك أن تشرب الخمر أو تمتنع عنها ولك الحرية في التصرف في مالك كيف تشاء وبإمكانك أن تتزوج أو تبقى عازباً طول عمرك ، فالحرية الفردية مقدسة ، ومن خلالها أحقق المنفعة للمجتمع ، فلا يوجد تعارض بين الاهتمام بالفرد وتحقيق مصالح الجماعة ، وكثير من الاختلافات الموجودة في المجتمع يتم حسمها من خلال التصويت والأغلبية فالمبادئ عندي والقوانين والقرارات تستند في أحيان كثيرة بل في الأغلبية الساحقة للتصويت سواء في مجالس الشعب أو في المحاكم من خلال هيئة المحلفين ، كما أن من مبادئي الحلول الوسط في أحيان كثيرة ، فأنا لست مع الإيمان بالله ، ولا مع إلا لحاد ، وأنا لست مع المدارس الدينية ولا ضدها ، ولا مع الاحتشام ولا مع التبرج ، وأسعى دائماً إلى الحلول الوسط بين الاختلافات والصراعات الموجودة في المجتمع ، سواء كمصالح أو مفاهيم أو مواقف وذلك من خلال الحوار والنظر بواقعية للأمور ، كما أنني اقتنعت بأن رفض الأديان سيؤدي إلى إضعاف التعصب الديني الذي كان وراء كثير من الحروب في الماضي كما أن جعل القرار الأخير للشعب وللأغلبية سيؤدي إلى التخلص من انحرافات الحكومات ، وتسلطها وانفراد الأفراد والأقليات بالتحكم بالأغلبية ، كما أن النظام الاقتصادي الرأسمالي قد أثبت نجاحات كبيرة وحقيقية من خلال حجم الإنتاج ، واستفاد جميع المواطنين من تشجيع الإبداع التكنولوجي والتنافس التجاري ، وتقديم أجود الخدمات ، وتحقيق قفزات هائلة في(32/59)
رفاهية الإنسان أما بالنسبة للفكر الماركسي فهو مهزلة فكرية ، اختار بعض الفترات من التاريخ التي تناسبه، وتجاهل الفترات الأخرى ، فلم يدرس ماركس التاريخ بحياد وموضوعية ، بل انطلق من حقد وكراهية للأغنياء ، وليس من عقل بشري ، كما أن أغلب بل كل نبوءات ماركس حول المستقبل ، والتي منها توقع سيطرة الشيوعية على العالم فشلت فشلاً ذريعاً ، وانهارت الأنظمة الشيوعية ، وأصبح مكان الفكر الشيوعي المتاحف .
الآف الاجابات العلمانية المتناقضة:
ولم تخرج لنا العقلية العلمانية الفلسفتين الشيوعية والرأسمالية فقط ، بل أنتجت كذلك الاشتراكية والنازية والفلسفات القومية والقبلية ... الخ ، فأصحاب الفكر النازي العلماني اقتنعوا بأن العرق الآري الألماني هو أفضل الأعراق البشرية ، وأن من حقه أن يسيطر على الآخرين ، وبنوا اعتقاداتهم على الدور الألماني في التاريخ الحديث ، وفي التقدم التكنولوجي، وجعلوا الأخلاق والقدوة مرتبطة أساساً بالعرق ، لا باللغة ولا بالعمل ولا بالاجتهاد ، فالعرق الألماني متميز بالفطرة، أي خلقه الله كذلك واعتبروا أي خلط لهذا العرق مع غيره عن طريق الزواج خطأ وكارثة ووسيلة لتلويث هذا العرق وقدموا أدلتهم العقلية العلمانية على هذه الفلسفة ، وراجع كتاب كفاحي لهتلر ، وراجع بعض الفلاسفة الألمان الذين ساندوا هذه الفلسفة ، وإذا أضفنا مدارس أخرى فلسفية مثل الفلسفة المادية والتي تحتوي على مدارس فلسفية مختلفة مثل فلسفة برتراند رسل ، والوضعية الجديدة ، والمادية الجدلية " الشيوعية " التي أثرت في الغرب الرأسمالي ، والشرق الشيوعي ، ومفكري هذه المدارس وتناقضاتهم فيما بينهم حول كثير من القضايا الفكرية ولنقرأ أيضاً الفلسفات المثالية ، وهؤلاء مقتنعون بأن العقل يختلف عن المادة، وهو مقتنعون بأن الحواس والتجربة والمادة ليست المصدر الوحيد للمعرفة ومن فلاسفة هذه الفلسفة بندتو كروتشة، وليون برنشفيك ، وكانت ، ومن مدارسها المدرسة الواقعية، والمدرسة الميتافيزيقية ، والمدرسة المنطقية ، والمدرسة النسبية ، والمدرسة النفسية والمدرسة القيمية، وهناك فلسفة الحياة، وفلاسفة هذه الفلسفة يفسرون الواقع كله بوسيلة مفهوم الحياة، وهناك أربعة مدارس تابعة لها " مدرسة الدفعة الحيوية " عند برجسون ، والبراجماتية الأمريكية، والإنجليزية، والمذهب التاريخي عند دلتاي ، وفلسفة الحياة الألمانية ، ومن فلاسفتها هنري برجسون ، ووليم جيمس ، وفرد ناند شللر ، وجون ديوي ، وفيلهلم دلتاي، وهناك فلسفة الماهية ( الفينومينولوجيا ) ومن فلاسفتها ادمند هسرل،وماكس شلر ، وهناك الفلسفة الوجودية ، وتناولت هذه الفلسفة دراسة معنى الحياة ، ومشكلة الموت ومشكلة الألم ، ومشكلات أخرى ، وهي فلسفة تنبع أفكارها واقتناعاتها من تجربة حية معاشة ، تسمى تجربة وجودية فالمنبع لأفكارهم ليس العقل ، بل التعامل مع الواقع ، ومن فلاسفة هذه المدرسة جان بول سارتر ، وسيمون دي بفوار ، وهناك فلسفة الوجود ، ومن فلاسفتها صامول الكساندر ، وباول هيبرلن ووايتهد .
فالموضوعات التي ناقشتها العلمانية كثيرة جداً في العقائد والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء ما يتعلق بالالهيات ، أو الطريق للوصول للحقائق الفكرية والمادية ومسألة أصل الإنسان ، والقضايا الاجتماعية والجنسية والأخلاق والشر والخير والحرية والإرادة والواقع والطبيعة وما وراء الطبيعة ، والهدف من الحياة ، والظلم والعدل ، والآلام والفضائل والرذائل ، والثورة والأنظمة والاستغلال ، والانتماءات العرقية ، والاختلافات اللغوية ، والأمراض النفسية ، والطبائع البشرية وقضايا الإيمان وقضايا الإلحاد ، وأما المصطلحات التي تم استخدامها في العلمانية والفلسفة فهي كثيرة ذكرنا بعضاً من مُسمياتها أعلاه ، ونضيف إليها الانطولوجيا ، والكسمولوجيا ، والموقف الطبيعي والمطلق ، والفعلية واللا أدرية والمذهب الذري ومذهب السلطة والبعدي والديكارتي والمذهب السلوكي والوجود والأمر المطلق والمعرفة والسببية ونظرية الوجهين والثنائية ، والدفعة الحيوية والانبثاق ، ومذهب اللذة والأبيقورية، ومذهب الظاهرة الثانوية ومذهب السعادة والمذهب الشكلي وحرية الإرادة والنزعة الإنسانية، ومذهب حيوية المادة والحلول واللاحتمية والوسيلية والمنطق والحدس ومذهب التأثير المتبادل والتجريبية المنطقية والمادة والآلية والمذهب الحيوي والموناد ( الذرة الروحية ) ، والواحدية والمذهب الأسمي والشيء في ذاته والمذهب الفرصي ومذهب شمول النفس ووحدة الوجود، ومذهب التوازي ومذهب الكمال ، والمذهب التعددي والمذهب العقلي ، والحتمية الذاتية والانسجام المقدر ، والواقعية الميتافيزيقية ، ومذهب الذات الوحيدة ومذهب الشك والجوهر، والخير الأسمي والقياسي ، والرواقية ، والمذهب فوق الطبيعي ، ومذهب المنفعة، ومذهب الاتفاق ، والعالي (1) وهناك مصطلحات أخرى ولكن هذه على سبيل المثال لا الحصر.(32/60)
المتأمل في هذه الإجابات العلمانية يرى أنها متناقضة أشد التناقض ، فهناك أنواع من الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والعنصرية والوجودية والانتقائية وغير ذلك ، وهناك فلسفات كثيرة متناقضة ومتداخلة مع بعضها البعض ، وهناك تشكيلات متنوعة من المبادئ المختلطة ولكل تشكيلة تركيبة خاصة ، أما بالنسبة لأعداد وآراء الفلاسفة فحدث ولا حرج ، فمنهم على سبيل المثال أفلاطون وسقراط وأرسطو وفرويد وفوليتر وسيمون دي بفوار وماركس وآدم سميث وبرتراندرسل وجان بول سارتر وماوتسي تونغ وهلسكي وهتلر وهنري برجسون وإد مند هسرل وماكس شلر ومارتن هيدجر وهيجل ونيقولاي هارثمان وبندتو كروتشة وكانت وشلنج .. إلخ ومن قرأ في كتبهم يجد أن البديهة الأولى هي تناقض هؤلاء العلمانيين في آرائهم أشد التناقض ، وكل فريق منهم وأحياناً كل فيلسوف يتهم الآخرين أنهم أخطأوا ، وأنه على صواب ويقدم الأدلة العلمانية على وجهة نظره ولا نبالغ حين نقول إنك لا تجد اتفاق بين عشرة منهم في عشرة قضايا رئيسة .. فأين الحقائق الفكرية أيها العلمانيون أن عقلكم العلماني أعطانا الآلاف من الإجابات حول الأسئلة التي طرحناها ، ونحن نريد إجابات صحيحة ، أي حقائق فكرية ، لا نريد رأي هذا المفكر أو ذاك الفيلسوف ، أو تلك المدرسة الفكرية ، نريد أن نعرف الحقائق ، ألم تقولوا لنا اتبعونا وسنصل للحقائق ، ألم تقولوا إن العقل البشري قادر على الوصول للحقائق الفكرية ، أين هي الحقائق ؟ .. إن كل واحد منكم يقول إن الحقائق هي التي وصلتُ لها أنا أما بقية العلمانيين فهم ضائعون ومخطئون فمن نُصدق منكم ومن منكم يملك الأدلة العقلية الصحيحة التي تثبت صحة ما يقول ؟ أدلتكم متناقضة ومتعارضة وأنتم لستم بحاجة إلى أن ينتقدكم فرد من خارجكم فأنتم تتهمون بعضكم البعض بالجهل ، وهذا وغيره يثبت عجز العقل العلماني في الوصول إلى الحقائق الفكرية ، لأن العلمانية وصلت إلى إجابات متناقضة حول كل سؤال .. !!
عجز العقل العلماني
أين الحرية الصحيحة ؟
تناقض العلمانيون في كل أفكارهم وعقائدهم ، ولم يتفقوا حتى على حقيقة فكرية واحدة سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ، وهذا ينطبق على القضايا الكبرى كوجود الله سبحانه وتعالى ، فبعضهم يؤمن بوجوده وبعضهم ينفيه وبعضهم يقول لا أدري ، وهم أيضاً يختلفون حول الأصول والفرعيات الاجتماعية والسياسية ، ولنأخذ قضية الحرية كمثال على تناقض العلمانيين ، ولنأخذ الرأسماليين والشيوعيين كطرفين علمانيين، وسنجد أن بينهما تناقضات جذرية فكانوا في روسيا الشيوعية العلمانية يحددون للإنسان ما هو العمل المناسب له ؟ وفي أي مدينة وأين يسكن ؟ وماذا يقرأ ؟ ويعتبرون هذا لا يتعارض مع الحرية ، بل هذه هي الحرية الصحيحة ، أما في أمريكا فقد فتحوا الباب على مصراعيه ، فمن الحرية أن تقول أشياء كثيرة منها نقد الحكومة والسخرية منها ، ومن حقك أن تختار عملك وسكنك وماذا تقرأ ، ومن الحرية أن تمارس الجنس قبل الزواج ، أما بعد الزواج فلا يجوز ولك حرية في أن تعمل في السياسة وأن تنشئ من الأحزاب ما شئت حتى لو كان حزباً شيوعياً ، ومن الحرية الشخصية أن تتبرج المرأة ، ويسمح في سواحل معينة بالعري الكامل ، ولا يعتبرون هذا فساداً بل حرية ، والإنسان عندهم حر في ماله ومن حقه أن يبذره ومن حقه أن يتبرع به كله للحيوانات ، ولك الحرية في لعب القمار ، وأن تستخدم الكلمات البذيئة ما لم يمنعها القانون ، وهناك حرية إصدار الصحف في حين أن هذا من الممنوعات في الشيوعية العلمانية ويمنع تشكيل أي أحزاب ولا يسمح بالانتماء إلا للحزب الشيوعي ، ومثل هذا الاختلاف ينطبق على العدل والمساواة ، قال الأستاذ أديب صعب " وقد استفاض فلاسفة الأخلاق في معالجة مسألة الحرية التي تشكل أحد موضوعاتهم الرئيسة ، وملأوا الصفحات والكتب الكثيرة في هذا المجال، وتوزعوا مدارس حيال هذه المسألة فمنهم من سلم بحرية الإنسان التامة لكي يؤدي ما هو واجبه أو لا يؤديه ، مما يستتبع مسئوليته ومنهم من حد الحرية والمسئولية ببعض الشروط، ومنهم من نفى الحرية والمسئولية نفيا تاماً " (1) ومن هنا ندرك معنى قول من قال " كم من جرائم
ارتكبت باسم الحرية " أما بالنسبة للعدل فقد قال الدكتور محمد عمارة " ولهذا رأينا " العدل الليبرالي " متميز المضمون مختلف المفهوم عن " العدل الشيوعي " الأمر الذي اقتضى " للعدل الليبرالي " حكومة ليبرالية " و " نظام حكم ليبرالي " يحققان المضمون المتميز " للعدل الليبرالي " ، وكان الحال على ذات المنوال مع " العدل الشيوعي " ، ثم قال : فمن التمثيل الطبقي إلى التوجه الاجتماعي .. إلى النظام السياسي إلى تحديد الأولياء والأعداء .. إلى الموقف الفلسفي .. والمذهبية الحاكمة للفكر والثقافة والآداب والفنون .. كل أركان النسق والنظام تتمايز تبعاً لتمايز " المرجعية أهي ليبرالية ؟ أم شيوعية " (1)(32/61)
فنحن إذن وصلنا إلى نتيجة غريبة وهي أن للحرية معاني كثيرة ومتناقضة وأن للعدل معاني كثيرة ومتناقضة ، وكذلك للمساواة ولحقوق الإنسان ومفاهيم وأساليب العدالة الاجتماعية والحقوق العادلة في الحياة الزوجية ، والأسلوب الصحيح لتربية الأبناء ومعنى السعادة والاستبداد والظلم والمصلحة والخير والشر .. الخ فلابد إذن إن هناك معنى واحد صحيح للحرية أما بقية المعاني فهي كاذبة وخاطئة وباطلة وكذلك بالنسبة للعدل والسعادة والظلم والمصلحة .. نريد الحرية الحقيقية والعدل الحقيقي ولا نريد آراء وظنون وأوهام ، وهنا يظهر التناقض العلماني في هذه المفاهيم وهو دليل على أن العقل العلماني لم يصل إلا إلى السراب والعجز .
المبررات المنطقية:
السبب الرئيس في تناقض الإجابات وضياع العلمانيين أن العقل العلماني قادر على إعطاء مبررات منطقية عقلية لكثير من الإجابات ، فهناك مبررات قدمتها الشيوعية لتعريف الحرية أو العدل أو النظام السياسي الصحيح ، وهناك أيضاً مبررات قدمتها الرأسمالية والاشتراكية والنازية لإعطاء تعاريف أخرى متناقضة كلياً أو جزئياً فالشيوعية تقول إن السماح بالعمل السياسي لكل الأحزاب اليمينية واليسارية سيؤدي إلى سيطرة الأغنياء ، واضطهاد الفقراء وفتح الباب للجدل وهدم الثورة الشيوعية كما أنه لا توجد مبررات لهذه الأمور لأن الحزب الشيوعي يمثل الأغلبية الساحقة ، وسيسعى لمصالحها وإن فتح الباب ليست حرية بل فوضى سياسية وفساد يجب أن يحارب ، أما الرأسمالية فهي أيضاً لها مبرراتها ولها تفسيراتها التي تقدمها لمعنى الحرية أو العدل الذي اختارته ، فهي تقول إن الحرية هي ذات ضوابط قانونية ، وأن الحرية الشخصية تنتهي عند حدود حرية الآخرين ، وأن وجود تنوع سياسي في الأحزاب لن يؤدي إلى فوضى ، بل سيؤدي إلى تنافس في العمل وتقوية الرقابة ، وأن القرار الشعبي هو الأساس وأن حرص السياسيين على مصالحهم سيجعلهم يهتمون بمصلحة الشعب لأنه قادر على عزلهم ، أما إذا قلت لهم ، أن الزنا له، سلبيات كبيرة قالوا هذه حرية شخصية ، ولا أحد يجبر أحداً على الزنا ومن يريد أن يتزوج فليفعل، أما بالنسبة للحمل والأبناء غير الشرعيين فهناك ملاجئ تحتضنهم إذا تنكر لهم أباؤهم وهناك وسائل لمنع الحمل ، كما أن التمتع بالحياة هو هدف أساسي في فكرنا المادي الرأسمالي ، وسنجد هناك مبررات كثيرة لكثير من الآراء العلمانية المتناقضة سواء كانت في الرأسمالية أو الشيوعية أو النازية أو أقوال كثير من الفلاسفة، فهذا الفيلسوف يعطي المصلحة وزناً كبيراً جداً أما الآخر فيهتم بالمبادئ المعنوية، والثالث يركز أكثر على الجنس ويجعله العامل الرئيس المحرك للإنسان ، والرابع يهتم بقضية الحرية الفردية ، والخامس يركز على مصلحة الجماعة والسادس يعطي التبريرات على وجود الله سبحانه وتعالى والسابع ينكر هذا الوجود، والثامن يحاول أن يقنعك بأن الغاية تبرر الوسيلة ، والتاسع أن الأخلاق بدعة برجوازية والعاشر أن الشر هو الصفة السائدة في البشر، والحادي عشر أن الزواج مؤسسة رجعية تضطهد المرأة ، وكل فكرة من هذه القضايا سواء كانت صحيحة فعلاً أو خاطئة لها مبررات منطقية تجعلها تبدو صحيحة قال الأستاذ تقي الدين النبهاني " والأسلوب المنطقي وإن كان أسلوباً من أساليب الطريقة العقلية ولكنه أسلوب معقد، وأسلوب فيه قابلية الخداع والتضليل ، وقد يوصل إلى عكس الحقائق التي يراد إدراكها " (1)(32/62)
والطريف أن كل إنسان مثقف بإمكانه أن يكون مفكراً علمانياً وفيلسوفاً ، وهذا يحدث في القضايا الفكرية والسياسية وتبرير المواقف والتصرفات وتبرير حتى العقائد الغريبة ، قال الزعيم الهندي غاندي : " عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً ، لأني أعبد البقرة،وسأدافع عن عبادتها أما العالم أجمع " وقال " وأمي البقرة تفضل أمي الحقيقية من عدة وجوه ، فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً ولا تطلب منا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي (2) ويمكن أن نقول أننا كذلك نشرب حليب الغنم والماعز ولماذا لا نعبد الشجرة المثمرة ؟ ولو تمسكنا بالحقائق الفكرية التي جاء بها الرسل لما ضاع العلمانيون ، ولو سألنا العقل الأمريكي لقال عن البقرة إنها مصدر أساسي للبروتين ولحياة الناس ، وقد تصيب العالم مجاعات إذا لم نأكل اللحوم وقد يزيد البقر ويأكل الأخضر واليابس وهذا ضد التوازن البيئي ، وعموماً فذكر الإيجابيات والسلبيات ليس الأسلوب الصحيح للحكم على صواب أو خطأ فكرة ما ، فالخمر كما لها سلبيات لها منافع تجارية لمن يزرعها ويتاجر بها ، والقطاع الخاص له إيجابياته وسلبياته ، وكذلك القطاع الحكومي وكذلك الزواج والإجهاض والحرب والسلم ولا يتم الوصول للحقائق في العلم المادي من خلال آراء لإيجابيات وسلبيات أن يغلي الماء عند 20 درجة أو مئة أو مئة وخمسين بل التجربة والمشاهدة والاستنتاج أي الدليل المادي هو الذي يحدد الحقيقة المادية والمفروض أن نسأل ما هو الدليل الفكري على صحة الفكرة لا إيجابياتها وسلبياتها ولنتذكر أن مصالح أمريكا وغيرها من الدول القوية هي التي تعطي لها " الحق " في التدخل في الدول الأخرى فهي تقيس الأمور بالإيجابيات والسلبيات من زاويتها وليس ما هو حق وصواب باختصار : هناك مبررات عقلية منطقية بإمكانها أن تجعل كثيراً من الآراء تبدو كأنها حقائق ، وللعقلية العلمانية قدرة عجيبة على تقديم مبررات منطقية لبيان أن كل شيء سواء كان حق ، أو باطل ( ومنها آراء الآخرين ) باطلاً ، فمثلاً إذا عفوت عمن ظلمك قالوا هذا ضعف وجبن وتشجيع للانحرافات ، وإذا عاقبته قالوا لماذا لا تسامح أليس في قلبك رحمة أنه تعلم من خطئه ولهم قدرة عجيبة على مدح الحرب أو السلم ، ولهم قدرة عجيبة على مدح أمة أو شعب وذم شعب آخر والعكس ، فهم يختارون ما يشاءون من معلومات ومبررات للمدح أو الذم وهذا يجعلهم يرون العدل ظلماً والظلم عدلا والحرية فوضى والفوضى حرية ، وعموماً فسياسة الكيل بمكيالين عند العلمانيين في تعاملهم مع الأحداث العالمية تأتي أحياناً نتيجة نوايا فاسدة ، وأحياناً نتيجة طبيعية للعقلية العلمانية ، فالمشكلة التي لا زالت تواجههم أنهم لا
ــــــــــــــــــــــ
(2) ص 37 كتاب الرسل والرسالات للدكتور عمر الشقر(32/63)
يعرفون الحرية الحقيقية ولا العدل الحقيقي ولا العقائد الحقيقية ، فقد قالوا إجابات كثيرة متناقضة وأعطوا مبررات كثيرة متناقضة ، وعاشوا ولا زالوا يعيشون على التناقض والظنون والآراء وليس الحقائق الفكرية ، بل إن العقل العلماني يقدم أحياناً مبررات منطقية علمانية تقول إن المصلحة الشخصية للفرد هي في النفاق أو البخل أو التعصب العرقي أو الكسل أو الأنانية وهي أمور اتفق عقلاء البشر على خطئها ورفضها ، فبعض العلمانيين يقولون النفاق هو الطريق المختصر للوصول للمناصب والأموال ، وهذا واقع معروف وكلنا سمع من له هذه العقلية العلمانية ويقدم أدلة واقعية أن هذا الفرد نافق فوصل إلى أعلى المناصب وهكذا وسيجد في العقلية العلمانية ، أدلة منطقية تثبت أن الصدق يؤدي إلى أضرار ونفور وعداوات وأن الأفضل هو الكذب أو المجاملة أو الصمت ، ونذكر هنا مثالاً يوضح تناقض العقول البشرية فيروى أن جحا وابنه وحماره كانوا يسيرون في طريق ، فسمع من يقول من الناس إن هذا الرجل وابنه أحمقان ، لماذا لا يركب أحدهما على الحمار ، فركب جحا ، وبعد مسافة سمع من يقول إن هذا الأب قاسي القلب حيث يركب هو ويترك ابنه يمشي، فنزل جحا وأركب ابنه فسمع بعد مسافة من يقول إن هذا الابن عاق لأنه يترك أباه يمشي ويركب هو ، فركب هو وابنه الحمار ، فسمع من يقول إن هذين ليس في قلبهما رحمة حيث إنهما يرهقان الحمار والمقصود من هذه الحكاية أن العقل البشري قادر على مدح وذم أي حالة وأي قرار وأي عقيدة وأي نظام وسيجد لكل رأي أو عقيدة أو قرار أو نظام مؤيدون ومعارضون مؤيدون يرون أنه الحق ومعارضون يرون أنه الباطل وهذا هو الجنون العلماني والضياع العلماني والعجز العلماني، وهذا يفتح باباً لا ينتهي من الجدل والنقاش البيزنطي فهذا يستشهد بقول الفيلسوف الأول ، والثاني يستشهد بقول الفيلسوف الثاني ، والثالث يقول هذا رأيي وهذه أدلتي وهكذا مما جعلهم لا يتفقون حتى على حقيقة فكرية واحدة مع أن عمر العلمانية الحديثة عدة قرون ، وعمر العقل العلماني الآلاف من السنين ، قال الرازي " لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً "
وقال :
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في من تأثر من المسلمين بالفلسفة وبالطريقة العلمانية في التفكير مما أنتج ما يُسمى بعلماء الكلام من المسلمين : " لو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد " وقال هنترميد " كذلك فإن هذا هو الموقف الطبيعي " ما الحقيقة " ؟ لأي شخص في مركز الفيلسوف المحترف ، إذ أنه بدوره قد صادف أنصاراً عديدين لمذاهب متعددة ، كلهم يدعون أن لديهم " الحقيقة " ، وكلهم تقريباً يدهشون حين يجدون أي شخص يتحدى ادعاءهم بسؤال بيلاطس الملح " ما الحقيقة " (1) وقال المفكر الفرنسي بليز باسكال: " الفلسفة كلها لا تستحق ساعة تعب "وقال " التفلسف الحقيقي هو الهزء من الفلسفة " (2) وقال الدكتور عمر الأشقر " يشعل المنهج الفلسفي الكلامي الباحث والناظر فيه في قضايا ينقضي العمر ولا ينتهي من بعضها ، بل إن الذي يحصله منها ينطوي على شبهات تجعل اليقين غير موجود ، فيصاب الباحث بالحيرة والشك والاضطراب " (3) وقال الأستاذ يوسف أبو الهيجاء " حقا ما أسرع ما ينقض العقل نفسه بنفسه ، يصدر اليوم حكماً وينقضه غداً ، أرى الآن أن هذا حق وحقيقة ، وأعود فأراه باطلاً ، أقتنع الآن أن هذا العمل جد مثمر ، ثم لا ألبث أن أراه عبثا، أكون رأياً في الصباح ، أنقضه في المساء مكتفياً بأن أقول : إنه رأي خاطئ " وقال " صحيح أن العقل هو الملجأ الوحيد لإصدار الأحكام الإيجابية أو السلبية .. أما إذا ثبت أنه يصدر أحكاماً متناقضة أو متباينة ، فعندها وعندها فقط يكون البلاء أشد ، وندرك تمام الإدراك أننا في حوزة قاض وحيد غير ثقة " (4)
المعايير العقلية العلمانية: لا زلنا نسأل العلمانية نفس السؤال : ما هي الحقائق الفكرية ؟ وما هو الطريق العقلي العلماني لهذه الحقائق ؟ نحن نريد حقائق ، وليس أراء وظنون ، نريد طريقاً مشابهاً لطريق التجربة والمشاهدة والاستنتاج الذي يوصلنا للحقائق العلمية المادية فإذا كان مرفوضاً أن يقول علماء المادة أظن أن الماء يغلي عند 20 درجة مئوية في الظروف العادية أو أظن أن الأكسجين غاز لا يساعد على الاشتعال ومبرراتي هي أن ذرته تتكون من كذا وكذا فإن
ــــــــــــــــــ
(1) ص 152 الفلسفة أنواعها ومشكلاتها - الأستاذ هترميد - ترجمة د. فؤاد زكريا
(2) ص 128 المقدمة في فلسفة الدين الأستاذ أديب صعب
(3) ص 33 العقيدة في الله د. عمر الأشقر
(4) ص 40 ص 41 مشكلة العقل والحقيقة الأستاذ يوسف أبو الهيجاء(32/64)
مثل هذه الآراء لا وقت عند علماء المادة حتى لسماعها ، فالعلم المادي بشقيه الإحيائي والتكنولوجي يعتمد على حقائق لا أراء ولا مبررات عقلية متناقضة ، فعندما يقولون غليان الماء عند 100 درجة مئوية حقيقة ، فإنه لا أحد يستطيع أن يعارض ، فالعلمانية أعطتنا مبررات منطقية وثبت أنها متناقضة وحاول الفلاسفة وضع معايير عقلية لتحديد الحق والصواب فقالوا : لنأخذ الحرية والعدل والمنفعة والسعادة ... الخ، ومن الصعوبات التي واجهتهم أن هناك تناقض بين هذه المعايير ومنها أن هذه أهداف عامة لا اختلاف حولها ، فلا يوجد عاقل يقول أن هدفي هو التعاسة أو الظلم ، وأنها مقياس لتحديد الحق من الباطل ، ومن التناقض في هذه المبادئ : أن العلمانية الرأسمالية أعطت وزناً أكبر لقضايا الحرية مما جعل وزن العدل يقل في حين أن العلمانية الشيوعية فعلت العكس ، فالحرية تجعل الناس يتفاوتون في ثرواتهم وحظهم من الغنى والفقر فقد يسكن فرد منهم قصراً به مئات الغرف ، وينام الآخر في العراء ، في حين أن الشيوعية تحرص على نفس السكن أو مساكن متقاربة ولا تعتبر هذا يعارض الحرية الشخصية بل لا تعتبر تملك الثروة الهائلة بل المعتدلة من الحرية أصلاً ، والمشكلة أنه ليست عندنا حرية أو عدل فقط بل هناك مساواة ومصلحة جماعة ومصلحة فرد ومصلحة شعب، وهناك السعادة والرحمة والمنفعة " المصلحة " والإخاء والاحترام والحب والإبداع والتمتع والراحة النفسية والعزة والرفاهية والاستقرار والتملك والراحة الجسدية واللذة ، وهذه وغيرها أهداف نريد أن توصلنا لها عقائدنا ونظمنا ومفاهيمنا وقوانيننا ونريد أن نصل إلى نظام صحيح يحقق التوازن الصحيح بين هذه الأمور ، فلا نتطرف في ماديات ولا روحانيات ولا غرائز وهذه الأمور أهداف متداخلة مع بعضها ، وأحياناً متناقضة واقتناع العقول البشرية بأهميتها كلها أو بعضها أمر مختلف فيه كما أن إعطاء أوزان لها أمر مختلف فيه حتى لو تم الاتفاق على بعضها أو كلها كعناصر معيارية فقد تكون الانتخابات تعطي حرية ولكنها قد لا تعطي عدلاً ، وقد يخسرها المخلصون والعلماء وينجح بها المنافقون والجهلاء ، أما إذا حددنا مواصفات دقيقة تمنع ترشيح الجهلاء والمنافقين فإن هذا معناه تقليل حجم الحرية ، فالبعض لن يكون من حقه الترشيح أو حتى الانتخاب ، بحث العلمانيون والفلاسفة هذه القضايا فقالوا لنعتبر الشيء حقاً وصواباً إذا حصل على اتفاق الأغلبية أي من خلال التصويت وما عداه خاطئ ، وقال آخرون لنجعل معيارنا للحق السلطة سواء كانت أباً أو أماً أو حكومة ، وقال آخرون إن مقياس الحقيقة هي أن نعيش تجربة عملية ، ثم نستنتج بعدها حقائق هذا الواقع وقال غيرهم لنجعل المصلحة هي الميزان ونقيس الإيجابيات والسلبيات ، واختلفوا في ذلك والإيجابيات والسلبيات تختلف وزناً واتجاهاً من طرف إلى آخر ، وقد قيل مصائب قوم عند قوم فوائد ، وقال آخرون ما رأيكم أن يكون معيارنا هو تجربة كل فكرة على الواقع ، والفكرة التي تبقى وتعيش هي الصحيحة ، أما التي تموت فهي الخاطئة وبعضهم قال لنجمع علماء من مختلف التخصصات ، ونجعلهم يحددون المعايير وبعضهم قال لنأخذ بعض العلماء ونجعلهم يعرفون كل أنواع العلم ، ثم سيكونون قادرين على وضع هذه المعايير ، وبعضهم حاول أن يصنع معياراً مركباً من عدة نقاط ، وكل هذه المعايير وجدت من يرفضها كلياً أو جزئياً وينفي مناسبتها لتحديد الحق من الباطل ، وطبعاً سيختلف الناس فيمن يضع هذه المعايير بمعنى لو اخترنا مئة عالم أمريكي لأعطونا معايير متأثرة بخبرتهم وتجاربهم ، ولو أخذنا مئة عالم صيني لأعطونا معايير أخرى ، وهكذا فستكون معايير تحديد الحق من الباطل هي معايير ظنية ومتغيرة ومختلفة من فريق إلى آخر وهنا نحن نفترض أن المئة عالم " مفكر " أمريكي سيتفقون على معايير واحدة من خلال نقاش وحوار وسيتضح للجميع أن هذه هي المعايير الصحيحة لتحديد الصواب من الخطأ أي أن الاتفاق لن يكون من خلال التصويت ، وهذا أيضاً افتراض خيالي لأن العقول الأمريكية متعارضة كفلاسفة وعلمانيين ومفكرين ، فإذا كان من الصعب وأحياناً من المستحيل أن يتفق فيلسوفان كبيران على عشر حقائق فما بالك بمئة عقل وما بالك بمئة عقل من مختلف أنحاء العالم ، إن النتيجة المنطقية والبديهية أننا لن نصل إلى معيار لتحديد ما هو الحق وما هو الباطل في القضايا المختلف حولها وأقول المختلف حولها لأن هناك قضايا لا اختلاف حولها بين العقلاء مثل أن السرقة شر والاعتداء على الناس خطأ ، والتواضع صفة محمودة ، ومساعدة الفقراء رقي وحضارة .. الخ ، وقال هنترميد عن معيار مركب : " حدود المعيار المركب : ولكن من سوء الحظ أن جزءاً فقط من القضايا التي يتعين الحكم عليها بأنها " حقيقة " أو " بطلان " هو وحده الذي يستطيع الصمود لكل هذه المعايير " (1) وقال " تعد مشكلة الحقيقة من أعقد المشكلات التي يتعين على الفلسفة بحثها ، ذلك لأنه ليست هناك كثرة من " الحقائق " فحسب ، بل إن الناس نادراً ما يعنون نفس الشيء عندما يضعون عبارة بأنها " حقيقة " وقال " لأن الخلاف(32/65)
الأساسي يكمن في أن أحد الفريقين يستخدم نظرية أو معياراً معيناً للحقيقة ، في حين يرتكز الآخر على مفهوم مختلف كل الاختلاف " وقال " فإذا قلت " حقيقي " وكان في ذهني معنى معين ، وقلت أنت نفس اللفظ وكان في ذهنك معنى آخر ، لكن في مواصلة الحديث مضيعة للوقت (1) أي إذا كان الميزان الذي في ذهنك لتحديد الحق من الباطل يختلف عن الميزان لدى فرد آخر فلا فائدة حتى من الحوار ، فالعلمانية عجزت عن إيجاد الميزان الصحيح، ومعنى هذا الكلام إن كان معيار تقييمك للرجال أن الأفضلية هي للأصدق والأكرم في حين أن فرداً آخر عنده الأفضلية، هي للأغنى والأجمل فإن اختلافكم هنا هو في المعيار ، وبالتالي لن تتفقا على ترتيب عشرة رجال حسب الأفضلية وهذا ما حدث مع اختلاف المعايير في العلمانية حيث تحديد الحقيقة يصبح مستحيلاً إذا كان كل فرد أو حزب أو دولة تستخدم معايير مختلفة ، فهذا سيؤدي إلى أن كل طرف يرى الحقيقة التي صنعها أو ما يريد أن يعتبره حقيقة مما يجعل لدينا حقائق لكل طرف أو آراء مقتنع بها كل طرف ، ونحن نريد حقائق أصلية وليست مسميات وهمية لوجهات نظر شخصية وآراء ظنونية ،قال تعالى " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى " النجم (23) وقال تعالى " وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يُغني من الحق شيئا " النجم (28) وقال تعالى " وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون " يونس (36) معنى هذه النتيجة التي وصل إليها العلمانيون أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى العلم الفكري والحقائق الفكرية ، وإليكم هذه الاعترافات ، وهذه الأقوال قال برتراند رسل في كتابه تطوري الفلسفي: " إنه لا يمكن الادعاء بالقطعية ( في النظرية أو الآراء ) على النحو الذي سار عليه الفلاسفة المتسرعون ، بكثرة وبدون جدوى" (2) وقال أ.م. بوشنسكي " ولم يعتقد برتراند رسل ، منذ البداية أن بإمكان الفلسفة أن تقدم إجابات مؤكدة كثيرة، وحيث أن وظيفتها هي أن تفتح مجالات أما العلم ، فإن عليها أن تثير المشكلات لا أن تجد حلها ، أن المهمة الرئيسة للفلسفة مهمة نقدية (3 وعلق أ.م. بوشنسكي " ومن مزايا هذه الطريقة في التناول أنها تنبه العقل ، ولها من القيمة ما يفوق الإجابات الفلسفية التي تحمل الشك بين طياتها للأبد " (4) وأعلق لا نريد جدلاً ونقداً وحواراً لا ينتهي ، نريد أن نصل للحقائق الفكرية وقال جوليان هكسلي : " يجب أن نستعد
ــــــــــــــــ
(1) ص 152 المصدر السابق
(2) ص 34 الدين في مواجهة العلم الأستاذ وحيد الدين خان
(3) ، (4) ص 86 ص 87 الفلسفة المعاصرة في أوروبا أ.م. بوشيسكي ترجمة د. عزت قرني
لمواجهة الحقيقة، وهي أن جهلنا بالحقائق النهائية سوف يستمر إلى الأبد بسبب فطرتنا المحدودة " (1) وقال دكتور الكسيس كاريل " نحن ضحايا تخلف علوم الحياة عن علوم المادة " (2) وقال جوليان : " إن محاولة تقديم تفسير لعلم الإنسان ينطبق على كل إنسان ضرب من المستحيل وجرى وراء السراب " (3) أما الأستاذ عادل ضاهر فقد قال في كتابه الأسس الفلسفية للعلمانية " فالمشكلة الأساسية هنا هي أن ادعاءنا امتلاك معرفة معيارية بصورة مستقلة ، بعكس ادعاءنا امتلاك معرفة علمية بصورة مستقلة ، هو ما يشكل موضوع تساؤل ، ليس فقط من قبل منظري الحركات المناهضة للعلمانية ومن لف لفهم ، بل وحتى من قبل جزء كبير من الفلاسفة العلمانيين ، فإن بين الأخيرين عدداً لا يستهان به ينفي إمكان أو وجود معرفة عقلية، على المستوى المعياري ، بينما بالمقابل ، يكاد يستحيل أن نجد شخصاً واحداً عاقلاً ينفي وجود أو إمكان وجود معرفة عقلية مستقلة على المستوى العلمي " (4) والمقصود هنا أن هناك حقائق في المجال المادي في حين أن هناك عدم قدرة للوصول للحقائق في المجال الفكري وقال الشيخ عبد الحليم محمود : " والواقع أن العالم منذ أن نشأ ، وهو يحاول أن يجد مقياساً عقلياً ليزن به الحق والباطل ، في ميدان الأخلاق وما وراء الطبيعة ولكنه ، على مر الدهور ، وعلى اختلاف البيئات ، وبرغم الجهد المتواصل ، لم يجد هذا المقياس العقلي " (5) وقال ابن القيم : " وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يُتِيقن فليس بعلم ، وإنما هو ظن ، والظن لا يغني من الحق شيئاً " وقال صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " (6) وجاء في كتاب نظرات في النبوة " إن للعقل اختصاصه وميدانه وطاقته، فإذا اشتغل خارج اختصاصه جانبه الصواب، وحالفه الشطط والتخبط، وإذا أجري في غير ميدانه كبا وتعثر، وإذا كلف فوق طاقته كان نصيبه العجز والكلال " (7) وقال الأستاذ عبد الباري الندوي " لم يستطع علماء الأخلاق حتى الآن أن يعينوا المعيار الحقيقي للخير والشر " (8)
ــــــــــــــــــــ
(1)، (2)، (3) ص 93، ص98 الدين في مواجهة العلم للأستاذ وحيد الدين خان
(4) ص 172 الأسس الفلسفية للعلمانية الأستاذ عادل ضاهر
(5) ص 175 التفكير الفلسفي في الإسلام الشيخ عبدالحليم محمود
(6) ص 24 رسالة التقليد للإمام ابن القيم(32/66)
(7) ص 38 كتاب الرسل والرسالات د. عمر الأشقر
(8) ص 54 الدين والعلوم العقلية الستاذ عبدالباري الندوي
العلمانية منبع الجهل
عندما أقول : أن العلمانية منبع الجهل فهذه حقيقة فكرية أساسية يجب أن يعرفها كل من يبحث عن الحقائق ، وقد يقول قائل كيف تتهم العلمانية بأنها منبع الجهل ، وهي التي تدعو للاعتماد كلياً على العقل ، وتدعو للقراءة والتفكير والنقاش وأقول إن استخدام العقل على الطريقة العلمانية يوصل للتناقض والحيرة والضياع أي الجهل أي الفشل في الوصول على الحقائق ، أما القراءة والتفكير والنقاش فلن يؤدون إلى حقائق بل هذا يعتمد على نوعية ما نقرأ والطريق الصحيح في النقاش وإلا ستكون النتيجة هي الجدل والنقاش البيزنطي ، وإذا أخذنا الموقف العلماني من كل القضايا الفكرية الأساسية وجدناه مشوهاً ، ولا يوصلنا إلى الحقيقة ، فإذا قلنا هل الله موجود أم لا ؟ قال بعضهم نعم موجود وقال آخرون لا غير موجود ، وقال فرق ثالث أنا أشك في وجوده ، فهم بين الإيمان والإلحاد والشك ، ولست أنا وحدي من يتهم العلمانية بالجهل فالعلمانيون يتهمون بعضهم بالجهل فكل واحد منهم يتهم من يناقضونه الرأي بأنهم على خطأ أي جهل ، فالعلمانيون يتناقشون ويتكلمون ولكنهم لا يتفقون على حقائق فكرية ، بل يتناقضون ، بل هم لم يتفقوا على حقيقة فكرية واحدة مع أن العلمانية لها أكثر من ثلاثة قرون تقرأ وتتأمل وتبحث وتناقش ، بل منذ آلاف السنين من أيام الفلاسفة القدماء ، وهم لم يتفقوا على حقيقة واحدة وهذا يعني أنه لا يوجد عندهم علم فكري ولا يوجد حقائق فكرية فكل شيء خطأ ، وفي نفس الوقت كل مبدأ أو فكرة أو رأي تجد له مؤيدين منهم ، فأي شيء بإمكانه أن يكون صواباً وحقاً حتى لو كان فكرة سخيفة وكل شيء بإمكانه أن يعتبر خطأ وباطلاً حتى لو كان حقيقة فكرية عظمى تسندها الأدلة العقلية كوجود الله سبحانه وتعالى ، وكصدق الأنبياء ، فمن البديهيات أنه لا يوجد فكر علماني بل توجد مبادئ وآراء كثيرة ومتناقضة من الرأسمالية إلى الشيوعية إلى غيرها من المبادئ ، ولا يوجد وهذه قضية مهمة عقل بشري واحد ، بل توجد عقول بشرية كثيرة ، فهناك عقل رأسمالي وعقل شيوعي وعقل نازي ، وعقل اشتراكي ، وعقل انتقائي ... الخ ، فعندما قالت لنا العلمانية اتبعوني وسأوصلكم بالعقل للحقائق الفكرية وجدنا أنها لم توصلنا إلى حقائق بل إلى آراء ووجدنا أن هناك أكثر من عقل بشري، وكل عقل يعتبر نفسه الواعي والذكي وكما قيل : " كل بعقله راض " كما أن العلمانية لم تُعطنا نظاماً اقتصادياً متكاملاً بل أعطتنا أنظمة اقتصادية متناقضة رأسمالية وشيوعية واشتراكية .. الخ ، وهذا ينطبق أيضاً على النظام الاجتماعي والسياسي والتربوي ... الخ ، وإذا أوصلتنا العلمانية إلى أنه لا توجد حقائق فكرية فهذا قمة الجهل ، وقمة الضياع وقمة التخلف فإذا كان ما يوجد هو آراء وليس حقائق فمعناه لا يوجد علم ، ولا يوجد جهل وهذا هو الجهل بعينه، وبالتأكيد أن الجهل لم يحلم في تاريخه الطويل بأن يتساوى مع العلم ، وهذا هو ما وصلت إليه العلمانية قال برتراند رسل " تدعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كثيرة ، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى " (1) وقال آلان ود " برتراندرسل فيلسوف بدون فلسفة " (2) قال هنترميد "الفلسفة مضيعة للوقت" الفلسفة لا تحل أية مشكلة". الفلسفة لا تعالج إلا مشكلاتها الوهمية الخاصة - بل إنها تعجز عن حل هذه المشكلات". مثل هذه الملاحظات توجه إلى الفيلسوف المحترف وإلى طالب الفلسفة "(3) وقال أ.م . بوشنسكي " ولكن الأهم من هذا كله أن كل هؤلاء الفلاسفة الماديين يقفون حيارى لا يكادون يبينون بشأن كبريات مشكلات الإنسان وهي المشكلات التي اهتم بها الفكر الأوربي في القرن العشريين الميلادي أعظم اهتمام ، ففيما يخص الألم والعذاب والأخلاق والدين فإنهم يقتصرون على القول بأنها أمور لا تحمل مشكلات للفلسفة ، أو قد يقول بعضهم : إنه من المخالف للعقل اعتبارها مشكلات فلسفية على الإطلاق " (4) وقال " حيث يرون " الفلاسفة الماديون " أن أيه مناقشة حول أمور نفسية لا تكون بذات معنى " (5) وقال هنترميد " حرية الإرادة في مقابل الحتمية : على الرغم من أن علم النفس الحديث قد دعم وجهة النظر الحتمية بقوة فإن الحتمية ما زالت حتى الآن فرضاً لم يتم إثباته " (6) وقال " على أن أيا من جانبي النزاع الحاد الخاص بحرية الإرادة لم يفلح في قهر الجانب الآخر ، وما زالت هذه المشكلة ، على الأرجح أكثر أبناء الفلسفة إثارة للضجيج والمتاعب ، ولكن هناك على الأقل احتمال في أن يؤدي تطور علم النفس إلى تسوية نهائية لهذه المسألة القديمة العهد، ولو حدث ذلك لكان هذه يوماً سعيداً لأمها الفلسفة " (7) ولاحظ هنا كلمات لم يتم إثباتها ، وهناك احتمال ، ولو حدث هذا ، وحيارى وادعاءات ، وليست ذات معنى ، وانظر إلى الفيلسوف هنترميد وهو يقول : " ففي وسع المرء أن يستبعد المشكلات التي عرضناها حتى الآن ، ( مشكلة الله ، مشكلة حرية الإنسان ، مشكلة الدين ) على أساس أنها ليست بذات أهمية علمية(32/67)
ملحة مهما تكن حقيقتها ودلالتها من حيث هي مشكلات عقلية ، ولكن ها هي ذي مشكلة تعد أكثر المشكلات الإنسانية الكبرى اتصالاً بالإنسان ، وأعمقها تأصلاً فيه ، وربما أشدها إلحاحاً عليه وأعني بها وما الحياة الخيرة " ؟ (1) فهو يجعل وجود الله والدين وحرية الإنسان قضايا غير ذات أهمية عملية ، وما فعله خطأن أولهما هروب من قضايا كبرى اهتم بها الإنسان وعجزت عنها العلمانية والفلسفة والشيء الثاني أن هذه القضايا ذات أهمية عملية عظمى ، فالإيمان بالله والعقائد الدينية تُترجم إلى أعمال وعبادة وجهاد وأنظمة فكرية وسلوك وأحزاب وجماعات ودول وأخلاق ومعاملات وشعارات وحرب وسلام وهذه أمور يعرفها كل إنسان عاقل حتى لو لم يكن مؤمناً بوجود الله ، ولكن العلمانية لها أساليب وآراء في تشويه الحقائق الفكرية خدعت بها كثيرين وللأسف فأحياناً تقول إن القضايا الإيمانية ليست لها علاقة في الحياة الدنيا ، بل فقط بالحياة الآخرة ، وأحياناً تقول : لا علاقة للدين بالسياسة ، وأحياناً تقول لا نحتاج الدين في حياتنا .. الخ وهذا من أساليب نشر الجهل واتباع الأوهام والظن ، وليت كل العلمانيين والفلاسفة يعترفون كما اعترف سقراط حين قال " إنني جاهل ، وأعرف أنني جاهل ، وأما هم فجهلة ويجهلون أنهم يجهلون " ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل نجد الأستاذ عادل ضاهر يعلق على الأسئلة الكبيرة أي القضايا الفكرية الكبرى في حياة الناس من عقائد وأنظمة فيقول: "لا أحد يمكنه أن يدعى أنه أكثر كفاية من الآخرين لمعالجة أسئلة مقلقة كهذه ولا سلطة دينية أو علمانية يمكنها أن تدعي ذلك " (2) ولو قال الأستاذ عادل أن العلمانيين عجزوا لقلنا هذا صحيح ، وهذه حقيقة فكرية واضحة نتفق معهم فيها ، ولكنه تكلم بالنيابة عن أهل الإسلام والأديان السماوية ، وقال هم أيضاً ليست لديهم الكفاية لمعالجة هذه الأسئلة المقلقة في حين أن أهل الإسلام يقولون عكس ذلك ، فهم لديهم إجابات معروفة، وأدلة عقلية ووضوح ونور وهداية وعلم وبصيرة وحكمة قال سبحانه وتعالى " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " سورة الرعد 19 ، 20 وقال تعالى " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " سورة الحديد 25 فما أنزله الله سبحانه وتعالى هو الحق ، أي الحقائق الفكرية التي تجيب على الأسئلة المقلقة وغيرها مما يحتاجه البشر ، وسنتحدث في مقال قادم إن شاء الله عن الطريق الإسلامي للوصول للحقائق الفكرية وأدلته العقلية ، وسنداعب العلمانيين قليلاً لنقول إن أغلبكم وليس جميعكم مقتنعون ومتفقون على قضية واحدة ، ويرون أنها صواب وحق وهي أن من يريد الحقائق والعقل فليبتعد عن الأديان السماوية فلا يوجد فيها حقائق ، ونقول لهم أن هذه " الحقيقة " الفكرية الوحيدة عندكم هي أيضاً خاطئة فالإسلام هو منبع العلم الفكري والحقائق ، وأنتم أخذتم تبحثون في مكان آخر ولهذا ضعتم وجهلتم ومشكلتنا مع العلمانية ليست فقط أنها منبع الجهل الذي أصاب العالم خلال الثلاثة قرون الماضية بل أيضاً إنها حتى هذه اللحظة لم يقتنع العلمانيون بجهلهم ، قال أحد علماء المسلمين : " ما عُصي الله بمعصية أعظم من الجهل قيل هل تعلم يا أبا محمد معصية أعظم من ذلك قال نعم الجهل بالجهل " فمن لا يعرف الحقائق الفكرية هو أعمى فكرياً، ومن لا يعلم أنه أعمى فكرياً فهو أعمى مركباً لأنه لم يدرك جهل وجنون العلمانية الذي جاء في قول الدكتور عبد الحليم محمود أستاذ الفلسفة وشيخ الأزهر: " إن الفلسفة لا رأي لها، وذلك لأنها في مسائل ما وراء الطبيعة وما شابهها من القضايا الكبرى تقول الشيء وضده ، وتصدر الحكم ونقيضه ، يعني أن ما يقوله فيلسوف ينقضه آخر ، وما يبنيه واحد يأتي آخر في عصره أو بعده فيهدمه من أساسه ، وبهذا لا تستطيع الفلسفة أن تعطي رأياً واحداً محدداً في قضية كبرى " (1) ونحن لا نريد آراء متناقضة ولا حتى آراء متفقة بل نري حقائق فكرية وعلم فكري ، قال الشافعي رحمه الله " مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل ، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري " (2) وهنا ننبه إلى قضية هامة وهي أن العلمانيين أحياناً يصلون إلى حقائق فكرية وهذا هو الاستثناء لا القاعدة ، بمعنى أن من يعطي إجابات كثيرة متناقضة فإن بعض هذه الإجابات ستكون صحيحة ، فهناك من العلمانيين من آمن بوجود الله ، وهناك من أنكر ، وهناك من أخذ موقفاً متشككاً ، فمن آمن وصل إلى حقيقة فكرية ، وهذا ينطبق على قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية ، فليس كل ما تقوله العلمانية خطأ وهذا ليس ذكاء منها بل لأنها تعطي إجابات كثيرة متناقضة ، ولكنها لا تدري أيها الإجابة الصحيحة من الإجابات الكثيرة التي يقدمها العلمانيون والفلاسفة ، فالعلمانية هي التي لوثت الحقائق الفكرية ، وضربت العلم الفكري بالصميم ، وفتحت الأبواب الواسعة للجهل ليتكلم وينتج الآراء والفلسفات والعقائد الباطلة ، ويبني الأنظمة والأحزاب لتختلف وتتصارع وتملأ الأرض جهلاً(32/68)
وشراً وظلماً وضياعاً وتفككاً ، فالجهل هو أعدى أعداء الإنسان وهو منبع الانحرافات والشر والظلام ولكن العلمانية ألبسته ثوباً عقلياً وعلمياً مزوراً ، فإذا كان الجهل سائداً فإن هذا معناه بناء الأنظمة والعقائد والعقوبات والأعمال على أسس خاطئة وباطلة قال ابن القيم " فيا لله العجب ! كيف تُستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها لا أدري ؟ " (1) فمع اعتراف الفلاسفة والعلمانيين بالضياع والحيرة والتناقض ولا أدري إلا أنهم شرعوا الدساتير والقوانين ووزعوا الحقوق والواجبات وادعوا العلم والتقدمية والحضارة ، قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : " الناس ثلاثة : " فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق " (2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله " والجهل والظلم هما أصل كل شر كما قال سبحانه " وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " (3) سورة الأحزاب 72 وقال ابن القيم رحمه الله " إن كل صفة مدح الله بها العبد في القرآن فهي ثمرة العلم ونتيجته ، وكل ذم ذمه فهو ثمرة الجهل ونتيجته " (4) وقال " الجهل نوعان : عدم العلم بالحق النافع وعدم العمل بموجبه ومقتضاه فكلاهما جهل لغة وعرفا وشرعاً وحقيقة " (5) وأقول البناء العلمي الفكري الصحيح في العقائد والأنظمة والدساتير والقوانين والحياة الزوجية والجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو الذي يحقق العدل والحرية والسعادة والمساواة والحب والتواضع ، وإنسان بدون حقائق فكرية ( علم فكري ) كمن يريد بناء مصنع معقد ومتطور بدون حقائق مادية ، وعلم مادي ونقول بأعلى صوتنا أن العلم الفكري هو الأساس في تحديد المعنى الصحيح للحرية والعبادة والعدل والعقيدة الصحيحة، وهو يحد لنا من الأحرار ومن العبيد ومن الدولة العادلة ومن الدولة الظالمة ومن الواعي ومن الجاهل ، ألم يقل الإمام علي بن أبي طالب " اعرف الحق تعرف أهله " وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه " الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه " (1)
الأسس الجاهلية للعلمانية
لم تستند العلمانية أبداً إلى حقائق فكرية على مختلف مدارسها الرأسمالية والشيوعية والنازية وغيرها إنما استنادها هو فقط للظن والتخمين والرأي والاحتمال والحل الوسط والتصويت ولا أدري ، وكما يقول الإنجليز في نهاية اليوم لا بد أن تتخذ عقائد وأنظمة ومبادئ ونظريات، فأخذت مبادئها حسب درجة الضياع التي وصلت لها كل مدرسة من مدارسها الضائعة، وتجاهلت دعوتها لنا لنتبع عقلها الذي يوصلنا للحقائق الفكرية ، ولم تعترف اعترافاً صريحاً كما اعترف بعض كبار فلاسفتها بأنها ضائعة وأنها وصلت لطريق مسدود ، وأن الطريقة العلمانية في استخدام العقل كانت خاطئة ، وإليكم بعض الطرق والوسائل والمنطلقات التي اعتمدتها المدارس العلمانية حتى نعرف مدى ضعفها وخطئها وغياب أي أسس علمية لها .(32/69)
1) الإنسان مادة: اتبع الشيوعيون والفلاسفة الماديون أسلوب التجربة والمشاهدة والاستنتاج أي أسلوب الوصول للحقائق المادية في مجال الحقائق الفكرية ، فاعتبروا الإنسان مادة ، واعتبروا أن العقائد الصحيحة يمكن الوصول إليها من خلال حركة الحياة التاريخية والتعامل مع الإنسان كمادة نراقبها وندرسها ، واقتنعوا بأن المحرك للإنسان هو المصلحة فقط ، ولا توجد مبادئ ولا عقائد ولا أديان ولا حتى أمور عاطفية ولا علاقات اجتماعية ولا أخلاق ولا انتماءات عرقية ولا إله وظنوا أن الحياة تتحرك كمادة ، وأن المستقبل سيؤدي إلى حتمية معينة وهي سيطرة الشيوعية ، لأن هذا جزء من التطور المادي ، وسموا نظريتهم الاشتراكية العلمية ، وقدموا تبريرات عقلية واهية يظنون أنها تثبت نظريتهم فأخذوا بعض النظريات ولا أقول الحقائق المادية كنظرية التطور لداروين ، واختاروا بعض القصص والأحداث التاريخية كأدلة لفكرهم ، وتجاهلوا ما يعارضها وقد ذكرنا أن الإنسان يختلف عن المادة ولا يتصرف كما يتصرف الحديد أو الماء إذا أخضع لتجربة مادية ، ولكنهم تجاهلوا هذا أيضاً ولأن فكرهم هزيل ولا يصمد للنقاش فقط اضطروا إلى اضطهاد علماء الأديان السماوية ، والفلاسفة غير الماركسيين في روسيا الشيوعية ونفوا بعضهم وسجنوا آخرين وأعدموا بعضهم فلا حرية ولا نقاش ، والفكر الهزيل بحاجة إلى قوة تحميه وأخيراً سقطت الشيوعية سقوطاً ذريعاً ، ونقول إن أطفال المسلمين يعلمون أن هذا فكر باطل وشيطاني وجاهل ولكن روسيا احتاجت سبعين عاماً حتى تعلن ذلك ، والمشكلة ليست في العقل البشري ولكن في الطريقة العلمانية في استخدامه ، وإليكم ما قاله ميلوفان دجيلاس النائب السابق لرئيس يوغسلافيا عن الانتخابات الشيوعية " أنها سباق يعدو فيه حصان واحد " وقال عن الأحزاب الشيوعية " لقد أكدت هذه الطبقة الجديدة إنها أكثر تسلطاً في الحكم من أية طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ ، كما أثبتت في الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام ، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم في مجتمع طبقي جديد " (1) وهذا الفشل لا ينفي وجود نجاح جزئي بالوصول لبعض الحقائق الفكرية من خلال دراسة واقع الإنسان وتصرفاته وأحداث التاريخ والأسباب والنتائج .
2) لا توجد حقائق فكرية: أما العلمانيون الرأسماليون فكانوا أذكى بكثير من العلمانيين الشيوعيين ، فهم لم يتطرفوا في ادعاء العلم والحقائق الفكرية بل حرصوا على مصالحهم المادية وشهواتهم وأشغلوا أنفسهم بالأغاني والأفلام والروايات والفنون التشكيلية والمسرحيات والموسيقى ، وتركوا كثيراً من الأسئلة بدون إجابات ، ولم يدعوا كالشيوعيين أن علمانيتهم توصلهم لكل الحقائق ، فلم يحددوا الحق من الباطل والصواب من الخطأ في كثير من العقائد والعبادات والأمور الاجتماعية ، ولم يقدموا أدلة علمية على صواب فكرهم ، وقالوا أنت حر في عقائدك وعبادتك وحياتك الشخصية فيجوز أن تعبد الله أو تعبد صنم أو لا تؤمن بشيء ، ولتختر كل دولة ما تشاء من قوانين اجتماعية وسياسية واقتصادية ، وحاولوا من خلال مبدأ التصويت ومبدأ الحلول الوسط حل اختلافاتهم العقلية العلمانية ، ونجحوا كثيراً في قضايا العلم المادي، وهذا هو ما أكسبهم قوة ، ونجحوا أيضاً في الوصول إلى حقائق فكرية كالديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الأقليات كأسس وليس في كل جوانبها وهذا أعطاهم قوة فكرية جزئية ، ولكن فشلهم العقائدي والاجتماعي واضح جداً في شقائهم الاجتماعي والعقائدي والشخصي، والرأسماليون اعتبروا ما وراء الطبيعة أي القضايا الفكرية الكبرى لا علاقة لها بالواقع، فأعتقد ما شئت فيها أما القضايا السياسية والاقتصادية فيحلونها بالتصويت وليس بالاحتكام إلى العقل، أما القضايا الاجتماعية والشخصية فأنت حر فيها أي، أنهم فلسفوا عجزهم العقلي بأنه لا داعي للعقل ولا حاجة للحقائق الفكرية ، أما المهم عندهم فهو أن تقرأ لشكسبير وأن تكون قرأت قصة العجوز والبحر أو أحدب نوتردام ، أو أن تعرف الموسيقيين الكبار وتاريخ أمريكا ، وكتاب هذا السياسي ، أو ذاك فالأمور الثانوية أو غير الهامة هي التي يقيسون بها ثقافة وعلم الأفراد في حين أن الحقائق الكبرى يتجاهلونها ويجهلونها ولا يعتبرون ذلك جهلاً ونبين هنا قضية مهمة جداً وهي الفرق بين العلم والثقافة ، وبين العالم والمثقف ، فالثقافة هو أن تعرف معلومات كثيرة عن عقائد وأحداث ولكن إذا كنت لا تدري ما هي العقائد الصحيحة فأنت لا تعرف العلم من الجهل ، فأنت مثقف جاهل، فالقراءة والبحث لا تعني أنك صاحب علم بل العلم يقاس بكمية الحقائق الفكرية التي تعرفها .(32/70)
3) العرق هو المنبع الفكري: أقام النازيون والعنصريون عموماً فلسفتهم بناء على اختلاف الأعراق سواء بين أجناس أو أمم أو شعوب أو قبائل أو عوائل ، واختاروا من أقوال العلمانيين والتاريخ وغير ذلك أدلة عقلية مزورة تثبت " صواب " عقائدهم وأفكارهم ، ولا داعي لمناقشتهم ولكن يكفي أن نقول إن المسلمين والمسيحيين يعلمون أن الله خلق البشر متساويين ، وأن أكرمهم عند الله أتقاهم ، وهذه حقائق فكرية راقية يعرفها الناس منذ عشرات القرون ، ومع هذا نجد الفكر النازي العلماني وفي القرن العشرين مقتنع بأن العرق الآري أفضل البشر ، فأصحاب الأديان السماوية يعرفون سخافة الفكر العنصري بمختلف مدارسه ، ولكن العقل العلماني الألماني مقتنع به ، أما العقل العلماني الرافض له كالشيوعي والرأسمالي فإنه عاجز عن إثبات انحرافه لأن نقاش العقول العلمانية لا ينتهي في الغالب إلى نتائج متفق عليها ، بل إلى جدل لا ينتهي لأن لكن طرف مبررات منطقية تبدو كأنها صحيحة.
4) التجربة خير برهان: قال الفلاسفة الوجوديون : إنك ستصل إلى الحقائق الفكرية من خلال تجربة حية أي من خلال التجارب الشخصية وممارسة الواقع ، فالمسألة لم تعد العقل والتفكير ، بل التجربة الشخصية ، وهذا أيضاً باب من أبواب الضلال فكل إنسان سيكون عقائده ومفاهيمه عن الحق والباطل والصواب والخطأ من خلال تجربة شخصية ، أي ستتناقض الحقائق بعدد الآراء المتناقضة من التجارب الشخصية وتصور إنسان عليه أن يصل للحقائق من خلال التجربة أي عليه أن يدخل تجارب الألم والفرح واللذة والعبادة والغضب والثورة والظلم والعدل ... الخ حتى يكون مبادئه .. أفكار هزيلة ومبادئ عنكبوتية نجد أنفسنا مجبرين على نقاشها لأنها دمرت عقولاً بشرية ، ونقول لا توجد علاقة واضحة كيف سيكون الوصول إلى الحقائق عن طريق تجربة حية نعلم أن الشخص ذو الخبرة والعمر الطويل وممارسة العمل إذا كان ذكياً من المتوقع أن يكون أصوب في الرأي ونعرف أن المثل يقول : " اسأل مجرب ولا تسأل طبيب " ولكن هذا لا ينطبق على الجميع ولا حتى الأغلبية كما أن ما علاقة تجارب شخصية بالوصول إلى مئات الحقائق الفكرية في أنظمة اقتصادية واجتماعية وعقائدية ومن لديه الوقت والإمكانيات للتعرف أو لتجربة كل هذه الموضوعات ومن قال إن نتائج التجارب البشرية ستكون متشابهة وستصل إلى نفس الاقتناعات فهذا يتزوج ويمدح الزواج والآخر يتزوج ويذمه فأين الحقيقة ؟
5) البقاء للأصلح: قال الأستاذ زكريا فايد : وبالنسبة للفلسفة البرجمانية المنتشرة في أمريكا ، فعندهم أن الدين مثل أي فكرة أو أي قيمة ، فالأفكار والقيم عندهم ما هي إلا أدوات للعمل ، الواقع وحده أو بالتحديد قابلية هذه الأفكار وتلك القيم للتطبيق العملي هو الذي يحدد مدى صلاحية أو عدم صلاحية هذه القيم ، وتلك الأفكار ، ولا يستثنى من هذا شيء عندهم لا الدين ولا الأخلاق " (1) فبعض العقول الغربية قالت أن الطريق للوصول للحقائق هو ترك الواقع يحسمها بمعنى أن الواقع وليس العقل من سيقودنا وبنوا قولهم على أن الصراع بين المتناقضات وبين الحق والباطل سيؤدي إلى انتصار الحق وبقائه لأن الباطل ليست لديه عناصر العلم ، ونعلم أن البشر إذا لم ينصروا الحق سينهزم وسينتصر الباطل فأي ظالم سيتمادى بظلمه إذا لم يجد بشراً يردعونه فالظلم إذا وجد أنصاراً سيبقى ، ولو كان الحق هو الذي ينتصر لما عاش الباطل حتى عصرنا هذا ففلسفتهم هي طبق الإعدام ، فإذا نجح في ردع المجرمين فهو حق أما إذا لم ينجح فهو باطل ، ومعروف أن هناك عوامل تتدخل في الواقع من مبادئ ومصالح وظروف وغنى وفقر فهذا الطريق لا يوصل إلى الحقائق فما ينجح في بلد يفشل في بلد آخر ، فالحقيقة الفكرية تثمر في مكان ولا تثمر في مكان آخر إذا لم تكن التربة صالحة ، كما أن معنى هذا الكلام أن تطبق في بلد ما أنظمة اقتصادية رأسمالية وشيوعية وإسلامية .. الخ حتى نترك الواقع يقرر ما هو أصلح أي الذي سيبقى هو الأصلح ، وهذا قمة الفوضى والانحراف وعدم الوضوح وعدم الاستقرار ووضع الناس والأجهزة الحكومية في وضع مأساوي ، ومعنى هذا اترك الأفكار والأفراد والأحزاب والدول تتصارع والبقاء سيكون للصواب والحقيقة هي أن البقاء سيكون للأقوى ، وأن هذه هي الشريعة المطبقة في الغابة ، وإذا كانت القوى الديكتاتورية في شعب أقوى من القوى الديمقراطية فإن التطبيق سيكون للديكتاتورية، وقد تستمر عشرات السنين بل قروناً فهل هذه هي التقدمية العلمانية أم الرجعية الحقيقية(32/71)
6) الهرم المعقد: من الأمور الغريبة التي أدت إلى ستر الجهل العلماني طويلاً هو الفيضان الكتبي حيث نجد للفلاسفة والعلمانيين آلاف الكتب بدل كتاب أو كتابين للحقائق الفكرية كما في الأديان السماوية ، وهذا جعل الباحث عن الحقائق عليه أن يقرأ الكثير من الكتب، ولن يصل ليس فقط لأن ما عندهم آراء وليس حقائق بل لأنهم يعطونك آلاف الكتب وهناك صعوبة لأن يفهم بعضهم بعضاً كما أنهم يستخدمون مصطلحات كثيرة ذكرت بعضها في مقال سابق ، وكثير منها غامض ومتناقض ، وكلامهم كثير ومعقد مما يجعل الإنسان الطبيعي يمل من قراءات آلاف بل حتى مئات الصفحات من الكلام المتناقض غير المفيد بعكس الوضع مع الحقائق الإسلامية الفكرية التي يفهمها الناس لأنها واضحة وسهلة قال أ.م . بوشنسكي " والواقع أن إدراكنا أن حياة كاملة تقضى في البحث هي أمر ضروري لمعرفة فيلسوف واحد فقط " (1) وقال هنترميد : " أما أفكار معظم المفكرين الكبار فتصاغ عادة من خلال مصطلح فني أكثر تجريداً ، ينبغي أن نتعلمه مثلما نتعلم المصطلح الخاص بأي علم ، وهذا المصطلح الفني هو في الوقت ذاته الحاجز الأكبر الذي يقف حائلاً بين معظم الفلاسفة وبين عامة الناس " (2) ونقول إن مصطلحات أي علم آخر متفق عليها كما في مصطلحات الكيمياء أو الطب أو الإسلام ، أما المصطلحات الفلسفية فهي آراء متناقضة ، وهي ترجع لآراء علمانية وليس للعلم الفكري ، كما أن هذا القول يجعل كأن العلم الفكري معقد وصعب وهو ليس كذلك ولكن ضياع العلمانيين هو الذي جعلهم يصنعون هرماً عملاقاً معقداً ومتناقضاً ، فالجهل العلماني حمى العلمانية وحمى الفلاسفة بالغموض والتعقيد حتى يظن الإنسان العادي أنه لم يفهم ما يقوله هؤلاء لأنه لم يصل إلى مستواهم من العلم والنور ، فالعلم الفكري لا يتم التوصل إليه بكثرة المكتبات والكتب كما نشاهد في الغرب بل بما فيها من حق وباطل ، فالكثرة مع التناقض والاختلاف جهل وليس علماً ، ولنتذكر دائماً أنه لا يوجد شيء اسمه علم الفلسفة كما في علم الطب أو علم الفيزياء فأنت تقول يقول علم الطب ، ولكنك لا تستطيع أن تقول يقول علم الفلسفة لأنه لا يوجد علم بل توجد آراء متناقضة ، والأصح أن نقول يقول فلان الفيلسوف كذا ، ويقول الفيلسوف الآخر كذا ، ولو سألت العلمانيين هل قرأتم وفهمتم كل كتب الفلاسفة ؟ لقال كلهم لا ومع هذا يطبقون مالا يفهمونه وما يعتبر غامضاً ، فهم رفضوا تصديق واتباع رجال الكنيسة ومع هذا يتبعون رجال الفلسفة بإيمان أعمى وتقليد أعور ، أليس هذا تضييعاً للعلم والحقائق الفكرية بتصديق الفلاسفة المتناقضين ورفض تصديقهم الأنبياء المتفقين .(32/72)
7) التصويت هو الحل: لجأ بعض العلمانيين إلى التصويت كطريق لحل خلافاتهم ، وهذا معناه أن ما سوف يطبق هو ما سيحصل على الأغلبية ، فلا يوجد حق ولا باطل ولا علم ولا جهل ، ولكن يوجد من ينال الأغلبية فيتحكم بالحياة وحتى لو كانت هذه الأغلبية جاهلة أو صاحبة مصالح فإن قرارها هو الصحيح لأنه لا بديل ولا طريق للوصول للحقائق ، فلتوزن الأمور بميزان الأغلبية فالحق يصبح باطلا ً إذا خسر الأغلبية والعكس صحيح ، فرضى الناس هو المقياس للحق لا العقل ولا الأدلة العقلية ، ولو طبقنا الأغلبية على المجال العلمي المادي لما استطعنا أن نصل إلى الحقائق المادية الكثيرة التي وصلنا لها ونعلم أن الحقائق المادية تخضع للتجربة والمشاهد والاستنتاج ، وما ثبتت صحته هو حقيقة حتى لو عارضها كل البشر ، وكذلك يجب أن تكون الحقائق الفكرية غير خاضعة لرأي ومزاج أغلبية ، ونمزقها بالحلول الوسط ، ونُعرضها للنوايا المخلصة والفاسدة لتحددها ، وستختلف هذه " الحقائق " من شعب إلى آخر ، والتصويت ضمن شروط يصلح لأمور معينة فكرية ، أما جعله العمود الفقري للوصول للحقائق والدساتير والقوانين والعقائد والحياة الاجتماعية والاقتصادية ... الخ فهذه كارثة علمية كبيرة، وهذا ما فعلته الحضارة العربية الرأسمالية أي إعطاء الجهل شرعية التطبيق من خلال التصويت ، وطبقوا التصويت حتى في المحاكم التي فيها حكم على دماء وأموال الناس، فعندما تقول العلمانية لا نريد أن يفرض أحد رأيه على الآخرين والمسألة للتصويت فهي تقول الحقيقة مرفوضة حتى لو كانت تملكها أقلية أو فرد فهي مرفوضة كعقيدة أو نظام أو قانون أو رأي ، فالحل هو التصويت ويعتبرون هذه مساواة بين الجميع وهي فعلاً مساواة بين الحق والباطل والصواب والخطأ والإيمان والإلحاد بل إن حياد السلطة العلمانية ليس حياداً حقيقياً بل هو فعلاً تعصب علماني لأنه فرض المفاهيم العلمانية كالتصويت وغيره على الآخرين ، ومعناه أن الحكومة بلا مبادئ حتى إشعار آخر أي حتى يتم التصويت ، ومعارك التصويت هي التي ستحدد مبادئنا كدولة ، وستتجند كل الطاقات الفكرية والسياسية والاقتصادية لتنتصر لاقتناعاتها ومصالحها في ساحة الانتخابات والمجالس النيابية والأحزاب السياسية ، وفارق التصويت حتى لو كان قليلاً كما في الغالب هو ما سيحدد الحق من الباطل ، ولن تنتهي المعركة عند التصويت فسيحاول الخاسرون الاستعداد للمعركة القادمة ، وفي نفس الموضوع وقد يتغير القانون ويصبح حراماً ما كان حلالاً أو العكس وهكذا ، ولا شك أن المشاركة الشعبية والتصويت سيؤديان إلى درجة كبيرة من التوازن بين القوى الرئيسة في الشعب من أغنياء وفقراء وانتماءات سياسية وعرقية .. الخ وسيؤدي الرأي الجماعي إلى الاعتدال والوسطية والواقعية وهذه الأمور ذات علاقة قوية بالعدل قال تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " سورة البقرة 143 كما أن وجود الرقابة الشعبية وتداول السلطة سيوجد ضغوطاً على ممثلي الشعب تدفعهم للالتزام بالعدل في أحيان كثيرة ، ولكن هذا لا يعني أن التصويت هو الطريق إلى الحقائق الفكرية لأنه ينجح فقط في القضايا الاجتهادية الفكرية إذا توفرت الضوابط الصحيحة له ولكن بالتأكيد ليس مجاله القضايا الأساسية الفكرية مثل وجود الله وصدق الأنبياء والأحكام الاجتماعية والأسس السياسية والاقتصادية .. الخ فليس التصويت هو الذي سيحدد لنا الحق من الباطل في هذه القضايا وهي التي يختلف حولها الناس في عقائدهم العلمانية والدينية بمختلف مدارسهم القديمة والحديثة فالأحتكام فيها للعقل لا للتصويت ، كما أن التصويت يتأثر بالعصبيات السياسية والعرقية والطبقية والمصالح والتحالفات وشراء الذمم والصفقات السياسية والعداء الشخصي وفساد الضمائر والعقائد المتناقضة للمصوتين .. الخ ، وكل هذا يجعل دور " العقل " داخل المجالس الديمقراطية وفي اختيار أعضائها دور ضعيف وهذا واقع يعرفه كل منصف .(32/73)
8) ركوب الحصان المادي: استغلت العلمانية التقدم العلمي المادي وجعلت الناس يظنون أنها التي كانت خلفه ، وهذا جزئياً صحيح وبالتالي فما تقوله في القضايا الفكرية هو أيضاً صحيح ، فإذا قالت : " الدين أفيون الشعوب صدقوها وإذا قالت المصلحة في فصل الدين من السياسة فصدقوها ، وقالت العلمانية لم يعد هناك مكان إلا للعلم ، وهي تقصد العلم المادي، ومع هذا فالكلام والاختلاف معها هو في العلم الفكري ، فالتقدم العلمي المادي ستر العلمانية وضلل كثيرين ، وخلط الأوراق أي زاد في نسبة الجهل الفكري العالمي وإذا أضفنا إليه ما حققه التقدم العلمي المادي من غنى وإبداع ورفاهية مما جعل الناس تصدق كثيراً مما تقوله العلمانية، فالناس أو كثير منهم لا يهتمون إلا بالمال والقوة العسكرية والرفاهية ، ولا يهمهم الحقائق الفكرية فأمريكا هي القوية والغنية ونريد أن نقلدها وهذا هو الهدف الأول للكثيرين ، ولكن تأكدوا أن الحقيقة أقوى وأغنى من أمريكا العظمى فالعلم المادي حقق قفزات كبيرة ، نعم، ولكن العلمانية لم تحقق إلا الفشل والضياع ، فالعلمانية الكسيحة صعدت ظهر الحصان المادي القوي فظن الناس أن التقدم مشترك في حين أن الحقيقة غير ذلك ، كما أن العلمانية جعلت الناس تعتقد أن التقدم المادي العلمي هو الابن الشرعي لها ، وهذا خطأ فالعلمانية ساهمت في بعض النجاح لأنها تستخدم التفكير والتحليل والنقاش ، ولكن تطور العلم المادي خلال القرون الأخيرة حدث لأسباب أخرى أيضاً منها التنافس الاستعماري والقومي بين الدول الأوروبية ، وارتباط العلم والتكنولوجيا بمصالح اقتصادية وأموال وتجارة ، فلم يعد العلم قضية تهم العلماء فقط ، ولهذا حدثت استثمارات مالية كبيرة في البحث العلمي ، واهتمت الدول والشركات في الاستثمار العلمي المادي ، وإذا أضفنا إلى هذا أن العلوم المادية كانت موجودة منذ آلاف السنين سواء في الأقمشة أو التحنيط أو الطب أو صناعة السفن أو الفلك أو غير ذلك ، وهذه حقيقة تاريخية ، فإن اقتناع البعض أن العلمانية والتقدم المادي وجهان لعملة واحدة ساهم في انتشار الفكر العلماني اعتماداً على قوة الرصيد النقدي للعلم المادي .
9) الجدل البيزنطي هو العلم: من الأمور الغريبة أن البعض رفض الهدف الرئيس للفلسفة والعلمانية والذي هو الوصول للحقائق الفكرية ، وجعل هدفها هو النقد والنقاش والحوار أي نقد الأفكار والمبادئ ، و " فتح الأبواب أمام العقل " بطرح أسئلة جديدة ، فكأنها إذا فعلت هذا فقد قامت بواجبها وهذا اعتراف ضمني بالعجز الفلسفي العلماني فهو يقول ليس مهما أن أصل إلى الهدف " الحقائق " يكفي أنني أمشي للأبد باحثاً عن الحقائق ، فالمهم تأليف كتب في نقد الآخرين أو تشويههم ، ولكن إذا سألتني ما هو الصحيح وأين الحق ؟ فلا أدري أي أدري أنك على خطأ ولا أدري أين الصواب وبإمكان الفلسفة العلمانية أن تثير الشبهات حول الإسلام وتتهمه بتهم باطلة وتشوهه ، وإذا قلت لهم جدلاً نعم نحن نتفق معكم فما هو نظامكم العقائدي والسياسي والاقتصادي .. الخ ؟ قالوا لم نتفق حتى الآن ، أو قال بعضهم إنه النظام الرأسمالي ، وقال آخرون إنه النظام الاشتراكي وقال غيرهم غير ذلك وكل هذه أنظمة علمانية ومع هذا لا تعطي العلمانية أي شرعية لأي منها ولا تستطيع ذلك ، كما لا تستطيع إلغاء الصفة العلمانية عن أي منها ، والعلمانية تهاجم وتنتقد وتهدم الأديان وحتى المبادئ العلمانية الأخرى ، ولكنها لا تبني بيتاً متكاملاً للبشر ، وهي تعتبر البيوت الفكرية زجاجية ، ولا تبني حتى بيتاً زجاجياً مثلها بل تكتفي أن تقول كلمات قليلة هي اتبعوا العقل وهو سيهديكم ، وما تقوله لا يختلف معها أحد ولكن عقل العلمانية عجز عن بناء فكر لها يهديها فالعلمانية جعلت نقد الآخرين هو فكرها وأحياناً تتبرأ منه أو من أجزاء منه، فالذي يريد أن يحارب العلمانية يحتار فهي أحياناً بلا وجه ولا ملامح ، وأحياناً بملامح كثيرة متناقضة ، وإذا وجهت سهامك إلى نموذج علماني ثبت فشله يتبرأ منه العلمانيون ، فهي أحياناً لا شيء وأحياناً كل مبدأ علماني وأحياناً بعض المبادئ والآراء حسب مزاج العلماني ، وكل علماني يختلف عن الآخر فكيف إذن سيحددون حقائقهم العلمانية ؟ وكيف ستستطيع مناقشتهم وحالتهم من الجهل والغموض لهذه الدرجة ، وما ينطبق على العلمانية ينطبق على الفرد العلماني ، فإذا قالوا هذا الفرد علماني فأنت لا تعرف ملامحه الفكرية ، وهل هو رأسمالي أو شيوعي أو عنصري وما هي عاداته الاجتماعية .. أما إذا قالوا هذا مسلم ، وأقصد المسلم الملتزم فإنك تعرف طريقة تفكيره ، وتستطيع أن تبني علاقة معه من خلال معرفتك للإسلام ومبادئه ، ومن هنا ندرك أن الزواج العلماني زواج بين أطراف غامضة ومتناقضة في حين أن الزواج الإسلامي هو بناء علاقة على أسس واضحة.(32/74)
10) عقائد بلا أدلة علمية: تعطي الفلسفة العلمانية إجابات غريبة هروباً من إعلان عجزها ، فهي تؤمن بأن لكل مخلوق خالق كمبدأ منطقي ، ومع هذا نجد من لا يؤمن بذلك من العلمانيين يقول : إن هذا الكون المنظم خُلق بالصدفة أو لا أدري ولكن لست مستعداً لأن أؤمن بوجود الله لأنني أؤمن بأن الطفرة هي التي حولت القرد إلى إنسان ، ولا توجد أدلة علمية مادية أو فكرية صحيحة إطلاقاً على هذه الأمور بل هي غالباً ما تكون أقوال فلاسفة ليست لديهم معرفة كافية بالعلم المادي ولم يشاهدوا طفرة حولت قرداً إلى إنسان ، ولم يشاهدوا الصدفة التي خلقت الكون هي فقط افتراضات وظنون ونظريات لم تثبت يقيمون بناء عليها أفكاراً وعقائد وأنظمة وقوانين ودولاً وأحزاباً ، والعلمانية تعارض مبادئ منطقية صحيحة وتهرب منها بتفسيرات غير منطقية بل هي فعلاً أوهام وخرافات وجدل وعناد ومكابرة ، قال تعالى " كلا إنه كان لآياتنا عنيدا " سورة المدثر / 16
11) الهروب إلى المستقبل: من وسائل استمرار الجهل هو ما تفعله العلمانية من عمل الإنسان والمجتمع حقل تجارب لآراء ونظريات جديدة وحلول جديدة لمشاكل صنعتها العلمانية سواء كانت عقائدية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ، فإذا زادت أمراض المجتمع الاجتماعية من طلاق وعنوسة وأمراض نفسية فالحل هو زيادة ميزانية القضايا الاجتماعية وعمل مزيد من الأبحاث وتغيير القوانين ، وإذا لم تحل المشكلة كما تثبت الإحصائيات والواقع فالحل هو تجربة حلول جديدة وأفكار جديدة ، فالرأسمالية الحديثة ذات مفاهيم جديدة وأبعاد عالمية وهناك مفكرون جدد عملوا نظريات جديدة وفلسفات جديدة فالحل هو الجري وراء سراب جديد وأمل ضعيف ، فهي دائماً تقدم مشاريع وبرامج وتجري وراء سراب ، وأحياناً وهذا مشاهد تعتبر الانحراف والخطأ شيئاً مقبولاً وشرعياً حتى لو كان الشذوذ الجنسي أو تعتبر هذا الانهيار الاجتماعي كالطلاق والخيانة الزوجية جزءاً من التقدم الاقتصادي والحضارة ، فمتى كان الانحراف جزءاً من تقدم اقتصادي أو تكنولوجي بل الأغرب من هذا عندما يقول الإسلام : ومن البديهيات أن الإيمان بالله تعالى يقضي على القلق والأمراض النفسية وكثير من الأمراض الجنسية كالإيدز وغيره لا ترضى العلمانية حتى بالاعتراف بهذا الواقع المشاهد لأنها تعتبر الدين رجعية وخطأ ، وهذا التفكير أعطى الجهل عمراً أطول كما أن الحلول الجديدة العلمانية تعطي الجهل خلوداً لم يحصل عليه في كثير من العقائد الأخرى فعناد العلمانية حمى الجهل ، ومن الأمور الغريبة أن العلمانية تعرف وتعترف بأنها لم تهتد للحق والصواب ، وأنها ضائعة ولا تعلم ، ومع هذا تتهم الإسلام بالخطأ وأنه باطل ، فمن لا يعرف الحق كيف يحكم على أن هذا الشيء باطل وهذا ليس غريباً إذا عرفنا أن طبيعة العلمانية النقدية تجعلها تشوه كل شيء حتى ما يقوله العلمانيون.(32/75)
12) المبادئ الجزئية: من البديهيات العقلية أن أمور الحياة متشعبة ، وأننا بحاجة إلى فكر شامل يعالج قضايا عقائدية وسياسية واجتماعية واقتصادية ، ولكن العلمانية جعلت الكثيرين يعتقدون أن الاتفاق الجزئي على بعض الآراء والأفكار والشعارات كاف لبناء الإنسان والمجتمع، فتجد بعض العلمانيين يتفقون على بعض الآراء فيعملوا الفكر الرأسمالي أو النازي، أي أن الجنين الفكري العلماني لم يكتمل ، ومع هذا يعيشون فيه ويعتبرون أنهم متفقون مع اختلافهم وتناقضهم في الأغلبية الساحقة من القضايا الفكرية فهذا مؤجل، وهذا سيتم التصويت عليه ، وهذه قضايا غير مهمة ، وهذه أنت حر فيها .. الخ والفرد العلماني غالباً ما يكون ناقصاً فكرياً، فأغلب القضايا الفكرية ليس له فيها رأي ، وإذا سألتهم أين الشمولية والتكامل والوضوح الفكري لم يدركوا أن غياب هذا يعني أنه يقع في دائرة الجهل ، وأنهم " لديهم بعض العلم الفكري حسب ظنهم " ، ويظنون أنه يكفيهم ، وهذا يفسر تصارعهم وخلافاتهم كلما سارت القافلة العلمانية سواء كانت أفراداً أو حزباً أو دولة ، وهذا الاقتناع الجزئي ببعض الآراء جعل هناك تناقضاً بين أفراد الأسرة الواحدة ، وبين ما هو صحيح وما هو خاطئ داخل الحزب والمجتمع في كثير من الأمور مع وجود اتفاق جزئي على بعض الآراء ، وقد تكون الجزئية الفكرية غير مقتطعة من فلسفة واحدة بل من عدة فلسفات حيث نجد بعض العلمانيين ذوي مبادئ متنوعة وأحياناً متناقضة ، فقد يكون للعلماني أفكار شيوعية ، وفي نفس الوقت يتعصب لأمة أو شعب ، وقد تجده رأسمالياً ولكن لا يؤمن بالديمقراطية الغربية وما نقوله موجود بكثرة في عالمنا العربي حيث نجد أن عقول العلمانيين أو من تأثروا بالعلمانية أو صلتهم إلى اقتناعات انتقائية تختلف من فرد إلى آخر ، فنجده ماركسياً ولكنه يصلي والآخر محافظ جداً في المفاهيم التي يطبقها على أخته وزوجته وابنته ومتحرر في علاقاته مع النساء الأخريات ، أما الثالث فأخذ من الفلسفات العلمانية ما جعله يعيش في بيئه أنانية تدور حول مصالحه وأهوائه الشخصية وعنصريته فيصبح إنساناً انعزالياً وسلبياً فيما يتعلق بأمور مجتمعه أو حتى عائلته أو أسرته وهكذا ، وهذا التمزق والتناقض الفكري أحد أسباب تفرق العلمانيين وضعفهم محلياً وعالمياً .. ونقول إن المبادئ الجزئية تعني أنه لم يحدد العلمانيون موقفهم من القضايا الكبرى في الكون كوجود الله سبحانه وتعالى ، والغاية من خلق الإنسان ، والمفاهيم الأساسية للتربية والأخلاق والإصلاح والحياة الزوجية ... الخ وكيف يتم التعامل مع الأهواء ، والشهوات والمصالح والمناصب والمال ؟ فما الفائدة من الديمقراطية إذا قلت نسبة الرجولة في الذكور أو انعدمت وما فائدة حرية الراي إذا كنا نستخدمها في الدفاع عن مصالح فاسدة أو تشويه الآخرين أو السخرية منهم وأي حقوق للإنسان ستتحقق إن لم يكن في ضمائرنا خوف من الله سبحانه وتعالى فليس بالسياسة أو الديمقراطية فقط يحيا الإنسان ، فالفرق شاسع بين إنسان مغرور وآخر متواضع ومن يأكل المال الحرام وآخر يمتنع عنه ، ومن يتعاطى المخدرات ومن يحاربها، ومن يبر والديه ومن يعقمها .. الخ، وهذه الأمور هي التي نُعايشها كل يوم في تعاملنا مع الناس وهي منبع كثير من سعادتهم، أو تعاستهم وباختصار بناء الفرد والمجتمع يتطلب معرفة حقائق فكري كثيرة، والالتزام بها، وإلا سيبقى النجاح سراباً كلما وصلناه لم نجد شيئاً قال تعالى " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " سورة النور 39(32/76)
13) كل جديد صحيح: الحقيقة هي الحقيقة لا تتأثر بالزمن ، فالحقيقة الفكرية أو المادية تعتمد على الأدلة العقلية الصحيحة .. فغليان الماء حقيقة علمية مادية لم تتغير على مر السنين ، ومن الخطأ أن نرفضها لأنها حقيقة " قديمة " وكذلك في المجال الفكري ، فما قاله الأنبياء من حقائق فكرية تبقى حقائق إلى الأبد سواء ما يتعلق مها بصفات الله سبحانه وتعالى ، أو الأحكام الاجتماعية ، أو غير ذلك .. هذه البديهية العلمية رفضها كثير من العلمانيين ، وظنوا أن العلم والتقدم والوعي يتطلب فتح الأبواب لكل جيد حتى لو كان آراء سخيفة ، أو صرعات شبابية ماجنة ، أو تهجم من كاتب زنديق على الإسلام واتهموا من يعارض ذلك بأنه جامد فكرياً ، ومتعصب دينياً ، ويطالب بالعيش في الماضي أو خاضع لفكر ديني لا يقبل التجديد والتطور .. الخ ونقول ليس كل جيد صحيحاً وليس كل قديم خاطئاً فأغلب الانحرافات الحديثة من فسق وزندقة والحاد هي أيضاً أفكار قديمة ، فلماذا لا يكون تشجيعها جموداً وعودة إلى الخلف .. كما أن التوحيد والصدق ، والعفاف وبر الوالدين والدفاع عن المظلومين ومساعدة الفقراء وحق التملك وشرعية الزواج .. الخ هي حقائق قديمة ، فهل نرفضها ونستبدلها بما يخالفها حتى نكون تقدميين وقبولنا للاختراعات الجديدة في العلم المادي يتم لأنها حقائق مادية جديدة لا تخالف حقائق مادية قديمة ، إن هؤلاء لا يريدونا أن نحارب الجهل الفكري لأن ميزانهم " كل جديد علم، و " كل قديم جهل " " ولم يعد العقل ميزان تحديد الحق من الباطل ، وبالتأكيد أن كل جديد سيصبح قديماً بعد مائة سنة ، وعليهم أن يحاربوا في المستقبل ما يدافعون عنه اليوم وعليه فإنه لا يسعنا إلا أن نقول الجهل ظلمات بعضها فوق بعض ولا يظلم ربك أحدا .(32/77)
الخلاصة: من الواضح أن الأسس الفكرية التي اعتمدت عليها العلمانية بمختلف مدارسها كمنبع لاتخاذ العقائد والاقتناعات والأحكام هي أسس ليس لديها أدلة عقلية تثبت صوابها، وهي أسس يعارضها العقل السليم وأثبت الواقع فشلها، وهذا لا يتعارض مع وجود نجاح جزئي لبعضها مثل التصويت والبحث والقراءة والحلول الوسط والتأمل في الواقع والخبرة والتجارب الشخصية..... الخ والعكس صحيح أيضاً أي أن الفشل يكون نصيب هذه الأدوات والأسس إذا استخدمت في غير مكانها كما أثبتنا ، وفي كل الأحوال هذه ليست أسساً عقلية صحيحة لتحديد الحق من الباطل في العلم الفكري ، وحتى لا نظلم العلمانية نقول إنها أرقى من أوضاع فكرية مختلفة متأثرة بالاستبداد السياسي ، والتخلف الفكري المتمثل في الخرافات والسحر والجمود وتقليد الأباء والأجداد وتجميد العقل والتفكير والطاعة العمياء لرجال الدين وعقائد واقتناعات منسوبة زوراً وبهتاناً للأديان السماوية إلا أنها مختلفة جداً إذا تم مقارنتها بالحقائق الفكرية الإسلامية ، وإذا كانت الأسس التي اتبعها العلمانيون لا توصلهم للحقائق الفكرية فإن الحقائق الفكرية واضحة عند المسلمين، ومنبعها القرآن الكريم والسنة النبوية، قال تعالى: " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين " سورة الأنبياء 48 وقال تعالى " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" سورة إبراهيم (5) وقال تعالى" ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكل بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون" 63 إن الله هو ربكم فأعبدوه هذا صراط مستقيم 64 فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم "65 سورة الزخرف وقال تعالى " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " 89 سورة النحل وقال تعالى" ألم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (4) سورة آل عمران وقال الغزالي قال تعالى " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " سورة الحديد 25، ثم قال " واعلم يقيناً أن هذه الميزان هو ميزان معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته " ثم قال" والخلق كلهم يتعلمون من الرسل مالهم طريق في المعرفة سواه " وقال: " فمن تعلم من رسل الله، ووزن بميزان الله، فقد اهتدى، ومن عدل عنها إلى الرأي والقياس فقد ضل وتردى" (1) وقال " أما ميزان الرأي والقياس، فحاش لله أن أعتصم به، فذلك ميزان الشيطان، ومن زعم من أصحابي أن ذلك ميزان المعرفة، فأسال الله تعالى أن يكفي شره عن الدين فإنه للدين صديق جاهل ، وهو شر من عدو عاقل " (2) وقال " أزنها بالقسطاس المستقيم ، ليظهر لي حقها وباطلها ، ومستقيمها ومائلها ، اتباعاً لله تعالى وتعلماً من القرآن المنزل على لسان نبيه الصادق ، حيث قال " وزنوا بالقسطاس المستقيم " (3) سورة الشعراء (182) ، وأقول الإسلام هو عقلنا الثاني : وهو الذي نزن به الأمور فنعرف العدل من الظلم والحرية من الفوضى ، والانتماء من التعصب ، ومعاني الرحمة والقسوة والخير والشر والعقاب العادل والإخلاص والنفاق والمنفعة والمضرة وكيف نبني أسرنا ودولنا ؟ وكيف نتعامل مع الناس والأحداث ؟ وهو معيارنا في تقييم التطرف والاعتدال والإيمان والكفر والعلم والجهل والحكمة والحماقة والهداية والضلال ، وكما قيل الإسلام للعقل كالشمس للبصر فإذا لم تكن هناك شمس فلا ينفع البصر السليم ولكن العلمانية تظن أن بصرها ينفعها في سيرها في الظلام ، وأنها ليست بحاجة إلى شمس ، نحن لسنا ضد العقل بل ضد العلمانية والجهل .
العلمانية والعلم الفكري
يمكن الحديث عن العلاقة بين العلمانية والعلم الفكري من خلال النقاط التالية :(32/78)
1- تشويه الحقائق الفكرية : إذا كانت العلمانية قد عجزت عن الوصول إلى حقيقة فكرية واحدة واقتنعت بأنه لا يوجد شيء اسمه علم فكري ، فإن هذا لم يمنعها من تشويه كل شيء بما في ذلك الحقائق الفكرية التي جاءت بها الأديان السماوية ، فكل شيء يستطيع العقل العلماني تشويهه حتى آراء ونظريات العلمانيين وفلاسفتهم وصحيح أن هناك تعارض بين حقائق العلم المادي وبعض اجتهادات رجال الدين المسيحي ، أو التحريف الذي حدث للمسيحية ولقد استغلت العلمانية هذه الأمور التي ليست أصلاً من الدين ، وقامت بتشويه كل ما في المسيحية والإسلام وقالت العلمانية إن الاختلاف بين الإسلام والمسيحية يفرض علينا اتخاذ البديل العلماني في الحكم ، وإن اختلافهما يجعلنا نرفضهما ونقول إن التشابه بين الإسلام والمسيحية كبير لدرجة كبيرة ، وكان على العلمانيين أن يعتبروا هذا التشابه حقائق فكرية مشتركة بين البشر حتى يزيد حجم الاتفاق بينهم ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك ، ولم يحاولوا أن يفهموا طبيعة الاختلاف ، وأنه جاء لأسباب مختلفة لعل من أهمها حدوث تحريف جزئي للمسيحية ، ففي الإسلام ذكر لعيسى وأنه نبي ، وتوجد سورة كاملة باسم مريم ، وفيه ذكر كثير لموسى وإبراهيم عليهما السلام ، وفيه آيات تبين أن أقرب الناس للمسلمين هم المسيحيون ، وجعل لهم معاملة مميزة وعاش المسيحيون قروناً كثيرة في وسط إسلامي لا يعاديهم ولا يضطهدهم وإذا حصل ظلم أحياناً لهم فهذا جزء من الظلم الذي يقع على جميع الشعب بمختلف فئاته الطائفية أو العرقية أو الطبقية ، فحتى الملتزمين بالإسلام يتعرضون داخل الشعوب الإسلامية إلى ظلم ، فقد قتل بعض علماء المسلمين وسُجن بعضهم واضطُهد آخرون وبمرور سريع على التشابه الموجود نجد إن الإسلام والمسيحية متفقان على وجود الله سبحانه وتعالى ، ووجوب عبادته وطاعته ، واتباع الأنبياء والعلماء ، وبر الوالدين والزهد في الدنيا والبعد عن الزنى والتبذير والعصبيات العرقية ... الخ وإذا سلطنا الأضواء على العالم الغربي لوجدناه بعيداً عن الله سبحانه وتعالى ورسله وكتبه وعلماء الأديان السماوية ولوجدناه غارقاً في الشهوات وحب الدنيا والمال والمظاهر والتعصب القومي والوطني .
ومن أهم صفات العلمانية أن لها قدرة عجيبة على التشويه بمعنى إذا تبرعت لفقير قالت هذا تشجيع له على الكسل ، وإذا طبقت دولة عقوبة الإعدام على القاتل قالت هذه عقوبة قاسية ، وأيضاً إذا حكمت عليه بعشرين سنة سجن ، قالت هذه عقوبة متساهلة لن تردع الإجرام ، وهكذا ، وكان المفروض أن ترفض العلمانية فقط ما ثبت بالعلم المادي أنه خطأ لا أن ترفض الدين كله ، وتعتبر كل ما يقوله خطأ ، وما فعلته العلمانية من فصل الدين عن السياسة وعن الحياة هو فعلاً فصل للحقائق الفكرية عن الحياة والسياسة ، وفتح المجال لمختلف الآراء والعقائد لتختلف وتتصارع ، وهي عقائد الجهل والضلال والضعف والعلمانية بتركيبتها ومفاهيمها عقيدة ضعيفة نجحت جزئياً في عزل الدين ، ولكنها لم تنجح في عزل أو إضعاف عقائد كثيرة منحرفة ولعل أوضح مثال النازية والشيوعية فالأولى سقطت عسكرياً والثانية سقطت لأنها فاشلة جداً ، وليس " بقوة العلمانية الرأسمالية وحججها الفكرية القوية " ، أما بقاء الرأسمالية الغربية فذلك لأنها أسوأ الموجود ، فالجهل الفكري الذي توارثه البعض عن الأباء والأجداد بقي ، والعصبيات العرقية العنصرية موجودة حتى في أمريكا حيث البيض والسود ، ومن جعل همه المال والجنس أو المنصب لا يوجد في الصيدلية العلمانية دواء يثبت خطأه ومن هو عاطفي وخيالي لا يوجد في العلمانية فكر قادر على إقناعه ، بل العكس صحيح ، أي أنه سيجد كل منحرف في العلمانية وتناقضاتها ما يؤيد رأيه ، أو يقول أنا أتبع عقلي وهو الذي أوصلني أو أنا حر وكل هذه مفاهيم علمانية أعطت للجهل قوة في تبرير الانحرافات والجهل .(32/79)
2) الجميع علماء : جرأت العلمانية الناس على العلم الفكري ، فليس هناك علم فكري ، وليست هناك طريقة للوصول إليه ، ولا مراجع وكتب يعتمد عليها ، ومُعترف بها ، وهذا يعني أن كل إنسان قادر على أن يتكلم في العلم الفكري ، بل ويجادل بلا شهادة ولا تزكية ولا حتى قراءة وبحث ، وما دام عندنا قاعدة تقول ( كل بعقله راض ) فإن إصرار كل فرد على رأيه شيء متوقع وفي نفس الوقت لا يوجد مرجع أو عالم علماني قادر على تفنيد الآراء ، وبيان الصواب من الخطأ ، فالعلمانيون الكبار متعارضون ومتناقضون ، وأصبح العلم الفكري هو العلم الوحيد الذي يُتكلم فيه بلا ضوابط ، ولا حتى حد أدنى من الأمور المتفق عليها ، بل أصبح كل مثقف عادي قادر على كتابة فلسفة جديدة ، فإذا رأى أن المال أهم شيء عمل له فلسفة ومبدأ فكرياً وإذا اقتنع بأهمية العلاقات الاجتماعية عمل لها مبدأ فكرياً ، وتكلم العاقل والمجنون والذكي والغبي وأصبح عندنا منهج كامل اسمه ما رأيك الشخصي في هذه القضية سواء كانت عقائدية ، أو اجتماعية أو اقتصادية ، ونحن لا نريد أن نسمع آراء شخصية بعدد سكان الكرة الأرضية نحن نريد أن نعرف الحقائق الفكرية لأنها تفيدنا ، ولا نريد أن نسمع آراء كثيرة متناقضة لا نعرف منها ما هو صحيح وما هو خاطئ ، أي ما يفيدنا وما يضرنا ، فارحمونا من هذا الجهل الكبير ، ومن البديهيات التي يعرفها البشر أن العلم والعلماء والقرب منهم هو نور وهداية وفي العلمانية لا يُوجد علم ولا علماء ، فكيف سنتعلم ؟ ما سنفعله هو الاستماع للأراء والخرافات الشخصية فهذا الفيلسوف يعتقد أن الأسرة يجب تدميرها ، والثاني لا يرى ضرورة للزواج ، والثالث يرى أن التعامل مع البشر هو فقط بالقوة والشر ، وأن الخير حالة استثنائية ..... الخ
3) المرجعية العلمانية : أحد أبواب الجهل العلماني هو أنه ليست هناك مرجعية ككتب أو علماء تحسم الاختلافات أو تُبدى وجهة النظر بها ، وليس هناك حتى قبول بأي مرجعية ، فمن يحدد الحقائق الفكرية هل هو فريق أمريكي ، أو ألماني ، أو صيني ، أو ..... ؟ ولماذا علينا أن نطيعه ؟ أليست لدينا عقول ؟ وهل نعمل فريقاً دولياً للوصول للحقائق ؟ ومن يضمن صدقه ووعيه وذكائه ؟ أو عدم تحيزه للرجل أو المرأة وبالتأكيد لن يصلوا إلى اتفاق ، فلماذا يكون الحل بالتصويت ، وإذا كان فهذا ليس حلاً علمياً بل سياسياً ، وهل تضع الحقائق الفكرية أو حتى الفكر العلماني الدول المتقدمة تكنولوجياً فقط ومن قال أنها المتقدمة فكرياً ومن يضمن لنا أن الحقائق التي سيقولون أنهم توصلوا لها غير متأثرة بتجاربهم الشخصية وبيئتهم الفكرية ؟ ثم كم قضية سيتم مناقشتها أننا أمام مئات أو الآلاف من القضايا الفكرية وبأيها سنبدأ ؟ ومتى سننتهي منها كلها ؟ وكيف نضمن التكامل بينها ؟ وهل يقلد بقية البشر هذا الفريق تقليداً أعمى ؟ ومن قال أن عند البشر الوقت والجهد ليبحثوا فرداً فرداً عن الحقائق الفكرية ، ويقرأوا آلاف الكتب ، ويفكروا ويحللوا أن هذا بحاجة إلى مال ووقت وعمر طويل، والبشر مشغولون بأمور معيشتهم فدراسة الهندسة مثلاً تحتاج خمس سنوات ، فكيف بالموضوعات الكثيرة في العلم الفكري إن هذه الحالة ستبقى البشرية جاهلة للأبد خاصة إذا تذكرنا أن كل الجهد العلماني لم يتفق حتى على حقيقة فكرية واحدة طوال عمر الإنسانية ومشكلتنا مع العلمانية أن الأخطاء الكبيرة في صناعة الطائرة تسقطها أما الأخطاء الكبيرة في الإنسان العلماني لا تقتله بل يبقى حيا يتكلم ويناقش ولكنه تعيس وشقي قال تعالى " أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زُين للكافرين ما كان يعملون " 122 سورة الأنعام(32/80)
4) إيمان العلمانيين : حمى الله سبحانه وتعالى الحقائق الفكرية عن طريق الكتب السماوية المنزلة على أنبيائه الذين هم قدوة في أخلاقهم وصدقهم يريدون الخير للناس ، واقتنع الناس بأنهم أفضل البشر أما العلمانية فهي تفتح الأبواب ليضع الحقائق العلمانية والآراء أي إنسان حتى لو كان ضائعاً أو فاسقاً أو فاشلاً أو غاضباً أو عنصرياً أو غير ذلك ، فالعلم الفكري أصبح في بعض الأيدي غير الأمينة بل التي لا تريد أن تصل إلى حقائق ولا أن تفكر بموضوعية بل قد تكذب وتختار من الأفكار ما يلبي أهدافها الخاصة أو يحقق لها مجداً أو يضر خصومها أو أعداءها أو يرضي حكومة أو شعباً ، وهذا سيزيد من نسبة الجهل في العقل العلماني ، لأنه ليس قادراً على تمييز المخلصين الموضوعيين من الكاذبين ، فهذه أمور داخل النفس لا يستطيع أن يطلع عليها البشر ، ولنفترض جدلاً أن بعض العلمانيين المخلصين وصلوا إلى حقائق فكرية ، فلا يوجد دافع لنشرها أو حتى تطبيقها على أنفسهم ، بل قد يتصرفون بعكسها ، وهذا أيضاً فيه تضييع للحقائق الفكرية فعندهم الهدف هو المعرفة ، ولا يوجد " إيمان " بها يساهم في نشرها وتطبيقها ، وهنا يتضح رقي الإسلام وتخلف العلمانية في هذا الموضوع ، حيث أن الإسلام يعتبر المعرفة دون تطبيق معرفة إبليسية ، كما يفرض على المسلمين نشر الحقائق الفكرية والدفاع عنها من خلال الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي الأمر بالحق والنهي عن الباطل ، فالعلمانيون بطبيعتهم متناقضون ومختلفون وهذه كارثة ولا يوجد ما يمنع دخول الخونة والمفسدين ، وهذه كارثة ثانية ، ومن يصل منهم لحقائق فكرية غير ملزم بتطبيقها ونشرها ، وهذه كارثة ثالثة .. أي هي ظلمات بعضها فوق بعض .
5) تجاهل الاختلاف : حاول العلمانيون بطرق مختلفة الهروب من تناقضهم واختلافهم في القضايا الفكرية ، فأحياناً يعتبرون بعض القضايا الهامة قضايا هامشية لا داعي للاختلاف حولها ، وأحياناً يحتكمون للتصويت أو الحلول الوسط ، وأحياناً يُحملون المصالح المشتركة أو الوحدة الوطنية أو التسامح أكثر مما تحتمل ، أو يصفقون لاتفاق جزئي بين علمانيين متناقضين ويصورونه كأنه اتفاق شامل وضع " أسساً ثابتة " لبناء جبهة شعبية قوية ، وهكذا يحاولون تجاهل حقيقة فكرية وهي أن تناقضاتهم الفكرية هي تناقضات جذرية ، وأنها منبع الاختلاف والصراع بين البشر ، فهذه ليست " آراء اجتهادية " يمكن التعايش معها ، بل "اختلافات جذرية"
يجب حسمها وتحديد الموقف منها بناء على العقل لأن الاختلافات الجذرية هي التي أدت للصراع من بداية وجود الإنسان إلى يومنا هذا ، وهذا لا يمنع أن تؤدي الاختلافات الاجتهادية أحياناً إلى صراع في حالات معينة ، وبالتالي فالتعايش مع الاختلافات الجذرية هو حالة مؤقتة واستثنائية ، ولا شك أن اختلاف الآراء سيفسد للود ألف قضية ، وهذه حقيقة فكرية لا يمكن تغييرها أو تجاهلها ، كما لا يمكن تجاهل أن الأرض تدول حول الشمس ، لأن هذه حقيقة مادية ، من لا يتعامل معها لا ينجح في التعامل مع علاقة الأرض بالشمس ، وهذا يعني أنه حتى لو بلغ المخلصون القمة في الإخلاص والوطنية والتسامح فإن الترابط بينهم سيبقى حلماً إذا كنا نبحث عن ترابط شامل قادر على تحقيق الإنجازات الكبيرة ومواجهة الصعوبات الكثيرة ، فالاتفاق في العقائد والأفكار والآراء هو الذي يصنع الود والمحبة ، والاختلاف هو الذي يصنع التنافر والشر، والعلم الفكري هو الذي يصنع الاتفاق، والجهل العلماني هو الذي يصنع الاختلاف كما حصل في الاختلاف في الرأي بين الآراء الرأسمالية الأمريكية والآراء النازية الألمانية والآراء الشيوعية الروسية حيث أنتج الحرب العالمية الثانية ... والاختلاف الجذري هو سبب شقاء الأسر والأحزاب والتجمعات والدول ، وقيل الاختلاف شر كله ، ونقول الإسلام يقضي نهائياً على الاختلافات الجذرية ، ويقوم بترشيد الاختلافات الاجتهادية ، ويمنعها من إثارة الفتن والصراع ، ونتمنى أن يتعمق العلمانيون في عقائدهم وأهدافهم وشعاراتهم حتى يقتنعوا بما نقول ، وحتى يضعوا شعار : " اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية " في مكانه الصحيح ، ولا يُحملونه أكثر مما يحتمل
6) المقارنة الفكرية : وتعالوا الآن لنقرأ بعض الأجوبة العلمانية والإسلامية حول الأسئلة الهامة التي اختلف حولها الناس
1. هل يوجد خالق لهذا الكون ؟
1. الإجابات العلمانية:
1. نعم يوجد
2. لا يوجد
3. لا أعلم
الدليل العقلي
1. للإجابة بنعم الدليل هو أنه لابد لكل مخلوق من خالق
2. للإجابة بلا نظرية دارون ، لماذا يوجد شر وظلم ؟
أدلة قائمة على نظريات وليست حقائق ، وقائمة على ظنون وافتراضات أي على جهل
3. للإجابة بلا أعلم : الحيرة بين أدلة المؤيدين وأدلة المعارضين
ملاحظات :
أ- تناقض الإجابات العلمانية هو الجهل ، وكلما كان الجهل في قضايا كبرى كلما كان جهلاً عظيماً
ب- الأدلة العقلية أعطت إجابات متناقضة وهذا ليس دليلاً على خطأ العقل ، بل على عجز العلمانيين في استخدامه بصورة صحيحة وذلك بخلطهم بين الحقائق والظنون والشبهات .(32/81)
ج- هناك إجابة صحيحة وهي "نعم " فأغلبية العلمانيين يؤمنون بوجود الله لصواب الدليل العقلي القائل بأنه لابد لكل مخلوق من خالق ووجود إجابة صحيحة على هذا السؤال وغيره يبين أن بعض العلمانيين يصلون أحياناً إلى حقائق فكرية بعقولهم ، أو من خلال التصويت ، كما وصل الغرب إلى أهمية الديمقراطية وأجزاء كبيرة من الحرية الصحيحة .
الإجابة الإسلامية : نعم يوجد خالق
الدليل العقلي لابد لكل مخلوق من خالق فلابد لهذا الكون والكائنات والبشر من خالق
ملاحظات :
أ- إثبات وجود الله سبحانه وتعالى بدليل عقلي معناه خطأ كل العقائد الشيوعية وغير الشيوعية القائمة على إنكار الخالق لأنها قائمة على باطل .
ب- إثبات وجود الله سبحانه وتعالى قائم على أدلة عقلية وليس إيماناً فطرياً أو وراثياً وسنتطرق لهذا الموضوع لاحقاً .
2. هل يوجد أنبياء ؟ وهل صلى الله عليه وسلم نبي ؟
أ- الإجابة العلمانية : (1) نعم (2) لا (3) لا أعلم
الدليل العقلي: لكل فريق أدلته العقلية وهناك إجابة واحدة صحيحة ، وإجابتان خاطئتان والخطأ ليس في العقل بل في صحة الأدلة واعتمادها على حقائق أو ظنون وأوهام .
ملاحظات : أ- من يؤيد من العلمانيين بصدق كل أو بعض الأنبياء يقول : أنه يؤمن بالدين كعلاقة بين الإنسان وخالقه ، وأن الدين لا علاقة بالدولة والسياسة والاقتصاد ، وهذا فهم خاطئ ، فمن يؤمن بصدق محمد ورسالته " الإسلام " لا يحق له تحريف ورفض أجزاء واضحة من الإسلام .
ب- من ينكرون وجود الأنبياء من العلمانيين ليست لديهم أدلة عقلية صحيحة تثبت صواب قولهم أو تُفند صحة الأدلة العقلية التي جاء بها الأنبياء من معجزات وغيرها .
ج- الإجابة الإسلامية : نعم
الدليل العقلي : معجزات الأنبياء والتي منها القرآن الكريم ، وعظمة الشرائع السماوية ، وسيرة حياة الأنبياء الراقية .
ملاحظة :
1. الاقتناع العقلي بصدق صلى الله عليه وسلم معناه خطأ كل المبادئ العلمانية الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية ... الخ ، والدينية الأخرى لأنها ليست قائمة على أدلة عقلية ، أو حدث فيها تحريف كما حصل في الأديان السماوية السابقة .
ب- القرآن الكريم والسنة النبوية هما منبع الحقائق الفكرية سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية .
5. الاقتناع بالرسل قائم على أدلة عقلية ، فالإيمان قائم على العلم وليست هذه الأدلة وراثية أو عاطفية .
3. ما هي الإجابات الصحيحة عن بقية الأسئلة العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ؟
أ- الإجابة العلمانية :
1. الرأسمالية
2. الاشتراكية
3. الشيوعية
4. النازية
5. الوجودية
6- .... الخ إجابات كثيرة متناقضة ولا يوجد معيار لتحديد الصواب من الخطأ والإجابات تعتمد على آراء شخصية وأدلة عقلية متناقضة ، فهناك آلاف الإجابات العلمانية المتناقضة الشاملة والجزئية ، وهذا قمة الجهل والضياع والتخلف ، ولا تستطيع العلمانية إعطاء إجابة واحدة ، وهذا لأنها لا تعرف ما هي الحقائق الفكرية ، ولم تصل إليها ، ولن تصل إليها .
ب- الإجابة الإسلامية : القرآن الكريم والسنة النبوية هما منبع الحقائق الفكرية وفيهما الأجوبة الصحيحة على كل الأسئلة الفكرية وهما معيار تحديد الحق من الباطل.
4. كيف تتعامل مع الحياة ؟
أ- الإجابة العلمانية :
1- الجهل الفكري ( العلمانية أو أحد مدارسها رأسمالية أو شيوعية أو وجودية ... الخ ) ( 2) العقل (3) علم الواقع (4) العلم المادي (5) العلوم الأخرى النافعة وغير النافعة .
النتيجة النهائية : تخبط وظلام وصراعات وصواب وخطأ وضياع للفرد والمجتمع والبشرية .
ب- الإجابة الإسلامية :
1- العلم الفكري ( الإسلام ) + ( 2) العقل + (3) علم الواقع + (4) العلم المادي + (5) النافع من العلوم الأخرى كالإدارة وغيرها النتيجة النهائية : نور وهداية وحكمة وبصيرة للفرد والمجتمع والبشرية.
من سلبيات العلمانية
أدى الاقتناع بالعلمانية إلى كوارث ومصائب كثيرة ، ولعنا لا نبالغ أبداً إذا قلنا أن أكبر كارثة أصابت البشرية خلال القرون الثلاثة الماضية هي العلمانية ، فهي الأم لأغلب الكوارث والانحرافات العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حصلت ، وإليكم بعضاً من أهم سلبياتها :(32/82)
1. انتشار الجهل الفكري : أدى الاقتناع بالعلمانية إلى انتشار الجهل الفكري بين البشر ، فلم تعد هناك حقائق فكرية تؤمن بها البشرية ، ولم يعد هناك علم فكري صحيح ، وأخذ الكثيرون من فلاسفة وسياسيين واقتصاديين وغيرهم يتكلمون في العلم الفكري عن جهل ، ويؤلفون النظريات العقائدية والاقتصادية والاجتماعية كالرأسمالية والشيوعية والنازية والوجودية والفرويدية ...الخ مما أدى إلى ضياع الحقائق الفكرية ، وضياع البشرية ، والعلم يوحد والجهل يؤدي إلى اختلافات وتناقض وتخبط وجدل وصراعات وحروب ، فالعلمانية هي التي أعمت البشرية وتركتها تسير في طريق كله أشواك بدون بصيرة وحكمة ونور ، وهذه السلبية هي أساس السلبيات الأخرى ، ونقدها الخاطئ ، لما بقي عند البشر من حقائق فكرية دينية أو وراثية أو عقلية جعل الكثيرين يرفضون هذا الحقائق ويعتبرونها تخلفاً وجهلاً ورجعية ، فهي لم تكتف بنشر جهلها بل ساهمت حتى في تحطيم حقائق فكرية يملكها الآخرون فالعلمانية أعطت الجهل " الشهادات العلمية المزورة " ، وضاعت بلايين الساعات في جدل لا ينتهي ، وصرفت أموالاً طائلة على جامعات ومعاهد ومدارس وكتب وبرامج وأنشطة أغلب ما فيها هو جهل وضياع وصحيح أن العلمانية شجعت الحوار ، ولكن الأغلبية الساحقة من هذه الحوارات لا يصل أصحابها إلى اتفاق، بل هي حوار الطرشان، ومن المعروف أن الشيوعيين هم أكثر الناس علمانية وعداء للدين ، وهذا ما جعلهم أشد الناس جهلاً وضياعاً مما انعكس على تخلف عقائدهم وأنظمتهم السياسية واقتصادهم وحياتهم الاجتماعية ، فهل من الحكمة أن تتجرع البشرية كل هذه المرارة حتى تقتنع بفشل الشيوعية العلمانية وهل من الصواب أن ندخل ناراً عظيمة ونحترق بها حتى نتأكد بأنها شر ، وكان علماء المسلمين يُتهمون بالتخلف والرجعية لأنهم كانوا يقولون الشيوعية كفر وجهل وسخافة وخطأ ، وأين هم اليوم المتشدقون بالعلمية والتقدم والتفكير العلمي ؟ أما العلمانية الغربية فهي أقل جهلاً من الشيوعية ، فهي لم تدع " العلمية " بتطرف ، ولكن لا زالت تقول أنا ضائعة ، ولا زالت تفكر كيف تصل للحقائق ؟ ولا زالت تنتج نظريات فكرية تصيب وتخطئ ، ولا زالت وستبقى وللأبد خاضعة للآراء الشخصية وللواقع وتأثيراته ، وما تقرره الأغلبية أو الأقلية أيهما أقوى ولم تعد تهتم كثيراً بأين الحقائق افكرية وأين الحق وأين المبادئ الصحيحة ؟ بل أصبحت مادية تدور أفكارها حول الاقتصاد والمال والقوة والشهوات .(32/83)
2. البعد عن الله سبحانه وتعالى : ساهمت العلمانية في ابتعاد الكثيرين عن الأديان السماوية مما أدى إلى ابتعاد البشر عن خالقهم ، فالابتعاد عن الكنيسة والمسجد وعلماء الدين أدى إلى الابتعاد عن الله سبحانه وتعالى ، والعلمانية تدعونا للابتعاد عن الدين ، ولفصل الدين عن الدولة ، بل عن الحياة كلها ، وهذا ابتعاد عن الله سبحانه وتعالى ، والدين هو القرب من الله وعبادته وذكره ، ومعرفة قصص أنبيائه وشريعة الله وأمر الله ، وهذه أمور أصبحت لا تجدها في السياسة ولا أنظمة التعليم العلماني ولا التفكير العلماني ، ولا فهمنا للغاية من خلق الإنسان ، فاتهام العلمانية للأديان السماوية بأنها رجعية وتخلف وأساطير وأنها ضد العلم والتقدم والحضارة وربطها جهلاً بما صدر عن بعض المتعصبين للأديان من حروب وجرائم وجهل أدى في النهاية إلى ابتعاد كثير من البشر عن الله سبحانه وتعالى ورسله وكتبه مما أغلق أبواب كثيرة للخير وفتح أبواباً كثير للشر ولو انتقدت العلمانية الجمود والتخلف المنسوب خطأ للأديان السماوية لقلنا أحسنت ولكنها أحرقت الأخضر واليابس ومن الحقائق المعروفة في تاريخ البشرية وبعيداً عن تشويه العلمانيين ، أن أفضل البشر حكمة وأخلاقاً ورحمة هم المؤمنون حقاً بالله سبحانه وتعالى والقريبون من كتبه ، وقد قالوا قديماً : رأس الحكمة مخافة الله وقالوا : خف ممن لا يخاف الله سبحانه وتعالى ، فالحقائق الواقعية القديمة والحديثة تثبت أن هؤلاء لا يظلمون ولا يكذبون ، وليست لديهم طموحات غير مشروعة ولم تفتنهم الدنيا بمناصب أو مال أو شهوات ، أسرهم أفضل الأسر وأكثرها ترابطاً ورحمة ، وصحيح أنه ظهر في تاريخ البشر نماذج بشرية متميزة بالخير إلا أن أغلب المتميزين هم أتباع الرسل ، وتميزهم في مختلف المجالات أي هم يُجسدون النموذج البشري الراقي ومن المعروف أن سعادة الإنسان مرتبطة كلياً بالعلاقة الصحيحة مع الله سبحانه وتعالى ، فهذه العلاقة هي باب العلم الفكري ، وباب العبادة ، وباب الإخلاص في العمل وباب الأخلاق الرفيعة .. الخ وقد يقول قائل إن في هذا تجن على العلمانية لأن هناك كثير من العلمانيين يؤمنون بوجود الله وليس كلهم ملحدين ، ونقول الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى بدون معرفته وعبادته وتصديق أنبيائه والالتزام بشرائعه هو كفر بالله ، فكفار قريش كانوا يؤمنون بالله ، قال تعالى : " ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله " سورة لقمان (25) فالعلمانية جعلت حتى هؤلاء بعيدين عن الله ، فهم يبحثون عن العلم الفكري في أقوال الفلاسفة والمفكرين ، وشجعت الكثيرين على الانحرافات الأخلاقية لأن التمسك بالأخلاق والعبادة أصبح من صفات الرجعية والتخلف ، ونقول ونكرر نحن ضد المفاهيم الخاطئة التي نسبت للأديان فنحن ضد عبادة القبور ، وضد الفتاوى والاجتهادات الخاطئة وضد ظلم وانحراف الحكام والأغنياء وضد إهمال الدنيا والانعزال للآخرة وضد عقائد وأساطير وحكايات مزورة تنسب جهلاً للأديان السماوية ، فلا يوجد في الإسلام تصوف ولا رجال دين ولا رفض لحقائق مادية فالعلمانية هي أم الإلحاد والزندقة ، قال جود " لا أستطيع أن أعد أكثر من ستة من معارفي ممن أعدهم مؤمنين بالمسيح والمسيحية ، في حين أستطيع أن أعد بسهولة أكثر من مائة من معارفي الملحدين " (1) وقال الغزالي عن الفلاسفة " فإني رأيتهم أصنافاً ، ورأيت علومهم أقساماً ، وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة الكفر والإلحاد ، وإن كان بين القدماء منهم والأقدمين ، وبين الأواخر منهم والأوائل تفاوت عظيم في البعد عن الحق والقرب منه " (2) وما قلناه لا يتعارض مع وجود كنائس ومساجد وأعمال خيرية وعبادات ومؤسسات دينية وغير ذلك في الدول العلمانية ولا ينفي أيضاً وجود احترام للأديان وللمناسبات الدينية في دول علمانية .(32/84)
3- المادية : من أهم أسباب انتشار سيطرة المادة على الإنسان العصري هو اقتناعه بالعلمانية أو نتيجة انتشار العلمانية في طريقة التفكير البشري ، فأهم شيء أصبح اليوم عند الكثيرين هو الحصول على المال ، وبأي طريق ومستقبل الكثيرين أصبح يعني فقط المستقبل المادي ، وهذا ينطبق على الأفراد والدول ولا شك أن المال مهم وضروري ، ولكنه أخذ مساحة كبيرة جداً ، وأكثر مما يستحق ، فالمال الآن قوة كبيرة لشراء النفوس والمناصب التنفيذية والتشريعية ، وكما قالت أم جون كنيدي : " معك دولار فقيمتك دولار " أي لا قيمة للإنسان ، بل القيمة الوحيدة هي للمال وأصبح يجوز في سبيل الحصول على المال أن تنافق وتكذب وتغش ، فالمبادئ والقيم الروحية كالإخلاص والصدق والأمانة لا مكان لها في نفوس كثيرين ، بل يتهم بالسذاجة والسطحية من يرفض قبول رشاوى أو هدايا مشبوهة أو يرفض مبدأ الوسيلة تُبرر الغاية هذا المبدأ الذي شجعه ميكافيللي الفيلسوف العلماني ، فالعبقرية العلمانية صنعت لنا إنساناً من نوعية " دينهم دينارهم " فالمصالح وأهمها المال هي التي تحرك الكثيرين وجعلت عقيدة الإنسان هي الحياة الدنيا والتمتع بها فلا مكان لحياة أخروية ولا يوجد ثواب ولا عقاب إلهي ، ولا يوجد خالق أنعم علينا بالخير والصحة والمطر والأولاد والهواء والماء والشمس والأكل والملبس ... الخ ولا توجد شريعة إلهية وأحكام نلتزم بها تمنع من الكذب والنفاق والغرور والفساد والظلم والمال الحرام ... الخ ولو آمن الإنسان بأن الرازق هو الله سبحانه وتعالى ، وأن المناصب هي بيد الله سبحانه وتعالى يعطيها من يشاء وينزعها ممن يشاء وغير ذلك من العقائد الإسلامية لأمتنع عن كثير من الانحرافات ، وأصحاب الأعمال وأصحاب المناصب هم الآلهة التي يعبدها الإنسان العصري فهم عبيد له يتضاحكون إذا ضحك ، ويتباكون إذا بكى ، ففي سبيل المادة يتم التضحية بكثير من المبادئ ، وهذه هي الحالة التي وصل لها إنسان الحضارة الغربية بشكل عام، كان المفروض أن ينتج غنى العالم الغربي إنساناً عزيزاً وقوياً ، ولكن العلمانية جعلته ضعيفاً ، فهو لا يعرف القناعة ولا يؤمن بأن الرزق من الله ، وهدفه التمتع بأكبر قدر من الرفاهية في المسكن والملبس والمأكل والمركب ، ولهذا تجده يسعى نهاراً وليلاً ليعيش حياة مادية تعيسة فحياته أصبحت عملاً مرهقاً وجنساً وخمراً فنصفها للمال ونصفها للشهوات ، وليس من الخطأ أن نطلق عليه إنسان مالي جنسي ، فالعمود الفقري لحياته هو المال والجنس ، وإذا كانت الأديان السماوية تقول للإنسان التزم بالمبادئ والأخلاق في حياتك الدنيوية ، فالعلمانية تقول له تمتع بالشهوات والملذات فأنت تعيش مرة واحدة ، وهذه فلسفة شيطانية ، والعقائد المادية تجعل علاقة الإنسان بالله وبوالديه وجيرانه وأقاربه ضعيفة ، ومن المعروف أن الغربيين من أكثر شعوب الأرض قطعاً للرحم ، وإهمالاً لآبائهم وأمهاتهم ، وهذا تصرف طبيعي لأنه إذا كان الدافع للعلاقات الاجتماعية مادياً فكثير من هذه العلاقات غير ذات فائدة ، في حين أن الإسلام يجعل من أهم الواجبات على المسلم طاعة أمه وأبيه ، ويجعلهما أولويتهما تأتي قبل الجهاد في سبيل الله ، ويمنعه حتى أن يقول لهما كلمة أف ويجعل رضى الله من رضاء الوالدين ، وتبقى نقطة أخيرة وهي أن الإسلام لا يتجاهل أهمية الجوانب المادية في حياة الإنسان ، فهو يدعوه للعمل والاجتهاد فيه ، فالمال من ضروريات الحياة ، ولا يمنعه من الطموح المشروع للمناصب ، ولا يمنعه من الاستمتاع بالحياة ، بل يدعوه لأن يسعى في طلب رزقه ، وأن يطور نفسه علمياً وعملياً ، وأن يتمتع بالأمور الحلال وهي كثيرة جداً ، فاعمل واستثمر واقرأ واجتهد وتزوج وكل واشرب ضمن ضوابط شرعية ، وبدون أن تطغى هذه الجوانب أو تتعارض مع العقائد والعبادات وعلاقتك بالله سبحانه وتعالى .(32/85)
4- الديكتاتورية وأخواتها : قد يبتسم بعض العلمانيين عندما نتهم العلمانية بالديكتاتورية ، وقد يتهمنا بأننا ظلمنا العلمانية لأنها تدعو للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ، ونقول أولاً العلمانية تدعو لاستخدام العقل في البحث عن الحقائق الفكرية ، فهي ليست في أساسها مع الديمقراطية ، ولا الديكتاتورية ، كما أن تطبيق الديمقراطية في الدول الغربية العلمانية لا ينفي تطبيق الديكتاتورية في الدول الشيوعية العلمانية وفي كثير من الدول النامية العلمانية ، كما أن في كثير من الدول العلمانية يتم رفض إعطاء حرية لأحزاب دينية ، بل يمنع تشكيل الجماعات والتجمعات الدينية ، هذا غير التدخل حتى في منع الحجاب الإسلامي في المدارس والجامعات وأحياناً الحياة العامة ، ونحن كمسلمين مع الشورى وحكم الأغلبية وحقوق الأقلية والانتخابات وحرية الرأي ولكننا ضد العلمانية ، فالقول بأن الدول الغربية الديمقراطية هي الدول العلمانية الصحيحة أما بقية الدول العلمانية الديكتاتورية فليست دولاً علمانية هو خطأ شائع ، فأغلب الدول الديكتاتورية في العالم هي دول علمانية فهي في مرجعيتها الديكتاتورية لا ترجع في أغلبيتها الساحقة إلى دين سماوي في اختيار دستورها وقوانينها وأهدافها وسياستها ، بل تتحكم فيها آراء عقلية علمانية لحاكم أو حزب أو عرق أو طبقة أو عصابة ، وأهدافهم هي أهداف دنيوية مادية أي علمانية ، وليست دينية ، وفشل العلمانية في الوصول إلى علم فكري شامل عقائدي وسياسي واقتصادي واجتماعي جعل الباب مفتوحاً لكل علماني ، ولكل دولة علمانية أن تختار ما تشاء من دساتير وقوانين ، ولهذا نجد دولاً ديمقراطية ، ودولاً ديكتاتورية ، وما بينهما ، ونجد مختلف ألوان الطيف الاجتماعي وكل أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة ، وكل أنواع الشعارات وجميع الأهداف المتناقضة ، فالمخلصون العلمانيون يتخبطون في كل هذا عن جهل ، كما أن أصحاب النوايا الفاسدة يستغلون الفوضى العلمانية والجنون العلماني لاختيار ما يشاؤون من دساتير وقوانين لتحقيق مصالحهم وتبرير ديكتاتوريتهم فالعلمانية فتحت الباب لكل انحراف ومنها الديكتاتورية لأنه لا توجد حقائق فكرية بل توجد آراء ، فما دام الأمر كذلك فاختر ما شئت من آراء ، وكل عقيدة باطلة استفادت من الضياع العلماني في إيجاد فلسفة لها جعلها تبدو كأنها علمياً صحيحة، ولو كان هناك اقتناع بأن الإسلام هو الحقائق الفكرية لعرفنا أن الشورى واجبة وأن دماء الناس وأموالهم حرام وأن العصبية العرقية جاهلية منتنة ، وأن التعصب الطبقي للأغنياء أو الفقراء جاهلية مرفوضة وأن حرية الرأي قضية بديهية ... الخ وبالتالي فالمخلص سيعرف الطريق إلى الديمقراطية والعدل والحرية والمنحرف لن يسهل عليه الخداع أو المتاجرة ، ونحن لا نريد أن نظلم العلمانية ونقول أنها دعت الناس للديكتاتورية ، فهي لم تدعهم لا للديمقراطية ولا للديكتاتورية ولكنها ساهمت بصورة أساسية في انتشار الديكتاتورية لأن العقل البشري المخلص قد يتبنى أنظمة ديكتاتورية وهو يعتقد أنها حقائق فكرية وأنها الديمقراطية " الحقيقة " كما حصل مع الشيوعيين المخلصين ، حيث طبقوا أسوأ ديكتاتورية عرفتها البشرية ، وأقنعتهم عقولهم بأن تحطيم المعارضة والحرية الإعلامية هو عمل مشروع لأنه جزء من الصراع الطبقي ، وجزء من حماية الثورة والوطن .. الخ وكان الشيوعيين يدعون أنهم أهل العلمانية الحقيقية ، وأنهم أهل العقل والعلمية ، وسيطروا على دول كثيرة بل كانوا يحكمون حوالي نصف البشر ، والعلمانية هي التي أعطتهم الشرعية الفكرية التي يحتاجونها لأنها جعلت العقل البشري يبتعد عن الله سبحانه وتعالى ، وكلما ابتعد أكثر كلما تطرف أكثر ، وصار أكثر ديكتاتورية ، وما ينطبق على الديكتاتورية ينطبق على الانحرافات الأخرى وأرجو أن نقتنع بأن العلمانية فتحت أبواباً كبيرة للانحرافات وللصراع الوطني والقومي والعالمي ، فكل انحراف سواء كان ديكتاتورية، أو ظلماً أو غروراً أو مخدرات أو وزناً أو اختلاساً .. الخ فالعلمانية شجعته بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ولا يقتصر ذلك على الانحرافات الحديثة بل ينطبق على كل انحراف قديم أيضاً كان فاعله يتصرف بناء على عقله بدون التزام صحيح بالأديان السماوية بل حتى الانحرافات التي تنسب للدين قديماً وحديثاً فإن أصحابها اتبعوا عقولهم ، ولم يتبعوا الدين لأن الدين الصحيح لا يأمر بالانحراف والظلم ، والمبررات العقلية الخاطئة كما ذكرنا سابقاً تعطي الشرعية الوهمية لكل انحراف ، فإذا قلت لأحدهم لماذا تشتري هذه السيارة غالية الثمن ؟ لقال أنا حر في مالي وإذا قلت لبلد لماذا تعطون هذه الرواتب المتدنية للعمالة الوافدة ؟ لقالوا الاقتصاد حر ، أو إذا لم يعجبه الأجر فليترك البلد فالمطار مفتوح والأمثلة كثيرة جداً ، وقد يقول قائل أن الانحرافات تحدث حتى في المجتمعات المسلمة وعند أفراد مسلمين ، ونقول نعم ولكن الإسلام لا يعطيها شرعية وموافقة في حين أن الانحرافات جزء من الفكر العلماني لأنه يفتح المجال لعقائد باطلة كالشيوعية والنازية والرأسمالية ،(32/86)
فالصادق يظن أنها عدل أو حرية ، والكاذب يستغل العلمانية لاكتساب فلسفة لانحرافاته وتصرفاته الخاطئة وانحرافات المسلمين جاءت لتركهم الإسلام واتباع شهواتهم ومصالحهم غير المشروعة نتيجة ضعف إيمانهم أو جهلهم بالدين ، ونعرف جميعاً أن المسلم الملتزم والواعي هو أبعد الناس عن الانحرافات بكافة أشكالها وأفضل الناس أخلاقاً ، كما أن الرادع الأساسي للانحرافات في العلمانية هو القانون أي الحكومة في حين إضافة إلى ذلك يردع المسلم حبه لله سبحانه وتعالى ، وشكره لنعمه الكثيرة ، وخوفه من عقابه ، وحرصه على حماية أبنائه من المال الحرام ، ويردعه رغبته في الجنة وخوفه من النار وحرصه على أن يكون قدوة لأبنائه ، وكل هذه الأمور تردع عن الانحرافات " الشر " وتدفع لأمور الخير الكثيرة ، في حين أن العلمانية تجعلك شخصاً بلا مسؤوليات ولا واجبات ولا محرمات خارج إطار القانون 5- غرق السفينة الزوجية : في الإسلام حقائق فكرية كثيرة مرتبطة بصورة مباشرة وغير مباشرة بالحياة الزوجية ، فتصورك للكون والحياة له أثر كبير في نجاح الحياة الزوجية ، واقتناعك بالمفاهيم الإسلامية للظلم والخيانة الزوجية والواجبات والحقوق الزوجية يجعل لديك معايير لترشيد حركة السفينة الزوجية ، والأمراض الاجتماعية من خيانة زوجية أو خمر أو مخدرات أمور بعيدة عن حياة المسلم الملتزم ، كما أن الأمور المالية وهي مصدر كثير من المشاكل الزوجية لها ضوابط منها الصرف من مسؤولية الزوج ، وعدم التبذير في المسكن والملبس والمأكل وعدم تدخل كلا الزوجين في الحقوق المالية للطرف الآخر ، وغير ذلك كثير هذه الحقائق الفكرية وغيرها تجعل الحياة سهلة وسعيدة وناجحة ، أما بالنسبة للبيئة العلمانية فالزواج يتم بين أطراف غامضة ، فهل هو رأسمالي أو شيوعي أو عنصري ؟ وهل هو خيالي أو مثالي أو وجودي أو ميكافيللي ؟ وما هي فلسفته في الأمور المالية ؟ وهل مبادئه تردعه عن الخيانة والظلم ؟ وما هو أسلوبه في تربية الأبناء ؟ وغير ذلك كثير، كل هذه الأمور بالنسبة للأزواج العلمانيين أو حتى المتأثرين بالعلمانية جزئياً هي آراء شخصية ، وغالباً لا يمكن التعرف عليها قبل الزواج حتى لو كانت هناك معرفة سابقة ، فكل إنسان يحاول أن يظهر بأفضل صورة ممكنة أمام الطرف الآخر في فترة ما قبل الزواج فلن تجد شاباً عاقلاً يقول لمن يريد أن يتزوجها أن رأيي الشخصي أن علاقات الرجل الجنسية بعد الزواج نوع من الحرية الشخصية ، أو أنني أتعاطى المخدرات ، وإذا حدث الزواج فإن الأسرة بحاجة إلى قوانين تحكمها ، فلابد من صياغة هذه القوانين العلمانية من خلال النقاش البيزنطي والجدل وميزان القوة والضعف ، واستخدام الأدلة العقلية المتناقضة وقد تعتبر المرأة من حقها أن تعمل في أي مجال وأي مكان ، وأي وقت بدون الحاجة إلى موافقة الزوج وقد يكون الزوج ، مقتنعاً بأن الالتزامات المالية الأسرية مناصفة بين الرجل والمرأة وغير ذلك ، فكل قضية أساسية يمكن أن يحدث حولها اختلاف ، فالآراء الشخصية متناقضة جداً بين البشر ، ولا يوجد لدى العلمانيين أو من تأثر بهم قرآن ولا أحاديث ولا علماء يتم الاحتكام لهم في موضوع الخلاف ، كما أن كلمات مثل أنا حر ، وهذا رأيي الشخصي أمور خطرة جداً إذا دخلت في دائرة الثوابت الفكرية ، والعلمانية هي التي فتحت لها هذه الدائرة ، فالآراء الشخصية في الأمور التي فيها حرية شخصية أمر مقبول ، أما في الأمور الأساسية أي الحقائق الفكرية الزوجية فهي أمر مرفوض لأن القرار العلمي الفكري الصحيح هو أننا لا نريد حتى أن نسمعها ، باختصار العلمانية أشعلت الخلاف والصراع والغموض والضياع في الحياة الزوجية الغربية، فإذا كانت الأسرة منبع المشاكل والهموم والتعاسة فكيف سيسعد الإنسان ؟ ما نقوله ليس افتراضاً أو توقعات بل هو حقائق واقعية في الحياة الغربية مما أدى إلى عزوف أعداد كبيرة من الرجال والنساء عن الزواج ، فالغرب من أعلى دول العالم عزوبية وطلاقاً وعنوسة ، وفي هذا تعاسة كبيرة للجميع ، ومنهم الأطفال وإذا كان أغلبنا كمسلمين عشنا في أسر سعيدة ومستقرة فهذه نعمة كبيرة ودليل أننا وصلنا للحقائق الفكرية الاجتماعية وطبقناها ورأينا نتائجها ، ولو فكر العقل البشري بطريقة صحيحة لاقتنع بأن بناء الأسرة السعيدة من أهم أدلة التقدم والحضارة والمدنية، وتصور الوضع التربوي المأساوي في أسرة علمانية الأب ملحد والأم متشككة في وجود الله والابن يتعلم أموراً متناقضة ، يريد الأب أن يربي ابنه على فكر عنصري ، أما الأم فتريد أن تجعله شيوعياً أو رأسمالياً ، وكل سؤال يسأله الطفل يجد إجابات متناقضة ، ولا يتعلم غير الجدل والنقاش البيزنطي ، وعمودهم الفقري في التربية هو نقول لك مختلف الآراء وأنت حر في اختيار طريقك ، أي عليه أن يبحث بعقله الصغير عن الحقائق وعن فلسفة يقتنع بها ، أي يبدأ من الصفر ، وهذا دليل على إفلاس العلمانية فكأن في تاريخ البشر لا يوجد علم ولا أنبياء ، ولا عقول ناضجة .(32/87)
6- فتنة العلمانية : قال الأستاذ زكريا فايد : " والعلمانية بفصلها الدين عن الدولة ، تفتح المجال للانتماءات الوضعية لكي يلتف حولها الناس ، لأنه لا يمكن للإنسان إلا الانتماء، وبالتالي فهي تفتح المجال للفردية والطبقية والعنصرية والمذهبية والقومية والحزبية والطائفية والعشائرية " (1) فالعلمانية فتحت الأبواب للعقول البشرية لتبحث عن الحقائق الفكرية بأسلوب خاطئ ، ولتصل إلى عقائد ومبادئ متناقضة ، وبالتالي فهي المنبع الرئيس للاختلافات والصراعات بين المخلصين لأن كل واحد منهم سيدافع عن ما يراه حقائق فكرية ، وهذا أشعل نيران الفتنة والحروب ليس فقط بين العلمانيين وأهل الأديان السماوية بل أيضاً بين العلمانيين أنفسهم ، كما حصل بين الرأسمالية والشيوعية حيث انقسمت كثير من الدول في القرن العشرين إلى أحد العسكرين ، وأشعلت حروباً ساخنة وباردة ، ويكفي أن نعرف أن العلمانية من نازية ورأسمالية وشيوعية كانت خلف حربين عالمتين في القرن العشرين ، ومن أشرس حروب البشر في تاريخهم ، كما أن أغلب الحروب في القرن العشرين هي حروب علمانية ، وأغلب أهدافها فكرية ضائعة ، أو مصالح ، فالصراع بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني هو صراع بين طرفين علمانيين ، والصراع العرقي والسياسي في بعض الدول الأفريقية هو صراع بين علمانيين ، ولنتذكر أن الشعوب والحكومات المتمسكة بالمبادئ السماوية على اختلافها في القرن العشرين هي حالات قليلة وينسى الكثيرون أن الدول الأوروبية أو بعضها هي الدول الاستعمارية خلال القرون الثلاثة الماضية ، كما أن طلبة الدول النامية الذين درسوا في الغرب وخدعتهم العلمانية تصارعوا عندما عادوا إلى بلادهم مع عقائد ومبادئ قومهم ، وتصارعوا أيضاً فيما بينهم ، ولم يكونوا أبداً جبهة واحدة ، فأضافوا فتناً عقائدية وسياسية لأوطانهم وأممهم ، فهم كعلمانيين لديهم قدرة على تشويه المبادئ الأخرى ولكن ليست لديهم الق،درة على طرح البديل الفكري ، فبعضهم رأسمالي ، وبعضهم اشتراكي ، وبعضهم عنصري ، وبعضهم شيوعي ... الخ ويمكن تقسيم المجتمعات النامية إلى تقسيمات كثيرة متنافرة ومتصارعة فاتجاه مع التبرج والاختلاط، واتجاه مع الاحتشام، واتجاه مقلد للغرب، واتجاه وطني وقومي، واتجاه مع المعسكر الشرقي ، واتجاه مستقل ، واتجاه مع المعسكر الغربي واتجاه مع الحكومة، واتجاه ضدها ، واتجاه مع الحرية " المجهولة " ، واتجاه ضدها ، واتجاه مع الأغنياء ، واتجاه مع الفقراء ، واتجاه مع أعراق معينة ، واتجاه مع أعراق أخرى ، وهذه اختلافات جذرية وليست اجتهادية يمكن القبول بها كالاختلافات بين أصحاب المبدأ الواحد ( الإسلام أو الرأسمالية أو الشيوعية ) حيث الاختلاف حول الأولويات أو الفرعيات والاختلاف الجذري هو بين حق وباطل ، وهو منبع الفتنة وجعل الكثيرون يعيشون في دائرة الاختلافات الجذرية مما أضر مجتمعاتهم وجعلهم يدورون في حلقة مفرغة منعتهم من الانتقال لقضايا هامة ومواضيع جديدة وتحديات معاصرة ، فكل اتجاه له آراؤه وأفكاره وأدلته العلمانية من منطق وتاريخ وأحداث معاصرة ... الخ وهذا الاختلاف والشر ثمرة العلمانية أو التأثر بها جزئياً في حين أن التقسيم الصحيح هو من مع الله سبحانه وتعالى ومن مع الشيطان ؟ من مع الحقائق الفكرية ومن ضدها أي من مع الإسلام ومن مع الكفر والشرك ؟ وكانت العلمانية تقول أن العقل العلماني سينقذ البشرية من الحروب والتعصب الديني والاختلاف فإذا العكس صحيح ، كما أن الدين الصحيح ليس مصدراً للتعصب أبداً ، وإذا حدث تعصب منسوب للدين فهو خطأ من البشر لا من الدين ، أما حروب الدين الصحيح فهي حروب لنصرة الحقائق الفكرية أي العدل الحقيقي والعقائد الصحيحة .. الخ ، أما حروب العلمانية فهي حروب مصالح مادية أو أوهام فكرية ، وظن العلمانيون وما أكثر ما يظنون أن استعداد العقل العلماني لمناقشة مختلف الآراء سيوصلهم للحقائق ، ولم ينجحوا ، وظنوا أنهم سيكونون بعيدين عن التعصب لآرائهم فشاهدنا صراعاً عنيفاً بن العقائد العلمانية في القرن العشرين عندما تحولت آراء الفلاسفة إلى عقائد وأحزاب ودول رأسمالية وشيوعية ونازية وشاهدنا ألواناً من التعصب في أفكارهم وأقوالهم ومواقفهم ، وترجم هذا التعصب إلى اضطهاد وسجون وتعذيب وقتل وحروب.
الطريق إلى الحقائق الفكرية
كيف نصل للحقائق الفكرية ؟(32/88)
بعد أن أثبتنا عجز العقل العلماني في الوصول إلى الحقائق الفكرية فإنه من المهم أن نذكر أن الخطأ ليس في العقل ولكن في الطريقة العلمانية في استخدامه أما الطريقة الصحيحة فهي الطريقة الإسلامية والتي تدعو إلى البحث أولاً في القضايا الكبرى أي في وجود الله سبحانه وتعالى وصدق الأنبياء كما قال أرسطو " إن أرقى العلوم هو علم المبادئ الأولى الذي سماه الفلسفة الأولى أو الميتافيزيق أو اللاهوت " (1) أما نقاش قضايا فرعية فلن يوصلنا إلى نتائج حاسمة فالمقارنة بين اقتصاد رأسمالي واقتصاد شيوعي واقتصاد إسلامي مقارنة محدودة الفائدة ، وهناك تبريرات منطقية من الصعب بيان صوابها أو خطئها فنحن بحاجة إلى التركيز على القضايا الكبرى وما هي أدلتها العقلية ؟ وما مدى صحة هذه الأدلة ؟ فإذا كان الدليل العقلي صحيحاً قبلنا الفكرة وقلنا إنها حقيقة فكرية أما إذا كان الدليل العقلي خاطئاً رفضناها واعتبرناها باطلة والقضايا الكبرى هي الأصول والأساس والمنابع للعقائد والنظمة والأخلاق والشعارات والدساتير والقوانين ومفاهيم الحرية والعدل والمساواة المطروحة على الساحة ، فالشيوعية كمبدأ قائم على عدة أصول أهمها أنه لا يوجد خالق لهذا الكون ، فإذا ثبت وجود خالق بطريق عقلي فالشيوعية مبدأ قائم على الخطأ والوهم والظن والجهل ، وإذا ثبت أن محمداً نبي فإن الإسلام دين صحيح ، وهو منبع الحقائق الفكرية ، وكم ضل كثير من البشر في الوصول إلى الحقائق الفكرية لأنهم سلكوا طرقاً خاطئة قال الغزالي رحمه الله : " اختلاف الخلق في الأديان والملل ، ثم اختلاف الأمة في المذاهب على كثرة الفرق وتباين الطرق ، بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون " (2) .
الدليل الفكري للملحدين : ولنطالب المسلمين والملحدين بإعطاء أدلة تثبت أن مبادئهم تقوم على أدلة عقلية ، سنجد الملحدين يقولون أن دليلهم الفكري هو أننا لا نرى الله فهو أذن غير موجود ، ولنسألهم أين بحثتم عن الله ؟ وما الأماكن التي بحثتم عن الله فيها فلم تجدوه ولم تشاهدوه ؟ وهل بحثتم في الكرة الأرضية ؟ نعم تستطيعون أن تقولوا ذلك ، هل بحثتم عنه في المجموعة الشمسية ؟ نعم تستطيعون أن تقولوا ذلك ، ولكنكم نسيتم أن تناسيتم حقيقة علمي مادية وهي أن في هذا الكون عشرات الآلاف من النجوم والكواكب لم تبحثوا فيها عن الله ويكفي أن نعرف أن في هذا الكون نجوماً تبعد عن الأرض أكثر من عشرة ملايين سنة ضوئية والسنة الضوئية أطول بكثير من السنة العادية بمعنى لو خرج ضوء من أحد هذه النجوم البعيدة في هذه اللحظة سيصل إلى الكرة الأرضية بعد اكثر من ثلاثين مليون سنة عادية ، فهل بحث الملاحدة ومنهم الشيوعيون في هذه الأماكن ، ولم يجدوا الله ولم يشاهدوه أنهم كمثل من بحث عن فرد في جامعة الكويت ، فلما لم يجده قال إن هذا الشخص غير موجود في الكرة الأرضية كلها ، فهل هذا كلام علمي أو منطقي ؟
إذن فالدليل العقلي الذي يبني عليه الملحدون كلامهم دليل غير صحيح ، فاعتقادهم بعدم وجود الله ليس إذن حقيقة علمية ، ثم أن الله سبحانه وتعالى ليس مخلوقاً نبحث عنه هنا أو هناك بل هو خالق هذا الكون بما فيه من كواكب ونجوم وبشر قال الله تعالى " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " 67 سورة الزمر .
الأدلة الفكرية للمؤمنين بوجود الله : والآن تعالوا لنسأل الذين يؤمنون بوجود الله عن دليلهم الفكري وسنجد لديهم دليلين أولهما : أن هناك خالقاً لكل شيء منظم ، فعندما نشاهد طائرة أو سيارة أو تلفاز نعرف أن هناك من صنع ذلك ، فالطائرة بها خزان للوقود وعجلات للإقلاع والهبوط ومحركات وأماكن مكيفة وأجهزة كهربائية لقياس الارتفاع والضغط ، فالطائرة عبارة عن نظام متكامل ويوجد تنسيق بين أجهزتها ، وهذه الطائرة لم توجد صدفة لأن البشرية خلال تاريخها كله لم تجد طائرة تكونت بالصدفة ، ولا حتى سيارة أو دراجة بخارية أو هوائية ، فلابد أن يكون هناك صانع لكل نظام متكامل دقيق ولو قارنا الطائرة بالأرض أو الكون لوجدنا أن الأرض أكثر نظاماً والإنسان أكثر تعقيداً ودقة من الطائرة فلابد أن يكون هناك من صنع الأرض والإنسان والكون ، فالكون يسير وفق نظام دقيق متوازن ، قال تعالى " الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ( 3 ) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير (4 ) سورة الملك وقال تعالى " أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون " سورة الطور 36) وباختصار لابد أن يكون هناك من صنع هذا الكون ، والشواهد في الكون كثيرة. قال تعالى : " سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " (53) سورة فصلت وقال الله تعالى " هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين " (11) سورة لقمان .(32/89)
فإذا كان العقل البشري يقول لابد أن يكون هناك صانع لكل شيء ، وهذه حقيقة فكرية ومادية واضحة لأننا نشاهد أرضاً وسماوات وبشراً وكائنات وشمساً ونجوماً ورياحاً وماء وبحاراً ونباتات وغلافاً جوياً ، فلابد أن يكون هناك صانع لذلك وهو الله سبحانه وتعالى ، فالآيات القرآنية تخاطب عقولنا وتقول لا يمكن أن يكون هذا الخلق من غير خالق ، ولا يمكن أن يكونوا هم الذين خلقوا السماوات والأرض وأنفسهم ، إذن لابد أن يكون هناك خالق عليم حكيم قادر قوي قال الدكتور عمر الأشقر " وقد تقرر في العقول أن الموجود لابد من سبب لوجوده " وقال " ولا يُكاد يعرف منُكر لوجود الخالق في الماضي إلا النزر اليسير ، وهم لا يمثلون في البشرية نسبة تُذكر " (1) وقال الدكتور إبراهيم مدكور " سلك فلاسفة الإسلام في هذه البرهنة ( على وجود الله سبحانه وتعالى ) مسلك المتكلمين من معتزلة وأشاعرة ، فعولوا على الدليل الكوني الذي يحاول أن يثبت وجود الله عن طريق وجود الكون ، والدليل الغائي الذي يستخلص من نظام الكون وإبداعه أن له هدفاً وغاية لا تصدر إلا عن مدبر حكيم " (2) وقال الدكتور وأين أولت " إن ذلك النظام البديع الذي يسود هذا الكون يدل دلالة حتمية على وجود إله مُنظم " (3) وقال هنترميد " ذلك لأن الإيمان بوجود الله قد تأصل في التفكير الغربي منذ أقدم العهود إلى حد أصبح معه أي تحد لهذا الإيمان ، أو حتى التفكير جدياً في أي بديل عنه ، يُعد في نظر أذهان كثيرة أمراً لا يتصوره العقل " (4) ونقول لأن وجود الله سبحانه وتعالى بديهية عقلية قامت عليها كثير من الأدلة العقلية ولأنه ينسجم مع الفطرة ، قال تعالى " قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض " سورة إبراهيم (10) وقال تعالى " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الريح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " سورة البقرة (164) أي لمن لديهم عقول صحيحة قال الأستاذ أديب صعب " معظم الفلاسفة الذين اعترف بهم دارسو الفلسفة ومؤرخوها ، على اختلاف نظرات هؤلاء الدارسين إلى الموضوع ، لا يجوز نعتهم بالملحدين على الإطلاق ، والآحرى أنهم اعترفوا بوجود الله ، وكان لهذا الاعتراف أثر بارز في توجيه أنظمتهم الفكرية ككل ، أما الذين أنكروا وجود الله علنا أو وقفوا موقفاً تشكيكياً من الأمر أو اعتبروا أن الله ليس موضوعاً للفلسفة من قريب أو بعيد فكانوا قلة بين الفلاسفة" (1) وقال الإمام الغزالي " ليكف عن غُلوائه من يظن أن التجمل بالكفر تقليداً يدل على حسن رأيه ، ويُشعر بفطنته وذكائه ، إذ يتحقق أن هؤلاء الذين يتشبه بهم من زعماء الفلاسفة ورؤسائهم براء عما عُرفوا به من جحد الشرائع ، وأنهم مؤمنون بالله ، ومصدقون رسله ، وأنهم اختبطوا في تفاصيل بعد هذه الأصول قد زلوا فيها ، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل " (2) وقال الأستاذ أديب صعب " وكانت فلسفة أفلاطون دينية إلى الحد الذي جعل الآباء المسيحيين الأوائل ينظرون إليه كما لو كان مسيحياً قبل المسيح " (3) وقال الأستاذ أحمد أمين " يكاد يكون كل إنسان مفطوراً على الاعتقاد بوجود إله خلق العالم ودبره ، ويكاد الناس بفطرتهم يجمعون على ذلك مهما اختلفت أسماء الله عندهم ، واختلفت صفاته ، يستوي في ذلك الممعن في البداوة ، والمعرق في الحضارة " (4) وصحيح أن قلة من العلمانيين ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى ولكنهم جميعاً يفصلون الدين عن الدولة والحياة ، ولا يعتبرون الدين مصدراً للحقائق الفكرية ، ويعترفون بوجود الله ولكنهم يرفضون معرفته ، ولماذا خلقنا ؟ ولا ما هي العقائد والأنظمة التي يريدها خالقنا ؟ ولا ما هي نهايتنا كبشر عندما نموت ؟ وأخذوا يضعون أهدافاً للناس والدول ، ويتكلمون في الحقائق الفكرية ، ومن البديهي أن المفروض أن نتساءل لماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى ؟ فهو لم يخلقنا عبثاً وبلا هدف ، وبالتالي فإذا تركنا الفلاسفة العلمانيين يقررون لنا ما نفعل في حياتنا فقد تجاهلنا الهدف من خلقنا ، فما دام أغلبية البشر من المؤمنين بوجود الله سبحانه وتعالى سواء كانوا أهل أديان سماوية أو علمانيين فإن هذا يفرض أن يتساءل الجميع لماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى ؟ فوجود الله سبحانه وتعالى حقيقة فكرية واضحة عند أهل الأديان السماوية وعند أغلب العلمانية ووصلنا لها من خلال تفكير عقلي ، فالدين إذن قائم على تفكير عقلي ، وليس إيماناً أعمى ، وسنأتي بعد قليل لبعض شبهات الملاحدة لنبين خطأها وعدم وجود أدلة عقلية عليها والدليل الفكري الثاني على وجود الله سبحانه وتعالى هو وجود الأنبياء ومعجزاتهم ، فالمسلمون والمسيحيون واليهود شاهدوا معجزات الرسل ، فمن عاصر عيسى عليه السلام شاهد كيف أحيا الموتى بإذن الله ، وكذلك شاهد الناس ومنهم السحرة معجزات موسى عليه السلام وما فعله الأنبياء ليس سحراً فالناس تعرف السحر وحدوده وإلا لشاهدنا معجزات السحرة في زمننا هذا، ولأحيا(32/90)
بعضهم الموتى أو أنقذوا قومهم من أخطار شديدة كما أنقذ الله سبحانه وتعالى موسى وقومه من فرعون بأن جعل لهم طريقاً داخل البحر لينقذهم ثم ليغرق فرعون وقومه ، فوجود معجزات يعجز البشر عنها دليل على أن هناك قوة خارقة هي التي ساعدت الأنبياء ، وهذه القوة هي قوة الله سبحانه وتعالى ، والمعجزات هي دليل أيضاً على صدق الأنبياء والأدلة على صدق الأنبياء كثيرة ومن أهمها ما يلي :
1) المعجزات هي أمور خارقة للعادة ومن أمثلتها معجزة القرآن الكريم ومنها عصى موسى عليه السلام وغيرها قال تعالى " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " سورة الإسراء (101) ومنها إنزال المن والسلوى وشق البحر له ، أما معجزات عيسى عليه السلام فبعضها مما جاء في قوله تعالى " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ، وإذ تخرج الموتى بإذني " سورة المائدة 110 ومعجزة صلى الله عليه وسلم القرآن ومعجزات أخرى حدثت في وقتها قال الدكتور عمر الأشقر " وقد تحدى الله بهذا الكتاب فصحاء العرب ، وقد كانت الفصاحة والبلاغة وجودة القول هي بضاعة العرب التي نبغت بها ، وقد عادى العرب دعوة الإسلام ورسول الإسلام ، وكان مقتل
هذه الدعوى أن يعارض فصحاؤهم هذا الكتاب ويأتوا بشيء من مثله ولكنهم عجزوا عن ذلك قال تعالى " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " سورة البقرة 23-24 " (1) وقال تعالى " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " سورة الإسراء 88 وقال الدكتور عمر الأشقر عن القرآن " معجزاً في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ، كما هي الحال في أعمال البشر "(2) وقال " معجزاً في بنائه الفكري ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة ، كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ، وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج الشامل الضخم مع جزئية أخرى"(3) وقال " معجزاً في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ، وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين"(4) فالقرآن معجزة دائمة ، وتتحدى الناس قديماً وحديثاً وهي أهم دليل على صدق صلى الله عليه وسلم وعموماً فمعجزات الأنبياء والتي شهدها الناس وآمن بها اليهود والمسيحيون والمسلمون دليل عقلي قاطع على وجود رسل ، ووجود معجزات وهذا أمر لم يختلف فيه بينهم وإن اختلفوا في الإيمان ببعض الأنبياء ، والمعجزات ليست اختراعاً إسلامياً بل حقيقة فكرية لا يجادل فيها إلا ضال أو معاند فالقول بأن المعجزات نوع من السحر يُرد عليه بأن الناس تعرف حدود قوة السحرة ، وأنهم لا يُحيون الأموات ، كما أننا لم نشاهد سحرة ادعوا النبوة خلال عشرات القرون ، ونجحوا في دعوتهم .
2) من أدلة صدق صلى الله عليه وسلم هو بيان القرآن لحقائق غيبية قديمة ومستقبلية منها قوله تعالى " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامه أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " سورة آل عمران (44) فكثير من التفاصيل التي حدثت للأنبياء وأقوامهم ذكرها القرآن مع أن صلى الله عليه وسلم لم يكن كاتباً ولا قارئاً وقد أخبر أيضاً عن أحداث مستقبلية كاستشهاد قادة المسلمين الثلاثة في معركة مؤتة وإخباره بمقتل بعض الكفار في معركة بدر قبل بدايتها وقا صلى الله عليه وسلم " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتُنفقن كنوزهما في سبيل الله " رواه البخاري ومسلم والترمذي وحدث هذا وانتصر المسلمون على الفرس والروم بعد موت صلى الله عليه وسلم وأخبر بأحداث أخرى حدثت ولو قارناها بتنبؤات ماركس المثقف لوجدنا أن تنبؤاته أخطأت أغلبها إن لم نقل كلها ، ونعطي أمثلة على ذلك مما قال الدكتور مصطفى محمود " ولهذا أخطأ ماركس في جميع تنبؤاته فقال بخروج الشيوعية من مجتمع صناعي رأسمالي متقدم مثل انجلتر أو ألمانيا فكذب التاريخ نبوءته وخرجت الشيوعية من بلد زراعي متخلف كالصين " (1) وقال " تنبأ ماركس بازدياد تمركز رءوس الأموال في احتكارات هائلة يزداد معها غنى الأغنياء وفقر الفقراء ولكن الذي حدث كان اتجاهاً إلى تفتيت رءوس الأموال " (2) .... الخ ونعلم أن الإنسان مهما كان ذكياً فلا يستطيع التنبؤ بأحداث مستقبلية كثيرة ، فالغيب مجهول للبشر ، ومعرفة الأنبياء به جاءت لأن الله أعلمهم بذلك .(32/91)
3- حياة الأنبياء كتاب مفتوح ، قرأه الناس وعرفوا صدقهم وزهدهم في الدنيا وسمو أخلاقهم واجتهادهم في العبادة وبعدهم الكبير عن أهداف دنيوية أو أطماع أو مناصب أو انتقام أو تعصب عرقي أو طبقى أو غدر ... وكانوا قدوة في صبرهم وتواضعهم وحكمتهم ... فهذه الصفات ليست أبداً صفات كذابين قال أحمد شوقي رحمه الله في مدح الرسو صلى الله عليه وسلم
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت مالا تفعل الأنواء (3)
وإذا عفوت فقادراً ، ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم ، أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء
4- من الأدلة القوية على صدق الرسل جميعاً هو دراسة القرآن والسنة والنظر فيما فيهما من العلم والحكمة والنور ومقارنتهما مع عقائد البشر وأحكامهم فتجد في الإسلام العقائد المنطقية المتكامل المدعمة بأدلة فكرية ومادية وواقعية ، وتجد الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العادلة والمفيدة ، وتجد الأهداف السامية وتجد الأخلاق الفاضلة وقد سُئل أعرابي بم عرفت أن محمداً رسول الله ؟ فقال : ما أمر بشيء فقال العقل : ليته ينهى عنه ، ولا نهى عن شيء ، فقال العقل : ليته أمر به ، ولو تأملنا في الجوانب الاقتصادية في الإسلام لوجدناها وسطاً في جوانب كثيرة بين الرأسمالية والشيوعية ، ولو درسنا أسلوب التربية الإسلامي لوجدنا الحكمة والعلم والبصيرة ... الخ فالعقول السليمة تقبل الإسلام ، وتقتنع بصوابه ، ولكن العلمانية والمستشرقين والأعداء والفهم الخاطئ لبعض المسلمين والمتطرفين وعدم دراسة الإسلام على أيدي علماء مخلصين وأعين مثقفين غير جامدين ولا متطرفين ... كل هذا وغيره أدى إلى تشويه مفاهيم وعقائد وأحكام الإسلام عند الكثيرين ، ومن الأمور الغريبة أن بعض من رفض الإسلام لم يدرسه ولم يعرفه ولا يريد أن يعرفه ومع هذا يحكم عليه بالرجعية والتخلف ، قال ابن القيم " فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول ا صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها " (1)
5- قال الدكتور عمر الأشقر " ومما يدلنا على صدق الأنبياء والمرسلين نصرة الله لهم ، وحفظه إياهم ، فإنه يستحيل على الله تعالى أن يتقول عليه متقول ، فيدعي أنه مرسل من عند الله وهو كاذب في دعواه ، ثم بعد ذلك يؤيده الله وينصره " (2) فالله سبحانه وتعالى يخذل من يدعي النبوة وهو كاذب ، وينصر النبي الصادق ومن قرأ سيرة الرسو صلى الله عليه وسلم يعلم أنه مؤيد بنصر من الله لأنه تعرض إلى مخاطر كثيرة منها عدة محاولات لقتله وتعرض لحروب كثيرة ، وكان النصر الأخير له ، ولو كان رجلاً عادياً لما عارض قومه ولسايرهم لأن له هدفاً مادياً أو سياسياً ولما عرض حياته لأخطار وحروب ، وكان النبي يقول دعوته صريحة وواضحة وقوية في عقر دار الكفار وهو ضعيف ، ولا سند له إلا إيمانه بالله سبحانه ، وهو يفعل ذلك تنفيذاً لأوامر الله ، فكيف ينتصر رجل أعلن عقيدة ضد قريش والعرب والفرس والروم وهو ليست لديه أموال ولا قبيلة قوية ولا دولة ولا حصون تحميه ولا أسلحة متطورة ومع هذا ينتصر عليهم .
6- وقال تعالى " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء " سورة النمل 88 وهذه الآية الكريمة تقول أن الجبال متحركة وتسير ، وهذه حقيقة علمية مادية ثبتت قبل حوالي خمسمائة سنة ، أي بعد أكثر من سبعة قرون من وفاة الرسو صلى الله عليه وسلم فمن أين يعلم الرسول هذه الحقيقة لو لم يخبره الله سبحانه وتعالى ، وفي القرآن الكريم حقائق مادية أثبتها العلم المادي مثل انخفاض كمية الأوكسجين بالارتفاع عن سطح الأرض ، قال تعالى : " ومن يُرد أن يُضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء " سورة الأنعام (125) وأن الرياح تقوم بنقل حبوب اللقاح من الزهور المذكورة إلى الزهور المؤنثة قال تعالى " وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه " سورة الحجر / 22 (1)
الدليل الفكري للرأسمالية العلمانية :(32/92)
العلمانية الرأسمالية كفكر ليست قائمة على أدلة تنفي وجود الله ، أو تنفي صدق الأنبياء ، بل هي قائمة على فصل الدين عن الدولة وعن الحياة ، وما دمنا أثبتنا وجود الله وصدق الأنبياء فإن تقييم العلمانية الرأسمالية يعتمد على ميزان الإسلام لأن الكتب السماوية هي الحقائق الفكرية ، وهي العلم الفكري ، وبها نعرف الحق من الباطل ، والصواب من الخطأ قال تعالى " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور " سورة إبراهيم (5) وقال تعالى مخاطباًمحمدا صلى الله عليه وسلم " ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " سورة النحل 89 وقال تعالى " وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون " سورة النحل (64) وقال تعالى " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم " سورة الملك (22) وقال رسول ا صلى الله عليه وسلم " تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " وبناء على منبع الحقائق الفكرية نقول إن فصل الدين عن الدولة أي الرأسمالية العلمانية خاطئة وضائعة ومظلمة بدليل قوله تعالى " فأحكم بينهم بما أنزل الله " سورة المائدة (48) وقوله تعالى " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" (20) سورة الجاثية وقال ابن تيمية " ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين ، وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة صلى الله عليه وسلم فهو كافر"(1) وقال الدكتور أحمد كمال أبو المجد " أما قضية فصل الدين عن الدولة بمعنى أقصاء الدين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع فإنها المكون الرئيس من مكونات العلمانية الذي يسع مسلماً قبوله "(2) فهدف الرسل هو إذن بيان الحق من الباطل في عقائد الناس وقوانينهم وأنظمتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحياتهم الأسرية والشخصية وتأتي العلمانية الرأسمالية لترفض هذه الحقائق الفكرية ولتتخبط في عقائدها وأنظمتها ، فتحصد التعاسة والشقاء والقلق والضياع بل تأتي بعد الرفض الإسلامي الصريح لها من خلال آيات وأحاديث لتقول لا يوجد تعارض بين العلمانية والإسلام، وتتجاهل هذه الآيات الصريحة، وأقوال العلماء وهذه محاولة فاشلة لم يعد يصدقها الناس، وأقل ما يقال عن أصحابها أنهم لا يملكون الشجاعة الأدبية، أو أنهم يكذبون فإذا قال العلمانيون نؤمن بوجود الله سبحانه وتعالى وصدق صلى الله عليه وسلم وبأن القرآن كتاب الله ، فلماذا إذن يفصلون الإسلام عن الدولة فهم كأنهم يقولون وصلنا إلى الحقائق الفكرية ، ولكن لا نريد أن نستخدمها في الدولة ولا في حياتنا الشخصية ، وتعالوا نبحث عن الحقائق الفكرية في مكان آخر، أو لنبني حياتنا على أساس من الآراء الخاطئة المتناقضة وكأنهم يقولون نحن كبشر لا نحتاج هذه الحقائق ، وأخطأ الله سبحانه وتعالى في تبليغها لنا، بل هي منبع التعصب والتطرف والجهل ، ومثل هذا الكلام معناه أن ما يوجد في القرآن ليس بحقائق فكرية وأنه لا يوجد أنبياء، وأن ما ثبت بالعقل السليم صحته مرفوض، وأن الآراء الفكرية المتناقضة التي يصل إليها العلمانيون والشعوب هي التي يجب أن تُطبق وهذا ليس فقط كفراً بواحا بل أيضاً جهل عظيم بالله سبحانه وتعالى وبرسله وبكتبه
ــــــــــــــــــ
(1) فتوى شيخ الإسلام في حكم من بدل شرائع الإسلام - شيخ الإسلام ابن تيمية
(2) ص 530 كتاب القومية العربية والإسلام - مركز دراسات الوحدة العربية(32/93)
وبالهدف من خلق الإنسان وبالمبادئ الصحيحة والقوانين العادلة ، وهناك من العلمانيين من يقول نعم الإسلام دين صحيح ولكنه علاقة بين الإنسان وخالقه ولا دخل له في السياسة وشؤون الدولة ، وهذا أيضاً من الجهل لأن الإسلام يقول عكس ما يقولون وليس من حقهم أن يعطوا تعريفاً للإسلام يناقض آيات قرآنية وأحاديث صريحة ، فمثل هذا التعريف ليس لديه أي شرعية موضوعية ، فالعلمانية الرأسمالية ليست لديها أي أدلة عقلية صحيحة تثبت صوابها وليست لديها شرعية دينية مستندة إليها والغريب فعلاً أنه ليس لديها إطلاقاً إثبات على صحة أصولها الفكرية ، فهي قائمة على رد فعل لأخطاء الكنيسة وعلى بحر من الآراء والأفكار المتناقضة ، وفلسفة الحلول الوسط واتباع الشهوات والهوى ، والهروب من الأسئلة القلقة فهذه هي الأسس " العلمية " للعلمانية الرأسمالية فالابتعاد عن الكنيسة ليس معناه أنك تسير في الاتجاه الصحيح ، وتناقض الأفكار وتصادمها لم يكن أبداً جزءاً من العلم ، والحلول الوسط ليست أسلوباً للوصول للحقائق الفكرية أو المادية ، أما الهروب من الأسئلة القلقة فهو دليل عجز وحيرة وضياع ويأس ، وفتح الباب للشهوات والأهواء دليل على الطيش والجهل لا التفكير والعلم قال تعالى " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " (16) سورة البقرة وقال تعالى " قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " (124) سورة طه ولو نظرنا للعلمانية الرأسمالية والمؤمنين بوجود الله من العلمانيين من زاوية عقلية ثانية لوجدنا أن وجود الله سبحانه وتعالى حقيقة فكرية وصدق رسله حقيقة فكرية ، ووجود كتب سماوية حقيقة فكرية ، ويؤمنون بأن الله أعلم وأحكم وأقوى منهم
ومع هذا يقولون سنصل بعقولنا إلى نظام لحياتنا أفضل وأرقى مما علمنا الله سبحانه وتعالى قال ابن الجوزي " وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس ، فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر علم أن واهب العقل أعلى من العقل ، وأن حكمته أوفى من كل حكيم ، لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول " (1) قال ابن تيمية قال الله تعالى "أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " سورة الأنعام (122) فهذا وصف المؤمن ، كان ميتاً في ظلمة الجهل ، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان ، وجعل له نوراً يمشي به في الناس ، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات "(1) وقال ابن القيم في كتاب مفتاح دار السعادة " حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية ، فوق حاجتهم إلى كل شيء ، لا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها ، ألا ترى أكثر العالم يعيشون بغير طبيب " وقال ابن القيم " ومن ههنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول ، وما جاء به ، وتصديقه فيما أخبر به ، وطاعته فيما أمر ، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ، ولا ينال رضا الله ألبتة إلا على أيديهم ، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به ، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الضلال "(2)
وقال " فالعقل يدرك حسن العدل ، وأما كون هذا الفعل المعين عدلاً أو ظلماً فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد "(3) أي العقل يريد العدل ويعلم أنه هدف نبيل ولكن لا يستطيع في كل القضايا الفكرية أو أغلبها معرفة ما هو العدل فهل من العدل أن نوزع المسؤولية المالية في الأسرة بين الزوجين بالتساوي أم هي مسؤولية الزوج وما هو الموقف العادل من الربا أو الثورة على الحكومات أو حقوق الحكومات ... الخ وقال ابن القيم " فمن أين للعقل معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته أو من أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده ؟ ومن أين له معرفة تفاصيل محبته ، ورضاه ، وسخطه ، وكراهيته ؟ ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه ، وما أعد لأوليائه وما أعد لأعدائه ، ومقادير الثواب والعقاب وكيفيتهما ودرجاتهما ؟ " (4) وبعد أن ثبت للعقل البشري وجود الله وصدق الأنبياء فعليه أن يعتبر الإسلام مصدره للحقائق الفكرية لأن ما بُني على صواب فهو صواب ولأنه لا يوجد طريق آخر للوصول للحقائق الفكرية فالتفكير العقلي العلماني المجرد يؤدي إلى تناقضات ، فالإيمان بما جاء به الرسل جاء عن عقل وتفكير وعلم وبحث ، ولم يكن أبداً إيماناً أعمى كما يقول كثير من العلمانيين قال الشيخ عبد الحليم محمود
ـــــــــــــــــــ
(1) ص 32 الرسل والرسالات د. عمر سليمان الأشقر
(2) ص 31 الرسل والرسالات د. عمر سليمان الأشقر
(3)، (4) ص 36 الرسل والرسالات د. عمر سليمان الأشقر(32/94)
رحمه الله " لقد كان من الطبيعي - بعد أن تثبت النبوة - أن يتلقى العرب كل ما جاء في القرآن بالقبول " (1) فالوحي هو الذي جاء بالحقائق الفكرية ولهذا قيل " والوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين ، فإذا حُجب الوحي عن العقل لم ينتفع الإنسان بعقله كما أن المبصر لا ينتفع بعينيه إذا عاش في ظلمة ، فإذا أشرقت الشمس وانتشر ضوءها انتفع بناظريه "(2)
ـــــــــــــــــــــ
(1) ص 50 التفكير الفلسفي في الإسلام الشيخ عبدالحليم محمود
(2) ص 39 الرسل والرسالات د. عمر سليمان الأشقر
شبهات حول الحقائق الفكرية
ذكرت أدلة عقلية واضحة تثبت وجود الله وصدق الأنبياء ، وسأذكر هنا قضية مهمة جداًَ ، وكثيراً ما غابت عن المدافعين عن وجود الله ، وعن المدافعين عن الحقائق الفكرية وهي أن النقاش يجب أن يكون نقاشاً عادلاً وواضحاً ، ويتعامل مع أدلة لا آراء لا يسندها أي دليل فإذا قال الملحد مثلاً أن الكون خلق صدفة نقول أين الدليل العقلي على وجود صدفة أي أثبت علمية كلامك أولا ولا تقل كلاماً لا يثبت بدليل ، أي نريد حقائق لا نريد آراء فالكلام مجاناً ، وإلا فبالإمكان القول بأن الكون خلق من صدفتين أو عشر ، وأن الإنسان تطور من قرد أو حمار فهذه الأقوال آراء وافتراضات وظنون وأوهام وليست حقائق مادية أو فكرية ، وقبل أن نناقش العلمانيين في الشبهات التي يثيرونها ويشككون بحقائق فكرية إسلامية نقول الرد المختصر على كل هذه الشبهات هو أننا وصلنا بالعقل والأدلة الصحيحة إلى إثبات صحة الحقائق الإسلامية وبالتالي فما يخالفها هو بالتأكيد باطل لأن العقل السليم لا يعارض العقل السليم ، والحقائق لا تعارض الحقائق فإن كان الله سبحانه وتعالى قد أرسل لنا أنبياء وكتب فيستحيل أن يكون فيها باطل أو خطأ لأن الله سبحانه وتعالى عليم وحكيم وقادر وعادل ورحيم ، ويستحيل من ناحية عقلية أن يستطيع العقل البشري والذي نعرف محدوديته وجهله وضعفه ، أن يهدينا إلى عقائد وشرائع أفضل مما هدانا الله سبحانه وتعالى فلا توجد إطلاقاً مقارنة بين علم الله وقدرته على الخلق وقوته وبين ما عند البشر جميعاً ، وهذه حقيقة فكرية وحقيقة مادية أيضاً نراها في ما خلق الله سبحانه وتعالى من كون وكائنات وقوانين وما خلفها من علم وقدرة وإبداع ، وقد أدرك المسلمون هذه الحقيقة ، فلم تخدعهم الشبهات والأوهام ، وأخذوا يبنون بنيانهم الفكري على الحقائق الفكرية بطريقة متسلسلة ومنطقية ومتكاملة وشاملة ، وتعالوا معنا نناقش ما يقول العلمانيون والملاحدة :(32/95)
1- قال الدكتور صادق جلال العظم " ولماذا لا نفترض أن المادة الأولى غير معلولة الوجود وبذلك يُحسم النقاش دول اللجوء إلى عالم الغيبيات " (1) وقال " في الواقع علينا أن نعترف بكل تواضع بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون .. وعندما تسألني وما علة وجود المادة الأولى ؟ فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به : لا أعرف إلا أنها غير معلولة الوجود " (1) لاحظ كلمة نفترض أي نظن ونقترح ، وفي نفس الوقت يعترف بجهله في هذه القضية والغريب أنه يصل إلى أن المصدر الأول غير معلول الوجود ، وهذا ما يقوله المؤمنون بالله سبحانه وتعالى ولكنه يرفض أن يكون هذا المصدر هو الله سبحانه وتعالى ، فنفى وجود الله لم يعتمد على دليل عقلي ولكنه افتراض ، كما أننا لم نلجأ كمسلمين إلى افتراضات وغيبيات بل عندنا حقيقة واضحة أن هناك كون مُنظم وخلق فلابد من خالق ، فالدليل الإلحادي هو دليل مبني على الجهل والظن وليس العلم واليقين ، ومع هذا يشرعون ويعتبرون أنفسهم مفكرين ويطالبون الناس باتباعهم ، وأسسهم الفكرية الجهل والظن ، وهم يعترفون بأنهم ضائعون وحائرون وجاهلون قال أندرو كونواي أيفي " وقد يُنكر مُنكر وجود الله ولكنه لا يستطيع أن يؤيد إنكاره بدليل ... أنني لم أقرأ ولم أسمع في حياتي دليلاً عقلياً على عدم وجوده تعالى " (2) وقال الدكتور مصطفى محمود " ثم من كان موجوداً أول الخلق ليقول : في البدء كانت المادة هذا كلام ظني غيبي ولا علمية فيه " (3) وقال الأستاذ محمد علي يوسف " وكل منطق يؤدي في نهايته إلى التسليم بوجود خالق مدبر حكيم ، عند المؤمنين ، ينتهي عند الملاحدة بوجود شيء لا وجود له ، هو المصادفة " (4) وجاء في كتاب العلم يدعو للإيمان ترجمة محمود صالح الفكي " وإذا نظرنا إلى حجم الكرة الأرضية ، ومكانها في الفضاء ، وبراعة التنظيمات ، فإن فرصة حصول بعض هذه التنظيمات مصادفة هي بنسبة واحد إلى مليون ، وفرصة حدوثها كلها معا لا يمكن حسابها حتى بالنسبة للبلايين ، وعلى ذلك فإن وجود هذه الحقائق لا يمكن التوفيق بينه وبين أي قانون من قوانين المصادفة " (5) وجاء في سيرة مختصرة عن حياة ألبرت اينشتاين العالم الفيزيائي الشهير " وعلى الرغم من أن اينشتاين قد نشأ في عائلة منكرة للدين ، فإنه قد ارتد إلى حظيرة الإيمان بعد أن توغل في معرفة حقيقة العالم الذي لا يمكن إلا أن يكون نتيجة تدبير مُحكم لإله قادر عظيم ، وقد استبعد دور المصادفة في حقل العالم وقوي عنده الشعور الديني، فقال إن كل بحث علمي دقيق هو ما قام على شعور ديني يستند إلى أن العالم نتيجة عقل مُدبر وليس وليد صدفة عشوائية " (1)
2- يقول هيجل " إنني أستطيع خلق الإنسان لو توفر لي الماء والمواد الكيماوية والوقت " (2) ونقول له أخلق ذبابة أولاً ولا تقول لدي القدرة على خلق إنسان فهذا افتراض وظن لا يصح بناء عليه أن تنفي وجود خالق كما أن المطلوب أسهل من ذلك أمنع الموت عنك ... وهو قد مات فعلاً أو أحيي من مات من البشر وهو أمر أسهل من خلقهم ، بمثل هذا الكلام وغيره ، شوه بعض الفلاسفة الحقائق الفكرية ، ووجود الله سبحانه وتعالى هو الحقيقة الكبرى في الوجود وهي الأساس لكل الحقائق الفكرية ، فالفيلسوف الذي يجهل ذلك هو من أكثر الناس جهلاً حتى لو ألف مئات الكتب وحصل على أعلى الشهادات الجامعية .
3- من أساليب تزوير الحقائق ما قاله الفلاسفة الماديون حيث قالوا نحن لا نعتبر شيئاً حقيقة ما لم يخضع للتجربة والمشاهدة والاستنتاج ، ونقول لهم هذا الأسلوب لا ينطبق على القضايا الفكرية ، كما أن هذا الأسلوب لم يوصلكم إلى أن وجود الله سبحانه وتعالى ليس حقيقة بل أقصى ما يقول إنني لا أستطيع أن أنفي ولا أثبت وجود الله لأنه شيء غيبي وراء الطبيعة ، فلماذا إذن اعتبرتم عدم وجود الله حقيقة وهو شيء لم يثبت من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج ولماذا اعتبرتم الدين باطلاً ولم تثبتوا في المختبر أنه باطل وأيضاً لم تثبتوا في المختبر أن الرأسمالية أو العلمانية أو الشيوعية أنظمة صحيحة قال الأستاذ وحيد الدين خان " إذا كان المبدأ هو أن الحقيقة ليست إلا نتائج المشاهدة والتجربة العلمية ، فلن تستقيم قضية معارضي الدين إلا إذا توصلوا بالمشاهدة والتجربة إلى أن الدين في حقيقته النهائية باطل " (3) كان المفروض أن يقولوا أن العلم المادي لا يتدخل في القضايا الفكرية وأن يكون جوابهم في هذه القضايا لا أدري قال هكسلي " إن المادة وقوانين المادة قد أبطلتا عقيدة الخلق ووجود الروح " (1) وهذا الكلام هو خلط للأوراق ، وظلم للعلوم المادية المختبرية لأن هذه العلوم لم تبطل قضية الخلق أبدأ ، ولم تبحث في المختبر قضية الروح لأنه لا يمكن بحثها لأنها ليست قضية مادة ، والصحيح هو ما قاله الأستاذ عبد الباري الندوي " والواقع أن أسطورة الصدام بين العلم " المادي " والدين مُصطنعة ومُلفقة لا أساس لها مطلقاً " (2)(32/96)
4- من الأمور التي اقتنع بها بعض الفلاسفة الملحدين هو الربط بين بعض الأمور وبين وجود الله كما قال برتراند رسل " إن الشر الطبيعي والخلقي برهان ساطع على عدم وجود الله " (3) وقال الأستاذ أديب صعب " وفي الفلسفة الوجودية بجانبها الملحد نقع على النتيجة نفسها والمنطق نفسه : (1) إذا كان الله موجوداً ، لا يمكن أن يوجد الشر (2) لكن الشر موجود (3) إذا الله غير موجود " (4) وقال أم بوشنسكي " والدين عند برتراند رسل يقوم على الخوف ، وبالتالي فهو شر ، وهو كما يقول رسل عدو للطيبة والذوق في العالم الحديث ، وهو يوجد عند الأقوام التي لم تبلغ بعد نضجها " (5) والرد على هذا هو ما علاقة الشر أو الخوف أو الخير بوجود الله وكيف تكون برهاناً عقلياً ساطعاً كما يقول على عدم وجود الله ولماذا لا يقول الخير كثير وموجود وهو دليل على وجود الله ، والحقيقة الفكرية هي أن الله سبحانه وتعالى سمح بوجود شر في الأرض لحكم منها العقاب ، ومنها الاختبار ، وهو ليس بعاجز عن منعه لو أراد ، فلا يوجد ربط علمي بين وجود الشر والخوف ووجود الله ، وليس صحيحاً أن الدين قائم على الخوف وأين الحب والشكر والرجاء والجنة والاقتناع وهذا يثبت حقيقة نعلم يقيناً أنها جزء من مشكلة العلمانيين على اختلاف مدارسهم وهو جهلهم بالدين الصحيح ومفاهيمه وأهدافه وعقائده ، ولكن كما قلت يقولون كلاماً واتهامات بدون أدلة تشوه الحقائق الفكرية أي الدين أما الظن بأن الدين موجود عند أقوام لم تبلغ نضجها فهو ظن خاطئ لأن هذه الأقوام وصلت للحقائق الفكرية ، ونضج عقلها ، والعقول التي لم تنضج هي العقول العلمانية التي لا تملك ولم تتفق حتى على حقيقة واحدة وتتبنى مبادئ ثم تكفر بها ، وتغير رأيها وتتناقض مع بعضها البعض وهذا دليل على ضياعها ، وعدم نضجها ، وعدم وصولها للحقائق ، وإثارة شبهات وربطها بطريقة غريبة باستنتاجات معينة ليس أسلوب حديث ، فهو أسلوب الملاحدة والمعاندين في كل زمان فقد قال الكفار في الماضي لماذا لا يكون النبي رجلاً له مكانة كبيرة ؟ لماذا يكون إنساناً عادياً ؟ وقالوا لماذا يكون النبي بشراً مثلنا ؟ فهذه الأمور تثير الشبهات ولكنها ليست أدلة عقلية مقنعة ، والمفروض أن يناقشوا صدق الرسول وأدلته العقلية ، أي البينات لا أي قضايا أخرى ، قال تعالى " ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد " سورة التغابن (6) قال ابن الجوزي رحمه الله : " وإذا نظر العاقل إلى أفعال الباري سبحانه رأي أشياء لا يقتضيها العقل ، مثل الآلام ، والذبح للحيوان ، وتسليط الأعداء على الأولياء مع القدرة على المنع ، والابتلاء بالمجاعة للصالحين ، والمعاقبة على الذنب بعد البعد بزلة ، وأشياء كثيرة من هذا الجنس ، يعرضها العقل على العادات في تدبيره ، فيرى أنه لا حكمة تظهر له فيها ، فالاحتراز من العقل به أن يقال له : أليس قد ثبت عندي أنه مالك ، وأنه حكيم ، وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً ؟ فيقول : بلى : فيقال : فنحن نحترز من تدبيرك الثاني بما ثبت عندك في الأول ، فلم يبق إلا أنه خفي عليك وجه الحكمة في فعله ، فيجب التسليم له ، لعلمنا أنه حكيم ، حينئذ يذعن ويقول : قد سلمت " (1) وقال بعض الحكماء : من لم يحترز بعقله هلك بعقله ، ومعنى هذا أن العقل الذي أوصلنا بأدلة عقلية صحيحة إلى الحقائق الفكرية ، وأنها موجودة في القرآن والسنة ، وأن هناك خالق لهذا الكون حكيم وعليم وقوي يأتي ليثير شبهات فكرية مثل لماذا يحدث الظلم في هذه الأرض ؟ لماذا هناك فقر وأمراض وشر ؟ ويأتي ليطعن في حكمة الخالق وعلمه وعدله بل حتى وجوده وكل هذا يحدث بدون أدلة عقلية صحيحة تثبت أن وجود الفقر أو الظلم أو المرض يتعارض مع وجود الله سبحانه وتعالى ومع صفاته الكمالية ومع صدق أنبيائه وشريعته ، فلا يوجد تعارض فهذه الدنيا دار اختبار ، وهناك ثواب وعقاب ، وسيؤخذ لكل إنسان مظلوم حقه يوم القيامة بل سيصل العدل حتى إلى إنصاف الحيوانات بعضها من بعض ، وأي عمل سواء كان خيراً أو شراً حتى لو بلغ من الصغر مقدار ذرة لن يتم نسيانها ، وسيأتي بها الله وأعطى الله سبحانه وتعالى الإنسان العقل والحرية وأمره بأن يعمل الخير ويبتعد عن الشر، وعموماً فمن وصل بالعقل السليم ، إلى أن الله سبحانه وتعالى حكيم وعادل لا يعود ليتبع ظنون وشبهات لعقول ضائعة ويقول إن الله سبحانه وتعالى ليس حكيماً وعادلاً ، فالله سبحانه وتعالى حكيم ، هذه حقيقة فكرية " أي علم " أما اتهام الله سبحانه وتعالى بعكس ذلك فهذه أوهام فكرية ، أي جهل ، وكثير من الشبهات التي تُشكك في صحة بعض الحقائق الفكرية الإسلامية هي فعلاً تشكيك في وجود الله سبحانه وتعالى ، أو عدله أو صدق أنبيائه ، وهذه حقائق بأدلة عقلية قطعية ، ومن لديه علم بالإسلام وبما قاله علماء الإسلام يعلم أن الله سبحانه وتعالى ذكر الحكمة في بعض الأمور كوجود المصائب ، وشرح ذلك كثير من العلماء وتطرق العلماء أيضاً إلى الحكمة من أحكام الشريعة كالأمر بالزكاة والصدقات والزواج والعمل(32/97)
الإنتاجي وصلة الرحم ... الخ والحكمة من منع الزنا والربا والخمر ، وأي عاقل منصف سيقول بأعلى صوته هذا هو ما تدعو له العقول السليمة وهذا هو الحق والعدل .
5- ومن الأدلة التي يستند إليها الملحدون في نفي وجود الله وفي نفي صحة الدين ما حصل من تعارض بين ما يقوله رجال الكنيسة وبين بعض الحقائق المادية ، فقد كان رجال الكنيسة يعتبرون الأرض مسطحة وأن الأرض هي مركز الكون، وأن علاج الأمراض هو بإقامة الطقوس لطرد الشياطين التي تجلب المرض وهذا ليس صحيحاً فقد كان علماء المادة لديهم أدلة من التجربة والمشاهدة والاستنتاج تقول أن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس، والأمراض يمكن علاجها بالأدوية وبما أن ما يقوله علماء المادة صحيح، وما يقول علماء الكنيسة خطأ فاستنتجوا أن الكنيسة على خطأ في كل ما تقول ، فلا يوجد إله لأن الإله لا يقول أشياء خاطئة وحل هذه الإشكالية بسيط وهو أن معارضة الكنيسة لبعض الحقائق الفكرية والمادية جاء أحد احتمالين ، أما إضافات غير صحيحة للكتب السماوية ، أو تفسيرات خاطئة لنصوص دينية، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الإسلام قال قبل خمسة عشر قرناً (أي قبل أن تأتي العلمانية الحديثة) بأن هناك تحريف في المسيحية واليهودية ، وفي فهم حقائقها وخاصة في القضايا الفكرية يصبح اكتشاف العلمانية أخطاء في الديانة المسيحية حقيقة تتفق فيها مع الإسلام والإسلام كدين حق لم يتطرف ويعتبر كل ما في المسيحية خطأ كما فعلت العلمانية وجعل الملحدون من العلمانيين ذلك دليلاً على عدم وجود الله وهذا تطرف وربط غير منطقي، وكان المفروض علمياً أن يقال أن الكنيسة أخطأت في هذه القضايا المادية ، لا أن يتم رفض كل الحقائق الفكرية المسيحية ، بل حتى لو افترضنا جدلاً أن المسيحية كلها خاطئة فإن هذا ليس دليلاً على عدم وجود الله ، فأدلة وجود الله من خلق لا زالت قائمة ، ولا توجد أدلة على عدم وجود الله ، فالعلم المادي أثبت وجود انحرافات في المسيحية ، ولكنه لم يقل ولم يثبت عدم وجود الله ولكن خلط الأوراق العلماني ضيع الحقائق ، كما أن العلمانيين اتهموا كل دين بأنه باطل حتى قبل أن يدرسوا الإسلام ويعرفوه ، ولم يثبتوا وجود أي تناقض بين العلم المادي والحقائق الفكرية والمادية الموجودة في القرآن ، ولا شك أن أي تشكيك في حقيقة قرآنية من علماء العلوم المادية أو مفكرين علمانيين هو باطل وخطأ هذا إذا فهمنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بصورة صحيحة بعيداً عن تفاسير خاطئة قديمة أو حديثة .(32/98)
6- تقول نظرية دارون : أن أصل المخلوقات كائن صغير تطور مع مرور السنين إلى سلالات أخرى أرقى إلى أن وصلنا إلى الإنسان ، وبما أن الأديان السماوية تقول ، أن الله خلق الإنسان مباشرة ، وأنه لم يتطور من قرد فإن هذا يخالف نظرية دارون ، إذن الأديان خاطئة والله غير موجود ، ونقول إن نظرية دارون وخاصة تكون الإنسان من قرد عملية لم تثبت علمياً أبداً بل هي نظرية أي رأي ووجهة نظر ، قال الأستاذ وحيد الدين خان " فقبل كل شيء يجب ألا يفوتنا أن الداروينية لا تزال نظرية غير ثابتة كلياً حتى الآن ، أن نظرية الارتقاء لا تثبت شيئاً أكثر من أن الأنواع المختلفة لم توجد في وقت واحد " (1) وقال آرثر كيث " الارتقاء غير ثابت ولا يمكن إثباته " (2) وقال الأستاذ وحيد الدين خان " إن محامي نظرية الارتقاء لم يتمكنوا حتى الآن من تمكيننا من مشاهدة أو تجربة أي أساس تقوم عليه مزاعمهم فعلى سبيل المثال ليس بوسعهم أن يثبتوا لك بالرؤية المباشرة في معمل ما ، كيف تُوجد الحياة من مادة لا حياة فيها " (3) وقال الأستاذ محمد علي يوسف " هل يمكن أن تكون الطفرات حقيقة وسيلة للتطور ، أن الدراسة الطويلة المتصلة لهذه الطفرات في كثير من الكائنات وخاصة ذبابة الفاكهة المسماة دورسوفيلا ميلانوجستر تدل على أن الغالبية العظمى من الطفرات تكون من النوع المميت، أما الأنواع غير المميتة منها فإن التغيرات المصاحبة لها تكون من النوع الذي يؤدي إلى التشويه ، أو على الأقل من النوع المتعادل الذي يحدث تأثيرات فسيولوجية تضعف من قوة الفرد "(1) ومع أن الأدلة المادية لم تثبت أن الإنسان تحول من قرد ، " وأن رأي الطفرة كلام في الهواء وظن وافتراض إلا أننا سنرد جدلاً بأن البشر لم يشاهدوا خلال تاريخهم أي قرد تحول إلى رجل ، وإذا كان هذا حدث نتيجة طفرة فالغريب أن تحدث طفرة أخرى لقردة لتتحول إلى امرأة وأن يجتمع الرجل والمرأة في الأرض الشاسعة في مكان واحد وزمن واحد كما أن محاولة إيجاد تسلسل في الخلق غير منطقية ، فهناك حيوانات وطيور وحشرات وأسماك ونباتات وبينها تناقضات كثيرة لا يجوز تجاهلها حتى لو كان هناك بعض التشابه ، فما هو التشابه بين الحمامة والحمار ، وبين السمكة والشجرة وبين البعوضة والفيل ، وحكاية التطور تصلح كقصة خرافية أو أفلام خيالية ومع هذا حصلت على شهرة عالمية لأسباب لعل أهمها ، أن كثيراً ممن تكلموا فيها وأيدوها ليس لديهم معرفة بعلم الأحياء وعلم الطفرة بالذات بل هم فلاسفة لا يعرفون حتى بديهيات علم الوراثة ، ولكن وجدوا فيها " تأييداً " لفكرهم الإلحادي سواء كان ماركسياً أو غير ماركسي ، أما ما مدى صحة هذه النظرية فليس مهماً المهم هو أن يجادلوا المؤمنين بالله وبالأديان ، والمهم أن يتخلصوا من سيطرة الكنيسة ومن أعدائهم الفكريين والسياسيين ، ومثل هؤلاء الذين لا تهمهم الحقائق لا يهديهم الله ، قال الدكتور عمر الأشقر " إن آيات الله في الكون لا تتجلى على حقيقتها الموحية إلا للقلوب الذاكرة العابدة " (2) وقال تعالى " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداَ وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار " 190-191 سورة آل عمران
7- محاكمة الواقع : الحقائق الفكرية هي أجوبة نظرية صحيحة لأسئلة عقائدية وسياسية واجتماعية واقتصادية وصلنا لها بأدلة عقلية ، ولكن هناك من عجز عن تشويه هذه الحقائق بأدلة عقلية وبحث وحوار ، فأخذ يُسلط الأضواء على سلبيات التطبيق عند دول أو جماعات
ــــــــــــــــــــــ
(1) ص 49 الفجوة المفتعلة بين العلم والدين الأستاذ محمد علي يوسف
(2) ص 148 العقيدة في الله د. عمر سليمان الأشقر(32/99)
أو أفراد ليثبت بعد ذلك أن الخلل هو بسبب الإسلام ونقول تدخل في الجانب العملي لأي مبدأ سواء كان الإسلام أو غيره عوامل كثيرة من واقع وبشر ومعلومات وإشاعات فهناك مخلصون ومنافقون وهناك أذكياء وأغبياء ، فمحاكمة الفكر بناء على الواقع مرفوضة علمياً ، وهذا لا يمنع أن يكون الواقع هو عنصر ثانوي في المناقشة بمعنى أن الهدف من الفكر هو خدمة الناس وإصلاح الواقع ، ومن المعروف أن بعض من يحملون مُسمى المسلمين لا يتورعون عن قتل أو سرقة أو نفاق أو غير ذلك مع أن الإسلام كفكر يأمر بعكس ذلك ، كما أن هناك من الحكومات من ترفع الشعارات الإسلامية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وهناك جماعات إسلامية متطرفة شرح تطرفها علماء مسلمون مخلصون وواعون ، ونقول أن الممثلين الحقيقيين هم من يلتزمون بالمبادئ الإسلامية ويطبقونها بقدر ما يستطيعون ، وهذا لا يعني أنهم أنبياء أو كالصحابة في إيمانهم ووعيهم وأخلاقهم ، بل يبقون بشراً ولكن لهم إيجابياتهم الكثيرة وأيضاً لهم بعض السلبيات والأخطاء الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية ، وبالتالي فمحاكمة البشر والواقع يجب أن تكون محاكمة ذات معايير واقعية وإسلامية ، وليست مثالية أو علمانية ، فإذا اعتبرنا الطالب الذي يحصل على أقل من 90% ساقطاً فسيسقط الأغلبية ، أما إذا كنا واقعيين واعتبرنا علامة النجاح 60% فإن المحاكمة ستكون عادلة وهذا ينطبق على أفراد وجماعات ودول إسلامية حيث نجد لهم كثيراً من الإيجابيات وقليلاً من السلبيات ، وإذا قارناهم بغيرهم فإنهم أفضل بكثير إذا حدثت مقارنة شاملة في العقائد والأخلاق والأمانة والصدق وهم بالتأكيد أمل الأوطان والأمة والإنسانية في واقع أفضل ونقول للعلمانيين العرب إذا كنتم صادقين في إيمانكم بالإسلام وأن اختلافكم هو مع جماعات ودول إسلامية وترون أنها متطرفة فطبقوا أنتم الإسلام بصورة صحيحة .
8- الاتهامات السرية : تبني المبادئ الصحيحة " الحقائق الفكرية " عملية يجب أن تتم بصورة عقلية وعلنية ولكن بعض العلمانيين العرب يهربون من النقاش العلمي في ساحة الأدلة العقلية ، إلى ساحات الاتهامات للإسلام بالمثالية أو الاستبداد أو السطحية ، أو غير ذلك ، وهناك نوع غريب من الاتهامات السرية حيث يقول بعض هؤلاء همساً أو في دوائر مُغلقة إنكم يا مسلمون لا تعرفون دينكم ، ففيه تعارض بين بعض الآيات القرآنية أو أن تفسير هذه الآية يعني كذا وكذا مما لا يقبله عقل أو مبادئ إسلامية معروفة أو يوجد في كتب تاريخية إسلامية كذا وكذا ، أو أن الإمام البخاري لم يكن علمياً في جمعه الأحاديث الصحيحة أو غير ذلك،
وما يقوله هؤلاء هو ترديد لشبهات كثيرة نقلوها من مستشرقين أو أعداء للمسلمين قديماً وحديثاً ، وهي أمور تكلم فيها علماء الإسلام ، وبينوا أنها إما فهم خاطئ ، أو كذب ، والمشكلة أن توجيه اتهامات سرية في دوائر مغلقة أسلوب يضر صاحبه حيث تبقى في عقله معلومات خاطئة لأنه لم يوصل شبهاته إلى علماء مسلمين يشرحون له الحقائق الفكرية ، وقد يقول قائل إنهم لا يستطيعون ذلك خوفاً من غضب الناس ، ونقول أن هناك وسائل مختلفة لسماع وجهة نظر العلماء كمخاطبتهم هاتفياً ، أو الكتابة لهم بأسماء مستعارة ، أو غير ذلك ، والأهم من ذلك أن من الخطأ تبني عقائد واقتناعات في مجال الفكر من خلال بيئة السرية والظلام لأنه تسمع فيها آراء ولا تسمع من يخالفها ، وهذا ما جعل بعض الجماعات الإسلامية تتطرف حيث تتكون الاقتناعات في دوائر مغلقة وهي دوائر يفرح بها الجهل ويرفضها العلم ، وعموماً فالسرية مقبولة في نشاط سياسي أو عسكري أو صناعي أو إداري ، ولكن ليس مجالها العقائد والمبادئ.(32/100)
الخلاصة : إنكار وجود الله سبحانه وتعالى وصد ق الأنبياء r ، وصحة الكتب السماوية ضيع المنبع للحقائق الفكرية ، وفتح المجال لأراء وأفكار ونظريات أسسها الظن والافتراض ، أي الجهل ، وبنوا عليها عقائد وأخلاقاً وحقوقاً وواجبات وأنظمة ، فبعضهم اعتبر الإنسان كالمادة ، ووضعه تحت التجارب والتأمل ، وأنتج نظريات وآراء كما فعلت الشيوعية وعلم النفس ، وبعضهم أخذ يدرس التاريخ وببني عليه نظريات سياسية واجتماعية واقتصادية ، وبعضهم دفعه الإعجاب بشعبه إلى تبني مفاهيم وعقائد عنصرية ، وبعضهم نتيجة اليأس والإحباط من حرب أو أوضاع بلده السيئة أخذ يؤلف نظريات متشائمة وعقائد غريبة قال أ.م . بوشنسكي " ويصح أن يرى الباحث في فلسفة سارتر ( الوجودية ) تعبيراً عن يأس الإنسان الأوروبي في فترة ما بعد الحرب ، والإنسان الفرنسي خاصة ، وأن يجد أن تلك الفلسفة هي التي تقابل تصور العالم عند كائن بلا إيمان أو عقيدة ، بلا عائلة ، وبغير هدف في الحياة ، كما قال بعضهم" (1) وأقول هذا هو جان بول سارتر الفيلسوف المشهور تنبع أفكاره من اليأس لا من العقل ، فالمسألة أصبحت فوضى فكرية ضيعت الحقائق الفكرية حتى لو أصابت في حالات جزئية فإعطاء مختلف الآراء والإجابات على مشكلات الإنسان يجعل بعض الإجابات صحيحة ، ونذكر هنا أنه ليس كل ما تقوله الرأسمالية أو الشيوعية أو غيرهما خطأ بل هم يتفاوتون في نسبة صوابهم وخطئهم ، ولكن الأخطاء الكبيرة هي السائدة في عقائدهم وفكرهم قال الدكتور مصطفى محمود " ومن هذه الأمور أيضاً " علم النفس " وهو ليس بعلم على الإطلاق ، ولا ينطبق على بحوثه التي قدمها فرويد وأدلر وغيرهما شروط العلم الواجبة .... فلا هو يقيني ، ولا هو موضوعي بل هو مجموعة نظريات وفروض وتخمينات اختلف فيها أصحابها وتناقضوا وكذب كل منهم الآخر "(2) وقال الأستاذ وحيد الدين خان " ولقد بلغ الصراع بين مختلف مدارس علم النفس أقصاه لدرجة أن بعض العلماء قد ذهب إلى إنكار وجود شيء اسمه " علم " فيما يتعلق بالنفس "(3) والأفضل أن نقول الدراسات النفسية لأن ليس كل ما فيه علم ، بل فيه علم ( أي حق وصواب ) ، وفيه جهل " أي باطل وخطأ ، وما ينطبق على علم النفس ينطبق على علم العقيدة ، وعلم الاقتصاد وعلم الزواج ، وعلم العبادة ، وعلم الأسس السياسية ، وعلم الأخلاق ، وعلم الإصلاح ، وعلم تربية الأبناء .... الخ فالكلام فيها كثير ومتناقض ، فالعلمانية هي التي شوهت كل هذه العلوم ، وحولت محتوياتها ، إلى آراء متناقضة لا يعرف الدارس لها أيها الصواب وأيها الخطأ وتركت ذلك لإقتناعه الشخصي وجعلت البشر حقول تجارب لاقتناعات شخصية لعلماء العلمانية ، أما من درس الإسلام وفهمه فهو لديه كل أنواع العلم الفكري من عقيدة وسياسة وتربية واقتصاد وأخلاق ... الخ قال تعالى " ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور " سورة النور (40)
ـــــــــــــــــــــ
(1) ص 286 الفسلفة المعاصرة في أوروبا أ.م. بوشنسكي ترجمة د. عزت قرني
(2) ص 78 لماذا رفضت الماركسية د. مصطفى محمود
(3) ص 90 الدين في مواجهة العلم الأستاذ وحيد الدين خان
لماذا انتشرت العلمانية ؟
ذكرت سابقاً الضعف العقلي والعلمي للعلمانية وإنه ليس لها نصيب من الحقائق الفكرية ومن القوة الفكرية ، ومع هذا نجد أنها كفكرة منتشرة ونجد عقولاً كثيرة مقتنعة بها والسؤال الطبيعي هو لماذا انتشرت ؟ والجواب أن لذلك أسباباً كثيرة لعل أهمها :(32/101)
1- انحراف رجال الدين المسيحيين : احدأهم أسباب انتشار العلمانية هو انحراف رجال الدين المسيحيين في العصور الوسطى وخاصة في معارضتهم لحقائق مادية قال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق " وعندما بدأ عصر النهضة الأوروبية ، واكتشفت بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون والحياة هب الرهبان والقساوسة ينكرون ذلك ، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر والزندقة ، ويوعزون إلى السلطات الحاكمة بقتلهم وحرقهم بالنار ، ولقد لقي كثير من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة ..... ولكن حركة العلم لم تتوقف واستطاع العلماء أن يقدموا كل يوم براهين جديدة على نظرياتهم العلمية، وأبتدات آراء الكنيسة ومعتقداتها تُهزم كل يوم هزيمة جديدة، وكانت الجولة في النهاية لعلماء المادة على رجال الكهنوت فاندفع الناس نحو الإيمان بالعلم المادي كإله جديد سيحمل الرخاء والقوة والرفاهية للناس " (1) وقال " لقد كانت الكنيسة الأوروبية سبباً غير مباشر أحياناً وسبباً مباشراً أحياناً أخرى في نشر الإلحاد والزندقة والكفر الكامل بوجود الله وذلك لأن القائمين على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كثيراً من الخرافات والخزعبلات وجعلوها، عقائد دينية " وقال الشيخ عبد الرحمن " وفتش الناس أسرار الكنيسة فها لهم ما رأوه من فساد أخلاقي بين الرهبان والراهبات ، وأرادوا التخلص ، إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة ضدهم ومن الإتاوات والضرائب التي فرضتها الكنيسة على رقابهم ، فكان الرفض الكامل لكل
المعتقدات الدينية ، والكراهية العامة لكل عقيدة تنادي بالغيب ، واتهام الرسل جميعاً بالكذب والتدليس ، وهكذا برزت الموجة الأولى من موجات الإلحاد العالمي"(1) فالكنيسة قالت إن المرض من الشياطين ويمكن مداواته بإقامة القُداس والتمسح بالصلبان وأثبت الطب ( العلم المادي ) خطأ ذلك ، وقالت إن الأرض مسطحة ، وأثبت الفلك ( العلم المادي ) أنها كروية ، فأصبح الإنسان العادي لا يستطيع أن يعتنق المسيحية إلا إذا ألغى عقله ، فالكنيسة عارضت بعض الحقائق العلمية المادية نتيجة تحريف التعاليم المسيحية ، أو خطأ في التفسير ، كما أن فساد رجال الكنيسة وتحالفهم مع الأنظمة الحاكمة سبب غضب الفقراء والناس عموماً ، وأدى إلى النفور منهم ، فالصراع الحقيقي هنا ليس بين دين صحيح وعلم صحيح وبين علم فكري صحيح وعلم مادي صحيح ، بل هو بين علم مادي صحيح وتحريفات وتفسيرات خاطئة حدثت للمسيحية ، كما أن انحراف رجال الكنيسة ليس دليلاً على خطأ المسيحية أو الدين، فالانحرافات البشرية موجودة في كل العقائد السماوية والعلمانية ووجدنا أيضاً علماء مسلمين منحرفين في سلوكهم ، فتجد المنافق وتجد المتطرف وهكذا فالحقيقة هنا هي انتصار العلم المادي على الأخطاء والانحرافات التي نسبت زوراً للمسيحية وننبه هنا إلى أن العلماء الماديين تطرفوا في عدائهم لرجال الكنيسة التي اضطهدتهم ، وجعلوا كل تطور مادي يحققونه كأنه هزيمة للكنيسة وعلمائها مع أن تخصصهم هو العلم المادي ، وتخصص الكنيسة هو العلم الفكري ، والمفروض أن يرفض أجزاء من المسيحية لا كل المسيحية واعتبارها رجعية وأساطير ، فالعقل الأوربي تشكل من خلال الصراع والاضطهاد والثأر والعواطف ورد الفعل والفهم الخاطئ وخلط الأوراق ، وليس من خلال بحث عقلي أمين ، قال الدكتور عبد الحليم عويس: " فالأناجيل مع اختلاف في الدرجة إنما هي صياغة شخصية لأفكار وانطباعات فردية عن المسيح، وليست نصا صادراً مباشرة عن المسيح أوحاه الله إليه "(2) وقال " أما الجانب الآخر من القضية ، ففي رأينا ورأي من نعرف من الدارسين المحايدين أن النص القرآني هو النص الوحيد
ـــــــــــــــــــ
(1) ص 11 المصدر السابق
(2)، (3) ص 35 ص 36 لا نزاع بين الدين والعلم في المنهج والموضوع د. عبد الحليم عويس(32/102)
الصادر عن الله بألفاظه ومعانيه" (3) والتطرف الأوروبي جعله يعتبر كل دين خطأ وخرافات قياساً على ما حدث عنده حتى لو لم يدرسه ويعرفه، وحتى لو لم يجد فيه أي تناقض مع العلم المادي، أو العقل السليم، ووجدنا هذا عند بعض العرب ممن درسوا في أوروبا وأمريكا فقد عادوا بعقائد علمانية وهم لم يعرفوا حقيقة ما حدث في أوروبا، ولا حتى حقائق واقعنا حيث لا توجد عندنا مشكلة في الصراع بين الإسلام والعلم المادي، ولا في أي عقائد يقولها الإسلام ويعارضها العقل الواعي، بل كل ما فعلوه أنهم قلدوا أوروبا والتقليد ليس علماً، قال الدكتور محمد عمارة " المستغربون استعاروا مشكلة أوروبية كي يستعيروا لها حلاً أوروبياً " وقال الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين عن من تأثر من الشباب العربي بالعلمانية ممن درس في أمريكا والغرب " فهم عندما واجهوا الغرب واجهوه بقلوب فارغة وعقول خاوية ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة واستقلال الشخصية، واجهوه مواجهة سطحية من مواطن الجهل والذلة والشعور بالدونية والهزيمة ، فانبهروا بكل ما عنده دون مناقشة"(1) وقال عن العلمانيين بشكل عام" وداء العلمانيين الأول الذي جرهم إلى ما هم فيه هو الجهل بدين الإسلام" (2)
2- القدرة العلمانية على تشويه الحقائق الفكرية : يؤدي استخدام العقل بالطريقة العلمانية إلى القدرة على تشويه أي عقيدة أخرى من خلال المبررات المنطقية التي تكلمنا عنها سابقاً، فإذا سجد المسلم لخالق هذا الكون قالوا هذا إضاعة لوقت يمكن استخدامه في الإنتاج، وإذا تبرع المسلم لفقير قالوا هذا تشجيع للكسل أو أن هناك أهدافاً سياسية لهذا العمل، وإذا سكت عن انحراف الأنظمة أو نصحها سلماً قالوا هذا عميل أو من وعاظ السلاطين، وإذا حمل
ـــــــــــــــــــــــ
(1)، (2) ص 21 ، ص20 رسالة الإصلاح الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين السلاح عليها قالوا هذا إرهابي ويزعزع الأمن والاقتصاد ، وكان بعض العلمانيين العرب يتهمون الاتجاه الإسلامي في الخمسينات والستينات بأنه عميل لأمريكا لأنه يعادي الشيوعية وبعض الأنظمة العربية ، واذكر جواب عالم فاضل عندما سُئل : هل يجوز شراء أجهزة كمبيوتر تمت صناعتها في دولة أسيوية من دون رخصة من الشركة الأمريكية الأم لأنها تباع بسعر رخيص فقال : لا يجوز ، ثم ابتسم وعلق " فتوى أمريكية " ، والطريف أن أغلب العلمانيين العرب وخاصة الشيوعيين والاشتراكيين أصبحوا اليوم حلفاء وأصدقاء لأمريكا بعد أن كانوا يعادونها ويتهمونها بالإمبريالية وأنها العدوة رقم واحد للأمة العربية ، فالعقل العلماني نجح في تشويه كثير من الأمور والحقائق فقال عن الإسلام ليس به ديمقراطية ، وأنه يضطهد المرأة وأنه ضد الحريات وأن علماء الإسلام الواعين ، أما جامدون وأما متطرفون وإما أصحاب مصالح وإما غير ذلك ولم يتركوا تقريباً عقيدة أو حكماً إسلامياً إلا ووجهوا إليه سهامهم ، وحتى الأعمال الخيرية عادوها وشوهوها وكل أو أغلب ما قالوا غير صحيح إذا استثنينا الممارسات البشرية والأخطاء الاجتهادية ، فالإسلام هو دين الشورى منذ أربعة عشر قرناً أما تطبيقها في الواقع فهو مسؤولية البشر لا الإسلام ، وقد طبقها بصور مختلفة كثير من الحكام المخلصين على مدى تاريخنا الإسلامي ، والحرية الواعية الصحيحة هي تلك الموجودة في الإسلام وحقوق الإنسان عرفناها قبل أن نعرف الغرب بقرون كثيرة ، ومكانة المرأة في الإسلام ، وعند المسلمين الملتزمين أفضل مئة مرة من مكانتها الموجودة في الغرب وسنتكلم عن بعض هذه الأمور لاحقاً ، وما نريد أن نصل إليه أن العلمانية شوهت كل خصومها ، ومنهم الإسلام من خلال اتهامات ليست لها أدلة صحيحة ، وهي أصابت أحياناً في نقدها للعقائد الخاطئة ، ولكنها أخطأت في فهمها للإسلام ، وسلاح التشويه يستخدمه العلمانيون ضد بعضهم البعض كما حصل بين الرأسمالية العلمانية والشيوعية العلمانية وكما نشاهده يحدث بين التجمعات والأحزاب والدول العلمانية في كل مكان وزمان.(32/103)
3- الأقنعة الكثيرة : أحد أسباب نجاح العلمانية هي قدرتها على التأقلم وتغير أقنعتها ، وهذا يؤدي إلى بقائها على الساحة ، فالمبررات المنطقية العلمانية تجعلها قادرة أيضاً على الدفاع عن أي فكرة أو نظام أو حاكم أو مصلحة أو عقيدة سواء كانت صحيحة أو خاطئة ، فهي تتأقلم مع الواقع فأحياناً هي شيوعية وأحياناً هي رأسمالية ، وأحياناً هي نازية ، وأحياناً هي قومية أو وطنية ، وأحياناً مع الأغنياء ، وأحياناً مع الفقراء ، فكل هذه المبادئ علمانية فالعلمانية لم تطرح نظاماً فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً واحداً سيثبت الواقع والعقل نجاحه أو فشله ، بل هي تتحرك بألف وجه ، فالشيوعية سقطت ، ولكن العلمانية بقيت لأنها تتبرأ من الشيوعية بعد سقوطها مع أن الشيوعية أكثر علمانية من الرأسمالية ، وأصدق في علمانيتها في حين أن الرأسمالية تقبل الحلول الوسط ، ولا تبحث عن الحقائق الفكرية ، فالعلمانية تتأقلم مع الواقع وتغيير جلدها وتنوعه ، وبالتالي تبقى كاسم ، وتصلح لأي نظام وأي فكر وأي حاكم سواء كانوا صادقين أو كاذبين ، فالعلمانية تفتح الأبواب لهم ليقولوا ما شاءوا والمبررات المنطقية العلمانية ستساندهم ، وابتعاد العلمانية عن تحديد فكر وأنظمة وعقائد محددة ومفصلة جعلها تتبرأ ممن يسقط أو يفشل وتنسب إليها من يبقى وينجح جزئياً فاليوم أمريكا قوية فإذاً العلمانية هي الرأسمالية ونسي الناس أن الشيوعية علمانية أيضاً ، فالعلمانية يؤيدها مخلصون ضائعون اقتنعوا بأحد وجوهها الكثيرة ، ويتبنى بعض هذه الوجوه فئة غير مخلصة لا تهمها المبادئ بل تسعى لمصالحها وانحرافاتها وشهواتها ، فمثلاً المنحرف أخلاقياً يجد في بعض الفلسفات العلمانية ما يؤيد أفكاره وانحرافه ، ويعطيه الشرعية العلمية المزورة ، فيعتبر هذا حرية شخصية ، ومن يكره الأغنياء سيجد فيها أيضاً أفكاراً اشتراكية وشيوعية كلية أو جزئية تبرر أفعاله وأقواله ، وهكذا بالاستناد إلى العقل المجرد يمكن تبني أي عقائد منحرفة بل يمكن اختراع فلسفات جديدة علمانية لإثبات " صحة " أي عقيدة منحرفة ، فوجودها على الساحة العالمية ليس دليلاً لإثبات " صحة " العلمانية ، وليس دليلاً على قوتها الفكرية ، بل لأنها ثوب يستطيع أن يلبسه من يشاء لأنه ثوب ليس داخله فكر أو محتوى ثابت.(32/104)
4- المتاجرة بالشعارات والأهداف العامة: نجحت العلمانية نجاحاً كبيراً في جعل نفسها من خلال الشعارات والأهداف العامة وغيرهما كأنها المنقذ للإنسانية ، فهي التي تطالب بالحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وإنصاف المرآة ، وهي أم التقدم العلمي المادي والتكنولوجي، وهي منبع الحضارة والغنى والرفاهية، وهي التي ستقضي على الحروب وعلى التعصب الديني لأن الجميع سيحتكم للعقل، وتزعم العلمانية بأنها عدوة الاختلاف والتفرق مع أنها المصنع الأول له في العالم وأنها مع التسامح الديني وحرية القول، هذه الأمور بحاجة إلى تفصيل، فإذا كانت العلمانية الرأسمالية نجحت في أمور كثيرة من الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية فأن العلمانية الشيوعية فشلت فشلاً ذريعاً، فلماذا نأخذ الوجه الرأسمالي للعلمانية، وننسى الوجه الشيوعي، كما أن هناك كثير من الأنظمة العلمانية الرأسمالية في الدول النامية ليست ديمقراطية، ولا تحترم حقوق الإنسان مع أنها أنظمة وشعوب علمانية وليست دينية، وكذلك بالنسبة للغنى والفقر فليست كل الأنظمة العلمانية غنية ، وليست كل الأنظمة الأخرى فقيرة، كما أن العلمانية الغربية كما في أمريكا وأوروبا من أسوأ الأنظمة في العالم في مجال حياة المرأة وتعاستها وسنتطرق إلى هذا الموضوع لاحقاً ، إن شاء الله ، وهناك قضية مهمة جداً وهي أن الشعارات والأهداف العامة هي خلف كل المبادئ الرئيسة أي هي أهداف لا خلاف عليها ، فلا يوجد مبدأ يقول إنني ضد الحرية أو ضد الشعب أو ضد العدل أو ضد حقوق الإنسان فالمسلمون والمسيحيون وحتى الشيوعيون يقولون هذه أهدافنا الرئيسة ، ولكن العلمانية الرأسمالية نجحت في إعطاء صورة مزورة كأنها الوحيدة الساعية لذلك وكأنها الوحيدة التي نجحت في ذلك ، وهي أيضاً نجحت في إخفاء فشلها ، أما بالنسبة للربط بين العلمانية والديمقراطية فهو أيضاً ربط خاطئ ، فالشيوعية علمانية ولكنها ليست ديمقراطية ، كما أن الشورى جزء من المنهج الإسلامي منذ أربعة عشر قرناً ووجدت أنظمة تشاور شعوبها على مدى التاريخ ، ولكن بصور متنوعة فالمبدأ نفسه موجود قال تعالى " وأمرهم شورى بينهم " سورة الشورى 38 وقال تعالى " وشاورهم في الأمر " سورة آل عمران 159 ومن الكذب الذي قالت به العلمانية أنها تستخدم العقل كأن البشرية على مدى تاريخها لم تستخدم العقل مع أن كل إنسان مثقف محايد يعلم أن التاريخ البشري مملوء بالكتب والحوارات والآراء والعلم والدراسة والبحث بين المؤمنين والملحدين ، وبين أهل الأديان السماوية وبين مختلف العقائد ، وهناك حوارات عقلية بين موسى عليه السلام وفرعون ، وبين إبراهيم وقومه ، ونجد في كتب علماء المسلمين القديمة مختلف المناقشات والأدلة العقلية والحوارات بينهم وبين غيرهم وبينهم أنفسهم ، ولكن للأسف أكثر الناس لا يقرأون ولا يبحثون بل هم سطحيون يصدقون ادعاءات العلمانية واتهاماتها للغير، ومنها أنها الوحيدة ضد الخرافات والبدع والسحر وهي أمور حطمها الإسلام وعارضها وبينها في آيات قرآنية واضحة وصريحة ، فالعمل السحري مرفوض فهو من الذنوب الكبيرة والشورى تم تطبيقها وحرية العقيدة تم احترامها وحمايتها وتعليم المرأة هدف إسلامي فمن المعروف أن عائشة رضي الله عنها زوجة الرسو صلى الله عليه وسلم كانت عالمة ، وتعليم الناس ومحاربة الجهل والخرافات والظلم هو عمل قام به علماء واعون عل مدى تاريخنا الإسلامي ، ولكن العلمانية شوهت هذا التاريخ ، ولم تر فيه إلا صفحات سوداء ، وتجاهلت الصفحات البيضاء بل نسبت الصفحات السوداء للإسلام لا للبشر ، كما أن العلمانية نسبت إليها التقدم العلمي المادي وجعلت نفسها أما له في حين أن العلم المادي كان موجوداً على مدى التاريخ ، وصحيح أن العلمانية كانت أحد العوامل التي شجعته ولكن هناك عوامل أخرى هامة مثل التنافس الاستعماري الأوروبي ، والتنافس القومي ، وارتباط العلم المادي بالاقتصاد والشركات ، فلم يعد قضية تهم العلماء بل أصبح يهم الدول والأغنياء ، وله أثر هام في كسب الحروب وتأثير الحروب في التطور التكنولوجي كبير ، فكل هذه العوامل ساهمت في التقدم العلمي المادي، ومن البديهيات المعروفة أن الإنسان يدرس اليوم البحث العلمي والكيمياء والطب والفيزياء دون أن يسمع كلمة علمانية ، وهذه العلوم المادية تنجح في بيئة إسلامية أو مسيحية أو بوذية وليس فقط في البيئة العلمانية ، كما أن الدين الصحيح لا يعارض ولم يعارض التقدم العلمي المادي لا في تاريخنا الإسلامي ولا في زمننا الحالي ، بل إن حتى رجال الكنيسة لم يعارضوا من العلم المادي إلا ما ظنوا أنه يخالف المسيحية ، أما أغلبية العلم المادي والتقدم به على مدى التاريخ من صناعة سفن وأقمشة وأسلحة وهندسة مدنية وزراعة .... الخ فلم يتم معارضتها ، وفي نفس الوقت الذي قامت العلمانية بنسبة كل خير وتقدم في العصور الحديثة لها حتى لو لم يكن لها قامت أيضاً بإنكار كل سلبية حديثة أو تجاهلها ، فالاستعمار الأوروبي خلال الثلاث قرون الماضية تم في العصر العلماني، ومن دول علمانية والحروب الكثيرة المدمرة(32/105)
ومنها حربان عالميتان في القرن العشرين من إنتاج العلمانية وصناعة أسلحة ذرية قادرة على تدمير الأرض عدة مرات يتم بأيدي دول علمانية ، وهذا وحده أخطر على البشرية من كل الظلم والانحرافات التي تنسب للعقائد الصحيحة والباطلة في تاريخ البشرية، كما أن ارتفاع نسبة الطلاق والعنوسة والأمراض النفسية والجنسية وأعداد الأطفال غير الشرعيين وجرائم القتل والاغتصاب وانتشار الفقر في العالم والحروب كلها أمور موجودة في الدول الغربية والعالم في العصر العلماني ، فلماذا تنسب لها الخير وتنفي عنها الشر وباختصار العلمانية نجحت في نسبة كل خير لها،وتبرأت من كل شر، فظن الكثيرون أن النور ظهر بظهور العلمانية ، والحقيقة أن الظلام الفكري زاد من خلال افتراءات وادعاءات كثيرة قالت بها العلمانية فشوهت عقائد وتاريخ ومفاهيم لخصومها، أما بالنسبة لإدعاء التسامح الديني فنقول أن العلمانية هي العدوة الأولى للدين ، فما هو التسامح إن التسامح الديني موجود على الطريقة العلمانية وهو أن تنفصل العلمانية عن الدولة والسياسة والحياة وتبقى سجينة في مكاتب ومباني كما فعلت مع الدين فهي لم تحمه بل سجنته ، فالعلمانية لم تكن أبداً موضوعية أو محايدة في مدح نفسها أو في نقد خصومها فكأن حضارات البشر وعقولهم وكتبهم وما حققوه من تقدم فكري ومادي في كل تاريخهم هو فقط أساطير وخزعبلات وصفحات سوداء ، قال الدكتور عبد الحليم عويس " وفي تعميم شديد تذهب رواية أخرى إلى أن العلم ظاهرة متأخرة في حياة البشرية ، وأن البشرية عاشت قبل ذلك عشرات الألوف من السنين دون أن يتكشف نشاطها عن تلك الظاهرة التي يطلق عليها : اسم العلم ، أن هذه الجرأة في الحكم الظالم على مراحل تاريخية طويلة وحضارات مندثرة هي بذاتها ليست من العلم في شيء " (1) ولو قرأت البشرية ما كتبه الإمام ابن القيم أو الإمام الغزالي قبل مئات السنين لتعجبت من ثقافتهم وعلمهم وذكائهم وتنوع كتبهم ، وهما وبلا مبالغة أرقى فكرياً من كل فلاسفة ومفكري العلمانية مجتمعين ، ولكن المشكلة أن كثيراً من الناس لا تقرأ ولهذا خدعتهم العلمانية فمن من الناس بحث في الأصول العلمية للعلمانية ؟ ومن من الناس يعرف العلاقة بين العقل والحقائق الفكرية ؟ ومن من الناس درس اتهامات العلمانية للأديان وتعمق فيها وسأل عن أدلة تثبتها ؟ أو درس ردود المتهمين ودفاعهم ؟ أو درس التاريخ بموضوعية ومن مصادر أمينة ؟ .... الخ
5- الدفاع عن المظلومين والفقراء : قال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق " تبنت الشيوعية الدفاع عن المظلومين والفقراء وهذه قضية عادلة وإنسانية في ذاتها ولذلك تبنى هؤلاء الفقراء والمظلمون وهم أغلبية الناس دائماً هذه العقيدة الجديدة والدين الجديد، لأنه يدافع عن مصالحهم ويتبنى قضاياهم وبالطبع أخذ هذا الدين بفلسفته العقائدية وليس بفكره الاقتصادي فقط "(2) وقال الدكتور مصطفى محمود : " حينما بدأت أكتب في الخمسينات كانت الماركسية هي موضة الشباب الثائر في ذلك الوقت ... وكنا نقرأ منشوراتها في نهم فتحرك مثالياتنا بما تعد به من فردوس وعدالة ورخاء وغذاء وكساء للعامل والفلاح ومحاربة الإقطاع والاستغلال وتحرير للجماهير الكادحة "(1) وقال " ويذكرني ما يحدث برأي للدكتور والمفكر المغربي المهدي بن عبود بأن الماركسية ليست فكراً ولا فلسفة وإنما هي طبع وخُلق وغل مكبوت لنفوس موتورة تطلب الثأر ولا ترتاح إلا للقتل والتنكيل والاعتقال والتسلط ، وهي تجد في الأيدلوجية الماركسية أفضل ذريعة وأحسن مبرر تتستر به " وقال " ثم نكتشف في النهاية أننا لا نتعامل مع عقول وإنما نتعامل مع طباع ورغبات وشهوات مجردة عن المنطق "(2) فأحد أسباب انتشار الشيوعية العلمانية هو استغلالها للظلم الرأسمالي العلماني ، وتشجيع الناس على الانتقام والثأر ، فالنجاح ليس نجاحاً علمياً فكرياً للنظرية الشيوعية العلمانية بل هو نجاح لشعارات رفعتها مثل العدل وإنصاف العمال والفقراء وتحطيم الإقطاعيين ، فهي أخرجتهم من ظلم لتوقعهم في ظلم أفدح وأشد ، وتمنعهم حتى من الخروج من الدول الشيوعية .(32/106)
6- القوة والمال : استفادت العلمانية الرأسمالية كثيراً من قوة العلم التكنولوجي الغربي مما جعل الناس يظنون أنه والعلمانية وجهان لعملة واحدة ، فالناس تريد التكنولوجيا والغنى والرفاهية والقوة العسكرية ولا تريد أن ترى إلا هذا الجانب ، وهو الجانب الأهم عندها كما أن العلمانية الغربية نجحت فكرياً لدرجة كبيرة في قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وهذا ساهم في انتشارها ولكن الناس لم ينتبهوا إلى ضياعها وجهلها العقائدي والاجتماعي، والعلمانية الغربية أرقى من غيرها من العلمانيات وهي أرقى من الانحرافات والأساطير والجمود والتعصب المنسوب للأديان السماوية ولكن الإسلام أرقى فكرياً منها بكثير ، بل لا مجال للمقارنة ، فارتباط مصالح البعض في الدول النامية بالعلمانية الأمريكية سواء مصالح سياسية أو مالية أو عسكرية جعل هؤلاء أفراداً أو حكومات يتقربون لأمريكا وهي قوة عظمى وذكية فالقضية هي مصالح مع دول عظمى ، وليس نجاحاً للعلمانية ، فالقوة والغنى تجذب الكثيرين ، وقد وجدنا في الدول النامية من تعاون وتحالف مع روسيا الشيوعية ليس
ــــــــــــــــــــ
(1) ص 5 لماذا رفضت الماركسية ؟ د. مصطفى محمود
(2) ص 86 لماذا رضت الماركسية ؟ د. مصطفى محمود
بسبب اقتناعه بها بل لأن مصالحه معها ، وخصومه وأعداءه مع أمريكا وعندما انهار الاتحاد السوفيتي تغير هؤلاء أو أغلبهم ، وماتت الشيوعية واليسارية والاشتراكية وحقوق العمال ، أما اليوم فالقوة والانتشار هو لأمريكا القوية والغنية لا للعلمانية الضعيفة والفقيرة فكرياً .
7- غياب الفكر الإسلامي الصحيح : لا شك أن أحد أهم عوامل انتشار العلمانية هو غياب الفكر الإسلامي الصحيح عن الساحة ، فالإسلام كقرآن وأحاديث موجود ولكن علماء المسلمين الواعين كانوا قلة وخاصة خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين ، كما أن فقر المسلمين واختلافهم وجهلهم واستعمار أغلب دولهم أضعف كثيراً من قدرتهم على بيان جهل العلمانية ، خاصة عندما نعلم أن أغلب دول المسلمين كانت فقيرة وتفتقد الاستقرار السياسي وتعيش في عزلة كبيرة وخاصة عن العالم الغربي ، فصوت الحق كان ضعيفاً لأسباب مختلفة ، كما أن كثيراً من الكتب الإسلامية التي انتقدت العلمانية بصورة جزئية موجهة أساساً للعلمانيين العرب ومركزة على التعارض بين الإسلام والعلمانية ، أو كانت غير منصفة في نقدها للعلمانية بمعنى ترفض حتى ما يتم تحقيقه من نجاح فكري جزئي في الغرب وخاصة في الديمقراطية والحرية ولعل أهم العوامل هو ضعف قدرة المسلمين على بيان عظمة الإسلام ورقية الفكري وترجمة هذا الرقي في كتب وأفراد وأحزاب ودول فمن المعروف أن التزام كثير من المسلمين بدينهم ضعيف ، كما أن هناك متطرفين وجامدين يشوهون الإسلام ويعرضونه بطريقة منفرة غير صحيحة ، هذا مع صدقهم وإخلاصهم ، ووجدنا في بعض الشباب المسلمين ممن درسوا في الغرب نماذج سيئة خلقياً ، وعاجزة فكرياً عن فهم الإسلام وشرحه بل الأغلبية الساحقة منهم ذهبت وهي جاهلة بإسلامها لدرجة كبيرة لا تعرف من الإسلام إلا أجزاء بسيطة ، فالعلمانية كانت تعدو في سباق ليس فيه غيرها ، ولهذا كانت تفوز به والضعف ليس في الفكر الإسلامي بل في المسلمين ، ومن الواضح أن هناك قفزات في وعي المسلمين وفي قدرتهم على بيان فكرهم في العقدين الأخيرين ، وفي بيان سلبيات العلمانية وأخطائها مما جعلها منبوذة في العالم الإسلامي ، وحالات شاذة هي من تعلن في العالم العربي والإسلامي اقتناعها بالعلمانية .
الإسلام والعقل
الاختلاف بين العلمانية والإسلام أن العلمانية تقول إن العقل لوحده قادر على الوصول، إلى الحقائق الفكرية في حين أن الإسلام يقول إن العقل سيوصلنا للحقائق الفكرية الكبرى أي وجود الله وصدق الأنبياء، ثم بعد ذلك نعتمد في معرفة الحقائق الفكرية على الكتب السماوية أي هي منبع العلم الفكري. ولكن العلمانية اتهمت الإسلام بأنه ضد العقل، واتهمته أنه ضد الحقائق الفكرية، وهذا خطأ أيضا، واليكم الأدلة:(32/107)
1. الإسلام والعقل والعلم: قال الدكتور عبد الحليم عويس "لقد حشد القرآن ما يقرب من خمسين آية في تحريك العقل البشري وانتشاله من وهدة التقليد والتبلد، كما حشد عشرات الآيات في إيقاظ الحواس من سمع وبصر ولمس، وعشرات أخرى في إيقاظ التفكير والتفقه فضلا عن آيات طلب البرهان والحجة والجدال بالتي هي أحسن . . بل أن القرآن أضاف حقيقة في غاية الأهمية هي أنه أطلق كلمة العلم على الدين قال تعالى"ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذن لمن الظالمين" سورة البقرة (145) وقال تعالى "فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم سورة آل عمران (61) أي: الدين " (82) ونقول الدين "الإسلام"هو العلم الفكري، إما العلمانية فهي الجهل الفكري قال تعالى "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب" سورة الزمر (9) وقال تعالى "وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" سورة النحل (12) وقال تعالى "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" سورة الملك (10) وقال تعالى "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" سورة آل عمران (190) وقال تعالى "يُؤتي الحكمة من يشاء ومن يُؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وما يذكر إلا أولو الألباب" سورة البقرة (269)، فالقرآن هو منبع العلم الفكري وكل ما فيه حقائق فكرية فالإنسان العالم هو الذي عرف الله سبحانه وتعالى، وان صفاته هي التي جاءت في القرآن والسنة، وعرف قصص الأنبياء وسنن اله تعالى في الكون وعرف شريعته وكيفية تطبيقها، والتزم بها، ومن ينفي وجود الله أو يُشكك في شريعته فهو الجاهل لأن عقيدته نابعة من الظن والشبهات أو الهوى والعناد، وكان المسلمون ولازالوا يطلقون كلمة العلم وأهل العلم على القرآن والسنة، وعلماء الإسلام، أما أهل العلمانية فاعتبروا العلماء هم فقط أهل العلم المادي أما في الجانب الفكري فلبس عندهم علم لان أرائهم متناقضة، ومع هذا عندهم مفكرون "علماء"، وهذا تناقض قال الدكتور عبد الحليم عويس " وحسبنا أن نشير إلى أن كلمة"علم" بتصريفاتها المختلفة قد وردت في القرآن أكثر من سبعمائة وخمسين آية" (1) أما بالنسبة للعلم المادي من كيمياء وطب وزراعة وصناعة فقد كان موقف الإسلام مشجعا له قال الرسو صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" ودعا الإسلام إلى العمل وإعداد ما أستطعنا من قوة في الحرب وغيرها، واهتم المسلمون بعلوم الفلك وصناعة السفن وصناعة الأقمشة وعلوم الزراعة والطب ولم يوجد في تاريخنا أبداً أي اضطهاد لعلماء العلوم المادية، ونجح المسلمون في كثير من فروع العلم المادي، وظهر منهم علماء بارزون قال الدكتور عبد الحليم عويس "وقد ظلت آثار هؤلاء العلماء المسلمين هي الآثار العلمية المعتمدة خلال العصر الوسيط كله ، ومن هؤلاء العلماء: ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وجابر ابن حيان مكتشف الصودا الكاوية وحامض الكبريتيك المخفف بعد تقطيره، والرازي مكتشف زيت الزاج وعدة أمراض ، وابن الهيثم مكتشف علم البصريات والفرغاني واضع علم المثلثات" (2).فالمسلم وصل إلى الحقائق الفكرية من خلال العقل والأدلة العقلية القوية التي أثبتت وجود الله سبحانه وتعالى وصدق الأنبياء وبنى أفكاره وعقائده بناء على القرآن والسنة في حين أن العلماني هو من يرفض حكم العقل والأدلة العقلية، ويبني عقائده وأفكار على آراء شخصية له وللفلاسفة المتناقضين فكريا ومن خلال التصويت والحلول الوسط والمصالح الشخصية أو الجماعية والأهواء والشهوات . . الخ وما نقوله ليس اتهاما بل هو اعتراف من العلمانيين بان فكرهم يعتمد على الرأي وليس على الحقيقة. والرأي قد يصيب وقد يخطئ، أما الحقيقة فهي العلم، والرأي عندهم هو منبع أسسهم الفكرية في حين ان الرأي والاجتهاد عندنا ضمن حدود معينة، أما الحقائق الفكرية فهي ثابتة ولا تتغير لأنها حقائق وعلم. كما أن الحقائق الفكرية الإسلامية ترشد استخدام الرأي، وتجعله يصيب أكثر مما يخطئ، قال الدكتور عبد الحليم عويس "وليس ما يشرعه الله إلا سياجا يحوط مسيرة العقل من الحيرة والزيغ، وليس - كما يتصور البعض ... عقبات في طريق مسيرة العقل"(1) فالاقتناع بالإسلام ليس مبنياً على إيمان أعمى كما يقول العلمانيون، بل على عقل متفتح واع اقتنع بأدلة وجود الله وهو أمر مقتنع به اغلب العلمانيين أيضا واقتنع بصدق الأنبياء بناء على أدلة عقلية حيث رأى معجزاتهم في القران الكريم وفي إحياء الموتى وفي عصى موسى وفي حكمة وصواب ما يدعون اليه، وفي رقي أخلاق الأنبياء، وفي عظمة البناء الفكري الإسلامي وفي اعتداله وواقعيته وشموليته. وباختصار المسلمون اتبعوا العقل الصحيح ، والعلمانيون اتبعوا العقل الضائع ، ويتميز المسلمون في القضايا الاجتهادية بالحذر من الكلام بها خوف الخطأ مع إن عقولهم لديها القرآن والسنة (فقد سُئل الإمام مالك ابن أنس رضي الله عنه عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها لا ادري، وسُئل "أبو يوسف" عن شيء(32/108)
فقال "لا أدري" فقيل له تأكل من بيت المال كل يوم كذا وكذا وتقول لا ادري : فقال:"آكل منه بقدر علمي ، ولو أكلت بقدر جهلي ما كفاني ما في الدنيا جميعا"(2) أما العلمانيون فإذا سألتهم مئة سؤال فكري فاغلبهم سيجيبون عليها لان العلمانية فتحت أبواب الفكر والعلوم الفكرية لكل من له لسان وقلم، فعلماء الإسلام كلامهم أقل من علمهم والعلمانيون كلامهم أكثر بكثير من علمهم هذا إذا كان لبعضهم علم.
2- ثقافة المسلمين: تتهم العلمانية الإسلام والمسلمون بالجمود وعدم الثقافة وعدم التعليم، ونقول إن الجمود حدث في القرون الأخيرة لأسباب مختلفة منها الفقر وعدم الاستقرار السياسي والتأثر باقتناعات معينة جاءت كرد فعل لأحداث فكرية قديمة منها تعطيل باب الاجتهاد، وأما المسار الفكري والثقافي الأصلي والمعروف فهو العلم والثقافة والانفتاح قال الأستاذ تقي الدين النبهاني "نعم إن الإسلام لم ينه عن الدراسة الفكرية بل أباحها، ولم ينه عن أخذ الأفكار بل أباح أخذها، ولكن الإسلام قد جعل العقيدة الإسلامية قاعدة الأفكار،
ــــــــــــــــــ
(1) ص 12 المصدر السابق
(2) ص 122 ، 123 غرائب الأخبار الأستاذ أحمد عيسى عاشور
ومقياساً لأخذها أو رفضها، فأنه لا يجُيز أخذ فكر يتناقض مع هذه القاعدة"(1) قال الشيخ عبد الحليم محمود " درس الكندي الفلسفة اليونانية والفلسفة الفارسية والفلسفة الهندية ودرس الهندسة والطب والجغرافيا والموسيقى "(2) وكتب الكندي أكثر من مئتي كتاب ورسالة أما الفارابي فله أكثر من مائة كتاب ورسالة في الفلسفة وغيرها ولأبي موسى الأشعري أكثر من ستين مؤلفاً منها كتاب الفصول ، وكتاب " إيضاح البرهان " وكتاب " اللمع " وكتاب " التبيين عن أصول الدين " وكتاب " الشرح والتفصيل في الرد على أهل الإفك والتضليل " وكتاب " القياس " وكتاب " الجهاد " ... الخ وألف الإمام الغزالي قبل أكثر من ألف عام كتاب مقاصد الفلاسفة وكتاب تهافت الفلاسفة وكتاب المنقذ من الضلال وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد وكتاب " إحياء علوم الدين " ... الخ وفي هذه الكتب مناقشة للفلاسفة والفرق الإسلامية وتكلم في العقائد والأخلاق فكيف يقال أن العقل الإسلامي تعطل منذ القرن الأول أو الثاني الهجري وهم كانوا يناقشون الفكر العالمي كله بمدارسه العلمانية والدينية وفهموه بطريقة صحيحة ويصلحون له أخطاءه قال ابن القيم " وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب وبعضهم أقرب إلى الصواب وبعضهم أقرب إلى الخطأ ، وأدلة كل منهم وحججه ، إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى ، لا على إبطال ما أصابوا فيه ... وأهل السنة وحزب الرسول ، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء .. بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه ، وهم مع أولئك فيما أصابوا فيه ، فكل حق مع طائفة ، فهم يوافقونهم فيه ، وهم براء من باطلهم .. فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه على بعض ، والقول به ، ونصره ، ونفي باطل كل طائفة وكسره "(3) وما ذكرناه من أسماء لعلماء الإسلام هو فقط عينة قليلة ، فالعالم عرف منذ قديم الزمان الحوارات والكتب والمدارس والأفكار والعقائد والأدلة ولكن العلمانية تظن أن العقل البشري لم يعرف ذلك قال الشيخ عبد الحليم محمود " ومن المعروف أن الإلهيات والأخلاق ( الكتب اليونانية القديمة ) لم يترجما إلا في أيام المأمون وفي هذه الفترة كان هناك معتزلة وصوفية ونصيون وملحدون يتصارعون فيما بينهم تصارعاً لا هوادة فيه "(4) وقال
ـــــــــــــــــــ
(1) ص 143 التفكير الأستاذ : تقي الدين النبهاني
(2) ص 210 التفكير الفلسفي في الإسلام الشيخ عبد الحليم محمود
(3) ص 127 بنيات الحل الإسلامي الدكتور يوسف القرضاوي
(4) ص 183 التفكير الفلسفي في الإسلام الشيخ عبد الحليم محمود(32/109)
" ويرى الكندي وابن سينا وغيرهما موقف الإسلاميين من الفلسفات القديمة : نظروا فيها فانتقدوا منها الباطل ، واعتنقوا الحق ، وساهموا في تكملة صرح الحق ، على قدر طاقتهم "(1) وقال الدكتور إبراهيم مدكور " وقدس المعتزلة أيضاً حرية الرأي ، قدسوها لدى معارضيهم كما قدسوها فيما بينهم ، فاستمعوا من خصومهم إلى أغرب الآراء وأشنعها ، وحللوها وأثبتوا بطلانها ، وأفسحوا مجال البحث فيما بينهم ، ولم يضرهم أن يعارض التلميذ أستاذه "(2) وقال " الأشاعرة مدرسة موفقة ، حاولت أن تقف موقفاً وسطاً بين طرفين ، بين النقل والعقل ، بين السلف والمعتزلة"(3) ومن الشبهات الغريبة لبعض العلمانيين العرب هو قولهم بأنهم معتزلة في حين المعتزلة لا يؤمنون بفصل الدين عن الدولة ، ويلتزمون بالنصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة وبالصلاة وكثيراً ما نلاحظ مثقفين عرب يستشهدون بما قال مفكرون وسياسيون غربيون ، ونحن لسنا ضد ذلك ، فالحكمة ضالة المؤمن ولكننا نستغرب أن يجهل هؤلاء أو كثير منهم ما في ثقافة المسلمين من آراء وأفكار واجتهادات وطرائف وأشعار ، ولو قارنا الشعر العربي من عنترة بن شداد ليومنا هذا لوجدناه أرقى وأغزر من الشعر الإنجليزي أو الفرنسي ووجدنا أن لغتنا العربية أجمل وأعرق وأشمل ولكنها وللأسف الهزيمة النفسية ، والتقليد الأعمى ، ونضيف إلى ثقافة المسلمين أن الإسلام لم يغلق أبواب الإبداع الفكري أو الأدبي أو الرياضي أو السينمائي فالقيود الشرعية هي ضد الخرافات والسخرية والأمور التافهة والإثارة الجنسية والألفاظ السوقية والإلحاد والزندقة ... الخ وهي مع القصة الهادفة ، ومع المسرحية المحترمة ، ومع الفلم المفيد ومع الشعر الجميل ، ولم نجد من علماء المسلمين من انتقد أي عمل فكري أو أدبي أو مسرحي مفيد أو ترفيهاً برئياً .
3- الاجتهاد العقلي : لا ينتهي دور العقل بأن يوصلنا إلى أن القرآن والسنة هما مصدر الحقائق الفكرية، بل لا زال مهما وأساسياً في فهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وفي التأمل في الكون والكائنات والحياة ، وفي معرفة عقائد ونظريات الأمم والشعوب وفي معرفة حقائق الواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وأيضاً في تحقيق التقدم الزراعي والصناعي والطبي
ــــــــــــــــــــ
(1) ص 196 المصدر السابق
(2) ، (3) ص 38 ، ص 46 في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه د. إبراهيم مدكور
... الخ والمجالات التي ذكرتها في العلم الفكري تحتاج دراسة وبحثاً وتجميع معلومات ونقاشاً فالقرآن والسنة يُعطياننا الحقائق الرئيسة والنور ، والعقل يعطينا العين ، قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد : " على " المؤمن " أن يعيش حياته محُلقاً في الكون من حوله بجناحيه ، أحدهما جناح العقل والآخر جناح النقل ( أي النصوص الدينية ) "(1) قال عليه السلام " من اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد " فقمة التقدم الفكري موجودة في الإسلام لأنها تشجع البحث الحاد ، والدراسة ، و" الاجتهاد " إلى درجة أن من يخطئ بعد ذلك الجهد له أجر ، وقا صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل " بم تحكم ؟ " قال " بكتاب الله " فقال " إن لم تجد ؟ " قال " بسنة رسول الله " فقال " إن لم تجد ؟ " فقال " أجتهد رأيي " فقال عليه السلام " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله "(2) وقال ابن القيم " وقد نهى صلى الله عليه وسلم أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله ، وقال " فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ؟ لكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك " وقال ابن القيم عن الأمور الاجتهادية واختلافها " ولا يُكفر ولا يُفسق من خالفها ، فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله ، بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن شاء قبله ومن شاء لم يقبله ، ولم يلزموا به الأمة " وقال أبو حنيفة " هذا رأيي ، فمن جاءني بخير منه قبلناه "(3) وقال الدكتور أحمد كمال أبو المجد " إن النصوص مهما تعددت - فهي محدودة بالقياس إلى المشاكل المتجددة .. والسوابق الثابتة من عهد النبوة وعهد صدر الإسلام مهما تعددت كذلك فهي محدودة العدد بالقياس إلى ما يطرأ كل يوم من أوضاع جديدة ومشاكل لم تكن تواجه الناس العصر الأول "(4) وقال " ليعلم هؤلاء كذلك أن التجربة الإنسانية لا تُرفض لمجرد أنها تمت في أرض غير إسلامية أو تحت راية غير إسلامية وأن هذا لا يكفي وحده لرميها رمية مسبقة قاطعة بأنها تجربة " جاهلية " فالحق هو الحق ، والحكمة ضالة المؤمن ، والحضارات قيم ومبادئ من ناحية ونُظم وأدوات لخدمة هذه القيم والمبادئ ، من ناحية أخرى "(5) ومعنى هذا أن الاجتهاد
ــــــــــــــــــــــ
(1) ص 11 حوار لا مواجهة د. أحمد كمال أبو المجد
(2) ص 88 القسطاس المستقيم الإمام أبو حامد الغزالي
(3) ص 39 ، ص 40 تهافت العالمانية دكتور صلاح الصاوي
(4) ص 89 حوار لا مواجهة د. أحمد كمال أبو المجد
(5) ص 46 المصدر السابق(32/110)
وهو ( النص + العقل ) له مكانة كبيرة في الإسلام ، وأن تطبيق النصوص القرآنية والنبوية لم يكن أبداً تطبيقاً أعمى، فالعقل له دور في فهمها ، وفي فهم الواقع ، وفي ترتيب الأولويات ، وثبات النصوص القرآنية هو عبارة عن حقائق فكرية لا تتغير فصفات الله سبحانه وتعالى وأسمائه لا تتغير ، وطبائع النفس البشرية من حب وكره وغضب ورضى ... الخ لا تتغير ، والمبادئ الرئيسة في السياسة والاقتصاد من عدل وشورى ومساواة لا تتغير، وتحريم الربا والغش أمور لا تتغير وهناك تفصيل أكثر في الحقائق الاجتماعية لأنها لا تتغير، وهناك مرونة للقضايا السياسية والاقتصادية حتى تناسب واقع كل مكان وزمان ، وهنا يكون للاجتهاد دور كبير في اتخاذ قرارات البرامج السياسية ، وتوزيع الميزانيات وتحديد الأهداف ، والاستراتيجيات والخطط ، وفي اختيار تفاصيل النظام السياسي والاقتصادي الذي يتناسب مع المصلحة الوطنية ، قال الدكتور يوسف القرضاوي " وهكذا كان في الفقه الإسلامي منطقة مغلقة لا يدخلها التغيير أو التطوير ، وهي منطقة ( الأحكام القطعية ) وهذه هي التي تحفظ على الأمة وحدتها الفكرية والسلوكية ... ومنطقة مفتوحة هي منطقة ( الأحكام الظنية ) ، ثبوتاً أو دلالة ، وهي معظم أحكام الفقه ، وهي مجال الاجتهاد ، ومعترك الأفهام ، ومنها ينطلق الفقه إلى الحركة والتطور والتجديد " (1) وهنا ننبه إلى قضية هامة وهي أن مساحة الاجتهاد كبيرة في الفكر الإسلامي ، ولكن لا يسمح بالدخول لها من غير دراسة وفهم للآيات والأحاديث واللغة العربية وفهم الواقع وآراء الآخرين وبذل الجهد في الوصول إلى الرأي الصحيح أي الحقيقة مع أن ما يتم الوصول إليه يُعتبر اجتهاداً وليس حقيقة ملزمة ومن هنا يتضح خطأ اتهام الإسلام بأنه دين يعتمد كلياً على النص القرآني ، وأن لا مكان فيه للعقل ، ومكانة العقل في الإسلام تم الاختلاف في درجة فهمها بين العلماء ، وبين الفرق الإسلامية ، فهناك من قللوها لدرجة كبيرة كالخوارج وهناك من زادوها لدرجة كبيرة كالمعتزلة ، وهناك من اعتدلوا كأهل السنة والجماعة على اختلاف آرائهم ، أما بالنسبة للتطبيق الحالي في واقع المسلمين فإننا نرى أن هذا التطبيق ليس صحيحاً في بعض جوانبه ، وبقي متأثراً بالجمود الفكري الذي عاشه المسلمون ، أي لا ينسجم مع الإسلام قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد " وإذا كانت آفة الدنيا من حولنا أن الأرض قد أخذت زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، وتصوروا أن " العقل " يستطيع - بغير النقل - أن يهدي إلى الرشد فإن آفتنا نحن المسلمين - أننا عطلنا العقول ، وركنت عامتنا وخاصتنا إلى المنقول "(1) وهناك اتهام يوجهه بعض العلمانيين وهو اتهام المسلمين بأن اجتهاداتهم كثيرة ومتناقضة ، وحالهم حال العلمانيين ، ونقول أولاً اتهاماتكم لا تنتهي فمرة نحن نتبع النص ولا نختلف ، ومرة نحن نختلف حول كل شيء والجواب هو أننا نتكلم عن أهل السنة والجماعة وليس عن كل ما في التاريخ الإسلامي من آراء ونقول إن أهل السنة والجماعة متفقون على كل ما في القرآن والأحاديث الصحيحة وهذه مئات الحقائق الفكرية أو أكثر في حين أن العلمانيين لم يتفقوا على حقيقة فكرية واحدة كما أن اختلاف أهل السنة والجماعة هو في الأمور الاجتهادية ، وهذا لا يخالف الإسلام ولا يتعارض مع حقائق الكتاب والسنة أي هو اختلاف صحي يتم حسمه إذا كانت هناك حاجة من خلال مجالس العلماء أو مجالس السياسيين المسلمين أو الاقتصاديين أو غيرهم ، أي حسب نوعية الاجتهاد ، أما التناقض العلماني فهو في الأسس الفكرية ، وفي الأمور الاجتهادية ، كما أن الالتزام بالأسس الفكرية الإسلامية يمنع الاختلاف الاجتهادي من التحول إلى اختلاف خطر يفرق الناس ، ولنضع الأمر بصورة أخرى الحقائق الكبرى ليس بها اختلاف بين المسلمين ، أما الفرعيات والتفاصيل فمن الطبيعي الاختلاف حولها ، ومن الاتهامات التي يثيرها العلمانيون هو القول بأن وجود كتب سماوية يعيق العقل من الانطلاق والتفكير ، ونقول لا يوجد تعارض ، فمن يدرس الكيمياء أو الهندسة بحاجة إلى أن يقرأ كتب مقررة حتى يتعلم حقائق العلم المادي ، ولم يقل أحد أن وجود كتب كيميائية يعيق الكيميائي ويعطل عقله ويمنعه من التفكير والبحث والفهم ، بل الكتب الصحيحة تنير له طريقه ، وتجعله قادراً على الإبداع والاستفادة وتحقيق المصالح المرجوة ، فالكتب السماوية هي النور الذي تحتاجه لترى طريقك في ظلمات الجهل ، وإذا وجد هذا النور تستطيع أن تبصر بعقلك وتسير في حياتك الشخصية والعقائدية والفكرية بخطوات ثابتة قوية
4- فقه الواقع: فقه الواقع عنصر من عناصر الاجتهاد وأحببت أن أفصله لأبين أهميته ودور
ــــــــــــــــــ
(1) ص 208 حوار لا مواجهة د. أحمد كمال أبو المجد(32/111)
العقل به، قال ابن القيم رحمه الله " فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله " (1) وقال " من شروط المفتي معرفة الناس ، وإلا راج عليه المكر والخداع والاحتيال " (2) وقال الدكتور أحمد كمال أبو المجد " وحين يمارس الاجتهاد ، وتعرض على المشرع والفقيه ورجل السياسة حلول متعددة تقبلها الشريعة الإسلامية وتتسع لها ، فإن الاختيار حينئذ لابد أن يحكمه فهم الواقع الاجتماعي وتحليل حركته ، لذلك وجب أن يستقر في ذهن دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق الشريعة أن الجهد الفقهي الخالص لابد أن يتممه عمل اجتماعي واسع ، حتى تأتي ثمرته رحمة حقيقية للناس ، ومخرجا لهم من الضيق ، ورفعاً للحرج " (3) ونقصد بقراءة الواقع وفقه الواقع معرفة حقائقه العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فما هي عقائد هؤلاء القوم حسب التعامل معهم لا حسب الكتب ؟ وما هي حقيقة الصراع الفكري والسياسي في منطقتنا وعالمنا ؟ وما هي أهداف هذه الجماعة أو ذاك الحزب ؟ وما هي سيرتهم الحقيقية بعيداً عن التشويه مدحاً أو ذماً ؟ وهذا ينطبق على الحكومات والأفراد أيضاً ، وإذا أخذنا الواقع السياسي فمن الضروري أن نفهم المعنى الصحيح للديمقراطية وإيجابيات وسلبيات الانتخابات والقوى السياسية المؤثرة من طبقية وعرقية وفكرية فنجد من علماء المسلمين من رفض الديمقراطية وهو لم يفهمها بعمق ونجد منهم من تكلم بالسياسة وهو لم يقرأ كتاباً واحداً فيها والمفروض أن يتعلمها كأي علم آخر مثل علم المحاسبة أو العقيدة ، فالاجتهاد الإسلامي السياسي لا يكون صحيحاً إن لم يكن هناك علم ودراسة لعلم السياسة وواقعها ونظرياتها ، هذا طبعاً مع معرفة الفكر السياسي الإسلامي وحقائقه الفكرية في القرآن والسنة ، فمن الخطأ أن نجد متخصصاًَ في العلوم الشرعية الإسلامية يتكلم في قضايا سياسية وعلاقته بالسياسة محدودة لا تزيد عن متابعة الجرائد والأخبار ، ولا يعرف ما فيها من صدق وكذب ، وما نقوله ليس شيئاً جديداً بل فعله الرسو صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس والقبائل والدول ، فأحياناً يأخذ قرار بالسلام ، وأحياناً بالحرب وأحياناً يسامح ، وأحياناًَ يعاقب ، وهذا يكون من ضمن اجتهاد ينطلق من معرفة النصوص القرآنية ومن معرفة الواقع وما هو أفضل قرار يحقق المصلحة للمسلمين ، أما الاجتهاد من دون معرفة الواقع فقد جعل بعض العلماء يخطئون في فتاويهم واجتهادتهم ، وكل جوانب الواقع بحاجة إلى عقل يقرأ
ويعايش ويسمع ويفكر ويحلل ويستنتج وبدون ذلك لا يكون هناك اجتهاد أصلاً ونصيب المسلمين سيكون من الحقائق الاجتهادية محدوداً أو لا شيء ، والإسلام في قضايا لا يقبل المساومة ، وفي قضايا أخرى يقبلها بمعنى أنه يصر على مبادئه ولكن يقبل ما هو متاح وممكن إذا كان أفضل الخيارات المطروحة حتى لو كانت جميعاً بعيدة عما يريد فالإصلاح ، خطوات كثيرة ، ولابد أن يسير فيها المسلمون، وما ينطبق على الجانب السياسي ينطبق على الجانب العقائدي والاجتماعي والاقتصادي ، ونذكر هنا أن الاجتهاد ليس قراراً للمتخصصين فقط في العلوم الإسلامية بل هو جهد جماعي حسب نوع الاجتهاد ، أي يتطلب علماء الشريعة وعلماء السياسة ومشاورة المختصين من قانونيين واجتماعيين وتجار ومدرسين ونواب .. الخ كما أن وجود مجالس علمية أصبح عملية ضرورية لترشيد الاجتهاد ، والرأي الجماعي أصوب غالباً من الرأي الفردي ، ودور علماء الشريعة هو بيان النصوص القرآنية والأحاديث وتفسيرها بصورة واضحة وترشيد ، حركة واجتهادات الآخرين بوضع الضوابط الإسلامية لها قال خير الدين التونسي 1825-1890 : " أهم العوائق في تقدم المسلمين وجود طائفتين متعاندتين ، رجال الدين يعلمون الشريعة ولا يعلمون الدنيا ويريدون أن يطبقوا أحكام الدين بحذافيرها بقطع النظر عما جد واستحدث ، ورجال السياسة يعرفون الدنيا ولا يعرفون الدين ، ويريدون أن يطبقوا النظم الأدبية بحذافيرها من غير رجوع إلى الدين ، فنقول للأولين : اعرفوا الدنيا ، ونقول للآخرين اعرفوا الدين .. ، فهناك أصول الدين يجب أن تراعى ، وهناك أمور لم ينص عليها تقتضيها مصالح الأمة ، يجب أن تقاس بمقياس المنفعة والمضرة ، ويعمل فيها العقل " (1) ولنتذكر أن كثير من اختلافات المسلمين اليوم سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو شعوباً أو حكومات في " اجتهاداتهم " لم تأت من خطأ في فهم آية قرآنية أو حديث نبوي بل جاءت من خطأ في فهم الواقع السياسي أو العقائدي أو الاجتماعي أو الإداري وتبنى الآراء والاقتناعات بلا دراسة شاملة ومتعمقة ليس اجتهاداً بل جهلاً ففهم الواقع المحلي والعالمي بمختلف جوانبه له دور كبير في تحقيق الاتفاق والتعاون وصناعة الإصلاح.(32/112)
5- العقل والنقل : من شبهات العلمانيين هو ظنهم إن الإسلام يقدم النقل على العقل أي إذا قال العقل شيئاً وقال النص القرآني شيئا آخر فالصواب للنص القرآني والخطأ للعقل وهذا شيء صحيح ، ولكن حقيقة هذه القضية هو أن النص القرآني أو الحديث النبوي هو صحيح بشهادة العقل لأن العقل أثبت وجود الله سبحانه وتعالى ، وصدق صلى الله عليه وسلم ، فكل ما في القرآن هو صحيح بشهادة العقل ، فكيف يأتي العقل ليختلف مع النص
القرآني أي العقل يعارض هنا ما أثبته هو بنفسه وما دام النص القرآني صحيح فإن العقل هو المخطئ في رأيه الجديد فالقرآن حقائق فكرية ، والعقل يقول هذا رأيي ، والحقيقة أصوب من الرأي ، وقد يكون هناك احتمال خطأ في تفسير النص القرآني ، أو في تفسير الحديث النبوي وليس في النص نفسه وعندما قال علماؤنا باتباع النقل على العقل فهذا شيء صحيح عقلياً ، وهو إذا تعمقنا فيه إتباع للعقل وليس رفضا له ولا يمكن أبداً أن تكون هناك حقيقة فكرية قرآنية أو حديثية تعارض حقيقة فكرية جديدة أو حقيقة من حقائق العلم المادي فالحقائق لا تتصادم أبداً ولا تتعارض وحقيقة التعارض هو بين نص ورأي لا نص وعقل فالاصوب أن نستخدم النص والرأي أو الحقيقة والرأي لا النقل والعقل ومن النقاط الهامة في هذه القضية أن البعض يتحدث عنها كأن عندنا مشكلة فكرية في عشرات القضايا الفكرية وهذا خطأ فلا توجد أبداً أزمة بين النصوص القرآنية وعقولنا وإذا وجدت أحياناً فهي نادرة جداً أو ظن بأن هناك تعارض فهو وهم في العقول وليس تعارضاً حقيقياً وما أكثر ما يشغلنا العلمانيون باتهامات وظنون باطلة وأي قول يقوله الفلاسفة ويزعمون أنه يعارض النصوص القرآنية فنقول لهم إن آراءكم باعترافكم آراء وليس حقائق فإذا عارضت حقائق قرآنية فهي الخاطئة والأهم من ذلك أثبتوا أن آراءكم حقائق ثم تعالوا لتناقشونا والتعارض الموجود هو بين آرائكم بعضها مع بعض فحلوا هذه المشكلة واتفقوا على رأي واحد ولا نقول حقيقة واحدة وعندها قد يكون عندنا وقت لمناقشتكم قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد " وقولنا الذي نردده في ذلك أن النقل رواية عن واهب العقل ... وأن صريح المعقول لا يمكن أن يناقض صحيح المنقول .... إذ لا يمكن لليقين أن يصادم اليقين ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " (1) وقال الإمام الغزالي " إن أهل السنة قد تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول " (2) وقال " فالمُعرض عن العقل ، مكتفيا بنور القرآن ، مثاله - المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان ، فلا فرق بينه وبين العميان ، فالعقل مع الشرع نور على نور " (3) وقال ابن رشد " إنا معشر المسلمين نعلم ،على القطع ، أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع فإن الحق لا يضاد الحق ، بل يوافقه ويشهد له ... أعني أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة " (4)
وقال الإمام الغزالي " وإياكم أن تجعلوا المعقول أصلاً ، والمنقول تابعاً ورديفاً فإن ذلك شنيع مُنفر ، وقد أمركم الله تعالى بترك الشنيع والمجادلة بالأحسن ... فإياكم أن تخالفوا الأمر ، فتهلكوا وتُهلكوا وتضلوا وتُضلوا " (5) وقال " فإن قوماً اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، وجعلوا التعليمات النبوية هباء منثوراً ، وكل ذلك من فضول الجاهلين ودعواهم في نصرة الدين منصب العارفين قال تعالى " وإن كثيراً ليضُلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين " (6) سورة الأنعام 119(32/113)
6- علم الكلام : أحد الأخطاء الفكرية التي وقع بها المسلمون من معتزلة وغيرهم هو أنهم حاولوا الرد على القضايا الفكرية التي أثارها الفلاسفة وأسئلتهم حول صفات الله سبحانه وتعالى والروح والخير والشر والحياة الآخرة وغير ذلك بالبحث عن الأدلة العقلية المباشرة ، أي استخدام الأسلوب العلماني من أدلة وآراء وأمثلة وجدل ، فأصبحوا يتكلمون بألفاظ فلسفية ، ويجاوبون على أسئلة لا معنى لها ولا أهمية ويدخلون في نقاش لا ينتهي مع أهل الإلحاد ، والفلاسفة والمفروض أن يتركز النقاش على قضيتين الأولى وجود الله سبحانه وتعالى والثانية صدق صلى الله عليه وسلم أما غير ذلك فإن الأجوبة على الأسئلة العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية موجودة في القرآن والسنة ، فالحقائق الفكرية موجودة واضحة في مختلف المجالات فما الفائدة من الأسئلة الفلسفية والجدل البيزنطي والافتراضات والظنون وما الفائدة من البحث عن دليل عقلي قوي لإثبات كل حقيقة فكرية إسلامية والرد على شبهات الفلاسفة فإذا لم يكونوا يؤمنون بالله ورسوله فلا فائدة من أن يقتنعوا بصواب جزئيات أخرى من الدين ، كما أن إتباع الطريقة العلمانية في استخدام الحقائق الإسلامية في الرد على الفلاسفة وغيرهم تبعد الناس عن الحقائق الفكرية ، وتجعل النقاش والجدل هو السائد ، فعلم الكلام هو أسلوب استخدمه بعض المسلمين في الرد على الفلاسفة من خلال استخدام الأسلوب الفلسفي في النقاش ، ولهذا حذر منه علماء المسلمين الواعين ونهوا عنه ليس عجزاً عن النقاش بل معرفة بأن هذا أسلوب محدود الفائدة إن لم يكن مضراً وأنه يبعد الناس عن الحقائق ، ويبعد الناس عما يفيدهم ويجعلهم يضيعون في المتاهات التي ضاع بها الفلاسفة قال الإمام الشافعي رحمه الله " لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد " (1) وقال " حُكمي في أهل الكلام أن يضُربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويُقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام " (2) وقال " ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس " (3) وقال الإمام أحمد بن حنبل " لا تجالسوا أهل الكلام وإن ذبوا عن السنة " وقال الرازي " لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً " (4) وقال :
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال الغزالي عن علماء الكلام من المعتزلة وغيرهم " وكان أكثر خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم ( الفلاسفة ) ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم ، وهذا قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئاً أصلاً " (5) وقال الجويني " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به " (6) فعلماؤنا عرفوا أن الجدل والطريقة العلمانية في التفكير هي مضيعة للوقت ، فالحقائق الفكرية موجودة في القرآن والسنة ، والمطلوب هو فهمها وتطبيقها في الحياة وليس النقاش والجدل حولها ، فالإسلام منهج تطبيقي عملي ، والعلمانية منهج فلسفي جدلي ، الإسلام يريد الحقائق وما يفيد الناس والعلمانية تريد الكلام والجدل حتى لو كان بلا فائدة ، ولا يوصل لحقائق كما يفعل فلاسفتها بل تعتبر الجدل وطرح الأسئلة والتحدث حول أي موضوع ميزة بها في حين أن عدم رغبة أهل الإسلام في الكلام الكثير والأسئلة الفلسفية الضائعة ليس جهلاً منهم ولا ضعفا بل هو حكمة فهم وصلوا إلى الحقائق الفكرية ، ولديهم الأجوبة الصحيحة ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عندما سُئل عن الفرقة الناجية : " إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم " فمن كان قريباً من حقائق القرآن والأحاديث النبوية فهو الأقرب للنجاة والحكمة والنور والبصيرة .(32/114)
7- الإسلام دين العقل : قال محمد إقبال " إنه كان من الطبيعي أن يكون محمد عليه السلام هو آخر الأنبياء لأنه بعد أن أسلم البشرية إلى عقلها لم يعد هناك مجال لنبوة جديدة ورسالة جديدة " - إذا كان وجود الله سبحانه وتعالى هو حقيقة فكرية أثبتها العقل فإن واجبنا أن نعبد الله ونطيعه ونحبه ونخاف منه ونشكره على نعم كثيرة لا تحصى من صحة وهواء وماء وعقل وكون منظم وبحار وجبال وسهول ونجوم وشمس وأنعام وزراعة ... الخ وهو لا شك خالق وقوي وعزيز وعليم وحكيم وكريم ورحيم وشديد العقاب وقادر .... الخ فإذا أمرنا أن نعبده ونكفر بطواغيت الأرض من أصنام وآلهة مزورة وعقائد باطلة وخرافات فلسفية علمانية وآراء علمانية فإن التصرف العقلي الصحيح هو أن نفعل ما يأمرنا الله به ففي هذا مصالحنا والفوائد الكثيرة وفي عكسه ضررنا والخسائر الكبيرة ولنضرب مثلاً أن أي دولة صغيرة تخاف من الدول الكبيرة القوية ، وترجو منفعتها وتخاف من عصيان أوامرها ، وكذلك يفعل الإنسان مع الحكومة القوية ولو فعل العكس لا تُهم بالحماقة وتعريض النفس والوطن للأخطار ، فمن باب أولى أن نخاف من الله سبحانه وتعالى فهو أقوى بلا حدود من كل القوى العظمى ومن كل الخلق كما أن الله سبحانه وتعالى يملك على الحقيقة الخير والمصلحة والغنى ، ويملك حياتنا وصحتنا ورزقنا وأولادنا وأمننا وسعادتنا ، وأخبرنا القرآن الكريم بصفات الله وأسمائه تنسجم مع التأمل العقلي في هذا الكون ومخلوقاته فلا واسطة عند الله سبحانه وتعالى ، وهو يعلم كل شيء وهو قادر وليس عاجزاً عن شيء، وخلقنا لعبادته ، وهو غني عن عبادتنا وسيحاسبنا على أعمالنا وأقوالنا أما العلمانيون فيتجاهلون الخالق القوي الجبار، ويضعون أهدافاً للبشر تتعارض مع الأهداف التي خلقهم الله لها ومن البديهي عقلياً أن من خلق ( أو صنع ) شيئاً لمهمة فيجب أن يؤديها ، فالخالق هو الأعلم ، والعلمانيون يعلم منهم من يؤمن بوجود الله بذلك ومع هذا يضع أهدافاً دنيوية للإنسان ويقولون له أنت حر ، افعل ما تشاء ولا تهتم بالأديان السماوية ولا بما حدده الله لك من مهمات ، وإذا أطعتنا فأنت إنسان عالمي وحضاري وعقلاني ، وحقيقة الأمر أنه جاهل ومتخلف لأنه يُصدق بشراً ضائعين ويرفض تصديق الله سبحانه وتعالى وأنبياءه الصادقين الواعين ، ولأنه إنسان يعبد ويطيع عقلاً ضائعاً ولا يطيع من خلق هذا العقل ، ويعبد المال ولا يعبد من يملك ثروات السموات والأرض ، ويجعل كل أمله في الصحة بيد الأطباء ولا يجعلها في من هو أقدر من الأطباء على التحكم بالصحة والحياة والموت ، فالعقل السليم يعرف هذا ويعرف أن الحقائق القرآنية تشرح هذه المفاهيم المنطقية المعروفة ، وإذا تخلص العقل البشري المعاصر من سيطرة الشهوات ومن المعلومات الخاطئة والفهم الأعوج والمعايير العلمانية المتناقضة فإنه سيجد أن الخير والمصلحة والعدل الحقيقي والحرية الحقيقية .... الخ في عقائد الإسلام وأحكامه ونظامه وأخلاقه فمثلاً العمود الفقري للزواج هو إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان والمسؤوليات بين الزوجين موزعة بطريقة عادلة ، ويدعوا الإسلام للزهد والقناعة والصبر وللاجتهاد في العلم والعمل والنوايا ولإعمار الأرض ، وأحكامه هي الشورى والعدل ويسمح بالتجارة والبيع ، ويُحرم الربا والقمار والخمر والزنا ، ونظامه الاقتصادي وسط بين النظام الرأسمالي والنظام الشيوعي ونظامه الاجتماعي متوازن ويحقق الرحمة والتكافل والتعاون والفضيلة ويرفض الغيبة والغرور والتعصب العرقي والطبقي والحقد والحسد وعقوق الوالدين والتبذير ، وفيه توازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع ، وفيه وقت للعبادة ووقت للعمل ووقت للاستمتاع البريء ، وتعامله مع المال تعامل راق يشجع على اكتسابه وإنفاقه ويجعله في يدك لا في قلبك ، ويوجهه نحو القضايا الهامة من مًأكل وملبس ومشرب ويبعده عن التبذير والإسراف والبخل ....الخ كل هذه الأمور وغيرها يؤيدها العقل ولها فوائد كثيرة للإنسان تجعله يصل إلى السعادة في هذه الدنيا وهذه الأمور جسدها الأنبياء والصالحون في كل زمان ومكان ، ولو درسنا أي جانب من الإسلام فإننا سنجد الحكمة والفائدة والمصلحة وهذه أمور بينها العلماء ، فتحريم الخمر له فوائد كثيرة وقد اقتنعت أمريكا العلمانية بمضار الخمر وحرمتها في بداية القرن العشرين ، ولكنها تراجعت بعد ذلك عندما سيطرت المصالح المحرمة والشهوات على القرار ، والطريف أن العلمانية الأمريكية التي تقول إنها قائمة على العقل تسمح قوانينها بشرب الخمر التي تُعطل العقل وتتهم في نفس الوقت الإسلام الذي يمنع الخمر ، ويمنع تعطيل العقل ويعتبر الخمر من كبائر الذنوب بأنه ضد العقل ، وعموماً النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي الإسلامي كله حكمة ومصلحة ولكن أغلب الناس لم يتعمقوا في الدراسة وفي المقارنة مع الأنظمة الأخرى ونعلم أن كثيراً من العلمانيين ليسوا على إطلاع كاف على الإسلام ويجهلون ما كتب علماؤنا ويجهلون قضايا الإيمان والشرك ومعانيها ويجهلون الفرق بين الزهد والتصوف ، وبين الشريعة والفقه ، وبين الحرية(32/115)
والفوضى وبين الإيمان بالغيب والتواكل ، وبين الانتماء العرقي والتعصب ، وبين البيع والربا ، وبين الحوار العلمي والجدل
الإسلام والعلمانية
وجهت العلمانية اتهامات كثيرة للإسلام أدت إلى تشويه كثير من الحقائق الفكرية الإسلامية فهي أحياناً تستند باتهاماتها إلى كتب مستشرقين لم يفهموا الإسلام، وأحياناً إلى واقع متخلف في دول لا علاقة للإسلام به ، وأحياناً تستغل تطرف جماعات محسوبة على الإسلام وهو برئ منها ..... الخ والاتهامات كثيرة وسأحاول إن شاء الله أن أوضح حقائق هذه الاتهامات وذلك من خلال المواضيع التالية :
1) الديمقراطية هي الشورى: جوهر الديمقراطية هو في مبدأين أساسين : الأول حكم الأغلبية والثاني شرعية المعارضة وهذان المبدآن إسلاميان مائة بالمائة وهما من أساسيات الشورى فالقول بأن الشورى ملزمة معناه حكم الأغلبية ، وهذا المبدأ قال به علماء المسلمين منذ قديم الزمن ، وشرعية المعارضة تتطلب الإيمان بالحقوق والحريات العامة والتي منها حرية الرأي والفكر والتجمع والصحافة، وهذا لا يعني التشابه الكامل بين الشورى والديمقراطية الأمريكية العلمانية ففي الإسلام الحقائق الفكرية هي أساس فوق التصويت ولا تخضع للمشاورة إلا في كيفية تطبيقها بمعنى أن الخمر مرفوضة وكذلك الربا وهذه الأمور لا تصبح قانونية ، أما في الديمقراطية الغربية فإذا وافقت الأغلبية على المخدرات أو الشذوذ الجنسي أو القمار أو الزنا فإنه يصبح قانوناً يتم تطبيقه وحمايته، أما تحديد موقع الشورى وحجمها فهذا متروك للشعوب لتختار ما يناسبها ففي الإسلام لا توجد ديكتاتورية، ولا استبداد في حين أن ليست كل دولة علمانية أو كل فكر علماني هو فكر ديمقراطي فالشيوعية فكر علماني ولكنه ليس ديمقراطيا والنازية كذلك وأغلب الدول النامية هي دول علمانية ولكنها ليست ديمقراطية ، فالديمقراطية ليست جزءاً لا يتجزأ من العلمانية في حين أن الشورى هي جزء لا يتجزأ من الإسلام، فدور الشعوب في حكم نفسها وأهمية حرية الرأي قضايا أساسية في الإسلام بشرط أن لا تتصادم مع الحقائق الفكرية، أما الأجتهادات بمختلف أنواعها فهي في أغلبها يمكن أن يتم الاتفاق على حسمها من خلال التصويت وأغلب الأمور السياسية والاقتصادية تدخل ضمن الدوائر الاجتهادية.
2- الإسلام والواقع: الإسلام كمبدأ هو عقائد وأحكام أي قضايا نظرية ، وهذا يعني أن الحكم عليه يكون من خلال أدلته العقلية على صوابه ولكن بعض العلمانيين يربطون بين الإسلام(32/116)
وتاريخ الدول الإسلامية وما فيها من خير وشر ، أو ما في واقع المسلمين الحالي من خير وشر ، ونقول إن تاريخ الدول ليس هو تاريخ الإسلام بمعنى أن في التاريخ والواقع مسلمين صادقين وفيه منافقون وأصحاب مصالح وشهوات يحملون أسماء إسلامية ، فليس كل ما في التاريخ والواقع تطبيق صادق للإسلام ، فالإيمان والكفر والوعي والجهل والعمل والكسل هي أمور تختلف من فرد إلى آخر ومن شعب إلى آخر ، ونجد في واقعنا الحالي من ينتسب للإسلام اسمياً وهو لا يوجد به ذرة من الإيمان بالإسلام ، ولا ذرة من أعماله وأخلاقه ، فالصفحات السوداء في تاريخنا ليس الإسلام مسئولاً عنها كما أن محاكمة التاريخ قضية لا توصلنا للحقائق إلا ما ندر ، بمعنى أن الناس تختلف حالياً حول صلاح وفساد أنظمة حكم حديثة لاختلاف المعايير والمفاهيم والمعلومات ، ولدخول الأهداف والنوايا والمصالح وغير ذلك ، وهذا يحدث في القرن العشرين فما بالك بتاريخ قديم تم تشويه جوانب كثيراً فيه وصوره كثيراً من أعدائه على أنه تاريخ أسود لأهداف عقائدية ، وجعلوه تاريخاً للاستبداد والجهل والظلام وهذا غير صحيح ، فهناك من يستشهد بروايات جاءت في كتاب تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري ويستخدمها في الطعن في الصحابة والمسلمين ، ويجعلهم أصحاب طمع وقسوة وجاهلية ومناصب ، ولو أنصف هؤلاء لقالوا إن الطبري كتب الروايات التي سمعها ، وهذا ليس التاريخ الحقيقي وقد ذكر ذلك الطبري بنفسه حيث قال " فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يُؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا " (1) ولماذا يأخذ هذا البعض الروايات التي تجعل التاريخ أسود ، ولا يأخذ الروايات التي تجعله أبيض وهي موجودة في تاريخ الطبري أيضاً (2) ومن البديهي أننا لو جمعنا ما قيل من روايات وقصص عن حرب الخليج الثانية وصدقنا الروايات السيئة فقط لاقتنعنا بأنه لا توجد ذرة خير لا في الشعوب ولا القوى السياسية ولا الأنظمة ، ومن المعروف أن الحقائق هي أول الضحايا للحروب والصراعات والاختلافات لأن هناك الحروب الإعلامية والشائعات الكاذبة وأعداء يمكرون ويكذبون وهذا يحدث في ظل وسائل أعلام قوية جداً فما بالك بالتاريخ القديم ونختصر القول في تاريخنا بأن فيه صفحات بيضاء كثيرة ، وفيه صفحات سوداء كحال بقية الأمم فقد أقمنا ثلاثة دول عظمى وهي الأموية والعباسية والعثمانية ، ودولاً أخرى كثيرة في آسيا وأفريقيا وأوروبا وحققنا نجاحات فكرية هائلة، فقد وصل الإسلام حتى لأندونيسيا والصين ومناطق في روسيا وأواسط وغرب أفريقيا وفي تاريخنا حكام عادلون وأنظمة عادلة ومفكرون مميزون وانتصارات عسكرية كثيرة ... الخ ومن المستحيل تحقيق هذه الصفحات البيضاء الكثيرة من خلال الجهل والظلم ويكفي أن نقول أن الوحدة بين الدول العربية والتي لا نتوقع تحقيقها قبل عدة عقود مع وجود العلم والإمكانيات الكبيرة والاتصالات والاجتماعات تم تحقيقها عدة مرات في تاريخنا ، ولكن مشكلة البعض أنه غير منصف في قراءة التاريخ لأنه جاهل أو كاذب أو يحاكمه بمعايير مثالية ، ومن المعروف أن المسلمين الأوائل اهتموا بكتابة القرآن وتفسيره والأحاديث الصحيحة لما لهما من فوائد عظمية لأنهما مصدر الحقائق الفكرية ولكنهم لم يهتموا بكتابة التاريخ لأن علاقته بالحقائق الفكرية محدودة ، وفوائد كتابته محدودة أيضاً ، وعموماً فإنه من المهم جداً الفصل بين الإسلام والواقع ، وإلا فعلينا أن نحكم على الشيوعية من خلال تطبيقات ستالين ، وعلى الرأسمالية من خلال اضطهاد الهنود الحمر والأمريكيين الأفارقة والقنابل الذرية والحروب العالمية ، ولا شك أن التطبيق عنصر هام ولكنه ليس الأساس ، والتطبيق الصحيح للإسلام حدث في دول كثيرة قديماً وحديثاً ، ونشاهده في أفراد ذوي أخلاق عالية ووعي واعتدال ونشاط وإنتاج وتواضع ... ولكن العلمانيين للأسف يخلطون بين الإسلام والواقع ، وبين الإسلام واجتهادات خاطئة أو حتى شاذة ، قال الأستاذ أديب صعب ، " إن أي اتهام للمسيحية أو لأي دين آخر على أساس تفسير شاذ أو متطرف أو على أساس ممارسات سلبية قامت بها هذه المؤسسة الدينية أو تلك باسم الدين ، مثل إقدام محاكم التفتيش الكاثوليكية في عصر النهضة الأوروبية على اضطهاد العلماء والمؤلفين والمبدعين في الغرب باسم صيانة القيم المسيحية ، هو مغالطة منطقية وواقعية لا تميز بين المبدأ الأصلي وتشويهه " (1) وقال الدكتور محمد عمارة ، " ليس هناك إنسان بلا عورة ولا بشر بلا خطايا ، ولا أمة بلا هزائم وكبوات ، ولا تراث بلا تيارات للتقليد والجمود ، ولا حضارة بلا دورات في الازدهار والتراجع والانحطاط .. ولكن الشذوذ ألا يرى كاتب التاريخ إلا العورات والخطايا والهزائم والكبوات والتقليد والجمود والقمامة والسوءات والانحطاط ... دون غيرها من الإيجابيات والحسنات والانتصارات ومظاهر الصحة والتقدم والازدهار(32/117)
والصفحات المشرفة في حياة الأمم والشعوب والحضارات " (1)
3- حقوق الإنسان: قال جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي " إن الناس يولدون أحراراً ولكنهم يعيشون مُكبلين بالسلاسل في كل مكان " (2) وجاء في وثيقة الاستقلال الأمريكي النص التالي " نؤمن أن الحقائق التالية تثبت صحتها بنفسها : إن الناس خُلقوا جميعاً متساويين ، وأن الله منحهم حقوقاً غير قابلة للتبديل ومن هذه الحقوق الحرية ، والحياة ، وطلب السعادة " (3) هذا الكلام الجميل لا اختلاف عليه ، وهو حقائق فكرية يؤيدها الإسلام وكل فطرة سليمة وكل عقل سليم ، وهي أهداف عامة لا تختلف حولها المبادئ السماوية وغير السماوية إلا في حالات نادرة ولكن العلمانية الغربية عادة ما تحتكر حقوق الإنسان والحرية والمساواة مع أن الإسلام أعلن منذ خمسة عشر قرناً أن الناس جميعاً من آدم وحواء ، وأنه لا فرق بين الأجناس البشرية ، وأن هذه التفرقة جاهلية منتنة ، وأعطى للناس حرية الاعتقاد ، وحرية العبادة ، والعمل وحرية التجارة والسكن ، وحرية الرأي ، ولم يتدخل إلا في قضايا محدودة مثل السخرية من الدين أو التهجم على النبي أما النقاش الموضوعي فهو مفتوح وحرية القول السياسية محترمة والاعتداء على الآخرين مرفوض ، قا صلى الله عليه وسلم " ومن ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما اعتدى مسلم على قبطي " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً " فالمسلم هو الإنسان الوحيد الحر لأنه عبد الله فقط وليس عبداً لسلطة ولا مال ، ولا شهوات ولا علمانية ، وهو حر حتى لو سجن فحريته هي حرية فكر وعقائد وإيمان ، وهو حر لأنه قوي أما الانحرافات ، وما نجحنا فيه وطبقنا في الحرية لا نجد من يردده وينشره في حين أن ما قاله مفكرو الغرب نجد أعلاماً قوياً ينشره فيظهره كأنه صناعة غربية لم تعرفها البشرية ، ونعلم جميعاً أن الثورة الفرنسية فشلت في تطبيق الحرية أي ظلمت واستبدت حتى قال قائلهم "كم من جرائم ارتكبت باسم الحرية " أما بالنسبة للثورة الأمريكية فقد نجحت لدرجة كبيرة في تطبيق الحرية وحقوق الإنسان ، وهذا لا نختلف معه وأن اختلفنا أنها أعطت الحرية حتى للفساد كالشذوذ والزنا والخمر ، وكلنا يعرف أنه على مدى التاريخ كانت هناك ثورات وتغييرات وحكومات أقامت العدل والمساواة والحرية فلماذا تسلط الأضواء فقط على الثورة الفرنسية أو الأمريكية وتاريخ العالم من شماله ، إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه به نماذج كثيرة من الأقوال والأعمال الطيبة والأبطال والحركات والنجاح ، ونحن كمسلمين مع حقوق الإنسان وإن اختلفنا في جزئيات قليلة تعارض عقيدتنا ونحن نعتبر هذه الحقوق جزءاً من إسلامنا في حين أن العلمانيين أحرار في الإيمان بها أو الكفر فبإمكانك أن تكون علمانياً ولا تؤمن بصوابها ، أي صواب حقوق الإنسان أما نحن فلا نستيطع لأننا إذا لم نؤمن لن نكن مسلمين كما أن اقتناعنا بالمساواة بين البشر ليس هو اقتناع قانوني أو في وثيقة بل يجب أن نقتنع به داخل نفوسنا ونطبقه في قضايا اجتماعية وشخصية وسياسية وهذا ما فعله المسلمون الأوائل ويفعله كل مسلم ملتزم ، أما وثيقة الاستقلال الأمريكي فلم تُعط الأمريكيين السود حق الانتخابات إلا بعد أكثر من مئتين سنة مع كلامها الجميل عن المساواة كما أن حقوق الإنسان العالمية هي قرار تم من خلال التصويت وقد تتغير بعض هذه الحقوق في حين أن حقوق الإنسان الإسلامية لا تتغير وهي ثابتة ، ومن المهم أن نذكر أن بعض المسلمين يخطئون إذا رفضوا التعاون مع جمعيات حقوق الإنسان سواء طالب بها علمانيون أو غيرهم لأن الاتفاق بين حقوق الإنسان الإسلامية والعالمية كبير جداً وإذا وجُدت بعض الاختلافات فيمكن التحفظ عليها ، فالتعاون على الخير مبدأ إسلامي ، ومن قال كلمة حق قبلناها منه وساعدناه على تنفيذها ، وتبقى قضية مهمة في الحرية وهي أن الحرية الحقيقية مقيدة بضوابط فليس من الحرية أن يفعل الإنسان ما يشاء في وقته أو ماله أو أقواله وليس من الحرية أن تتكلم بكلمات قاسية مع والديك أو بألفاظ بذيئة مع أصدقائك ، وليس من الحرية أن تنحرف أخلاقياً وليس من الحرية أن تلبس المرأة أو الرجل ما يشاءون ... الخ فهذه ليست حرية بل فوضى وفساد ، قال الدكتور إبراهيم مدكور " ليس معنى الحرية أن تسيء إلى العدالة ، أو أن تخرج عن القانون ، ومن أبسط ضوابطها أن تُعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ، وليست الحرية في أن نسلم من المؤثرات الخارجية فحسب ، بل أن نسلم أيضاً من المؤثرات الداخلية ، فنقاوم الميول والأهواء ، ونبرأ من الضغائن والأحقاد وتلك هي حرية الحكيم " (1) ونعرف ونعترف أن المسلمين اليوم انشغلوا بقضايا عقائدية وعبادية واجتماعية وهذا شيء مطلوب ، ولكنهم لم يطبقوا المبادئ الإسلامية في حقوق الإنسان ، فلم يجعلوا تطبيق الشورى من أولوياتهم ولم يقفوا مواقف قوية وكثيرة مع الفقراء والعمال ولم يهتموا بإنصاف الأقليات الدينية والعرقية ، ولم يقفوا ضد(32/118)
العنصرية بكافة أشكالها ، كما أن دور المرأة المسلمة يحتاج إلى خطوات كثيرة تنصفه من الجمود والتخلف والظلم ، فهذه الأمور أساسيات في الإسلام ، ولكن جهود المسلمين محدودة في هذه المجالات ويجهل كثير من الناس أن هدف الجهاد بأنواعه المختلفة هو الدفاع عن حقوق الإنسان الصحيحة كما أن فريضة النهي عن المنكر من أساسيات الإسلام والمنكر هو الظلم والانحراف ولم يكتف الإسلام بذلك بل دعا عن طريق الأمر بالمعروف إلى الالتزام بواجبات الإنسان الصحيحة أي واجباته نحو الله سبحانه وتعالى ووالديه وأقاربه وجيرانه والفقراء ... الخ فالمعادلة الصحيحة قم بواجباتك أولاً ثم طالب بحقوقك ، ونحن بحاجة ماسة إلى منظمات لواجبات الإنسان فهي الأهم لأنها تتعامل مع الخير ومع كل جوانب الحياة بما فيا الجوانب السياسية التي تكاد تقتصر عليها أنشطة منظمات حقوق الإنسان ، وهناك شبهه يثيرها بعض العلمانيين وهي أن الأديان السماوية تحمل في تعاليمها وتوجهاتها تمايزاً بين أتباع الديانات أو البشر بشكل عام ، ونقول مبدأ التمايز موجود ، فلا يتساوى الإنسان المستقيم والإنسان المجرم ، ولا المخلص لوطنه مع الخائن ، ولا الطالب المجتهد مع الكسول ، وبالتالي فلا يجوز أن يتساوى من يلتزم بالحقائق الفكرية ( الإسلام ) أي من يطيع الله سبحانه وتعالى ويتبع الرسو صلى الله عليه وسلم بمن يتمرد ويكفر وينحرف ويتبع الجهل والظن وأهواءه وشهواته وعصبياته العرقية أو الطبقية ، فهذه الانحرافات أكبر من انحراف المجرم والخائن لأن فضل الله علينا أكبر من فضل أوطاننا وأمهاتنا وآبائنا ، فالتمايز الإسلامي مبني على العلاقة بالحقائق الفكرية اعتقاداً ومعرفة وإيماناً وعملاً ، ولنتذكر أن كل ما يعارض الحقائق الفكرية ليس مساواة ولا رحمة ولا عدلاً وهذا ما أثبته العقل فلا نتبع الظن فنضل ونشقى .(32/119)
4- الدولة الدينية: من الأمور التي يثيرها العلمانيون مبدأ الحاكمية لله في الإسلام ، ويظنون أن هذا المبدأ يستغله البعض ليظلم ويضطهد ويحقق مصالحه الشخصية والسياسية باسم الله ، ونقول قال الدكتور يوسف القرضاوي " إن ( الحاكمية ) التي قال بها المودودي وقطب ، وجعلاها لله وحده ، لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي الخلفاء والأمراء ، يحكمون باسمه ، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب ، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة " (1) وقال " وهذه الحاكمية لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم " (2) وقال " فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم في دائرة ما لا نص فيه أصلاً وهو كثير " (3) وهذا الكلام يعني أن الدولة الإسلامية ليست دولة دينية بالمفهوم الغربي ، بل هي دولة مدنية ، والله سبحانه وتعالى لم يحدد للناس حكامهم وحكوماتهم ، ولا تتكلم الحكومات الإسلامية باسم الله ، بل هي حكومات بشرية تجتهد برأيها ضمن حقائق الإسلام وخطوطه العريضة فتصيب وتخطئ وتُولي وتعزل وذلك شيء يقرره الشعب المسلم ، والالتزام بالإسلام هو التزام بالحقائق الفكرية ، فالحكم الإسلامي معناه الحكم للحقائق الفكرية أي للحق والصواب ، والنور والهداية ، وهذه هي المبادئ التي تحكمنا كأفراد وحكام وحكومات وأحزاب ، فقمة التقدم هو أن نخضع للحقائق أي للعدل الصحيح والمساواة الصحيحة والحرية الصحيحة ... الخ فالولاء ليس لطبقة أو عقل ضائع أو تعصب عرقي أو حزب أو رجال دين أو أغنياء أو غير ذلك قال الدكتور أبو المجد " فالمسلم لا يكون مسلماً إلا إذا اختار الالتزام بشريعة الإسلام ، وأيقن أن ما ثبت عن الله تعالى أو عن نبي صلى الله عليه وسلم ، فهو المصلحة بعينها ، والرحمة كلها ، والعدل كله " وقال: " أما حكم الله تعالى، وحكم رسول ا صلى الله عليه وسلم فالإيمان به رسوخ في العلم والتسليم له عز ، والاستقامة على أمره مدخل لكل خير " (4) ، فالحكم الإسلامي يكتسب شرعيته من قضيتين الالتزام بالحقائق الإسلامية والقبول الشعبي به ، في حين أن النظام في الولايات المتحدة قائم فقط على القبول الشعبي ، ولا يوجد هناك التزام بحقائق فكرية ، فأي شيء يقتنع به الشعب ولو كان باطلاً و ظالماً يجب تنفيذه كقانون أو برنامج أو سياسة ، وترك الإسلام قضايا كثيرة في نظام الحكم ليقررها الناس كطريقة اختيار الحاكم ، والسماح بالنظام الحزبي أو غيره وعدد المجالس النيابية واختصاصاتها ، وطرق حسم الاختلافات السياسية سواء بالتصويت أو التحكيم أو غير ذلك ، وهذه المرونة السياسية ، تعطي الشعب المسلم والعقل المسلم دوراً كبيراً جداً في قضايا تنظيمية وهيكلية وسياسية ولا تمنعه من الاستفادة من التجربة الإنسانية في الغرب والشرق ، إذا لم تكن تتعارض مع ديننا ، ولكن الاتهامات الباطلة جعلت الكثيرين يعتقدون أن الحكم الإسلامي هو قطع يد السارق ، وأن علماء الإسلام سيكونون القيادة السياسية ، وهذا غير صحيح ، فلا توجد أصلاً طبقة اسمها علماء الإسلام ذات مزايا خاصة ، كما أن تطبيق الإسلام يبدأ بالتربية والعمل والإنتاج والتعاون والتسامح ، وإنصاف الأقليات الدينية والعرقية والعلاقات الطيبة مع الدول الإسلامية ومع العالم وسد منافذ الفساد بكافة أنواعه وتطبيق العدل ثم بعد ذلك تأتي الحدود ، أما الحكم العلماني الغربي فهو يرفض الالتزام بالحقائق الفكرية سواء وصلنا لها من خلال العقل أو الدين ولا يدري أصلاً ما هي الحقائق الفكرية ، فالشعب هو الذي يقرر ما يريد حتى لو تعارض مع الحقائق فالتصويت هو الذي يحدد ما يطبق وما لا يطبق ، ويرفض الحكم العلماني أن يترك للشعب قرار اختيار الحكم المناسب له ، بل يجب أن يكون حكماً علمانياً والعلمانيون العرب مثلاً لا يقبلون أن يتم استفتاء شعوبنا أو أمتنا على الاختيار بين الإسلام والعلمانية مع أنهم يقولون نحن نرضى بحكم الشعب ليس فقط لأنهم يعرفون نتيجة هذا الاستفتاء بل أيضاً لأنهم يقبلون أن يحكموا الشعب ، حتى لو كان كارها لهم وهذا يتناقض مع مبادئ من يؤمن منهم بالديمقراطية ، وحكم الشعب ، قال الدكتور عصمت سيف الدولة : " إن العلمانية المعاصرة أصبحت ديناً ومذهباً ، ويريدون إكراه الأكثرية المسلمة على حكم الأقلية العلمانية " (1) أما بالنسبة لقضية أن الحكم الإسلامي قد يستغل من حكومات لأهداف خاصة فهذا وضع موجود في كل المبادئ أي قد يستغل النظام الرأسمالي من حكومته لمصالح خاصة وتجعل معارضيها السياسيين خونة وتتهمهم بأنهم أعداء الوطن ، وهذا حدث ويحدث في كل زمان ومكان ، فإذا سارت الحكومة حسب الإسلام فهي حكومة مسلمة أما إذا تاجرت بالشعارات الإسلامية ،
فهذا انحراف يجب أن يصححه الشعب وهناك من حول الديمقراطية والانتخابات إلى ساحات للصراعات ، والجدل والتنازع ، وشراء الأصوات الانتخابية فهل الحل هو رفض الديمقراطية حتى لا يتم استغلالها من البعض ومثل هذا يقال للتعصب للدين أو للحزب أو للرياضة ... الخ(32/120)
5- التطرف الإسلامي: في كل المبادئ يوجد معتدلون ومتطرفون ومتساهلون ، ونعرف ونعترف بأنه يوجد في الاتجاه الإسلامي متطرفون عقائدياً أو سياسياً أو اجتماعياً ، وهذا التطرف درجات بعضه عنيف ودموي ، وبعضه مسالم ، وبعضه كبير ، وبعضه صغير ، ونحن لا ندافع عن هؤلاء بل نعتبرهم من أخطر أعداء الدين ، وأغلب هؤلاء ليسوا فقط ضد أعداء فكريين أو دول أجنبية أو أنظمة حاكمة محلية بل هم حتى ضد المسلمين الملتزمين المعتدلين ، سواء كانوا جماعات أو أفراداً، وضد علماء مسلمين مشهود لهم بعلمهم ، وإخلاصهم ، وعموماً فالأغلبية الساحقة من الاتجاه الإسلامي معتدلة في فهمها للإسلام وبعيدة عن التطرف ولكن البعض لديه مرض في عقله أو قلبه ولهذا يحرص على تشويه كل مسلم ملتزم بدينه ، والمتطرف هو الذي يخالف ما اتفق عليه أغلب علماء المسلمين وهو الذي يستخدم العنف ، ويسميه جهاداً وهو الذي يتهم الناس بالكفر والإلحاد دون علم وبصيرة ودون مشاورة العلماء ، وهو الذي يريد أن يضطهد الأقليات الدينية ، وهو الذي يتهم الحكومات بالعمالة والخيانة دون فهم لحقائق الدين والسياسة ، والمتطرفون في غالبيتهم شباب متحمس ليس لديه علم صحيح بالإسلام ، ولا خبرة بالواقع ، وهؤلاء أقلية فعلاً ونقول للصادقين من أبناء الأمة إذا كنتم ضد التطرف فنحن معكم ، ولكن يجب أن تفرقوا بين التطرف والالتزام الصحيح بالإسلام ، ويجب عليكم أن تلتزموا بالإسلام التزاماً صحيحاً فهذا يقربكم من المعتدلين في الاتجاه الإسلامي ويجعلنا نحقق الكثير من الفوائد ، ونقول للمعتدلين في الاتجاه الإسلامي تعاونوا مع الجميع على ما فيه الخير ، ومدوا جسور الحوار والتعاون واللقاءات فالطريق طويل ، ويحتاج إلى تجميع أبناء الأمة ضمن برامج واتفاقات وأعمال ، فكثير ممن يتهمون بالعلمانية أو غيرها ليسوا كذلك وأعلموا أن المتطرفين هم من أخطر أعداء الإسلام حتى لو كانت نوايا أغلبهم صادقة ، وواقعنا بحاجة إلى الكثير من التسامح والصبر والواقعية والتدرج وحسن الظن ... الخ ، وهذا ليس سذاجة وهو أيضاً ليس تنازلاً عن المبادئ الإسلامية ، بل جزء منها ، واللقاء مع الآخرين لا يعني أبداً التنازل عن مبادئنا بل سيؤدي إلى فهم بعضنا لبعض وهذا ما لا يريده أعداؤنا ، وننبه إلى أن هناك متطرفين علمانيين خطرين جداً ، ولا يقلون عن خطر المتطرفين الإسلاميين قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد " ولكن هناك فريقاً آخر من العلمانيين يتاجر ويزايد ويصفي حسابات تحت ستار المخاوف من الإسلاميين .... والقضية عندهم ليست مقاومة التطرف بأي صورة من صوره ، ,إنما كراهية أصيلة ، وكأنها مرض في القلوب ، فهو يكره كل ما هو إسلامي " وقال " وهذا مسلك أقل ما يقال فيه أنه شديد الهبوط وشديد الخيانة ، وعظيم الضرر " (1)(32/121)
6- الإسلام الصحيح: نحن نتكلم هنا عن الإسلام الصحيح ، أي القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة ، أي إسلام أهل السنة والجماعة ، ووجود فرق إسلامية أخرى هو حقيقة لا نختلف عليها ، والحل لهذا الاختلاف هو بدراسة الخلاف ، والبحث عن الأدلة الفكرية لها من القرآن والسنة ، وهذه الأمور موجودة في الكتب ، وبالنسبة لأهل السنة والجماعة فإسلامهم إسلام واحد معروف بعقائده وأحكامه وما يسمى بالمذاهب الأربعة أو غيرها هو اختلافات اجتهادية ، واختلاف علماء المسلمين قديماً وحديثاً في بعض الأمور الاجتهادية أمر صحي ، وهو اختلاف جزئي أما الأغلبية الساحقة من الحقائق الفكرية فلا يوجد خلاف حولها ، وتوجد حالياً مجالس للعلماء ، ومنظمة للدول الإسلامية وتشاور وتعاون فلا توجد إطلاقاً تناقضات فكرية جذرية بين علماء المسلمين ، أو الغالبية الساحقة منهم ، لأن الحالات الشاذة لا يقاس عليها ، كما أن كثرة أسماء الجماعات والحركات الإسلامية لا يعني أنهم أو أغلبهم على الأقل مختلفون جذرياً بل هي اختلافات اجتهادية في أولويات الدعوة وفي فهم الواقع وفي فهم العقائد الأخرى ومثل هذه الاختلافات طبيعية ، فهناك جماعات تعمل في الجانب السياسي وأخرى تركز على القضايا العقائدية ، وثالثة على القضايا الاجتماعية ورابعة على العمل الخيري أو الدعوي .... الخ وكلما أصبحنا أكثر وعياً بإسلامنا وبواقعنا وزاد علمنا وخبرتنا وصدقت نوايانا كلما اقتربنا أكثر ، واتفقنا أكثر ، وهذا واقع مشاهد ، فلا توجد عندنا مشكلة في معرفة الإسلام الصحيح أبداً فالعلماء موجودون والكتب موجودة والجامعات والكليات الإسلامية موجودة والمسألة ليست بالصورة التي يتخيلها البعض فالقرآن الكريم والأحاديث النبوية ليست طلاسم معقدة ككتب بعض الفلاسفة بل هي كلام عربي واضح ، وهناك كتب التفسير وهناك علماء لا اختلاف على علمهم وإخلاصهم ، فلا توجد مشكلة ولكن اتهامات العلمانيين لا تنتهي فإذا كان أي إنسان عادي سيحتار في اختيار الدواء الصحيح لمرضه من صيدلية بها مئات الأدوية ، فالمشكلة في عقله وجهله لا في علم الصيدلة ، أي لو درس علم الصيدلة سيعرف حقائق مادية كثيرة ، وكذلك إذا درس علم الإسلام لن يسأل أين الإسلام الصحيح ؟ ومن اتهامات العلمانيين أن الإسلام يسمح بكل ألوان الطيف السياسي والفكري الموجودة في الأنظمة الرأسمالية والشيوعية وأن أي نظام يمكن أن يُطلق عليه نظام إسلامي كما قال الدكتور صادق العظم ، ونقول لا يوجد عندنا كمسلمين واعين عاديين أي عمى ألوان فنحن نعرف الإسلام من القرآن والسنة ونعرف ما هو العدل الإسلامي ؟ وما هي حقوق الناس في الإسلام ؟ وما هي أخلاق المسلمين وما هي أحكام الإسلام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ؟ ووصف موظفين حكوميين متخصصين في الشريعة الإسلامية لنظام ما بأنه إسلامي أو غير إسلامي لا يعطي النظام شهادة إيمان أو كفر ، بل الحقائق الفكرية الإسلامية التي نعرفها هي التي تجعلنا نقتنع بأن هذا النظام إسلامي أو لا فبإمكان أي صيدلي مخادع أن يقول لك عن سُم ما بأنه دواء نافع ، فإذا كنت تعرف علم الصيدلة فستبتسم ولن يخدعك ، فإذا كان الحكم على إنسان ما في الحي أو المنطقة أو الوزارة أو الشركة عملية سهلة نسبياً من خلال أقواله وأعماله وأخلاقه وأصدقائه فإن المسألة نفسها بالنسبة للأنظمة فنحن كمسلمين لا نحتكم للأقوال والشعارات وشهادات الزور بل نحتكم للحقائق الفكرية ، ونحتكم للواقع وحقائقه ولا نحاكم الناس والأنظمة بمقاييس مثالية ، فهناك حدود دنيا لا يقبل تجاوزها وهناك قضايا تخرج المسلم والدولة من الإسلام ، وهناك انحرافات لا تُخرج من الإسلام ونعلم أن الإسلام أعطى المسلمين مرونة في اختيار تفاصيل النظام السياسي حتى يتناسب مع ظروف واحتياجات كل بلد وهذا الاختلاف ليس تناقضاً مع الإسلام بل هو تنوع سمح به الإسلام ، فالتأقلم مع ضروريات الواقع ليس معناه إطلاقاً أن النظام الإسلامي بلا هوية ، بل معناه أنه نظام واقعي .(32/122)
7- انتشار الإسلام: يظن العلمانيون أن الإسلام عقيدة انتشرت بالسيف وأن انتشاره راجع لضعف العقائد الأخرى وتخلفها ، ونقول إن الإسلام انتشر لأنه عقيدة صحيحة تدعمها الأدلة العقلية وبه توازن بين الأمور الروحية والمادية ، وهو منهج فكري شامل وعادل يناسب البشر العقلاء ، وكان هدف الجهاد إيصال الدعوة الصحيحة للناس جميعاً ، وليس فرض الاعتقاد بالإسلام ، فلا إكراه في الدين ، وأغلب الشعوب بقيت على عقائدها السابقة لفترة ما ، ودخولها لم يكن من خلال اضطهاد أبداً ، كما أن الإسلام انتشر في دول كثيرة منها اندونيسيا وغيرها من خلال الدعوة ، ولم يجد الإسلام الساحة العربية والعالمية خالية من العقائد ، بل وجد عقائد كثيرة من مسيحية ومجوسية وعرب مشركين وغيرهم وهؤلاء لهم عقول ، واتهموا الإسلام والنبي باتهامات كثيرة ، وناقشوه في كثير من القضايا وجاء الإسلام ليبين للمسيحيين واليهود العقائد الصحيحة ، والشريعة الصحيحة ، وليبن لهم أين أخطأوا ، ولم يكن طريق الإسلام والمسلمين مفروشاً أبداً بالزهور ، والإسلام عقيدة صحيحة وقوية تقتنع بها العقول السليمة والنفوس الطيبة ، وجسد لهم العدل والحرية والمساواة والصدق والأمانة والعفة والتواضع .... الخ ولهذا أخذ الناس يدخلون في هذا الدين العظيم وهو دين قام بترشيد المصالح البشرية ، وجعلها تسير في خطوط متوازنة ومتكاملة وهو دين قضى على الخرافات والبدع والكسل والسحر والقمار والخمر .... الخ وما نقوله ليس افتراضات ، بل كان واقعاً ونشاهده في كل من ينتمي لهذا الدين دولة كان أو فرداً في حين أن العلمانية نجحت في تشويه الآخرين ، وعجزت عن هزيمة التعصب العرقي بأنواعه المختلفة وعن هزيمة المصلحة وأثرها في النفس والدولة ، وعجزت عن إعطاء تصور واضح متكامل عن أصل هذا الكون ونهايته ولماذا خلق الإنسان ؟ وما هو هدفه في الحياة ؟ وعجزت عن بناء حياة زوجية صحيحة ، ومفاهيم تربوية صحيحة ، فهي ضعيفة في بنائها الفكري ، وهي مجموعة عقائد كثيرة متناقضة من رأسمالية وشيوعية واشتراكية وهي عاجزة أمام الانحرافات والعقائد الباطلة ولا نجد إلا ما ندر جداً من المسلمين الذين فهموا الإسلام ممن يصبح علمانياً في حين أن العكس موجود ، ونجد الإسلام ينتشر في أمريكا وأوروبا واليابان فالعلمانية حصان خاسر وقوتها اليوم تستمدها من قوة أمريكا وأوروبا الاقتصادية والسياسية والعسكرية فهي لا تملك قوة فكرية حقيقة ، وسلبيات العلمانية كثيرة أضرت الغرب وأضرت العالم كله ولكن أغلب الناس لا يدركون خطرها وضررها ، فالمال والقوة غير قادرين على ستر العيوب لوقت طويل ، أما العلمانية في الوطن العربي فهي مفككة ، ويتصارع العلمانيون فما بينهم وفشلوا في تطبيق الديمقراطية وحرية الرأي وليست لهم قوة شعبية وليسوا بقادرين على التأثير الجذري في الأحداث ، وهم جيوب صغيرة منعزلة عن فكر أمتها والقواعد الشعبية ولا يجيدون في الغالب غير الكلام والكتابة والجدل ، قال الأستاذ عادل ضاهر " إن العلمانية في حالة تراجع كبير في العالم العربي اليوم والقوى العلمانية يتقلص ويتهمش دورها وتأثيرها الفاعل على الأحداث باطراد متزايد " (1) وهذا اعتراف ممن يؤيد العلمانية ، أما الاعتراف الثاني فقد جاء من أحد المدافعين عنها وهو الدكتور فؤاد زكريا حيث قال " من جهة أخرى العلمانية المعاصرة والتي نعيشها اليوم هي علمانية دفاعية وليست هجومية ، بمعنى أنها لا تريد أن تقيم مجتمعاً معينا له سمات كيت وكيت .. . الخ (2) وهذا اعتراف بأنها لا زالت ضعيفة بعد أكثر من قرنين من وجودها في الساحة العربية، وهذا اعتراف أيضاً بأنها لم تحدد حتى الآن عقائدها وأنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فهي فقط شعارات وأهداف عامة يشترك فيها الرأسمالي والاشتراكي والشيوعي والعنصري .... الخ فهي لا تعرف شكل ومحتويات البناء الذي تريده للمجتمع ، وهذا شيء طبيعي لأن العلمانية هي أفكار فلسفية متناقضة ، بمعنى أن المجتمع العلماني ليس مؤمناً بالله ولا ملحداً ، وهو ليس رأسمالياً ولا اشتراكياً ، ولا مع أمريكا ولا ضد أمريكا ولا مع روسيا ولا ضد روسيا ، وحتى الآن لا زال يبحث عن الحقائق الفكرية ، وسوف يقرر موقفه منها عندما يصل إلى الحكم من خلال التصويت والديمقراطية ، وحتى الآن فإن العقل العلماني العربي لم يعرف ما هي الحقائق الفكرية ؟ وما هو العلم الفكري ؟ وما هي البصيرة والحكمة والنور ؟(32/123)
8- الإسلام أو العلمانية " يظن أغلب العلمانيين ، وما أكثر اعتمادهم على الظن ،أن العلمانية ليست ضد الإسلام بدليل أنها تدافع عن حرية الاعتقاد والعبادة ، وهذا ليس بصحيح ، فالإسلام نظام عقائدي وسياسي واجتماعي واقتصادي ، وهو دين ودولة ، وبالتالي ففصله عن الدولة هو رفض له ، والشعار العلماني " الدين لله والوطن للجميع " معناه ابعدوا الإسلام عن التأثير في البشر والدول ، وأحبسوه في المساجد وقولوا لله سبحانه وتعالى نحن لسنا بحاجة إلى هداية ولا أنبياء ولا كتب سماوية ، وما ليس له علاقة بالدين فسنأخذ منه دساتيرنا وقوانيننا وعقائدنا ، وهذه حرب صريحة وواضحة على الإسلام ، فالأديان السماوية جاءت للتعامل مع الدول والبشر والقوانين ، ولتعلن حرباً على أهل الكفر والظلم والجهل ، فإذا كان العلماني يعتقد أن الإسلام ديناً سماوياً صحيحاً ومع هذا يرفضه فهو كافر ، وإذا كان يظن ألا تعارض بينه وبين العلمانية فهو جاهل ، وعليه أن يسأل علماء الإسلام حتى يبني اقتناعاته على علم لا على ظن ولا نبالغ عندما نقول إن حقيقة العلمانية في الوطن العربي هو مخالفة الإسلام في كل ما يقول وأصبحت جبهة يتحالف فيها الرأسماليون والشيوعيون والعنصريون والاشتراكيون ... الخ لا يجمعهم إلا العداء للإسلام وفي هذا دليل على ضعفهم متفرقين أو خيانتهم لمبادئهم لمصالح شخصية ، والغريب فعلاً أن الإسلام في جوانب كثيرة يأت كأنه حل وسط بين الرأسماليين والشيوعيين وغيرهم ومع هذا يتحالفون ضده وهذا غباء فكري وسذاجة سياسية وجهل بهذا الحجم عاجز عن بناء الأوطان والأمم ، وقد قال لي أحد المدافعين عن العلمانية مع مرور الوقت أخذت أقتنع بأنه لا يوجد تناقض بين الدين والعلمانية والعلمانية لها دائرتها السياسية ، والدين له دائرته الشخصية والاجتماعية ، ونقول الإسلام ضد العلمانية والعلمانية ضد الإسلام إذا عرفنا المعاني الصحيحة للإسلام والعلمانية أما إذا كنا نقصد بالعلمانية الدولة المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان والاجتهاد العقلي ووجود دوائر متنوعة لكل دائرة أهلها من سياسيين واجتماعيين وعلماء إسلام واقتصاديين فهذه مبادئ إسلامية كما وضحت سابقاً وبالتالي ليست مجال اختلاف .
9- القضاء والقدر: من الواضح أن كثيراً من العلمانيين لم يفهموا الأديان السماوية فهماً صحيحاً. فبعض العلمانيين يعتبرون الفرق بين العلمانيين والمتدينين هو أن المتدينين يرجعون الأمور دائماً إلى القضاء والقدر سواء بالنسبة لحادث مروري أو خسارة تجارة ، في حين أن العلمانيين ينظرون إلى الأسباب المادية ، فيحملون مسؤولية الحادث المروري لسرعة السائق والخسارة لأخطاء تجارية ، ونقول ليس صحيحاً أن المسلمين يجهلون أهمية الأسباب المادية في الحياة فشعارهم هو اعقلها وتوكل على الله ، وكان من يشاهد كيف كان الرسو صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب المادية يظن أنه لا يؤمن بوجود أسباب فكرية كالدعاء ، وذكر الله ، ومن يراه يأخذ بالأسباب الفكرية يظن أنه لا يؤمن بوجود أسباب مادية ، وحقيقة الأمر أن الأخذ بالأسباب المادية والفكرية بأكبر قدر ممكن ، وفي مختلف المجالات ، هو من البديهيات الإسلامية في حين أن العلمانيين يؤمنون فقط بالأسباب المادية ، وعلى أساسها يفهمون الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، كأن الله سبحانه وتعالى لا يعز من يشاء ولا يذل من يشاء ولا يرزق ولا يعاقب .... الخ في الحياة الدنيا وكأن ما جاء في الكتب السماوية من ارتباط الخير والنصر والسعادة في الدنيا بطاعة الله والشقاء بمعصيته أمور لا وجود لها في الواقع ، وأنها كذب في كذب ، وقد نفهم أن من يقول هذا هم الزنادقة من العلمانيين ، أما أن يقتنع به العلمانيون المؤمنون بوجود الله وصدق الأنبياء فهو أمر يتناقض كلياً مع بديهيات الإيمان .(32/124)
10- قضايا متنوعة: من المعروف أن الغالبية الساحقة من الأمة العربية مسلمون ، وأن الإسلام دين ودولة وإن إرضاء الأقليات غير الإسلامية لا يتم برفض النظام الإسلامي لأن تطبيق النظام الإسلامي واجب لا يمكن أن يتنازل عنه المسلمون ، وأن المعادلة الصحيحة هي حكم الأكثرية وحقوق الأقلية ، وأن مساحة المساواة بين الناس مسلمين وغير مسلمين كبيرة جداً في النظام الإسلامي ، وأن بالإمكان إيجاد تمثيل سياسي ومؤسسات دينية خاصة بالأقليات غير المسلمة ، فالعلمانية مرفوضة كمبدأ وهي سببت حالة من الصراع الفكري والعقائدي والسياسي بين أصحابها وبين المسلمين ، وكذلك بين أصحابها ، فانقسموا إلى شيوعيين واشتراكيين ورأسماليين ، فأحدثت فتناً كبيرة في الأمة وهي لم تنصف الأقليات بل استفزت الأغلبية على الأقلية ، وهي لم تقض على التعصب الديني ، بل زادته ، وأنتجت تعصباً علمانياً وأنتجت حروباً كثيرة وصراعات كثيرة حتى بين أصحابها لأن العلمانية هي عبارة عن تجميع لأفكار متناقضة وضبابية وأهداف عامة وهي أنتجت آلاماً وجراحاً وصراعاً في مختلف المجالات في الأمة ، بل أصبحت العدوة رقم واحد لكل مسلم واع والعلمانية بطبيعتها النقدية والتشويهية والهجومية والظنية أصبحت منبوذة وضعيفة وليست لها قدرة إطلاقاً على البناء، بل قدرتها فقط على الهدم وصناعة الاختلاف والتفرق واستعدادها للنقاش والحوار هو ضياع لأنه نقاش جدلي لا ينتهي بالوصول إلى حقائق فكرية ، بل هو نقاش بلا هدف ، والنقاش وسيلة وليس هدفاً ومن البديهيات أن الإيمان بالإسلام يوجد وحدة فكرية وانسجاماً ، وأن الإسلام هو للأمة العربية فكر وتاريخ وأبطال وانتصارات وشعر وثقافة وأن التناقض والحيرة الموجودة في عقول العلمانيين ليست موجودة عند جماهير الأمة ، كما أن محاولة تسويق العلمانيين للعلمانية قد فشل فهي ضد الإسلام ، ولن ينفع أن يستشهدوا بكتابات للأستاذ علي عبد الرازق صاحب كتاب " الإسلام وأصول الحكم " والذي قال فيه إن الإسلام لا علاقة له بالدولة فهذا قول شاذ ومرفوض وترفضه آيات صريحة من القرآن ، ويرفضه كل علماء الإسلام الواعين ، فلا تبنوا أحلامكم على بيوت العنكبوت وفهم الإسلام يُؤخذ من القرآن والسنة ، والعلماء المخلصين ، وليس من العلمانيين العرب أو المستشرقين والعمل السياسي الإسلامي موجود اليوم في أغلب الدول أن لم نقل جميعها ، ولا شك أن أي معركة ضد الحقائق الفكرية ( الإسلام ) والعقل والشعب والديمقراطية هي معركة خاسرة ، وهذا واقع مشاهد ، وجعل الصراع بين العلمانيين وبين الإسلام كأنه صراع بين العلمانيين والمتطرفين الإسلاميين هو عملية خداع مكشوفة عند الكثيرين ، وحبل الخداع عموماً قصير ، كما أن العلمانيين ليس لديهم مبدأ فكري ونظام سياسي واقتصادي يتفقون عليه ، فاتفقوا أولاً فكرياً ثم أعلنوا فكركم للشعوب ولن تتفقوا أبداً حتى لو اتفقتم جزئياً ، وأقصد بالاتفاق الفكري الشامل المتكامل ، فالاتفاق الجزئي حدث حتى بين أمريكا الرأسمالية وروسيا الشيوعية على بعض الأمور ، ومن الحقائق الفكرية الواضحة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يراها العلمانيون هي أنه كلما زاد علم المسلم بالإسلام ، وزاد تطبيقه له كلما تخلص من شهواته وعصبياته العرقية وتأثير المال الحرام عليه ، وأصبحت حياته رخيصة في سبيل مبادئه ، وكان نموذجاًَ في بر والديه ، ونجاح أسرته ، واتقان عمله ، وابتعد عن النفاق والكذب واستخدم ماله بطريقة صحيحة فحب الله سبحانه وتعالى وشكره ورجاؤه والخوف منه أصل كل خير والبعد عنه أصل كل شر قال " ديل كارنجي " في كتابه " دع القلق وأبدأ الحياة " " إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين كفيلان بأن يقهرا القلق ، والتوتر العصبي ، وأن يشفيا من هذه الأمراض " (1) ويقول وليم جيمس فيلسوف المنفعة والذرائع :" إن أعظم علاج للقلق - ولا شك هو الإيمان " (2) وقال فوليتر : " لم تشككون في وجود الله ولولاه لخانتني زوجتي وسرقني خادمي " (3)
المرأة والعلمانية
أدت العلمانية بمفاهيمها المتناقضة والخاطئة إلى شقاء وتعاسة الإنسان الغربي وخاصة في عقائده وحياته الشخصية والاجتماعية ، وسنسلط الأضواء على واقع المرأة الغربية لنقتنع بأن هناك فارق كبير بين الشعارات والأهداف التي تقول العلمانية أنها تسعى لتحقيقها للمرأة وبين واقع المرأة الغربية حيث الشقاء والتعاسة والقلق والخوف والوحدة والتعب ، وذلك لأن المبادئ العلمانية خاطئة ، ولا توصل للأهداف التي تعلنها فهي مبادئ صنعها الجهل ، ولم يصنعها العلم وإليكم الأدلة :
1- شهادة الإحصائيات: (1) تعتبر الإحصائيات الصحيحة حقائق واقعية تعكس درجة تقدم أو تخلف مجتمع ما في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي أو غير ذلك وسنجد في الإحصائيات الاجتماعية في الدول الغربية دليلاً واضحاً على بعض جوانب الفشل العلماني وإليكم ما تقوله الإحصائيات :(32/125)
أ) نسبة حالات الطلاق إلى كل مئة حالة زواج في عام 1996 هي في السويد 64% الولايات المتحدة 49% ، بلجيكا 56% ، بريطانيا 53% ، روسيا 65% تركيا 6% ، وكان عدد حالات الزواج في الولايات المتحدة في سنة 1900 هو 709.000 حالة زواج مقابل 55.751 حالة طلاق أي 8% في حين أنها في سنة 1997 2.384.000 حالة زواج مقابل 1.163.000 حالة طلاق أي 49% وهذا يثبت أنه كلما تشبعت الولايات المتحدة أكثر بالمفاهيم العلمانية كلما تدهورت أوضاعها أكثر ، وإذا أضفنا إلى حالات الطلاق في الغرب انفصال الصديق عن صديقته ( بدون زواج ) بعد علاقة استمرت شهوراً أو سنوات نقتنع أن أوضاع المرأة الغربية مأساوية لأن للطلاق والفراق آثاراً نفسية سيئة .
ب) عدد حالات الاغتصاب المسجلة في الولايات المتحدة في سنة 1994 هي 102 ألف حالة أي بمعدل 38 لكل مئة ألف من السكان في حين أن معدلها في كندا هو 104 واستراليا 75 والصين 3.6 والسودان 1.8 وماليزيا 4.8
هـ ) عدد حالات الإجهاض في سنة 1995 في الولايات المتحدة 1.210.883 حالة ثمانون في المئة منها لنساء غير متزوجات ، أما عدد حالات الإجهاض في روسيا الأكثر علمانية والأكثر عداء للأديان السماوية 1990فهو 4.102.425 حالة علماً بأن عدد سكان روسيا هو 147 مليون في حين أن عدد سكان الولايات المتحدة 270مليون .
ء) عدد الأمهات غير المتزوجات لسنة 1994 في الولايات المتحدة 1.290.000 في حين أن عددهن كان في سنة 1980 666.000 أي أن الرقم تضاعف خلال أربعة عشر عاماً ، ومن أكبر الجرائم أن يولد أطفال غير شرعيين ومن هؤلاء من لا يعرف أباه أو حتى أمه وهذا يجعله يعيش في مأساة نفسية طول عمره وأعداد هؤلاء كبيرة جداً إذا جمعنا أعدادهم خلال الثلاثين سنة الأخيرة .
هـ ) عدد النساء في الولايات المتحدة ممن يبلغن 15 عاماً وأكثر ممن يعشن وحدهن 14.592.000 امرأة في حين أن هناك 10.140.000 رجل يعيشون لوحدهم أي أن هناك خمسة وعشرين مليون فرد يعيشون لوحدهم في أمريكا وهذه نسبة مرتفعة بالنسبة لعدد السكان في حين أنه في سنة 1970 كان عدد النساء اللاتي يعشن لوحدهن 7.319.000 أي أن عددهن تضاعف خلال ربع قرن .
و) في سنة 1995 يوجد في الولايات المتحدة 12.514.000 أسرة تعيلها أمرة ليس لها زوج وهناك 3.513.000 أسرة يعيلها رجل وليس له زوجة وقد كان عدد الأسر التي تعيلها امرأة في سنة 1960 هو 4.494.000 أي أن العدد تضاعف ثلاث مرات خلال 35 سنة .
ز) تقول الإحصائيات أن عدد جرائم القتل في الولايات المتحدة 15.848 في سنة 1996 وعدد المنتحرين في نفس السنة 30.862 وهناك إحصائيات تثبت أن نسب أعداد متعاطين المخدرات في الدول الغربية هي الأعلى في العالم وغالباً ما يكون الفرق شاسعاً في النسب عندما نقارنها بالدول الإسلامية في أغلب الإحصائيات الاجتماعية المتعلقة بالطلاق والعنوسة والاغتصاب والمخدرات والأبناء غير الشرعيين والسرقات ... الخ وعلينا أن نعرف أن كثيراً من الناس يجهلون هذه الحقائق الواقعية الواضحة أو علاقتها بالتفكير العلماني ومن
المهم أن نذكر أن المعاناة النفسية هي المنبع الأكبر لشقاء البشر وأنه ليس بالماديات وحدها يسعد الإنسان أو يشقى فأسرة فقيرة مترابطة سعيدة أرقى مليون مرة من أسرة غنية مفككة تعسة.(32/126)
2- عمل المرأة : يعمل الإنسان رجلاً كان أو امرأة بهدف الحصول على أجر ليعيش منه ، وهناك حاجة لأن تعمل المرأة في كثير من المجتمعات سواء في مجال الزراعة أو التعليم أو الطب أو غير ذلك ، وهذا شيء معروف ولم تخترعه العلمانية ، ولكن العلمانية الغربية أقنعت المرأة الغربية أنه يجب عليها أن تعمل ، وأن تعتبر دورها في الأسرة دوراً ثانوياً بل غير مهم ، فالأولوية لعملها خارج المنزل ، ونجد المرأة الغربية المتزوجة والعازبة تخرج في الصباح الباكر لتواجه برودة الطقس وازدحام المواصلات ، لتعمل في وظيفة لمدة ثمان ساعات مرهقة ، وتواجه العمل بمزاياه وعيوبه لتعود في آخر اليوم متعبة لتجد المرأة المتزوجة زوجها متعباً أيضاً ، وأطفالها بحاجة إلى رعاية واهتمام وجهد وطعام ، وهي بالتأكيد ليست قادرة نفسياً ولا جسدياً على إنجاز حتى بعض هذه الأعمال مما يعني أن مسؤولياتها تضاعفت فهي تقاتل على جبهتين أحدهما خارج المنزل والثانية داخل المنزل مما يجعلها متوترة ، لأنها تحس بتقصيرها في منزلها ، أما واجباتها في العمل فإنها تؤديها بكفاءة لأن الفصل هو العقاب لو قصرت ، قالت آجاتا كريستي الكاتبة الإنجليزية للقصص البوليسية " إن المرأة الحديثة مُغفلة لأن مركزها في المجتمع يزداد سوءاً يوما بعد يوم " وقالت " ومن المحزن أن نجد بعد أن أثبتنا نحن النساء أننا الجنس اللطيف نعود اليوم لنتساوى في الجهد والعرق الذي كان من نصيب الرجل وحده " (1) وحتى لو كان الزوج قادراً على تحمل تكاليف الأسرة المالية فإن خوف الزوجة من الطلاق لعدم استقرار الأسرة الغربية يجعلها تهتم كثيراً بمستقبلها وتطورها الوظيفي ، أما بالنسبة للمرأة العازبة فهي تعمل حتى تسدد تكاليف معيشتها من سكن ومواصلات ومأكل وملبس ... الخ فعمل المرأة ليس ميزة حقيقة بل عبء ثقيل والدليل أن الأغلبية الساحقة وبالذات من النساء المتزوجات سيتركن العمل إذا أعطي لهن راتب بلا عمل ، ولا أدري ما هي المزايا الموجودة في عمل المرأة بائعة تقف الساعات الطوال لتتعامل مع نوعيات مختلفة من البشر ، أو سكرتيرة تطبع يومياً عشرات الأوراق أو صحفية تنتقل من مكان إلى آخر وراء المشاكل والهموم ، أو مديرة لتسمع شكاوى الموظفين وتتابع انتاجية العمل وكتبت الممثلة الأمريكية الشهيرة مارلين مونرو قبل انتحارها " احذري المجد ، احذري من كل من يخدعك بالأضواء إني أتعس امرأة على هذه الأرض .. لم أستطع أن أكون أما ... إني امرأة أفضل البيت ، الحياة العائلية الشريفة على كل شيء " وقالت " إن العمل في السينما يجعل من المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة " (1)
3- إنهم يقتلون الحب: يجهل كثيرون منا أن كلمات مثل الحب والإخلاص والوفاء والتضحية والاستقرار والاستمرار والشوق والاحترام .... الخ بدأت تضعف وتنقرض في الحياة الغربية ، فالمعاني الحقيقية لهذه الكلمات نادراً ما تكون موجودة في الحياة الغربية وذلك لأن هذه القيم الرفيعة لا تستطيع أن تعيش في بيئة مشبعة بالفساد الأخلاقي ، ألم تقل العلمانية للمرأة وللرجل افعلوا ما شئتم فأنتم أحرار ، مما جعلهم يعتبرون ممارسة الجنس جزءاً من الحرية الشخصية ، ومن المعروف أن الرجل يزهد في المرأة عاطفياً إذا كانت على علاقة جنسية مع رجل آخر ، والمرأة الغربية ذات علاقات جنسية كثيرة ومتنوعة ، وهذه الفوضى الجنسية جعلتها رخيصة ، ولا يستطيع الحب والوفاء والإخلاص العيش في بيئة كهذه ، كما أن التبرج والمثيرات الجنسية تجعل البشر مخدرين جنسياً ومن المعروف أن أخطر أعداء الزواج هو الخيانة الجنسية للزوج أوللزوجة مما يؤدي للكراهية والعداء والجروح والندم، أي هي عملية تهز المشاعر والعواطف هزة عنيفة وقد تدمرها. والبيئة الغربية تشجع الفساد مما يزيد من نسبة الخيانة الزوجية أو خيانة الصديق لصديقته ، وكيف تصدق المرأة رجلاً يقول إنه يحبها وفي نفس الوقت لا يريد أن يتزوجها ولا يريد أن يقطع علاقته بالأخريات ، ولا يريد أن يتحمل أية مسؤوليات ، ومن المعروف أن الأمور العاطفية هي أمور هامة جداً في حياة كل إنسان ، وهذه الأمور أصابها التلف والشقاء في الغرب فلا يخدعكم إعلامهم القوي ، وتعمقوا في التأمل والشمولية حتى تقتنعوا بتعاسة الإنسان الغربي(32/127)
4- ارتفاع نسبة العنوسة: قد لا يعرف الكثيرون أن نسبة النساء العانسات مرتفعة جداًَ في الغرب مقارنة بدول العالم ، فالعزوبية هي السائدة ، سواء كانت المرأة عانساً أو مطلقة ، ومن المعروف أن الإنسان اجتماعي بطبعه يريد أن يعيش ضمن أسرة ويكره الوحدة ، وجعلت العلمانية بفسادها الأخلاقي وبأفكارها احتمالات الحصول على زوج احتمالات ضعيفة ، وجعلت نسبة الطلاق عندما يحدث الزواج نسبة مرتفعة أي حوالي 50%. وتواجه المرأة العازبة معركة الحياة لوحدها بلا زوج ولا أبناء ولا من يحميها أو يحادثها أو يعتني بها إذا مرضت ، وعليها أن تعمل لتدفع إيجار مسكنها وتكاليف معيشتها ، وهي تخشى أن يدخل عليها لص أو عدو وتريد طفلاً تلاعبه فلا تراه إلا على شاشة التلفاز ، وتشعر بغريزتها الجنسية فلا تعرف طريقاً إلى إشباعها فتعرض نفسها رخيصة للآخرين وقد يرفضها أحدهم فتشعر بالإهانة ، وقد تقيم علاقة مع رجل لا تعرف حتى اسمه الحقيقي ، تعرفت عليه في الخمارة ، ولننقل الكاميرا إلى مجتمع إسلامي ملتزم بإسلامه حيث نسبة العنوسة متدنية جداً وغالبية النساء يعشن في بيوت أزواجهن ، والزواج يعطي المرأة الجنس والأطفال والسكن والمأكل والملبس والاحترام وزوجاً يخدمها في كثير من الأمور ، ويشاركها هموم الحياة وطموحاتها ، أما المرأة العازبة فهي تعيش في بيت أبويها أو أخيها ضمن أسرة فيها حياة وضحك وأمن وتكاتف ورحمة ... وليس عليها تكاليف مالية ، وإذا وجدت فهي قليلة وموزعة بين أكثر من طرف ، إن أي امرأة عاقلة ستقتنع بالفرق الهائل بين المجتمعين الإسلامي والغربي ، ولكن المرأة الغربية قالت وداعاً للزواج والأبناء والحب والإخلاص والاستمرار والتعاون ، فما الفائدة من مال واقتصاد وتكنولوجيا ، إذا فقدت المرأة كل ذلك ، واقتنع الغرب بأفكار علمانية خاطئة مثل قول الفيلسوفة العلمانية سيمون دي بفوار " ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة وخرافة الأمومة والغريزة الأبوية " (1) أليس ما تقوله جنوناً فكرياً قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد " إن الحضارة الغربية تمر بأزمة ما في ذلك شك ، فالمؤرخون وأهل هذا العصر كلهم يكادون يُجمعون على التقدم المادي والصناعي الذي هيأ للإنسان درجة من السيطرة على ما حوله لم يحلم بمثلها من قبل لم يصاحبه تقدم في نوعية العلاقات الإنسانية السائدة ، وإن الثمن المدفوع لهذا التقدم قد دفع غالياً من أمن الإنسان واطمئنانه وتناسق مكوناته النفسية ، واستقرار حياته اليومية مع نفسه وأسرته والناس جميعاً " (2)(32/128)
5- جمال المرأة: لأن العلمانية لا تعرف الحقائق الفكرية فقد أخطأت في التعامل مع جمال المرأة وحولته إلى شر ونقمة ، فتسليط الأضواء العلمانية على جسد المرأة جعل المرأة تضع البيض كله في سلة الجمال الجسدي من خلال المساحيق التجميلية والعطور والملابس المثيرة والرشاقة .....الخ أما الجمال المعنوي من أخلاق وذكاء وعبادة وثقافة وحكمة .... الخ فلا تجد من يهتم بها ويُشجعها ويطورها ، ومن المعروف أن نسبة النساء الجميلات محدودة ، وأن قدرة أدوات التجميل على اكتساب الجمال محدودة أيضاً كما أن قوة جذب الجمال الأصلي والمكتسب هي مؤقتة وغير قادرة على الاحتفاظ بزوج أو صديق ، وإذا أضفنا إلى ذلك أن للجمال تأثير على الرجال ، وأن من الصعب مقاومته في أحيان كثيرة ، فهذا يعني أن الزوجة الغربية الشابة والجميلة تصبح غير قادرة على المنافسة فلكل جمال جاذبيته ، ولهذا تعيش قلقة على زوجها الذي تراه يتعرض إلى مغريات جمالية في العمل والأسواق والحفلات ، وهذا يحدث أيضاً مع كل فتاة أو امرأة لها صديق وعرض الجمال بهذه الصورة يجعل الرجال يسعون وراءه ، وينتقلون من امرأة إلى أخرى وهو وضع يؤدي إلى الخيانة وإلى كساد سوق نساء كثيرات لقلة نصيبهن من الجمال ومن لم يحصل من الرجال على الجمال النسائي فهو يتألم أو يغضب أو ينتقم ، وأصبح الجمال ، إذن فتنة ومشكلة في الغرب ، وأضر كثيراً من النساء والرجال ، والرجل الغربي ممن عنده بقايا من غيرة يرفض أن تظهر امرأته أو أخته أو ابنته في مجلات خليعة ومسابقات الجمال ، ومع هذا يعتبر ظهور نساء أخريات نوعاً من الحرية والحضارة وهذا من الكيل بمكيالين والمعايير العلمانية تتحكم فيها الشهوات ، وليس العقل والعدل ، وباختصار المرأة الغربية تحارب في معركة خاسرة اسمها التنافس بل الصراع الجمالي المفتوح، وكل النساء سيخسرن في هذا السباق حتى أجمل الجميلات ، لأن الجمال أشكال وأنواع ، ولأن العمر يمضي وهذا وضع يجعل المرأة تعيش في عالم من الغيرة والخوف والحسد والتنافس والصراع ، وهذه أمور تتعب النفس والجسد ، أما التعامل الإسلامي مع الجمال فهو يعتبره كالمجوهرات يتم حجبها عن الناس قدر المستطاع ، وذلك بالحجاب والحشمة ، وهو من حق الزوج فقط فلماذا يراه الرجال الآخرون ولا نصيب لهم فيه، أليس من الأفضل أن يرى الزوج فقط جمال زوجته لا جمال الآخريات أن مثل هذا الزوج لن يزهد بزوجته حتى لو كانت عادية في جمالها ، ولن يدخل في مقارنات في شكلها ورشاقتها وكلامها وأسلوبها وطبائعها مع الأخريات ، وأليس من الأفضل للمجتمع أن يهتم الرجال والنساء بأمور حياتهم وأهدافهم وأعمالهم بدلاً من النظر إلى بعضهم البعض.
6- المرأة كالرجل: أقنعت العلمانية النساء أن المساواة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون في كل شيء في السياسة ، والعمل ، والحياة الاجتماعية ، وكل الحقوق ، والمشكلة في أن قدرات وصفات المرأة تختلف عن قدرات وصفات الرجل ، فالمرأة تغلب عليها العواطف ، وهي منبع الحنان والجمال والصبر والحب ، وهي أقدر على التعامل مع الأطفال وأكثر صبراً على احتياجاتهم ومشاكلهم ، ولها اهتمامات خاصة بالملابس والذهب والأثاث .... الخ في حين أن الرجل أقدر على النجاح في مجالات العمل خارج البيت ، وخاصة السياسي والعسكري والتجاري منها وهو أقل رغبة في صرف المال ، ويتعامل مع الأمور بقدر أكبر من العقل وقدر أقل من العواطف ، ولا ندري أي مزايا للرجل في العمل كجندي يتعرض للأخطار والقتل والأسر والأمراض والجوع والبرد والحر أو أي مزايا في العمل السياسي حيث الصراعات والنفاق والمكر والانقلابات والحسد والاختلاف .... الخ ، ولماذا تقول العلمانية أن المرأة مضطهدة ، ولا تقول إن الرجل كان طوال التاريخ هو وقود الحروب ، وهو يعمل كالخادم ويتعرض للأخطار لإحضار الطعام لزوجته وأبنائه ، ولماذا لم تحقق العلمانية للمرأة الغربية منصب رئيس الولايات المتحدة أو حتى نائبه خلال قرنين من الحكم العلماني ، وإذا وجدت بعض النساء قد نجحن في العمل السياسي فهذه حالات استثنائية لا يقاس عليها ، وشوهت العلمانية مكانة المرأة في الإسلام واتهمته بأنه سبب اضطهادها في بعض المجتمعات الإسلامية مع أن هذا الاضطهاد سببه عادات جاهلية أما حقوق ومزايا المرأة في الإسلام فهي كثيرة جداً ، فالزوجة المسلمة لا تواجه خيانات زوجية ، ولا زوج سكير ولا مخدرات ، ولا صراعات ولا مشاحنات بل تجد الحب والاحترام والتعاون والراحة النفسية ، ولها حق التعليم ويفتح أمامها مجالات العمل، ولكنه يراعي ظروفها وحياتها الأسرية ، ودورها في الحرب موجود ولكن في الخطوط الخلفية ، وإذا احتاجها الدين والوطن فتتقدم للخطوط الأمامية، وتعتبر الأم بالنسبة لكل رجل مسلم أهم إنسان في حياته ، وتأتي قبل أبيه الرجل ... الخ
7- الصحوة الغربية: جاء في كتاب دوافع اعتناق المرأة الغربية للإسلام - دراسة ميدانية للأستاذة هـ . بول وترجمة الدكتور وليد محمود علي هذه الآراء النسائية الغربية :
أ) " الإسلام أعاد صياغة حياتي وجعل لها شكلاً وحدوداً "(32/129)
ب) " حياتي لم تكن مستقرة ، فلا منهج ولا يقين ولا هدف واضح "
جـ) " لم يكن لي دين ، ولم تكن لي مقاييس للسلوك لتساعدني وقت الشدائد ... كنت محتاجة لمعرفة طريقة التصرف في ظروف معينة تكون فيها المقاييس الأخلاقية العادية عديمة الجدوى"
د) " إنني أرى الأشياء وكأنها جزء من خطة كونية ، أنا أعلم الآن موقعنا ، وما هو مطلوب منا"
هـ) " لقد دفعني الإسلام إلى إعادة النظر في طبيعة الوجود بأكملها لأعرف أخيراً قيمة الخالق ووحدانيته ، وتتضح لي طبيعة الإنسان "
و) " حياتي كانت محررة من الالتزام بالمبادئ "
ز) " القرب ، الحب ، العطف ، الحنان ... هذه هي الفوائد التي حصلت عليها "
ف) " لم تعد تصادفني أية مشكلة في العلاقات لتعكر صفوي ، بدأت ألمس يسر الأمور أكثر من السابق ، لقد أعطاني الإسلام ثقة كبيرة في التعامل مع الناس "
س) " الإسلام جعلني أشعر بالحاجة إلى ضبط حياتي بطريقة إيجابية ، ولأحرر نفسي من المقاييس الزائفة في المجتمع "
ص) " المغزى الأخلاقي في الإسلام ذو أهمية فائقة ، فلو تمسك كل إنسان بهذا المغزى، لكان العالم اليوم أحسن حالاً "
الإسلام هو العلم الفكري
وضحتُ سابقاً أن الإسلام هو العلم الفكري وسأحاول أن أبين هنا جوانب من هذه القضية وذلك من خلال النقاط التالية :
1) وضوح الحقائق الفكرية: العلم الفكري ( الإسلام ) واضح ، وهو موجود في القرآن والسنة، فكثير من الحقائق الفكرية الإسلامية معروفة للناس ، ولا توجد صعوبة في فهم الإسلام ، فهو ليس طلاسم ولا محتكر من قبل علماء الإسلام ، ولا توجد طبقة من رجال الدين في الإسلام ، كما أن اللغة العربية لغة واضحة ومفهومة ودقيقة وعلماء الإسلام قد يكون منهم المدرس والتاجر والعامل والسياسي والاقتصادي والطبيب ، في حين أن العلمانية لا نجد فيها علماً بل آراء فكرية متناقضة وتجد مصطلحات غامضة وكتباً كثيرة، فلا يوجد مرجع واحد للفكر العلماني ، ولا يوجد حتى اتفاق على حقيقة فكرية واحدة قال تعالى " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعُروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم " (256) سورة البقرة وظن بعض العلمانيين أن سقوط الاتحاد السوفيتي جعل الفكر السائد في العالم هو الفكر الأمريكي الرأسمالي ، وأضافوا إليه وثائق وقرارات هيئة الأمم المتحدة ، واعتبروا هذا هو الفكر العصري الصحيح ، والذي اتفقت عليه دول العالم ، ونقول سيطرة أمريكا هي سيطرة اقتصادية وعسكرية وليست فكرية فالعقائد الإسلامية والمسيحية والعنصرية والهندوسية والاشتراكية وحتى الشيوعية لا زالت موجودة ، أما الغالبية الساحقة من قرارات الأمم المتحدة فهي لا خلاف عليها بين الناس كما لا خلاف على أغلب الأهداف العامة والشعارات الجميلة التي ترفعها أمريكا مثل حرية الإنسان ، وحقوق المرأة والديمقراطية وأهمية القطاع الخاص فالخلاف هو من الفكر الذي يحقق هذه الأهداف ؟ هل هو الإسلامي أو العلماني الرأسمالي أو العنصري أو العلماني الاشتراكي أو غير ذلك أو خليط من هذه المبادئ ، فما يحدث في العالم اليوم من اهتمام بالشعارات الأمريكية هو متأثر بالواقع وحقائقه الاقتصادية والعسكرية والسياسية وليس سيطرة فكرية ، فكثير من السياسيين وجدوا من مصلحتهم ومصلحة دولهم فتح الأبواب للديمقراطية والقطاع الخاص ، ليس إيماناً بذلك الفكر العلماني ، بل خضوعاًَ للمصالح والقوة ، كما أن اعتبار التجار في الدول النامية أصحاب فكر علماني تصور خاطئ ، فالتجار وراء مصالحهم من تجارة وصناعة ، وإذا كان الشيوعيون العلمانيون في السابق يعتبرون العمال والفلاحين وجميع الفقراء شيوعيين فإن(32/130)
العلمانيين أو أغلبهم يخطئون إذا اعتبروا التجار علمانيين أو اعتبروا كل من يشجع القطاع الخاص ، أو يطالب بإنصاف المرأة علمانياً ، وباختصار فالفكر الإسلامي واضح ومحدد ، والفكر العلماني متناقض ومتصارع وغير معروف ومتغير ، ففي أمريكا يمكن تغيير أي قانون أو حتى مادة في الدستور بناء على التصويت ، فالشذوذ الجنسي يصبح حقاًَ وحرية إذا قرر الشعب ذلك ، وهذا ما فعلوه ، ويصبح خطأ وباطلاً إذا قرر الشعب ذلك فالفكر والحياة العلمانية بعقائدها وقوانينها وأخلاقها وعلاقاتها الاجتماعية متغيرة في حين أن علماء المسلمين وكل الشعوب الإسلامية غير قادرين على تغيير حقيقة فكرية موجودة في الإسلام فالحقائق الفكرية فوق الجميع ، ولا تخضع للتصويت والأهواء والمصالح والحلول الوسط ، قال ابن القيم رحمه الله " وعَرّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله ، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم وما جرى عليهم معهم حتى كأنهم كانوا بينهم وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها " وقال " وكذلك عرفهم r من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم الدنيا أعظم استقامة " (1) فإذا أردت أن تعرف الحقائق الفكرية فاقرأ القرآن الكريم وأحاديث صلى الله عليه وسلم وكتب العلماء المخلصين الواعين من أمثال الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن القيم والدكتور أحمد كمال أبو المجد والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق والدكتور عمر الأشقر وغيرهم ، أما بالنسبة للاجتهادات الإسلامية على مدى التاريخ فإن فيها الصواب وفيها الخطأ ، ومن الأخطاء التي حدثت التركيز على بعض الجزئيات وتعقيد العلم بمصطلحات فلسفية وصوفية ومذهبية ونحن بحاجة إلى تركيز الجهود الفكرية على القضايا الرئيسة التي تواجه الناس ، وتأليف كتب جديدة تستفيد من القرآن والسنة ، ومما كتبه علماؤنا الأفاضل ، وتتخلص من النظرة الجزئية والجمود الفكري والتشدد والتصوف والتعقيد وغير ذلك ، والاتفاق على الحقائق الفكرية يُوحد النظرة العقائدية والسياسية والاجتماعية بين الناس مما يؤدي إلى اتحاد مواقفهم من مختلف القضايا المحلية والعالمية ، في حين أن اختلاف العلمانيين يؤدي إلى تفرقهم، فنادراً ما يخرج العلماني من انتماءاته العرقية والوطنية وشهواته ومصالحه ليلتف حول مبادئ محددة ، فالفلسطيني العلماني مثلاً يقاتل الإسرائيلي العلماني حتى لو كان الاثنان مخلصين للعلمانية فمواقفهما حددهما مكان ولادتهما ، وتأثرهما بالبيئة
المحيطة بهما لا بعقولهما ، فمن السهل الاتفاق على قضايا كثيرة بين العرب الملتزمين بإسلامهم ، لأن الوحدة الفكرية هي أساس البناء والتعاون ، أما الاتفاق بين المسلمين والعلمانيين أو العلمانيين أنفسهم فهي اتفاقات جزئية ومؤقتة وذات فوائد محدودة وهذه الحقيقة الفكرية كثيراً ما غابت عن أهل الإصلاح في الأمة مما أضاع طاقات وجهوداً كبيرة وكثيرة .
2- وجوب العلم والعمل والإخلاص: أخطر أعداء العلم الفكري هو الجهل به ، وعدم تطبيقه في الواقع وفي الإسلام اهتمام كبير بطلب العلم ، قال تعالى " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " سورة الزمر (9) وقال تعالى " وقل ربَّ زدني علما " سورة طه (114) فمعرفة الحقائق الفكرية واجب وهناك حد أدنى لا يُقبل أقل منه ، فلابد أن تعرف العقائد الصحيحة من صفات الله سبحانه وتعالى ، ولماذا خلقك ؟ وما تحتاج إليه في حياتك الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعبادية ، وذلك من خلال التعليم والقراءة والسؤال ، قال تعالى " فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " سورة الأنبياء / 7 سورة النحل / 43 وأول آية نزلت في القرآن هي " اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) سورة العلق ، أما بالنسبة للعمل فهو ضروري وواجب قا صلى الله عليه وسلم " الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل " والمعرفة بدون تطبيق هي معرفة إبليسية ، فتحويل الحقائق الفكرية إلى واقع في شتى مجالات الحياة دليل على الاقتناع بها، ويضيف الإسلام إلى العلم والعمل شيئاً هاماً جداً وهو النوايا الصادقة، والإخلاص أي يكون هدفك الأول هو رضى الله سبحانه وتعالى، فالعلم واكتسابه ونشره هدفه كسب رضى الله وليس الشهرة أو مجادلة الآخرين والعمل من زكاة وصدقة وجهاد وقول هدفه رضى الله وهكذا.
3- ما هو الإيمان ؟ : الإيمان هو الوصول بالعقل للحقائق الفكرية ، والالتزام بها ، وهو معرفة ما هي المبادئ الصحيحة ، وتطبيق ما نستطيع منها ، فالمسلم يدافع عن الحق والعدل الصحيح والحرية الصحيحة والمساواة الحقيقية .. الخ أما الكفر فهو رفض الحقائق الفكرية " الإسلام " مع الاقتناع بصوابها ، وبوجود البينات على صحتها، فالمعرفة وحدها مع عدم التطبيق هي معرفة إبليسية ، ورفض الحقائق يحدث نتيجة مصالح وهمية ، أو من أجل عقائد(32/131)
باطلة ، أو عناداً ، أو غروراً ، أو هو الجهل الشديد بعدم قبول الأدلة العقلية الواضحة على وجود الله سبحانه وتعالى وصدق صلى الله عليه وسلم ، وهناك من قال أن هذا يعتبر جاهلاً وليس كافراً والأمر فيه اختلاف أما المعصية فهي بشكل عام عدم الالتزام أحياناً بالحقائق الفكرية مع الاقتناع والإيمان بصوابها، وهذا الانحراف يحدث نتيجة ضعف أو هوى أو شهوة أو خوف أو غير ذلك أما من يرفض حقيقة فكرية قرآنية واضحة فهو كافر حتى لو آمن بأغلب الحقائق القرآنية ، وكذلك من يعادي المسلمين الملتزمين لأنه يعادي من أطاعوا الله سبحانه وتعالى ، وطبقوا الحقائق الفكرية ، وهذا وما شابهه عداء للعلم الفكري والحقائق والعقول السليمة والنفوس الزكية والعدل والحرية ، وهذا هو الفساد الذي تشكو منها البشرية ، وعكسه هو الإصلاح ، فالعمود الفقري للإصلاح هو أن تقتنع عقولنا بالعلم الفكري بعقائده وشريعته وعبادته، وتلتزم نفوسنا به ، فإذا أصلحنا عقائدنا فقد قفزنا خطوات في الإصلاح ، وإذا حاربنا النفاق وتعاملنا بالصدق فقد حققنا قفزات أخرى ، وإذا تحركنا للصلاة في المساجد خمس مرات يومياً فقد غسلنا قلوبنا من كثير من الأمراض كالحسد والغرور والطمع والكراهية ، وهكذا والحمد لله الذي سهل لنا سبيل الإصلاح ، ولو أدركت الشعوب هذه الحقائق الفكرية وكانت جادة في رغبتها واستعدادها لقضت على كثير من أسباب الصراعات والشر الحالية ، ولعلمت أن الاطروحات العلمانية هي التي جعلتها تنتقل من شقاء إلى آخر، ومن مصيبة إلى كارثة ، ومن تعاسة إلى قلق، فالحقائق الفكرية هي التي تحدد لنا المفاهيم الصحيحة للإيمان والكفر والعدل والحرية والمساواة والرحمة والعقاب والعبادة والعلاقات الاجتماعية والأنانية والتواضع والعز والغرور والذل ... الخ وهي تُوجد تكاملاً وتوازناً صحيحاً بين كل ذلك ، فلا يطغى العلم على العمل ، ولا المصلحة الشخصية على مصلحة الجماعة ، ولا الروحانيات على الماديات ، ولا المستقبل على الحاضر ، ولا الزوج على الزوجة ، ولا الجسد على النفس ، ولا الحكومة على الشعب ... الخ ولا عكس ذلك ، وهذه الحكمة تتأقلم مع اختلاف الزمان والمكان والبشر والظروف.(32/132)
4- تبليغ الحقائق الفكرية: فرض الله سبحانه وتعالى على المسلمين نشر الحقائق الفكرية وإبلاغها للناس ، قال تعالى " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " سورة النحل (125) وجعل نشر هذه الحقائق من أهم الأمور في حياة المسلم، وعليه أن يبلغها للآخرين ، وكانت الفتوحات الإسلامية تسعى لنشر الإسلام وإبلاغه للناس ، وتحطيم الباطل الفكري سواء كان عقائد أو عبادات أو أحكاماً ، ولم تكن حروباً ذات هدف مادي أو سياسي و عنصري فمن لا يحارب الحقائق الفكرية الإسلامية فلا يتم حربه ، وجعل الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً من الواجبات الرئيسة في المجتمع المسلم لتصحيح الانحرافات النظرية والعملية في مجال الحقائق ، قال تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون على الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) سورة آل عمران وقا صلى الله عليه وسلم : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " رواه أبو داود والترمذي ، وقا صلى الله عليه وسلم " أفضل الجهاد كلمة عدل ( وفي رواية : حق ) عند سلطان جائر " (1) أي بيان حقيقة فكرية فإذا وجدت مجتمعاً مسلماً يرى الظلم والانحرافات ولا يتحرك ، فأعلم أنه مجتمع لا إيمان له أو ذو إيمان ضعيف، فالإسلام يجعل الحقائق الفكرية أمانة في عنق كل مسلم يجب أن يقولها ويلتزم بها ويدافع عنها ويخالف أهواءه وشهواته وأسرته وعائلته وقبيلته وشعبه وأمته والبشر عامة في سبيل ذلك ، وقديماً قالوا " إذا قلت الحق أبغضوك " أما بالنسبة للعلمانية فإن العلماني، إذا كان مقتنعاً بآراء فكرية معينة ويعتقد أنها حقائق فكرية فلا يُوجد ما يجبره على تطبيقها حتى على نفسه فهو، حر حتى في الكفر بآرائه واقتناعاته وكذلك لا يُوجد ما يدفعه إلى نشرها وإبلاغها للناس والتضحية بوقته وماله ناهيك عن الدفاع عنها ، كما أن تنظيم دعوة علمانية بين مجموعة أفراد علمانيين قضية صعبة إن لم نقل مستحيلة ، فلا يوجد فكر محدد يراد تبليغه ، فالآراء متناقضة ، وإذا كان هناك اتفاق على رأي أو موقف أو أكثر فهو اتفاق محدود مقارنة بخلافات جذرية هائلة بين العلمانيين فهم مجموعة متنافرة أو مفككة ومتصارعة والدعوة الإسلامية ليس هدفها الجدل أو احراج الآخرين أو السخرية منهم ، قال تعالى " ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون " سورة الزخرف (58) وقال بعض السلف " إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل ، وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل " (2) وقيل لمالك : الرجل يكون عالماً بالسنة ثم يجادل عنها قال : لا ولكن يخبر بالسنة ، فإن قبل منه وإلا سكت " وقال : المراء والجدل في العلم يذهب بنور العلم (1) قال تعالى " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " سورة الفرقان (63) ومن المعروف أن العلمانية قائمة على الجدل ، بل جعلته كأنه هدفها في الحياة وفرق شاسع بين جدل وعلم.
5- التحالف الأبدي: قال الإمام علي كرم الله وجهه " اعرف الحق تعرف أهله " فالحق أي الحقائق الفكرية أي الإسلام هو أساس تحديد الآراء والمواقف والدساتير والقوانين والحقوق والواجبات والحياة الزوجية والشخصية ... الخ فالمسلم يجد نفسه مجبراً على تحالف أبدي مع الحق وليس له خيار آخر فلا يبني حياته على تحالف مع حكومة أو جماعة أو حزب أو قبيلة أو عائلة أو فرد بل يدور مع الحق حيث دار ، والحق فوق كل ذلك ، وهو مقتنع بأن مصالحه وأهدافه مع الحق حتى لو رأى ظاهريا أنه يخسر ويتعب ويختلف مع أقرب الناس إليه ، قال تعالى " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " سورة الحج (40) ونقول إن أغلب ما في مجتمعاتنا من الخير والوعي والإخلاص جاء نتيجة ، إيماننا بالإسلام ، وكل الانحرافات جاءت نتيجة ضعف الإيمان أو غيابه أو الجهل بالإسلام ، وإذا قبلنا التنازل عن مبادئنا الإسلامية فسيكون من السهل التنازل عن الدستور والقانون ، فلا شيء يهم ، وسنجعل المصالح الشخصية والعصبيات العرقية والشهوات وغير ذلك هي التي تتحكم بنا ، فالدستور ليس هو الذي خلقني والقانون ليس الذي يرزقني ، ومصلحتي الشخصية ستكون عندي أهم من مصلحة الشعب ورأي الشعب والتصويت ، ولنتأكد بأن من يبيع إسلامه يبيع تقريباً كل شيء ولا توجد عقائد أو فلسفة ستقنع الإنسان العاقل بأن يطيع قانوناً أو شعباً أو حكومة أو أباً أو أماً ويكفر بالله سبحانه وتعالى وكتبه ورسله ، فالدافع الأول للخير والعدل وبر الوالدين ... الخ هو طاعة الله والالتزام بالحقائق الفكرية ( الإسلام ).(32/133)
6- نور الحقائق الفكرية: لا يصل للحقائق الفكرية ويستفيد منها إلا من يؤدي الطاعات ويبتعد عن المعاصي قال تعالى " إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " سورة المنافقون (6) وقال تعالى " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " سورة المائدة (51) فالمعاصي ظلام ، والعلم الفكري نور ، وهما شيئان متنافران قال الإمام الشافعي رحمه الله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عندما سئل : من نسأل بعدك ؟ فقال سل عبد الوهاب : قيل : إنه ليس له اتساع في العلم ، فقال أبو عبد الله : إنه رجل صالح مثله يُوفق لإصابة الحق (1) وقال عن معروف : معه أصل العلم خشية الله ، وقال ابن مسعود وغيره : كفى بخشية الله علماً وكفى بالإغترار بالله جهلاً ، وقال بعض السلف : ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية وقال بعضهم : من خشي الله فهو عالم ، ومن عصاه فهو جاهل " (2) وقال سفيان بن عينية : ليس العاقل الذي يعرف الخير والشر ، ولكن العاقل الذي يعرف الخير فيتبعه ، ويعرف الشر فيجتنبه " فإذا رأيت كثيراً من الناس من سياسيين وتجار وإداريين وعمال وأزواج وزوجات يخطئون في قراراتهم أو أعمالهم أو حياتهم الاجتماعية أو تربية أبنائهم أو تخطيطهم لمستقبلهم أو غير ذلك أخطاء كبيرة وواضحة وفي أمور منطقية وعقلية ولا اختلاف حولها فأعلم أن ضياعهم حدث لأنهم لا يرون الحقائق الفكرية مما جعل حياتهم قلق وفشل وتعاسة ، فوجود الخبراء والمستشارين والأذكياء والخبرة والشهادات العلمية والأصدقاء والكتب المفيدة لن يؤدي إلى رؤية حقائق الحياة الفكرية والاستفادة منها إذا لم يكن الإنسان ملتزماً بطاعة الله ومبتعداً عن المعاصي ، فإذا أقنعك عقلك بأن مصلحتك الشخصية أو سعادتك هي في الانحرافات والمعاصي فأعلم يقينا أنك ترى مصالح وهمية وسراباً ، وأعلم أن
عقلك يخدعك ، وتذكر أن من يبتعد عن الطاعات يبتعد عن النور ألا هل بلغت اللهم فأشهد .
7- العلم الفكري أهم من المال: هذه حقيقة فكرية يجهلها كثير من الناس ، وأحد أهم أدلة انتشار الجهل العلماني بين الناس هو اقتناعهم بأن المال أهم من العلم الفكري ، ولو حكموا عقولهم لاقتنعوا بالعكس ، فالعالم اليوم غير مقتنع ليس فقط بالإسلام ، بل ليس مقتنعاً بأن هناك حقائق فكرية ، وعلم فكري ، فالمهم هو المال والتجارة والاقتصاد والبطالة وأسعار الأسهم ، قال ابن القيم رحمه الله " وفضل العلم على المال يُعلم من وجوه : أحدها أن العلم ميراث الأنبياء ، والمال ميراث الملوك والأغنياء ، والثاني أن العلم يحرس صاحبه ، وصاحب المال يحرس ماله ، والثالث أن المال تُذهبه النفقات ، والعلم يزكو على النفقة ، والرابع أن صاحب المال إذا مات فارقه ماله ، والعلم يدخل معه قبره ، والخامس أن العلم حاكم على المال ، والمال لا يحكم على العلم ، والسادس أن المال يحصل للمؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن ، والسابع أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم ، وصاحب المال إنما يحتاج إليه أهل العدم والفاقة ، والثامن أن النفس تشرف وتزكو بجمع العلم وتحصيله ، وذلك من كمالها وشرفها ، والمال لا يزكيها ولا يكملها ولا يزيدها صفة كمال ، بل النفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عليه ، فحرصها على العلم عين كمالها ، وحرصها على المال عين نقصها ، والتاسع أن المال يدعوها إلى الطغيان والفخر والخيلاء ، والعلم يدعونا إلى التواضع والقيام بالعبودية ، فالمال يدعونا إلى صفات الملوك ، والعلم يدعوها إلى صفات العبيد، والعاشر أن العلم جاذب موصل إلى سعادتها التي خُلقت لها ، والمال حاجب بينها وبينها ، والحادي عشر أن غنى العلم أجل من غنى المال ، فإن غنى المال بأمر خارجي عن حقيقة الإنسان لو ذهب في ليلة أصبح فقيراً معدماً ، وغنى العلم لا يُخشى عليه الفقر بل هو في زيادة أبدا " فالمسلم الواعي لحقائق الإسلام الفكرية يعلم أشياء كثيرة منها ، أن العلم أهم من المال بكثير في حين أن العلماني يسعى ليلاً ونهاراً وراء المال والمنصب والشهوات ، ويعتبر ذلك أهم شيء في الحياة ، وأهم من الحقائق الفكرية .(32/134)
8- من حصون الحقائق: حرص الإسلام على قضايا كثيرة تحمي العلم الفكري منها الفرق بين الشريعة والفقه، فالشريعة هي حقائق فكرية والفقه اجتهادات بشرية في سبيل الوصول إلى الحقائق وهو يحتمل الصواب والخطأ ، والعلماء ليسوا معصومين كما حذر من الظن والسطحية والسرعة في الوصول إلى الاقتناعات والقرارات ، قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " سورة الحجرات (12) ودعا إلى تجميع المعلومات من مصادر صحيحة ، ودعا للتفريق بين النظرية والأفراد ، وطالبنا بأن نعرف الحق حتى نعرف أهله وفرض علينا أن نعدل ونقول الحق حتى لو كان لأعدائنا ، وأن لا تأخذنا العواطف والأهواء ، ورفض مبدأ تقليد الآباء والأجداد في عقائدهم وأعمالهم إذا كانت خاطئة ودعا للتفكير والنقاش الهادي الرفيع ومشاورة العلماء وحرية الرأي والاجتهادات أي بذل الجهد في سبيل تجميع الحقائق ودعا إلى معرفة الواقع والرأي الجماعي وتحكيم الأغلبية الواعية المخلصة ، وليست أي أغلبية في كثير من القضايا الاجتهادية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ودعا إلى الاستماع للآخرين وآرائهم وعقائدهم ومجادلتهم بالحسنى ودعا إلى الواقعية في قضايا التعامل مع الواقع ، ودعا في نفس الوقت إلى الالتزام بالمبادئ وإعلانها ، ورفض النظر بمثالية للأمور ، وأن نبتعد عن الشبهات ، ودعا إلى مشاركة الآراء من مختلف التخصصات ذات العلاقة في الموضوع الاجتهادي سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً واهتم الإسلام بمكانة العلماء واحترامهم ، وحذرنا من أن يصل المسلم إلى اقتناع أو ينفذ عملاً بدون أن يعرف الحقيقة الفكرية في هذا الموضوع ، كما نشاهد في حياة كثير من المسلمين حيث يتعاملون في حياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية دون فهم لحقائق الإسلام ، فيعتمدون على آراء شخصية أو معلومات خاطئة أوظنون أو يشككون في النوايا أو يرون أجزاء من الصورة ودعا إلى تقليل الكلام والتحذير من خطره ، ودعا إلى إشغال أوقاتنا بما يفيد من علم وقراءة وعلم ورياضة ، قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يُستجاب لها " وعن زيد بن أسلم قال قيل يا رسول الله : ما أعلم فلاناً قال بم قالوا : أنساب الناس قال : " علم لا ينفع وجهالة لا تضر " فلا وقت عند المسلمين لعلوم لا تنفع ، وتفاصيل دقيقة غير هامة في التاريخ وفي حياة الناس الشخصية وللنقاشات الفلسفية ولعلوم الموسيقى والرسم والروايات والأفلام الهابطة والأغاني والتعمق في أنواع الملابس والساعات والأحذية والأثاث ... الخ ما أمرنا الإسلام به يجعل الإنسان قريبا من الحقائق الفكرية ومن القضايا العملية التي تفيد عقله ونفسه وجسمه وتفيد الشعوب والأمم .
كتب المؤلف
1- الطريق إلى الوحدة الشعبية " دعوة لبناء الجسور بين الاتجاهين القومي والإسلامي "
2- الطريق إلى السعادة
3- إصلاح الشعوب أولاً
4- لا للتعصب العرقي
5- عجز العقل العلماني
6- الكويت الجديدة
7- العلمانية في ميزان العقل
8- العلمانية تحارب الإسلام
9- تطوير البحث العلمي الخليجي " تحت الإعداد "
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب العاشر ... 2
الليبرالية ... 2(32/135)
(32/136)
لماذا .... نكره ... اللبرالية ... ؟ ... 2(32/137)
(32/138)
العمائم الليبرالية وحصان طروادة .. ... 4
الأسطورة والحقيقة ! ... 4(32/139)
(32/140)
الليبرالية من دلالة المعجم إلى شرط الواقع ... 13(32/141)
(32/142)
نجاح الاقتصاد الإسلامي .. رسالة إلى دعاة الليبرالية ! ... 18(32/143)
(32/144)
خريف الليبرالية نظرات في أزمة الليبراليين مع حدث الاستهزاء بالنبي الأمين صلى الله عليه وسلم .. 21(32/145)
(32/146)
لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ونجحت الليبرالية الغربية ؟ ... 33(32/147)
(32/148)
مصرع خرافة ( الليبرالية ) اللادينية ... 40(32/149)
(32/150)
نظرة في : " .. الليبرالية .. " من الداخل ... 46(32/151)
(32/152)
نظرة في " الليبرالية " من الداخل ( 2 ) ... 73(32/153)
(32/154)
انتبهوا... هناك فرق بين الليبرالية والعلمانية ... 84(32/155)
(32/156)
نظرة في: "..الليبرالية.. " من الداخل (1 ) ... 86(32/157)
(32/158)
الليبرالية الإسلامية والنموذج التركي ... 103(32/159)
(32/160)
الليبرالية نشأتها ومجالاتها ( 1 – 2 ) ... 105(32/161)
(32/162)
الليبرالية نشأتها ومجالاتها ( 2 – 2 ) ... 116(32/163)
(32/164)
مأزق الليبرالية المحلية ... 126(32/165)
(32/166)
الليبرالية ... النبت اليهودي ... 128(32/167)
(32/168)
مصطلحات ليبرالية .. ... 134(32/169)
(32/170)
((شبهات ليبرالية)) ... 136(32/171)
(32/172)
" المفاهيم البهيمية للحياة البوهيمية ! " ... 144(32/173)
(32/174)
من رحمِ العلمانيّةِ جاءتِ الليبراليّة !! ... 145(32/175)
(32/176)
" الأخوة " المتليبرون ..!! ... 151(32/177)
(32/178)
أكذوبة الليبراليين ومنطق الحاخام والخنزير !! ... 153(32/179)
(32/180)
الليبرالية نشأتها ومجالاتها ... 154(32/181)
(32/182)
الليبرالية العربية.. هدم «النص» والسقوط في التبعية..! ... 174(32/183)
(32/184)
مصطلح «الليبرالية الإسلامية»... رؤية شرعية ... 180(32/185)
(32/186)
المشكلة التي يعاني منها الليبراليون ... 183
هي تصادم نظرياتهم الفلسفية مع التشريع السماوي لنا كمسلمين ، ... 183(32/187)
(32/188)
الليبرالية : مذهب هدام يدمِّر العقيدة ويؤيد التفجير والتكفير والفساد ... 184(32/189)
(32/190)
الحرب على الليبرالية لا تعني التنازل عن القيم ... 196(32/191)
(32/192)
العمائم الليبرالية وحصان طروادة .. الأسطورة والحقيقة! ... 198(32/193)
(32/194)
الليبراليون الجدد.. عمالة تحت الطلب ... 207(32/195)
(32/196)
دعاة اللبرلة! عقول محتلة... أم ولاءات مختلة؟ ... 212(32/197)
(32/198)
مواقف الليبراليين تجاه سبِّ الرسول ... 229(32/199)
(32/200)
الإسلام الليبرالي أو الضوء الذي يخفي الحقائق ... 233(32/201)
(32/202)
الليبراليون العرب هل هم حقاً ليبراليون؟ ... 252(32/203)
(32/204)
الإسلام والليبرالية ... 258
(حقيقة التوجه الأمريكي وإمكانية الالتقاء الفكري) ... 258(32/205)
(32/206)
التقيّة الليبرالية .!!! ... 279(32/207)
(32/208)
أيها الليبراليون .. وإنَّ لكم في الاقتصاد لعبرة ! ... 280(32/209)
(32/210)
ما معنى "الدين لله" و"الوطن للجميع" ... 282(32/211)
(32/212)
الحرية..والليبرالية ( سؤال وجواب ) للشيخ سعيد الغامدي ! ... 285(32/213)
(32/214)
التجديد ... حينما يفقد مساره ! (1/2) ... 290(32/215)
(32/216)
لماذا لا أكون مسلما ليبراليا ؟ ... 304(32/217)
(32/218)
كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟ .. ... 308
( بحث مميز وواضح ) ... 308(32/219)
(32/220)
الفتوى الليبرالية.. وعسر الفهم! ... 309(32/221)
(32/222)
أبناؤنا في ظل الواقع المفتون ... 313(32/223)
(32/224)
ماذا قال اليهود عن الليبرالية ... 320(32/225)
(32/226)
حكم الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية ... 322(32/227)
(32/228)
الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال ... 324(32/229)
(32/230)
الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال ... 324(32/231)
(32/232)
الجوهر الليبرالي: فردانية القيم والتصورات ... 328(32/233)
(32/234)
الليبرالية بين الكلاسيكية والحداثة ... 339(32/235)
(32/236)
الدارونية الاجتماعية ... 343(32/237)
(32/238)
الليبرالية في القرن 21 ... 350(32/239)
(32/240)
الأقلية الليبرالية ..والصراع الداخلي المفتعل! ... 358(32/241)
(32/242)
الطريق الثالث.. ... 363
تحولات الليبرالية أم أمل الاشتراكية؟ ... 363(32/243)
(32/244)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ). ... 370(32/245)
(32/246)
أزمة الخطاب الليبرالي ... 451(32/247)
(32/248)
ما بال رجال ؟! ... 454(32/249)
(32/250)
الديمقراطيات الليبرالية حين تتنكر للخصوصيات الثقافية* ... 456(32/251)
(32/252)
أزمة الخطاب الليبرالي العربي الجديد ... 460(32/253)
(32/254)
عمرو خالد.. الطبعة الإسلامية لليبرالية الجديدة! ... 468(32/255)
(32/256)
الطريق إلى الحداثة يبدأ بانتقادها! ... 474(32/257)
(32/258)
الليبراليون في عصر النبوة ... 481(32/259)
(32/260)
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا ... 490(32/261)
(32/262)
دعاة اللبرلة .. عقول محتلة... أم ولاءات مختلة ؟ ... 507(32/263)
(32/264)
(ديموقراطيّة أمريكا) و (ليبراليّة طالبان) ... 525(32/265)
(32/266)
الليبراليون .. غربة الدين والوطن ... 527(32/267)
(32/268)
نقض دعوى حرية الرأي ... 528(32/269)
(32/270)
هل يعود الليبرالي إلى عباءة "الشيخ الإصلاحي" ... 535(32/271)
(32/272)
أزمة أوربا والمسلمين.. الحل في ليبرالية جديدة ... 538(32/273)
(32/274)
سنن الله تعالى في التدافع ... 545(32/275)
(32/276)
لقاءات الباب المفتوح - (ج 233 / ص 13) ... 553(32/277)
(32/278)
لماذا .... نكره...... اللبرالية ...؟ ... 554(32/279)
(32/280)
الليبراليون والدعوة إلى نقد الثوابت... ... 556(32/281)
(32/282)
الليبراليون الجدد.. عمالة تحت الطلب ... 561(32/283)
(32/284)
على خطى بولس وابن السوداء ! ... 564(32/285)
(32/286)
حوار مع ليبراليّة ... 568(32/287)
(32/288)
أزمة منهج أم أزمة رجال ؟ ... 571(32/289)
(32/290)
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه . ... 574(32/291)
(32/292)
الإسلام والليبرالية ... 577
(حقيقة التوجه الأمريكي وإمكانية الالتقاء الفكري) ... 577(32/293)
(32/294)
الليبراليون المؤدلجون .. والليبراليون الداجون !! ... 597(32/295)
(32/296)
الإسلام الليبرالي أو الضوء الذي يخفي الحقائق ... 599(32/297)
(32/298)
الليبراليون العرب هل هم حقاً ليبراليون؟ ... 618(32/299)
(32/300)
الليبرالية العربية.. ... 624
هدم «النص» والسقوط في التبعية..! ... 624(32/301)
(32/302)
بيانٌ ناري من د . ... 630
سعيد بن ناصر الغامدي ضد شانئيه والمستعدين عليه ... 630(32/303)
(32/304)
الإسلام السياسي ... 655(32/305)
(32/306)
"ليبرالي السعودية" لم ينجح أحد ! ... 656(32/307)
(32/308)
لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ونجحت الليبرالية الغربية؟ ... 662(32/309)
(32/310)
الليبراليون وحديث الإفك ... 669(32/311)
(32/312)
وفي السعودية ...... ( لحى ليبراليه ) !! ... 672(32/313)
(32/314)
ثقافة التلبيس (4)" ... 676
المجتمع المدني " الموضة الجديدة لأصحاب " اللحى الليبرالية " ... 676(32/315)
(32/316)
لكي تكون ( ليبرالياً ) !! ... 688(32/317)
(32/318)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة! ... 690(32/319)
(32/320)
"التنويريون السعوديون" ..قراءة هادئة وسط الضجيج ... 698(32/321)
(32/322)
مواقف الليبراليين تجاه سبِّ الرسول ... 704(32/323)
(32/324)
خريف الليبراليين ... 708(32/325)
(32/326)
شئ من الغثاء الليبرالي.. ... 724
رد على مقال (الدنمارك مرة أخرى: ماذا بعد؟!) لمشاري الذايدي ... 724(32/327)
(32/328)
قضايا المرأة في المؤتمرات الدولية ... 729(32/329)
(32/330)
"المرأة في المؤتمرات الدولية"؟!!. ... 774(32/331)
(32/332)
الجناية الدنمركية : ... 803
تأمّلات في ضياء ( لا تحسبوه شراً لكم ) ! ... 803(32/333)
(32/334)
الصحافة وصناعة الكراهة ... 808(32/335)
(32/336)
تقرير " r AND 2007 " خطير جدا .. ... 811
تفاصيل خطيرة عنه يجب معرفتها ! ... 811(32/337)
(32/338)
عبدالله القصيمي ... ... 907
قصة إلحاد وحكاية ملحد ... 907(32/339)
(32/340)
كتب وجهود عبد الله القصيمي بعد إلحاده : ... 919(32/341)
(32/342)
حوار موقع المسلم ... 931
مع الشيخ الدكتور / عبد العزيز كامل [1] ... 931(32/343)
(32/344)
كيف نخاطب الجماهير .. ؟ ... 942(32/345)
(32/346)
مصطلحات سياسية ومعانيها ... 948(32/347)
(32/348)
أمريكا.. وعدوى براقش ... 958(32/349)
(32/350)
عجز العقل العلماني ... 961
مقدمة ... 961
العلم الفكري والعلم المادي ... 963
فوائد تقسيم العلم إلى فكري ومادي : ... 967
أنواع العلم ... 973
إجابات العقل العلماني ... 979
الآف الاجابات العلمانية المتناقضة: ... 984
عجز العقل العلماني ... 987
الأسس الجاهلية للعلمانية ... 1003
العلمانية والعلم الفكري ... 1018
من سلبيات العلمانية ... 1026
الطريق إلى الحقائق الفكرية ... 1037
الدليل الفكري للرأسمالية العلمانية : ... 1046
شبهات حول الحقائق الفكرية ... 1050
لماذا انتشرت العلمانية ؟ ... 1061
الإسلام والعقل ... 1071
الإسلام والعلمانية ... 1088
المرأة والعلمانية ... 1105
الإسلام هو العلم الفكري ... 1113(32/351)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (11) الحداثة
الباب الحادي عشر
الحداثة
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الحادي عشر
الحداثة(33/1)
(33/2)
الحداثة
إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي
التعريف :
? الحداثة مذهب(*) فكري أدبي علماني، بني على أفكار وعقائد غربية خالصة مثل الماركسية والوجودية والفرويدية والداروينية، وأفاد من المذاهب الفلسفية والأدبية التي سبقته مثل السريالية والرمزية… وغيرها.
? وتهدف الحداثة إلى إلغاء مصادر الدين(*)، وما صدر عنها من عقيدة وشريعة وتحطيم كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية بحجة أنها قديمة وموروثة لتبني الحياة على الإباحية والفوضى والغموض، وعدم المنطق، والغرائز الحيوانية، وذلك باسم الحرية(*)، والنفاذ إلى أعماق الحياة. والحداثة خلاصة مذاهب خطيرة ملحدة، ظهرت في أوروبا كالمستقبلية والوجودية والسريالية وهي من هذه الناحية شر لأنها إملاءات اللاوعي في غيبة الوعي والعقل(*) وهي صبيانية المضمون وعبثية في شكلها الفني وتمثل نزعة الشر والفساد في عداء مستمر للماضي والقديم، وهي إفراز طبيعي لعزل الدين عن الدولة في المجتمع الأوروبي ولظهور الشك(*) والقلق في حياة الناس مما جعل للمخدرات والجنس تأثيرهما الكبير.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
? بدأ مذهب الحداثة منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً في باريس على يد كثير من الأدباء السرياليين والرمزيين والماركسيين والفوضويين والعبثيين، ولقي استجابة لدى الأدباء الماديين والعلمانيين والملحدين في الشرق والغرب. حتى وصل إلى شرقنا الإسلامي والعربي.
? ومن أبرز رموز مذهب(*) الحداثة من الغربيين:
- شارل بودلير 1821 - 1867م وهو أديب فرنسي أيضاً نادى بالفوضى الجنسية والفكرية والأخلاقية، ووصفها بالسادية أي مذهب التلذذ بتعذيب الآخرين. له ديوان شعر باسم أزهار الشر مترجم للعربية من قبل الشاعر إبراهيم ناجي، ويعد شارل بودلير مؤسس الحداثة في العالم الغربي.
- الأديب الفرنسي غوستاف فلوبير 1821 - 1880م.
- مالا راميه 1842 - 1898م وهو شاعر فرنسي ويعد أيضاً من رموز المذهب الرمزي.
- الأديب الروسي مايكوفسكي، الذي نادى بنبذ الماضي والاندفاع نحو المستقبل.
? ومن رموز مذهب(*) الحداثة في البلاد العربية:
- يوسف الخال - الشاعر النصراني وهو سوري الأصل رئيس تحرير مجلة شعر الحداثية. وقد مات منتحراً أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.
- أدونيس ( علي أحمد سعيد) نصيري سوري، ويعد المُروِّج الأول لمذهب الحداثة في البلاد العربية، وقد هاجم التاريخ الإسلامي، والدين(*) والأخلاق(*) في رسالته الجامعية التي قدمها لنيل درجة الدكتوراه من جامعة "القديس يوسف" في لبنان وهي بعنوان الثابت والمتحول، ودعا بصراحة إلى محاربة الله عز وجل. وسبب شهرته فساد الإعلام بتسليط الأضواء على كل غريب.
- د. عبد العزيز المقالح - وهو كاتب وشاعر يماني، وهو الآن مدير لجامعة صنعاء وذو فكر يساري.
- عبد الله العروي - ماركسي مغربي.
- محمد عابد الجابري مغربي.
- الشاعر العراقي الماركسي عبد الوهاب البياتي.
- الشاعر الفلسطيني محمود درويش - عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي أثناء إقامته بفلسطين المحتلة، وهو الآن يعيش خارج فلسطين.
- كاتب ياسين ماركسي جزائري.
- محمد أركون جزائري يعيش في فرنسا.
- الشاعر المصري صلاح عبد الصبور - مؤلف مسرحية الحلاج.
الأفكار والمعتقدات :
? نجمل أفكار ومعتقدات مذهب الحداثة كما هي عند روادها ورموزها وذلك من خلال كتاباتهم وشعرهم فيما يلي:
- رفض مصادر الدين(*)، الكتاب والسنة والإجماع(*)، وما صدر عنها من عقيدة إما صراحة أو ضمناً.
- رفض الشريعة(*) وأحكامها كموجه للحياة البشرية.
- الدعوة إلى نقد النصوص الشرعية، والمناداة بتأويل جديد لها يتناسب والأفكار الحداثية.
- الدعوة إلى إنشاء فلسفات حديثة على أنقاض الدين.
- الثورة(*) على الأنظمة السياسية الحاكمة لأنها في منظورها رجعية متخلفة أي غير حداثية، وربما استثنوا الحكم البعثي.
- تبني أفكار ماركس المادية(*) الملحدة، ونظريات فرويد في النفس الإنسانية وأوهامه، ونظريات دارون في أصل الأنواع وأفكار نيتشة، وهلوسته، والتي سموها فلسفة في الإنسان الأعلى (السوبر مان).
- تحطيم الأطر التقليدية والشخصية الفردية، وتبني رغبات الإنسان الفوضوية والغريزية.
- الثورة على جميع القيم الدينية والاجتماعية والأخلاقية الإنسانية، وحتى الاقتصادية والسياسية.
- رفض كل ما يمت إلى المنطق والعقل.
- اللغة - في رأيهم - قوة ضخمة من قوى الفكر المتخلف التراكمي السلطوي، لذا يجب أن تموت، ولغة الحداثة هي اللغة النقيض لهذه اللغة الموروثة بعد أن أضحت اللغة والكلمات بضاعة عهد قديم يجب التخلص منها.
- الغموض والإبهام والرمز - معالم بارزة في الأدب والشعر الحداثي.
- ولا يقف الهجوم على اللغة وحدها ولكنه يمتد إلى الأرحام والوشائح حتى تتحلل الأسرة، وتزول روابطها، وتنتهي سلطة الأدب وتنتصر إرادة الإنسان وجهده على الطبيعة والكون.
? ومن الغريب أن كل حركة جديدة للحداثة تعارض سابقتها في بعض نواحي شذوذها وتتابع في الوقت نفسه مسيرتها في الخصائص الرئيسية للحداثة.(33/3)
? إن الحداثة هي خلاصة سموم الفكر البشري كله، من الفكر الماركسي إلى العلمانية الرافضة للدين(*)، إلى الشعوبية(*)، إلى هدم عمود الشعر، إلى شجب تاريخ أهل السنة كاملاً ، إلى إحياء الوثنيات(*) والأساطير.
? ويتخفى الحداثيون وراء مظاهر تقتصر على الشعر والتفعيلة والتحليل، بينما هي تقصد رأساً هدم اللغة العربية وما يتصل بها من مستوى بلاغي وبياني عربي مستمد من القرآن الكريم، وهذا هو السر في الحملة على القديم وعلى التراث وعلى السلفية(*).
تطور مذهب الحداثة في الغرب وفي البلاد العربية:
? إن حركة الحداثة الأوروبية بدأت قبل قرن من الزمن في باريس بظهور الحركة البوهيمية فيها بين الفنانين في الأحياء الفقيرة.
- ونتيجة للمؤثرات الفكرية، والصراع السياسي والمذهبي والاجتماعي شهدت نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في أوروبا اضمحلال العلاقات بين الطبقات، ووجود فوضى حضارية انعكست آثارها على النصوص الأدبية. وبلغت التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا ذروتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وبقيت باريس مركز تيار الحداثة الذي يمثل الفوضى الأدبية.
- وقد تبنت الحداثة كثيراً من المعتقدات والمذاهب الفلسفية والأدبية والنفسية أهمها :
1- الدادائية: وهي دعوة ظهرت عام 1916م، غالت في الشعور الفردي ومهاجمة المعتقدات، وطالبت بالعودة للبدائية والفوضى الفنية الاجتماعية.
2- السريالية: واعتمادها على التنويم المغناطيسي(*)، والأحلام الفرويدية، بحجة أن هذا هو الوعي الثوري للذات، ولهذا ترفض التحليل المنطقي، وتعتمد بدلاً عنه الهوس والعاطفة.
3- الرمزية: وما تتضمنه من ابتعاد عن الواقع والسباحة في عالم الخيال والأوهام، فضلاً عن التحرر من الأوزان الشعرية، واستخدام التعبيرات الغامضة والألفاظ الموحية برأي روادها.
- وقد واجهت الحداثة معارضة شديدة في كل أنحاء أوروبا، حتى في باريس مسقط رأسها، من المدافعين عن اللغة والتراث وممن ينيطون بالأدب مهمة التوصيل في إطار العقل والوعي الإنساني.
- وكثير من أدباء القرن العشرين لم يعترفوا بالحداثة ولا بما جاءت به من تجريد جمالي وثورة وعدم تواصل، وعدَّ كثير من المفكرين الغربيين الحداثة نزوة عابرة في تاريخ الفكر الغربي.
? والحداثة العربية هي حداثة غربية في كل جوانبها وأصولها وفروعها إلا أنها تسللت إلى العالم العربي دون غرابة، وذلك لأنها اتخذت صورة العصرية، والاتجاه التجديد (*) في الأدب، وارتباط مفهوم الحداثة في أذهان بعض المثقفين بحركة ما يسمى بالشعر الحر أو شعر التفعيلة.
- اصطلاح الحداثة بمفهومه الغربي، لم يقتحم الأدبي العربي إلا في فترة السبعينات بينما تسربت مضامينه منذ الثلاثينات من هذا القرن، وذلك في محاولات الخروج على علم العروض العربي، وفي الأربعينات ظهرت بعض ظواهر التمرد والثورة والرفض وتجريب بعض الاتجاهات الأدبية الغربية كالتعبيرية والرمزية والسريالية.
ثم ظهرت مجلة شعر التي رأس تحريرها في لبنان يوسف الخال عام 1957م وتوقفت عام 1964م للتمهيد لظهور حركة(*) الحداثة بصفتها حركة فكرية، لخدمة التغريب، وصرف العرب عن عقيدتهم ولغتهم الفصحى.. لغة القرآن الكريم.
وبدأت تجربتها خلف ستار تحديث الأدب، فاستخدمت مصطلح الحداثة عن طريق ترجمة شعر رواد الحداثة الغربيين أمثال: بودلير ورامبو ومالاراميه، وبدأ رئيس تحريرها - أي: مجلة شعر - بكشف ما تروج له الحداثة الغربية حين دعا إلى تطوير الإيقاع الشعري، وقال بأنه ليس للأوزان التقليدية أي قداسة ويجب أن يعتمد في القصيدة على وحدة التجربة والجو العاطفي العام لا على التتابع العقلي والتسلسل المنطقي كما أنه قرر في مجلته أن الحداثة موقف حديث في الله والإنسان والوجود.
? كان لعلي أحمد سعيد (أدونيس) دور مرسوم في حركة الحداثة وتمكينها على أساس ما دعاه من الثبات والتحول فقال: "لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة في الفكر العربي والتخلص من المبنى الديني التقليدي الإتباعي". استخدم أدونيس مصطلح الحداثة الصريح ابتداءً من نهاية السبعينات عندما أصدر كتابه: صدمة الحداثة عام 1978م وفيه لا يعترف بالتحول إلا من خلال الحركات الثورية السياسية والمذهبية، وكل ما من شأنه أن يكون تمرداً على الدين(*) والنظام تجاوزاً للشريعة(*).
- لقد أسقط أدونيس مفهوم الحداثة على الشعر الجاهلي وشعراء الصعاليك وشعر عمرو بن أبي ربيعة، وأبي نواس وبشار بن برد وديك الجن الحمصي، كما أسقط مصطلح الحداثة على المواقف الإلحادية لدى ابن الرواندي وعلى الحركات الشعوبية(*) والباطنية(*) والإلحادية المعادية للإسلام أمثال: ثورة الزنج والقرامطة.
- ويعترف أدونيس بنقل الحداثة الغربية حين يقول في كتابه الثابت والمتحول: "لا نقدر أن نفصل بين الحداثة العربية والحداثة في العالم".
أهم خصائص الحداثة :
- محاربة الدين (*) بالفكر وبالنشاط.
- الحيرة والشك (*) والقلق والاضطراب.
- تمجيد الرذيلة والفساد والإلحاد.(33/4)
- الهروب من الواقع إلى الشهوات والمخدرات والخمور.
- الثورة على القديم كله وتحطيم جميع أطر الماضي، إلا الحركات الشعوبية والباطنية(*).
- الثورة على اللغة بصورها التقليدية المتعددة.
- امتدت الحداثة في الأدب إلى مختلف نواحي الفكر الإنساني ونشاطه.
- قلب موازين المجتمع والمطالبة بدفع المرأة إلى ميادين الحياة بكل فتنتها، والدعوة إلى تحريرها من أحكام الشريعة(*).
- عزل الدين ورجاله واستغلاله في حروب عدوانية.
- تبني المصادفة والحظ والهوس والخيال لمعالجة الحالات النفسية والفكرية بعد فشل العقل في مجابهة الواقع.
- امتداد الثورة على الطبيعة(*) والكون ونظامه وإظهار الإنسان بمظهر الذي يقهر الطبيعة.
- ولذا نلمس في الحداثة قدحاً في التراث الإسلامي، وإبرازاً لشخصيات عرفت بجنوحها العقدي كالحلاج والأسود العنسي ومهيار الديلمي وميمون القداح وغيرهم. وهذا المنهج يعبر به الأدباء المتحللون من قيم الدين والأمانة، عن خلجات نفوسهم وانتماءاتهم الفكرية.
ويتضح مما سبق:
أن الحداثة تصور إلحادي جديد - تماماً - للكون والإنسان والحياة، وليست تجديداً(*) في فنيات الشعر والنثر وشكلياتها. وأقوال سدنة الحداثة تكشف عن انحرافهم باعتبار أن مذهبهم يشكل حركة مضللة ساقطة لا يمكن أن تنمو إلا لتصبح هشيماً تذروه الرياح وصدق الله العظيم إذ يقول: }ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً{.
حسبنا في التدليل على سعيهم لهدم الثوابت أن نسوق قول أدونيس وهو أحد رموز الحداثة في العالم العربي في كتابه فن الشعر ص 76: "إن فن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور العربي ليست تلك التي تسليه أو تقدم له مادة استهلاكية، وليست تلك التي تسايره في حياته الجادة، وإنما هي التي تعارض هذه الحياة! أي تصدمه، وتخرجه من سباته، تفرغه من موروثه وتقذفه خارج نفسه، إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها، الدين ومؤسساته، العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته، وبنية المجتمع القائم. كلها بجميع مظاهرها ومؤسساتها، وذلك من أجل تهديمها كلها! أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد، يلزمنا تحطيم الموروث الثابت، فهنا يكمن العدو الأول للثورة والإنسان".
ولا يعني التمرد على ما هو سابق وشائع في مجتمعنا إلا التمرد على الإسلام وإباحة كل شيء باسم الحرية(*).
- فالحداثة إذن هي منهج(*) فكري عقدي يسعى لتغيير الحياة ورفض الواقع والردة عن الإسلام بمفهومه الشمولي والانسياق وراء الأهواء والنزعات الغامضة والتغريب المضلل.
وليس الإنسان المسلم في هذه الحياة في صراع وتحد مع الكون كما تقول كتابات أهل الحداثة وإنما هم الذي يتنصلون من مسئولية الكلمة عند الضرورة ويريدون وأد الشعر العربي ويسعون إلى القضاء على الأخلاق والسلوك باسم التجريد وتجاوز جميع ما هو قديم وقطع صلتهم به.
- ونستطيع أن نقرر أن الحداثيين فقدوا الانتماء لماضيهم وأصبحوا بلا هوية ولا شخصية. ويكفي هراء قول قائلهم حين عبر عن مكنونة نفسه بقوله:
لا الله اختار ولا الشيطان *** كلاهما جدار
كلاهما يغلق لي عيني *** هل أبدل الجدار بالجدار
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
-------------------------------------------------------
مراجع للتوسع :
- "الحداثة في الأدب العربي المعاصر"، مقال مطول للدكتور محمد مصطفى هدارة مجلة الحرس الوطني - ربيع الآخر 1410هـ.
- الحداثة في ميزان الإسلام، عوض القرني.
- نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبد الرحمن رأفت الباشا .
- الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلا ل
=====================(33/5)
(33/6)
أدونيس.. واصطناع الحداثة!
أحمد دعدوش
إن تعريف الحداثة ببضع كلمات ليس بالأمر السهل، فحتى رواد هذا التيار يعترفون بهلامية هذا المصطلح، بل يصرون على أنها ليست مصطلحا أصلا، وأن تعدد تياراتها وتنوع مشاربها يجعل من تحديدها بتعريف واحد ضربا من المستحيل. إلا أنهم يجمعون مع ذلك على سمت واحد يعد القاسم المشترك لمختلف طرقهم، وهو الانقطاع عن الماضي، بأي شكل كان هذا الانقطاع.
يمكن القول بأن الحداثة قد بدأت كتيار فكري منذ بدء المنهج العقلاني عند ديكارت، ولكن دخوله عالم الأدب كان متأخرا. أما ما يهمنا في هذا المقام فهو التيار الحداثي عند الأدباء العرب، وتسليط الضوء على رائدهم أدونيس الذي بذل كل جهده للتربع على هذا العرش.
ولد أدونيس عام 1930 في قرية نصابين في سورية باسم علي أحمد سعيد إسبر، ولكنه اتخذ لنفسه اسم أدونيس (أحد أبطال الأساطير الفينيقية) خروجا على التقاليد العربية. تلقى دراسته الجامعية في قسم الفلسفة في جامعة دمشق ، وتوجه إلى بيروت عام 1956، وأسس مجلة مواقف عام 1968 التي أصبحت منبرا للكثير من المثقفين والأدباء من كافة أنحاء الوطن العربي، وفي عام 1985 غادر إلى باريس هروبا من الحرب. وفي رصيده عدد من الجوائز الأدبية الرفيعة، وأهمها: جائزة الشعر السوري اللبناني في منتدى الشعر الدولي في بيتسبرغ بالولايات المتحدة عام 1971، الجائزة الكبرى في بروكسل عام 1986، جائزة جان مارليو للآداب الأجنبية في فرنسا عام 1993، جائزة التاج الذهبي للشعر في مقدونيا عام 1997، جائزة ليريس بيا في إيطاليا عام 2000، وآخرها جائزة سلطان العويس في دولة الإمارات عام 2004، هذا بالإضافة إلى كونه أحد المرشحين البارزين لجائزة نوبل للآداب منذ سنوات، وما زال احتمال الفوز بها قائما حتى الآن.
تعد مجلة مواقف المنبر المهم الذي عبر من خلاله أدونيس عن منهجه الحداثي، ويمكن لكل من يريد فهم الحداثة العودة إلى أعداد هذه المجلة للوقوف على أفكارها، يقول أدونيس في افتتاحية العدد الأول: (هكذا تطمح مواقف إلى أن تكون استباقا. كل استباق إبداع. الإبداع هجوم : تدمير ما نرفضه وإقامة ما نريده) وكأن الحداثة في نظر الرجل تبدأ من الهدم قبل كل شيء.
أما موقف الحداثة من المقدسات، والمقصود بها رموز الإسلام بالطبع فيتضح من قوله: (إنها مناخ للمجابهة، إنها فعل المجابهة، تزول في هذا الفعل هالة القداسة. لن تكون هناك موضوعات مقدسة لا يجوز بحثها..) ففي منبر الحداثة كل شيء مباح، ليس من أجل الحقيقة، فقد تم الاتفاق منذ البداية على أن كل ما هو قديم مرفوض، من أجل الهدم.. الهدم فقط وليس البناء!
وقد تبلور هذا الاتجاه فيما بعد بشكل صارخ على صفحات هذه المجلة، وانبرى الكتاب الحداثيون لإعمال معاولهم في صرح الإسلام الذي تحول لديهم إلى تراث يجب نفض أيدينا منه، يقول في العدد السادس: (( ما نطمح إليه ونعمل له كثوريين عرب هو تأسيس عصر عربي جديد . نعرف أن تأسيس عصر جديد يفترض بادئ ذي بدء الانفصال كليا عن الماضي، نعرف كذلك أن نقطة البداية في هذا الانفصال- التأسيس هي النقد: نقد الموروث ونقد ما هو سائد شائع (...) إن ماضينا عالم من الضياع في مختلف الأشكال الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية، إنه مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر، وهي مملكة لا تمنع الإنسان العربي من أن يجد نفسه وحسب، وإنما تمنعه كذلك من أن يصنعها)).
هكذا تكون الحداثة إذن: هدم للدين ثم إزالة له.. لماذا ؟ لأنه ضياع ووهم وغيب مستمر!!
لقد كشف الرجل عن موقفه من الدين بكل صراحة، ولم يكن ذلك إلا للإسلام، فقد حظي الدين المسيحي باحترامه، بينما لم يتعرض لليهودية بأي نقد! فلماذا الإسلام فقط يا ترى؟!
في مقارنة بسيطة مع مقولة لماركس: (نقد الدين شرط لكل نقد) ، نجد أدونيس يقول في العدد السادس: (النقد الثوري للموروثات العربية شرط لكل عمل ثوري عربي)، علما بأن الموروثات العربية هي كناية للدين الإسلامي ولكن بطريقة التورية.
بقي أن نقول أن هذه المجلة قد تم افتتاحها بعد عام واحد فقط من نكسة 1967، وهي التي أراد من خلالها هذا الشاعر ضعضعة بناء الإسلام وتحميله مسئولية تخلف العرب، ليس لشيء أكثر من كونه ماضيا يجب التخلص منه. غير أن الرجل لم يتعرض آنذاك بكلمة واحدة للأساس الذي قامت عليه دولة الصهاينة قبل عام واحد، وهو الدعوى الملفقة للإرث الديني اليهودي في أرض المسلمين والمستند إلى ماض أكثر عمقا في التاريخ، فضلا عن اعتماده على تاريخ مكذوب، ولغة منقرضة، وتراث مندرس، وآثار مزعومة ما زال البحث عنها قائما تحت المسجد الأقصى دون جدوى؟ الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن جدوى حداثة رجل استعار اسمه من أساطير ما قبل الميلاد، ثم نادى جهارا بالتطبيع مع المثقفين الصهاينة مع تطبيق ذلك عمليا باجتماعه مع أحد مثقفيهم، مما تسبب في فصله من اتحاد الكتاب العرب في دمشق الذي لم يسلم أعضاؤه من تلقي شتائمه الجارحة.
===========(33/7)
(33/8)
نذير العظمة ... المرجعية الحداثية
أخي الكريم العودوي :
ما سمعت عن أولئك الثلاثة صحيح ولا غبار عليه ، وبما انك طلبت التوضيح المفصل فلك ما تريد وبالله العون والتوفيق ..
ولعلي أبدأ بالمرجعية الحداثية في المملكة العربية السعودية : د. نذير العظمة
والذي ولد في عام 1930 في دمشق ، وتخرج من كلية الآداب في جامعة سوريا ، وفي عام 1957 شارك في تأسيس (( مجلة شعر )) بالتعاون مع : يوسف الخال وخليل حاوي وادونيس ... وأصبح عضوا في تجمعها ، إضافة إلى عضويته في الحزب السوري القومي الاجتماعي .
لديه دكتوراه في الأدب العربي والدراسات المقارنة من جامعة انديانا ، وعمل أستاذ كرسي للغة العربية في جامعة بورتلاند في امريكا ..
وبعد ذلك انتقل إلى جامعة الملك سعود بالرياض ويعمل أستاذا للنقد والأدب المقارن في تلك الجامعة .
ويعد نذير العظمة من ابرز مؤسسي الحداثة في العالم العربي ، وقد كتب عنه احمد زكي في مجلة الفيصل بعنوان (( نذير العظمة .. شاعر المرحلة بلا تردد )) وامتدحه كثيرا وذكر شيئا عن سيرته القومية والفكرية .
وبلا شك يعتبر نذير العظمة أحد الموجهين والمربين للحداثيين وبخاصة في السعودية حيث تكثر دراساته ومناقشاته للإنتاج الحداثي في السعودية ، وذلك من خلا الأندية الأدبية وعبر الصحف والمجلات والمنتديات .
ويكفي انه ذات مرة في عام 1992 القى محاضرة عن (( جبران خليل جبران )) وذلك في السفارة الأمريكية بالرياض !!
ومما قال فيها (( ونظرت إلى التراث الذي تعامل معه جبران فوجدته يحتفل بالإضافة على ميراث العرب ، من سومر حتى عصره ، يلتفت إلى ميراث الشرق الديني : بوذا وكونفوشيوس وموسى وعيسى ومحمد ورغم مقارعته الكهانة والكنيسة إلا أنه كان كالمتصوفة يعتبر نفسه وريثا للأديان والانبياء ، التوحيدي منها وغير التوحيدي ... وهي ظاهرة فذة في مطالع هذا القرن في الفكر والدب الكونيين ...))
والمحاضرة طويلة ، ومليئة بالأفكار المنحرفة .
وفي آخر لقاء معه ، وذلك في محاضرة الحداثة وما بعدها ، والتي القاها سعد البازعي في نادي الرياض الأدبي ، في تاريخ 6 / 2 / 1421 ، كان نذير العظمة احد المعقبين على الندوة .. فكان مما قال (( الحداثة مشروع متكامل للفكر العربي ، ويمثل العودة على التراث والولادة منه ، وإن كان بعضهم يدعو لقطعه ...واما مابعد الحداثة فهو مشروع غير متكامل وهو يماثل مدرسة اللامعقول في اوروبا ...ونحن مازالت لدينا ترسبات من عبادة للتراث وعبادة الأسلاف وعبادة اجترار الماضي , والتي تدعونا للمعارضة ويكون انتاجنا قائم على كل تلك العبادات ....)) .
أما أبرز مؤلفاته فهي /
1. المسرح السعودي .
2. رواية الشيخ ومغارة الدم .
3. المعراج والرمز الصوفي .
4. نواقيس تموز .
هذه باختصار نبذة عن نذير العظمة ، مرجعية الحداثيين في المملكة العربية السعودية.
أبو عبدالعزيز الظفيري
===========(33/9)
(33/10)
التقدّم لاستيعاب التحوّلات الجذريّة القائمة
إبراهيم غرايبة 15/6/1428
30/06/2007
ثمة وضوح في الأبعاد والتحولات الاقتصادية والسياسية (إلى حد ما)، والمتشكلة حول الموارد الجديدة أو اقتصاد المعرفة القائم على الحوسبة والاتصالات والشبكية والعولمة، ولكن النظام الاجتماعي والثقافي المفترض تشكله مازال يخضع للجدل والشك والفوضى، وإن كان ثمة سؤال: ما الحالة الاجتماعية المطلوبة والممكنة لاستيعاب هذه التحولات؟ وما أهمية هذا النظام الاجتماعي والثقافي؟ أهو حتمي أم يمكن تشكيله وفق المطلوب والمرغوب فيه؟ وما المختلف فيه عن المراحل السابقة؟
خريطة التقدم الاجتماعي والثقافي
تتشكل الأنظمة الاجتماعية والثقافية في متوالية معقدة من التفاعلات بين الناس والمكان يمكن اختزالها بالمسار التالي:
تقنية وموارد ـ نظام اقتصادي وسياسي ـ نظام اجتماعي وثقافي ـ تقنية
فالإنسان ينشئ ويبدع وفق حاجاته وتحديات البيئة المحيطة أدوات الإنتاج والحماية، وتتشكل حول هذه التقنيات والأدوات أنظمة اقتصادية وسياسية، فتنشأ المجتمعات والدول والعلاقات والطبقات والحروب والصراعات والتنافس والتعاون، وتتشكل حول هذه الأنظمة الاقتصادية والسياسية منظومات اجتماعية وثقافية تقوم على صيانة وتنظيم الإنجازات البشرية وتحقيق العدل والمصالح والقيم والأعراف والتقاليد والتشريعات المنظمة لحياة الناس وتطلعاتهم، وهذه المنظومة الاجتماعية والثقافية تعيد تطوير وإنتاج تقنيات وأدوات الإنتاج وفق الأفكار والقيم الجديدة، فيكون التقدم.
عندما بدأ الإنسان حياته معتمداً على الصيد وجمع الثمار تكونت مجتمعات وأنظمة الصيد، وهي غالبا مجتمعات عائلية صغيرة تتمركز حول حماية نفسها وتأمين البقاء والاحتياجات الأساسية، فكانت العلاقات الاجتماعية والثقافية قائمة على تطوير أدوات الصيد وتنظيم الإقامة وفق هذا المورد، فكان التقدم باتجاه تدجين الحيوانات وتربيتها.
ونشأت المجتمعات الرعوية، وتشكل حولها نظام اقتصادي قائم على الممتلكات، وتحولت اتجاهات العلاقات والإقامة والتحرك بما يلائم تنظيم وتنمية هذه الممتلكات والموارد وحمايتها، فتشكلت المجتمعات الرعوية التي يقودها الأكثر قوة وشجاعة وامتلاكاً للإبل والبقر والغنم، ولأجل ذلك تجمع الناس في قبائل لحماية وتنظيم أنفسهم وزيادة مواردهم، وتشكل نظام سياسي يقوده الفرسان والملاكون، ويستتبع آخرين من الرعاة والحرفيين والخدم والمهزومين، وكانت الشجاعة والكرم هي رمز الأرستقراطية في هذه المجتمعات؛ فهي الثقافة الأكثر ملاءمة لقيادة القبائل وتفوقها وترسيخ تقاليد وأعراف تحمي هذه المجتمعات في حراكها الدائم في البوادي والمراعي؛ لأنه بدون قيم الشجاعة والكرم لا مجال للتنافس الاجتماعي والتقدم وتبادل المنافع والخدمات لهذه الجماعات المتنقلة في بيئة قاسية متقلبة.
وكانت التجارة والقوافل التجارية نظاماً تقنياً واقتصادياً يطور التبادل وتنظيم الفوائض والموارد، فنشأت المدن والمراكز الحضرية واللوجستية، والفعل الحضاري القائم على تنظيم هذه الموارد، المدن والإيلاف، والحماية والطرق والممرات والنجوم والأفلاك والرحيل والتبادل الثقافي والتجاري والاكتشاف.
ربما تكون الزراعة هي أهم محصلة لتفاعل الإنسان وإبداعه الحضاري، فهي تلخص استيعاب مسار الجوع والخوف أو الإنتاج والحماية في تقنية أكثر ثباتاً ورسوخاً ومواجهة للمجاعة والسلب والفوضى، فبدأت بها المدن والمراكز الحضرية، والمجتمعات وضرورات الكتابة والتعليم، وتشكل الأنظمة السياسية والتشريعية والثقافية، والتجارة والتقنيات، وبدأت بها المسيرة التي نعرفها اليوم أو نحيط بها للبشرية والتي تعود تقريباً إلى حوالي (10 - 12) ألف عام، وظلت الزراعة هي المورد الأساسي للبشرية، والذي تشكلت حوله الدول والحضارات حتى القرن السابع عشر الميلادي عندما أنشأت الآلة البخارية نظاماً اقتصادياً جديداً حول مسار البشرية ومواردها، وحول الثورة الصناعية قامت الثورات السياسية والأنظمة الجمهورية، مثل الثورة الفرنسية (1789) والثورة الأمريكية (1776) والديموقراطيات والدول والمؤسسات الحديثة والمدن العملاقة.
وهكذا فإن التقدم يمثل مساراً دائرياً جدلياً ومتواصلاً من استيعاب المنجزات المتراكمة وإبداع موارد وتقنيات ومنجزات جديدة تتحول مرة أخرى إلى تراكم يُعاد استيعابه:
تراكم ــ استيعاب ــ إبداع ــ تراكم.
ويكون التقدم الاجتماعي والثقافي الممكن تعريفه ببساطة الاستجابة الملائمة والصحيحة مع التقنية والموارد هو الوعاء الحقيقي للتقدم وتنظيمه وتوجيهه وحمايته؛ فهو الذي ينظم مواصلة التقدم، وهو الذي يضمن توجيهه نحو الخير والفضيلة والسلام؛ لأن التقنية والموارد بذاتها منفصلة عن استخدامها، فالطاقة النووية مثلا يمكن أن تدمر البشرية والبيئة، أو تكون أداة للاحتلال والتهديد والردع والهيمنة، ويمكن أن تكون -وهذا ما لم يحصل بسبب غياب التقدم الاجتماعي والثقافي- قاعدة لتحلية مياه البحار وزراعة الصحارى والسهول والجبال وتوفير مصادر هائلة للطاقة تكفي لكل متطلبات الرفاه والتقدم.(33/11)
مجتمعات وثقافة المعرفة
تعود الأدوات والنظريات والمؤسسات التي تنظم الحياة المعاصرة إلى الثورة الصناعية؛ الدول الحديثة والدساتير والتشريعات، والمدارس والجامعات، والنظريات الاجتماعية، فعلم الاجتماع القائم يعود إلى المفكرين (اوغست كونت، إميل دوركهايم، كارل ماركس، ماكس فيبر، .. ) الذين شغلوا بالتحولات الكبرى التي صاحبت الثورة الصناعية والثورات السياسية، ولكنها نظريات ومعارف لم تعد كافية وربما غير ملائمة لفهم وتنظيم الثقافة، والمجتمعات الجديدة التي تتشكل حول اقتصاد المعرفة، وبدأت بالفعل تظهر تحديات ومآزق كبرى تجعل هذه المعرفة الهائلة والمتراكمة على مدى قرنين من الزمان شيئاً تاريخياً ربما يمضى إلى المتاحف مع الاحترام والتقدير، مثلها مثل السيوف والرماح، أو كتاب القانون في الطب لابن سيناء، أو نظريات وقوانين إسحق نيوتن في الفيزياء، ولذلك فإنه يتشكل اليوم نظريات "ما بعد الحداثة" في إعادة استيعاب لنظريات ومعارف "الحداثة" التي تشكلت في القرون الأخيرة حول الثورة الصناعية ومتواليتها السياسية والاجتماعية.
ونلاحظ اليوم سيادة وانتشار مفاهيم تعبر عن هذه التحولات وضرورات استيعابها من قبيل "ما بعد" و"نهاية" نهاية المكان، نهاية الجغرافيا، نهاية التاريخ، نهاية الدولة، نهاية الايدولوجيا، نهاية الكتاب، نهاية المؤلف، نهاية المدرسة، نهاية القومية، نهاية المدينة، نهاية العمل والوظيفة، نهاية الطبقة الوسطى، نهاية الوسطاء، نهاية الذاكرة. أو ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة، ما بعد السياسة، ما بعد النفط، ما بعد المعلوماتية، ما بعد الإنترنت. ومنها مصطلحات النفي، مثل: مصانع بلا عمال، ومدارس بلا مدرسين، مكتبات بلا كتب، وموظفون بلا مكاتب، أفلام بلا ممثلين، تعليم بلا معلمين، وهي مصطلحات يصفها الدكتور نبيل علي (كتاب الثقافة العربية وعصر المعلومات) بأنها ليست عشوائية ولكنها ذات دلالة وتداعيات كثيرة وعميقة.
ويعتبر عالم الاجتماع الفرنسي (جون بودريار) -والذي يعتبر من أهم المنظرين في مدرسة ما بعد الحداثة- أن وسائل الاتصال الإلكترونية قد دمرت العلاقة التي تربطنا بماضينا، وأنشأت حولنا عالما من الخواء والفوضى، ويرى (بودريار) أن القوى الاقتصادية التي شغل بها كارل ماركس لم تعد مؤثرة في تشكيل المجتمع، ولكن ما يؤثر في المجتمعات اليوم هو الإشارات والصور، والمعاني والدلالات تُستمد من تدفق الصور على نحو ما نشاهده في برامج التلفاز، حتى إن الجانب الأكبر من عالمنا قد غدا يمثل كوناً موهوماً ومصطنعاً نستجيب فيه، ونتفاعل مع صور إعلامية لا مع أشخاص وأحداث وأمكنة واقعية حقيقية، وقد غدونا نتأثر بـ"المشاهد" التي "تُعرض" علينا عن الأحداث والكوارث والمشكلات أكثير بكثير من تأثرنا بالمضمون الحقيقي لهذه الوقائع، وهكذا فإن الحياة بمنظور (بودريار) تحل وتذوب في إطار شاشات التلفاز.
ويقول (أولريخ) صاحب نظرية "مجتمع المخاطرة" إن المجتمع الصناعي بدأ بالاندثار مفسحاً المجال لمجتمع جديد تسوده الفوضى، وتغيب فيه أنماط الحياة المستقرة ومعايير السلوك الإرشادية، ويرى عالم الاجتماع الإسباني (مانويل كاستلز) أن مجتمع المعلومات المعاصر يتميز بظهور "الشبكات" و"اقتصاد الشبكات" والنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد اليوم إنما يقوم على ثورة الاتصالات العالمية، ولم يعد قائماً كما كان يفكر كارل ماركس على الطبقة العاملة أو على إنتاج السلع المادية، بل إنه يقوم على التقدم في شبكات الاتصال والحوسبة التي أصبحت هي الأساس لتنظيم عملية الإنتاج.
إعادة فهم التقدم
لنعد النظر مرة أخرى في مسار التقدم ونشوئه لنفكر بطريقة صحيحة في استنتاج الاستجابة الثقافية والاجتماعية الملائمة للتحولات أو للتقدم التقني والاقتصادي، وهو بالطبع ما لن تكفي المساحة المتبقية للتعبير لتغطيته واستيعابه، ولكنا قد نجد مفاتيح للفهم وأسئلة قد نواصل بها البحث عن الإجابة.
كان المجتمع الزراعي قائماً على القوة الجسدية والإبداع الفكري والعقلي حول قوة العمل الجسدية، فتشكلت تقنيات الزراعة والإنتاج حول المجهود البشري أو بالاستعانة بالحيوانات، وهكذا فإن المدن والقرى والطرق والصراعات والتشريعات والعلاقات تشكلت حول المكان والموارد المتاحة، فكانت المدن والمراكز الحضرية تنشأ حول الماء بصفته مصدراً للإنتاج والزراعة، وكانت الأهمية الثانية للمكان بحسب قدرتها على الدفاع والسيطرة، فكانت المدن والممرات والطرق والمواقع الإستراتيجية وكان ذلك سبب الصراع حولها.
كان البحث العقلي المتواصل عن تطوير الإنتاج والحماية في الدائرة المشار إليها من قبل يكشف عن موارد جديدة غير الطبيعة وما توفره للإنسان (الإبداع السلبي)، فوجد الإنسان موارد أخرى في التجارة وتبادل السلع والخدمات، والكتابة لتنظيم الموارد والإنتاج والعلاقات والمنجزات الاقتصادية والحضارية.(33/12)
وكان التحول من الأرض إلى الإنسان ومن الموارد الطبيعية إلى العقل والموارد الإنسانية بداية لتقدم جديد (المهارات والمهن وأدوات النقل كالسفن، والتجارة، وتوظيف الطاقة المتاحة في الطبيعة والكون، كالرياح والماء والنار،...) مساراً جديداً من الموارد والمجتمعات، وهكذا نشأت المدن والموانئ والشعر والفلسفة والموسيقى والفنون والمنجزات الحضارية العقلية والروحية.
كان التقدم قائماً على التمدن والزمن، فالمجتمعات والناس كانت في أشواقها الروحية والدينية تستخدم الموارد لتحصل على الوقت اللازم للتفكير والفلسفة والشعر والتعليم؛ لأنها دول وحضارات قامت أساساً على "الكلمة" فوجدت في اللغة مواردها وقوتها، وهذه الحكم والمعاني التي تحل في اللغة أنشأت هذه الحضارات والمنجزات.
المعاني والحكم تحل في اللغة، فيعود الإنسان إلى عقله بحثاً عن التقدم والموارد، فكان البحر بدلاً من اليابسة مصدراً للقوة والرفاه، والسفن وسيلة للنقل بدلاً من الإنسان والمواشي، وهذه الطاقة في الكون من الرياح والماء والنار تشكل موارد إيجابية جديدة تحتاج إلى العقل، وهكذا فإنها حضارات قامت على العقل واللغة.
وفي جانب آخر من المتوسط كانت الصورة وليست الكلمة هي وعاء الحكمة والمعاني، فكان الإنسان وفقاً للصورة يريد أن يكون إلهاً أو يؤنسن الإله ليشاركه الحكمة والقوة؛ لأن الصورة تجسد المعنى والفكرة، والكلمة تجعله رمزاً مجرداً، فكانت الفنون والحكم في الحضارة اليونانية والقوة والموارد قائمة على استحضار الإله وقهر الطبيعة مثل الإله، وعندما حلّت هذه الحضارة في المسيحية في القرن الرابع الميلادي أنشأت صيغة جديدة من القوة والمشاركة مع الإله والسماء والمسوّغة أخلاقياً بالدين، صحيح أن الصورة أنشأت الديموقراطية، فتجسيد الإله ومشاركته وتعددية الآلهة تؤدي بالضرورة إلى التعددية السياسية والثقافية والعقد الاجتماعي القائم على الجمهور والأغلبية، والتعددية في فهم الصورة جعلت من الشك والفوضى مصدراً للتقدم والبحث العلمي؛ لأن العلم يبدأ بالشك، ولأنه يبحث عن اليقين فبُنيت علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات على أساس من الحقائق المكتشفة والتي كانت لدى أصحابها تحدياً للآلهة وانتصاراً عليها.
هذه القوة المتأتية من الصورة والمؤدية إلى مشاركة الإله بأنسنته وتأليه الإنسان أنشأت ثقافة الاحتلال والتحدي والهيمنة والقتل بالجملة والاغتصاب والاستعباد، وفي لحظة من الاكتشاف وُظّف التقدم لأجل هذه الغايات.
كانت الآلة البخارية لحظة تشبه لحظة السامري عندما حصل معه كما يصف القرآن الكريم (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) كأن هذه الآلة هي أثر الرسول الذي جعل من البارود والطاقة المسيطر عليها مصدراً للقوة والموارد، فكان احتلال العالم بأسره، واستعباد مائة مليون إفريقي، واحتلال قارات جديدة لم تكن معروفة " للسامري الجديد"، ولكن الفينيقيين ثم العرب كانوا يعرفونها من قبل الميلاد بخمسمائة عام، ولم يتوقف تواصلهم معها، وأُبيد سكانها تقريباً، وكانوا لا يقلون عدداً عن سكان أوروبا في ذلك الوقت في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، واليوم فإن الملايين الخمسين من سكان تلك القارة وبعد خمسمائة عام يقلون عن الخمسين مليوناً، وصار الخمسون مليون أوروبي ألف مليون!
هذه المحاكاة الآلية للجسد والكائن الحي في العمل والجهد، والتي أنشأت الشاحنات والقطارات والجرارات والرافعات والحفّارات العملاقة أنشأت تقدماً اقتصادياً وتقنياً هائلاً، ولكن الثقافة المنظمة لهذا التقدم حوّلته إلى مصدر هائل وغالب للهيمنة والاحتكار والقتل والإبادة والإفقار، فالمدن التي أُبيدت بالقنابل النووية لم تكن خطراً عسكرياً أملت ضرورات الحرب إبادتها، ولكنها ثقافة ما تنظم هذه التقنية، وتدير هذا التقدم العلمي والاقتصادي، وهذا الاحتلال لدول وشعوب ليس مواجهة لخطر أو تهديد قائم أو محتمل.
وهكذا فإننا والبشرية جميعاً بحاجة إلى تقدم ثقافي واجتماعي ربما تعبر عنه كلمة واحدة، هي الجمال.
=============(33/13)
(33/14)
الصلابة الداخلية
د. عبد الكريم بكار 17/5/1428
03/06/2007
حين يحاول المرء صيانة ذاته وتطويرها، فإن من المهم أن يعرف الطبيعة الثقافية والحضارية للعصر الذي يعيش فيه، وهي طبيعة مختلفة عن طبائع كل العصور الماضية، وليس في هذا الكلام أي نوع من المبالغة، في الماضي كان الناس في بلدانهم وأماكنهم المختلفة يعيشون وفق معطيات عقدية وثقافية محلية وموروثة، ولهذا فإنهم كانوا يكيِّفون كل شيء في حياتهم وفق تلك المعطيات، ومنها سلوكاتهم ومواقفهم المختلفة؛ أما اليوم فإن على معظم الناس -وبعد ثلاثة عقود.. كل الناس- أي يتكيفوا مع أفكار ومفاهيم ومعتقدات قادمة من قارات أخرى، أو من أماكن بعيدة داخل قارتهم، وهذا يعني أن علينا أن نتوقع دائمًا أن نواجه ما يصدمنا، أو يشكّل امتحانًا حقيقيًا لنا؛ وعلى سبيل المثال فإن المواد الثقافية الواردة من الغرب مثل الأفلام والبرامج التلفازية والقصص والروايات والكتب والمجلات والدوريات الفكرية والسياسية.... تنشر أفكار ومفاهيم (ما بعد الحداثة) والتي تعني في جملة ما تعنيه تشجيع الانفلات العام من أي أصول أو ثوابت أو كليات أو مرجعيات، والتنظير للفكر السائل والنسبي، فالتطور في كل شيء ودون حدود، هو شرعة الحياة. كما أن فكر عصر (ما بعد الحداثة) يجنح إلى (التفكيك) فلكل مجال قيمه الخاصة به، ولا مجال للقيم العامة، وعلى سبيل المثال فإن (عالم الاقتصاد) يحكم بقيم من داخله، وهي القيم التي تؤدي إلى نموه وتعامل الناس فيه مع بعضهم على نحو لا يثير الكثير من النزاع، أما قيم الحلال والحرام وما يتصل بالربا والجشع والعقود الفاسدة وكل ما شاكل ذلك، فهي قيم وافدة من مجال المعتقدات الغيبية، ولهذا فإنها غير ذات قيمة. وفي مجال الجمال وإظهاره وتوظيفه والاستمتاع به... لا معنى لقيمة (الستر) والاحتشام لأنها ورادة من مجال آخر، على حين أن الإسلام يعلمنا على أن الستر يشكل أولوية أو إطارًا للجمال فالمرأة المسلمة تتزين في إطار الستر وعدم إثارة الآخرين، ولا أريد أن أستطرد في شرح مفردات عصر (ما بعد الحداثة) واستعراض التحديات التي تسببها لنا، لكن أقول: إن المسلم لم يمر في تاريخه الطويل بظروف وأوضاع ثقافية تستدعي منه اليقظة الفكرية والشعورية... كالظروف والأوضاع التي يمرّ بها اليوم، وهو يحتاج إلى درجة عالية من اليقين بصواب منهجه ودرجة عالية من الصلابة في التمسك بقيمه ومبادئه الإسلامية، وهذه الصلابة تتوفر له من خلال الآتي:
1- التصميم والعزم الأكيد على ألا يقبل أي نوع من المساومة على مبادئه، ولاسيما في مجال المال والأعمال، حيث إن عصر ما بعد الحداثة هو عصر محو المحرمات والمقدسات، والمستفيدون للعولمة يروجون لذلك بغية تجريد الناس من أي قيم يمكن أن تمنحهم التأبي والتمنع في وجه زيادة الأرباح وزيادة الاستهلاك والحراك المالي والاقتصادي عامة. الإنسان لم يكن إنسانًا بمكوناته الجسمية أو بصورته، وإنما بروحه ووجدانه وخُلُقه، ومن ثم فإنه لا يعادل خسارة المرء لنفسه شيءٌ سوى خسرانه للمبادئ التي يؤمن بها، وإن الذي يبيع دينه، ويعمل ضد عقيدته ورؤاه وقيمه، لا يصح أن يقال فيه: إنه حقق أي مكاسب أو نجاحات، يمكن أن يغبط عليها. وحتى لا يدخل في اختبار أي مساومة، فإن عليه أن يبتعد عن المجالات والمواقف المشبوهة، والمناطق الرمادية التي يختلط فيها الخير بالشر والحق بالباطل، كما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" (متفق عليه).
2- الصلابة الداخلية تعني كذلك أن يتخذ المسلم من مبادئه ملهمًا له ومحرِّكًا على مسرح الحياة وفي شأنه كله، كما يتخذ منها مرشدًا وموجهًا، فهو يُقْدِم ويبذل ويضحي في هدي تلك المبادئ، وهو كذلك يحجم ويتأبي ويقاوم في ضوئها وبحسب مدلولاتها، والحقيقة أنه لا يعادل صفاء العقيدة سوى صياغتها لسلوك صاحبها. إن المبادئ تظل هشة وغائمة واحتمالية ما لم تُدعَّم بالمواقف الصلبة، والحاجة إلى هذا شديدة اليوم لأن كثيرًا من المسلمين صار يعاني من ازدواجية بغيضة في أعماق شخصيته، فهو يعتقد أن الصواب في كذا وكذا، لكن تطلعاته وطموحاته ومساعيه تمضي في سياق مضاد! حين يتقاعس الناس عن المبادرة نحو أنواع من الخير، فإن المبادئ تستحث صاحبها على أن ينطلق ولو كان وحده، وحين يتدافع الناس في اتجاه الاستحواذ على شيء من متاع الدنيا، فإن المبادئ تدفع بصاحبها نحو الانشغال بشيء مختلف؛ فالمبادئ تلهم وترشد وتحفِّز، وتكبح... إنها فعلاً نظارة يرى المرء من ورائها الوجود، وقوة تحركه في تحقيق ما يراه!(33/15)
3- رجل المبادئ يبرهن على تمسكه بمبادئه من خلال تمحوره حولها، واعتزازه بها، على حين أن الذين لا تشكل المبادئ بالنسبة إليهم أكثر من تكميل شكلي أو ظاهري (ديكور) يذهبون في التمحور مذاهب شتى، فهذا يتمحور حول المنصب الذي احتلَّه، وذاك يتمحور حول الأسرة التي ينتسب إليها، وآخر يتمحور حول الثروة جمعها... إنهم جميعًا يعتزون بأشياء صنعها غيرهم أو أشياء يستعملونها بأيديهم... أما الذين يتمحورون حول مبادئهم فإن مصدر اعتزازهم هو تلك الأشياء العظيمة التي صنعوها لأنفسهم في أنفسهم! إن الحياة لا تكون ثرية وسعيدة وقيِّمة إلا إذا كان في قلوب الذين يحيونها معان ورمزيات يُضحّى بالحياة نفسها من أجلها، وهذا هو الدرس البليغ الذي يلقيه علينا الشهيد!
=============(33/16)
(33/17)
الثقافة الوافدة ومعرض الكتاب بالرياض
الخطبة الأولى
الحمد لله علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعلى من شأن العلم ورفع منزلة العلماء فقال تعالى { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان أول ما نزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }، وأوحى إليه ربه { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }اللهم صلي وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارضى اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين 0أوصيكم ونفسي - معاشر المسلمين - بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً 0
إخوة الإسلام :
حين يكون الحديث عن العلم والمعرفة والكتاب ومعارضه فلابد من توطئة تقول : نحن أمة العلم ومحضن العلماء، فمنذ أشرق نور الإسلام بـ (إقرأ) والمسلمون وفي مقدمتهم صلى الله عليه وسلم يقرأون لكن بإسم ربهم لا بإسم (يغوث، ويعوق، ونسراً) وغيرهم ممن أضلَّ كثيراً 0للقلم ظلُ في حضارتنا، فبه عُّلّم الإنسانُ ما لم يعلم، وبه أقسم الباري تعظيماً وتأكيداً {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } 0العلم زادُنا ومحل دعائنا { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } والعلماء الربانيون تيجان ورموز فوق هامتنا { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وحين يكون الحديث عن الثقافة فنحن من وعى الثقافة وحررها ونقاها ثم صدَّرها، في وقت كانت الثقافة نصوصا تحفظ أو ممارسات خاطئة تقسم الشعوب طبقاتً وتورثها بهذه الطبقيةٍ ظلماً وعدوانا وإرهاباً وإقصاءً 0لقد شعت أنوارُ حضارتنا فأضاءت الكون بنورها وتنفَّس المظلومون والمضطهدون الصُعداء على أفياء عدلها وأصالتها 0نحن أهلُ الثقافة لكنها الثقافةُ الأصيلة التي تحفظ للفرد كرامته، وللمجتمع أمانة، وللحاكم والمحكوم حقوقهما لم تكن ثقافتنا سلبيةً أو نصوصاً جامدة، بل حدت بنا إلى الإبتكار والتجديد والإنتاج والتحفيز، والطموح في كل ميدان 00 لكن {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } 0كانت هذه الثقافة الإيمانية الأصيلة تفسر لنا كل شي في هذا الكون بصدق منطق، وإعتدال نطره وشمول في الرؤية، لا تناقض ولا حيرة، بل هداية ويقين {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } 0وسارت هذه الحضارة وانتشرت هذه الثقافة في كل مكان، ولا تزال مكتبات العالم كله تحتفظ بمخطوطات علمائنا وتشهد على إنجاز حضارتنا وما يزال العلماء إلى عصرنا يحققون في هذا التراث الضخم، ويساهم المسلم وغير المسلم في تحقيق هذا التراث، ويشترك غير المسلمين مع المسلمين في الإعجاب بهذا التراث الضخم 00ولئن لم يسلم هذا التراث الإسلامي من الاعتداء والغزو، والتحريف والتشكيك فتلك سنه من سنن الله في التدافع والصراع بين الحق والباطل، وبين أهل الإسلام وملل الكفر 00ولكن الداء العضال حين يتطاول على هذا التراث الأصيل من أبناء الإسلام، مدعياً التجديد فيه، أو راكباً قطار الآخرين، أو متدثراً بحرية النقد، وهم إنما يرومون التشكيك في الأصول والتطاول على الثوابت، ونشر الفكر المنحل، وترويج الثقافة العفنة 00 ومن هنا صدرت كتبٌ في الإلحاد والزندقة وكُتبت رواياتً في الجنس تدعو لإشاعة الفاحشة في الذين ءامنوا وأُلفت كتبٌ في الأدب تعتمد الحداثة الغربية، وتحطم الأطر وتتفلت من كل قيد 00 حتى حُشيت بسب الدين والسخرية من القيم، بل تطاولت على رب العالمين تعالى وتقدس 0وألُفت كتب أخرى في التاريخ تطعن بخير القرون، وتقرأ التاريخ قراءة مادية نفعيه، وتسلط الضوء أكثر على السقطات، وتهمل الشامخات، وتدعي تحرير التاريخ أو إنقاذ التاريخ 00 وهي تطعن فيه بالصميم !!وهكذا الأمر في علم الاجتماع أو التربية 00 أو نحوها من العلوم الإنسانية التي شوهها أدعياء الإصلاح، ومن يسمون أحياناً بالنخب المثقفة 00 وللحق والعدل فثمة كتابات ومؤلفات في هذه الفنون تعتبر أنموذجاً للمنهج العلمي الرصين، وللعزة بالإسلام وأهله 0
إخوة الإسلام :(33/18)
ولئن كان هذا الركام الثقافي المستغِرب واحدة من مشكلات الأمة ومعوقاتها عن النصر إذ هو بوق للأعداء ومبشر بحضارتهم وداع لقيمهم وتلك الحضارة المبشر بها هي اليوم التي تحاصر المسلمين وتعيق تقدمهم، بل تقتل شعوبهم وتستعمر بلادهم وتنهب خيراتهم ؟! أقول لئن كان هذا الفكر وتلك الثقافة معوقاً لنهوض الأمة - وهذا في حد ذاته بلية - فالبلية الأعظم حين يُسوق لهذا الفكر، وتروج هذه الثقافة في بلاد المسلمين 0أجل لقد استنكر الناس عامة وأهل العلم والمثقفون بخاصة ما حدث في معرض الرياض للكتاب (الأخير) حيث حملت قوائمه كتباً في الإلحاد والزندقة، وبيعت رواياتٌ تحكي الدعارة وتروج للمجون وتكشف للأحداث والنساء صنوف الممارسات الجنسية الشاذة 00وضعفت الرقابة في المعرض إلى حدٍ بيعت فيه محرمات دولية، وأعتدى على مقام الألوهية والنبوة، ولم تكن سياسة الدولة وأنضمتها بمنأى عن النقد 00 حيث شملت أروقة المعرض على كتبٍ تناهض سياسة الدولة 00 وضج الناس، واستنكر أهل العلم، ووصلت قضية المعرض إلى قبة مجلس الشورى، وطالب عددٌ من أعضاء المجلس بمساءلة الوزارة المشرفة على تنظيم المعرض، ومحاكمة مسئوليها إلى أنظمة الدولة ولوائحها التي تنص على احترام القيم الإسلامية وتؤكد على محاربة الفكر الفاسد، وتجعل من الشريعة الإسلامية أساساً للحكم والتحاكم، ولا يزال السؤال وارداً على وزارة الثقافة والإعلام كيف سمحت لعدد من الكتب الممنوعة والمناهضة لسياسة البلد وتوجهه أن تعرض في معرض الرياض الدولي للكتاب ؟ ولا ندري ماذا سينتهي إليه طلب أعضاء مجلس الشورى حضور الوزير للمساءلة ؟ إن دولة ترعى المقدسات الإسلامية، وتحمي الحقوق المشروعة حرية بأن تساءل أي مسؤول يتجاوز هذه السياسة، وأن تضع حداً لمن يتجاوز الأطرا لشرعية والنظامية 0 إن بلادنا موئل الوحي ومهبط الرسالة، وقبلة العالم الإسلامي، لا ينبغي بحال أن يخرق سفينتها من يتجرأ ثم يعتذر، ثم تتكرر الأخطاء وتتجاوز الأخطاء المعرض إلى وسائل الإعلام التي خرجت عن إطار السياسة الإعلامية العليا للدولة 00 ولا يزال أهل العلم والرأي وأصحاب الشورى وأساتذة الجامعات وغيرهم يتطلعون إلى وقفة تصحيحية من الدولة - وفقها الله - تعيد الحق في نصابة، وتردم فجوة صنعها ويصنعها المتعجلون في تغريب البلد 0 إن هؤلاء المتعجلين - في التحديث - كما يرون، يزرعون تعجلاً آخر، ويهيأون أرضاً للغلو، ويتيحون فرصاً للإرهاب ليست بلادنا بحاجة إليها 00 بل طالما عانت من ويلاتها 0 إن بيئة الغلو تنمو حيث يكون الغلو الآخر، وأبرز وسائل مقاومة الغلو والتطرف محاربة الفساد الفكري، وسد منافذ الإلحاد والزندقة 0وإذا رعت بلادنا - وفقها الله للخير - مؤتمرات أو ملتقيات لصحة البيئة 00 فلئن ترعى صحة الفكر وسلامة المعتقد من باب أولى، وصحة البيئة الفكرية والقيمية ركن مهم في سلامة البيئة وصحتها بمفهومها الأعمق والأشمل 0 وإذا كانت لبلادنا - بلاد الحرمين - سبق مشكور في الإحتجاج على إساءة الدانمرك للإسلام ونبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين فمن غير المعقول أن ترضى أن يساء للدين والقيم والإسلام والمسلمين بل ويتطاول على رب العباد 00 في أرضها 00 وعبر وزارة من وزاراتها 0 لقد استنكر عدد من مسئولي الدولة ما جرى في معرض الرياض من عبث في الثقافة بإسم الثقافة، ومن ترويج للكتب الساقطة والممنوعة بإسم الحرية 00 ولا يزال الناس بانتظار الخطوة الأخرى لهذا الإستنكار 0 أما إعتراف المسؤولين بوزارة الثقافة والإعلام بوجود تجاوزات في المعرض، وحصول الأخطاء 00 فهذا وحده لا يكفي 00 فكيف يعالج الخطأ وقبل ذلك كيف ومن المسؤول عن هذا الخطأ ؟ 0 إن الناس من الوعي بدرجة لا يكفي فيها مجرد الإعتراف والإعتذار البارد بل لا بد من خطوات عاجلة لما حصل، وخطوات مستقبلية تضمن عدم تكرار الخطأ 0
أيها المسلمون:(33/19)
هل يمكن إعتبار ما وقع في معرض الرياض الدولي للكتاب زلة أو خطاءً غير مقصود ؟ وهل يعد المعرض إستثنائية في التجاوز لم يسبق لها مثيل ؟ إن المتأمل بعمق لما يجري في ساحتنا الفكرية والثقافية يرى أن المعرض حلقة في سلسلة - يروم أصحابها تغريب البلد والتفلت من أنظمته وسياساته، عبر عدد من الأساليب والآليات يطرح ذلك عبر وسائل الإعلام المختلفة لوجود عدد من المتنفذين فيها من أصحاب هذا التوجه، ويمارس عبر ملتقيات إقصادية، وإعلامية - ليس (منتدى جدة) الإقتصادي إلا واحداً منها، وتجاوز ذلك إلى لقاءات مشبوهه مع الآخرين والله أعلم بما يدور بهذه اللقاءات ؟ إن ما وقع في المعرض الدولي للكتاب في الرياض سبقه تنظير وتخطيط حيث أقيمت ندوة في المعرض السابق عن الرقابة على المطبوعات، وكان الحديث مركزاً وجريئاً على تجاوز هذه السياسة في عالم اليوم المنفتح، وأنه لا يمكن الرقابة في زمن التحرر والإنفتاح 00 وجاء هذا المعرض ليكون خطوة عملية لهذا التنظير والتوجه، ولا ندري ماهي الخطوة الأخرى التي يفكر بها القوم مستقبلاً ؟ إن من المفارقات العجيبة والتناقض المخزي لأصحاب هذا الفكر 00 أن تبحَ حناجرهم وتكاد تجف أقلامهم من تحذير شبابنا عن التأثر في محاضن حلق تحفيظ القرآن الكريم والمراكز الصيفية 00 ونحوها من مناشط ترعاها الدولة ويشرف عليها أخيار مؤتمنون كذلك نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً - ثم ترى هؤلاء لا يرحمون الشباب ولا يقلقون عليهم وهم يقعون فريسة لهذه الكتب الإلحادية والإباحية والشذوذ الفكري والجنسي والاختراق الثقافي ؟! ترا أي أثر ستصنع هذه الثقافة الوافدة في عقول الفتيان والفتيات وما نوع هذه الشريحة من المجتمع التي ستتغذى على هذا الفكر، وستخرج علينا غداً ؟ إننا مؤتمنون على فكر الشباب والشابات وأخلاقهم وقيمهم، وإذا تسارعت الدول والأمم على صياغة عقول شعوبها على فكر الدولة وقيمها - وقد تكون قيماً بالية - أفلسنا أولى أهل الإسلام أن نصوغ عقول وأفكار شعوبنا على هدى من شريعة الله وهدى صلى الله عليه وسلم ؟ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }0 إننا - أهل الإسلام - لا نستنكر (الحرية) بل هي قيمة كبرى في إسلامنا وحضارتنا لكنها الحرية المنضبطة بضوابط الشرع وليست على حساب القيم والأخلاق والثوابت والمحكمات وفي الدين 00 إن الحرية المجردة من الضوابط عبث ومجون وفساد وإعتداء على الآخرين ولا تعارض عندنا بين الحرية المكفولة، (والرقابة) المهذِبة 00 فلتك أعني الرقابة مبدأ مقر في شريعتنا - وما ضر عمر - ومن هو عمر رضي الله عنه - و صلى الله عليه وسلم يوجهه ويراقبه وينهاه عن النظر في (التوراة) 0 وإذا نهي عمر عن النظر في التوراة، فكيف الحال إذا عرضت أو بيعت التوراة والإنجيل في معرض الكتاب الدولي، على شباب أغرار أو فتيات ناشئات ؟ أو حتى على كهول وكاهلات ؟َ! إنها واحدة من هنات وتجاوزات المعرض ؟ بل هي إحدى الكُبر ؟ . ومن المقرر عند علماء الملة أن ليس كل علم نافع، بل في العلوم ما يضر، وما يحسن حجبه عن عامة الناس، ولذا حين كانت حركة الترجمة في زمن المأمون العباسي ونقل وترجم فيها الغث والسمين، لم تكن محل رضا العالِمين، ولم تورث الأمة تقدماً قدر ما أورثته تفرقاً وفتنه، يقول الذهبي رحمه الله، وحين استخلف المأمون على رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته، وبزغ فجر الكلام، وعربت حكمة الأوائل، ومنطق اليونان، ونشأ للناس علم جديد مرد مهلك لا يلائم علم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين، قد كانت الأمة منه في عافية وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق القرآن إلى إن يقول، إن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف وتقدم عقول الفلاسفة ويعزل منقول إتباع الرسل، ويمارى في القرآن ويتبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة، فالفرار قبل حلول الدمار وإياك ومضلات الأهواء، ومجارات العقول، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (تذكرة الحفاظ 1 ـ 328 ، 329) ويحذر الذهبي في مواطن أخرى من كتبه عن بعض العلوم ويقول : والعلم الذي يحرم تعلمه ونشره علم الأوائل، والإهيات الفلاسفة وبعض رياضاتهم بل أكثره، وعلم السحر ثم يذكر من ذلك الشعر الذي يعرض فيه إلى الجناب النبوي، فالعلوم الباطلة كثيرة جداً فالتحذر 00 ثم يرى الذهبي أن الأحاديث المكذوبة الواردة في الصفات لا يحل بثها إلا للتحذير من إعتقادها، وإن امكن أعدامها فحسن (السير 10 ــ 604) 0ترى ماذا سيقول الذهبي لو أبصر ما فوق ذلك ؟ إنها جنايات على الفكر والمعتقد، وإختراقات أخلاقية وأمنية وإنقلابات فكرية، وغزو ثقافي، واجب العقلاء وأهل الغيرة الإسلامية، والوطنية الصادقة أن يتصدوا لها، ويكشفوا أستار المخططين والمنفذين لها . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية(33/20)
إخوة الإسلام : فقد نشرت عدد من الصحف المحلية أن المعرض القادم سيكون في القصيم وستفتح أبوابه من الثالث والعشرين لهذا الشهر ــ ربيع أول ــ ولمدة عشرة أيام، وأعلنت المسؤولة في الجهة المنظمة للمعرض أن جميع الجهات ودور النشر التي شاركت في معرض الرياض ستشارك في هذا المعرض، وتحت مظلة وزارة التعليم العالي، وأن الأخطاء التي وقعت في معرض الرياض سيتم تلافيها في معرض القصيم 00 (عكاظ ــ الثلاثاء 23 ــ 2 ــ 1428هـ) 0 ونأمل أن تكون أول خطوة تتخذ في سبيل تلافي أخطاء المعرض السابق أن تمنع دور النشر والمكتبات التي ضبطت عليها مخالفات وسجل عليها تجاوزات لسياسة البلد وقيمه كما نأمل من المسؤولين عن رعاية أو تنظيم هذا المعرض أن يرفعوا سقف المراقبة حتى لا تتكرر الأخطاء السابقة وتعود بلبلة الناس وفتنتهم . إن مسؤوليتنا جميعاً تجاه بلادنا وفكرنا وأمننا كبيرة، فالمسؤول بحكم صلاحيته والعالم بما أوتمن عليه من العلم، والمثقف والمفكر بحكم معرفته يرصد ويسجل والشاب والفتاة لا بد أن يحتاطوا ويتبصروا ماذا يقرأون والولي مسؤول عن حماية بيته من الوثات الفكرية والجميع عليه مسؤولية الإحتساب على المكتبات ودور النشر التي تبيع أو تعرض كتباً لا تتفق وثقافتنا وسياسة بلادنا 00 ومن أصر من هذه المكتبات والدور قوطع وحوصر إقتصادياً حتى يكون عبره للآخرين 0{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }0 اللهم إحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه
==============(33/21)
(33/22)
الوهم الممتدُّ ..والشعارات المتساقطة!
د. عدنان النحوي 11/5/1428
28/05/2007
إنَّ الأحداث المحزنة التي وقعت في غزة خلال الأسبوعين الماضيين، والاقتتال بين حماس وفتح قتالاً عنيفاً، وتبادل الاتهامات في وسائل الإعلام، واستفزاز كل فريقٍ للآخر، ممَّا أدَّى إلى سقوط كثير من الضحايا، وفتح المجال لإسرائيل أن تستفيد من ذلك فائدة كبيرة! فساهمت في قتل الفلسطينيين بطائراتها وصواريخها، وأضرَّ ذلك كلّه بقضية الإسلام وقضية فلسطين ضرراً كبيراً. وكأنَّ جميع الأحداث السابقة لم تكن كافية لتقدم للطرفين الموعظة والعبرة!
لا شكَّ أنَّ "اتفاق مكة" أوقف القتال الدائر بين الفلسطينيين أنفسهم في صراع ملتهب جنونيّ على السلطة، على الحكومة، على الدولة، على شيء ما، سمِّه أنتَ ما شئتَ، ولكنني أُسمِّيه "الوهم الممتدّ، والشعارات المتساقطة"!
إن التنافس بين الفلسطينيين دفع الأمور إلى أن تتجه إلى صراع بين الشعارات حين لا يُبْحث عن نهج ولا خطة، وسرعان ما تتغير الأهداف و يُطوى شعار التحرير، و كأنَّما التنافس هو بين شعارات لا يُرجى منها إلا اكتساب تأييد الجماهير وحشد الأنصار لتلك الشعارات! ثمَّ الصراع والاقتتال!
ولذلك لم يكن عجيباً أن يوقف اتفاق مكة نزيف الدم الفلسطيني، بعد أن أدرك الجميع خطورة ما كان فيه الفلسطينيون من فتنة كبيرة لا تُحمد عقباها.
ولكن هل يُغيّر اتفاق مكة ما تخفيه الصدور، ويعيد القلوب إلى خشية الله والتوبة الصادقة!
لقد كشفت الأحداث الأخيرة والسابقة ألواناً متعددة من نواحي الخلل في واقع المسلمين. ولا نستطيع هنا أن نعرض ذلك كله، ولكن يجب الإشارة على الأقل إلى نقاط سريعة. فقد اندفعت الأحداث كي يموت فيها التناصح فلا يقبل هذا النصيحة ولا يقبلها ذاك، وتثور العصبيات والأهواء في لهيب متفجّر، مما نراه في أكثر من موقع في العالم الإسلامي!
والأمر الأخطر هو أن التنافس دفع الصراع إلى أن يتجه إلى مواقف غير شرعية لا ترضي الله سبحانه وتعالى، ولا تُرَاعى فيها حُرْمة دم المسلم ولا حرمة عرضه أو ماله، وقد يسقط بعضهم في وحول الكذب!
فمن أين يأتي النصر في هذه الأجواء؟! وما هي الأيدي الخفيَّة التي تحرّك الأحداث وتدفعها إلى هذه الأجواء المظلمة؟!
أما بالنسبة للدول الأخرى الكبرى، وبالنسبة لإسرائيل، فقد تبيّن لنا بعض ملامح أساليبهم، فهي لا تنظر إلى قضية فلسطين كقضية مستقلة معزولة عن سائر قضايا منطقة الشرق الأوسط أو قضايا العالم اليوم وأمس وغداً. إنها تضع خطتها ونهجها وسياستها لجميع القضايا على ترابطها في ميدان المطامع والجشع، وعلى تفرد كل قضية بخصائصها المتميزة، خطة ونهج يجمعان الحالتين في آن واحد.
ونحن المسلمين نرفع دويَّ شعاراتنا لكل قضية منعزلة عن سائر القضايا، كلُّ قضية يُشْغَلُ أهلها بها وحدهم، وربما وجدوا بعض العواطف من هنا وهناك. ولكن في جميع قضايا المنطقة لا يوجد لدى أبنائها وأصحابها نهج مدروس أو خطة محدّدة، فحسبهم الشعارات، ولا يوجد نهج واحد جامع، ولا هدف واحد يتجمعون كلُّهم إليه.
الدول الكبرى تملك القوّة المادّية الحقيقية، قوة السلاح المدمّر، قوة الأجهزة المتعدّدة المتشابكة، قوة المؤسسات، قوة العلم المادي والصناعي، يُضاف إلى ذلك ما لديهم من عملاء ارتموا في أحضانهم، كما تجد في أفغانستان والعراق وفلسطين عملاء من أناس فقدوا الثقة بأمتهم، وفقدوا قبل ذلك إيمانهم بربّهم وخالقهم الله الذي لا إله إلا هو.
ولقد انتشر في الآونة الأخيرة تعبيرات ومصطلحات لا ندري كيف هبطت علينا دويّاً إعلاميّاً هادراً. ولعل من أبرزها: "احترام الآخر" ، أو "الاعتراف بالآخر"، دون أن ندري من هو الآخر، إلاّ أن الحق الذي يجب أن يكون هو أن يعترف الآخر بنا، ويحترمنا الآخر، فنحن المعزولون الذين لا يُعْترف بنا ولا بحقوقنا ولا بهويّتنا التي تنازلنا عنها طواعية. وقِسْ على ذلك سائر المصطلحات التي لا مجال لمعالجتها في هذه العجالة كالديموقراطية، والعلمانية، والعولمة، والمرأة وغير ذلك!
الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا ازدادت جرأة في الدعوة إلى ما تزعمه من ديموقراطية كاذبة وعلمانية باطلة وعولمة قاتلة. ازدادت جرأة في دعوة المسلمين إلى باطلها، فاخترقوا صفوف المسلمين الممزَّقة، يدعون ويجهرون ويُلحِّون، ويضعون من أجل ذلك إمكانات ضخمة، إمكانات إعلامية، وماليَّة، وعلمية، وبشريَّة، وعسكرية، ثمَّ يُزيّنون ذلك كله بزخرف كاذب، ووعود كاذبة، ومكر وخداع قد سقط فيه الكثيرون. ومن أبرز مظاهر وسائلهم وأساليبهم ثلاثة أمور:
أولاً: أنهم يسيرون خطوة خطوة يتبعون بها الشيطان وخطواته، وقد نهى الله المؤمنين أن يتبعوا خطوات الشيطان:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور:21](33/23)
وثانياً: أنهم لا يتعجّلون ولا يضجّون ولا يُغرقون أنفسهم بالشعارات، ولكنَّ عملهم هادئ صامت، يصبرون ويتربّصون ويكيدون.
وثالثاً: أنهم يفكرون تفكير الشياطين، ويخططون تخطيطاً مادياً معزولاً عن الإيمان والدار الآخرة، ويمضون على نهج مدروس لديهم، إلاّ أنه معزول عن نور الإيمان وهداية الرحمن. فيكسبون جولات على قَدَرٍ من الله وسُنن لله ماضية وحكمه بالغة، حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر!
أما نحن فقد منعنا التفكير عن أنفسنا، وإن فكرنا فنفكِّر مثل تفكيرهم المادي، لنؤمّن مصالح للدنيا. وقلَّما نلجأ إلى الله لجوءاً حقيقياً مستكملاً شروطه الإيمانية الربانية، لنفكّر تفكيراً إيمانياً! ولكنَّ تفكيرنا المشَتَّت المضطرب مزّقنا، وادّعاءَنا الإسلام دون الالتزام فرَّقنا!
ومن هنا نستطيع أن نتلمس أهم آثار تخطيط الشياطين ومكرهم في واقع المسلمين اليوم، مما يمكن إيجازه بنقاط سريعة واضحة صريحة:
1. أثاروا الفتن والأحزاب والأحقاد في كل بلد إسلامي، ثمَّ حرَّكوا هذه القوى ليقاتل المسلمون بعضهم بعضاً، والأعداء ينظرون فرحين. انظر ماذا يحدث في أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين ودارفور وأندونسيا وغيرها. لم ينجحوا بذلك لبراعتهم فقط، ولكن لهواننا وضعفنا وضعف التزامنا بأمر الله.
2. مزّقوا العالم الإسلاميّ إرباً إرباً بعد سقوط الخلافة الإسلامية، ولم يجدوا صعوبة في تمزيقنا، وربما وجدوا من بعض المسلمين إقبالاً وتأييداً.
3. أثاروا جميع أنواع العصبيات الجاهلية بالمكر والإغراءات وشراء النفوس والإعلام، وأثاروا العصبيات العائلية وألقوا بين المسلمين ما يتنافسون عليه ويتخاصمون، وأشغلوهم بما يصرفهم عن قضاياهم الرئيسة.
وقِسْ على ذلك سائر العصبيات. وقد نجحت خططهم في جميع البلدان التي مكروا بها، ثمَّ امتدَّ مكرهم هذا إلى بلدان أخرى، ومازالوا ماضين يُثيرون كلَّ غرائز الحقد والتحاسد وحب الدنيا حتى جعلوا المسلمين يلهثون وراءها، فما وجدوا إلاّ سراباً بعده سراب!
لقد أصبحوا وكأنهم هم يديرون قضايا العالم الإسلامي، ويظنُّ بعضُنا أنه هو الذي يدير دون أن يشعر أنه يُدار. ويُسَرّ بعضنا بظهوره على الفضائيات وإلقاء الخطب النارية والشعارات الحماسية، ويُخْدَعون بكثير من أسباب الزخرف الذي يُلْقى إليهم، ثمَّ يكتشفون الحقيقة بعد فوات الأوان، ولات ساعة مندم!
بمراجعة تاريخ القرنين الأخيرين نلاحظ بوضوح أن الأخطار على العالم الإسلامي آخذة بالازدياد، وأن الغزو يشتدُّ وتتنوّع أساليبه، وأنَّ الوهن في العالم الإسلامي يشتدُّ أيضاً، وأشدّ مظاهر الوهن هو تكوُّن جماهير ارتبطت قلوبها بالغرب وفكره وأدبه وعاداته وتقاليده ولغته، حتى أصبح الملايين من المسلمين لا يعرفون لغة قرآنهم، فهم لا يقرؤونه، وأصبحوا لا يشعرون بضرورة دراسة العربية وتدبّر القرآن والسنَّة باللغة التي جاءا بها من عند الله ورسوله. بل أصبحنا نحن نشجعهم على ذلك، ونقدم لهم التسهيلات ليبقوا على لغتهم، نترجم لهم معاني القرآن الكريم، وخطب الجمعة، والسنَّة، ولا بأس في ذلك كخطوة أولى، ولكننا لا نعرّفهم بوجوب دراسة اللغة العربية التي أصبحت منذ نزول الوحي بها لغةَ الإسلام والمسلمين، ولغة الإيمان والتوحيد، ولم تعد لغة شعب محدود. إنها أصبحت لغة الإنسان؛ لأنَّ القرآن جاء للعالمين.
ونلاحظ كذلك أن التخطيط لزيادة تمزيق العالم الإسلامي يزداد قوّة وشراسة، وأنَّ التخطيط لإثارة جميع القوى المناهضة للكتاب والسنَّة ما زال مستمرّاً، وأنَّ من المسلمين من يقع في شرك هؤلاء وهؤلاء.
ويمكن أن نحدّد مصادر الخطر اليوم على العالم الإسلامي بالنقاط التالية:
1. إسرائيل ومخططاتها التوسعية ما عُلِمَ منها وما خفي.
2. العالم الغربي الذي ما زال يمدُّ أطماعَه ومكرَه وزحفَه، وتمتد خططه ومكره.
3. الذين يحملون شعار الإسلام، ولا يؤمنون بالكتاب والسنَّة كما نزل بها الوحي الكريم، ويحاربون الإسلام سراً وعلانية.
4. القوى المنافقة في قلب العالم الإسلامي، على تعدّد أشكالها وتنوّع ولاءاتها واختلاف وسائلها.
5. ضعف العالم الإسلامي أو معظمه من حيث الإعدادُ والنموّ العمليِّ والصناعيّ. لقد اهتم الكثيرون بالأخذ عن الغرب أشكال الملابس وزينتها ونماذجها، والأغاني والرقص، والتفلّت الجنسي تحت شعار الحريّة، وشعر التفعيلة والنثر، والحداثة ومذاهبها، ولم يحرص هؤلاء على أخذ العلم الحقيقي والصناعة وأسباب القوّة لأمتهم، وإنما أحضروا، وحملوا كل ما يوهن الأمة ويُمزِّقها.
من هذا العرض الموجز السريع، ومن خلال هذا البحر المتلاطم من الأخطار، نعود إلى قضية فلسطين وواقعها اليوم.(33/24)
إنَّ جميع الآمال والأحلام التي حملناها خلال أكثر من ثمانين عاماً تلاشت أو كأنَّها تتلاشى. فبعد أن كانت القضية قضية الأمة المسلمة، أصبحت من خلال مخططات إجرامية قضية الشعب الفلسطيني وحده، ليواجه أقوى دولة في المنطقة وحده، ليواجه الدولة التي تراجعت كل الدول العربية عن مواجهتها، بل إنَّ بعضهم ارتبط معها بتبادل التمثيل السياسي، وبعضهم الآخر يبدو أنه على الطريق، وليواجه الواقع الدولي الذي يقف صفاً متراصاً لحماية دولة اليهود.
في الوقت الذي كان فيه دويّ شعاراتنا وضجيجها على أشدّه حماسة وتهديداً ووعيداً لإسرائيل، كانت إسرائيل تعمل بهدوء في مخططاتها، حتى امتدَّ نفوذها على جزء كبير من العالم الإسلامي، دون ضجيج ولا صراخ، وامتدت مساحتها في فلسطين كذلك.
ودولة اليهود حسب مقررات هيئة الأمم المتحدة كانت مساحتها تقريباً 60% من أرض فلسطين، أما المساحة المقررة للفلسطينيين 40%. هذا كان سنة 1947م في قرار التقسيم. أما اليوم ، فمساحة دولة اليهود تزيد عن 90% من أرض فلسطين، ومساحة الأرض التي يُزْعَم أنها ستقوم عليها دولة للفلسطينيين هي بحدود 9-10% من أرض فلسطين، هذا بعد قيام ثلاث انتفاضات، تولى الإعلام العربي وغير العربي تغذيتها، وجميعهم يعلم أنه لا قدرة للفلسطينيين على إزالة دولة إسرائيل، كما كان شعار جميع الفصائل، وصفَّق الناس وهاجوا وماجوا لتلك الشعارات، وعُقدت الندوات والمؤتمرات وامتلأت الصحف، وضجَّت المهرجانات، ودارت الأناشيد، وجُمعت مليارات الدولارات، وطاف الناس هنا وهناك في حماسة عالية. ولكن لم يسأل أحد من الفلسطينيين ولا من الفصائل، ولا من الأحزاب، ولا من العرب، ولا من المسلمين، لم يسأل أحد أبداً: يا قوم هذا شعاركم فما هي خطتكم لتحقيقه؟!
ثمًَّ بدأ التنازل شيئاً فشيئاً عن الشعارات: فكانت المطالبة بدولة عند حدود سنة 1967م. ثمّ جاءت المطالبة بحكومة وحدة وطنية بعد أن لم تستطع الحكومة القائمة تحقيق أيّ شيء من الناحية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية واختفى شعار الإسلام، وحلَّ محله شعار الديموقراطية والانتخابات التي شغلت الناس وصرفتهم عن قضيّتهم، وأثارت الفتنة بينهم، وأشعلت القتال بينهم بعد ذلك، ودفع هذا الشعب الفلسطيني الذي صفّق طويلاً لهؤلاء ثمَّ لهؤلاء، ثمناً غالياً من الجوع والحرمان والحصار الدولي المدمر، والتقتيل والتدمير والسجون!
ثمَّ بدأت مرحلة: دولة الوحدة. وتوزّع الناسُ يطوفون الأرض يتوسّلون إلى الدول من أجل الاعتراف بدولة الوحدة الوطنية التي لم تتكوّن بعد، ورفعِ الحصار عن الشعب الذي لم تعُدْ سواعِدُه ولا أكفّه ولا حناجره قادرةً على الهتاف والتصفيق، فحسبه أن يَسْكُبَ الدموع على قتلاه وضحاياه وعلى أطفاله، وعلى جوعه، وعلى مزارعه وبساتينه وثرواته!
لا بدَّ من وقفة صريحة هنا. لقد حدث تحوُّل كبير في الشعارات، وخاصة في وسائل الإعلام، حيث يظهر الدعاة المسلمون، وقد اختفت مصطلحات الإسلام عن ألسنتهم، وحلّت مصطلحات الديموقراطية والعلمانية وأمثالها، و أصبح الجميع ديموقراطيين. ألم يكف أن يقول داعية كبير في مقال له كبير: "نحن مع الديموقراطية بجميع أشكالها ومعانيها". لقد قالوا قبل ذلك مثل هذا عن الاشتراكية وتغنُّوا بها، فما نالوا خيراً منها ولا من أربابها. واليوم، مهما تغنُّوا بالديموقراطية فلن ينالوا منها ولا من أربابها خيراً، إلاّ زيادة المكر والكيد والكبر والإذلال والتدمير والعدوان. كان الشعار: "فلسطين ملك للمسلمين ومسؤولية المسلمين جميعاً"، ثمَّ اختفى هذا الشعار وحُصرت القضية بالفلسطينيين.
هذه الدولة التي يصارعون من أجلها، ويتصارعون من أجلها، ويَقْتُلون أنفسهم من أجلها، هذه الدولة على رُقْعة لا تزيد عن10% من مساحة أرض فلسطين، لا يوجد فيها أيُّ مقوّمات اقتصادية أو علمية أو فنية أو عسكرية لتقيم دولة، ولا حدود لها!
إنها فتنة وباب إشغال للمسلمين حتى يتابعوا تراجعهم وتنازلهم، ثمَّ لا ينالوا شيئاً إلاّ الإذلال والمهانة والهوان والضياع.
إنَّ إسرائيل، حتى لو قامت الدولة، تستطيع أن تدخل إلى أيّ بقعة منها، فتدمّر وتقتل، وتعتقل، ولا أحد في الأرض كلها يصدُّها عن ذلك إلاّ الشكوى تِلو الشكوى للمجتمع الدولي الذي سُكِّرتْ أبصاره وسُدَّت آذانه!
لقد اتجهت الأحداث أو وجّهت لتجعل أهل غزة والضفة، في واقعهم الحالي، لا يستطيعون الاستغناء عن إسرائيل والمجتمع الدولي، وفترة الحصار هذه أكبر دليل على ذلك. فالماء والكهرباء لا يأتي للقطاع إلاّ من إسرائيل. وكثيرون يحصلون على رزقهم من العمل في إسرائيل.
جميع الظروف لا تسمح لهذه الدولة المزعومة بأن يكون لها الكيان الحقيقي بالمفهوم الحقيقي للدولة. إلاّ أنها تسمح للوزراء والرؤساء أن يركبوا السيارات ويتمتعوا بالألقاب، وبالسفر والمقابلات، والظهور على الفضائيات والصحف، وإعطاء التصريحات والحوارات، والانشغال بهذه الأمور وأمثالها. دون أي نتيجة إلاّ الاستدراج لتنازل بعد تنازل، ثمَّ الاقتتال والصّراع!(33/25)
لقد وضح أن الطاقة المالية هي من الدول المانحة ومن إسرائيل. ففي أيّ لحظة يمكن أن توقف هذه المعونات، فيقاسي الفلسطينيون أشدّ أنواع المعاناة والإذلال.
وهنا يثور سؤال مهم: إذا كان هذا هو الحال في اللحظات الراهنة، فكيف سيكون حين يعود اللاجئون أو بعضهم، وحين يزداد السكان بشكل أو بآخر، وحين تقلُّ الموارد الذاتية والإمكانات؟!
هل هناك دراسات إيمانية حول هذه القضايا وأمثالها؟! هل هنالك خطط لمجابهة المستقبل؟!
هذه الأمور الواضحة الجليَّة ألم يُفكِّر بها أحد من الفلسطينيين؟! ألم يشعروا بما قدّموا من تضحيات ثمَّ لم ينالوا شيئاً، إلاّ أن تتقاذفهم السياسة الدولية يرمونهم حيناً يساراً وحيناً آخر يميناً، وحيناً هنا وحيناً هناك؟!
هذه اللحظات الحالية تمثّل لحظات التناقض والاضطراب في المواقف والتصريحات، وتمثّل لحظات الحَيَرة والارتباك، ومحاولة ستر العورات بوسائل متعدّدة بعد أن كُشِفت عوراتنا كلُّها، محاولة سَتْرها عن المسلمين أنفسهم، أما الأعداء فعوراتنا مكشوفة كلها لهم. إننا نخدع أنفسنا وحدنا، ونخدع الشعب والجماهير!
إن تجربة ثمانين عاماً من تاريخ قضية فلسطين لم نستفد منها شيئاً، فالوعود الكاذبة التي أُعطيت لنا قبل أكثر من ثمانين عاماً، والتي خُدِعنا بها وخسرنا بتصديقنا لها الشيء الكثير، فما زالت الوعود الكاذبة تُعطى لنا، وما زلنا نُخْدَعُ بها، وما زلنا نلهث وراءها، نسْتجدي من روسيا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا وغيرها نظرة العطف وكلمة الإشفاق، وحتى الاعتراف بنا وبوجودنا ونحن نغرق في المصائب المتتالية وفي وحولها .
لقد تخلى الكثيرون عن إسلامهم وإيمانهم، ولم يعودوا يثقون بالله وبأن النصر من عنده فحسب، وجرى الكثيرون يلهثون يستجدون النصر من أوثان وأوهام، فينالون الصدمة بعد الصدمة، والإذلال بعد الإذلال، والهزائم بعد الهزائم.
مع ضخامة التجارب الحقيقية في الميدان، ومع وجود كتاب الله وسنة صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، ومع كثرة المؤتمرات والندوات والمهرجانات وما فيها من شعارات وصراخ، مع ذلك كله لم نتعظ، ولم نصحُ، ولم نعدْ تائبين إلى الله خاشعين بين يديه، فما زلنا ننحرف عن الإسلام بالتصريحات والفتاوى والمواقف، بالارتجال وعدم الرويّة، بحبّ إثبات الذات في الساحة، ولو على حساب الدين والأمة، حتى وضح أن الكثيرين يطلبون الدنيا لا الآخرة، ويؤثرون الدنيا على الآخرة، خلاف ما يأمر به الله سبحانه وتعالى. ما زلنا ندويّ بالشعارات ونبتعد عن النهج والتخطيط والدراسات الإيمانية، وما زالت الشعارات تتساقط، وما زلنا في أوهام تمتدُّ، لم نستطيع أن نجعل شيئاً منها حقيقة!
لم ندرك، بالرغم من كثرة التجارب وجلاء الآيات، أننا كلما تنازلنا عن إيماننا وديننا وجاملنا الأعداء بِتَبنِّي مبادئهم حتى يرضوا عنا، كلما فعلنا ذلك زاد الأعداء من إذلالنا. فممالأة الأعداء ومراءاتهم وموالاتهم لم تعطنا أيَّ احترام لنا لديهم ولا أيَّ وفاء لوعود، ولا أيَّ توقُّف عن إذلالنا. كلّما جاملنا زاد إجرامهم بنا، والأمثلة كثيرة في التاريخ.
لا يوجد لدى المسلمين اليوم رؤية واحدة يجتمعون عليها، ولا هدف واحد يؤمنون به ويجاهدون من أجله، ولا يمثلون اليوم أمة مسلمة واحدة، صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، كما يريدها الله سبحانه وتعالى ويحبّه ويأمر به.
إنَّ جميع انحرافاتنا ومخالفاتنا لأمر الله تتجمع كلها في قضية واحدة رئيسة هي تمزُّقنا وتفرُّقنا شيعاً وأحزاباً مما يستوجب عقوبة شديدة من الله وعذاباً عظيماً كما نذوق بعضَه اليوم:
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105]
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم:30-32].
وكذلك:
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام:159].
إن الأخطار على العالم الإسلامي كله آخذة بالامتداد والازدياد، وليس أمام المسلمين إلاّ أن يعودوا إلى الله عودة صدق والتزام، وتوبة وإنابة، ثمَّ يلتقون صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص يحملون رسالة الله كما أُنزلت على صلى الله عليه وسلم يبلّغونها إلى الناس كافّة، بعمل ممتد لا يتوقف. فإذا توقّف المسلمون عن حمل دعوتهم هذه، فإنَّ المجرمين في الأرض يبادرون إلى دعوة المسلمين إلى ضلالهم وفسادهم، ويلحّون بذلك. فإمَّا يقظة وعودة والتزام، وإما هلاك محتم وعذاب من عند الله عظيم.(33/26)
وحتى يلتقي المسلمون أمة واحدة فلا بدَّ من منهج صادق نابع من الكتاب والسنّة، وقواعد الإيمان والتوحيد، ومدرسة النبوّة الخاتمة، مدرسة صلى الله عليه وسلم ، منهج لا يقوم على الأوهام المخدّرة ولا على الشعارات الطائرة المتساقطة والزخارف المغرية، وإنما يقوم على قواعد صدق تعالج واقعنا المؤلم المتدهور، منهج ونهجٍ تلتقي عليه القلوب والعزائم.
وأساس هذا النهج هو منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ يصاحبه المسلم صحبة منهجية صحبة عمر وحياة، كلٌّ قدر وسعه الصادق، لا وسعه الكاذب. إنه "نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن ومناهجها"، يُعرض في كتب توجزه وكتب تفصِّله.
لذلك، فقد فاجأتنا الأحداث الأخيرة في غزة بالاقتتال الدائر بين حماس وفتح، الاقتتال الذي استمرَّ أكثر من أسبوع سقط فيه عديد من القتلى والجرحى. وفاجأتنا بهدنة بعد هدنة لإيقاف القتال، لا تستمرّ إلاّ للحظات ثمَّ يستأنف القتال.
أول سؤال نطرحه على الطرفين: ما هو النهج والخطة التي وضعتموها منذ اللحظة الأولى التي انطلقتْ فيها شعاراتكم كلُّها لتحقيق شعاراتكم؟! هل كان هنالك خطّة مدروسة واعية للواقع المحلّي والدولي لتحقيق الأهداف المعلنة؟!
والسؤال الثاني: أين اختفت تلك الشعارات كلها؟!
والسؤال الثالث: شعار الدم الفلسطيني حرام! كيف جعلتموه حراماً ثمَّ حلّلتموه؟!
والسؤال الرابع: هل حقّاً تقاتلون في سبيل الله ملتزمين جميع الشروط الشرعية لمعنى في سبيل الله؟! وهل تريدون الدنيا وزهوتها أم الدار الآخرة؟ والله يعلم ما في القلوب.
والسؤال الخامس: كيف أحللتم نقض اتفاق مكة؟! أم أنه كان اتفاقاً لم يغيّر ما تضمره النفوس وتخفيه؟!
والسؤال السادس: أين الخلل؟! ومتى بدأ؟! وهل تورّطتم في مخالفة منهاج الله؟!
ارجعوا جميعكم فرداً فرداً إلى أنفسكم وحاسبوها حساباً شديداً، فالحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، والدار الآخرة دار حساب وجزاء. فإذا خرج الإنسان من هذه الدنيا لن يجد فسحة لمراجعة نفسه وإصلاحها، لا مجال للتوبة!
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
[المؤمنون: 99-100]
إنَّ الذي حدث في أرض فلسطين أمر مروّع، مخيّب للآمال، فاجعة قاسية، كأنَّ الناس فقدوا إيمانهم ووعيهم، وتملكتهم العصبية الجاهلية القاتلة المحرّمة تحت شعارات الوطنية والديموقراطية وغيرها، وقست القلوب، ونُزِعَت الرحمة، وجال الشيطان في الساحة وفي النفوس يزيّن الباطل ويشوّه الحقّ، ويقطع الحبال والصّلات!
هل الخلل فينا قديم، ثمَّ أخذ ينمو مع الأيام حتى اتسع الانحراف، فغاب التناصح، وغاب التزام منهاج الله التزام نيّة وعزيمة وعلم، وغاب النهج والتخطيط وغلبت الشعارات وضجيجها، وبُحَّت بها الحناجر! إنه انحراف واسع عن نهج الإيمان والتوحيد ومنهاج الله! لا بدَّ من وقفة ويقظة ومحاسبة للنفس وتقويم للمسيرة! إلى أين تسيرون؟! وإلى أين تتجه الأحداث؟!
وإننا نُقدِّم هذا النهج بتفصيلاته ودراساته المفصّلة والموجزة، نقدّمه ونعرْضُه لكلٍّ مسلم ومسلمة، وكل حركة إسلامية، وكل جماعة ومجتمع، وكل من يريد الدار الآخرة ورضوان الله والجنَّة، ويجعل الدنيا ميدان جهاد ومجاهدة على صراط مستقيم إلى الهدف الأكبر والأسمى ـ الدار الآخرة ورضوان الله والجنة ـ، حتى يكون للمسلمين في الأرض منهج للبناء واحد ونهج واحد، كما كانوا أيام صلى الله عليه وسلم ، فيُبْنى بذلك جيلٌ مؤمن واحد في إيمانه وفكره وتصوّراته وفهمه للواقع، وفي أهدافه المحددة، ووسائله المحددة التي يمكن أن تتطور وتنمو مع الممارسة ومجابهة الأحداث المتجددة، في جوّ صادق من التعاون:
(...... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2]
"يجب أن نتعاون فيما أمر الله أن نتعاون فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما أذن الله لنا الاختلاف فيه".
ولا يمكن أن يقوم التعاون الصادق إلاّ إذا تحققت فينا نحن المسلمين أخوة الإيمان كما أمر الله سبحانه وتعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
[الحجرات: 10]
ولا تتحقق أخوّة الإيمان إلاّ إذا اتجهت القلوب كلها إلى الدار الآخرة وآثرتها على الحياة الدنيا، وصدقتْ إيمانها بالله وكتبه وملائكته ورسله، وتابت بين يديه وأنابت إليه:
(وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 54-55](33/27)
ولا تصدق الإنابة ولا يصْدق الإسلام لله إلاّ إذا كان العهد الأول هو مع الله، والولاء الأول هو لله، والحب الأكبر هو لله ورسوله:
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد: 19-22].
وكذلك:
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [المؤمنون : 57-62].
وكذلك:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [النحل:91-92].
وحتى يتحقق هذا في واقع الحياة لا بدَّ من نهج واع وخطة مدروسة يحملها الجيل المؤمن الرباني، لينبع النهج والخطة من منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ، ومن قواعد الإيمان والتوحيد، ومن مدرسة النبوّة الخاتمة، مدرسة صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا علم الله صدق القلوب والعزائم، وصدق الولاء الأول لله والعهد الأول مع الله والحب الأكبر لله ولرسوله، وصدق أخوة الإيمان، وصدق الإنابة والخشية والخشوع، وصدق البذل والجهاد في سبيل الله صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، أنزل نصره وأعزَّ أمته!
هذا هو أمر الله أيها المسلمون! فإما هذا وإما الهلاك! ومن أجل ذلك نقدِّم النهج الذي أَشرنا إليه، عسى أن تنجح العزائم المؤمنة المتعاونة في بناء الجيل المؤمن، وفي تحقيق لقاء المؤمنين، وبناء الأمة المسلمة الواحدة. وبغير ذلك ستثور العصبيات الجاهليَّة لتمزّق المسلمين.
وإذا كانت حركة فتح "علمانية"، وحماس تعرف ذلك كما أوضحته في ميثاقها الأول، ودعت نفسها وفتحاً إلى الالتقاء على مبادئ جاهلية:
أخاك أخاك إنَّ من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
ولم تدعُ نفسها وفتحاً إلى قوله سبحانه وتعالى:
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). [التوبة: 24]
ومضت السنون ولم تجد فتح العلمانيَّة من يدعوها إلى الإسلام والالتزام به. فلو دُعِيَتْ فتح إلى ذلك، وهذا واجب شرعي، فربَّما استجابت لذلك!
ولكنَّ حماساً نفسها رفعت الشعارات الوطنية والإقليمية الفلسطينية والديموقراطية حتى كادت تختفي شعارات الإسلام. وأراد الجميع أن يحلُّوا قضيّة فلسطين على أساس فلسطيني، يتحمّل الفلسطينيون وحدهم مجابهة إسرائيل والواقع الدولي الداعم لإسرائيل. وانعزل العرب والمسلمون عمليَّاً عن القضيَّة.
ولو أنَّ المبدأ الذي رُفع هو الإسلام بكلِّ شروطه ومبادئه ومعانيه، ومدَّت حماس يدها إلى المؤمنين في الأرض، ليكونوا كلهم صفّاً واحداً يلجأ إلى الله مخلصين له الدين، يسألونه العون والمدد، لو تمَّ ذلك فربّما تغيّرت الأوضاع.
ومع هذه المفاجآت المؤلمة المحزنة، نظلُّ ندعو الجميع إلى نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن ومناهجها، إلى منهاج الله، إلى العودة إلى الله والتوبة واللجوء إليه! ندعو إلى ذلك بكل صدق ونصح وإخلاص، ونمضي على ذلك حتى نلقى الله عليه، لا نبدّل ديننا بديموقراطية ولا فلسطينية ولا أي معنى من هذه المعاني!
وأخيراً عسى أن يقف كلُّ فريق مع نفسه ويُقوِّم مسيرته على ميزان ربّاني قبل أن يلقى الله على ما هو عليه، فيخسر الدنيا والآخرة:
(...... وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
[النور:31]
==============(33/28)
(33/29)
الانفتاح الثقافي: ابن تيمية نموذجًا. .
عبد الله الهذلول 5/3/1428
24/03/2007
تشكل الهموم الثقافية ـ بجميع أطيافها وأصعدتها ـ أهمية بالغة لدى صُنّاع القرار وعقلاء المجتمعات، وهذه الأهمية مطلب إذا لم تجاوز حد المعقول من الاهتمام والحساسية، وفي كل مرحلة تاريخية للثقافة العربية والإسلامية تظهر مشكلة أقرب ما تكون إلى الأزمة. . تتعالى فيها الأصوات وتُقطع العلاقات، وتنتهي بالاتهام في صدق الانتماءات، ومن تلك الموضات الثقافية (الانفتاح الثقافي) كمجال للبحث والرأي. . والخصومة!
لقد مثل نموذج (أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. .) السد الأمنع لدى قطاع عريض من مثقفي الأمة في وجه الانفتاح على الثقافات الأخرى، وهو لو صح [ ففي إسناده مجالد بن سعيد، انظره في المسند ( 15156 ) بتحقيق: الأرناؤوط ]. . لو صح فإنه محمول ـ كما قال بعض أهل العلم ـ على أنه في مرحلة التأسيس والتكوين للعقيدة والملة، فلا ينبغي أن يشوش على الأمة في تلك المرحلة، أمَّا إذا رسخ أساسها، وقوي بنيانها، وعُلمت شرائعها، وأُقيمت فرائضها، فإنَّ الحال كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ وهو أصح ـ، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيقرأ الكتابين التوراة والقرآن. . كتأويل لرؤيا رآها كأن في أحد أصبعيه سمناً وفي الآخر عسلاً [المسند (7067) ]، وهذا ما جرت عليه الأمة في أول الأمر وأوسطه وآخره ـ إلاّ عند أقلية ـ.
وفي المقابل يمثل نموذج (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج). . ورقة قوية في الحث على الاطلاع على الثقافات الأخرى. . بل والتعامل الراقي معها، وإباحة نقلها ونشرها. . كما يُصور الخلاف الأصولي في "حكم العمل بشرع من قبلنا" نموذجًا للتسامح الحضاري الثقافي بين الأديان وأخذ ما يفيدنا مما سلم نقله إلينا، في حين يتحسس كثيرون من الاطلاع على ثقافة المخالف داخل الملة!
يمثل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عند كثيرٍ من المسلمين في هذا العصر مرجعاً في علوم الشريعة، وهو إمام بلا شك في سائر فروعها، والمطالع لسيرة ابن تيمية الشمولية يجد أنه ـ رحمه الله ـ كانَ واسع النظر عند بحثه وتدريسه، واسع النظر ـ أيضًا ـ ومطيلاً له في كتب خصومه، عارفًا بما عندهم، عالمًا بما يخالفهم. .
وأول ما يطالعه الباحث في انفتاح ابن تيمية الثقافي هو: انفتاحه داخل النسق الثقافي في موسوعيته الشاملة للعلوم، فهو المفسر والمحدث والعالم بالعقائد والفقيه والأصولي والناظم للشعر والفيلسوف والباحث والفلكي والسياسي والمؤرخ ـ وهذا جانب لم يشتهر به، ولكن بعض المؤرخين وصفوه به كالذهبي ـ والنحوي ـ وقد استشهد بكلامه ابن هشام وجمُعت آراؤه النحوية في كتاب ـ . . ومع ذلك فهو في الغالب متميز في جميع الفنون، حتى يظن المطالع لفرع من علومه أنه متخصص في هذا الفن أو أنه في أحسن الأحوال أجود ما لديه من الفنون ـ وقد يكون كذلك ـ ولكنه في الغالب يصدم عندما يرى النفس نفسه أو أجودَ منه في الفنون الأخرى.
وعلى سبيل الانفتاح خارج النسق الثقافي تتعدد الصور. . ففي العقيدة: اطلع على موروث كثير من الفرق المعاصرة له وحاورها وجادلها، في كثيرٍ من الأحيان بأدواتها كالمعتزلة وأهل الكلام حينما درس علم الكلام والفلسفة، ثم أصبح يضرب أصولهم ببعضها، ويشكل على أصولهم من خلال فروعهم وتطبيقاتهم كما في درء تعارض العقل والنقل، فأتى على بنيانهم من الأساس، ولم يناقشهم ـ كما يفعل البعض ـ من خلال قواطع لا يؤمنونَ بها أصلاً، وقد سار على تلك الطريقة مع: النصارى في الجواب الصحيح، ومع الجهمية في بيان تلبيس الجهمية، ومع الأشاعرة والمتصوفة والشيعة والخوارج والمرجئة وسائر المخالفين. . وبالجملة فإنَّ ابن تيمية سلفي لا بالتقليد وإنما بالبحث والتنقيب.
وفي الفقه: اطلع على فقه الإمام أبي حنيفة ومدرسة الرأي، وفقه الإمام مالك ومدرسة الأثر، ثم عرج على أصول الشافعي، وخلص إلى آراء ـ وإن وافقت في كثير منها آراء الحنابلة ـ إلاّ أنها منطلقة من نظر بين مدرستي الرأي والأثر، حتى اشتهر عنه تقسيمه للمذاهب الفقهية وتميزها على كتب وأبواب الفقه. . وهذا نتيجة ـ بالتأكيد ـ لدراسة فاحصة لها.
وفي مجال التفسير يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفسه أنه يطالع قبلَ تفسير الآية أكثر من مئة تفسير، ثم يخلص إلى نتيجة قد لا تكون موجودة فيها، وإنما خلص إليها من جمعه للمرويات ونظره في الآراء والاتجاهات. . ومن البدهي أن هذه التفاسير المئة ليست كلها على كفِّ مساواة في المعتقد وطريق النظر والتفسير العقلي منها والنقلي.(33/30)
وعلى الصعيد العملي التطبيقي يمثل نموذج ابن تيمية المجاهد صورة مشرقة للانفتاح. . فعلى صعيد الجهاد بالسنان: فإنه قاتلَ التتار ووقف مع من يحسبونَ خصومًا له، وهذا وإن عدَّ وجهًا مشرقًا لانفتاحه، إلاّ أن وعده إياهم بالنصر وجزمه بذلك وجهٌ آخر أكثر إشراقًا. وعلى صعيد جهاده باللسان: ما تميز به من حضور مجالس المناظرات التي فيها ـ كما هو معلوم ـ يطرح كل صاحب رأي ما يراه بدون أدنى تحرز ويجلب بخيل ورجل في عرض وتسويق فكرته وأدلتها وأوجه الخطأ في فكرة الخصم، وعلى الرغم من كل هذه العقبات والصعوبات والتحديات إلاّ أنه كان يحضر المناظرات في مجلس السلطان ـ أحيانًا ـ وعلى مرأى ومسمع من العامة والخاصة ـ أحايينَ كثيرة ـ دونَ أنْ يخاف التلبيس على العامة، وقد ذكر بعض المؤرخين حكاية تدل على أخذ ابن تيمية بالانفتاح الثقافي وتأييده له أنه وقفَ في صفٍ مقابل لخصومه من طوائف أخرى على ملأ من الناس، فكان ـ كما تعبر الرواية ـ بحرًا ثجاجًا صادف بحيرات، وكانوا ذرات صادفت جبلاً راسخًا، وكان لا يكل ولا يمل من المناظرة، بل كان يطلب المناظرة والمحاورة ابتغاءً للحق وطلبًا له، دونَ أن يتوجسَ أو يخافَ التلبيسَ على العامة.
ـ أيضًا ـ تمثل أسلمة شيخ الإسلام لبعض العلوم وسعيه في تنظيرها وتقويمها شرعيًا وجهًا مشرقًا لانفتاحه، وكذلك تجديده لبعض العلوم الشرعية الأخرى وتنقيته وتصفيته لها، وهو ما أظن المستشرق جولد زيهر قصده حينما قال: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض. . فجّر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يُفجّر حتى الآن! وحسبه أنَّ الأمة لم تشهد بعد عصر الصحابة مجددًا ومصلحًا مَثُلَ كمثله في شخصيته وظاهرته الثقافية.
وهكذا فقائمة (انفتاح شيخ الإسلام ابن تيمية الثقافي) قائمة طويلة، ومن أكثر المواضع لفتًا واستغرابًا ـ وهو حريٌ بأن يُبحث في دراسات مستقلةـ أنَّ النظر إلى ما قام به شيخ الإسلام أصبحَ بعين عوراء. فكثير من الباحثين ينظر إلى نتائج شيخ الإسلام ومخرجاته ويستفيد منها، غاضًا الطرف ومبعدًا البصر عن طرقه وأدواته ومدخلاته في الوصول إلى هذه النتائج. .
ختامًا: كثيرًا ما كُرّر هذا الموضوع ـ في التراث وحتى في هذا الزمان ـ، وطُرح من زوايا عديدة وبأسماء مختلفة، ففي السنوات الأخيرة ـ على سبيل المثال ـ ظهر بأسماء وأغلفة كثيرة: العولمة، الحداثة، التطبيع الثقافي، الحوار مع الآخر، الانفتاح، الابتعاث، صدام الحضارات. . . الخ.
وعلى الرغم من كثرة النزاعات إلاّ أنَّ الناس قد جبلوا في ذواتهم إلى إبداء الخصومة من الصفر لا من حيث انتهى سياق سابقاتها ـ إذا تماثل النموذج أو تقارب ـ، ففي كل مرة تطرح فيها (ثقافة الانفتاح الثقافي) باسم جديد يطرح التوجس ذاته: الخوف من التأثر! ويبقى السؤال: هل الثقافة والموروث الديني لدى المسلمين "الناضجين" من الهشاشة بحيث يُخاف عليه بذلك القدر من الحساسية والتوجس من الانفتاح "المرشّد"؟. . يُتساءل عن هذا، في وقتٍ يُدعى فيه إلى تمزيق مصادر لأهل السنة كفتح الباري لابن حجر، وإحراق المنهاج للنووي
=============(33/31)
(33/32)
فشل آمال الغرب في دمج مسلميهم
نور الإسلام_ 28/2/1428 هـ - الموافق17/3/2007 م_ تحت هذا العنوان كتب جنيف عبدو مؤلف كتاب "مكة والشارع الرئيس.. حياة المسلم في أميركا بعد 11سبمتبر/ أيلول"، مقالا في صحيفة واشنطن بوست يستهجن فيه تسليط وسائل الإعلام الأميركية -وعلى رأسها سي.أن.أن- الضوء على مؤتمر عقده من يصفون أنفسهم بأنهم مسلمون علمانيون بمدينة سانت بطرسبرغ الأميركية، كحركة علمانية جديدة تدعو إلى تصحيح ما تزعم وجوده من أخطاء في الإسلام عبر ما يسمونه "إصلاح الإسلام".
وقال إن أجندة هؤلاء العلمانيين تحظى بالدعم لأنها تعكس الرؤية الغربية لمستقبل الإسلام: إصلاح الإيمان بحيث يتشبع بالقيم الغربية، مشيرا إلى أن مشكلة هذه الوصفة هي أنها بعيدة كل البعد عن الواقع لأنها مبنية على مبدأ أنه إذا تغذى المسلمون على وجبة ثابتة من النفوذ الغربي، فإنهم سيتبنون الحداثة والعلمانية وكل شيء يقدمه الغرب.
غير أن الكاتب دعا إلى النظر في الحقائق التي تنطوي على إحياء الإسلام في العالم على مدى السنوات الـ30 الماضية في الشرق الأوسط وأفريقيا، مستشهدا بارتداء معظم النساء في مصر لغطاء الرأس، فضلا عن ظهور الجماعات الإسلامية على الساحة السياسية. كما أشار إلى أن المسلمين في أوروبا وأميركا الذين يعيشون الحياة الغربية باتوا أكثر الناس اعتناقا للقيم الإسلامية، مضيفا أن عددا كبيرا من المسلمين في بريطانيا يطالبون بإنشاء محكمة على أسس إسلامية.
وخلص إلى أن كل هذه الأمثلة تعني أن الآمال الغربية التي ترمي إلى دمج كامل للمسلمين في الغرب من غير المرجح أن تتحقق، وأن مستقبل العالم الإسلامي هو أنه سيكون إسلاميا أكثر منه غربيا. ولذلك يقول الكاتب إن من الحكمة أن تولي الولايات المتحدة اهتماما أكبر للأغلبية الأقل ثرثرة عوضا عن مناصرة الأصوات المسموعة من الأقلية العلمانية التي تجذب اهتمام وسائل الإعلام.
============(33/33)
(33/34)
أزمة الهدر الفقهي
إبراهيم السكران* 23/2/1428
13/03/2007
طوال تاريخ التراث لم يواجه الفقه الإسلامي تحدياً كالذي يواجهه اليوم أمام أسواق المال، وأعمال المصارف، وأنماط التمويل، ومشتقات الائتمان، وأنظمة النقد، وصيغ الاستثمار ونحوها من أشكال الحداثة الاقتصادية المعقدة، ولقد شاع بين كثير من الباحثين المعاصرين استعمال مصطلح (النوازل) في التعبير عن هذه المتغيرات.
وفي تقديري أن إسقاط مصطلح النوازل على هذه الحالة الجديدة يعتبر توظيفاً غير دقيق، ذلك أنه لا يعكس حجم وطبيعة هذه المعطيات الجديدة؛ فالأفق الدلالي لمصطلح النوازل يوحي بمجرد وقائع حادثة تقفز بين فينة وأخرى على هوامش الكتلة الفقهية الفروعية الراسخة والمستقرة، كما هو المعهود في تاريخ التراث الإسلامي المديد، أما في واقع اليوم فالشأن قد اختلف تماماً، ذلك أننا لسنا أمام مجموعة فروع حادثة تزور طاولة الفقيه غباً بقدر ما إننا أمام منظومة اقتصادية جديدة ذات منتجات متدفقة، وتبدلات متسارعة، وتحولات محمومة، وعلاقات مركبة بحيث أصبح الجديد هو الأصل والتقليدي هو الاستثناء.
ومهما شعر المتابع بتعقيد الصورة الاقتصادية المعاصرة في مقابل أزمة (الهدر الفقهي) في البرامج التقليدية للعلوم الشرعية، فإنه لا يمكن أن يتجاهل جهود بعض الرواد من الفقهاء المعاصرين الذين أصروا على خوض غمار هذه المعطيات الجديدة، والاجتهاد في محاولة تقديم أدق تصور شرعي يحقق المراد الإلهي، عبر المشاركة الجادة والمتواصلة في ندوات المصرفية الإسلامية، والمجامع الفقهية، واللجان الشرعية لأعمال المصارف، والمجلات العلمية المتخصصة، والأطروحات الفقهية، والرسائل الأكاديمية المتميزة، وغيرها من القنوات المعنية بالمشكلات الفعلية في حياة المجتمع المسلم، فإلى أولئك وحدهم يعود الفضل الأساسي - بعد الله- في تنمية فقه المعاملات المالية، والدأب على تطويره.
ومهما تطارحنا من نقد حول واقع فقه المعاملات المالية المعاصرة فإن ذلك ينبغي ألاّ ينسينا واجبات الوفاء لأولئك الآباء المؤسسين الذين ضحّوا براحتهم الشخصية، وقاوموا كثيراً من ارتباطاتهم الاجتماعية وضغوطات الحياة المادية من أجل أن يقدموا للمجتمع المسلم منظوراً يبني إمكانياته الاقتصادية والاستثمارية في ظل الاطمئنان الشرعي.
ومع ذلك كله لا تزال في طريق علم (فقه المعاملات المالية) الكثير من الخطوات والمهام الضرورية لاستكمال مسيرة التنمية الفقهية، فبادئ ذي بدء لقد حان الوقت لكي يقرر هذا الفرع الفقهي أن يستقل عن الشجرة الفقهية العامة، كما استقل من قبله علم الفرائض، وعلم القضاء، وعلم السياسة الشرعية وغيرها من الفروع التي احتفلت باستقلالها المبكر في تاريخ الفقه الإسلامي، احتراماً لخصوصيتها وحاجتها للمعالجة المتخصصة.
فقد أصبحت خصوصية فقه المعاملات المالية النابعة من تعقد علاقاته بالعلوم الأخرى كالاقتصاد والمحاسبة والقانون التجاري والإدارة وغيرها من العلوم ذات الصلة أكبر من أن تحتملها فصول معدودة في مدونة الفقه الإسلامي، ويستحيل على الفقيه المعاصر أن يكون مبدعاً في فقه المعاملات المالية طالما أن دراسته لهذا الفرع لا تزال تقتصر على بضع محطات متواضعة في رحلته الفقهية الشاسعة والمنهكة والممتدة من (باب المياه) إلى (باب الإقرار).
لقد أزف الوقت - إن لم يكن قد تأخر كثيراً- لكي يصبح فقه المعاملات المالية تخصصاً مستقلاً يُزوَّد المتدرب فيه بكامل التقنيات المعرفية التي يحتاجها من العلوم الإنسانية الحديثة، وبشكل خاص المفاهيم الأساسية في الاقتصاد والمحاسبة والقانون التجاري والإدارة، بالإضافة إلى الكليات الفقهية والقواعد الأصولية والمبادئ المقاصدية، وتاريخ التشريع ذات المساس المباشر بهذا العلم، بحيث تصبح هذه الوحدة الفقهية مجهزة بكامل المعدات العلمية اللازمة بشكل منظم.
كم هو مؤلم أن تكون كثير من كليات الشريعة والتي من المفترض أن يكون تخصصها الدقيق هو الفقه الإسلامي لا تزود طلابها بمنهج مستقل للمعاملات المالية المعاصرة، فيصطدم الطالب غير المؤهل بنظم الحياة الاقتصادية المعقدة غير قادر على الربط بين النماذج التراثية التي تعلمها والصيغ الحديثة التي يواجهها إلاّ من خلال جهود شخصية خارج البرنامج الرسمي، كثيراً ما تكون متعثرة وغير منظمة.(33/35)
وإذا اتفقنا أن أزمة الهدر الفقهي لا تعود إلى عامل واحد بل ترتبط بشبكة من العوامل الاجتماعية والسياسية والمعرفية، فإنه لا شك أن من أهم المشكلات التي ساهمت في تكريس أزمة الهدر الفقهي مشكلة (تكلف المغايرة) النابعة من القلق غير الطبيعي من توافق بعض الأحكام الشرعية مع صيغ الاقتصاد الغربي؛ فبدلاً من تركيز الجهد الفقهي في تحليل الخيارات الشرعية الممكنة والمتاحة في ضوء واقعنا ونسيجنا الفقهي الخاص، ينجرف كثير من الباحثين في تصوير الفقه الإسلامي للبرهنة على وجود (اقتصاد إسلامي) والواقع أنه ليس من معايير الحقائق الشرعية تناقضها مع الخبرة البشرية، بل على العكس من ذلك فإن من القرائن الدالة على رجحان الاجتهاد الفقهي تأييده واعتضاده بنتائج الخبرة البشرية.
ومن جانب آخر فإن عدم قدرة الفقهاء المعاصرين على إنشاء قاعدة بيانات فقهية كان أحد أهم مصادر الهدر الفقهي؛ إذ افتقد البحث الفقهي القنوات الخاصة التي تضمن تدفق النتائج الفقهية إلى أوعية منظمة بما يمكنها من تحقيق عنصر التراكم، وانعكاساً لهذا الغياب تستمر أزمة تكرار الجهود والدوران في حلقة مفرغة بما يحرم فقه المعاملات المالية من أحد أهم شروط نمو المعرفة.
كما يعاني الفقيه اليوم من غياب الإمكانيات التي تتيح له التعرف على الدراسات السابقة على الإشكالية محل اهتمامه، وكم هو محزن حين يبذل الفقيه جهداً في استيعاب الدراسات الفقهية في الموضوع محل اهتمامه ثم يتفاجأ بأنها جميعاً أعادت بحث الموضوع من خط البداية الأول، ولم يحاول أحد منها أن يواصل شوط البحث من حيث توقف الآخرون. يا ترى كيف سيكون حال الخبرة الفقهية لو أُتيح لنتائج الباحث الأول أن يناقشها، ويعمقها الباحث الثاني، وهكذا دواليك؟
كما أن من أهم مصادر أزمة الهدر الفقهي استنفاد جهود المجامع المتخصصة في دراسة التطبيقات الجزئية الصغيرة عبر التعسف في تعليب المعاملات المستجدة داخل الأوعية الفقهية التقليدية، وقسرها على تقمّص أشكال العقود التراثية فتخرج كثير من البحوث بصورة كسيحة تشي بحجم التكلف الهش، في مقابل إهمال بناء (منظومة القواعد المرجعية) الحاكمة لهذا العلم.
إن المجامع المتخصصة بحاجة -أكثر من أي وقت مضى- إلى أن تبلور للشريحة المستهدفة من مصرفيين ومستثمرين ونحوهم دليل إجراءات منظم، لا ينجرف في ملاحقة الجزئيات وخلافياتها، بل يكرس بشكل أساسي لتنظيم (معايير المعاملات الشرعية) بحيث يحتوي هذا الدليل القياسي على أسس مفاتيح البطلان وقواعد تنظيم الحقوق والالتزامات والمبادئ الأساسية للآثار العقدية، وبمعنى آخر الإجابة عن الأسئلة الثلاثة التالية: ما موانع صحة المعاملة؟ وما هي حقوقك؟ وما هي واجباتك؟ دون إغراق في تفصيلات الخلاف الفقهي بحيث يتمكن الفرد غير المتخصص من استيعاب القواعد الفقهية العامة التي تمنحه الاطمئنان الشرعي في إدارة استثماراته الشخصية ومشاريعه الخاصة، ويكون اعتماد هذا الدليل من المجامع المتخصصة مادة متاحة لبرامج التدريب الشرعي.
ويعود جزء من الهشاشة الفقهية في بعض المعالجات الفقهية المعاصرة المطروحة اليوم في القنوات الفضائية والمجلات الالكترونية إلى إشكالية معرفية في قلب منهج الاستدلال الفقهي، حيث يفتي كثير من المتصدّرين للفتيا في المسائل المعروضة عليهم بناء على مفاهيم إجمالية مطورة استقرت في أذهانهم حول القواعد العامة للمعاملات، كقاعدة الربا أو قاعدة الغرر أو قاعدة الضمان ونحوها، وهذه المفاهيم الإجمالية مأخوذة من الفهم المدرسي المباشر للنصوص الشرعية العامة دون استيعاب تحليلي لتصرفات الشارع التطبيقية في التعامل مع هذه القواعد العامة، ودون استخلاص لكافة القرائن العملية من مجمل السياق التشريعي في عصر النبوة، كما يقول الإمام ابن تيمية: "ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح، أفسد كثيراً من أمر الدين وضاق عليه عقله ودينه" [مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/51].
ولنضرب على ذلك مثلاً: فحين يأتي النص العام بالنهي عن الميسر، وأنه قد (نهى صلى الله عليه وسلم عن الغرر) والغرر هو مجهول الحال أو المآل، فإن كثيراً من المتعاطين لفقه المعاملات اليوم كلما رأى مخاطرة في عقد مستجد ناشئة من جهالة الحال أو المآل هجم عليها بإسقاط النصوص العامة في حظر الغرر والميسر.
بيد أن دراسة التعامل النبوي التطبيقي مع عنصر الجهالة والمخاطرة يكشف أن هذا الفهم المجمل لمفهوم الغرر يتعارض مع مراد الشارع، فلم يرد الشارع بحال أن يحسم كل أنواع الغرر والجهالة بهذا الإطلاق الموهوم، فسيرته العلمية والتطبيقية تكشفت عن تشريع أربعة مستويات مختلفة من الغرر؛ إذ أجاز الشارع الغرر في غير عقود المعاوضات كما في هبة المجهول، وأجاز الشارع الغرر اليسير كما في بيع أساسات الدار، وأجاز الشارع الغرر التبعي كما في بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها مضمومة إلى الأصل، وأجاز الشارع الغرر المحتاج إليه كما في بيع المغيبات.(33/36)
وتكمن خطورة هذا المنهج المعتمد على عمومات النصوص دون استيعاب لتصرفات الشارع التطبيقية في أنه يندرج تحت آفة من آفات أحبار اليهود التي نهى الله فقهاء المسلمين عن سلوكها، وهي آفة (تبعيض الكتاب) عبر أخذ بعض نصوصه وترك بعضها الآخر كما قال تعالى في سورة البقرة "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض".
وعلى صعيد آخر.. يخطئ كثيراً أولئك المثقفون المأخوذون بالسياقات الفكرية والفلسفية ممن يستهترون بعلم الفقه الإسلامي، وأن الأمر لا يحتاج كل هذه الجهود على أساس أن الدين واضح ميسر لا يحتمل كل هذا التعقيد الذي يحدث، وفي تقديري أن هناك خلطاً لمصدر التعقيد نشأ بسبب الفهم المجمل الذي يعوزه التفصيل لمكونات الإجابة الفقهية، فالواقع أن أية إجابة فقهية هي مزيج من عنصرين أساسيين هما: قاعدة وواقعة، فأما القواعد الشرعية فهي ميسرة بينة محكمة بمقتضى النص القطعي (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) وأما الوقائع فهي تزداد تعقيداً مع التطور المذهل في الحياة الإنسانية، وهذا يعني أن فقه المعاملات المالية ليس علماً شائكاً بسبب وعورة قواعد الوحي الإلهي - حاشا وكلا- ولكن بسبب حجم وطبيعة المعطيات والوقائع الاستثمارية الحديثة، فالتعقيد في الوقائع لا في القواعد.
وفي إطار محاولات الفقهاء الرواد في التواصل مع العلوم الحديثة ذات الصلة بفقه المعاملات المالية بخصوص تصوير العقود والوقائع المستجدة وتوضيح صيغ علاقاتها المؤثرة على الحكم الشرعي يلاحظ المتابع موقفاً مترعاً بالمفارقة في تحديد وزن العلوم الحديثة التي يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
فقد تم في هذا السياق بناء تواصل إيجابي معقول مع الاقتصاد الحديث، وتبادل للخبرات مع رجالات الاقتصاد من خلال استكتابهم في المجامع الفقهية، والاستناد إلى نتائجهم العلمية، وترجمة دراساتهم الأجنبية في تنام مستمر وملحوظ لمرجعية الاقتصاديين في الوعي الفقهي المعاصر، في مقابل القطيعة والنفور المذهل مع خبراء التشريعات التجارية والمالية الحديثة، على الرغم من أن خبراء التشريع من شُرّاح القانون ونحوهم في المجتمعات المتقدمة هم الوجه الحقيقي المقابل للفقهاء في المجتمع المسلم، بما يعني أن إمكانية استفادة الفقيه في تصوير العقود والمعاملات المعاصرة من خبراء القانون التجاري الحديث أكبر بكثير من إمكانية الاستفادة من خبراء الاقتصاد الحديث بسبب وحدة الوظيفة والهموم المشتركة بين علمي الفقه والقانون، في مقابل التفاوت الواسع بين وظيفة الفقه ووظيفة الاقتصاد، فوظيفة علم القانون دراسة تنظيم العلاقات الحقوقية بين أفراد المجتمع، أما وظيفة علم الاقتصاد فهي دراسة سلوك الإنسان في إدارة الموارد النادرة لإشباع حاجاته.
ولنضرب على ذلك مثلاً: فحين يدرس علم الاقتصاد موضوع (العمليات البنكية) من خلال مادة النقود والبنوك فإنه يدرسها بهدف تحقيق أكبر معدل تنافسي للعائد بصفتها أحد موارد التمويل وتوزيع الائتمان، أما علم القانون فحين يدرس هذه (العمليات البنكية) من خلال مادة القانون التجاري فليس معنياً بالبحث عن أنجع الوسائل لتعظيم الربح، ولكنه معني بدراسة الالتزامات والآثار الحقوقية الناشئة عن هذه العمليات عبر تحليل عناصر العقود والعلاقات بين العاقدين.
ويبرز أثر هذا الاختلاف جلياً في سائر الموضوعات المدروسة في العمليات البنكية بين العلمين، فمثلاً يدرس علم الاقتصاد عقد (الخزانة الحديدية) باعتباره أحد آليات تحقيق الأمان للعميل بما يستقطب المزيد من الأصول، بينما في دراسة فقهاء القانون لهذا العقد يذهب الجهد الأساسي لمناقشة تكييف هذا العقد: هل هو عقد وديعة باعتبار عنصر الحفظ؟ أم هو عقد إيجار باعتبار شراء المنفعة؟ أم هو عقد قرض باعتبار حرية التصرف؟
ويتضح للفقيه أن المدخل الذي يتناول علم القانون موضوعاته من خلاله أقرب إلى علم الفقه وأشبه ببينته المعرفية من المدخل الذي يسلكه علم الاقتصاد، بسبب تركيز علم القانون وإبرازه لذات العناصر والعلاقات التي يستهدفها علم الفقه، ولذا فهو أجدى وأكثر عائدة في تصوير العقود والوقائع المستجدة.
فالمفترض في فقهاء المعاملات المالية المعاصرة اليوم أن يتجاوزوا تلك الحساسيات التاريخية مع علم القانون، والتي نشأت في ظل مناخ من التوترات السياسية أججتها حالة الاحتجاج الشعبي ضد القسر الإمبريالي في تغريب التشريعات.(33/37)
بمعنى أنه يجب على الفقهاء المعاصرين أن يعيدوا علم القانون إلى صورته الطبيعية المتوازنة من حيث كونه علماً وضعياً فيه ما يخدم الفقه الإسلامي، وفيه ما يتعارض معه، فما الذي يجعل علم الاقتصاد الوضعي ذا الصبغة الرأسمالية والمنشأ الغربي يجوز التواصل النقدي معه والتفاعل الإيجابي مع المختصين فيه، بينما يحرم هذا التواصل النقدي والتفاعل الإيجابي مع علم القانون الحديث؟ فواقع الأمر أن كلا هذين العلمين من حيث التصور الشرعي الطبيعي يقفان في ذات الخانة، وهي خانة (العلوم الوضعية) المرتبطة بالخبرة البشرية، والخاضعة للفحص الشرعي، فيؤخذ منها ويرد طبقاً للقاعدة العامة في الموقف من العلوم الوضعية، أي بحسب التوافق والتعارض مع أصول الشريعة.
وفي هذا السياق يجب أن نعترف وبمرارة أن علم (الاقتصاد الإسلامي) ابتعد كثيراً عن وظيفته الحقيقية، فبدلاً من أن يكون رجل الاقتصاد الإسلامي مشغولاً بالإبداع في دراسة وتحليل وتفسير ومعالجة علاقات الناتج القومي والإنفاق الحكومي، والسياسات النقدية، ومعدلات التضخم، واستراتيجيات إدارة الطلب، وقيود التجارة الدولية، واختناقات الائتمان الإسلامي، والحلول التمويلية، وسائر عناصر الظاهرة الاقتصادية في ظل الإطار الإسلامي، تحوّل كثير من الاقتصاديين الإسلاميين عن المشاركة الفعلية في جوهر علم الاقتصاد، وانشغلوا بدور فقهي يختلف تماماً عن دورهم الأساسي، وهو التصدر لـ (فتاوى المعاملات) مع تقديم خلاصات اقتصادية يسيرة على هامش فتاواهم يتم اختصارها من المصادر المدرسية الغربية.
وما لم يتم تدارك الأمر وفرز الحدود الفاصلة بين العلوم الإسلامية والتفريق الواضح بين الدور الاقتصادي والفقهي والقانوني فإن المجتمع المسلم سيظل يعاني من علاقة التبعية بالإبداع الاقتصادي الغربي، ومن أخطر انعكاسات هذه الصيغة من صيغ العلاقة الثقافية بالآخر تسلل الشلل الفكري إلى إمكانيات الإنتاج، والإصابة بعقم الإبداع، نتيجة الاعتماد على جاهزية المنتجات الغربية، وترسيخ عاهات الإنقماع النفسي في قلب الثقافة الاجتماعية.
وعلى أية حال فإن استقلال الإبداع لا يعني التوتر مع منتجات الحداثة الاقتصادية المعاصرة، ولا يعني أن يكون الفقيه مهجوساً بحمل النصوص والتعسف في تصويرها كنقيض للاقتصاد الغربي، ذلك أن القيام بأمانة البيان للناس وحمل رسالة الفقه الإسلامي النبيلة ليس مرتبطاً بمخالفة خبرات الإنسان، بل مرتبط بشكل أساس بتقديم أدق منظور فقهي يستوعب مراد الشارع ومقاصده العامة التي يحبها الله ويرضاها ويتغياها في أحكامه؛ كالعدل، والقيام بالقسط، ورعاية المصالح، ورفع الحرج، وإزالة الضرر، واعتبار العرف، وإظهار الدين ونحوها من الغايات الإلهية الشريفة.
__________
* محامي وباحث إسلامي سعود
============(33/38)
(33/39)
شعر عصابة المجّان حداثة أم غثاثة؟!
د.أحمد عزالدين
يذكر التاريخ أن القبائل العربية كانت توحّد قواها في تحالفات ، ولكن بعض القبائل القوية -وتدعى "الجمرات "- كانت تستغني عن ذلك الإجراء ..
ومن هذه الجمرات نذكر قبيلة " نُمير " التي أذلّها بيت من الشعر أطلقه جرير:
فغضّ الطرف إنك من نميرٍ ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
ويقول التاريخ: إن امرأة مرت بقوم من نمير فحدّجوها بأبصارهم ، فقالت لهم : تباً لكم يا بني نمير ، لا أنتم اتبعتم قول الله تعالى : (( قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم )) ..
ولا أنتم اتبعتم قول الشاعر :" فغض الطرف إنك من نمير "!
وفي عصرنا هذا ثمة قبائل جاهلية، تعددت أسماؤها وتوحدت أهدافها، من هذه القبائل نذكر:
قبيلة الحداثيين ، وقبيلة العلمانيين ، والليبراليين ، واليساريين ، إلخ !!!
وقد اتحدت كلها في حلف واحد يدعى " الطابور الخامس " أو " عصابة المجان العرب " على حد تعبير العلامة أنور الجندي . ومهمة هذا الحلف- ولن يَقدر - هي تمزيق الأمة بمحاولة هدم عقيدتها ولغتها وتاريخها ..
ولأن التاريخ يعيد نفسه ، فقد أذلّ هذا الطابورَ في موقع " راصد " قلمُ الأديب الساحر سعيد الغامدي ، وقلم الأديب الساخر محمد جربوعة ، وقصيدة " وتسألني متى تغضبْ ؟! " للشاعر أسامة الأحمد ..
وثمة فروق بين نمير والطابور، فالأولى كانت "جمرة" من جمرات العرب ،أما قبائل الطابور فليست سوى "رماد" تذروه ريح الإيمان كلما هبّت..
ونمير قد استحيت حقا من بيت جرير ، فتبرأت من شاعرها الراعي النميري الذي استعدى عليها ذلك الشاعر الكبير .. أما عشائر الطابور( ( T5 فلم يستحيوا لا من الله ولا من الأمة ولا من قلم الغامدي و جربوعة والأحمد ..
ونمير كانت مخلصة للغتها ولأمتها ، أما ( ( T5 ففتش في جيوب أفرادها لتعرف نوع العملة والدولة التي تواليها ..
ولأن الوقت أثمن من أن يضيع في كشف كل أقنعة " عصابة المجان " فسأتناول جانبا واحدا من الجرائم التي اقترفتها هذه العصابة ، وهو "شعر الحداثة".
هذا الشعر يتميز بخصائص كثيرة تفرّد بها ،من ذلك :
أولا :
يمكنك أن تقرأه من الأسفل إلى الأعلى .. ومن اليسار إلى اليمين ، دون أن تخسر شيئا من معانيه .. بل على العكس يمكنك بهذا أن تحسّن من مستوى معانيه ، إذ يصبح هذا الشعر حيادياً بلا معنى ! . ومن شك فليجرّب ، وليقرأ أية صفحة من أي ديوان لأي حداثي .. وهنا أذكر أن لوحة تشكيلية - والفن التشكيلي هو أخ لشعر الحداثة بالرضاع- لفنان تشكيلي مشهور،هذه اللوحة نالت الجائزة الأولى في مسابقة عالمية في إيطاليا . ولكن أثناء العرض كانت منكوسة ومعلقة إلى الأسفل!! تماما كذوق صاحبها وذوق اللجنة الناقدة ، فلم يتجرأ ذلك الفنان على تصحيح الخطأ وإنهاض لوحته الهاوية كي لا يخسر الجائزة!.
وهكذا احترام الحداثيين أنفسهم وإنتاجهم !
ثانيا :
"شعر الغثاثة" لا يمكن حفظه أبدا حتى في صدور مرتكبيه ! لسبب بسيط هو أنه مناف للذائقة الإنسانية ، ومفتقر إلى الموسيقا الشعرية التي تأتي من الوزن والقافية، ومن نقاء المفردات الآتي من نقاء النفس الشاعرة الخالية من العقد .. وقد طلبت يوما من أحد شعرائهم أن يسمعني قصيدة من شعره فاعتذر بأنه لا يحفظ منه شيئا ! بل فوق ذلك، إن واحدا من كبار القوم سمع في محفل قصيدة قديمة له ، ثم فوجىء بأنها من نظمه!.
وهذا الجفاف الموسيقى من نعم الله تعالى على أبناء هذه الأمة ، إذ حدّ إلى حدٍّ مذهل من سيرورة هذا الشعر اللقيط.. وهيهات أن تنطلي العملة الزائفة على العقلاء ..
ثالثا:
افتقار هذا الصنف من الشعر إلى الشعور الصادق ، والفكر الراقي ، والبيان الجميل ..
رابعا:
من "كرامات" هذا الشعر وأعاجيبه شهرة مرتكبيه الواسعة، رغم الأرقام المخزية في عدد مبيعات دوواينه في معارض الكتب !.. وإذا ما علمنا أن أكبر شياطينهم - واسمه يشبه اسم شيطان الجن الأكبر " إبليس " - لم يقدر على كتمان حبه لبني صهيون، فباح أخيرا بهذا الحب ، علمنا أهم سبب لشهرة هذه الزمرة ..
خامسا:
أما هدم هذا الشعر القيم القويمة ، والأخلاق الكريمة ، وسعيه إلى تحقيق القطيعة المعرفية مع عقيدة الأمة وتاريخها ولغتها وثوابتها ، أما كل هذا فلا أظنه بخاف على القارىء الفطن الكريم ..
والحمد لله وحده ، فقد رفضت أمتنا شعر" الغثاثة " كما يرفض الجسم الحي القوي كل جرثوم وكل خلية سرطانية ..وكما ترفض الأرض الطيبة كل شجرة خبيثة ، فما لها فيها من قرار ..
ويا أيها الحداثيون كل حمل يتم خارج رحم الأمة هو حمل كاذب .. فإلى رحم الأمة ، أو إلى مزابل التاريخ ..
=============(33/40)
(33/41)
الخبرة التركية في العمل الإسلامي
جمال سلطان 15/9/1427
08/10/2006
يكون من المهم كثيرًا للمهتمين بشؤون الدعوة الإسلامية، أن يبذلوا المزيد من الجهد لإثراء الخبرة الإنسانية الداعمة للدعوة بكل أوجهها المختلفة، وهذا لن يكون إلاّ مع الانفتاح على كل الخبرات الإسلامية الإنسانية عبر العالم من أجل نقل المفيد والإيجابي منها، وتحاشي ما هو غير ملائم، خاصة وأن هناك الكثير من أوجه التشابه الفكري والمجتمعي بين الدول الإسلامية على اختلافها بحكم وحدة العقيدة والقيم والشعائر، أقول هذا الكلام وفي مخيلتي الآن التجربة التركية في العمل للإسلام، وقد أحيا هذا المعنى في نفسي لقاءٌ رمضاني مع نخبة تركية من المهتمين بالعمل الإعلامي والفكري في المجال الإسلامي، واستمعت إليهم واطلعت على بعض جهودهم، فوجدت أنها مفيدة للغاية في إثراء خبرتنا نحن في العالم العربي، وأعادت إلى ذاكرتي ملاحظات وأفكاراً خبرتها وعايشتها سواء في زيارات إلى تركيا أو من خلال القراءة والرصد للتجربة التركية، ولكني لا أريد أن يتصور أحد أن الحديث هو وقف على تلك الخبرة، وإنما هي الأقرب إلى الخاطر فقط الآن كنموذج وحالة، وإلاّ فإن هناك تجارب أخرى كثيرة، جديرة بالتأمل والدراسة والتحليل كالتجربة الماليزية والتجربة الباكستانية والتجربة الإندونيسية أيضاً، ولكن التجربة التركية بحكم الجوار الجغرافي والتجانس المذهبي هي الأقرب لنا نسباً ورحماً. كان السؤال الذي يلح على خاطري دائماً خلال السنوات الماضية هو: لماذا لم تعرف تركيا تلك المظاهر الحادة والعنيفة التي صبغت التجربة الإسلامية فيها مثل تلك التي شهدتها المنطقة العربية في أكثر من بلد؟ وبوجه آخر، لماذا عرفت المنطقة العربية ما يمكن وصفه "بعسكرة الصحوة الإسلامية " في حين أن التجربة التركية عرفت فقط "تسييس الحالة الإسلامية"؟ بمعنى إدماجها في المشروع السياسي والتجربة السياسية، وأيضاً الاهتمام العميق بتفاصيل الحياة المدنية والأهلية، من خلال شبكة معقدة من الجهود الحضارية الرصينة في مجالات العمل الخيري والعلمي والبحثي والديني والثقافي والإعلامي وغيره، على الرغم من أن الصدامات العنيفة قد وقعت بين التيار الإسلامي وبين السلطات التركية في أكثر من عهد، ووصلت إلى حد إسقاط حكومات شرعية منتخبة واعتقالات وأحكام بالإعدام أيضاً، وإن كانت لم تُنفّذ مثل الحكم الذي صدر سابقاً على الزعيم الإسلامي المعروف نجم الدين أربكان، ومع ذلك لم تندفع الدعوة الإسلامية هناك إلى شيء من العصبية أو العنف، وأرجو أن نستحضر ـ على سبيل المثال ـ المقارنة مع ما حدث في الجزائر وتجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في صدامها الكبير مع السلطة الجزائرية، وما نتج عنه من مآسٍ كبيرة سارت بذكرها الركبان، وما زالت تعاني منها البلاد حتى الآن، وإن كان يُحمد للرئيس بوتفليقة جُرأته الإيجابية على تفكيك هذا الملف وإعلانه مشروع المصالحة الذي أنهى الأزمة تقريباً، وبدأت البلاد تتعافى وتنهض من جديد، وإن كان الأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت، في تركيا لم يحدث ذلك، على الرغم من قسوة الصدام، وأيضاً على الرغم من الصعوبات القانونية والدستورية التي تواجه العمل الإسلامي؛ لأنك مجرد أن تذكر عبارة الشريعة الإسلامية فإن هذه جريمة يمكن أن تُحاكم بسببها، وعلى الرغم من وجود ترسانة القوانين والإجراءات والمعايير السياسية والاجتماعية المتعسفة التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك، وحكمت البلاد من بعد ذلك وحتى اليوم، وكلها تضييق بل خنق لأي فكرة أو خطاب إسلامي مهما كان اعتداله أو قضيته، ومع ذلك، نجحت التجربة التركية في أن تفكك حالة الحصار، وأن تحقق نجاحات مثيرة للغاية على كل الأصعدة، من أول الصعيد السياسي؛ إذ أصبحت الأحزاب ذات التوجه الإسلامي هي الأبرز والأكثر قبولاً لدى الناخب التركي، أو على الصعيد الاجتماعي، وبرزت عودة الشعب التركي المسلم إلى قيمه الأصيلة، وانتشار الحجاب بصورة غير مسبوقة، وانتشار الفكر الإسلامي على نطاق واسع، أو من حيث النجاح المذهل في الأعمال ذات الطابع المؤسسي عن طريق تفعيل فكرة الأوقاف وحمايتها وتوسيع نطاقها، أو من حيث الثمار الواضحة للنجاح في قطاعات مدنية حديثة كانت غائبة عن الإسلاميين في العقود الماضية، مثل القطاع الإعلامي؛ إذ يمكن للمتابع للحالة التركية أن يرصد تطوراً كبيراً في هذا المجال، فهناك صحف إسلامية تبيع أكثر من نصف مليون نسخة يومياً، بخلاف وجود تجربة سبّاقة في الإعلام الإذاعي، والتلفازي، والبث الفضائي، وحركة نشر خصبة جداً ومنهجية، تتوزع في قطاعات متخصصة أيضاً، كيف حدث هذا النجاح، وكيف نجحت الحركة الإسلامية التركية من أسر "عسكرة" الدعوة وخطابها، وكيف نجحت في أن تتعايش مع طفرات الحداثة، وأن تحتويها وتروّضها في العمل والفكر والثقافة والإعلام والسياسة وغيرها، هذا هو ما نريد أن نعرفه في العالم العربي، وتلك هي الخبرة الضرورية لنا، والتي نرجو أن ينشط لها ناشطون من أجل سبر أغوارها، ونقلها إلى القارئ والمثقف العربي، والمهتمين بالدعوة الإسلامية بشكل أساس.
============(33/42)
(33/43)
(33/43)
(33/44)
"الأسرة" بين الحداثة الغربية.. والرؤية الإسلامية
أ. معتز الخطيب **
…
28/11/2004
الحديث عن الأسرة هو حديث عن شبكة من العلاقات والمفاهيم تشكل النواة الأساسية للمجتمع، كما تشكل المنظومة القيمية، والحاضنَ التربوي للفرد. وعقد المقارنة بين سياقين حضاريين: النموذج الحضاري الغربي والنموذج الحضاري الإسلامي، لمصطلح "الأسرة" وتَشكله وما يتصل به، من شأنه أن يثير عددًا من المفارقات بين النموذجين، ويلقي بثقله على حقول معرفية مختلفة كالفلسفة والاجتماع والدين.
ولست أبالغ إذ أقول: إن حجم المفارقة بين المفهومين تصل حالة من التناقض، ويمكن مقاربة أزمة الغرب الاجتماعية والأخلاقية من هذه المفارقة نفسها، ويمكن إدراك "أوهام" الحداثة من خلال الآثار التي ألقت بظلالها على التغيرات التي عصفت بالمجتمع الغربي والأسرة الغربية والقيم العائلية الغربية، ذلك أن للمعتقدات الدينية والفلسفية أثرها على نمط العلاقات السائد، وذلك مرتبط أيضًا بالمتغيرات الديمغرافية (السكانية) والثقافية والفيزيولوجية، كما أكدت دراسة عن الأسرة الأوربية.
ونحن سنحاول هنا إيضاح تحولات مفهوم "الأسرة" بناء على الفلسفة التي تتحكم فيه، مع عدم إغفال الأشكال المتولدة عنها، والآثار المترتبة عليها.
الأسرة في المفهوم الإسلامي
في المفهوم الإسلامي يعتبر "الزواج الشرعي" بين ذكر وأنثى هو الأساس المكين الذي تقوم عليه الأسرة، ومن هنا نلحظ قصور التعريف الفقهي للزواج الذي يكاد يقصره على مجرد "عقد استمتاع" وكأن ذلك كل غايته وأهدافه!
والأسرة في المفهوم الإسلامي ليست تلك العلاقة المحدودة بالزوجين والأبناء (الأسرة النووية)، بل تمتد بامتداد العلاقات الناشئة عن رباط المصاهرة والنسب والرَّضاع، والذي يترتب عليه مزيد من الحقوق والواجبات الشرعية، مادية كانت كالميراث، أم معنوية كالبر والصلة والصدقات.. (الأسرة الممتدة).
وتقوم في إطار الأسرة كوحدة اجتماعية علاقات بالكيان الاجتماعي العام من خلال علاقات الجوار (حقوق الجار)، والعلاقة بالفئات الاجتماعية الأدنى (الخدم) الذين أمر الإسلام بمعاملتهم على قدم المساواة مع أهل المنزل بناء على القيمة الإنسانية لا الطبقة الاجتماعية.
وتتيح الأسرة الممتدة لأطفالها فرصاً ومصادر من الاقتداء والتفاعل ومصادر العطف والحنان، فتتعاظم الموارد الوجدانية والتعليمية للطفل.
والأسرة في الإسلام تقوم على أساس ديني / إيماني، "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله" (رواه أبو داود). ولذلك وجدنا كثيراً من الأحكام المتعلقة بالأسرة مقرونة بنداء {يا أيها الذين آمنوا} كالميراث (النساء: 19)، والعِدّة (الأحزاب: 4،9)، وحرمة البيوت (النور: 27)، والتربية (التحريم: 6)، وغيرها.
ويقرن الله تعالى بين توحيده وبين بر الوالدين (النساء: 36)، كما بين القرآن أن الالتزام بالتشريعات المنظِّمة للأسرة مبعثه الإيمان بالله تعالى (البقرة: 232)، وأن الغرض من استمرار بناء الأسرة هو إقامة "حدود الله" (البقرة: 230)، وهذا كفيل بأن يجعل الأسرة من العبادات.
والأسّ المكين في بناء الأسرة في الإسلام هو التراحم، حيث يقول تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21). فالعلاقة ليست محض علاقة تعاقدية قائمة على أسس قانونية كما يريد لها دعاة "تحرير المرأة"، وكما هي في الغرب، {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا} (النساء: 19)، و "لا يَفرك (أي يبغض) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر" (رواه مسلم).
وأيضاً فإن الأسرة تقوم على المسؤولية الأخلاقية "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته... الرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" (رواه البخاري).
وهذه المسؤوليات تتحدد (شرعًا) بتفصيلاتها، واستوعبتها كتب الفقه، كما أن لها ضمانات قضائية.
وإذا كنا أشرنا إلى قصور المفهوم الفقهي للزواج فلم يكن غريبًا أن جمهور الفقهاء لا يرون من واجبات الزوجة خدمة الزوج والقيام بشؤون البيت.
تحولات في الأسرة المسلمة
وفي ظل المؤثرات الثقافية والتعقيدات الاقتصادية ظهرت أنماط جديدة وتحولات في الأسرة المسلمة؛ فشهدنا بعض الاختراقات للمفهوم الإسلامي للأسرة، فضلاً عن الممارسات الخاطئة.
ومن الأنماط التي ظهرت مثلاً زواج المسيار، والزواج العرفي، والزواج المؤقت، ونحو ذلك.
كما أننا لا ننكر أن ثمة اختراقات أخلاقية تمثلت في النزوع لإشباع الرغبة مع التحلل من مسؤوليات الأسرة والزواج، فكان أن انتشرت "الدعارة" في بعض الدول، فضلاً عن الإباحية التقنية وغير ذلك.(33/45)
لكن من المهم ملاحظة أن هذه الأنماط والممارسات تبقى على الدوام في إطار "الاختراقات" ولم تشمل المجتمع، وهي ظواهر محدودة بالنسبة للمجتمع العام. والأهم من ذلك هو أن المجتمع لا يزال ينظر إلى هذه الاختراقات على أنها "لا شرعية"؛ مما يفسر كونها ممارسات سرية، ومن ثم فإن منظومة القيم لم تتبدل مع وجود هذه الانحرافات، بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة.
وإذا كنا شرحنا أن الأسرة في المفهوم الإسلامي أسرة ممتدة فهل تعتبر غلبة الأسرة النووية على مجتمعاتنا اختراقاً آخر أو خروجاً من المفهوم الإسلامي؟
صحيح أن المنزل هو القاعدة المادية التي تحدد - إلى درجة ما - نمط العلاقات بين الأفراد الذين يقطنونه، ولذلك وجدنا بعض تعاريف الأسرة تنص على "المنزل الواحد". والأسرة النووية ذات صلة بتعدد المنازل ونشأةِ فكرة "الاستقلالية" التي تأخذ في السياق الغربي قيمة ذاتية فردية.
لكن لسنا نقول هنا: إن الأسرة الممتدة هي الأسرة الإسلامية حتى تخرج منها الأسرة النووية؛ فالعبرة كما قلنا بالروابط والعلاقات القائمة، لا بشكل الأسرة، وبهذا الاعتبار فإن التغير الذي أصاب الأسرة في مجتمعاتنا المعاصرة لم يتجاوز في كثير من الأحوال الناحية الشكلية؛ فلا تزال الروابط والعلاقات قائمة، بالرغم من أن الأبناء أصبحوا آباء، وذلك بناء على أساس ديني / إيماني (صلة الأرحام، وبر الوالدين).
الأسرة في المفهوم الغربي
أما الأسرة في المفهوم الغربي الحداثي فقد شهدت تحولات مختلفة، وربما يشكل عام 1500م وعام 1789م نقطتين بارزتين في تاريخ التحول. ففي عام 1500م وبداية القرن السادس عشر كانت الملامح الأولى للثورة الصناعية الكبرى، وفي سنة 1789م قامت الثورة الفرنسية وكانت تتويجاً لما ذهب في التاريخ باسم "عصر التنوير" (القرن الثامن عشر، وخاصة النصف الأول منه) الذي اتسم بشيوع الدعوة إلى استعمال العقل والانطلاق منه لمحاكمة الأوضاع القائمة.
ودعا فلاسفة عصر التنوير ومفكروه إلى نبذ المجتمع القديم (الإقطاعي) وإرساء مجتمع جديد بدلاً منه تسود فيه حرية الإنسان وحقوقه. والحداثة ارتبطت بعصر التنوير وفكرته عن العقلانية الكلية، أي البحث عن المعرفة اليقينية وعن وسيلة للسيطرة على قوى الطبيعة والمجتمع.
هذه المحطات التاريخية والتحولات الفكرية كان لها أثر كبير في التحولات الاجتماعية؛ ومن ثم نمط الحياة الأسرية في أوربا. ومن هنا وجدنا إحدى الدراسات عن "الأسرة في العصور الحديثة" في جامعة "يال" ركزت على المساحة التاريخية (1500-1789).
لكن التغيرات التي شهدها المجتمع الغربي (الأمريكي والأوربي) فيما يتعلق بالمسائل الجنسية والهيكلية العائلية واستعمال المخدرات، تكمن في ظلال الستينيات من القرن العشرين، وهو ما أطلق عليه ثورة الستينيات (أو الثورة الثقافية).
لكن ثمة فروقا بين المجتمعين، فبينما تم إدماج التحولات الاجتماعية في أوربا مع التقاليد والعادات، أحدثت انقسامات اجتماعية عميقة في أمريكا، لكن دايفيد بروكس يؤكد في كتابه (البرجوازيون البوهيميون في الجنة) أن ثمة مؤشرات على أن أمريكا سرعان ما ستلحق بأوربا فتستوعب ثورة الستينيات الثقافية وتدمجها في العادات والتقاليد الأمريكية.
والآن يمكن الحديث في الغرب، وفي أمريكا على وجه الخصوص، عن تحول في النسيج القيمي للأسرة، من تلك الأسرة الصغيرة بمعناها التقليدي إلى الأسر التي تنشأ بالاختيار الحر، والإرادة الحرة (اجتماع مجموعة من الناس حول عادات معينة، أو اشتراكهم في الانتماء لقيم معينة)، وصار يمكن الحديث الآن عن تشكيلات عائلية متنوعة، كالأسرة التي تشمل الأبناء بالتبني، والعائلات المختلطة والأسرة المثلية (أنثى/ أنثى، ذكر/ذكر)، والأسرة المتشكلة بالتقنيات الحديثة.
وهذه التنويعات تعتبر مجموعة من الخيارات المتاحة والمتعددة، وخصوصاً بالنسبة للشواذ؛ حيث تحول الشذوذ من "الانحراف" إلى "خيار" أو "توجه" مقبول، وحصل الشواذ على الاعتراف الرسمي "بحقهم" في الزواج ومساواتهم في الحقوق مع الزوجين الطبيعيين (ذكر/أنثى) في بعض الدول كهولندا مثلاً، بل وإقرار بعض المؤسسات أو التجمعات الدينية في أمريكا!
هذه التحولات/التنويعات في مفهوم الأسرة وأنماطها تأسست على اعتبار أن الأسرة "التقليدية" نمط اجتماعي تاريخي؛ مما يعني أنه يمكن تجاوزه وتشكيل بديل أو بدائل عنه، واستنادًا إلى الإرادة الحرة، والحق الفردي الطبيعي بمعزل عن فكرة الدين؛ الأمر الذي نتج عنه عدد من الظواهر كالأطفال غير الشرعيين، والإيدز، والممارسات الجنسية الحرة، وغير ذلك.
ففي فرنسا مثلاً بلغت نسبة الولادة دون زواج 40% من مجمل نسبة مواليد سنة 1997م، وأكثر من نصف النساء 53% يضعن أطفالهن دون زواج شرعي، وتضاعفت ظاهرة المعاشرة دون زواج شرعي سنة 1999م مما يهدد بانقراض الأسرة الفرنسية "التقليدية" بحسب التقرير السنوي للدراسات الديمغرافية في باريس، الذي أكد أن الزواج أصبح عادة "روتينية" أقلع عنها الكثيرون.(33/46)
والمهم هنا أن الموقف حيال هذه الظاهرة يعكس الفلسفة التي تحكمها، ومن ثم فهي لا تعتبر في الحداثة الغربية "انحرافاً"، وإنما أشبه بالآثار الجانبية، ومن ثم يكون الحديث عن ممارسة "الجنس الآمن" وابتكار الواقي، ويأتي التبني، أو بيع وتأجير الأرحام، أو التلقيح الصناعي ليحل مشكلة "الإنجاب" للأسرة المثلية، ويأتي تقنين "الإجهاض" ليحل مشكلة الأطفال غير الشرعيين إلى غير ذلك.
والحلول لا تقتصر على التقنية، وإنما تطاول قضية المفاهيم، وقد رأينا كيف تحول الشذوذ من "انحراف" إلى "خيار"، وكيف أن الدعارة تحولت من ظاهرة لا أخلاقية إلى حالة قانونية، فصار البغاء شرعيًّا في الولايات المتحدة وعموم أوروبا.
إذن.. هذه التحولات -في نظرنا- محكومة برؤية فلسفية للإنسان والمجتمع قامت على أنقاض الدين وفكرة الإله، وكان مراد هوفمان قال: "إن المجتمع الغربي أول مجتمع يعيش الإلحاد عملياً".
المفارقة بين المفهومين
لكن السؤال المحوري هنا في سياق الحديث عن مفهوم "الأسرة" في السياق الغربي هو: ما الفلسفة التي تقوم عليها الأسرة؟
يرى البعض أن مفهوم "الدولة" في الغرب حلّ محل "الأسرة" فأصبحت الدولة هي أم الشعب، ونظراً لأن الدولة لم تقم عندنا بالمعنى الدقيق بأدوارها ووظائفها (باستثناء السلطة التي عرفناها جيدًا)؛ فإن الأسرة المسلمة بقيت متحصنة، ومحتفظة بممانعتها ضد التحديث.
لكن هذه النظرة غير دقيقة، فلا يمكن - من وجهة نظرنا - الكلام عن "إحلال" مؤسسة مكان أخرى واستبدالها، فالقضية تنبع من التحولات التي طرأت على المفاهيم التي أسستها الحداثة الغربية؛ فقامت الأسرة على المفهوم الغربي "للحق" الفردي، ومن هنا كانت اتفاقيات (حقوق الإنسان، وحقوق المرأة واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدها، وحقوق الطفل) التي سعت الأمم المتحدة باستمرار لتعميمها وفرضها على العالم باعتبارها النموذج المثال.
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن التحولات في الأسرة الغربية -والأوربية تحديداً- كان لقضية "تحرير المرأة" دور بارز فيها عن طريق خلق "موازين قوى" جديدة داخل الأسرة تم بناء عليها -مع الاستعانة بالآراء اللوثرية (نسبة لمارتن لوثر) في هذا الميدان- إعادة أهم جزء من الخارطة الاجتماعية.
وكمثال، فإن المرأة الإيطالية بدأت "العزوف عن كثرة الإنجاب أو عن الإنجاب كلية أو حتى الزواج، وتطالب بتحول العلاقة بينها وبين الرجل إلى مفهوم المتعة التي يجب أن تتساوى فرصة الرجل والمرأة في الحصول عليها، وبالتالي تفضيل الوظيفة البيولوجية على الوظيفة الاجتماعية" (الحياة: 25/5/2002).
بل إن فكرة "المساواة" باتت في نظر "النسوية" (حركة التمركز حول الأنثى) مطلبا متخلفاً، فالأنثى هي الأصل، ويمكنها الاستغناء عن الرجل تماماً، ويمكنها وتحصيل لذتها وإنجاب طفلها من دونه أيضًا!
وبناء على مفهوم "الحق الطبيعي" في المنظومة الغربية الذي لا دخل للدين فيه، تم إعادة صياغة منظومة قيمية جديدة، كاللذة، والفردية، والاستقلالية، والحرية الجنسية، وحرية تكوين الاختيار الجنسي (الشذوذ)، وأن المرأة مالكة لجسدها ولها حرية التصرف فيه... والدولة هنا هي ضامن / مستند قانوني لحماية هذه الحقوق.
وفكرة الحق والمساواة هذه أعادت صياغة مفهوم "السلطة" فتحولت من الأسرة كمؤسسة.. إلى الدولة، ومن هنا يمكن اللجوء إليها لصون حقوق الابن أو الأب أو الأم كل منهم ضد الآخر بالتوازي، وبالتالي تقلص دور الأسرة مع وجود مؤسسات أخرى تقوم بدورها كالمدرسة والإعلام والمجتمع التعاقدي.
بل إن اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م) اعتبرت "الأمومة" وظيفة اجتماعية يمكن أن يقوم بها أي إنسان.
وهنا نفهم جيداً معنى "الفراغ العاطفي" الذي تعيشه الناشئة في الغرب. وكان الأديب الفرنسي ميشال هواليبيك تحدث عن الصورة المريعة للفراغ العاطفي في أوربا في كتابه (الجزئيات الأساسية) الذي حقق أعلى نسبة مبيعات في أوربا.
فالأسرة في السياق الغربي الحداثي تقوم على أساس تعاقدي، ومن هنا تقلصت مفاهيم وقيم التماسك بين الأفراد والتضامن والتراحم، ومسؤولية الأبوين، ومن ثم تنتهي تماماً المسؤولية العاطفية والأخلاقية عند بلوغ الطفل السادسة عشرة، وتنتهي المسؤولية الاقتصادية بعد ذلك ببضع سنين.
وفي شرح لنتيجة انهيار الأسرة، والفراغ الوجداني الذي خلفها، يذكر ألين بيور وإيميل بيريز في كتابهما (أمريكا: العنف والجريمة) أن معدل الجريمة الأمريكية - مثلاً - طبقاً لسنة 1998م بلغ ما يلي:
- وقوع جريمة سرقة عادية كل 3 ثوان.
- وجريمة سطو كل 14 ثانية.
- وجريمة سرقة سيارة كل 25 ثانية.
- وجريمة سرقة مقرونة بالعنف كل 60 ثانية.
- وجريمة اغتصاب كل 6 دقائق.
- وجريمة قتل كل 31 دقيقة.
ويقدر إجمالي كلفة الجريمة العنيفة في الولايات المتحدة (عدا المخدرات) بأكثر من 700 بليون دولار سنويًّا، وهو مبلغ يجاوز إجمالي الدخل السنوي الفردي في نحو 120 دولة في العالم.(33/47)
ويقدر عدد المتعاطين للمخدرات بنحو أكثر من 12 مليون شخص في أمريكا وحدها، هذا مع الانخفاض الملحوظ في المعدلات التي بدأت سنة 1991م.
أما الأسرة في المفهوم الإسلامي فتقوم على أساس تراحم مبني على الإيمان الديني، وعن هذا الإيمان ينبثق الالتزام بتشريعات وقوانين الأسرة، وفي مقابل الحق الفردي في المفهوم الغربي يأتي الواجب الديني، وفي مقابل الحرية المنفلتة من أي ضابط، تأتي المسؤولية الأخلاقية، وبينما يتم إشباع اللذة بالممارسة الحرة بوصفها حقاً مدعوماً بالحرية، في الرؤية الغربية، يكون إشباع اللذة في الرؤية الإسلامية بالزواج فقط، وبتحمل مسؤولية المساهمة في بناء المجتمع الصالح، والفرد الصالح، وفي حين تشكل اللذة الجنسية نمط حياة الغربي، يتم دمج النشاط الجنسي في حياة المسلم باعتباره شكلاً من أشكال العبادة، "وفي بُضع أحدكم صدقة" (رواه مسلم).
لهذه الاعتبارات كلها وغيرها، وجدنا تفاوتاً كبيراً بين الانحرافات الاجتماعية في الغرب وبين الانحرافات في المجتمعات الإسلامية بالرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة.
عولمة المفهوم الغربي
ومع هذه المفارقة البالغة حدَّ التناقض بين المفهومين نرى أن ثمة محاولات عديدة لفرض النموذج الغربي وعولمته، عبر الإعلام بوسائله المختلفة، والنخبة المتغربة، باعتباره يندرج في عملية "التحديث"، ويتصل بمفهوم "حقوق الإنسان" (بالمفهوم الغربي)، ومن هنا لم يكن غريباً أن يدافع الحداثيون العرب عن الشواذ المصريين، وأيضًا عبر مؤتمرات الأمم المتحدة، وتسخير سلطتها لشَرْعنة النموذج الغربي قانونيا وسياسيًّا من خلال اتفاقيات تتعهد الدول الأعضاء بالإذعان لها، وتنفيذها عبر لجان ومؤسسات تراقب عملية التنفيذ.
ولعل أبرز تلك المؤتمرات والاتفاقيات: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979م)، والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية (1994م)، ومؤتمر بكين (1994م)، والتي ركزت على قضايا مركزية في المفهوم الغربي هي: الحرية الجنسية، والإجهاض، ومصطلح الجندر (بدل لفظ الجنس، ليشمل "التوجهات" الجنسية: اللواط، والسحاق)، وحقوق المرأة الفرد وليس العضو في الأسرة، والمساواة / المماثلة التامة بين الذكر والأنثى، وإلغاء مفهوم "تمايز" الأدوار، وازدراء "الأمومة"، واعتبار العمل المنزلي "بطالة"؛ لأنه من دون مقابل مادي.
والأمر لا يقتصر على مقررات الأمم المتحدة، فثمة جماعات تتمتع بسلطة التأثير في القرار السياسي، وتشكل قوة ضغط، من أبرزها "جماعة الشواذ" التي لها دورها في الضغط على إدارة مؤتمرات الأمم المتحدة، واستطاعت جذب جماعات مسيحية ومسلمة إليها، وهناك "جماعات الحق في الاختيار" و"حق المرأة في الإجهاض" واستطاعت ترجيح كفة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في انتخابات (1992 - 1996م) واستمالت قوى دينية وقساوسة إليها.
تعميم النموذج الإسلامي
فإذا كان هذا حال الأسرة في الرؤية الغربية، وهذه أدوات عولمتها دوليًّا، ومحليًّا من خلال التنظيمات النسوية، فماذا فعلنا نحن تجاه المفهوم الإسلامي للأسرة؟ وإلى متى سنبقى في مرحلة الدفاع عن "الأسرة" المسلمة ونحن "أصحاب رسالة يجب أن يصغي لها الجميع"، بحسب قول مراد هوفمان؟
إن عودة "الله" للمجتمعات الغربية تغدو الحل الحاسم باعتباره القيِّم على القيم، ويمكن لتعاليم الإسلام الكثيفة، والتي تشكل "نظرية اجتماعية" أن تقدم "دواء شافيًا" في المجال الاجتماعي، وتعيد لشبكة العلاقات الاجتماعية تماسكها ووحدتها، وتسد الفراغ العاطفي؛ فالعلاقة الروحية بين الله والإنسان هي التي تلد العلاقة الاجتماعية في صورة القيمة الأخلاقية كما شرحه مالك بن نبي، وكلما ضعف الدين ازداد الفراغ الاجتماعي بين الأفراد وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا". فكيف إذا غاب؟!
لكن يواجهنا سؤال جوهري هو كيف يمكن لنا أن نقدم خطاب الأسرة الإسلامية إلى الآخر بوصفه "دواء" ليحقق الفاعلية الاجتماعية في الغرب؟ هذا يحتاج لمعالجة مستقلة مع بحث السبل والوسائل اللازمة لذلك.
** محرر صفحة الإسلام وقضايا العصر بموقع"إسلام اون لاين.نت" القسم العربي.
==============(33/48)
(33/49)
الاجتهاد والتجديد .. هل من مزيد؟!
سارة الراجحي 6/9/1427
28/09/2006
يتهيّب الكثيرون من "التجديد"، ويجعلون منه مصطلحاً مرادفاً للتغريب أحياناً، و حينما ينادي بعض المصلحين المخلصين بضرورة التجديد في الفقه الإسلامي مثلاً أو في الخطاب الدعوي، أو في قضايا المرأة .. نجد أن هناك من يعترض، ويقابل ذلك بالتشكيك؛ ظاناً أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان .. عبر نزعة استصحابية تشكل عقدة الحفاظ على العادة والمألوف وبناء حاجز أمام كل جديد، حتى وإن كان هو الأصيل الذي ينبغي الاتكاء عليه!
و إذا كان التجديد هو إعادة الشيء الذي بلي وقدم وتشوهت سماته الأصلية إلى حالته الأولى .. فهذا يعني أنه يرادف الأصالة لا أن يعارضها؛ لأن الأصالة تعني تأكيد الهوية و العودة إلى الأصول والثوابت والمرتكزات التي تنبثق منها الأمور، وهذا يفسر لنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" رواه أبو داود .. أي أن هذا المجدد لا يبتكر ديناً أو يبدله، إنما يحيي ويصلح أمور المسلمين وعلاقتهم بدينهم، مقوّماً ما انحرف، ومظهراً ما اندرس.. بالإضافة إلى أن عملية التجديد مستمرة، وليست متوقفة عند أشخاص معينين نظن أن الزمان لن يجود بمثلهم.. كما أنه يتضمن الدعوة إلى التجديد عبر اجتهاد المسلمين؛ لأن السماء لا تمطر مجددين..!
لذلك نحن بحاجة إلى التمييز وعدم الخلط بين التجديد الذي يُعدّ جزءاً حيوياً من ديننا، و بين التجديد بمفهومه الغربي الذي يغلب عليه مجاوزته للماضي وانسلاخه منه، والذي ينظر بمنظور الفلسفة "البراغماتية" التي ترفض القيم المطلقة وثباتها، وتتخذ الواقع ونجاح التطبيق مقياساً للحق وصدق الفكرة.. فالتجديد الذي نحن بصدده يعود للأصول ولا يهدرها، ولا يعتمد الواقع مقياساً للحق والصواب، بل يتحرى فيه الوسائل التي ينزل عليها القيم ليرتقي ويرتبط بها.. أي أنه يقرر القيم والمبادئ الثابتة، ويربط بينها وبين واقع العصر عبر منهجية مقاصدية في فهم النصوص، كما كان في عصر الرسول والصحابة، وكما فعل أئمة المجتهدين.. فكل مشروع نريده أن ينهض ويتحضر لا بد أن يتوغل في الأصالة بنفس درجة توغله في الحداثة.. وإلاّ كان مجرد قديم مقلد، أو غريب مستجلب.
و تجدر الإشارة إلى أن الدين به الثابت والمتغير، فلابد من التفرقة بين القطعيات والظنيات، والأصول والفروع، والأهداف والوسائل.. لأن القطعيات والأصول والأهداف ثابتة، لا مجال للتجديد فيها، أما الظنيات والفروع والوسائل فهذه تحظى بمساحة كبيرة من المرونة و قابلية الاجتهاد البشري، وهذا الذي أكسب ديننا صلاحيته لكل زمان ومكان، فالنصوص متناهية، والأحداث والوقائع والقضايا غير متناهية، لا سيما في عصرنا.. فلا بد من الاجتهاد والتجديد الذي يستدعي الأحكام والحلول الشرعية المناسبة لخضم أحداث عصرنا..
إن محاكاة الماضي المطلقة وتقديس التراث بكل أشكاله وإشكالياته يكون حجر عثرة أمام مهمة الاجتهاد، ويشكل برزخاً بين التجديد والأصالة الحقيقية، يفصل روابط الامتداد والتفاعل والحيوية، و يوثق روابط الجمود والإمعية والغياب عن مستجدات الحياة.. ولا يعني هذا إهمال التراث بالكلية وطرحه جانباً - لا يُقصد به القرآن والسنة فهما فوق التراث - بل يعني فهم هذا التراث وإعمال النص والعقل فيه لا مجرد حمله وحفظه والتسليم به، حتى لا يقع الانفصال والجمود وتعطيل البحث والتمحيص.. بل يقع الإحياء والانتفاع والاستئناس به .. فهو إحدى لبنات التجديد ..
و يجدر التنويه هنا إلى ضرورة التفرقة بين كلام الله - عز وجل - ورسوله صلى الله عليه وسلم و بين كلام بقية البشر؛ لأن البعض يجعل اجتهادات بعض العلماء السابقين كالوحي المنزل من السماء أو كالمسّلمات، فيتوّهم بعضهم الآخر أن تجاوزها هو تجاوز للدين نفسه.. فتقع العداوات والخصومات فيها.. وصارت كالعملاق الذي تتضاءل أمامه أي اجتهادات جديدة، يرمي بعضهم أصحابها بما لا يليق بهم، موهمين الآخرين بأن ثمة معركة بينهم وبين الدين أو الأئمة الأعلام .. بينما اجتهادات الأئمة الأعلام هي في حقيقتها استنباطات تحتمل الصواب والخطأ، و ليست حكم الله، بل الأقرب إليه ظناً، لهم أجران إن أصابوا، وأجر إن أخطؤوا، كما هو الحال تماماً مع الجُدد، وكما أكدّ على ذلك الأئمة أنفسهم حيث ذموا التقليد وندّدوا بمن يدع النظر .. فقد كان الإمام أحمد مثلاً يوصي أصحابه:"لا تقلّدوني ولا مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذوا من حيث أخذوا".(33/50)
نحن بحاجة إلى فهم أهمية التحرر من قيد التقليد والتقديس، واستبداله بالتقدير و الاجتهاد و التجديد .. كي تستهدي عقولنا بهدي الله، وكي تتناغم الشريعة الغراء مع حركة الزمن عبر تطبيق عملي شامل، لا مجرد صندوق من الشعارات نستعين به عند التنظير، وحتى نكون في المنتصف بين اجترار الماضي وتوهم العيش فيه وتقديس التراث بلا مراعاة للواقع وفقهه، وبين الانبهار بالغرب ومحاكاتهم وتقديس حضارتهم بلا مراعاة لأصول الدين.. ونكون بعيداً عن النظرة الأحادية هنا وهناك التي عادة ما تكون قاصرة ومنحازة ..
و بحاجة إلى اجتهادات فردية وجماعية عبر مؤسسات وجمعيات فقهية يقوم عليها علماء أجلاء من مختلف البلدان الإسلامية مشهود لهم بالعلم والفقه وسلامة الرأي والمنهج، يمتلكون أدوات التجديد وضبطه، ليحركوا بها فكرنا وعلومنا الراكدة، ويشرفوا على البحوث العلمية التي تستند إلى الكتاب والسنة، وتراعي الطريقة والعقلية المناسبة لطبيعة عصرنا، يُستفاد فيها من معطيات العصر ووسائل البحث الجديدة، ليبلوروا ويشيعوا "الأصالة المعاصرة" و "المعاصرة الأصيلة"، بعيداً عن وطأة التناقضات التي تفرزها بعض التيارات والتوجهات الفكرية.
===========(33/51)
(33/52)
أجواء الحروب الصليبيّة
ياسر بن علي الشهري 3/9/1427
25/09/2006
يعيش العالم -منذ سنوات- أجواءً مماثلة لما عاشه أيام الحروب الصليبية، وتكاد تكون العلاقة بين الأمتين "المسلمة السنية" و"المسيحية المتصهينة" هي الأبرز على مسرح العلاقات والأحداث العالمية، وإن كانت هذه الأجواء متأثرة بسمات المرحلة الحالية وأدواتها -ما بعد الحداثة، وما بعد الإعلام، أو باختصار "ما بعد العقل!!"- مما أشكل على كثير من المسلمين فهم هذا الواقع وإحسان التعامل معه، خاصة أولئك الذين ابتلاهم الله بتولي أمور الخلق من العلماء والقادة.
أبرز ملامح هذا المشهد هو عودة التكامل والتعاضد بين المؤسسة الدينية المسيحية والمؤسسة السياسية الغربية، -بعد أن ثبت لدى المؤسستين العجز عن تحقيق الأهداف الإستراتيجية لكل منهما، التنصير والسيطرة، على التوالي- في مقابل العمل المستميت إلى فك الارتباط بين النظامين في بعض بلدان العالم الإسلامي.
لقد حصدت المؤسستان "المسيحيتان" إخفاقاً ذريعاً مع الشعوب المسلمة -إخفاق التنصير وإخفاق الاحتلال- أعاد للعلاقة القديمة بينهما بريقها ووهجها، فانطلقت الحملات التنصيرية تحت غطاء الحرب على الإرهاب ومؤسسات المجتمع المدني العالمي لتحقيق الهدف الأول -التنصير- وفي الخط الموازي انطلقت حملات السيطرة لتزيح العدو الأكبر للحضارة المادية الغربية -الإسلام- تحت غطاء الحرب على الإرهاب أيضاً والمؤسسات السياسية الدولية، مع تركيز شديد على البناء التحتي للمعركة -القوة الاقتصادية والتكنولوجية- وعمل دؤوب لتجريد الخصم منهما.
في الوقت ذاته، ليس من المصادفة ما يجري في المجتمعات المسلمة حينما تتوافق الحملات الصليبية الخارجية -الجديدة- التي تستهدف شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعقيدته السمحة وأتباعه -الذين يسجلون فصولاً من العزة والكرامة في ميادين المواجهة الفعلية_ تتوافق، مع ما يُروّج من انتقاص سنته والاستهزاء بها -واستنزاف قوى أتباعها في ميادين وهمية- على أيدي بعض الإعلاميين و"مغتصبي الثقافة والفن" في المجتمعات المسلمة.
وليس من المصادفة ما تنفذّه وسائل الإعلام في بلاد المسلمين من حملات "ترشيد المشاعر (الولاء والبراء)، وحب الآخر أكثر من حب النفس، وتعدد الأفكار -العقائد- والمذاهب"، فضلاً عن "ثقافة المتعة والترفيه"، و "ثقافة الجسد" التي كشفت عن حجم الهزيمة التي يغرق فيها القائمون على هذه الأدوات المعادية سواء كانت مأجورة أو غير مأجورة.
وليس من المصادفة ما يتعرض له التديّن الحقّ -اتّباع الرسول- من التشويه والاتهام بالتطرّف والغلوّ، وتعمّد إلقاء تهم الإرهاب وتمويله على أي مستوى من التنسيق بين المنظمات الإسلامية أو الأفراد المخلصين.
لقد كشفت ردة فعل الأمة على حادثة الرسوم المسيئة لمقام الرسول الكريم أن الغضب الشعبي الإسلامي متعطش لقيادة توجّهه وتنسيق جهوده المتناثرة نحو أهدافه الكبرى للنهوض من الذلة التي تقبع فيها الأمة، تحت وطأة العدو الظالم وبعض الأنظمة المتذبذبة.
وأفرزت تلك الحادثة -ومن قبلها التجارب الديموقراطية- وما تبعها خوفاً شديداً من تصاعد القيادات الشعبية، وتكشّف للعالم الديموقراطي وغيره أن الديموقراطية والمجتمع المدني سيتيحان الفرصة لصعود المد الصحوي الإسلامي في شرق العالم وغربه.
المواقف الحكومية الرسمية في حادثة الإساءة للرسول الكريم جاءت مخجلة ومتأخرة، وكانت تتعمّد تحميل مسؤولية عجزها على أجهزتها الاستخبارتية والدبلوماسية والإعلامية لتبقى حقيقة العجز وترهل الهوية؛ غائبة عن أذهان الشعوب المقهورة.
إلاّ أن القيادات الشعبية استطاعت استثمار الفرصة والتقدم لقيادة الطموحات الشعبية الإسلامية نتيجة المساحات المتاحة -في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر- والتي أوجدت أساساً تحت الضغوطات الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتتيح للفرق المحلية في بلاد المسلمين -من فرق تنفيذ إستراتيجية الفوضى- تنفيذ أدوارها كطابور أول في المعركة الفكرية.
لما وقع تطاول -بينديكت- تذكرت بعض الحكومات التحرك الشعبي وقوة العلاقة بينه وبين القيادات الشعبية -غير الشرعية كما ترى الأنظمة السياسية العربية- فكانت مجبرة على التحرك حينئذ للالتفاف على القيادة التي تُدار بواسطتها ردّة فعل الأمة، واستطاعت الحكومات عبر مجموعة من الأدوات -في مقدمتها القوة الإعلامية- من السيطرة على الوضع حتى الآن إلى حد كبير.
إن المتابع لوسائل الإعلام في العالم الإسلامي على اختلاف أنواعها وأهدافها -خاصة العربية- سيلحظ أنها تنفذ إستراتيجيات احتواء الشعوب، وترشيد المشاعر، وجلد الذات الفاعلة -وليس المقصرة-، بهدف امتصاص غضبة الأمة، وتوجيه مساراتها لتخرج في النهاية بأبسط العقوبات وأقلها أثراً على العدو -المقاطعة- ثم سرعان ما نجد هذه الوسائل عادت إلى إجراء المصالحة بين الشعوب وبين البضائع المقطوعة!! فهي واثقة من قدرتها بعد احتلال "بغداد" و"قيم الأفغان" بالإعلام!!(33/53)
(قارنوا بين حجم مواد التغطية وأساليبها لحديث بينديكت، وكيفية معالجة ذلك، وبين حجم التغطية لما قيل إنه اعتذار، وأساليب تغطيه ذلك، وما ينفق من الوقت والجهد في المعالجة الإعلامية لجهل بينديكت؟ وتأمّلوا نبرات تلك الأصوات وهي تتحدث عن منبع المشكلة والحلول العملية التي تصب كلها في خانة ترك الأمر لأهله "السياسيين" وتكريس ضعفنا القيمي والأخلاقي!!، تأكّدوا وأنتم تنظرون، هل في هذا الإعلام ما يوحي بأننا نمتلك أحكاماً قيمة ومعايير مثالية نحاكم إليها كل ما ينتجه الإنسان من معرفة وفنون وسلوكيات متنوعة، وأن ثقافتنا الإسلامية هي المرجع الصحيح لتقييم أي ثقافة أخرى انطلاقاً من الحقائق المطلقة التي تعرّي المرجعيات بمدى قربها أو بعدها عن الإسلام؟! وإن وُجد ذلك فكم حجم المواد المناقضة له؟!).
لقد بات العقلاء يدركون خطورة الزاوية التي تُدفع إليها الأمة يوماً بعد يوم، وخطورة المحاولات المستميتة لتجريدها من القوة العسكرية، ومن القوة الإعلامية، فضلاً عن القوة السياسية التي فقدتها من عقود طويلة، حتى نسيت الأمة أن السياسة قوة فاعلة يمكن أن تحقق الغلبة لها، أو تحمي حقوقها وممتلكاتها وثرواتها دون ضوضاء!!
الفرصة سانحة للجميع -السياسيين والإعلاميين- لدفع تهمة التخاذل عنهم، والفرصة متاحة للعاملين المخلصين لأنفسهم، قبل دينهم، أن تستثمر الأحداث لإعادة الأمة إلى دينها حتى يهيمن على كافة مناحي الحياة، وقيادتها لأداء واجب الاستخلاف والشهادة على العالم، ومن لم يفعل فلن يضر بأول من نفسه، ولن يغير الحقيقة (المطلقة):(إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)*
* الأعراف جزء من الآية
============(33/54)
(33/55)
الكاتب المغلوث
يقول بعض أهل العلم: إن لكلٍ من اسمه نصيباً، وفي لسان العامة يقولون: كلب مغلوث، أي : مسعور ..وما كنت أظن أن هذا الداء سينتقل إلى بعض البشر، ويتسمى به، حتى ظهر علينا كاتب يُدعى : غازي المغلوث، كان له من اسمه أوفر الحظ والنصيب، هذا الكاتب - وهو أستاذ في الثقافة الإسلامية بجامعة الملك فيصل !!.
أطلقته صحيفة الوطن السعودية !! لينهش لحوم خيار البشر عبر مقالاته المسمومة، ويغزوهم بسيفه الخشبي المتهتك ، حتى يكاد ينطبق عليه قول المولى عز وجل : (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ)) (الأعراف:166-167) .
ونسي أن لحوم خيار الأمة مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصهم معلومة ..
اعذروني إن كنت قد قسوت في القول، أو أسأت في العبارة ، فإن الله يقول : (( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ )) (النساء:148) .
ولو كان الظلم واقعاً على نفسي، لما خططت حرفاً وحداً، لكنه واقع على خيار الأمة وسلفها الصالح، باسم الإصلاح والتنوير !!
وقبل أن نعرج على مقالات هذا المغلوث، يحسن بنا أن نتعرف على انتمائه .. فهو ينتمي إلى المدرسة القرضاوية - إن صح التعبير - والتي يمكن أن نسميها مدرسة التميع في العقيدة والأحكام .. لذا نجده في مقال له في جريدة الوطن (عدد: 347) بعنوان (قراءة في فكر الشيخ القرضاوي) يثني على القرضاوي، بل يضعه في قائمة مجددي وعمالقة الإسلام كالنووي، وابن حجر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والعز بن عبد السلام، والسيوطي!! على حد تعبيره، في الوقت الذي نراه يطعن في المنتمين إلى المدرسة السلفية، وأهل الحديث، بل في المدرسة ذاتها، وهذا هو فحوى غالب مقالاته القليلة ..
ففي صحيفة الوطن (عدد : 324) كتب مقالاً بعنوان : (الجماعات السلفية، والإشكاليات المزمنة) يرى فيه أن الحركات السلفية في معظم أقطار الوطن العربي / الإسلامي تعاني من حالة مرضية مزمنة، تتمثل في فقدان القدرة على التعاطي مع العصر، والتماهي مع مستجدات وأدوات الحداثة الكونية، فلا زالت تتخبط في مناهجها! .
وتتعثر في برامجها! وتفقد مصداقيتها، مما جعلها تبتعد عن التأثير في الجماهير !! هذا نص ما ذكره عليه من الله ما يستحق .
ثم يذكر أن من المطبات التي وقعت فيها الجماعات السلفية في خطابها المعاصر : النظر إلى التراث بعيون تراثية لا نقدية، ومن ثم - يقول - هناك نظرة تضخيمية لأعلام التراث، فهم وحدهم يحتكرون الحكمة والعلم والصواب ، والخير كل الخير في التأسي بهم والسير على منهاجهم !!!
وأقول : إن لم يكن الخير في اتباع السلف الصالح ، والسير على منهاجهم، فأين يكون ؟ هل يكون في اتباع الخلف وما ابتدعوه في دين الله .
أما النظرة التضخيمية لأعلام السلف وأنهم وحدهم يحتكرون الحكمة والعلم والصواب .. فلم يقل به أحد من السلف الأوائل ولا الأواخر .
بل شاع في كتب السلف قول الإمام مالك رحمه الله : (كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد عليه إلا صاحب هذا القبر) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضخيم أئمة السلف وأعلامهم لما بلغوه من العلم والمكانة ونفع الأمة ، خير من تضخيم الخلف وما ابتدعوه في دين الله كما فعل الكاتب بشيخه القرضاوي .
ثم يصل ضلال الكاتب إلى ذروته، فيقول بخبث : من خلال قراءة الأدبيات التي تنطلق منها الحركات السلفية، نجدهم يتترسون بنزعة حجاجية غير مقنعة، وهي أن ثمة منهجاً للسلف واحداً ينبغي التماهي والتأسي به، وهذه مفارقة عجيبة، لأن هذه الحركات منقسمة على نفسها إلى جماعات وحركات كلها تدعي التماهي مع نهج السلف والاقتداء به . وأقول :
أولاً : هل ثمة شك في أن للسلف منهجاً واحداً ينبغي التمسك به .
وإذا كان الكاتب غير مقتنع بذلك ، فذلك ناتج عن انحرافه عن منهج السلف .
ثانياً : الكاتب لم يفرق بين الجماعات السلفية الحقة، وأدعياء السلفية، فليس كل من تسمى بالسلفي يكون سلفياً ، فإغفال هذه النقطة في الحديث عن السلفية يدل على أمرين : إما جهل الكاتب بالواقع، أو خبثه واصطياده في الماء العكر ، وهذا هو الظاهر .
ثالثاً : هناك أمور اجتهادية ليس فيها نص قاطع ، فتختلف فيها وجهات النظر، ومثل هذا الاختلاف يقع بين أفراد الجماعات السلفية وغيرها، فليس هو حكراً على الجماعات السلفية وحدها، ومثل هذا الاختلاف سائغ، ولا يلزم أن يتفق السلفيون في كل صغيرة وكبيرة لاسيما مع اختلاف البلاد واختلاف الأوضاع .
ثم يستطرد الكاتب في كيل التهم والافتراءات على الجماعات السلفية والذي يطول الرد عليها، بل إنها لا تحتاج إلى رد لمن كان لديه أدنى بصيرة ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :
1 - ادعاء الحقيقة المطلقة التي لا يرقى إليها شك، ورفض الرأي الآخر، ويقصد بالرأي الآخر، ما خالف مذهب السلف .(33/56)
2- استنساخ الأقوال القديمة دون اعتبار زمانها ومكانها، واجترار اجتهادات الفقهاء القديمة وتقديمها في طبعة جديدة .
3- التوظيف المكشوف (كذا) لآراء السلف الصالح، والانتقائية حسب الهوى .
4- رفض النظرة المقاصدية للنصوص الشرعية، والوقوف عند ظواهر النصوص .
5 - عدم الاهتمام بالعمل الاجتماعي وخدمة الناس ومعايشة همومهم ومشاكلهم ..
6- عدم الاكتراث بالمواجهة المصيرية مع الحضارة الغربية والسعي لأسلمة المعرفة والفنون والاقتصاد والسياسة، والانشغال!! بالرد على المتصوفة والأشاعرة والماتوريدية !!.
7- رفض الحوار والنقاش مع الفرقاء (المخالفين) واستدعاء الخلافات الفقية والكلامية القديمة .
8- الوعي المنقوص ، وعدم الانعتاق من أسر التراث الفقهي والكلامي وأعلامه ...
هذه مجمل التهم التي وجهها الكاتب لأتباع السلف دون تمييز بين الصادقين منهم والأدعياء، وهي تهم جائرة وظالمة، صادرة من قلب متشبع بالبدعة، منافح عنها ..
وليس المقصود - فيما يبدو - من هذا المقال نقد الجماعات السلفية وإصلاحها، وإنما المقصود تنفير الناس من المنهج السلفي القويم المتمثل في أتباعه المنافحين عنه، وصرفهم إلى مناهج الخلف المنحرفة ، وهذا ما تدأب إليه صحيفة الوطن وللأسف الشديد منذ صدورها في بلاد التوحيد .
وفي مقال آخر له في الصحيفة ذاتها (عدد : 406) بعنوان : ( المشروع الإسلامي ..) ويقصد به تطبيق الشريعة الإسلامية، يردد ما قاله العلمانيون منذ زمن من غياب الفكر السياسي في المشروع الإسلامي، فيقول : ليس من شك أن ثمة غياباً للفكر السياسي في المشروع الإسلامي المعاصر، فلا يملك رؤية واضحة أو برنامجاً يثبت من خلاله قدرته وكفاءته وأحقيته في القيادة ثم يستدل على ذلك ببعض التجارب المعاصرة، فيخلط بين أصحاب المناهج المنحرفة ، والمنهج الصحيح ..
وقد نسي وهو يردد ما يقوله العلمانيون أعداء لشريعة أن صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجراً لم يكن لديه برنامجاً - بالمعنى الذي يدندنون حوله - لتطبيق الشريعة، بل كانت الأحكام تنزل تباعاً في القضايا والأحكام المختلفة، حتى اكتمل الدين، وتمت النعمة على مدى عشر سنين ، فأي رؤية اليوم أوضح من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وأي برنامج أحسن منهما لا سيما مع توافر العلماء الربانيين الذين لا يخلو منهم عصر ولا مصر .
ثم يصرح بأن الواقع اليوم غير مهيء لتطبيق الشريعة ـ ولست أدري متى يكون مهيأ - فالشريعة في نظره لا تطبق ابتداءً في ظل الفقر والجوع والبطالة والجهل .. الخ ، فأقول : إذاً ما قيمة الشريعة إذا لم تحل مشاكل الناس ؟
ثم يبرر رفضه لتطبيق الشريعة بأنه إذا كان المقصود تطبيق الحدود فالغالب أنها لا تطبق إلا في حالات محدودة ومعينة ، كحد الزنى والردة والسرقة وهي الاستثناء وليست الأصل، أما إذا كان المقصود من الشريعة بقية الأحكام والتشريعات، فثمة تشابه كبير بين قواعد المذاهب الإسلامية، والقواعد القانونية المعاصرة نتيجة استطراق الآراء والأفكار والعبارات خلال الأوعية البشرية المتشابهة في الطبائع، والمتماثلة في الظروف، وتقارب النفوس والعقول، وتشابه التصرفات والمعاملات .. الخ، فإذاً لا حاجة إلى تطبيق الشريعة بزعمه .
ثم يثني على الحضارة الغربية التي تعلي من قيمة الإنسان !! في مقابل الحضارة الإسلامية التي تعلي من قيمة الجماعة على حساب الإنسان حسب زعمه، مستشهداً بقول المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري !!!
وهذا حق، فهي تعلي من قيمة الإنسان الغربي بل حتى الحيوان البهيم، أما المسلم فهو في نظر هذه الحضارة أحط درجة من الحيوان ، وهذا ما تشهد به أفعالهم في شتى بقاع الأرض .
وفي مقال له آخر في الصحيفة ذاتها (عدد: 442)، يستشهد بقول للمفكر المغربي محمد عابد الجابريـ وهو من المبشرين بما يسمى بالمذهب الانتقائي ، والذين يزعمون أن العلم شيء والعقيدة شيء آخر - يستشهد بمقولة له وهو يتحدث عما سماه بالـ (أنا) وثقافة الآخر، وأن الأحداث التي حصلت منذ حملة نابليون على مصر، وإلى وقتنا الراهن كشفت ضعف المسلمين وتخلفهم ، وتفوق الأعداء، وهذا حق لا مرية فيه، لكنه يعزو ذلك إلى ما سماه بالـ (أنا) عند المسلمين، التي تمثل - حسب زعمه - الحق الذي لا مرية فيه، والآخر يمثل الباطل الذي لا شبهة فيه .. ثنائية الهدى والضلال .. حزب الله وحزب الشيطان .. الفرقة الناجية والفرقة الهالكة .. هذه المصطلحات الشرعية التي وردت في الكتاب والسنة، تفسر - في نظره - تأزم وضعية الآخر في تراثنا .. وهذا كلام خطير، لا يصدر عن مسلم - فضلاً عن أستاذ جامعي - يدرك ما يقول .
ثم يعود إلى الوراء ليذكر تكفير بعض علماء الحديث لأبي حنيفة، إحراق الحنابلة لمنزل الطبري، عراك الحنابلة مع الأشاعرة ..الخ، فيخلط الماضي بالحاضر مع التباين الواضح في واقع المسلمين قديماً وحديثاً، كما يلاحظ تركيزه على أهل الحديث والحنابلة كعادته في لمز السلف وأهل الحديث .(33/57)
ثم يثني على الآخر البعيد، وهو الغرب الكافر، فيعزو نجاحه وتقدمه المطرد على المستوى السياسي والفكري - حسب تعبيره - إلى إيمانه بمنظومة قيمية، تقوم على القبول بالآخر، والتسامح معه، والحق في الاختلاف، ونسبية الحقيقة، ونسبية المعرفة .. الخ وقد نسي أو تناسى جرائم الغرب التي يرتكبها في كل زمان ومكان لتحطيم المسلمين وإذلالهم وقتلهم وتشريدهم، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر .. ولو صدق لقال إن الهزيمة النفسية، والإعجاب بالغرب الكافر، والخضوع له، هو السبب الرئيس في تخلف المسلمين وتأخرهم، وهو الداء العضال الذي أصاب هذا الكاتب وأمثاله ممن يدعون أنهم من أصحاب الفكر المستنير .
ولا يقف الكاتب عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى إنكار ما يسمى بالغزو الفكري أو الثقافي للعالم الإسلامي في مقال له في الصحيفة ذاتها (عدد : 429) بعنوان (وهم الغزو الثقافي) ويسخر من العلماء والدعاة الذين حذروا من هذا الغزو، كأمثال محمد محمد حسين، ومحمد رشيد رضا ، وقد عد رجوع هذا الأخير عن المنهج العقلي في تفسير النصوص، إلى المنهج السلفي ردة إلى الوراء، ونكوصاً عما أسماه بـ (المشروع النهضوي الكبير) ..!!!
ويعزو لجوء هؤلاء العلماء والدعاة الأجلاء للتحذير من الغزو الفكري إلى العجز الذي ظهرت تجلياته - كم يزعم - في الخطاب الإسلامي عن تقديم بديل سياسي، ثقافي، اقتصادي للمجتمعات الإسلامية، فيلجئون إلى الشعارات المعلبة الجاهزة، والأسطوانات المكرورة، ويعلقون عليها فشلهم الحضاري عن اجتراح البديل .. هكذا يفسر جهود أولئك العلماء والمصلحين .
ثم يخلص إلى القول أن لا قضية حقيقية في هذا الموضوع ، فلا يوجد ثمة غزو ولا من يغزون .. كل ما هنالك أن ثمة حضارة غربية علت وهيمنت .. الخ .
وأقول : هاهنا مكمن الداء، فإن الحضارة الغربية قد علت مادياً، لكنها روحياً تتمرغ في الحضيض، ونحن المسلمين ، نحن الأعلون بإيماننا وعقيدتنا ومبادئنا كما قال تعالى: (( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )) (آل عمران:139) .
فمتى ما تخلينا عن عقيدتنا ، وأحسسنا باستعلاء الكافر علينا ، كانت الهزيمة الحسية والمعنوية كما هو حال المسلمين اليوم، وهذا ما يفسر انتصار المسلمين الأوائل الذين لم يعرفوا الحضارة المادية، على أكبر حضارتين في العالم آنذاك : فارس والروم .
وختامأً: فإني أنصح هذا الكاتب بتقوى الله عز وجل، وأن يكف عن لمز المؤمنين ، وتنفير الناس عن منهج السلف، فالخير كل الخير في اتباع منهج السلف الصالح .
والله ولي التوفيق ، وصلى الله على نبينا محمد .
=============(33/58)
(33/59)
متزمتون في قلب الحداثة
حسن السرات
Image
صورة لأحد عبدة الشيطان في الغرب
اكتشفت لجنة تحقيق فرنسية يوم الثلاثاء 21 نوفمبر 2006، خلال زيارة مفاجئة لطائفة دينية إنجيلية، وجود 18 طفلا مقطوعي الصلة عن العالم: لا يذهبون إلى المدرسة، ولا يلعبون، ولا يخرجون، حتى لا يعرفون البطل الرياضي الفرنسي الشهير زين الدين زيدان. وعلاوة على ذلك، لا يعرفون الإنترنت، ولا السينما ولا التلفزيون، ولم يجري تلقيح لهم ضد الأمراض والأوبئة، ولا يخرجون إلا نادرا وفي صحبة آبائهم في أثناء بيعهم لمزروعات بساتينهم الطبيعية.
وأصيبت اللجنة بالذهول والدهشة وهي تعثر على أطفال بين 6 و16 سنة لم يسجلوا في أي مدرسة، وعلم أعضاء اللجنة أن هؤلاء الصغار هم أبناء لفرنسيين أعضاء في طائفة دينية تدعى "تابتاس بلاس" المستقرة قرب جبال البرانس الأطلنطية.
وقال رئيس اللجنة البرلمانية إن ما بين 60 ألف و80 ألف طفل فرنسي معنيون بظاهرة الطوائف الدينية التي تشكل خطرا عليهم، مقدما مزيدا من المعطيات في تقرير هام نشر يوم 16 ديسمبر 2006.
وتنتمي هذه الطائفة إلى الحركة الأصولية الأمريكية "جماعة مملكة الشمال الشرقي لإخوان بليموث" المتمسكين تمسكا حرفيا بالإنجيل.
ولهذه الجماعة، التي يبلغ عدد أفرادها بضع مئات، اثنتا عشرة منطقة تتمركز فيها في العالم، اقتداء بأسباط بني إسرائيل الاثني عشر: أربعة في الولايات المتحدة، والباقون في فرنسا والبرازيل والأرجنتين وبريطانيا وكندا وإسبانيا وأستراليا وألمانيا.
وتعرف نفسها على أنها جماعة تريد العيش كما عاشت الكنيسة الأولى، ويملك أعضاؤها متاجر ومطاعم ومخابز، ويبيعون منتجات الصناعة التقليدية.
أمثال هذه الوقائع والمآسي حدثت وتحدث في البلدان الغربية كثيرا، وتضع حداثتها موضع نقد حاد وسؤال متقد، إذ كيف يمكن أن يخرج من رحمها مثل هذا التزمت والتشدد؟ أليس ذلك دليلا على أن هذه الحداثة معطوبة ولا تلد إلا أبناء كفرة مستعدين للقضاء عليها والحكم عليها بالإعدام الطبيعي أو المستعجل؟
ألا يبرهن وجود التزمت في قلب الحداثة على أن الأمة قد تلد ربتها وفق الحديث النبوي المتواتر والمتداول، وأن السرطان كامن في أحشائها؟ ألا تعتبر هذه الظاهرة أبلغ رد على دعاة الوضعية القديمة والحديثة الذين زعموا أن البشرية تجاوزت التفكير السحري والديني، وأنها بلغت مبلغ التفكير العلمي العقلاني الذي أغلق الباب إغلاقا أمام محاولات العودة إلى الوراء؟ وكيف تظهر نزعاتنا الإسلامية المتزمتة بالمقارنة مع نزعات الغرب؟ لنترك هذه الأسئلة جانبا حتى نستطلع نماذج أخرى للتزمت الديني الغربي؟
أحداث خطيرة
الطوائف الدينية الغربية بلغت من الكثرة حدا فاق الثلاثمائة طائفة في فرنسا وحدها، فكيف بالبلدان الأخرى، وقد تنامت هذه الطوائف بسرعة كالفطر بعد تلاشي المؤسسات الدينية الغربية التقليدية، وسمحت التعددية والفردانية للأشخاص والمجموعات بتأسيس جماعات دينية مختلفة اعتبرتها وسائل الإعلام والحكومات الغربية ظاهرة خطيرة جدا تهدد النسيج الاجتماعي، بل والحياة الإنسانية على وجه هذه الكرة الأرضية نظرا للعقائد المدمرة التي يعتنقها "الشيوخ" و"المريدون" في هذه "الطرق الدينية الجديدة".
فقد شهد العالم عدة مآسٍ وأحداث مؤلمة ذهب ضحيتها أفراد كثيرون، مثل الانتحار الجماعي لأتباع "معبد الشمس" في كندا وسويسرا عام 1993 ثم في فرنسا عام 1994، ومصرع أتباع طائفة دافيد قريش بمعبد واكو في الولايات المتحدة عام 1993، وقضية الغازات السامة لأتباع الحقيقة السامية الذين أرادوا التعجيل بنهاية العالم عام 1995 وحكم على زعيمها بالإعدام في سنة 2004، وغيرها من الأحداث الخطيرة.
العظة السوداء!!
تعتبر طائفة عبدة الشيطان أخطر الطوائف الدينية الحالية، للجرائم التي ترتكبها من قتل وسفك دم وتقديم القرابين البشرية على أنها مناسك وطقوس لإرضاء الشيطان. وقد عرفت هذه الطائفة انتشارا واسعا في العقود الماضية وصل إلى بعض بلدان العالم العربي والإسلامي كالمغرب ومصر.
وتعتمد هذه الطائفة على ركنين اثنين في عقيدتها، وهما الصلاة المقلوبة والسحر؛ والصلاة المقلوبة هي الصلاة المسيحية بكل ما فيها غير أن الأجزاء المتلوَّة من الإنجيل تقرأ بالمقلوب بأفواه رهبان يرتدون اللباس الأسود ولا يظهرون وجوههم، ويطلق على تلك الصلاة "الصلاة الشيطانية" أو "الموعظة الظلماء" أو "العظة السوداء". ولا تقبل تلك الصلاة حسب عباد الشيطان وأئمتهم إلا بعد تقديم قربان للشيطان بارتكاب "أكبر جريمة يمكن تصوُّرها" كذبح الأطفال.
والطائفة الشيطانية مقربة من اليمين النازي، وتشهر في "كنائسها" الصليب المعقوف رمز النازية، ولديهما معا ردود الفعل ذاتها، والمخاوف المضمرة نفسها، والدوافع عينها، والتهور ذاته. يعقدون اجتماعاتهم في أماكن خاصة لا يلجها إلا الأعضاء الحقيقيون الموثوق فيهم، ويمكن أن يكون المكان شقة مهجورة متسخة، أو نفقا تحت الأرض، أو مقبرة أو كنيسة مهجورة.
كنيسة الشيطان
وعبدة الشيطان لا يؤلهون إبليس وأتباعه فحسب، بل يقدسون الجنس أيضا، خاصة(33/60)
زعيم طائفة الحقيقة السامية في اليابان
بين الأعضاء الأغنياء، كما نقل ذلك الكاتب الفرنسي دومينيك صاندري في كتابه "نحو البحث عن الطوائف السرية اليوم"، إذ يضع الأعضاء المشاركون في "القداس المظلم" جسد امرأة عارية في "محرابهم" معلقة على صليب مقلوب، ثم يطوفون بينها وبين الكاهن الذي ينشد أبياتا شعرية للشاعر الفرنسي الشهير بودلير تمجد الشيطان.
ولم يتورع عباد الشيطان عن ارتكاب جرائم قتل، وإن كانوا في مناصب سياسية رفيعة، مثل جرائم قتل النساء التي ارتكبها نائب رئيس ليبيريا كلارانس سيمبسون. وفي 1966 بالمكسيك أحرقت امرأة عارية تقربا إلى الشيطان، وبعد ثلاث سنوات، أقدم مزارعون تابعون للطائفة في كالكوتا على اختطاف طفلة تبلغ أربع سنوات من العمر، وقطعوا جسمها إلى أجزاء، ثم دفنوا ما تبقى في الأركان الأربع من حقل زراعي لاستدرار الأمطار في موسم جفاف.
وفي يوليوز1971 بميامي ولاية فلوريدا الأمريكية، قامت امرأة من أتباع الطائفة تبلغ 22 عاما من العمر على اغتيال رجل يبلغ 72 سنة طعنا بالسكين معترفة أنها وجدت في ذلك لذة لا تقاوم.
ولرصد الإقبال المعتبر على "عبادة الشيطان" واهتمام الناس به، تقدم أرقام مبيعات الكتب والروايات والقصص مؤشرا بينا على ذلك، خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تباع منها ملايين النسخ، ويشكل اسم الشيطان والسحر الأحمر والقداس المظلم علامة مثيرة تجذب القراء، ويندرج كتاب "هاري بوتر" ضمن هذه الكتب التي حطمت أرقام المبيعات وسلبت عقول الكبار والصغار.
وللشيطان كنيسته في سان فرانسيسكو تعرف باسم "كنيسة الشيطان"، وقد أسست في 30 إبريل/نيسان 1966 من قبل أنطوان ساندور لافي، ولها أتباع في جميع أنحاء العالم. وفسر مؤسسها ظهورها بأنه رد فعل ضد أخلاق النفاق المسيحية منذ ألفي عام، أخلاق قمعت الغرائز الطبيعية للإنسان، خاصة الغرائز الجنسية.
ولهذه الكنيسة إنجيل غير منشور، يجعل المال والقوة واللذة هي القيم العليا، ويجعل الفقر والمسكنة والصدقة هي القيم السفلى؛ لأنها مظاهر ضعف ممقوتة، وفي هذا تلتقي كنيسة الشيطان مع الإيديولوجيا النازية، ولذلك فمعظم أعضائها من طبقة الأغنياء والمترفين، الذين يوضعون في ترتيب من أربع درجات: المبتدئون، والسحرة، والكهنة، فالساحر الأكبر وهو الأعلى.
شهود يهوه
وهي طائفة تتركز في الولايات المتحدة، لكن لها فروعا وأتباعا في مختلف أنحاء العالم، تأسست عام 1874 بأمريكا على يد شارل تيز راسل (1852-1916) وهو رجل أعمال أمريكي تفرغ لنشر معتقداته، بعد فراغ روحي مر منه، واعتقد أن المسيح يوشك أن يظهر ويعود من جديد، وأنه يوجد بين الأنام، لكن لا يبصره إلا "المؤمنون". كما اعتقد أن مهمته هي التبشير بالظهور الثاني للمسيح. فآمن بدعوته عدد كبير من الأمريكيين الذين انتظموا في طائفة شهود يهوه وكنيستها الخاصة.
ترفض الطائفة المجتمعات الحالية وتعتبرها منخورة بالفساد، وأن فسادها علامة على قرب نهاية العالم وبداية حياة جديدة يظهر فيها عيسى مؤسسا لمملكة الرب السعيدة تبقى ألف عام. ولن تتأسس مملكة الرب السعيدة إلا بقيام معركة هارمجدون بين يأجوج ومأجوج التي ستنتهي بانتصار حاسم لقوى الخير التي يمثلها أتباعه الغربيون على قوى الشر التي يمثلها أعداؤه الشرقيون، خاصة المسلمين.
وبسبب فساد المجتمعات الحالية ترفض الطائفة كثيرا من القوانين، مثل رفض الخدمة العسكرية ورفض التلقيح والتبرع بالدم، ويستفزون السلطات لحبسهم حتى يظهروا على أنهم ضحايا الحكم الاستبدادي العسكري.
وقد أعلنت الطائفة عدة مرات عن موعد انهيار العالم الحالي وقيام عالم جديد وسعيد، وكان الموعد الأول سنة 1914، ثم سنة 1925 ثم سنة 1975 ثم 1980، ثم 2000.
الرائيليون
في أواخر عام 2002 ومطلع 2003 انشغل العالم كله بقرب ميلاد طفلة مستنسخة سماها الرائيليون "إيف"(حواء) عن طريق شركة أنشئت من قبلهم لهذا الغرض سموها هي الأخرى "كلونيد" (الناسخة).
وتأسست هذه الطائفة على يد الفرنسي كلود فوريلون عام 1973 حين زعم هذا المتشرد السابق والفاشل في الدراسة، أن سكان الفضاء التقوا به وأسموه "رائيل" ثم حملوه مسئولية تبليغ رسالة إلى العالم كله، وذلك ما فعله في كتاب من 165 صفحة بعنوان "الكتاب الذي يقول الحق". ويعود سكان الفضاء ليحملوه، حسب زعمه، من جديد في رحلة سماوية يرى فيها العجائب، ويلتقي المرسلين السابقين كبوذا وموسى وعيسى ومحمد، الأحياء في السماء والمنتظرين ميقات العودة إلى الأرض.
وبعد ثلاث سنوات من هذا الزعم، كشف "رائيل" عن رسائل تنبئه باقتراب نهاية البشرية بسبب حرب نووية مدمرة لا ينجو منها إلا أتباعه الذين سيجمعهم في سفارة لسكان الفضاء أمر بتشييدها في القدس أو في أي مكان من إسرائيل.(33/61)
وبرغم انكشاف اللعبة الإعلامية للطائفة الرائيلية، إلا أنها بقيت نشيطة في الدعاية لنفسها واستقطاب مزيد من الأتباع، إذ سجل المراقبون أنها عقدت تسعة اجتماعات تدريبية في الشهرين الأخيرين من سنة 2006 بكل من آسيا وإفريقيا وأستراليا، فضلا عن امتلاكها لـ 19 موقعا إلكترونيا على شبكة الإنترنت.
الحداثة ونقيضها
الطوائف الدينية الغربية متعددة المشارب والمآرب، ووجودها بهذه الكثرة صفعة قوية في وجه الحداثة التي زعمت أنها دفنت التدين أو أسكنته في زنزانة فردية لا يخرج منها إلى الفضاء العام. لكن الدفين خرج من القبر والمعتقل خرج من الزنزانة، وهاهما معا يشكلان أخطر الأخطار على الحياة البشرية، وهاهما معا يبحثان عن توظيف العلوم الحداثية في الترويج للعقائد الفاسدة المدمرة، وتكديس الأسلحة الفتاكة ليوم الحسم النهائي.
وتثبت هذه الطوائف أن التدين من أشد الحاجات لدى الإنسان، وأنها إن لم يسدها الوحي قد تنقلب ضد الإنسانية وقد تلد تطرفا أشد وأقوى. وحسب تفسير علماء الاجتماع الديني في الغرب، مثل فريديريك لونوار وسيباستيان فيث، فإن هذه الطوائف تعبير عن التشتت والانشطار الذي حل بالمؤسسات الدينية العتيقة، ومؤشر على أن الفردانية لم تعد محتملة عند كثير من الباحثين عن المعنى والقيم الرافضين للعبثية والاغتراب الروحي.
تزمتهم وتزمتنا
للتزمت أشكال وتعبيرات مختلفة، ويمكن أن يكون غربيا، كما يمكن أن يكون شرقيا، إذ إنه لا دين له ولا جنسية له. لكن مقارنة بسيطة بين هذا التزمت الغربي والتزمت الإسلامي يتبين أن الغربيين لا يقلون تزمتا عن الإسلاميين المتشددين، بل تجاوزوهم بمسافات ومعدات لوجيستيكية بعيدة تهدد السلم والحياة في العالم. أكثر من هذا، يبدو التزمت الإسلامي أكثر رحمة ورأفة وأشد حرصا على بقاء الحياة. كما أن مقارنة بين الجهود الحكومية والمدنية المبذولة لمكافحة التزمت الحديث يظهر أن تزمت الطرق الدينية الغربية الجديدة يحظى بالمتابعة القانونية العادلة، ويفسح له المجال للتعبير عن نفسه وترويج خطابه ودعوته، وإذا انفلت وانزلق نحو إلحاق الأذى بالمجتمع، يحاكم وفق القوانين الجاري العمل بها. بينما التزمت الإسلامي متهم دائما وأبدا، ولا يسمح له بالحديث وشرح أهدافه للناس، كما لا يسمح للعلماء والمفكرين بمناظرته ومجادلته، مما دفع بعض الظرفاء إلى القول "يا ليتني كنت أصوليا متزمتا في بلاد الغرب، إذن لحظيت بالمحاكمة العادلة وصيانة حقوقي".
كاتب مغربي
============(33/62)
(33/63)
مصداقيّة المثقّف
محمد الدحيم 21/7/1427
15/08/2006
المثقف أيًّا كان توجُّهه فهو يتحمل مسؤولية الكلمة التي يقولها وينشرها؛ إذ يفترض أنه صاحب رسالة وهدف يسعى من خلال ثقافته الوصول إلى هذا الهدف وإيصال تلك الرسالة.
والنبل في الأهداف والسمو في الرسائل لن يكون مسوّغًًا للأخطاء والمغالطات التي يرتكبها المثقف بسبب المناهج والوسائل والخطط غير المدروسة والمرتجلة أو غير المتناسقة مع الواقع وتحوّلاته، والتي يذهب ضحيتها المجتمع المتلقي بأطيافه كلها.
لست هنا أريد أن أحاسب المثقف أو أدقق عليه، ولكن الذي أريد قوله وحكايته أن الضحيّة لثقافة الفوضى، ليس المجتمع المتلقي فقط! ولكن أبرز الضحايا وأخطرها هو المثقف نفسه؛ إذ سوف يفقد مصداقيته ويتحوّل إلى فقاعات في فضاء، والتعامل هو مجرد الزمن، ولقد شاهد العالم هذا التحوّل وعاش المتلقي أزمة بمثقفيه، وكشف الإعلام عن عورات. فلماذا؟ ونحن في مرحلة تُعدّ بدائية إذا ما قيست بالتقدم الثقافي عند الغير! وكيف الحل لهذه المشكلة الآخذة بالاتساع، والتي نخشى أن يتوارثها الجيل؟
هذا التساؤل والمحاولة في المعالجة لن يكون مسؤوليتي ككاتب لهذه المقولة وحدي، ولكنه يستدعي مراجعة شاملة يشارك فيها صُنّاع القرار وحَمَلة الأقلام ومنابر الإعلام، وتستحق عقد اللقاء والمؤتمر؛ لأن بناء الثقة في الثقافة لو أنهدم بمعول المثقف فستكون الخسارة كبيرة لا تغني فيها الترميمات والتحسينات، لاسيما ونحن نعاني التراجع والتخلّف في الكثير من النواحي العلمية والثقافية!
هنا سأشارك بطرح الرأي حول هذه الحالة (أزمة مصداقية المثقف) من أين نشأت؟ وما هو الحل؟
لقد وجدت هذه الحالة من شيئين:
1- تراكمات ومورثات لأخطاء في التركيبة الثقافية لحظة نشأة العلوم وتأسيسها (ومَن يوظف مَن) في تلك المرحلة، ثم تحوّلت تلك التراكمات إلى أشبه بالأيديولوجيات والمقدسات، رافق ذلك عدم الرغبة في التحديث والتطوير والتفكيك وتعدّد القراءات، وربما وصل الأمر إلى اعتبار محاولات مثل تلك زندقة ورِدّة -عند قوم- واعتبارها ضعفًا في الولاء والانتماء -عند آخرين- أو لاعتبارات أخرى من أبسطها وأصدقها أننا قوم وجدنا آباءنا على أمة ولم نتعود على التغيير والمراجعات.
2- المثقف -المحدث- وجد نفسه أمام تلك التراكمات من جهة، وبين المستجدات المتلاحقة من جهة أخرى، فتخلقت أمامه ثنائيات خطيرة تتمثل في (التراث والمعاصرة) (القدامة والحداثة) و... وقد تفاجَأ بما لم يفكر فيه، وهو يعتبر نفسه إصلاحيًا بثقافته فخنقته الثنائيات، وقذفت به في ثنائية أخطر وهي (الانتماء أو الارتماء) ليفقد بذلك منهجية الاعتدال والتوسّط، وهكذا أصبحت أوراقه مخلوطة يطالب بكل شيء ويمانع كل شيء، أي يتناقض في كل شيء، وكانت مخرجاته الثقافية تعيش التصادم بين أولها وآخرها في عمر لا يتجاوز عشر السنوات، مما لا يجعلنا نقبل الاعتذار المقدم على هيئة مراجعات.. بل لا نفسر ذلك إلا بالنزق والفوضى وحب الظهور، ولو من مسرح الإصلاح وإذاعة التقوى وتلفاز العز.
إذن نحن أمام مشكلة اجتماعية وثقافية في آن واحد، وهذه المشكلة من إنتاج الثقافي نفسه، فما هو الحل؟ وهل ننتظر من عقلية المشكلة ذاتها أن توجد لنا حلاً؟
أعتقد أننا لن نستفيد من عقلية المشكلة سوى الاعتراف الصريح بالمشكلة، فلعل وعسى أن يوقف هذا الاعتراف النزف؛ ليتمكن المصلحون من التفكير وإعادة التشكيل.
أما الحل من رؤيتي فسوف أوجزه بنقاط أشبه بالخطوط العريضة مطروحة للتفكيك والقراءة والمداولة والرد والنقض.. وكل ممارسات النقد.
أولاً: إحياء دور المؤسسة الثقافية الرسمية، والانتقال بها من الإدارة إلى الممارسة، وتكون طواقمها القيادية من المهتمين لا من الموظفين؛ أي الذين يعملون بروح المثقف لا بنفسية الموظف.
ثانيًا: تخصص المثقف وتصنيف المثقفين من واقع إنتاجهم، لا من واقع تحصيلهم الأكاديمي؛ لأن جامعاتنا -وللأسف- لم تعد مقياسًا كافيًا؛ فالطلاب يُحشرون إليها طلبًا للوظائف لا للعلم.
والمطالب بهذا التخصص أكثر من غيره هو المثقف نفسه لأن يكتشف ذاته، ويتعرف على قدراته وإمكانياته ومجالاته التي يتحرك فيها، وعليه أن يتوقف عن الانجرار وراء محترفي الإعلام ومقدمي البرامج، ومقابل ذلك عليه أن يبرز نفسه من خلال قوته العلمية واحترافه في إيصال الرسالة، وأن يظهر ما لديه بكل ثقة دون أن يلوّن حديثه بمصطلحات تموجيّه بقصد الإرضاء أو بقصد الإيحاء للغير بمرونة شخصيته وجاذبيتها.
ثالثًا: بناء الثقة بين المثقفين أنفسهم وإحياء روح التعاون والتكامل في حياتهم الثقافية، حتى يستطيعوا تقديم ثقافتهم بمصداقية نظيفة، وتلك هي أعظم البنى التحتية التي يمكن بناؤها، والتي تُسجّل في تاريخهم، وتنطلق منها أجيال لاحقة.(33/64)
رابعًا: الجدلية بين السلطة والمثقف أخذت تأثيراتها السلبية على المُخرج الثقافي وعلى سلوكيات المثقف، والذي يتوجب عليه أن يعي الدور الذي يلعبه السياسي في تحريك الثقافة، ليتخذ المثقف موقفًا ليس (مع أو ضد)، ولكنه الموقف الذي يخدم مصلحة الثقافة ومتلقيها، وأن يحاول في الوقت نفسه التأثير في الرأي السياسي لخدمة تلك المصلحة، ونحن نجزم أن الجدلية بين السلطة والمثقف في جزء كبير منها مفتعَل ولو من حيث لا يشعرون.
خامسًا: الكل يقول بتقبل النقد، لكن أرض الواقع والممارسات لا توحي بذلك، فنقد المثقف مهمة هامة جدًا يمارسها المثقف نفسه تجاه ذاته، ويمارسها المثقف الآخر المتفق أو المختلف، ويمارسها المتلقي أياً كانت منزلته، وفي غياب النقد أو غياب آلياته أو أخلاقياته، أو محاولة مواجهة النقد بالتسويغات أو الردود، كل ذلك سيلحق بالجوهر الثقافي أذًى كثيرًا.
سادسًا: على المثقفين بناء مؤسسات غير رسمية ترعى الثقافة أياً كان توجهها وتدعمها، على ألاّ تتحوّل فكرة المؤسساتية لخدمة شخصية الرمز باسم المؤسسة، وليكن من أهم مهمات المؤسسة بنك معلوماتي متجدّد يوفر للمثقّف المرجعية الداعمة لمقولاته ومكتوباته، فلم تعد تجدي المصادر الساذجة كقصاصة من جريدة، أو حدثني أحدهم... ونحوها، وليكنْ أيضًا من مهمات المؤسسة رعاية المثقف الجديد، رعاية لا وصاية يتخرج منها مضطلعًا بمسؤولياته، منطلقًا بقيمه وأخلاقياته، ونحن نفتقر جدًا لتلك النماذج التي تتخرج متأصّلة مؤسسة، فغالب من يحرك الثقافة نجحَ بجهد شخصي، ومرّ بصعوبات ما كان لها أن تكون لو وُجدت المؤسسة الحاضنة.
==============(33/65)
(33/66)
الحداثة تحرك المياه المصرية التركية
محمد حافظ عبد المجيد
Image
لقطة تذكارية للمشاركين في المؤتمر
في واحدة من الفعاليات الثقافية والفكرية -التي شهدتها القاهرة نهاية فبراير الماضي واستضافتها مؤسسة الأهرام- عقد المؤتمر الأول للحوار المصري التركي تحت عنوان: "الإسلام والغرب والحداثة" شارك في تنظيمه كل من: مركز الأهرام للدراسات السياسية، ومنتدى أبانت للحوار من تركيا.
وعلى مدى يومين دارت فعاليات المؤتمر الذي شارك فيه وفد تركي قارب السبعين أكاديميا وباحثاً إلى جانب عشرين صحفيًّا من مختلف المؤسسات الإعلامية والصحفية التركية، إضافة إلى العديد من الشخصيات العامة من مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري، وعدد كبير من الأكاديميين والباحثين والناشطين السياسيين المصريين.
وتخلل فعاليات المؤتمر حوارات ومناقشات عميقة حول تجربة كل من تركيا ومصر تجاه العصرنة، والغرب، ودور الإسلام فيهما، وحول مفاهيم الحداثة وأشكالها الاقتصادية، والعوائد التي ستعود على تركيا والعالم الإسلامي من انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وعلاقة الدين بالمعاصرة، وتجربة التحديث في مصر، والحداثة من الناحية الإجرائية.
تحديث الحداثة
وعن تجربة التحديث في مصر قدم دكتور "وحيد عبد المجيد"، مساعد مدير مركز الدراسات السياسية، ورقته التي أشار فيها إلى أن الحداثة بدأت في مصر في مطلع القرن التاسع عشر حينما شرع محمد علي ببناء دولة حديثة، وهي تجربة اهتمت بتحديث الهياكل أكثر من العقل، فكان التحديث للأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما عمل على إبقاء أنماط التفكير والنظر والتقدير شديدة التقليدية.
كما أكد "عبد المجيد" أن تجربة التحديث في مصر بدأت انشطارية، وكان ذلك السبب الرئيسي وراء عدم تحقيق التراكم الذي يقود إلى الحداثة الحقة، فقد اتسمت بثنائية مانعة لهذا التراكم تتمثل بالتقليد والتجديد، وهذا جعل الميل إلى التلفيق سائدا وليس للتوفيق الخلاق، كما قاد إلى تحديث كثير من هياكل الدولة والمجتمع، لكن مع استمرار التخلف على مستوى ثقافة المجتمع.
وأضاف "أن تجربة التحديث في مصر بدأت وتواصلت مفتقدة أهم مقوماتها وهو العقل النقدي القادر على إعادة قراءة التراث بشكل منهجي، إضافة لافتقادها القيم الأساسية اللازمة لها مثل: التعددية الفكرية، والحوار، والمناظرة وهذا ما كرس عدم تسامح البيئة الثقافية الاجتماعية مع الأفكار التي طرحها بعض المثقفين.
واختتم "وحيد عبد المجيد" ورقته بتساؤل: هل ثمة سبل لتحديث التحديث الذي انتهت تجربته بالمشهد المؤلم الراهن في الوقت الذي يدخل العالم فيه مرحلة جديدة من أهم سماتها صعود الهويات والانتماءات الثقافية والحضارية الدينية؟.
ذهب دكتور "ياسين أقطاي"، أستاذ بجامعة سلجوق التركية، إلى أن التجربة والخبرة بالنسبة للحداثة لا يمكن أن تنطبق على كل دول العالم؛ فلكل دولة خصوصيتها وظروفها، ولو نظرنا إلى دول الاتحاد الأوروبي الآن فلا نجد تشابها في التطبيق، فالفوارق تختلف وتتنوع باختلاف الدول نفسها بفعل العادات والتقليد والثقافة.
ويوضح "أقطاي" أن هناك من يفهم الحداثة على أنها بنود الصراع مع الملتزمين والمتشددين، كما أنه من الخطأ أن نفهم الحداثة التركية على أنها تجربة أصلية لدول الغرب دون الرجوع إلى التاريخ.
مفاهيم وليس مفهوما
وفي ورقة الدكتور "حسن أبو طالب"، محرر صفحة الرأي بجريدة الأهرام، أشار إلى أن الحداثة كمفهوم غيرُ متفق عليها، وإنما تتعلق بتطور المفاهيم الاقتصادية المختلفة كالرأسمالية، والفردية، والقانون، والعقلانية، والمؤسساتية، والديمقراطية، في حين هناك اتفاق على تعريفها من الناحية التاريخية، حيث ارتبط مفهوم الحداثة بعملية تطور كبرى وأساسية مثل: حركة الطباعة ونشوء الرأسمالية، وظهور المجتمعات الاشتراكية والمؤسسات التمثيلية الديمقراطية، وانتشار التعليم ومجابهة الأمية، وظهور وسائل الإعلام الجماهيري، وتنامي حركة التصنيع؛ وهي جميعها شكلت أدوات قطعية معرفية وسلوكية كاملة مع العصور السابقة.
وأضاف: "أما مفهوم الحداثة في المجال الاجتماعي فقد ارتبط بعدد من المفاهيم التي تصف حالة المجتمع وطبيعة الحياة الاجتماعية، ومدى سيادة العقلية العلمية".
ولفت دكتور أبو طالب النظر إلى أن الحالة الاقتصادية للمجتمع تلعب دورًا في تحديد الوضع التنموي والخريطة الاجتماعية، وهي تؤثر في مدى قدرته على تجاوز حدود المحلية إلى أفق أرحب حيث البيئات الخارجية المختلفة.
وختم مشيرا إلى عدد من المظالم التي أفرزتها الحداثة في المجتمعات الأوربية والغربية مثل: الاستغلال العالمي، وتفاقم الجوع، والقنبلة النووية، والحرب العالمية الثانية وما أفرزت من مآسٍ إنسانية كبرى.
الحداثة في إطار الدين
ومن الجانب التركي طرح "علي بولاج"، الكاتب والصحفي بجريدة الزمان التركية، أسئلة محورية حول: كيف نتغير؟ وفي أي اتجاه؟ وما هي أهدافنا للتغير؟.(33/67)
وأضاف قائلا: إن فكرة التغير سيطرت علينا في القرنين الماضيين وظهر المشروع في البداية محاكيا للتقاليد الأوربية المعاصرة، أما اليوم فقد جاءت الولايات المتحدة الأمريكية لتسلط الضوء على التحديث العالمي أو المعاصرة (العولمة) لتصبح رائدة في هذا الأمر وقائدة للعالم.
ويوضح "بولاج" أن هناك فوضى فكرية حول ما يسمى بالعولمة، حيث يحددها ويعرفها كل شخص حسب نظرته، كما أن العولمة ليست بعيدة عن المعاصرة أو الحداثة.
ويرى "بولاج" أن مخططي مشروع التغير الذين سيطروا وهيمنوا من بداية القرن 19 من خلال كلمة الحداثة استطاعوا أن يقرروا ديناميكية التغير من خلال الغربيين؛ أي أصبحت أساليبه في يد الغرب، في حين اكتفى علماؤنا ومثقفونا بالترجمة للمعاصرة ومن ثم أصبحنا مستهلكين لها، ولم نلجأ قط في تلك المرحلة إلى التزود من مصادرنا الأساسية التي منحنا الله إياها والتي كانت سببا في تقدمنا.
ويرى "بولاج" أن الاتجاه الثاني الخاص بالمعاصرة التركية هو اتجاه لاديني (علماني)، وهو اتجاه يحمل ادعاء مضمونه أن الدين يمثل عائقا أمام التقدم وأحد موانعه، وهذا جعل صياغة حديثنا وتحديث أسسنا سائريْنِ في إطار معاد للدين (الإسلام)، مشيرا إلى أن هذه الصياغة التي كانت تهدف إلى التطور لم تستطع أن تجعل الخروج عن نطاق الدين وثقافته وحياته الاجتماعية أمراً ممكناً.
وأكد "بولاج" أنه يجب علينا في هذا الوقت أن نقوم بالإصلاح في نطاق الدين.
التفتوا إلى تركيا
الدكتور إبراهيم البيومي غانم، خبير في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أشار إلى أن عضوية تركيا في الاتحاد الأوربي ستؤثر بالإيجاب على العالم الإسلامي، ويمكن أن تساعد في الصراع العربي الإسرائيلي، وأن تكون صوتا للقضية الفلسطينية داخل الاتحاد الأوروبي للحد من الابتزاز الإسرائيلي، كما يمكن أن تكون صوتا لأوروبا في العالم الإسلامي.
وأشار البيومي إلى أن الاتحاد الأوربي لن يقبل سوى "تركيا ديمقراطية وحرة"، وهو ما سيجعلها نموذجا ملهما للعالم الإسلامي، موضحا أن العلمانية الأوروبية بالتحديد أكثر اتساقا مع وجود دولة إسلامية داخلها عن العلمانيات العربية الأكثر شراسة تجاه التيارات الإسلامية فيها. وأضاف أن عضوية تركيا ستؤدي إلى تهدئة الاشتباكات حول علاقة الدين بالدولة.
وانتقد البيومي غياب الموضوع التركي عن الجماعة العربية وعدم الالتفات إلى تركيا كما ينبغي، وأن العالم العربي متغافل عما يحدث في تركيا بل في التحولات السياسية الإقليمية والدولية.
ثالوث
الدكتور "أسر قارقاش"، نائب رئيس جامعة باهجة شهير بتركيا، تحدث عن علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي من الناحية العملية والإجرائية، مؤكدًا أن تركيا تقوم بإلقاء نظرات فاحصة على هذا النظام من حيث: الرفاهية، والحرية، والأمن، وهي محاور ثلاثة تعد الأكثر أهمية بالنسبة لنا لكونها تقود للاستقرار.
كما أكد "قارقاش" أن مسيرة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي ستستمر وذلك بتضييق الانفصال في السياسة التركية الداخلية والخارجية، كما أننا سنتعامل بعقلانية مع المجال الزراعي خلال الـ15 عامًا المقبلة، حيث سيتضاعف حجم المنشآت الزراعية بثلاثة أضعاف وهذا سيقود إلى تجاوز بعض العقبات.
كما يرى في عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي، إضافة أمن وغنى لتركيا، كما ستلعب دورًا مركزيا في إحلال السلام في الشرق الأوسط، إضافة إلى وصولنا إلى المرتبة الـ40 في الأمم المتحدة.
الدكتور "شاهين الباي"، من قسم العلاقات الدولية في جامعة باهجة شهير، أوضح أن مستقبل تركيا مرهون بتحقق ثلاثة مبادئ رئيسية تتمثل في: توفير الديمقراطية، وامتلاك حرية العقيدة، وأن تكون الإرادة نابعة من تطلعات المواطنين، وهي مبادئ ضرورية للسوق الليبرالي، وللتنمية الاقتصادية التي عليها أن تساير الاقتصاد العالمي، ولتحقيق التنمية الاجتماعية.
ويرى "الباي" أن الجهود التي تبذلها تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي هي بمثابة خطوات في مسيرة الحداثة، وهي خطوات يؤيدها جموع الأتراك.
معوقات الحداثة
دكتور نبيل عبد الفتاح، مساعد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية، قدم تشريحا وافيا لتجربة الحداثة في مصر مشيرًا إلى أبرز معوقاتها، فأشار إلى أن مشروع الحداثة لم يأت ويزرع قسراً في فراغ، لكون الذين تبنوه في مصر هم مجموعة من المثقفين الذين أرسلوا إلى بعثات خارجية ومن ثم انتشرت داخل الفئات الوسطى المدنية، ومعهم الجاليات الأجنبية وبعض المتمردين.
وعما واجهه المشروع الحداثي من مقاومات بنيوية عديدة في مراحلها المختلفة فإن منه ارتباط هذه المقاومات بالظاهرة الاستعمارية والإمبريالية، وتقليد النظم القانونية العرفية، فضلاً عن النظم الاقتصادية والتجارية السائدة، وارتباط المغامرة التحديثية والحداثية بالمدن الحديثة واتجاهاتها الحضارية والتي تجاورت مع بقايا هياكل ومعمار ما قبل الحداثة.(33/68)
كما أشار إلى أن الخيار السلطوي انطوى على تميز اجتماعي سياسي بين مناطق النخبة والحكم والسياسة والحياة الاجتماعية، وبين مناطق المحكومين المكتظة بالسكان والتي تعاني من فقر الخدمات، كما اختصر المدينة والوطن والدولة والحداثة في مركز القوة الأول في البلاد من مراكز القضاء والوزارات، والمسارح والأوبرا، والبرلمان... إلخ وترتب على ذلك انحصار الثقافة السياسية الحديثة في المدن ولم يمتد تأثيرها إلى القطاعات الشعبية.
وأكد عبد الفتاح أن من أسباب تعثر مشروع الحداثة استمرارية أدوار المثقف التقليدية، والأدوار التي لعبها رجل الدين، وتحديدا في قيعان المدن وهوامشها، في مواجهة الحداثة والتحديث، وقيام النخبة التحديثية من أبناء البعثات الخارجية باتباع إستراتيجية لأقلمة القيم الحديثة، وإضافة إلى التوظيف السياسي للدين الإسلامي في الصراع بين نظام يوليو بمراحله الثلاث: عبد الناصر، السادات، مبارك، وجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، وغياب تطبيق دولة القانون عن مساحات واسعة من الحياة اليومية.
بقي أن نشير إلى أن أوراق المشاركين رافقها تفاعل معها من الحضور الذين أبدوا تحفظاتهم على اقتصار الباحثين في الحداثة على النموذج الغربي دون دول العالم، وتجلى ذلك في مداخله مثيرة للدكتور "عصام العريان" الذي أكد أن الحداثة موجودة في دول أخرى مثل: الصين وبعض الدول الإسلامية في آسيا، وأن الغرب استفاد من علاقاته مع العالم الإسلامي
===============(33/69)
(33/70)
من سرق النور ؟!
د. مسفر بن علي القحطاني 15/6/1427
11/07/2006
نتفق أن النور هبة ربانية من الله -عزوجل- ونعمة لا تُقدّر بثمن (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). هذا النور الأخّاذ نلتجئ إلى ضوئه عندما تبدأ العتمة, نبحث عنه في الظلمة لنرى الطريق الأفضل والأسلم, ونشعله عندما تختفي الأشياء عنا, أوتنعدم الرؤية الواضحة منا.
النور لا يمكن أن يحرم أحداً من إشعاعه، ولا يختص بأحد في ضيائه؛ لذا نحبه ونقترب منه بل ونتغزل به !.. وسعادتنا لا توصف للدفء والطاقة التي تمنحها أشعته للوجود, أوالحيوية التي يهبها للكائنات بخروجه علينا في إشراقة كل صباح ..
هذا النور.. لا يليق به أن يكون سلاحاً للحرب، أو معولاً للهدم، أو نقمة على الناس, لكنه بفضل بعض مثقفينا أصبح النور والضياء سيفا مضّاء؛ لا لقشع الظلمة بل لحرب الخصوم، وتصفية الحساب مع المخالفين.
فمن خلال قراءة بعض المقالات التي كُتبت حول التنوير العربي في صحافتنا المحلية, لفت انتباهي الاستعمال النافر لمفردة التنوير ذات الاشتقاق الرئيس من النور بكل صفاته السالفة, لكنها وظّفت أيدلوجياً بطريقة قاتمة، وبقوالب معينة؛ مَن وافقها استحق لقب المستنير، وإلا كان ماضوياً متخلفاً مستبداً, فأصبحت بالتالي اتجاهاً فكرياً ودينياً يقسم الناس بحدها القاطع كالسيف الفارق بيد أعمى لا يبصر حقيقة هذا النور اللاهب, وحتى الفنانون - كما قرأت في بعض تصريحاتهم - بدؤوا في تسويق هذه المفردة ربما في معناها الخاص جداً الذي لا يخرج عن رأي تبناه أحدهم حول فكرة فنية قد تكون أسمج من البحر الميت, لكن الهالة العظيمة لهذا المفهوم كانت إغراءً لا يقوم لاستعمال هذه المفردة المظلومة عند الفنانين فكيف بالمثقفين والفلاسفة أصحاب التشقيق والخوض في التفصيلات المملة.
وبالطبع إن المفهوم المقابل للتنوير أثناء الطرح والسجال هو التقليد والرجعية والتطرف والتخلف وغيرها من المفردات الظلامية, هذا ما قرأته في عدد من المقالات التي حملت عناوين صدامية مثل: "التطرف في مواجهة التنوير"، و "التنوير صراع ضد التخلف"، و "هل انتصر التنوير"، و"جدلية التراث والحداثة". كُتبت هذه المقالات وغيرها بلغة المعركة التي يستخدم فيها كل طرف أعتى ما لديه من الأسلحة لقصم ظهر خصمه؛ لأنها كُتبت في جو محموم من الخصومة والتنافر, وهنا لا أريد الانتصار لفريق على آخر؛ لأن حجم التطرف واقع عند الخصمين، فكل طرف يحمّل الآخر إخفاق الإصلاح الشامل في المنطقة، وكل تداعيات الضعف والانحسار في التغيير. فكما أني أرى أن هناك نوع إصابة لدى كل طرف, لكن الخطأ الذي أستنكره يعود إلى فرض التنوير بالإرهاب الفكري، والإنكار التام لأي مبادرة إيجابية في الإصلاح ما دام أنها صدرت من أحد الطرفين. في حين أن التنوير قضية تنمو مع الوعي الناضج المحفّز للفعل الحضاري كقاعدة مقررة في سنن التغيير والنهوض. و من المستحيل أن يُبنى الوعي المستديم في حس المسلم بمثل هذه الخطابات الإقصائية والتحديات الحزبية والانتقام من الآخر برد كل ما لديه من حق وباطل. وأعتقد جازماً أن التنوير المقترن بالتجديد في الخطاب والمعتد بالثوابت والمحترم للتراث بات ضرورة ملحة في مشهدنا الفكري والثقافي، وأي محاولة للاستحواذ والاقتناص للنور بطريقة حرب العصابات لن يزيدنا إلاّ تأخراً وظلاما
============(33/71)
(33/72)
منطلقات شرعية في نصرة خير البرية
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن ما يشهده العالم الإسلامي هذه الأيام من غضبة عارمة، وحملة مباركة لنصرة سيد البشر نبينا صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن عرضه الشريف أمام الهجمة الشرسة القذرة التي يشنها الغرب الصليبي الكافر على نبينامحمد صلى الله عليه وسلم ، وتتولى كبرها بلاد الدنمارك الحاقدة، إن في هذه القومة المباركة لنصرة نبينا صلى الله عليه وسلمما يثلج الصدر، ويسر الخاطر، ويبث الأمل في النفوس، ويؤكد أن أمة الإسلام أمة مباركة ومرحومة ولازال فيها الخير والرصيد العظيم في مقاومة أعدائها والنكاية فيهم، حتى ولو كانت ذليلة مستضعفه؛ فكيف لو كانت قوية ومتمكنة.
ولقد ظهر في هذه الحملة قدرة الأمة على النهوض والتكاتف والتعاون على إلحاق الأذى الشديد بالعدو المتربص، وقد ظهر ذلك في هذه القومة الشاملة لمختلف شرائح الأمة رجالاً ونساءً, صغاراً وكباراً, أغنياء وفقراء, وعوام ومثقفون، وذلك في الكتابات الكثيرة المتنوعة لنصرة صلى الله عليه وسلم , وكذلك في المقاطعة المباركة التي آتت أكلها وثمارها في إنهاك اقتصاد المعتدين.
أسأل الله عز وجل أن يبارك في جهود القائمين بهذه النصرة، سواءً من كتب أو خطب أو مقاطعة وهجر منتجات القوم، وليس هذا بكثير في نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، والذي هو أولى بنا من أنفسنا، والذي قال لنا ربنا سبحانه عنه (( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)) ( التوبة: 128) .
والذي بلغ الكمال الإنساني في الشمائل والأخلاق وفي عبادة ربه سبحانه وتعالى، وكل هذا يفرض علينا أن يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأولادنا وأموالنا، وأن نفديه بالنفوس والمهج والأولاد والأموال.
وبما أن الحديث عن نصرة النبي- صلى الله عليه وسلم - وعن حقوقه، وحقيقة أعدائه وحقدهم قد قام به المسلمون في شتى بلدان المسلمين بأقوالهم ورسائلهم وكتاباتهم ومقاطعتهم، فلن أكرر ما كتب وقيل، ففيه إن شاء الله الكفاية، غير أن هناك بعض الوصايا التي أنصح بها نفسي وإخواني المسلمين في ضوء هذا الحدث الجلل أرى أنها من حقوق المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهي من لوازم نصرته وموجبات محبته، ولكن قد تغيب عن بعضنا وتنسى في زحمة الردود واشتعال المشاعر والعواطف.
الوصية الأولى:
قال الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) (البخاري) .
وعندما سئل النبي- صلى الله عليه وسلم - (( عن الرجل يقاتل شجاعة, ويقاتل حمية, ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟) فقال:(من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) البخاري (2810),مسلم(1904).
والمقصود من إيراد هذين الحديثين الشريفين أن يحاسب كل منا نفسه، وهو يشارك في هذه الحملة المباركة للدفاع عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، ويتفقد نيته في قومته هذه، هل هي خالصة لله تعالى؟ أم أن هناك شائبة من شوائب الدنيا قد خالطت نيته، كأن يظهر للناس غيرته وحرصه على الدين وعلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، أو تكون مجرد حمية وعصبية ومفاخرة، أو إرادة دنياً ومكانة بين الناس، أو غير ذلك من الأغراض، وهذا عمل قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومع إحسان الظن بالقائمين بهذه النصرة وأنهم إن شاء الله تعالى إنما قاموا بذلك حباً لله تعالى ولرسول صلى الله عليه وسلم ، إلا أن محاسبة النفس في هذا الشأن وغيره من العبادات أمر واجب على كل مسلم حتى يبارك الله عز وجل في الأعمال، ويحصل منها الأجر والثواب، وإلا ذهبت هباءً منثوراً؛ إن لم يأثم صاحبها ويعاقب على ذلك.
الوصية الثانية:
قال الله تعالى: (( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) ( آل عمران: 31).
ويقول الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)) .
[يقول الأمام أبن كثير- رحمه الله تعالى- عند آية آل عمران، هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) .
ولهذا قال:((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)) (عمران:31).
أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه, وهو محبته إياكم؛ وهو أعظم من الأول, كما قال بعض الحكماء العلماء؛ ليس الشأن أن تُحِبَّ, إنما الشأن أن تُحَبَّ.(33/73)
وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية: (( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)) (آل عمران: 31) .
ويقول الأمام أبن القيم- رحمه الله تعالى-: ( لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعي الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل لا تٌقبل الدعوى إلا ببينة:(( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ))(آل عمران: 31) .
( فتأخر الخلق كلهم, وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه)] من مدارج السالكين 3/9[.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-: (فكل من ادعى أنه يحب الله ولم يتبع الرسول فقد كذب, ليست محبته لله وحده, بل إن كان يحبه فهي محبة شرك, فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله, فإنهم لو أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب, فكانوا يتبعون الرسول, فلما أحبوا ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين, وهكذا أهل البدع، فمن قال إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه, فمحبته فيها شوب من محبة المشركين واليهود والنصارى, بحسب ما فيه من البدعة، فإن البدع التي ليست مشروعة، وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله، فإن الرسول دعا إلي كل ما يحبه الله . فأمر بكل معروف ونهى عن كل منكر)] الفتاوى 8/361,360[.
والمقصود من إيراد ألآية التي في سورة آل عمران، وكلام أهل العلم عندها, وكذلك الحديث، التنبيه في هذه الحملة المباركة إلى أن يراجع كل منا نفسه، ويختبر صدق محبته لله تعالى ولرسول صلى الله عليه وسلم في قومته ونصرته لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، إذ أن علامة حبنا لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، وصدقنا في نصرته أن نكون متبعين لشرعه وسنته، وأن لا يكون في حياتنا أمور تسيء إلى الرسو صلى الله عليه وسلم وتؤذيه، فنقع في التناقض بين ما نقوم به من النصرة لرسول ا صلى الله عليه وسلم وبين أحوالنا، فيقع الفصام النكد بين القول والعمل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )) (الصف: 2،3 ) .
* فيا أيها الذي تعبد الله تعالى بغير ما شرع الرسو صلى الله عليه وسلم ، وقام لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم زادك الله غيرة وغضباً لله تعالى ولرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن اعلم أن الذي قمت لنصرته هو القائل: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) (البخاري:2697) .
وعليه فإن أي ابتداع في الدين سواء كان ذلك في الأقوال أو الأعمال مما يؤذي نبينا محمداً- صلى الله عليه وسلم - ويسيء إليه، فاحذر أن تكون ممن يدعي محبة رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو في نفس الوقت يؤذيه ويعصيه؛ فإن هذا يقدح في صدق المحبة والإتباع, ويتناقض مع نصرته ونصرة سنته، وأشنع من هذا من يدعي محبة الرسو صلى الله عليه وسلم ونصرته ثم هو يقع في الشرك الأكبر ويدعوه أو يدعو علياً والحسين وغيرهم من الأولياء من دون الله ، أو يؤذي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بسب أزواجه أو أصحابه، فإن كل ذلك يدل على كذب أولائك المدعين .
* ويا أرباب البيوت والأسر الذين قمتم لنصرة الرسو صلى الله عليه وسلم ، إن هذا منكم لعمل طيب مشكور؛ ولكن تفقدوا أنفسكم فلعل عندكم وفي بيوتكم وبين أهليكم ما يغضب الله عز وجل ورسول صلى الله عليه وسلم من آلات اللهو، وقنوات الإفساد، ومجلات اللهو والمجون، فإن كان كذلك فاعلموا أن إصراركم عليها واستمراءكم لها لمما يسيء إلى الرسول ويؤذيه، ويتناقض مع صدق محبته، إذ أن صدق المحبة له تقتضي طاعته واتباعه، لأن المحب لمن يحب مطيع.
* ويا أيها التاجر الذي أنعم الله تعالى عليه بالمال والتجارة، إنه لعمل شريف، وكرم نبيل أن تهب لنصرة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وتهجر وتقاطع منتجات القوم، الكفرة الذين أساءوا إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وآذوه، ولكن تفقد نفسك ومالك عسى أن لا تكون ممن يستمرئ الربا في تنمية أمواله، أو ممن يقع في البيوع المحرمة، أو يبيع السلع المحرمة التي تضر بأخلاق المسلمين وأعراضهم وعقولهم، فإن كنت كذلك فحاسب نفسك وراجع صدق محبتك للرسو صلى الله عليه وسلم الذي قمت لنصرته، ألا تعلم أنك بأكلك الربا تعد محارباً لله تعالى ولرسول صلى الله عليه وسلم ، وصدق القيام لنصرته، قال الله تعالى:
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ )) (البقرة: 278, 279) .(33/74)
ألا تعلم أن الأولى بالمقاطعة والهجر هو هجر ما حرم الله عز وجل من الربا والبيوع المحرمة, والسلع المحرمة التي قد استمرأها الكثير من التجار؟ قال الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) (البخاري :10) .
ولا يعني هذا التهوين من مقاطعة منتجات القوم بل أرى الصمود في ذلك، ولكن أردت التنبيه إلى ضرورة تخليص حياتنا من هذه الازدواجية وعدم المصداقية.
* ويا أيها القائمون على المؤسسات الإعلامية من صحافة وإذاعات، وقنوات فضائيه في بلدان المسلمين، إنه لعمل مشكور هذا الذي تشاركون به في حملة الانتصار لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولكن ألا يعلم بعضكم أنه يعيش حالة من التناقض، إن لم يكن ضرباً من النفاق، وذلك عندما يدعي محبة رسول ا صلى الله عليه وسلم ونصرته ممن أساء إليه من الكفرة، ثم هو في نفس الوقت يبث في صحيفته أو إذاعته، أو تلفازه أو قناته الفضائية ما يسيء إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، وذلك مما حرم الله عز وجل وحرمه رسول صلى الله عليه وسلم من إشاعة الفاحشة، وتحسين الرذيلة، وبث الشبهات والشهوات، والنيل من أولياء الله عز وجل وأولياء رسول صلى الله عليه وسلم ، والاستهزاء بهم وبسمتهم وهديهم وعقيدتهم، والله عز وجل يقول: (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) ( البخاري:11/292) .
فكيف تعرضون أنفسكم لحرب الله عز وجل وأنتم تدعون نصرة نبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه، إن الذب عن نبينا صلى الله عليه وسلمإنما تكون بالتزام سنته والذب عنها، والتوبة من كل ما يقدح فيها، والتزام طاعت صلى الله عليه وسلم والصدق في محبته, وإلا كان هذا الانتصار مجرد ادعاء، ومفاخرة ونفاق نعوذ بالله من ذلك.
* ويا أصحاب الحل والعقد في بدان المسلمين، إن أمانتكم لثقيلة، فالحكم والتحاكم بأيديكم, والإعلام والاقتصاد بأيديكم، والتربية والتعليم بأيديكم، وحماية أمن المجتمع، وحماية الثغور بأيديكم، فما أعظم أمانتكم ومسؤوليتكم أمام ربكم عز وجل، وأمام أمتكم, فهل تعلمون أن من رفض منكم الحكم بما أنزل الله عز وجل وأستحل ما حرم الله عز وجل إنما هو من أعظم المسيئين إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم والمناوئين له؟ وأن من أقام اقتصاده على الربا والمعاملات المصرفية المحرمة إنما هو من المؤذين والمحاربين لله عز وجل، ولرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وأن من مكن لأهل الشر والإفساد والشبهات والشهوات في إعلام الأمة ليفسدوا عقائد الناس وعقولهم وأعراضهم، إنما هو من أشد المؤذين والمبغضين لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، وأن من تولى الكفرة ووادهم وقربهم من دون المؤمنين فهو من المحادين لله تعالى ولرسول صلى الله عليه وسلم ؟ إذا علمنا جميعاً هذه المسلمات , وعلمنا أن هذه الممارسات المسيئة لرسول ا صلى الله عليه وسلم موجودة في أكثر بلدان المسلمين اليوم، فما قيمة أن يقوم بعض حكام هذه البلدان بإظهار الشجب والغضب لمن أساء إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم في أعلام الغرب الكافر، وهم من أعظم المسيئين إليه عليه الصلاة والسلام، برفض شرعه وموادة أعدائه؟ إن هذا لعمر الله لهوا التناقض والنفاق والتدليس والتلبيس, إذ أن من كان صادقاً في حبه لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، وصادقاً في غضبه وانتصاره ممن أساء إليه يكون من أول المتبعين لسنت صلى الله عليه وسلم وشريعته، لا من الرافضين والمناوئين لها !!
وفي ختام هذه الوصية أرجو أن لا يفهم من كلامي أني أهون من هذه الحملة القوية لنصرة رسول ا صلى الله عليه وسلم والدفاع عن عرضه الشريف، أو أني أدعو إلى تأجيلها حتى تصلح أحوالنا حكاماً ومحكومين، كلا بل إني أدعو إلى مزيد من هذا الانتصار والمقاطعة والتعاون في ذلك، كما هو الحاصل الآن والحمد لله رب العالمين، ولكنني أردت أيضاً الالتفات إلى أحوالنا وتفقد إيماننا، وصدقنا في محبتنا لرسول ا صلى الله عليه وسلم ، والانتصار له، بأن نبرهن على ذلك بطاعته عليه الصلاة والسلام، واتباعنا لشريعته والذب عنها، والاستسلام لها باطناً وظاهراً، قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )) ( البقرة: 208) .
وقال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)) ( الأحزاب: 36).
وقال تعالى: (( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)) (النساء: 6) .
الوصية الثالثة:(33/75)