لكن هذه الصيرورة التي لحقت لفظ ليبرالية منذ أصله الاشتقاقي اللاتيني وإلى استوائه في القرن التاسع عشر كلفظ دال على مذهب فكري واقتصادي وسياسي؛ لا يعني أن المحتوى الدلالي للفظ لم تتم صياغته إلا في القرن التاسع عشر، بل إن الرؤية المذهبية الليبرالية - حسب المنافحين عنها - ترجع إلى لحظات تاريخية سابقة، حيث تبلورت بفضل أعمال جون لوك، وديفد هيوم، وروسو، وليسنغ، وكانت، وآدم سميث، ففي أعمال هؤلاء المنتمية معرفياً إلى حقل الفلسفة والاقتصاد السياسي توجد المرتكزات النظرية التي سيستند عليها المذهب الليبرالي لاحقاً.
فما هي الدلالة المذهبية لليبرالية؟
إن رسم أي دلالة كلية للليبرالية يجب أن يضع في الاعتبار وجود اختلافات معرفية ونظرية تصل أحياناً إلى درجة التناقض بين منظريها، ومن ثم فإن أي تسطير لدلالة كلية جامعة هو مجرد اختزال، ولا ينبغي أن يصبح الشجرة التي تخفي الغابة، فنسقط في مأزق الأحادية، ونغفل عن تعددية الرؤى واختلافها حتى تجاه المفاهيم المشتركة التي تشكل أساس المذهب.
فلابد أن نعي أن الليبرالية من حيث وجودها النظري والفلسفي تشهد تباينات تصل أحياناً إلى درجة الاختلاف الشديد بين الرؤى، فالفكر الليبرالي عند جون لوك مثلاً يتمايز عن ليبرالية ماديسون، وليبرالية فريدريك هايك تختلف عن ليبرالية توكوفيل، والليبرالية بمنظورها التحرري الإطلاقي مع فريدمان أو بوشانان أو نوزيك تختلف عن الليبرالية بمنظورها الكينزي.
أما على المستوى الواقعي فإن الأمر أكثر إشكالاً وتعقيداً, فالليبرالية أنماط واجتهادات مختلفة، والبحث في سياقاتها المجتمعية ينبغي أن يتزود برؤى وأدوات منهجية أعمق من مجرد القراءات العجلى التي تمتلئ بها الساحة الثقافية المثقلة بنتاج العقل الشعاراتي.
فليس كل حزب ليبرالي من حيث التسمية والعنوان يصلح للدلالة على الليبرالية، كما أن عدم اعتماد الاسم لا يعني عدم وجود الليبرالية، ودليلنا على ذلك أن الواقع السياسي الأمريكي مثلاً، الذي يشكل أحد الوقائع المجتمعية الأكثر استحضاراً للدلالة على النموذج الليبرالي؛ لا نجد فيه ولو حزبا واحداً يتسمى باسم الليبرالية!
كل هذا يؤكد أن القراءة الميدانية للتجارب السياسية، والقراءة النظرية للفكر الليبرالي؛ لابد أن تحترسا من مزلق الاختزال، وعند كل صياغة تعميمية لا بد من الوعي بنسبية التعميم بسبب تعددية وتباين الظاهرة الليبرالية، سواء على مستواها النظري أو الواقعي.
وبعد تسجيلنا لهذا الاحتراس يمكن أن نقول في سياق التعريف الأولي: إن الليبرالية هي فلسفة/فلسفات اقتصادية وسياسية ترتكز على أولوية الفرد، بوصفه كائناً حراً.
فمقولة الحرية هي المقولة المركزية التي يستند عليها كل البناء المذهبي لليبرالية، وانطلاقاً من هذه المقولة يتم تحديد طبيعة رؤيتها لمختلف مجالات الكينونة الإنسانية، فالليبرالية من الناحية الفكرية تعني "حرية" الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصادية تعني "حرية" الملكية الشخصية، و"حرية" الفعل الاقتصادي المنتظم وفق قانون السوق، وعلى المستوى السياسي تعني "حرية" التجمع وتأسيس الأحزاب، واختيار السلطة.. وهكذا نلاحظ أن مقولة الحرية لا تشكل فقط مبدأ من جملة مبادئ، بل هي مرتكز لغيرها من المبادئ، هذا مع ضرورة الوعي بأن لفظ الحرية ذاته ليس لفظاً محدد الدلالة، ولا محدود الأبعاد.
لكن على الرغم من ذلك، وحتى في حالة اعتمادنا على التحديدات السابقة؛ فإنها رغم صوابها معجمياً تبقى مجرد دلالة نظرية للمفهوم، في حين أن الليبرالية ليست مجرد لفظ نظري يعيش بين دفتي القاموس، بل هو لفظ يدل على أنظمة مجتمعية متعددة، ويحيل على سياقات تاريخية لا بد من استحضارها لفهم المشروع الليبرالي.
وما يؤكد في تقديري صواب هذا المسلك المنهجي التاريخي في المقاربة، وأولويته على المقاربة المعجمية؛ هو أن الليبرالية (libe r alism) ظهرت أولاً كمعطى تاريخي قبل أن تتشكل كلفظ اصطلاحي، بمعنى أنها من حيث وجودها كلفظ لم تظهر إلا لاحقاً لوجودها كواقع، إذ إنها كوجود معرفي ومجتمعي أخذت في التبلور داخل سياق التاريخ الأوروبي على الأقل قبل ثلاثة قرون من ظهورها كلفظ اصطلاحي.
ودليلنا على ذلك أن كلمة ليبرالية ستظهر في اللسان الإنجليزي سنة 1819م، أما في اللغة الفرنسية فغالب الظن أن مان دو بيران كان أول من استعملها وذلك سنة 1818م حيث حددها بوصفها "المذهب المدافع عن الحريات".
في حين قبل ظهورها كلفظ كانت صيرورة الحداثة الأوروبية منذ النزعة الإنسانية، وحركة الإصلاح الديني، ثم التأسيس الفلسفي للحداثة مع الديكارتية؛ قد بلورت وقائع نظرية ومجتمعية يصدق على جوانب منها وصف الليبرالية.
كما أن أول حزب ليبرالي سيظهر وينتظم في الواقع الأوروبي كان قبيل ظهور لفظ الليبرالية أقصد حزب "الكورتيس" الإسباني الذي ظهر سنة 1812م.(31/11)
كل هذا يؤكد أن الانحصار في بحث الدلالة المعجمية للفظ لن يفيد في فهم المشروع الليبرالي في تجسيده التاريخي، فضلاً عن أن إبستمولوجيا البناء المعرفي للمعاجم تنهض بطبيعتها على الاختزال والتبسيط والتنميط، واستبعاد ثراء الاختلاف والتعدد والتنوع.
نخلص مما سبق إلى أن الليبرالية ليست باللفظ الذي يجب أن يقتصر في تحديد دلالته على سياقه اللغوي المعجمي، بل لابد من بحث سياقه تنزيله تاريخياً كأنظمة وأنماط مجتمعية، ومن ثم يغدو سؤال تاريخية مفهوم الليبرالية وصيرورتها الواقعية مقدمة ضرورية لتأسيس نقاش معرفي جاد قادر على بحث المشروع الليبرالي، واستحضاره في تنوعه وتعدده، لا الاقتصار على المسلك السهل مسلك التنميط والأحادية المغرقة في الفكر الشعاراتي، المثقل بكل شيء إلا المعرفة.
ــــــــــــــــــــــ
* كاتب مغربي.
http://www.aljazee r a.net:المصدر
============(31/12)
(31/13)
نجاح الاقتصاد الإسلامي .. رسالة إلى دعاة الليبرالية !
عبد الله الخزمري
"... هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره؟!... "
تتناقل وسائل الإعلام هذه الأيام عزم كثيرٍ من البنوك الغربية! فتح نوافذ للتمويل الإسلامي تلبية لرغبات عملائها المتزايدة للتمويل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية.
إذاً، لم تعد الحاجة لفتح نوافذ إسلامية للتمويل والمتاجرة مقتصرةًً على البلاد الإسلامية وإنما تجاوزتها لفتح معاملات مصرفية إسلامية في بنوك غربية تعمل في مجتمعات ليبرالية خالصة.
مثل هذه التجربة الثرة والغنية يجب ألا نغفلها وأن نثير النقاش حول دلالاتها وإيحآتها الفكرية والسياسية والاجتماعية.
فكما يعلم الجميع أن عمر المعاملات المصرفية في البنوك وشركات التمويل لا يتجاوز عقدين الى ثلاثة عقود من الزمن. وقد كان الاقتصاديون ينظرون بتحفظ كبير إلى نجاح فكرة ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي جهلاً منهم بغزارة البدائل الإسلامية حيناً وانحرافاً فكرياً ومنهجياً أحياناً أخرى.
وقد ترتب على هذه النظرة السوداوية قيام البنوك في فترة الستينات والسبعينات في مجملها على نظام المصرفية الرأسمالية المعروفة والتي تعتمد الفائدة "الربا" وسيلة للإقراض أو الاقتراض متجاهلة النصوص الكثيرة والمتوافرة والدالة على حرمة هذه المعاملات وخطرها على الفرد والمجتمع، بل ومتجاهلة رفض المجتمعات الإسلامية لهذه المعاملات وهروبها منها.
استطاعت بعض الشركات والمصارف قراءة الواقع قراءة صحيحة فتلمست تطلع شريحة كبيرة من الناس إلى البديل الإسلامي فقامت بإنشاء مصرفية إسلامية بأسلوب عصري يستفيد من التقدم التكنولوجي والمعطيات الاقتصادية ويتوافق في الجانب الأخر مع الضوابط الإسلامية التي وردت بها النصوص وأجمع عليها علماء الأمة. ولم تكن دهشة المتابعين فقط من كثرة البدائل والحلول الإسلامية بل ومن سرعة نجاح تلك الحلول والبدائل وتفوقها على بدائلها التقليدية.
أما أرباح و نتائج المصارف الإسلامية ونجاحاتها المتتالية في كل برامجها وأفكارها الخلاقة فقد أصبحت حديث كل الاقتصاديين محلياً وعالمياً بالرغم من حداثة التجربة وقلة الموارد. وكنتيجة طبيعية لهذا النجاح بدأ العديد من البنوك والمصارف العربية والخليجية تحديداً فتح نوافذ استثمارية وتمويلية إسلامية ولحق بها بعد ذلك الكثير من المصارف العالمية.
ويجب أن ننبه هنا إلى نقطة مهمة في هذا السياق ألا وهي أن الوعي الشرعي والاستثماري المتنامي لدى المجتمعات الإسلامية أصبح يفرق وبشكل واضح بين بنك وأخر حتى ولو كانا يقدمان نفس الخدمات الاستثمارية الشرعية وبدأت مطالبة من نوع جديد وهي أن تقيم البنوك وشركات التمويل هيئات شرعية محترمة من الجمهور ليس لوضع الضوابط الشرعية للمعاملات المختلفة فقط وإنما أيضاً للرقابة الفعلية على مدى جدية البنك في تطبيقه لهذه الضوابط ورصد التجاوزات وتصحيح الأخطاء متى وجدت.
أيها السادة: إن هذا النجاح يوصلنا إلى حقيقة دامغة وهي أن الشعوب الإسلامية رفضت رفضاً مطلقاً منطلقات الليبرالية الاقتصادية استجابة لأمر الله وأمر رسوله وتحملت جراء ذلك الكثير من العنت والتعب حتى فرضت قناعتها على النخب الاقتصادية المثقفة والتكتلات الاقتصادية وأجبرت المصارف للتحول ولو تدريجياً إلى المصرفية الإسلامية بما تحمله من تميزٍ ونجاح أثبتته النتائج الرائعة التي ينعم بها كلا الطرفين المصارف ودور التمويل في جانب والمسلم الذي أصبح ينام مرتاح الضمير قرير العين بعيداً عن ظلال الرهبة من الحرب التي كانت تعلنها تلك القلاع على الله في الجانب الآخر.
كانت هذه ليبرالية الاقتصاديين وكيف تحولت مع الوقت إلى مثلبة وعيب تتبرأ منه البنوك يوماً بعد أخر حتى أصبح رؤساء البنوك والمسؤلون فيها يؤكدون أنهم لا يكتفون بتقديم البديل الإسلامي فقط وإنما يعينون هيئات شرعية في بنوكهم لتأخذ على أيديهم إن هم أخطأوا أو تجاوزوا الخطوط الحمراء؛ بل ودفع هذا الضغط الشعبي الكثير من البنوك إلى أن تتحول بكامل معاملاتها إلى البدائل الشرعية لتحضى بجزءٍ من الكعكة التي تقدمها الشعوب لكل من يتوافق عمله مع معتقدات هذه الشعوب وأفكارها وسلوكها.
ويبقى السؤال الآن: هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره؟!
فإن كانوا يريدون أن يكون لهم موطأ قدم في مجتمعاتنا الإسلامية فليقيموا برامجهم وفق الضوابط الشرعية ومن يدري فقد نحتاج في يومٍ من الأيام لمطالبتهم ليس فقط بأن تكون منطلقاتهم شرعية وإنما ليكون لديهم هيئات للرقابة الشرعية حتى تطمئن قلوبنا إلى أن ما يدعون إليه من برامج إصلاحية مزعومة منسجمة فكراً وسلوكاً مع معتقدات الأمة وثوابتها.(31/14)
فكم من مدعٍ وصلاً بليلى ولكن...هل تقر لهم ليلى بذاك! وإن كانت ليلى لا تستطيع الآن لسبب أو لآخر أن تبدي وجهة نظرها في أدعياء الحب فلا نشك بأنها ستستطيع ذلك!
31-3-2006
http://www.alqlm.com المصدر:
=============(31/15)
(31/16)
خريف الليبرالية نظرات في أزمة الليبراليين مع حدث الاستهزاء بالنبي الأمين r
عبد الله بن صالح العجيري
إن في حالة الغضب التي تعيشها الأمة اليوم تعبيراً صادقاً عن المحبة التي تملأ النفوس، وتعتلج في القلوب، وتسري في الأرواح، تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ، أشرف الناس، وأحسن الناس، وسيد الناس، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم . وهذا الغضب هو الحق الأول الذي تقدمه الأمة نصرةً لنبيها الكريم صلى الله عليه وسلم ، والذي يستتبع حقوقاً وواجبات أخر؛ إنه الغضب الواجب الذي سنّه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نرى محارم الله تنتهك، وهو الغضب الذي يزعج البدن للتحرك، والعقل للتفكير طلباً للنصرة، كلٌّ بحسبه، وحسب موقعه، وعلى وسعه وطاقته، بالحكمة التي تصلح ولا تفسد، وتبني ولا تهدم، فلا تهوُّر ولا طيش، ولا كسل، بل وضع للشيء في موضعه المناسب، وفي وقته الصحيح.
وإن فيما يرى من مظاهر الغضب والنصرة لدليل على الخير المتأصل في كيان هذه الأمة والمستقر في وجدانها، وهل كان يُنتظر من أمة الإسلام إلا هذا؟ وهل كان يُظن بها إلا ما وقع؟ إنها أيام الغضب والفرح، الغضب للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ، والفرح بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم وما تحقق للأمة من مكاسب ونجاحات، لكن مما يؤلم ويؤذي ما يُرى من إعراض بعضٍ عن مشاركة الأمة غضبتها، بل نصرتها لنبيها صلى الله عليه وسلم ، فخنسوا وسكتوا، ثم سكتوا، ثم نطقوا فبئس ما نطقوا؛ وليتهم ما فعلوا؛ فلا هم بالذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا هم بالذين تركوا الأمة وخيارها يعملون في نصرته، إنهم مسوخ بشرية القالب ناطقة بالعربية والضاد لكن القلب غربي الهوى، قد ركبوا موجة الأحداث لكن في الوقت الضائع، وسبحوا في بحرها لكن بعكس التيار، ليثبتوا للأمة أنهم في واد والأمة كلها في واد آخر؛ فلا الهمُّ هو الهمُّ، ولا القضية هي القضية، ولا المصالح هي المصالح. لهم برنامجهم الخاص الذي يريدون تمريره، ولهم خطتهم التي يريدون تنفيذها، قد وجدوا في الأحداث تعطيلاً للمخطط، وعائقاً لتمرير المشروع، فأخذوا في الالتفاف حول الحدث محاولين تجاوز العوائق، ولملمة المشروع، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فخرجوا من بعد صمت ليدعوا الأمة إلى التسامح والعفو والتهدئة، في وقت يأبى العدو أن يتقدم باعتذار، بل يزيد من سخريته وباستهتار، وكتبوا ليجرُّوا الأمة لمعركة داخلية، بدل توحيد الصف لصدِّ الهجمة الخارجية، ونطقوا بالسوء لتصفية الحسابات وتوزيع التهم وكيْل الشتائم، وكان الظن أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم محل وفاق وكلمة إجماع، وأن هذا المقام متى مُسّ فالكل سيقول كلمته الواضحة البينة في نصرته صلى الله عليه وسلم ؛ لا التواء فيها ولا غموض، فخيّب القوم الظن وأظهروا قبيح ما تكنّه الأفئدة والقلوب، فطعنوا الأمة في الظهر، وحاولوا الاصطياد في الماء العكر، وأقدموا على تفريق الصف في ظرفٍ الأمة كلها مستنفرة في وجه عدو واحد، فأضحى كشف هذا التوجه المشؤوم واجبنا نصرةً للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، ونصحاً للأمة، وفضحاً لهذا التيار، وتسجيلاً لمواقف السوء هذه ليحفظها التاريخ: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].
من دعوات التيار الليبرالي ـ والتي بدأت تتضح أبعادها، وتتكشف ملامحها ـ دعوتهم إلى (التسامح مع الآخر) والتي علا صوتهم بها، وتتابعت كتاباتهم فيها، والتسامح متى وضع في موضعه الصالح له واللائق به كان خُلُقاً إسلامياً مندوباً إليه، لا شك في ذلك ولا ارتياب، شأنه في ذلك شأن غيره من الأخلاق، لكنهم بما يسطرون اليوم يكشفون عن حقيقة دعوتهم المشبوهة هذه، وأن التسامح المطلوب ليس هو ذاك التسامح الشرعي الذي جاء الحضُّ عليه والأمر به، كلاَّ؛ إنما هو لون جديد من التسامح أبعد مدى وأوسع مساحة، إنه التسامح مع من اعتدى، وأذلّ، وأهان، ووجّه الصفعة بعد الصفعة، وأعظم في الفِرية، ويدَّعون أن هذا سنة نبوية، وطريقة محمدية؛ فهل على الآخذ به من ملام؟ وما علم القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكيماً بل سيد الحكماء، يزن الأمور بالعدل، ويضع الدواء على الجرح، ويقدِّر المصالح والعواقب؛ فكما ترك عبدَ الله بن أبيّ بن سلول ـ زعيم المنافقين ـ بلا عقاب، أخذ عقبةَ بن أبي معيط بما أساء. وكما قال لقريش: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» أمر بقتل ابن خطل ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة. وهكذا، فليس الأمر ـ كما يراد تصويره ـ تسامحاً مطلقاً، أو عقاباً مطلقاً، وإنما الأمر إلباس كل حدث لبوسه، وإعطاء كل مسألة حقها. وأحسب أن ما يجري اليوم من انتهاكات صارخة لدين الإسلام ونبي الإسلام لا محل فيه للتغافر والمسامحة والتجاوز، وإنما الواجب القيام بالنصرة، والغضب لله، واستيفاء الحقوق.(31/17)
أما دعوة الأمة إلى التغافل عن حجم المأساة، والإعراض عن عظم الجريمة، وفتح أبواب التسامح والمسامحة للمخطئين، وأن يقتصر النقد ـ إن كان ـ على الكلمة الطيبة، والعبارة اللينة، والأسلوب الهادئ، من غير جرح شعور ولا إيلام، وكأن الأمة هي الجانية لا المجني عليها، وكأننا مَنْ ظَلَمْنا لا من ظُلمنا، وكأن الاعتداء واقع منا لا بنا؛ فليس بصحيح ولا مشروع، بل بَذْلُه والحالة هذه مناقضة لمثل قوله ـ - تعالى -ـ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: ]، والقوم ظالمون ما في ذلك من شك.
إن التسامح المشروع لا يكون إلا إذا صادف محلاً مناسباً، وإن أولئك المستهزئين بمقامه صلى الله عليه وسلم ليسوا موضعاً صالحاً للتسامح، وإن التسامح مع أولئك المجرمين جريمة شرعية لا يجوز أن يكون بحال، وليس للأمة الحق في التنازل عن حقه الشريف صلى الله عليه وسلم تحت لافتة التسامح والمسامحة، وليت شعري أي عيش يبقى وأي حياة تطيب يوم يمس جناب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة تقف موقف المتفرج المتسامح، المتغاضية عن صفعات الخصوم، والتي لا تطالب بحقها، فإن طلبته فعلى استحياء؟ إن إجماع الأمة عامة منعقد على حرمة التسامح مع من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قال عالم ولا شبه عالم بمثل ما يريده هؤلاء منا، وفي كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول» لشيخ الإسلام ابن تيمية عظة وعبرة.
والقوم بدعوتهم للتسامح والتغافر والتجاوز عن الإساءة يلملمون ما تبقى من مشروعهم الخاسر (التقارب والتقريب بين المسلم والكافر) تحت شعارات التعايش والتسامح والسلام، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مخطط إلغاء عقيدة الولاء والبراء، وهم معذورون فيما يفعلون، فالخطب جلل، والأمر عظيم، والأحداث تجري على خلاف الهوى والمخطط، فليس لهم إلا هذا المركب الصعب ليركبوه ولعل وعسى. لقد ظهر للجميع حقيقة حال (الآخر)! منا، واستبان للناس مدى الاحترام الذي تكنّه صدروهم وقلوبهم لنا ولديننا، وأن الأحقاد الصليبية لا تزال تتسكع على الجسد الأوروبي، وأن النظرة السلبية للمسلمين لا زالت المسيطرة على المشهد الغربي، وأنهم لا زالوا يعانون من عقدة (الإسلاموفوبيا)، وأقوال عقلائهم ومنصفيهم شاهدة بهذا وما أكثرها! وتاريخ الأمة السابق وواقعها المعاش خير شاهد، وإن تغافل عن هذا كله المستغربون ولجوا وجعجعوا. بالله عليكم! أي حقد وبغض أظهر مما وقع وجرى حيال نبي أمة المليار مسلم؟ وأي طعنة أنفذ وأنكى من هذه الطعنة؟ وأي إهانة وصفعة وركلة أشد من هذه الإهانة؟ ثم يكبر على أولئك الظالمين بعد هذا كله أن يقدموا كلمة (اعتذار)؛ فكيف بما فوقه؟ وقد اتضح للجميع أن مقام نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده لا تساوي عندهم شيئاً في مقابل حقهم ـ المزعوم ـ في ممارسة حرية التعبير، وإن فيما نرى من تسارع محموم لنشر صور الإفك هذه، وذلك التعاضد والتناصر الذي يُرى، والتصريحات العدائية التي نتلقاها عن اليمين والشمال لدلالة على أن الأمر أكبر مما نظن، وأنه أوسع دائرة مما نحسب، وصدق الله القائل: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].
من غرائب المواقف المثبَتَة على هذا التيار تبرير ما وقع من اعتداء، والاعتذار عما حصل من إساءة، والمدافعة عن المجرمين المعتدين، في محاولة لامتصاص الغضب والتهدئة، وذلك بمختلف التبريرات، وأنواع الاعتذارات؛ فبعضهم(1) يصرح بأن المسلمين هم السبب فيما وقع، على قاعدة «لعن الله من لعن والديه، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أم الرجل فيسب أمه»! فما وقع من اعتداء على جناب النبي صلى الله عليه وسلم حلقة في سلسلة من الاعتداء المتبادل والذي انتهى إلى ما انتهى إليه، هكذا والله يسطرون، وهكذا يحمّلون أهل الإسلام تبعة ما جرى، ويجري، وكأنهم ليسوا منا، وكأنهم الناطق الرسمي باسم المعتدين، إنهم بمنطقهم الغريب هذا يقلبون الطاولة على أهل الإسلام فيجعلونهم معتدِين بعد أن كانوا مُعتدَى عليهم، ويُظهرونهم في مظهر الظالم بدل أن يكونوا مظلومين، و (البادي أظلم)! إن الدعاوى من أسهل الأمور، ووضع (السيناريو) على حسب المزاج من أيسر الأشياء، لكن الصعب تقديم الأدلة، ووضع البراهين، وسياق الحجج، وإلا فليخبرونا عن هذا المسلسل المزعوم في الدانمارك والذي أدى إلى ما نرى ونسمع: متى ابتدأ، وكيف كانت حلقاته، وأين مجال الاعتداء من الطرف الإسلامي الذي استفز مخالفيه فقالوا ما قالوا، وأقدموا على ما أقدموا عليه؟ فإن عجزوا وخرجوا من هذه صفر اليدين ـ وإنهم لخارجون بها ـ فسقطة تستدعي تراجعاً وأوْبة، ولا يخفى أن المسألة أعمق غوراً من مجرد التهارج والجهل بين فئات محدودة من هنا وهناك كما يظهر لكل ناظر في مسلسل الأحداث.(31/18)
والقوم في دفاعهم المشبوه هذا يذهبون إلى أبعد من هذا في تحميل المسلمين مسؤولية الأحداث، وأن السبب في استفحال الأمر عدم كفاءة القيادات الإسلامية بالدانمارك في معالجة المشكلة بالأساليب القانونية، وفشلهم في رفع الدعاوى القضائية(2)، وكأن المسكين لا يعلم أن المسلمين هناك قد بذلوا الجهد في إيصال صوتهم لكنهم قوبلوا بالغطرسة والعنجهية الدانماركية، هذه الغطرسة التي تأبى على القوم تقديم الاعتذار الصريح مع التصعيد الحاصل؛ فكيف ولمّا يتم التصعيد؟ إن طلب المسلمين ـ يا أستاذ ـ برفع القضية قد رُفض، بل رفض رئيس الوزراء الدانماركي استقبال السفراء العرب، لقد سدت الأبواب، وأغلقت المنافذ، وهُمّش المسلمون؛ فكيف يحملون تبعة هذه الجريمة يا فهيم؟
وأطرف من هذا وأغرب ما سطره آخر زاعماً أن جميع ما يرى من أحداث إنما هو بتدبير جماعات ذات صلة بتنظيم (القاعدة)! إي والله! وذلك لتعكير أجواء الصفاء بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، ولئلا يقال متقوّل أو مفتر أسوق هذا النص لأحدهم بحروفه يقول: (وتقول مصادر مخابرات أوروبية، وبلد إسلامي أفريقي أنها حذرت بلداناً الإسلامية من خطة يدبرها «ناشطون دانماركيون» مع «منظمات سرية» يحتمل اختراقها من القاعدة، تهدف لصدام بين الغرب والمسلمين، وهو من أهداف زعماء الإرهاب، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وبدلاً من أن تأمر الحكومات الإسلامية مخابراتها بالتحقيق في مصادر تمويل حملة «أئمة كوبنهاجن» وصلاتهم بالإخوان والطالبان وجماعات تخريب أخرى تعمل في الظلام، استغل بعضها الأزمة لصالح أجندتهم السياسية)(3)، أرأيتم كيف يتم الاستغفال، وتمرر الأكاذيب، وتنشر الشائعات؟ ألم أقل لكم إن الخطب جلل، وإن الأمر صعب، وإن الأحداث قد آذت أهل هذا التيار، فولجوا هذا السبيل، وسلكوا هذا الطريق، لعلهم يثوِّرون في سماء الحقيقة الغبارَ، أو يغطون شمسها عن الأبصار، لكن للناس عقول، ولعل عقول القوم في إجازة.
ومن غريب ما يعتذر به القوم عن الإساءة الواقعة، وما يقدمونه من تبريرات، الزعم بأن ما وقع من سخرية واستهزاء عائد إلى طبيعة الدانماركيين المتفلتة، وهوسهم بالتحرر والانطلاق، وعشقهم لحرية التعبير، مع عدم التدين، وعدم الإيمان، وأنه ليس ثمة حقد مزعوم، ولا عداوة متوهمة، ولا قضية بينهم وبين رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي أن تُضخَّم المسألة، وأن تُخرَج عن هذا السياق؛ فالأمر لا يعدو أن يكون سوء تفاهم، وعدم تقدير للعواقب ليس إلا، وأن إخراج القضية عن هذا الإطار تصعيد لا مصلحة فيه، بل هو تصعيد مقصود لأهداف تحتية، ومصالح شخصية، ومكاسب فئوية(4)، بل إثارة الموضوع أصلاً وإخراجه من الصعيد المحلي الدانماركي ليكون شأناً عالمياً غير صحيح، وأن الواجب محاسبة المسؤولين عن هذه (الشوشرة العالمية)(5) التي لا فائدة فيها، ولا أدري لِمَ التغابي عما وقع، ولِمَ التعامي عما حدث، ولِمَ لا ينصف القوم ويُقرون بالحقائق كما هي بموضوعية وعدل، وينظرون فيما يجري على الأرض كما هو، لا أن يسعوا في ليّ عنق الأحداث لأفكار مسبّقة، ويحمِّلوا الواقع ما لا يحتمل. ما نُشِر إساءةٌ، وما نُشِر دليل على صورة نمطية سلبية للإسلام، وما نُشِر ينمّ عن عداوة مستقرة في النفوس، هكذا هو الأمر ببساطة ومن غير تعقيد، وبالله عليكم مَنْ نظر في تلكم الصور الآثمة هل يظن في راسمها أنه محب للنبي صلى الله عليه وسلم أو على الأقل محايد في نظرته إليه أم أنه مبغض له معادٍ؟ ألم يصوروه مرتدياً عمامة على صورة قنبلة إشارة إلى دمويته، وأنه لا يعدو أن يكون إرهابياً، والإرهابي عدو؟ ألم يصوروه بصورة قبيحة حاملاً في يده خنجراً كأنه جزار ومن خلفه امرأتان منقبتان؟ بل صوروه بما هو أقبح وأشنع؛ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم . أهكذا يصورون نبينا صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي من يزايد علينا، ويريد إقناعنا بأنه ليس ثمة عداوة ولا حقد ولا كراهية ولا شحناء؟! إن في هذا الاستهزاء المشين بمقام نبينا الأمين لدليل على قبيح ما يضمرونه حيال نبينا وديننا، وفي تصريحاتهم وكلماتهم ومواقفهم ما يدل على أن الأمر ليس تسلية بريئة، أو تجاوزاً ينبغي أن يتغاضى عنه، كلاَّ، إنه خطأ، وإنه اعتداء، وإنه جريمة لا ينبغي السكوت عليها، فأقصروا عن التبرير والمدافعة، وانأوا بأنفسكم عن السقوط في هذه الهوة؛ فإنها سقطة يوشك أن لا تقوموا بعدها؛ فالناس تحفظ، والتاريخ يسجل، ولا مخرج لكم إلا إعلان البراءة مما سطرتموه، ولعل وعسى.(31/19)
من قبائح هذا التيار وأهله أنهم سعوا في مثل هذا الظرف الذي تعيشه الأمة إلى افتعال المعارك، وإشعال الخصومات، في محاولة لصرف المعركة الحاصلة بين المسلمين والمعتدين على جناب النبي صلى الله عليه وسلم ، لتحول المسألة إلى لون من الاحتراب الداخلي، هذا منتصر غالب، وذاك منهزم خاسر، هذا (ربيع المتطرفين)(1)، وهذا أوان المتشددين (وصناع الكوابيس)(2)، تصفية للحسابات، وإلقاء للاتهامات، وإنقاذ لما يمكن إنقاذه من مشاريع ومخططات، فصوَّروا ما يُرى من ردة الفعل الشعبية، وهذا الحراك العام تجاه ما وقع من عداء سافر، بأنه كان بمؤامرة وتخطيط، وأن الأمر قد بُيّت بليل بهيم، وأن الأمر لا يعدو أن يكون تحريكاً من صناع الكوابيس أهل التباغض والعداوة والشحناء، وأن الأمة قد تبعتهم كالقطيع يتبع راعيه، من غير فكر ولا تروٍّ، سمعوا لهم وأطاعوا، وأنصتوا إليهم وأجابوا، وما علم القوم أن هذه الحمية التي وقعت، وهذه الكراهية التي ظهرت، إنما هي بسبب الغضبة الإيمانية التي تجري في شرايين هذه الأمة، غضباً لله ورسوله، والذي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا به؛ فليس ثمة استلاب مزعوم، ولا تحريك مدعى إلا تحريك عقيدة الأمة للأمة؛ وإلا فبالله عليكم من حرّك جمهور المسلمين للمقاطعة مثلاً: أفتوى أطلقها فلان أو فلان، أو توجيه من علاّن؟ أم الواقع شاهد بأنها حركة شعبية عامة ابتدأت منها وانتهت إليها، ووجد المسلمون أنفسهم منقادين لها قياماً بواجب نصرته صلى الله عليه وسلم وذباً عن حياضه؟ إن الموقف من الرسول صلى الله عليه وسلم قضية جوهرية مشتركة بين كل منتسب للإسلام، سنّياً كان أو بدعياً، عدلاً كان أو فاسقاً، فلا يُلام مسلم على غضب يغضبه أو كراهية وبغض تقع في قلبه متى مُسّ مقام النبي صلى الله عليه وسلم بتعدٍّ واستهزاء، بل الملام من لم يغضب ولم يمتلئ قلبه من الكراهية والبغضاء لكل متسبب فيها، إن تصوير الحدث على هذا النحو تصوير مغلوط، وإنه لمن سوء الظن بالناس، وإنه لعقدة يجب عليهم أن يتخلوا عنها، وطريقة يجب عليهم أن يتجنبوها. إن الظرف حساس، والأمر عظيم، والانتهاك صارخ، ونحن في غنى عن افتعال المعارك، واستحداث الأزمات. إن هَمّ المسلمين الأوحد هو الانتصار للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، على مختلف مذاهبهم، وطرائقهم، وفصائلهم؛ فإن شئتم أن تكونوا معهم في سفينة النجاة فاركبوا بشرط أن تتركوها تجري وألا تسعوا في خرقها وإغراقها.
مساكين هم أدعياء الليبرالية عندنا، مستوردو القيم والأفكار والمناهج الغربية، الذين حاولوا إقناع الأمة بالإقبال على الحضارة الغربية بكليتها، بخيرها وشرها، بحلوها ومرّها، بما يُحب منها وما يُكره، وصاحوا بأنه لا محلّ للانتقاء، فليست الحضارة (بقالة) تأخذ منها وتذر، إنما تؤخذ جميعاً أو تترك جميعاً، ولا مجال للترك!
مساكين هم لطالما أُحرجوا من مصدِّري الأفكار، وبائعي القيم، تلك القيم التي شهد العالم أجمع زيفها وهزالها؛ فكم تشدق الغرب بحقوق الإنسان، وأضحى الجميع يعلم مواصفات هذا الإنسان محل الرعاية وصاحب الحقوق، شرَّقوا وغرَّبوا بالدعوة إلى الديمقراطية، ثم أرادوا فرضها بالعصا الغليظة وبالدكتاتورية، تنادوا للتسامح ثم وأدوه في معتقلاتهم وسجونهم في «أبو غريب وغوانتنامو» وغيرها، واليوم الأمة مدعوة إلى النظر إلى قيمة غربية جديدة، تظهر نفسها للعالم في أقبح صورة، وأكلح وجه، إنها (حرية التعبير)، الحرية التي لا تعرف الحدود ولا القيود؛ ولا محرم فيها ولا محظور، حرية لا عيب فيها، حرية لا يعدلها في القداسة قيمة أخرى، حتى أضحت الحرية اليوم أقدس من الرب ـ - جل وعلا - ـ في الضمير الغربي؛ فلهم أن يتكلموا عن الرب بما شاؤوا، وكيف شاؤوا، ممارسةً لحرية التعبير، (نعم لنا الحق أن نرسم كاريكاتيراً عن الله)! كما قالها شقي من أشقيائهم عليه من الله ما يستحق، أما انتقاد حرية التعبير أو المساس من جنابها المقدس، فحرام حتى على (حرية التعبير)!! لقد قالها المخلصون من قبل: «إن الحرية المزعومة عند دعاة الليبرالية ليس لها حدود تقف عندها، فلا شرع يحوطها، ولا عقل يحرسها» وانظروا كيف ينتقدون الثوابت تحت شعارات الحق النسبي!
وانظروا كيف يطعنون في المسلّمات عبر بوابة حرية التعبير! وقد دفع الليبراليون عندنا التهمة ما استطاعوا وأنكروا، وقالوا: سوء فهم لليبرالية، وسوء ظن بالليبراليين، وجهل بالثوابت، وجهل بالمسلَّمات، ثم تجيء الليبرالية الأصلية اليوم، الليبرالية الأم، والْمُصدّر الأساس للفكرة لتقولها بملء الفم: ليس لحرية التعبير حد تنتهي إليه، وليس لأحد الحق في المساس من جنابها المقدس أو النيل منها، والحرية متى قُيِّدت لم تعد حرية، وصار صاحبها أسير القيد، فلا ثوابت ولا مسلَّمات، بل الكل خاضع للنقد، بل وللاستهزاء والسخرية.(31/20)
إن العالم الغربي يعيش أزمة حقيقية حيال هذه القيمة التي ضخمت وضخمت حتى غدت ديناً جديداً يعبد فيها صاحبها هواه من دون الله، ولم تعد للقيم الإنسانية والمفاهيم البشرية ما يكافئها وما يدانيها، وما أزمتنا التي نعيشها اليوم معهم حيال ما وقع وجرى لنبينا صلى الله عليه وسلم إلا أنموذج لتضخم هذه القيمة عندهم حتى يوشك أن يتلفهم ويهلكهم وقد فعل. لقد اعتذروا لنا عن الاعتذار بدعوى حرية التعبير، وصار السب والاستهزاء حقاً مكفولاً ترعاه الحكومات والدول الغربية تحت هذا البند (حرية التعبير)، وصار معتنقو هذا المبدأ ـ وهم كثرة كاثرة ـ مشاريع سب وشتيمة وإن لم يمارسوه؛ إذ هم يبيحونه ويجوِّزونه وكفى بها جريمة، ومن رضي بما وقع كمن فعل وقال. لقد أظهروا تضامنهم وتآزرهم لضمان حقهم في حرية التعبير بإعادة نشر الصور هنا وهناك، وليذهب المسلمون إلى الجحيم! وأعلنوا لنا مراراً أنهم غير مستعدين للتنازل عن حقهم المزعوم هذا لأي كان، بل قال رئيس الوزراء الدانماركي: (القضية تتركز على حرية التعبير في الغرب مقابل المحرمات في الإسلام)، وهكذا يريدون إقناعنا بقيمة حرية التعبير عندهم، وأنه لا محل للتفاوض حولها، ولا مجال للأخذ والعطاء، ثم يأتي الليبراليون ويريدون إقناعنا باعتذارهم السخيف هذا، فيقولون فيه: اعتذار (حقيقي) و (صحيح)(1)! بل وتجاوزوا هذا ليؤكدوا على قداسة حرية التعبير وعدم تقبل فكرة التدخل في الصحافة على أي وجه وأي صورة(2)، حتى إنهم طعنوا في مواقف بعض الكفار الإيجابية من الأزمة واتهموهم بالانتهازية وأن الواجب عليهم (التأكيد على مبادئ حرية التعبير واحترام القانون)(3)! وأن ما يُرى من تهويل المسلمين لما وقع في جناب النبي صلى الله عليه وسلم عائد إلى عدم ممارستهم هذه الحرية جرَّاء ما يعانونه من قمع وكبت، ولو أنهم ذاقوا طعمها لما قاموا ولما تحركوا، فسحقاً لهم ولحريتهم المزعومة هذه، وهكذا يكون انتصار الليبراليين لقضايانا وإلا فلا! وبهذه المواقف يؤكد الليبراليون انسلاخهم عن الأمة فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
ومع ما تقدم فمن العجيب أن فقاعة (حرية التعبير) هذه لا تلبث أن تتوارى خجلاً إن مُسّ جناب اليهود، أو طُعن في السامية، أو شُكك في محرقة (الهولكست)، ليعلم الجميع أن الحضارة الغربية حضارة ازدواجية، حضارة الكيل بمكيالين، لا أخلاق ولا قيم تقوم عليها، ولا مبادئ تستمر عليها، إنما القيمة المقدسة الوحيدة عندهم ـ على الحقيقة ـ المصلحة ليس إلا؛ فأينما كانت المصلحة فثمّ دينهم وشرعهم، وإن داسوا في سبيل تحصيلها الأديانَ والمبادئ والقيم.
وانظر إليهم ـ اليوم ـ كيف يتواصون بحرية التعبير ويتنادون بها، ثم يستنفرون العالم للضغط على الشعوب المسلمة لوقف ثورة الغضب وإنهاء حالة المقاطعة، وكأن حق التعبير حق خاص بهم فقط، وأن الشعوب المسلمة حقها الكبت والحرمان.
إن ما يجري على الساحة من منازعة ومخاصمة حول حرية التعبير وحدوده قد كشف عن سوءة العالم الغربي والحضارة الغربية، وإن ما يُرى من التهارج حول حرية التعبير لمحرج جداً لليبراليي الداخل، الذين أفنوا أعمارهم في التغني بالقيم الغربية، والحضارة الغربية، ثم تفجؤهم اللطمة بعد اللطمة لعلهم يتنبهون، ومن غفوتهم يستيقظون، وعلى دينهم يُقبلون، فيطلعوا على زيف القيم، وهشاشة الحضارة، حضارة الغرب التي لا روح فيها ولا خُلُق، حضارة اللاّدين التي لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أُشرب من هواها، فيتوقفوا عن التوريد، ويقاطعوا تلكم الأفكار، ويكشفوا الزيف، ويفضحوا الباطل، فيكفّروا عما تقدّم من خطايا عسى أن يُغفر لهم.(31/21)
مما جعجع به الليبراليون وهوَّلوا حوله الأغلبية الصامتة في المجتمعات المسلمة؛ فما إن يقع لخصومهم من الإسلاميين انتصار إلا وتراهم يسارعون: لا تفرحوا؛ فالجمهور ليس معكم، و (الأغلبية صامتة). والناظر في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً يشهد الحضور الشعبي الواسع الداعم للحركة الإسلامية، لكن القوم يتعامون عنه ويصمّون الآذان، موهمين أنفسهم أن (الأغلبية الصامتة) معهم، وأنها غير موافقة لما يدور على الساحة، وما يقع على الأرض، لكن اللافت للنظر في هذا الحدث أن الأمة كلها قد قالت كلمتها، وعبرت عن رأيها بوضوح (إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم )! وأجمعت على خيار المقاطعة الشعبية العامة للبضائع الدانماركية؛ فماذا كانت النتيجة حين غدت الأمة (أغلبية ناطقة)؟ لقد وسمهم أولئك بالغوغائية، وقصر النظر، وأنهم لا عقول لهم تحركهم وإنما المحرك العواطف ليس إلا، وأنهم مسلوبو العقول، ولولا الخوف منهم لنطق العقلاء (وهم الليبراليون طبعاً) وبيّنوا الواجب، لكنهم خنسوا لجبنهم أدام الله عليهم هذا الجبن؛ فإن تشجعوا وتكلموا فإشارة هنا وكليمة هناك، وقذف للحجر من مكان بعيد، والجريء من يتستر خلف الألفاظ ويتوارى خلف المصطلحات؛ فالهجوم اليوم على (صناع الكوابيس)، و(المتطرفين)، و (الغوغاء)، أما تحديد الحقائق، وتسمية الأشياء بمسمياتها، والوضوح في النقد، فهم عنه بمعزل، أليس من الغريب أن دعاة (الرأي والرأي الآخر) قد ضاقوا ذرعاً بالرأي الآخر، فانبروا لـ (مقاطعة المقاطعة) مثلاً، رافعين شعار (لا لمقاطعة البضائع الدانماركية)(1)، متنقِّصين بحماسة ظاهرة خيار الأمة في المقاطعة بأسلوب استفزازي، تصل بصاحبها إلى حد اتهام الأمة بالسطحية والسذاجة، ومتابعة العواطف دون العقول، وأن ما يُرى لا يعدو أن يكون ظاهرة صوتية ليس إلا، وما الأمر إلا كزوبعة في فنجان، هكذا تكون حماستهم لتسجيل مواقفهم في مصادمة الأمة والسبح ضد التيار بدل تسجيل المواقف في موافقة الحق الذي عليه سواد الأمة على مذهب (خالف تعرف)! لينكشف للجميع أنهم ليسوا المؤهلين لنقل همّ الأمة، ونبض الشارع، ومن يطالع طرحهم بهذا الخصوص يعلم أنهم ملفوظون على المستوى الشعبي، وأن ما يسطِّرونه في هذا السياق محل رفض ومقاطعة.
من المظاهر اللافتة للنظر هذا التحرك الليبرالي المشبوه لإنهاء الأزمة بأقل مكاسب ممكنة للمسلمين، وأكبر قدر من الأرباح للمعتدين، وإلا فما الذي يفسر هذا التعجل المريب في نشر وترويج وقبول كل ما يُدَّعى أنه اعتذار لمجرد أنه مصدّر بكلمة (اعتذار)، وإن كان عند أهل البصيرة والعمى ليس اعتذاراً ولا حتى شبه اعتذار(2)؟ وطالع ما شئت من الاعتذارات المقدمة حتى اليوم هل تجد فيها تجريماً لما وقع أو تخطئة لما جرى، غاية الأمر أنهم يقولون: إننا نأسف إن آذينا مشاعركم، لكن لنا الحق في سب نبيكم!! فهل يسمى هذا اعتذاراً يا عباد الله! أم هو جرم جديد يحتاج إلى اعتذار؟ وهل يصح أن تُنهى الأزمة بمثل هذا الكلام، وأن يقال فيهم: «خير الخطائين التوابون»؟ (3).
إن الأمة اليوم تقف موقف قوة يمكنها من تحقيق أكبر قدر من المكاسب، ومع كل يوم يمر يكون للأمة الحق في أن ترفع سقف المطالبات، استجابة للواقع وتفاعلاً مع الأحداث، ولو أن أصحاب البقر كانوا أذكياء لأنهوا الأزمة من أولها بالاعتذار الصريح وأغلقوا الملف قبل وصوله للعالم الإسلامي، لكن للغباء والغطرسة الدانماركية ضريبتها والتي يجب أن تؤخذ منهم، ولا يصح أن يُتنازل عنها بحال.
إننا لا نريد التعجيز أو وضع المطالبات الممتنعة المستحيلة في ظرف استضعاف تعيشه الأمة على الصعيد العالمي، لكننا نريد أن نخرج من هذه الأزمة بأكبر قدر من المكاسب والأرباح الممكنة، والتي تكفل لنا وتضمن ـ فيما تضمن ـ حقنا في عدم وقوع مثل هذا الانتهاك مجدداً، وحقنا في نشر ديننا والدعوة إليه كما هو من غير تحريف أو تشويه، وليحفظ التاريخ لنا هذا الموقف وهذه الوقفة، ولتكون الدانمارك أنموذجاً لما يمكن أن يحصل متى ما مُسّ جناب نبينا بسخرية أو استهزاء!
أما محاولة إغلاق ملف القضية بأي وسيلة وكيفما اتفق فخيانة لجناب النبي صلى الله عليه وسلم وأمته ينبغي أن تكون محل المحاسبة والجزاء، وهي دليل على ضيق عطن بما يحصل.وإن تطويل الأزمة ليست في صالح القوم، ألم أقل إن المشروع الليبرالي معطل، وأن فصل الخريف هذا لا بد أن ينتهي أو يُنهى؟!
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
-===========(31/22)
(31/23)
لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة ونجحت الليبرالية الغربية ؟
في البدء قالت.."كيركبا تريك" المستشارة في إدارة الرئيس "ريغان" وممثلة أمريكا في الأمم المتحدة، تؤكد أن الديمقراطية مجرد لعبة لتحقيق مصالح الغرب، وأن قيم الغرب وسياساته خاضعة للعبة المعايير المزدوجة..تقول:
(إنه ينبغي علينا عدم تشجيع الديمقراطية في وقت تكون فيه الحكومة المؤيدة من قبلنا تصارع أعداءها من أجل البقاء، وإن الإصلاحات المقترحة بعد ذلك لا بد أن يكون منها إحداث التغيير، وليس إقامة ديمقراطية).
تساؤل عقلي مشروع يطوف في أذهان بعض الإسلاميين والعلمانيين العرب: لماذا فشلت الليبرالية العربيَّة؟
وجواب هذا التساؤل معلق على جواب تساؤل آخر: فهل يوجد أصلاً ليبرالية عربية حقيقية؟!
هنا جوهر المشكلة لأن بعض الإسلاميين وخصومهم يخلطون بين العلمانية وبين الليبرالية، فلا يلزم من كون الإنسان علمانياً أن يكون ليبرالياً، إذ العلمانية موقف أيديولوجي فكري من الدين أو النص أو المقدس، فالعلماني قد يكون ديكتاتورياً وهذا الغالب- وقد يتحالف مع الشيطان، ومع الديكتاتور، ومع أي جهة كانت، ما دامت تساعده في إدارة رحى معركته ضد الدين أو ضد المتدينين.
لذا فلا وجود موضوعي لليبرالية عربية، ولا أدل على ذلك من غياب ممارسة حقيقية للتسامح واحترام المخالف، وغياب أي مشروع إصلاحي مدني حقيقي، ينفع المواطن العربي في عالمنا العربي المتألم!
إن سلوك العلماني العربي جعل "الليبرالية" كلمة مكروهة مشوهة تحتقرها الجماهير الصارخة بآلامها، لأنها تشاهد بأم أعينها خيانة النخب العلمانية العربية لهمومها وآمالها، ولا تجد من هذه النخب إلا تحالفاً وتبريراً للدكتاتور، مع أن هذه النخب المتخمة بالعلمنة تصيح صباح مساء قائلة: قدسوا الحرية كي لا يدوسكم الطغاة!
وهم كل يوم بل كل لحظة يدوسون هموم الشعوب، ويتحالفون مع الشيطان الأصغر والأكبر، كي يتمكنوا من أغراضهم الخاصة، ونزواتهم الشخصية.
العقلاء يا سادة- مع اختلافهم وتباين توجهاتهم فإنهم قد يحترمون من يخالفهم إذا رأوه صادقاً مع نفسه ومبادئه. إن الليبرالي الذي يؤمن بمبادئه ويمارسها حقيقة، ويدافع عن كرامة الناس وحقوقهم، ويتسامح مع خصومه، ويتقبلهم، يضع له خصومه حساباً لأنهم يعلمون أنه مؤمن حقيقة بقضيته.
ومن يتأمل الصحابي الكريم "عمرو بن العاص" الذي يقول عن الروم.. ما ورد في صحيح مسلم ما قد يبيّن بعض طباع هؤلاء الناس، مع إنصافهم وعدم غمط حقهم. فقد روى مسلم عن المستورد القرشي أنه قال عند "عمرو بن العاص" - رضي الله عنه -:
(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تقوم الساعة والروم أكثر الناس " . فقال له عمرو : أبصر ما تقول . قال : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً :
إنهم لأحلم الناس عند فتنة .
وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة .
و أوشكهم كرة بعد فرة .
وخيرهم لمسكين و يتيم وضعيف .
وخامسة حسنة وجميلة : و أمنعهم من ظلم الملوك).
فتأملوا كلام هذا الصحابي العظيم - رضي الله عنه -، وكيف أنصفهم وشهد لهم بما هم أهله، مع كفرهم وعداوتهم، وتأملوا في المقابل المثقف العلماني العربي فستجدونه في أكثر الأحيان- متسلطاً دكتاتوراً محارباً للدين في أصوله وتفاصيله، لا يهمه مسكين أو يتيم، بل سليط اللسان بذيء الألفاظ، إذا خاصم فجر، عنده كل القابلية لأن يطعن في أعراض خصومه بالبهتان، تجده يمارس أشد أنواع الإقصاء، فهو دغمائي، سادي كما يعبرون- ليس عنده أي قابلية لأن يتسامح.
وما أجمل ما صوره النصراني العلماني (رفيق حبيب) لهذه النخبة حينما قال:
(الانبهار بالغرب أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب، ولكن لدى وكلاء الغرب كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة، إن وكلاء الغرب يشكون من عدم إتاحة الفرصة كاملة لحرية البحث ويؤكدون أن حضارتنا وتراثنا قيود على البحث العلمي، والحقيقة أن هذه الشكوى تنبع من قضية على جانب كبير من الخطورة، لأن تطبيق العلم الغربي في سياق حضارتنا يمثل تعديا على كل مقدسات الأمة ولذلك فانه يواجه من مجموع الأمة ومن هنا يشكو وكلاء الغرب بسبب إن حرية البحث العلمي مقيدة والحقيقة أن التعدي على مقدسات الأمة مقيد).
العلماني يريد أن يمارس حريته -عبثه- مع المقدس لأنه يرى أن لا مقدس إلا هو، الدين لا قداسة له، هو متغير ومتحول، وغير ثابت، لكن الديكتاتور عند العلماني العربي ثابت غير متحول، ولذا فهو يلعق حذاء الدكتاتور ويسبح بحمده، يغرد بسرد إنجازاته، إنه يعبده ويتخذه آلهة، ولا ينبس بكليمة صغيرة من أجل ضمير الشعب المطحون تحت قهر الفقر والذل!(31/24)
العلماني العربي قوي شجاع حينما يتكلم عن الله - سبحانه -، وعن دينه، يدعي بطولة رخيصة، فإذا ثارت الجماهير المؤمنة صارخة متألمة من أجل ربها وحبيبها نبيها ودينها، صاح العلماني العربي: أين الحرية؟ أين التسامح؟ أين قبول الرأي الأخر؟!
يا له من شجاع وجريء على دين الله، ويا له من جبان ورعديد ومنافق حينما يتحدث عن الديكتاتور!
إن الجماهير مقتت من يطنطن بالحرية وتراه لا يمارس حريته إلا حينما يتحدث عن الله ودينه، لكنه لا يتحدث بهذه الحرية حينما سرقت اللقمة الصغيرة من أفواه ملايين الشعوب، ولم يتحدث عن الأيتام، عن الفساد، عن مشاريع حقيقية ينتفع بها الإنسان.
إن ما تروجه العلمانية الغربية والأمريكية، والتي تتشدق بالحرية والديمقراطية هذه الأيام وقبلها هي أبعد ما تكون عن تطبيقها وممارستها في العالم العربي والإسلام، لأنها تعتقد أننا غير قابلين لمثل هذه القيم، ومهما تشدقوا فثقوا أن ديمقراطيتهم لا تباع ولا تستبدل، إن الديمقراطية مجرد فزاعة للأنظمة وللحكومات، وجزرة للشعوب اللاهثة.
ولذا نتفهم وجهة نظر الخبير الفرنسي بشؤون الإسلام السياسي "أوليفيه روا" حينما يتحدث عن خيارات الغرب تجاه الحرية والديمقراطية في العالم العربي البائس؛ حينما تتعرض مصالحه للخطر، فهنا يضحي بقيمه وتعاليمه المقدسة، في سبيل الحفاظ على مصالحه.. يقول:
(عندما يكون على الغرب الاختيار بين العلمانية والديمقراطية، فهو يختار العلمانية دائماً، وعندما تكون العلمانية في كفة والديمقراطية في كفة كما في الجزائر وتركيا فالغرب يختار دائماً العلمانية لا الديمقراطية، الغرب يفضل قيام نظام تسلطي دكتاتوري على وصول الإسلاميين إلى السلطة).
وقد أكد هذه الحقيقة ودون مواربة أو خجل (أدوارد ما نسفليد - وجاك سنايدر) عندما تحدثا عن فوز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وحزب الرفاة في تركيا وضرورة ضربهما.. يقولان:
(في كلتا الحالتين، كان لا بد من انتهاك المسار الديمقراطي، وذلك لإيقاف ما أسفرت عنه العملية الديمقراطية نفسها، فقد عبر كثير من المراقبين والحكومات عن ارتياحهما لهذا، مبررين ذلك بأنه من الأفضل وجود حكومة " فاشية " نستطيع التعامل معها، بدلاً من حكومة إسلامية لا نستطيع التعامل معها).
ولذا يقرر الغرب أنه من الخطأ الاستراتيجي دعم أعظم القيم الغربية "الديمقراطية و الحرية" قيمةً في بلدان تتقاطع مصالحها مع تلك القيم، وهذه الحقيقة يقررها المفكر الغربي "روبرت كانمان" في كتاب ألفه لهذا الغرض اسماه ب " الديمقراطية والمعايير المزدوجة " ومما قاله في هذا الكتاب:
(إن الجميع - في الغرب - يتفق على أنه من الخطر دعم الديمقراطية بجميع صورها في العالم الإسلامي).
وإذا كان العلماني العربي يدرك ذلك سياسياً، فهو لا يجد غضاضة في وضع يده في يد أعداء دينه ووطنه، والصياح دائماً بالحرية التي تعني له: أنه يجب أن يلعن الدين ويشتم الله بدون أن يضايقه أحد، وهو يعلم أن الغرب لن ُيصدر أقدس قيمه "الحرية" لحفنة من البشر يراهم دون قيمة البشر!
وحينما نتجه للمرأة وما أدراك ما المرأة؟! تجده يتحدث عن المرأة.. عفواً.. ليست المرأة الإنسان، ليست المرأة الأم.. ليست المرأة اليتيمة.. ليست المرأة الفقيرة.. إنه يتحدث عن المرأة الصغيرة الجميلة، إنه يريد أن لا يتعطل نصف المجتمع في البيوت لصناعة الجيل القادم رجلاً ونساءً، إنه يريد أن يعمل نصف المجتمع قريباً منه وتحت ناظريه، ليخلو البيت!
ألم يقل كبيرهم العلماني المشهور "بوعلي ياسين":
(الرجل المثقف -العلماني- في مجتمعنا يدعو إلى المساواة ويطالب المرأة بأن تكون ندا للرجل ولكنه نادرا ما يتزوج هذه المرأة المتساوية معه أو الند له، إنه يقبلها صديقة ورفيقة وزميلة لكنه يخافها ويبتعد عنها كزوجة.. إنه يريدها غرّة، ولذلك تراه يركض وراء المراهقات).
إن الليبرالي الغربي المؤمن بكرامة أمته- قدم نفسه وحياته قبل كلماته في الصحف المستأجرة، مات هو يخدم قضيته، ضحى من أجلها، مات وهو صارخ بها، لأنه يعتقد أن الكرامة ملك للإنسان في بلاده يجب الحصول عليها، وهي حريته وليبراليته، ولذا وقف ضد الدكتاتور، ومات تحت جنازير دباباته، وقتل برصاصه، لكنه عاد وفي كل مرة حتى بناء حلمه على أرض الحقيقة.
في أمريكا حينما ضربت في صباح عجيب، في ضحى 11 سبتمبر، توحدت العقول والقلوب، وتوحد اليمين مع اليسار، وتوحدت الديمقراطية مع الجمهورية، وتوحد الشمال مع الجنوب، وتوحد العلماني والليبرالي مع الزعيم الراديكالي الأصولي الإنجليكاني!
لقد تناسوا كل خلافاتهم وتوحدوا في وجه العدو الخارجي، لقد قرر زعيمهم "بوش" الإنجليكاني الجديد أن يتحفظ على بعض حقوق الليبرالية في وقت الأزمة، فأقروا له وأخبتوا، طاعة وحباً كرامة، لقد صارت أمريكا يا سادة- كقطعة معدنٍ صلبة في زمن الضربة.
لكن ويا أسفي على لكن- تجد العكس عندنا، دهمنا العدو بخيله ورجله، بصحفه وقنواته، سدد سهامه للنيل من بلادنا وشعبنا وقيادتنا وتقسيم وطننا، طعن في عقيدتنا، وتهجم على عقولنا، وسخر من كرامتنا، وداس على عزتنا.. فماذا فعلنا؟(31/25)
شُتت الجهود، وتفرقنا، وتمزقنا، وصار العلماني يرحب بالفاتح الجديد ويرحب به، ويهدد من خلاله قائلاً: [غيروا بأنفسكم أحسن من يجيكم من يغيركم بالعصى]!
لقد ابتزوا في الفتنة، وشطروا البلاد، وجعلوا منبر الكلمة منبراً للطعن في ضمير الأمة، وتشتيت كلمتها، وطعن في علمائها، لقد ابتغوا الفتنة وقلبوا الأمور، واستأجروا كل مريض وصاحب سوابق، لقد مزقوا عقل الوطن وضميره وانتماءه.
ثم خرجت خارجة من شباب الوطن تضرب بره وفاجره، ولا تتحاشى مؤمنه، كفرت بطاعة الإمام، وقتل أهل الإسلام والأوثان، فبكى الوطن، واشتكى الدين إلى الله، وسكبت العبرات على عقول تاهت ووجوهٍ شاهت.
قفز الليبرالي في منبر الكلمة وفرح بهذا الخنجر الذي طعن خاصرة الوطن والإيمان، فاستثمره لصالحه، وظفه لخدمت أجندته الخاصة، فمال على كل ما هو إسلامي فعاث به ضرباً باليمين وضرباً بالشمال.. وإلى الله المشتكى.
فبدل أن تتوحد الجهود وتتراص الأقدام، وتجتمع القلوب في أزمنة الفتنة، صارت فتنة فوق فتنة!!
فكان العلماني العربي مفلساً ليس عنده أدنى ذرة لأن يضحي لأجل مبدأ، أو دين، أو وطن، بل عنده كل الاستعداد لأن يضع نفسه ويده مع أعداء أمته ودينه ووطنه، عنده استعداد للدفاع عن إسرائيل، وتبرير جرائم الأمريكان في كل مكان، وتحويل فضيحة سجن أبوغريب إلى حديثة الزهور، مع أن الليبرالي الأمريكي لا يزال صارخاً يدين جرائم بلاده!
مفارقة غريبة.. قد يفسرها فهم كثير من العلمانيين أن الحرية هي الجنس، أو المزيد من الجنس، والفوضوية، وعدم المسؤولية، والعبث بأي شيء.
لهذا السبب كره الناس هؤلاء، ورفضوهم.. وهكذ1 فشلوا، وسوف يفشلون دائماً.
لقد أعجبني ما قاله الدكتور (برهان غليون) أستاذ كبير في جامعة السوربون، علماني يساري التوجه، ولكنه منصف وباحث جاد وحيادي:
(ليس صحيحا أن الذي يعيق الأنظمة العربية مثلا عن تحقيق الديمقراطية هو خوفها من الإسلاميين، بل هي لم ترفع شعار الديمقراطية إلا لمواجهتهم وبسببهم، إن تفجر الأزمة - كما هي اليوم - لتبدو وكأنها مواجهة أهلية شاملة، لم تحصل إلا بسبب طفوح الكيل من الغش والخداع والكذب والتلاعب بعقول الشعب، واحتقار ذكائه ومخيلته، إن ما نسميه بالمجتمع " المدني " ومنظماته هو اليوم نهب لأجهزة المخابرات وضحية لها.
إن الحركات الإسلامية لم تتوسع إلا لأن السلطات القائمة رفضت أي تشغيل للقنوات السياسية الطبيعية، وحاولت منع المجتمع من التنفس والحياة، وهذه الحركات تشكل آخر تعبير سياسي عن روح الثورة والتمرد الكامنة في شعب اغتصب حقه في المشاركة والحياة منذ عقود).
ثم يعتب الدكتور غليون على النخب العلمانية في معاونتها للطغاة في القضاء على المتدينين، بحجة العمل للديمقراطية وتنظيف الساحة منهم، وأن الحكام في الجزائر قتلوا مالا يقل عن (30) ألف إسلامي بحجة تنظيف الساحة منهم!!!
يقول الدكتور غليون بالحرف الواحد:
(من هم الإسلاميون، غير إخواننا وأبنائنا وبناتنا؟ أليسوا هم أنفسهم القوى التي نحتاج إليها لمواجهة التحديات الكبرى المادية والمعنوية، الخارجية والداخلية التي تعمل لتدميرنا؟؟ ).
وأخيراً... هل يفهم العلماني العربي ما يقوله "صاموئيل هنتنغتون" الخبير في وزارة الخارجية الأمريكية:
(إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست الإسلاميين المتطرفين، وإنما الإسلام ككل، فالإسلام بكل طوائفه وفي مختلف دوله عبارة عن حضارة كاملة تشتمل الدين والدنيا، وكل مظاهر الحياة اليومية، ولذا قلت إن الإسلام ونظام الدول الغربية لن يلتقيا، إن المسلمين يعلنون في وجه كل غربي إن دينهم هو الأحسن وأن عاداتهم وتقاليدهم هي الأفضل، كلهم يقول ذلك المتطرف والمعتدل).
http://saaid.net المصدر:
=============(31/26)
(31/27)
مصرع خرافة ( الليبرالية ) اللادينية
حامد بن عبد الله العلي
* لم يصدُق كاتب من غير المسلمين في كشف حقيقة المذهب (اللبرالي) كما صدَق الكتاب الأمريكي ( r ASSEL JACOBY) إذ وصفه قائلا: (إنه ليس فقط مفتقدا تراثا كلاسيكيا واضحا، بل مختلطا أيضا بالغموض والفضيحة، ثم نقل كلمة في غاية الدقة، عبر بها أحد كبار مؤرخي فرنسا عن هذا المذهب: (لقد كنا غير محظوظين، بشكل استثنائي، في اختيار هذا الشعار، ومن الصعب أن تجد شعارا آخر أكثر ابتذالا وأقل لياقة منه بالتأكيد، ليس ثمة شعار يمكن أن يكون نابيا وبلا دلالة مثله،..شعار ذو أصل حديث مبتذل، لا علاقة له بأصل كلاسيكي.. شعار بلا مستدعيات أدبية أو تاريخية.. شعار مجرد تماما من أي صدى ديني أو أخلاقي.. شعار يمكن أن يعني التفكك وفق أهواء كل فرد.. وكل مواطن يحمل في قلبه مصالح وطنه، لابد أن يأسف لسوء اختيار هذا الشعار الذي لا يلائم جمهورية عظيمة على الإطلاق).
THE END OF UTOPIA NEW YO r K 1999 P45
* أتدرون لماذا يختلط هذا المذهب بالغموض والفضيحة، وأنه مقطوع الأصل، مجرد تماما من المستدعيات الأدبية والتاريخية، ليس له أي صدى ديني أو أخلاقي، لأنه ـ وفي خدعة ماكرة ـ عندما يوهم الناس أنه يحررهم، إنما ينقلهم فحسب من عبودية تقود إلى السعادة، إلى عبودية تقود إلى الشقاء، لأنه ببساطة لا يمكن أن يكون الإنسان غير عبد لأحد، إما أن يعترف بعبوديته لخالقه، وإلا صار عبدا لمخلوق مثله، أو لشهواته وهواه، واللبراليّة لا تصنع شيئا سوى نقله من حالة يرى الإنسان فيها نفسه مسؤولا أمام خالق سيلقاه فيحاسبه على قدر تمسكه بالشريعة التي أنزلها عليه ليستقيم.
*إلى حالة يرى الإنسان نفسه عبدا لهواه وشهوته، أو لمخلوق جاهل مثله، وهم مخترعو اللبرالية، فكأن هذا المذهب يقول للناس: كونوا عبيدا لأهوائكم، فإنه لا خالق لكم، أو إن خالقكم خلقكم عبثا لا ليأمركم وينهاكم، فكلّ يرى ما يرى، ويقول ما يقول، ويعتقد ما يعتقد، ويحل ما يحل، ويحرم ما يحرم، عيشوا أيها الناس في هرج ومرج، ازنوا، واسكروا، وامشوا عراة، وارقصوا.. إلخ، ولهذا قال - تعالى -(بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) فالحق هو العبودية للخالق، والأمر المريج هو (البرالية) بعينها.
*وغموضها يأتي من جهة اختلاف منظريها فيما بينهم، واضطرابهم غاية الاضطراب، وكل المؤمنين بها، مقلدون لثلاثة من فلاسفة أوربا في قرون التخلف، (هوبز)، (وهيجل)، (ولوك)، كلهم منقادون إلى هؤلاء الثلاثة.
منقادون لهم: كبهيمة عجماء قاد زمامها ** أعمى على عوج الطريق الجائر
* ثم إنك إذا قرأت كلامهم، وجدته متضاربا، متناقضا، غامضا، تدخل حائرا، وتخرج حائرا، ما الذي يريده هؤلاء؟... وإن كنت قد قرأت القرآن، فستجد شفتاك تنطق بهذه الكلمات.. حقا إنهم: (كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران) أو تتذكر وصف الإمام احمد بن حنبل - رحمه الله - لأهل الكلام في عصره (مخالفون للحق، مختلفون على الحق، متفقون على مخالفة الحق).
* وهو مذهب اخترعه ملاحدة أوربا، في عصر انتشار اللادينية، بعد الثورة على الكنسية النصرانية المشركة، ويزعم مخترعوه أن قطب رحاه هو الحرية، إياها يعبدون، ولها يركع ويسجدون، وعجبا لأمر هذه الحريّة الزائفة، التي يطالب بها من يطلقون على أنفسهم (الليبراليّون) في كل مكان من العالم.
* عجبا لها، مالها مبذولة لكلّ أحد، وفي كلّ وقت، وفي كلّ شيء، إلاّ في حال واحدة فحسب، إذا كانت في صالح المسلمين، وأدت إلى إظهار الدعوة الإسلامية، فهي حينئذ ممقوتة، مسخوط عليها، محاربة.
*وقد أسفرت عن سوءتها هذه، من أول يوم حطّت فيه قدمها ـ لا مرحبا بها ـ بلاد المسلمين، حين فرض (أتارتورك) وهو أوّل من سنّ سنّة فصل الدين عن الحياة والدولة في أهل الإسلام ــ ومن سن سنة سيّئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ــ حين فرض بدعة العلمانيّة على قومه.
*فقد أخذ من العلمانيّة اللادينيّة الغربيّة كلّ شيء في بادئ الأمر، وأطلق الحرية في كلّ شيء، إلاّ حريّة المسلمين في اختيار دينهم، لأنه علم أن ذلك الأمر، سيقلب عليه مخططه الخبيث رأسا على عقب، ذلك أن لو ترك الترك آنذاك وحريتهم، لاختاروا دينهم.
*وتأمل هذا التناقض المضحك المبكي: فقد بلغ به الأمر أن فرض معاقبة من يحول بين النساء وبين حريتهن في التعري، لكنه لم يسمح بالحرية في أبسط الأمور المتعلقة بحياة الإنسان، وهو ما يضع على رأسه من اللباس.
*ففرض على جميع الترك، استبدال القبعة الأوربية بالطربوش، مع أن القبعة تكون على رأس الأبله، والمجنون، والمتحضر، والهمجي، ولا شأن لها بتكميل عقل، ولا تحضير همجي، وليس لها هذا الأثر الخطير على النهضة.(31/28)
*غير أنه لم يكن يريد القبعة لذاتها، بل كان يريد تربية الرأس المسلم على أن الغرب قبلتك، فول وجهك شطرهم، وخذ حسناتهم وسيئاتهم، وما يحل وما يحرم، حتى لو كانوا عُورا، فاستطعت أن تكون مثلهم فافعل، لقد أراد أن يسب العرب ودينهم، وضاقت به الأساليب التي تظهر هذه العزيمة بوضوح، فلم يف بذلك إلا هذا الأسلوب.
* واليوم في تركيا يعود هذا الدور في مصادرة حرية الشعب التركي، الذي يتجه لدينه، ويتمثل ذلك في إغلاق مدارس الشريعة، وفصل الضباط المنتمين إلى أي شعار من الدين حتى الصلاة، فصلهم من الجيش، ومطاردة من ينشد حريته في عبادة ربه فحسب، وكذلك يفعل دجالجة الليبرالية دعاة الحرية الزائفة في كل مكان.
*وفي المضمار نفسه، يجري كل من يدين بدين (الليبرالية)، أي الحرية فيما زعموا كذبا وزورا، فهم يريدونها إذا كانت تنقل حياة الغرب بعجرها وبجرها إلينا، ولا يريدونها إذا كانت تؤدي إلى تأدب المجتمع بآداب الإسلام وأخلاقه.
*أنهم يريدونها إن كانت تنشر الرذيلة، والعري، والعهر، والكفر، ويرفضونها، إن كانت تلبس المجتمع لباس التقوى، والفضيلة، والحشمة، والعفة.
*وهم يبتغونها إن كانت تمجد الإلحاد، وتقدس مدارسه، وتعلي رموزه، ويشمئزون منها إن كانت تعظم الإيمان، وتكرس مناهجه.
*وهم يهتفون لها إن قالت لمن يشوه الإسلام، ويشكك في ثوابته، وينكر محكماته، ويستهزأ بشرائعه: إنه مفكر حر، ومثقف مستنير، ومتحرر من رق الرجعية، وداع إلى التخلص من الظلامية.
*ويعرضون عنها، إن كانت تأسس نهضة الأمّة على قرآنها، وسنّة نبيّها، وتاريخها المجيد.
*أما إن كان مفكروا الأمة يستلهمون نهضتها من دينها، فهم ليسوا أحرارا، إنهم متطرّفون، إرهابيّون، أصوليّون، ظلاميّون، رجعيّون، يتستّرون بالدين لمقاصد سياسيّة.
* فشعار مدعي الحريّة الذين يطلقون على أنفسهم (ليبراليون) هو: الحرية للجميع إلا لدعاة الإسلام، وحقوق المسلمين، إنها حلال لهم حرام على غيرهم.
*وهل يحق لنا أن نعجب من تناقض هذه العقيدة، إن رأينا داعية الحرية في العالم، وحاملة لوائها أمريكا، نصيرة الشعوب المظلومة!! وأسوة(الليبراليين) العظمى!! تلعب هذا الدور بصورة سافرة كاشفة سوءتها لا تحتشم من حياء، ولا تستتر من عفة.
*فهي في حين تتباهى بأنها حامية حمى الحرية في العالم، تعيث في العالم فسادا وإفسادا، وتعبث بكل ما تدعيه من قيم زائفة كبرا وعنادا، وتفتح أبواب الدمار على الشعوب، فتحشر عليهم ما لا يحصى جنودا وعتادا، وتهلك الأبرياء بغير حساب، وتستعبد بني آدم، وتسوقهم قسرا إلى الخضوع لها، وتفرض مبادئها العلمانية خيارا واحدا على العالمين، قائلة: هذا أو الحصار والدمار.
*فإذاً ليس الغرض الذي يجدّ وراءه الليبراليون، دعاة هذه الحرية الكاذبة الزائفة، إخراج الناس من ذل العبوديّة إلى آفاق الحريّة، كلّا بل تقويض هذا الدين، وتفكيك مفاهيمه الأساسيّة في الفكر والمجتمع، ومصادرة حقّ المسلمين في ظهور دينهم، واسترداد حقوقهم.
*يريدون ليصرفوا عقولنا، ويغيروا عقائدنا، ويفسدوا آدابنا، ويدخلونا في مساخط الله، ويهجموا بنا على محارمه، ويركبونا معاصيه، ثم يتصرفون بعدُ في هذه الأمة كما يشاءون.
*وهم في أنفسهم ـ أعني دعاة الليبراليّة ـ حيارى لا يعلمون ماذا يريدون، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون، فهم في أمر مريج، ومبادئهم مضطربة غاية الاضطراب، ينظرون إلى الهدى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بريب وشك، وقد أطلقوا عليه التراث ثم انقسموا فيما بينهم عزين، فكروا وقدروا، فقتلوا كيف قدروا، ثم قتلوا كيف قدروا، ثم عبسوا وبسروا، وتحيروا:
*بين أحياء التراث ورفضه، وبين الانتقائية والتوفيقية إزاءه، وما هو التراث؟ وهل هو الدين فحسب، وهل هو صيغة واحدة أم لكل فرقة في التراث تصوراتها الخاصة حول الدين، هل يحمل التراث دعوة دينية منعزلة، أم أيدلوجية شاملة انبثقت منها أيدلوجيات شتى، هل سخر ويسخر التراث لخدمة النزعات الشخصية الزعامية الملكية، أو الحزبية السياسية، ما مدى خصوصيته أو تأثره بما قبله، هل هو خير كله أم شر كله وما معايير التمييز بينهما أن كان جامعا لما، ما علاقته باستقلالية الفكر وحيادية العلم، وما مدى إمكانية استلهامه لإنجاز مشروع نهضوي كبير، وما هو المنهج الذي يصاغ لمعالجة التراث وهل يعالج معالجة بنيوية أم تاريخية أم أيدلوجية، هل نقرأ نصوصه قراءة مثالية من منطلق لاهوتي في إطار ثيولوجي غيبي، أم قراءة تاريخية اجتماعية برؤية مادية ومنهج جدلي ماركسي، هل العقيدة في التراث حلم طوبوي خرافي خيالي، أم حقيقة؟ هل يمكن صياغة برنامج إصلاح من التراث وكيف يكون، ما هو النسبي والمطلق في التراث، إشكالية الأصالة والمعاصرة فيه، المعقول واللامعقول فيه.
*هل منحى أدونيس في رفض التراث رفضا باتا هو الحق، أم منحى السلفية في إحياءه، أم توفيق فريق حسن حنفي، أم انتقائية زكي نجيب محمود، أين الطريق وأين الهدى؟؟
* تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ولا يزال بنيانهم الذين بنوا ريبة في قلوبهم، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون.(31/29)
* ولا يزال جمعهم عاجزا عن وضع تصورات محددة المعالم لهذه التساؤلات، ومتحيرا أو متناقضا في موقفه من التراث، وهو الهدى الذي خص الله به هذه الأمة.
*وأنّى لهم أن لا يكونوا عاجزين، وهم بين من لا يدري ماذا يريد؟ ومن يخفي حقيقة ما يريد، ومن يعلم شيئا واحدا فحسب هو مالا يريد؟ غير أنهم مجمعون على أن مالا يريدونه هو مشروع التيار الإسلامي المتكامل وما يتفرع عنه من مشاريع جزئية توصل إليه، مشروع (وأن أقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله، ذلك الديّن القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
* وقد ورث الذين اتَّبعوا، حيرة الذين اتُّبعوا، وتقطعت بهم السُبُل، كما تقطعت بالذين من قبلهم، من الأساتذة الكبار الذين كانوا أشد حيرة، و أضل سبيلا، وأعظم تناقضا فيما بينهم، فأدونيس السافر، ثم فؤاد زكريا، وفرج فودة، ونور فرحات، ثم من هو أقرب إلى نور الإسلام ـ وهو منه بعيد ـ من أمثال زكي نجيب، ومحمد عابد، و حسن حنفي، جميعهم حيارى يتنقلون من تيه إلى تيه، ولا يهتدون إلى السبيل، وإن قرأت ما يكتبون، تذكرت قوله - تعالى -(كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا، قل أن هدى الله هو الهدى، وأمرنا لنسلم لرب العالمين).
*وأخطر الأخطار، أنهم في كل حين يؤكّدون، بكيدهم الحثيث لإفساد هذا الدين، ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، أنهم صنيعة غربية، دسُّوا ليؤدُّوا دورا مرسوما لهم، ألا ترون أنهم لا يصنعون شيئا سوى إعاقة استلهام الأمة لنهضتها من دينها، ومحاربة الداعين إلى هذا الاستلهام.
*فلعل هذا وحده هو الذي يفسِّر اضطراب أفكارهم، وعدم استقرارهم على شيء، لأنهم لا يريدون شيئا أصلا سوى أن يلغوا في هذا القرآن، كما قال الحق (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون).
* فهذه الحيّات الصغار، وأمهم حيّة الليبرالية الكبيرة التي تريد أن تطوق العالم، وتنفث فيه سمومها، لهم هدف واحد (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)
http://www.h-alali.net المصدر:
============(31/30)
(31/31)
نظرة في : " .. الليبرالية .. " من الداخل
مقدمة:
لم يكن هذا البحث إلا أثرا عن قناعة بخطر الفكرة "الليبرالية" على مجتمعنا الشرقي، بعد أن تفاقمت سلبياتها على المجتمعات الغربية، وهبت رياحها علينا - منذ أمد ليس بالقصير - فأصابنا منها ما أصابنا، لكن لم يكن بالقدر الذي أصابهم، ربما لاختلاف النفسية الشرقية عن أختها الغربية.
ومن العجيب أن نرى دعاة لهذه الفكرة بيننا، يفتخرون بها، ويتسمون بها، ويجاهرون بتقدمها، وصلاحها لعلاج كافة السلبيات المتراكبة المتراكمة في النواحي: الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية..
وينادون أن الحل في "الليبرالية، دون متابعة لما يجري في الغرب، مصدر الليبرالية، من معارضة وانتقاد لهذا النهج، بعد ظهور سلبياته المدمرة، المغلفة بالشعارات الجميلة والمكاسب الظاهرة.
ويدور في الذهن سؤال:
- هل أولئك الذين ينادون بالليبرالية، ممن يعيش في بلاد إسلامية، يدركون مفهوم "الليبرالية"، كما قرر له ووضع، أم أن لهم مفهوما يختلف عن ذلك؟..
إن مفهوم الليبرالية، كما وضع له في الغرب، يصطدم بالدين الإسلامي، بل كافة الشرائع، في أصول لايستهان بها، كاستبدال الحكم الإلهي بالحكم البشري، فيما يسمى بالديمقراطية، وكذا الحرية المطلقة في الاعتقادات، بالتغيير والتبديل، وغير ذلك..
فكيف يستقيم لمن يفهم هذه الحقائق عن "الليبرالية" أن يدعو لها، ويزعم صلاحها، وهي معارضة تماما للإسلام.. إذا كان مسلما؟!!.
أما إن كان له مفهوم خاص عن "الليبرالية"، لا يتعارض مع الأصول الشرعية، فالحق أن هذا ليس هو"الليبرالية"، بل هو شيء آخر، ومثل على ذلك:
في المغرب أسس: "الحزب المغربي الليبرالي"، وفي إطار التحضير لتأسيس الحزب، وبدعوة من جريدة "الصدى"، ألقى المؤسس محمد زيان يوم الأحد 21/1/2001 عرضا حول أسس الحزب، ومنها:
- "منع المنع" الذي يعني الحرية الكاملة، في العمل والمبادرة، والتي لا تقف إلا عند حدود القانون.
- منع الامتيازات التي تتنافى مع مبدأ مساواة المواطنين، وتكافؤ الفرص أمام الجميع.
بعد ذلك أضاف شرطا فحواه:
- إذا ثبت بآية صريحة أو حديث صحيح أن هناك تعارضا بين هذه الليبرالية ومباديء العقيدة، عطلنا العمل بهذه الليبرالية، وضحينا بها، من أجل ما تفرضه مبادئ الإسلام.
كان هذا الشرط فاسخا، حسب وصف: محمد بودهان، الذي قال:
" وبقراءة فاحصة ومحللة لكلام الأستاذ زيان، سنستنتج بسهولة أن كلامه عن الليبرالية والحزب الليبرالي مملوء بمفارقات لاتطاق، مفارقات قاتلة، تثبت ما يريد نفيه، وتنفي ما يسعى إلى إثباته، لنشرح ذلك:
لقد أكد أن الليبرالية تقوم على مبدأ منع المنع، أي على الحرية التي ينظمها القانون، وليس الأهواء والأمزجة الشخصية للحاكمين ورجال السلطة، لكن الأستاذ زيان يخرق هو نفسه هذا المبدأ في الفلسفة الليبرالية، عندما يشترط في هذه الأخيرة، أن لا تكون في تعارض مع العقيدة الإسلامية، أي يمنع عن الليبرالية أن تكون غير إسلامية، في حين أن من مبادئ الليبرالية:
أنها لاتمنع أي دين، ولاتدعو إلى أية عقيدة..
إذ عقيدتها الوحيدة هو الحياد تجاه كل العقائد، أي العلمانية، التي هي النتيجة المنطقية والعملية لمبدأ: منع المنع.
ويكفي للتدليل على ذلك أن نشير إلى أنه لاتوجد في العالم أية دولة ليبرالية وديموقراطية حقيقية دون أن تكون علمانية، فالمبدأ الفلسفي العام الذي يحكم الليبرالية إذن هو العلمانية، فلا يمكن تصور فلسفة علمانية يكون من مبادئها الولاء لهذا الدين أو ذاك، أو الدفاع عن هذه العقيدة أو تلك".
وهكذا فإن "الليبرالية" ذات أسس وقواعد وأفكار محددة سلفا، فأي خرق لتلك الأمور نفي وإلغاء لما يقوم عليها، وهذا أمر ينبغي على كل من يدعو إلى فكرة ما مثل "الليبرالية، أن يفهمها بوضوح، كيلا يقع في مغالطة صريحة، فيلبس فكرة غير لباسها الملائم، ليعري في الحين ذاته عقيدة ومبدأ من لباسه.
والفكرة في أول نظرة إليها، يتكون لها في الذهن تعريف مجمل غير دقيق، قد يصيب بعض حقيقتها، لكن بالتأكيد لن يكون ضابطا محددا جامعا دقيقا، إلا بالبحث والنظر والاستقصاء..
ونحن ندعو كل من أعجبته فكرة ما، أو أراد، أو اعتنق فكر ما، أن يبادر قبل ذلك إلى دراستها حتى يكون على بينة من أمرها، كيلا يأسف يوما على ضياع وقت أو هدف، لأجل خطأ في الاختيار..
ومساهمة في حل هذه المشكلة: [مشكلة الاختيار الصحيح، والتعرف الدقيق على فكرة ما.. ]
نقدم هذا البحث الموجز حول "الليبرالية، وفقراته العامة ما يلي:
- ظروف تكوّن الليبرالية.
- حقيقة الليبرالية.
- الليبرالية من الداخل.
وتحت كل فقرة من هذا الفقرات نقاط، تكشف عما فيها، مما يبينها ويوضحها.. والله المعين.
- ((.. ظروف تكوّن "الليبرالية":.. ))
الليبرالية فكرة إنسانية أوربية الولادة والمنشأ..
ونعني بـ"الإنسانية" أن الإنسان محورها، فمن أجله صدرت الفكرة وقررت وأسست وقعدت، أي لأجل منافعه وكرامته، ورفع معاناته من ذوي السلطة الدينية والدنيوية.(31/32)
"رسالة الليبرالية: حماية الفرد والدفاع عن سيادته وصيانة كرامته، فإذا ضاعت حقوق الفرد، ضاعت الليبرالية".
ونشأتها في أوربا خاصة دون غيرها يفرض دراسة الظروف التي عنها ظهرت وتكونت الفكرة، ولعل في بيان كونها إنسانية المذهب إشارة إلى واقع تلك الظروف..
إن مضمون الفكرة التمرد والرفض لكل أشكال السلطة الخارجية المانعة، من تحقيق الاستقلال الذاتي الفردي، وفي المفهوم الفيزيائي أن: [لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في المقدار، مضاد له في الاتجاه].
لكن والتجارب تشير إلى ذلك - ربما يكون رد الفعل أكبر في المقدار من الفعل الأصل، ذلك أن الفعل إذا كان ضد الفطرة والعقل، فإن الفعل المضاد يكون عنيفا مدمرا، خاصة إذا جاء بعد تراكم طويل للأفعال المضادة للفطرة والعقل، وهو أشبه بالسيل المندفع بقوة، إذا اجتمع وراء سد ضعيف.
وهكذا نشأت الليبرالية في أوربا.. رد فعل عنيف مدمر على انتهاك بيّن لقيمة الإنسان باسم الدين والإقطاع والملكية، هذا الثالوث الذي حطم كرامة الإنسان الغربي، فلم يبق فيه مساحة لأدنى حرية.
نتبين ذلك من خلال هذه اللمحة الموجزة عن تاريخ أوربا حتى ظهور وتكوّن "الليبرالية":
- أوربا تعتنق النصرانية:
اعتنقت أوربا النصرانية (عام 325م) بعد مجمع نيقية، بأمر من الإمبراطور قسطنطين، ولم تعتنق دين المسيح عيسى - عليه السلام -، بل دين اليهودي بولص (شاؤول)، الذي دخل في النصرانية بعد وفاة المسيح، فأدخل فيها الوثنية، وكانت أوربا قبل ذلك تحت الحضارة الرومانية الجاهلية، فلم تنتفع من الدين الجديد بشيء، بل انتقلت من وثنية إلى وثنية، لكن الوثنية الجديدة كانت كارثة كبرى على أوربا، حيث حطمت حضارتها، وابتدأت بها عصورها الوسطي المظلمة، التي امتدت من عام 410م (تاريخ سقوط روما بأيدي البرابرة) إلى عام 1210م (تاريخ ظهور أول ترجمة لكتب أرسطو في أوربا)..
ثمانية قرون من التيه، اصطلح المؤرخون الغربيون على تسميتها بالعصور المظلمة، حيث الانحطاط الكامل في كافة الفنون والعلوم، وكل ذلك تزامن مع انتشار النصرانية في أوربا، وانتقال العاصمة من روما إلى القسطنطينية بعد الاجتياح البربري..
فهما حدثان:
- اعتناق أوربا للنصرانية.
- الاجتياح البربري لروما وانتقال العاصمة إلى القسطنطينية، وما تلاه من انهيار الحضارة.
ربط بينهما بعض المؤخرين، مثل إدوراد جيبون أكبر مؤرخي تلك الفترة، وحكم بأن سبب انهيار الإمبراطورية الغربية: تحولها من الوثنية إلى النصرانية..
ومن هنا ارتبطت الوثنية بالحضارة والقوة، والدين بالهزيمة والانحطاط في الذهنية الأوربية، منذ فترة مبكرة، وهو ما كان له آثار بعيدة المدى في علاقة أوربا بالدين.
فالربط بين انهيار الحضارة الرومانية بتحول أوربا إلى النصرانية، والممارسة الكنسية الدكتاتورية، حمل الأوربي على التشاؤم والنفور من الدين جملة، وكان له الحق في ذلك..
وقد كان من الممكن أن يكون الإسلام هو الدين البديل الصحيح، المصحح للذهنية الأوربية كثيرا من الأفكار السلبية التي علقت بها تجاه الدين، لولا أن الباباوات أججوا العنصرية والكراهية تجاه الإسلام بوصفه بأبشع النعوت، وحملوا الشعوب على الخروج لقتال المسلمين فيما عرف بالحملات الصليبية، وهي وإن كانت لها الأثر الكبير في ترسيخ النفور من الإسلام، إلا أنها كذلك كانت نقطة تحول كبير في التاريخ الأوربي..
لقد كانت الحروب الصليبية بالنسبة لأوربا كشف غطاء عن ناحية مستورة لم تدرك يوما وجودها، من القيم والكرامة والحضارة، ففتحت عينيها بعد طول غمض على واقع جميل، لم تحلم به يوما، وهي تعيش تحت سلطة: البابوات، والإقطاعيين، والملوك.
عندما يعيش الإنسان حياة لايرى فيها إلا وجها واحدا، سيظل لايرى إلا ذلك الوجه، وهو يظن أنه الأمثل، ولن يتطلع ولن يبحث في الآفاق وفي الأنفس، جهلا بما وراء ذلك، بما ضرب عليه من الحدود والأسوار..
لكن الاحتكاك سنة البشر، وبه تشرق الأوجه الأخرى، وفي حال أوربا فإن احتكاكها بالمسلمين بدأ بالحروب التي ابتدأتها، وبها اطلعت على أوجه جديد للحياة الإنسانية المشرقة، لم تعهدها من قبل، وأحست بالظلم والاستخفاف الذي أركست فيه، وكان محور القضية "الإنسان" من حيث كرامته وحريته، التي تحفظ عقله، ونفسه، وماله، وعرضه، والحرية نزعة إنسانية مترسخة، لايتردد الإنسان في بذل كل شيء لأجلها، والذي يغري بها، ويحرك النفس إليها، سماع أخبارها، لكن من يعاينها ويعايشها يكون أشد تحركا لتحصيلها، وهذا بالضبط ما كان من شعوب الغرب بعد احتكاكها بالشعوب الإسلامية..
- لقد رأت أوربا عظم مدن الإسلام، فأصغر مدينة كانت تبلغ عشرة أضعاف العاصمة روما.
- وأوربا التي لم تعرف قرونا كتابا إلا الإنجيل، ولا قارئا إلا القسيس، تذهل للمكتبات الهائلة في مدن الإسلام، وهي تحوي كل الفنون، من الفلك إلى الأدب.
- وفي الوقت الذي كان فيه الأوربي لا يستطيع القيام بصلاته إلا من خلال القسيس، يرى المسلم يعبد ربه بلا واسطة، في بيوت كثيرة.
- والشعب الأوربي الذي جله يعيش العبودية، يجد المسلمين أحرارا، يفعلون ما شاءوا.(31/33)
- وبينما كانت الكنيسة تحرق وتعذب العلماء، كان لعلماء المسلمين المنزلة والقدر الكبير.
- وقد رأوا كيف يتعامل المسلمون بالعهود والمواثيق في السلم والحرب، عكس ما كانوا عليه.
- وفي الوقت الذي كان الأوربي يعتقد أن القيصر من نسل الآلهة، وأن الله أعطاه حقا مطلقا في الحكم، يرى المسلمين وسلاطينهم تارة من العرب، وتارة من الترك، وهم بشر كسائر البشر.
- وبينما كان الغرب منغلقين، لا يعرفون إلا أوربا، كان المسلمون يجوبون الأرض شرقا وغربا، حتى إنهم اكتشفوا أجزاء من شمال أوربا قبل أن تعرفها أوربا، هذا عدى العالم الشرقي برا وبحرا.
- أوربا التي كانت تتداوى بمركبات من الروث والبول وأشلاء الحشرات الميتة، تفاجأ بالعالم الإسلامي زاخرا بالمستشفيات والمعامل القائمة على المنهج التجريبي، والموسوعات الطبية.
لقد كان الاحتكاك نقطة التصحيح والانطلاق من الأغلال، لكن هذا التحرر لم يحدث بين يوم وليلة، بل امتد قرونا، كان التحرر فيها يسير ببطء، لكن بإصرار، يظهر ذلك في محاولات العلماء كسر طوق الكنيسة حول المسائل العلمية، وتحملهم لأجل ذلك التعذيب والقتل والتحريق، وكذا الحركات الإصلاحية، مثل حركة مارتن لوثر وكالفن..
لقد بلغ إعجاب أوربا بالحضارة الإسلامية أن الإمبراطوا فرديدرك الثاني، وهو من أكبر أباطرة القرون الوسطى كان يتحدث العربية، وكان بلاطه عربي العلم واللسان، وحينما قابل الملك الكامل الأيوبي للصلح لم يحتج إلى مترجم، ولهذا اتهمته الكنيسة بالإسلام، وسمته الزنديق الأعظم.
وظهرت في أوربا حركة تحطيم الصور والتماثيل في أوائل القرن الثامن الميلادي (= القرن الأول/ الثاني الهجري) وممن أصدر مرسوما بذلك الإمبراطور"ليو الثالث"، إلى أن عادت إلى الوثنية والتصوير مرة أخرى بأمر الإمبراطورة "إيريني" بعد مجمع نيقية الثاني 787م.
وكان نقد الغرب لمنطق أرسطو واتخاذهم المنهج التجريبي بدلا من الفكري المجرد، تقليدا للمسلمين الذين رفضوا هذا العلم الإغريقي قبلهم بقرون..
ثم إن هذا التمرد الأوربي ما زال يكبر ويعظم، حتى كانت الثورة الفرنسية 1789م البداية الفعلية لجني الثمرة، وتحقيق الحرية حسب المفهوم والقواعد التي وضعت لها على يد المفكرين الغربيين.
"ورغم أن الليبرالية هي ظاهرة حديثة نسبيا، فإن بعض تباشيرها تظهر عند:
- ديمقراطي أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد.
- وعند الرواقيين.
- وفي المراحل الأولى من المسيحية.
- ثم في حركة الإصلاح البروتستانية:
- ففي خطبة بركليس (495-429ق. م) الشهيرة، التي أبّن فيها قتلى أثينا، الذين سقطوا في بداية الحرب ضد أسبرطه، صياغة بليغة لمبدأ مساواة جميع المواطنين أمام القانون، كما أن فيها تعبيرا واضحا عن أهمية الفرد ومسؤوليته السياسية.
- كذلك فإن بروثاغوراس (485-399 ق. م) جعل الفرد مقياس كل شيء، وشارك ديموقريطس (460-370 ق. م) قناعته بأن القوانين والمؤسسات هي من صنع الإنسان، وأن الإنسان بالتالي، مسئول عنها.
- ويبقى سقراط (470-399 ق. م) في حياته وتعاليمه نموذجا فذا للإيمان بقدرة العقل وأهميته، ولضرورة إخضاع معتقداتنا للنقد والتدقيق، في جو من الحرية والانفتاح..
- الظاهرة التي نحاول إبرازها والتي اتضحت معالمها في القرن الخامس قبل المسيح، هي خروج بعض المجتمعات اليونانية، خصوصا أثينا، من إطار المجتمعات القبلية المنغلقة، هذا الخروج الذي كاد أن يتخذ طابع الثورة، من خلال: التشديد على أهمية الفرد، والحريات العامة.
- أما الخطوة التالية على طريق الانعتاق من عقلية المجتمع القبلي المنغلق، فقد حققها الرواقييون من خلال قولهم بمبدأ: وحدة طبيعة الإنسان، ومشاركة جميع البشر فيها؛ وهذا الإنجاز مهم جدا، خصوصا أن اليونان ظلوا إقليمي النظرة، حتى في أوج حضارتهم، وفي ظل الحكم الديمقراطي، كما أن الرواقيين ركزوا على أهمية حيّز في الذات الإنسانية، لا تستطيع أن تنفذ إليه سلطة المجتمع أو أي شكل آخر من أشكال السلطة، ومتى اكتشف هذا الفرد هذا الحيز، أصبح بإمكانه أن يتمتع بقدر من السيادة والحرية، لا يتأثر بتقلبات الزمان أو بأهواء البشر.
- وقد ساعد على هذا المفهوم الرواقي للحرية، المرتكز على ذاتية الفرد وخصوصيته، على انتشار المسيحية، لاسيما أن المسيحية ركزت على مبدأ المسئولية الشخصية، وأبرزت دور الضمير في تقرير أخلاقية تصرف الفرد، أو عدم أخلاقيته.
- غير أن دور الفرد في القرون الوسطى أصبح ثانويا نتيجة السيطرة الكاملة التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية على المجتمعات الأوربية برمتها، ومن هنا أهمية الدور الذي أدته حركات الإصلاح البروتستانتية ابتداء من القرن السادس عشر، ذلك أن الفرد، لا الكنسية وسلطاتها الإكليركية، بات هو المرجع في تفسير الكتاب المقدس، ومن ثم في إقرار نمط الحياة، وقد كان لهذه العودة إلى التركيز على الفرد أثر هام في نشوء الليبرالية بمعناه الحديث".
حقيقة "الليبرالية".
الليبرالية (LIBE r ALISME)كلمة ليست عربية، وترجمتها الحرية، جاء في الموسوعة الميسرة:(31/34)
"الليبرالية: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي".
ولها تعريفات مرتكزها: الاستقلالية؛ ومعناها: التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي: دولة، جماعة، فردا؛ ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاقة والانفلات نحو الحريات بكل صورها:
مادية، سياسية، نفسية، ميتافيزيقية (عقدية).
جاء في موسوعة لالاند الفلسفية تحت مادة (LIBE r ALISME):
- "المعنى الفلسفي الحق للحرية هو: الانفلات المطلق، لا بغياب النزوع، بل بالترفع فوق كل نزوع وكل طبيعة. (ج. لاشلييه)".
- "بمعنى عام، يمكن تعريف الحرية بأنها الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناس هذا النوع هي:
الحرية المادية، الحرية المدنية أو السياسية، الحرية النفسية، الحرية الميتافيزيقية.. (هاليفي)".
- "احترام استقلال الآخر؛ تسامح؛ ثقة في الآثار الحميدة للحرية".
وقد عرفها جان جاك روسو، فقال:
- "الحرية الحقة (الحرية الخُلقية كما يسميها) هي أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا".
فهي بحسب هذا المفهوم - عملية انكفاء على الداخل(النفس)، وعملية انفتاح تجاه القوانين التي تشرعها النفس، فالانكفاء على الداخل تمرد وهروب من كل ما هو خارجي، والانفتاح طاعة القوانين التي تشرعها النفس من الداخل، ولذا وصفها روسو بقوله: "أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا"، اشترعناها نحن، لا غيرنا، ووصفها لاشلييه بقوله: (الانفلات المطلق).
ويمكن أن تمثل بالمعادلة التالية:
[انكفاء على النفس (استقلالية) + انفتاح على قوانين النفس (انفلات مطلق)= الليبرالية]
وكما هو ملاحظ، فالتعريف موضوعه الإنسان، دون غيره، من حيث التركيز على أهميته، بجعله محور الحياة، مما يوجب مراعاته إلى أقصى درجة، ورفع كل العوائق التي تقف أمام طموحاته، جاء في الموسوعة الفلسفية العربية تحت مادة (الليبرالية) ما يلي:
- "جوهر الليبرالية التركيز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل أنواع السيطرة والاستبداد".
- "الليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط الدولة(الاستبداد السياسي)، وتسلط الجماعة(الاستبداد الاجتماعي)".
ويمكن إدخال الإنسان (= الفرد)، الذي هو موضوع الفكرة، في المعادلة لتكون كما يلي:
[التركيز على أهمية الفرد + التحرر من كل سلطة خارجية = جوهر الليبرالية]
بيد أن طائفة من المفكرين الغربيين ترى أن حقيقة الليبرالية لابد من احتوائها مفهومين أساسين، لا تكتمل الفكرة الليبرالية إلا بهما:
الأول: المفهوم السلبي، وهو: غياب الإكراه (= الاستقلالية).
الثاني: المفهوم الإيجابي، وهو: إمكان قوة العمل العقلي (= التخلص من الشهوات).
فالحرية عند (م. برنيس) تتضمن أمرين:
1) معان سلبية أساساً: غياب الإكراه(غياب إكراه الفرد: أولاً: بتأثير مادي؛ ثانيا: بتأثير أخلاقي؛ ثالثا: خصوصا بتأثير زمرة اجتماعية متشكلة سياسيا)، في كل الحالات يبدو أن اللفظ المشترك الممكن تطبيقه هو لفظ: استقلال...
2) معان إيجابية: إمكان قوة العمل العقلي، وهي قوة ناجمة في آن عن مزاياه الصورية(النظام والوحدة) وعن شمولية موضوعه، لكنه يعني فقط، مع تساوي كل الشروط، أن العمل الذي يجري في اتجاه ثابت، ولاسيما في اتجاه ثوابت الواقع، إنما يكتسب بذلك فعالية أعظم".
وعرف هوبز الحرية بأنها:
"غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء، وهذا التعريف هو في الواقع أساس ما سماه الليبرالي المعاصر أيزبا برلين (المفهوم السلبي) للحرية..
ويصر دعاة هذا المفهوم على أن غياب العوائق الخارجية غير كاف لوجود الحرية، فإذا كنا عبيدا لشهواتنا فنحن لسنا أحرارا".
وتمثل الفكرة الليبرالية بحسب هذا المفهوم بالمعادلة التالية:
[الاستقلالية (= المفهوم السلبي) + إمكان قوة العمل العقلي (=المفهوم الإيجابي)= الليبرالية]
وبحسب هذه المفاهيم والمعادلات والنتائج يمكن أن نصل إلى تحديد أدق لحقيقة الليبرالية بأنها تعنى:
الاستقلالية التامة للفرد، بالانكفاء على النفس، والتحرر من سلطة الغير، ثم الانفتاح على قوانين النفس والانفلات معها عند بعضهم، دون بعضهم الذي يرى الحرية في التحرر من شهوات النفس.
وهكذا نخلص إلى أن الليبرالية لا تتحقق إلا من خلال طرفين:
- الفرد في ذاته، بتحقيقه التحرر الذاتي، بالانفلات والانطلاق مع قوانين النفس أو العقل.
- الآخر، الذي يملك السلطة(= الدولة، المجتمع)، بكفه عن التدخل وفرض السيطرة.
ولهذه الحرية مجالات، هي تلك التي يوجد الإنسان فيها، لتحقيق مصلحة أو تحقيق الذات، وهي:
الفكرية، والسياسية، والاقتصادية؛ وهي مجالات حيوية، لاغنى للإنسان عنها، ولكل واحدة منها مفهوم خاص في الليبرالية(=الحرية) وإن كان يشترك في المفهوم العام مع باقيها.
وقبل أن نشرع في بيان مجالات الليبرالية يحسن أن ننبه إلى أن الليبرالية كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع لم تتبلور على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها الأساسي.(31/35)
ففي الجانب السياسي يعتبر جون لوك (1632-1704م) أهم وأول الفلاسفة إسهاما، وفي الجانب الاقتصادي آدم سميث(1723-1790م)، وكذلك كان لكل من جان جاك روسو (1712-1778م) وجون ستيوارت مل (1806-1873م) إسهامات واضحة.
وقد تقدم أن الليبرالي مذهب قضيته الإنسان، وعلى ذلك فكل المذاهب التي اختصت بهذا القضية كان لها إسهاما واضحا في تقرير مبادئ الليبرالية:
- فالعلمانية تعني فصل الدين عن السياسة، كما تعني فصل الدين عن النشاط البشري بعامة، وعلى مثل هذا المبدأ يقوم المذهب الليبرالي في كافة المجالات: السياسية، والاقتصادية، والفكرية؛ بل لا تكون الدولة ليبرالية إلا حيث تكون العلمانية، و لا تكون علمانية إلا حيث تكون الليبرالية.
- والعقلانية تعني الاستغناء عن كل مصدر في الوصول إلى الحقيقة، إلا عن العقل الإنساني، وإخضاع كل شيء لحكم العقل، لإثباته أو نفيه، أو معرفة خصائصه ومنافعه، والعقل المحكم هنا عقل الإنسان، وهكذا الليبرالية تقوم على مبدأ: أن العقل الإنساني بلغ من النضج العقلي قدرا يؤهله أن يرعى مصالحه ونشاطاته الدنيوية، دون وصاية خارجية.
- والإنسانية تؤمن بالدفاع عن حرية الفرد، والثقة بطبيعة الإنسان وقابليته للكمال، وتقرر التمرد على سلطان الكنيسة، والليبرالية كذلك.
- والنفعية تجعل من نفع الفرد والمجتمع مقياسا للسلوك، وأن الخير الأسمى هو تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس، والليبرالية كذلك..
وهكذا فكل هذه المذاهب وغيرها كان لها نصيب في صياغة المذهب الليبرالي، وهذه نتيجة طبيعية لمشكلة كان يعانيها كل المفكرين على اختلاف توجهاتهم، هي: انتهاك حقوق الإنسان.
- الليبرالية الفكرية.
- "في الذات الإنسانية حيّز لا تستطيع أن تنفذ إليه سلطة المجتمع أو أي شكل من أشكال السلطة، ومتى اكتشف الفرد هذا الحيّز أصبح بإمكانه أن يتمتع بقدر من السيادة والحرية لايتأثر بتقلبات الزمان أو بأهواء البشر".
من هذه الفكرة، يضاف إليها رفض الاستخفاف بالإنسان وجبره على اعتناق ما لايريد، والقناعة بأن السبيل الصحيح لرقي المجتمع لايكون إلا برفض الوصاية على الفرد، نشأت الليبرالية الفكرية خاصة. جاء في موسوعة لالاند التعريف التالي لليبرالية:
- "مذهب سياسي فلسفي، يرى أن الإجماع الديني ليس شرطا لازما ضروريا، لتنظيم اجتماعي جيد، ويطالب بـ(حرية الفكر) لكل المواطنين".
- "على النطاق الفردي: يؤكد هذا المذهب على القبول بأفكار الغير وأفعاله، حتى ولو كانت متعارضة مع المذهب بشرط المعاملة بالمثل؛ وفي إطارها الفلسفي تعتمد: الفلسفة النفعية، والعقلانية، لتحقيق أهدافها".
فهذا المذهب لا يمنع أي دين، ولا يدعو إلى أية عقيدة أو ملة، إذ يقوم على الحياد التام تجاه كل العقائد والملل والمذاهب، فلكل فرد أن يعتنق ما شاء، وله الاستقلال التام في ذلك، لا يجبر على فكر أبدا، ولو كان حقا، وهو ما عبر عنه هاليفي بالحرية الميتافيزيقية، فهو بهذا المعنى يحقق العلمانية في الفكر، وهو منع فرض المعتقدات الخاصة على الآخرين، كما يمنع فرض الدين في السياسة، أو في شئون الحياة، وهذه هي العلمانية؛ ولذا لا نجد دولة ليبرالية الفلسفة إلا وهي علمانية المذهب في الفكر.
فهو حركة وتمرد، حركة لتحقيق ذات الإنسان واستقلاليته، وتمرد ومعارضة على التقاليد والأعراف السائدة والسلطة السياسية، يرفض أن تكون إرادة الفرد امتدادا لآراء الجماعة أو الملة أو الطائفة، ويطالب بإخضاع معتقداتنا للنقد والتمحيص، في جو من الحرية والانفتاح والعقلانية والقبول.
إنه مذهب يرى الحق في أن يكون الفرد حرا طليقا من القيود، وعليه مسئولية تقصي الحقيقة، ومسئولية اتخاذ موقف خاص والدفاع عنه، هذا في ذات نفسه، وعلى كافة الأطراف ذات السلطة: مجتمع، قبيلة، حكومة، مذهب، ملة؛ أن تحترم هذا المزايا والرغبات في الإنسان، وتكف عن كل ما يعرقل تحقيق هذه الذاتية، بل وتمنع كل من يعمل على تحطيم هذه الذاتية، بمنع أو وصاية، وعليها أن توفر كافة الظروف، وتهيء السبل للوصول إلى هذه النتيجة.
- الليبرالية السياسية.
هي نظام سياسي يقوم على ثلاثة أسس، هي: العلمانية، والديمقراطية، والحرية الفردية.
- على أساس فصل الدين عن الدولة (علمانية)..
- وعلى أساس التعددية والحزبية والنقابية والانتخابية، من خلال النظام البرلماني(ديمقراطية)..
- وعلى أساس كفل حرية الأفراد(حرية فردية).
جاء تعريفها في موسوعة لالاند بما يلي:
- "مذهب سياسي يرى أن المستحسن أن تزداد إلى أبعد حد ممكن استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية، بالنسبة إلى السلطة الإجرائية/التنفيذية، وأن يعطى للمواطنين أكبر قدر من الضمانات في مواجهة تعسف الحكم.. الليبرالية تتعارض مع الاستبدادية".
ويذكر في الموسوعة الفلسفية العربية: أن الليبرالية في الفكر السياسي الغربي نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وأن لفظتي: "ليبرالي" و "ليبرالية" لم تكونا متداولتين قبل بداية القرن التاسع عشر، وأن كثيرا من الأفكار الليبرالية موجودة في فلسفة جون لوك السياسية، فهو أول وأهم الفلاسفة الليبراليين.(31/36)
هذه الفكرة الليبرالية السياسية تبحث في:
[تحديد طبيعة الحكم، هل هي تعاقدية، ائتمانية، بين الحاكم والمحكوم، أم حق مطلق للحاكم؟]
والذي دعا إلى هذا البحث، أحوال وأنظمة الحكم السائدة في أوربا، حيث الصراع بين الملكيات والقوى البرلمانية.
فالملكية كانت تعتبر الحكم حقها المطلق، الموروث، الممنوح لها من خالق الكون، وحكمها بمشيئة إلهية، وثم فليس الحاكم مسئولاً تجاه المحكوم بشيء.
أما القوى البرلمانية فقد رفضت ادعاء هذا الحق، وقررت أن الحكم ليس حكرا لفئة معينة، وأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة إئتمانية تعاقدية، وبما أن الإنسان له حقوق طبيعية في الحرية والكرامة، وجب الإقرار بأن الحكم يجب أن يكون مبنيا على رضى المحكوم.
[فالشعب هو مصدر الحكم، والحكم حينئذ مسألة أمانة لا مسألة حق]
وعلى ذلك فكل حاكم معرض لمحاسبة المحكوم على نحو مستمر، وإن هو أساء استعمال الحكم الذي وضعه الشعب أمانة في عنقه، ساغ حينئذ الثورة عليه وخلعه.
وقد كان هذا بالفعل مصير الملك جيمس الثاني، الذي خلع عن العرش عام1688م في الثورة البيضاء الشهيرة، المعروفة بالثورة المجيدة.
وبذلك أقرت الديمقراطية ونحيت الحكومات ذات السلطة المطلقة، وبدأ الليبرالييون في تحديد ملامح الدولة، وتساءلوا إن كان يمكن الاستغناء عنها أصلاً أم لا؟.
فذهب نفر إلى فكرة مجتمع بلا دولة، إيمانا منهم بأن التعاون الطوعي بين الناس يغني عن الدولة، لكن الأغلبية الساحقة من السياسيين والمفكرين اعتبروا وجود الدولة ضروريا، فالأمور لاتنتظم من تلقاء نفسها، لكن اختلفوا في تحديد ملامح هذه الدولة وسلطاتها، ومن هنا نشأ في الفكر السياسي الليبرالي مفهوم "دولة الحد الأدنى"، فالحاجة إلى الدولة حاجة عملية فقط، في التنفيذ، لا في التشريع والقضاء، ولايجوز أن توسع نطاق سلطاتها خارج الحدود التي تفرضها هذه الضرورات العملية.
فالليبرالي هنا يحد من نطاق سلطة الدولة، ولو كانت ديمقراطية، وهو يفترض أن هنالك علاقة عكسيية بين سلطة الدولة وحرية الفرد:
[كلما ازدادت سلطة الدولة وتوسع نطاقها، نقصت حريات الفرد وضاق نطاقها]
والفكر الليبرالي هنا يصر على إمكانية ائتمان المواطن على قدر من الحريات دون أن يهدد ذلك، بالضرورة، استقرار المجتمع وأمنه.
ومشكلة سوء استعمال السلطة قديمة قدم التاريخ البشري، فإذا كان وجود الدولة ضروريا، فوجود السلطة كذلك، ولابد للسلطة أن تكون بيد أشخاص معينين، لصعوبة ممارسة الجميع لها، ومتى استقرت السلطة في أيدي أولئك، فما الذي يحول بينهم وبين سوء الاستعمال؟.
هذه هي المشكلة التي نتجت عنها فكرة الليبرالية السياسية، وقد حاول منذ القديم بعض الفلاسفة وضع حل لها، فأفلاطون مثلا، كان يرى أن المشكلة تحل إذا اجتمعت السلطة والفلسفة في شخص واحد، لكن هوبز لم يرتض هذا الحل، ورفض معادلة أفلاطون: [السلطة + المعرفة = مجتمع عادل]
مشددا على أن السلطة وحدها هي العنصر الأهم في بناء مجتمع مستقر، وهوبز من المعارضين للحل الليبرالي، وفلسفته السياسية تقوم على أن هناك علاقة عكسية بين الحرية والاستقرار، وهو يعطي الحاكم سلطة شبه مطلقة، نتيجة قناعته أنه بدون هذه السلطة المطلقة لانظام ولا استقرار ولا أمان.
أما الحل الليبرالي الذي وضعه جون لوك وطوره مونتسيكو فيرفض حصر الخيارات بخياري هوبز:
- مجتمع لا سلطة فيه (=فوضى).
- مجتمع يساء فيه استعمال السلطة.
وهذا الحل يتركز على مبدأ ثالث هو: - حكم القانون وسيادته، وعلى إصلاح مؤسسات المجتمع وتطويرها.
ودعاة هذا الحل يرى أن من الخطأ أن يركز على الحاكم المثالي، ومن الأصح أن نركز على:
اشتراع قوانين واستحداث مؤسسات تقلل من سوء استعمال السلطة، وتسهل مراقبة المسئولين، وتجيز معاقبتهم إن هم أساءوا استعمال مسئولياتهم.
ويفترض هذا الحل أن إغراءات سوء استعمال السلطة ستظل موجودة، ولكنه يقلل من احتمال إساءة استعمالها فعلا، وحكم القانون يعني أن المرجع الأخير لم يعد إرادة فرد ما، أو مجموعة أفراد، بل أصبح مبادئ، اتفق عليها، ودخلت في بنية المجتمع وصلبه.
- الليبرالية الاقتصادية.
تقوم فكرة الليبرالية الاقتصادية على منع الدولة من تولي وظائف صناعية، ولا وظائف تجارية، وأنها لايحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم.
والعلة في هذه النظرة: [تضرر المصلحة الاقتصادية، الفردية والجماعية، متى ما تدخلت الدولة في الاقتصاد]
ويعد الاقتصادي آدم سميث 1723م-1790م هو المنظر لهذه النظرية الليبرالية الاقتصادية:(31/37)
"فقد افترض أن المحرك الوحيد للإنسان، والدافع الذي يكمن وراء كل تصرفاته الطوعية، هما الرغبة في خدمة مصالحه وإرضاء ذاته (وسميث هنا يشارك هوبز في نظرته إلى الإنسان ككائن أناني)، واعتبر سميث أن الاقتصاد تنظمه قوانينه الخاصة، كقانون العرض والطلب، وقوانين الطبيعة الإنسانية، وكانت لدى سميث قناعة تامة أن هذه القوانين إذا ما سمح لها بأن تأخذ مجراها دون تدخل من الدولة، تقوم بمهمتها على أكمل وجه، فتخدم مصلحة المجتمع ككل، وتخفف رغبات الفرد، وقد يبدو أن هذه القوانين جاءت نتيجة تصميم مصمم، أو أنها تشكل نظاما غائيا متعمدا، ولكنها ليست كذلك، أو على الأقل هذه هي قناعة سميث.
فالخباز واللحام عندما يؤمنان الخبز واللحم لموائدنا لايفعلان ذلك حبا بالإنسانية أو حرصا على صحتنا، بل بدافع مصالحهما الخاصة وحبا بالربح.
والمستهلك بدوره لايشتري السلع المتوافرة في السوق حرصا على مصلحة المنتج أو التاجر، بل لأن عنده الرغبة، ولديه المقدرة، على شراء ما يشتري.
إذن فأفضل خدمة نقدمها إلى المجتمع هي: تسهيلنا للأفراد سعيهم إلى خدمة مصالحهم الخاصة.
وهكذا فإن لعبة المصالح الخاصة هذه، إن لم يعقها تدخل خارجي مفتعل، تؤمن حاجات الجميع، وتخدم المصلحة العامة، وكأن هناك يدا خفية غير مرئية، تحدد الأدوات، وتنسق الحركات كي يسير على ما يرام.
وعلى الدولة أن تترك هذه اللعبة تأخذ مجراها، فلا تتدخل باسم المصلحة العامة، أو العدالة أو المساواة فتمتلك وسائل الإنتاج، أو تحدد كمياته، أو أسعاره.
وهكذا أدخل سميث مبدأ الاقتصاد الحر (تنافس حر، في سوق حرة) في مفهوم الليبرالية".
الليبرالية من الداخل.....
لم تكن الليبرالية محل إجماع بين المفكرين الغربيين، فقد رفضها هوبز، وعظم من شأن سلطة الدولة، حتى أولئك الذين تبنوا الفكرة وهم الأكثرية اضطربوا في تحديد نطاقها ورسم حدودها، بعد إذ لمسوا كثيرا من الخلل في التطبيق:
- فالحرية المطلقة التي تدعو إليها الليبرالية تتعارض مع قيم أخرى، كالعدالة والمساواة، بل وحريات الآخرين، لذا فقد حاول جون ستيوارت ميل أن يجد معادلة توفق بين الليبرالية والديمقراطية، فلم يسمح بتقييد حرية فرد ما، إلا لمنع ضرر واضح يلحق بالآخرين، نتيجة تصرف هذا الفرد، وقد ميز جون ميل بين الحيز الخاص والحيز العام، فأعطى الفرد حرية مطلقة في الحيز الأول، وسمح للدولة بأن تتدخل فقط فيما يتعلق بالحيز الثاني.
فهذا التقييد للحرية بهذا التقسيم، يتنافى مع الحرية المطلقة والاستقلالية التامة، لكن الفكر الليبرالي أدرك أهمية هذا التقييد، وإلا فلن تكون الليبرالية حلا صحيحا، متلائما مع حاجات الفرد قبل حاجات الجماعة، فحرية الفرد لاتصح أن تكون سببا في شقاء الفرد الآخر، كما لاتصح أن تكون سببا في إلغاء حرية الفرد الآخر، فما من حرية مطلقة ينادى بها للفرد، إلا وفيها إلغاء لحرية فرد آخر، فهذا الشعار الجميل في مظهره، يحمل في تطبيقاته مشاكل كثيرة، شعر بها وعاشها دعاتها وشعوب أوربا، ولذا اضطروا، كما رأينا، إلى قيد: عدم الإضرار بالآخر..
لكن هذا القيد غير محدد، ويختلف من شخص إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، تماما كما هو الحال في المقيد(= الحرية)، وإذا كان هذا القيد مختصا بالأفعال، فيمنع كل فعل يضر بالآخر، فليس من العقل إغفال قيد الأقوال، فالأقوال ربما لاتقل خطرا عن الأفعال، فكم من كلمة أشعلت فتنة وحربا.
فالحرية جميلة، والقيد لابد منه، لكن الخلاف حول معنى "الحرية"، وحد القيد المحدد للحرية.
- وإذا كان الفكر الليبرالي يرى الحل الديمقراطي هو الأمثل والبديل المناسب للملكية القسرية، فإن التجربة الديمقراطية أثبتت أنها ليست إلا وجها جديدا للحكم الملكي الدكتاتوري، فالسلبيات التي كانت تنشأ عن الحكم الملكي عادت في ظل حكم الأغلبية، فما الذي يمنع الأغلبية أن تمارس طغيانها الخاص، كما مارس الحكم الملكي طغيانه الخاص؟.
والتجربة أثبتت أن رقابة المجتمع، في ظل الديمقراطية، لم تفد شيئا ذا بال، فالمشاكل متفاقمة، والتلاعب مستمر، وإذا ذهب وجه ديمقراطي منتخب بإسقاطه، لطغيانه، جاء وجه آخر، يمارس نفس الدور، في حلقة مفرغة، ودورة مستمرة لا تنتهي.
وقد شعر بهذه المشكلة كبار الليبراليين والقانونيين:
"فقد أدرك ملّ أن مشكلة تسلط الملوك وإن حلت تاريخيا بتجريدهم من صلاحياتهم أو بقطع رؤوسهم، تعود وتظهر بشكل طغيان الأكثرية أو من يمثلها في النظام الديمقراطي، والحل الدستوري (عبر القوانين وإصلاح المؤسسات، وإنشاء المحاكم العليا، وتعدد الأكثريات من خلال النسق التعاقبي للانتخابات إلخ.. ) لا يحل المشكلة كليا، حتى لو تأكدنا أن الديمقراطية دستورية، يبقى، في نهاية المطاف، الدستور وتقرير أحكامه في يد الأكثرية.(31/38)
وقد أدرك توماس جيفرسون (1743-1826) هذه الحقيقة قبل ملّ، وتوكفيل، وتوماس جرين (1836-1882)، وكونستانت وغيرهم، ممن أدركوا طبيعة هذه المشكلة وأبعادها، ففي نص القانون الذي يحمي حرية العبادة (كتبه جيفرسون عام1779، وصدقه المجلس الاشتراعي لولاية فرجينيا في العام 1786) ورد في الفقرة الأخيرة ما معناه:
- نحن ندرك في هذا المجلس، الذي انتخبه الشعب لا شتراع القوانين، أن لا سلطة لنا على المجالس اللاحقة، التي سوف تنتخب بعدنا، ويكون لها صلاحية قانونية، ولا نستطيع أن نجعل هذا القانون الذي اشترعناه اليوم غير قابل للنقض في المستقبل، وإن نحن فعلنا ذلك فلا يكون هذا صفة قانونية ملزمة، ولكننا نعلن أن كل من ينقض هذا القانون، أو يلغيه، أو يحد منه، إنما ينتهك حقوقا للإنسان طبيعية.
وقول جيفرسون هذا يشير بوضوح إلى أنه أدرك أن الضمانة لا تكون في النهاية إلا بوعي المواطنين وبحكمتهم وأخلاقيتهم، ولم يجد جيفرسون في يده حيلة سوى العودة إلى مفهوم حقوق الإنسان الطبيعية". فهذه شهادة الليبراليين بعجز هذه المجالس النيابية الديمقراطية الليبرالية عن حفظ حقوق الإنسان الطبيعية، لو فرضنا أنها في إحدى الدورات ضمنت هذه الحقوق، إلا أنه لا ضمان في دوامها.
فكرة السوق الحرة...
وفكرة السوق الحرة، هل بالفعل تحقق مصالح الفرد بأقصى درجة، أم تحقق مصلحة فئة معينة، تملك المال والاقتصاد؟.
واقع السوق الحر يثبت أن المصلحة تتجه نحو جيوب كهنة المال والاقتصاد، فالمال يضخ في خزائن الذي يملكون التجربة والممارسة الاقتصادية، ورفع سلطة الدولة عن ضبط السوق، مكن كل محتال أن يلعب لعبته، وصار السوق غابة من وحوش تأكل كل ضعيف وساذج أو صادق غرّ، لا يعرف ولا يحب أن يعرف طرائق المكر والاحتيال.
وكون الفرد ينطلق من مصالحه الخاصة، بيعا وشراء، هذا لا علاقة له بصحة العملية بوجه، فالانتفاع عملية متبادلة بين البائع والمشتري، هذا صحيح، لكن هذا لا يمنع من التلاعب والاحتيال، ما لم يخضع لقانون، وحرص الفرد على مصلحته لا يرفع عنه الغفلة، كما لا يرفع عنه الخديعة، ما لم يجد قانونا يحميه، أو قانونا يردعه ويكفه عن العبث.
فهذا الذي يملك سلعة يحتكرها، فلا يبيعها، حتى إذا شحت في أيدي الناس، وزاد الطلب عليها، باعها بأعلى الأسعار، أليس يحقق مصلحته في البيع، ويحقق مصلحة المشتري حينها؟.
لكن مدة الاحتكار، وزيادة السعر، أليس فيه ضرر بائن بالمشترين؟..
إن وسائل الشر والإضرار بالآخرين ممكنة لكل فرد، متى ما وجد إلى ذلك سبيلا، وإذا لم تكن ثمة ضوابط تمنع وتحد وتقيد، وقع الضرر، وحال السوق الحر، كحال المجتمع بلا دولة ولا حاكم، أو العمل من غير رئيس، أو القطار من غير سائق.
- ثم في الليبرالية، ما مصير القيم الأخرى، كالمساواة والعدالة والسعادة والتعاون؟..
فإذا كانت الحرية هي القيمة العليا، فلا شك أنها ستتعارض مع قيم كثيرة:
ستتعارض مع السعادة، فالفرد بدعوى الحرية سيفعل ما يشاء، ولو كان فيه شقاؤه، سيشرب الخمر، ويزني، ويخدع، ويحتال، وكل هذه آفات تقتل السعادة، يقر بذلك كل العقلاء.
وحرية السوق أو السياسة تتعارض مع العدالة والمساواة:
فأين نجد المساواة في حكم ديمقراطي، الحكم فيه للأغلبية الغنية؟..
وأين نجد العدالة في سوق حر، لا يعرف إلا الاحتيال والتلاعب، والذكي من يكسب أكثر؟.
- إن الحل الليبرالي قاتم وسقيم، والغرب أكبر شاهد على هذا، فقد عاش الحياة "الليبرالية" بالمفهوم الذي وضع لها، أكثر من قرنين، وهاهو ينتقدها ويعارضها، بعدما طحنت شعوبهم، فنشرت فيهم البطالة والفقر، والأمراض المهلكة، والمخدرات والخمور والزنى والشذوذ والإلحاد والجريمة، والغرب اليوم، ومن وراء الفكر الليبرالي، يصدر للعالم مشاكله وجرائمه وعدوانه.
الليبرالية الجديدة.. LIBE r ALISME NEW
لقد كانت الليبرالية مرحلة مؤقتة، ولو طالت، بكل سلبياتها وإيجابياتها، واليوم تنتقل الليبرالية إلى مرحلة جديدة يسميها بعضهم بـ"الليبرالية الجديدة" LIBE r ALISME..
وإذا كانت اللبيرالية الأولى نقلة نوعية بالنسبة لأوربا في قضية حقوق الإنسان، فإن الليبرالية الجديدة انتكاسة حقيقية لحقوق الإنسان، تحت سمع وبصر العالم، ليس الإنسان الغربي فحسب، بل الإنسان الشرقي والشمالي والجنوبي:
تستخدم فيها القوة العسكرية لفرض الهيمنة والأفكار والتقاليد، في عصر ما يسمى بالعولمة، فلم تعد للحريات الإنسانية مكانا، إلا الحريات التي تمليها القوة الكبرى (=أمريكا) بسيطرتها المحكمة على مراكز الأرض، برا وبحرا، من خلال قواعدها البرية، شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، وأساطيلها البحرية، متمثلة في حاملات الطائرات، التي تجوب بحار العالم، كقواعد عسكرية متنقلة، فكل من يخرج عن إرادة هذه القوة الكبرى فهو خارج عن القانون (= إرهابي)، فالقاعدة:
"إما أن تكون معنا، أو ضدنا"..
ولايملك العالم أمام هذه القوة الهائلة إلا الخنوع والرضوخ لإرادتها، وتنفيذ كل ما يطلب منها، وإلا كان مصيرها التأديب باسم النظام الدولي متمثلا في:
- هيئة الأمم المتحدة..(31/39)
- صندق النقد الدولي..
- البنك الدولي..
- منظمة التجارة العالمية؛..
- كذلك باسم مكافة الإرهاب، والقضاء على الشر.
إن معادلة هذه المرحلة، تسير وفق التصور التالي:
[العولمة + الدور البوليسي للقوة الكبرى الليبرالية الأولى(الحرية) = الليبرالية الجديدة(انتهاك حقوق الإنسان)]
ولعل هذه النتيجة السلبية القاتمة لم تكن مفاجأة، لمن تتبع سير الفكرة وعرف أسباب نشأتها، ومن الذي تولى توجيهها، ورسم حدودها وخطتها، فما كانت إلا شعارا أجوف المضمون، لم يكن يراد لذاته، بل لغيره..
نعم كان هناك مخلصون للفكرة، ونادوا بصدق وإيمان تام، لكن لم يكن منهم إلا التقرير والتصوير، أما التوجيه وتولي دفة السير فكانت لغيرهم، ممن اقتنص الفرصة ليضرب ضربته في تحقيق أهدافه الخاصة، فركب موجة الليبرالية، ودعا إليها، وهو يعلم سلفا أنها ضارة غير نافعة، وأن نفعها بالنسبة للشعوب محدودة جدا، بل لا تقارن بمضارها، وفائدتها قاصرة على ذوي الأهداف الفاسدة الشريرة، وهم اليهود!!!!!!!! …..
دور اليهود...
- لليهود دور أساسي في ترسيخ الفكرة الليبرالية في المجالات الغربية: السياسة والاقتصاد والفكر؛ قد لايكونوا هم من ابتدعها، فالأقرب أنها ابتدعت تلبية لحاجة نفسية، وثورة على كبت مطلق، لكن اليهود أحسنوا استغلال هذه الحاجة والثورة، بما يحقق أهدافهم، على حين غفلة.
وفي البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون وردت كلمة "الليبرالية"، بما يبين أن الفكرة ليست إلا غطاء لأهداف حددت سابقا..
ينطلق اليهود في ترسيخ الفكرة الليبرالية من فهم نفسيات الشعوب، من حيث سيطرة العاطفية والسطحية على شعورها، وضعف إدراكها لخفايا الأمور، واغترارها بالظاهر وعدم البحث فيما وراءه، ولأجله فهم مهيئون لتقبل كل فكرة ظاهرها الرحمة، وإن كان باطنها العذاب، لكنهم لا يفقهون ذلك الباطن، وليس لهم إلا الوقوف على الظاهر!!.
وقد اتخذوا هذه الفكرة وسيلة لهدم كل الحكومات الارستقراطية الملكية القائمة الثابتة الحاكمة حكما مطلقا، واستبدالها بحكومات غير ثابتة متغيرة على الدوام، ذات سلطة محدودة، بدعوى تحقيق الليبرالية، التي يدركون يقينا أنها لن تكون خيرا من الملكيات والحكومات ذات السلطات المطلقة، إن لم تكن شرا منها، لكن كان لابد من الترويج لها من أجل هذا الهدف، وهو إزالة الأنظمة التي تعوق خطط الصهيونية اليهودية الماسونية في الوصول إلى الحكم.
وهم يعلمون جيدا فشل الليبرالية في تحقيق الأهداف المروجة لها، وسأنقل فقرات من البروتوكول الأول، بحسب ما جاء في إحدى ترجماتها، لنقف على تأكيد ما ذكر آنفا:
1- "لما كانت الأغلبية من بني البشر رعاعا، والندرة منهم ذوي التفوق والامتياز، فإن أقوم السبل لحكم العالم، هو إقامة الحكم على أساس التخويف والعنف، لا الحكم القائم على النقاش المجمعي(=الأكاديمي)".
2- "لما كانت الحرية السياسية فكرة مجردة عن الواقع، فمن الفرض اللازم معرفة سبيل تسخيرها، من أجل السيطرة على الجماهير، وضمهم إلى حزبنا، ويقتضينا ذلك أن نقدم الطعم الذي يوقعهم في شباكنا، وحينئذ يسع حزبنا أن يقضي على الحزب الآخر المنافس له، ويكون النصر لحزبنا محققا ومؤزرا، لأن المنافس لنا مخدر بفكرة الحرية التي جعلته ينزل عن كثير من سلطاته، وهذا دون شك فاتحة انتصارنا وهزيمة منافسنا".
3- "هناك سلطة الذهب التي صارت في أيامنا بديلا عن سلطة الحكام الأحرار، وانتهى العهد الذي كانت فيه السلطة للدين، وليس هناك مجال لتحقيق فكرة الحرية التي يتعذر استخدامها بحكمة وبصيرة، ويكفي أن يتولى الشعب حكم نفسه برهة من الزمن، ليصبح مآله إلى الفساد الذي يحيل أفراده رعاعا وغوغاء، واستقلاله فوضى تشعل فيما بينهم جحيم المنازعات والخصومات التي تتحول إلى ثورات اجتماعية، تودي بالحكومات إلى السقوط والفناء، وسيان وقوع الدولة في فتن داخلية تفضي بها إلى الانهيار، أو تسلمها إلى عدو خارجي، فالأمر في الحالين واحد، وهو الزوال الذي يدفع بها إلى قبضتنا، وحينئذ تبرز سلطة المال الذي هو أيدينا لتكون للشعب طوق النجاة، الذي نرميه إليه، فيتشبث به من تلقاء نفسه، طمعا في النجاة من الغرق، وهو مجبر على التعلق به".(31/40)
4- " أفي وسع رجل ذي حكمة وتبصر وركانة أن يحكم الغوغاء حكما رشيدا ناجحا، باتخاذ الحرية في النقاش بين الحكومة والمعارضة؟، وسواء أكانت المعارضة موفقة أم غير موفقة فإن ما يكون غير سليم أو معوجا لاتفطن العامة له، لأنهم مجردون من الفكر العميق والإدراك السليم، ويجرون وراء الأشكال والظواهر، ويعجزون عن النفاذ إلى الحقائق والبواطن، ويمشون خلف الميول والأهواء المتقلبة والمذاهب التي تلعب بالعواطف، والعامة أغبياء أغرار، وكذلك من ارتفعوا من صفوفهم، وكلهم غرقى الخلاف الحزبي الذي يقضي على إمكان الاتفاق بين المعارضة والحكومة على أي قرار، ولو كان هذا القرار ضامنا الخير والمنفعة، وكل قرار متخذ موقوف على فرصة تحققه أو أغلبية تؤيده ليس بالقرار السليم، لأن جهلها بأسرار السياسة وخفاياها يبعد عنها التوفيق فتخرج بقرار خاطيء، تكمن فيه بذور الفساد، التي تثمر وقوع الحكومة في فساد أشد مصحوب بالفوضى".
5- "أتستطيع جمهرة الشعب أن تصرف شئون الدولة في هدوء وفي نجوة عن التحاسد والتباغض، إنها تبني إدارتها لشئون الدولة على الأهواء الذاتية والمصالح الخاصة، وذلك يفقد الحكم الثبات، كما يفقد الأمة القدرة على حماية نفسها من العدوان الخارجي".
6- "من المستحيل نجاح خطة تكثر أيدي واضعيها، لأنها تفقد الإحكام بسبب كثرة الأيدي التي تضعها، فتتجزأ أجزاء بقدر عدد الشعب، وعندما تفقد الخطة تماسكها بالوحدة تفقد الأحكام فتتبدد، وعندئذ يستحيل فهمها وتطبيقها وتنفيذها، ولايمكن وضع مخطط محكم ناجح إلا على يد حاكم مطلق الإرادة، تجتمع في قبضته أجزاء الحكومة التي يوزعها على مختلف الإدارات والرؤساء، ويكون رأس كل جزء في قبضته، ذلك هو الضمان الوحيد للنجاح الذي يضمن أن السلطة كلها في يد حاكم فرد مطلق، تحقق أوتقراطيته رخاء البلاد وسعادتها، والحضارة نفسها ليست وليدة الدهماء، وإنما هي نتيج الفكر الفرد الذي يقود الدهماء، وتحت رعاية الحاكم المستبد أيا كان هذا الحاكم تزهو الحضارة لاتحت رعاية الغوغاء".
7- "الرعاع أو الجمهور قوة همجية تؤكد كل تصرفاتها هذه الهمجية، وعندما يتمتع الرعاع بالحرية تظهر الفوضى التي هي قمة الهمجية".
8- "وأما شعارنا فهو القوة والرياء، ففي الأمور السياسية يكون النجاح وليد القوة، وبخاصة عندما تكون القوة اللازمة لرجل السياسة (الحكم) مطلية بالعبقرية التي تسترها، ويجب أن يكون العنف مبدأ، قاعدته: الرياء والمكر، في السيطرة على الحكومات".
9- "كنا أول من نادى في العصور الغابرة بكلمات: الحرية، والمساواة، والإخاء؛ فاجتذب النداء الناس، وأخذوا يهتفون بها ويرددونها في كل أقطار الأرض ترداد الببغاء، دون فهم أو إدراك أو شعور، وأدى بهم الهتاف الببغائي إلى عرقلة التقدم الإنساني في العالم، وحرمان الفرد من حريته الذاتية الأصيلة، التي كانت في مأمن من عبث الجماهير، وأدعياء العلم والفطنة من الجوييم لم يفهموا مدلول هذه الكلمات، ولم يتبينوا التناقض فيما بينهن في المعاني، ولم يفطنوا إلى ما في مدلول كل منهن من خلاف، وفاتهم إدراك الاختلاف في أصل الطبيعة نفسها، إذ ليس فيها مساواة قط، كما أنه ليس فيها حرية أبدا، والطبيعة هي نفسها التي أوجدت الفروق في الأذهان، والأخلاق، والطاقات، والكفايات، وجعلت هذه الفروق ثابتة ثبات الخضوع لها فيما أوجدت من سنن وقوانين".
10- "فات هؤلاء الجوييم أن يدركوا أن الجماهير قوة عمياء، وأن النخبة المختارة من بينهم للحكم مثل الجماهير عمي في السياسة، وفي وسع أي أرعن أن يحكم إذا قدر له اعتلاء منصته، وفات الجوييم أن يدركوا أن السياسية لا تتطلب أذكياء متفوقين في ملكاتهم العقلية، وجهلوا فقه السياسة، وإنما تتطلب أفرادا فقهوا أسرارها وإن خلوا من كل مزية لا دخل لها في السياسة، وكل هذا مما فات الجوييم إدراكه، مع أن الحكم الملكي لديهم فطن لهذا المبدأ منذ زمن، إذ جرت العادة أن يلقن الأب ابنه دروس السياسة ويفقهه في أسرار التطور السياسي دون أن يحضر هذه الدروس غير أفراد الأسرة المالكة، وكان الشعب بمعزل عن ذلك حتى زال هذا المبدأ زوالا أدى إلى نجاح مخططنا".
11- "إن هتافنا بكلمات: الحرية، والمساواة، والإخاء؛ مع جهود دعاتنا المسخرين اجتذب في كل أنحاء العالم جيوشا جرارة من البشر، حملت أعلامنا بكل فخر وحماسة، في حين أن هذه الكلمات الساحرة كانت سوسا ينخر في كيان سعاد المسيحيين(الجوييم) ومعول هدم للأمن والسلام والوحدة لديهم، وأداة تدمير أسس دولهم، وكان هذا من أسباب نصرنا، كما سترون، ومن هذا النصر وصول الورقة الرابحة إلى أيدينا، ويسرت لنا القضاء على طبقة الأشراف المسيحيين، ونسف ما كان لهم من شرف احتكروه لأنفسهم، وبذلك تم سحق أرستقراطية الجوييم التي منحتهم الرفعة والحصانة والامتياز على الطبقات الأخر، كما كانت هذه الأرستقراطية سند الشعوب الوحيد الذي يقف في وجهنا".(31/41)
12- "مفهوم الحرية المجرد أقنع الشعب بأن حاكمه ليس إلا وكيلا عنه في تصريف شئونه، وفي الوسع الاستغناء عنه وخلعه، كما يخلع القفاز من اليد إذا بلي، وعملية تغيير نواب الشعب قد دفعت بهم إلى قبضتنا، وجعلت تعيينهم من قبلنا، وأمرهم في أيدينا".
والخلاصة:
أن العنف والقوة والحكم المستبد المطلق هو السبيل الوحيد للاستقرار والحضارة والرخاء والسعادة للدولة، كما كان يقول "هوبز"، والعلة أن الجماهير غوغاء رعاع، لاتدرك كنه الأمور، وتجهل مصالحها وما فيه سعادتها، أما الحرية السياسية فهي مجرد فكرة، ولاينتفع من تطبيقها بشيء، بل تفاقم المشاكل وتزيدها، ذلك أن الجماهير غير مؤهلة، لما بينها تحاسد، وخلافات، وأهواء شخصية، ولأن الخطة السياسية تفقد - بسبب كثرة الأيدي التي تضعها تماسكها، فتتبدد، ويستحيل تطبيقها.
وإذا كان الأمر على هذا النحو، فلم إذن الترويج للحرية(الليبرالية)؟.
الجواب :
لإزالة الأنظمة السائدة، من حكومات ملكية أرستقراطية دينية، وفتح الباب لتغييرها كلما دعت الحاجة والمصلحة الصهيونية الماسونية اليهودية.
إذن، اليهود كانوا وهم يروجون لليبرالية يعلمون أنها شعار أجوف، ليس وراءها أية فائدة للجماهير، بل تفاقم مشكلاتهم وتزيدها حرجا، لكنها سبيل لتحقيق أهم أهداف اليهودية الصهيونية:
[إزالة الحكومات القائمة إلى الأبد، ثم السيطرة على الحكومات البديلة من خلال النظام الديمقراطي]
ومن هنا أطلقوا تلك الشعارات، ونادوا بها، وصدقها الغوغاء والرعاع، وتبنوها، وصاحوا بها، وهم لايدركون حقيقتها، ولا ما فيها من تناقضات، واختلافات، ومعارضة لأصل الطبيعة البشرية!!.
----------------------------------------
مراجع البحث:
- موسوعة لالاند..
- الموسوعة الفلسفية العربية..
- الموسوعة الميسرة..
- بروتوكولات حكماء صهيون..
- أحجار على رقعة الشطرنج..
- فخ العولمة..
- مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة..
- مجموعة مقالات...
http://www.saaid.net المصدر :
=============(31/42)
(31/43)
نظرة في " الليبرالية " من الداخل ( 2 )
- الليبرالية الاقتصادية.
تقوم فكرة الليبرالية الاقتصادية على منع الدولة من تولي وظائف صناعية، ولا وظائف تجارية، وأنها لا يحق لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم.
والعلة في هذه النظرة:
[تضرر المصلحة الاقتصادية، الفردية والجماعية، متى ما تدخلت الدولة في الاقتصاد]
ويعد الاقتصادي آدم سميث 1723م-1790م هو المنظر لهذه النظرية الليبرالية الاقتصادية:
"فقد افترض أن المحرك الوحيد للإنسان، والدافع الذي يكمن وراء كل تصرفاته الطوعية، هما الرغبة في خدمة مصالحه وإرضاء ذاته (وسميث هنا يشارك هوبز في نظرته إلى الإنسان ككائن أناني)، واعتبر سميث أن الاقتصاد تنظمه قوانينه الخاصة، كقانون العرض والطلب، وقوانين الطبيعة الإنسانية، وكانت لدى سميث قناعة تامة أن هذه القوانين إذا ما سمح لها بأن تأخذ مجراها دون تدخل من الدولة، تقوم بمهمتها على أكمل وجه، فتخدم مصلحة المجتمع ككل، وتخفف رغبات الفرد، وقد يبدو أن هذه القوانين جاءت نتيجة تصميم مصمم، أو أنها تشكل نظاما غائيا متعمدا، ولكنها ليست كذلك، أو على الأقل هذه هي قناعة سميث.
فالخباز واللحام عندما يؤمنان الخبز واللحم لموائدنا لا يفعلان ذلك حبا بالإنسانية أو حرصا على صحتنا، بل بدافع مصالحهما الخاصة وحبا بالربح.
والمستهلك بدوره لا يشتري السلع المتوافرة في السوق حرصا على مصلحة المنتج أو التاجر، بل لأن عنده الرغبة، ولديه المقدرة، على شراء ما يشتري.
إذن فأفضل خدمة نقدمها إلى المجتمع هي: تسهيلنا للأفراد سعيهم إلى خدمة مصالحهم الخاصة.
وهكذا فإن لعبة المصالح الخاصة هذه، إن لم يعقها تدخل خارجي مفتعل، تؤمن حاجات الجميع، وتخدم المصلحة العامة، وكأن هناك يدا خفية غير مرئية، تحدد الأدوات، وتنسق الحركات كي يسير على ما يرام.
وعلى الدولة أن تترك هذه اللعبة تأخذ مجراها، فلا تتدخل باسم المصلحة العامة، أو العدالة أو المساواة فتمتلك وسائل الإنتاج، أو تحدد كمياته، أو أسعاره.
وهكذا أدخل سميث مبدأ الاقتصاد الحر (تنافس حر، في سوق حرة) في مفهوم الليبرالية".
الليبرالية من الداخل...
لم تكن الليبرالية محل إجماع بين المفكرين الغربيين، فقد رفضها هوبز، وعظم من شأن سلطة الدولة، حتى أولئك الذين تبنوا الفكرة وهم الأكثرية اضطربوا في تحديد نطاقها ورسم حدودها، بعد إذ لمسوا كثيرا من الخلل في التطبيق:
- فالحرية المطلقة التي تدعو إليها الليبرالية تتعارض مع قيم أخرى، كالعدالة والمساواة، بل وحريات الآخرين، لذا فقد حاول جون ستيوارت ميل أن يجد معادلة توفق بين الليبرالية والديمقراطية، فلم يسمح بتقييد حرية فرد ما، إلا لمنع ضرر واضح يلحق بالآخرين، نتيجة تصرف هذا الفرد، وقد ميز جون ميل بين الحيز الخاص والحيز العام، فأعطى الفرد حرية مطلقة في الحيز الأول، وسمح للدولة بأن تتدخل فقط فيما يتعلق بالحيز الثاني.
فهذا التقييد للحرية بهذا التقسيم، يتنافى مع الحرية المطلقة والاستقلالية التامة، لكن الفكر الليبرالي أدرك أهمية هذا التقييد، وإلا فلن تكون الليبرالية حلا صحيحا، متلائما مع حاجات الفرد قبل حاجات الجماعة، فحرية الفرد لا تصح أن تكون سببا في شقاء الفرد الآخر، كما لا تصح أن تكون سببا في إلغاء حرية الفرد الآخر، فما من حرية مطلقة ينادى بها للفرد، إلا وفيها إلغاء لحرية فرد آخر، فهذا الشعار الجميل في مظهره، يحمل في تطبيقاته مشاكل كثيرة، شعر بها وعاشها دعاتها وشعوب أوربا، ولذا اضطروا، كما رأينا، إلى قيد: عدم الإضرار بالآخر..
لكن هذا القيد غير محدد، ويختلف من شخص إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، تماما كما هو الحال في المقيد(= الحرية)، وإذا كان هذا القيد مختصا بالأفعال، فيمنع كل فعل يضر بالآخر، فليس من العقل إغفال قيد الأقوال، فالأقوال ربما لا تقل خطرا عن الأفعال، فكم من كلمة أشعلت فتنة وحربا.
فالحرية جميلة، والقيد لابد منه، لكن الخلاف حول معنى "الحرية"، وحد القيد المحدد للحرية.
- وإذا كان الفكر الليبرالي يرى الحل الديمقراطي هو الأمثل والبديل المناسب للملكية القسرية، فإن التجربة الديمقراطية أثبتت أنها ليست إلا وجها جديدا للحكم الملكي الدكتاتوري، فالسلبيات التي كانت تنشأ عن الحكم الملكي عادت في ظل حكم الأغلبية، فما الذي يمنع الأغلبية أن تمارس طغيانها الخاص، كما مارس الحكم الملكي طغيانه الخاص؟.
والتجربة أثبتت أن رقابة المجتمع، في ظل الديمقراطية، لم تفد شيئا ذا بال، فالمشاكل متفاقمة، والتلاعب مستمر، وإذا ذهب وجه ديمقراطي منتخب بإسقاطه، لطغيانه، جاء وجه آخر، يمارس نفس الدور، في حلقة مفرغة، ودورة مستمرة لا تنتهي.
وقد شعر بهذه المشكلة كبار الليبراليين والقانونيين:(31/44)
"فقد أدرك ملّ أن مشكلة تسلط الملوك وإن حلت تاريخيا بتجريدهم من صلاحياتهم أو بقطع رؤوسهم، تعود وتظهر بشكل طغيان الأكثرية أو من يمثلها في النظام الديمقراطي، والحل الدستوري (عبر القوانين وإصلاح المؤسسات، وإنشاء المحاكم العليا، وتعدد الأكثريات من خلال النسق التعاقبي للانتخابات إلخ..) لا يحل المشكلة كليا، حتى لو تأكدنا أن الديمقراطية دستورية، يبقى، في نهاية المطاف، الدستور وتقرير أحكامه في يد الأكثرية.
وقد أدرك توماس جيفرسون (1743-1826) هذه الحقيقة قبل ملّ، وتوكفيل، وتوماس جرين (1836-1882)، وكونستانت وغيرهم، ممن أدركوا طبيعة هذه المشكلة وأبعادها، ففي نص القانون الذي يحمي حرية العبادة (كتبه جيفرسون عام1779، وصدقه المجلس الاشتراعي لولاية فرجينيا في العام 1786) ورد في الفقرة الأخيرة ما معناه:
- نحن ندرك في هذا المجلس، الذي انتخبه الشعب لا شتراع القوانين، أن لا سلطة لنا على المجالس اللاحقة، التي سوف تنتخب بعدنا، ويكون لها صلاحية قانونية، ولا نستطيع أن نجعل هذا القانون الذي اشترعناه اليوم غير قابل للنقض في المستقبل، وإن نحن فعلنا ذلك فلا يكون هذا صفة قانونية ملزمة، ولكننا نعلن أن كل من ينقض هذا القانون، أو يلغيه، أو يحد منه، إنما ينتهك حقوقا للإنسان طبيعية.
وقول جيفرسون هذا يشير بوضوح إلى أنه أدرك أن الضمانة لا تكون في النهاية إلا بوعي المواطنين وبحكمتهم وأخلاقيتهم، ولم يجد جيفرسون في يده حيلة سوى العودة إلى مفهوم حقوق الإنسان الطبيعية". فهذه شهادة الليبراليين بعجز هذه المجالس النيابية الديمقراطية الليبرالية عن حفظ حقوق الإنسان الطبيعية، لو فرضنا أنها في إحدى الدورات ضمنت هذه الحقوق، إلا أنه لا ضمان في دوامها.
فكرة السوق الحرة...
- وفكرة السوق الحرة، هل بالفعل تحقق مصالح الفرد بأقصى درجة، أم تحقق مصلحة فئة معينة، تملك المال والاقتصاد؟.
واقع السوق الحر يثبت أن المصلحة تتجه نحو جيوب كهنة المال والاقتصاد، فالمال يضخ في خزائن الذي يملكون التجربة والممارسة الاقتصادية، ورفع سلطة الدولة عن ضبط السوق، مكن كل محتال أن يلعب لعبته، وصار السوق غابة من وحوش تأكل كل ضعيف وساذج أو صادق غرّ، لا يعرف ولا يحب أن يعرف طرائق المكر والاحتيال.
وكون الفرد ينطلق من مصالحه الخاصة، بيعا وشراء، هذا لا علاقة له بصحة العملية بوجه، فالانتفاع عملية متبادلة بين البائع والمشتري، هذا صحيح، لكن هذا لا يمنع من التلاعب والاحتيال، ما لم يخضع لقانون، وحرص الفرد على مصلحته لا يرفع عنه الغفلة، كما لا يرفع عنه الخديعة، ما لم يجد قانونا يحميه، أو قانونا يردعه ويكفه عن العبث.
فهذا الذي يملك سلعة يحتكرها، فلا يبيعها، حتى إذا شحت في أيدي الناس، وزاد الطلب عليها، باعها بأعلى الأسعار، أليس يحقق مصلحته في البيع، ويحقق مصلحة المشتري حينها؟.
لكن مدة الاحتكار، وزيادة السعر، أليس فيه ضرر بائن بالمشترين؟..
إن وسائل الشر والإضرار بالآخرين ممكنة لكل فرد، متى ما وجد إلى ذلك سبيلا، وإذا لم تكن ثمة ضوابط تمنع وتحد وتقيد، وقع الضرر، وحال السوق الحر، كحال المجتمع بلا دولة ولا حاكم، أو العمل من غير رئيس، أو القطار من غير سائق.
- ثم في الليبرالية، ما مصير القيم الأخرى، كالمساواة والعدالة والسعادة والتعاون؟..
فإذا كانت الحرية هي القيمة العليا، فلا شك أنها ستتعارض مع قيم كثيرة:
ستتعارض مع السعادة، فالفرد بدعوى الحرية سيفعل ما يشاء، ولو كان فيه شقاؤه، سيشرب الخمر، ويزني، ويخدع، ويحتال، وكل هذه آفات تقتل السعادة، يقر بذلك كل العقلاء.
وحرية السوق أو السياسة تتعارض مع العدالة والمساواة:
فأين نجد المساواة في حكم ديمقراطي، الحكم فيه للأغلبية الغنية؟..
وأين نجد العدالة في سوق حر، لا يعرف إلا الاحتيال والتلاعب، والذكي من يكسب أكثر؟.
- إن الحل الليبرالي قاتم وسقيم، والغرب أكبر شاهد على هذا، فقد عاش الحياة "الليبرالية" بالمفهوم الذي وضع لها، أكثر من قرنين، وهاهو ينتقدها ويعارضها، بعدما طحنت شعوبهم، فنشرت فيهم البطالة والفقر، والأمراض المهلكة، والمخدرات والخمور والزنى والشذوذ والإلحاد والجريمة، والغرب اليوم، ومن وراء الفكر الليبرالي، يصدر للعالم مشاكله وجرائمه وعدوانه.
الليبرالية الجديدة..
لقد كانت الليبرالية مرحلة مؤقتة، ولو طالت، بكل سلبياتها وإيجابياتها، واليوم تنتقل الليبرالية إلى مرحلة جديدة يسميها بعضهم بـ"الليبرالية الجديدة" LIBE r ALISME..
وإذا كانت اللبيرالية الأولى نقلة نوعية بالنسبة لأوربا في قضية حقوق الإنسان، فإن الليبرالية الجديدة انتكاسة حقيقية لحقوق الإنسان، تحت سمع وبصر العالم، ليس الإنسان الغربي فحسب، بل الإنسان الشرقي والشمالي والجنوبي:(31/45)
تستخدم فيها القوة العسكرية لفرض الهيمنة والأفكار والتقاليد، في عصر ما يسمى بالعولمة، فلم تعد للحريات الإنسانية مكانا، إلا الحريات التي تمليها القوة الكبرى (=أمريكا) بسيطرتها المحكمة على مراكز الأرض، برا وبحرا، من خلال قواعدها البرية، شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، وأساطيلها البحرية، متمثلة في حاملات الطائرات، التي تجوب بحار العالم، كقواعد عسكرية متنقلة، فكل من يخرج عن إرادة هذه القوة الكبرى فهو خارج عن القانون (= إرهابي)، فالقاعدة:
"إما أن تكون معنا، أو ضدنا"..
ولا يملك العالم أمام هذه القوة الهائلة إلا الخنوع والرضوخ لإرادتها، وتنفيذ كل ما يطلب منها، وإلا كان مصيرها التأديب باسم النظام الدولي متمثلا في:
- هيئة الأمم المتحدة..
- صندوق النقد الدولي..
- البنك الدولي..
- منظمة التجارة العالمية؛..
- كذلك باسم مكافة الإرهاب، والقضاء على الشر.
إن معادلة هذه المرحلة، تسير وفق التصور التالي:
[العولمة + الدور البوليسي للقوة الكبرى الليبرالية الأولى(الحرية) = الليبرالية الجديدة(انتهاك حقوق الإنسان)]
ولعل هذه النتيجة السلبية القاتمة لم تكن مفاجأة، لمن تتبع سير الفكرة وعرف أسباب نشأتها، ومن الذي تولى توجيهها، ورسم حدودها وخطتها، فما كانت إلا شعارا أجوف المضمون، لم يكن يراد لذاته، بل لغيره..
نعم كان هناك مخلصون للفكرة، ونادوا بصدق وإيمان تام، لكن لم يكن منهم إلا التقرير والتصوير، أما التوجيه وتولي دفة السير فكانت لغيرهم، ممن اقتنص الفرصة ليضرب ضربته في تحقيق أهدافه الخاصة، فركب موجة الليبرالية، ودعا إليها، وهو يعلم سلفا أنها ضارة غير نافعة، وأن نفعها بالنسبة للشعوب محدودة جدا، بل لا تقارن بمضارها، وفائدتها قاصرة على ذوي الأهداف الفاسدة الشريرة، وهم اليهود!!!
دور اليهود...
- لليهود دور أساسي في ترسيخ الفكرة الليبرالية في المجالات الغربية: السياسة والاقتصاد والفكر؛ قد لايكونوا هم من ابتدعها، فالأقرب أنها ابتدعت تلبية لحاجة نفسية، وثورة على كبت مطلق، لكن اليهود أحسنوا استغلال هذه الحاجة والثورة، بما يحقق أهدافهم، على حين غفلة.
وفي البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون وردت كلمة "الليبرالية"، بما يبين أن الفكرة ليست إلا غطاء لأهداف حددت سابقا..
ينطلق اليهود في ترسيخ الفكرة الليبرالية من فهم نفسيات الشعوب، من حيث سيطرة العاطفية والسطحية على شعورها، وضعف إدراكها لخفايا الأمور، واغترارها بالظاهر وعدم البحث فيما وراءه، ولأجله فهم مهيئون لتقبل كل فكرة ظاهرها الرحمة، وإن كان باطنها العذاب، لكنهم لا يفقهون ذلك الباطن، وليس لهم إلا الوقوف على الظاهر!!.
وقد اتخذوا هذه الفكرة وسيلة لهدم كل الحكومات الاستقراطية الملكية القائمة الثابتة الحاكمة حكما مطلقا، واستبدالها بحكومات غير ثابتة متغيرة على الدوام، ذات سلطة محدودة، بدعوى تحقيق الليبرالية، التي يدركون يقينا أنها لن تكون خيرا من الملكيات والحكومات ذات السلطات المطلقة، إن لم تكن شرا منها، لكن كان لابد من الترويج لها من أجل هذا الهدف، وهو إزالة الأنظمة التي تعوق خطط الصهيونية اليهودية الماسونية في الوصول إلى الحكم.
وهم يعلمون جيدا فشل الليبرالية في تحقيق الأهداف المروجة لها، وسأنقل فقرات من البروتوكول الأول، بحسب ما جاء في إحدى ترجماتها، لنقف على تأكيد ما ذكر آنفا:
1- "لما كانت الأغلبية من بني البشر رعاعا، والندرة منهم ذوي التفوق والامتياز، فإن أقوم السبل لحكم العالم، هو إقامة الحكم على أساس التخويف والعنف، لا الحكم القائم على النقاش المجمعي(=الأكاديمي)".
2- "لما كانت الحرية السياسية فكرة مجردة عن الواقع، فمن الفرض اللازم معرفة سبيل تسخيرها، من أجل السيطرة على الجماهير، وضمهم إلى حزبنا، ويقتضينا ذلك أن نقدم الطعم الذي يوقعهم في شباكنا، وحينئذ يسع حزبنا أن يقضي على الحزب الآخر المنافس له، ويكون النصر لحزبنا محققا ومؤزرا، لأن المنافس لنا مخدر بفكرة الحرية التي جعلته ينزل عن كثير من سلطاته، وهذا دون شك فاتحة انتصارنا وهزيمة منافسنا".
3- "هناك سلطة الذهب التي صارت في أيامنا بديلا عن سلطة الحكام الأحرار، وانتهى العهد الذي كانت فيه السلطة للدين، وليس هناك مجال لتحقيق فكرة الحرية التي يتعذر استخدامها بحكمة وبصيرة، ويكفي أن يتولى الشعب حكم نفسه برهة من الزمن، ليصبح مآله إلى الفساد الذي يحيل أفراده رعاعا وغوغاء، واستقلاله فوضى تشعل فيما بينهم جحيم المنازعات والخصومات التي تتحول إلى ثورات اجتماعية، تودي بالحكومات إلى السقوط والفناء، وسيان وقوع الدولة في فتن داخلية تفضي بها إلى الانهيار، أو تسلمها إلى عدو خارجي، فالأمر في الحالين واحد، وهو الزوال الذي يدفع بها إلى قبضتنا، وحينئذ تبرز سلطة المال الذي هو أيدينا لتكون للشعب طوق النجاة، الذي نرميه إليه، فيتشبث به من تلقاء نفسه، طمعا في النجاة من الغرق، وهو مجبر على التعلق به".(31/46)
4- " أفي وسع رجل ذي حكمة وتبصر وركانة أن يحكم الغوغاء حكما رشيدا ناجحا، باتخاذ الحرية في النقاش بين الحكومة والمعارضة؟، وسواء أكانت المعارضة موفقة أم غير موفقة فإن ما يكون غير سليم أو معوجا لا تفطن العامة له، لأنهم مجردون من الفكر العميق والإدراك السليم، ويجرون وراء الأشكال والظواهر، ويعجزون عن النفاذ إلى الحقائق والبواطن، ويمشون خلف الميول والأهواء المتقلبة والمذاهب التي تلعب بالعواطف، والعامة أغبياء أغرار، وكذلك من ارتفعوا من صفوفهم، وكلهم غرقى الخلاف الحزبي الذي يقضي على إمكان الاتفاق بين المعارضة والحكومة على أي قرار، ولو كان هذا القرار ضامنا الخير والمنفعة، وكل قرار متخذ موقوف على فرصة تحققه أو أغلبية تؤيده ليس بالقرار السليم، لأن جهلها بأسرار السياسة وخفاياها يبعد عنها التوفيق فتخرج بقرار خاطيء، تكمن فيه بذور الفساد، التي تثمر وقوع الحكومة في فساد أشد مصحوب بالفوضى".
5- "أتستطيع جمهرة الشعب أن تصرف شئون الدولة في هدوء وفي نجوة عن التحاسد والتباغض، إنها تبني إدارتها لشئون الدولة على الأهواء الذاتية والمصالح الخاصة، وذلك يفقد الحكم الثبات، كما يفقد الأمة القدرة على حماية نفسها من العدوان الخارجي".
6- "من المستحيل نجاح خطة تكثر أيدي واضعيها، لأنها تفقد الإحكام بسبب كثرة الأيدي التي تضعها، فتتجزأ أجزاء بقدر عدد الشعب، وعندما تفقد الخطة تماسكها بالوحدة تفقد الأحكام فتتبدد، وعندئذ يستحيل فهمها وتطبيقها وتنفيذها، ولا يمكن وضع مخطط محكم ناجح إلا على يد حاكم مطلق الإرادة، تجتمع في قبضته أجزاء الحكومة التي يوزعها على مختلف الإدارات والرؤساء، ويكون رأس كل جزء في قبضته، ذلك هو الضمان الوحيد للنجاح الذي يضمن أن السلطة كلها في يد حاكم فرد مطلق، تحقق أو تقراطيته رخاء البلاد وسعادتها، والحضارة نفسها ليست وليدة الدهماء، وإنما هي نتيج الفكر الفرد الذي يقود الدهماء، وتحت رعاية الحاكم المستبد أيا كان هذا الحاكم تزهو الحضارة لا تحت رعاية الغوغاء".
7- "الرعاع أو الجمهور قوة همجية تؤكد كل تصرفاتها هذه الهمجية، وعندما يتمتع الرعاع بالحرية تظهر الفوضى التي هي قمة الهمجية".
8- "وأما شعارنا فهو القوة والرياء، ففي الأمور السياسية يكون النجاح وليد القوة، وبخاصة عندما تكون القوة اللازمة لرجل السياسة (الحكم) مطلية بالعبقرية التي تسترها، ويجب أن يكون العنف مبدأ، قاعدته: الرياء والمكر، في السيطرة على الحكومات".
9- "كنا أول من نادى في العصور الغابرة بكلمات: الحرية، والمساواة، والإخاء؛ فاجتذب النداء الناس، وأخذوا يهتفون بها ويرددونها في كل أقطار الأرض ترداد الببغاء، دون فهم أو إدراك أو شعور، وأدى بهم الهتاف الببغائي إلى عرقلة التقدم الإنساني في العالم، وحرمان الفرد من حريته الذاتية الأصيلة، التي كانت في مأمن من عبث الجماهير، وأدعياء العلم والفطنة من الجوييم لم يفهموا مدلول هذه الكلمات، ولم يتبينوا التناقض فيما بينهن في المعاني، ولم يفطنوا إلى ما في مدلول كل منهن من خلاف، وفاتهم إدراك الاختلاف في أصل الطبيعة نفسها، إذ ليس فيها مساواة قط، كما أنه ليس فيها حرية أبدا، والطبيعة هي نفسها التي أوجدت الفروق في الأذهان، والأخلاق، والطاقات، والكفايات، وجعلت هذه الفروق ثابتة ثبات الخضوع لها فيما أوجدت من سنن وقوانين".
10- "فات هؤلاء الجوييم أن يدركوا أن الجماهير قوة عمياء، وأن النخبة المختارة من بينهم للحكم مثل الجماهير عمي في السياسة، وفي وسع أي أرعن أن يحكم إذا قدر له اعتلاء منصته، وفات الجوييم أن يدركوا أن السياسية لا تتطلب أذكياء متفوقين في ملكاتهم العقلية، وجهلوا فقه السياسة، وإنما تتطلب أفرادا فقهوا أسرارها وإن خلوا من كل مزية لا دخل لها في السياسة، وكل هذا مما فات الجوييم إدراكه، مع أن الحكم الملكي لديهم فطن لهذا المبدأ منذ زمن، إذ جرت العادة أن يلقن الأب ابنه دروس السياسة ويفقهه في أسرار التطور السياسي دون أن يحضر هذه الدروس غير أفراد الأسرة المالكة، وكان الشعب بمعزل عن ذلك حتى زال هذا المبدأ زوالا أدى إلى نجاح مخططنا".
11- "إن هتافنا بكلمات: الحرية، والمساواة، والإخاء؛ مع جهود دعاتنا المسخرين اجتذب في كل أنحاء العالم جيوشا جرارة من البشر، حملت أعلامنا بكل فخر وحماسة، في حين أن هذه الكلمات الساحرة كانت سوسا ينخر في كيان سعاد المسيحيين(الجوييم) ومعول هدم للأمن والسلام والوحدة لديهم، وأداة تدمير أسس دولهم، وكان هذا من أسباب نصرنا، كما سترون، ومن هذا النصر وصول الورقة الرابحة إلى أيدينا، ويسرت لنا القضاء على طبقة الأشراف المسيحيين، ونسف ما كان لهم من شرف احتكروه لأنفسهم، وبذلك تم سحق أرستقراطية الجوييم التي منحتهم الرفعة والحصانة والامتياز على الطبقات الأخر، كما كانت هذه الأرستقراطية سند الشعوب الوحيد الذي يقف في وجهنا".(31/47)
12- "مفهوم الحرية المجرد أقنع الشعب بأن حاكمه ليس إلا وكيلا عنه في تصريف شئونه، وفي الوسع الاستغناء عنه وخلعه، كما يخلع القفاز من اليد إذا بلي، وعملية تغيير نواب الشعب قد دفعت بهم إلى قبضتنا، وجعلت تعيينهم من قبلنا، وأمرهم في أيدينا".
والخلاصة:
أن العنف والقوة والحكم المستبد المطلق هو السبيل الوحيد للاستقرار والحضارة والرخاء والسعادة للدولة، كما كان يقول "هوبز"، والعلة أن الجماهير غوغاء رعاع، لا تدرك كنه الأمور، وتجهل مصالحها وما فيه سعادتها، أما الحرية السياسية فهي مجرد فكرة، ولا ينتفع من تطبيقها بشيء، بل تفاقم المشاكل وتزيدها، ذلك أن الجماهير غير مؤهلة، لما بينها تحاسد، وخلافات، وأهواء شخصية، ولأن الخطة السياسية تفقد - بسبب كثرة الأيدي التي تضعها تماسكها، فتتبدد، ويستحيل تطبيقها.
وإذا كان الأمر على هذا النحو، فلم إذن الترويج للحرية(= الليبرالية)؟.
الجواب:
لإزالة الأنظمة السائدة، من حكومات ملكية أرستقراطية دينية، وفتح الباب لتغييرها كلما دعت الحاجة والمصلحة الصهيونية الماسونية اليهودية.
إذن، اليهود كانوا وهم يروجون لليبرالية يعلمون أنها شعار أجوف، ليس وراءها أية فائدة للجماهير، بل تفاقم مشكلاتهم وتزيدها حرجا، لكنها سبيل لتحقيق أهم أهداف اليهودية الصهيونية:
[إزالة الحكومات القائمة إلى الأبد، ثم السيطرة على الحكومات البديلة من خلال النظام الديمقراطي]
ومن هنا أطلقوا تلك الشعارات، ونادوا بها، وصدقها الغوغاء والرعاع، وتبنوها، وصاحوا بها، وهم لايدركون حقيقتها، ولا ما فيها من تناقضات، واختلافات، ومعارضة لأصل الطبيعة البشرية!!.
--------------------
مراجع البحث:
- موسوعة لالاند..
- الموسوعة الفلسفية العربية..
- الموسوعة الميسرة..
- بروتوكولات حكماء صهيون..
- أحجار على رقعة الشطرنج..
- فخ العولمة..
- مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة..
- مجموعة مقالات...
03-05-2004
http://www. r assid.com المصدر:
=============(31/48)
(31/49)
انتبهوا... هناك فرق بين الليبرالية والعلمانية
سعيد بن صالح الغامدي
كتب إلي أحد الإخوة يسأل: (ما الفرق بين الليبرالية والعلمانية؟).
وللأسف فقد أدركت أثناء مناقشاتي مع الكثير من الأفاضل أنهم لا يفرقون بين المسميين، بل إن بعضهم يظن أن العلمانية أخطر من الليبرالية، وهذا نتيجة التباس معنى الليبرالية على الكثيرين.
وللتفصيل نقول:
العلمانية لا تعني نفي الدين، ولا سلطته، بل ترى أن سلطة الدين يجب أن تتميز عن سلطة الحكم السياسي.
لذلك نجد اليوم أن الفاتيكان يمثل دولة قائمة بذاتها في حدودها الخاصة لدرجة أن للفاتيكان سفارات في الدول الأخرى غير إيطاليا.
والعلمانية لا تمنع أن يكون للكنيسة سلطة، لكنها تضع حدودا بين سلطة الكنيسة وسلطة الحكم.
أما الليبرالية فإنها تمنع أن يكون للكنيسة سلطة إذ أنها ترى أن الدين مسألة خاصة، وقد رأينا من قبل أن (مل) يقول: : "إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يعتبر الفرد غير مدرك لمصلحته"، لذلك لا يمكن للكنيسة أو أي هيئة دينية إسلامية أو غيرها أن تتدخل لتحرم على الأفراد فعلا ما.
ثم أن العلمانية ترى أن للسلطة السياسية الحق في المنع والتحريم، بينما ترى الليبرالية أنه لا يجوز لأي سلطة مهما كانت أن تحرم على الناس شيئا أو تمنعهم منه، لأن ذلك يمس بحرياتهم.
إذن يتبين أن العلمانية ليست سوى فصل لسلطة الدين عن السياسة، وليس فصل الدين عن السياسة كما يقول الغير... ويمكن لأي نظام جمهوري أو ملكي أو غيره أن يحكم الناس، بينما ترى الليبرالية إزالة الأنظمة والتقليص من مساحة تدخلها في حياة الأفراد، لذلك فهي تنادي بالملكية الدستورية، والتي تعني تحويل الحاكم إلى مجرد صورة، في الوقت الذي يتم فيه دعم الطبقات الأرستقراطية على حساب الشريحة الضعيفة من الشعب.
إن العلمانية مذهب يقوم على إبعاد الدين عن السياسة ثم لا يهم كيف يتم تنظيم الرؤية السياسية بعد ذلك فقد يكون هذا التنظيم عبر الديمقراطية، وما يسمى بحكم الشعب، وقد يكون بالملكية، وقد يكون بالليبرالية، حيث تفتك النخبة الأرستقراطية الحكم من يد النظام ومن يد الشعب، باسم المجتمع المدني، وهذا قريب من معنى البرلمان.
فالبرلمان ليس ممثلا للشعب فعلا إذ أن عضو البرلمان ينتخبه الشعب غير أنه بعد ذلك لا يعود إلى الشعب لا في صغيرة ولا كبيرة، فتمثيل البرلمان للشعب تمثيل صوري، كما أن البرلمان يفتك التشريع من يد السلطة.
إن الليبرالية من هذا المنطلق أخطر من العلمانية.
لنتصور واقعا تقوم فيه الكنيسة أو أي جهة أو هيئة دينية بممارسة الدعوة وبيان الحق ونصح الناس وتحذيرهم من السوء وإنكار منكرهم ومع هذا لا تتدخل هذه الهيئة في التشريع، لأن هناك برلمانا، ولا في التنفيذ لأن هناك أجهزة تنفيذية، ولا في القضاء.
هذه هي صورة العلمانية.
أما صورة المجتمع الليبرالي فالناس فيه يعيشون بنظام ما قبل وجود القانون، أي أنه لا وجود للسلطة، وليس هناك غير مجتمع مدني فيه جمعيات ومنظمات يسيطر عليها الأرستقراطيون، أما من الناحية الدينية، فإن الناس يفعلون ما بدا لهم ولا يحق للكنيسة ولا لأي هيئة دينية أن تحرم على الناس هذا الأمر أو تستنكر هذا الفعل، لأن الاستنكار يدل على احتكار الحق وهو نوع من تجريد للآخر من حريته.
فإذا كنت في الطريق ووجدت سكران فإنه لا يجوز لك أن تتدخل في خياره لتؤنبه أو تبين له أنه أخطأ فهو حر، مثلما أنك حر.
18-05-2004
http://www. r assid.com المصدر:
=============(31/50)
(31/51)
نظرة في: "..الليبرالية.. " من الداخل (1 )
مقدمة:
لم يكن هذا البحث إلا أثرا عن قناعة بخطر الفكرة "الليبرالية" على مجتمعنا الشرقي، بعد أن تفاقمت سلبياتها على المجتمعات الغربية، وهبت رياحها علينا - منذ أمد ليس بالقصير - فأصابنا منها ما أصابنا، لكن لم يكن بالقدر الذي أصابهم، ربما لاختلاف النفسية الشرقية عن أختها الغربية.
ومن العجيب أن نرى دعاة لهذه الفكرة بيننا، يفتخرون بها، ويتسمون بها، ويجاهرون بتقدمها، وصلاحها لعلاج كافة السلبيات المتراكبة المتراكمة في النواحي: الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية..
وينادون أن الحل في "الليبرالية، دون متابعة لما يجري في الغرب، مصدر الليبرالية، من معارضة وانتقاد لهذا النهج، بعد ظهور سلبياته المدمرة، المغلفة بالشعارات الجميلة والمكاسب الظاهرة.
ويدور في الذهن سؤال:
- هل أولئك الذين ينادون بالليبرالية، ممن يعيش في بلاد إسلامية، يدركون مفهوم "الليبرالية"، كما قرر له ووضع، أم أن لهم مفهوما يختلف عن ذلك؟..
إن مفهوم الليبرالية، كما وضع له في الغرب، يصطدم بالدين الإسلامي، بل كافة الشرائع، في أصول لايستهان بها، كاستبدال الحكم الإلهي بالحكم البشري، فيما يسمى بالديمقراطية، وكذا الحرية المطلقة في الاعتقادات، بالتغيير والتبديل، وغير ذلك..
فكيف يستقيم لمن يفهم هذه الحقائق عن "الليبرالية" أن يدعو لها، ويزعم صلاحها، وهي معارضة تماما للإسلام.. إذا كان مسلما؟!!.
أما إن كان له مفهوم خاص عن "الليبرالية"، لا يتعارض مع الأصول الشرعية، فالحق أن هذا ليس هو"الليبرالية"، بل هو شيء آخر، ومثل على ذلك:
في المغرب أسس: "الحزب المغربي الليبرالي"، وفي إطار التحضير لتأسيس الحزب، وبدعوة من جريدة "الصدى"، ألقى المؤسس محمد زيان يوم الأحد 21/1/2001 عرضا حول أسس الحزب، ومنها:
- "منع المنع" الذي يعني الحرية الكاملة، في العمل والمبادرة، والتي لاتقف إلا عند حدود القانون.
- منع الامتيازات التي تتنافى مع مبدأ مساواة المواطنين، وتكافؤ الفرص أمام الجميع.
بعد ذلك أضاف شرطا فحواه:
- إذا ثبت بآية صريحة أو حديث صحيح أن هناك تعارضا بين هذه الليبرالية ومباديء العقيدة، عطلنا العمل بهذه الليبرالية، وضحينا بها، من أجل ما تفرضه مبادئ الإسلام.
كان هذا الشرط فاسخا، حسب وصف: محمد بودهان، الذي قال:
" وبقراءة فاحصة ومحللة لكلام الأستاذ زيان، سنستنتج بسهولة أن كلامه عن الليبرالية والحزب الليبرالي مملوء بمفارقات لاتطاق، مفارقات قاتلة، تثبت ما يريد نفيه، وتنفي ما يسعى إلى إثباته، لنشرح ذلك:
لقد أكد أن الليبرالية تقوم على مبدأ منع المنع، أي على الحرية التي ينظمها القانون، وليس الأهواء والأمزجة الشخصية للحاكمين ورجال السلطة، لكن الأستاذ زيان يخرق هو نفسه هذا المبدأ في الفلسفة الليبرالية، عندما يشترط في هذه الأخيرة، أن لا تكون في تعارض مع العقيدة الإسلامية، أي يمنع عن الليبرالية أن تكون غير إسلامية، في حين أن من مبادئ الليبرالية:
أنها لاتمنع أي دين، ولاتدعو إلى أية عقيدة..
إذ عقيدتها الوحيدة هو الحياد تجاه كل العقائد، أي العلمانية، التي هي النتيجة المنطقية والعملية لمبدأ: منع المنع.
ويكفي للتدليل على ذلك أن نشير إلى أنه لاتوجد في العالم أية دولة ليبرالية وديموقراطية حقيقية دون أن تكون علمانية، فالمبدأ الفلسفي العام الذي يحكم الليبرالية إذن هو العلمانية، فلا يمكن تصور فلسفة علمانية يكون من مبادئها الولاء لهذا الدين أو ذاك، أو الدفاع عن هذه العقيدة أو تلك".
وهكذا فإن "الليبرالية" ذات أسس وقواعد وأفكار محددة سلفا، فأي خرق لتلك الأمور نفي وإلغاء لما يقوم عليها، وهذا أمر ينبغي على كل من يدعو إلى فكرة ما مثل "الليبرالية، أن يفهمها بوضوح، كيلا يقع في مغالطة صريحة، فيلبس فكرة غير لباسها الملائم، ليعري في الحين ذاته عقيدة ومبدأ من لباسه.
والفكرة في أول نظرة إليها، يتكون لها في الذهن تعريف مجمل غير دقيق، قد يصيب بعض حقيقتها، لكن بالتأكيد لن يكون ضابطا محددا جامعا دقيقا، إلا بالبحث والنظر والاستقصاء..
ونحن ندعو كل من أعجبته فكرة ما، أو أراد، أو اعتنق فكر ما، أن يبادر قبل ذلك إلى دراستها حتى يكون على بينة من أمرها، كيلا يأسف يوما على ضياع وقت أو هدف، لأجل خطأ في الاختيار..
ومساهمة في حل هذه المشكلة:
[مشكلة الاختيار الصحيح، والتعرف الدقيق على فكرة ما..]
نقدم هذا البحث الموجز حول "الليبرالية، وفقراته العامة ما يلي:
- ظروف تكوّن الليبرالية.
- حقيقة الليبرالية.
- الليبرالية من الداخل.
وتحت كل فقرة من هذا الفقرات نقاط، تكشف عما فيها، مما يبينها ويوضحها.. والله المعين.
----------------------------------------
- ((.. ظروف تكوّن "الليبرالية":..))
الليبرالية فكرة إنسانية أوربية الولادة والمنشأ..
ونعني بـ"الإنسانية" أن الإنسان محورها، فمن أجله صدرت الفكرة وقررت وأسست وقعدت، أي لأجل منافعه وكرامته، ورفع معاناته من ذوي السلطة الدينية والدنيوية.(31/52)
- "رسالة الليبرالية: حماية الفرد والدفاع عن سيادته وصيانة كرامته، فإذا ضاعت حقوق الفرد، ضاعت الليبرالية".
ونشأتها في أوربا خاصة دون غيرها يفرض دراسة الظروف التي عنها ظهرت وتكونت الفكرة، ولعل في بيان كونها إنسانية المذهب إشارة إلى واقع تلك الظروف..
إن مضمون الفكرة التمرد والرفض لكل أشكال السلطة الخارجية المانعة، من تحقيق الاستقلال الذاتي الفردي، وفي المفهوم الفيزيائي أن:
[لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في المقدار، مضاد له في الاتجاه].
لكن والتجارب تشير إلى ذلك - ربما يكون رد الفعل أكبر في المقدار من الفعل الأصل، ذلك أن الفعل إذا كان ضد الفطرة والعقل، فإن الفعل المضاد يكون عنيفا مدمرا، خاصة إذا جاء بعد تراكم طويل للأفعال المضادة للفطرة والعقل، وهو أشبه بالسيل المندفع بقوة، إذا اجتمع وراء سد ضعيف.
وهكذا نشأت الليبرالية في أوربا.. رد فعل عنيف مدمر على انتهاك بيّن لقيمة الإنسان باسم الدين والإقطاع والملكية، هذا الثالوث الذي حطم كرامة الإنسان الغربي، فلم يبق فيه مساحة لأدنى حرية.
نتبين ذلك من خلال هذه اللمحة الموجزة عن تاريخ أوربا حتى ظهور وتكوّن "الليبرالية":
-----
- أوربا تعتنق النصرانية:
اعتنقت أوربا النصرانية (عام 325م) بعد مجمع نيقية، بأمر من الإمبراطور قسطنطين، ولم تعتنق دين المسيح عيسى - عليه السلام -، بل دين اليهودي بولص (= شاؤول)، الذي دخل في النصرانية بعد وفاة المسيح، فأدخل فيها الوثنية، وكانت أوربا قبل ذلك تحت الحضارة الرومانية الجاهلية، فلم تنتفع من الدين الجديد بشيء، بل انتقلت من وثنية إلى وثنية، لكن الوثنية الجديدة كانت كارثة كبرى على أوربا، حيث حطمت حضارتها، وابتدأت بها عصورها الوسطي المظلمة، التي امتدت من عام 410م (تاريخ سقوط روما بأيدي البرابرة) إلى عام 1210م (تاريخ ظهور أول ترجمة لكتب أرسطو في أوربا)..
ثمانية قرون من التيه، اصطلح المؤرخون الغربيون على تسميتها بالعصور المظلمة، حيث الانحطاط الكامل في كافة الفنون والعلوم، وكل ذلك تزامن مع انتشار النصرانية في أوربا، وانتقال العاصمة من روما إلى القسطنطينية بعد الاجتياح البربري..
فهما حدثان:
- اعتناق أوربا للنصرانية.
- الاجتياح البربري لروما وانتقال العاصمة إلى القسطنطينية، وما تلاه من انهيار الحضارة.
ربط بينهما بعض المؤخرين، مثل إدوراد جيبون أكبر مؤرخي تلك الفترة، وحكم بأن سبب انهيار الإمبراطورية الغربية: تحولها من الوثنية إلى النصرانية..
ومن هنا ارتبطت الوثنية بالحضارة والقوة، والدين بالهزيمة والانحطاط في الذهنية الأوربية، منذ فترة مبكرة، وهو ما كان له آثار بعيدة المدى في علاقة أوربا بالدين.
فالربط بين انهيار الحضارة الرومانية بتحول أوربا إلى النصرانية، والممارسة الكنسية الدكاتورية، حمل الأوربي على التشاؤم والنفور من الدين جملة، وكان له الحق في ذلك..
وقد كان من الممكن أن يكون الإسلام هو الدين البديل الصحيح، المصحح للذهنية الأوربية كثيرا من الأفكار السلبية التي علقت بها تجاه الدين، لولا أن البابوات أججوا العنصرية والكراهية تجاه الإسلام بوصفه بأبشع النعوت، وحملوا الشعوب على الخروج لقتال المسلمين فيما عرف بالحملات الصليبية، وهي وإن كانت لها الأثر الكبير في ترسيخ النفور من الإسلام، إلا أنها كذلك كانت نقطة تحول كبير في التاريخ الأوربي..
لقد كانت الحروب الصليبية بالنسبة لأوربا كشف غطاء عن ناحية مستورة لم تدرك يوما وجودها، من القيم والكرامة والحضارة، ففتحت عينيها بعد طول غمض على واقع جميل، لم تحلم به يوما، وهي تعيش تحت سلطة: البابوات، والإقطاعيين، والملوك.
عندما يعيش الإنسان حياة لايرى فيها إلا وجها واحدا، سيظل لايرى إلا ذلك الوجه، وهو يظن أنه الأمثل، ولن يتطلع ولن يبحث في الآفاق وفي الأنفس، جهلا بما وراء ذلك، بما ضرب عليه من الحدود والأسوار..
لكن الاحتكاك سنة البشر، وبه تشرق الأوجه الأخرى، وفي حال أوربا فإن احتكاكها بالمسلمين بدأ بالحروب التي ابتدأتها، وبها اطلعت على أوجه جديد للحياة الإنسانية المشرقة، لم تعهدها من قبل، وأحست بالظلم والاستخفاف الذي أركست فيه، وكان محور القضية "الإنسان" من حيث كرامته وحريته، التي تحفظ عقله، ونفسه، وماله، وعرضه، والحرية نزعة إنسانية مترسخة، لايتردد الإنسان في بذل كل شيء لأجلها، والذي يغري بها، ويحرك النفس إليها، سماع أخبارها، لكن من يعاينها ويعايشها يكون أشد تحركا لتحصيلها، وهذا بالضبط ما كان من شعوب الغرب بعد احتكاكها بالشعوب الإسلامية..
- لقد رأت أوربا عظم مدن الإسلام، فأصغر مدينة كانت تبلغ عشرة أضعاف العاصمة روما.
- وأوربا التي لم تعرف قرونا كتابا إلا الإنجيل، ولا قارئا إلا القسيس، تذهل للمكتبات الهائلة في مدن الإسلام، وهي تحوي كل الفنون، من الفلك إلى الأدب.
- وفي الوقت الذي كان فيه الأوربي لايستطيع القيام بصلاته إلا من خلال القسيس، يرى المسلم يعبد ربه بلا واسطة، في بيوت كثيرة.
- والشعب الأوربي الذي جله يعيش العبودية، يجد المسلمين أحرارا، يفعلون ما شاءوا.(31/53)
- وبينما كانت الكنيسة تحرق وتعذب العلماء، كان لعلماء المسلمين المنزلة والقدر الكبير.
- وقد رأوا كيف يتعامل المسلمون بالعهود والمواثيق في السلم والحرب، عكس ما كانوا عليه.
- وفي الوقت الذي كان الأوربي يعتقد أن القيصر من نسل الآلهة، وأن الله أعطاه حقا مطلقا في الحكم، يرى المسلمين وسلاطينهم تارة من العرب، وتارة من الترك، وهم بشر كسائر البشر.
- وبينما كان الغرب منغلقين، لايعرفون إلا أوربا، كان المسلمون يجوبون الأرض شرقا وغربا، حتى إنهم اكتشفوا أجزاء من شمال أوربا قبل أن تعرفها أوربا، هذا عدى العالم الشرقي برا وبحرا.
- أوربا التي كانت تتداوى بمركبات من الروث والبول وأشلاء الحشرات الميتة، تفاجأ بالعالم الإسلامي زاخرا بالمستشفيات والمعامل القائمة على المنهج التجريبي، والموسوعات الطبية.
لقد كان الاحتكاك نقطة التصحيح والانطلاق من الأغلال، لكن هذا التحرر لم يحدث بين يوم وليلة، بل امتد قرونا، كان التحرر فيها يسير ببطء، لكن بإصرار، يظهر ذلك في محاولات العلماء كسر طوق الكنيسة حول المسائل العلمية، وتحملهم لأجل ذلك التعذيب والقتل والتحريق، وكذا الحركات الإصلاحية، مثل حركة مارتن لوثر وكالفن..
لقد بلغ إعجاب أوربا بالحضارة الإسلامية أن الإمبراطوا فرديدرك الثاني، وهو من أكبر أباطرة القرون الوسطى كان يتحدث العربية، وكان بلاطه عربي العلم واللسان، وحينما قابل الملك الكامل الأيوبي للصلح لم يحتج إلى مترجم، ولهذا اتهمته الكنيسة بالإسلام، وسمته الزنديق الأعظم.
وظهرت في أوربا حركة تحطيم الصور والتماثيل في أوائل القرن الثامن الميلادي (= القرن الأول/ الثاني الهجري) وممن أصدر مرسوما بذلك الإمبراطور"ليو الثالث"، إلى أن عادت إلى الوثنية والتصوير مرة أخرى بأمر الإمبراطورة "إيريني" بعد مجمع نيقية الثاني 787م.
وكان نقد الغرب لمنطق أرسطو واتخاذهم المنهج التجريبي بدلا من الفكري المجرد، تقليدا للمسلمين الذين رفضوا هذا العلم الإغريقي قبلهم بقرون..
ثم إن هذا التمرد الأوربي ما زال يكبر ويعظم، حتى كانت الثورة الفرنسية 1789م البداية الفعلية لجني الثمرة، وتحقيق الحرية حسب المفهوم والقواعد التي وضعت لها على يد المفكرين الغربيين.
-----
"ورغم أن الليبرالية هي ظاهرة حديثة نسبيا، فإن بعض تباشيرها تظهر عند:
- ديمقراطي أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد.
- وعند الرواقيين.
- وفي المراحل الأولى من المسيحية.
- ثم في حركة الإصلاح البروتستانية:
- ففي خطبة بركليس (495-429ق. م) الشهيرة، التي أبّن فيها قتلى أثينا، الذين سقطوا في بداية الحرب ضد أسبرطه، صياغة بليغة لمبدأ مساواة جميع المواطنين أمام القانون، كما أن فيها تعبيرا واضحا عن أهمية الفرد ومسؤوليته السياسية.
- كذلك فإن بروثاغوراس (485-399 ق. م) جعل الفرد مقياس كل شيء، وشارك ديموقريطس (460-370 ق. م) قناعته بأن القوانين والمؤسسات هي من صنع الإنسان، وأن الإنسان بالتالي، مسئول عنها.
- ويبقى سقراط (470-399 ق. م) في حياته وتعاليمه نموذجا فذا للإيمان بقدرة العقل وأهميته، ولضرورة إخضاع معتقداتنا للنقد والتدقيق، في جو من الحرية والانفتاح..
- الظاهرة التي نحاول إبرازها والتي اتضحت معالمها في القرن الخامس قبل المسيح، هي خروج بعض المجتمعات اليونانية، خصوصا أثينا، من إطار المجتمعات القبلية المنغلقة، هذا الخروج الذي كاد أن يتخذ طابع الثورة، من خلال: التشديد على أهمية الفرد، والحريات العامة.
- أما الخطوة التالية على طريق الانعتاق من عقلية المجتمع القبلي المنغلق، فقد حققها الرواقييون من خلال قولهم بمبدأ: وحدة طبيعة الإنسان، ومشاركة جميع البشر فيها؛ وهذا الإنجاز مهم جدا، خصوصا أن اليونان ظلوا إقليمي النظرة، حتى في أوج حضارتهم، وفي ظل الحكم الديمقراطي، كما أن الرواقيين ركزوا على أهمية حيّز في الذات الإنسانية، لا تستطيع أن تنفذ إليه سلطة المجتمع أو أي شكل آخر من أشكال السلطة، ومتى اكتشف هذا الفرد هذا الحيز، أصبح بإمكانه أن يتمتع بقدر من السيادة والحرية، لايتأثر بتقلبات الزمان أو بأهواء البشر.
- وقد ساعد على هذا المفهوم الرواقي للحرية، المرتكز على ذاتية الفرد وخصوصيته، على انتشار المسيحية، لاسيما أن المسيحية ركزت على مبدأ المسئولية الشخصية، وأبرزت دور الضمير في تقرير أخلاقية تصرف الفرد، أو عدم أخلاقيته.
- غير أن دور الفرد في القرون الوسطى أصبح ثانويا نتيجة السيطرة الكاملة التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية على المجتمعات الأوربية برمتها، ومن هنا أهمية الدور الذي أدته حركات الإصلاح البروتستانتية ابتداء من القرن السادس عشر، ذلك أن الفرد، لا الكنسية وسلطاتها الإكليركية، بات هو المرجع في تفسير الكتاب المقدس، ومن ثم في إقرار نمط الحياة، وقد كان لهذه العودة إلى التركيز على الفرد أثر هام في نشوء الليبرالية بمعناه الحديث".
---------------------------------------
حقيقة "الليبرالية".
الليبرالية (LIBE r ALISME)كلمة ليست عربية، وترجمتها الحرية، جاء في الموسوعة الميسرة:(31/54)
"الليبرالية: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي".
ولها تعريفات مرتكزها: الاستقلالية؛ ومعناها: التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي: دولة، جماعة، فردا؛ ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاقة والانفلات نحو الحريات بكل صورها:
مادية، سياسية، نفسية، ميتافيزيقية (= عقدية).
جاء في موسوعة لالاند الفلسفية تحت مادة (LIBE r ALISME):
- "المعنى الفلسفي الحق للحرية هو: الانفلات المطلق، لابغياب النزوع، بل بالترفع فوق كل نزوع وكل طبيعة. (ج. لاشلييه)".
- "بمعنى عام، يمكن تعريف الحرية بأنها الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناس هذا النوع هي:
الحرية المادية، الحرية المدنية أو السياسية، الحرية النفسية، الحرية الميتافيزيقية.. (هاليفي)".
- "احترام استقلال الآخر؛ تسامح؛ ثقة في الآثار الحميدة للحرية".
وقد عرفها جان جاك روسو، فقال:
- "الحرية الحقة (الحرية الخُلقية كما يسميها) هي أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا".
فهي بحسب هذا المفهوم - عملية انكفاء على الداخل(= النفس)، وعملية انفتاح تجاه القوانين التي تشرعها النفس، فالانكفاء على الداخل تمرد وهروب من كل ما هو خارجي، والانفتاح طاعة القوانين التي تشرعها النفس من الداخل، ولذا وصفها روسو بقوله: "أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا"، اشترعناها نحن، لا غيرنا، ووصفها لاشلييه بقوله: (الانفلات المطلق).
ويمكن أن تمثل بالمعادلة التالية:
[انكفاء على النفس (= استقلالية) + انفتاح على قوانين النفس (= انفلات مطلق)= الليبرالية]
وكما هو ملاحظ، فالتعريف موضوعه الإنسان، دون غيره، من حيث التركيز على أهميته، بجعله محور الحياة، مما يوجب مراعاته إلى أقصى درجة، ورفع كل العوائق التي تقف أمام طموحاته، جاء في الموسوعة الفلسفية العربية تحت مادة (الليبرالية) ما يلي:
- "جوهر الليبرالية التركيز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل أنواع السيطرة والاستبداد".
- "الليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط الدولة(الاستبداد السياسي)، وتسلط الجماعة(الاستبداد الاجتماعي)".
ويمكن إدخال الإنسان (= الفرد)، الذي هو موضوع الفكرة، في المعادلة لتكون كما يلي:
[التركيز على أهمية الفرد + التحرر من كل سلطة خارجية = جوهر الليبرالية]
بيد أن طائفة من المفكرين الغربيين ترى أن حقيقة الليبرالية لابد من احتوائها مفهومين أساسين، لا تكتمل الفكرة الليبرالية إلا بهما:
الأول: المفهوم السلبي، وهو: غياب الإكراه (= الاستقلالية).
الثاني: المفهوم الإيجابي، وهو: إمكان قوة العمل العقلي (= التخلص من الشهوات).
فالحرية عند (م. برنيس) تتضمن أمرين:
- " 1) معان سلبية أساساً: غياب الإكراه(غياب إكراه الفرد: أولاً: بتأثير مادي؛ ثانيا: بتأثير أخلاقي؛ ثالثا: خصوصا بتأثير زمرة اجتماعية متشكلة سياسيا)، في كل الحالات يبدو أن اللفظ المشترك الممكن تطبيقه هو لفظ: استقلال...
- 2) معان إيجابية: إمكان قوة العمل العقلي، وهي قوة ناجمة في آن عن مزاياه الصورية(النظام والوحدة) وعن شمولية موضوعه، لكنه يعني فقط، مع تساوي كل الشروط، أن العمل الذي يجري في اتجاه ثابت، ولاسيما في اتجاه ثوابت الواقع، إنما يكتسب بذلك فعالية أعظم".
وعرف هوبز الحرية بأنها:
"غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء، وهذا التعريف هو في الواقع أساس ما سماه الليبرالي المعاصر أيزبا برلين (المفهوم السلبي) للحرية..
ويصر دعاة هذا المفهوم على أن غياب العوائق الخارجية غير كاف لوجود الحرية، فإذا كنا عبيدا لشهواتنا فنحن لسنا أحرارا".
وتمثل الفكرة الليبرالية بحسب هذا المفهوم بالمعادلة التالية:
[الاستقلالية (= المفهوم السلبي) + إمكان قوة العمل العقلي (=المفهوم الإيجابي)= الليبرالية]
وبحسب هذه المفاهيم والمعادلات والنتائج يمكن أن نصل إلى تحديد أدق لحقيقة الليبرالية بأنها تعنى:
الاستقلالية التامة للفرد، بالانكفاء على النفس، والتحرر من سلطة الغير، ثم الانفتاح على قوانين النفس والانفلات معها عند بعضهم، دون بعضهم الذي يرى الحرية في التحرر من شهوات النفس.
وهكذا نخلص إلى أن الليبرالية لا تتحقق إلا من خلال طرفين:
- الفرد في ذاته، بتحقيقه التحرر الذاتي، بالانفلات والانطلاق مع قوانين النفس أو العقل.
- الآخر، الذي يملك السلطة(= الدولة، المجتمع)، بكفه عن التدخل وفرض السيطرة.
ولهذه الحرية مجالات، هي تلك التي يوجد الإنسان فيها، لتحقيق مصلحة أو تحقيق الذات، وهي:
الفكرية، والسياسية، والاقتصادية؛ وهي مجالات حيوية، لا غنى للإنسان عنها، ولكل واحدة منها مفهوم خاص في الليبرالية(=الحرية) وإن كان يشترك في المفهوم العام مع باقيها.
وقبل أن نشرع في بيان مجالات الليبرالية يحسن أن ننبه إلى أن الليبرالية كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع لم تتبلور على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها الأساسي.(31/55)
ففي الجانب السياسي يعتبر جون لوك (1632-1704م) أهم وأول الفلاسفة إسهاما، وفي الجانب الاقتصادي آدم سميث(1723-1790م)، وكذلك كان لكل من جان جاك روسو (1712-1778م) وجون ستيوارت مل (1806-1873م) إسهامات واضحة.
وقد تقدم أن الليبرالي مذهب قضيته الإنسان، وعلى ذلك فكل المذاهب التي اختصت بهذا القضية كان لها إسهاما واضحا في تقرير مبادئ الليبرالية:
- فالعلمانية تعني فصل الدين عن السياسة، كما تعني فصل الدين عن النشاط البشري بعامة، وعلى مثل هذا المبدأ يقوم المذهب الليبرالي في كافة المجالات: السياسية، والاقتصادية، والفكرية؛ بل لا تكون الدولة ليبرالية إلا حيث تكون العلمانية، ولا تكون علمانية إلا حيث تكون الليبرالية.
- والعقلانية تعني الاستغناء عن كل مصدر في الوصول إلى الحقيقة، إلا عن العقل الإنساني، وإخضاع كل شيء لحكم العقل، لإثباته أو نفيه، أو معرفة خصائصه ومنافعه، والعقل المحكم هنا عقل الإنسان، وهكذا الليبرالية تقوم على مبدأ: أن العقل الإنساني بلغ من النضج العقلي قدرا يؤهله أن يرعى مصالحه ونشاطاته الدنيوية، دون وصاية خارجية.
- والإنسانية تؤمن بالدفاع عن حرية الفرد، والثقة بطبيعة الإنسان وقابليته للكمال، وتقرر التمرد على سلطان الكنيسة، والليبرالية كذلك.
- والنفعية تجعل من نفع الفرد والمجتمع مقياسا للسلوك، وأن الخير الأسمى هو تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس، والليبرالية كذلك..
وهكذا فكل هذه المذاهب وغيرها كان لها نصيب في صياغة المذهب الليبرالي، وهذه نتيجة طبيعية لمشكلة كان يعانيها كل المفكرين على اختلاف توجهاتهم، هي: انتهاك حقوق الإنسان.
- الليبرالية الفكرية.
- "في الذات الإنسانية حيّز لا تستطيع أن تنفذ إليه سلطة المجتمع أو أي شكل من أشكال السلطة، ومتى اكتشف الفرد هذا الحيّز أصبح بإمكانه أن يتمتع بقدر من السيادة والحرية لايتأثر بتقلبات الزمان أو بأهواء البشر".
من هذه الفكرة، يضاف إليها رفض الاستخفاف بالإنسان وجبره على اعتناق ما لايريد، والقناعة بأن السبيل الصحيح لرقي المجتمع لا يكون إلا برفض الوصاية على الفرد، نشأت الليبرالية الفكرية خاصة. جاء في موسوعة لالاند التعريف التالي لليبرالية:
- "مذهب سياسي فلسفي، يرى أن الإجماع الديني ليس شرطا لازما ضروريا، لتنظيم اجتماعي جيد، ويطالب بـ(حرية الفكر) لكل المواطنين".
وجاء في الموسوعة الميسرة:
- "على النطاق الفردي: يؤكد هذا المذهب على القبول بأفكار الغير وأفعاله، حتى ولو كانت متعارضة مع المذهب بشرط المعاملة بالمثل؛ وفي إطارها الفلسفي تعتمد: الفلسفة النفعية، والعقلانية، لتحقيق أهدافها".
فهذا المذهب لا يمنع أي دين، ولا يدعو إلى أية عقيدة أو ملة، إذ يقوم على الحياد التام تجاه كل العقائد والملل والمذاهب، فلكل فرد أن يعتنق ما شاء، وله الاستقلال التام في ذلك، لا يجبر على فكر أبدا، ولو كان حقا، وهو ما عبر عنه هاليفي بالحرية الميتافيزيقية، فهو بهذا المعنى يحقق العلمانية في الفكر، وهو منع فرض المعتقدات الخاصة على الآخرين، كما يمنع فرض الدين في السياسة، أو في شئون الحياة، وهذه هي العلمانية؛ ولذا لانجد دولة ليبرالية الفلسفة إلا وهي علمانية المذهب في الفكر.
فهو حركة وتمرد، حركة لتحقيق ذات الإنسان واستقلاليته، وتمرد ومعارضة على التقاليد والأعراف السائدة والسلطة السياسية، يرفض أن تكون إرادة الفرد امتدادا لآراء الجماعة أو الملة أو الطائفة، ويطالب بإخضاع معتقداتنا للنقد والتمحيص، في جو من الحرية والانفتاح والعقلانية والقبول.
إنه مذهب يرى الحق في أن يكون الفرد حرا طليقا من القيود، وعليه مسئولية تقصي الحقيقة، ومسئولية اتخاذ موقف خاص والدفاع عنه، هذا في ذات نفسه، وعلى كافة الأطراف ذات السلطة: مجتمع، قبيلة، حكومة، مذهب، ملة؛ أن تحترم هذا المزايا والرغبات في الإنسان، وتكف عن كل ما يعرقل تحقيق هذه الذاتية، بل وتمنع كل من يعمل على تحطيم هذه الذاتية، بمنع أو وصاية، وعليها أن توفر كافة الظروف، وتهيء السبل للوصول إلى هذه النتيجة.
- الليبرالية السياسية.
هي نظام سياسي يقوم على ثلاثة أسس، هي: العلمانية، والديمقراطية، والحرية الفردية.
- على أساس فصل الدين عن الدولة (=علمانية)..
- وعلى أساس التعددية والحزبية والنقابية والانتخابية، من خلال النظام البرلماني(=ديمقراطية)..
- وعلى أساس كفل حرية الأفراد(=حرية فردية).
جاء تعريفها في موسوعة لالاند بما يلي:
- "مذهب سياسي يرى أن المستحسن أن تزداد إلى أبعد حد ممكن استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية، بالنسبة إلى السلطة الإجرائية/التنفيذية، وأن يعطى للمواطنين أكبر قدر من الضمانات في مواجهة تعسف الحكم.. الليبرالية تتعارض مع الاستبدادية".(31/56)
ويذكر في الموسوعة الفلسفية العربية: أن الليبرالية في الفكر السياسي الغربي نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وأن لفظتي: "ليبرالي" و "ليبرالية" لم تكونا متداولتين قبل بداية القرن التاسع عشر، وأن كثيرا من الأفكار الليبرالية موجودة في فلسفة جون لوك السياسية، فهو أول وأهم الفلاسفة الليبراليين.
هذه الفكرة الليبرالية السياسية تبحث في:
[تحديد طبيعة الحكم، هل هي تعاقدية، ائتمانية، بين الحاكم والمحكوم، أم حق مطلق للحاكم؟]
والذي دعا إلى هذا البحث، أحوال وأنظمة الحكم السائدة في أوربا، حيث الصراع بين الملكيات والقوى البرلمانية.
فالملكية كانت تعتبر الحكم حقها المطلق، الموروث، الممنوح لها من خالق الكون، وحكمها بمشيئة إلهية، وثم فليس الحاكم مسئولاً تجاه المحكوم بشيء.
أما القوى البرلمانية فقد رفضت ادعاء هذا الحق، وقررت أن الحكم ليس حكرا لفئة معينة، وأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة إئتمانية تعاقدية، وبما أن الإنسان له حقوق طبيعية في الحرية والكرامة، وجب الإقرار بأن الحكم يجب أن يكون مبنيا على رضى المحكوم.
[فالشعب هو مصدر الحكم، والحكم حينئذ مسألة أمانة لا مسألة حق]
وعلى ذلك فكل حاكم معرض لمحاسبة المحكوم على نحو مستمر، وإن هو أساء استعمال الحكم الذي وضعه الشعب أمانة في عنقه، ساغ حينئذ الثورة عليه وخلعه.
وقد كان هذا بالفعل مصير الملك جيمس الثاني، الذي خلع عن العرش عام1688م في الثورة البيضاء الشهيرة، المعروفة بالثورة المجيدة.
وبذلك أقرت الديمقراطية ونحيت الحكومات ذات السلطة المطلقة، وبدأ الليبرالييون في تحديد ملامح الدولة، وتساءلوا إن كان يمكن الاستغناء عنها أصلاً أم لا؟.
فذهب نفر إلى فكرة مجتمع بلا دولة، إيمانا منهم بأن التعاون الطوعي بين الناس يغني عن الدولة، لكن الأغلبية الساحقة من السياسيين والمفكرين اعتبروا وجود الدولة ضروريا، فالأمور لا تنتظم من تلقاء نفسها، لكن اختلفوا في تحديد ملامح هذه الدولة وسلطاتها، ومن هنا نشأ في الفكر السياسي الليبرالي مفهوم "دولة الحد الأدنى"، فالحاجة إلى الدولة حاجة عملية فقط، في التنفيذ، لا في التشريع والقضاء، ولا يجوز أن توسع نطاق سلطاتها خارج الحدود التي تفرضها هذه الضرورات العملية.
فالليبرالي هنا يحد من نطاق سلطة الدولة، ولو كانت ديمقراطية، وهو يفترض أن هنالك علاقة عكسيية بين سلطة الدولة وحرية الفرد:
[كلما ازدادت سلطة الدولة وتوسع نطاقها، نقصت حريات الفرد وضاق نطاقها]
والفكر الليبرالي هنا يصر على إمكانية ائتمان المواطن على قدر من الحريات دون أن يهدد ذلك، بالضرورة، استقرار المجتمع وأمنه.
ومشكلة سوء استعمال السلطة قديمة قدم التاريخ البشري، فإذا كان وجود الدولة ضروريا، فوجود السلطة كذلك، ولابد للسلطة أن تكون بيد أشخاص معينين، لصعوبة ممارسة الجميع لها، ومتى استقرت السلطة في أيدي أولئك، فما الذي يحول بينهم وبين سوء الاستعمال؟.
هذه هي المشكلة التي نتجت عنها فكرة الليبرالية السياسية، وقد حاول منذ القديم بعض الفلاسفة وضع حل لها، فأفلاطون مثلا، كان يرى أن المشكلة تحل إذا اجتمعت السلطة والفلسفة في شخص واحد، لكن هوبز لم يرتض هذا الحل، ورفض معادلة أفلاطون:
[السلطة + المعرفة = مجتمع عادل]
مشددا على أن السلطة وحدها هي العنصر الأهم في بناء مجتمع مستقر، وهوبز من المعارضين للحل الليبرالي، وفلسفته السياسية تقوم على أن هناك علاقة عكسية بين الحرية والاستقرار، وهو يعطي الحاكم سلطة شبه مطلقة، نتيجة قناعته أنه بدون هذه السلطة المطلقة لا نظام ولا استقرار ولا أمان.
أما الحل الليبرالي الذي وضعه جون لوك وطوره مونتسيكو فيرفض حصر الخيارات بخياري هوبز:
- مجتمع لا سلطة فيه (=فوضى).
- مجتمع يساء فيه استعمال السلطة.
وهذا الحل يتركز على مبدأ ثالث هو:
- حكم القانون وسيادته، وعلى إصلاح مؤسسات المجتمع وتطويرها.
ودعاة هذا الحل يرى أن من الخطأ أن يركز على الحاكم المثالي، ومن الأصح أن نركز على:
اشتراع قوانين واستحداث مؤسسات تقلل من سوء استعمال السلطة، وتسهل مراقبة المسئولين، وتجيز معاقبتهم إن هم أساءوا استعمال مسئولياتهم.
ويفترض هذا الحل أن إغراءات سوء استعمال السلطة ستظل موجودة، ولكنه يقلل من احتمال إساءة استعمالها فعلا، وحكم القانون يعني أن المرجع الأخير لم يعد إرادة فرد ما، أو مجموعة أفراد، بل أصبح مبادئ، اتفق عليها، ودخلت في بنية المجتمع وصلبه.
03-05-2004
http://www. r assid.com المصدر:
==============(31/57)
(31/58)
الليبرالية الإسلامية والنموذج التركي
عبد الرحمن فرحانة
قدر المنطقة بحسب مارتن إنديك بين خيارين: إما الأصولية وإما اللبرلة من الليبرالية، ولكن كيف يتعاطى العقل السياسي والثقافي الأمريكي مع الظاهرة الإسلامية؟ في سياق هذه الظاهرة يقرر الدكتور فواز جرجس أستاذ العلاقات الدولية والشرق الأوسط بجامعة سارة لورنس بنيويورك وصاحب كتاب "أمريكا والإسلام السياسي: صراع الحضارات أم صراع المصالح" أن ما يتداخل في تحديد منهج التعاطي ثلاثة أبعاد: عدم رغبة أمريكا إظهار العداء المعلن مع الإسلام والإسلاميين.
تتجنب أمريكا دعماً علنياً لأي جماعة إسلامية وترتاب بشدة تجاه توجهات الإسلاميين نحو مصالحها.
يغلب على النخب السياسية الأمريكية الاعتقاد القائل بعدم التوافق بين الإسلام السياسي وقيم الديمقراطية.
وكعادته فقد تمكن العقل اليهودي الماكر من فرض موضوع "الخطر الإسلامي الأخضر" في الأجندة الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق هدفين:
تكريس الحاجة الاستراتيجية للكيان الصهيوني بالمنطقة كمشروع ذي قيمة استراتيجية للإمبريالية الغربية.
استخدام القوة الأمريكية لضرب التيار الإسلامي المتنامي باعتباره القوة الواعدة التي تتهدد المشروع الصهيوني مستقبلياً.
وقد لاقى هذا التوجه قبولاً لدى النخب السياسية الأمريكية نظراً للفراغ الاستراتيجي الذي أحدثه غياب الاتحاد السوفييتي وحاجة أمريكا لعدو منتظر لتفريغ فائض القوة لديها، ولحاجتها الأساسية لعدو خارجي للحفاظ على بنيتها الداخلية الفسيفسائية؟ خاصة أن المراقبين بمن فيهم الأمريكيون يشيرون لتآكل "فرن الصهر" الثقافي الأمريكي الذي يؤمِّن الغراء اللازم لتماسك المجتمع الأمريكي بنزعته الاستهلاكية المفرطة.
ورغم اعتماد الخطر الإسلامي الأخضر كمنظور لدى النخب السياسية الأمريكية إلاّ أنه نظراً لفشل حملة الإدارة الحالية المسماة بمحاربة الإرهاب ويقينهم أن الأفق المستقبلي سيحتلّه التيار الإسلامي فقد بدأت تتوالد داخل العقل السياسي الأمريكي خيارات متنوعة حول شكل المواجهة الحتمية مع هذا التيار.
وفي إطار تصنيف الرؤى المطروحة للمواجهة يمكن قولبتها بالخيارات التالية:
تيار المواجهة العنيفة أصحاب مدرسة صدام الحضارات وعلى رأسهم هنتنجتون تلميذ المؤرخ اليهودي برنارد لويس صاحب النظرية أصلاً، وإيموس بيرلموتر، وهؤلاء يرون أن الثقافة الإسلامية بتكوينها الأساسي متناقضة مع القيم الديمقراطية وليست هنالك فرصة للالتقاء بين الإسلام والغرب المسيحي، وهو تيار يؤمن بنظرية الدمينو ومفادها أن توافر النجاح لأي تجربة إسلامية ميدانياً سيعني تكثّف وتضاعف الظاهرة الإسلامية في مدى جغرافي غير محدود لدرجة يصعب السيطرة عليها أو التعامل معها.
في المقابل هناك تيار يتناقض مع الأول ومن رجالاته جون أسبوزيتو وليونتي هايدار وجون أنتيليس وجراهام فوللر، ويرون أن الظاهرة الإسلامية لا تمثل تهديداً للولايات المتحدة بل تحدياً يمكن التعاطي معه بلغة الحوار ومن خلال بناء قواعد لتبادل المصالح بين الطرفين.
في مخاض هذا الحراك المضطرب وفي ظل تداعيات التجربة العراقية المحرجة للإدارة الأمريكية، وكذلك وجع الملف الفلسطيني المزمن وتداخل الظاهرة الإسلامية في ثناياهما يتحدث المراقبون عن عدة خيارات عملية لواشنطن لمواجهة أزمة المنطقة عامة ومع التيار الإسلامي خاصة باعتباره الطرف الأبرز الذي سيظهر على مسرح المنطقة. ويمكن اختزالها بالآتي:
إغفال التيار الإسلامي والاستمرار في دعم الأنظمة القائمة ومواصلة حربها ضد ما تسميه الإرهاب.
الضغط على الأنظمة القائمة لخلق مساحة تؤسس على قاعدتها ديمقراطية منتقاة تتسع للنخب الليبرالية مع إنتاج معادلة خاصة لضبط إيقاع حراك التيار الإسلامي.
خيار الدمج الداعي لمشاركة الإسلاميين ودمجهم في إطار النخب السياسية الصانعة للقرار السياسي بالمنطقة وفق رؤية أمريكية ومعادلة متوافق عليها.
ولتهيئة المناخ الملائم للخيار الأخير ربما تسعى واشنطن لتفجير التيار الإسلامي من الداخل، بمعنى إحداث انقلاب داخله لإنتاج تيار يمثل الليبرالية الدينية لاستنساخ الحالة التركية التي يجسدها حزب العدالة والتنمية الذي انقلب على الإسلام المحافظ الممثل بتيار أربكان.
ومن لوازم المعادلة التوافقية المقترحة قبول أمريكا التعاطي مع التيار الإسلامي والسماح باقترابه من سلطة القرار السياسي مقابل أن يقبل هذا التيار بالديمقراطية والتعددية السياسية والثقافية وتداول السلطة وحقوق المرأة والأقليات، والأهم من ذلك القبول بمبدأ التسوية فيما يتعلق بفلسطين من أجل غلق الملف الفلسطيني وفق الأجندة الصهيونية، وتلك أمّ المشكلات.
http: //www.almujtamaa-mag.com المصدر:
=============(31/59)
(31/60)
الليبرالية نشأتها ومجالاتها ( 1 - 2 )
عبد الرحيم السلمي
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
فإن موضوع "الليبرالية" له أهمية كبيرة في الدراسات الفلسفية والواقعية من جهتين:
الأولى: الغموض الذي يحيط بالمصطلح في نفسه وعدم تصور الكثير لدلالته ومفهومه.
الثانية: تأثر كثير من أبناء المسلمين به ، وكثرة الكلام حوله بعلم وبدون علم في أحيان كثيرة.
وقد كان جيل النهضة كما يسمونه ممن شارك في دعوة المسلمين إليه ونصحهم به، وصوَّر أن نهضة الغرب وقوة حضارته المادية كانت بسبب اعتناق هذا المذهب الفلسفي ، فكثر المطبلون له من كافة أطياف المجتمع.
وما هذه المعاناة التي نعاني منها في البلاد الإسلامية مثل القوانين الوضعيَّة،والفساد الأخلاقي، وانتشار الإلحاد ، وترويج مذاهب الكافرين إلا إفرازا لهذا المذهب الفاسد.
وربما تميَّز هذا المذهب عن غيره في قربه من التطبيق العملي ، وكونه سيال يحمل مذاهب متعددة مع بقائه على وصفه كمذهب فكري وبعد سقوط الشيوعية كآيديولوجية كانت تهدد الفكر الليبرالي الغربي اغتر الغربيون كثيرا بمبدأ (الليبرالية) وصاروا يبشرون به في كل محفل ويزعمون أنه هو خيار الإنسانية الوحيد فوظفوا طاقاتهم الفكرية والإعلامية بدعم سياسي واقتصادي رهيب لنقل هذا النور!! إلى الإنسانية كلها.
ولعل أبرز نتاج فكري يدل على الغرور الكبير بهذا المبدأ عند الغربيين كتاب (نهاية التاريخ) لمؤلفه فرانسيس فوكوياما وهو أمريكي الجنسية ياباني الأصل ، وقد ظهر فيه بوضوح مدى الغرور الكبير بهذا المنهج (الليبرالية) حيث اعتبرها فوكوياما نهاية التاريخ الإنساني وليس الأمريكي فحسب.
ولقد أستغل الغربيون الليبراليون الإمكانيات الكبيرة المتاحة لديهم لنقل هذا المذهب إلى أقصى الدنيا وصناعة الحياة الإنسانية على أسسه ومبادئه عن طريق القوة السياسية والاقتصادية وتوظيف وسائل الإتصالات التي تمكنهم من مخاطبة كل الناس وفي كل الأرض.
ولعل من أبرز نتائج الليبرالية في مجال الإقتصاد (العولمة) وما تحمله من مضامين فكرية وقيم أخلاقية وأنماط حضارية وهي تحمل الرغبة الغربية في السيطرة في كل اتجاه: الحربي والسياسي والقيمي والحضاري والإقتصادي.
فضلا عما تحمله من الدمار للإنسانية في معاشها الدنيوي وقد ظهرت آثار الرأسمالية في الحياة الغربية قبل مرحلة العولمة التي هي تعميم للرأسمالية على العالم كله.
مما جعل البعض يعتبر القرن الحادي والعشرين هو قرن المفكر الشيوعي (كارل ماركس) لما يرى من تكدس الثروة بيد طبقة من الناس وانتشار الفقر والعوز في الناس و أخذ الأموال من البشر بأي طريق ، والتفنن في احتكار السلع الضرورية وتجويع البشر وإذلالهم باسم الحرية الاقتصادية.
لقد أصبح من الواضح الجلي تأثير العالم الغربي في الحياة الإنسانية في كافة المجالات ، ونحن المسلمين جزء من هذا العالم الذي يتلقى التأثير من الغرب في كل وقت ، بل ربما نكون نحن معنيين بهذا التأثير أكثر من غيرنا لأننا مع ضعفننا وهواننا على الناس أمة منافسة في قوة الدين الذي نحمله وهذا ما جعل هنتجتون في مقاله (صراع الحضارات) ير شح المسلمين للصراع في المرحلة الحالية والقادمة كبديل للشيوعية بعد سقوطها أكثر من الجنس الأصفر (الصين واليابان ودول شرق وجنوب آسيا) لأن الدين الذي يحمله المسلمون فيه من عوامل البقاء والقدرة على الصراع وإمكان التفوق والصعود مرة أخرى ما يلاحظه أي مراقب في الحركة التاريخية والمسيرة الواقعية له.
والدعوة الإسلامية إذا استطاعت أن تواجه المشكلات الداخلية فيها - مثل التفرق والفوضوية و مخالفة الهدي النبوي وغيرها فان أكبر ما يواجهها هو التيار الليبرالي في البلاد الإسلامية.
ولهذا كان من الضروري دراسة الفكر الليبرالي ومعرفة حقيقته وأبعاده لمعرفة كيفية التعامل معه وإدارة المعركة معه بنجاح ، فكانت هذه الدراسة المختصرة التي تؤدي جزءا من المطلوب ، وأتمنى من الأخوة القراء التواصل معي فيما يفيد في خروج البحث في صورته القادمة ولكل من أهدى لي ملاحظة أو تصحيح أو فائدة أو توثيق الشكر والدعاء بالأجر والثواب.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
كتبه/ عبد الرحيم بن صمايل السلمي
المبحث الأول: مفهوم الليبرالية.
من الصعوبة بمكان تحديد تعريف دقيق لليبرالية ، وذلك بسبب تعدد جوانبها ، وتطورها من جيل إلى جيل.
يقول الأستاذ وضاح نصر:
"تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمراً صعباً وربما عديم الجدوى. وفي حال تحديد الليبرالية نجد أن هذا التحديد لا ينطبق على عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين سيموا بسمة الليبرالية(1)
وقد قررت موسوعة لالاند الفلسفية الالتباس الحاصل في مفهوم الليبرالية؛ فجاء فيها "نرى من خلال التعريفات السابقة مدى التباس هذا اللفظ. ومما يزيد في الالتباس استعماله الطارئ المتداول في أيامنا للدلّ على الأحزاب أو النزعات السياسيَّة". (2)
وفي الموسوعة العربية العالمية "وتعتبر الليبرالية مصطلحاً غامضاً لأن معناها وتأكيداتها تبدَّلت بصورة ملحوظة بمرور السنين" (3)(31/61)
وقال الدكتور يوسف القرضاوي: "وأمثال هذه المصطلحات التي تدل على مفاهيم عقائدية ليس لها مدلول واحد محدد عند الأوربيين. لهذا تفسر في بلد بما لا تفسر به في بلد آخر، وتفهم عند فيلسوف بما لا تفهم به عند غيره ، وتطبق في مرحلة بما لا تطبق به في أخرى.
ومن هنا كان اختلاف التعريفات لهذه المفاهيم، وكانت الصعوبة في وضع تعريف منطقي جامع مانع يحدد مدلولها بدقة. حتى اشتقاق كلمة "ليبرالي" نفسها اختلفوا فيه: هل هي مأخوذة من (ليبرتي) التي معناها الحرية كما هو مشهور أم هي مأخوذة من أصل أسباني؟ " (4)
ولكن لليبرالية جوهر أساسي يتفق عليه جميع الليبراليين في كافة العصور مع اختلاف توجهاتهم وكيفية تطبيقها كوسيلة من وسائل الإصلاح والإنتاج.
هذا الجوهر هو " أن الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى، الباعث والهدف ، الأصل والنتيجة في حياة الإنسان، وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه" (5)
يقول الأستاذ وضاح نصر:
"وإذا كان لليبرالية من جوهر فهو التركيز على أهمية الفرد وضرورة تحرره من كل نوع من أنواع السيطرة والاستبداد ، فالليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط الدولة (الاستبداد السياسي) ، وتسلط الجماعة (الاستبداد الاجتماعي) ، لذلك نجد الجذور التاريخيَّة لليبرالية في الحركات التي جعلت الفرد غاية بذاته ، معارضة في كثير من الأحيان التقاليد والأعراف والسلطة رافضة جعل إرادة الفرد مجرد امتداد لإرادة الجماعة" (6)
وأهم ما يميز الأدبيات الليبرالية الكلاسيكية المعاصرة هو اهتمامها المفرط بمبدأ الحرية ، حيث يفترض الفكر الليبرالي أن الحرية هي الغاية الأولى والرئيسيَّة التي يتطلع لها الفرد بطبيعته.
وأنه لا يوجد إجابة مطلقة للسؤال الفلسفي المشهور: ما هي الحياة المثلى للإنسان؟ لأن لكل فرد الحق والحرية في اختيار أسلوب الحياة الذي يناسبه. (7)
إذن: مبدأ الحرية وتحقيق الفرد لذاته تمثل نقطة انطلاق في الفكر الليبرالي بكل أطيافه ، وفي كل المجالات المختلفة.
وقد ورد في موسوعة لالاند أن "هذا الاسم (الليبرالية) عينه يدل خاصة على العقائد التي تعتبر ازدياد الحرية الفردية من مثلها ، والعقائد التي ترى أن الحد من دور الدولة هو بمنزلة وسيلة أساسية لهذه الحرية" (8)
والأساس الفلسفي الذي ينطلق منه الفكر الليبرالي هو المذهب الفردي الذي يرى أن الحرية الفردية هدفاً وغاية ينبغي تحقيقها. وقد عُرِّفت الليبرالية مجموعة تعريفات بحسب المجال التي تعرَّف من خلاله. (9)
يقول منير البعلبكي: "والليبرالية تعارض المؤسسات السياسية والدينية التي تحد من الحرية الفردية... وتطالب بحقه في حرية التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة". (10)
وفي المؤسسة العربية أن الليبرالية: "فلسفة اقتصادية وسياسية تؤكد على الحرية والمساواة وإتاحة الفرص" (11)
وهذا التعريف ليس تعريفاً دقيقاً لمذهب فلسفي تغيَّر مفهومه مع السنين بسبب التقلبات الفكرية والسياسية والاجتماعية.
والحقيقة أن التعريف الدقيق لهذا المصطلح هو تعريفه بحسب المجال الذي يعرف من خلاله، نعرفها على النحو التالي: ليبرالية السياسة ، وليبرالية الاقتصاد ، وليبرالية الأخلاق... وهكذا. وهذا ما قامت به موسوعة لالاند الفلسفيّة.
وسيأتي تعريف كل نوع على حدة في مبحث مجالات الليبرالية.
وإذا تتبعنا مراحل الليبرالية التي مرت بها نجد أنها على النحو التالي: (12)
(1) مرحلة التكوين ، والمفهوم الأساسي في هذه المرحلة هو مفهوم ذات الإنسان باعتباره الفاعل صاحب الاختيار والمبادرة.
(2) مرحلة الاكتمال ، ومفهومها الأساسي هو مفهوم الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله ، وعلى أساس هذا المفهوم شيد علم الاقتصاد العقلي المخالف للاقتصاد الإقطاعي المتفكك ، وشيد علم السياسة العقلية المبني على نظرية العقد ، والمخالف لسياسة الاستبداد المترهل المنخور.
(3) مرحلة الاستقلال ، ومفهومها الأساسي هو مفهوم المبادرة الخلاّقة من المحافظة على الحقوق الموروثة ، والاعتماد على التطور البطيء ، وهو تطور من العقل الخيالي إلى الملك الواقعي.
(4) مرحلة التقوقع ، ومفهومها الأساسي هو مفهوم المغايرة والاعتراض وترك مسايرة الآراء الغالبة ، لأن الخلاف والاعتراض يبعد عن التقليد ويولد الإبداع.
ليس الغرض من بيان مراحل الليبرالية تاريخ تطور الفكر الليبرالي بل تحديد منظومة الأفكار المختلفة التي يتبين من خلالها خطأ إعطاء تعريف واحد لهذه الفلسفة صاحبة المفاهيم المتعددة.
ويلاحظ (رانزولي) أن هذه الكلمة تستعمل في إنكلترا خصوصاً بالمعنى الاقتصادي ، بينما تكاد تستعمل دائماً في إيطاليا بالمعنى السياسي الديني. (13)(31/62)
ويحاول طوكفيل أحد أقطاب الليبرالية في القرن التاسع عشر أن يحدد معنى الحرية فيقول: "إن معنى الحرية الصحيح هو أن كل إنسان نفترض فيه أنه خلق عاقلاً يستطيع حسن التصرف ، يملك حقاً لا يقبل التفويت في أن يعيش مستقلاً عن الآخرين في كل ما يتعلق بذاته وأن ينظم كما يشاء حياته الشخصية" (14)ونظراً لكون الحرية مفهوماً عاماً يوصل إلى التعارض والتنازع بين الحريات المتناقضة فإن هيمون يتمنى أن توضع الليبرالية في مقابل النظرية الانفلاتية ، وهذا تغيير لمفهوم الحرية (الانفلات)"وعندئذ يمكن أن تكون الأولى (الليبرالية)معتبرة بوصفها النظرية الأخلاقية والسياسية التي تتوق إلى حرية الفرد أيما توق ، وتحدّ في الوقت نفسه من المطالبة أو الحصول على هذه الحريات عندما تغدو إباحيات مضرة بالآخر (بمعنى إعلان الحقوق) في المقابل يمكن للنظرية الانفلاتية أن تكون صورة للفردية التي لا تعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية فهي وحدها الحكم على حقوق الفرد وفقاً لقوته" (15)
ويقابل الليبرالية مجموعة من المصطلحات المناقضة لمفهوم الحرية بالمعنى الليبرالي مثل الاستبدادية (autoc r tisme)(16) ، والحكومة الأوتوقراطية هي الحكومة الفردية المطلقة المستبدة ، و autoc r atic)) أي حاكم استبدادي. (17)
خلاصة:
الليبرالية لها مفاهيم متعددة بحسب ما تضاف إليه ، ويجمعها الاهتمام المفرط بالحرية ، وتحقيق الفرد لذاته ، واعتبار الحرية هدفاً وغاية في ذاتها.
فالليبرالية هي "نظرية الحرية" ، وهي نظرية ذات أطياف متعددة وجوانب مختلفة ، وبمقادير متفاوتة.
والحرية كما يلا حظ الباحث المدقق مفهوم عام يمكن أن يعني به الحرية المطلقة دون معنى محددا ، وقد يريد به البعض معنا محددا معينا.
ولكن المفهوم الفلسفي لهذا المذهب الفكري هو الحرية المطلقة التي لا تحدها الحدود ولا تمنعها السدود الا ما كان فيها تجاوز لحريات الآخرين على قاعدة (تنتهي حريتك حيث تبدأ حريات الآخرين).
ومن أستعمل هذا المصطلح لغير هذا المفهوم الشمولي فهو غير مصيب في استعمال المصطلح في غير مجاله وكان الأولى به البحث عن لفظ يناسب معناه غير هذا المصطلح.
وهذا يكشف مدى تردد الليبراليين العرب بين مفهوم المصطلح الفلسفي وبين انتسابهم للإسلام المناقض له من الجذور والأصول.
المبحث الثاني: الليبرالية عند جون ستوارت مل (18).
يعتبر (ملْ) من أبرز المفكرين الغربيين الذين نظّروا للفلسفة الليبرالية من خلال كتابه (في الحرية on lib r ty) (19) والذي أصبح المصدر الأساسي لفكر الليبراليين العرب من أمثال أحمد لطفي السيد ، وطه حسين ، وحسين هيكل. (20)
أخذ (مل)موضوع الليبرالية من الجهة التطبيقية والاجتماعية ولم يناقشها من الناحية الفلسفية المجردة فيقول: "لا يتناول هذا المقال ما يسمى حرية الإرادة ، وهي التي تتعارض مع ما يدعى خطأ بفلسفة الضرورة ، ولكنه بحث في الحرية المدنية الاجتماعية". (21)
وقد تحدث (مل) عن حركة الفكر وقال عن المعتقدات الدينية: "ولا أقول أن الاعتقاد بصدق العقيدة مدعاة للعصمة ، بل إن ما أقوله إن ادعاء العصمة معناه إجبار الغير على قبول ما نراه في العقيدة دون أن نسمع رأيه فيها ، ولا أستطيع أن أدعي العصمة حتى وإن كانت لحماية أعز معتقداتي".
ويقيد مل الحرية حتى لا تصبح انفلاتية متناقضة فيقول: "كلما تعين ضرر واقع أو محتمل، إما للفرد وإما للعموم ينزع الفعل الذي يتسبب في الضرر من حيّز الحرية ليلحق بحيّز الأخلاق أو بحيّز القانون".
ويقول: "إن ما يخص الفرد وحده هو من حقوقه ، وما يخص المجتمع فهو حق للمجتمع".
ويرى مل أن الدولة لابد أن يكون لها حَدّ معين تقف عنده لينمو رصيد الحرية عند الأفراد سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو غيره وأنه بدون ذلك سيتحول الأمر إلى استبداد حتى لو كان هناك حرية في مجال معين أو انتخاب تشريعي. (22)
يقول مل:
"إذا كانت الطرق والسكك والبنوك ودور التأمين والشركات بالمساهمة والجامعات والجمعيات الخيرية كلها تابعة لإدارة الحكومة ، وإذا أصبحت زيادة على ما سبق البلديات والجماعات المحلية مع ما يترتب عنها اليوم من مسؤوليات،أقساماً متفرعة عن الإرادة المركزية، إذا كانت الحكومة هي التي تعيّن موظفي تلك المصالح وتكافؤهم بحيث يعود أملهم في تحسين معاشهم معقوداً عليها ، إذا حصل كل هذا، حينئذ تصبح الحرية اسماً بلا مسمى، رغم المحافظة على حرية الصحافة وعلى انتخاب المجلس التشريعي بالاقتراع العام".
ورغم أن الديمقراطية من إفرازات الليبرالية إلا أن (مل) ينتقد الديمقراطية لأنه يعتبرها هيمنة للأكثرية على حرية الأقلية ولو كان فرداً واحداً.
يقول ملْ:
"إن مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية.. بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية".
ويقول عن إنجلترا: "ليست هذه البلاد وطناً لحرية الفكر".
وتوضيح ذلك:(31/63)
أن من مقومات الليبرالية المهمة ضرورة الاعتراض والمغايرة لينمو بذلك الفكر الحر أما إذا كانت الأمور مسلمة لا تحتمل النقد يجمد الفكر ويضمحل الابتكار.
يقول: "عندما نقبل أن تكون المبادئ مسلمات لا تحتمل النقد ، وأن تكون المسائل الكبرى التي تهم البشر موضحة بدون نقاش محدد ، حينذاك يضمر النشاط الفكري الذي طبع الفترات الذهبية من تاريخ الإنسان".
ويعتبر ذلك من أبرز صور الاستبداد لأن مخالفة الجمهور وحيوية النقاش وبلورة الشخصية الفردية هي أساس التطور والتقدم والتحديث ، ومن لم يكن كذلك فلا تاريخ له بالمعنى الحقيقي.
يقول (مل):
"إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد".
الدين في كتاب ستوارت ملْ (23)
يرى ملْ أن المجتمع الديني غير ليبرالي لأنه مجتمع في نظامه للحكم فردي استبدادي ، ونظامه الاجتماعي العام مؤسس (24)على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش المفتوح.
وهو ينتقد كل دين أو مجتمع متشدد في قوانينه الأخلاقية والدينية أي التي يضعها فوق النقاش. بما في ذلك المجتمع اليوناني في زمن نهضة العلوم ، والإصلاح الديني (البروتستانت) والمجتمع الإنجليزي والأمريكي.
ويصرح ملْ بنقد الدين في اعتراضه على تحريم تجارة الخمر ، فيقول: "إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض الفرد لا يعرف مصلحته"
وكذلك تحريم أكل لحم الخنزير ، فيقول: "إن للمسلمين الحق في تجنبهم لحم الخنزير لأنهم يعافونه ، لكنهم عندما يحتقرون غيرهم ممن لا يعافه ويأكله ، فإنهم يمسون بحرية ذلك الغير".
وهو يعارض فكرة الحسبة لأنه يعتبر ذلك وضعاً للنفس في موضع الإله ، يقول: "إن الناس عندما ينهون غيرهم عن المنكر يعتقدون أن الله لا يكره فقط من يعصي أوامره ، بل سيعاقب أيضاً من لم ينتقم في الحال من ذلك العاصي". ومن الطريف أن ستوارت ملْ يعود إلى الاعتراف بأهمية الحسبة ويناقض نفسه لمّا طرح الأسئلة التالية: هل يجوز السماح ببيع السم أو التبغ أو الخمر؟ هل يسمح للمرء أن يبيع نفسه لغيره؟ هل يجب إجبار المرء على التعلم؟ هل يجب تحديد النسل؟ ولنقارن الآن بين قول ملْ الآتي وبين إنكاره مفهوم الحسبة بأنه اتهام للإنسان أنه لا يعرف مصلحته يقول: "في كل قضية من القضايا السابقة إن عدم تدخل الدولة قد يؤدي إلى أن يضر المرء نفسه بنفسه: أن يبقى جاهلاً أو أن يبذر ماله أو أن يسمم أقرباءه أو أن يبيع نفسه ، ولكن إذا تدخلت الدولة ومنعت بعض الأنشطة ، فسيكون المنع بالنسبة للرجل العاقل تجنياً على حقه في التصرف الحر".
ويقول: " إذا كانت الدولة مسؤولة على تغذية الفقراء فلها الحق أن تحد النسل ، أما إذا تركت الناس ينجبون كما شاؤوا فليس عليها أن تعيل الفقراء" (25)
وهنا يناقض ملْ نفسه في عدة قضايا:
- في تدخل الدولة للمصلحة لأنه ليس كل إنسان يعرف مصلحة نفسه.
- في إبطال قاعدة أن الإنسان يعرف مصلحته ولا يحتاج إلى وصاية.
- في إنكار مبدأ الحسبة وتقييد الحريات المطلقة.
----------------------------------------
(1) الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الثاني القسم الثاني ص / 1155).
(2) موسوعة لالاند الفلسفية 2/725.
(3) الموسوعة العربية العالمية 21/247.
(4) الحلول المستوردة ص / 50 - 51
(5) مفهوم الحرية عبد الله العروي ص/ 39.
(6) الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الثاني - القسم الثاني 1155).
(7) مقال في صحيفة الأهرام العدد (132) إبريل 1998م: الليبرالية: نظرة نقدية دينا سماته ص / 47.
(8) موسوعة لالاند الفلسفية 2/726.
(9) انظر سلسلة تراث الإنسانية 4 / 473- 474.
(10) موسوعة المورد العربية 2 / 1050.
(11) الموسوعة العربية العالمية 21 / 247.
(12) انظر مفهوم الحرية عبد الله العروي ص / 39 40 (بتصرف).
(13) انظر موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726.
(14) الحالة الاجتماعية والسياسية في فرنسا سنة 1836م (ضمن المؤلفات الكاملة)2 / 62.
(15) موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726 727.
(16) المصدر السابق 2 / 726.
(17) انظر: المورد للبعلبكي ص /75
(18) انظر النصوص المنقولة عن جون ستوارت مل: كتابه في الحرية ضمن سلسلة تراث الإنسانية (الجزء الرابع).
(19) قسم ستوارت مل كتابه في الحرية إلى خمسة فصول ، أولها في فكرة الحرية ، والثاني: حرية الفكر والمناقشة ، والثالث: الفردية كعنصر من عناصر الحياة الطيبة ، والرابع: حدود سلطة المجتمع على الفرد ، والخامس: تطبيقات.
(20) انظر مفهوم الحرية عبد الله العروي ص / 42.
(21) المصدر السابق ص / 42.
(22) سيأتي تفصيل رأي الليبراليين في الدولة والاقتصاد في مبحث مجالات الليبرالية.
(23) النقول المنقولة عن كتاب (في الحرية)مأخوذة من مفهوم الحرية للعروي ص / 46 وقد صور العروي أن كلام (ملْ) هو نقد للإسلام. ويبدو أنه استنتاج من المؤلف ، وأن ملْ لم ينص على نقد الإسلام باسمه بل بالآراء التي توحي بذلك (هذا ما أراه).
(24) مفهوم الحرية عبد الله العروي ص / 46.
(25) حول الاقتصاد السياسي (عن مفهوم الحرية ص 531)(31/64)
http: //www.ha r amainj.net المصدر:
===========(31/65)
(31/66)
الليبرالية نشأتها ومجالاتها ( 2 - 2 )
عبد الرحيم السلمي
المبحث الثالث: نشأة الليبرالية وتطورها:
نشأة الليبرالية وجذورها:
نشأت الليبرالية في التغيرات الاجتماعية التي عصفت بأوربا منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، وطبيعة التغير الاجتماعي والفكري يأتي بشكل متدرج بطيء.
وهي لم " تتبلور كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها الأساسي وطابعها المميز.
فالليبرالية ليست اللوكية (نسبة إلى جون لوك 1632 - 1704)، أو الروسووية (نسبة إلى جان جاك روسو 17121778) أو الملّية (نسبة إلى جون ستوارت ملْ 18061873)، وإن كان كل واحد من هؤلاء أسهم إسهاماً بارزاً أو فعالاً في إعطائها كثيراً من ملامحها وخصائصها"(1)
وقد حاول البعض تحديد بداية لبعض مجالاتها ففي موسوعة لا لاند الفلسفية "الليبرالي (أول استعمال للفظة) هو الحزب الأسباني الذي أراد نحو 1810م أن يدخل في أسبانيا من الطراز الإنكليزي.)(2)
ويذكر الأستاذ وضاح نصر: " أن الليبرالية في الفكر السياسي الغربي الحديث نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وذلك على الرغم من أن لفظتي ليبرالي وليبرالية لم تكونا متداولتين قبل القرن التاسع عشر.(3)
قال منير البعلبكي: " الليبرالية(libe r alism)فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع، ثم اتخذت منذ ذلك الحين أشكالاً مختلفة في أزمنة وأماكن مختلفة(4)
والظاهر من تاريخ الليبرالية أنها كانت رد فعل لتسلط الكنيسة والإقطاع في العصور الوسطي بأوربا، مما أدى إلى انتفاضة الشعوب، وثورة الجماهير، وبخاصة الطبقة الوسطي.والمناداة بالحرية والإخاء والمساواة، وقد ظهر ذلك في الثورة الفرنسية. وقد تبين فيما بعد أن هناك قوى شيطانية خفية حولت أهداف الثورة وغايتها(5).
وبهذا يتضح لنا أن الليبرالية في صورتها المعاصرة نشأت مع النهضة الأوربية ثم تطورت في عصور مختلفة إلى يومنا هذا.
ويرد بعض الباحثين جذور الليبرالية إلى ديمقراطيّ أثينا في القرن الخامس قبل المسيح، والرواقين في المراحل الأولى من المسيحية، ثم حرك الإصلاح البروتستانتية(6).
وقد ذكر البعلبكي أن في حركة الإصلاح الديني توجهاً ليبرالياً فقال: " كما يطلق لفظ الليبرالية كذلك على حركة في البروتستانتية المعاصرة تؤكد على الحرية العقلية (7).
يقول الدكتور علي بن عبد الرزاق الزبيدي: " ومن الصعب تحديد تاريخ معين لنشأة الليبرالية فجذورها تمتد عميقة في التاريخ(8).
ويعتبر جون لوك من أوائل الفلاسفة الليبراليين وفلسفة تتعلق بالليبرالية السياسية.
تطور الليبرالية:
أخذت الليبرالية أطواراً متعددة بحسب الزمان والمكان وتغيرت مفاهيمها في أطوارها المختلفة، وهي تتفق في كل أطوارها على التأكيد على الحرية وإعطاء الفرد حريته وعدم التدخل فيها.
ويمكن أن نشير إلى طورين مهمين فيها:
أولاً: الليبرالية الكلاسيكية:
يعتبر جوك لوك (1704م) أبرز فلاسفة الليبرالية الكلاسيكية، ونظريته تتعلق بالليبرالية السياسية، وتنطلق نظريته من فكرة العقد الاجتماعي في تصوره لوجود الدولة، وهذا في حد ذاته هدم لنظرية الحق الإلهي التي تتزعمها الكنيسة.
وقد تميز لوك عن غيره من فلاسفة العقد الاجتماعي بأن السلطة أو الحكومة مقيدة بقبول الأفراد لها ولذلك يمكن بسحب السلطة الثقة فيها(9).
وهذه الليبرالية الإنكليزية هي التي شاعت في البلاد العربية أثناء عملية النقل الأعمى لما عند الأوربيين باسم الحضارة ومسايرة الركب في جيل النهضة كما يحلو لهم تسميته.
يقول القرضاوي: " وهي التي يمكن أن يحددها بعضهم ب" ليبرالية ألوكز" وهي التي أوضحها جوك لوك وطورها الاقتصاديون الكلاسيكيون، وهي ليبرالية ترتكز على مفهوم التحرر من تدخل الدولة في تصرفات الأفراد، سواء كان هذا في السلوك الشخصي للفردأم في حقوقه الطبيعية أم في نشاطه الاقتصادي آخذاً بمبدأ دعه يعمل"(10).
وقد أبرز آدم سميث (1790م) الليبرالية الاقتصادية وهي الحرية المطلقة في المال دون تقييد أو تدخل من الدولة.
وقد تكونت الديمقراطية والرأسماليّة من خلال هذه الليبرالية، فهي روح المذهبين وأساس تكوينها، وهي مستوحاة من شعار الثورة الفرنسية " دعه يعمل " وهذه في الحرية الاقتصادية " دعه يمر " في الحرية السياسية. وسيأتي التفصيل في مجالات الليبرالية.
ثانياً: الليبرالية المعاصرة:
" تعرضت الليبرالية في القرن العشرين لتغيّر ذي دلالة في توكيداتها. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العديد من الليبراليين يفكرون في شروط حرية انتهاز الفرص أكثر من التفكير في شروط من هذا القيد أو ذاك. وانتهوا إلى أن دور الحكومة ضروري على الأقل من أجل توفير الشروط التي يمكن فيها للأفراد أن يحققوا قدراتهم بوصفهم بشراً.
ويحبذ الليبراليون اليوم التنظيم النشط من قبل الحكومة للاقتصاد من أجل صالح المنفعة العامة. وفي الواقع، فإنهم يؤيدون برامج الحكومة لتوفير ضمان اقتصادي، وللتخفف من معاناة الإنسان.(31/67)
وهذه البرامج تتضمن: التأمين ضد البطالة، قوانين الحد الأدنى من الأجور، ومعاشات كبار السن، والتأمين الصحي.
ويؤمن الليبراليون المعاصرون بإعطاء الأهمية الأولى لحرية الفرد، غير أنهم يتمسكون بأن على الحكومة أن تزيل بشكل فعال العقبات التي تواجه التمتع بتلك الحرية.
واليوم يطلق على أولئك الذي يؤيدون الأفكار الليبرالية القديمة: المحافظون(11).
ونلاحظ أن أبرز نقطة في التمايز بين الطورين السابقين هو في مدى تخل الدولة في تنظيم الحريات، ففي الليبرالية الكلايسيكية لا تتدخل الدولة في الحريات بل الواجب عليها حمايتها ليحقق الفرد حريته الخاصة بالطريقة التي يريد دون وصاية عليه، أما في الليبرالية المعاصرة فقد تغير ذلك وطلبوا تدخل الدولة لتنظيم الحريات وإزالة العقبات التي تكون سبباً في عدم التمتع بتلك الحريات.
وهذه نقطة جوهرية تؤكد لنا أن الليبرالية اختلفت من عصر إلى عصر، ومن فيلسوف إلى آخر، ومن بلدٍ إلى بلدٍ، وهذا يجعل مفهومها غامضاً كما تقدم.
وقد تعرف الليبرالية تطورات أخرى في المستقبل، ولعل أبرز ما يتوقع في الليبرالية هو التطور نحو العولمة التي هي طور ليبرالي خطير وسيأتي الإشارة إليه في المبحث الرابع.
المبحث الرابع: مجالات الليبرالية:
تعددت مجالات الليبرالية بحسب النشاط الإنساني. وذلك أن الليبرالية مفهوم شمولي يتعلق بإدارة الإنسان وحريته في تحقيق هذه الإرادة فكل نشاط بشري يمكن أن تكون الليبرالية داخلة فيه من هذه الزاوية، وبهذا الاعتبار.
" إن خصوصية الليبرالي عامة أنه يرى في الحرية أصل الإنسانية الحقّة وباعثة التاريخ. وخير دواء لكل نقص أو تعثر أو انكسار "(12)
وأبرز هذه المجالات شهرة: المجال السياسي، والمجال الاقتصادي.
أولاً: ليبرالية السياسة
في موسوعة لالاند الفلسفية: " الليبرالية: مذهب سياسي يرى أن من المستحسن أن تزاد إلى أبعد حد ممكن استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية بالنسبة إلى السلطة الإجرائية التنفيذية، وأن يعطى للمواطنين أكبر قد من الضمانات في مواجهة تعسف الحكم".(13)
ويقول منير البعلبكي: " الليبرالية libe r alism فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع عشر.. تعارض المؤسسات السياسية والدينية. التي تحد من الحرية الفردية، وتنادي بأن الإنسان كائن خيّر عقلاني، وتطالب بحقه في التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة(14).
وتعتبر الديمقراطية من النظم الليبرالية التي تسعى لإعطاء الفرد حقوقه وهي نوع من التطبيق العلمي للفكر الليبرالي. يقول الدكتور حازم البيلاوي: " فنقطة البدء في الفكر الليبرالي هي ليس فقط أنها تدعو للديمقراطية بمعنى المشاركة في الحكم، ولكن نقطة البدء هو أنه فكر فردي يرى أن المجتمع لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفراد التي يسعى كل فرد فيها إلى تحقيق ذاته وأهدافه الخاصة(15).
وقد أعطت الديمقراطية كنظام سياسي جملة من الحريات السياسية مثل: حرية الترشيح، وحرية التفكير والتعبير، وحرية الاجتماع، وحرية الاحتجاج، كما أعطت جملة من الضمانات المانعة من الاعتداء على الأفراد وحرياتهم مثل: ضمان الاتهام، وضمان التحقيق، وضما التنفيذ، وضمان الدفاع".(16)
"وقد أدّت الثورات الليبرالية إلى قيام حكومات عديدة تستند إلى دستور قائم على موافقة المحكومين.وقد وضعت مثل هذه الحكومات الدستورية العديد من لوائح الحقوق التي أعلنت حقوق الأفراد في مجالات الرأي والصحافة والاجتماع والدين.كذلك حاولت لوائح الحقوق أن توفر ضمانات ضد سوء استعمال السلطة من قبل الشرطة والمحاكم"(17).
ومع ذلك فإن الليبرالية تطالب من الدول الديمقراطية مزيداً من الحريات تطالب بالتخفف من السلطة على الأفراد ليحصل بذلك الفرد على حريته.
ويرى سبنسر أن وظائف الدولة يجب أن تحصر في الشرطة والعدل والدفاع العسكري بمواجهة الأجنبي(18).
ويظهر من ذلك المطالبة بغياب الدولة إلا فيما يتعلق بالحماية العامة للمجتمع، وهذا هو رأي الليبراليين الكلاسيكيين. وقد انقرض هذا الرأي في الليبرالية المعاصرة التي جنحت إلى اعتبار الحرية الفردية هدفاً ولو بتدخل الدولة. بينما كان المذهب الأساسي عند الكلاسيكيين المطالبة بغياب الدولة مهما تكن نتائجه على الفرد(19).
وقد اختلف الليبراليون الكلاسيكيون مع الديمقراطيين في من يملك حق التشريع العام، فالديمقراطيون يرون أن الأكثرية هي التي تقرر وتشرع وتمسك بزمام السلطة. أما الليبراليون فقد اهتموا بحماية الفرد من الأذى، وأن هذا هو مهمة القانون بدل التشديد على حق الآخرين بسبب الأكثرية، وهذه من نقاط التصادم بينهم"(20).
ولكن الليبرالية اختلفت في الواقع المعاصر عمّا كانت عليه سابقاً.
ويمكن أن نطلق على التوجه الجديد (الليبرالية الجديدة) وبرروا ذلك بأنه نتيجة لعدم مسايرة الليبرالية التقليدية للتطور الذي شهده العالم كان ذلك هو السبب في ولادة ليبرالية جديدة تتلاءم وظروف المجتمع الجديد، وهي ليبرالية ما بعد الحرب العالمية الثانية(21).
والفرق بينهما فيما يتعلق بالسياسة هو:(31/68)
أن دور الدولة في ظل النظرة الجديدة يجب أن يكون أكبر، فلها مهمة أساسية هي تحديد الإطار القانوني للمؤسسات التي يدور فيها النشاط الاقتصادي، وقد حدد منظرو الليبرالية الجديدة دور الدولة الذي يجب أن تقوم به بما يلي:
1أن تعمل كل جهدها ضد التضخم والانكماش.
2أن تحد بشكل معتدل من سلطة الاحتكار وبشكل تتابعي.
3أن تؤمم فقط الاحتكارات التي لا يمكن للقطاع الخاص.
4أن تتحمل كافة الخدمات العامة.
5أن تعطي الفرص والموارد بالتساوي.
6أن تطبق التخطيط التأثيري من أجل التقليل من المخاطر التي قد تحدث.
7أن تطبق التخطيط المركزي عندما يقتضي أن يكون هناك عمل تغير بنائي.
8أن تتدخل عندما يكون هناك خلل في ميكانيكية السوق(22).
ثانياً: ليبرالية الاقتصاد:
الليبرالية الاقتصادية: " مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية، ولا وظائف تجارية، وأنها لا يحقّ لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم. بهذا المعنى يقال غالباً ليبرالية اقتصادية"(23).
ويلاحظ أن هذا التعريف واقع على الليبرالية الكلاسيكية قبل التحول الكبير الذي تم في الليبرالية الجديدة على نحو ما سيأتي.
ويقول البعلبكي " ويطلق لفظ الليبرالية أيضاً على سياسة اقتصادية نشأت في القرن التاسع عشر متأثرة بآراء آدم سميث بخاصة، وأكدت على حرية التجارة وحرية المنافسة، وعارضت تدخل الدولة في الاقتصاد"(24).
والليبرالية الاقتصادية وثيقة الصلة بالليبرالية السياسية، ويعتقد الليبراليون أن الحكومة التي تحكم بالحد الأدنى يكون حكمها هو الأفضل.. ويرون أن الاقتصاد ينظم نفسه بنفسه إذا ما ترك يعمل بمفرده حراً، ويرون أن تنظيمات الحكومة ليست ضرورية(25).
وأبرز النظم الاقتصادية الليبرالية هو نظام " الرأسمالية " التي رتّب أفكاره عالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم).
ويدخل في الحرية التي يطالب بها الليبراليون حرية حركة المال والتجارة، وحرية العمل وحرية التعاقد، وحرية ممارسة أي مهنة أو نشاط اقتصادي آخذاً من الشعار الشهير للثورة الفرنسية " دعه يعمل دعه يمر."
والذي يحكم قواعد اللعبة الاقتصادية وقيمها هو سوق العرض والطلب دون أي تقييد حكومي أو نقابة عمالية. فللعامل الحرية في العمل أو الترك كما لصاحب رأس المال الحرية المطلقة في توظيف العدد الذي يريد بالأجرة التي يريد(26).
ولكن سبق أن ذكرنا أن المفهوم الليبرالي تغير وبرزت الليبرالية الجديدة عل السطح بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الأزمات الاقتصادية الخانقة والكساد وذلك لتمركز رأس المال وظهور الاحتكارات الصناعية الضخمة، وانهيار قاعدة الصرف بالذهب وأزمة الثورات العمالية في ألمانيا مما جعل الحكومات تتدخل لإنعاش الاقتصاد فتغيرت الأيديولوجية الليبرالية إلى القول بأهمية تدخل الحكومة لتنظيم السوق(27).
وقد فصّل صاحب كتاب " الليبرالية المتوحشة " كيفية تدخل الدولة لإنعاش الاقتصاد وإصلاح السوق، وبهذه المرحلة تغيب شمس الليبرالية الكلاسيكية حيث أبطل الواقع فكرة إصلاح السوق لنفسه لتبرز إلى السطح الليبرالية الجديدة بقوة.
وقد أطيل النفس في مراحل الاقتصاد الليبرالي في الكتاب سابق الذكر، ونقد فكر الليبرالية الجديدة واقعياً ببيان انحدار الازدهار الاقتصادي الذي حققته الرأسمالية بعد الحرب الكونية الثانية، فبدأت معدلات النمو الاقتصادي في التراجع وارتفعت معدلات البطالة والطاقة المعطلة، وانخفضت معدلات نمو الإنتاجية(28).
ولعل أبرز تطور جديد في الليبرالية المعاصرة هو " ليبرالية العولمة " ومن دلالتها الفكرية: العودة إلى الليبرالية الكلاسيكية كمفهوم، وذلك أن من أبرز معالم العولمة: التخفيف من التدخل الحكومي في انتقال المال عبر الحدود والأسوار السياسية، وذلك لتحقيق أعلى الأرباح، فقد طبّقت الفلسفة الليبرالية عملياً عن طريق الشاويش السياسي الذي يحمي هذه الفكرة القديمة في الضمير الغربي.
لقد أصبح الاقتصاد وسيلة سياسية للسيطرة، ونقل الثقافات الحضارية بين الأمم، ولهذا فالأقوى اقتصادياً هو الأقوى سياسياًّ ولهذا اقتنعت الدول الغربية بهذه الفلسفة مع مشاهدتها لآثار الرأسمالية على الشعوب الفقيرة، ومن خلال اللعبة الاقتصادية يمكن أن تسقط دول، وتضعف أخرى.
وجذر العولمة الفكري هو انتفاء سيادة الدول على حدودها ومواطنيها فضلاً عن عدم سيطرتها عل النظام الاقتصادي الحر الذي كان يطالب به الليبراليون الكلاسيكيون.
يقول رئيس المصرف المركزي الألماني هناس تيتمار في فبراير من عام 1996م أمام المنتدى الاقتاصادي في دفوس " إن غالبية السياسيين لا يزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الآن يخضعون لرقابة أسواق المال، لا، بل إنهم صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها"(29)وسوف يكون قادة العالم في المرحلة القادمة (العولمة) هم أرباب المال، وسدنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى.(31/69)
والعولمة مبنية على نظرية اقتصادية ينصح بها عدد من الخبراء والاستشاريين الاقتصاديين. ويقدمونها دون ملل للمسئولين عن إدارة دفة السياسة الاقتصادية على أنها أفضل نهج وهي (الليبرالية الجديدة new libe r alisms) وشعار هذه النظرية (ما يفرزه السوق صالح، أما تدخل الدولة فهو طالح)(30).
وهذا صريح في إعادة ترميم الليبرالية الكلاسيكية والارتداد إليها بعد التغير الذي حصل بعد الحرب العالمية الثانية.
____________________
(1) الموسوعة الفلسفية العربية (الجزء الثاني - القسم الثاني - ص / 1155)
(2) موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
(3) الموسوعة الفلسفية العربية (الجزء الثاني - القسم الثاني ص 1156)
(4) موسوعة المورد العربية 2/1050.
(5) أنظر: الموسوعة الفلسفية العربية
(6) انظر: الموسوعة الفلسفية العربية (الجزء الثاني - القسم الثاني ص 1156
(7) موسوعة المورد العربية 4/1050.
(8) مقال: في الدول الليبرالية - مجلة المؤرخ العربي العدد 35، ص / 71.
(9) أنظر العلمانية - سفر الحوالي - ص /214، وانظر تفصيل نظرية لوك في ذلك: الموسوعة الفلسفية (الجزء الثاني - القسم الثاني ص /11561157.
(10) الحلول المستوردة ص 51.
(11) الموسوعة العربية العالمية 21/248.
(12) مفهوم الحرية - العروي -ص /511.
(13) موسوعة لا لاند الفلسفية 2/725.
(14) موسوعة المورد العربية 4/1050.
(15) مجلة آفاق الإسلام - عدد 4عام 1994م.
(16) انظر تفصيل ذلك في: مذاهب فكرية معاصرة - للأستاذ محمد قطب - (الديمقراطية).
(17) الموسوعة العربية العالمية 21/248.
(18) الموسوعة العربية العالمية 21/248.
(19) انظر: موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
(20) الموسوعة الفلسفية العربية (الجزء الثاني - القسم الثاني - ص /1160).
(21) مقال: في الدولة الليبرالية - مجلة المؤرخ العربي - عدد 35 ص/73.
(22) أنظر مقال: في الدولة الليبرالية - مجلة المؤرخ العربي - عدد 35ص/73.
(23) موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
(24) موسوعة المورد العربية 2/1050.
(25) أنظر الموسوعة العربية العالمية 21/248
(26) أنظر الليبرالية المتوحشة ص/41.
(27) أنظر المصدر السابق ص/4751.
(28) أنظر: المصدر السابق.
(29) أنظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة: كتاب " فخ العولمة " ومنه أخذت النصوص السابقة.
(30) أنظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة: كتاب " فخ العولمة" ومنه أخذت النصوص السابقة.
http://www.ha r amainj.net المصدر:
===========(31/70)
(31/71)
مأزق الليبرالية المحلية
أ. بكر بصفر
من العلل المزمنة التي يعاني منها ليبراليونا (متحررونا) المحليون، بخلاف أصحابهم ليبراليي العالم العربي، وصولهم المتأخر أو وصولهم في المكان والزمان الخطأ دائماً وهي الظاهرة التي قل أن يلتفت إليها المراقبون والدارسون لحراكنا الثقافي والاجتماعي المحلي وأزعم هنا أن عنصري المكان الخطأ قد لازما الليبرالية المحلية منذ نشأتها الأولى في بدايات النصف الثاني من القرن الهجري الماضي فالليبرالية الأدبية والاجتماعية الضيقة الخجولة التي ظهرت عند بعض النخب تقليدا لليبرالية المصرية آن ذاك أعاقها اختيارها للمكان الخطأ والمجتمع الخطأ حيث البيت الحرام رمز التدين والمحافظة وحيث المجتمع الحجازي المتعلق بالنبوة التي مازال عبقها مقيما في أحياء مكة وشعابها ومازال سناها في سمائها وقراها كما أعاقها اختيارها للزمان الخطأ حين جاءت مفارقة للانبعاث الثقافي السلفي الذي أطلقة الملك عبد العزيز - يرحمه الله - من خلال المدارس والمعاهد التعليمية التي أسسها في مكة والطائف وما كلية الشريعة ودار التوحيد وشيوخهما السوريين والمصريين السلفيين عن ذاكرتنا ببعيد رحمهم الله أجمعين.
ثم استمرت هذه المتلازمة في إعاقة نموها وإجهاض جميع حملاتها السياسية والثقافية والاجتماعية حتى اليوم، واستمرت هي في تكرار ذات الخطأ رحمة وحفظاً من الله لهذه البلاد الطيبة وأهلها فقد اختار فصيلها الثقافي الحداثي الوقت الخطأ لدخول ساحتنا المحلية في العقد الأول من هذا القرن الهجري الخامس عشر (1404/1408) فحاول بأسلوب فج ونزق مراهق أن ينشر الحداثة الثقافية والفكرية متأخراً أكثر من ثلاثين سنة عن أول ظهور عربي لها على يد أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج و السياب، مهيجاً لها بعد أن انفض سامرها وذبلت، فجاء إصدارها المحلي متكلفا سمجا في الزمان والمكان الخطأ ثانية، لتنتهي حداثتنا الليبرالية مع حلفائها اليساريين نهايتها البائسة المعروفة على يد الشيوخ والمثقفين الأصاليين برضا ومباركة عاقلة من المجتمع ومؤسساته الأهلية والرسمية ولن أطيل في سرد الشواهد المؤيدة لرؤيتي هذه عن تاريخنا الثقافي القريب، حفاظا على ما بقي لي من بياض هذه السطور.
فلأتجاوز الجيوب القومية والبعثية المعزولة التي ظهرت ثم بادت غير مأسوف عليها مع ما صطبغت به من تحررية اجتماعية متوحشة نفاها جيل الثمانينات الهجرية الذي مازال يذكر الملك فيصل بن عبد العزيز الملك البطل الحكيم الذي اذهب ريحها وأخمد فتنتها، أسأل الله له الرحمه والقبول. وها نحن أخيراً في هذه الأيام بذات أمام هوجة أخرى من هوجات اليبرالية الحلية الملازمة أبدا للقدوم التأخر وخطأ المكان والزمان فبعد أن انهارت الدعوة إلى سفور المرآة ونزعها لجلباب حشمتها وحيائها في العالم العربي الإسلامي كله أو كادت وما بقي منها إلا ما هو مدعوم من الخارج أو من أصحاب الشهوات الذين ضمرت لديهم جينات الغيرة العربية المسلمة إضافة إلى المصابين بفوبيا التدين، يأتي هؤلاء -وياللخزي- فيدعون إليها في الأرض التي انطلقت منها الدعوة الأولى للحجاب والحياء من سيد البشر صلى الله عليه وسلم .
ثم بعد أن رأى هؤلاء بأعينهم الانتكاسة المخجلة التي تعانيها الليبرالية الاجتماعية وظاهرة السفور في مصر بالعودة الواسعة للحجاب على جميع المستويات، وبعد أن رأوا بأعينهم صور بنات ونساء غزة والضفة المقاومات المعتزات بحجابهن وأرضهن في الصحافة وعلى شاشات الفضائيات. وبعد أن رأوا عشرات الآلاف من بنات ونساء المسلمين في أسيا وإفريقيا وأوروبا يدافعن عن أخواتهن المحجبات في فرنسا، يأتي ليبراليونا المحليون ليطلقوا ألسنتهم وأقلامهم بلا خجل على المدافعين والداعمين للطالبات المسلمات هناك، بل وصل بهم الأمر إلى يفضحوا النهايات المخجلة التي يأملون أن تصل إليها نساؤنا بفرحهم المخزي بنزع بعض نساء مترفيها لحجابهن وحيائهن عن وجوههن بل حتى بتطويحهن لبقية طرحة كانت رمزاً على رؤوسهن لبقايا الحجاب.
يأيها المساكين بنات الجامعة الأمريكية في القاهرة قلعة الليبرالية الأمريكية ومحجة الفئات المترفة في المجتمع المصري صعقن إدارة الجامعة في القاهرة وصناع سياستها في نيويورك بعودتهن الكاسحة للحجاب والحياء، أو تظنون أيها المساكين أن تستجيب لكم أرض الإسلام الأولى؟
ها أنتم مرة أخرى في الزمان والمكان الخطاء وستبقون كما يعجبكم أن تكتبوا دائما عن سيزيف الخرافي تصعدون بصرختكم إلى قمة الأولمب لتعود بكم إلى السفح أبداً إلا أن يمن الله عليكم بهدايته.
http://www.ala7 r a صلى الله عليه وسلم net المصدر:
=============(31/72)
(31/73)
الليبرالية ... النبت اليهودي
سليمان بن صالح الخراشي
كثيرة هي الأفكار والنظريات والمذاهب الهدامة التي صنعها اليهود على أعينهم، وصاغوها، ثم نشروها في العالم، وأشغلوا الناس بها عن مصادر القوة الحقيقية. فمن ماركسية إلى داروينية إلى فرويدية إلى ماسونية....الخ.
ومن تلك الأفكار والنظريات ما يسمى (الليبرالية) التي تعني"حرية الإعتقاد، وحرية السلوك، والتعددية...الخ الزخارف".
وقد فتن بعض بني قومنا بهذه الليبرالية كما فتنوا سابقا بأخواتها: الماركسية، العلمانية، الديمقراطية.... وليت الأمر اقتصر على (حزب المنافقين) الذين يتعلقون بكل قادم من الغرب يغنيهم - في زعمهم - عن الإسلام! وشريعته المكبلة لأهوائهم وشهواتهم. ولكن المصيبة أن هذه الفكرة وغيرها قد تسللت إلى عقول بعض من يطلق عليهم (الإسلاميون)! حتى رأينا من يتمدح بأنه (ليبرالي إسلامي)! كما تمدح أقوام قبله ب (اشتراكية الإسلام) و (ديمقراطية الإسلام)....الخ هذا (الترقيع) الذي ينم عن نفسية منهزمة أمام الآخر.
ويأسف المرء عندما يقابل هذه الإنهزامية بمواقف بعض عقلاء الغرب ممن لم تستخفهم هذه الأفكار ببريقها عن النظر في حقيقتها وعواقبها ومن يقف خلفها.
وقد أحببت في هذا المقال أن أنقل إليكم شهادة مجموعة من عقلائهم في حقيقة هذه (الليبرالية) الفاتنة، وأنها مجرد نبت يهودي حاول أحفاد القردة والخنازير زرعه بكل جدارة في المجتمعات الغربية؛ لأنه يحقق لهم أهدافا كثيرة؛ يأتي في مقدمتها: بلبلة الأفكار وتشويشها، وتغذية الصراعات والإنقسامات التي تمكنهم من إضعاف الآخرين ثم السيطرة عليهم.
ناقلا هذه الشهادة من كتاب مهم للملياردير الأمريكي (هنري فورد) صاحب مصانع السيارات الشهيرة باسمه، الذي تعرض لمؤامرات يهودية كثيرة لزحزحته عن نشاطاته ونجاحاته المتوالية التي لم تسر وفق أهوائهم نظرا لتعصبه لبلده (أمريكا) التي يرى أن اليهود دخلاء عليها.
فما كان من فورد إلا أن كلف مجموعة من الباحثين الأمريكيين لدراسة تاريخ اليهود في بلده ومصادر قوتهم وأساليبهم وطريقة تفكيرهم...الخ ليستفيد منها في تعريتهم وفضحهم أمام بني وطنه. فألفوا له كتابا مهما بعنوان (اليهودي العالمي).
وقد جاءت في هذا الكتاب معلومات كثيرة مهمة عن اليهود؛ أنتقي منها ما يخص أمر (الليبرالية) آملا من القارئ تأمل ما قاله الباحثون عنها، ثم أتبع ذلك بنقل مؤيد من (بروتوكولات حكماء صهيون)؛ لعل من أعجب بهذا النبت اليهودي يلفظه سريعا ويعود إلى مصدر عزته ونجاته: الإسلام.
يقول أصحاب الكتاب (ص 160، 162، 169):
(استخدام الأفكار الهدامة لتمزيق المجتمع: الطريقة التي تعمل بها البروتوكولات لتحطيم المجتمع طريقة واضحة كل الوضوح، وكل من يرغب في الوصول إلى معنى التيارات الفكرية والتيارات الفكرية الأخرى المعارضة لها مما يخلق حالة الفوضى والهرج والمرج الموجودة في أيامنا الحاضرة، فمن الضروري له أن يفهم الطريقة التي تعمل بها البروتوكولات لتحطيم المجتمع والناس الذين يضطربون وتَفْتُرُ وتَضْعُفُ عزائمهم من جراء الأصوات المتعارضة والنظريات المتناقضة التي تبدو كل منها متسقة وواعدة. اليوم سيجدون مفتاحاً يفتح مغاليق أبواب الحيرة والتردد والبلبلة وضياع الأمل والخوف عندما يدركون أن إيجاد هذه الحالة المضطربة إنما هو هدف مقصود في حد ذاته، ولا ريب في أن وجود هذه الاعتبارات الخطيرة في حياة الناس اليوم يدل على ما حققته خطط البروتوكولات من نجاح.
إنها خطة تحتاج إلى وقت طويل، وتقول البروتوكولات إنها قد تطلبت بالفعل قروناً من الزمان، وأولئك الذين عكفوا على دراسة هذه المسألة قد استخلصوا نتيجة أن الخطة التي تتضمنها البروتوكولات كانت موجودة وكانت موضوعة موضع التنفيذ بواسطة أبناء الجنس اليهودي من القرن الأول الميلادي فصاعداً حتى اليوم.
لقد تطلب البرنامج اليهودي واستغرق بالفعل 1900 سنة لكي يصل اليهود بالدول الأوروبية إلى مرحلة التبعية والانقياد للمخططات اليهودية كما هو شأنها الآن في الوقت الحاضر - تبعية تامة في بعض الأقطار الأوروبية، وتبعية سياسية في بعضها الآخر، وتبعية اقتصادية فيها كلها- أما في أمريكا، فقد حقق البرنامج اليهودي النجاح نفسه وتطلب من الوقت خمسين سنة فقط!).(31/74)
(إنه عن طريق مجموعة الأفكار التي تدور حول فكرة"الديمقراطية Democ r acy"حصل اليهود على"انتصارهم الأول"في مجال السيطرة اليهودية على"الرأي العام Thei r Fi r st Victo r y ove r Public Opinion"وتؤكد البروتوكولات أن"الفكرة"هي السلاح The Idea is the Weapon، ولكي تكون الفكرة سلاحاً ملائماً لليهود، فمن الضروري أن تكون هذه الفكرة فكرة ضارة فاسدة متعارضة ومتضاربة مع الأوضاع السليمة الطبيعية في حياة الناس، وهذا هو الشأن أيضاً مع النظريات المنطوية على أفكار متعددة في المجالات المختلفة من الحياة، ومثل هذه الأفكار والنظريات لا يمكن لها أن تكون عميقة الجذور وفعالة ومقبولة إلا إذا بدت لعقول الناس كأفكار ونظريات منطقية ومتسقة مع مطالب الجماهير، بل ومسرفة في التظاهر بأنها تحقق للجماهير أكبر قدر من مطالبهم وآمالهم في الحياة، وغالباً ما تكون الفكرة الصحيحة غير ملبية للمطالب والآمال الكبرى للناس، وتبدو الأفكار والنظريات السليمة في كثير من الأحيان أمام الناس أفكاراً ونظريات قاسية مخيبة للآمال، وتبدو كما لو كانت شرّاً على الرغم من أنها تتصف بأنها حقيقة من الحقائق الخالدة.
إن كل ما يترتب وينتج عن مثل هذه الأفكار والنظريات الحقيقية ليس هو الضرر أو الفوضى، ومثل هذه الأفكار والنظريات الحقيقية هي أول ما يهدف البرنامج اليهودي إلى تحطيمه والقضاء عليه، وجدير بنا أن نلاحظ أن الدعوة إلى التحرر والليبرالية يحتل مكان الصدارة في البرنامج اليهودي الذي تتحدث عنه البروتوكولات إذ نجد أنها تقول بالحرف الواحد:"لتحقيق السيطرة على الرأي العام من الضروري أولاً إرباكه". والحقيقة واحدة، ولا يمكن إرباكها، ولا يصح إلا الصحيح، ولا توجد حقائق غير صحيحة، وإن لم تكن الحقيقة حقيقة فهي الخطأ بعينه، ويستحيل أن يتصف شأن من الشئون بأنه حقيقة إذا كان خاطئاً، كيف سيربك اليهود الحقيقة، إنهم يعتمدون في ذلك على هذه"الليبرالية Libe r alism"الزائفة، ولكنها جذابة تستهوي الجماهير وتروق لهم رغم زيفها، ولقد حقق اليهود لفكرة الليبرالية الذيوع والانتشار بسيطرتهم على دور النشر والإعلام وأجهزة النشر والإعلام على نطاق واسع في أمريكا بسرعة أكبر بكثير من سرعتهم في ذلك في البلاد الأوروبية، ومن الممكن القضاء على هذه الليبرالية الزائفة بسهولة؛ لأنها لا تمتُّ إلى الحقيقة بأي صلة من الصلات الحقيقية، إنها خطيئة كبرى، وللخطايا أكثر من ألف شكل وشكل، وأكثر من ألف صورة وصورة.
ولنأخذ أمة أو حزباً أو مدينة أو مؤسسة، ولنفترض أن سُمَّ الليبرالية Poison of Libe r alism قد سرى في عروق أي من هذه المؤسسات؛ سنجد أمامنا أن كلاً منها قد انقسم وتمزق إلى عدة أقسام، وعدد من الشيع لا ينقص عن اثنين، ويجوز أن يزيد على ذلك في كثير من الأحيان، وذلك عن طريق بث أفكار جديدة، وتقديم تعديلات للأفكار القديمة، وهذه الخطة السوقية الشريرة معروفة تمام المعرفة لدى القُوَىَ اليهودية التي تسيطر على أفكار الجماهير بصورة خفيَّة غير مكشوفة.
وقد عرف تيودور هرتزل - اليهودي الشهير الذي فاقت شهرته شهرة أي يهودي آخر، وكان برنامجه السياسي يسير في خط مواز مع برنامج البروتوكولات- هذه الحقيقة قبل سنوات كثيرة، وذلك عندما قال: إن الدولة الصهيونية ستتحقق قبل تحقيق الدولة الاشتراكية، والسبب في ذلك هو أنه كان يعرف ما سيواجه الأفكار الليبرالية -والشيوعية العالمية واحدة من الأفكار الليبرالية الكبرى- التي نشرها هو وأسلافه بين شعوب العالم الأوروبي من عقبات وصعوبات ناجمة عن تشعب الانقسامات التي تقف عقبة كأداء وتحول دون تحقيق مثل هذه الأفكار.
إن العملية اليهودية التي كان الأغيار ضحيتها، ولم يكن اليهود أبداً أبداً من ضحاياها تمضي إلى حيز التنفيذ بالضبط كما يلي: إيجاد مناخ من"سعة العقل An Ideal of B r oad- mindedness"وهذا هو التعبير الذي نسمعه دائماً عندما يبادر أحد إلى معارضة البرنامج اليهودي العالمي، ولقد ألفنا أن نسمع دائماً من يقول:"...كنا نظنك أوسع أفقاً في تفكيرك من أن تعبر عن مثل هذه الأفكار"ولا شك في أن مثل هذه العبارة التي تقال كعبارة افتتاحية للكلام تشير بوضوح إلى"الحالة العقلية المضطربة"التي يريد اليهود أن يفرضوها على غير اليهود، وهي لا تعدو أن تكون دعوة فضفاضة إلى هجر أفكار قديمة، والقبول بأفكار جديدة من الضروري أن يتسع لها عقل من يوجه إليه الكلام بعد تشكيكه في سلامة الأفكار التي كان يعتقد أنها صحيحة.
إن مثل هذه التعبيرات عن تحرر العقول والدعوة إلى الحرية الفكرية لا معنى ولا حدود لها، وهي تعمل كالأفيون لتخدير وتبطيل العقول والضمائر عن العمل والفاعلية لكي تفتح الأبواب واسعة لمختلف المواقف والتصرفات تحت ستارها الخادع الزائف).(31/75)
(وليس من الصعب أن نتبع أصول الأفكار اليهودية عن الليبرالية منذ بدايتها حتى نصل بها إلى آثارها الأخيرة في حياة غير اليهود، هنا على وجه التحديد سنجد أن الفوضى والتشويش على أفكار الناس Confusion هي الهدف. إن البلبلة الفكرية والحيرة Bewilde r ment هي السمة الغالبة على الأجواء العقلية للشعب اليوم إذ لا يعرف الناس الأفكار التي يصح أن يؤمنوا بها، ولا الأفكار التي لا يصح أن يؤمنوا بها، إن الناس يتلقون في وقت ما مجموعة من الأفكار ثم يتلقون بعد قليل مجموعة أخرى من الأفكار ويصل إلى الناس تفسير معين للأمور، ثم سرعان ما يتلقون تفسيراً آخر مخالفاً له، والأزمة الفكرية أزمة حادة بالغة الحدة، وتوجد سوق رائجة للتفسيرات التي لا تفسر شيئاً، ولكنها تهدف إلى تكريس حالة الارتباك والفوضى الفكرية والتشويش على أذهان الناس.
وتبدو الحكومة أمام الناس عاجزة عن إزالة العراقيل وبث الطمأنينة في قلوب الناس، وعندما تشرع الحكومة في محاولة تقصي الحقائق لإزالة عقبة من العقبات أو حل مشكلة من المشكلات تجد الحكومة العراقيل التي وضعها اليهود في طريقها بمختلف الصور والوسائل وبطرق غامضة، وتفشل محاولات الحكومة في مواجهة المشاكل والعقبات رغم ما بذلت من جهود شاقة، وهذا الجانب المتصل بعرقلة عمل الحكومات واضح وضوحاً تاماً في نصوص البروتوكولات.
ونستطيع أيضاً أن نضيف إلى ذلك ما تتعرض له الميول الفطرية للناس نحو التدين The human tendency towa r d r eligion من الهجمات الشرسة العنيفة وذلك لأن الدين r eligion هو الشأن الوحيد والحصن الأخير الذي يستطيع أن ينقذ الناس من أن يكونوا فريسة سهلة للمكر والمؤامرات والعنف واللصوصية).
قلت: وجاء في البروتوكول العاشر: (ولما أدخلنا اسم الليبرالية على جهاز الدولة، تسممت الشرايين كلها، ويا له من مرض قاتل، فما علينا بعد ذلك إلا انتظار الحشرجة وسكرات الموت.
إن الليبرالية أنتجت الدولة الدستورية التي حلت محل الشيء الوحيد الذي كان يقي الغوييم السلطة المستبدة. والدستور، كما تعلمون جيداً، ما هو إلا مدرسة لتعليم فنون الانشقاق، والشغب، وسوء الفهم، والمنابذة، وتنازع الرأي بالرد والمخالفة، والمشاكسة الحزبية العقيمة، والتباهي بإظهار النزوات. وبكلمة واحدة: مدرسة لإعداد العناصر التي تفتك بشخصية الدولة وتقتل نشاطها. ومنبر الثرثارين وهو ليس أقل من الصحف إفساداً في هذا الباب، راح ينعى على الحكام خمولهم وانحلال قواهم، فجعلهم كمن لا يرجى منه خيرٌ أو نفع. وهذا السبب كان حقاً العامل الأول في القيام على كثيرين من الحكام فأُسقطوا من على كراسيهم. فأطل عهد الحكم الجمهوري، وتحقق، فجئنا نحن نبدل الحكم بمطية من قِبَلِنا ونجعله على رأس الحكومة وهو ما يعرف بالرئيس، نأتي به من عداد مطايانا أو عبيدنا، وهذا ما كان منه المادة الأساسية المتفجرة من الألغام التي وضعناها تحت مقاعد شعب الغوييم، بل على الأصح شعوب الغوييم).
http://saaid.net المصدر:
=============(31/76)
(31/77)
مصطلحات ليبرالية ..
في نقاش مع ليبرالية حول بعض المصطلحات التي تستخدمها كثيراً مثل :
الفكر الحر
الفكر الديني المتخلف
الفكر اللاديني
الخرافة ..
أجابتْ بما يلي :
حسب مفهومي الخاص.. اجيبك على استفساراتك حول معنى :الفكر الحر - الفكر اللاديني - الخرافة - الفكر الديني المتخلف .
الفكر الحر هو ذاك الفكرالمتحرر من جميع التصنيفات والهُويات الضيقة الصغيرة والمشوهة..وهو غير خاضع للتأثيرات او القيود الدينية او العاطفية اوالاجتماعية .. الخ
هو يملك حريته في التفكير والتصرف واتخاذ القرار ..
وهو بالدرجة الاولى فكر انساني .
باختصار الفكر الحر ..هو فكر عقلاني يرفض الانصياع لثقافة القطيع .
اما الفكر اللاديني : فهو الفكر المناقض للفكر الديني .
والخرافة: هي فكرة او قصة تقوم على عنصر الادهاش تمتلئ بالمبالغات والتهويلات اللاعقلانية..
تتشابك احداثها مع كائنات ماورائية ..كالجن أوالعفاريت والارواح الشريرة.. وغيرها
الفكر الديني المتخلف: هو الفكر الذي يحمل في طياته افكاراً رجعية ومتخلفة تحول دون التقدم والتطوّر ومواكبة العصر ، بل هي تساهم في التقهقر عن التركيبة الحضاريّة الراهنة .
فكان جوابي لها بما يلي:
- وقد حاولتْ وقتها أن أتخلص مما يسيطر عليّ من غضب تجاه كم الأساليب الاستهزائية ، والطعن الذي تمارسه للنيل من الإسلام ونبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن خلف من الأخيار والعلماء -
قلتُ لها :
حقيقة لا أعتقد أن هناك ما يسمى بالفكر الحر !
إذ لابد ويخضع المرء منا - مهما كان دينه أو توجهه - لتصنيفات وهويات معينة وتأثيرات و قيود ما
لا يوجد أبداً فكر حر و بالمعنى الذي أشرتِ إليه ..!!!
---
وعن قولكِ : الفكر اللاديني : فهو الفكر المناقض للفكر الديني .
أتعنين الالحاد ؟!!
---
ماذا عن الخرافة ؟
حسناً سأقول شيئاً أمور الغيب والوحي والتي لا تدركها عقول البشر القاصرة كذلك
الجنة - النار - الصراط - القبر ..... إلخ
لا تخلو من عنصر الادهاش أتدخل في الخرافة ؟!!
---
الفكر الديني المتخلف
أيدخل في هذا التزامي بالحجاب مثلاً
ابتعادي عن مخالطة الرجال
تركي للموسيقى مثلاً ..
لابد من تحديد الفكر الديني المتخلف لأن هناك ثوابت ومسلّمات شرعية ..
***
بإذا بأحد مشرفيهم يتهمني بالمخالفة لشروط منتداهم فيما يتعلق بالتأخر في التعقيب !!
وضحتُ له أنني لم أخالف فكان جوابه : التهديد !!
المهم
انتظرتُ جوابها لأكثر من أسبوعين وإذا بهم - هؤلاء الليبراليين - يطردون جميع الإسلامويين - كما اسمونا - !!!
ما رأيكم بهذه الديمقراطية ؟
وأيّنا أحق بالتهمة العرجاء " إقصاء الآخر " " التشدد " "نبذ الآخر " ؟!!!
=============(31/78)
(31/79)
((شبهات ليبرالية))
بتلخيص وتصرف: من مقال للشيخ أبو عمر أسامة العتيبي
الشبهة الأولى : قد يقول قائل من الليبراليين : إن الله -عزَّ وجلَّ- أراد من عباده أن يختلفوا ، ومحاولة جمعهم مخالف لما أراد الله ..
الجواب:
نظر الليبراليون إلى البشريةِ وحالِها بمنظار واحد ألا وهو منظار الإرادة الكونية والمشيئة العامة لله -عزَّ وجلَّ- ، وأغفلوا الإرادة الشرعية.
فإرادة الله تنقسم إلى قسمين: الأولى: إرادة كونية يلزم منها وقوع المراد ، ولا يلزم منها محبة الله ورضاه عما أراده كوناً . قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء}، وقال -عزَّ وجلَّ- {فعال لما يريد} ، {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}.
فالله أراد خلق إبليس وهو لا يحبه ولا يرضاه . وإنما خلقه لحكم عظيمة منها ابتلاء الناس ، وبيان المصلح من المفسد.
والقسم الثاني من الإرادة: إرادة شرعية يلزم منها محبة الله للمراد ورضاه عنه ، ولا يلزم منها وقوع المراد. {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ، {والله يريد أن يتوب عليكم}.
فالله يريد من عباده جميعاً أن يوحده ويعبدوه ويحب ذلك منهم ، ولكن لا يلزم أن يؤمن الناس جميعاً بل منهم المؤمن ومنهم الكافر.
وما ضلال الطوائف في باب القدر إلا لخلطهم بين الإرادتين ومشاهدتهم لأحد القسمين دون الآخر.
فالقدرية شاهدوا الإرادة الشرعية فرأوا أن الناس يفعلون ما لا يريده الله شرعاً من الكفر والفسوق والعصيان ، فأنكروا خلق الله لأفعال العباد والله يقول : {والله خلقكم وما تعملون}.
والجبرية شاهدوا الإرادة الكونية فقالوا العبد مجبور على فعله ، وصححوا عبادة المشركين واليهود والنصارى وزعموا أن الله يحبها ويرضاها وهذا باطل فالله يقول: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم}.
ولذلك حرم الجبرية قتال الكافرين والمشركين ، ولم يفهموا الجهاد في سبيل الله وأنه فُرِضَ وشُرِعَ {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} والفتنة: الشرك.
ولذلك دعا الجبرية إلى وحدة الأديان وأباحوا الردة عن الإسلام لأنهم ظنوا أن الله جبر العباد على الشرك والإيمان وهو -عزَّ وجلَّ- يحب ذلك كله !!
وهم ضالون بذلك مخالفون للكتاب والسنة والإجماع.
ونقول لهم أيضاً: إن الله أراد كوناً وقدراً من الخوارج أن يسفكوا الدماء ويقتلوا المسلمين ، وأنتم استنكرتم التفجير والقتل فهل نقول : إنكم عارضتم إرادة الله ؟
لا .
لأن إرادة الله الشرعية تحرم ذلك وتمنعه ، ونحن متعبدون أمراً ونهياً بالشرع وبما يريده الله شرعا ودينا ..
أما ما أراده كونا فهو لحكم بالغة منها بيان خطر وشر الخوارج إذ حصل منهم قتل وفساد ، فإن الناس لو لم يروا ذلك لما عرفوا خطرهم..
2- الشبهة الثانية: قال قائل من الليبرالية: إن الاختلاف متأصل في طبع البشر ، وأخذ يدور في فلك هذه القضية ليصل إلى نتيجة واحدة وهي التسليم بهذا الاختلاف وعدم إنكاره ومحاولة القضاء عليه .
حيث قال : [أية محاولة لنفي الاختلاف والتعدد أو قسر الناس على رؤية واحدة ذات بعد آحادي انغلاقي اقصائي فهي ببساطة شديدة مضادة لحكمة الخالق سبحانه وتعالى من إرادته لخلق خلقه مختلفين]
الجواب:
إن هذا الكلام جعل هذا الليبرالي يقع في متاهات ويخالف اليقينيات المسلمات في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فأقول لهذا الليبرالي: اعلم أنك بهذه النتيجة ، والحتمية التي قررتها بناء على مفهومك تجعل ذريعة واضحة للمخربين أن يخربوا ويفجروا!!
فهؤلاء الذين يفجروا في بلاد المسلمين هم من الخوارج وهي فرقة من الفرق المنتسبة للإسلام ، "وهم يكفرون الحاكم بغير ما أنزل الله ولو لم يكن مستحلاً أو مستكبراً أو معانداً" فإذا كنت لا تعاقب عليها في الدنيا ، وتجعل لها حرية اختيار هذا المعتقد الفاسد فأنت تشجع أولئك الخوارج على استمرارهم في دينهم الباطل ومعتقدهم الفاسد ، وتنهانا عن الإنكار عليهم ، وتمنع من معاقبتهم على أعمالهم التي يمليها عليهم معتقدهم ورأيهم الذي جعلت لهم الحرية في اختياره!!
أقول لهؤلاء الليبراليين: كيف سنجتث الإرهابيين من جذورهم وأنتم تؤيدون بقاءهم وحريتهم وتمنعون معاقبتهم في الدنيا؟!!
فإذا قلتم : نحن نشترط حرية الاعتقاد والتفكير والرأي دون أذية للآخرين ولا تعد على حقوقهم!!
فنقول لهم : قد وقعتم في التناقض ، وقد حجرتم عليهم ، ولم تجعلوا لهم الحرية في ممارسة شعائرهم وطقوسهم التي لا تتم إلا برؤية الدماء والأشلاء!!
فالليبرالية لا تعالج الأمور ، وإنما تُعالَجُ بما هو مشروع في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فالإسلام يلزم الناس بتوحيد الله وعبادته وطاعته ، وشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله والمجادلة بالتي هي أحسن لهذا الغرض ، وكذلك شرع الجهاد لنشر دين الإسلام والقضاء على الشرك.(31/80)
3- الشبهة الثالثة: يبني الليبراليون على أصالة الخلاف -وهو أمر حتمي كوني وليس شرعياً على إطلاقه- إباحة الفرقة والاختلاف وعدم إنكاره ولا النهي عنه.
الجواب:
هذا باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة البشرية .
يقول الله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} فالأصل في البشر أنهم أمة واحدة في عقيدتها ودينها وهو توحيد الله الخالص من الشرك والبدع والخرافات .
ثم حصل الخلاف وظهر الشرك في قوم نوح فأرسل الله إليهم نوحاً -عليهِ السَّلامُ- ينهاهم عن الاختلاف ويدعوهم للتوحيد .
وقد ذم الله التفرق والاختلاف في آيات عديدة :
قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ، وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون}.،
وقال تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} فذم الله خلافهم وبين أن سببه البغي وليس الجهل وعدم العلم .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (22/359) : "وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً ، وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة وخاصة ، مثل قوله: ((عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة)) ، وقوله: ((فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)) ، وقوله: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قِيْدَ شبر فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه)) ، وقوله: ((ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((صلاح ذات البين فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين)) ، وقوله: ((من جاءكم وأمركم على رجل واحدٍ منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان)) ..." انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- .
والبشر كلهم يسعون وينادون بالاتحاد والاجتماع وإن كانت طرقهم تختلف وتتعدد ما بين باطل كثير وحق قليل ، والليبراليون يدعون إلى تثبيت التفرق والاحتجاج به .
نعم قد يقول الليبراليون : نحن ندعوا إلى وحدة واتحاد يجمع بين جميع الأديان والمذاهب دون تقييد ولا معاقبة!!
وهذا باطل سبق بيانه في النقاط السابقة وهو مخالف للشريعة الإسلامية ولكتاب الله الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد}.
فالخلاصة: أن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلاف والتفرق ، وإرادة الله الشرعية منعت التفرق والاختلاف ونهت عنه وبينت نتائجة الشنيعة.
وإرادة الله الكونية اقتضت وجود الشيطان والكفار وأهل البدع والخرافات ، وإرادة الله الشرعية حاربت وحذرت من الشيطان والكفار وأهل البدع والخرافات.
4- الشبهة الرابعة : يستدل الليبراليون بإباحة التعددية الدينية والفكرية بقوله تعالى: {لا إكراه في الدين}.
الجواب:
لا دلالة في الآية على إباحة التدين بغير دين الإسلام من وجوه أذكرها باختصار:
الوجه الأول: أن نفي الإكراه في الدين لا يعني أنه يجوز عدم الدخول فيه ، بل نهي عن قتل من لم يدخل في دين الإسلام..
وفي الآية نفسها والتي بعدها بيان حال من يدخل في دين الإسلام وبين من يمتنع عن الدخول فيه..
قال تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {256} اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
فلو كان التدين بدين غير دين الإسلام مباحاً كما يعتقد الليبراليون لما توعد من لم يدخل في الإسلام بالنار والعذاب ..
وكذلك قد جاءت آيات أخرى قيدت هذه الآية فالواجب الإيمان بجميع الآيات وليس الإيمان ببعضها الكفر بالآخر..
فقد قيدت بمن لم يدخل أصلاً في الإسلام ، وقيدت بأهل الكتاب عند كثير من العلماء ..
الوجه الثاني: قال ابن القيم -رحمهُ اللهُ- : " {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} وهذا نفي في معنى النهي أي: لا تكرهوا أحداً على الدين .
نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام.(31/81)
والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر ، وهذا ظاهر على قول من يُجَوِّزُ أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين ، بل إما أن يدخلوا في الدين ، وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة ، وإن استثنى هؤلاء بعضَ عبدة الأوثان.
ومن تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين له أنه لم يُكره أحداً على دينه قط ، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته لم ينقض عهده .
بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له ، كما قال تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم ، فمَنَّ على بعضهم ، وأجلى بعضهم ، وقتل بعضهم ، وكذلك لما هادن قريشاً عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقضوا عهده ، فعند ذلك عزاهم في ديارهم وكانوا هم يغزونه قبل ذلك ، كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر أيضاً هم جاؤوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم".
الوجه الثالث: قيل: إن الآية نزلت فيمن يكره ابنه على الكفر فنهى الله عن إكراههم على الكفر وهو يتوافق مع وجوب الدخول في الإسلام ..
الوجه الرابع: قيل: إن المراد بالآية لا إكراه بالباطل ، أما الإكراه بالحق فإنه من الدين ، وهل يقتل الكافر إلا على الدين قال -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) ، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}. انظر: أحكام القرآن لابن العربي(1/310).
الوجه الخامس: قيل: إن الآية منسوخة بآية القتال قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -رحمهُ اللهُ- .
الوجه السادس: هب أن الآية يفهم منها جواز التدين بأي دين فهي مقابلة لآيات كثيرة توجب على الناس جميعاً الدخول في الإسلام ، واتباع سنة سيد الأنام ، وتعليق الفلاح والنجاة على اتباعه واقتفاء أثره والسمع والطاعة له مما يدل دلاله قاطعة على أن من اتخذ ديناً غير دين محمد ، أو اتبع طريقاً غير طريقه فهو من الخاسرين والهالكين.
ومنهج الراسخين في العلم إرجاع المتشابه إلى المحكم ولزوم المحكم وترك المتشابه.
قال تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ {8} رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {9}
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول ا صلى الله عليه وسلم هذه الآية :{ هو الذي أنزل عليك الكتاب..}
قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) .
هذه بعض الشبه التي يلبس بها الليبراليون على التعددية والحرية الفكرية والعقائدية ، وهي شبه واهية ، وحجج داحضة ..
والمقرر في الكتاب والسنة وأجمع عليه العلماء أن الإسلام أعطى المسلم حظه من الحرية فيما أباحه له وجوزه له ، أما ما أوجبه عليه فيلزمه الإتيان به إذا توفرت شروطه وتحققت أسبابه وتخلفت موانعه ، وكذا يلزمه اجتناب ما حرمه عليه وفق الضوابط السابقة..
أما التفلت وعدم الانضباط فلا يحقق أمناً ولا سعادة ، ولا هو مما يقره عقل سليم ولا شرع صحيح..
فلا يقر تفلت الليبرالية وتناقضها إلا عقل سقيم أو شرع مبدل ومحرف..
ولا يحتاج المسلمون إلى زبالة أذهان الفلاسفة ، ودهاقنة الغرب ، وتخبطات الضُّلاَّل ليبينوا لهم كيف يسعدون أو كيف يأمنون؟
فقد تجلت الأمور واتضحت ، وبان طريق الخير من الشر ، وانبلج الفجر لهذه الأمة منذ أن بعث رسول الله -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- فجاء بالهدى والنور ..
فمن اتبع النبي -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- وفقه دينه ، وابتعد عن الغلو والجفاء ، والإفراط والتفريط فإنَّ له السعادة والأمن التام في الدنيا والآخرة..
وبمقدار البعد عن هدي النبي -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- ودينه في أمور الدنيا والمعاش والتدين والتعبد يكون الشقاء واختلال الأمن.
==============(31/82)
(31/83)
" المفاهيم البهيمية للحياة البوهيمية ! "
مقال فى الصميم :
هذا الخطاب موجه من :
قداسة الأب الروحي الصدر الأعظم ذو الخِشّة الأفخم و المنطق الأبكم " علمان العليمي" !
إلى :
جميع الخلان والاتباع والمريدين من ابناء الطريقة العليمية والملة العلمانية !
|| النصائح المهمة للعلمانية المطمة ||
1- حلق الشنب واللحية حتى و كأن وجهك قد إنمسخ الى مؤخرة طفل خرج لتوه من حمام ساخن مضمخاً بصابون الـ " نونو " بعد يوم ٍ حافلٍ بالسيريلاك والإسهال!
2- شراء سيجار " كوبي معفن" يتم انتقاؤه حسب المعادلة التالية :
طول السيجار ~ طرديا مع الخشم \ دودلة الشدوق @ نوعية المشروب !!!
3- حفظ عبارات سخيفة و أسماء لروايات و مواقع أجنبيه
عبارات مثل :
" قال ديكارت أنا أشك إذن أنا أفكر أنا أفكر اذن أنا لست حمار !" " قال ليمان أنا أكتب لأنني نسيت !!"
" قال فولتير أنا لا اوافقك الرأي ولكني لا امنعك حرية القول .. لأنني استسفهك وشايفك مخفّة .. و من جنبها!!" " قال خراطينيوس في رواية الشوارع العارية " من سرق حذائي يا روما ؟!! " " صدق كذابينيس عندما قال " غدا ستمطر السماء و ستموت كل الجرابيع في جحورها!!!" " .. وأشياء كهذه !
4- كتابة رواية سخيفة تسب فيها الله و الدين و تجعل حثالتها رموز للأنبياء و تسميها " وليمة لأعشاب التبن " و تطعمها اقرانك العلمانيين في تجمعاتكم الماسونية السرية .. كلما دارت اقداح الفكر و صواريخ المعرفة !!
5- شراء كلب مسعور و تيس هائج كي تتعلم من الكلب المفاهيم البهيمية للحياة البوهيمية ! التي هي أساس العلمنة وغايتها والتيس تتعلم منه الشهوة الحيوانية و العاطفة الماعزية الجياشة تجاه الجنس الآخر !.
6- تركيب صحن " كيوباند" و رسيفر ديجيتل و بطاقة فك الشفرات لتنمية الروح الحضارية لديك .. خصوصا في طريقة منح المرأة حقها الكامل .. والطريقة المثلى للتعامل مع نصف المجتمع !.
7- اذا لم تجد هذه الخطوات شيئا لجعلك علماني نبيل ! فلا مناص لك اذن من السفر الى نيويورك وتقبيل اقدام احد شيوخ الطريقة الصهيونية النبيلة والشرب من بوله كما فعلت مادونا .... علك تشفى من رواسب الفضيلة لديك التي ورثتها عن سلفك البدوي المتحجر ! .
8- عند اكتمال الروح العلمانية لديك فإني باعتباري الأب الروحي لك آآآآآآمرك
بإستئناف الكفاح العلماني المقسس في مجتمعك كأن تذهب الى السوق بالملابس الداخلية او تنشئ ناديا سريا تسميه " زيرو ان مانار " او تكشف عن مؤخرتك على احدى كبار الدوارات في مدينتك ..!!
كعمل رمزي ثوري .. تفضح فيه مالدى بني مجتمعك من كبت و توصل من خلاله رسالتنا الخالدة للناس و لسان (....). آسف ! .. اقصد حالك يقول " زمن السراويل .. ولّى " !!.
9- تدعي لكل أخ علماني لك في ظهر الغيب إن الله يكشف سره و يفضح عورته ويرزقه شربتا ً من بول بني صهيون لا يؤمن بعدها ابدا ً .
كتبه : قداسة الأب " علمان العليمي !!"
===============(31/84)
(31/85)
من رحمِ العلمانيّةِ جاءتِ الليبراليّة !!
بسمِ اللهِ القائلِ (وجاهدهم بهِ جهاداً كبيراً)>>
خلق الله النجوم في السماء زينةً لها،ثمَّ إنّها علاماتٌ يُهتدى بها، ومناراتٌ يُستدلُّ بها على الطريق، فتضئُ دياجيرَ حالكه (وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يهتدون)،والنجوم بعد ذلكَ كله حارسةٌ للسماء من شرِّ الشياطين، تنقضُّ عليهم فتصرعهم إذا حاولوا أن يسترقوا السمعَ.>>
فيالله كم له سبحانه من حكمةٍ في خلقهِ علِمها من علمها وجهلها من جهلها !!>>
أما بعد فقد نبتت في عصرنا هذا ونحنُ في عصرِ فتنةٍ نابتةٌ في أرضِ " العلمانيّة" سُقيت بماءِ الغربِ الآسنِ فخرجت شجرةً "زقّوماً" (طلعُها كاّنّهُ رؤوسُ الشياطينِ) بل هو الشياطين!!>>
من رَحمِ تلكم " الآثمةِ" المسمّاة ب"العلمانيّة" أتتِ "الليبرالية" من سفاحٍ فكانت مولودةً شوهاءَ فوهاءَ شلّاءَ بكماءَ صمّاءَ عمياءَ !!>>
(صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون)>>
يخفونَ علمانيتهم فليسوا علمانيّين بحسبهم،وهم طبعاً ليسوا من "الإسلام" في شئ!!>>
لذا كانوا "مخانيثَ العلمانيّينَ" مثلاً بمثلٍ سواءً بسواء!! اتّبعوا كلَّ ناعقٍ من قبلِ الغربِ (يحسبونَ كلَّ صيحةٍ عليهم همُ العدوُّ فاحذرهم قاتلهم اللهُ أنّى يؤفكون)>>
إي واللهِ همُ العدوُّ وكلُّ عدوٍ بعدهم هانَ ، خُصماءُ ألداء "وإذا خاصمَ فَجَرَ">>
فياليتَ الإمام الفحلَ الذهبيّ كتبَ عنِ "البُلَهاءِ" كما كتبَ عنِ "النّبلاءِ" ، واللهِ إذا رأيتَ أحدهم عرفتَ على وجههِ غبرةً عبوساً قمطريراً لا يعرِفُ معروفاً ولا يُنكِرُ منكرا إلا ما أُشرِبَ من هواهُ>>
وهنا مربطُ الفرسِ "مشكلة الهوى" ، مظلمةٌ وجوههم (كأنّما أُغشيت وجوهُهم قِطعاً من الليلِمظلما) ، جعلوا حربَ الدينِ والدعوةِ هِجّيراهم فأشرعوا سهامهم نحو اهلِ الخيرِ والدعوة..>>
ولو كانَ سهماً واحداً لتّقيتُهُ ولكنّهُ سهمٌ وثانٍ وثالثُ>>
أربابُ هوى ومن اتبعَ الهوى فقد هوى ، حماةُ باطلٍ والباطلُ لا يأتي بالحقِّ أبداً....>>
(ولو اتبعَ الحقُّ أهوائهم لفسدتِ السمواتُ والأرضُ) ، فرسانُ فتنةٍ ركبوا لها كلَّ مركوبٍ،فساءتِ المطيّةُ والطويّةُ،الكذبُ ديدنهم والحقدُ ضجيعهم ، رضعوا لبانَ الغربِ ثمُّ جعلوا يتقيّؤنَهُ في بلادِ المسلمين ومازالوا يسترجعونهُ فهُم " كالرّادِّ في قيئهِ">>
استوطنوا الصحفَ والمجلاتِ فهي حوانيتهم وباراتهم وأماكنُ لهوهم وفجورهم >>
جمعوا فيها زبالاتِ الأفكارِ وساقطَ الأقوالِ وتافهَ المعاني فصاروا " صعاليكَ صحافةٍ" .>>
ولكنّنا في زمن " ويتكلم الرويبضةُ" ، فلا عجبَ...>>
داؤنا فينا ولو انّا اعتصمنا بكتابِ اللهِ ماستفحلَ داءُ>>
جعلوا من أعمدةِ الصحفِ لهم متّكئاً ، ومن " التلفازِ" موطئاً ، أجلبوا علينا بخيلهم ورجلهم>>
( يبغونكم الفتنةَ وفيكم سمّاعونَ لهم ) ، صارَ حالُ الأمّةِ معهم كما قالَ الشاعر :>>
أشكو إلى الله من عَلَقٍ يعيشُ على جراحي>>
من جلدتي لكن عليَّ أشدُّ من طعنِ الرماحِ>>
أخذَ الديانةَ عن مسيلمةَ الكذوبِ وعن سَجاحِ>>
من كلِّ تيسٍ كلما كبّرتُ بربرَ للنطاحِ>>
مظاهرهم كما وصفَ اللهُ أبلغَ وصفٍ ( وإذا رأيتَهم تعجبكَ أجسامهم )>>
فُضُولٌ بلا فَضْلٍ وسِنٌّ بلا سَنا>>
وطُولٌ بلا طَوْلٍ وعَرْضٌ بلا عِرْضِ >>
أخي الغالي واللهِ وتاللهِ وباللهِ إن لم يكن هؤلاءِ الليبراليّونَ منافقينَ فأنا أحمقٌ ساذجٌ لا أعرفُ نفاقاً ولا منافقين ، لا تأخذكَ بهم رأفةٌ فلقد قالَ اللهُ آمراً نبيّهُ محمداً عليهِ الصلاةُ والسلام>>
( يا أيّها النبيُّ جاهدِ الكفّارَ والمنافقينَ واغلظ عليهم ومأواهم جهنّمُ وبأسَ المصير)>>
فانظر رحمكَ اللهُ كيفَ قرنَ بينهم وبينَ الكفار ، ثم اعلم أنّ أهلِ النفاقِ بيننا >>
وأحدهم قد يكونَ صديقاً في العملِ وجاراً في السكنِ وقريباً في النسبِ>>
تراهُ حولك ( يأكلُ مما تأكلونَ منهُ ويشربُ مما تشربون) ، يقولُ علامةُ الدنيا الإمامُ القرطبيُّ رحمهُ الله معلّقاً على هذهِ الآيةِ " فيها مسالةٌ واحدةٌ الشدّةُ في دينِ اللهِ ">>
ويقولٌُ ريحانةُ القصيمِ العلامة السعدي رحمه الله معلقاً على تلكم الآيةِ أيضاً :_>>
" يأمر تعالى نبيهُ بجهادِ الكفارِ والمنافقينَ والإغلاظِ عليهم في ذلكَ ، وهذا شاملٌ لجهادهم بإقامةِ الحجّةِ عليهم ودعوتهم بالموعظةِ الحسنةِ ، وإبطالِ ماهم عليهِ من أنواعِ الضلاالِ">>
جهادُ هؤلاءِ القومِ جهادُ دفعٍ واجبٌ على الأمّةِ تحتَ رايةِ وليِّ الأمرِ الأعظمِ محمدٍ عليهِ الصلاةُ والسلام ، وهاكَ كلاماً نفيساً للشيخِ الفاضل الدكتور /ناصر العقل "متّعَ اللهُ بهِ">>(31/86)
"فإنّ التصدي لأهلِ البدعِ والأهواءِ والافتراقِ من سنن الهدى،ومن مطالبِ الدينِ وغاياتهِ،ومن أبوابِ الجهادِ وأعلى درجاتِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر،ومن غاياتِ الدعوة ومقاصدها،. وكما قال الشيخ بكر أبوزيد حفظهُ اللهُ "الردُّ على المخالفِ من أصولِ الإسلام" _ولايزالُ الكلامُ للشيخ ناصر _أما إنّهُ من أبوابِ الجهادِ فلأنَّ النبيَّ r قالَ فيما رواهُ أنسٌ رضيَ اللهُ عنهُ "جاهدوا المشركينَ بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم">>
وقالَ يحيى بن يحيى أحدُ أعلامِ السلف " الذبُّ عنِ السنّةِ افضلُ الجهاد" وقد استشهدَ بذلكَ شيخُ الإسلامِ بن تيميّةَ على أنَّ الرادَّ على أهلِ البدعِ مجاهدٌ. والجهادُ بالقلمِ فرعٌ من الجهادِ باللسان ، بل هو أبلغُ وأقوى وأعمُّ فائدةً" انتهى كلامه حفظهُ اللهُ.>>
>>
أغلظ لهم القولَ وحذِّر منهم ونفِّر عنهم واشدد وطأتَكَ عليهم حتى يولّوا الأدبارَ ، ولا غضاضةَ عليكَ في إغلاظِ القولِّ وشدّتهِ فهي طريقةٌ مسلوكةٌ وجادّةٌ معروفةٌ...>>
فاستعمالُ الألفاظِ والعباراتِ لهُ مقاماتٌ وحالاتٌ مختلفةٌ....وإليكَ كلاماً لشيخِ الإسلامِ بن تيمية.>>
"ولا ريبَ أنَّ الألفاظَ في المخاطباتِ ، تكونَ حسبَ الحاجاتِ ، كالسلاحِ في المحاربات ، فإذا كانَ عدوُّ المسلمينَ في تحصّنهم وتسلّحهم على صفةٍ غيرِ الصفةِ التي كانت عليها فارسُ والروم كانَ جهادهم بحسبِ ماتوجبهُ الشريعةُ التي مبناها على تجريبِ ماهو اطوع ، وللعبدِأنفع ، وهو الأصلحُ في الدنيا والآخرة..." انتهى كلامه رحمهُ اللهُ.>>
>>
أخي القارئ لقد أزعجنا هؤلاءِ بالغربِ وحضارةِ الغربِ وتقدّمِ الغربِ وتمدّنِ الغربِ ....>>
والحضارةُ كلُّ الحضارةِ في الإسلام وكلُّ دينٍ سواهُ فهو جهلٌ لا يبقى بعدهُ بصيصُ معرفةٍ ولا شعاعُ فطنةٍ ولا مسكةُ عقلٍ ولا أثارةٌ علمٍ ولا أقلَّ من ذلكَ ولا أكثر !!>>
الكافر باللهِ جاهلُ واللهِ وإنْ حكَّ القمرَ بقرنهِ ولحسَ الشمسَ بلسانهِ ...>>
( يعلمونَ ظاهراً من الحياةِ الدنيا وهم عنِ الآخرةِ هم غافلون )>>
>>
اقرأ هذا الكلام للأستاذِ سيّد قطب _ رحمهُ اللهُ وغفر له _>>
>>
"المجتمع الإسلامي بصفتهِ تلكَ هو وحدهُ المجتمعُ المتحضّرُ والمجتمعاتُ الجاهليّةُ بكلِّ صورها المتعددةِ مجتمعاتٌ متخلّفةٌ ، ولا بدَّ من إيضاحٍ لهذهِ الحقيقةِ الكبرى. لقد كنتُ أعلنتُ مرّةً عن كتابٍ لي تحتَ الطبعِ بعنوان " نحو مجتمعٍ إسلاميٍّ متحضر " .......( إلى أن قالَ )>>
ثم عدتُ في الإعلانِ التالي عنهُ فحذفتُ كلمةَ " متحضر" مكتفياً بأن يكونَ عنوانُ البحثِ كما هو موضوعهُ " نحو مجتمعٍ إسلاميٍّ " انتهى كلامهُ رحمهُ الله.>>
>>
أخي الغالي ماذا يريدُ منّا الرعاعُ الليبراليّونَ ؟؟؟>>
إنّهم يريدوننا همجاً بلا عقلٍ أصحابَ شهواتٍ بهيميّةٍ سفهاءَ لا دينَ ولا عقلَ ولا حاكميّةَ للهِ>>
يريدوننا أن نلقيَ كتابَ اللهِ وراءنا ظهرياً فلا دين ولا خلق ولا ماضٍ ولا تأريخ!!>>
>>
أختمُ كلامي وقد أثقلتُ وأمللتُ بكلامٍ غالٍ من آسرِ صراطيَ كلّهِ دِقِّهِ وجِلِّهِ !!>>
>>
إنّه العلامة الشيخ الدكتور سفر الحوالي وهذهِ الأسطرُ هي التي ختمَ بها رسالتهُ للماجستير >>
العلمانيّة فنِعمَ الختامُ !!>>
>>
" وبينَ فوضى الأربابِ والآلهةِ والطواغيت والمعبوداتِ ذاتِ الأسماءِ والشعاراتِ المختلفةِ والصور المتباينةِ يسير المؤمنُ الموحّدُ بخطىً ثابتةٍ في طريقٍ واضحٍ أبلجَ لا زللَ فيهِ ولا عِثارَ وهو مملوءٌ ثقةً ويقيناً بأنَّ اختيارهُ لغيرِ هذا الطريقِ أو تردّدهُ في الإستمساكِ بهِ معناهُ الكارثة الكبرى والخسارة الفادحة ....>>
قال تعالى ( قل أفغيرَ اللهِ تأمرونّي أعبدُ أيّها الجاهلونَ . ولقد أوحيَ إليكَ وإلى الذينَ من قبلكَ لئن أشكرتَ ليحبطنَّ عملُكَ ولتكونّنَّ من الخاسرينَ . بلِ اللهَ فاعبد وكن من الشاكرين )
منقول بتصرف
__________________
لا يوجد أحد غير الملاحدة قد سخر هذا الكم الهائل من الفكر لتحويل البشر إلى حيوانات... فبعد التمعن فى ما كتبوه ومعرفة ما يريدونه للبشرية لم يبق لنا سوى انتظار المشى على اربعة !
روابط هامة :
فهرس مواضيع الرد على الملحدين والعلمانين ... فهرس قسم الحوار حول الإسلام
مجموعة من الكتب لاغنى عنها للرد على الملحدين والعلمانيين ... الدليل الجامع للرد علي الشبهات والاباطيل
أيها الموحدون .... انتبهوا إلى ألاعيب الملحدين !
=============(31/87)
(31/88)
" الأخوة " المتليبرون ..!!
لطش من مكان ما ...!!
هناك طائفة لا يخلو منها أي مجتمع ...
ولو كان من أطهر المجتمعات ...
طائفة تلبس ما يلبس أهل ذلك المجتمع ...
وتأكل مما يأكلون ...
وتسكن في أرضهم ...
إلا أنها (تكيد) له ...
وتعمل على (تضييعه) و (إفساده) ...
(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) ...
(ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) ...
كانت هذه الطائفة تسمى في زمان صلى الله عليه وسلم بـ(المنافقين) ...
ثم سموا بعد ذلك بـ(الزنادقة) ...
وظهرت منهم أصناف كثيرة...
(المانوية) ، و (الباطنية) ، و (الإباحية) ...
وغيرهم ...
(قلوبهم شتى) ...
وأهدافهم واحدة ...
إذا كان سيف التوحيد حامياً خنسوا ، وذلوا ، وقلوا ...
وأصبحت لا تعرفهم إلا في لحن القول ...
وإذا انثلم ذلك السيف ظهرت أصواتهم وعلت ...
وجاهروا الناس بخبثهم وكيدهم ...
قد انتشروا في مجتمع المسلمين وكثروا ...
يحلو لكثر من الناس أن يسميهم بـ(العلمانيين) ...
أو يتلطف معهم فيقول : إنهم (ليبراليون) ...
وهذا في الحقيقة ليس عدلاً ...
بل هو الظلم بعينه ...
والمسلم مطالب بالعدل حتى مع الأعداء ...
(ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) ...
والعدل مطلوب حتى في الأسماء والألقاب ...
فلا يجوز الظلم من أجل (البغض) ...
فلا (وكس) و لا ( شطط) ...
ونحن - والله - نبغض (العلمانية) ...
ونعلم أنها مذهب خبيث ...
ولكن لا يحملنا بغضها على ظلمها ...
والافتراء عليها ...
بجعل أولئك (علمانيين) !!...
فالعلمانية مذهب غربي كافر ...
إلا أن من علمانيي الغرب من يحمل هم أمته ...
فمنهم من ينتج (صاروخاً) يرهب به عدوهم...
أو يطور (مصنعاً) يخدم به مجتمعهم...
أو يبتكر (دواءً) يعالج به مرضاهم...
وكلهم يؤمنون بحرية (التعبير) حتى للمخالفين لهم ...
وكافر يجعلك تقول الحق ...
خير من كافر يحجر عليك ...
مع خبث الجميع ...
وأما أكثر هؤلاء الذين بليت مجتمعات المسلمين بهم...
فليس منهم من يقدر على صناعة (مفك صلصة) ...
وأكثرهم لا يعرف (كوعه ) من (كرسوعه) ...
وإذا تسلطوا ...
لم يجعلوا لغيرهم ذكراً ...
ولا (حرية) ولا (ليبرالية) ...
ولا هم يحزنون ...
وإنما برعوا في شيءٍ واحد ...
في (إفساد المرأة) و (تعهير المجتمع)...
فانظر إلى مواقع الشبكة التي أنشأوها ...
والصحف التي يكتبون فيها ...
والفضائيات التي يديرونها ...
تجدها أشبه ما يكون بـ(مواخير دعارة) ...
لا يعرفون من الغرب إلا (التفسخ) و (العري) ...
أما (الصناعة) و (الاقتصاد) ...
فهم عنها بمعزل ...
همهم أن يقودوا أمتهم إلى (التعهير) ...
فأصدق تسمية لهم وأعدلها هي : أ نهم (قوادون) ...
كتبه /
ناصر بن حمد الفهد
الإثنين : 26 / 5 / 1423
==============(31/89)
(31/90)
أكذوبة الليبراليين ومنطق الحاخام والخنزير !!
يحكى أن بعض اليهود قد اشتكى للحاخام من ضيق مسكنه مع كثرة عياله فأمره الحاخام بأن يقتنى فى هذا المسكن خنزيرا وبعد عدة أيام سأله كيف حالك الآن فقال نحن فى أسوء حال وأضيقه وقد نغص علينا هذا الخنزير عيشتنا فقال له الآن أطلق الخنزير ثم سأله بعدها كيف حالك فأجاب وقد انفرجت أساريره وانشرح صدره نحن فى أوسع حال وأرغد عيش فرد الحاخام الآن قد حلت مشكلتك ..
لقد ذكرنى موقف الليبرالين والملاحدة وكذبتهم المخزية بهذه القصة فقد سولت لهم عقولهم المريضة أنهم يستطيعون تخفيف ما هم فيه من كرب وما تطويه نفوسهم من ضيق وكمد كلما أظهر الله للناس أية مصداقا لقوله تعالى : (( سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد )) فاختلقوا تلك الأكاذيب ونشروها ثم كذبوها .. نعم لقد ثقل عليهم الحق حتى ضاقت به عليهم الأرض بما رحبت فسولت لهم عقولهم المريضة صبغ الباطل بصورة الحق حتى إذا زهق طابت نفوسهم وانشرحت صدورهم وتعالت ضحكاتهم بهذا الفرج الزائف (( قل موتوا بغيظكم إن الله مخرج ما تحذرون )) .
=============(31/91)
(31/92)
الليبرالية نشأتها ومجالاتها
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فإن موضوع "الليبرالية" له أهمية كبيرة في الدراسات الفلسفية والواقعية من جهتين :
الأولى : الغموض الذي يحيط بالمصطلح في نفسه وعدم تصور الكثير لدلالته ومفهومه .
الثانية : تأثر كثير من أبناء المسلمين به , وكثرة الكلام حوله بعلم وبدون علم في أحيان كثيرة .
وقد كان جيل النهضة - كما يسمونه - ممن شارك في دعوة المسلمين إليه ونصحهم به, وصوَّر أن نهضة الغرب وقوة حضارته المادية كانت بسبب اعتناق هذا المذهب الفلسفي , فكثر المطبلون له من كافة أطياف المجتمع .
وما هذه المعاناة التي نعاني منها في البلاد الإسلامية مثل القوانين الوضعيَّة , والفساد الأخلاقي , وانتشار الإلحاد , وترويج مذاهب الكافرين إلا إفرازا لهذا المذهب الفاسد .
وربما تميَّز هذا المذهب عن غيره في قربه من التطبيق العملي , وكونه سيال يحمل مذاهب متعددة مع بقائه على وصفه كمذهب فكري
وبعد سقوط الشيوعية كآيديولوجية كانت تهدد الفكر الليبرالي الغربي اغتر الغربيون كثيرا بمبدأ ( الليبرالية ) وصاروا يبشرون به في كل محفل ويزعمون أنه هو خيار الإنسانية الوحيد فوظفوا طاقاتهم الفكرية والإعلامية بدعم سياسي واقتصادي رهيب لنقل هذا النور !! الى الإنسانية كلها .
ولعل أبرز نتاج فكري يدل على الغرور الكبير بهذا المبدأ عند الغربيين كتاب (نهاية التاريخ ) لمؤلفه فرانسيس فوكوياما وهو أمريكي الجنسية ياباني الأصل , وقد ظهر فيه بوضوح مدى الغرور الكبير بهذا المنهج ( الليبرالية ) حيث اعتبرها فوكوياما نهاية التاريخ الإنساني وليس الأمريكي فحسب .
ولقد أستغل الغربيون الليبراليون الإمكانيات الكبيرة المتاحة لديهم لنقل هذا المذهب إلى أقصى الدنيا وصناعة الحياة الإنسانية على أسسه ومبادئه عن طريق القوة السياسية والإقتصادية وتوظيف وسائل الإتصالات التي تمكنهم من مخاطبة كل الناس وفي كل الأرض .
ولعل من أبرز نتائج الليبرالية في مجال الإقتصاد (العولمة ) وما تحمله من مضامين فكرية وقيم أخلاقية وأنماط حضارية وهي تحمل الرغبة الغربية في السيطرة في كل اتجاه : الحربي والسياسي والقيمي والحضاري والإقتصادي .
فضلا عما تحمله من الدمار للإنسانية في معاشها الدنيوي وقد ظهرت آثار الرأسمالية في الحياة الغربية قبل مرحلة العولمة التي هي تعميم للرأسمالية على العالم كله .
مما جعل البعض يعتبر القرن الحادي والعشرين هو قرن المفكر الشيوعي (كارل ماركس ) لما يرى من تكدس الثروة بيد طبقة من الناس وانتشار الفقر والعوز في الناس و أخذ الأموال من البشر بأي طريق ، والتفنن في احتكار السلع الضرورية وتجويع البشر وإذلالهم باسم الحرية الإقتصادية .
لقد أصبح من الواضح الجلي تأثير العالم الغربي في الحياة الإنسانية في كافة المجالات , ونحن المسلمين جزء من هذا العالم الذي يتلقى التأثير من الغرب في كل وقت , بل ربما نكون نحن معنيين بهذا التأثير أكثر من غيرنا لأننا - مع ضعفننا وهواننا على الناس - أمة منافسة في قوة الدين الذي نحمله وهذا ما جعل هنتجتون في مقاله (صراع الحضارات ) ير شح المسلمين للصراع في المرحلة الحالية والقادمة كبديل للشيوعية بعد سقوطها أكثر من الجنس الأصفر ( الصين واليابان ودول شرق وجنوب آسيا ) لأن الدين الذي يحمله المسلمون فيه من عوامل البقاء والقدرة على الصراع وإمكان التفوق والصعود مرة أخرى ما يلاحظه أي مراقب في الحركة التاريخية والمسيرة الواقعية له.
والدعوة الإسلامية إذا استطاعت أن تواجه المشكلات الداخلية فيها - مثل التفرق والفوضوية و مخالفة الهدي النبوي وغيرها - فان أكبر ما يواجهها هو التيار الليبرالي في البلاد الإسلامية .
ولهذا كان من الضروري دراسة الفكر الليبرالي ومعرفة حقيقته وأبعاده لمعرفة كيفية التعامل معه وإدارة المعركة معه بنجاح , فكانت هذه الدراسة المختصرة التي تؤدي جزءا من المطلوب , وأتمنى من الأخوة القراء التواصل معي فيما يفيد في خروج البحث في صورته القادمة ولكل من أهدى لي ملاحظة أو تصحيح أو فائدة أو توثيق الشكر والدعاء بالأجر والثواب .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
كتبه/ عبد الرحيم بن صمايل السلمي
المبحث الأول : مفهوم الليبرالية
من الصعوبة بمكان تحديد تعريف دقيق لليبرالية , وذلك بسبب تعدد جوانبها ,وتطورها من جيل إلى جيل .
يقول الأستاذ وضاح نصر : "تبدو بلورة تعريف واضح ودقيق لمفهوم الليبرالية أمراً صعباً وربما عديم الجدوى . وفي حال تحديد الليبرالية نجد أن هذا التحديد لا ينطبق على عدد من الفلاسفة والمفكرين الذين سيموا بسمة الليبرالية([1])
وقد قررت موسوعة لالاند الفلسفية الالتباس الحاصل في مفهوم الليبرالية ؛ فجاء فيها "نرى من خلال التعريفات السابقة مدى التباس هذا اللفظ . ومما يزيد في الالتباس استعماله الطارئ المتداول في أيامنا للدلّ على الأحزاب أو النزعات السياسيَّة" . ([2])(31/93)
وفي الموسوعة العربية العالمية "وتعتبر الليبرالية مصطلحاً غامضاً لأن معناها وتأكيداتها تبدَّلت بصورة ملحوظة بمرور السنين" ([3])
وقال الدكتور يوسف القرضاوي :"وأمثال هذه المصطلحات التي تدل على مفاهيم عقائدية ليس لها مدلول واحد محدد عند الأوربيين . لهذا تفسر في بلد بما لاتفسر به في بلد آخر, وتفهم عند فيلسوف بما لاتفهم به عند غيره , وتطبق في مرحلة بما لاتطبق به في أخرى .
ومن هنا كان اختلاف التعريفات لهذه المفاهيم , وكانت الصعوبة في وضع تعريف منطقي جامع مانع يحدد مدلولها بدقة . حتى اشتقاق كلمة "ليبرالي" نفسها اختلفوا فيه :هل هي مأخوذة من (ليبرتي) التي معناها الحرية كما هو مشهور أم هي مأخوذة من أصل أسباني ؟" ([4])
ولكن لليبرالية جوهر أساسي يتفق عليه جميع الليبراليين في كافة العصور مع اختلاف توجهاتهم وكيفية تطبيقها كوسيلة من وسائل الإصلاح والإنتاج .
هذا الجوهر هو " أن الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى , الباعث والهدف , الأصل والنتيجة في حياة الإنسان , وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه" ([5])
يقول الأستاذ وضاح نصر : "وإذا كان لليبرالية من جوهر فهو التركيز على أهمية الفرد وضرورة تحرره من كل نوع من أنواع السيطرة والاستبداد , فالليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه : تسلط الدولة (الاستبداد السياسي) , وتسلط الجماعة (الاستبداد الاجتماعي) , لذلك نجد الجذور التاريخيَّة لليبرالية في الحركات التي جعلت الفرد غاية بذاته , معارضة في كثير من الأحيان التقاليد والأعراف والسلطة رافضة جعل إرادة الفرد مجرد امتداد لإرادة الجماعة" ([6])
وأهم ما يميز الأدبيات الليبرالية الكلاسيكية المعاصرة هو اهتمامها المفرط بمبدأ الحرية , حيث يفترض الفكر الليبرالي أن الحرية هي الغاية الأولى والرئيسيَّة التي يتطلع لها الفرد بطبيعته.
وأنه لا يوجد إجابة مطلقة للسؤال الفلسفي المشهور : ما هي الحياة المثلى للإنسان ؟ لأن لكل فرد الحق والحرية في اختيار أسلوب الحياة الذي يناسبه .([7])
إذن : مبدأ الحرية وتحقيق الفرد لذاته تمثل نقطة انطلاق في الفكر الليبرالي بكل أطيافه , وفي كل المجالات المختلفة .
وقد ورد في موسوعة لالاند أن "هذا الاسم (الليبرالية) عينه يدل خاصة على العقائد التي تعتبر ازدياد الحرية الفردية من مثلها , والعقائد التي ترى أن الحد من دور الدولة هو بمنزلة وسيلة أساسية لهذه الحرية" ([8])
والأساس الفلسفي الذي ينطلق منه الفكر الليبرالي هو المذهب الفردي الذي يرى أن الحرية الفردية هدفاً وغاية ينبغي تحقيقها. وقد عُرِّفت الليبرالية مجموعة تعريفات بحسب المجال التي تعرَّف من خلاله. ([9])
يقول منير البعلبكي :"والليبرالية تعارض المؤسسات السياسية والدينية التي تحد من الحرية الفردية ... وتطالب بحقه في حرية التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة". ([10])
وفي المؤسسة العربية أن الليبرالية :"فلسفة اقتصادية وسياسية تؤكد على الحرية والمساواة وإتاحة الفرص" ([11])
وهذا التعريف ليس تعريفاً دقيقاً لمذهب فلسفي تغيَّر مفهومه مع السنين بسبب التقلبات الفكرية والسياسية والاجتماعية .
والحقيقة أن التعريف الدقيق لهذا المصطلح هو تعريفه بحسب المجال الذي يعرف من خلاله, نعرفها على النحو التالي : ليبرالية السياسة , وليبرالية الاقتصاد , وليبرالية الأخلاق ... وهكذا . وهذا ما قامت به موسوعة لالاند الفلسفيّة .
وسيأتي تعريف كل نوع على حدة في مبحث مجالات الليبرالية .
وإذا تتبعنا مراحل الليبرالية التي مرت بها نجد أنها على النحو التالي : ([12])
(1) مرحلة التكوين , والمفهوم الأساسي في هذه المرحلة هو مفهوم ذات الإنسان باعتباره الفاعل صاحب الاختيار والمبادرة .
(2) مرحلة الاكتمال , ومفهومها الأساسي هو مفهوم الفرد العاقل المالك لحياته وبدنه وذهنه وعمله , وعلى أساس هذا المفهوم شيد علم الاقتصاد العقلي المخالف للاقتصاد الإقطاعي المتفكك , وشيد علم السياسة العقلية المبني على نظرية العقد , والمخالف لسياسة الاستبداد المترهل المنخور .
(3) مرحلة الاستقلال , ومفهومها الأساسي هو مفهوم المبادرة الخلاّقة من المحافظة على الحقوق الموروثة , والاعتماد على التطور البطيء , وهو تطور من العقل الخيالي إلى الملك الواقعي .
(4) مرحلة التقوقع , ومفهومها الأساسي هو مفهوم المغايرة والاعتراض وترك مسايرة الآراء الغالبة , لأن الخلاف والاعتراض يبعد عن التقليد ويولد الإبداع .
ليس الغرض من بيان مراحل الليبرالية تاريخ تطور الفكر الليبرالي بل تحديد منظومة الأفكار المختلفة التي يتبين من خلالها خطأ إعطاء تعريف واحد لهذه الفلسفة صاحبة المفاهيم المتعددة .
ويلاحظ (رانزولي) أن هذه الكلمة تستعمل في إنكلترا خصوصاً بالمعنى الاقتصادي , بينما تكاد تستعمل دائماً في إيطاليا بالمعنى السياسي الديني . ([13])(31/94)
ويحاول طوكفيل - أحد أقطاب الليبرالية في القرن التاسع عشر - أن يحدد معنى الحرية فيقول :"إن معنى الحرية الصحيح هو أن كل إنسان نفترض فيه أنه خلق عاقلاً يستطيع حسن التصرف , يملك حقاً لايقبل التفويت في أن يعيش مستقلاً عن الآخرين في كل ما يتعلق بذاته وأن ينظم كما يشاء حياته الشخصية" ([14])ونظراً لكون الحرية مفهوماً عاماً يوصل إلى التعارض والتنازع بين الحريات المتناقضة فإن هيمون يتمنى أن توضع الليبرالية في مقابل النظرية الانفلاتية , وهذا تغيير لمفهوم الحرية (الانفلات)"وعندئذ يمكن أن تكون الأولى (الليبرالية)معتبرة بوصفها النظرية الأخلاقية والسياسية التي تتوق إلى حرية الفرد أيما توق , وتحدّ في الوقت نفسه من المطالبة أو الحصول على هذه الحريات عندما تغدو إباحيات مضرة بالآخر (بمعنى إعلان الحقوق) في المقابل يمكن للنظرية الانفلاتية أن تكون صورة للفردية التي لاتعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية فهي وحدها الحكم على حقوق الفرد وفقاً لقوته" ([15])
ويقابل الليبرالية مجموعة من المصطلحات المناقضة لمفهوم الحرية بالمعنى الليبرالي مثل الاستبدادية ([16]) autoc r tisme) (, والحكومة الأوتوقراطية هي الحكومة الفردية المطلقة المستبدة , و autoc r atic) ) أي حاكم استبدادي .([17])
خلاصة :
الليبرالية لها مفاهيم متعددة بحسب ما تضاف إليه , ويجمعها الاهتمام المفرط بالحرية , وتحقيق الفرد لذاته , واعتبار الحرية هدفاً وغاية في ذاتها .
فالليبرالية هي "نظرية الحرية" , وهي نظرية ذات أطياف متعددة وجوانب مختلفة , وبمقادير متفاوتة .
والحرية - كما يلا حظ الباحث المدقق - مفهوم عام يمكن أن يعني به الحرية المطلقة دون معنى محددا , وقد يريد به البعض معنا محددا معينا.
ولكن المفهوم الفلسفي لهذا المذهب الفكري هو الحرية المطلقة التي لا تحدها الحدود ولا تمنعها السدود الا ما كان فيها تجاوز لحريات الآخرين على قاعدة ( تنتهي حريتك حيث تبدأ حريات الآخرين ) .
ومن أستعمل هذا المصطلح لغير هذا المفهوم الشمولي فهو غير مصيب في استعمال المصطلح في غير مجاله وكان الأولى به البحث عن لفظ يناسب معناه غير هذا المصطلح .
وهذا يكشف مدى تردد الليبراليين العرب بين مفهوم المصطلح الفلسفي وبين انتسابهم للأسلام المناقض له من الجذور والأصول .
المبحث الثاني : الليبرالية عند جون ستوارت مل ([18])
يعتبر (ملْ) من أبرز المفكرين الغربيين الذين نظّروا للفلسفة الليبرالية من خلال كتابه (في الحرية - on lib r ty) ( [19]) - والذي أصبح المصدر الأساسي لفكر الليبراليين العرب من أمثال أحمد لطفي السيد , وطه حسين , وحسين هيكل . ([20])
أخذ (مل)موضوع الليبرالية من الجهة التطبيقية والاجتماعية ولم يناقشها من الناحية الفلسفية المجردة فيقول :"لا يتناول هذا المقال ما يسمى حرية الإرادة , وهي التي تتعارض مع ما يدعى خطأ بفلسفة الضرورة , ولكنه بحث في الحرية المدنية الاجتماعية". ([21])
وقد تحدث (مل) عن حركة الفكر وقال عن المعتقدات الدينية :"ولاأقول أن الاعتقاد بصدق العقيدة مدعاة للعصمة , بل إن ماأقوله إن ادعاء العصمة معناه إجبار الغير على قبول ما نراه في العقيدة دون أن نسمع رأيه فيها , ولا أستطيع أن أدعي العصمة حتى وإن كانت لحماية أعز معتقداتي".
ويقيد مل الحرية حتى لاتصبح انفلاتية متناقضة فيقول :"كلما تعين ضرر واقع أو محتمل, إما للفرد وإما للعموم ينزع الفعل الذي يتسبب في الضرر من حيّز الحرية ليلحق بحيّز الأخلاق أو بحيّز القانون".
ويقول :"إن ما يخص الفرد وحده هو من حقوقه , ومايخص المجتمع فهو حق للمجتمع".
ويرى مل أن الدولة لابد أن يكون لها حَدّ معين تقف عنده لينمو رصيد الحرية عند الأفراد سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو غيره وأنه بدون ذلك سيتحول الأمر إلى استبداد حتى لو كان هناك حرية في مجال معين أو انتخاب تشريعي. ([22])
يقول مل :
"إذا كانت الطرق والسكك والبنوك ودور التأمين والشركات بالمساهمة والجامعات والجمعيات الخيرية كلها تابعة لإدارة الحكومة , وإذا أصبحت - زيادة على ماسبق - البلديات والجماعات المحلية مع مايترتب عنها اليوم من مسؤوليات , أقساماً متفرعة عن الإرادة المركزية, إذا كانت الحكومة هي التي تعيّن موظفي تلك المصالح وتكافؤهم بحيث يعود أملهم في تحسين معاشهم معقوداً عليها , إذا حصل كل هذا , حينئذ تصبح الحرية اسماً بلا مسمى , رغم المحافظة على حرية الصحافة وعلى انتخاب المجلس التشريعي بالاقتراع العام".
ورغم أن الديمقراطية من إفرازات الليبرالية إلا أن (مل) ينتقد الديمقراطية لأنه يعتبرها هيمنة للأكثرية على حرية الأقلية ولو كان فرداً واحداً.
يقول ملْ:
"إن مشكلة الحرية تُطرح بإلحاح داخل الدولة الديمقراطية.. بقدر ما تزداد الحكومة ديمقراطية بقدر ما ينقص ضمان الحرية الفردية".
ويقول عن إنجلترا :"ليست هذه البلاد وطناً لحرية الفكر".
وتوضيح ذلك :(31/95)
أن من مقومات الليبرالية المهمة ضرورة الاعتراض والمغايرة لينمو بذلك الفكر الحر أما إذا كانت الأمور مسلمة لا تحتمل النقد يجمد الفكر ويضمحل الابتكار.
يقول :"عندما نقبل أن تكون المبادئ مسلمات لاتحتمل النقد , وأن تكون المسائل الكبرى التي تهم البشر موضحة بدون نقاش محدد , حينذاك يضمر النشاط الفكري الذي طبع الفترات الذهبية من تاريخ الإنسان".
ويعتبر ذلك من أبرز صور الاستبداد لأن مخالفة الجمهور وحيوية النقاش وبلورة الشخصية الفردية هي أساس التطور والتقدم والتحديث , ومن لم يكن كذلك فلا تاريخ له بالمعنى الحقيقي .
يقول (مل):
"إن القسم الأكبر من الإنسانية لا يملك تاريخاً بالمعنى الحقيقي لأنه يئن تحت وطأة الاستبداد".
الدين في كتاب ستوارت ملْ ([23])
يرى ملْ أن المجتمع الديني غير ليبرالي لأنه مجتمع في نظامه للحكم فردي استبدادي , ونظامه الاجتماعي العام مؤسس ([24]) على الإجماع في الرأي وعلى تحريم النقد والنقاش المفتوح.
وهو ينتقد كل دين أو مجتمع متشدد في قوانينه الأخلاقية والدينية أي التي يضعها فوق النقاش . بما في ذلك المجتمع اليوناني في زمن نهضة العلوم , والإصلاح الديني (البروتستانت) والمجتمع الإنجليزي والأمريكي .
ويصرح ملْ بنقد الدين في اعتراضه على تحريم تجارة الخمر ,فيقول :"إن التحريم يمس حرية الفرد لأنه يفترض الفرد لا يعرف مصلحته"
وكذلك تحريم أكل لحم الخنزير , فيقول :"إن للمسلمين الحق في تجنبهم لحم الخنزير لأنهم يعافونه , لكنهم عندما يحتقرون غيرهم ممن لا يعافه ويأكله , فإنهم يمسون بحرية ذلك الغير".
وهو يعارض فكرة الحسبة لأنه يعتبر ذلك وضعاً للنفس في موضع الإله , يقول :"إن الناس عندما ينهون غيرهم عن المنكر يعتقدون أن الله لا يكره فقط من يعصي أوامره , بل سيعاقب أيضاً من لم ينتقم في الحال من ذلك العاصي".ومن الطريف أن ستوارت ملْ يعود إلى الاعتراف بأهمية الحسبة ويناقض نفسه لمّا طرح الأسئلة التالية : هل يجوز السماح ببيع السم أو التبغ أو الخمر ؟ هل يسمح للمرء أن يبيع نفسه لغيره ؟ هل يجب إجبار المرء على التعلم ؟ هل يجب تحديد النسل ؟ ولنقارن الآن بين قول ملْ الآتي وبين إنكاره مفهوم الحسبة بأنه اتهام للإنسان أنه لا يعرف مصلحته يقول :"في كل قضية من القضايا السابقة إن عدم تدخل الدولة قد يؤدي إلى أن يضر المرء نفسه بنفسه : أن يبقى جاهلاً أو أن يبذر ماله أو أن يسمم أقرباءه أو أن يبيع نفسه , ولكن إذا تدخلت الدولة ومنعت بعض الأنشطة , فسيكون المنع بالنسبة للرجل العاقل تجنياً على حقه في التصرف الحر".
ويقول :" إذا كانت الدولة مسؤولة على تغذية الفقراء فلها الحق أن تحد النسل , أما إذا تركت الناس ينجبون كما شاؤوا فليس عليها أن تعيل الفقراء" ([25])
وهنا يناقض ملْ نفسه في عدة قضايا :
- في تدخل الدولة للمصلحة لأنه ليس كل إنسان يعرف مصلحة نفسه .
- في إبطال قاعدة أن الإنسان يعرف مصلحته ولا يحتاج إلى وصاية .
- في إنكار مبدأ الحسبة وتقييد الحريات المطلقة.
المبحث الثالث : نشأة الليبرالية وتطورها
نشأة الليبرالية وجذورها
نشأت الليبرالية في التغيرات الاجتماعية التي عصفت بأوربا منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، وطبيعة التغير الاجتماعي والفكري يأتي بشكل متدرج بطيء.
وهي لم " تتبلور كنظرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع على يد مفكر واحد، بل أسهم عدة مفكرين في إعطائها شكلها الأساسي وطابعها المميز.
فالليبرالية ليست اللوكية ( نسبة إلى جون لوك 1632 - 1704 )، أو الروسووية ( نسبة إلى جان جاك روسو 1712-1778 ) أو الملّية ( نسبة إلى جون ستوارت ملْ 1806-1873 )، وإن كان كل واحد من هؤلاء أسهم إسهاماً بارزاً أو فعالاً في إعطائها كثيراً من ملامحها وخصائصها"([26])
وقد حاول البعض تحديد بداية لبعض مجالاتها ففي موسوعة لا لاند الفلسفية "الليبرالي ( أول استعمال للفظة ) هو الحزب الأسباني الذي أراد نحو 1810م أن يدخل في أسبانيا من الطراز الإنكليزي.)([27])
ويذكر الأستاذ وضاح نصر: " أن الليبرالية في الفكر السياسي الغربي الحديث نشأت وتطورت في القرن السابع عشر، وذلك على الرغم من أن لفظتي ليبرالي وليبرالية لم تكونا متداولتين قبل القرن التاسع عشر.([28])
قال منير البعلبكي :" الليبرالية(libe r alism)فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع، ثم اتخذت منذ ذلك الحين أشكالاً مختلفة في أزمنة وأماكن مختلفة([29])
والظاهر من تاريخ الليبرالية أنها كانت رد فعل لتسلط الكنيسة والإقطاع في العصور الوسطي بأوربا ، مما أدى إلى انتفاضة الشعوب ، وثورة الجماهير ، وبخاصة الطبقة الوسطي.والمناداة بالحرية والإخاء والمساواة، وقد ظهر ذلك في الثورة الفرنسية. وقد تبين فيما بعد أن هناك قوى شيطانية خفية حولت أهداف الثورة وغايتها([30]).
وبهذا يتضح لنا أن الليبرالية في صورتها المعاصرة نشأت مع النهضة الأوربية ثم تطورت في عصور مختلفة إلى يومنا هذا.(31/96)
ويرد بعض الباحثين جذور الليبرالية إلى ديمقراطيّ أثينا في القرن الخامس قبل المسيح، والرواقين في المراحل الأولى من المسيحية، ثم حرك الإصلاح البروتستانتية([31]).
وقد ذكر البعلبكي أن في حركة الإصلا الديني توجهاً ليبرالياً فقال: " كما يطلق لفظ الليبرالية كذلك على حركة في البروتستانتية المعاصرة تؤكد على الحرية العقلية ([32]).
يقول الدكتور علي بن عبد الرزاق الزبيدي: " ومن الصعب تحديد تاريخ معين لنشأة الليبرالية فجذورها تمتد عميقة في التاريخ([33]).
ويعتبر جون لوك من أوائل الفلاسفة الليبراليين وفلسفة تتعلق بالليبرالية السياسية.
تطور الليبرالية :
أخذت الليبرالية أطواراً متعددة بحسب الزمان والمكان وتغيرت مفاهيمها في أطوارها المختلفة ، وهي تتفق في كل أطوارها على التأكيد على الحرية وإعطاء الفرد حريته وعدم التدخل فيها.
ويمكن أن نشير إلى طورين مهمين فيها:
أولاً : الليبرالية الكلاسيكية :
يعتبر جوك لوك ( 1704م ) أبرز فلاسفة الليبرالية الكلاسيكية، ونظريته تتعلق بالليبرالية السياسية، وتنطلق نظريته من فكرة العقد الاجتماعي في تصوره لوجود الدولة، وهذا في حد ذاته هدم لنظرية الحق الإلهي التي تتزعمها الكنيسة.
وقد تميز لوك عن غيره من فلاسفة العقد الاجتماعي بأن السلطة أو الحكومة مقيدة بقبول الأفراد لها ولذلك يمكن بسحب السلطة الثقة فيها([34]).
وهذه الليبرالية الإنكليزية هي التي شاعت في البلاد العربية أثناء عملية النقل الأعمى لما عند الأوربيين باسم الحضارة ومسايرة الركب في جيل النهضة كما يحلو لهم تسميته.
يقول القرضاوي : " وهي التي يمكن أن يحددها بعضهم بـ" ليبرالية ألوكز" وهي التي أوضحها جوك لوك وطورها الاقتصاديون الكلاسيكيون ، وهي ليبرالية ترتكز على مفهوم التحرر من تدخل الدولة في تصرفات الأفراد،سواء كان هذا في السلوك الشخصي للفردأم في حقوقه الطبيعية أم في نشاطه الاقتصادي آخذاً بمبدأ دعه يعمل"([35]).
وقد أبرز آدم سميث (1790م) الليبرالية الاقتصادية وهي الحرية المطلقة في المال دون تقييد أو تدخل من الدولة.
وقد تكونت الديمقراطية والرأسماليّة من خلال هذه الليبرالية، فهي روح المذهبين وأساس تكوينها، وهي مستوحاة من شعار الثورة الفرنسية " دعه يعمل " وهذه في الحرية الاقتصادية " دعه يمر " في الحرية السياسية. وسيأتي التفصيل في مجالات الليبرالية.
ثانياً : الليبرالية المعاصرة :
" تعرضت الليبرالية في القرن العشرين لتغيّر ذي دلالة في توكيداتها. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ العديد من الليبراليين يفكرون في شروط حرية انتهاز الفرص أكثر من التفكير في شروط من هذا القيد أو ذاك. وانتهوا إلى أن دور الحكومة ضروري على الأقل من أجل توفير الشروط التي يمكن فيها للأفراد أن يحققوا قدراتهم بوصفهم بشراً.
ويحبذ الليبراليون اليوم التنظيم النشط من قبل الحكومة للاقتصاد من أجل صالح المنفعة العامة. وفي الواقع، فإنهم يؤيدون برامج الحكومة لتوفير ضمان اقتصادي، وللتخفف من معاناة الإنسان.
وهذه البرامج تتضمن : التأمين ضد البطالة ، قوانين الحد الأدنى من الأجور ، ومعاشات كبار السن ، والتأمين الصحي.
ويؤمن الليبراليون المعاصرون بإعطاء الأهمية الأولى لحرية الفرد ، غير أنهم يتمسكون بأن على الحكومة أن تزيل بشكل فعال العقبات التي تواجه التمتع بتلك الحرية.
واليوم يطلق على أولئك الذي يؤيدون الأفكار الليبرالية القديمة : المحافظون([36]).
ونلاحظ أن أبرز نقطة في التمايز بين الطورين السابقين هو في مدى تخل الدولة في تنظيم الحريات ، ففي الليبرالية الكلايسيكية لا تتدخل الدولة في الحريات بل الواجب عليها حمايتها ليحقق الفرد حريته الخاصة بالطريقة التي يريد دون وصاية عليه ، أما في الليبرالية المعاصرة فقد تغير ذلك وطلبوا تدخل الدولة لتنظيم الحريات وإزالة العقبات التي تكون سبباً في عدم التمتع بتلك الحريات.
وهذه نقطة جوهرية تؤكد لنا أن الليبرالية اختلفت من عصر إلى عصر ، ومن فيلسوف إلى آخر ، ومن بلدٍ إلى بلدٍ ، وهذا يجعل مفهومها غامضاً كما تقدم.
وقد تعرف الليبرالية تطورات أخرى في المستقبل ، ولعل أبرز ما يتوقع في الليبرالية هو التطور نحو العولمة التي هي طور ليبرالي خطير وسيأتي الإشارة إليه في المبحث الرابع.
المبحث الرابع : مجالات الليبرالية
تعددت مجالات الليبرالية بحسب النشاط الإنساني . وذلك أن الليبرالية مفهوم شمولي يتعلق بإدارة الإنسان وحريته في تحقيق هذه الإرادة فكل نشاط بشري يمكن أن تكون الليبرالية داخلة فيه من هذه الزاوية ، وبهذا الاعتبار.
" إن خصوصية الليبرالي عامة أنه يرى في الحرية أصل الإنسانية الحقّة وباعثة التاريخ. وخير دواء لكل نقص أو تعثر أو انكسار "([37])
وأبرز هذه المجالات شهرة : المجال السياسي ، والمجال الاقتصادي.
أولاً : ليبرالاية السياسة(31/97)
في موسوعة لالاند الفلسفية: " الليبرالية: مذهب سياسي يرى أن من المستحسن أن تزاد إلى أبعد حد ممكن استقلالية السلطة التشريعية والسلطة القضائية بالنسبة إلى السلطة الإجرائية التنفيذية ، وأن يعطى للمواطنين أكبر قد من الضمانات في مواجهة تعسف الحكم".([38])
ويقول منير البعلبكي : " الليبرالية libe r alism فلسفة سياسية ظهرت في أوربا في أوائل القرن التاسع عشر.. تعارض المؤسسات السياسية والدينية. التي تحد من الحرية الفردية ، وتنادي بأن الإنسان كائن خيّر عقلاني ، وتطالب بحقه في التعبير وتكافؤ الفرص والثقافة الواسعة([39]).
وتعتبر الديمقراطية من النظم الليبرالية التي تسعى لإعطاء الفرد حقوقه وهي نوع من التطبيق العلمي للفكر الليبرالي. يقول الدكتور حازم البيلاوي : " فنقطة البدء في الفكر الليبرالي هي ليس فقط أنها تدعو للديمقراطية بمعنى المشاركة في الحكم ، ولكن نقطة البدء هو أنه فكر فردي يرى أن المجتمع لا يعدو أن يكون مجموعة من الأفراد التي يسعى كل فرد فيها إلى تحقيق ذاته وأهدافه الخاصة([40]).
وقد أعطت الديمقراطية كنظام سياسي جملة من الحريات السياسية مثل : حرية الترشيح ، وحرية التفكير والتعبير ، وحرية الاجتماع ، وحرية الاحتجاج ، كما أعطت جملة من الضمانات المانعة من الاعتداء على الأفراد وحرياتهم مثل : ضمان الاتهام ، وضمان التحقيق ، وضما التنفيذ، وضمان الدفاع".([41])
"وقد أدّت الثورات الليبرالية إلى قيام حكومات عديدة تستند إلى دستور قائم على موافقة المحكومين.وقد وضعت مثل هذه الحكومات الدستورية العديد من لوائح الحقوق التي أعلنت حقوق الأفراد في مجالات الرأي والصحافة والاجتماع والدين.كذلك حاولت لوائح الحقوق أن توفر ضمانات ضد سوء استعمال السلطة من قبل الشرطة والمحاكم"([42]).
ومع ذلك فإن الليبرالية تطالب من الدول الديمقراطية مزيداً من الحريات تطالب بالتخفف من السلطة على الأفراد ليحصل بذلك الفرد على حريته.
ويرى سبنسر أن وظائف الدولة يجب أن تحصر في الشرطة والعدل والدفاع العسكري بمواجهة الأجنبي([43]).
ويظهر من ذلك المطالبة بغياب الدولة إلا فيما يتعلق بالحماية العامة للمجتمع ، وهذا هو رأي الليبراليين الكلاسيكيين. وقد انقرض هذا الرأي في الليبرالية المعاصرة التي جنحت إلى اعتبار الحرية الفردية هدفاً ولو بتدخل الدولة . بينما كان المذهب الأساسي عند الكلاسيكيين المطالبة بغياب الدولة مهما تكن نتائجه على الفرد([44]).
وقد اختلف الليبراليون الكلاسيكيون مع الديمقراطيين في من يملك حق التشريع العام ، فالديمقراطيون يرون أن الأكثرية هي التي تقرر وتشرع وتمسك بزمام السلطة. أما الليبراليون فقد اهتموا بحماية الفرد من الأذى، وأن هذا هو مهمة القانون بدل التشديد على حق الآخرين بسبب الأكثرية ، وهذه من نقاط التصادم بينهم"([45]).
ولكن الليبرالية اختلفت في الواقع المعاصر عمّا كانت عليه سابقاً.
ويمكن أن نطلق على التوجه الجديد ( الليبرالية الجديدة ) وبرروا ذلك بأنه نتيجة لعدم مسايرة الليبرالية التقليدية للتطور الذي شهده العالم كان ذلك هو السبب في ولادة ليبرالية جديدة تتلاءم وظروف المجتمع الجديد ، وهي ليبرالية ما بعد الحرب العالمية الثانية([46]).
والفرق بينهما فيما يتعلق بالسياسة هو :
أن دور الدولة في ظل النظرة الجديدة يجب أن يكون أكبر ، فلها مهمة أساسية هي تحديد الإطار القانوني للمؤسسات التي يدور فيها النشاط الاقتصادي ، وقد حدد منظرو الليبرالية الجديدة دور الدولة الذي يجب أن تقوم به بما يلي :-
1-أن تعمل كل جهدها ضد التضخم والانكماش.
2-أن تحد بشكل معتدل من سلطة الاحتكار وبشكل تتابعي.
3-أن تؤمم فقط الاحتكارات التي لا يمكن للقطاع الخاص.
4-أن تتحمل كافة الخدمات العامة.
5-أن تعطي الفرص والموارد بالتساوي.
6-أن تطبق التخطيط التأثيري من أجل التقليل من المخاطر التي قد تحدث.
7-أن تطبق التخطيط المركزي عندما يقتضي أن يكون هناك عمل تغير بنائي.
8-أن تتدخل عندما يكون هناك خلل في ميكانيكية السوق([47]).
ثانياً : ليبرالية الاقتصاد
الليبرالية الاقتصادية: " مذهب اقتصادي يرى أن الدولة لا ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية ، ولا وظائف تجارية ، وأنها لا يحقّ لها التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم. بهذا المعنى يقال غالباً ليبرالية اقتصادية"([48]).
ويلاحظ أن هذا التعريف واقع على الليبرالية الكلاسيكية قبل التحول الكبير الذي تم في الليبرالية الجديدة على نحو ما سيأتي.
ويقول البعلبكي " ويطلق لفظ الليبرالية أيضاً على سياسة اقتصادية نشأت في القرن التاسع عشر متأثرة بآراء آدم سميث بخاصة ، وأكدت على حرية التجارة وحرية المنافسة ، وعارضت تدخل الدولة في الاقتصاد"([49]).(31/98)
والليبرالية الاقتصادية وثيقة الصلة بالليبرالية السياسية ، ويعتقد الليبراليون أن الحكومة التي تحكم بالحد الأدنى يكون حكمها هو الأفضل.. ويرون أن الاقتصاد ينظم نفسه بنفسه إذا ما ترك يعمل بمفرده حراً ، ويرون أن تنظيمات الحكومة ليست ضرورية([50]).
وأبرز النظم الاقتصادية الليبرالية هو نظام " الرأسمالية " التي رتّب أفكاره عالم الاقتصاد الاسكتلندي آدم سميث في كتابه ( ثروة الأمم ).
ويدخل في الحرية التي يطالب بها الليبراليون حرية حركة المال والتجارة ، وحرية العمل وحرية التعاقد ، وحرية ممارسة أي مهنة أو نشاط اقتصادي آخذاً من الشعار الشهير للثورة الفرنسية " دعه يعمل دعه يمر."
والذي يحكم قواعد اللعبة الاقتصادية وقيمها هو سوق العرض والطلب دون أي تقييد حكومي أو نقابة عمالية. فللعامل الحرية في العمل أو الترك كما لصاحب رأس المال الحرية المطلقة في توظيف العدد الذي يريد بالأجرة التي يريد([51]).
ولكن سبق أن ذكرنا أن المفهوم الليبرالي تغير وبرزت الليبرالية الجديدة عل السطح بعد الحرب العالمية الثانية بسبب الأزمات الاقتصادية الخانقة والكساد وذلك لتمركز رأس المال وظهور الاحتكارات الصناعية الضخمة ، وانهيار قاعدة الصرف بالذهب وأزمة الثورات العمالية في ألمانيا مما جعل الحكومات تتدخل لإنعاش الاقتصاد فتغيرت الأيديولوجية الليبرالية إلى القول بأهمية تدخل الحكومة لتنظيم السوق([52]).
وقد فصّل صاحب كتاب " الليبرالية المتوحشة " كيفية تدخل الدولة لإنعاش الاقتصاد وإصلاح السوق ، وبهذه المرحلة تغيب شمس الليبرالية الكلاسيكية حيث أبطل الواقع فكرة إصلاح السوق لنفسه لتبرز إلى السطح الليبرالية الجديدة بقوة.
وقد أطيل النفس في مراحل الاقتصاد الليبرالي في الكتاب سابق الذكر، ونقد فكر الليبرالية الجديدة واقعياً ببيان انحدار الازدهار الاقتصادي الذي حققته الرأسمالية بعد الحرب الكونية الثانية ، فبدأت معدلات النمو الاقتصادي في التراجع وارتفعت معدلات البطالة والطاقة المعطلة ، وانخفضت معدلات نمو الإنتاجية([53]).
ولعل أبرز تطور جديد في الليبرالية المعاصرة هو " ليبرالية العولمة " ومن دلالتها الفكرية : العودة إلى الليبرالية الكلاسيكية كمفهوم ، وذلك أن من أبرز معالم العولمة : التخفيف من التدخل الحكومي في انتقال المال عبر الحدود والأسوار السياسية ، وذلك لتحقيق أعلى الأرباح ، فقد طبّقت الفلسفة الليبرالية عملياً عن طريق الشاويش السياسي الذي يحمي هذه الفكرة القديمة في الضمير الغربي.
لقد أصبح الاقتصاد وسيلة سياسية للسيطرة ، ونقل الثقافات الحضارية بين الأمم ، ولهذا فالأقوى اقتصادياً هو الأقوى سياسياًّ ولهذا اقتنعت الدول الغربية بهذه الفلسفة مع مشاهدتها لآثار الرأسمالية على الشعوب الفقيرة ، ومن خلال اللعبة الاقتصادية يمكن أن تسقط دول ، وتضعف أخرى.
وجذر العولمة الفكري هو انتفاء سيادة الدول على حدودها ومواطنيها فضلاً عن عدم سيطرتها عل النظام الاقتصادي الحر الذي كان يطالب به الليبراليون الكلاسيكيون.
يقول رئيس المصرف المركزي الألماني هناس تيتمار في فبراير من عام 1996م أمام المنتدى الاقتاصادي في دفوس " إن غالبية السياسيين لا يزالون غير مدركين أنهم قد صاروا الآن يخضعون لرقابة أسواق المال ، لا ، بل إنهم صاروا يخضعون لسيطرتها وهيمنتها"([54])وسوف يكون قادة العالم في المرحلة القادمة ( العولمة ) هم أرباب المال ، وسدنة المؤسسات الاقتصادية الكبرى.
والعولمة مبنية على نظرية اقتصادية ينصح بها عدد من الخبراء والاستشاريين الاقتصاديين. ويقدمونها دون ملل للمسئولين عن إدارة دفة السياسة الاقتصادية على أنها أفضل نهج وهي (الليبرالية الجديدة new libe r alisms) وشعار هذه النظرية (ما يفرزه السوق صالح ، أما تدخل الدولة فهو طالح )([55]).
وهذا صريح في إعادة ترميم الليبرالية الكلاسيكية والارتداد إليها بعد التغير الذي حصل بعد الحرب العالمية الثانية.
----------------------------------------------------
[1] - الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الثاني - القسم الثاني - ص / 1155).
[2] - موسوعة لالاند الفلسفية 2/725.
[3] - الموسوعة العربية العالمية 21/247.
[4] - الحلول المستوردة ص / 50 - 51
[5] - مفهوم الحرية - عبد الله العروي - ص/ 39.
[6] - الموسوعة الفلسفية العربية (المجلد الثاني - القسم الثاني -1155).
[7] - مقال في صحيفة الأهرام العدد (132) إبريل 1998م : الليبرالية : نظرة نقدية - دينا سماته - ص / 47 .
[8] - موسوعة لالاند الفلسفية 2/726
[9] - انظر سلسلة تراث الإنسانية 4 / 473- 474 .
[10] - موسوعة المورد العربية 2 / 1050 .
[11] - الموسوعة العربية العالمية 21 / 247 .
[12] - انظر مفهوم الحرية - عبدالله العروي - ص / 39 -40 (بتصرف) .
[13] - انظر موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726 .
[14] - الحالة الاجتماعية والسياسية في فرنسا سنة 1836م ( ضمن المؤلفات الكاملة )2 / 62 .
[15] - موسوعة لالاند الفلسفية 2 / 726 - 727 .(31/99)
[16] - المصدر السابق 2 / 726 .
[17] - انظر : المورد - للبعلبكي - ص /75
[18] - انظر النصوص المنقولة عن جون ستوارت مل : كتابه في الحرية ضمن سلسلة تراث الإنسانية (الجزء الرابع) .
[19] - قسم ستوارت مل كتابه في الحرية إلى خمسة فصول , أولها في فكرة الحرية , والثاني : حرية الفكر والمناقشة , والثالث : الفردية كعنصر من عناصر الحياة الطيبة , والرابع : حدود سلطة المجتمع على الفرد , والخامس : تطبيقات .
[20] - انظر مفهوم الحرية - عبدالله العروي - ص / 42 .
[21] - المصدر السابق ص / 42 .
[22] - سيأتي تفصيل رأي الليبراليين في الدولة والاقتصاد في مبحث مجالات الليبرالية .
[23] - النقول المنقولة عن كتاب (في الحرية)مأخوذة من مفهوم الحرية - للعروي - ص / 46 وقد صور العروي أن كلام (ملْ) هو نقد للإسلام .ويبدو أنه استنتاج من المؤلف , وأن ملْ لم ينص على نقد الإسلام باسمه بل بالآراء التي توحي بذلك (هذا ما أراه) .
[24] - مفهوم الحرية - عبدالله العروي - ص / 46 .
[25] - حول الاقتصاد السياسي (عن مفهوم الحرية ص 531 )
[26] - الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني - القسم الثاني - ص / 1155)
[27] - موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
[28] - الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني - القسم الثاني ص 1156)
[29] - موسوعة المورد العربية 2/1050.
[30] - أنظر : الموسوعة الفلسفية العربية
[31] - انظر : الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني - القسم الثاني ص 1156
[32] - موسوعة المورد العربية 4/1050.
[33] - مقال : في الدول الليبرالية - مجلة المؤرخ العربي العدد 35، ص / 71.
[34] - أنظر العلمانية - سفر الحوالي - ص /214 ، وانظر تفصيل نظرية لوك في ذلك : الموسوعة الفلسفية ( الجزء الثاني - القسم الثاني ص /1156-1157.
[35] - الحلول المستوردة ص 51.
[36] - الموسوعة العربية العالمية 21/248.
[37] - مفهوم الحرية - العروي -ص /511.
[38] - موسوعة لا لاند الفلسفية 2/725.
[39] - موسوعة المورد العربية 4/1050.
[40] - مجلة آفاق الإسلام - عدد 4-عام 1994م.
[41] - انظر تفصيل ذلك في : مذاهب فكرية معاصرة - للأستاذ محمد قطب - ( الديمقراطية).
[42] - الموسوعة العربية العالمية 21/248.
[43] - الموسوعة العربية العالمية 21/248.
[44] - انظر : موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
[45] - الموسوعة الفلسفية العربية ( الجزء الثاني - القسم الثاني - ص /1160).
[46] - مقال : في الدولة الليبرالية - مجلة المؤرخ العربي - عدد 35- ص/73.
[47] - أنظر مقال : في الدولة الليبرالية - مجلة المؤرخ العربي - عدد 35-ص/73.
[48] - موسوعة لا لاند الفلسفية 2/726.
[49] - موسوعة المورد العربية 2/1050.
[50] - أنظر الموسوعة العربية العالمية 21/248
[51] - أنظر الليبرالية المتوحشة ص/41.
[52] - أنظر المصدر السابق ص/47-51.
[53] - أنظر : المصدر السابق.
[54] - أنظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة : كتاب " فخ العولمة " ومنه أخذت النصوص السابقة.
[55] - أنظر في العلاقة بين الليبرالية والعولمة : كتاب " فخ العولمة" ومنه أخذت النصوص السابقة(31/100)
(31/101)
الليبرالية العربية.. هدم «النص» والسقوط في التبعية..!
بقلم : محمود سلطان
الخطاب الليبرالي العربي، منذ كان غضاً ـ أي وهو يحاول أن يعبر عن نفسه في عالم الفكر والمعرفة ـ وحتى الآن ظل محصوراً داخل نطاق ضيق لا يتخطى حدود خطاب «إطراء وإعجاب» بالمنظومة الفكرية والحضارية الغربية، ولم يستطع أن يتجاوز تلك الحدود ليشيد قاعدة فكرية واجتماعية تكون بمثابة «شريحة» مناضلة تقود التغيير بمعناه الشامل، أي أنه لم ينتظم في حركة تملك مشروعاً أو رؤية نجد بالفعل أثر آلياتها في المجتمع، ولكنه خط لنفسه حدوداً، وأرسى أبنية فكرية هي أقرب إلى الترف والدعة منها إلى الجدية المتوخاة في مثل هذا الموقف، وظل حبيساً داخلها!! فكان مجرد صوت مخنوق جلُّ همِّه وحَسْب تمجيد الآخر «المتقدم»، ومقت حاضره «المتخلف» وماضيه أيضاً..!
وغاب عنه حقيقة أن الأزمة الخانقة التي تفترس الفكر (الليبرالي ـ العلماني) العربي، ولا تزال، ومن ثم موضوعه (أي الواقع العربي) ترجع ـ في المقام الأول ـ إلى «التخندق» داخل نسق أيديولوجي مغلق عبَّر عن نفسه من خلال الثقة إلى مرتبة القداسة في النزعة المتطرفة نحو «النمذجة» واقتفاء أثر الآخر: «في حلوه ومره، خيره وشره» كما عبَّر عنها طه حسين وأقرها أقرانه الليبراليون المتطرفون أمثال شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وأحمد لطفي السيد، وإسماعيل مظهر، وقاسم أمين وغيرهم.
بل إن الأمر اتخذ أبعاداً أكثر جرأة مع أول تنظير فكري مصاغ بعقلية أزهرية تحاول علمنة الإسلام، وتأويل «النص القرآني» أو قسره كي يوازي في مضامينه ومحتواه النص المسيحي الشائع: «دع ما لقيصر لقيصر، ودع ما لله لله» تلك القضية التي فجرها القاضي الأزهري الشيخ «علي عبد الرازق» في كتابه: «الإسلام وأصول الحكم»(1) والذي لا يزال ـ حتى الآن ـ يعد الإطار المرجعي الذي يستند إليه العلمانيون المعاصرون في مواجهة التيار الصاعد الداعي إلى أسلمة الدولة العلمانية العربية المعاصرة.
ففي إطار منطق «اقتفاء الأثر» السقيم الذي أصَّل له طه حسين في كتابه: «مستقبل الثقافة في مصر» ظل المجتمع العربي على مدى العقود السبعة الماضية ـ انظر المثقف الليبرالي العربي ـ بناءاً يستند إلى قاعدة لبنتها الأساسية «النص»؛ ومن ثم شُغلت هذه الثلة المثقفة بمهمة تكاد تكون هي الوحيدة التي حشدوا من أجلها آلياتهم المستوردة من كل حدب وصوب: وهي كيفية تقويض «النص» والماضي العربي الذي أفرز هذا «النص»؛ إذ إن بتقويضه ـ وفق هذا التصور وفي ظل هيمنة الفكر الاستشراقي ـ سينهار الصرح الاجتماعي العربي «التقليدي» برمَّته..! معتقدين أن ذلك يمهد لهم السبيل نحو بناء عالم جديد مستحدث وإلحاقه ثقافياً وحضارياً بالغرب!
ولئن كان التراث (أو الماضي) ـ جملةً ـ ظل مرفوضاً في الخطاب الليبرالي العربي فإن تهافت هذا الخطاب وانزلاقه إلى الانفصام الكامل عن الموضوعية وعن الواقع أيضاً وتحوُّله إلى دوغمائية مغلقة، لم يكن في رفض التراث في حد ذاته ولا في مسعاه إلى تقويض الأطر المرجعية التي تؤسس التراث وتشكله؛ إذ إن هذا المنحى لم يتبلور في شكل موقف إزاء الماضي عامة بغض النظر عن هويته عربياً كان أم غير عربي، ولكن المشكلة في أن الماضي عند المثقف الليبرالي ظل مرفوضاً ومطلوباً في آن واحد؛ ومعيار المفاضلة عنده هو هوية هذا التراث ومصدره، فهو يدَّعي ـ على حد تعبير «سلامة موسى» ـ أنه يريد «تخريج الرجل العصري»، وأن الطريق الذي يراه إلى ذلك، هو طرد القدماء»!
ولكن أي قدماء؟! إنهم القدماء العرب واستبدالهم بفريق آخر من القدماء الغربيين!! بحيث يحل فرويد وفوكو وفولتير وروسو ونوتسيكو، محل الشافعي وابن حنبل وابن رشد وسيبويه والأصمعي!!(31/102)
لعل الدافع الأساس والرئيس لنزوع الليبرالي العربي نحو القطيعة مع تراثه وماضيه قد تأسس على الطريقة التي اعتمدها وهو يُعيد قراءتها من جديد، وهي طريقة تعوزها الحيدة والمنطق في آن؛ إذ إنه كان يقرأ التاريخ والثقافة العربية و «أوروبا» المتقدمة في رأسه، أي إنه قاس «الماضي» العربي على «حاضر» العالم الغربي المتقدم الآن، وهو خلل معياري كانت نتيجته الطبيعية والمترتبة عليه هو الحكم الظالم بجمود التراث أو تخلفه أو أي مرادف آخر لهما!! فهو يدَّعي أن ماضينا «متخلف». ولكن ألم يسأل نفسه: متخلف بالنسبة لمن؟! أبالنسبة إلى الحاضر العربي الآن، أم بالنسبة إلى المنظومات الحضارية الأخرى التي عاصرت ماضينا نفسه؟! أم بالنسبة إلى الحضارة الغربية المعاصرة؟! إن «الأخير» هو الذي كان مهيمناً على عقل الليبرالي العربي، وهو ما جعله يطلق وصف «التخلف» على تراثه بالكامل!! بالإضافة إلى أن انتصار أوروبا عسكرياً ـ وكذلك تفوقها التقني ـ على معظم دول العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الثامن عشر وإلى ما بعد الحرب العالمية الثانية زاد من حالة الانبهار بما تفرزه «أوروبا» ـ المنتصرة» من قيم ومفاهيم ونظريات ومدارس فكرية وفلسفية؛ مما رفعها ـ بمضي الوقت، في نظر المثقف الليبرالي، والأكثر انبهاراً بها ـ إلى مرتبة الحضارة «النموذج» التي تتحدث دائماً من موقع المصداقية، وتملك ـ من وجهة نظره ـ مشروعية الحكم على «المهزومين» ! ومن ثم نظر المثقف الليبرالي العربي إلى حاضره وماضيه من خلال نظرة أوروبا إليهما! ولا يخفى على أحد نظرة الاحتقار والازدراء التي كان ـ ولا يزال ـ ينظر بها إلينا العالم الغربي.
وفي ظل هذه الهيمنة الاستعلائية للنموذج الحضاري الغربي أثير هذا السؤال: «لماذا تأخرنا، وتقدم غيرنا؟!». وفي غياب الوعي بالأسباب الحقيقية للتحديث اختار المثقف الليبرالي العربي الطريق الأسهل: وهو التقليد والتشبه بالغالب المنتصر، ويبدو أنها كانت حالة اختلط فيها «الوعي» بـ «اللاوعي» مدفوعة بروح الإعجاب بالغالب المنتصر، والمؤدية إلى التبعية الكاملة له والتبرؤ من كل ما يتعلق بالذات «العربية ـ الإسلامية» من خصوصية، وهوية واستقلال تاريخي، وأكثر تجسيداً لما صاغه ابن خلدون بـ «أن المغلوب يتبع الغالب في الملبس والمذهب»(1)، ألم يقل أحد الليبراليين العرب بأن أوروبا المنتصرة: «هي المرشد الأول والقبلة التي يجب أن نحج إليها»؟(2)، ألم يقل سلامة موسى: «فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا.. ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها ونؤلف عائلاتنا على غرار عائلاتها»؟(1) أوَ لم يقل فرح أنطون: «يجب أن تكون مدارسنا كالمدارس الفرنسوية معزولة عن الدين عزلاً قطعياً»؟(2).
هكذا كان حال المثقف الليبرالي العربي كما يصفه الباحث الليبرالي السوري هاشم صالح: «كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني الموثر، يقف مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي، وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير اللائق و (لغته غير الحضارية)، و (دينه المتخلف) ويستحسن المثقف الغربي منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى ليكاد يلعن نفسه أو يخرج من جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً!»(3). هذا الموقف ربما نلتمس العذر لأصحابه، وخاصة هؤلاء الذين عاشوا مناخ «الصدمة» التي أفقدت العقل العربي اتزانه في بدايات القرن الماضي حين أذهلته المنظومة الحضارية الغربية بتفوقها الهائل وديناميتها السريعة وهو ما أدى إلى سقوط المثقف العربي ـ دون أن يدري ـ إلى التبعية، ولكن بعد ذلك كان الوقت كافياً لالتقاط الأنفاس، وإعمال الفكر والنظر لاحتواء الصدمة، وانبثاق فكر ليبرالي جديد متحرر من تأثيرها، وغير ملتفت إلى فكر «التبعية» السابق عليه، والذي يمكن أن نقول إنه صيغ في إطار خصوصيته التاريخية؛ ولكن ما حدث هو إنتاج وإعادة إنتاج الفكر السابق (فكر القطيعة مع الهوية العربية الإسلامية)، والوقوف عنده، دون تقديم جديد يستحق الاهتمام به، فما نقرؤه الآن هو النص نفسه الذي كتبه طه حسين، وسلامة موسى، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وغيرهم، ولكن منسوباً لأسماء جديدة دخلت عالم الفكر حديثاً.
فنحن حين نقرأ لأدونيس قوله بأن «الحداثة هي ظاهرة تتمثل في تجاوز القديم العربي لتصهره في قديم أشمل يوناني، مسيحي، كوني»(4) وحين نقرأ لفرج فودة قوله: «إن هوية مصر فرعونية، قبطية، إسلامية، متوسطية»(5) حينذاك نجد أنفسنا أمام الفكرة نفسها والنص نفسه الذي كتبه طه حسين من قبل في «مستقبل الثقافة في مصر»!
وكذلك حين نقرأ لـ «هشام ترابي» قوله بأن «التراث الذي ينبغي دراسته والحفاظ على إنجازاته هو التراث الذي صنعته الأجيال الثلاثة أو الأربعة الماضية»(6) فإننا نجده النص ذاته الذي كتبه من قبل سلامة موسى حين قال إن هدفه من النهضة: «هو تخريج الرجل العربي العصري الذي لا يرجع تاريخه إلى أكثر من خمسمائة سنة فقط»(7).(31/103)
إن هذا الموقف يحمل دلالات عدة تطرح إمكانية وصفه بالجمود أو الركود أو الإفلاس الفكري، غير أن هذه النتيجة ربما تنفيها احتمالات أخرى؛ إذ إنها يمكن أن تكون إعلاناً عن إغلاق باب «الاجتهاد الليبرالي»، ورفضاً لإعادة تجديد الرؤى حول وظيفة التراث في النهضة المنشودة على أساس أن «الحكم» السابق بإقصائه من قبل السلف الليبرالي أصبح عند المثقف الليبرالي العربي المعاصر القول الفصل، أما ظاهرة اجترار الفكرة نفسها بصورة أو بأخرى في وقتنا الراهن؛ فربما تكون على سبيل التأكيد والثبات على الموقف. وفي رأينا أن كل هذه الاحتمالات ليس لها إلا معنى واحد وهي الدوغمائية الرافضة للحوار ليس مع الطرح الإسلامي السائد والمتنامي الآن؛ ولكن مع الواقع العربي الذي يرفض تغريب قيمه وتزييف ذاكرته الجماعية.
والنتيجة كانت جلية وواضحة، وهي أن المجتمع العربي ـ وبعد مرور مائتي عام من عمر العربي الحديث ـ لا يتجه نحو «العلمنة» ولا نحو «الحداثة» المستندة في مضامينها ومحتواها إلى الإطار المرجعي القيمي الغربي، ولا يعتمد النمط الرأسمالي الليبرالي، ولم يتخذه نمطاً أمثل للفرد والدولة والمجتمع، ولم تستطع «الاشتراكية» المدججة بالسلطة وبزعامات «كاريزمية» في عقدي الخمسينيات والستينيات أن تجد لنفسها موطئ قدم من المحيط إلى الخليج؛ ولكنه ـ أي المجتمع العربي ـ يتجه نحو إحياء تراثه والتمسك أكثر بمرجعيته الدينية متمثلة في كتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، متحدياً ما يحيط به من ترتيبات وتحولات دولية تحاول إيهامه بأن العالم كله يتجه نحو «الليبرالية»!
(1) صدر هذا الكتاب عام 1925م، فأثار أكبر معركة فكرية في تاريخنا الحديث؛ إذ غدا هذا الكتاب ـ كما يقول د. محمد عمارة ـ أهم وثيقة في يد «العلمانيين» الذين يريدون للشرق أن يعزل الإسلام عن الدولة والمجتمع كما عزل الغرب المسيحية عنها، راجع د. محمد عمارة «أزمة الفكر الإسلامي المعاصر»، دار الشرق الأوسط للنشر، القاهرة، د. ت، ص 92. =
= وأشير هنا إلى أن الشيخ علي عبد الرازق شُكل له ـ بسبب كتابه هذا ـ مجلس تأديب من مفتي الديار المصرية، وبعض مشايخ القضاء الشرعي في 17 من سبتمبر 1925م، وقرر بإجماع الآراء إثبات فصل الشيخ علي عبد الرازق من وظيفته وإخراجه من زمرة العلماء، راجع: «من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي» د. غالي شكري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة القاهرة، 1993م، ص 158، 159.
------------------------------
(1) يقول ابن خلدون: «ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله»، ويقول أيضاً: «والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في مَنْ غلبها» انظر المقدمة، طبعة دار ومكتبة الهلال، بيروت 1991م، ص 151، 152.
(2) من آثار مصطفى عبد الرازق، علي عبد الرازق (جمع وتقديم)، دار المعارف، القاهرة، ط 1957م، ص 80.
(1) اليوم والغد، سلامة موسى، المطبعة العصرية، القاهرة، 1927م، ص 241 ـ 257.
(2) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، د. غالي شكري، الدار العربية، للكتاب، ط 1983م، ص 178.
(3) الفكر العربي المعاصر، هاشم صالح، ومسألة (الحركات الأصولية)، مجلة الوحدة، السنة (8)، العدد 96 سبتمبر 1994م، ص 74، 75.
(4) صدمة الحداثة، أدونيس (د. علي أحمد سعيد)، طبعة دار العودة بيروت، طبعة الرابعة، ص 156.
(5) في حوار أجراه معه أحمد الشيخ، نشر بعد اغتياله في مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 22/6/1992م، ص 8.
(6) النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، د. هشام شرابي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، مايو 1995م، ص 30.
(7) التثقيف الذاتي، سلامة موسى، القاهرة، مطبعة التقدم (د. ت)، ص 80.
============(31/104)
(31/105)
مصطلح «الليبرالية الإسلامية»... رؤية شرعية
بقلم: عبد الله بن حميد الفلاسي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
لقد شاع في كثير من وسائل الإعلام والمنتديات مصطلح «الليبرالية الإسلامية»، مما أدى إلى أن يظن البعض أن هذا المبدأ يتيح للإنسان حريته من خلال سلوك يحكمه الدين ثم العرف الاجتماعي ثم الأخلاق الإنسانية الفطرية، وقد تسلل هذا المصطلح إلى عقول بعض من يطلق عليهم (الإسلاميون) حتى رأينا من يتمدح بأنه (ليبرالي إسلامي)، وأي: متفتح متعصرن، لا مشكلة عنده مع الليبرالية ، ولهذا كان لابد من توضيح خطورة هذا المصطلح وحقيقته.
فالليبرالية -كما في الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة-:
مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، ففي الميدان السياسي وعلى النطاق الفردي: يؤكد هذا المذهب على القبول بأفكار الغير وأفعاله ولو كانت متعارضة مع المذهب بشرط المعاملة بالمثل.
وفي إطارها الفلسفي تعتمد الفلسفة النفعية والعقلانية لتحقيق أهدافها، وعلى النطاق الجماعي: هي النظام السياسي المبني على أساس فصل الدين عن الدولة، وعلى أساس التعددية الأيديولوجية، والتنظيمية الحزبية والنقابية، من خلال النظام البرلماني الديمقراطي بسلطاته الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية للحفاظ عليها، وفي كفل حرية الأفراد بما في ذلك حرية المعتقد، إلا أن الليبراليين في الغالب يتصرفون ضد الحرية لارتباط الليبرالية بالاستعمار، وما يتضمن ذلك من استغلال واستعباد للشعوب المستعمرة.
والليبرالية الاقتصادية: تأخذ منبعها من المدرسة الطبيعية، التي تؤكد على أنه يوجد نظام طبيعي يتحقق بواسطة مبادرات الإنسان الاقتصادي، الذي ينمو بشكل طبيعي نحو تلبية أقصى احتياجاته بأقل ما يمكن من النفقات، على أن تحقيق الحرية الاقتصادية يحقق النظام الطبيعي، وفي ذلك تدعو الليبرالية الاقتصادية إلى عدم تدخل الدولة في النظام الاقتصادي إلى أدنى حد ممكن، ومن أشهر من نادى بالليبرالية آدم سميث ومالتوس وريكاردو وجون ستيورات مل.
وبالتالي فإطلاق المصطلح «الليبرالية الإسلامية» لا يجوز شرعاً لعدة اعتبارات:
الاعتبار الأول: أن الإسلام منهج عظيم متكامل، والجمع بينه وبين المذاهب الأرضية التي هي في الحقيقة زبالات الأذهان ونفايات الأفكار، طعن فيه بالنقص والحاجة إلى التكميل، وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3). وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85). وقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (آل عمران: 83) وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50).
الاعتبار الثاني: أنه لا وجود لما يسمى بالليبرالية الإسلامية، لأن هذا جمع بين النقيضين، ومن أطلق هذا المصطلح المحدث يصدق عليه قول الشاعر:
سارت مشرقة وسرت مغربا * شتان بين مشرق ومغرب
فشتان شتان بين الليبرالية والإسلام، ولهذا فإن من يطلق هذا المصطلح «الليبرالية الإسلامية» يضطر إلى أن يفسر الليبرالية بتفسير يفرغها من حقيقتها ومضمونها، بحيث لا يبقى لها أي معنى، فإذا كانت الليبرالية الإسلامية تعني التقيد بالدين ثم بالعرف ثم بالأخلاق الإنسانية الفطرية كالرحمة والشفقة.. الخ، فأي فائدة لكلمة الليبرالية، فإن التقيد بالدين ثم بالعرف ثم بالأخلاق الإنسانية داخل في مفهوم الإسلام، فأي جديد أضافته كلمة الليبرالية حتى يقال: ليبرالية إسلامية؟!
الاعتبار الثالث: أن هذا المصطلح المحدث يوهم التقارب بين الإسلام والليبرالية، ويسمح بتمرير ضلالات الليبرالية إلى قلوب عوام الناس وعقولهم وهم لا يشعرون، وهذا لا ريب أنه محظور عظيم يجب سد الطرق المفضية إليه.
الاعتبار الرابع: وبما أن الليبرالية تبيح للشخص أن ينتسب إلى أي دين ، وإلى أي مذهب دون أن يعاب أو ينكر عليه، فهذه حريةً مطلقة لا قيود ولا ضوابط لها، فقد دل الكتاب والسنة وأجمع المسلمون على وجوب اتباع دين الإسلام الحق، وأن من لم يتبع دين الإسلام فهو كافر شقي في الدنيا، وهو في الآخرة من الأخسرين الخالدين في الجحيم، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال النبي -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- : ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).
الاعتبار الخامس: إن مفهوم الليبرالية، كما وضع له في الغرب، يصطدم بالدين الإسلامي، بل كافة الشرائع، في أصول لا يستهان بها، كاستبدال الحكم الإلهي بالحكم البشري، فيما يسمى بالديمقراطية، وكذا الحرية المطلقة في الاعتقادات، بالتغيير والتبديل، وغير ذلك.(31/106)
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع:
1. فتوى رقم 51488 و 42744 من موقع الشبكة الإسلامية.
2. سليمان الخراشي، الليبرالية ... النبت اليهودي !!، موقع صيد الفوائد.
3. أسامة بن عطايا العتيبي، الليبرالية: مذهب هدام يدمِّر العقيدة ويؤيد التفجير والتكفير والفساد، موقع الشيخ أبي عمر أسامة بن عطايا العتيبي.
4. أبو سارة، نظرة في: "..الليبرالية.." من الداخل، موقع شبكة الراصد.
5. سعيد صالح الغامدي، الرد على عادل الطريفي - والتحذير من ظاهرة "الإسلاميين الليبراليين"، موقع شبكة الراصد.
المصدر: موقع أبو حميد الفلاسي
=============(31/107)
(31/108)
المشكلة التي يعاني منها الليبراليون
هي تصادم نظرياتهم الفلسفية مع التشريع السماوي لنا كمسلمين ،
بل الملاحظ أنهم الآن يمارسون سياسة ( التقية ) وهي التي يمارسها أتباع المذهب الجعفري الشيعي ، فمن أساسيات المذهب أن يظهر عكس ما يبطن
ولو دققنا في كتابات الليبراليين ، نجدهم يتمسحون بالدين تمسح يدعو للتعجب ، فنجد أن المكتوب يهدم الإسلام رأساً على عقب وفي نهاية المقال أية قرآنية أو حديث شريف !!!
السؤال الأول تم الإجابة عليه
أما السؤال الثاني أجبت عليه بقولك أن الليبرالية في العالم الإسلامي لم يضع منظريها لها قواعد وأسس ونكون أكثر دقة لو قلنا أنهم يحاولون أن لا تكون لها قواعد وأسس واضحة لأنهم يعلمون بأنها تتصادم مع التشريعات الإسلامية ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تساير التشريع الإسلامي دون أن تتصادم معه ، لذلك من مصلحتهم أن تكون الأمور غير واضحة وتؤخذ بالتدرج من مرحلة إلى أخرى ، وفي حالة سلخ المجتمع وإبعاده عن دينه ، يكون تحقيق الأهداف أسهل ولن توجد معارضة
================(31/109)
(31/110)
الليبرالية : مذهب هدام يدمِّر العقيدة ويؤيد التفجير والتكفير والفساد
بقلم : أبو عمر أسامة بن عطايا العتيبي
الحمد لله ، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله أما بعد:
فما زال الخير والشر في صراع منذ خلق الله الإنس والجن ، وما للخير أنصاره وللشر دعاته ..
والوحي من الله تعالى لأنبيائه ورسله -عليهم الصلاة والسلام- هو أساس كل خير ..
والشيطان وما يلبس به على الخلق ، وما يوحي به إلى أوليائه هو أساس كل شر ومادته..
فبالوحي تحصل الهداية والسعادة ، ويحصل الأمن والاستقرار في الدنيا والآخرة ..
قال تعالى: { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {81} الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}
وقال تعالى مبيناً أن اتباع الوحي السماوي يضيء الطريق لسالكه فلا يضل ولا يشقى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
وقال تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى {123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {124}
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً {125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى {126} وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
وعبادة الله وتوحيده والتوكل عليه ومحبته وإخلاص العمل له سبب لبقاء الأمن ..
فالإيمان والأمن لا ينفكان ولا ينفصلان ..
قال تعالى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}
وأما اتباع وحي الشيطان ففيه الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}.
فالسعادة في اتباع شريعة الله ودين محمد -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- ، والشقاوة في اتباع الشيطان والتنكب عن الصراط المستقيم..
قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً {18} وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً {19} كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً {20} انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً {21} لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً}
وقال تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}.
الليبرالية ووحي الشيطان
وإن من المذاهب الباطلة ، والمعتقدات الفاسدة ما يسمى بـ"الليبرالية" ذاك المذهب الهدام ، الذي يفتح الشر على مصراعيه ، ويسمح لكل داع للفساد والإفساد بأن يأخذ حيِّزه من المجتمع ، وأن يكون له مكان يشنُّ في الغارات على الإسلام والمسلمين مع وافر الحب والتقدير!!!!
هذا المذهب الذي صرنا نسمع من بعض بني جلدتنا وممن ينتسب إلى الإسلام من يدعو إليه ، ويفتخر بالانتساب إلى هذا المذهب الفاسد..
ولا أدري ما الذي دهاهم ؟ وبأي شيء يفرحون؟!!
ما هي الليبرالية؟
الليبرالية : مذهب رأسمالي ، علماني ، يدعو إلى الحرية المطلقة في الفكر والاقتصاد والسياسية بل في جميع ميادين الحياة ..
فالليبرالية تبيح للشخص أن ينتسب إلى أي دين ، وإلى أي مذهب دون أن يعاب أو ينكر عليه ..
فمن أراد أن يكون مسلماً فليكن ، ومن أراد أن يكون يهودياً فليكن ، ومن أراد أن يكون نصرانياً فليكن ، ومن أراد أن يكون عابداً للبقرة فليكن!!
وكذلك من كان مسلماً فله أن يكون خارجياً سفاكاً للدماء ، وله أن يكون مرجئاً جهمياً متفلتاً من الأمر والنهي ، وله أن يكون رافضياً يسب خيار الأمة وفضلاءها !!
فالليبرالي حرُّ حريةً مطلقة لا قيود ولا ضوابط إلا في معاملته مع غيره يكون بالمثل!!(31/111)
وقد دل الكتاب والسنة وأجمع المسلمون على وجوب اتباع دين الإسلام الحق ، وأن من لم يتبع دين الإسلام فهو كافر شقي في الدنيا لا ينعم بأمن ولا أمان ، ولا يسعد ، وهو في الآخرة من الأخسرين الخالدين في الجحيم..
قال تعالى: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
وقال النبي -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- : ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).
والمقصود بهذه الأمة : أمة الدعوة ، وهي جميع الثقلين الإنس والجن بعد بعثة النبي -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- إلى قيام الساعة..
والسماع يراد به ما تقوم به الحجة الرسالية..
والأدلة على هذا المعنى كثيرة ..
الليبرالية والتناقض الصارخ
في الحين الذي نجد فيه الليبرالية تدعو إلى الحرية المطلقة ، وتدعو إلى الرأسمالية ، وإلى التعددية الحزبية ، وإلى الديمقراطية نجدها تنكر التفجيرات التي حصلت من الخوارج وأشباههم ، ونجدهم ينددون بها ، ويصفون من قام بها بأبشع الأوصاف !!
فكيف يلتقي إنكارهم هذا مع إباحة التعددية الأيديولوجية والحزبية؟
فإذا كنت تبيح للناس الكفر والفسوق وجميع المذاهب المندرجة تحتهما فلماذا تقيِّد أصحاب تلك الأديان والمذاهب؟
فالحرية المطْلَقة هي الحرية المطْلَقة وإلا ينبغي أن تكون مطَلَّقة-من الطلاق-!!
فالليبرالي لما تبين له قاعدة الموالاة والمعاداة الشرعية البعيدة عن الغلو والتفريط اعترض عليك بأن هذا يتعارض مع الحرية الدينية!!
فإذا عرضت عليه ما يفعله الخوارج من سفك للدماء ، وما يفعله اليهود من ذبح المسلمين في فلسطين ، وما يفعله النصارى من ذبح المسلمين في الفلبين وغيرها وأن هذا مما يندرج تحت الحرية التي ينادي به الليبراليون لم يجد جوابا إلا جواباً يناقض فيه مبدأه وما يدعو إليه ..
فإذا كانت الليبرالية تحارب قتل الأبرياء وتدمير أملاك الناس فقد خالفت عقيدتها ومبدأها إذ حجبت حرية أولئك وحدَّت من إطلاقها وانطلاقها ..
فالحرية لابد أن تكون منضبطة .. لها أصولها وقواعدها ..
فإذا أقر الليبرالي بأن الحرية لابد من ضبطها وانضباطها وعدم تفلتها قلنا له ما يلي:
أولاً: قد رجعت أيها الليبرالي عن مذهبك وكفرت بالليبرالية التي تدعو إليها إذ لم تتماشى مع أصول مذهبك..
ثانياً: إذا كنت تقيد حرية اليهود ولا تبيح لهم قتل المسلمين فمن باب أولى أن تحرم عليهم بقاءهم على دينهم المحرف المبدل الذي يرى جميع البشر ما عدا اليهود كالحمير ، ويدعو إلى أكل أموال غير اليهود بالباطل ، ..
وتطالبهم بالدخول في الإسلام وإلا لن يكون سعيداً لا في الدنيا ولا في الآخرة ..
ثالثاً: إذا كنت تقيد حريات الخوارج التي لا تتعايش إلا مع سفك الدماء والدمار والفساد فمن باب أولى أن تطالبهم بترك مذهبهم الذي أسس على الإرهاب والدمار ..
رابعاً: إذا كنت تقيد حريات الرافضة التي لا تعيش إلا على لعن الأخيار والفضلاء ، وسبهم وشتمهم ، وقلة الأدب معهم ، فمن باب أولى أن تطالبهم بترك رفضهم والدخول في الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه حتى يكونوا سعداء في الدنيا والآخرة..
خامساً: إذا كنت تحدد حريات الناس في الاقتصاد فتمنع الغش والتدليس والكذب في البيع والشراء فمن باب أولى أن تحرم الربا وأكل أموال الناس بالباطل ..
إلى غير ذلك من الأمور التي يُلْزم بها الليبراليون والتي توجب عليهم ترك مذهبهم والعودة إلى جادة الطريق وإلى الصراط المستقيم وإلى النور الإلهي ..
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً {174} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً}.
فأدعو جميع الليبراليين ومن يحسن الظن بهم أن يتوبوا إلى الله وأن يعودوا إلى الصراط المستقيم وأن يقفوا بجانب ولاة أمرهم من العلماء والأمراء ..
شبهات ليبرالية!!
1- الشبهة الأولى : قد يقول قائل من الليبراليين : إن الله -عزَّ وجلَّ- أراد من عباده أن يختلفوا ، ومحاولة جمعهم مخالف لما أراد الله ..
الجواب:
نظر الليبراليون إلى البشريةِ وحالِها بمنظار واحد ألا وهو منظار الإرادة الكونية والمشيئة العامة لله -عزَّ وجلَّ- ، وأغفلوا الإرادة الشرعية.
فإرادة الله تنقسم إلى قسمين: الأولى: إرادة كونية يلزم منها وقوع المراد ، ولا يلزم منها محبة الله ورضاه عما أراده كوناً . قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً كأنما يصعد في السماء}، وقال -عزَّ وجلَّ- {فعال لما يريد} ، {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}.
فالله أراد خلق إبليس وهو لا يحبه ولا يرضاه . وإنما خلقه لحكم عظيمة منها ابتلاء الناس ، وبيان المصلح من المفسد.(31/112)
والقسم الثاني من الإرادة: إرادة شرعية يلزم منها محبة الله للمراد ورضاه عنه ، ولا يلزم منها وقوع المراد. {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} ، {والله يريد أن يتوب عليكم}.
فالله يريد من عباده جميعاً أن يوحده ويعبدوه ويحب ذلك منهم ، ولكن لا يلزم أن يؤمن الناس جميعاً بل منهم المؤمن ومنهم الكافر.
وما ضلال الطوائف في باب القدر إلا لخلطهم بين الإرادتين ومشاهدتهم لأحد القسمين دون الآخر.
فالقدرية شاهدوا الإرادة الشرعية فرأوا أن الناس يفعلون ما لا يريده الله شرعاً من الكفر والفسوق والعصيان ، فأنكروا خلق الله لأفعال العباد والله يقول : {والله خلقكم وما تعملون}.
والجبرية شاهدوا الإرادة الكونية فقالوا العبد مجبور على فعله ، وصححوا عبادة المشركين واليهود والنصارى وزعموا أن الله يحبها ويرضاها وهذا باطل فالله يقول: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم}.
ولذلك حرم الجبرية قتال الكافرين والمشركين ، ولم يفهموا الجهاد في سبيل الله وأنه فُرِضَ وشُرِعَ {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} والفتنة: الشرك.
ولذلك دعا الجبرية إلى وحدة الأديان وأباحوا الردة عن الإسلام لأنهم ظنوا أن الله جبر العباد على الشرك والإيمان وهو -عزَّ وجلَّ- يحب ذلك كله !!
وهم ضالون بذلك مخالفون للكتاب والسنة والإجماع.
ونقول لهم أيضاً: إن الله أراد كوناً وقدراً من الخوارج أن يسفكوا الدماء ويقتلوا المسلمين ، وأنتم استنكرتم التفجير والقتل فهل نقول : إنكم عارضتم إرادة الله ؟
لا .
لأن إرادة الله الشرعية تحرم ذلك وتمنعه ، ونحن متعبدون أمراً ونهياً بالشرع وبما يريده الله شرعا ودينا ..
أما ما أراده كونا فهو لحكم بالغة منها بيان خطر وشر الخوارج إذ حصل منهم قتل وفساد ، فإن الناس لو لم يروا ذلك لما عرفوا خطرهم..
2- الشبهة الثانية: قال قائل من الليبرالية: إن الاختلاف متأصل في طبع البشر ، وأخذ يدور في فلك هذه القضية ليصل إلى نتيجة واحدة وهي التسليم بهذا الاختلاف وعدم إنكاره ومحاولة القضاء عليه .
حيث قال : [أية محاولة لنفي الاختلاف والتعدد أو قسر الناس على رؤية واحدة ذات بعد آحادي انغلاقي اقصائي فهي ببساطة شديدة مضادة لحكمة الخالق سبحانه وتعالى من إرادته لخلق خلقه مختلفين]
الجواب:
إن هذا الكلام جعل هذا الليبرالي يقع في متاهات ويخالف اليقينيات المسلمات في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فأقول لهذا الليبرالي: اعلم أنك بهذه النتيجة ، والحتمية التي قررتها بناء على مفهومك تجعل ذريعة واضحة للمخربين أن يخربوا ويفجروا!!
فهؤلاء الذين فجروا في الرياض وغيرها هم من الخوارج وهي فرقة من الفرق المنتسبة للإسلام ، "وهم يكفرون الحاكم بغير ما أنزل الله ولو لم يكن مستحلاً أو مستكبراً أو معانداً" فإذا كنت لا تعاقب عليها في الدنيا ، وتجعل لها حرية اختيار هذا المعتقد الفاسد فأنت تشجع أولئك الخوارج على استمرارهم في دينهم الباطل ومعتقدهم الفاسد ، وتنهانا عن الإنكار عليهم ، وتمنع من معاقبتهم على أعمالهم التي يمليها عليهم معتقدهم ورأيهم الذي جعلت لهم الحرية في اختياره!!
أقول لهؤلاء الليبراليين: كيف سنجتث الإرهابيين من جذورهم وأنتم تؤيدون بقاءهم وحريتهم وتمنعون معاقبتهم في الدنيا؟!!
فإذا قلتم : نحن نشترط حرية الاعتقاد والتفكير والرأي دون أذية للآخرين ولا تعد على حقوقهم!!
فنقول لهم : قد وقعتم في التناقض ، وقد حجرتم عليهم ، ولم تجعلوا لهم الحرية في ممارسة شعائرهم وطقوسهم التي لا تتم إلا برؤية الدماء والأشلاء!!
فالليبرالية لا تعالج الأمور ، وإنما تُعالَجُ بما هو مشروع في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فالإسلام يلزم الناس بتوحيد الله وعبادته وطاعته ، وشرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله والمجادلة بالتي هي أحسن لهذا الغرض ، وكذلك شرع الجهاد لنشر دين الإسلام والقضاء على الشرك.
واعلموا أن أعداء الدين الإسلامي ثلاثة أنواع :
النوع الأول: مرتدون . وهم قوم أسلموا ثم كفروا سواء اعتقوا ديناً آخر أو ألحدوا .
وهؤلاء ليس لديهم خيار إلا الإسلام أو القتل . دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
قال تعالى في سورة الفتح: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} فلم يجعل لهم خياراً في الجزية ، وقال جماعة من المفسرين : المراد بهم الذين ارتدوا لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم الصديق ومن معه من الصحابة .
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من بدل دينه فاقتلوه))
وأجمع أهل العلم على هذا .
النوع الثاني: اليهود والنصارى والمجوس فهؤلاء يخيرون بين الإسلام أو الجزية أو القتال . ومع ذلك يلتزمون بالشروط التي يفرضها ولي الأمر وأهمها أن لا يفسدوا في الأرض ولا يخربوا ولا يفجروا ، ومن خالف عوقب.(31/113)
النوع الثالث: المشركون "غير اليهود والنصارى والمجوس" كالبوذيين والهندوس والصابئة فاختلف العلماء فيهم فمنهم من قال : يخيرون بين الإسلام والقتال ، ومنهم من جعلهم كاليهود والنصارى والمجوس.
3- الشبهة الثالثة: يبني الليبراليون على أصالة الخلاف -وهو أمر حتمي كوني وليس شرعياً على إطلاقه- إباحة الفرقة والاختلاف وعدم إنكاره ولا النهي عنه.
الجواب:
هذا باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة البشرية
يقول الله تعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} فالأصل في البشر أنهم أمة واحدة في عقيدتها ودينها وهو توحيد الله الخالص من الشرع والبدع والخرافات .
ثم حصل الخلاف وظهر الشرك في قوم نوح فأرسل الله إليهم نوحاً -عليهِ السَّلامُ- ينهاهم عن الاختلاف ويدعوهم للتوحيد .
وقد ذم الله التفرق والاختلاف في آيات عديدة :
قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} ، وقال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون}.،
وقال تعالى: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} فذم الله خلافهم وبين أن سببه البغي وليس الجهل وعدم العلم .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى(22/359) : "وهذا الأصل العظيم وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً ، وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ، ومما عظمت وصية الله تعالى به في كتابه ، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم ، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة وخاصة ، مثل قوله: ((عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة)) ، وقوله: ((فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد)) ، وقوله: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قِيْدَ شبر فقد خلع رِبقة الإسلام من عنقه)) ،
وقوله: ((ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟)) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((صلاح ذات البين فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين)) ، وقوله: ((من جاءكم وأمركم على رجل واحدٍ منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان)) ..." انتهى كلام شيخ الإسلام -رحمَهُ اللهُ- .
والبشر كلهم يسعون وينادون بالاتحاد والاجتماع وإن كانت طرقهم تختلف وتتعدد ما بين باطل كثير وحق قليل ، والليبراليون يدعون إلى تثبيت التفرق والاحتجاج به .
نعم قد يقول الليبراليون : نحن ندعوا إلى وحدة واتحاد يجمع بين جميع الأديان والمذاهب دون تقييد ولا معاقبة!!
وهذا باطل سبق بيانه في النقاط السابقة وهو مخالف للشريعة الإسلامية ولكتاب الله الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد}.
فالخلاصة: أن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلاف والتفرق ، وإرادة الله الشرعية منعت التفرق والاختلاف ونهت عنه وبينت نتائجة الشنيعة.
وإرادة الله الكونية اقتضت وجود الشيطان والكفار وأهل البدع والخرافات ، وإرادة الله الشرعية حاربت وحذرت من الشيطان والكفار وأهل البدع والخرافات.
4- الشبهة الرابعة : يستدل الليبراليون بإباحة التعددية الدينية والفكرية بقوله تعالى: {لا إكراه في الدين}.
الجواب:
لا دلالة في الآية على إباحة التدين بغير دين الإسلام من وجوه أذكرها باختصار:
الوجه الأول: أن نفي الإكراه في الدين لا يعني أنه يجوز عدم الدخول فيه ، بل نهي عن قتل من لم يدخل في دين الإسلام..
وفي الآية نفسها والتي بعدها بيان حال من يدخل في دين الإسلام وبين من يمتنع عن الدخول فيه..
قال تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {256} اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
فلو كان التدين بدين غير دين الإسلام مباحاً كما يعتقد الليبراليون لما توعد من لم يدخل في الإسلام بالنار والعذاب ..
وكذلك قد جاءت آيات أخرى قيدت هذه الآية فالواجب الإيمان بجميع الآيات وليس الإيمان ببعضها الكفر بالآخر..
فقد قيدت بمن لم يدخل أصلاً في الإسلام ، وقيدت بأهل الكتاب عند كثير من العلماء ..
الوجه الثاني: قال ابن القيم -رحمهُ اللهُ- : " {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} وهذا نفي في معنى النهي أي: لا تكرهوا أحداً على الدين .
نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام فلما جاء الإسلام أسلم الآباء وأرادوا إكراه الأولاد على الدين فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام.(31/114)
والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر ، وهذا ظاهر على قول من يُجَوِّزُ أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين ، بل إما أن يدخلوا في الدين ، وإما أن يعطوا الجزية كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة ، وإن استثنى هؤلاء بعضَ عبدة الأوثان.
ومن تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين له أنه لم يُكره أحداً على دينه قط ، وأنه إنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته لم ينقض عهده .
بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له ، كما قال تعالى: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم ، فمَنَّ على بعضهم ، وأجلى بعضهم ، وقتل بعضهم ، وكذلك لما هادن قريشاً عشر سنين لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله ونقضوا عهده ، فعند ذلك عزاهم في ديارهم وكانوا هم يغزونه قبل ذلك ، كما قصدوه يوم أحد ويوم الخندق ويوم بدر أيضاً هم جاؤوا لقتاله ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم".
الوجه الثالث: قيل: إن الآية نزلت فيمن يكره ابنه على الكفر فنهى الله عن إكراههم على الكفر وهو يتوافق مع وجوب الدخول في الإسلام ..
الوجه الرابع: قيل: إن المراد بالآية لا إكراه بالباطل ، أما الإكراه بالحق فإنه من الدين ، وهل يقتل الكافر إلا على الدين قال -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله )) ، وهو مأخوذ من قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}. انظر: أحكام القرآن لابن العربي(1/310).
الوجه الخامس: قيل: إن الآية منسوخة بآية القتال قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم -رحمهُ اللهُ- .
الوجه السادس: هب أن الآية يفهم منها جواز التدين بأي دين فهي مقابلة لآيات كثيرة توجب على الناس جميعاً الدخول في الإسلام ، واتباع سنة سيد الأنام ، وتعليق الفلاح والنجاة على اتباعه واقتفاء أثره والسمع والطاعة له مما يدل دلاله قاطعة على أن من اتخذ ديناً غير دين محمد ، أو اتبع طريقاً غير طريقه فهو من الخاسرين والهالكين.
ومنهج الراسخين في العلم إرجاع المتشابه إلى المحكم ولزوم المحكم وترك المتشابه.
قال تعالى: { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7} رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ {8} رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {9}
روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول ا صلى الله عليه وسلم هذه الآية :{ هو الذي أنزل عليك الكتاب..}
قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) .
هذه بعض الشبه التي يلبس بها الليبراليون على التعددية والحرية الفكرية والعقائدية ، وهي شبه واهية ، وحجج داحضة ..
والمقرر في الكتاب والسنة وأجمع عليه العلماء أن الإسلام أعطى المسلم حظه من الحرية فيما أباحه له وجوزه له ، أما ما أوجبه عليه فيلزمه الإتيان به إذا توفرت شروطه وتحققت أسبابه وتخلفت موانعه ، وكذا يلزمه اجتناب ما حرمه عليه وفق الضوابط السابقة..
أما التفلت وعدم الانضباط فلا يحقق أمناً ولا سعادة ، ولا هو مما يقره عقل سليم ولا شرع صحيح..
فلا يقر تفلت الليبرالية وتناقضها إلا عقل سقيم أو شرع مبدل ومحرف..
ولا يحتاج المسلمون إلى زبالة أذهان الفلاسفة ، ودهاقنة الغرب ، وتخبطات الضُّلاَّل ليبينوا لهم كيف يسعدون أو كيف يأمنون؟
فقد تجلت الأمور واتضحت ، وبان طريق الخير من الشر ، وانبلج الفجر لهذه الأمة منذ أن بعث رسول الله -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- فجاء بالهدى والنور ..
فمن اتبع النبي -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- وفقه دينه ، وابتعد عن الغلو والجفاء ، والإفراط والتفريط فإنَّ له السعادة والأمن التام في الدنيا والآخرة..
وبمقدار البعد عن هدي النبي -صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- ودينه في أمور الدنيا والمعاش والتدين والتعبد يكون الشقاء واختلال الأمن.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
==============(31/115)
(31/116)
الحرب على الليبرالية لا تعني التنازل عن القيم
د. محمد بن رزق بن طرهوني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
ففي خضم المعارك التي يخوضها أهل الحق ضد أهل الباطل جولاتهم على الليبرالية ودعاتها ومنظريها وأنصارها ومن هذه الجولات جولتهم ضد الرواية القذرة المتهافتة شكلا ومضمونا المعنونة بنات الرياض للمدعوة رجاء الصانع وقد أجادوا وأفادوا نفع الله بهم في فضح هذه المسودة ومن سودتها .
ولكن !!
في بعض صور تلكم الجولة وعند بيان عوار الليبراليين ومحبي نشر الفاحشة في الذين آمنوا عقد بعض المحاربين مقارنة في موقف هؤلاء من تلكم الرواية التافهة من تلكم الوقحة التي ليست في العير ولا في النفير وبين موقفهم من امرأة فاضلة وصلت إلى أعلى الدرجات العلمية الدنيوية مع تمسكها بحجابها الساتر لجميع بدنها وصيانتها لعفافها .
وهذه المقارنة جميلة وتعتبر من الضربات المؤثرة في تلكم الجولة إلا أنني قد لاحظت انحرافا عن المقصود من تلك المقارنة إلى مدح وثناء مطلق للأخت الدكتورة التي لم تتنازل عن سترها بل إن البعض عدها مفخرة وفي هذا خلل واضح وهاكم بيان ذلك :
نحن مع تثميننا لموقف الأخت الفاضلة في وسط هذا المجتمع المنحل ورفعها رأسها واعتزازها بأوامر ربها في هذا الأمر لا ننسى أنها في الأصل واقعة في مخالفات شرعية أخرى وخارجة عن الرسالة التي خلقها الله لأجلها ولا أعتقد أبدا أنه يوجد ممن رزقه الله فقها في دينه من يعتز بأن يكون هذا هو موقف امرأته أو أخته أو أمه بل كلنا يخجل ويستاء أن تجالس امرأة من محارمه الرجال وتتحدث وسطهم وتتعلم بينهم وتسلط عليها الأضواء والكاميرات وتجرى معها اللقاءات .
ومع التزام الأخت الكريمة بستر بدنها تكون قد التزمت بنوع واحد من أنواع الحجاب الذي تطالب به المرأة وخالفت أمر ربها في النوعين الآخرين فلم تقر في بيتها كما أمر الله تعالى ولم تخاطب من سألها المتاع من وراء حجاب كما أنها وقعت في الاختلاط المحرم المذموم وخاطبت غير محارمها في غير حاجة ولم تصن صوتها الذي هو على الراحج عورة بالإضافة لمقامها بين المشركين وفي بلاد الكفر دون ضرورة شرعية تلجئها لذلك وأخيرا تخلت عن فطرتها التي فطرها الله عليها لتكون راعية في بيت زوجها وأما رؤوما لأطفالها إلى أمور لا حاجة لها فيها والأمة في غنى عن مشاركتها فيها وفي رجالنا غنية عن بذل نسائنا لمثل هذه الأمور ، وإقحامها في ذلك من الظلم الذي هو وضع الأمور في غير نصابها . وقد سجل التاريخ اعترافات أمثالها وتندمهن على تضييع حياتهن في مثل ذلك حتى من نساء الكافرين .
ونحن نظن بالأخت خيرا فلعلها غفلت عن تلك الأحكام الشرعية أو جهلتها أو تأثرت ببعض من يدبج فتاوى تسهل مثل هذه الأمور وندعوها للنظر فيما ذكرناه والتمسك بما فرطت فيه نسأل الله لها التوفيق والسداد والفوز في الدارين .
فأنبه نفسي وإخواني ألا تنسينها عاطفتنا في مدح موقف الأخت الجيد وحرصنا على فضح دعاة الرذيلة قيمنا الإسلامية وتمسكنا بشرعنا الحنيف من جميع جوانبه .
وللاستزادة في أمر حجاب المرأة وما خلقها الله لأجله ورسالتها في هذه الحياة يراجع كتابي : هديتي لابنتي عند زفافها وهذا رابطه
http://www.ta r huni.com/bookswebs/hadiatee.htm
وكذلك المقالات المنشورة عن المرأة في الإسلام وحجابها بجريدة المدينة :
العدد 14762 يوم الثلاثاء 26رجب 1424هـ
العدد 14763 يوم الأربعاء 27رجب 1424هـ
العدد 15027 يوم الاثنين 26 ربيع الآخر 1425هـ
والله الهادي إلى سواء السبيل .
وكتبه
د . محمد بن رزق بن طرهوني
المدينة المنورة في 29 شوال 1426هـ
==============(31/117)
(31/118)
العمائم الليبرالية وحصان طروادة .. الأسطورة والحقيقة!
صخرة الخلاص
يُروى في الأسطورة اليونانية الشهيرة " الإلياذة" لكاتبها الشاعر الشهير " هوميروس" أنَّ امرأة جميلة وفاتنة -وخائنة في نفس الوقت- كانت محلَّ صراع الملوك والأباطرة!
فقد تقاتل من أجلها أباطرة العالم، وسفك على عتبات جمالها الدماء، لمدة عشر سنوات طاحنة وحمراء, حيث كان الفارس الوسيم "باريس" ابن ملك طروادة "بريان" كان واقعاً في حب الملكة "آيلينا" زوجة ملك إسبارطة "مينالاس" ، وكان زوجها يغار عليها ويعلم أن جمالها هذا محل طمع الفرسان، فرصد لها كل عين تحرسها وترقبها، لكن الفارس الوسيم "باريس" ظهر لملكة الجمال في صورة جميلة مع وسامة ابتسامته السحرية، في اجتماع عام بين وفد مملكة إسبارطة ومملكة طروادة، فوقعت في حبه "آيلينا" الملكة الحسناء، وقد شغفها حباً وشغفته حباً من أول نظرة!
هربت "آيلينا" مع عشيقها الجديد "باريس" نحو جزيرة الأحلام، وقضيا شهر عسلٍ كامل في حب وغرام وشغف، ثم توجه بها إلى دولة أبيه في طروادة.
علم ملك إسبارطة "مينالاس" بهروب زوجته مع ابن ملك طروادة، فغضب غضباً شديداً لانتقال زوجته الجميلة في يد رجلٍ آخر، وأخذ ملك إسبارطة يشحن نفوس شعبه الغاضب من فعلة ابن ملك طروادة، للانتقام من الخائن!
حشد أهل إسبارطة الجيوش الجرارة، والسفن العديدة، ولبسوا لامة الحرب ودروع القتال، وهم يكادون يتفجرون غضباً على أهل طروادة، وفي قلوبهم العزم الأكيد لدك طروادة وتخريبها وسحق ملكها وذبح "باريس" واستنقاذ الزوجة الفاتنة من بين أحضانه وإرجاعها للملك، وتحالف مع ملك إسبارطة أكثر ملوك اليونان، فزحفوا كأمواج البحر الهائجة نحو طروادة !
في (1193 ق. م )نزلت جيوش التحالف مع إسبارطة على شواطئ طروادة، ونشبت معركة هائلة وخيالية لم يسبق أن نشب مثلها، وقتل الآلاف، وسالت الدماء كالأنهار، وحاصر جيش إسبارطة دولة طروادة لمدة عشر سنين، دون فائدة، حيث كانت طروادة تتمتع بأسوار منيعة وعظيمة، وكادت جيوش إسبارطة تنسحب أمام عجزها عن اقتحام هذه المدينة!
وفي 1184 ق. م تمكن أحد قادة جيوش إسبارطة وهو " يوليسوس" والذي كان يتمتع بذكاءٍ خارق، ومكر ودهاءٍ بارع، من اقتحام حصن طروادة، وإلحاق الهزيمة بملكها واسترداد زوجة ملك إسبارطة !
حيث علم أنَّ أهل طروادة - بعد تحقيق ومعرفة عادات والتقاليد أهل طروادة- يقدسون الحصان ويجعلون له مرتبة خاصة في الاحترام والتقديس، فأشار على جيش إسبارطة بصنع حصانٍ خشبيٍ يتسع لمجموعة من المقاتلين الأشداء من جيش إسبارطة، وتم جر الحصان بالقرب من أبواب مدينة طروادة، وتم التظاهر بالانسحاب، فظن أهل طروادة أنه نصروا على دونهم وأنه هرب وانسحب مهزوماً، وأنهم تركوا لهم هذا الحصان غنيمة !
لقد انطلقت الحيلة عليهم وتمريرها بمكر ودهاء، فجروا الحصان - وهم لا يعلمون ما بداخله- إلى داخل المدينة، ثم أطلقوا احتفالاتهم معلنين النصر الساحق، وأحييت تلك الليلة بالمجون والسكر !
وانتهى الاحتفال بتسلل جنود إسبارطة من الحصان الخشبي، والتوجه إلى البوابة وكسرها، إطلاق إشارة نارية للجيش المختبئ خلف الهضاب للانقضاض على طروادة، فمزقوها شر ممزق، ودمورها تدميرا، وأصبحت خاوية على عروشها، وقتل ملكها وأكثر شعبها، وتم استعادة الملكة الفاتنة "آيلينا" إلى أحضان زوجها الملك "مينالاس" واعتذرت منه، وعاشا معاً مجدداً !!
هذه الأسطورة.. تود أن تقول لنا أن جيش إسبارطة عجز كجيشٍ أجنبيٍ عن اختراق مدينة طروادة ذات الحصون المدنية، لكن هذا الجيش أدرك أنه لن يهزم طروادة إلا بالحيلة المتمثلة في اختراقها من الداخل، واستغل أقدس ما تقدسه تلك المدينة، وهو "الحصان" وبواسطته استطاع اختراقها ثم تدميرها بشكل مبرم.
كانت تلك أسطورة .. لكن في القرون الوسطى في تاريخ "الكنيسة" كانت الكنيسة تمثل السلطة الدينية في الغرب، وكان الغرب يموج بتياراتٍ إلحادية "ATHEISM" أو موقف جحودي "A disbelieve r " ، كذلك كان هناك تيار قوي وهو تيار جماعات اللأدرية "A hesitant" الذي يرى الأشياء بلا حقائق ثابتة، ويعيش حالة صراع متكافئ الفرص!
كانت الكنيسة تعيش حرباً ضروساً في مواجهة هذا العدو الخارجي الذي ظل ضعيفاً أمام الكنيسة -مع ضعفها هي وخرافاتها وبطشها- إلا أنه كان يحارب الكنيسة من خارج الأسوار، فمهما كان فهو عدو مكشوف وخارجي بشكله ومظهره ولونه!
إلا أن الصراع أخذ شكلاً جديداً وخطيراً، حيث كانت الكنيسة تمر بأزمات داخلية وصراعات جوانيَّة، بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!
ففي القرن الحادي عشر من تاريخ "الكنيسة" ظهرت جماعة دينية مسيحية اسمها " الباترينيون" اعترضت على بيع وشراء ترقيات الكنيسة ومناصبها وبقية المخازي، والتي كان البابا يستخدمها لأغراضه الخاصة، وبعد قرن من ظهور هذه الحركة التصحيحية ظهر مصلح جديد وهو " بيتر والدو" وقد ُحرم من حقوق الكنيسة لأنه تعرض لمخازيها بالنقد.(31/119)
لم تكن الكنيسة راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد. كان "بيتر والدو" تاجراً غنياً تبرع بجميع أمواله للفقراء، وطفق يتجول ويعظ الناس ويصحح عقائدهم، وكانت أولى محاولاته منصبَّة على جعل الإنجيل سهلاً بالنسبة لمدارك عامة الناس.
لكن هذا أثار عليه سخط الكنيسة لأنها شعرت بأن سلطتها ستتقوض، فمنعت "بيتر والدو" من إلقاء المواعظ، ولما رفض؛ حرمته من حقوق الكنيسة.
لكن الكنسية قامت بخطوة حمقاء لما هاجمت بيتر والدو، وكان أجدى لها أن تحاول اجتذابه، لقد دفعته هجماتها عليه إلى أبعد مما كان يريد أن يذهب إليه، حيث انتهى إلى إعلان أن الكنيسة غير ضرورية ألبتة، وزاد عدد أتباعه وسموا أنفسهم "الوالديين" وهكذا بدأت حركة قوية ضد الكنيسة في فرنسا، ومن داخل الكنيسة.
وظهرت على أثرها حركات أخرى مثل: الألبيجنسيين، الكاثاريين، واعتقدوا جميعاً بوجوب منع القسم، وبأن الحكومة لا تستطيع أن تعاقب، وأن كل إنسان هو قسيس وأن الكنيسة الكاثوليكية ليست الكنيسة الحقيقية وإنما هي كنيسة الشيطان، و بغيّ بابل.
حاولت الكنيسة أن تقضي على الهرطقة بتعيين المفتشين الذين اندفعوا اندفاعاً أهوج في إحراق وتعذيب وسلب أموال الهراطقة، وانسحب أتباع "بيتر والدو" إلى وديان سويسرا حتى لا تصلهم يد أتباع الكنيسة، وهنالك أسسوا علاقات مع مصلحي سويسرا وألمانيا، وتضاعفت الحركة وشكلت ضغطاً كبيراً على الكنيسة.
وهكذا صار المصلح والمجدد عاصياً متمرداً، وبدأ الإصلاح بمعزل عن الكنيسة، وانصرمت ثلاثة قرون أخرى قبل أن تتلقى الكنيسة الضربة الكبرى على يد "مارتن لوثر" .
لكن الكنيسة لم تتعلم من دروس التاريخ واستمرت في سياسة الاضطهاد، فتكاثر عليها الأعداء، وخرج عليها كثير من أبنائها.
فهذا "جون ويكليف" يهاجم الكنيسة، ورفض طاعتها، بعد اضطهاد الكنيسة له، ودفعته الكنيسة إلى مدى بعيد من العداء، وبدأ بكتابة كراس أكد فيه على أن الكنيسة يجب أن لا تتدخل في القضايا الوقتية، وأن القساوسة يجب ألا يملكوا أموالاً.
واستمرت الكنيسة في اضطهادها إياه حتى ذهب إلى أبعد من ذلك وأعلن أن البابا هو عدو المسيح، وأن تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه مجرد هراء.
وهذا "جون هاس" مصلح بوهيميا، دعا إلى إصلاح وتطهير الكنيسة من المخالفات الأخلاقية التي كان يرتكبها القساوسة، لكن الكنيسة هاجمته وحرمته من حقوق الكنيسة، فتعاظمت مكانته بين الناس، فزادت الكنيسة اضطهادها له فقبضت عليه وحوكم واحرق، وقد أثار قتله عداءً شديداً للكنيسة الكاثوليكية في بوهيميا.
لقد دفعت الكنيسة غالياً ثمن اضطهادها للهرطقة، إذ لم يمض قرن على إحراق وقتل "هاس" حتى ظهر قسيس ألماني شاب اسمه "مارتن لوثر" وهاجم فساد الكنيسة وبدأ بمهاجمة قبول المال مقابل غفران الخطايا وعلق خمساً وتسعين موعظة ضد ذلك على باب كنيسته، فأمره البابا بأن يرجع عن هذا إلا أنه رفض وكتب كراساً اسماه (تثقيف الناس) هاجم فيه مختلف مخازي الكنيسة.
واصدر البابا ضده وثيقة استهجن أعماله فيها ودعاه مرة أخرى إلى الرجوع عن أفكاره، ولكن "مارتن لوثر" كان عنيداً فذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أحرق وثيقة الاستهجان علناً.
فلم يكن من البابا إلا أن استخدم آخر أسلحته وهو الحرمان من حقوق الكنيسة، ثم عقد البابا اجتماعاً وطلب من لوثر أن يرجع ويتوب من هرطقته، إلا أن لوثر أجاب بأنه لن يفعل ذلك إلا بعد أن تثبت له الكنيسة بموجب نص الإنجيل أنه كان مخطئاً، فصاح أنصار البابا والجنود، وقالوا: ألقوه في النار.. أحرقوه!
لكن لوثر نجا، واستمر خصامه مع روما أربع سنوات، وتبع لوثر الكثيرون من أبناء بلده، وكان الإمبراطور شارل قد وقع قراراً استهجن فيه تجاوزات "مارتن لوثر" ، بيد أن الشعور العام كان مع لوثر إلى درجة أنه صار من المستحيل تنفيذ ذلك القرار.
وظهر في جنيف "جون كالفن" فأسس الكنيسة البروتستانتية، وصارت معارضة الكنيسة يوماً بعد يوم تزداد حتى أصبحت أقوى من أن تستطيع الكنيسة مقاومتها، وبدأت سلطة الكنيسة تتدهور في جميع أنحاء أوروبا.
في هذا الجو المليء بصراح داخلي كنسي، كانت هناك مجموعة من طلاب العلم الأذكياء الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، لقد كانوا متأثرين بمناهج الملحدين والعقلانيين، وفي نفس الوقت لم يردوا أن يفقدوا الإيمان كله!
فظهر "رينيه ديكارت" و "ليبتز" و "إيمانويل كانط" وغيرهم من الذين يقدرون المواقف الإيمانية لكن كانوا يغلفونها بأساليب عقلانية ترضي الطرفين، أرادوا أن يفلسفوا الإيمان، أرادوا أن يعقلنوا الدين، كي يصلح للجيل الجديد العقلاني!
لقد أستطاع هؤلاء بكل جدارة أن يسددوا الضربة الأخيرة للكنيسة، حيث أدخلوا العقائد المخالفة والمضادة باسم الدين أو الدفاع عنه، فسرت تلك الجراثيم في الدين نفسه.(31/120)
بحق نستطيع أن نقول بكل تأكيد: إن ضربات التغيير والتجديد .. أتت من داخل الكنيسة لا من خارجها، إن الإصلاحيين الكنسيين أو الدينيين أو المسيحيين قد مهدوا بهذه الضربات التغيرية والتجديدية لأكبر قاصمة قصمت ظهر الكنيسة، حيث كانوا الجسر الذي سيعبر عليه لاحقاً ملاحدة أروربا لضرب الدين والتدين نفسه، ولم يكن يدر في عقل "مارتن لوثر" و"كالفن" أو "رينيه ديكارت" و "ليبتز" و "إيمانويل كانط" وغيرهم أنهما بما قاما به من احتجاج ضد رجال الكنيسة قد حطموا (سلطان الدين) حينما حطموا سلطان رجاله!
ثم مرت السنوات وأصبحت الحركة الإصلاحية البروتستانتية، من أهم الأسباب التي نشرت ومكنت الإلحاد في أوروبا!
هذا هو تاريخ الأمم السابقة، ولو تأملت -مثلاً- تاريخ المعتزلة في الإسلام، لوجدت أوائلهم من أشد الناس غيرة وحرصاً على الدفاع عن الدين والاستماتة في سبيله، وكانت لهم مواقف مشرفة في الوقوف في وجه الملاحدة والزنادقة من الدهريين والبراهمة وغيرهم، لكنهم ومن حيث لم يشعروا أخذوا في التأثر بمناهج هؤلاء بحجة استخدام نفس سلاحهم، حتى اعتنق كثير من رجالات المعتزلة عقائد خصومهم!
وها نحن في هذا العصر نجد أن أعداء الإسلام تحطموا أمام أسواره في كل مرة، وأيقنوا أنه لا حل إلا كما جرى على الأمم السابقة حذوا القذة بالقذة، فكان الخيار الإستراتيجي لهؤلاء هو:
( العمائم الليبرالية هي حصان طروادة الفعَّال)
ولعل هذا ما دفع الشيوعي "رفعت السعيد" إلى تأليف كتابه «عمائم ليبرالية» كأحياء وشكرٍ وعرفانٍ لرموز يزعم أنها متنورة ساهمت في تقويض داخلي خطير، ومن الذين ذكرهم: جمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وأمين الخولي، وعلي عبدالرازق وغيرهم.
وكلها عمائم دينية عملت بشكل فعال من داخل أسوار الدين، ولذلك أخبر محمد عبده أن أستاذه جمال الدين الإيراني -الأفغاني- قال له: أنه لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه!
وهذا ما أكده المفكر المسيحي "جورج طرابيشي" حيث قال في ربطٍ -ذا مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي والتاريخ الإسلامي ما نصه: (ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم)!
وقال "رفعت السعيد" مؤكداً ذلك أيضاً وهو السبب الذي جعله يخلد ذكرى هؤلاء في كتابه الجديد، وأنه ألفه ليساهم: (في المعركة الدائرة لم تزل، والتي من فرط الظلام لفكري الذي فرضه المتأسلمون فرضت علينا أن نخوضها متراجعين ومتحصنين بآراء عمائم هي بالضرورة أعمق مرجعية وأكثر دراية بالشأن الديني).
( دروس وعبر من السياق التاريخي السابق)
(1) من خلال هذا الاستعراض التاريخي الموجز ندرك أن كثيراً من الذين نقضوا الكنيسة هم من رجالاتها وأبنائها، وهم في الحقيقة أشد خطراً من غيرهم، فهم أعرف بخفاياها ونقاط الضعف فيها، ثم هم يمتلكون نفس آليات الصراع والمواجهة التي تملكها الكنيسة، فهم أعرف الناس بتفكيك منظومة الكنيسة الفكرية، وأقدر على تطوير آلياتها المحاربة، ومن ثم القضاء عليها بنفس أساليبها.
ومن يستعرض التاريخ المعاصر يجد أن أبلغ الحركات تأثيراً في المجتمعات الإسلامية والعربية، هي الحركات التي قادها رجال يحسبون على التيار الديني، من أمثال: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبدالرحمن الكواكبي، قاسم أمين، رفاعة الطهطاوي.. وغيرهم.
إن العلمانية والحداثة.. أضعف من أن تشكل خطراً حقيقياً على الدين، لأن الناس دائماً ينظرون لهؤلاء على أنهم من خارج الأسوار، وعملاء، ومن المتنكرين للأمة، لكن من ينتمي للمدرسة الدينية "الجماعة المؤمنة" سيكون لديه قدرة على أشياء كثيرة، أقلها المتاجرة بهذا الانتماء.
(2) إن التيار الليبرالي والعلماني فشل فشلاً ذريعاً في استقطاب العلماء الكبار، كما فشل في استقطاب الشريحة العامة، لكنه نجح نجاحاً نسبياً في استقطاب قلة من الطبقة الوسطى وخاصة من طبقة الأذكياء الذين يعيشون مرحلة اضطراب وصراع غير محسوم، فكانت كتابات التيار الليبرالي مغرية له، ومؤثرة عليه، ككتابات عبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وجورج طرابيشي.. غيرهم.
(3) ما كان يقدمه الفيلسوف المشهور "رينيه ديكارت" من خدمات جليلة للكنيسة والبابا، وكان ديكارت يوصف بأنه متدين ومؤمن جداً بتعاليم رجال الدين، لكنه في الوقت نفسه كان يستظل تحت ظل الكنيسة ليمرر بعض أفكاره، مثل "الكوجيتو" أي الشك المنهجي، الذي استغله فيما بعد الملاحدة لتعميم الشك في كل شيء، ولم يكن ديكارت نفسه يريد أن يصل هذا الأمر إلى هذا الحد.
لقد استغل الملاحدة فكرة ديكارت في الشك، وأصبح ديكارت رمزاً للإلحاد، ويوصف بأنه رجل الكنيسة الذي ثبت جذور الإلحاد بالشك، وهدم صرح الإيمان.
ولعل ما تفطن له الدكتور "سلمان العودة" في حواره الهادئ مع الشيخ "محمد الغزالي" كان وجيهاً، حيث قال : ( فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين، أو غيرهم، فطاروا بها كل مطار، وصوروها ونشروها، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة).(31/121)
(4) كما يتضح لنا أيضاً دور العلماء في تخفيف أو تأجيج التمرد الديني، فنحن نلاحظ كيف كانت الكنيسة تستخدم أساليب اللعن والطرد والإحراق مع مخالفيها، ظناً منها أن ذلك سيحول دون تسرب الأفكار المخالفة، وكان هذا حقيقة خطأ استراتيجياً دفعت الكنيسة الثمن باهظاً عليه، الاضطهاد لا يزيد المتمرد إلا تعنت وبعداً بل وإيغالاً في الضلال، وماذا عليها لو أنها احتوت هؤلاء ؟!
(5) مما هو معلوم في السياق التاريخي للكنيسة وحركة التجديد أو التنوير؛ أنَّ نزاعات علماء الدين ورجالات الكنيسة فيما بينهم، كيف كان لها دور كبير في تمرد الكثير من الشباب المتدين، فالخلافات بين رموز الكنيسة، وغالباً ما كان خلافاً مصلحياً دنيوياً، كان هذا الخلاف يمثل الضربة القاضية للصورة المثالية لرموز الدين.
(6) أثبتت التجربة التاريخية أن القهر لا يولد إلا مزيداً من التعنت، وأن الضغط لا يولد إلا انفجاراً، ولذلك أفلست الكنيسة لما ظنت أنها بالاضطهاد ستحول دون تسرب الأفكار.
إن الحوار هو أفضل وسيلة لاحتواء المخالف، بل ولتضميد جراح المتمرد، فالمتمرد الذي يظن أنه مصلح أو مجدد، عادة ما يبدأ فوضوياً، ويزداد تضخماً بالمخالفة والتأجيج الأحمق ضده، كتكفيره أو لعنه أو سك الفتاوى في حقه، لكنه يتمزق ويتقزم أو يرجع للحق أو ينكشف حاله وضعفه حينما يحاور، ويناقش، ويكاشف.
الكنيسة لم تقبل الحوار، لأنها تعلم أنها هشة وضعيفة، ولذا لجأت للقهر والاضطهاد كسبيل وحيد للتخلص من تمرد الأفكار.
(7) أن الأمور الصحيحة يجب الاعتراف بها ولو خرجت من فم ضال مبتدع مخالف، لقد كابرت الكنيسة وتعنتت في رفض الإصلاحات الأولى البسيطة التي بدأها "بيتر والدو" حول أخلاقيات الكنيسة وانحرافها، وسرقاتها، وفسادها.
لقد رفضت الكنيسة قبول الحق عند أول قطرة نقد، ورفضت وأصرت، حتى تكاثرت القطرات، وأصبحت طوفاناً أجتثها من فوق الأرض.
إن قبول الحق من المخالف يدل على تعظيم الحق لا المخالف، وفي ذلك تكريس للأمانة والمصداقية، كما أن فيه قطع الطريق على المهرج الذي يريد أن يجعل من هذا الخطأ مسمار جحا.
(8) أن العمائم الليبرالية كانت عبر التاريخ خير معبر عن "حصان طروادة" الذي تم اختراق الدين بواسطته، والتاريخ عبرة وعظة، ومن لم يتعظ فهو مفلس!
==============(31/122)
(31/123)
الليبراليون الجدد.. عمالة تحت الطلب
ترجمة: إبراهيم عرفة أحمد
كتب جون بي آلترمان (Jon B. Alte r man) مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكي (Cente r fo r St r ategic and Inte r national Studies) مقالاً تحت هذا العنوان تحدث فيه عن تنامي الدعم الغربي لليبراليين العرب محذراً من أن تعاظم هذا الدعم سيضر الليبراليين العرب ولن يفيدهم، ومحذراً الغربيين من الرهان عليهم. ويعد هذا المقال اختصاراً لمقال آخر كان قد كتبة
أصبحت الحاجة ماسة إلى الليبراليين العرب أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يرى فيهم بعض الغربيين الأمل والقوى القادرة على مواجهة خطر «القاعدة» لذلك يدعوهم كبار مسؤولي الحكومات في واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم الغربية إلى موائد الأكل وشرب الخمر.
لقد ازداد الدعم الغربي لليبراليين العرب، لكن يبدو أن تنامي هذا الدعم قد يحدث تأثيراً معاكساً؛ فبدلاً من أن يؤدي إلى تقويتهم فإنه سيؤدي إلى تهميشهم ووصمهم بالعمالة، بل جعل الكثيرين يتشككون في الإصلاح السياسي الذي يسعى الغرب إلى تحقيقه في المنطقة.
يعتبر اتخاذ السياسة الغربية لليبراليين العرب قاعدة انطلاق لتنفيذ سياساتها في المنطقة أمراً منطقياً؛ بالنظر إلى التجانس الموجود بين الطرفين؛ فالليبراليون العرب على مستوى تعليمي جيد، ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وفي بعض الأحيان يتحدثون الفرنسية أيضاً. فالساسة الغربيون يجدون الراحة في التعامل معهم وهم كذاك يحبون التعامل مع الغرب.
لكن إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فيجب أن نعترف أن الليبراليين العرب القدامى قد كبر سنهم وازدادت عزلتهم وتضاءل عددهم، ولم يعد لهم إلا تأثير محدود في مجتمعاتهم والقليل من الشرعية؛ فهم بالنسبة لمواطني بلدانهم وبخاصة الشباب منهم لا يمثلون أمل المستقبل، بل يمثلون الأفكار الغابرة التي لم تنجح في الماضي، ولم يعد لديهم القدرة على استمالة قلوب وعقول أبناء بلدانهم.
إن اهتمام الغرب المتزايد بالليبراليين العرب يُنذر بتأزم موقفهم، ويجعلهم يوصَمون بالعمالة، ليس العمالة الهادفة إلى تحقيق الحرية والتقدم، ولكن العمالة للغرب ومساعدته في مساعيه لإضعاف وإخضاع العالم العربي. بل الأسوأ من ذلك جعلهم يتحولون إلى الغرب؛ حيث يجدون حفاوة الاستقبال تاركين بذلك مجتمعاتهم؛ لأنهم لا يجدون فيها تلك الحفاوة التي يجدونها في الغرب.
إن الناظر إلى حال الليبراليين العرب يجد أن السواد الأعظم منهم ينتظر أن تأتي الولايات المتحدة لتسلمهم مفاتيح البلاد التي يعيشون فيها؛ في الوقت الذي تقوم فيه الجماعات المحافظة بعمل برامج نشطة إبداعية مبهرة يقدمون من خلالها مجموعة من الخدمات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين. مع هذا؛ فإن كثيراً من الليبراليين يعتقدون حتى الآن أن دورهم ينتهي بمجرد كتابة مقالة.
وإن من غير المحتمل أن يؤدي هذا الدعم المتنامي إلى انغماس هؤلاء الأشخاص في مجتمعاتهم، بل على العكس؛ فإن ذلك الدعم سيشكل حافزاً لهم لتعلم كيفية الحصول على المساعدات من الهيئات الغربية التي تقدم المعونة. وقد ذكر لي أحد أصدقائي بالإدارة الأمريكية أن نموذج المتلقين للمعونة التي تقدمها الإدارة الأمريكية هو ابن لأحد السفراء من أم ألمانية وتصادف أنه يدير منظمة أهلية. إن تقديم المساعدات إلى تلك المنظمات لا يجعلها تبدو نبتاً للوطن بل على العكس يقلل من ذلك التصور.
إن السياسة الحكيمة تقتضي تنفيذ النقاط الثلاث الأساسية التالية بدلاً من الرهان على الليبراليين العرب:
أولاً: أن نستثمر الحرية؛ وذلك بأن ندعم الحرية للجميع ليس فقط لمن يدعمون أفكارنا، بل ولمن يعارضونها. وقد يرى بعضنا أن الضغط على الحكومات العربية لإتاحة المجال أمام حرية التعبير وحرية إنشاء الجمعيات الأهلية والانضمام لها يشكل خطراً كبيراً، خاصة في ظل الحرب العالمية على الإرهاب. لكن ذلك أمر غاية في الأهمية؛ لأن تلك الحرية ستوجد سوقاً حرة تُعرض فيها كل الأفكار، وهو الأمر الذي سيمكِّن الليبراليين من كسب الدعم الشعبي بدلاً من أن يُنظَر إليهم على أنهم قد اختيروا من الغرب ليكونوا بديلاً عن القوميين والمحافظين والراديكاليين. نحن دائماً ندعي أننا نرغب في أن تقوم دولة عظمى بإدارة الشرق الأوسط كي تتيح المجال للمنافسة. إذاً لماذا لا نرحب بتلك المنافسة بين الأفكار المبنية على مبدأ تكافؤ الفرص للجميع؟
ثانياً: يجب أن نقلل من الشروط والصفات المطلوبة في المنظمات التي نقدم لها الدعم. فعدم تقديم الدعم لمنظمات تقوم بأعمال إرهابية يعد أمراً طبيعياً. لكن سياسة منع الدعم عن المنظمات التي لا تقدم الدعم لسياستنا تعتبر هزيمة لأنفسنا، وستؤدي بنا إلى العزلة، كما ستضعف من مصداقية كل من نرغب في العمل معه.(31/124)
ثالثاً: وأخيراً: يجب استحداث أنشطة جديدة لا تحمل ختم الإدارة الأمريكية؛ هذه الأنشطة الجديدة يمكن أن تنفذ بمشاركة من الحلفاء الأوروبيين الذين يشعر الكثير منهم بالقلق من تأزم الوضع السياسي والاجتماعي في العالم العربي. بعض الأنشطة الأخرى يمكن أن تقوم بها المنظمات الأهلية والجامعات ومؤسسات أخرى. الهدف من ذلك ليس إخفاء الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في هذه الأنشطة، بل الهدف هو جذب قطاع كبير من المجتمعات الشرق أوسطية إلى قطاع كبير من المجتمعات الغربية.
كما يجب أن لا نتخلى عن الليبراليين العرب؛ فكثير منهم يقاتل بشجاعة في سبيل تحقيق أفكار ندعمها، والتخلي عنهم سيبعث برسائل خاطئة. لكن في الوقت نفسه يجب أن لا نعلق أملنا على نجاحهم؛ فالأفضل لنا أن نحقق نجاحات جزئية مع قطاع كبير من العامة بدلاُ من أن نحقق نجاحاً كبيراً مع مجموعة من النخبة المنعزلة والتي لا تتمتع بأي تفويض شعبي.
إننا نريد أن نروِّج للفكر التحرري بين جماهير العالم العربي الموجودة في القاهرة وبغداد وبيروت، وليس في واشنطن ولندن وباريس؛ لذلك يجب أن يأتي الدعم المقدم إليهم من حكومات تلك الدول وليس من الحكومات الغربية. وإذا نسينا ذلك فعندئذ لن نكون قد أسأنا لأنفسنا فقط، بل سنكون قد أسأنا في حقهم أيضاُ.
مجلة البيان
الليبراليون الجدد.. عملاء بالفعل ..
وقد ظهر هذا التيار التغريبي الحديث مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد يراد ابرازه على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية بالتزامن مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، حيث نمى هذا التيار تحديدا بفترة ولاية الرئيس ( بوش) الأب، والذي بشّر بالنظام العالمي الجديد، فأخذ أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعدما فاز الرئيس (بوش الابن) وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وكشّر التيار المحافظ والمتشدد عن أنيابه، وطرح شعار الحروب الإستباقية، والحملة على الإرهاب، ومن ثم مطاردة التيارات الإسلامية، هرول هؤلاء الى الليبراليون الجدد ليدسوهم ومن يريد ان يدس نفسه من امثالهم ممن يوجدون في خرائب المدارس الفكرية والسياسية ، فجاء الأميركان فنفخوا الغبار عنهم وغسلوهم ، ثم أدخلوهم في دورات تدريبية خاصة،و كل حسب ثقافته وعلمه ومركزه، وتم توزيعهم على جغرافية المنطقة والعالم، وكل حسب العمل والتوجيه المكلف به في البرامج والمعاهد والمراكز والجمعيات التي أسسها أو أحياها التيار المحافظ والمتشدد لأنه تيقن أن مسامير ماكينة المشروع الأميركي، والسنة المشروع الأميركي الرخيصة والجاهزة هم هؤلاء، حيث يتلبسون الشعارات الدعائية ولا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع وترتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل , ويسمم الأفكار تحت عناوين التخلص من رواسب الماضي و<<الإصلاح>>، وطورا، تحت <<فهم>> الوقائع الجديدة، و<<التكيف>> مع المتغيرات، ومجاراة روح العصر، الخ... . وما ظهرت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة , من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم الدنيئة والأوهام التي تداعب خيالاتهم الظلامية واحلامهم الشيطانية . فأكثر مقالات الليبراليين العرب الجدد ببغائية، تكرارية، تردد الشعارات المعادية للإسلاميين بكل فئاتهم من الجهاديين حتى المتزمتين، كذلك ضد الوطنيين والمخلصين الحقيقيين .
والليبرالي الجديد انغمس في المشروع الأميركي الإسرائيلي كالأجير والخادم المؤقت .. نعتقد جازمين أنهم بلا مشروع بل هم ــ عربات للدفع ــ وببغاوات تلقن بالفاكس والموبايل لينفذ هؤلاء ما يُطلب منهم، حيث ليست لهم مدرسة فكرية أو سياسية أو أيديولوجية يمكن الرجوع لها، بل هم هجين من أطياف سياسية وفكرية واجتماعية بالية ومتروكة، جمعها المال وطلب الوظيفة والبروز مقابل الرقص في الحلبة دون نقاش ودون اعتراض في زمن الانحطاط الفكري والأخلاقي.. وزمن بيع الضمائر بعملة الدولار!
ومنهم :
شاكر النابلسي واحمد منصور وجمال البنا ومحمد سعيد العشماوي والقائمة طويلة , ولكنها مكشوفة تماما للناس .
=============(31/125)
(31/126)
دعاة اللبرلة! عقول محتلة... أم ولاءات مختلة؟
بقلم : د. عبد العزيز كامل
ربما لم يأخذ الفكر الليبرالي حظه من الدراسات التحذيرية في حقول الدراسات الإسلامية خلال عقود طويلة مضت، كما حدث مع الفكر الشيوعي أو القومي أو البعثي، ولعل ذلك يعود إلى أن الليبرالية كثيراً ما تسترت وراء ديكور الديمقراطية، وتنكرت أحياناً أخرى بأقنعة الحرية الفكرية، والسعادة الفردية، وقِيَم التحضر والتمدين والتحديث، في أوقات كان معظم العالم العربي والإسلامي يئن تحت وطأة نظم شمولية بأفكار قمعية تاقت الشعوب معها إلى معاني الحرية والانطلاق. وقد انهمك المثقفون والمفكرون في مناهضة الفكر الإلحادي، شرقياً كان أو غربياً، ظانين أن الفكر الليبرالي متحرر من الأيديولوجيات والثوابت أياً كانت.
ولما انهار جدار الشيوعية، فرح بذلك العالم (الحر) في أمريكا والغرب، ودق طبول النصر لعصر جديد، تتسيد فيه القيم الغربية الليبرالية بلا منافس أو منازع، ليشترك العالم بالترغيب أو الترهيب في رفع رايات انتصار خادع، على جثة نِدٍ حضاري مزيف، هو الاتحاد السوفييتي السابق، ورفع أحد فلاسفة أمريكا المعاصرين «فرنسيس فوكوياما» عقيرته بانتصار الليبرالية في المعركة الحضارية الإنسانية، ليسدل الزمان أستاره على المشهد الأخير والمثير من مسرحية «نهاية التاريخ»!
وبدأ الأمريكيون بعدها يتحركون بهستيريا لإخضاع (العبيد) أو (الهنود) للدخول قسراً في سجن الحرية الليبرالية، وأصبحنا أمام (جوانتنامو) ثقافية واقتصادية وسياسية وأمنية اسمها (العولمة)؛ حيث لا مجال للحديث معها عن ديمقراطية الأغلبية، ولا الذاتية الشخصية أو الخصوصية الثقافية، ولا حتى منطق المصلحة، وبخاصة إذا كانت مصلحة (الآخر).
ويؤسفنا بعد كل هذا أن نجد من بني جلدتنا من يجعل من نفسه منصة تنطلق منها صواريخ الدمار الفكري الشامل القادم من أمريكا، صوب أراضينا المكشوفة وسماواتنا المفتوحة، متعللين بحريتهم في الفكر والفعل.
إن القضية قبل أن تكون اعتناقاً لفكر، أو اقتناعاً بمبدأ؛ هي قضية إيمان وتسليم؛ فمن الحقائق المقررة في ديننا أن الله لم يترك مناهج إصلاح البشر للبشر بشكل مطلق، بل تولى ـ سبحانه ـ ذلك بنفسه، فأرسل لذلك الرسل وأنزل الكتب، ونادى الوحي في الناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 176]. وإن الظن بأن البشر يمكنهم التفرد بتدبير شؤونهم بما يتفق مع غاية خلقهم، هو سوء ظن بالإله الخالق ـ سبحانه ـ وادعاء عليه بالعبثية وعدم الحكمة ـ جل ربنا عن ذلك ـ إذ كيف يخلق ويرزق، ثم يأذن للإنسان بأن يفسد باسم الإصلاح، أو يفجر باسم التحرر...؟ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 27 - 34].
إن كل فكر إنساني لا يعبأ إلا بالحياة الدنية القصيرة، دون اكتراث بالنجاة في الحياة الآخرة الباقية؛ لهو فكر معاد للإنسانية، مهما ادَّعى أصحابه الحرص على سعادة الإنسان؛ لأن هذا الفكر في النهاية هو اتباعٌ للهوى الذي يهوي بالإنسان إلى دركات التيه والضياع.
والفكر الليبرالي (Lib r alisme) لم يبلوره مفكر واحد في عصر واحد، بل اشترك في وضع أصوله العديد من المفكرين في أزمنة وأمكنة مختلفة، حتى صارت له أسسٌ تشمل نواحي الحياة في جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية، إلاّ أن هذا الشمول لا ينفي عن الليبرالية صفة القصور؛ لأنها اقتصرت في الجملة على تلبية الغرائز الدنيا في الإنسان، دون أدنى اعتبار للقيم العليا التي من أجلها كرّم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، بل هي فوق ذلك لا تعتمد إلا على أخس قدرات الإنسان على الفعل، وهي التمرد على إرادة الله عن طريق الكسب الاختياري الذي منحه إياه: {بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5 - 6]، وهذا هو أحط أنواع العبودية لغير الله؛ حيث يجعل من نفسه إلهاً لنفسه.(31/127)
لقد نشأ الفكر الليبرالي في بيئة غير بيئتنا، وتأصل على غير شريعتنا وأخلاقياتنا، وطُبق في غير مجتمعاتنا، واستهدف علاج آفات وإصلاح عيوب لم تعانِ منها أمتنا؛ فليس عندنا تسلط كنسي على عقول الناس، ولا احتكار كهنوتي للحقيقة، ولا خرافة طقوس تقوم على الخصومة المفتعلة بين الدين والعلم، ومع هذا، هَامَ به ـ على طريقة جُحر الضب ـ أقوام من المسلمين، وأرادوا أن يستوردوه ومعه العز والتقدم والشرف، فلم يجرُّوا بذلك على أمتهم إلا الذل والتأخر والانكسار، وصعب عليهم بعد ذلك ـ كما فعل الغراب حين أراد أن يقلد مشية الهُدْهُد ـ أن يعودوا لما كانوا عليه، فلا هم ظلوا مسلمين صلحاء أنقياء، ولا هم صاروا غربيين خلصاء بل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143].
نشأ الفكر الليبرالي عن فلسفة سياسية واقتصادية، أفرزت قناعات ثقافية وممارسات اجتماعية، حاولت بعد ذلك أن تتحول إلى منطلقات لحرية دينية، ونسبية اعتقادية، تؤول إلى (اللا دين). والليبرالية، بكل تعريفاتها لكل أصنافها؛ تركز على جوهر واحد يتفق عليه جميع الليبراليين، وهو أنها: تعتبر الحرية هي المبدأ والمنتهى في حياة الإنسان، وهي وراء بواعثه وأهدافه، وهي المقدمة والنتيجة لأفعاله. فالحرية هي سيدة القيم عندهم دون أدنى حدود أو قيود، سواء كانت هذه الحدود هي (حدود الله) أو كانت تلك القيود لسبب سياسي أو اجتماعي، أو ثقافي، أما مبدأ عبودية الإنسان لخالقه كما جاءت به رسالات السماء جميعاً، فهي عند الليبراليين لون من تراث الماضي «المتخلف».
بدأ الفكر الليبرالي في مرحلته المبكرة داعياً إلى حق التمرد ضد الحكومات التي تقيد الحريات الشخصية، ولهذا أوحت الأفكار الليبرالية بالثورة الإنجليزية عام 1688م، والأمريكية عام 1775م، والفرنسية عام 1789م، وأدت هذه الثورات إلى قيام حكومات تعتمد على دساتير تقدس حق الإنسان في الحرية الشخصية بأوسع دوائرها، دون التزام تجاه شيء، إلا القوانين المصاغة أصلاً لحماية الحريات الشخصية.
صحيحٌ أن الحرية الإنسانية، بضوابطها الأخلاقية، قيمة عظيمة، يفقد الإنسان من حقوقه الآدمية بقدر ما يفقد منها، ولكن التحريف الذي لحق بدين الأوروبيين النصارى، في تقنين ألوان من العبودية، جعلتهم يثورون على تلك التطبيقات المنحرفة للأديان المحرفة، ولو كنا مكانهم تحت التسلط والاستبعاد، لثرنا مثلهم؛ لأن للحرية الإنسانية حدوداً لا يطيق الإنسان بوصفه إنساناً أن يُحرم منها على الشكل الذي شرعته الكنيسة من دون الله. ولكن الفكر الليبرالي لم يقف عند حد علاج الخلل الناشئ بسبب فساد تصورات الكنيسة في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع، بل جعل الآلهة المتعددة إلهاً واحداً هو الهوى، فهو المعبود الحقيقي في الملة الليبرالية.
الليبرالية... وتأليه الهوى:
يدرك من له أدنى إلمام بتصنيفات وتفريعات أصحاب الملل والنحل والأديان، أن الإنسان بمعزل عن هداية الوحي، عبد كل شيء من حجر وشجر وشمس وقمر، وقدَّس الكثيرَ من الحيوان والهوام، وأطاع كل طاغوت من إنسان وجان، إلا أن هناك عبادة أخرى لم تشتهر بين العبادات؛ لأن المعبود فيها غير مشخص ولا ثابت، والعبادة فيها بلا شعائر ولا طقوس، ألا وهي عبادة الذات وتقديس الهوى، وتلك العبادة تختلف عن غيرها، بأن العبودية فيها غير واضحة المعالم؛ فهي مجرد سير أعمى وأهوج في طرق مظلمة بحثاً عن سعادة مفقودة، وغاية غير موجودة.
وهذا الظلام الحالك، هو ما أشار إليه القرآن في قول الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، ففي الآية تنديدٌ بمن يأتمر بأمر هواه؛ فما رآه حسناً فعله، وما رآه قبيحاً تركه، وهذا هو جوهر التأليه؛ فكل ما يستلزم الطاعة بلا قيود فهو عبودية، والإله المعبود في الآية هو الهوى، من باب التشبيه البليغ أو الحقيقة، والطاعة هنا مستلزمة للمحبة والرغبة، فـ (هواه) بمعنى: مهويه ومرغوبه المطاع.
ولهذا فإن عِلْم عابد الهوى لا ينفعه إن كان عنده علم؛ لأن الله ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فلا هادي له ولا مرشد من بعد الله؛ لأنه أغلق على نفسه باب الهداية عندما عزل نفسه بنفسه عنها.
ولم نرَ في الأفكار والمناهج المنحرفة شيئاً ألصق بوصف عبادة الهوى وتقديس الذات مثل الليبرالية المعاصرة من حيث وضعها وتعريفها؛ فهي تعني طلاقة حرية الإنسان وانفلاتها من كل القيود، بحيث لا يكون هناك أي مانع أو رادع من فرد أو أسرة أو جماعة أو دولة أو فكر أو دين أو تقاليد، بل يتصرف المرء وفق ما تمليه النفس وتسوق إليه الرغبة على ألا يتعدى على حرية الآخرين. صحيح أن أرباب الليبرالية يختلفون فيها بقدر اختلاف أهوائهم، إلا أنهم يتفقون على شيء واحد، وهو وصف موسوعة (لالاند) الفلسفية لها بأنها: «الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة».(31/128)
وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: «الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية)» وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها: «الحرية الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا». وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها «غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء».
وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تُجمِع على أنها انكفاء على النفس مع انفتاح على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه، ولا أسيراً إلا لهواه، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: «الليبرالية هي الانفلات المطلق».
ولهذا فإننا نعجب كل العجب ممن لديه أدنى معرفة بمعنى العبودية لله في الإسلام؛ كيف يجرؤ أن يقول: (الليبرالية الإسلامية) فيجمع بين متناقضين، وهل يمكن أن ينادي من أسلم بـ «انفلات مطلق» أو «تطبيق للقوانين التي اشترعها الإنسان بنفسه لنفسه»؟! وهل هناك في الإسلام استقلال عن كل المؤثرات الخارجية في الاعتقاد والسياسة والنفس والمادة؟! كيف يمكن أن تنسب كل هذه القبائح للإسلام أو تصبغ به؟ إن الليبراليين الغربيين يحلو لهم كثيراً أن يكسوا هذه الدمامة بأصباغ من الجمال المصطنع، فيفلسفوا اتِّباع الهوى بـ «تحكيم العقل» ويصفوا التمرد على القيم والثوابت بـ «الحرية المطلقة» أو «منع المنع»، ويرددوا دائماً بأنهم ضد الاستبداد السياسي الذي يمثله استبداد الدولة، والاستبداد الاجتماعي الذي تمثله القيم والأعراف، والاستبداد الديني الذي تمثله العقائد.
ولذلك نرى الليبراليين بكل أصنافهم ينفرون من كلمة (ثوابت) ويضيق عَطَنُهم من كلمة (عقيدة) ويفرون كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة إذا حدثتهم عن ثبات الأحكام، ودوام الحكمة والصلاحية فيها.
وبالنظر إلى أن طبيعة الهوى وسجية أهل الأهواء هي التقلب والتغير، فقد صاحَبَ الغموضُ مصطلحَ (الليبرالية) في مرحل تطورها، إلا في أمر واحد؛ وهو: تحقيق الرفاه والترف والذاتية الفردية إلى الحد الأقصى، وتحول هذا من الإطار الذاتي إلى الإطار الجمعي لدى المجتمعات التي تبنت الأفكار الليبرالية، والتي أسمت نفسها (العالم الحر)، وأصبح هذا العالم (حراً) في أن يحقق الحد الأقصى من الرفاة والمتاع، سيراً وراء الهوى المتبع والشح المطاع للأفراد، كل ذلك على خلفية المصلحة، المرادفة في كل الأحوال للأنانية المفرطة.
ولهذا وجد الناس البَوْن شاسعاً بين شعارات الليبرالية في عالم المثال، وتطبيقاتها في عالم الواقع؛ فقد غاب العامل الإنساني، وحل محله العامل الطبقي أو العنصري، ولم يعد (الإنسان) هو قضية الليبرالية الأولى إلا بحسب لونه أو جنسه أو مستواه الاقتصادي. فالليبرالية السياسية (الديمقراطية) في الغرب تختلف عن ديمقراطيات البلدان التابعة أو المستعبَدة من الغرب، والليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) في الغرب يجب أن توصِل عندهم إلى نتائج مسيطِرة، وعندنا إلى نتائج مسيطَر عليها. وأما بقية مفردات الليبرالية من ثقافية واجتماعية ودينية، فهي ينبغي أن تمثل عندهم نموذج القدوة والمثال، بينما تمثل لدى مقلديهم أنماط التبعية والذوبان إلى حد الابتذال.
أما الليبرالية الفكرية الثقافية والدينية فهي الأخطر، وتعني عندهم المزيد من هجر الخصوصيات والثوابت عند الأمم، في حين يفيئون هم إلى ما يعدُّونه قِيَماً يجب تصويرها بأحسن صورة، وتصديرها على أوسع نطاق.
وقد حدثت في ذلك تجارب وتجارب، دأب المفتونون بالفكر الليبرالي فيها على أن ينقلوا إلى مجتمعاتنا أدواء الليبرالية، دون أن يستطيعوا أن يداووا بها مرضاً.
لن نتحدث هنا عن تجربة تركيا المريرة في ذلك، سواء على يد العلمانيين أو أشباه الإسلاميين؛ فقد يقال إن تركيا في قسم منها جزء من أوروبا، ولهذا تسعى للتواصل معها واللحاق بها، ولكن أمامنا تجربة أخرى عربية غير تلك التركية، وهي التجربة المصرية التي خاضها العلمانيون كاملة لتنتهي إلى نتائج وخيمة لا تزال الأجيال في مصر تعاني منها لليوم، ومع هذا فقد ظلت هذه التجربة الخاسرة جاهزة للتصدير رغم كل علامات التحذير من انتهاء صلاحيتها وفساد مكوناتها.
i تكرار التجارب... واجترار الأخطاء:(31/129)
انبرى نفر من المفتونين بالفكر الليبرالي فيما مضى من العقود في مصر يبشرون بذلك الفكر على صُعُد مختلفة، ففي السياسة برز (سعد زغلول) ليكون داعية للنهج الأوروبي في الأداء السياسي، وبالبرغم من نشأته الأزهرية، إلا أن رحلاته المتعددة لأوروبا غيرت من فكره، وأقنعته بأن المحتل الأوروبي عندما يرحل ـ ولا بد أنه سيرحل ـ يجب الإبقاء على ما جاء من أجله، وهو تجذير التغيير في بنية الشعوب، لتقترب من النموذج الأوروبي، ولم يكن سعد زغلول وحيداً في حمل الهم الأوروبي رغم اقتران اسمه بالبحث عن الاستقلال، بل حمل معه هذا الهم كثيرون ممن أُشرِبوا في قلوبهم حب الأوروبيين من خلال التعليم في مدارس الإرساليات أو معاهد الأقباط، أو ضمن البعثات الخارجية؛ حيث دشن هؤلاء (العائدون من أوروبا) حملة تغريب منظمة بالتنسيق مع قوى (الاحتلال) حيناً، وتحت راية (الاستقلال) أحياناً.
فالاستعمار الإنجليزي استمر في مصر الفترة نفسها التي استمر فيها المد الليبرالي، وتحت إشراف ذلك المستعمر، وضع الليبراليون أيديهم على كل منافذ التأثير، وقد تعاقبت على حكم مصر حكومات تنتمي إلى أحزاب سياسية، وكان أكثرها يحمل المبادئ الليبرالية في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، كحزب الوفد الضليع في علمانيته الذي أسسه سعد زغلول والذي تفرعت منه أو انشقت عنه أحزاب علمانية، تؤمن كلها بالمبادئ الليبرالية على اختلافٍ بينها في الوسائل، وفي المدة من (أكتوبر 1922م) وحتى قيام ثورة (يوليو 1952م) أي فيما يقرب من ثلاثين عاماً، قامت في مصر إحدى وأربعون وزارة، كان الوفديون الليبراليون أو المنشقون عن الوفديين (السعديين) يتناوبون فيها مع غيرهم من العلمانيين على كراسي رئاسة الوزراء، ولم يكن التنافس بين هذه الأحزاب في الغالب إلا بقدر إثبات قدرتها على إحداث التغيير في بيئة المجتمع المصري وفق معايير الغرب؛ فماذا كانت الحصيلة؟
w وضع دستور علماني لمصر عام (1923م) على يد حزب الأحرار الدستورين المتعاطفين مع الانجليز، وهو الدستور الذي ظل معمولاً به مدة المد الليبرالي، والذي نص صراحة على أن التشريع حق خالص للبرلمان، وهو ما يعني تنحية الشريعة، وظل ذلك تقليداً متبعاً بعد ذلك.
w أبرمت معاهدة (1936م) بين الإنجليز وبين حزب الوفد الليبرالي في إحدى فترات (مصطفى النحاس) الذي تولى رئاسة الوزراء سبع مرات، وكانت معاهدة تحالف مع الاحتلال، تتخفى وراء مفاوضات الاستقلال، وقد استمرت لثلاثة عقود، في ظل المد الليبرالي المنادي بالتحرر.
w في ظل الأحزاب الليبرالية، جرى (تأليف) أحكام مبدلة وضعية بدلاً من الأحكام الشرعية على يد (عبد الرزاق السنهوري)، وفريقه، وهي الأحكام والقوانين المحادة للشريعة والمتناقضة مع أحكامها ومقاصدها والتي أصبحت مصدراً تستمد منه معظم الدول العربية فيما بعد قوانينها، وقد أحلت تلك القوانين كثيراً من المحرمات وألغت مرجعية الشريعة بشكل عملي.
w انطلقت مؤامرة (لبرلة) أو (تحرير المرأة) من حجاب العفة والكرامة، على يد قاسم أمين (تنظيراً)، وهدى شعراوي وصفية زغلول (تطبيقاً) وانتشرت العدوى بعد ذلك إلى بلدان عربية عديدة حتى صارت بعض العربيات ينافس الأوروبيات في (الليبرالية) الاجتماعية والأخلاقية.
w أُرسيت قواعد التعامل الربوي لتُبنى عليها صروح الاقتصاد، على يد (طلعت حرب) الذي أقام اقتصاداً وطنياً حراً، ولكنه كان حرباً على الله ورسوله؛ لأنه لم يذر ما بقي من الربا، بل أقام له المؤسسات والشركات ليؤكل أضعافاً مضاعفة.
w أُصِّل «بطلان» الحكم الإسلامي على يد (علي عبد الرازق) الذي بلغت (اليبرالية الدينية) على يديه أن زعم أن المسلمين أحرار في أن يهجروا تحكيم الشريعة؛ لأن الإسلام دين لا دولة.
w جرت علمنة مناهج التعليم، على يد المستشار (دنلوب) المفوض الإنجليزي الذي كلف بوضع المعالم الرئيسة لمناهج التعليم المصرية؛ بحيث يُحَيَّد فيها الدين والتاريخ الإسلامي، وتهمش اللغة، وتستلهم المبادئ الغربية.
w أما الصحافة والإعلام فلا تسل عن تعاون الفجار مع الكفار في إنشاء مؤسساتها وإرساء قواعدها على أسس منافية للدين عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً؛ حيث اشتهرت أسماء لأخبث قوى الهدم باسم الكتابة والفن والأدب، ولمعت أسماء كثير من النصارى واليهود الذين قاموا في ظل حماية الحكومات الليبرالية بهدم كل ما طالته أيديهم من قيم وأخلاق ومبادئ، بالتعاون مع حثالة من دروز لبنان، ونصيرية سوريا، وأقباط مصر، مع من داروا في فلكهم من سقطة القوم.(31/130)
إن المحصلة النهائية للتجربة الليبرالية التي سادت في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، أثمرت جيلاً تطلع إلى المزيد من الانحراف باسم التحرر، حتى جاء الثوريون ليثوروا على التحرريين، ويزايدوا عليهم في المناداة بمبادئ الحرية، حتى نعتوا أنفسهم بـ (الضباط الأحرار) تشبهاً بعتاة العلمانيين في تركيا، وتحت دعوى القضاء على فساد الأحزاب المتعددة في عهد الملكية، جرى جمع الفساد كله في حزب شمولي واحد أطلقوا عليه (الاتحاد الاشتراكي)، وهو الحزب الذي تسربت إليه، وتحيزت إلى صفه كل عناصر الفساد القديمة، إضافة إلى العناصر المفسدة الجديدة.
واليوم تحاول الولايات المتحدة تحت مسمى إصلاح الشرق الأوسط الكبير، أن تجدد الدماء المتجمدة في عروق الليبرالية المصرية، وتنشئ لها على عينها أجيالاً جديدة، بعد (الانقلاب الأبيض) الذي قام به الثوريون على أنفسهم، انتقالاً من النهج الاشتراكي الشرقي، إلى النهج الديمقراطي والرأسمالي الغربي؛ حيث لم يَرُقْ للأمريكيين ذلك التردد والتلكؤ الذي سلكه بقايا (جيل الثورة) في انقلابهم على النهج الاشتراكي، كما لم تقنعهم نتائج (المواجهة الشاملة) مع أصحاب النهج الإسلامي، الذين أظهروا رفضاً لكلا المنهجين المستوردين الاشتراكية والرأسمالية؛ ولهذا فإن الأمريكيين اليوم يتطلعون إلى إيصال قوى شابة، تقود المعركة من جديد لصالح الغرب مع الإسلاميين، أو بالأحرى مع الإسلام في مصر، غير تلك القوى التي قادت المعركة من قبل لصالح الشرق.
ولكن الولايات المتحدة نفسها، بدأت بنفسها في إثبات أن ما يسمى بـ (القيم الديمقراطية والليبرالية) تسقط عند أول اختبار في ميدان المصالح، وتترنح في حلبة الصراع، عندما يكون الند المحارب صاحب حق، أو طالب حرية حقيقية.
i تعدد الليبراليات وتهاوي الشعارات:
إذا كانت الليبرالية السياسية تعني حق الإنسان في اختيار النظام الذي يريده، والنواب الذين يمثلونه، بما يكفل تحقيق العدالة والمساواة والاستقلال؛ فإن هذه الليبرالية بدأت تسقط كشعار على يد الولايات المتحدة ودول الغرب المبشرة بها؛ فقد درجت الولايات المتحدة وحلفاؤها على انتهاك سيادة وحرية العديد من الدول في السنوات الأخيرة، مرة بالغزو المباشر، ومرة بالتدخل السافر، ومرات ومرات بأنواع العقوبات، وبهذا يجري بانتظام إهدار ما يعده الغرب قيماً وأعرافاً قامت لأجلها الثورات الكبرى هناك، ويحدث هذا من أمريكا بالذات على يد يمين ديني مغالٍ، يؤمن بالحرفية أكثر مما يؤمن بالحرية، حتى إن الحقوق السياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، باتت تعيش خطراً وضرراً بدأ يصل إلى حد ارتفاع بعض الأصوات بحرمان النساء والسود والمهاجرين من حق الانتخاب، وقصر ذلك على البيض البروتستانت. وهو ما يؤكد أن مشروع الهيمنة الأمريكي ليس من أجل الحريات، بقدر ما هو بسبب المصالح العنصرية والطبقية في الداخل والخارج.
إن هذا يعني في النهاية أن مسلسل سقوط (القيم) الليبرالية قد بدأ بالفعل على يد من بشروا بها، ووضعوا خطط السيطرة على العالم من أجلها، بل إن الديمقراطية نفسها ـ كأبرز تجليات الليبرالية السياسية ـ بدأت تفقد بريقها الخادع هنا وهناك، بعد أن بدا للجميع أنها لا تزيد عن عملية بيع وشراء، لا للسلع والمنتوجات، ولكن للذمم والأصوات، فهاهي الولايات المتحدة نفسها، ترتفع فيها تكاليف شراء المناصب العليا بمعدلات صاروخية؛ فمجموع ما أُنفق على الانتخابات الرئاسية قد ارتفع من 175 مليون دولار عام 1960م إلى أكثر من مليار ومائتي مليون دولار عام 1980م، وارتفع إلى ثلاثة مليارات ومائتي مليون دولار في التسعينيات، ووصل إلى أربعة مليارات من الدولارات في آخر التسعينيات، وفي الانتخابات الأخيرة بلغت تكاليف فوز بوش وحزبه خمسة مليارات من الدولارات.
هذا عند زعيمة العالم الليبرالي الحر في الغرب. وأما في الشرق؛ فإن الكراسي ومناصب الحكم بل مقاعد النيابة عن الشعب عند من يلهثون وراء السراب الليبرالي والديمقراطي، تُسرق ولا تُشترى، فإذا كان كبار رجال الأعمال في الغرب يشترون الأصوات شراء؛ فإن كبار المحتالين عندنا يسرقونها سرقة، بتزوير ظاهر، وتحايل مكشوف، بل بـ (بلطجة) وشيطنة وانحراف. أما في واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط (إسرائيل) فقد تكشفت مؤخراً فضيحة تورط شارون وابنه (عمير) بالكذب والتزوير وإنفاق مبالغ طائلة من أموال دولة اللصوص القائمة على الاغتصاب، لإنفاقها على العملية الانتخابية التي جاءت بشارون.
أما الليبرالية الفكرية التي تعد أساساً لليبرالية السياسية، فهي تؤصل منذ نشأتها للفوضي الفكرية، ولهذا فإن كل ما يبنى فوقها من منشآت سياسية يؤول أمره إلى الفوضى، وثورة الليبرالية على الدين وثوابته لا تلبث أن تتحول إلى ثورة على السياسية ومسالكها.(31/131)
وتأتينا الليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) بوجهتها الانتهازية ونكهتها اليهودية؛ إذ تقوم منذ وضع أسسها (آدم سميث 1723 ـ 1790) على المصلحة، أو (الأنانية)، فهي المحرك الوحيد للنشاط الإنساني كما يقول، ولا ينبغي أن يوضع أمام المصلحة أي قيد، وهو ما عبر عنه بقوله: (دعه يعمل، دعه يمر)؛ فالاقتصاد لا ينظمه حسب النظام الرأسمالي إلا قانون العرض والطلب وقوانين الطبيعة البشرية، دون أي قيود أو ضوابط.
وتجيء الليبرالية الدينية، أو (الميتافيزيقية) كما يسمونها أحياناً، لتكون عاراً على كل من يتبنى الليبرالية ممن يدعي احترام المبادئ الإنسانية فضلاً عن القيم الإسلامية، فالليبرالية الدينية، أو التعددية الدينية تسعى إلى نمط من الفكر الديني، لا يتقيد بأية قواعد، ولا يستند إلى أية مرجعية، بل يستند إلى حرية الإنسان في اختيار الإله الذي يهواه، ولو عبد كل يومٍ إلهاً.. ولو لم يعبد إلهاً على الإطلاق إلا هواه.
والليبرالية الدينية تقوم على فكرة نسبية الحقيقة، وترِّوج لمقولة: لا دين على الإطلاق يحتكر الصواب.
ولهذا كانت الليبرالية الدينية دائماً هي الأداة الخادمة والدافعة لبقية الليبراليات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ لأن الليبرالية الدينية تهدم أولاً القواعد، وتزيل الحواجز، لينطلق (البناؤون الأحرار) بعدها في تشييد أبنية الضلالة على أسس الغواية، كل ذلك على خلفية إلغاء الخصوصيات الثقافية، وتدمير مفهوم (المقدس) وتبديله بمهفوم (النسبية) في الحقائق والعقائد والقيم لإزالة الثبات عنها، حتى لا يبقى هناك مجال لأصول تبنى عليها الهوية، أو ترتكن إليها القيم.
وفي عالمنا الإسلامي، وبالرغم من أن الليبرالية بدأت تظهر حقيقتها على أنها حملة استئصالية، تستهدف الدين في أصوله قبل فروعه، والأخلاق في جوهرها قبل مظهرها؛ فقد وجدت من الأفّاكين من يروِّج لها ويتحدث باسمها، بل تطور الأمر إلى أن بعض الطيبين انساق إلى الانخداع بالليبرالين والإنصات لقولهم، وصدق الله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
وتمخض الأمر عن ميلاد ما يعرف الآن بـ (الليبرالية الإسلامية) على غرار ما كان يعرف بـ (اشتراكية الإسلام) و (اليسار الإسلامي) وكذلك دعوى (ديمقراطية الإسلام) والدعوة إلى (أسلمة العلمانية).
والسؤال هنا: هل سيؤول مصير (الليبرالية الإسلامية) إلى معنى (الليبرالية الدينية) المتمحور حول مقولة (جون هيك): «لا دين يحتكر الحقيقة»؟! نخشى أن يحدث ذلك! وهل سيقول الليبراليون (الإسلاميون) إن الإسلام لا يملك كل الحقيقة، وأن عقيدته لا تمثل كل الصواب؟ فبعض الأفراخ الجديدة للفكر الليبرالي (الإسلامي) بدأت تكشف عن نفسها في جراءة لا تُستغرب على من يؤمن بـ (نسبية الحقيقة) و (تطور القيم)، وهو ما قد يوصِل إلى التطابق والتماثل بين (الليبرالية الإسلامية) والعلمانية الرامية إلى فصل الدين عن الحياة، ولكن هذه قضية أخرى تحتاج إلى تفصيل وتأصيل.
غير أن إرهاصات التحول (العربي) الليبرالي العلني إلى محادَّة الدين تشعرنا بالقلق، من أن تتحول هذه العدوى إلى التوجه الليبرالي (الإسلامي) المدَّعى.
يثير موقع شبكة (الليبرالية الكويتية) في زاوية (من نحن؟) السؤال التالي: «هل الليبرالي علماني؟»، ويجيب: «نعم! كل الليبراليين علمانيون»، ثم يثير سؤالاً آخر: «ما هو موقفنا من تطبيق الشريعة الإسلامية؟» فيجيب: «الحقيقة هي أنه لا توجد هناك أية شريعة إسلامية، بل هناك شرائع إسلامية متعددة.. وقد أثبت التاريخ أن جميع الدول الدينية في التاريخ الإنساني هي دول دكتاتورية قمعية، ولا يوجد نموذج لشريعة إسلامية حتى الآن يتوافق مع حقوق الإنسان الأساسية» ثم ينتهي القائمون على الموقع إلى القول: «الطريق إلى العدل والمساواة والحرية يبدأ بتطبيق الديموقراطية والليبرالية الحرة، أما الدعوة إلى الشريعة؛ فما هي إلا أوهام مخلوقة من الجماعات الأصولية لبسط نفوذها».
هل يستطيع الليبراليون (الإسلاميون) تبرئة زملائهم من الليبراليين العرب في الكويت أو غيرها من هذا الإلحاد الصريح؟ وهل يستطيعون أن ينفوا عن الليبراليين (الإسلاميين) في تركيا مثلاً توقهم المتسارع والمندفع إلى نحو تلك الليبرالية الدينية..؟ لقد قال نجم الليبرالية (الإسلامية) «رجب أردوغان»: «نحن بحاجة إلى تغيير توجهنا إلى حيث الليبرالية الدينية..»، ومع هذا لا يزال «أردوغان» فارس أحلام العديد من (الإسلاميين) الليبراليين، الذين تسميهم بعض الأوساط الأمريكية (الإسلاميين الجدد).
لا نشك أن الولايات المتحدة سترعى هذه التيارات الجديدة، وستتبناها؛ لأنه أقصر طريق للوصول إلى بغيتها في ضرب ما تسميه (الإسلام الأصولي) أو (السلفي) أو (الوهابي)، بل إنها ستزرع زرعاً ـ من خلال نفوذها على الحكومات ـ مثل هذه العناصر الداعية إلى (التحرر الديني) في مناصب التأثير والتوجيه الاجتماعي، وهو ما كشف عنه تقرير معهد (راند) الشهير عن (الإسلام المدني الديموقراطي) أي (الإسلام الليبرالي) وكذلك تقرير (عقول وقلوب ودولارات).(31/132)
والولايات المتحدة لم تعد تخفي رغبتها العارمة في فرض (الليبرالية الدينية) تحت مسمى (الحريات الدينية)؛ فقد بدأت منذ سنوات في إصدار تقرير سنوي باسم (تقرير الحرية الدينية في العالم) تركز فيه على العالم الإسلامي، وهذا التقرير يصدر بموجب ما يسمى بـ (قانون الحرية الإمريكي) الصادر عام (1998م) والذي يستهدف بحسب وصف موقع الخارجية الأمريكي على الإنترنت «دراسة وفحص المعوقات التي تحول دون (إطلاق) الحرية الدينية في مئة وسبعة وتسعين دولة ومنطقة في العالم».
صدر التقرير السابع عن الحرية الدينية في العالم في 8/11/2005، على أن يُقدَّم للكونجرس الأمريكي لمناقشته، وقد انتقد حالة الحرية الدينية في عدد من الدول العربية والإسلامية، وأثنى على (التقدم) الحاصل في دول أخرى في جوانب «التحرر» الديني. وقبل أن أذكر أبرز ما ورد في ذلك التقرير، أريد التنبيه على النقاط التالية المستخلصة من محتوى التقرير:
1 - الولايات المتحدة تتجه نحو اعتبار قضية (الحريات الدينية) من الشؤون الدولية لا من خصوصيات الدول الداخلية.
2 ـ لا تريد الولايات المتحدة أن تتعامل مع أفكار (الحرية الدينية) كمجرد أفكار تقترح أو دعوات تعرض، وإنما تريدها إملاءات، توصل إليها الإغراءات أو الضغوطات.
3 ـ (فوضى العقائد) هي السقف المحدد والغاية المرجوة من «فرض» الحرية الدينية، حتى تنفتح كل الأبواب أمام التنصير أو بالأصح التكفير الذي يستهدف بشكل خاص عوام المسلمين.
ولنمر سريعاً على لقطات من التقرير الخطير:
أ ـ ما يتعلق بإيران:
يأخذ التقرير على إيران، عدم الاعتراف بالطائفة البهائية (التي تؤمن بـ «المرزا غلام أحسن» نبياً بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -) وينتقد إغلاق مراكز التبشير النصراني البروتستاتي في إيران، ويرى أن اتخاذ سياسة معادية لدولة (إسرائيل) يدخل ضمن عدم الالتزام بالحرية الدينية، كما يشير إلى التحيز الحاصل في إيران ضد الطائفة السنية.
ب ـ ما يتعلق بالسعودية:
يدعي التقرير ألاَّ وجود للحرية الدينية في المملكة العربية السعودية، ويدل على ذلك بـ (إجبار) الدولة مواطنيها جميعاً على اعتناق دين الإسلام فقط، وعدم سماحها للمواطن بأن يغير دينه، وينتقد أيضاً عدم الاعتراف داخل المملكة بالأديان الأخرى، فضلاً عن حمايتها، ويرى أن عدم السماح لأصحاب الأديان الأخرى من غير المواطنين بممارسة شعائرهم علناً أمر متعارض مع الحرية الدينية، ويُعد التقرير من مظاهر انتهاك هذه الحرية عدم السماح للمواطنين بالرجوع عن الإسلام، ومن مظاهر انتهاكها: إطلاق الشرطة الدينية (أهل الحسبة) لمراقبة المتهاونين في أداء الصلاة، ومن المظاهر المنتقدة أيضاً إلزام جميع الطلاب في المراحل المختلفة بدروس ومناهج دينية تتطابق مع التعاليم «السلفية». كما يرى التقرير أن معالجة الصحافة للقضايا الدينية محدودة للغاية ومقيدة.
وأشار التقرير إلى أن الحكومة الأمريكية تطالب بالالتزام العلني بالسماح بأداء الشعائر لغير المسلمين، وتحث على إلغاء التمييز بين الطوائف والأديان، وأظهر التقرير أن وزير الخارجية الأمريكي السابق (كولن باول) كان قد وصف الأوضاع بالسعودية عام 2004م بأنها مثيرة للقلق بسبب «الانتهاكات الشديدة» للحريات الدينية.
ج ـ ما يتعلق بالسودان:
يأخذ التقرير على الحكومة السودانية أنها تعتبر نفسها «حكومة إسلامية» وأن الحزب الحاكم يلتزم بـ (أسلمة) البلد، ولهذا يفرض كثيراً من القيود والتمييز ضد غير المسلمين وغير العرب، ويرى التقرير أن الحرية الممنوحة للمسلمين في بناء المساجد ليست ممنوحة لغير المسلمين في بناء معابدهم، وأشار التقرير إلى أن وزارة الخارجية الأمريكية صنفت السودان مرات عديدة بأنه بلد مثير للقلق فيما يختص بالانتهاكات الشديدة للحرية الدينية، وأن ممثلي السفارة الأمريكية هناك ربطوا بين تحسين العلاقة مع الخرطوم، وبين اتخاذ إجراءت للتخفيف من تلك الانتهاكات.
د ـ ما يتعلق بمصر:
يرى واضعو التقرير أن تمييز الحكومة المصرية ضد المسيحيين لا يزال مستمراً؛ فهناك تمييز في التعيين في المناصب العامة وهيئات التدريس، ويُرفض قبول المسيحيين في جامعة الأزهر! وهناك إعاقة لحرية بناء الكنائس، ويعتبر التقرير من المآخذ على الدولة المصرية أنها تمتنع عن الاعتراف بالطائفة البهائية، وينتقد محاولات «التضييق» على النشاط التبشيري بين المسلمين بذريعة منع الفتن الطائفية.(31/133)
وقد أشار التقرير إلى أن المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزيرة الخارجية الأمريكية ومساعدها للشرق الأوسط والسفير الأمريكي وغيرهم، أثاروا مع كبار المسؤولين المصريين موضوع الحرية الدينية، كما أعربوا عن قلقهم بشأن التمييز ضد البهائيين والمسيحيين، وأشار التقرير إلى أن أعضاء من الكونجرس الأمريكي أبدوا غضبهم أثناء زيارتهم لمصر مؤخراً من المقالات التي تعادي السامية، وأبلغوا بذلك رؤساء تحرير الصحف وغيرهم من الإعلاميين، وأشار التقرير كذلك إلى أن هناك برامج أمريكية في مجالات عدة لتمويل مشاريع تتعلق بالحريات الدينية، منها برامج للتعاون مع الأقباط في جنوب مصر وبرامج لتشجيع التقارب بين الطوائف الدينية، ونوه التقرير بمشاركة بعثة أمريكية في تشجيع وضع مواد دراسية تحث على الحرية الدينية في مناهج التعليم باللغتين العربية والإنجليزية.
هـ ـ ما يتعلق بالعراق:
لأن العراق أصبح ساحة مفتوحة أمام التجارب الأمريكية في تنفيذ مفاهيمها حول الحرية الدينية؛ فقد أشار التقرير إلى أن هناك تنسيقاً على مستوى عالٍ بين المسؤولين في البلدين لجعل العراق بلداً نموذجياً في إطلاق الحريات الدينية، ولهذا تستضيف الإدارة الأمريكية العديد من الندوات والحوارات حول هذا الموضوع، وتمول المشاريع الهادفة لذلك لجمع جهود المذاهب والطوائف كلها ضد ما تعتبره الولايات المتحدة إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته.
شهادة إشادة..!
في مقابل هذه الانتقادات المتعددة لبلدان كثيرة، أشاد تقرير الحرية الدينية الأمريكي بدولة الإمارات لاستضافتها مؤتمراً دولياً لمحاربة الإرهاب والتشدد الديني؛ في حين أن حكومتها تبرعت بقطعة أرض في أواخر عام 2004م لبناء كنيسة (سانت ماري) لجالية الروم الأرثوذكس في دبي، ورحب التقرير باشتراك وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في أبو ظبي في الاحتفالات الدينية التي أقامتها الكنيسة الإنجيلية العربية هناك بمناسبة عيد الميلاد؛ حيث حضرها وكيل وزارة شؤون المساجد ومساعد وكيل وزارة الشؤون الإسلامية. وأثنى التقرير أيضاً على قيام مستشار الوزارة للشؤون الدينية في دبي بإزاحة الستار عن حجر الأساس لبناء كنيسة (الأنبا أنطونيوس) القبطية المصرية على أرض دبي، برفقة رئيس أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر والخليج والشرق الأوسط.
وماذا بعد:
ـ فهل هذا ما يريده الليبراليون ـ علمانيين أو «إسلاميين»؟
ـ هل يطالبون بأن تتحقق (المساواة) بين التوحيد والتثليث، وتعدد الآلهة وانعدام الآلهة.. في بلاد المسلمين..؟
ـ وهل يسرهم ذلك (العدل) بين المعبودات، فلا يفرق بين عبادة خالق الكون الواحد الأحد، وبين عبادة الصلبان والنيران والجُعلان..؟
ـ هل يرضيهم أن يفرض (السلام) مع كل أعداء الإسلام، وتشن حروب الإبادة فقط على عباد الرحمن؟
ـ وهل يفرحون بانتشار الكنائس في جزيرة العرب التي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يجتمع فيها دينان..؟
ـ وهل يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتتم العودة عن الحجاب، استجابة لدعاوى التحرير والتغرير؟
ـ وهل يغتبطون باستمرار استبعاد الشريعة بحكم الدولة والقانون، ولا يبقى منها إلا نصوص مجمدة في صدور بعض الدساتير..؟
ـ وهل تنشرح نفوسهم عندما يرون التعليم والإعلام يمسخ أجيال الأحفاد بعدما دمر كثيراً في أجيال هي الآن آباء وأجداد..؟
ـ وهل يرغبون في أن تظل فئام من الأمة تأكل الربا أضعافاً مضاعفة، معرّضين أنفسهم والناس معهم لحرب من الله ورسوله..؟
لا نظن الدعوة لهذا وغيره في بلاد المسلمين تصدر إلا من دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ فإن كان الليبراليون العلمانيون اللادينيون لا يستنكفون عن هذا الوصف لأنفسهم، فلا نظن أن الليبراليين «الإسلاميين» يجهلون أن هذه هي أبرز معالم البرنامج الذي يريد به الأعداء أن يردونا به إلى الوراء.
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89].
اللهم اهدنا جميعاً سواء السبيل.
مجلة البيان
=============(31/134)
(31/135)
مواقف الليبراليين تجاه سبِّ الرسول
خباب بن مروان الحمد
(1)
حقاًَ لم نتفاجأ من موقف النابت على أعين الغزاة ، حامد كرزاي الذي عارض إجماع البلدان الإسلاميَّة ـ رسمياً وشعبياً ـ وعبَّر خلال زيارته للدنمارك عن رضاه كرجل مسلم!! عن التفسيرات التي قدَّمتَّها (كوبنهاجن) للإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال معلناً:(الواقع أنَّ الصحافة حرَّة في الدنمارك كما في أفغانستان اليوم).
أتساءل حينها: هل يسمح كرزاي بأنَّ يسبَّ شخصه في الصحف الأفغانيَّة الحرَّة؟ أو يكتب أحد من ملالي الطالبان مقالاً يتَّهمه فيه بالعمالة والخيانة لشعبه وأمَّته الأفغانيَّة ، بعد أن أسلمها للهوان والذلَّة إبَّان مشاركته لأمريكا في حربها على الإسلام ؟ وبما أنَّه رئيس للحريَّة الأفغانيَّة فهل سيسمح لمن شاء بأن يتحدَّث بما شاء لأن قوانين الحريَّة ، تسمح بذلك عنده؟
فمثلاً: هل يسمح ويرضى حامد كرزاي كرجل مسلم! بأن تُسبَّ الحكومة الأمريكيَّة في الصحف الأفغانيَّة الحرَّة ، ومن ثمَّ يقدِّم كاتب المقال التفسيرات التي يراها مسوِّغة لمقاله بسبِّ أمريكا وأذنابها.
أجزم مسبقاً وبدون تردُّد أن الوضع يختلف تماماً في الفكر الكرزايي ! فقد يُلْحَق صاحب المقالة في سجون (باغرام) وإخواتها التي يقدِّم المسؤولون فيها كامل حريَّتهم للتعبير عن الغضب ضد المتطرفين ـ على حدِّ زعمهم ـ ! لأنَّهم يعيشون تحت ظلِّ الديموقراطيَّة الأفغانيَّة الجديدة ، ولله درُّ من قال:
يُقاد للسجن من سبَّ الزعيم ومن * * *سبَّ الرسول فإنَّ الناس أحرار
(2)
أحد المواقع الإخباريَّة على الإنترنت ينشر استفتاءً واستطلاعاً للرأي ؛ عن الموقف من نشر صور مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وهل هي من حريَّة الرأي التي لا تستدعي الغضب ؟ ويُظْهِرُ أصحاب هذا الموقع أنَّ (54 % ) يرون أنَّ هذا من قبيل حريَّة الرأي ويعقِّب الموقع إزاء ذلك: بأنَّ هذا استطلاع لا يبرهن ولا يقتضي صحَّة ذلك أو أنَّ هذا هو الحقيقة !!
مع أنَّ المتابع للمعلِّقين على نتيجة ذلك الاستطلاع يلحظ بأنَّ 95% منهم فأكثر يستهجنون تلك الرسومات الساخرة برسول الله صلى الله عليه وسلم بل من غير المسلمين كما يظهر للمراقب القارئ لتلك التعليقات.
و نحن لا ننسى أنَّ هذا الموقع قد أجرى استطلاعاً سابقاً حول تطبيق حدِّ الردَّة الذي أثبتته شريعة الإسلام ، وهل يخالف حقوق الإنسان أم لا؟
وقد أظهر هذا الموقع على صفحته الرئيسيَّة رأي الرافضين لذلك وهم 42% ممَّن رفضوا حدَّ الردَّة لمخالفته لحقوق الإنسان ، وأخفوا رأي الموافقين على إقامة حدِّ الردَّة في الاستطلاع نفسه وهم الأكثريَّة بنسبة 55% لأنَّهم يعتبرون ذلك من أحكام الإسلام ... ودعونا نقول: أين النزاهة والأمانة في نقل الأخبار على حقيقتها أيها الليبراليُّون المتحررون من قيد اللاَّحريَّة ؟! أم أنَّ حريَّة التلاعب في نقل الأخبار أباحت لكم أن تظهروا ما تشاؤون وتخفوا ما تشاؤون ؟ أتواصيتم به بل أنتم قوم طاغون.
ثمَّ هل قضايا الشريعة وثوابتها تحتاج لاستطلاعات واستفتاءات للعقول البشريَّة والأدمغة الإنسانيَّة المتغذِّية على فتات الخبز لكي تبدي رأيها حول ثوابت الشريعة ومحكماتها؟! إنَّ ذلك لشيء عجاب!
(3)
يكتب أحدهم مقالاً في أحد المواقع الإخباريَّة على الإنترنت ذائعة الصيت ، وفي إحدى الجرائد التي تعنى بالقضايا الاقتصاديَّة ، ملخَّصه لماذا تقاطع الشعوب الإسلاميَّة دولة الدنمارك التي تسعى إلى تقديم جسور التعايش السلمي بينه وبين المسلمين ؟ وما ذنب هذا البلد بأن تقاطع منتجاته بجريرة صحيفة أساءت لرسول الله ؟ بل ينصُّ قائلاً بأنَّ المسلمين:(عمَّموا خطأ جريدة على دولة كاملة لا تملك بحكم القانون أي سيطرة على هذه الجريدة)!!
يقول هذا ذلك الرجل مع أنَّه يعلم بأنَّ قوانين هذا البلد يمنع من الإساءة لأيِّ ديانة أو شخصيَّة دينيَّة ، ثمَّ إنَّ دعواه بأنَّه لمَ نقاطع منتجات بلد الدنمارك بذنب صحيفة أخطأت بحقِّ رسول الله ، فالجواب عليه : لقد أثبتت الإحصاءات الواضحة بأنَّ غالبيَّة شعب الدنمارك لم يرضَ بأن يعتذر بالإساءة لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي هذا فيما أظهر استطلاع للرأي نُشر الأحد أن غالبية الدانماركيين لا يشعرون بأن على حكومتهم ووسائل إعلامهم أن تعتذر للمسلمين. وقال 79% ممن شملهم الاستطلاع: إن رئيس الوزراء يجب ألا يعتذر نيابة عن الدانمارك ، بينما قال 18% : إن عليه الاعتذار.
ومن ناحية أخرى قال 62% :إنه لا يتعين على الصحيفة تقديم اعتذار بينما قال 31% إن عليها أن تعتذر، كما ذكر ذلك موقع(إسلام أون لاين).(31/136)
وهذا أحد المنهزمين من قومنا ينشر مقالاً في إحدى الجرائد السيَّارة بعنوان : لا تقاطعوا المنتجات الدنماركيَّة ! يبدي فيه أنَّ العاطفة الجيَّاشة التي أدَّت بالمسلمين بمقاطعة المنتجات الدنماركيَّة تجاه السخرية من الصحف الدنماركيَّة بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تفيد شيئاً وأنَّ هذه المقاطعة غير ذات جدوى اقتصاديَّة ، لأنَّ المتضررين من المقاطعة هم الوكلاء التجاريون الذين يحملون امتياز بيعها في البلدان الإسلاميَّة.
ولا أدري من نصَّب هذا ليكون محامياً عن المنتجات الدنماركيَّة ، أو وكَّله لنصح المسلمين بعدم مقاطعة منتجات الدنمارك ؟ وكذلك هل ظهر أحد من هؤلاء الوكلاء التجاريون وأعلن أنَّه تضرَّر من هذه المقاطعة ؟ بل العكس خلاف ذلك فقد رأيناهم تداعو بكلِّ شجاعة لطلب المقاطعة ، فهل هذا المسكين أحرص من التُّجَّار على أموالهم أم أنَّها عقليات التطبيع ! وحتَّى حكومات البلاد الإسلاميَّة لم تعلِّق بشيء على المقاطعة الشعبية الإسلاميَّة للمنتجات الدنماركيَّة ، ولم تلزم أصحاب الشركات والمؤسَّسات بالتعامل الاقتصادي معها.
ثمَّ هؤلاء الصحافيون الذين يشكِّكون بجدوى المقاطعة ، هل تغافلوا عن النداءات الدنماركيَّة التي تستنجد بالاتحاد الأوروبي لإنهاء المقاطعة الإسلاميَّة لمنتجاتها؟ وهل تغابوا عن الخسائر الدنماركيَّة التي ستصاب بها حين تقاطع دول الخليج العربي فقط منتجاتها خلال فترة قصيرة ، حيث ستبلغ حجم خسائر الدنمارك إلى أكثر من 40 مليون كراون؟ ويكفي أنَّ شركة (آرلا) الدنماركيَّة قالت : إنَّها ستخسر ما يقارب 10 ملايين كرونة يومياً بما يعادل مليون ونصف دولاراً أمريكياً نتيجة للمقاطعة في السعودية فقط ، فما بالك بالبلدان الإسلاميَّة الأخرى ، بل أعلنت إحدى الشركات بأنَّه إذا استمرَّت المقاطعة لأسبوع واحد فربَّما تضطر لإغلاق مصانعها في الدنمارك الذي يعمل فيه 160 عاملاً.
ولهذا فلتبشر الدنمارك وحكومتها العنصريَّة بخيار الشعوب الإسلاميَّة بمقاطعتها لمنتجاتها تحت شعار:(إذا كان لكم حرية الرأي،فإنَّ لنا حرية الاختيار)ويستحيل على أيِّ حكومة أن تجبر إرادة الشعوب على ذلك.
قارئي العزيز: ينبغي علينا أن نتكاتف بهذه المقاطعة ولو اعتذرت الصحف الدنماركيَّة ، ولو اعتذر الدنمارك كلُّه ، لأنَّ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن نرعاه ونحميه من أيِّ أحد يستهزئ به ولو تاب ، وماذا لو سبَّ صاحب شركة آباءنا وأمَّهاتنا ثم اعتذر لنا بعد ذلك ؟ إنَّنا سنجد في أنفسنا عليه بعض الشيء ولو اعتذر ولن نتعامل معه،فكيف برسول الأمَّة الإسلاميَّة محمد بن عبدالله ـ عليه صلوات ربِّنا وسلامه ـ ؟
فلنجتمع يا شباب الدين قاطبة *** لنصرة الحقِّ في جدٍّ من العمل
وأيسر الأمر أن تلقي بضاعتهم***ردَّت إليهم جزاء المارق الثَّمل
وأختم مبشِّراً بأنَّه لابدَّ من يوم للدنمارك يقتصُّ فيه الله لشخص رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّه سبحانه وتعالى متكفِّلٌ بالانتقام لرسوله ، وقد قال ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ:(إنَّ الله منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممَّن طعن عليه وسبَّه ، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب ؛ إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد) (الصارم المسلول2/233) وقال (2/318):(ولعلَّك لا تجد أحداً آذى نبيَّاً من الأنبياء ثمَّ لم يتب إلاَّ ولابدَّ أن يصيبه الله بقارعة) وقال:( ومن سنَّة الله أن يعذِّب أعداءه تارة بعذاب من عنده، وتارة بأيدي عباده المؤمنين) ولهذا نقول بملء أفواهنا للدنمارك وأهلها: انتظروا بعقاب من عند الله ؛ فإنَّا لمنتظرون ! وصدق الله ـ جلَّ وتقدَّس ـ(فليحذر الذي يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وأخيراً : يا ليبراليُّون ماذا كنَّا ننتظر منكم غير هذا اللمز من طرفٍ خفي ، أو السكوت على تلك الإساءة ؟! فلسنا أغبياء بدرجة كافية.
================(31/137)
(31/138)
الإسلام الليبرالي أو الضوء الذي يخفي الحقائق
محمد إبراهيم مبروك
يبدو أن قناعات المنظِّرين الأمريكيين من أمثال (هنتنجتون) و (فوكوياما) و (برنارد لويس) بأن الإسلام يملك الأيديولوجية الوحيدة القادرة على تحدي المنظومة الليبرالية العلمانية للحضارة قد غدت قناعات نهائية للسياسة الأمريكية بوجه عام.
ومع إصرار هذه السياسة على الانفراد بحكم العالم غدا قهر الإسلام وإرغامه على الالتحاق بالتبعية الغربية هو الهدف المحوري لتلك السياسة الذي تدور حوله باقي أهدافها الأخرى. ومع استعصاء الإسلام على هذا القهر الذي يتجلى في المقاومة الجهادية للأمريكيين في أماكن مختلفة من هذا العالم اقتضى العمل على اختراق الإسلام نفسه من الناحية الفكرية بابتداع ما يسمى بـ (الإسلام الليبرالي) الذي شاع عنه الحديث في المرحلة الأخيرة والذي يعني بكلمة مبسطة للغاية: ابتداع بناء مفاهيمي مزيف يجمع بين بعض الأطر الشكلية للإسلام والمضمون الليبرالي للحضارة الغربية القائمة، ويتم تبنيه ودعمه والترويج له بالطريقة التي تصنع منه الضوء الذي يخفي الحقائق.
* الرصد والتنظير لمحاولات توظيف الإسلام للمصالح السياسية:
العمل على توظيف الإسلام للمصالح السياسية شأن قديم، مثله مثل كل ما يمكن العمل على توظيفه من معتقدات للمصالح السياسية في التاريخ الإنساني؛ حيث يتوقف النجاح في ذلك على مدى تيقُّظ أهل هذه المعتقدات لما يستهدفه أعداؤهم من اختراق لها؛ لدفعهم إلى الوجهة التي يريدون من خلال الخداع والتضليل.
ويمكن الحديث عن ثلاث محاولات للرصد والتنظير حول هذا الموضوع في النصف الثاني من القرن العشرين:
الأولى: هي ما رصده الأستاذ (سيد قطب) من محاولات أمريكية لتوظيف الإسلام لمصالحها السياسية أوائل تلك المرحلة الزمنية للعمل على إرث الإمبراطورية الإنجليزية، وسماه حينذاك بـ (الإسلام الأمريكاني).
الثانية: ما كان قائماً بالفعل في الاتحاد السوفييتي، وقام بالتنظير له أيضاً مجموعة من المفكرين العرب من العمل على توظيف الإسلام لخدمة الأهداف الشيوعية وهو ما كان يسمى حينذاك بـ (الإسلام الأحمر).
الثالثة: هي ما قام به صاحب هذه الدراسة من رصد ملامحه فترة السبعينيات والثمانينيات واستشفاف شيوعه في العقود التالية من التأثر بشيوع المفاهيم البراجماتية في المنطقة، ومن بينها البراجماتية الدينية، ومن ثم العمل على توظيف الإسلام للمصالح المختلفة بوجه عام سواء كانت المصالح السياسية الأمريكية، أو المصالح السياسية لقادة بعض الأنظمة، أو قادة بعض التيارات المعارضة، بل من جانب بعض المنتمين للتيار الإسلامي نفسه أيضاً وهو ما سماه حينذاك بـ (الإسلام البراجماتي أو النفعي) حيث صدر في كتاب يحمل العنوان نفسه عام 1989م.
* ما هي الليبرالية؟
لوك وفولتير:
على الرغم من أن الليبرالية عادة ما تُنسب إلى الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك 1632- 1704) إلا أن (جون لوك) كان يهدف في الأساس من أفكاره السياسية إلى التحرر من سلطات الكنيسة السياسية، وما رسخته من أفكار حول نظرية التفويض الإلهي للملوك والتي نظَّر لها السير (روبرت فيلمر) في كتابه (دفاع عن السلطة الطبيعية للملك) والذي ذهب فيه إلى أنه «على من يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله أن يسلِّموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب أقرهما الله، وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك»(1).
ومن أجل دحض آراء (فيلمر) هذه ذهب (لوك) إلى تصور أن الأفراد في «الحالة الطبيعية» يولدون أحراراً متساوين (وهذه هي نقطة الانطلاق في المذهب الليبرالي كله) وأنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق «عقد اجتماعي» تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب للجماعة ككل؛ وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي؛ وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها(2).
وذهب (لوك) أيضاً إلى ضرورة أن تُفصَل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية «فالسلطة التشريعية هي التي ينبغي أن تكون لها الكلمة العليا؛ لأنها مسؤولة فقط أمام المجتمع بصورة كلية، ذلك المجتمع الذي تعد هي ممثلة له» ومن هنا جعل لوك الأمة هي مصدر كل السلطات وهي الفيصل بينها أيضاً، كما أن مبدأ الفصل بين السلطات الذي فصله (مونتسكيو) بعد ذلك» مبدأ جوهري بالنسبة لليبرالية السياسية»(1).
وكان (فولتير) من أشهر زعماء الليبرالية في فرنسا والذي يعد تلميذاً خالصاً لـ (لوك) من الناحية الفلسفية البحتة، ولكنه يتجاوزه من حيث القدرات الأدبية في التأثير ونقده الحاد وسخريته اللاذعة. وكانت قضية (فولتير) الرئيسية هي تحرير العقلية الأوروبية تماماً من المسيحية الثالوثية عقائد ومفاهيم وقيماً؛ وهكذا كان يصرخ بعنف وسخرية: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت المسيحي؛ والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية»(2).(31/139)
واتساقاً مع ما سبق فقد دافع (فولتير) دفاعاً مريراً عن حرية الرأي بالنسبة للعقائد والأفكار؛ ولهذا تتردد له تلك المقولة الشهيرة: «أنا لا أوافقك القول، ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله».
جون ستيورات مل:
يعد (جون ستيورات مل) منظِّر الليبرالية الأكبر والذي اهتم في كتابه (عن الحرية) بشرحها شرحاً وافياً، وقد حدد أن الغرض من كتابه هذه هو تقرير المبدأ الذي يحدد معاملة المجتمع للأفراد «ومضمون هذا المبدأ هو أن الغاية الوحيدة التي تبيح للناس التعرُّض بصفة فردية أو جماعية لحرية الفرد هي حماية أنفسهم منه؛ فإن الغاية الوحيدة التي تبرر ممارسة السلطة على أي عضو من أعضاء أي مجتمع مُتَمَدْيِن ضد رغبته هي منع الفرد من الإضرار بغيره. أما إذا كانت الغاية من ذلك هي الحيلولة دون تحقيق مصلحته الذاتية أدبيةً كانت أم ماديةً فإن ذلك ليس مبرراً كافياً؛ إذ إنه لا يجوز مطلقاً إجبار الفرد على أداء عملٍ ما، أو الامتناع عن عملٍ ما»(3).
ولكن: ما الذي يمكن أن يحدد في سلوك الفرد ما هو قد يؤثر بالضرر على المجتمع أو لا يؤثر؟
يرى (جون ستيورات مل) أن هناك منطقة في حياة الفرد هي صميم الحرية البشرية، وليس للمجتمع بها إلا مصلحة غير مباشرة إن كانت له مصلحة على الإطلاق، وهي تتضمن:
أولاً: المجال الداخلي للوعي: وهذا يقتضي حرية العقيدة في أوسع معنى لها، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والميول في جميع الموضوعات عملية أو علمية، مادية أو أدبية، دينية أو دنيوية. وقد يتبادر إلى الأذهان أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها يدخل في نطاق مبدأ آخر؛ إذ إنها تتعلق بتصرفات الفرد التي تمس الغير؛ ولكن لما كانت هذه الحرية لا تقل أهمية عن حرية الفكر نفسها إذ إنها تقوم على الأسباب نفسها؛ فلا يمكن إذن الفصل بينهما.
ثانياً: أن هذا المبدأ يتناول حرية الأذواق والمشارب: بمعنى أنه يطلق الحرية في رسم الخطة التي نسير عليها في حياتنا بما يتفق مع طباعنا، وأن نفعل ما نشاء، على أن نتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج دون أن يقف في طريقنا أحد من إخواننا في الإنسانية طالما كانت أفعالنا لا تنالهم بضرر حتى ولو اعتقدوا أن تصرفاتنا هذه دليل على السخف أو السفه أو الخطأ.
ثالثاً: إنه يتفرع من حرية كل فرد - وفي نطاق حدودها - حرية اجتماع الأفراد للتعاون على أي أمر ليس فيه ضرر للغير؛ على أن يكون الأشخاص المجتمعون بالغين راشدين لم يساقوا إلى الاجتماع بعنف أو إكراه»(4).
وهو بعد ذلك يؤكد تماماً أنه «لا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بالحرية دون أن يكفل هذه الحريات بوجه عام مهما كان نظام الحكم فيه، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بحرية تامة ما لم تكفل هذه الحريات كاملة غير منقوصة»(5).
وفي خطوة تالية يشرح (ستيورات مل) تناقضاته مع الديمقراطية ذاتها (والتي يشاع بين الكثيرين من الكُتَّاب والسياسيين لدينا أنها والليبرالية شيء واحد) فهو ينكر على الشعب استخدام أي وسيلة من وسائل الإجبار ضد حرية التعبير «أنكر على الشعب الحق في ممارسة مثل هذا الإجبار سواء عن طريقه أو عن طريق الحكومة؛ فمثل هذه السلطة غير مشروعة في ذاتها، ولا يجوز لأرقى الحكومات أو أقلها شأناً أن تلجأ إليها، وهي إذا صدرت بمشيئة الرأي العام فقد تكون أفظع وأشنع مما لو صدرت رغماً عنه وبمعارضته»(6).
وتنطلق المسألة هنا أساساً من رؤيته الفلسفية العلمانية التي انتهت لديه إلى النسبية المعرفية والقيمية المطلقة، ومن ثمَ فإنه على كافة الناس والحكومات أن يتصرفوا على قدر طاقاتهم، وأن يبذلوا أقصى جهدهم؛ فليس هناك شيء يسمى التعيين المطلق، وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق غايات الحياة البشرية، ويجوز لنا أو يجب علينا أن نفترض صحة آرائنا لكي نسترشد بها في تصرفاتنا.
وليس ثمة ما يمكن فصله عن البحث والنقاش والجدال بما في ذلك المعتقدات والقيم حتى لو اجتمعت الأجيال على صحة هذا المعتقد أو ذاك الرأي «فإنه من الواضح تماماً أن الأجيال ليست أكثر مناعة من الأفراد في الوقوع في الخطأ؛ فإن كل جيل مضى كان يعتنق كثيراً من الآراء التي اكتشفت زيفها وتفاهتها أجيال تالية»(7) ثم يعمل (ستيورات مل) بعد ذلك على اتخاذ مثل تاريخي بارز لانتصار المسيحية الغربية على معارضيها ليستخدمه في دحضها بعد ذلك؛ فالإمبراطور (مارقس أوربليوس) كان أكثر معاصريه علماً وأدباً وحرصاً على أن يسود العدل؛ وعلى الرغم من ذلك «كان من أشد الحكام اضطهاداً للمسيحية؛ فبالرغم من استيعابه لجميع علوم الأقدمين وتبحره في حكمة الأولين ومن اتساع تفكيره وبُعد نظره.. إلا أنه لم يدرك أن المسيحية ستعود بالخير لا بالشر على العالم»(1).(31/140)
وهكذا تأتي الخطوة التالية لهدم المسيحية الغربية في قوله: «بَيْدَ أننا نخالف الإنصاف ونجانب الحقيقة إذا توهمنا أن (مارقس أوريليوس) لم يكن لديه ـ وهو يكافح المسيحية ـ كل المعاذير والحجج التي يلتمسها اليوم أنصار المسيحية لمكافحة ما يناقضها من الآراء. فما كان اعتقاد أحد من المسيحيين في كذب الإلحاد وفي أنه يؤدي إلى تداعي المجتمع وتفككه بأشد ولا أرسخ من اعتقاد (مارقس أوريليوس) في بطلان المسيحية وفي أنها تفضي إلى انحلال المجتمع وانهدام أركانه»(2).
ولا يكتفي (ستيوارت مل) بمهاجمة العقائد المسيحية الغربية، ولكنه يهاجم آدابها أيضاً؛ والمفارقة هنا أنه يقدم آداب الإسلام عليها على الرغم من اعتباره له أنه دين وثني؛ حيث يذهب إلى أنه «بينما نجد آداب الأمم الوثنية الراقية تصنع الواجبات الاجتماعية في أرفع منزلة من الاعتبار حتى تضمن في سبيل ذلك الحقوق الشخصية والحرية الفردية نرى الآداب المسيحية البحتة لا تكاد تشعر أو تعترف بتلك الواجبات المقدسة؛ وها نحن نقرأ في آداب الإسلام هذه الكلمة الجامعة: (كل والٍ يستكفي عاملاً عملاً وفي ولايته من هو أكفأ له فقد خان عهد الله وخليفته)»(3).
ولأنه يضرب بكل القواعد الأخلاقية عرض الحائط إذا مست بحرية الفرد فهو يعترض على الذين يتساءلون: «إذا كانت المقامرة والقذارة والسُّكْر والدعارة والبطالة من الآفات المزرية بالسعادة شأن الكثير من الأفعال المحظورة بنص القانون؛ فلماذا إذن لا يحاول المشرع قمعها بقدر ما تسمح حالة المجتمع؟ ثم لماذا لا يتقدم الرأي العام ليسد الفراغ الذي لا بد أن يتركه المشرع وينظم رقابة شديدة على هذه الرذائل وينزل العقاب الصارم بمن يوصم بها؟»(4).
وموقفه من هذا التساؤل هو أن معيار تجريم ذلك اجتماعياً هو إلحاق الضرر المباشر بالمجتمع «فمثلاً ليس من الحق أن يعاقب إنسان لمجرد السُّكْر، ولكن الجندي الذي يسكر وهو قائم بواجبه جدير بالعقاب.. أما الضرر العَرَضي ـ أو الضرر التقديري - الذي يصيب المجتمع عنماد يتصرف الفرد تصرفاً لا ينحل بأي واجب معين نحو الجمهور ولا يلحق أي أذى بأحد غير نفسه؛ فهو ضرر تافه خليق بالمجتمع أن يتحمله عن طيب خاطر في جانب ما ينشأ عن الحرية من الخير العميم»(5).
وخلاصة موقفه من الدين تتحدد في ذهابه إلى أنه من واجب الإنسان حمل غيره على إطاعة أوامر الدين هي الأصل لكل ما ارتكبه البشر من ألوان الاضطهاد.
* ليبرالية العلمانيين العرب:
إذا كانت هذه الليبرالية كما نظَّر لها الفلاسفة الغربيون فإن الليبرالية التي يدعو إليها العلمانيون العرب تستهدف تحديداً الإطاحة بالعقائد والمفاهيم والقيم الإسلامية أو تذويبها تماماً. يقول (الدكتور أحمد أبو زيد) في هذا السياق: «لقد أفلحت الثقافات الليبرالية في الغرب في تحرير الفرد من كثير من القيم التقليدية المتوارثة والأحكام التي تفرضها تلك القيم؛ وبخاصة الأحكام المتعلقة بمفهومي الصواب والخطأ، فيتحرر الفرد من القواعد الأخلاقية والتعاليم الدينية، ويرفض أن تكون تصرفاته وحياته الخاصة وتعامله مع الآخرين محلاً للتقويم والحكم عليه اجتماعياً وأخلاقياً كما يحدث في المجتمعات أو الثقافات المحافظة أو غير الليبرالية. فالصواب والخطأ مفهومان تعسفيان صاغهما أشخاص سوداويون متسلطون لإخضاع الآخرين لإرادتهم ووجهة نظرهم المتعسفة الضيقة؛ ولذا يجب رفضهما حتى يحيا الفرد حياته بالصيغة التي تروق له»(6).
أما (جمال البنا) فيحدد أهم ما تستهدفه هذه الليبرالية في ضرب الثوابت؛ حيث يقول: «إن أهم ما يفترض أن تتجه إليه الحرية هو هذه الثوابت بالذات التي وإن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع وتمسكه من الانزلاق أو التحلل، إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد، بل وتتوثن وتأخذ قداسة الوثن المعبود؛ هذا كله بفرض أن الثوابت هي دائماً صالحة ولازمة؛ ولكنها لا تكون كذلك دائماً»(7).
* موقف الإسلام من الليبرالية:
ولسنا هنا بصدد نقد الليبرالية أو تقييمها فلسفياً؛ وإن كنا نود أن نسجل مبدئياً أن الأمر يتعلق بالأساس بالرؤية الفلسفية التي يصدر عنها فكر المفكر أو الفيلسوف؛ فقد تكون الليبرالية قابلة للأخذ والرد انطلاقاً من الرؤية العلمانية التي تقتصر على العقل وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة. أما إذا كان المفكر أو الفيلسوف يتبع عقيدة أو مذهباً معيناً فإن أول ما تمثله له هذه الليبرالية هي مطالبته بالتخلي عن هذه العقيدة أو هذا المذهب تماماً؛ وهذا ما يحدو بنا إلى مناقشة الفكرة الأساسية التي تتمحور عليها هذه الدراسة، وهي: هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع هذه الليبرالية؟(31/141)
فالإسلام دين مبدئي شمولي لا يقبل التجزُّؤ يقوم على عقيدة متكاملة وقواعد ثابتة ومنظومة تجمع بين تصوراته لحقائق الوجود وقواعد السلوك التي ينبغي اتباعها من جهة الفرد والمجتمع على السواء وكذلك القيم الأخلاقية الموجهة لها. وإذا كان الإسلام يتسامح في الحرية العقائدية والفكرية فإنه يستهدف أيضاً إقامة مجتمع مستقر يستمد مرجعيته من قواعده العقائدية التي ارتضاها هذا المجتمع.
وحقاً أن الإسلام يتسامح مع حرية العقائد والأفكار {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] والكثير من أعلام الفكر الغربي على مر التاريخ يضربون به المثل في هذا التسامح مقابلة مع المسيحية الغربية، ويستدلون على ذلك بالحرية التي تمتعت بها الأقليات غير المسلمة في أكناف الحضارة الإسلامية في الوقت الذي كان وجود المسلم في الدول المسيحية الغربية لا يعني سوى القتل. ولكن تسامح الإسلام هذا لا يعني قبول الإسلام بعرض عقائد مجتمعاته على الدوام على مائدة التفاوض والأخذ والرد؛ فهذا أمر يتعلق بعقيدة المجتمع ومن ثَم باستقراره، بخلاف حرية العقائد والأفكار للأفراد {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وبعيداً عن موضوع حد الردة فإن أي قوة لا تستطيع قهر أفراد هذا المجتمع المسلم نفسه على الثبات على عقائده؛ فالإسلام لا يأمر بالتفتيش عن دواخل الناس، لكن يظل هؤلاء ملتزمين بقواعد القانون العام.
وشمولية الإسلام تجعل من الإيمان بقواعد السلوك المستمدة منه جزءاً لا يتجزأ من الإيمان بالإسلام نفسه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فكيف يمكن إذا أمر الإسلام بتحريم الزنا على سبيل المثال أن يقال إنه من الممكن في إطار الليبرالية الإسلامية المفترضة أن نجعل الموقف من الزنا عند ارتضاء الطرفين يمكن وضعه على محك التجربة لتقدير ما يمكن أن يؤدي إليه من أضرار على المجتمع؟ بل الأمر أكبر من ذلك؛ لأنه لو كان تقدير الأغلبية رفض هذا الموضوع بناء على ما قد تتوصل إليه من أضرار اجتماعية له (ولا أدري بأي مرجعية يمكن تقدير هذه الأضرار؟) فإن هذا يكون حكم الديمقراطية. ولكن الليبرالية تتجاوز ذلك، فتذهب إلى عدم سماح الأغلبية بالتدخل في مثل هذا الأمر؛ لأنه يدخل في تقديرها في منطقة الحرية الشخصية للأفراد التي لا يسمح للمجتمع بالتدخل فيها.
والناس أحرار في أن يقولوا إن موقف الليبرالية هذا أفضل من الإسلام في هذه المسألة أو غيرها؛ فكل هذا يقبله المنطق عند الوقوف على قاعدة اللا قاعدة، ولكن أن يقال إن هذا مسموح به في إطار الإسلام من باب التسامح والحرية اللذين دعا إليهما الإسلام فإن هذا يعني أنه بالإمكان أن نمشي فوق رؤوسنا.
ومسألة القيم الرائجة ليست منقطعة الصلة بهذا السياق؛ لأن القيم الرائجة لها دورها الفعال المباشر في إنماء المجتمع نحو غاياته أو انتكاسه إلى الاتجاه المضاد. فلا يصح بأية حال من الأحوال أن أقيم ـ على سبيل المثال ـ مجتمعاً إسلامياً ويتم السماح مع ذلك بترويج القيم الاستهلاكية فيه، تلك القيم التي تجعل من جلب المال وإنفاقه إلهاً آخر يُعبد من دون الله الواحد الأحد.
* الإسلام الليبرالي والجمع بين البراجماتية والليبرالية:
هناك الكثير ممن يجمع بين البراجماتية والليبرالية. فمن الناحية الفلسفية فإن بين منظِّري الليبرالية والبراجماتية الأشهرين (جون ستيورات مل) و (وليم جيمس) الكثير من النقاط المشتركة؛ خصوصاً في الجانب العملي لفلسفتيهما. فالليبرالية تريد أن تضع العقائد أو الأفكار في ساحة النقاش والحوار، والبراجماتية في الوقت نفسه لا تلتزم بأية عقيدة أو فروض نظرية مسبقة أو عقائد أو أفكار جازمة. والليبرالية تجعل من إلحاق الضرر بالآخرين هي الحدود الوحيدة التي تقيد حرية الفرد فيما يرغب فيه من منفعة. والبراجماتية تجعل من المنفعة العملية هي المعيار الوحيد لكل الحقائق. وإذا كان (ستيوارت) قد استمد أفكاره عن النفعية من أستاذه (بتنام) الذي استمدها بدوره من (أبيقور) فإن (وليم جيمس) قد استمدها في الغالب مباشرة من (أبيقور).
أما من الناحية السياسية فإذا كانت البراجماتية الأمريكية تريد توظيف الإسلام في المنطقة لمصالحها السياسية؛ فإن الخطوة الأولى لتحقيق هذه المصالح هو تذويب المبدئية الإسلامية، ومن ثَم فإن الليبرالية ـ بمناهضتها لوجود أية عقائد اجتماعية أو قواعد تشريعية وقيمية مستمدة من هذه العقائد ومطالبتها أن تكون كل هذه الأمور عرضة للنقاش والحوار والصواب والخطأ ـ تكون وسيلة رائعة لتذويب هذه المبدئية، وهو الأمر الذي يعني تحقيق تلك المصالح الأمريكية.
* نماذج واقعية قائمة للإسلام الليبرالي:
النموذج السياسي للإسلام الليبرالي: حزب العدالة والتنمية التركي:(31/142)
عندما صعد حزب العدالة والتنمية التركي لتولي الوزارة بقيادة (رجب أردوغان) من خلال الانتخابات ظهر الزعيم التاريخي لحزب الرفاه ورئيس وزراء تركيا السابق (نجم الدين أربكان) في أحد حلقات برنامج (بلا حدود) بقناة الجزيرة ليقول إن قيادات الحزب مجموعة من العملاء صعدوا إلى الحكم من خلال مساعدة أجهزة أجنبية نافذة في الدولة، وأنهم يعملون لتطويع الإسلام للمصالح الأمريكية في المنطقة وأنهم يقومون بتقديم تنازلات للعلمانية القائمة في الدولة تفقدهم الصفة الإسلامية. ولكن ما نسيه الزعيم الكبير أنه نفسه أول من أدخل الإسلاميين هذه اللعبة بتقديم التنازلات الحاسمة للعلمانية؛ وذلك بزيارته لقبر صنم العلمانية الأكبر (كمال أتاتورك) وإعلانه أمامه التزامه بالدستور العلماني في الحكم واقتصار جهوده على ممارسات سياسية واقعية في ظل مرجعية علمانية قائمة، وإذا كان هو قد فعل ذلك فعليه ألا يندهش أن يأتي تلامذته إلى الحكم بالتحالف مع السياسة الأمريكية. وإذا كان (أربكان) أعلن التزامه بالدستور العلماني أمام الصنم الأتاتوركي فإن تلامذته من قيادات العدالة والتنمية يستاؤون الآن من إطلاق صفة الإسلاميين عليهم، ويعلنون أنهم علمانيون. فالذي يحدث الآن أن التنازلات التي قام بتقديمها للعلمانية بعض زعماء الإسلاميين من باب المراوغة ـ على أفضل فروض حسن الظن ـ يقوم بها الآن وأكثر منها بعض تلاميذهم من باب الاقتناع، وما أن تبدأ بالتنازل عن بعض الإسلام حتى تنتهي على الفور بالإسلام؛ حدث ذلك في تركيا، ويحدث مثله في تونس ومصر وأماكن أخرى. والنتيجة هي كما تقول مجلة الشاهد البريطانية(1): «إن الصفقة التي تطبخ الآن تسعى إلى جعل الإسلام التركي مفرغاً من ثوابت الدين» ولكن الأهم من ذلك هو ترويج هذا النموذج التركي نفسه على أنه النموذج الإسلامي الليبرالي المعتدل الذي ينبغي الاقتداء به في كل دول العالم الإسلامي إلى درجة أن كبار القادة الأمريكيين مثل (الرئيس بوش) و(كولن باول) و(كوندليزا رايس) أعلنوا مراراً أن النموذج التركي هو النموذج الذي ينبغي أن يسود في المنطقة، بل إن اليميني المحافظ الصهيوني المعروف بعدائه وتعصبه الشديد للعالم الإسلامي (وولفويتز) أعلن أن «الأتراك يقاتلون من أجل مجتمع حر وديمقراطي ومتسامح يمكن أن يصبح نموذجاً مفيداً لدول أخرى في العالم الإسلامي». بل إن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يقوم في الأساس على الارتكاز الفكري لمفهوم الإسلام الليبرالي «بدأت تسريبات معالمه مع زيارة رئيس وزراء تركيا (رجب أردوغان) إلى واشنطن في 28/1/2004 ونشرت صحيفة (يني شفق) التركية (معناها: الفجر) في 30/1/2004 عرض الرئيس الأمريكي (بوش) على (رجب) معالم هذا المشروع الذي يمتد من المغرب حتى أندونيسيا مروراً بجنوب آسيا، وآسيا الوسطى والقوقاز، وقد ابتدأ العرض على تركيا لتتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني (بحسب خبر الصحيفة). والمقصود انبطاحها لأمريكا وأخوّتها لإسرائيل لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وُعَّاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي ليتولوا التبشير بنموذج الاعتدال التركي المطبق في تركيا.
هذه الأخبار ذكرها المحرر الرئيس للصحيفة المذكورة والذي كان ضمن الوفد الصحفي المرافق لأرودغان»(2).
* الليبرالية والديمقراطية:
أظهرنا فيما سبق أن الليبرالية خصوصاً عند منظِّرها الأكبر (جون ستيوارت مل) تجعل من الفردية ـ أي من الفكر العقلي للأفراد وحسابات المصالح والأضرار ـ المرجعيةَ الوحيدة لكل أمر من الأمور، وتجعل من الحرية الشخصية منطقة محرمة لا يحق للمجتمع التدخل فيها؛ بينما تجعل الديمقراطية من الأغلبية معبرة عن إرادة الأمة، ومن ثم فعلى الأفراد الخضوع لأحكامها.
ومع ذلك تظل الديمقراطية هي أداة عملية معبرة عن الليبرالية التي تظل تعمل في الوقت نفسه على وضع العوائق في مواجهة الإرادة العامة للأغلبية لمنعها من التدخل في المنطقة الخاصة بالحرية الشخصية.
إذاً؛ فالتداخل كبير بين الديمقراطية والليبرالية، والترويج لليبرالية في المنطقة يعمل أساساً من خلال الترويج للديمقراطية كمدخل ضروري لها، ومن ثَم فإن مناقشة موقف الإسلام من الليبرالية يقتضي بشكل حتمي مناقشة موقفه من الديمقراطية.
* موقف الإسلام من الديمقراطية:
وتُعَرَّف الديمقراطية بأنها «مذهب يراد به إرجاع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى السلطة العامة للأمة. أما الديمقراطية كنظام للحكم فيراد به النظام الذي يُرجِع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى الإرادة العامة للأمة»(3).(31/143)
والديمقراطي «هو ذلك الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره ومبادئه وقيمه وفقاً للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به، وينبع التغيير من الإيمان بأن البُنى الاجتماعية لا تُبنى على قواعد ثابتة، بل هي نتاج لتفاعل الأفراد وخبراتهم واتفاقهم، ولذلك فما يراه الأفراد ممثلاً للحق والعدل فهو الحق والعدل؛ فالإطار الذهني الديمقراطي يُبنى على الثقة المتناهية في العقل الذي يُمَكِّن الإنسان من الحياة في إطار المجتمع التعددي بتقبله لنمط حياة الآخرين مما يعكس قدراً كبيراً من العقلانية»(4).
والديمقراطية توجد «إذا توفرت عدة شروط؛ منها: الانتخابات الدورية، والتعددية السياسية، والمنافسة والمشاركة السياسية، وهي التي تشكل في مجملها الأسس العامة للديمقراطية الليبرالية والتي تتمثل في التعددية السياسية، والتي تظهر في شكل تعدد حزبي وتداول على السلطة بين الأحزاب المتنافسة، وخضوع القرارات السياسية للتفاعل السياسي بين القوى السياسية المختلفة، وخضوعه للمساومة، والحل الوسط، واحترام رأي الأغلبية، والمساواة السياسية بمنح صوت لكل مواطن، وترسيخ مفهوم الدولة القانونية القائمة على الفصل بين السلطات مع وجود دستور مكتوب، وخضوع الحكام للقانون»(5).
وعلى الأساس السابق فإن الإشكالية الأساسية في تحديد موقف الإسلام من الديمقراطية هي في شبهة التشابه بينها وبين الشورى في مبدأ حق الأغلبية في اتخاذ القرار، ومن ثَم الانحياز إلى إرادة الجماهير في مواجهة استبداد الفرد. ولكن هذا التشابه أو التقاطع في هذه النقطة لا يؤثر أدنى تأثير في التناقض بين الإسلام والديمقراطية كمنظومة متكاملة بوجه عام؛ فبينما يتم اتخاذ قرار الأغلبية في الإسلام في إطار المرجعية الإسلامية؛ فإن اتخاذ قرار الأغلبية في الديمقراطية يتم دون إطار على الإطلاق؛ أي دون الالتزام بأيَّة قواعد عقائدية أو فكرية أو أخلاقية، وينطلق من الأرضية العلمانية في التفكير التي تقتصر على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة «فوجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعددي، ومن ثَمَّ؛ فأولئك الذين يرغبون في رؤية قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود في المجتمع لا بد أن ينتهي بهم المطاف إلى معارضة التعددية. وبناء عليه فالمجتمع الديمقراطي غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة الاجتماعية، وحين يسود أو يسعى أي منظور عقائدي أخلاقي لفرض رؤيته على المجتمع فإنه من المتعذر بناء مجتمع ديمقراطي؛ وذلك لأن الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني للمجتمع»(1).
وهذا يتناقض مع كون الدولة في الإسلام دولة عقيدية، تجعل من العقيدة الإسلامية مرجعيتها التي تستمد منها سلطاتها وأحكامها. من ناحية أخرى فإن الأفراد في الديمقراطية أيّاً كانت توجهاتهم لهم الحق دون تمييز في إبداء الرأي في كافة شؤون الدولة وتوجهاتها، ثم يتم اتخاذ القرارات بناء على تحديد موقف الأغلبية الناتجة عن ذلك أيّاً كان هذا الموقف. وهذا يتناقض مع التحريم على الأفراد أو غيرهم أن يتدخلوا فيما هو ثابت من الشريعة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وكما يقول ابن تيمية: «والإنسان متى حلل الحرام المجمَع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمَع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء»(2).
كما أن القرار لا يعود للأفراد دون تمييز فيما هو محل الاجتهاد من الشرع، وإنما هذا يعود لأهل الاختصاص من العلماء؛ وهؤلاء هم الذين تطبق فيما بينهم قاعدة الأغلبية عند الخلاف. وما سبق لا يعني تجريد الأفراد العاديين من الحقوق السياسية في الإسلام؛ لأنه يعود لهؤلاء أيّاً كانت انتماءاتهم ما داموا مواطنين بالدولة الحق في اتخاذ قرارات الدولة العامة التي لا تحتاج إلى قدرات اجتهادية خاصة. ومن ناحية أخرى فإن القبول بمبدأ تداول السلطة مع أحزاب ذات أيديولوجيات مختلفة هو أشبه ما يكون بالقبول بمبدأ: «نعبد ربك يوماً، وتعبد ربنا بوماً» وهو المبدأ الذي رفضه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قريش.
* من مداخل الغزو الفكري للإسلام الليبرالي:
أولاً: الإسلام الليبرالي من خلال محو الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية:
تنامت في السنوات الأخيرة الدعوة لعدم استقطاب الجماهير بين الإسلام والعلمانية، وتم الترويج لبعض الادعاءات العلمانية التي تزعم إيمان تيار عريض من العلمانيين بالإسلام مع عدم اقتناعهم بأن الإسلام دين ودولة، ورفضهم لتطبيق الشريعة الإسلامية، وقام أحدهم وهو (جمال البنا) بالترويج لمفهوم جديد بالنسبة للواقع الثقافي الإسلامي ـ وإن كان قد عمل على إشاعته من قبلُ بعض المستشرقين ذوي العلاقات الخاصة مع الاستخبارات الغربية ـ هذا المفهوم هو أن الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة، بل وأصدر (البنا) كتاباً بهذا العنوان كان قد نشر معظمه بجريدة القاهرة.(31/144)
وإذا كان العلمانيون يفعلون ذلك من جهتهم فإن الأغرب من ذلك هو ما يقوم به بعض الإسلاميين من الدعوة في هذا الاتجاه؛ حيث يفرق (فهمي هويدي) بين مستويين من العلمانية: العلمانية المتصالحة مع الدين... والعلمانية الرافضة للدين.
ويرى أن الفئة الأولى من العلمانيين لا تعارض العقيدة رغم تحفظها على تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع، ومن ثَم فلا مانع - كما يؤكد ـ من مد الجسور مع هؤلاء «ونفسح مجالاً للعلمانية المتصالحة مع الدين، ونفكر في تأصيل شرعي لهذا [عبارة عجيبة وكأن الخيارات العقلية تأتي أولاً ثم يتم البحث عن تأصيل شرعي لها من خلال التأويل القائم على الهوى طبعاً] وأظن أن ذلك ليس صعباً؛ فقد جاز لنا أن نقبل أهل الذمة. فهل يجوز لنا أن نقبل أناساً لهم تحفظات على علاقة الدين بالسياسة؟»(3). وفي هذا السياق أيضاً فإنه يقبل الماركسيين الذين لا يرفضون الدين رغم تحفظاتهم على الشريعة الإسلامية.
أما الدكتور (محمد عمارة) فيقسم العلمانيين تقسيماً يختلف قليلاً عن هذا وإن كان يمضي في الاتجاه نفسه تماماً؛ فهناك «علمانيون (عملاء وثوريون) يهدفون إلى ربط المسلمين بعجلة الغرب أو إلى نقض الدين وإلغائه في واقع الحياة، والخلاف مع هؤلاء خلاف في «الأصول». أما العلمانيون الآخرون فينادون فقط بفصل الدين عن الدولة والخلاف معهم خلاف في الفروع»(4).
ثانياً: الإسلام الليبرالي من خلال الاستجابة للعمل الديمقراطي:
تبنِّي بعض الإسلاميين للديمقراطية:
حديث بعض الإسلاميين عن تبني الديمقراطية حديث يعود إلى حوالي عقدين من الزمان كتعبير من هؤلاء عن قبول الحل السلمي في الصراع السياسي مع الأنظمة القائمة مقابل الخيار المسلح الذي اتخذته بعض جماعات العنف في تلك المرحلة وتراوحت الدوافع بين التسليم الواقعي بضرورة اتخاذ هذا المسار كخيار وحيد مستطاع للمشاركة في العمل السياسي وبين الرغبة في استثمار الصراع القائم المنهك والمسيء للصورة لدى الغرب بين طرفين لا يعرف كلاهما سوى لغة العنف، ومن ثمَ الظهور بصورة الودعاء الطيبين الراغبين في العمل السياسي وفقاً للقواعد الغربية.
وعلى سبيل المثال فقد أقر «الدكتور صلاح الصاوي» التعامل المرحلي مع الديمقراطية، وذلك من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد بقوله: «إذا كانت العلمانية هي الشر الواقع لا محالة فإن العلمانية الديمقراطية أهون وأخف وطئاً من العلمانية الديكتاتورية»(5).
وفي مارس 1994 أصدرت جماعة (الإخوان المسلمين) مجموعة من الوثائق - هي الأخطر في تاريخها من وجهة نظرنا - من بينها وثيقة بعنوان: «الشورى وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم»، وقد تناولت الوثيقة رؤية الإخوان للديمقراطية والتعددية والعمل الحزبي، وانتهت إلى ما يلي:
أولاً: أن الأمة مصدر السلطات.
ثانياً: إقرار وجود دستور مكتوب يفصل بين السلطات وبحفظ الحريات.
ثالثاً: قيام مجلس أمة منتخب.
رابعاً: الدعوة إلى تعدد الأحزاب والتعددية السياسية.
خامساً: إقرار تداول السلطة عن طريق انتخابات برلمانية دورية.
أما (محمد سليم العوا) فذهب إلى أنه في ظل الطغيان في كل الحكومات والمجتمعات فلا بديل عن التعددية وهي واجبة - وليست جائزة فحسب (لا أدري من أين يأتي هؤلاء الكتاب بكل هذه الجرأة على إصدار مثل هذه الأحكام) - في الجماعات العاملة للإسلام والعاملة في السياسة والمجتمع الإسلامي، وانتهى إلى أن التعددية تعني أنه «لا يمكن منع الاتجاهات الأخرى كالعلمانيين والشيوعيين والملاحدة عن الوجود في المجتمع المعاصر، بل يجب منعهم من الدعوة إلى هدم النظام الإسلامي، ثم تركهم بعد ذلك وجمهور الناخبين؛ فإذا خدعوه كان الإسلاميون مقصرين في دعوة الناخبين وتبصيرهم، ولا يجوز أن يحملوا تقصيرهم وقعودهم عن الدعوة الصحيحة على الآخرين - فكل الاتجاهات تتنافس»(1).
ويفرق (فهمي هويدي) بين ثلاث صور للعمل السياسي من المنظور التعددي:
الصورة الأولى: تظهر في العمل السياسي داخل الإطار الإسلامي، وتتمثل في تعدد الاتجاهات والاجتهادات الإسلامية.
أما الثانية: فتظهر في شكل فكر غير إسلامي يتحفظ على بعض جوانب الشريعة الإسلامية.
أما الثالثة: فتظهر في عمل خارج العقيدة الإسلامية ومضاد لها في الوقت ذاته.
ويرى هويدي أن الموقف من هذه الصيغ يكون كما يأتي:
أولاً: العمل السياسي للفئة الأولى مباح اتفاقاً.
ثانياً: العمل السياسي للفئة الثانية مباح ترجيحاً.
ثالثاً: العمل السياسي للفئة الثالثة محظور إجماعاً»(2).
وكل ما أستطيع قوله هنا بالنسبة للكلام السابق هو أن أتساءل: من أين استمد (هويدي) هذه الرؤية؟ هل من الممكن أن يكون قد استمدها من المرجعية الإسلامية؟
التمييز بين مواقف الإسلاميين من الديمقراطية:
لا بد أن نميز بين عدة مواقف من الديمقراطية حتى يمكن تحديد ما نقصده بالتساوم على الإسلام من خلال مدخل قبول العمل الديمقراطي:(31/145)
1 ـ القول بأنه لا تناقض بين الديمقراطية والإسلام أو الإقرار بقواعد اللعبة الديمقراطية بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة بين الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو الإسلامية بوجه عام والقول بأن ذلك يتفق مع نظام الحكم الإسلامي أو لا يتناقض معه.
2 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة مع الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو اللا إسلامية بوجه عام، مع الإقرار بعدم اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي، ولكن قبوله فقط من باب اعتقاد ضرورة ذلك للمشاركة في العمل السياسي.
3 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها والمراوغة في الإقرار بمدى اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي.
4 ـ قبول دخول اللعبة السياسية على أساس إتاحة الفرصة للجماهير في اختيار النظام الإسلامي في ظل الظروف القائمة؛ مع الإعلان عن العمل على إصلاح النظم القائمة وتعديلها بما يتفق مع النظام الإسلامي، ومن ثم يكون اختيار الجماهير للجهة الإسلامية التي تتخذ هذا المسلك يعني اختيارها أيضاً للإجراءات التي أعلنتها لتعديل النظام.
وما نراه ـ وبناء على الأسس التي ذكرناها سلفاً بالنسبة لموقف الإسلام من الديمقراطية ـ فإنه إذا كان الموقف الرابع يمكن قبوله، والموقفان الثاني والثالث يحتملان الاجتهاد؛ فإن الموقف الأول يمثل مساومة صريحة على الإسلام.
ومع ذلك فقد تكون هناك حالات خاصة تجعل الموقف الإسلامي من المشاركة في العملية الديمقراطية أكثر تحديداً. فعلى سبيل المثال فإن مشاركة الإسلاميين في الانتخابات الكويتية يمثل واقعياً تحقيق الهيمنة على البرلمان الكويتي في ظل ظروف محيطة تجعل تطبيق النظام الإسلامي في هذه الدولة ضرباً من المستحيل. وعلى النقيض من ذلك فإن مشاركة الإسلاميين في انتخابات يديرها مجموعة من العملاء في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يقاومه المجاهدون في كل مكان تمثل خيانة عظمى تعمل على تدعيم هذا الاحتلال وإضفاء
---------------------------
(1) نقلاً عن ول ديورانت - قصة الحضارة: مج 17 ج 2 ص 47.
(2) بريتراند رسل - حكمة الغرب: ج 2 ص 115.
(1) المرجع السابق: ص 116.
(2) نقلاً عن ول ديورات - قصة الحضارة: مج 19 ج 2 ص 205.
(3) الحرية: ص 72.
(4) المرجع السابق: ص 76 - 77.
(5) الحرية: ص 77.
(6) المرجع السابق: 83.
(7) المرجع السابق: ص 88.
(1) المرجع السابق: ص 100.
(2) المرجع السابق: ص 102.
(3) المرجع السابق: ص 139.
(4) المرجع السابق: ص 179.
(5) المرجع السابق: ص 181.
(6) الحياة 2 نوفمبر 2004.
(7) الحرية : ص 12.
(1) الشاهد: العدد 343.
(2) أبو محمد المقدسي - مشروع الشرق الأوسط الكبير: موقع المقريزي.
(3) إبراهيم عبد العزيز شيحا (مبادئ الأنظمة السياسية) نقلاً عن د. محمد أحمد مفتي - نقص الجذور الفكرية للديمقراطية: ص 31- 32.
(4)Zeuedie Ba r bu نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: 21- 22.
(5) علي الدين هلال - مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث - نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 16.
(1) Michoel Novak نقلاً عن المرجع السابق: ص 22.
(2) نقلاً عن المرجع السابق: ص 40.
(3) التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي مجموعة من الكتاب: ص 55.
(4) من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة، الوعي الإسلامي العدد 316، نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 77.
(5) الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي: ص 257.
(1) التعددية السياسية - مرجع سابق: ص 48. (2) المرجع السابق: ص 55.
=============(31/146)
(31/147)
الليبراليون العرب هل هم حقاً ليبراليون؟
بقلم : أحمد دعدوش
الليبرالية الجديدة تيار فكري حديث يُشكل امتداداً لليبرالية الكلاسيكية الغربية التي نشأت في كل من إنجلترا وفرنسا إبَّان عصر النهضة، والتي تُعدّ بمثابة منظومة أيديولوجية متكاملة تتناول كافة أشكال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تمتد لتشمل المناهج العلمية والفكرية وتحدد أدواتها وآلية عملها. وتعود نشأة الليبرالية الجديدة إلى منتصف القرن الميلادي الماضي، كردِّ فعل لإخفاق الليبرالية الكلاسيكية في تجنيب العقل الأوروبي تبعات التطرف العقائدي، والذي استفحل مع بروز الحركات الفاشية والقومية، وحتى الشيوعية التي خرجت كسابقاتها من رحم الفلسفة المادية، وهي المرجعية الأم للعقل الأوروبي الحديث بكافة أطيافه.
ومع تراجع الليبرالية الكلاسيكية التي حُمّلت الكثير من أوزار الحربين العالميتين، بدأت مرحلة جديدة من النقد وإعادة البناء في محاولة لإنقاذ الثقافة الليبرالية الغربية، فظهرت «الكينزية» كتعديل ضروري وعاجل للاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي ليسمح للدولة بالتدخل وإدارة الأزمات، وفي الفلسفة والآداب بدأ المفكرون والنقاد بوضع تصوراتهم المختلفة لمرحلة «ما بعد الحداثة». وفي السياسة برزت مفاهيم التكتل والأحلاف والاحتواء. أما الميدان العلمي فقد شهد انحساراً لنزعة المركزية الأوروبية المتعالية، وبدأ العلماء يدركون أن معرفتهم بالكون ما زالت أقل بكثير من تحقيق آمال القرن العشرين في الإحاطة بأسراره.
وفي هذا المقال سنقوم بإضاءة بعض النقاط التي توضح الفرق الكبير بين الليبرالية الغربية وصورتها المستوردة في العالم العربي والإسلامي، انطلاقاً من حقيقة رئيسة مفادها أن الليبرالية الغربية كانت قد نشأت في ظل ظروف سياسية واجتماعية خاصة، وأنها ظهرت كردِّ فعل للاضطهاد الكنسي للعلماء من جهة، وللاستبداد السياسي والاقتصادي من قِبَل النبلاء والإقطاعيين الغربيين من جهة أخرى. وعبر تحالف السلطتين الدينية والسياسية الإقطاعية تمكن رجال الدين المسيحي من فرض سلطانهم على العقلية العلمية الأوروبية، وحرّموا على العلماء والمفكرين الخوض في الكثير من القضايا التي أعطيت صفة القداسة، ومن ذلك الاضطهاد الذي تعرض له الفلكي الإيطالي «غاليليه» لادِّعائه دوران الأرض حول الشمس وليس العكس، وهو الأمر الذي يتناقض مع رأي الكنيسة التي تبنّت نظرية «بطليموس» وألبستها مسوح القداسة.
أما الإقطاعية فقد أخضعت الطبقة العاملة لنظامها الطبقي الجائر، وهو الأمر الذي دفع الطبقة البورجوازية الناشئة للتحالف مع العمال والفلاحين في سبيل التحرر من نير الإقطاع وإحلال الفكر الليبرالي الذي يحقق للفرد حريته وكرامته. وفي المقابل، فإن واقع مجتمعنا الشرقي الإسلامي يكاد يختلف جذرياً عن هذا النموذج الأوروبي، فضلاً عن الفرق الكبير في المنهجين الفكري والسلوكي لدى الليبراليين العرب عما هو متعارف عليه في الليبرالية الغربية، وسنسعى لتوضيح ذلك من خلال المقارنة التالية بين الطرفين:
1 ـ لقد قامت حركة التنوير الأوروبية وفق تسلسل مرحلي تلقائي؛ بدءاً من العلمانية ثم الليبرالية وأخيراً الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة منها عن الأخرى أو تجاوز اللاحقة منها السابقة، فكانت بداية النهضة الأوروبية مع حركة العلمنة التي تعني تحرر العقل العلمي من سلطان الكنيسة الجائر، وإعفاءه من الالتزام بالولاء لما يتناقض مع أولى بديهياته، ونادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلّمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكن ذلك يعني التملّص من الإيمان الديني عند معظم العلمانيين، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة لعدم إمكان الجمع بينهما، ومن ثَم عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس.
أما في الشرق؛ فقد عمد أتباع الليبرالية العربية إلى اختزال المراحل التسلسلية ـ السابق ذكرها ـ من تطور الحركة التنويرية من العلمانية والليبرالية والديمقراطية وبشكل مبتسر؛ إذ ينادي معظم الليبراليين العرب بضرورة التطبيق الفوري والراديكالي للمفهوم الليبرالي الديمقراطي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة سحرية يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي وبشكل فوري.(31/148)
من جهة أخرى، يقتصر مفهوم العلمانية لدى الكثير من الليبراليين العرب على حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي ـ الذي يراد عزله ـ وبين المنهج العلمي التجريبي الذي كان قد نشأ أصلاً تحت مظلة الإسلام في عصره الذهبي. إذ لم يرد في التاريخ الإسلامي أي ذكر لاضطهاد العلماء باسم الإسلام، كما لم تنشأ خلال العصور الوسطى أي طبقة كهنوتية تُخضِع لسلطانها طبقة أخرى تسمى طبقة العلماء، بل نجد أن معظم العلماء المسلمين الذين نقل لنا التاريخ إبداعهم العلمي في أي من فروعه، كانوا قد نشؤوا على التربية الدينية السائدة في ذلك العصر، والتي تقضي بترسيخ القاعدة العلمية الدينية من علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة واللغة، قبل أن يتوجه طالب العلم لاختيار التخصص الذي يريده من علوم دينية أو تجريبية. ولم يحدث أن اشتكى أي من علماء الإسلام من التناقض الذي يمكن أن يحدث بين عقيدته الإيمانية والتزامه بتعاليمها السلوكية والشعائرية، وبين أبحاثه وتجاربه في كافة ميادين العلم التجريبي والطبيعي.
أما ما ينسب للإسلام من اضطهاد للفلاسفة فهو أمر خارج عن نطاق المقارنة؛ إذ لم يكن حظرُ معظم علماء الدين الإسلامي للفلسفة إلا حظراً لدراسة العقيدة بأدوات الفلسفة اليونانية التي كانت قد نشأت في مجتمع وثني لم يحظَ بنور الوحي والرسالة، وهو أمر لا يعدو أن يكون وضعاً للأمور في مكانها الصحيح، ولو أن البحث لم يتناول الإلهيات والغيبيات وظل مقتصراً على الجانب الطبيعي التجريبي لما وُجد في التاريخ الإسلامي شيء يُذكر مما يتشبث به النقاد، علماً أن الحظر الإسلامي للبحث الفلسفي لا يختلف في جوهره عن الحظر المطبق في الكثير من الدول الليبرالية اليوم على الفكر المناهض للثقافة الغربية.
2 ـ بناء على التسلسل المرحلي السابق ذكره، فإن الليبرالية الاقتصادية والأيديولوجية لم تنشأ في الغرب إلا بعد شيوع العلمنة وتخليص العلم من سلطان الكهنوت، وهكذا فقد كان من الطبيعي أن تثور العقلية العلمانية على أيديولوجيا التسليم بالمطلق ومنح العلم صفة النسبية. وتزامن ذلك مع تطلع الفرد للتحرر الاقتصادي من نير الإقطاع، وتحالف البورجوازية الناشئة مع الطبقة الكادحة التي أصبحت أكثر وعياً وثقافة، مما أدّى إلى تقلّص سلطات الإقطاعيين ومنح الطبقات الدنيا حرية العمل والتملك.
أما في النظام السياسي- الاقتصادي الإسلامي، فعلى الرغم من انحسار التطبيق العادل لتعاليم الإسلام في مراحل متعددة من التاريخ السياسي الإسلامي، إلا أن إلباس هذا التاريخ حُلّةَ الإقطاع الأوروبي ليس إلا محض عبث، وخصوصاً أن علماء الدين الإسلامي كانوا يشكلون صف المعارضة الأول للاستبداد السياسي على مرِّ العصور، ولم يكن التحالف المزعوم بين الفريقين على الشكل الذي يراد له أن يكون في قراءة الليبراليين لهذا التاريخ. فضلاً عن أن النظام الاقتصادي في المجتمع الإسلامي لم يكن إقطاعياً من أي وجه، ولا يمكن تبرير هذه القراءة للتاريخ بالنظر إلى أملاك السلطان وأصحاب الجاه مع غضِّ الطرف عن الحرية الاقتصادية في العمل والتملك، وانتشار الأوقاف التي كانت تزيد على كل ممتلكات السلطان - كما في بلاد الشام - وهذا أمر يتنافى مع أولى بديهيات الإقطاع.
3 ـ إثر ذلك التغيير العقلي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي نشأ النظام الديمقراطي كتطور تلقائي ليحل بديلاً عن نظام التوريث الإقطاعي الملكي، وما كان ذلك ليحدث لولا تغلغل الفكر العلماني الليبرالي في المجتمع، والذي أشاع مبادئ الحرية الفردية وحق تقرير المصير، مما أدَّى إلى تدخل الأفراد في انتخاب السلطة الحاكمة، ومن ثم نشوء النظام الديمقراطي القائم على الاقتراع ورأي الأغلبية.
وفي المقابل نجد أن الليبراليين العرب قد تجاوزوا كل هذه المراحل سعياً لإحلال النظام السياسي الديمقراطي دون التعرض لليبرالية الأيديولوجية وسياقها التاريخي، بل لم يجد بعضهم ضيراً في الاستعانة بالخارج والاتِّكال على الغرب لإحلال هذا النظام بالقوة إن دعت الحاجة، دون التعرض لحقيقة نوايا هؤلاء الحلفاء وأطماعهم في المشرق الإسلامي التي لا يخفيها الغرب نفسه.(31/149)
4 ـ لم يذكر لنا تاريخ النهضة الأوروبية أن أحداً من مفكري الليبرالية الغربية قد أقام مقارنة ذهنية بين المجتمع الأوروبي الذي ينتمي إليه وأي من المجتمعات الأخرى، كما لم يبادر أي منهم لاقتباس أي نظام سياسي أو اقتصادي من الخارج لإحلاله في أوروبا، سواء كان ذلك من جهة الاقتباس والإفادة من مجتمع يبادله الشعور بالندّية أو من جهة التقليد القائم على الشعور بالنقص. أما الليبرالية العربية فعلى النقيض من ذلك تماماً؛ إذ لم يسعَ مفكرو أي أمة من الأمم النامية في العصر الحديث إلى مثل هذا الاستنساخ المقصود للعقلية الغربية ومحاولة إحلالها كبديل عن الواقع المحلي، وبالشكل الذي ينادي به الليبراليون العرب منذ بداية ما يسمى بحركة النهضة العربية. يقول زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي): «هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته، فالوصول إلى ثقافة علمية وتقنية وصناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، ومصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا القبول، وتمثل ما قبلناه».
5 ـ الليبرالية الغربية تقتضي نسبية الحقيقة والموضوعية في النظر والقياس، ولعل إحدى أهم سِمَات العقل الليبرالي تتلخص في تجريد العقل وحياده، وتنزيهه عن الأفكار المسبقة والصور النمطية للأفكار والتصورات، ومنحه الحق في التجريب والقياس والنقد لكافة الظواهر دون تحيز؛ فالليبرالي الغربي يؤمن أن مرجعيته هي العقل وحده، سواء كان العقل غربياً أو شرقياً، مع تحيز في الكثير من الحالات للعقل الغربي انطلاقاً من مركزيته الأوروبية. أما الليبرالي العربي فقد وقع في الفخ الذي نصبه لخصومه «الإسلاميين» إذ نجده لا يقل تمجيداً وتقديساً لمرجعيته الليبرالية إلى حدٍّ يكاد يكون فيه مسلوب الإرادة أمامها؛ ففي الوقت الذي يُؤخذ فيه على «الإسلامي» تقديسه للنص الديني واعتماده التراث كمرجعية مطلقة، يظل هو متمسكاً بنصوص ومبادئ كبار مفكري العقلانية الأوروبية.
6 ـ امتداداً لما سبق ذكره؛ فإن الليبرالي العربي يلجأ عادة إلى التبرير عند محاكمة الغرب على أخطائه، بل ـ يلجأ لا شعورياً ـ إلى تحميل الذات المسؤولية عن كل خطأ وكأنه بات أسيراً لعقدة الذنب. وقد يتطور الأمر لدى بعضهم إلى إدانة شبه مطلقة لكل ما هو عربي - إسلامي، فتتحول دراسة التاريخ الإسلامي من النقد الموضوعي ـ بهدف طرح القداسة عنه ـ إلى بحث متعمد عن أخطاء الماضي وإدانة رموزه وتجريمهم، بل الافتراء عليهم إن دعت الحاجة، إلى درجة تشبيه «محمد الفاتح» بشارون وستالين في ترحيله نصارى القسطنطينية إلى أوروبا بالرغم من احتمائهم بتاجه السلطاني من ظلم الفاتيكان، ولا غرو - والحال هذه - في الادعاء أن الخليفة بعد الفتح قد تدثر «مرتاحاً بين الغلمان والحريم بعباءة كسروية» فقط لكونه خليفة على طريقة التوريث ولم يصل إلى الحكم بصناديق الاقتراع الديمقراطي ورغم أنف التاريخ. [خالص جلبي، الشرق الأوسط: العدد (8310) بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1422هـ]، والأمر ذاته ينسحب على «صلاح الدين» الذي لم يشفع له شيء من إنجازاته عندما اكتشف الكاتب الليبرالي أنه قد أمر بقتل السهرَوَرْدي المتهم بالزندقة، ثم ترك مملكته لوارثي الحكم من أبنائه وإخوته بدلاً من سعيه لإحلال الديمقراطية. [الكاتب نفسه، الشرق الأوسط: 4 ربيع الثاني 1426 هـ، 12 مايو 2005 العدد 9662].
وبهذه العقلية المنهزمة، لا يتورع الليبرالي العربي عن اللجوء المسرف لآلية النقد الذاتي في معالجته لكافة القضايا المعاصرة؛ إذ لا يرى في الاستعمار الأجنبي إلا قابلية داخلية للاستعمار، ولا يجد في احتلال العراق إلا خروجاً بعضهم قومياً عن المنظومة الدولية، بل لا تعدو المقاومة في العراق وفلسطين أكثر من لعبة خطرة لا يدرك «المتشددون» أبعادها، أما العولمة - بوجهها الأمريكي السافر - فتتحول لدى بعضهم إلى نتيجة طبيعية للتطور الديالكتيكي للمجتمع الإنساني (بالمفهوم الهيوماني الشامل) والذي ما زال يعمل على كتابة صفحات تاريخه الأولى.
وهكذا؛ فإن المفهوم الليبرالي العربي للغرب لا يتعدى كونه مفهوماً ذاتياً لا موضوعياً؛ بحيث تقتصر دراسة المجتمعين الإسلامي والغربي على تقصِّي النواقص في الأول، وتلمُّس المزايا في الثاني، وكأن الأمر لا يخرج عن آلية المفاضلة لنقل الأول إلى الثاني ليس إلا، وبغضِّ النظر عن تفهّم حاجة الأول، وأخطاء الثاني.
وهذا فخ آخر يقع فيه الليبرالي العربي؛ ففي الوقت الذي يلوم فيه «الإسلامي» على استسلامه لعقدة المؤامرة التي تحكم نظرته للآخر، يكاد هو يحصر مفهومه عن الآخر في نطاق التمثل والتقليد، وإذا كان الأول يحاكم الآخر انطلاقاً من الثقة بالذات، فإن الثاني يحاكم الذات انطلاقاً من انهزامه أمام الآخر، وهذا الأمر يتناقض أيضاً مع واحدة من أهم مسلّمات الليبرالية التي تنظر إلى كل من الذات والموضوع بحياد ونزاهة.
ختاماً:(31/150)
فإن الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوروبا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوروبي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن. وعليه؛ فقد كان حريّاً بالليبراليين العرب إذ رفعوا شعار تحقيق مصالح الفرد العربي والدفاع عن حقوقه أن يُمعنوا النظر أولاً في خصوصيته وظروفه التي تحيط به، وأن يتجردوا وفقاً للمفهوم الليبرالي من كافة المعطيات المسبقة التي تلقفوها عن الغرب، ثم يُعملوا عقولهم فيما يكفل تحقيق كافة حقوق الفرد العربي، ويؤمّن له معيشة كريمة لا يعاني فيها من أي تناقض مع إيمانه الغيبي أثناء تفاعله مع معطيات الحياة اليومية. وعندئذ يمكن لغير الليبرالي العربي أن يطمئن فيه
=============(31/151)
(31/152)
الإسلام والليبرالية
(حقيقة التوجه الأمريكي وإمكانية الالتقاء الفكري)
خالد أبو الفتوح
بعد أحداث سبتمبر 2001، وتحديداً في عام 2003م، وضمن جهود أمريكا لرسم خريطة التغيير المزمع اتباعها في العالم الإسلامي، نشرت مؤسسة (راند) الأميركية تقريراً استراتيجيّاً بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء، والموارد، والإستراتيجيات) للباحثة في قسم الأمن القومي (شيرلي بينارد)، وفي ربيع عام 2004م قامت الباحثة نفسها بنشر ملخص
ولمن لا يعرف مؤسسة (راند)، فهي مؤسسة نشأت بصفتها مركزاً للبحوث الإستراتيجية لسلاح الجو الأميركي، ثم تحولت بعد ذلك إلى مركز عام للدراسات الإستراتيجية الشاملة، ويعدها المحللون السياسيون بمثابة «العقل الاستراتيجي الأميركي».
تقرير الباحثة (بينارد) الذي اهتم بتقديم توصيات عملية لصاحب القرار الأمريكي، يتكون من تمهيد وثلاثة فصول وأربعة ملاحق وقائمة مراجع:
الفصل الأول عنوانه: «رسم خريطة للموضوعات: مقدمة لآفاق الفكر في الإسلام المعاصر»، ويناقش فيه الوضع الراهن من حيث المشكلات المشتركة والإجابات المختلفة، ويحدد مواقف التيارات الإسلامية إزاء عدد من الموضوعات الرئيسية، مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، ولبس المرأة، والسماح للأزواج بضرب الزوجات.
أما الفصل الثاني فهو يمثل صلب التقرير، وعنوانه: «العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديمقراطي»، وهو يتضمن تصنيف التيارات الإسلامية المعاصرة إلى أربعة: العلمانيين، والأصوليين، والتقليديين، والحداثيين؛ حيث يحدد السمات الرئيسية لكل تيار وموقفه من المشكلات المطروحة.
أما الفصل الثالث وعنوانه: «إستراتيجية مقترحة»، فهو يتضمن توصيات عملية موجهة لصانع القرار الأميركي لاستبعاد التيارات الإسلامية المعادية وتدعيم التيارات الإسلامية الأخرى، وخصوصاً ما يطلق عليه التقرير التيارات العلمانية والحداثية، ولأنها أقرب ما تكون إلى قبول القيم الأميركية وخاصة القيم الديمقراطية.
وتقرر (بينارد) أن الغرب يراقب بدقة الصراعات الإيديولوجية العنيفة داخل الفكر الإسلامي المعاصر، وتقول بالنص: «من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث والمجتمع الدولي ككل تفضل عالماً إسلامياً يتفق في توجهاته مع النظام العالمي، بأن يكون ديمقراطياً، وفاعلاً اقتصادياً، ومستقراً سياسياً، تقدمياً اجتماعياً، ويراعي ويطبق قواعد السلوك الدولي، وهم أيضاً يسعون إلى تلافي (صراع الحضارات) بكل تنويعاته الممكنة، والتحرر من عوامل عدم الاستقرار الداخلية التي تدور في جنبات المجتمعات الغربية ذاتها بين الأقليات الإسلامية والسكان الأصليين، في الغرب، وذلك تلافياً لتزايد نمو التيارات المتشددة عبر العالم الإسلامي، وما تؤدي إليه من عدم استقرار وأفعال إرهابية».
وبناء على هذه الدراسة المتعمقة يقدم التقرير عناصر أساسية لإستراتيجية ثقافية وسياسية مقترحة لفرز الاتجاهات الإسلامية الرئيسية التي يجملها التقرير في أربعة وهي: العلمانيون، والأصوليون، والتقليديون، والحداثيون. وفي ضوء هذا الفرز تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً ثقافية - إن صح التعبير - ضد الاتجاهات الإسلامية العدائية، وفي الوقت نفسه تصوغ إستراتيجية لدعم الاتجاهات الإسلامية القريبة من القيم الأميركية، مادياً وثقافياً وسياسياً؛ لمساعدتها في الاشتراك في ممارسة السلطة السياسية في البلاد العربية والإسلامية.
ومن هنا نفهم كلمات العنوان الفرعي للكتاب التقرير «شركاء، وموارد، وإستراتيجيات»، فكلمة (الشركاء) تشير إلى هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الذين سيقبلون - لسبب أو لآخر - الاشتراك مع الجهود الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في عملية إعادة صياغة الأفكار الإسلامية، من خلال عملية إصلاح ديني لها خطوطها البارزة، والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف، مما سيؤدي بالضرورة إلى تجفيف «منابع الإرهاب»، أي: تحديد الشركاء الإسلاميين المناسبين، والعمل معهم لمكافحة التطرف والعنف و «الإرهاب»، وتشجيع قيم الديمقراطية على الطريقة الغربية الأميركية.
أما إشارة العنوان الفرعي إلى (الموارد) فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للإنفاق على المشروع، من خلال «وكلاء» يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الإصلاحي الإسلامي الجديد.
وتبقى كلمة (الإستراتيجيات) الواردة في العنوان الفرعي للكتاب، وهي تشير بكل بساطة إلى الإستراتيجية التي تقترحها الباحثة لشن حرب ثقافية ضد التيارات الأصولية الإسلامية من ناحية، والتعاون الفعال مع عناصر من التيارات العلمانية والحداثية والتقليدية الإسلامية من ناحية أخرى.(31/153)
ومن الملفت للنظر أن الباحثة الأميركية ـ التي لا تتردد في وصف مهمة كتابها التقرير بأنه إسهام في عملية «إعادة بناء الدين الإسلامي r eligion Building» ـ أفردت ملحقاً خاصاً لمناقشة (السنة النبوية) والتي تتمثل في الأحاديث، وقررت أنه من الضروري تنقية هذه الأحاديث؛ لأن بعضها يستخدم كأساس للفتاوى الدينية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتطرفة في كراهية الآخر والهجوم على الغرب سياسة وثقافة.
لم يمض وقت طويل على هذا التقرير حتى تولى مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم تنفيذ التوصيات الأميركية الخاصة بالإسهام في (إعادة بناء الدين الإسلامي) بما يتفق مع القيم الأميركية، ونظم في القاهرة مؤتمراً ـ مولته أمريكا حسماً من المعونة الأمريكية لمصر ـ موضوعه (الإسلام والإصلاح)، بمشاركة 20 باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية، بالتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية، وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنَّى الدعوة إلى «إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي ومراجعة التراث الإسلامي مراجعة جذرية، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، ومواجهة وتفنيد مقولات ورؤى وأفكار التيارات الدينية المتطرفة، وتكثيف الحوار مع القوى المعتدلة والمستنيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الأميركي خاصة، وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار إستراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، وضرورة إجراء حوار عام موسع مع تيارات الإسلام السياسي السلمي».
غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر: دعوته إلى تنقية التراث الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن الكريم كمرجعية وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين وإيجاد مدرسة اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
وقد قوبلت توصيات المؤتمر التي أعلنت في مؤتمر صحفي في نهايته باعتراضات عنيفة من الحضور وبعض الصحف المصرية، والتي أفاضت في ذكر الهجوم العنيف على منظم المؤتمر والمشاركين فيه، واتهامهم المباشر بالعمالة لأمريكا.
معظم ما سبق هو مقتطفات منسقة من مقالات نشرت في الفترة من 15/7 إلى 5/8/2004م، و 5/10/2004م، بجرائد الأهرام المصرية والنهار اللبنانية وملحق (وجهات نظر) من الاتحاد الإماراتية، للكاتب (السيد ياسين)، وهو كاتب غير متهم بالتطرف أو الأصولية، بل على العكس يصنفه كثيرون على أنه يقف في الخندق المواجه للتيار الإسلامي.
وبحسب الكاتب نفسه في المقالات نفسها: فإن الاهتمام بما أطلق عليه (الصحوة الإسلامية) أكاديمياً وبحثيّاً لم يكن وليد الساعة، ولكنه ظهر واضحاً عام 1979م عقب نجاح الثورة الإيرانية، بَيْدَ أن الأب الحقيقي للتيار الأكاديمي الأميركي الذي حاول بعمق شديد ونادر تأصيل الليبرالية الإسلامية، هو عالم السياسة الأميركي المعروف (ليونارد بايندر) في كتابه (الليبرالية الإسلامية: نقد للأيديولوجيات التنموية) الصادر عام 1988م عن دار نشر مطبعة جامعة شيكاغو.
ومن الأهمية بمكان في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم، أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه، وهو يقول: «المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية، وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس أيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط، ويتساءل الكتاب عما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية».
وبعد أن يرصد (الأستاذ ياسين) بعض التطورات الفكرية والتحركات السياسية لبعض القوى الإسلامية، يقول:
وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية (ليونارد بايندر) بالليبرالية الإسلامية منذ عام 1988م(1)، قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد - من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة ـ إلى أن يُصدر عالم السياسة الأميركي (رايموند ويليام بيكر) عام 2003م كتاباً ملفتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه (إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد)، نشرته جامعة هارفارد، وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين، وهم: (أحمد كمال أبو المجد)، و (طارق البشري)، و (فهمي هويدي)، ومحمد سليم العوَّا.. ويضيف كاتب المقالات نفسه إلى هؤلاء الأربعة: الشيخ يوسف القرضاوي.(31/154)
بالطبع لا يعني ذلك أن محاولات أمريكا والغرب عموماً لـ (ليبرة) الإسلام بدأت منذ هذا التاريخ، فقد أشار كاتب إسلامي كبير في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي إلى خطورة (الإسلام الأمريكي) الذي تحاول الولايات المتحدة إيجاد موطئ قدم له في العالم الإسلامي، وقد أشرت في مقالات سابقة إلى محاولات الغرب الدؤوبة لإيجاد إسلام (بروتستانتي) لا يثير العداء للغرب ولا يستفز المسلمين، خاصة الجهود التي بذلت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(2).
ورغم الهجمة الأمريكية الشرسة والضغوط الغربية الهائلة التي تهدف إلى تمرير هذه المشروعات في عالمنا الإسلامي، فإني لم أجد جديداً أو غريباً في هذه المساعي، اللهم إلا في حجم التوجه ومقدار تكثيف الجهود في فترة زمنية محددة، ولكن الجديد حقاً كان في محيطنا الداخلي، وأعني به: ظهور فئة تنتسب إلى التيار الإسلامي (العامل) يَسِمُ أفرادها أنفسهم بأنهم (إسلاميون ليبراليون).
ويبدو أن ضغوط الواقع الاستبدادي التسلطي، وضيق ـ أو اختناق ـ مساحات الحريات، وشيوع مناخات الأحادية والمصادرة... جعل كثيراً من أفراد هذه الفئة يسترقون السمع لأي دعوى حرية، حتى ولو كانت نابتة خارج إطارنا الإسلامي، حتى ولو كانت باسم (الليبرالية). كنت أستغرب ـ ولا يُستغرب ـ أحدهم وهو ينعت نفسه بأنه (إسلامي ليبرالي)، وكأنه يصف نفسه بأنه مسلم (شافعي)، أو (مالكي)، أو حتى (شيعي)، أو كأنه ينسب نفسه بأنه (مسلم إندونيسي) أو (مسلم مغربي)، كان لا يستهجن ذلك، في حين كانت كلماته تقرع أذني وكأنها (إسلامي ماركسي) أو (إسلامي بوذي) أو (إسلامي علماني).
ومع استبعادي لعمالة هذا الشخص وأمثاله ـ أو حتى وعيه ـ للمشروع الأمريكي السابق ذكره، فإني على قناعة بأن أحدنا لا يفهم الإسلام، أو لا يفهم الليبرالية، أو لا يفهمهما معاً، هذا إذا كان هذا الشخص جاداً وصادقاً في كلامه.
وإذا كان المقام لا يتسع لعرض جميع أبعاد هذا الموضوع، فسأكتفي هنا بعرض وجهة نظري في الفرق بين الإسلام والليبرالية في أصولهما ومنطلقاتهما وما يترتب على ذلك من فروق على نطاق التصورات أو التطبيقات.
ü الليبرالية والحريات.. الأصول والمنطلقات:
بداية فإنه لا يختلف أحد من الليبراليين (الأصوليين) على أن (الفكر الليبرالي) لا يقتصر على حقل الفكر السياسي، بل يمتد إلى ما هو أبعد منه، ليكوِّن فلسفة اجتماعية شاملة ترتبط بتوجهات محددة في مجالات الأخلاق وفلسفة العلم والقيم الاجتماعية والاقتصاد، إضافة إلى السياسة.
لقد لحق مفهوم الحرية ـ الذي ارتبط بالديمقراطية في المدن الإغريقية ـ تطور هائل من المدرسة الليبرالية، خصوصاً مع (جون لوك) في القرن السابع عشر؛ فالحرية في هذا المفهوم هي حرية الفرد، وهي الاعتراف له بمجال خاص لا يجوز التعدي عليه أو التدخل فيه؛ فالحرية هنا هي الاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لا يجوز التعدي عليها ولو بموافقة الأكثرية: للفرد الحق في الحياة، في العقيدة، في التعبير، في الاجتماع، في الملكية، في التعاقد.. وهكذا لم يبق للحرية مفهوم إجرائي لاختيار الحكام، أو لأسلوب اتخاذ القرارات السياسية، بل أصبح للحرية مضمون حقوقي قانوني، هو الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان باعتباره إنساناً.. وهذا هو المفهوم الليبرالي للحرية.
فعندما نتحدث عن الحرية فإننا قد نقصد أموراً مختلفة، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم المتعددة تحت ثلاثة مفاهيم: هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية الجمهورية)، وهي تتطلب المشاركة في الحياة السياسية واختيار الحكام ومسؤولياتهم، وهي تقابل المفهوم المستقر للديمقراطية السياسية، وهذه تجد جذورها في الديمقراطيات الإغريقية أو ما يطلق عليه (كونستانت) الحرية بالمفهوم القديم.
وهناك من ناحية ثانية (الحرية الليبرالية) وهي تشير إلى الاعتراف بحقوق وحريات أساسية للأفراد لا يجوز الاعتداء عليها أو التعرض لها، وهي تقابل المفهوم الحديث للحرية عند (كونستانت) أو الحرية السلبية عند (برلين)، وهي أيضاً ما يقابل ما يعرف حديثاً بـ (حقوق الإنسان) الأساسية كما صدر عن منظمات الأمم المتحدة في وثائقها المتعددة.
وأخيراً هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية المثالية) أو الحريات الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث يتعلق الأمر بضرورة تمكين الفرد من ممارسة حرياته، بتوفير حد أدنى من المستوى الاقتصادي وتقديم الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة»(1).
وإذا كان هذا الكلام يُظهر بعض الاختلاف في نظرة الليبراليين أنفسهم إلى (الحرية)، إلا أنه يوضح أننا لا نستطيع أن نفصل مسيرة الحريات الليبرالية عن مسيرة حقوق الإنسان في الغرب؛ إذ تتشابك وتتداخل المفاهيم في كليهما.(31/155)
ينقسم الحديث عن الحقوق والحريات إلى شُعب عديدة: فهناك (حق المعرفة) و (حرية الإبداع) و (حرية الاعتقاد) و (حرية الرأي ) و (حرية التعبير)، و (حرية التعليم)، و (حرية الملكية)، و (الحرية الشخصيّة)، ويمكن أن يضاف إلى ذلك: (حق تكوين الأحزاب والتكتلات). وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرية الشخصيّة، التي تشمل: (حرية التنقل) و (حق الأمن) و(حرية المسكن)، ويعد بعض الباحثين (حرية الرأي) الأصل في هذه الشُّعَب والأقسام جميعاً، وليس من هدفنا في هذا المقال تناول هذه الحريات والحقوق تفصيلياً، بقدر ما يهمنا وضع إطار كلي نستطيع من خلاله فهم النسق الذي توضع فيه هذه الحريات والحقوق وكيفية فهم خريطة العلاقات بينها.
فمفهوم قيم (الحريات) و (حقوق الإنسان) اصطبغ بالخلفية الفكرية التي خرجت منها هذه الحقوق، وخضع للمنظومة القيمية العامة للمجتمع الذي نشأت فيه، وهو ما يختلف كلية عن الخلفية الإسلامية والمنظومة الإسلامية التي تحوي المفردات أو المصطلحات نفسها.
فمن المعروف أنه يختلف مفهوم كل مصطلح وطبيعة العلاقة بين القيمة التي يحملها وقيم المصطلحات الأخرى بحسب الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي يسبح فيه هذا المصطلح، وعليه: لا نستطيع أن نختزل مفهوماً ما ونقتبسه من بيئته الفكرية والقيمية ثم نحاول إسقاطه على بيئة أخرى ومجتمع آخر له خلفيته الفكرية الخاصة ومنظومته القيمية المتمايزة.
من الملاحظ أن تبلور الليبرالية تزامن، في القرن السابع عشر الميلادي، مع ظهور الرأسمالية في أوروبا، عندما ظهرت حاجة الرأسماليين الصاعدين وقتها لإيجاد ذريعة أخلاقية وفكرية لحق تخزين الأموال الشخصية وكنزها، واعتقد المفكرون الليبراليون الأوائل بأنه لو خُلِّيَ العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائياً نحو الحل، وأننا لو تركنا الأفراد يعملون وفق إرادتهم الخاصة، فإن ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الأخوة، ومن ثم: اعتقدوا أن عامة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي إلى سعادتهم وراحتهم، وعليه: فلا تحتاج المسألة إلى افتراض تصور أو نظام يفرض عليهم من فوقهم، سواء من رجال الدين أو غيرهم؛ فالناس أنفسهم يمكنهم تعيين الحقوق والتكاليف التي يجب أن يستجيبوا لها بدون وجود سلطة عليا من خارجهم تفرض ذلك عليهم، وهذا ما تعرض للنقد حتى من مفكرين غربيين، كـ (تشارلز فرنكل) في كتابه (أزمة الإنسان الحديث)، ففي الحقيقة أن الغرب لم يلغِ المرجعية والسلطة بإطلاق، بل استبدل مرجعية بأخرى وسلطة بغيرها، بعد أن أزاح الدين عن ساحة التوجيه والتنظيم.
الغرب في نهضته استمد خلفيته الفكرية من الفكر الفلسفي اليوناني القائم على تقديس العقل - الذي أعلى من قيمته مرة أخرى مكتشفات عصر النهضة -، كما أن الغرب في نهضته كان خارجاً لتوه من سيطرة كنسية طاغية قائمة على تخلف علمي واستدلالي يورد الفيلسوف (فرانسيس بيكون) نموذجاً لها، فيقول: «وقع بحث ونقاش سنة 1432م، في مجمع من المجامع العلمية، حول عدد أسنان الحصان. لقد جرى التفتيش عن الإجابة عن هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين، بيدَ أن ذلك لم يقدم أي نتيجة، وبعد أربعة عشر يوماً من التحقيق أبدى أحد الطلاب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعد أسنانه، لكن هذا الاقتراح تم التعاطي معه على أنه كفر، وأن قائله مستوجب للتأديب الشديد، وفي نهاية المطاف، وبعد عدة أيام من البحث والجدال، أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل؛ نظراً لعدم ورودها في كتب القدماء، فأحس الغرب بأهمية الاستدلال العقلي وبتعطشه للتجربة الحسية التي حرمته منها الكنيسة، مهدراً أي طريق آخر للمرجعية المعرفية، وأصبح إثبات الحقائق أو نفيها مرهوناً بوقوع هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية وتجاربنا الحسية، وهذا معناه أنه لا يجوز الاعتراف بأي شيء اعترافاً مسبقاً؛ فكل شيء قابل للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين.(31/156)
وهذا ما أثر على نظرة الغرب إلى (الدين) و (الغيبيات) وتصوراته عن الكون والإنسان والحياة عموماً؛ حيث إن الدين والغيبيات لا يمكن للعقل المجرد إدراك مسائلهما، وعليه: فهي نسبية وغير يقينية ولا يستطيع أحد الزعم بأحقية تصوره وإبطال تصور الآخرين، ولذا: فهي متروكة لاعتقاد كل فرد، ومن ثَم: ينبغي على كل إنسان أن يفسح المجال لاعتقادات الآخرين وأن يتسامح معهم في معتقداتهم؛ لأنها ببساطة متساوية مع اعتقاداته في نسبتها إلى الحقيقة، أو بالأحرى: في افتقارها إلى الحقيقة. وعندما صادروا الدين والغيبيات من دائرة العقل والحواس فإنهم وضعوهما في دائرة العواطف والضمير الإنساني، وهي الدائرة التي لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها أو يصادرها، وفي أقصى الافتراضات: فهي عاطفة تقوم على الإقناع وليس على الإلزام.. كما أثر ذلك على نظرة الغرب إلى كيفية بحث الإنسان عن أهدافه وغاياته وعن طرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.. كما أثر ذلك أيضاً في النظرة إلى الأخلاق، حيث لا توجد أخلاق مقدسة أو مؤبدة أو مطلقة؛ فالحُسن والسوء ليسا مطلقين ولا كليين، كما أن تحديد الخير والشر والحسن والقبح يختلف من إنسان إلى آخر، ومن ثَم: لا ينبغي أن تُفرض هذه الأخلاق من سلطة عليا أيّاً كانت. وإذا كان الأمر كذلك فإن السلوك الإنساني سيتحدد من خلال الرغبات والميول البشرية، وعندها سيكون الحَسَن هو ما يحبه الأفراد أنفسهم ويرغبون فيه، والقبيح والسيئ هو ما ينفر منه هؤلاء الأفراد ويتعارض مع الرغبات الإنسانية.
لم يكن هذا هو التأثير السلبي الوحيد للكنيسة على منظومة الغرب في حقوق الإنسان وحرياته؛ فلقد أدت نظرة الكنيسة إلى الإنسان على أنه يحمل خطيئة أبدية ورثها من أبيه آدم، أي: إنه مذنب بالأصالة حتى يخلصه المسيح، أدى ذلك إلى رد فعل عكسي عند الليبراليين تمثل في تمحورهم حول الإنسان، فهو البداية وهو النهاية وهو الغاية. وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان وفق المنظور العقلي والحسي فإنه يتجرد من (الروح) ولا يبقى منه إلا الأبعاد الذاتية والنفعية، أي: الغرائز والشهوات والماديات.
والخلاصة: أن الغرب لم يُخرج تصوراته عن منظومته في حقوق الإنسان وحرياته - في الربع الأخير من القرن الثامن عشر - إلا بعد قطيعة حادة مع الدين ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية - التي أذعنت في النهاية لهذه القطيعة رافعة شعار (دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) - ثم تجسدت هذه القطيعة في أكبر تجلياتها على أرض الواقع عبر الثورة الفرنسية عام 1789م بشعارها الماسوني المثلث (حرية - مساواة - إخاء)، وهو الشعار الذي يعد أصل كافة حقوق الإنسان في المنظور الغربي، تأسيساً على أنها حقوق عامة تشمل جميع الأفراد بموجب (الحق الطبيعي) الذي يسبق جميع الثقافات والحضارات - حسب هذا الفكر - وعليه: صدر في العام نفسه (إعلان حقوق الإنسان والمواطن).
فواضح أن المرجعية في الغرب ـ بعد انقطاعه عن الكنيسة في مجالات الحياة ـ تحولت إلى العقل إضافة إلى الحس التجريبي، ومن هذه المرجعية انبثقت هذه الحقوق والحريات، مع مراعاة البعد الاقتصادي في تطور المجتمع الغربي آنذاك، وواضح أيضاً أن المنهجية التي تأسست عليها هذه الحقوق والحريات هي العلمانية.
وإذا رصدنا ترتيب الهرم القيمي الذي استقر عليه الغرب بناءً على هذه المرجعية وهذه المنهجية نجد أن (الحرية) و (المساواة) تتبوآن قمة هذا الهرم، وعليه: فتحقيق هاتين القيمتين - حسب المفهوم المستقر لديهم - له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له، أو تتقيد به، أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى، ومن هنا: أصبحت (الحرية) و(المساواة) على رأس (الثوابت) و(المقدسات) التي لا يمكن المساس بهما، والتي يمكن - أيضاً - التضحية بالقيم الأخرى والحقوق الأخرى من أجل المحافظة عليهما.
وعلى هذا الأساس انتظمت (الحقوق) و (الحريات) و (العلاقات). ففي العلاقات بين الأفراد نجد أن (حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين)، وفي العلاقة بين الفرد والمجتمع برزت نظرية (العقد الاجتماعي) التي نضجت قبيل الثورة الفرنسية في فكر (جان جاك روسو)، والتي بمقتضاها يتنازل كل فرد في المجتمع عن بعض إطلاقات حقوقه وحرياته للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسدها الدولة، مقابل (تنظيم) هذه الدولة لممارسة تلك الحقوق والحريات بين جميع الأفراد وحمايتها لها، وهكذا تحولت هذه الحقوق والحريات (الطبيعية) إلى حقوق (مدنية) لا يسمح بالخروج عليها؛ حيث تحميها سلطة المجتمع (الدولة)، وهو الأساس الذي قامت عليه الدولة الحديثة في الغرب.(31/157)
وبانتشار الفلسفة التحررية (الليبرالية) واستقرارها في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر.. أخذت الحريات والحقوق الفردية بُعداً جديداً، عندما أصبحت هذه الفلسفة هي الأساس النظري للتنظيم السياسي والاقتصادي والقانوني للمجتمعات الغربية، فنادت الليبرالية - في الفكر السياسي - بالوقوف ضد كل أشكال التمييز الاجتماعي أو القانوني بين البشر (مساواة)، وطالبت بإطلاق كل الحريات لكل الناس (حرية)، ولكن في حدود قانون واحد يحكمهم ويحتكمون إليه دون تمييز، أو بتعبير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم»، فأصبح القانون هو الذي يجسد حقوق الإنسان في نهاية الأمر - حسب الرؤية الغربية - كما نادت الليبرالية بأقل قدر ممكن من القيود التي قد يفرضها المجتمع على تصرفات الأفراد (فردية منهجية).
وتوج ذلك بإصدار الغرب، المنتصر عام 1948م والمتأثر بما أشيع عن حجم المذابح التي تعرض لها اليهود في هذه الحرب، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموافقة 48 دولة وامتناع 8 دول عن التصويت - معظمها من دول ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، ثم تلاه مواثيق وعهود دولية متعددة لحقوق الإنسان، وقد جاء هذا الإعلان مهملاً لقيم لا يزنها الغرب بميزان الحقوق (حق الارتباط الأسري، حق الجوار، حق المسافر «ابن السبيل».. إلخ)، وفي الوقت نفسه: مارس - وما يزال - فرض وجهة نظره في هذه الحقوق على المجتمعات الضعيفة بلا أدنى مراعاة لحرية الاختيار وحق الاختلاف، حيث يرى الغرب في كل زمن وصوله إلى مرحلة النضج والكمال في هذا الزمن، ويرى تخلف غيره من المجتمعات، ويرى أن عليه رسالة سامية، هي (تحضير) هذه المجتمعات المتخلفة بفرض رؤيته (الحضارية) عليها.
وهكذا نرى أن ملامح الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي خرجت منه الحريات والحقوق في الغرب تتمثل في أن:
1 - العقل المجرد هو مرجعية هذا الحقوق والحريات، حتى وإن اقتبس هذا العقل بعض قيم الدين ـ كما في تأثر الليبرالية بالبروتستانتية ـ فإن العقل المجرد يبقى هو الحاكم على هذه القيم بالرفض والقبول.
2 - العلمانية (فصل الدين عن الحياة وعن الدولة) هي المنهجية التي تنتظم فيها هذه الحقوق والحريات.
3 - (الحرية) و (المساواة) هما أعلى قيم المجتمع التي تخضع لها وتنتظم معها قيم المجتمع الأخرى، فهما (ثوابت) و (مقدسات) لا يمكن المساس بهما.
4 - إعلاء قيمة (الفرد) ومصالحه مقابل تقليص دور المجتمع ومصالحه.
وعلى هذه الأسس نستطيع رد الأحداث الجزئية إلى أصولها وتفسيرها تفسيراً منطقياً:
ففي الغرب يحق لأي شخص اعتناق الدين الذي يروق له سواء أكان سماوياً أو غير سماوي أو أن يكون ملحداً أو أن يغير دينه (انظر: المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)؛ لأن ذلك يدخل في إطار حق (حرية الاعتقاد)، وهو حق (شخصي / فردي) لا يجوز التدخل فيه. وواضح هنا أن تصور (الاعتقاد، أو الدين) جاء منسجماً مع النظرة العلمانية الغربية للدين التي تفصل بين الدين والحياة؛ فالدين عندهم لا علاقة له بالعقل ـ أي: لا يوزن بمعيار الصحة والخطأ ـ أو بنظام المجتمع، ولكنه عاطفة أو ضمير يكنه الشخص داخل نفسه فقط.
وعلى ذلك: فلو أن شخصاً ما كان من دينه الذي (يعتقده) إباحة تعدد الزوجات مثلاً وأراد ممارسة ذلك فإن الدولة تتدخل لـ (تقييد) هذه الحرية وتمنعه من ذلك؛ لأن تلك الممارسة خارجة عن حقه في (حرية الاعتقاد)؛ إذ إنها خرجت عن إطار (العاطفة والضمير الشخصي)، ولأن في ذلك خرقاً للقانون وللعقد الاجتماعي وللنظام الذي ارتضاه معظم الأفراد (فصل الدين عن الحياة)، ولأن فيه تعدياً على حقوق أفراد آخرين (المرأة، حتى ولو كانت راضية) حسب زعمهم، ولكن في الوقت نفسه: يباح لهذا الشخص معاشرة نساء أخريات خارج إطار الزوجية، ما دام ذلك يتم برضاهن ـ حتى لو كان ذلك مخالفاً لدينه الذي ينتسب إليه - لأن في ذلك إشباعاً لحاجات غريزية يمارسها أفراد بمقتضى (حريتهم) الشخصية التي لم يقيدها القانون؛ فالمسلم في هذه البلاد يستطيع أن (يعتقد) و (يعبر) بحرية عما يعتقد ـ وذلك افتراضاً؛ فتداعيات أحداث سبتمبر كشفت قشرة التجمل الديمقراطية ـ ولكنه لا يستطيع أن يمارس بالحرية نفسها تطبيق ما يعتقده ويعبر عنه (تأمل أيضاً قضية حجاب الفتيات المسلمات في فرنسا، ومنع الذبح الشرعي في أكثر من دولة أوروبية، ومصادرة كتب إسلامية لأكثر من كاتب في أحد معارض الكتب بباريس «عاصمة النور!»، وتأمل معها في الوقت نفسه: الموقف من سلمان رشدي وأمثاله).(31/158)
وفي الغرب رُفعت قضايا عديدة ضد أكثر من مفكر وكاتب ومؤرخ لمجرد أنه (عبر عن رأيه) بالتشكيك في محارق النازية لليهود (الهولوكست) نفياً لوجودها أو تقليلاً من عدد ضحاياها، وقد كانت حجج اليهود أن في ذلك معاداة للسامية، وهي عنصرية تعمل على إشاعة الكراهية ومضادة (الإخاء) و (المساواة)، وهي (ثوابت) و (مقدسات) في المجتمع الغربي، يجب المحافظة عليها حتى ولو اقتضى ذلك تقييد (حرية الرأي) ومصادرة (حرية التعبير) لأفراد مفكرين، يمكن أن يكون مآلهم السجن (عكس الحرية تماماً) أو الحكم بالغرامة المالية، بدلاً من تشجيعهم على البحث الحر والرأي الحر.
في الغرب يقوم نظام الحكم على الديمقراطية (وهي من أكبر عمليات النصب الفكري في التاريخ، ولهذا حديث آخر) التي قوامها القبول بالتعددية، وضماناً لإعمال هذا المبدأ تقوم أنظمة الحكم الغربية بإطلاق (حرية تكوين الأحزاب السياسية والتكتلات) ومع ذلك نجد أن بعض هذه الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع (تقييد هذا الحق وتوجيهه) فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي، أو قيام حزب ملكي في بلد جمهوري، أو قيام حزب انفصالي في بلد اتحادي، أو قيام حزب شيوعي في بلد رأسمالي (كما في أمريكا مثلاً)، أو قيام حزب نازي أو فاشي في بلد ليبرالي - وخاصة ألمانيا وإيطاليا - ولو حدث اختراق لبعض هذه الشروط والقيود تحت مسميات ومظلات أخرى فإن العقوبات تكون بالمرصاد لهذا الاتجاه ولزعيمه ولبلده، وحالة حزب الحرية (القومي النمساوي) وزعيمه (يورج هايدر) ليست ببعيدة.
وأسباب ذلك التقييد والتضييق قريبة من الأسباب المذكورة في النقطة السابقة.
وباختصار: ماذا لو خرج في الغرب ـ مِن منطلق الحريات ـ مَن يطالب بهدم (ثابت) الحرية (المقدسة) وإسقاطه؟ الرد الفوري الجاهز من أنصار الحرية سيكون الشعار المعروف: (لا حرية لأعداء الحرية) بدعوى أن هؤلاء (سيستخدمون الحرية لقتل الحرية).
وبالطبع فإنهم لا يعدون هذه القيود انتقاصاً للحقوق والحريات، بل يعدونها حماية لهذه المكتسبات التي أصبحت ثوابت (مقدسة) وضبطاً لها؛ حتى لا تتحول إلى فوضى يضيع معها نظام المجتمع.
الحريات في الإسلام بين الحق والضبط:
وفي مقابل المنظومة الغربية في الفكر والقيم نجد في الإسلام و (المجتمع الإسلامي) منظومة مختلفة تماماً: مختلفة في المرجعية والمنهجية، وفي الثوابت والمقدسات، وفي الغايات والأهداف، وحتى في الوسائل والأدوات القانونية والاقتصادية والسياسية لتحقيق هذه الغايات.
فمقابل (العقل المجرد) و (الحس التجريبي) نجد في الإسلام أن (الوحي) هو المرجعية الأولى للفكر والقيم، مع عدم إهمال أهمية المرجعية المعرفية للعقل والحس، ولكن وضعهما في إطارهما واستعمالهما في مجالاتهما.
ومقابل (العلمانية) نجد في الإسلام أن (الشريعة) وانتظام الدين مع الدنيا هو المنهجية التي يقوم عليها المجتمع.
ومقابل (الفردية) نجد في الإسلام المسؤولية المتبادلة بين الفرد والمجتمع والتآلف بينهما من غير جور أو تعدي أي منهما على الآخر (حقوق شخصية، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)، وهو ما يؤكده حديث السفينة التي استهمها ركابها، وهذا المفهوم يرقى بحريتي الرأي والتعبير ـ وفق التصور الإسلامي ـ من مرتبة (الحق الشخصي) إلى مرتبة (المسؤولية الاجتماعية).
ومقابل (الحرية) و (المساواة) نجد في الإسلام أن (العبودية) لله رب العالمين و (العدل) بين البشر (ليس بالضرورة أن يكون العدل هو المساواة كما يفهمها بعض البشر) يتربعان على قمة الهرم القيمي في المجتمع الإسلامي، فهما أكبر (الثوابت) و (المقدسات) في المجتمع، وتحقيق هاتين القيمتين وعدم المساس بهما له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له أو تتقيد به أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى بما فيها الحقوق والحريات.(31/159)
وأعني بـ (العبودية) لله ـ عز وجل ـ: الخضوع والدينونة العامة له (سبحانه)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وفي هذا الإطار نلاحظ أن تحقيق (العبودية) لله ـ عز وجل ـ يتناسب طردياً مع (التحرر) من المخلوقات؛ فكلما عظمت حقيقة العبودية لله ـ تعالى ـ وارتفعت في نفس المسلم، كلما ازداد تحرره من المخلوقين. كما نلاحظ أن هذا التحرر يكون داخلياً وخارجيّاً؛ فالعبودية لله ـ سبحانه ـ تجعل المسلم يتحرر حتى من سيطرة (الأشياء) والتعلق بها؛ «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعْطَ لم يرضَ»(1). وتأمل موقف سلطان العلماء (العز بن عبد السلام) عندما أغلظ في القول جهراً مناصحة للملك الصالح نجم الدين أيوب، لما رأى الأمراء يقبِّلون الأرض بين يديه. يقول تلميذه الباجي: «سألت الشيخ لمَّا جاء من عند السلطان ـ وقد شاع هذا الخبر ـ: يا سيدي! كيف الحال؟ فقال: يا بني! رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه فتؤذيه، فقلت: يا سيدي! أما خِفتَه؟ فقال: والله! يا بني! استحضرتُ هيبة الله ـ تعالى ـ فصار السلطان قدامي كالقط».
أما (العدل) فإنه من أبرز خصائص هذه الأمة {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، والوسط هو العدل - كما جاء في تفسيرها-.
وضمن هذا الإطار تنتظم (الحقوق) و (الحريات) الشخصية، وليعذرني القارئ في استعراض بعض هذه الحقوق والحريات حسب شكل الإطار الغربي:
فـ (حق المعرفة) مكفول في الإسلام، ولكن تحت ظروف معينة جاز تضييقه بعض الشيء لأجل الارتقاء بمستوى (العبودية) والمحافظة عليها، كما في حديث معاذ عندما أخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرَّمه الله على النار»، فقال معاذ: «يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟»، قال: «إذن يتكلوا»(1)، وهو ما يسميه العلماء: جواز كتم العلم للمصلحة.
و (حرية العقيدة) في المجتمع الإسلامي مكفولة (في إطار) مراعاة الثابت الأعلى لهذا المجتمع (العبودية والدينونة لله عز وجل)، ومن هنا اتسع المجتمع الإسلامي لوجود التعدد الديني فيه، عندما قَبِلَ أن يتعايش فيه أفراد يعتنقون اليهودية والنصرانية - وقد يلحق بهما المجوس كما جاء في بعض الروايات، باعتبار أن لهم شبهة كتاب - وترك لهم حرية تنظيم شؤونهم الشخصية، بينما لم يتسع لغيرهما من الديانات الوثنية أو الإلحاد، وذلك باعتبار أن اليهودية والنصرانية ديانتان ذواتا أصل سماوي ويعلنان انتسابهما إلى مظلة تلك العبودية والدينونة في الجملة؛ فالقاعدة في ذلك: قبول المجتمع الإسلامي أن ينضوي تحت مظلته كل من يعلن قبوله لسلطان الله عليه في الجملة، ونبذه لكل من يعلن تمرده وخروجه على هذا السلطان.
ولكن الانحراف والتحريف الطارئ على تلكما الديانتين - والذي يتصادم مع حقيقة (ثابت) العبودية - يجعل دائرة (حرية التعبير) أضيق في حقهما من دائرة (حرية الاعتقاد)، فلا يحق لهما الدعوة - أو التبشير ـ بدينهما، ولا إظهار شعائر عباداتهما ـ المعبرة عن انحرافهما ـ خارج دائرة معتنقيهما. فخروج (حرية التعبير) عن هذه الدائرة يخرق نظام المجتمع ويهدم الثابت الأساس والمقدس الأول في الهرم القيمي للمجتمع. وهنا يضاف ـ في حق هؤلاء ـ إلى قبول سلطان الله: قبول شريعة الإسلام باعتبارهما المرجعية والنظام اللذين يقوم عليهما المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.(31/160)
ويتعلق بـ (حرية الاعتقاد) مسألة المرتد عن الإسلام: ففي حين أن الإسلام لا يعاقب من لم يدخل فيه ابتداء، كما أنه لا يُكره أحداً على اعتناقه والدخول فيه، {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، كما لا يمنع ولا يعاقب من انتقل من دين إلى آخر أو من مذهب عقدي في هذه الأديان (التي تعيش في ظله) إلى آخر - وفي ذلك خلاف فقهي ضعيف -.. نجد أنه في الوقت نفسه يمنع و (يعاقب) من ينتقل منه إلى غيره، ولا ينفع في هذا المقام محاولات بعض المتكلفين إبراز آراء فقهية شاذة تنفي عقوبة القتل عن المرتد، بغية التطابق مع المفهوم الغربي لـ (حرية الاعتقاد) لأن التهديد والوعيد الأخروي الثابت في القرآن {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] يأبى إضفاء شرعية هذه الصفة (حرية الاعتقاد) لهذه الفعلة (الردة عن الإسلام) في المجتمع المسلم، وبحسب المفهوم الليبرالي الذي يتمحلون في موافقته؛ فإن ذلك الوعيد يعد ترهيباً معنويّاً لا يتفق مع الدعوة إلى حرية الاعتقاد.
ونستطيع فهم موقف الإسلام من المرتد عنه، في ضوء أن ذلك الانتقال عنه يعد طعناً في القيمة العليا والأساس التي يقوم عليها المجتمع، أو بعبارة أخرى: إنه يعد ذلك إعلاناً بالطعن في صحة هذا الدين، أو في عدم حاجة الإنسان إليه، وذلك غير مقبول في مجتمع يستمد شرعيته ومرجعيته بالأساس من اعتقاد صحة هذا الدين ومن الحاجة إليه.
ولا يقتصر (التضييق) على (حرية التعبير) على أهل الكتاب والمرتدين فقط، بل يشمل كل متطاول وطاعن في ثوابت المجتمع ومقدساته، سواء أكان منتسباً إلى الإسلام أم غير منتسب، بل إن ذلك الطعن من سمات (الإمامة في الكفر) كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]، وبالطبع فإن بعض المنتسبين إلى المنظومة الغربية قد يعدون الطعن في الدين (حرية إبداع) و (حرية رأي) و (حرية تعبير).
ولكننا نرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعتدَّ بـ (إبداع) ولا (حرية تعبير) اليهودي كعب بن الأشرف عندما شن حملة إعلامية (شعرية) هجا فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآذاه، كما لم يأبه القرآن الكريم ولا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا مجتمع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بـ (حرية الرأي) عندما أبدى بعض المنافقين - في سياق التهكم والسخرية بدعوى التسلية واللعب - رأيهم في (قرَّاء) الصحابة (أي: فقهاؤهم وعُبَّادهم) بأنهم أرغب بطوناً وأكذب ألسنة وأجبن عند اللقاء(1)، وهو ما عده القرآن استهزاءً بالله وآياته ورسوله، استلزم أن يكون كفراً بعد إيمان لا يقبل فيه الاعتذار باللعب؛ فما بالنا بمن يهزأ صراحة ويعلن جديته في ذلك؟
وهنا نقطة يرددها كثيرون بدعوى أنها دليل على السماح بحرية الرأي المتضمن لنشر آراء كفرية في المجتمع الإسلامي... حيث يدعي بعض الكتاب أنه في مسألة مثل مسألة التعرض إلى الذات الإلهية وإنكار وجودها ابتداءً، نجد أن القرآن الكريم أورد وحفظ ما يصعب حصره من دعاوى غير المسلمين وآرائهم ومقولاتهم واتهاماتهم أياً كانوا في هذا الباب.
هذا الكلام وأمثاله يحمل في طياته خلطاً كبيراً بين مفهوم (حرية التعبير) الذي يستدلون له، ومفهوم (الحوار والجدل) الذي وردت في سياقه الآيات والآراء والمقولات التي أشاروا إليها. والحقيقة أن بين المفهومين فرقاً كبيراً؛ فحرية التعبير تقتضي ترك صاحب الرأي يعرض وجهة نظره وحججه بدون أي تعقيب أو تعليق مباشر، وقد لا يوجد تعقيب بالمرة، وهذا ما لم يحدث في القرآن ولا في غيره من المرجعيات الإسلامية؛ بينما الحوار والجدل عملية إلقاء حجة على حجة ورأي على رأي لإظهار الحق؛ ففي هذا المقام نلحظ أن إيراد القرآن لأقوال أهل الشرك والكفر لم يكن بقوة الحق الممنوح لهم (حرية التعبير)، بل كان بقوة الفعل الذي صدر منهم وأصبح واقعاً لا يمكن تجاهله، فأوردها في محاورات ومجادلات غاية في الدقة والأمانة والرقي، ونلحظ أيضاً أن (الحوار والمجادلة) بهذه الصورة يعد من أوسع الممارسات الفكرية في الحقل الإسلامي.(31/161)
ورغم هذا (التضييق) على حرية الرأي وحرية التعبير (الرأي يكون سابقاً للتعبير عنه) إذا تصادم هذا الرأي أو التعبير مع ثوابت المجتمع ومقدساته وأخلَّ بنظام الهرم القيمي فيه.. نرى في الوقت نفسه تسامحاً ومرونة واتساعاً في (حرية الرأي) و (حرية التعبير) حتى لو صدر من غير المسلم - وحتى لو كان هذا الرأي خاطئاً ومخالفاً لما هو راسخ، بل لو كان يحمل شبهة التطاول الضمني - وذلك إذا كان مستظلاً بمظلة ثوابت المجتمع ومقدساته: فهذا يهودي آخر يتقاضى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالاً فيجبذه من منكبه ويقول له: «إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل وإني بكم لعارف» ويرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما انتهر عمرُ اليهوديَّ، فيقول له: «يا عمر! أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»(2)، وهذا رائد الخوارج يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - - بعدما قسّم بعض مال في المؤلفة قلوبهم -: «يا رسول الله! اتق الله!» أو «يا رسول الله! اعدل!»(3)؛ ففي هذه المواقف آراء تحمل شبهة تطاول ضمني على شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هذا التطاول ليس على مقام النبوة والرسالة، ومن حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو ويتنازل عن حقه الشخصي، وإن لم يكن من حق أمته التنازل عن هذا الحق. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الآراء كانت مستظلة بمظلة ثوابت المجتمع (العدل في الحالة الأولى، والعدل والعبودية لله ـ تعالى ـ في الحالة الثانية) ولذلك كان تذكير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصحيحه بأنه هو أول من يتمثل هذه الثوابت ويحميها: «ومن يعدل إن لم أعدل؟»، «أوَلست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟».
وتتسع هذه الحريات (حرية الرأي وحرية التعبير) كلما تأكد استظلالها بمظلة هذه الثوابت، حتى ولو أدت إلى (اختلاف) و (تنوع) و (تعدد)، وفي اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ومَنْ بعدهم من مدارس فقهية ومناهج كلامية ما يتعذر حصره في هذا الصدد.
وهنا نقطة جديرة بالذكر، وهي: أن التاريخ يشهد بأن مساحة (التنوع) و (حرية الرأي الآخر) و (حرية التعبير) كانت دائماً في أقصى مداها في ظل السيادة الثقافية والسياسية لأهل السنة والجماعة، بينما كانت هذه المساحة تتقلص دائماً - وأحياناً إلى حد الاختناق - مع تملك الفرق الأخرى لأزِمَّة الأمور، ومحنة خلق القرآن التي أراد فيها المعتزلة (أهل العقل) امتحان الأمة وحملها فرداً فرداً على اعتناق رأيها في هذه المسألة العقدية.. خير شاهد على ذلك.
وعلى النسق نفسه ينتظم حق تكوين الأحزاب والتكتلات؛ فمانعو الزكاة وأتباع مسيلمة الكذاب كوَّنوا تكتلات بناءً على (آراء) تبنوها، ولكن لما كانت هذه الآراء مصادمة لثوابت المجتمع ومقدساته لم يكن لها مكان في هذا المجتمع؛ فكان الصدام معها والقضاء عليها واستئصال آرائها، بخلاف الخوارج الذين تكتلوا على (رأي) أيضاً؛ فلم يقاتَلوا ابتداءً، بل لم يقاتلوا إلا عندما نابذوا الدولة الإسلامية بالقتال، فقوتلوا على جريمتهم السياسية وليس على آرائهم، واستمرت آراؤهم سيارة بعد ذلك في أتباع مذهبهم، يشملهم الانتساب إلى عموم الأمة بمصطلح (أهل القبلة)، وكذلك التكتلات الفكرية الأخرى، بل والتكتلات الاجتماعية كالقبائل، بل كالمهاجرين والأنصار، وهي تكتلات كانت مكونة تحت لواء (انتماء) وليس تحت راية (ولاء) الذي ظل دوماً معقوداً للقيم والمقدسات العليا في المجتمع الإسلامي.
فهل بعد ذلك يمكن القول إن الإسلام يدعو إلى الحريات والحقوق كما تدعو إليها الليبرالية، ويمكن الجمع بينهما بلا غضاضة؟.. أم أن إضافة الليبرالية إلى الإسلام ليست إضافة بيان أو ترادف، بل لإكمال نقص وسد خَلة في الإسلام؟
نبرئ إخواننا أن يكون ذلك قولهم..
مجلة البيان
============(31/162)
(31/163)
التقيّة الليبرالية .!!!
بسم الله الرحمن الرحيم
الليبرالية ,فكرٌ وُلد سفاحا لأبٍ غير شرعي ,فبين ليلة وضحاها ,ترعرع هذا " اللقيط" بيننا فلما بلغ الفطام لعق الفسوق لعقا حتى بلغ من المجون عتيا .!!!
هؤلاء المناضلون على ضفاف نهر العهر والتحرر رفعوا شعار المرأة ,ليس من أجلها , ولكن من أجلهم هم , فنزواتهم لايشبعها إلا جسم عارٍ, ووجه سافر , ورقصٍ على إيقاع الشيطان ,يريدونها عوجا وتأبى إلا أن تكون في نحورهم ,لطموا الخدود من أجلها ,وشقوا الجيوب حزنا على حجابها الذي أبت أن تنزعه ,فرموها بالتبعية ,فلما الجمتهم رموها بالتطرف ..ولازالت حربهم فرٌ ثم فرّ .!!!
رفعوا شعار الوطن أولا ,ولاندري أي وطنٍ يقصدون .؟ وأي وطنية يقصدونها ,إنه الوطن الذي أدلوا بشهاداتهم ضده في جلسات "الكونغرس" ,إنه الوطن الذي يتمنون أن يندخلوه فاتحين على ظهور الدبابات الأمريكية , إنه الوطن الذي يتمنون تطهيره من ذوي اللحى ,وأصحاب الدين أولا .!!!
هؤلاء المناضلون على ضفاف نهر "الآخر" هم أكثر من بكى وتباكى مما يعانونه من إقصاءٍ من التيار "الديني " ونسوا وتناسوا أنهم علامة مسجلة في الإقصاء والتأليب على ابناء الوطن ,اليسوا هم الذين جيشوا صحفهم لمحاربة المخيمات الدعوية لأنها تفرّخ الإرهاب _بزعمه_ اليسوا هم من شنوا هجومهم على منابر الجمعة .؟اليسوا هم من حارب "هيئة" الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنها فضحت سفورهم ,وحرمتهم من كؤوس خمورهم .؟!!!
هؤلاء المناضلون على ضفاف نهر تغريب الأمة بعد أن خسروا عشرات المعارك فتحوا جبهة جديدة ولكن هذه المرة ضد "مناهجنا" التعليمية فقام أحد صناديدهم بحملة "تمشيط" لمناهجنا الدراسية فخرج علينا باكيا متباكيا بأن ليست المناهج الدينية وحدها التي تدعوا للتطرف ,بل حتى مناهج اللغة العربية واستشهد بعشرات الأمثلة ضمنها بآيات قرءانية ,قلت أخرس الله لسانك ,وكفانا شرك ومكرك .
خرج علينا الليبراليون اليوم بأقلامهم المسمومة , وفكرهم الأعوج فبانت سوأتهم ,ولم يعد لديهم ما يستترون به , فلاذوا بكبيرهم الذي علمهم الرقص على جروح الوطن ,فأوصاهم بالتقية , نعم إنها تقية ,ولكنها تقيةٌ ليبرالية , فهم يتملّقون الدولة في الرخاء ويلعنونها في الشدة .!!!
دمتم في رعاية الله .
=================(31/164)
(31/165)
أيها الليبراليون .. وإنَّ لكم في الاقتصاد لعبرة !
بقلم عبدالله الخزمري
تتناقل وسائل الإعلام هذه الأيام عزم كثيرٍ من البنوك الأمريكية فتح نوافذ للتمويل الإسلامي تلبية لرغبات عملائها المتزايدة للتمويل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية
إذاً، لم تعد الحاجة لفتح نوافذ إسلامية للتمويل والمتاجرة مقتصرةًً على البلاد الإسلامية وإنما تجاوزتها لفتح معاملات مصرفية إسلامية في بنوك غربية تعمل في مجتمعات ليبرالية خالصة .
مثل هذه التجربة الثرة والغنية يجب ألا نغفلها وأن نثير النقاش حول دلالاتها وإيحآتها الفكرية والسياسية والاجتماعية. فكما يعلم الجميع أن عمر المعاملات المصرفية في البنوك وشركات التمويل لا يتجاوز عقدين الى ثلاثة عقود من الزمن . وقد كان الاقتصاديون ينظرون بتحفظ كبير إلى نجاح فكرة ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي جهلاً منهم بغزارة البدائل الإسلامية حيناً وانحرافاً فكرياً ومنهجياً أحياناً أخرى .
وقد ترتب على هذه النظرة السوداوية قيام البنوك في فترة الستينات والسبعينات في مجملها على نظام المصرفية الرأسمالية المعروفة والتي تعتمد الفائدة " الربا" وسيلة للإقراض أو الاقتراض متجاهلة النصوص الكثيرة والمتوافرة والدالة على حرمة هذه المعاملات وخطرها على الفرد والمجتمع، بل ومتجاهلة رفض المجتمعات الإسلامية لهذه المعاملات وهروبها منها .
استطاعت بعض الشركات والمصارف قراءة الواقع قراءة صحيحة فتلمست تطلع شريحة كبيرة من الناس إلى البديل الإسلامي فقامت بإنشاء مصرفية إسلامية بأسلوب عصري يستفيد من التقدم التكنولوجي والمعطيات الاقتصادية ويتوافق في الجانب الأخر مع الضوابط الإسلامية التي وردت بها النصوص وأجمع عليها علماء الأمة . ولم تكن دهشة المتابعين فقط من كثرة البدائل والحلول الإسلامية بل ومن سرعة نجاح تلك الحلول والبدائل وتفوقها على بدائلها التقليدية .
أما أرباح و نتائج المصارف الإسلامية ونجاحاتها المتتالية في كل برامجها وأفكارها الخلاقة فقد أصبحت حديث كل الاقتصاديين محلياً وعالمياً بالرغم من حداثة التجربة وقلة الموارد . وكنتيجة طبيعية لهذا النجاح بدأ العديد من البنوك والمصارف العربية والخليجية تحديداً فتح نوافذ استثمارية وتمويلية إسلامية ولحق بها بعد ذلك الكثير من المصارف العالمية .
ويجب أن ننبه هنا إلى نقطة مهمة في هذا السياق ألا وهي أن الوعي الشرعي والاستثماري المتنامي لدى المجتمعات الإسلامية أصبح يفرق وبشكل واضح بين بنك وأخر حتى ولو كانا يقدمان نفس الخدمات الاستثمارية الشرعية وبدأت مطالبة من نوع جديد وهي أن تقيم البنوك وشركات التمويل هيئات شرعية محترمة من الجمهور ليس لوضع الضوابط الشرعية للمعاملات المختلفة فقط وإنما أيضاً للرقابة الفعلية على مدى جدية البنك في تطبيقه لهذه الضوابط ورصد التجاوزات وتصحيح الأخطاء متى وجدت .
أيها السادة : إن هذا النجاح يوصلنا إلى حقيقة دامغة وهي أن الشعوب الإسلامية رفضت رفضاً مطلقاً منطلقات الليبرالية الاقتصادية استجابة لأمر الله وأمر رسوله وتحملت جراء ذلك الكثير من العنت والتعب حتى فرضت قناعتها على النخب الاقتصادية المثقفة والتكتلات الاقتصادية وأجبرت المصارف للتحول ولو تدريجياً إلى المصرفية الإسلامية بما تحمله من تميزٍ ونجاح أثبتته النتائج الرائعة التي ينعم بها كلا الطرفين المصارف ودور التمويل في جانب والمسلم الذي أصبح ينام مرتاح الضمير قرير العين بعيداً عن ظلال الرهبة من الحرب التي كانت تعلنها تلك القلاع على الله في الجانب الأخر .
كانت هذه ليبرالية الاقتصاديين وكيف تحولت مع الوقت إلى مثلبة وعيب تتبرأ منه البنوك يوماً بعد أخر حتى أصبح رؤساء البنوك والمسؤلون فيها يؤكدون أنهم لا يكتفون بتقديم البديل الإسلامي فقط وإنما يعينون هيئات شرعية في بنوكهم لتأخذ على أيديهم إن هم أخطأوا أو تجاوزوا الخطوط الحمراء؛ بل ودفع هذا الضغط الشعبي الكثير من البنوك إلى أن تتحول بكامل معاملاتها إلى البدائل الشرعية لتحضى بجزءٍ من الكعكة التي تقدمها الشعوب لكل من يتوافق عمله مع معتقدات هذه الشعوب وأفكارها وسلوكها .
ويبقى السؤال الآن : هل يعي دعاة الليبرالية سياسياً واجتماعياً فداحة الخطأ الذي يرتكبونه في حق وجودهم وشعبيتهم، وهل لهم أن ينظروا إلى هذه التجربة بعين المعتبر بغيره.؟! فإن كانوا يريدون أن يكون لهم موطأ قدم في مجتمعاتنا الإسلامية فليقيموا برامجهم وفق الضوابط الشرعية ومن يدري فقد نحتاج في يومٍ من الأيام لمطالبتهم ليس فقط بأن تكون منطلقاتهم شرعية وإنما ليكون لديهم هيئات للرقابة الشرعية حتى تطمئن قلوبنا إلى أن ما يدعون إليه من برامج إصلاحية مزعومة منسجمة فكراً وسلوكاً مع معتقدات الأمة وثوابتها .
فكم من مدعٍ وصلاً بليلى .... ولكن.... هل تقر لهم ليلى بذاك .
وان كانت ليلى لا تستطيع الآن لسبب أو لأخر أن تبدي وجهة نظرها في أدعياء الحب فلا نشك بأنها ستستطيع ذلك !
=============(31/166)
(31/167)
ما معنى "الدين لله" و"الوطن للجميع"
كثيرا ما نسمع من يخرج علينا فى الصحافه أو الأعلام ليقول لنا "الدين لله" و"الوطن للجميع"
وأنا لا أستنكر الكلمه أكثر من أنى لا أفهم معناها
ما معنى "الدين لله" و"الوطن للجميع"
أنا اعلم أن الدين لله
لكن ما معنى الوطن للجميع
من هم الجميع؟!!!..... الأسلام يعلمنا أن الجميع ملك الله...وبالتالى الوطن لله
أنهم جعلوا الدين لله....ثم فصلوا الوطن عن الدين
هل هو خوف على الوطن من الدين
أم خوف عليه من الله
أتمنى أن أفهم...............!!!!!!!!!!!!!!
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخي الفاضل يجب أن نعلم جميعاً أن:
الدين لله والوطن لله
له مافي السموات ومافي الأرض
أما بالنسبة للأبعاد التي يقصدها من روج للمقولة والشعار الذي ذكرته فسأنقل لك ما أورده الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه ((كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة )):
1- قال الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في معرض الحديث عن مثالب الديمقراطية في الحقوق والحريات :
إن الديمقراطية باعتبارها تنادي بأن الدين لله والوطن للجميع ، وأن شأن الأقليات في الدولة كشأن الأكثرية في الحقوق والواجبات ، تمكن الأقليات من التكاتف والتناصر ، لاستغلال الوضع الديمقراطي ، ضد الأكثرية ومبادئها وعقائدها ودينها . وتمكنها أيضاً من التسلل إلى مراكز القوة في البلاد ، ثم إلى طرد عناصر الأكثرية رويداً رويداً من هذه المراكز ، بوسائل الإغراء ، وبالتساعد والتساند مع الدول الخارجية المرتبطة بالأقليات ارتباطاً عقدياً أو مذهبياً أو سياسياً أو قومياً ، أو غير ذلك .
وتصحو الأكثرية من سباتها بعد حين ، لتجد نفسها تحت براثن الأقلية ، محكومة حكماً ديكتاتورياً ثورياً من قبلها ، مع أنها لم تصل إلى السلطة إلا عن طريق الديمقراطية .
لقد كانت الديمقراطية بغلة ذلولاً أوصلت أعداء الأكثرية وحسادها والمتربصين الدوائر بها ، إلى عربة ثيران ديكتاتورية الأقلية .
*** *** ***
2-وقال في مبحث آخر عن الوطنية:
وبالمفهوم المعاصر للوطنية الذي روّجه الطامعون بسلخ المسلمين من حقوقهم في السيادة على الأوطان الإسلامية ، اتسع شعار الوطنية ، حتى صار في المفهوم الشائع يضم كل سكان الوطن الواحد ، ولو كانوا في الأصل نزلاء ، أو ضيوفه ، أو مقيمين فيه ، بعهد أو أمان أو ذمة .
وبهذا التوسيع المقصود الذي يراد به كيد المسلمين مالكي الأوطان الحقيقيين ، غدا هؤلاء النزلاء والضيوف المقيمون بعهد أو أمان أو ذمة لهم في الملكية العامة للوطن حقوق متساوية لحقوق مالكيه الأصليين .
وبمكر مدبر انطلقت عبارة : "الدين لله والوطن للجميع" . وأطلق مروجو شعار الوطنية بين المسلمين حديثاً لا أصل له ، نسبوه إلى النبي، وهو : "حب الوطن من الإيمان" .
وهذا التوسيع في حق الملكية العامة المشاعة للوطن ، جر إلى التسليم بحق الجميع في إدارته السياسية .
ولما كان هؤلاء الجميع مختلفي الأديان والمبادئ والعقائد ، وقد صار لهم جميعاً الحق في الإدارة السياسية للوطن الواحد ، بمقتضى مكيدة الزحف الانتقالي من فكرة إلى فكرة ، كان لا بد من اللجوء إلى مكيدة أخرى ، هي المناداة بفصل الدين عن السياسة ، والمناداة بعلمانية الدولة .
ثمّ إن الأخذ بعلمانية الدولة التي تتضمن إبعاد الدين عن الإدارة السياسية لبلاد المسلمين وأوطانهم ، قد مكّن الطوائف غير المسلمة فيها من الوصول إلى مراكز الإدارة السياسية ، والقوة العسكرية ، حتى مستوى القمة أو قريباً منها .
وتدخلت ألاعيب كيدية كثيرة خارجية وداخلية معادية للإسلام والمسلمين ، في تهيئة الظروف السياسية ، وتقبلت جماهير المسلمين ذلك ببراءة وغفلة وحسن نية ، وكان بعض قادتهم السياسيين والعسكريين وغيرهم عملاء وأجراء لأعدائهم .
ثمّ لما تمكنت هذه الطوائف غير المسلمة من القوى الفعالة داخل بعض بلاد المسلمين ، كشفت الأقنعة عن وجوهها التي كانت تخادع بها ، وتدّعي الإخاء الوطني ، وصارت تدعي أن الوطن لها ، وأخذت تنبش الدفائن لتستخرج مزاعم تاريخية قديمة ، سابقة للفتح الإسلامي ، وهذه المزاعم لا أساس لها من الصحة .
ثمّ أخذت تفرض سلطانها بالقوة في هذه البلاد ، مؤيَّدةً من الدول الكبرى المعادية للإسلام والمسلمين ، وحارب الأكثرية المسلمة بضراوة وحق ، وأخذت تحرمها من حقوقها في أوطانها ، حتى جعلتها بمثابة أقليات مستضعفة .
ونسفت الطوائف غير المسلمة بعد تمكنها أفكار الحق الوطني القائم على العلمانية نسفاً ، ونسفت الإخاء الوطني ، وأظهرت تعصبها الطائفي المقيت ، القائم على الانتماء لأديانها وعقائدها التقليدية الموروثة .
وكانت لعبة شعار الوطنية مكيدة انخدع بها جمع غفير من المسلمين ببراءة وسلامة صدر ، حتى استلّ أعداؤهم منهم معظم حقوقهم ، ومعظم مقدّراتهم .اهـ
==============(31/168)
(31/169)
الحرية..والليبرالية ( سؤال وجواب ) للشيخ سعيد الغامدي !
بسم الله الرحمن الرحيم .
السؤال :
أحد الإخوة طرح القضية التالية، وهي: أن الفكر الليبرالي هو الفكر الوحيد القادر على مواجهة تحديات العصر الحالي، وخلاصة قوله أن ما تدعو إليه الليبرالية من أن الحرية الشخصية هي أساس كل شيء، وأن من كان يريد أن يصلي فليصلِ، ومن يريد أن يصوم فليصم، فالعبادة بينه وبين ربه!!! ومن أرادت الحجاب فلتتحجب! ومن لا تريد فتلك حرية شخصية! عندما حصرت له المثال في نطاق عائلته! قلت له: عندي لك حالة: إذا كان أبوك يؤمن بالفكر الليبرالي ويسمح لأختك بالخروج عارية الرأس والقدمين واليدين! وتمارس أنواع التبرج والسفور، وتقابل الشبان هنا، وتتعشى مع فلان هناك، وتنصح أباك ولكنه لا يعتبر، ويرى أن هذه حريتها! ماذا ستفعل؟ أجاب: أنا لا أرضى لها هذا، ولكن ما دام أبي يسمح لها فلا يد لي عليها! إلا النصيحة! قلت وإن لم تستجب! قال هي حرة إذاً. فكان ردي بأن الدين لا يسمح! ولك اليد الآن أن تمنعها بيدك عن المنكر الذي تقوم به، ما دام أبوك قد فقد مؤهلاته الإسلامية عليها، وخالف صريح القرآن "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى.."، فاستطرد علي بأني مخطئ، ولا يحق لي بالدين منعها، ما دام أبوه معجباً بما هي عليه.
فسؤالي الآن: هل يعطي الإسلام الصلاحية للأخ على ضبط أخته إذا فقد الأب مؤهلاته وعارض الدين؟ وهل الصلاحية هذه مباشرة يأخذها متى سقطت صلاحية الأب أم لا بد من الرجوع للمحاكم وأخذ الصلاحية؟ إنه من المحزن أن نرى في هذا الزمان من يرضى هذا لأهله، فإنه يوجد الكثير ممن يسمح بهذا لأهله!
وآسف على الإطالة.
الجواب :
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا خليل الله محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
الفكر الليبرالي فكر أرضي مادي شهواني، أعده قوم لا يرجون لله وقاراً، ولا يحترمون أنبياء الله ولا يعظمون وحيه المعصوم، وجذور هذا الفكر تستند إلى قاعدة مادية إلحادية مفادها (أن الحياة والكون والإنسان كلها مستقلة بذاتها ليست في حاجة إلى إله) وعلى ذلك وضعوا مبدأً يقول بألوهية الإنسان، وأنسنة الإله، أي أن الإنسان أصبح إله نفسه، وإن الإله قد تحول إلى إنسان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وبناءً على ذلك قرروا أن الإنسان له الحرية المطلقة في اعتقاداته وأعماله وسلوكياته وتصرفاته، وهذا ما يسمونه " بالليبرالية" و"العلمانية" التي تعني "اللادينية"، وهذا مصداق قول الله تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" [الفرقان: 44].
ورغم هذه الدعوى العريضة التي يدعيها الليبراليون في الحرية المطلقة، فإننا نجد أنهم يفعلون ذلك فيما يتعلق بالأخلاق والأديان، انفكاكاً من تأثيرها وابتعاداً عن مضمونها ومقتضياتها، ولكنهم- في الوقت نفسه- يفرضون على الناس قيوداً تحد من حريتهم وتقلص من اختيارهم، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر، أن الليبرالية في بلاد الغرب (أوروبا وأمريكا) يمنعون أي انتقاد لليهود وأي مناقشة لمزاعمهم التاريخية في الحرق والإبادة، ويعتبرون من يفعل ذلك (معاد للسامية) ويستحق العقوبة، وتستحق كتبه المصادرة والإتلاف.
ويمنعون الحديث الصريح والمكشوف عن الجرائم الأمريكية التي تمارسها ضد المسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها، ويعتبرون ذلك مخالفاً لمصالحهم العليا، وفصل الصحفي الأمريكي الشهير الذي تحدث عن جرائم أمريكا في العراق من أوضح الأدلة على حريتهم وليبراليتهم المزعومة.
فأين هي الليبرالية؟ وأين هي الحرية المطلقة؟ التي يحاولون ترويجها بمعسول الكلام، ومخادعة العقول.
ومما يؤسف أن هذه الدعوة الفاجرة وجدت آذاناً صاغية في عقول وقلوب بعض أبناء المسلمين قليلي العلم وضعيفي الإيمان، قاصري العقول من الذين انبهروا بالغرب وتقاليده وغشيت بصائرهم عن حقائق دين الإسلام وما فيه من خير ونفع ومصلحة.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أنه ما من شيء أمر الله به إلا وهو يحبه ويرضاه، وفيه مصلحة للخلق ونفع، وتنفيذه يجلب الخير والسعادة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع.
وما من شيء نهى الله عنه إلا وهو يكرهه ويبغضه، وفيه مفسدة للخلق ومضرة، وارتكابه يجلب الشر والتعاسة في الدنيا والآخرة للفرد والمجتمع.
ومقتضى كون المسلم مسلماً أن يستسلم لأمر الله ونهيه بغير تردد ولا حرج، كما قال تعالى:"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" [الأحزاب: 36].
بل لا يكون المرء مسلماً إلا باتباعه أمر الله، والتزامه بشريعته وحكمه في كل قضية من القضايا، كما قال تعالى:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً فيما قضيت ويسلموا تسليماً" [النساء: 65].
ومن يدعي أن الفكر الليبرالي حرية، وأن الإسلام نقيض الحرية فهو ظالم جاهل.
(1) ظالم لأنه لم يعرف الإسلام، فحكم عليه بهذا الحكم الجائر، المخالف للواقع، وظالم لنفسه لأنه بمثل هذا المعتقد يصل إلى دركات من الإثم خطيرة عليه في آخرته0(31/170)
(2) وجاهل لأنه لم يعرف الإسلام حق المعرفة، ولم يعرف الليبرالية والعلمانية حق المعرفة.
فمن عرف الإسلام معرفة حقيقية عرف كم فيه من خير ومصلحة للبشرية، وعرف كم في خلافه من شر ومفسدة وبلاء وفتنة، لا يمكن أن يفضل الليبرالية الأرضية الجاهلية على دين الإسلام الرباني المحكم.
والزعم بأن الحرية الشخصية أساس في كل شيء، من كان يريد أن يصلي فليصل، ومن يريد أن يصوم فليصم، ومن أرادت الحجاب فلتتحجب، ومن لا تريد فتلك حرية شخصية.
قد يقال هذا في حق من لم يدخل في الإسلام ولم ينتسب إليه، أما من دخل في دين الإسلام فإنه يجب عليه أن يلتزم بأوامره ونواهيه وأحكامه وتشريعاته.
وأضرب لذلك مثلاً برجل طلب الانتساب الوظيفي إلى شركة فأعطوه شروط القبول والعضوية في هذه الشركة، ومنها أن يلتزم بالحضور في الساعة السابعة صباحاً ويبقى إلى الثانية ظهراً،وأن يلبس زياً معيناً، وأن يتقيد بأنظمة وتعليمات الشركة ويلتزم بتوجيهاتها ويحرص على مصالحها. فقبل هذه الشروط وانضم إلى هذه الشركة، ولكنه بعد حين صار يحضر التاسعة صباحاً وينصرف الواحدة ظهراً،ويلبس زيا غير زي الشركة، ويذهب إلى مكتب غير مكتبه ويخالف توجيهات الشركة وأنظمتها، ماذا سيكون حاله؟
سيطرد حتماً من الشركة شر طردة، ويخرج منها مذموماً مدحوراً.
ولن يلوم أحد هذه الشركة في تعاملها مع هذا العضو المهمل المخالف للأوامر والتعليمات، ولن يجدي معه أن يقول أنا حر أتصرف كما أريد وليس لأحد علي أمر، بل أنا أمارس الحرية الشخصية والليبرالية الذاتية!!
ولن يقبل أحد هذه الحجة، ولن تشفع له هذه الدعاوى، ولن تجديه شيئاً عند كل عقلاء الأرض.
وكذلك الإسلام هو نظام وأوامر ونواهي وتعليمات فردية وجماعية اعتقادية وتشريعية وأخلاقية، وليس لأحد من المنتسبين إليه أن يقول أنا حر أفعل ما أريد، أو فلان حر يفعل ما يريد، فما دام قد انتسب إلى الإسلام وانتمى إليه فيجب عليه أن يلتزم بتعاليمه ويستمسك بأحكامه.
أما إنكار الأخ المنكر الذي وقعت فيه شقيقته المتبرجة فهو واجب شرعي باللسان أولاً وباليد إن كانت له طاقة بذلك، كما يجب عليه أن ينكر على والده الذي يسمح لبنته بممارسة المنكر ومخالطة الفساد وأهله0
وأرى على الأخ السائل قبل إنكار منكر تبرجها وسفورها وتقابلها مع الشباب وإنكار منكر تساهل الأب ، أن يوجههم وينصح لهم، وأن يغرس في قلوبهم معاني الإيمان الأساسية، فإن هذه الأعمال لا تصدر من قلب معمور بالإيمان، ولا من نفس تخاف من الله وترجو ثوابه وتخشى عقابه، بل الغالب على هذا الصنف من الناس الغفلة والجهل واتباع الهوى، والركون إلى الدنيا وشهواتها، وإيثارها على الآخرة.
فوجب إصلاح هذا الخلل العظيم، وغرس المعاني الأولية في القلب، وبالذات غرس معاني حب الله تعالى وحب دينه وحب نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والخوف من الله والرجاء فيما عنده.
فمتى استقامت هذه المعاني في القلب استقامت الأعمال وتوجهت بوصلة النفس نحو ما يرضي الله تعالى بشكل تلقائي، ومن الأمور التي تعين على ذلك: معرفة مفاتيح القلوب وأوقات إقبالها، والمناسبات التي تتوجه فيها النفوس إلى الله تعالى.
أما الحكم الفقهي في كون الأخ يتولى أمر أخته إذا فقد الأب أهليته، فإن له ذلك بحكم القاضي الشرعي الذي يحكم بشريعة الإسلام.
لأن إسقاط الولاية عن الأب والحكم بها لأحد المحارم غيره أمر كبير وشأن عظيم، لا يتم بمجرد دعوى الابن أو بمجرد وقوع الأب في بعض المعاصي، أو تفوهه في حال الغضب ببعض الأقوال.
لكن إذا ثبت عند القاضي الشرعي دياثة الأب أو فقده العقل أو فساد دينه، وجب عليه أن ينزع عنه الولاية على المحارم، ويضعها عند من يؤمن دينه وخلقه من الرجال المحارم.
و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الحالة قائم بحسب المستطاع من غير حاجة إلى حكم قاضٍ ولا رفع ولاية الأب،شريطة أن يتم ذلك وفق ضوابط وآداب الشريعة الإسلامية لتحصل بذلك الفائدة المرجوة ويندفع الفساد أو يقل ، والله المستعان وهو ولي التوفيق0 و صلى الله على نبينا محمد وآله وسلم0
المجيب :
د.سعيد بن ناصر الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
=============(31/171)
(31/172)
التجديد ... حينما يفقد مساره ! (1/2)
بقلم عبدالله بن محمد المالكي
في خضم الجدال الواسع في الساحة الثقافية؛ حول قضية (تجديد الخطاب الديني)، نجد بين الحين والآخر من يحاول أن يفسَّر الإسلام تفسيراً بعيداً عن المنهج العلمي المبنيِّ على إجماع السلف وأصول الاستنباط وشروط الاجتهاد ومراعاة وحدة الأدلة الشرعية والمقاصد الكلية في الإسلام .
وإنما يحاول أنْ يبني قراءته من خلال منهجٍ عقليّ مجرَّدٍ عن الوحي، أو من خلال ذهنيةٍ منهزمة أمام ما أنتجته الثقافة الغربية، أو بناءً على قناعةٍ فكريِّة غالباً ما تكون من مخلَّفاتِ الاستشراق؛ مما يجعله يتخبَّط تخبُّطاً واضحاً وينْحَرفُ انحرافاً شديداً في فهم الإسلام .
ولا شكَّ أنَّ هذا المنهج غير العلميِّ (المنحرف) في فهم الإسلام، كان له أثرٌ سلبيٌّ في محاولة تجديد الخطاب الدينيِّ المعاصر، وإحياءِه وبعثِه في الأمة، حتى أصبح مصطلح (التجديد) مرادفاً لمصطلح (التبديل) و (التحريف)؛ نتيجةً لتلك الاتجاهات الفكرية المنحرفة التي قامت عليها عملية التجديد .
والمتأمل في حركة التجديد منذ بداية الفكر الإسلامي المعاصر(1) ؛ يجد أنها انطلقت بعد صدمة حضارية أُصيبَ بها العقل المسلم في بداية القرن الماضي نتيجةً للانبهار لما وصل إليه الغرب من التقدم العلميِّ والصناعيِّ والعسكريِّ مقارنةً لما وصلت إليه الأمة من حالة الجمود والضعف والتخلف .
وهنا تكمن المشكلة ! أي: عندما يكون التجديد ردّةَ فعلٍ لما وصل إليه الغرب .
وذلك لأن الذي يقوم بعملية التجديد - في حالةٍ كهذه - سيكون مسْتلَباً مِنْ قِبَل الغرب (المتحضِّر!)، ويكون هو المعيار الوحيد في تحديد مفهوم التقدم، ويكون هو المسيطر عليه في فهم الحضارة، وهذه هي الحالة التي اصطلح عليها ابنُ خَلْدون في نظريته الشهيرة، بـ (تقليد الغالب للمغلوب)، حينما قال: "إن المغلوب مولعٌ أبداً بالإقتداء بالغالب في شعاره وزِيِّه وسائر أحوله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه" (2) .
ولا شك أن هذا الاعتقاد بالكمال في حضارة الغالب نجده واضحاً في كثيرٍ من أدبيات المثقفين العرب، منذ بداية هذا القرن الماضي، الذين دائماً ما يبشِّرون بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوربا، وبالمناهج الوضعية الغربية في العلوم والآداب والفلسفة دون وعي أو معيار ديني . ففي بداية القرن الماضي كان يقول (طه حسين): "إنَّ سبيل النهضة واضحةٌ مستقيمةٌ ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أنْ نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون لهدم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرِها وشرِّها، حُلوِها ومُرِّها، وما يُحَبّ منها وما يُكره، وما يُحْمد منها وما يُعاب" (3) . وهذه النص واضح لا تأويل فيه: (شرها) و (مرها) و (ما يكره) و (ما يعاب) هو سبيل النهضة كما يراه (أستاذ الجيل!) .
وهذه العقدة ما زالت منتشرة - في الوقت الحاضر - بين كثير من المثقفين العرب الذين يريدون أن يمارسوا عملية (التجديد) من خلال هذه النفسية المريضة بـ (الغرب!)، والدكتور نصر أبو زيد (المحكوم عليه بالردة في مصر) يصلح أن يكون أنموذجاً على ذلك، فهو يؤكد بوضوح أنه لا يجوز الاكتفاء بنقل (المشترك الإنساني العام) من الحضارة لدى الغرب، كالآلة والتقنية والعلوم التجريبية ونحو ذلك، وإنما لابدَّ من أنْ نقوم بنقل العقلية الغربية قبل ذلك، وأنْ نتوسل إلى ثقافتهم . يقول في كتابه (الخطاب والتأويل) : "لقد تم تطبيق منهج الاستيراد خلال عقود طويلة، ولم ينجح لا في تأسيس مجتمع علمي، ولا في خلق مناخ للتفكير العلمي، والعلة في تقديري أننا نظرنا إلى تفوق الغرب بوصفه تفوقاً في العلم والتكنولوجيا وحدهما، دون مجال الفكر والفلسفة والثقافة والفنون، أي دون مجال النشاط الروحي !! ... إن الإنسان المنتج للعلم والتكنولوجيا هو الإنسان الذي تمَّ تكوينه معرفياً منذ الطفولة بتدريبه على أهمية إثارة الأسئلة، وتقليب الاحتمالات الممكنة، والاستعداد للتخلي عن قناعته إذا ثبت له عدم دقتها، والأهم من ذلك كله عدم قبول الرأي الشائع دون فحصٍ ونقد، إنه منهج الشك والمراجعة !! وإعادة النظر، لا منهج الإيمان الأعمى واليقين الزائف والطاعة والتقليد !!" (4) .
هذه هي أزمة هؤلاء المثقفين العرب في علاقتهم مع الغرب، فحتى نتطور ونملك التقنية والتكنولوجيا والاقتصاد القوي، يجب أن ننسلخ بالكلية من عقيدتنا وتراثنا وتاريخنا، وننتهج منهج الشكِّ والفوضى والعبثية الغربية .
وأعود فأقول: إنَّ المشكلة لم تكن في الانبهار والتأثر بالغرب فحسبْ، كما هو حال هؤلاء المثقفين، وإنما المشكلة - والعميقة - أنْ يُمَارَس تجديدُ الدين من خلال هذه النفسية المستلَبة والمنهزمة تجاه الغرب .
حينها يفقد (التجديد) مساره !(31/173)
لأننا حينئذٍ نبتعد كثيراً عن المفهوم الشرعي للتجديد، الذي يتخذ الدين أبرز مكوِّن للذات المسلمة وللحضارة الإسلامية عبر التاريخ، ومعياراً صارماً لمعرفة الصحيح والباطل، وقاعدةَ انطلاقٍ نحو التقدم والتحديث . وعندما نقول الدين فإنما نقصد الدين الذي عاشه صلى الله عليه وسلم وفهمه ومارسه أصحابه من بعده، لأن هذا الدين بمفهومه الأول - قبل الانحرافات أو الإضافات - كان هو العامل الأساسي والفاعل المؤثر في نهضت المسلمين الأوائل . ولذا يقول صلى الله عليه وسلم {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ...} [رواه البخاري ومسلم] والخيرة هنا مطلقة: خيرة الدين والفهم والفقه والمعرفة، وليس خيرة السلوك والأخلاق فحسبْ ! ويقول صلى الله عليه وسلم {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك . ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين، الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ} [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح] .
وحينما بدأ يتسرب إلى هذا المعيار (= الدين) الانحرافات وتتراكم عليه الإضافات البشرية (= البدعة) ويبتعد عن الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية؛ بدأ حينها الفساد والضعف والتخلف يتسرب إلى حياة المسلمين عبر التاريخ، وكلما زادت الانحرافات والتراكمات ... زاد الفساد والضعف والتخلف .
فيأتي حينئذٍ دور المجدِّد في إحياء الدين من جديد بتنقيته من البدع والخرافات ونقد الممارسات والمقالات البشرية المخالفة لصورة الدين الأولى في عهد تلك القرون المفضلة ... حتى يكون ربانياً خالصاً كما أنزل .
ولهذا كانت الحكمة الإلهية في وجود مجدد في كل رأس مئة سنة، مهمته الأساس: إعادة الأمة إلى المفهوم الصحيح للإسلام، وحينما تعود الأمة إلى دينها الصحيح سينقشع عنها غبار التخلف، ويشرق أمامها أنوار التقدم والحضارة . قال صلى الله عليه وسلم {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة، من يجدد لها دينها} [رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح] .
ولعل مقولة الإمام مالك - رحمه الله - التي وضَّح فيها المسار الصحيح لعملية التجديد والنهوض بالأمة عند أئمة السلف، تصلح أن تكون قاعدةً ينطلق من خلالها المصلحون والمجددون في هذا الزمان :
"لن يصلحَ آخرَ هذه الأمة إلا بما صَلُحَ به أولها، وما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً" (5) .
________________________
الهوامش :
(1) كثيرٌ من الباحثين يجعلون بداية ظهور المدرسة العقلية الحديثة المتمثلة في سيد خان الهندي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده هي بداية الفكر الإسلامي المعاصر وذلك نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين، وهذا الآراء - في الحقيقة - إنما تؤرخ المدرسة العقلية الحديثة وليس الفكر الإسلامي الأصيل، والتعبير لها بـ (الفكر الإسلامي) فيه تسامحاً؛ لأن الفكر الإسلامي هو امتداد لما كانت عليه الأمة في زمن القرون الثلاثة المفضلة من الفهم والممارسة، وأما المدرسة العقلية فقد ابتعدت كثيراً عن ذلك المفهوم، وفي تقرير ذلك بحثٌ ليس هذا موضعه .
(2) عبدالرحمن بن خَلْدون، المقدمة، (ص2) .
(3) طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، (2/28) .
(4) نصر حامد أبو زيد : الخطاب والتأويل، نشر المركز الثقافي المغربي، ص 239 .
(5) القاضي عياض: الشفا بحقوق المصطفى، (2/88) .
-------------------
إنَّ كشف معاني المصطلحات المتداولة وضبطها ورسم حدودها من أهم نشاطات البحث في الشأن الفكري بشكل خاص وفي الشأن المعرفي بشكل عام، وذلك للوصول إلى اتخاذ مواقف منضبطة تجاه المصطلح، واستعماله استعمالاً لا يتعارض مع مدلوله . وهو في ذات الوقت سياجٌ للحراك الفكري من الخلط والعبث، وحمايةٌ للعقل المسلم من الإرباك والفوضوى .
ذلك لأن عدم وضوح دلالة المصطلح يورِّثُ - أثناء استعماله - شيئاً من الضبابية الفكرية، والتميُّعِ العلمي، الأمر الذي يسمح (لقراصنة) الفكر من العلمانيين وأضرابهم من خطف ذلك المصطلح وتوظيفه توظيفاً غير نزيه، بعد إفراغ مضمونه من دلائله الشرعية، ثم تعبئته بالمضامين والتوجهات الغربية المنحرفة وتسريبها إلى العقل المسلم عبر ذلك المصطلح الذي قد يكون شرعياً في أصله .
والأمثلةٌ كثيرةٌ على ذلك، كالذي يحصل في هذه الأيام من الخلط بين مصطلح (الديموقراطية) بمفهومها العلماني و(الشورى) بمفهومها الإسلامي، وبين مصطلح (التعددية) بمفهومها الليبرالي و(الاختلاف) بمفهومه الشرعي، وبين مصطلح (التأويل) بمفهومه الباطني و(التأويل) بمفهومه القرآني، ونحو ذلك .(31/174)
والجدير بالذكر، أنَّ هذه الخلط الفكري مِنْ قبل أدعياء الثقافة والفكر ومِنْ بعض الصحفيين وكتاب الجرائد في عالمنا العربي هو في الحقيقة ليس من بنيِّات أفكارهم أو من قراءاتهم الخاصة في التراث، فهم أجهل الناس بالتراث وبالمصطلحات الشرعية، وإنما هو من مخرَّجات المدرسة الاستشراقية - قديماً - التي لم تكن محايدة ولا دقيقة في دراساتها وأبحاثها، فجاء المثقفون في عالمنا العربي وقاموا بسرقة تلك المخرجات كأنها نتاج للبحث والدراسة الذاتية !
وسرقة المثقفين العرب وتوسلهم إلى تراث المستشرقين في الدراسات الإسلامية قصةٌ أخرى ينبغي أنْ تروى في غير هذا المقام .
أعود فأقول: إنِّ مصطلح (التجديد) أصبح مثالاً لهذه المصطلحات التي تعرَّضت إلى كثيرٍ من الخلط والعبث الفكري، حيث استطاع ثلةٌ من العلمانيين الملحدين، ومن العصرانيين المنهزمين أمام الحضارة الغربية، أنْ يستغلوا هذا المصطلح استغلالاً غيرَ علمي ولا نزيه، بتفريغه من مضمونه الشرعي، وجعله غطاءً على (تحريف الدين) و (إبطال الشريعة)، حتى أصبح مصطلح (التجديد) يثير الريبة والتوجس والقلق بين عامة المسلمين .
أصالة مصطلح (التجديد):
إن مصطلح (التجديد) - في أصله - مصطلحٌ ديني، جاء ذكره في خطاب الشارع، وهو قبل ذلك لفظٌ عربي له مدلوله الخاص في لغة العرب، ومدلوله اللغوي متوافقٌ مع مدلوله الشرعي؛ كبقية المصطلحات الشرعية المتوافقة في دلالتها مع المعنى اللغوي (اشتراكاً أو تواطئاً)، كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك .
مفهوم التجديد في اللغة:
فالتجديد في لغة العرب كما تشير معاجم اللغة [1] : نقيض الخَلِق، أي: القديم، ويُقَال: جدَّد الشيء: صيِّره جديداً، أي: جعل القديم جديداً وأعاده إلى حالته الأولى، وجدَّد الثوب أي أعاده إلى أول أمره .
فالتجديد إذن في معناه اللغوي يتكوَّن من ثلاثة معانٍ متصلة، وهي:
1) أن الشيء المجدَّد قد كان في أول أمره موجوداً، وللناس به عهد .
2) أن هذا الشيء قد طرأ عليه ما غيره وأبلاه وصار قديماً .
3) أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أنْ يبلى ويخلق" [2] .
وفي القرآن الكريم جاء ذكر (التجديد) بمعنى الإحياء والبعث والإعادة، وهي معان تتفق مع المعنى اللغوي للتجديد، كما في قوله تعالى: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} (ق: 15)، وقوله: {أئنا لفي خلق جديد} (السجدة: 1)، قال ابن جرير: "منكرين قدرة الله على إعادتهم خلقاً جديداً بعد فنائهم وبلائهم" [3]، وهذا التفسير - كما ترى - منسجمٌ مع المعنى اللغوي للتجديد .
المفهوم الديني للتجديد:
إذا تقرر هذا؛ فحينها عندما يأتي مصطلح (التجديد) في خطاب الشارع، كما في حديث صلى الله عليه وسلم : (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [4]؛ فينبغي أنْ يُفهم على وفق مدلوله اللغوي، فيكون المقصود بـ (التجديد): "إعادة الدين (مفهوماً وممارسة) إلى صورته الأولى قبل التحريف والإضافة"؛ وهذا هو المعنى الشرعي الذي ينبغي أنْ يفهم من خلال هذا الحديث، وهو المعنى الذي ينسجم مع التصور الكلي للنصوص الأخرى في هذا الباب:
- كحديث: (يرث هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين) [5] .
- وحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [6] .
- وحديث: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين بغرسٍ يستعملهم في طاعته) [7] .
ونحو ذلك من النصوص التي تكوِّن في النهاية معنىً كلياً للمفهوم الشرعي لمصطلح (التجديد) .
ممارسة العلماء للتجديد بمفهومه الشرعي:
ولقد كانت ممارسة العلماء للتجديد عبر التاريخ على وفق هذا المفهوم، ولعلنا نستدعي هنا مقولة الإمام مالك التي ذكرناها في المقالة السابقة: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها، وما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً" [8]، وهذا هو المسار الصحيح لعملية التجديد والنهوض بالأمة عند أئمة السلف .
وإذا أردنا أن نستعرض أدوار المجددين في تاريخ الإسلام لطال بنا المقام، كدور التابعي الجليل الحسن البصري في تجديد الشعور الديني لدى عامة الناس، ودور الخليفة الراشدي عمر بن عبدالعزيز في تجديد السياسية الشرعية في الإسلام، ودور الإمام الشافعي في تجديد المنهج العلمي في باب الاجتهاد والاستدلال، ودور الإمام ابن تيمية في تجديد التصور السلفي الأصيل ونقد التصورات الفلسفية والكلامية المنحرفة، ودور الإمام محمد بن عبدالوهاب في تجديد حقيقة التوحيد ومحاربة الشرك الخرافة، وهكذا في سلسلة من أهل العلم الذين مارسوا التجديد بمفهومه الشرعي، مع مراعاة كل واحدٍ منهم حاجة الزمان والمكان .
يقول أبو الأعلى المودودي: "المجدِّد: كل من أحيا معالم الدين بعد طموسها، وجدَّد حَبْلَه بعد انتقاضه ... والتجديد في حقيقته: تنقية الإسلام من كل جزءٍ من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان"[9] .(31/175)
ويقول الشيخ القرضاوي: "إن التجديد لشيء ما: هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك بتقوية ما وهى منه، وترميم ما بلي، ورتق ما انفتق، حتى يعود إلى أقرب ما يكون إلى صورته الأولى ... فالتجديد ليس معناه تغيير طبيعة القديم، أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر، فهذا ليس من التجديد في شيء"[10] .
الممارسة المنحرفة لمصطلح التجديد:
ومع هذا الضبط والوضوح للمفهوم الشرعي لمصطلح "التجديد"، إلا أن الممارسة الثقافية والدينية لبعض دعاة التجديد في واقعنا المعاصر تختلف وتبتعد كثيراً عن هذا المفهوم، إذْ أنها تتوسل وتستدعي أثناء ممارستها للتجديد ممارسات أجنبية مختلفة عن طبيعة الموضوع (= الإسلام)، ولعل تلك الممارسات تجتمع في اتجاهات أربعة:
الاتجاه الأول:
وهو المتأثر في ممارسته بالحركة التجديدية الإصلاحية التي قامت في أوربا في بداية القرن الخامس عشر، والتي كانت تمارس نقد المسيحية الكاثوليكية آنذاك، وكان يقودها القس الألماني (مارتن لوثر)، وقد نتج عنها بعد ذلك قيام المذهب البروتستانتي، الذي - بلا شك - أحدث شرخاً كبيراً في الكيان الديني (الفاتيكاني) المتسلِّط في أوربا .
والحركة البروتستانتية وهي وإن كانت تدعوا إلى العودة إلى تعاليم (الآباء الأوائل) للنصرانية، ونقد المفهوم البدعي القائم للنصرانية المتمثل في قرارات المجامع الكنسية، إلا أن نقدها - في الحقيقة - لم يكن نقداً إيجابياً بناءً، بل كان نقداً هدميّاً فحسب، فلم يقدموا تصوراً صحيحاً وبديلاً للديانة المحرَّفة، وإنما قدموا تصوراً آخر لا يقلُّ انحرافاً عما قبله .
ونحن نعتقد جازمين أن الحركة البروتستانتية عاجزة عن ذلك (أي تقديم البديل)، لسببٍ بسيط، وهو فقد وغياب المرجعية الأولى للديانة النصرانية التي كان يمكن للبروتستانت وللإصلاحيين أن يقدموا من خلالها الصورة الصحيحة للديانة النصرانية .
وأقصد بالمرجعية الأولى: تراث نبيهم وتراث أصحابه الحواريين الذين اعتنقوا النصرانية الصحيحة التي أرادها الله، بل إن إنجيل المسيح الذي جاء به من عند الله = ضاع وفُقِدَ عبر التاريخ بإجماع الباحثين اللاهوتيين الغربيين، هذا إنْ صحَّ أنه جُمِع وكتب بالفعل . فضلاً عن تراثه أو تراث أصحابه .
إن تلك المرجعية الأولى هي الميزان الدقيق لمعرفة صحة أو بطلان جميع الأوضاع والممارسات التي كانت تمارسها النصرانية المتأخرة .
والحقيقة التي نعتقدها - نحن المسلمون - أن تلك المرجعية وإن ضاعت عبر التاريخ إلا أن جوهرها محفوظ في القرآن الكريم، وهو المصدر الإلهي الوحيد الذي لم تصل إليه يد التحريف والعبث .
أقول: بسبب ضياع وفقد تلك المرجعية، واستكبار النصارى عما هو موجود لدى المسلمين من الحق؛ تخبطت الحركة البروتستانتية في عملية التجديد تخبطاً كبيراً، ولم يقدموا سوى صورة جديدة للنصرانية المنحرفة .
ولذا فإن استلهام هذا التجربة الإصلاحية التي قامت بها الحركة البروتستانتية من قبل بعض المثقفين ودعاة التجديد في واقعنا الإسلامي = خطأ فادح، وسذاجةٌ في التفكير، وسوءُ فهمٍ لقراءة التاريخ، فالموضوع هنا يختلف اختلافاً كبيراً عن الموضوع هناك، فالإسلام هنا مرجعيته محفوظة، وتراث صلى الله عليه وسلم مدوَّن ومنقول إلينا بالسند الصحيح، وكذلك تراث أصحابه من بعده، بل وتراث أئمة الدين الكبار من التابعين وتابعيهم إلى زماننا . هذه المرجعية المحفوظة، هي التي أمكن من خلالها أنْ يقدم العلماء المجدِّودن عبر تاريخ الإسلام الصورة الصحيحة للإسلام .
الاتجاه الثاني:
ويسير عليه فريق من المثقفين العرب الذي تأثروا بالمذاهب المادية المنحرفة، كالماركسيين وأضرابهم، والذين كان "الدين" عقبةً أمام مشاريعهم الفكرية في المجتمعات الإسلامية، حيث عجزوا أن يمحوا آثاره من حياة الناس، وأدركوا أنَّ الإسلام متأصلٌ في قلوبهم .
فعمدوا حينها إلى مشروع وفاقي مع الإسلام (شكلياً)، فبدأوا أولاً بالإعلان أنهم وجدوا ضالتهم في هذا الدين، ثم قرروا بأن الإسلام لا يتعارض مع النظرية الماركسية، ثم ظهر بعد ذلك مصطلح (اليسار الإسلامي) ومصطلح (الإسلام الاشتراكي) .
والمتابع لهذا الاتجاه يجد أنه ينطلق في ممارسته (للتجديد) من خلال مسارين:
الأول: بالتوسل إلى التراث والبحث في داخله عن أي معنى يتوافق مع الماركسية، وذلك من خلال إبراز الرموز المنحرفة في التاريخ الإسلامي، أو الإشادة بالحركات الثورية الباطنية المتهمة بالزندقة .
الثاني: محاولة تفسير النصوص الشرعية والوقائع التاريخية تفسيراً مادياً بحتاً يتوافق مع النظرية الماركسية، وذلك تحت شعار (تجديد الخطاب الديني) .
ولعل المفكر اليساري "حسن حنفي"، و"الطيب تزيني"، و"محمود أمين العالم"، نماذج واضحة على هذا الاتجاه .(31/176)
وفي الحقيقة أن المقام لا يتسع لمناقشة هذا الاتجاه، ولكن لعلي أكتفي بالإشارة إلى أنَّ هذه الاتجاه لم يكن يمارس (التجديد) في حقيقة الأمر، وإنما مارس شيئاً أستطيع أن أسميه بـ (النفاق الفكري) أو (التزلف الفكري) أو (المداهنة الفكرية)، فبدل أن يكشف هذا الاتجاه عن مشروعه الحقيقي بشكل واضح لا ملابسة فيه، حتى يكون أمره بيِّناً لدى الطليعة من شباب مثقفي الأمة، فيدركوا المقاطعة الواضحة بينه وبين الإسلام ... بدل أن يقوم بذلك؛ أخذ في التمسُّحِ بعتبة الإسلام ومحاولة الولوج فيه والبحث في داخله عما يوافق مشروعه الفكري، وذلك عن طريق العبث بالنصوص الشرعية ومحاولة تفسيرها تفسيراً لا يمت إلى العلمية والموضوعية بصلة، وهذا كله تحت شعار (تجديد الخطاب الديني !!)، وهذا في الحقيقة أقرب إلى النفاق والتزلف منه إلى الوضوح في تبني الفكرة .
الاتجاه الثالث:
وهو ما أستطيع أن أسميه بالاتجاه "التبريري"، وذلك لكثرة تأويله للنصوص الدينية - خاصةً نصوص الأحكام - حتى تنسجم مع الواقع، خاصةً إذا كان النص ظني الدلالة ووقع الخلاف في دلالته، فبدل أن يجتهد أصحاب هذا الاتجاه في قراءة النص قراءة علمية على وفق المعايير الموضوعية عند علماء الأصول، بدل ذلك .. تتجه قراءتهم إلى تأويل النص تأويلاً ينسجم مع ظروف الواقع، تحت شعار (التجديد) .
فكأن الواقع هو المحور الثابت الذي يدور في فلكه النص، مع أن النص الديني في التصور الإسلامي هو المحور الثابت الذي يدور في فلكه ليس الواقع فحسب؛ بل الوجود بأكمله! قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك الله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام: 2) وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ...} (الأحزاب: 36) ولهذا عبَّر الفقهاء الأوائل بالقاعدة الشهيرة: (لا اجتهاد مع النص) .
وهذا الاتجاه يسير عليه جماعة من المنتسبين إلى العلم والفكر الإسلامي، الذين واجهوا الحضارة الغربية وما أفرزته من تقدم هائل في التقنية والمعرفة ومجالات الحضارة، والتي أدَّتْ إلى افتتان كثيرٍ من المسلمين بالغرب العلماني، واستيراد نظمه التعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحاكاته في أنماط الحياة وطريقة العيش، دون إفرازها وتنقيتها مما يخالف الشريعة، حتى تكونت مع الأيام فجوة كبيرة بين الشريعة وواقع المسلمين . فجاء هذا الاتجاه لردم هذه الفجوة؛ لكن ليس بإصلاح الواقع، وإنما بتأويل الشريعة حتى توافق ذلك الواقع .
ومشكلة هذا الاتجاه هي ذات المشكلة التي واجهت المتكلمين قديماً، فالمتكلمون قديماً كانوا يشعرون بإشكالٍ كبير عند تعارض العقل مع النقل في بعض المسائل الدينية، خاصةً في القضايا الإلهية .
علماً بأن هذا التعارض - في الحقيقة - ليس له وجودٌ في واقع الأمر، إنما هو موجودٌ في الأذهان، ولذا فهو نسبي يختلف من عقل إلى عقل، بخلاف النص الذي يمتاز بالثبات والحياد .
فبدل أن يتجه المتكلمون إلى درء تعارض العقل مع النقل بقدر المستطاع، أو اللجوء في نهاية الأمر إلى تحكيم النقل على العقل تعبداً لله تعالى، وتعظيماً للوحي الإلهي، واتهاماً للعقل البشري القاصر، مع الجزم بأن العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، لأن الله تعالى هو مصدر النقل وهو خالق العقل في نفس الوقت ... بدل أن يتجه المتكلمون إلى ذلك اتجهوا إلى تأويل النقل الصحيح حتى يتوافق مع ما يقوله العقل الذي قد يكون فاسداً في حقيقته، فحكَّموا العقل على النقل .
كذلك وقع العصرانيون في نفس الخطأ، عندما وجدوا أن الواقع في أغلبه يتعارض مع بعض النصوص الشرعية، فبدل أن يجتهدوا في إصلاح ذلك الواقع والقيام بواجب الدعوة ومحاولة تطبيق تلك النصوص في أرض الواقع؛ اتجهوا إلى تأويل تلك النصوص حتى تنسجم مع الواقع، بحجة أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ! وأنه عندما توجد (المصلحة!) فثمَّ شرع الله ! وأن الشريعة قامت على الرفق والتيسير ! ونحو ذلك من الحجج التي يُستدَل بها في غير مواضعها، وهذا كله تحت شعار (التجديد!) .
ولهذا فإن خطاب (التجديد) الذي يتبناه بعض الدعاة والمفكرين المتأثرين بهذا الاتجاه لم ينجح في إصلاح واقع المسلمين إصلاحاً حقيقياً، لأنه كان خطاباً تبريرياً للواقع وليس خطاباً تغييراً نهضوياً يقارب الفجوة بين الشريعة وواقع الناس، مما أدى إلى استمرار التخلف وترسيخ المشاكل والأمراض التي تعاني منها الأمة !
ويعتبر الشيخ محمد عبده، هو المؤسس الفعلي لهذه الاتجاه، والذي سمي فيما بعد بالاتجاه (العصراني) أو (التنويري)، وقد تأثر به جماعةٌ من الدعاة والمفكرين الإسلاميين، كالشيخ محمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وسليم العوا، وفهمي هويدي .
الاتجاه الرابع:(31/177)
وهو ما يسمى بـ(الإسلام الليبرالي) أو (الإسلام الأمريكي)، وهذا الاتجاه هو أحدث الاتجاهات ظهوراً في العالم الإسلامي وإن كان وجوده في أدبيات الفكر الإسلامي من قديم، ولعل الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - هو أول من تنبأ بظهور هذا الاتجاه وسطوته في الساحة الثقافية والإعلامية .
حيث ذكر الشيخ عبد الله عزام أن من مزايا سيد قطب الكثيرة: "نفاذ بصيرته وعمق نظره"، وفي هذا السياق يقول: "وكثيرًا ما كان سيد قطب يردد: (ستهب في المرحلة القادمة على المنطقة رياحٌ من الإسلام الأمريكي) وقد كان!" [11] .
فلما وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول كانت هي الانطلاقة الفعلية في ظهور هذا الاتجاه وانتشاره بشكل ملفت .
وخطورة هذا الاتجاه تكمن في قوته والدعم المادي الذي يلاقيه من قبل أقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى التمكين له في وسائل الإعلام المختلفة، بل هناك وسائل تعتبر الناطق الرسمي له، كقناة العربية، ومجموعة الأم بي سي، وقناة الحرة، وإذاعة سوا، وصحيفة الشرق الأوسط .
ونحن هنا إزاء ظاهرة فريدة، إذ تحول سؤال (التجديد) من مطلب داخلي تجسَّد على يد دعاة التجديد في العالم الإسلامي باختلاف توجهاتهم ومشاربهم، فرضه الواقع والانفتاح نحو الحضارة الغربية، تحول إلى مطلب خارجي من قبل (الاستعمار) ليصبح خطاباً إرغامياً إيديولوجياً من قبل القوى الأمريكية المتمثلة في حزب (المحافظين الجدد)، أو خطاباً ملحاً فيه شيء من التهذيب والمتمثل في القوى الليبرالية الأمريكية .
والاتجاه الأمريكي في ممارسة تجديد الخطاب الديني، يقوم على اعتبار المصالح الأمريكية بشكل أساس بغض النظر عن مصالح الأمة، ويتبلور مشروعه: في إيجاد خطاب ديني جديد ومعتدل حسب المنظور الأمريكي يتمشى مع المصالح والسياسات الأمريكية في المنطقة العربية، ويحل مشكلة ما يسمى بـ(الإسلام الأصولي) الذي ينزع إلى المقاومة ويؤمن بالجهاد كإحدى فرائض الإسلام الكبرى ويقف موقف الرفض للثقافة الغربية التي تصطدم مع الثقافة الإسلامية .
ولعل أهم الوسائل التي يمارسها هذا الاتجاه في عملية "التجديد" هي التلاعب بالمصطلحات الدينية، ومنها مصطلح (الإسلام المعتدل) أو (الوسطي) حيث أصبح هذا المصطلح ينتشر كثيراً في الأوساط الإعلامية وفي الخطاب الثقافي العربي، ويُقصَد به: الإسلام الذي ينسجم مع المصالح الأمريكية في المنطقة عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، وفي المقابل (الإسلام المتطرف) أو (المتشدد) ويراد به: المقاوم والممانع للسيطرة الأمريكية، مع أن (الاعتدال والتشدد) و (الوسط والتطرف) مفاهيم دينية خاصة لها مدلولاتها المحددة في الشريعة الإسلامية، إلا أنه بفضل الخطاب الليبرالي المتأسلم أصبحت تلك المفاهيم ذات مدلولات أمريكية بحتة .
ولعل المفكر المصري سعد الدين إبراهيم، وشاكر النابلسي، وهشام جعيط، وعبدالرحمن الراشد، وأحمد الربعي، أبرز من يمثل هذا الاتجاه .
والخلاصة؛
أن هذه الاتجاهات الأربعة لم تمارس (التجديد) على مفهومه الشرعي، وإنما مارست مفاهيم أخرى، ألصقت بمفهوم (التجديد)، وهي أقرب - في الحقيقة - إلى مفهوم "الانحراف" و"التغيير" و"التبديل" .
إن تجديد الإسلام ليس في نسف أصوله والتهجم على ثوابته، وليس في تجاوز نصوصه الدينية باسم المصلحة تارة أو باسم ضرورة الواقع تارة أخرى، وليس في تجاهل واحتقار تراث فقهاء المسلمين المنجز عبر التاريخ، وليس في تجاهل العلوم المعيارية التي تضبط حركة (الاجتهاد) الذي هو أساس حركة (التجديد) .
إنما التجديد في قناعتنا: عبارةٌ عن ممارسة تعبدية لها شروطها وأركانها يجب الالتزام بها، وله - في النهاية - رجاله المخلصون من أهل العلم والإيمان، الذين هم فقط من يمتلكون شرعية الحديث عن (التجديد) !
ـــــــــــــــــ
الهامش:
[1] انظر: الجوهري، "الصحاح"، ابن منظور، "لسان العرب"، 2/22 ، الفيومي، "المصباح المنير"، (92) .
[2] انظر: بسطامي سعيد، "مفهوم تجديد الدين"، ص / 15 ، أ.د. سيف الدين عبدالفتاح، "مفهوم التجديد"، موقع إسلام أون لاين .
[3] ابن جرير الطبري، "الجامع في بيان القرآن"، 13/91 .
[4] أخرجه أبو داود، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 599 .
[5] أخرجه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث"، وصححه جماعةٌ من أهل العلم، كابن القيم في "مفتاح دار السعادة"، وابن الوزير في "العواصم من القواصم"، وحسنه القاسمي في "قواعد التحديث" .
[6] أخرجه مسلم، برقم (3544) .
[8] أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان .
[9] أبو الأعلى المودودي، "الموجز في تاريخ تجديد الدين"، ص / 13 - 25 .
[10] يوسف القرضاوي، "من أجل صحوة راشدة"، ص / 28 . وليت الشيخ القرضاوي التزم بما شرطه هنا للتجديد الصحيح، فقد وقع - عفا الله عنه - في بعض آرائه التجديدية ما يخالف شرطه هنا .
[11] عبدالله عزام، "عملاق الفكر الإسلامي الشهيد سيد قطب"، نشر مركز شهيد عزام الإعلامي، باكستان، الطبعة الأولى .
===============(31/178)
(31/179)
لماذا لا أكون مسلما ليبراليا ؟
هذا سؤال يطرحه رجلان :
أحدهما : مؤمن بالليبرالية يلقيه مقررا, والآخر مناهض لها يسوقه منكرا, فالأول يقول : إن الليبرالية توجُهٌ فكريٌ وأخلاقي لا يتنافى مع روح الإسلام إلا في أجزاء من نسخته الغربية ويمكننا أن نصنع منه نسخة أخرى متوافقة مع الشريعة الإسلامية , وكما ساغ لنا أن نتكلم عن اقتصاد إسلامي وسياسة إسلامية وإدارة إسلامية فلا بأس أيضا أن نتكلم عن ليبرالية إسلامية فكان ماذا ؟
ويقول الآخر : الإسلام دين كامل شامل لجميع أوجه الفكر و الحياة لا يستوعب توجها مغايرا إلا إذا صنعنا منه نسخة أخرى , ولا يجوز في الإسلام أن نستخدم نسخة غير أصلية .
أما من يقف بين هذين الرجلين ويتساءل : إلى أيهما يتجه , فهو ينطلق في تفكيره من مسلمتين , إحداهما : كمال الدين الذي يشمل مفهومه كل توجه فكري أو أخلاقي لا يتناقض مع تعاليمه حالا , أو مآلا , يسير ضمن موكب الإسلام وينتهي إلى حيث ينتهي . أما إذا خالف هذا الموكب في أي مرحلة من طريقهما فهو توجه غير إسلامي وإن وافق الإسلام عرضا في بعض الطريق .
ومبعث هذا التسليم آيات قاطعة في دلالتها على أن كل مخالفة لتعاليم الدين تعد معصية سواء أكانت تلك التعاليم فيما يتعلق بالمقاصد أم الشريعة أم مصادر التلقي أم مناهجه وذلك من أمثال قوله تعالي : ( اهدنا السراط المستقيم سراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين )وقوله : (وأن هذا سراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )
ألمسلمة الأخرى: أن مفهوم الدين لدى هؤلاء يتسع لكل تصرفات الإنسان من حين يستيقظ إلى أن يعود إلى نومه مرة أخرى بل إن النوم أيضا يدخل في الدين من باب النية والاحتساب , و حتى الجهد الفكري وسائر العمل غير المنظور لا تخرجه عن الدين شدة خصوصيته وعدم مساسه بالآخرين ويستمسكون بآيات قاطعة في دلالتها على هذه الحقيقة كقوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذالك أمرت وأنا أول المسلمين ) وقوله تعالى :(ما فرطنا في الكتاب من شئ) (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا )( وكل شئ فصلناه تفصيلا )( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) .
فالدين عبادة والإنسان لا يخرج عن وصف العبودية بحال من الأحوال , فهو إما عبد لله اختيارا , كالمخاطبين بقوله تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما 00) أو عبد لله اضطرارا كما في قول الله تعالى في الحديث القدسي : ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر )
فإذا كانت الليبرالية الإسلامية -كما يقولون- تنطلق من هاتين المسلمتين , ولا تتعارض مع حكم آخر من أحكام الشريعة فقد انحصر الخلاف بين الفريقين في استخدام المصطلح وهو خلاف مآله إلى الزوال .
فهل اليبرالية كذلك ؟
التعريفات الكثيرة لهذا التوجه الفكري لا تخدمنا في الوصول إلى نتيجة لما نحن بصدده لأن هذه التعريفات تنطلق من الأصل اللغوي للمصطلح وهو الحرية وبذلك لا يمكن الجزم بمعاداة هذا التوجه للدين أو موافقته له من خلال التعريف فقط , وبرأيي أن من يحاول معاداة الليبرالية من خلال تعريفاتها وحسب لن يكون موقفه أكثر قوة من ذلك الذي أحبها من أجل التعريف وحده لأن كليهما قادر على تأويل التعريفات كما يهوى .
والصواب في فهمنا لليبرالية وموقف الإسلام منها : أن ننظر في أصل نشأتها وواقع روادها في أرضها التي ترعرعت عليها ..
ولا يخفى مطلعا أن أصل نشأتها : الثورة على ربط الفكر الإنساني بنصوص الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - بعد أن أصبح الدين ورجاله عائقين عنيدين أمام التطور الفكري والسياسي والاقتصادي , لاسيما وقد اكتسبت تفسيرات الكنيسة الإنسانية صفة مقدسة أدت إلى الحكم بالموت على كثير من العلماء والمفكرين لمخالفتهم هذه التفسيرات .(31/180)
إن حكاية هذا المخاض للليبرالية حري وحده أن يجعلنا نتوقف كثيرا قبل أن ننسبها إلى الإسلام أو أن ننسب الإسلام إليها إذ لا يسوغ بحال ذهابنا إلى تحرير الفكر من تعاليم القرآن وتفسيراته النبوية , لأن هذا التحرر خلاف مقتضى الاستعباد المطلق لله عز وجل والذي من معالمه أن يكون النص القرآني منطلقا ومآلا لكل مفكر إسلامي , وكل ثمرة فكرية تتعارض مع المحكمات من كتاب الله تعالى تعد في نظر الإسلام فاسدة ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )(قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) (ألمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) وروى الترمذي بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :(ستكون فتن )قلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال: )كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله 00) ( ثمَُّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلا تتَّبِع أَهواءَ الذِينَ لا يَعلَمُون )
وكثيرة هي النصوص الدالة على فرضية الالتزام بالقرآن الكريم فكرا وعملا والتي لا يمكن معها أن يكون إسلاميا من يقول بتحرر تفكيره عن نصوص هذا الكتاب الحكيم .
أما روادها الأوائل من أمثال : جان جاك روسو بفرنسا وإيمانويل كانط بألمانيا وآدم سميث وجيرمي بانثام بإنجلترا فكان هذا هو منهجهم في التعامل مع نصوص كتابهم المقدس على تفاوت درجاتهم في التدين الذي يختلفون معنا في مفهومه .
فالدين في نظر رواد الليبرالية الأوائل محكوم بالعقل الفردي فما لا يمكن أن يستجيب له عقلك لا يمكن أن يكون دينا بل لا بأس عليك لو لم يستجب عقلك لفكرة الدين اصلا .
أما نحن فلا نؤمن أبدا بتعارض بين العقل والشرع وإذا تقرر في الشرع أمر فلا يسأل العقل عنه إلا من باب التدبر والسعي وراء الحكم والمقاصد , لأننا نؤمن أن ما يظهر من خفاء بين العقل والنقل أمر مؤقت وأن تجليه أمر محتوم يظهر بالتدبر الذي أمر الله به في كثير من آيات كتابه الحكيم ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) وليس الأمر بالتدبر مقتصرا على طائفة من الناس دون أخرى بل التدبر واجب خوطب به الجميع من علماء وغيرهم لكنهم مطالبون باستصحاب التسليم بصدق القائل وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
بل لا يمكن أن نرى الخلاص الأخروي والدنيوي بدين غير الإسلام ( إن الدين عند الله الإسلام ) (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ).
وبكل ما تقدم نصل إلى أن الليبرالية في أصل منشئها وكما أراد لها روادها الأول في ديارها تتعارض كليا مع مسلمات الإسلام فهل عند دعاة الإسلام الليبرالي فهما آخر لها ؟
لأحد أن يقول: إن الليبرالية في أصل نشأتها أيضا دعوة صادقة للحرية الفكرية والعناية بالفرد وحماية حقوق الإنسان وهذه مثل لا يمكن المنازعة في أن الإسلام قد دعى إليها فإذا اجتزأنا هذه الخصال من الليبرالية وضممناها إلى ما عندنا فقد سقطنا عندها على الإسلام اليبرالي وليبرالية الإسلام .
وفي هذا الكلام تناقض يدعونا إلى إساءة الظن بقائله فهو إن كان يعتقد اشتمال الإسلام حقا على هذه المثل فأين الحاجة إلى اللبرالية .
أما إن كان يرى الإسلام دينا خاليا من هذه المثل مع مسيس حاجة المجتمعات إليها فقد انتقض على إحدى المسلمتين التين تقدم البرهنة عليها وهي كمال الدين والمصادق عليها بقوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .
وخاتمة هذه المقالة أنني أستطيع الآن الإجابة على سؤالي الأول : لماذا لا أكون مسلما ليبراليا ؟ بجواب واضح وهو أنني لا يمكن أن أكون مسلما وليبراليا في آن معا .
د محمد بن إبراهيم السعيدي
رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين بمكة
===============(31/181)
(31/182)
كيف تسللت الليبرالية إلى العالم الإسلامي ؟ ..
( بحث مميز وواضح )
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بحثٌ موجز مُيسر يبين للقارئ بداية تسلل الفكر الليبرالي العلماني إلى البلاد الإسلامية ، ويكشف أبرز الشخصيات التي اعتنقته ، وساهمت في نشره ، وهو يقتصر على البلاد المصرية ؛ بسبب أنها البوابة التي تنتقل منها الأفكار والتجارب الغربية إلى بقية دول العالم الإسلامي ؛ كما في التمثيل ، والمسرح ، والصحافة .. الخ . وهذا المبحث منقول بتصرف يسير من كتاب الدكتور بسام البطوش " الفكر الاجتماعي في مصر " ( ص 93-184) ؛ وجدته متميزًا بتسلسله ووضوحه ، أنقله هنا ليعرف من خلاله القارئ كيفية التسلل الليبرالي ، وسيكتشف عند قراءته أن الأساليب التي استخدمها أتباع الغرب من الليبراليين المصريين هي نفسها ما يستخدمه الآن أشباههم في بلاد أخرى ؛ ومنها " المملكة العربية السعودية " حرسها الله ، وأدام عليها نعمة الإيمان والأمن ، والله الهادي .
==============(31/183)
(31/184)
الفتوى الليبرالية.. وعسر الفهم!
مقال أكثر من رائع يضع النقاط على الحروف بجريدة الجزيرة السعودية
بعنوان (( الفتوى الليبرالية.. وعسر الفهم! )) للكاتب : محمد بن عيسى الكنعان
المقال كما ورد في الصحيفة
شهدت الأسابيع الفائتة جدلاً فكرياً في بعض المواقع الإلكترونية على خلفية إجابة دينية تفضل بها أحد المشايخ الأجلاء من هيئة كبار العلماء حول (حكم الدعوة للفكر الليبرالي في البلاد، الإسلامية)،
رداً على سؤال أحد طلبة العلم الشرعي لديه، فانتقل ذلك الجدل (العقيم) إلى نقاش مفتوح في فضاء إحدى القنوات العربية التي تهتم بالشأن السعودي، تلك الإجابة اعتبرت من قبل عدد من الكتاب والمثقفين الليبراليين بمثابة (فتوى) شرعية (تكفيرية) بحقهم، محذرين في الوقت نفسه من تداعياتها على المستوى الاجتماعي المحلي، خاصة في ظل وجود أفراد وجهات تتلقف الفتاوى كأمر إلهي لها بالتنفيذ والمبادرة، الأمر الذي دفع بالشيخ صالح بن فوزان الفوزان (صاحب الإجابة) إلى إصدار بيان توضيحي في بعض الصحف المحلية يؤكد فيه أن جوابه كان محدداً بالسؤال، مستنكراً تصنيف الجواب من قبل البعض على منهج التكفير وفعل الخوارج، حيث أنزلوه على أناس ليسوا مقصودين، بينما مقصد الجواب على ما جاء في حيثيات السؤال فقط؛ لأن ما ذكر فيه - أي السؤال - هو من نواقض الإسلام التي يتفق عليهما علماء الأمة، كما تبرأ الشيخ من تكفير الأبرياء أو التكفير على غير الضوابط الشرعية المعروفة.
هنا لن أجتر وقائع تلك (الفتوى الليبرالية) كما يسميها البعض، أو أضع نفسي محامياً للشيخ الفوزان، الذي يملك الأهلية الشرعية والقدرة اللغوية والنفس الطويل في الردود الكافية والكتابات الوافية، إنما سأعمد إلى عرض المسألة من (الناحية الفكرية)، وتحديداً إلى (عسر الفهم) الذي جعل المفكر الأكاديمي يتساوى مع الإنسان البسيط في استنتاجه لأبعاد إجابة الشيخ أو (الفتوى) إن صح التعبير، لسببين رئيسين: الأول يتعلق بنص (الفتوى) الجلي والواضح بعيداً عن كل غموض أو وهم ينزح إلى التأويل، والآخر يتعلق باضطراب الموقف حيال (الليبرالية) التي لم ينجح دعاتها حتى الآن في تعريف (ماهيتها) وتحديد (مرجعيتها)، فضلاً عن تسويقها على أرض الواقع بتجارب حية ونماذج حضارية، وما ردود الأفعال حيال (الفتوى الليبرالية) إلا دليل حي على ذلك الاضطراب الفكري.
عن السبب الأول يمكن القول إن علم الشيخ صالح الفوزان ووعيه في أبعاد السؤال المطروح جعله (يحتاط) في فتواه أو إجابته إحاطة العالم من جهل المتعالم، خاصة أنها تتعلق بمسألة جدلية وحديثة لا زالت تفتقر للوفاق الفكري الجماعي بين دعاتها، ناهيك عن مستوى المجتمع ككل، لذا فالمتمعن في تلك الإجابة يدرك للوهلة الأولى أنها (أبعد) ما تكون عن (تكفير) الليبرالي السعودي، الذي يتفق مع الشيخ فيما ذكره من نواقض الإسلام وموجبات الكفر، وكي تتضح المسألة أجد من المنطق استعراض السؤال المطروح وإجابة الشيخ معاً والنقاش حولهما.
كان السؤال: (عن الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية، وكونه يدعو إلى حرية لا ضابط لها إلا القانون الوضعي، ويساوي بين المسلم وغيره بدعوى التعددية، ويجعل لكل فرد حريته الشخصية، التي لا تخضع لقيود الشريعة، ويحاد بعض الأحكام الشرعية التي تناقضه، كالأحكام المتعلقة بالمرأة، أو العلاقة مع غير المسلمين، أو بإنكار المنكر، أو أحكام الجهاد، إلى آخر الأحكام التي فيها مناقضة هذه الليبرالية للإسلام، وهل يجوز للمسلم أن يقول: أنا مسلم ليبرالي؟). إذاً السائل حدد مفهوم (الفكر الليبرالي) حسب رؤيته بجملة مسائل وأحكام (تناقض الإسلام) بغض النظر عن اتفاقنا معه أو اختلافنا، ومن ثم طرح سؤاله: هل يجوز للمسلم أن يقول: أنا مسلم ليبرالي؟
في الإطار نفسه جاءت إجابة الشيخ التي اعتبرها البعض (فتوى تكفيرية) كالتالي: (إن المسلم هو المستسلم لله بالتوحيد، والمنقاد له بالطاعة، البريء من الشرك وأهله، فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي هذا متمرد على شرع الله يريد حكم الجاهلية، وحكم الطاغوت فلا يكون مسلماً. والذي ينكر ما علم من الدين بالضرورة من الفرق بين المسلم والكافر، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة، وينكر الأحكام الشرعية ومنها الأحكام الخاصة بالمرأة والنهي عن المنكر ومشروعية الجهاد في سبيل الله، هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام التي ذكرها أهل العلم، والذي يقول (إنه مسلم ليبرالي) متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذكر، فعليه أن يتوب إلى الله ليكون مسلماً حقاً).
فأين وجه الاعتراض على كلام الشيخ واعتباره تكفيراً، إذا كان الشيخ قد (اشترط) بشأن الليبرالية ما ذكر وحدد في إطار السؤال، كالعمل بالقانون الوضعي بديلاً عن الشريعة، أو حكم الطاغوت على حكم الله، أو إنكار ما علم من الدين بالضرورة، أو إنكار أحكام المرأة ومشروعية الجهاد.. على غير ذلك.(31/185)
وعليه يكون الموقف الفكري واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار، فإذا كانت الليبرالية التي يبشر بها القوم ويدعون لها (تؤكد) تلك المسائل والأحكام المذكورة في السؤال والمكررة في الإجابة، فإن (الليبرالي) أياً كان هو (متناقض) ووقع في المحظور، أما إذا كان يرى خلاف ذلك، وأن الليبرالية التي (يعتقد) لا تجعل القانون الوضعي بديلاً للشريعة، ولا تنكر عقائد الإسلام من جهاد وفرق المسلم عن الكافر وغيره، ولا تنكر أحكام الإسلام من شؤون المرأة والأمر بالمعروف ولا تعتقد بضابط الحريات إلا الدين.. فإن هذه الليبرالية لا تعتبر (كفراً)، وعليه لا يجوز (تكفير) الليبرالي. إذاً كان بإمكان أي ليبرالي مفكراً أو كاتباً أو أكاديمياً أو حتى إنساناً عادياً أن (يتجاوز) ما قاله الشيخ؛ لأنه ليس المقصود في تلك الفتوى التكفيرية المزعومة، خاصة أن الشيخ الفوزان قال بوضوح: (الذي يقول (إنه مسلم ليبرالي) متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذكر) لاحظ مناط الفتوى أو الإجابة محدد بما ذكر!
على أرضية ما سبق آتي إلى السبب الآخر الذي دعاني لمناقشة مسألة (الفتوى الليبرالية)، المتمثل بحالة الاضطراب الفكري إزاء الليبرالية التي تنتاب الليبراليين أو المحسوبين على التيار الليبرالي، والاضطراب المقصود هو (حالة التناقض الحاد) بين ما يقوله الليبراليون وما يعتقدونه وما هو حقيقي وفعلي بالنسبة لليبرالية، اضطراب يكشف أن الليبرالي لا يفهم ما يقرأ ولا يعي ما يسمع بشأن هذا الفكر الوافد الذي يراد له أن ينبت في تربتنا الإسلامية ويقلب منظومة قيمنا الاجتماعية، وهو بحكم الجاهل إذا كان يعتقد أن الليبرالية لا تتعارض مع الدين، والإسلام تحديداً الذي هو (دين ومنهاج حياة)، وحتى تكون الأمور في نصابها.. فلنقف على أبرز ما جاء في ثنايا السؤال الذي وجه للشيخ.. وبالذات الجزئية المتعلقة بالحرية.
فالليبرالية ببساطة ووضوح تام تسعى إلى (تحقيق الحرية الفردية) للإنسان، بحيث يكون حر (الاعتقاد)، حر (الضمير أو الفكر)، حر (التصرف أو السلوك)، غير خاضع لأي سلطان ديني، ما يعبر عنه في الغرب بالكهنوت، أو أي نظام سياسي استبدادي، أو أي نظام اقتصادي إقطاعي، فلا سلطان على الإنسان إلا للعقل الذي يشرع الأنظمة ويصوغ القوانين المتحكمة بحياة الناس، ويقبل أو يرفض القيم والفضائل السائدة ويقوِّم الخصوصيات الثقافية والعادات والتقاليد الموروثة، لذلك فالحريات في الفكر الليبرالي محكومة ب(قانون وضعي وتشريع بشري)، بينما تبدو الصورة متعارضة تماماً بالنسبة للفكر الإسلامي الذي يعتبر الحريات محكومة بالوحي الرباني من تشريعات وأحكام قرآنية ونبوية، هي المرجع الرئيس والإطار العام لكل القوانين والأنظمة التي تحكم حياة الناس في عباداتهم ومعاملاتهم وعلاقاتهم، سواء على المستوى الإسلامي أو الصعيد الإنساني.
قد يقول قائل: وما الضير في محاولة الجمع بين الليبرالية والإسلام، بحيث نأخذ منها مع ما ينسجم أو يتوافق مع ديننا، وندع ما يتعارض مع شريعته، فأقول إن أنظمة المجتمعات المتحضرة والدول المتقدمة لا تقبل بوجود (مرجعيتين) في سن القوانين وتشريع النظم؛ لأن ذلك سيخلق مجتمعات متباينة في إطار الدولة الواحدة، قد تصل إلى التصادم عند تقرير قيمة أو نظام على أرض الواقع. الأمر الآخر: أن الليبرالية في أساسها الفلسفي وواقعها العملي لا تقبل دخول النص الديني على تشريعاتها ونظمها؛ كونها أصلاً ثمرة عصور التنوير الأوروبي التي أعلنت القطيعة مع الدين واستبعاده حتى من مصادر المعرفة، وفرضت العقل.
أخيراً.. بعد هذا العرض أرى أن الليبرالي لا بد أن يحسم أمره تماماً، كون الفتوى كشفت أنه على مفترق طريقين، واستمراره دون هذا الحسم يعني استمرار اضطرابه الفكري.. إما أن (يتبرأ) من الليبرالية تماماً حتى لا يقع في الحرج الديني، أو يعتقد بكل ما فيها كما هو حال الليبراليين الجدد.
رابط المقال في الجريدة
http://www.al-jazi r ah.com/139304/a r 8d.htm(31/186)
(31/187)
(31/188)
(31/189)
أبناؤنا في ظل الواقع المفتون
يقول صلى الله عليه وسلم ( يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع به شعف الجبال ، ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ) رواه البخاري...
فتنٌ كقطع الليل المظلم، تُحيط بنا من كل جانب، وتُعرضُ علينا ليل نهار..
مُلهياتٌ ومحرمات... مُستنقعاتٌ للشهوات... محطاتٌ ممقوتة وفضائيات...تنشر شباكها هنا وهناك... جميعها يستهدف عقول شبابنا وفتياتنا.
وفي ظل هذه الفتن ، يقف الكثير منّا حائراً متسائلاً :
* كيف نربي أبنائنا تربية أسلامية صحيحة في ظل هذا الواقع المفتون...؟
* كيف يمكن أن نُنشئ جيلاً قوياً بعزيمته وأرادته وعقيدته كجيل علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم وأرضاهم....؟؟
* كيف نبث حمل هم الإسلام، وحمل لوائه في نفوس أبنائنا...؟؟
أسئلة تطول ..... وفي هذا اللقاء نحاول أن نُجيب على بعضاً منها سائلين الله النفع والفائدة للجميع.....
ويسعدنا أن تكون ضيفتنا الأستاذة / أحلام الضبيعي ، محاضرة في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود...
************
س1- ما هي أنواع الفتن......وأيهما أشد ضرراً على الأبناء..؟؟
للفتن أنواع كثيرة ، وقد ورد ذكر الفتن في كثير من أحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم ، والملاحظ في هذه الأحاديث أنه قد ذكر فيها أمهات الفتن التي تكون في كل زمان ، وتندرج تحتها فتن فرعية تخرج بأثواب جديدة في كل زمان .
من أبرز الفتن المنتشرة في زماننا هذا : فتنة المال - فتنة الصحة والجمال - فتنة الفراغ - فتنة الانفتاح الثقافي والفكري ( العولمة ) ، وهذه الأخيرة هي أخطر فتنة على الأبناء إذا انضمت إليها الفتن السابقة .
************
س2- عقيدة هذا الجيل هشة...سهلة الانكسار والتغير....عكس ما عليه جيل الصحابة والسلف الصالح......فما الأسباب؟؟
الأسباب كثيرة في ذلك لعل من أبرزها :
1) ضعف الوازع الديني لدى بعض المجتمعات .
2) قلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
3) الزهد في تعلم العلم الشرعي والتوجه إلى العلوم الدنيوية البحتة بحجة أنها أضمن للمستقبل كما يزعمون .
4) تساهل الوالدين وغلبة العاطفة عليهما بحيث لا ينكران على الأبناء سوء التصرف وقلة الاهتمام بالدين .
5) عدم الحرص على تعليم الأبناء العقيدة وأمور الدين.
6) الثقة العمياء التي يوليها الوالدان للأبناء والدفاع الضاري عنهما إذا بدر منهما أمور تخل بالدين والحياء.
************
س3- تعزيز المفهوم العقدي مطلوب من الآباء تجاه أبنائهم..... في نظرك متى يبدأ الآباء بتطبيق هذا المفهوم على الأبناء؟؟
يجب أن يبدأ تطبيق المفهوم العقدي منذ الصغر أي منذ أن يبدأ الطفل بنطق بعض الحروف والكلمات يحاول الوالدان أن يلقناه الشهادة باستمرار لأن الطفل وهو صغير يكون مستعدا للتلقين فيستقبل كل ما يعطى سواء كان خيرا أو شرا ولا يسأل عن المعاني والأسباب ، خاصة في فترة السنتين إلى الخمس سنوات على العكس من الطفل من سن ست سنوات فما فوق فإنه في هذا السن يبدأ بالسؤال عن كل شيء خاصة إذا كان مستوى ذكاؤه مرتفع.
************
س4- ما هي الأساسيات التي لا بُد من الوالدين أن يُزودا بها أبنائهم منذ بداية نشأتهم؟؟
الأساسيات هي ما أمرنا به الرسو صلى الله عليه وسلم من التأذين في أذنه اليمنى والإقامة في اليسرى ، وعدم الكذب عليه حتى لا يتعلم هذا الخلق الذميم وأمره بالصلاة إذا بلغ سبع سنين وضربه عليها إذا بلغ العاشرة ولم يحافظ عليها ، والتفريق بين الأبناء في المضاجع ، وآداب الاستئذان ، وتعليمه أساسيات العقيدة ( من ربك ما دينك من نبيك ) ، أين الله ، كل هذه الأمور التي كان الرسو صلى الله عليه وسلم يعلمها ويطبقها .
إضافة إلى عدم إيقاع الأبناء في الحيرة من أمرهم وذلك بسبب تناقض الوالدين فتجد بعض الآباء والأمهات يقولون ما لا يفعلون فيجب على الوالدين أن يعلما الأبناء ويطبقا في نفس الوقت حتى يرسخ المبدأ العقدي في ذهن الأبناء.
************
س5- كيف نتعامل مع الأخطاء والتجاوزات الشرعية التي تصدر من أبنائنا..؟؟
الأخطاء الشرعية إذا صدرت أول مرة من الأبناء فيجب التعامل معها بكل رفق فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه فيعلم الأبناء في البداية أن هذا العمل لا يجوز وأنه يغضب الله سبحانه وتعالى ويبين له ما هو الفعل البديل الذي يجب عليه أن يقوله أو يفعله لأن هذه الطريقة كان ينتهجها الرسو صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم مثل قوله : (( لا تقولوا ما شاء الله وشئت وقولوا ما شاء الله وحده )) ، هذا التصرف يقي الوالدين من سؤال ابنيهما : إذن ماذا أفعل أو ماذا أقول ؟
ومسألة مهمة أيضا يجب التنبيه لها وهي أن كل أب وأم لهما أن يعرفا ما هي طبيعة ابنيهما هل هو من النوع الذي يقبل النصح مباشرة ؟ أو أنه يتضايق من هذا الأمر فيضطر الوالدان أن ينتهجا مسلكا آخر في النصح والتوجيه كأسلوب القصة مثلا أو التلميح أو غير ذلك من الأساليب.(31/190)
ويبينا له أيضا أن كثيرا من الناس يقعون في أخطاء ولكنهم إذا علموا ووجهوا فإنهم يتراجعون ويتوبون إلى الله وإن الله يقبل توبة عباده ، وأن هذا الذنب إذا تركه وتاب منه فإنه لا يضره بإذن الله تعالى ، مع العلم أن الأبناء ليسو كلهم سواء فإن منهم من يتقبل بمجرد أن تنصح أمامه أحد ومنهم من يحتاج إلى النصح مرة ومنهم مرتين وهكذا .
************
س6- يعيش أبناء هذا الجيل في غمرةٍ من الفتن....وموجٌ من المغريات، كيف يمكن التصدي لها؟؟
هذا الأمر يتصدى له بالعلم الشرعي فنحرص كل الحرص على حث الأبناء على تعلم العلم الشرعي كعلم العقيدة وما يتبعه من علوم كتعلم المذاهب المعاصرة المخالفة للعقيدة الصحيحة ، وما هي بالتحديد نقاط المخالفة فيها حتى يحذروا ، فالأبناء يسمعون بالشيوعية والعولمة والليبرالية وغيرها من المذاهب الهدامة ولا يعلمون ما المراد بها ، لذا فإنه يجب إعطاء الابن نبذة تناسب سنه وفكره وعقله وفهمه وثقافته حتى يعرفها ويكون على حذر منها .
ثم يبدأ الابن - إذا كبر وكان ذكيا - يبحث هو بنفسه ويقرأ ويحذر.
ويجب أن يبين للابن أن أكثر هذه المذاهب تتوجه إلى طبقة الشباب في المجتمعات فتعرض لهم أفكارها الهدامة بطريقة مغرية حتى ينخدعوا وينضموا إليهم ويكونوا من دعاتهم وهم لا يعلمون.
************
س7- الفراغ....والتقليد الأعمى..... من المسائل التي لا يفقه ضررها الكثير....كيف عالجت الشريعة الإسلامية هذه المسائل؟؟
عالجت الشريعة هذه المسائل بالبيان والتوضيح والتحذير والتنبيه فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )) فبين r أن الفراغ نعمة من الله إلا أن صاحبها مغبون فيها أي مغلوب فيها وليس بغالب ففي ذلك حث على استغلال أوقات الفراغ لأنها لا تتوفر للمسلم في كل مرة وإذا توفرت فإنها قد تضره ولا تنفعه .
أما عن التقليد الأعمى فقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه )) فهذا تحذير من تقليد الكفار بجميع أصنافهم لأن تقليدهم يؤدي إلى التشبه بهم في دينهم : (( ومن تشبه بقوم فهو منهم )) .
************
س8- في زمن الانفتاح الفضائي...كيف يمكن أن نزرع في نفوس أبنائنا المراقبة الذاتية؟؟
بتذكيرهم بالجنة والنار، فعندما يتصور الابن نعيم الجنة، وعذاب جهنم فإنه سيبتعد تلقائيا عن هذه الأمور حتى لا يحرم نعيم الجنة ولا يعذب بنار جهنم.
كذلك يبين للابن بأن للمعصية شؤم في الحياة وإنه كلما زادت مراقبته لله بعدم النظر إلى هذه القنوات فإنه سيزداد توفيقا من الله وهداية ورزقا وصلاحا.
************
س9- يبرر بعض الشباب والفتيات أن ما يقعون فيه من تجاوزاتٍ شرعية يعود سببها للمجتمع الزاخر بالفتن والتي طغت عليه من كل جانب....في حين يصعب عليهم مجاهدة النفس............ما رأيك في هذا التبرير؟؟
بالطبع هذا المبرر غير صحيح وإنما هو من أتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء وضعف الوازع الديني وقلة مراقبة الله سبحانه أو انعدامها تماما عند بعض الشباب والفتيات .
************
س10- يُقال " أن الفتاة سريعة الانجذاب للمغريات أكثر من الشباب...لذا كانت الرقابة عليها أكثر من قِبل المجتمع".....هل هذه المقولة صحيحة...وإن كانت كذلك فما الأسباب....؟؟
هذه المقولة لا تؤخذ على إطلاقها فهي تصدق على شريحة معينة من الفتيات ولا تصدق على الباقيات الصالحات منهن ومعلوم أن الأصل في المرأة قرارها في البيت ، ولكن هذه المقولة لا تنطبق على الفتيات فقط بل تنطبق على شريحة معينة أيضا من الفتيان ، فكما أن الفتيات يحتجن إلى رقابة فكذلك الفتيان لأنهم سريعي الانجذاب للمغريات كذلك .
************
س11- كيف يمكن تحصين أبناؤنا ضد الفتن...بحيث نُنشئ جيلٌ مسلم، متمسك بهويته الإسلامية، ومُحبٌ لله ورسول صلى الله عليه وسلم ؟؟
نحصنهم بأن نعلمهم سير الصحابة نساء ورجالا خاصة الشباب منهم لبيان كيف أنهم كانوا على قوة كبيرة من الصمود أمام المغريات أو التهديد والوعيد كقصة سعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير وخبيب بن عدي وغيرهم كثير رضي الله عنهم جميعا .
************
س12- رسالة توجهينها إلى:
• الآباء والأمهات.
• المعلمون والمربون.
• العلماء والدعاة.
الرسالة الأولى: إلى الآباء والأمهات:
الأب والأم هما الصرح التعليمي الأول الذي يتخرج منه الطفل إلى هذه الحياة فيجب عليهما أن يتقيا الله في جميع شؤون حياتهما حتى يسقيا تلك البذرة الصغيرة التي نشأت بينهما بالدين والصلاح والهداية وتطبيق كل ما أمر الله به سبحانه ورسول صلى الله عليه وسلم برعاية الطفل وتربيته .
الرسالة الثانية: إلى المربين والمعلمون:
إنهم الصرح التعليمي الثاني الذي يخرج إليه الطفل فينشأ بعد ذلك عضوا صالحا في المجتمع لأنهم يرون أمامهم معلمين صالحين ، فكم من شاب وفتاة تأثروا تأثرا كبيرا بمعلميهم أكثر من تأثرهم بوالديهم وهذا معروف ملموس في كثير من المجتمعات .
الرسالة الثالثة: إلى العلماء والدعاة:(31/191)
العلماء والدعاة نعمة من الله أنعم بها على عباده فهم الذين يعلمون الناس الخير والصلاح والاستقامة لذا فيجب عليهم التنبه والالتفات إلى شريحة الشباب والفتيات خاصة أكثر من غيرهم لأنهم هم الأكثر في المجتمعات الإسلامية لقول صلى الله عليه وسلم : (( نحن أمة فتية )) فهم دعاة وعلماء المستقبل فإذا صلحت هذه الشريحة صلح أكثر المجتمع وقل فيه الفساد والعصيان بإذن الله تعالى .
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
************
ختاماً:-
نشكر الأستاذة / أحلام الضبيعي على ما أدلت به من توجيهاتٌ وفوائد في هذا اللقاء.
ولا ننسى أن الشباب والفتيات هم عماد هذه الأمة، فبصلاحهم تسير القافلة بأمان بإذن الله تعالى، ولذا أدرك الأعداء أهمية هذا، فأشهروا أسلحتهم ونشروها بكل ما لديهم من قوة...فعلى الوالدين أن يدركوا مهمتهم كمسؤلين ، وينجزوها بكل أمانة وصدق... ويقفوا كالحصن المنيع في وجه تيار الفتن والتي تقود أبناؤنا نحو الهاوية دون وعي أو تفكير....ولنتذكر قول الشاعر:
ومن رعى غنماً في أرض مضيعة
ونام عنها ، تولى رعيها الأسدُ !!!
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
=============(31/192)
(31/193)
ماذا قال اليهود عن الليبرالية
لقد كانت فتوى الشيخ العلامة صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء في حكم الليبرالية والانتماء إليها صفعة قويّة في وجوه الداعين إلى تلك الليبرالية والمنافحين عنها ومعتنقيها في هذه البلاد المباركة، حيث أصابتهم في مقتل، ممّا جعلهم يتقافزون من جحورهم للردّ على هذه الفتوى، وإبطالها، أو التشكيك فيها! فتارة يطعنون في السائل ويشكّكون في نيّته ومقصده! وتارة بلمز الشيخ واستغفاله واستجهاله، وأنّه لا يعرف معنى الليبرالية ولا حقيقتها، وهو الذي أفنى عمره في تدريس التوحيد وتعليمه والتحذير من الفرق الضالّة قديمها وحديثها! وتارة باستعداء السلطة وتحريضها على الشيخ والسائل...الخ. بل إنّ بعضهم راح يكتب ـ بإصرار أو عناد ـ عن الليبرالية ويحاول إلباسها لباس الدين للتلبيس على الناس، ويستدلّ ببعض الآيات (!)، وهو الذي صرّح من قبل بأنّه لا يمكن نشر مبادىء هذه الليبرالية في مجتمع كمجتمعنا تغلب عليه المحافظة، إلا بسلوك مسلك النفاق والتنقيب في التراث عما يؤيد ـ ولو قسراً ـ هذه المباديء لتمريرها !!!
هذا وإنّ ممّا أثاروه شغباً على هذه الفتوى: مسألة تكفير الليبرالي، وما قد يؤدّي إليه من الخروج ونحوه، ومعلوم أنّ الشيخ ـ حفظه الله ـ لم يتحدّث عن أشخاص بأعيانهم، وإنّما تحدّث عن مذهب فكري يُدعَى إليه، ويُنافَح عن، وهو في حقيقته مذهب كفري يقوم على أسس ومباديء مصادمة بل مناقضة للأسس الإسلامية والثوابت العقديّة، ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ من انتسب إلى هذا الفكر أو دعا إليه كافراً؛ فإنّ العمل قد يكون كفراً، ولا يكفر صاحبه؛ إمّا لكونه جاهلاً، أو متأوّلاً، أو عرضت له شبهة، حتى تقوم عليه الحجّة الواضحة البيّنة، كما هو معلوم عند أهل السنّة والجماعة. وكتب السلف ـ رحمهم الله ـ طافحة بمثل هذا.. وقد خالفهم الخوارج، فكفّروا دون تروّ أو تثبّت.
وقد يقول قائل: إذاً ما الفائدة من هذه الفتوى إن قلنا بعدم كفر كلّ ليبرالي ؟!
والجواب: الفائدة أن يعلم الناس عامّة، والدعاة إلى هذه الليبرالية خاصّة أنّ ما يدعون إليه كفر وضلال، فلا يلبّسون على الناس بإلباسه لباس شرعياً إسلامياً، أو يتبجّحون بأنّه لا يتعارض مع الثوابت الدينية والعقدية، وهم الذين يشككون في هذه الثوابت ليل نهار!!.
وللوقوف على حقيقة هذه الليبرالية القائمة زوراً على مباديء ( الحرية والمساواة والإخاء ) وجذورها الحقيقية؛ أنقل لكم ما ذكره حكماء اليهود عن هذه الليبرالية وأهلها الداعين إليها والمغترّين بها، فقد جاء في البروتوكول الأوّل من بروتوكولات حكماء صهيون: " لقد كنّا قديماً أوّل من هتف بكلمات: ( الحرية والمساواة والإخاء )، وما انفكّت هذه الكلمات تردّدها ببغاوات جاهلة، يتجمهرون من كلّ حدب وصوب حول هذه الشعارات المغرية، التي حطّموا عن طريقها ازدهار العالم، وحريّة الفرد الشخصية الحقيقيّة، التي كانت من قبل في حمى يحفظها من أن يخنقها السفلة. ولم يعرف الذين يدّعون الذكاء والعقل وسعة الإدراك من الجويم ( غير اليهود ) المعاني الرمزية التي تهدف إليها هذه الكلمات، ولم يتبيّنوا عواقبها، ولم يلاحظوا ما فيها من تناقض في المعنى. كما لم يدركوا أنّ الطبيعة نفسها تخلو من المساواة، وأنّ الطبيعة قد أوجدت أنماطاً غير متساوية في العقل، والشخصية ، والأخلاق، والطاقة، وغيرها. إنّ صيحتنا: ( الحريّة والمساواة والإخاء ) قد جلبت إلى صفوفنا فرقاً كاملة من زوايا العالم الأربع، عن طريق وكلائنا المغفّلين، وقد حملت هذه الفرق ألويتنا في نشوة، بينما كانت هذه الكلمات مثل كثير من الديدان، تلتهم سعادة الجويم ( غير اليهود ) وتحطّم سلامهم واستقرارهم ووحدتهم، مدمّرة بذلك أسس الدول. وقد جلب هذا العمل النصر لنا.. ".
وجاء في البروتوكول الثالث: " تذكّروا الثورة الفرنسية التي نسمّيها ( الكبرى )؛ إنّ أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيّداً؛ لأنّها من صنع أيدينا، ونحن من ذلك الحين نقود الأمم قدماً من خيبة إلى خيبة ".
هذه حقيقة الليبرالية وحقيقة الداعين إليها والمتأثّرين بها، علموا بذلك أو لم يعلموا، نسأل الله لنا ولهم ولجميع المسلمين الهداية والثبات.. والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
============(31/194)
(31/195)
حكم الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية
سليمان بن صالح الخراشي
نص السؤال
المكرم فضيلة الشيخ : صالح بن فوزان الفوزان :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ماقول فضيلتكم في الدعوة إلى الفكر الليبرالي في البلاد الإسلامية ؟ وهو الفكر الذي يدعو إلى الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي ، فيساوي بين المسلم والكافر بدعوى التعددية ، ويجعل لكل فرد حريته الشخصية التي لا تخضع لقيود الشريعة كما زعموا ، ويحاد بعض الأحكام الشرعية التي تناقضه ؛ كالأحكام المتعلقة بالمرأة ، أو بالعلاقة مع الكفار ، أو بإنكار المنكر ، أو أحكام الجهاد .. الخ الأحكام التي يرى فيها مناقضة لليبرالية . وهل يجوز للمسلم أن يقول : ( أنا مسلم ليبرالي ) ؟ ومانصيحتكم له ولأمثاله ؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد : فإن المسلم هو المستسلم لله بالتوحيد ، المنقاد له بالطاعة ، البريئ من الشرك وأهله . فالذي يريد الحرية التي لا ضابط لها إلا القانون الوضعي ؛ هذا متمرد على شرع الله ، يريد حكم الجاهلية ، وحكم الطاغوت ، فلا يكون مسلمًا ، والذي يُنكر ما علم من الدين بالضرورة ؛ من الفرق بين المسلم والكافر ، ويريد الحرية التي لا تخضع لقيود الشريعة ، ويُنكر الأحكام الشرعية ؛ من الأحكام الشرعية الخاصة بالمرأة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومشروعية الجهاد في سبيل الله ، هذا قد ارتكب عدة نواقض من نواقض الإسلام ، نسأل الله العافية . والذي يقول إنه ( مسلم ليبرالي ) متناقض إذا أريد بالليبرالية ما ذُكر ، فعليه أن يتوب إلى الله من هذه الأفكار ؛ ليكون مسلمًا حقًا .
صورة الفتوى
تعليق
جزى الله الشيخ صالح الفوزان خير الجزاء عن إجابته ، وهو صاحب الجهود المعلومة في الرد على من تأثر بالليبرالية من الصحفيين - هداهم الله - .
وظني - والله أعلم - أن الليبراليين لدينا ثلاثة أصناف :
1- الصنف الأول - وهو أسوؤهم - : من يعرف مناقضة الليبرالية لكثير من أحكام الإسلام ، لكنه - وللأسف - يستمر في الدعوة إليها ، ويرتضيها معتقدًا ، ويُقبل عليها على علم ، فهذا قد باع دينه بها ، ومعلومٌ حكم هذا ومآله - نسأل الله العافية - .
2- الصنف الثاني : مقلد ، يردد هذه الكلمة دون فهم لما تدل عليه وما يترتب عليها ، فهو مفتون بكل فكرة غريبة ، إما بدعوى حب الشذوذ ، أو لانخداعه بكلمة ( الحرية ) التي تقوم عليها هذه الفكرة ، فيظن أنها لا تُخالف الإسلام ، ومعلومٌ أن الإنسان مجبول على حب الحرية ؛ لكنه بين حرية يقيدها الشرع أو حرية تقيدها الأحكام الوضعية ( لأنه لا يوجد حرية دون قيود ) ، فإن تقيدت حريته بحدود الشرع محتسبًا الأجر من الله فقد فاز ، وإن تقيدت حريته بالأحكام الوضعية متعديًا حدود الشرع ؛ فقد خاب وخسر ، والاثنان يجمعهما قوله تعالى : ( تلك حدود الله و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك الفوز العظيم . و من يعصِ الله و رسوله و يتعد حدوده يُدخله نارًا خالدًا فيها و له عذاب مهين ) .
3- الصنف الثالث : من يعرف مناقضة الليبرالية لكثير من أحكام الإسلام ، لكنه يقول : أنا سأقيد هذه الليبرالية بأحكام الشرع ، وسأنبذ كل مايخالفه فيها ، وهذا نيته طيبة ، لكنه متناقض ؛ لأنه إذا قيد الليبرالية بقيود الشرع خرجت عن كونها ليبرالية ! فلاداعي لأن يدعو لها ويعتنقها وهو يخالف أساساتها السابقة في السؤال ، وهذا يذكرني بمن يدعو للديمقراطية من المسلمين - كالقرضاوي - ويقول : سأقيدها - أيضًا بأحكام الشرع - فلن أقبل مثلا التصويت على أمر قد حكم فيه الشرع ، وهذا كالأول متناقض ؛ لأنه إذا قيدها بما سبق خرجت عن كونها ديمقراطية !
أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، ويجعلنا ممن قال الله فيهم : ( اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينًا ) .
============(31/196)
(31/197)
الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال
08/08/2004
هبة رءوف عزت**
الليبرالية - كما يصفها بعض المحللين- أيدلوجية قابلة للتأويل ولها مائة وجه؛ تطرح نفسها على أنها الحل التاريخي والإجابة الأبدية لأسئلة المجتمع والدولة كما في أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما، في الوقت الذي لا يراها نقادها إلا نسقا مثاليا تأكله آليات الاقتصاد؛ فيستعصي جوهره - كرؤية للتحرر والتحقق الفردي- على التطبيق.
=============(31/198)
(31/199)
الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال
النشأة والتطور
08/08/2004
هبة رءوف عزت**
يصف المحللون اليبرالية بأنها أيدلوجية قابلة للتأويل لها مائة وجه، تجيد المراوغة والتحول وتوظف المفاهيم الإنسانية الكبرى والقيم النبيلة من أجل تحقيق منافع مباشرة اقتصادية بالأساس، حتى يحار المرء في فهمها وتحديد موقف محدد منها، ففي الفكر والنظرية تسمو قيم الحرية والفردية لكن في التطبيق تتلاشى الحريات ويسود السوق وتهيمن الرأسمالية المتوحشة. ورغم الالتباس والجرائم الكبرى تجد منظومة الليبرالية لديها من الكبرياء ما يدفعها للزعم بأنها الحل التاريخي والإجابة الأبدية لأسئلة المجتمع والدولة كما في أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما، في حين لا يرى فيها نقادها إلا نسقا مثاليا تأكله آليات الاقتصاد فيستعصي جوهره كرؤية للتحرر والتحقق الفردي على التطبيق.
وتذهب معظم الكتابات إلى أن استخدام مصطلح "ليبرالي" بدأ منذ القرن 14، ولكنه كان يحتمل معاني متعددة ودلالات شتى، فالكلمة اللاتينية libe r تشير إلى طبقة الرجال الأحرار، أي أنهم ليسوا فلاحين مملوكين أو عبيدا. والكلمة كانت ترادف "الكريم" أي "ليبرالي" أو سخي في تقديمه لمعونات المعايش للآخرين. وفي المواقف الاجتماعية كانت الكلمة تعني "متفتحا" أو ذا عقل وأفق فكري رحب. وترتبط الكلمة كثيرا بدلالات الحرية والاختيار.
ويليام جلادستون
لكن الليبرالية بمفهومها السياسي لم تظهر إلا في أوائل القرن 19، وأول استخدام كان في أسبانيا في عام 1812، وبحلول الأربعينيات من ذلك القرن كان المصطلح قد صار واسع الانتشار في أوربا؛ ليشير إلى مجموعة من الأفكار السياسية المختلفة. ولكن في إنجلترا انتشر المصطلح ببطء برغم أن الأعضاء ذوي الشعر المستعار Whigs (أعضاء حزب بريطاني مؤيد للإصلاح) أطلقوا على أنفسهم "الليبراليون" أثناء الثلاثينيات من القرن 18، وكانت أول حكومة ليبرالية هي حكومة جلادستون Gladstone التي تولت الحكم عام 1868.
ولم تظهر الليبرالية كمذهب سياسي قبل القرن 19، ولكنها قامت كأيدلوجية على أفكار ونظريات تنامت قبل ذلك بـ300 عام، حيث نشأت الأفكار الليبرالية مع انهيار النظام الإقطاعي في أوربا والذي حل محله المجتمع الرأسمالي أو مجتمع السوق.
كانت الليبرالية تعكس آمال الطبقات المتوسطة الصاعدة التي تتضارب مصالحها مع السلطة الملكية المطلقة والأرستقراطية من ملاك الأراضي، وكانت الأفكار الليبرالية أفكارا جذرية تسعى إلى الإصلاح الجذري وفي بعض الأوقات إلى التغيير الثوري. فالثورة الإنجليزية في القرن 17 والثورات الأمريكية والفرنسية في أواخر القرن 18 كانت تحمل مقومات ليبرالية رغم أن المصطلح لم يستخدم حينذاك بالمفهوم السياسي. وقد عارض الليبراليون السلطة المطلقة للحكم الملكي والذي قام على مبدأ "الحق الإلهي للملوك"، ونادى الليبراليون بالحكم الدستوري ثم لاحقا بالحكومة التمثيلية أو البرلمانية. وانتقد الليبراليون الامتيازات السياسية والاقتصادية لدى ملاك الأراضي والنظام الإقطاعي الظالم، حيث كان الوضع الاجتماعي يحدد حسب "المولد". كما ساندوا الحركات السياسية التي تنادي بحرية الضمير في الدين وتتشككوا في السلطة المستقرة للكنيسة.
ويعتبر القرن 19 في كثير من الجوانب قرنا ليبراليا، حيث انتصرت الأفكار الليبرالية مع انتشار التصنيع في البلدان الغربية. ويؤيد الليبراليون النظام الاقتصادي الصناعي واقتصاد السوق الخالي من تدخل الحكومة، حيث يسمح فيه بمباشرة الأعمال للحصول على الربح وتسود فيه التجارة الحرة بين الدول بدون قيود. فهذا النظام -نظام الرأسمالية الصناعية- نشأ في البداية في إنجلترا في منصف القرن 18، وأصبح راسخا في أوائل القرن 19، ثم انتشر في أمريكا الشمالية ثم غرب أوربا وتدريجيا طبق في أوربا الشرقية.
وقد حاول النموذج الرأسمالي الصناعي أثناء القرن العشرين التغلغل في الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة أن التنمية الاجتماعية والسياسية تم تعريفها بالمنظور الاقتصادي الغربي المتمثل في نظرية التقدم المادي، ولكن العديد من البلدان النامية قاومت الليبرالية لارتباطها بالنظم الاستعمارية من جهة ولقوة الثقافة السياسية التقليدية في الدول حديثة الاستقلال التي تناصر الجماعية وليس الفردية؛ ولذلك كانت تربة خصبة لنمو الاشتراكية والقومية أكثر من الليبرالية الغربية.
ولقد نجحت اليابان في تطبيق الرأسمالية، ولكنها قامت على التعاونية وليست الفردية؛ فالصناعة اليابانية تتأسس على الأفكار التقليدية من وفاء للجماعة والشعور بالواجب الأخلاقي وليس السعي لتحقيق المصلحة الذاتية للفرد وحسب.
وقد اقترنت النظم السياسية الغربية بأفكار وقيم الليبرالية، وهي نظم دستورية حيث تحد الدساتير من سلطة الحكومة وتحافظ على الحريات المدنية، كما أنها تمثيلية أو برلمانية أي أن الصعود إلى المناصب السياسية يتم من خلال انتخابات تنافسية.(31/200)
وقد شهد التحول للديمقراطية الغربية صعودا في بعض الدول النامية في الثمانينيات، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت محاولات تحول ديمقراطي أيضا في أوربا الشرقية.
ونلاحظ أنه في بعض الحالات ورثت دول أفريقية وآسيوية الأسلوب الغربي للحكم الليبرالي من حقبة ما قبل الاستقلال، ولكن بدرجات نجاح متفاوتة، فعلى سبيل المثال تُعَد الهند أكبر النظم الديمقراطية الحرة في العالم الثالث، لكن في أماكن أخرى سقطت النظم الديمقراطية الليبرالية؛ بسبب غياب الرأسمالية الصناعية كأساس اقتصادي وغلبة التحالفات العشائرية، أو بسبب طبيعة الثقافة السياسية المحلية، ففي مقابل الثقافة السياسية في معظم الدول الغربية القائمة على أساس وطيد من القيم الليبرالية الرأسمالية مثل حرية التعبير المطلقة وحرية الممارسة الدينية (أو الروحية الانتقائية العلمانية) والحق المطلق في الملكية، كمبادئ مستمدة من الليبرالية وراسخة في أعماق المجتمعات الغربية نادرا ما تواجه أي تحدي أو مسائلة، نجد في دول العالم الثالث مكانة مركزية للدين واحترام للجماعة وقيمها يحدد مجالات الحرية الفردية، ومكانة للولاء الأسري والعشائري تحفظ القيم الجماعية.
ولقد ناقش بعض المفكرين السياسيين -الناقدين والمؤيدين على حد سواء- العلاقة الحتمية بين الليبرالية والرأسمالية. فيرى الماركسيون مثلا أن الأفكار الليبرالية تعكس المصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة من أصحاب رأس المال في المجتمع الرأسمالي؛ فهم يصورون الليبرالية على أنها النموذج الكلاسيكي للأيديولوجية البرجوازية. وعلى الجانب الآخر يرى مفكرون مثل فريدريك حايك Hayek أن الحرية الاقتصادية -الحق في الملكية وحرية التصرف في الملك الخاص- هي ضمانة هامة للحرية السياسية؛ لذلك في رأي حايك لا يتحقق النظام السياسي الديمقراطي الحر واحترام الحريات المدنية إلا في نطاق النظام الاقتصادي الرأسمالي.
ولا شك أن التطورات التاريخية في القرنين 19 و20 قد أثرت في مضمون الأيديولوجية الليبرالية، فتغيرت ملامح الليبرالية مع نجاح الهيمنة السياسية والاقتصادية لدى الطبقات المتوسطة الصاعدة، كما أن السمت الثوري لليبرالية في بواكيرها منذ القرن السادس عشر تجاه واقعها تلاشى مع كل نجاح ليبرالي، فأصبحت الليبرالية أكثر محافظة وأقل سعيا للتغير والإصلاح وتميل للحفاظ على المؤسسات القائمة الليبرالية. ومنذ أواخر القرن 19 ومع تقدم الصناعة والتصنيع بدأ الليبراليون في إعادة النظر ومراجعة الأفكار والمفاهيم الليبرالية الكلاسيكية لتنشأ ليبرالية.. جديدة.
فبينما كان الليبراليون الأوائل يؤمنون بتدخل الحكومة المحدود جدا في حياة المواطنين، يعتقد الليبراليون الجدد أن الحكومة مسئولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والإسكان والمعاشات والتعليم، بجانب إدارة أو على الأقل تنظيم الاقتصاد. ومن ثَم أصبح هناك خطان من التفكير الليبرالي: الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الحديثة. ولذلك رأى بعض المحللين أن الليبرالية ليست أيديولوجية متماسكة، فهي تضم تناقضات بشأن دور الدولة، ولكن يمكن القول هنا إن الليبرالية في التحليل الأخير -مثل جميع الأيديولوجيات السياسية- قد تعرضت للتطور في مبادئها الرئيسية، وذلك مع التغيرات التاريخية المحيطة، فلا يوجد أيديولوجية سياسية جامدة أو متوحدة، فكلها تحتوي على مجموعة من الآراء والاجتهادات التي قد تتعارض أو تتناقض. وبالرغم من ذلك هناك تماسك ووحدة ضمنية في قلب الفكر الليبرالي، وذلك في الالتزام الأساسي بحرية الفرد والمبادئ التي تترتب على مذهب الفردية.
============(31/201)
(31/202)
الجوهر الليبرالي: فردانية القيم والتصورات
08/08/2004
…
هبة رءوف عزت**
جون لوك
الليبرالية -بدرجة كبيرة- هي أيديلوجية الغرب الصناعي، والمفاهيم الليبرالية تبدو غير منفصلة عن الحضارة الغربية على الوجه العام.
وقد تم تصوير الليبرالية مؤخرا في كتابات أنصارها بأنها ليست فقط أيديولوجية بل ما وراء - أيديولوجية Meta-Ideology، فهي مجموعة من القواعد تضع أرضية للنقاش السياسي والفكري، وذلك يبين أن الليبرالية تعطي الأولوية لما يوصف بـ"الحق الفردي" على ما هو "فاضل أو صالح"، أي أنها تسعى إلى توفير حياة "جيدة" للناس والجماعات حسب تعريفهم هم الفرداني لما هو جيد، وذلك دون أن تضع أو تفرض أي مفهوم للصلاح أو الفضيلة. وفي مواجهة الانتقاد القائل بأن الليبرالية محايدة من الناحية الأخلاقية يؤكد أنصارها أن أفكارها وقيمها لهذا السبب ذات جاذبية عالمية، فلا أحد يخاف قدوم الليبرالية؛ لأنها تتعامل مع مصالح أعضاء المجتمع بتساوٍ، ويؤكدون أن الليبرالية ليست أبدا فلسفة "افعل ما بدا لك!"، فبالرغم من أن الليبرالية تشجع الانفتاح والمناقشة وحرية الإرادة فهي تتسم كذلك باتجاه أخلاقي قوي، ويتجسد الموقف الأخلاقي لليبرالية في نظرهم في التزامها بمجموعة من القيم والمبادئ المتميزة، وأهم محاورها يدور حول ما يلي:
*الفرد
*الحرية
*العقل
*العدالة
*التسامح
مركزية الفرد
ايمانويل كانط
يعتبر مفهوم الفرد في العالم الحديث مفهوما مستقرا لدرجة أن أهميته السياسية تؤخذ أحيانا كإحدى المُسَلمات، فالليبرالية طورت ما كان عليه المفهوم في الحقبة الإقطاعية، حيث ساد إدراك للفرد باعتباره ليس لديه مصالح خاصة به أو هوية متفردة، فكان ينظر إلى الناس باعتبارهم أعضاء في مجموعات اجتماعية ينتمون إليها كالأسرة والقرية والمجتمع المحلي أو الطبقة الاجتماعية، فحياتهم وهويتهم كانت تتحدد بدرجة كبيرة بحسب صفات تلك المجموعات، وذلك في عملية تغير طفيف من جيل إلى آخر، وعندما انهار النظام الإقطاعي واجه الأفراد نطاقا أوسع من الخيارات والإمكانات الاجتماعية، وأتيح لهم لأول مرة التفكير الفردي المطلق وبشكل شخصي بحت، فمثلا الفلاح المملوك الذي عاشت وعملت أسرته في نفس قطعة الأرض أصبح الآن رجلا حرا لديه القدرة على اختيار عمله وصاحب العمل، وأن يترك الأرض ليبحث عن عمل آخر في المدن الكبيرة.
ومع سقوط معطيات الحياة الإقطاعية ظهر أسلوب جديد من التفكير، فالتفسير العقلاني والعلمي بدأ تدريجيا يحل مكان النظريات الدينية التقليدية وأصبح النظر والتعامل مع المجتمع من زاوية الفرد وتحرره وليس الحفاظ على تضامن الجماعات الاجتماعية.
وقد انتشرت نظريات الحقوق الطبيعية في القرنين 17 و18 التي وظفت الخطاب الديني بشكل إيجابي ولم تتحدث عن قطيعة معه البتة، وذهبت إلى أن الله وهب الأفراد حقوقا طبيعية، يعرفها جون لوك بأنها "الحرية والحياة والملكية"؛ فالفرد وحده يمتلك هذه الحقوق لذلك فهو أهم من أي جماعة اجتماعية. ويعتبر أصحاب نظريات "الحقوق الطبيعية" أن وظيفة المجتمع يجب أن تكون حماية مصالح واحتياجات الفرد، وقد عبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) عن اعتقاد مشابه لذلك بشأن كرامة ومساواة الأفراد، فهي غايات في حد ذاتها وليست طرقا لتحقيق أهداف الآخرين.
ويعتبر مبدأ أولوية الفرد على الجماعة الخط الرئيسي للفكر الليبرالي، حيث دفع بعض الليبراليين إلى تعريف المجتمع باعتباره "مجموعة من الأفراد يسعى كل واحد منهم لتحقيق مصالحه واحتياجاته". ويطلق على هذا الرأي المذهب "الذري"، حيث ينظر للأفراد كـ"ذرات متنافرة" بداخل المجتمع، ويؤدي هذا التفكير إلى أن استنتاج أن المجتمع نفسه غير موجود، بل هو "متخيل" فهو مجموعة من الأفراد المكتفين ذاتيا. وتقوم هذه الفردية المتطرفة على الافتراض بأن الفرد يتمركز حول الـ"أنا" فهو أساسا أناني ومعتمد على نفسه بدرجة كبيرة. ويصف ماكفيرسون Macphe r son الليبرالية الأولى بأنها "فردية مِلكية"، فالفرد هو المالك، ويمتلك نفسه وقدراته الخاصة به وهو لا يدين بها للمجتمع. وقد تطورت هذه الرؤية وصار لليبراليين فيما بعد رأي آخر أكثر تفاؤلا بشأن طبيعة الإنسان يؤمن بأن الأفراد لديهم مسئولية اجتماعية إزاء بعضهم البعض خاصة الأفراد غير القادرين على رعاية أنفسهم (كالمسنين والمستضعفين والمعوقين). وسواء اعتبرت الليبرالية الفرد أنانيا أو غير أناني؛ فقد اجتمع الليبراليون على الرغبة في خلق مجتمع يكون فيه كل فرد قادرا على تنمية وتطوير قدراته لأقصى درجة ممكنة.(31/203)
إن أهمية الفرد في مذهب الفردية تفوق أي جماعة اجتماعية أو كيان جماعي؛ فمن الناحية المنهجية لمذهب الليبرالية يكون الفرد مركز النظرية السياسية والتفسير الاجتماعي؛ فكل حديث عن المجتمع لا بد أن يكون من منطلق الأفراد الذين يشكلونه. وفي المقابل تقول الفردية الأخلاقية بأن المجتمع يجب أن يخدم الفرد، وبذلك يعطون أولوية للأخلاق الجماعية على حقوق واحتياجات ومصالح الفرد. هذا الموقف السابق يُعَد بمثابة موقف متميز عما ينادي به الليبراليون الكلاسيكيون واليمين الجديد من الأنانية الفردية التي ترتكز على المصالح الشخصية والاعتماد على النفس، بينما بلور الليبراليون الجدد هذا المفهوم بتأكيدهم على أهمية المسئولية الاجتماعية والإيثار جنبا إلى جنب مع مسئوليات الدولة الاجتماعية تجاه الأفراد.
الحرية
ايزيا برلين
من الطبيعي أن يؤدي الاهتمام الشديد بالفرد إلى المسئولية تجاه حريته. ويعتبر الليبراليون حرية الفرد القيمة السياسية العليا، فهي المبدأ الموحِد الجامع في الفكر الليبرالي الحر. وكانت الحرية لدى الليبراليون الأوائل حقا طبيعيا لازما للوجود الإنساني، فهي تعطي الأفراد الفرصة لتحقيق مصالحهم وممارسة حق الاختيار مثل اختيار السكن والعمل... إلخ، ورأى الليبراليون فيما بعد أن الحرية هي الشرط الوحيد الذي يمكن للأفراد من خلاله تنمية قدراتهم.
وبالرغم من ذلك لا يقبل الكثير من الليبراليين بالحرية المطلقة، فإذا كانت الحرية غير محددة المعالم فهي تصبح "ترخيصا يسمح بالإساءة للآخرين. وفي كتابه "عن الحريةOn Libe r ty "، يقول جون ستيوارت ميل: "إن المبرر الوحيد لممارسة القوة بشكل صحيح تجاه أي عضو في المجتمع المتحضر والتي تكون ضد إرادته هو منع الضرر عن الآخرين".
وكان "ميل" مؤيدا لمذهب التحررية، وممارسة أدنى حد من القيود على حرية الفرد. كما أنه فرق بين "الاهتمام بالمصلحة الشخصية" و"الاهتمام بالآخر" وهو ما يمثل حدا على حرية الآخرين أو إلحاق الضرر بهم، ويذهب ميل من الدفاع عن الحرية درجة رفض أي قيود على الفرد قد يتم تقنينها لمنعه من تدمير نفسه جسمانيا أو أخلاقيا، فهذا الأسلوب من التفكير يرفض القوانين التي تجبر سائقي العربات على ربط حزام الأمان أو سائقي الدرجات البخارية ارتداء الخوذة، ويساويها تماما بالرقابة التي تمنع الأفراد من القراءة أو الاستماع إلى رأي ما. بل ويدافع أصحاب الفكر التحرري المتطرف عن حق الفرد في فعل ما يشاء بما في ذلك تناول المخدرات(!)
وفي حين نجد أن الليبراليين يتفقون على قيمة الحرية فإنهم يختلفون في دلالات هذه الحرية في وعي الفرد. ففي كتابه "مفهومان للحرية" فرق أيزيا برلين Isaiah Be r lin بين النظرية السلبية والنظرية الإيجابية للحرية. وقد كان الليبراليون الكلاسيكيون يؤمنون أن الحرية هي قدرة الشخص على التصرف بالشكل الذي يختاره، وكان هذا المفهوم للحرية مفهوما سلبيا، حيث إنه قائم على غياب القيود الخارجية على الفرد. وفي المقابل يسعى الليبراليون الجدد إلى مفهوم أكثر إيجابية للحرية، وحسب تعريف برلين هي القدرة على أن يكون الفرد سيد نفسه ومستقل بذاته، وتتطلب السيادة على الذات أن يكون الفرد قادرا على تنمية مهاراته ومواهبه وعلى اتساع فهمه وتفهمه وعلى الوصول إلى الإنجاز والرضا. وتعني الحرية في فكر جون ستيورت ميلا أكثر من مجرد التحرر من القيود الخارجية؛ فهي قدرة الأفراد على التطور. وفي النهاية تحقيق الذات بما يتفق مع رغباتهم. وتلك المفاهيم المختلفة بل والمتعارضة للحرية أثارت الجدل الأكاديمي داخل المذهب الليبرالي فتبنى الليبراليون آراء مختلفة، بالتالي حول العلاقة المنشودة بين الفرد والدولة.
العقل
جيرمي بنثام
وترتبط الحرية في الفكر الليبرالي بالعقل؛ إذ يعتبر المذهب الليبرالي جزءا من مشروع التنوير، فالفكرة المركزية والرئيسية في رؤية التنوير هي تحرير البشرية من قيود "الخرافة والجهل" وإطلاق العنان لعصر العقل، وكان من أهم المفكرين في عصر التنوير جان جاك روسو بفرنسا وإيمانويل كانط بألمانيا وآدم سميث وجيرمي بانثام بإنجلترا. وقد أثرت عقلانية عصر التنوير في المذهب الليبرالي في كثير من الموضوعات، فهي في المقام الأول دعمت الاعتقاد في مركزية الفرد وحريته، فبقدر عقلانية الإنسان ككائن رشيد يكون قادرا على تحديد مصلحته والسعي وراء منفعته الشخصية. ولا يؤمن الليبراليون بأن الإنسان معصوم من الخطأ، ولكن الليبرالية دعمت الفرد بقوة في مواجهة "الأبوية". ورأت أنها لا تمنع الأفراد من اختيارهم الشخصي الحر وحسب، بل إنها لا تساعدهم على التعلم من الأخطاء، كما أنها تتيح لأصحاب السلطة الأبوية إساءة استخدام وضعهم لتحقيق أغراضهم الخاصة.(31/204)
وقد ورث الليبراليون عن العقلانية التنويرية أيضا إيمانها الشديد بفكرة "التقدم" التي تعني لديهم التوسع في المعرفة فيمكن الناس من خلال الثورة العلمية ليس فقط فهم وتفسير العالم بل تشكيله أيضا للأفضل. وبإيجاز تعطي سلطة العقل الإنسان القدرة على تحمل مسئولية الإنسان عن نفسه وحياته وتقرير مصيره، وبذلك تحرر العقلانية الفرد من قبضة "الماضي" ومن ثقل "العادات والتقاليد"، ويتقدم كل جيل عن الجيل الذي سبقه فيزداد ميراث المعرفة والفهم تصاعديا. وهو ما يفسر التأكيد الليبرالي على التعليم، فيمكن للناس تحسين أوضاعهم من خلال الحصول على المعرفة وهجر "الخرافات" و"التعصب"، فالتعليم في حد ذاته خير، فهو وسيلة حيوية للارتقاء والتنمية الذاتية للفرد.
وإذا كان التعليم على واسع النطاق فهو يحقق إنجازات تاريخية واجتماعية.
ولعبت العقلانية دورا هاما في التركيز على أهمية المناقشة والمناظرة والجدل. وبينما يحمل الليبراليون عموما نظرة تفاؤلية بصدد الطبيعة الإنسانية ويرون الإنسان كائنا عاقلا؛ فإنهم لم يذهبوا إلى حد وصف الإنسان بالمثالية والكمال؛ لأنهم أدركوا جيدا تأثير المصالح الشخصية وصفات الأنانية، وأن النتيجة الحتمية لذلك هي التنافس والصراع؛ لذا يتعارك الأفراد من أجل الموارد النادرة، وتتنافس الأعمال لزيادة الأرباح، وتناضل الأمم من أجل الأمن أو الحصول على ميزة إستراتيجية وهكذا. ولكن يفضل الليبراليون تسوية هذه الصراعات من خلال المناقشة والتفاوض. ومن أهم ميزات العقل أنه يعطي أساسا جيدا لتقييم المطالب والدعاوى المتنافسة إذا كانت منطقية.
ويمكن القول بأن العقلانية هي الاعتقاد في أن العالم لديه تكوين منطقي يمكن كشفه من خلال الممارسة العقلية للفرد والبحث النقدي، ومن حيث النظر المعرفي فالعقلانية هي تدفق المعرفة من العقل باتجاه العالم وليس العكس، والتجربة مجرد أداة. وأبرز من كتب في العقل والمعرفة كانط؛ وهو ما يختلف عن المنحى التجريبي الذي ساد لدى الليبراليين وكان مؤسسا على فكر ديكارت.
ومن حيث المبدأ العام تؤكد العقلانية على قدرة الفرد على فهم وتفسير الظواهر وعلى حل المشكلات. لكن العقلانية لا تلقن الغايات لسلوك الإنسان، بل تقترح أساليب الوصول إلى تلك الغايات دون الاعتماد على العرف أو التقليد أو اتباع الأهواء والرغبات.
العدالة
ترمز العدالة إلى نوع خاص من الحكم الأخلاقي يتعلق بالثواب والعقاب؛ فالعدالة هي إعطاء كل فرد ما يستحقه. والعدالة الاجتماعية تعني توزيع المنافع المادية في المجتمع مثل الأجور والأرباح، وتوفير متساوٍ للاحتياجات الأساسية من إسكان ورعاية طبية... إلخ.
وتقوم النظرية الليبرالية للعدالة على الالتزام الصارم بالمساواة بشكل شكلي. وإذا كان التعامل مع الناس في المقام الأول يقوم على اعتبارهم أفرادا، فإن لهم الحق في نفس الحقوق ونفس الاحترام. ويؤمن الليبراليون بالعالمية Unive r salism، أي أن كل الناس في كل مكان لديهم معالم مشتركة أو عالمية فهم يتساوون في القيمة الأخلاقية، ويتمتع كل الأفراد والناس بحقوق متساوية بحكم إنسانيتهم، فلهم حقوق طبيعية وإنسانية. فيجب ألا تقتصر الحقوق على طبقة ما أو جنس محدد، وبالتالي يرفض الليبراليون بشدة أية امتيازات يتمتع بها جماعة دون الأخرى على أساس من النوع أو الجنس أو اللون أو المذهب أو الدين أو الخلفية الاجتماعية. ويجب أن يكون الناس متساوين أمام القانون وأن يتمتعوا بحقوق سياسية ومدنية واحدة.
وينادي الليبراليون بالمساواة في الفرص؛ أي أن كل فرد لديه الفرصة في الصعود الاجتماعي وتحسين وضعه بجهده ودأبه. وذلك لا يعني أن تكون المساواة مطلقة بتدخل من الدولة كما في الاشتراكية؛ لأن الناس لم يولدوا متساوين، بل تختلف مهاراتهم ومواهبهم وبعضهم أكثر استعدادا لبعض الأعمال من غيرهم، ولكن يجب أن تكون أوضاع المعيشة والظروف الاجتماعية الأساسية الدنيا واحدة للجميع.. فمن الضروري مكافأة من يستحق ويجتهد، فالحوافز تساعد الأفراد على العطاء وتحقيق الذات وتنمية المواهب؛ لذلك فالمساواة من المنظور الليبرالي هي أن يكون لدى كل الأفراد فرصة متساوية لتنمية قدراتهم ومهاراتهم غير المتكافئة.
وتحدث الليبراليون عن حكم من يستحق Me r itoc r acy (أي حكم ذوي الإمكانيات والموهبة)؛ فالمجتمع الذي يحكمه هؤلاء -وليس الحكم القائم على عوامل خارج إرادة البشر مثل الحظ أو الفرصة- يعتبر مجتمعا عادلا لأن معاملة الناس فيه ليست بحكم الجنس أو لون البشرة أو الدين، بل تكون حسب قدراتهم واستعدادهم للعمل. والمكانة والثروة الموروثة لا تتفق مع مبادئ الحكم بالاستحقاق، لكن معظم الليبراليون يقبلون فكرة الميراث؛ لأنه على الجانب الآخر منع توارث الثروة يعني التدخل في حق الفرد صاحب المال في التصرف في ملكه حسب اختياره الشخصي، وذلك يمثل إساءة لمبادئ الحرية.(31/205)
ويختلف المفكرون الليبراليون في كيفية تطبيق العدالة الاجتماعية؛ ففي كتابه "نظرية في العدالة" يرى جون رولز أن الناس في حاجة إلى مكافأة عن العمل الذي يقومون به؛ لذلك تكون بعض الأساليب الاقتصادية المتباينة ضرورية لتعطي حافزا للأفراد، ولكنه يرى أن يطبق ذلك فقط لمصلحة الطبقات الأكثر فقرا وأقل ميزة في المجتمع. وفي رأيه أن العدالة الاجتماعية تفهم كمرادف لمفهوم القسط Fai r ness وباتجاه المساواة. فالثروة في المجتمع العادل يجب أن يعاد توزيعها من خلال نظام للشئون الاجتماعية وذلك لمصلحة الأقل غنى. وعلى النقيض يأتي روبرت نوزيك في كتابه "اللاسلطوية والدولة واليوتوبيا"؛ ليكون صدى للأفكار التحررية التي تبناها جون لوك في القرن 17. ويذهب نوزيك إلى أن أي توزيع للثروة حتى لو كان غير عادل فإنه يعتبر -اجتماعيا- عدلا طالما طبقت قواعد معينة "للحفاظ على العدالة" والتي تتضمن شرط الحصول على الملك بطريقة عادلة في المقام الأول -بدون سرقة أو تعدي على حقوق الآخرين- وأن تكون قد انتقلت بشكل عادل من شخص عاقل إلى آخر عاقل أيضا. وبناء على هذا يؤكد نوزيك على أهمية ألا ينتهك حق الملكية باسم العدالة الاجتماعية، ورفض بشدة فكرة إعادة توزيع الثروة.
تلك الآراء المتباينة حول العدالة الاجتماعية تكشف عن تعارض ضمني داخل الفكر الليبرالي حول أفضل الأوضاع لتحقيق المجتمع العادل. ويعتقد الليبراليون الكلاسيكيون أن استبدال النظام الإقطاعي بالسوق والمجتمع الرأسمالي يساعد على إيجاد مناخ اجتماعي يمكن أن يزدهر فيه الفرد وينمي قدراته، فكل الناس سواء في عين القانون يتمتعون بفرصة متساوية للصعود في المجتمع. وقد رأى الليبراليون الجدد أن الرأسمالية غير المقيدة أدت إلى ظهور أشكال جديدة من غياب العدالة الاجتماعية وذلك بتمييز البعض على حسب البعض الآخر؛ لذلك يفضلون تدخل الحكومة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية من أجل ضمان وحماية الفرصة المتساوية، وبالتالي تحقيق مجتمع عادل.
التسامح
فولتير
تتسم أخلاقيات الليبرالية الاجتماعي بقبول التنوع الأخلاقي والثقافي والسياسي. فقد ردد الليبراليون كثيرا المقولة الشهيرة لفولتير (1694 - 1778) "أنا أكره ما تقول ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله!". فالحريات الأساسية التي تدعم النظم السياسية الديمقراطية -حرية التعبير والعبادة الدينية والتجمع... إلخ- كلها ضمانات لانتشار التسامح كثقافة. ويتفق معظم المعلقين السياسيين على أن الليبرالية تمضي يدا بيد مع التعددية، فيعتبر تعدد القيم والآراء والمصالح في حد ذاته قيمة وفضيلة. ونقيضه هو القمع السياسي أو انتشار الطاعة العمياء. لذلك ومن حيث المبدأ فإن الليبراليين ضد الرقابة أو أي وسيلة لمنع حرية التعبير في المجتمع، وضد أي ثوابت أيا كانت.
وهذا يفسر الاستياء العميق الذي شعر به الليبراليون في الغرب من الفتوى التي أدلى بها الإمام آية الله خوميني عام 1989 بإعدام الكاتب الإنجليزي سلمان رشدي عندما نشر كتابه "آيات شيطانية" والذي رأى فيه المسلمون إهانة لعقيدتهم الدينية.
ويعني التسامح التقبل، أي الاستعداد لترك الناس يفكرون ويتكلمون ويتصرفون بأسلوب قد لا يتفق المرء معه. ويعتبر التسامح لدى الليبراليين خلقا مثاليا ومبدأ اجتماعيا. ومن جانب آخر تمثل هذه القيمة هدف الاستقلال الفردي، وتضع قاعدة تحكم سلوك الأفراد مع بعضهم البعض.
وتعتبر كتابات جون ميلتون وجون لوك في القرن الـ17 حول الدفاع عن الحرية الدينية للمذاهب المختلفة أولى إرهاصات دعم الليبراليين لقيمة التسامح تجاه الآراء المخالفة. وفي كتابه "رسالة حول التسامح" رأى لوك أنه ما دمنا قبلنا أن وظيفة الحكومة هي حماية أسلوب الحياة والحرية والملكية؛ فالحكومة ليس لها الحق في التدخل في رعاية أرواح العباد؛ فذلك يلقي الضوء على تمييز الليبراليين الواضح بين ما هو "خاص" وما هو "عام". فيجب أن يمتد التسامح ليشمل الأمور الخاصة التي رأوا أنها تشمل الدين ومسائل الأخلاق التي يجب أن تترك للفرد.
وبالرغم من ذلك لم يكن مفهوم البعض -ومنهم لوك على سبيل المثال- للتسامح مطلقا؛ فهو لم يكن على استعداد لتطبيق التسامح على الكاثوليك الرومان، وكانوا في نظره خطرا على الهيمنة القومية بسبب مبايعتهم للبابا الذي هو أجنبي، كما يؤيد الليبراليون المعاصرون القوانين التي تمنع وتصادر الآراء المؤيدة للعنصرية مثلا، والقوانين ضد تشكيل الأحزاب السياسية المعادية للديمقراطية، ويرون أن انتشار تلك الآراء أو نجاح تلك الأحزاب يهدد مناخ التسامح الليبرالي. وعمليا نجد أنه في حين يساند الليبراليون حق المسلمين في نقد مضمون كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية"، فقد كانوا يؤيدون مقاضاة من يدافع علنا عن إعدام سلمان رشدي.(31/206)
ويتعلق مفهوم التسامح وقبول الاختلاف والتنوع -في رأي الليبراليين- بقواعد المجتمع السوي غير الممزق بالنزاعات والصراعات. وبرغم أن الأفراد والجماعات الاجتماعية تسعى إلى تحقيق مصالح مختلفة، إلا أن هناك توازنا كامنا بين المصالح المتنافسة كما ذهب آدم سميث في حديثه عن "اليد الخفية"؛ فمثلا تختلف مصالح العمال وأصحاب الأعمال: فالعمال يريدون أجورا أفضل وساعات أقل وتحسين ظروف العمل - وأصحاب العمل يرغبون في زيادة أرباحهم عن طريق المحافظة على تكلفة الإنتاج المنخفضة والتي تشمل الأجور، ولكن يحتاج العمال إلى العمل وأصحاب العمل يحتاجون للعمالة، فتلك المصالح المتنافسة تكمل بعضها البعض، أو بمعنى آخر تعتبر كل مجموعة هامة لتحقيق أهداف المجموعة الأخرى. وقد يسعى الأفراد والجماعات وراء مصالحهم الذاتية، ولكن الموازنة الطبيعية تفرض نفسها. وقد أثر مبدأ الموازنة في تطور الأفكار الليبرالية من عدة جهات؛ فجعل بعض الليبراليين يوقنون بأن التوازن الطبيعي سيظهر في الحياة الاقتصادية، ويؤمنون بتوازن المصالح بين الجماعات المتنافسة في النظام السياسي، ويدافعون عن تصور أن السلام والانسجام ممكن بين شعوب العالم.
وهذا التركيز على التنوع والتسامح تعرض للكثير من النقد؛ فتصوير أنصار الليبرالية لها بأنها محايدة أخلاقيا ولا تفرض أي قيم أو عقائد معينة، بل فقط تخلق الظروف التي يمكن أن يعيش فيها أناس ذوو الأولويات الأخلاقية والمادية المختلفة في سلام ونجاح يجعلها تتجنب القيم المطلقة غير القابلة للتفاوض وغير قادرة على مواجهة واقع النزاع؛ فيكون القيد الوحيد على التنوع هو أن يكون كل طرف مؤهلا لتقبل آراء وتصرفات الآخرين، وهكذا يكون التسامح هو القيمة الجوهرية الوحيدة لدى الليبراليين. ويتمثل خطر هذا الوضع في أنه يؤدي إلى مجتمع خالٍ من الأخلاق وغير قادر على كبح جماح الجشع والأنانية. لذلك عاب المحافظون على الليبرالية أنها تقوم بدعم نسبية الأخلاق والثقافة، وفي نظرهم يؤدي غياب القيم الأساسية التي يقوم عليها بنيان المجتمع لجعل التفاعل المنظم والمتحضر مستحيلا لغياب الإجماع الأساسي اللازم لأي مجتمع. والنتيجة هي أن الناس يعلمون جيدا حقوقهم، ولكن لا يعترفون بأي واجب أو مسئولية. وفي العقود الأخيرة من القرن 20 تعرضت الليبرالية الفردية إلى نقد من قبل حركة المجتمعية السريعة الانتشار.
=============(31/207)
(31/208)
الليبرالية بين الكلاسيكية والحداثة
08/08/2004
هبة رءوف عزت**
ديفيد ريكاردو
أثار ظهور ما يسمى بالليبرالية الجديدة الاهتمام يإعادة قراءة الليبرالية الكلاسيكية؛ فالحق أن تلك الليبرالية الجديدة هي عودة سلفية لمبادئ الليبرالية قبل أن تتفاعل مع الحقبة الاشتراكية فتهذبها وتتبنى بعض السياسات والأفكار التي تحترم المساواة وحقوق الرفاهة للمواطن خارج منافسة السوق.
فالليبرالية الكلاسيكية هي الليبرالية الأولى التي ظهرت في الفترة الانتقالية بين الإقطاعية والرأسمالية، وقد وصلت إلى أوجهها في بداية الفترة الصناعية من القرن 19؛ ولذلك في بعض الأحيان يطلق على الليبرالية الكلاسيكية "ليبرالية القرن التاسع عشر"، وكانت المملكة المتحدة مهد الليبرالية الكلاسيكية؛ حيث تقدمت وتطورت الثورات الرأسمالية والصناعية. لذلك تأصلت الأفكار الليبرالية بعمق في الدول الأنجلوساكسونية مثل المملكة المتحدة وأمريكا أكثر من باقي دول العالم.
وقد أخذت الليبرالية الكلاسيكية أشكالا كثيرة، ولكن تعتبر الحرية السلبية هي الصفة المشتركة بين تلك النماذج المختلفة؛ فالفرد حر إذا ترك في حاله بدون تدخل الآخرين بأي صورة؛ فمعنى الحرية هنا هو غياب القيود الخارجية على الفرد. فهذا التصور للحرية يفرق بشكل ملحوظ بين الدولة والفرد؛ فالدولة كيان ظالم لديه السلطة لعقاب المواطنين ومصادرة أملاكهم بدفع الغرامات وسلب حرياتهم بالسجن، وفي بعض الأحيان تقضي على حياتهم بالإعدام. فبالتالي قيام الدولة حتى ولو كان ذلك عن طريق العقد الاجتماعي يقتضي حتميا التضحية بحرية الفرد الذي سيفقد المقدرة على عمل ما يريده.
ولاقت تلك المبادئ الأولى انتعاشا وإقبالا شديدا في النصف الثاني من القرن 20. وكان تأثيرها ملحوظا مرة أخرى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة حيث توجد صحوة معاصرة لليبرالية الكلاسيكية تحت اسم الليبرالية الكلاسيكية الجديدة أو الليبرالية الجديدة التي ظهرت كرد فعل للتدخل المتزايد للحكومة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في الفترة ما بعد الحرب والتي تجلت في اليمين الجديد.
وتأثرت الليبرالية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر بنظريات كبرى حول الطبيعة الإنسانية قام بوضعها أصحاب الفكر النفعي أمثال جيرمي بنثام وجيمس ميل. اعتبر بنثام فكرة الحقوق "هراء"، وسمى الحقوق الطبيعة "هراء على ركائز" واستبدلها بما يؤمن بأنه أكثر عملية وموضوعية؛ ألا أن الفرد يتحرك بدافع مصالحه الذاتية التي تعرف بالرغبة في اللذة والسعادة وتجنب الألم. فيرى بنثام وكذلك ميل أن الناس يحسبون قدر اللذة والألم الصادر من كل فعل وموقف؛ فبالتالي يختارون ما يبشر بأكبر قدر من اللذة والسعادة. ويؤمن المفكرون النفعيون أن السعادة والألم يمكن قياسهم بالمنفعة آخذين في الاعتبار الكثافة والمدة وهكذا، فالإنسان في رأيهم يتحرى أكبر قدر ممكن من النفع بالسعي وراء أكبر قدر من اللذة والسعادة وأقل قدر ممكن من الألم.
ومن الناحية الأخلاقية يمكن النظر إلى المنفعة لمعرفة "صحة" اتجاه السياسات والمؤسسات في توفيرها للسعادة، تماما كالفرد في قدرته على حساب أكبر قدر من السعادة الصادرة من الفعل؛ حيث يمكن الاستعانة بمبدأ "أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد" في السياسات لصالح المجتمع ككل. وفي أوائل القرن 19 في بريطانيا اجتمع حول بنثام مجموعة من المفكرين المتشددين فلسفيا وعرضوا عليه مجموعة وكبيرة من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والقانونية، وكلها ترتكز على فكرة المنفعة العامة.
فقد كان للنفعية أثر بالغ في الليبرالية وخاصة أنها تطرح فلسفة أخلاقية تفسر كيف ولماذا يسلك الفرد على النحو الذي هو عليه. كذلك تبنت الأجيال اللاحقة من الليبراليين التصور النفعي للإنسان على أنه مخلوق عقلاني يسعى وراء مصالحه الشخصية، وهي فكرة محورية وراء فكر الييبرالية الجديدة أيضا.
فيستطيع كل فرد في نظرهم تحديد أفضل مصالحه الخاصة دون غيره؛ فلا يمكن لغيره -الدولة مثلا- أن تفعل ذلك له. وحسب بنثام الناس تتحرك في إطار اللذة أو السعادة التي يتمتعون بها وبالطريقة التي يختارونها؛ فلا لأحد سواهم يمكن أن يحكم على نوع أو درجة سعادتهم. فإذا كان كل فرد هو الحكم الوحيد لما سيسعده؛ فالفرد وحده هو القادر على تحديد ما هو صحيح أخلاقيا.
والنظرية الاقتصادية الكلاسيكية تبلورت بالأساس في أعمال اقتصاديين سياسيين أمثال آدم سميث وديفيد ريكاردو (1770 - 1823). ويعتبر كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث أول كتاب يدرس في علم الاقتصاد؛ فقد اقتبس سميث أفكاره عن الطبيعة الإنسانية بشكل ملحوظ من الافتراضات الليبرالية والعقلانية، وكان له إسهامه المؤثر في الجدل حول الدور المرغوب فيه للحكومة بداخل المجتمع المدني. ومثل جوانب أخرى من الليبرالية الأولى كان أول ظهور علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في بريطانيا، حيث كان التحمس الشديد لأفكار ومبادئ هذا العلم التي تبنتها أيضا الولايات المتحدة.(31/209)
كتب آدم سميث كتابه في وقت فرضت فيه الحكومة قيودا صارمة على النشاط الاقتصادي؛ فكانت المركنتلية النظام الاقتصادي المسيطر في القرنين 16 و17 حيث تدخلت الحكومات في الحياة الاقتصادية من أجل تشجيع التصدير والحد من الاستيراد. وجاء سميث ليقول بأن الاقتصاد يكون في أوج نشاطه مع عدم تدخل الحكومة. ففي رأيه الاقتصاد هو السوق أو سلسلة من الأسواق المتعلقة بعضها ببعض. وتعمل السوق حسب رغبات وقرارات الأفراد الأحرار، وإن الحرية في السوق هي حرية الاختيار: مقدرة المنتج على اختيار السلعة التي يصنعها، ومقدرة العمال على اختيار أصحاب الأعمال، ومقدرة المستهلك على اختيار السلع والخدمات للشراء. فالعلاقات في هذه السوق بين صاحب العمل والموظفين، وبين البائعين والمستهلكين علاقات تطوعية أو عقدية.
ويفترض الاقتصاديون الكلاسيكيون أن الأفراد يسعون وراء تحقيق مصالحهم الشخصية ماديا بدافع الرغبة في التمتع باللذة أو السعادة، وذلك عن طريق تكوين واستهلاك الثروة. وتقوم النظرية الاقتصادية لحد كبير على فكرة "الرجل الاقتصادي"، وهي أن الإنسان يسعى إلى أكبر قدر من المنفعة وذلك بالكسب المادي.
وبالرغم من أن الفرد موجه نحو مصالحه الشخصية يعمل الاقتصاد ككل تحت ضغوط غير بشرية ألا وهي قوى السوق التي تتفاعل بذاتها نحو الرخاء والرفاهية الاقتصادية. على سبيل المثال لا يمكن لأي منتج لسلعة أن يحدد ثمنها؛ فالسوق هي التي تحدد الثمن حسب عدد السلع المعروضة للبيع وعدد المستهلكين الراغبين في شرائها؛ فتلك هي قوى العرض والطلب. إن السوق تدير نفسها بنفسها من خلال آلية التنظيم الذاتي؛ فهي لا تحتاج إلى التوجيه الخارجي. ومن ثَم يجب ألا تتدخل الحكومة في السوق؛ لأنها تدار -على حد قول آدم سميث- "بيد خفية". وتعكس فكرة الإدارة الذاتية للسوق المبدأ الليبرالي بأن هناك توافقا طبيعيا بين المصالح المتضاربة في المجتمع. ويعمل أصحاب الأعمال والعمال والمستهلكون نحو تحقيق مصالحهم الشخصية، ولكن قوى السوق تضمن توافق تلك المصالح؛ فمثلا يحقق العمل التجاري ربحا إلا من خلال ما يرغب المستهلك شراءه.
وقد استخدم الاقتصاديون في المراحل اللاحقة فكرة "اليد الخفية" لشرح كيف أن المشكلات الاقتصادية -مثل البطالة والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات- يمكن القضاء عليها من خلال آليات السوق؛ فمثلا تأتي البطالة نتيجة زيادة عدد المؤهلين للعمل عن الوظائف المتاحة أي عرض العمال يزيد عن الطلب لها. فتخفض قوى السوق من سعر العمالة أي أجورهم ، فمع انخفاض الأجور يمكن لصاحب العمل تعيين عدد أكبر من العمال وبالتالي تقل البطالة. لذلك تكون قوى السوق قادرة على القضاء على البطالة بدون تدخل الحكومة شريطة أن مستوى الأجور يكون مرنا مثل الأسعار الأخرى. وتؤدي السوق الحرة إلى كفاية اقتصادية، فمن أجل الربح لا بد أن تكون التكلفة منخفضة فالإسراف وعدم الكفاءة لا سبيل لهم في العمل الإنتاجي. في نفس الوقت تمنع المنافسة إمكانية الحصول على أرباح مبالغ فيها. إذا كانت الأرباح عالية بشكل غير عادي في مجال معين فذلك سيشجع المنتجين على دخول ذلك المجال، فبالتالي سيزيد الناتج وينخفض مستوى الأسعار والأرباح. وتنجذب الموارد الاقتصادية نحو أكثر الاستخدامات ربحا أي نحو مجال الإنتاج المتنامي والمزدهر وليس غير ذلك. وتعمل السوق بشكل إيجابي؛ لأنها دائما تسعى لتحقيق رغبات المستهلك، فالمستهلك هو المسيطر على زمام الأمور، ولكي تحافظ المؤسسات على ربحها العالي لا بد أن تعرف جيدا وتوفي حاجات ورغبات المستهلك. وبذلك وبشكل طبيعي تتحرك قوى السوق نحو رفع كفاءة وقوة الاقتصاد الذي يستجيب ذاتيا لأي تغيير في طلب المستهلك.
وأصبحت أفكار السوق الحرة اعتقادا اقتصاديا في المملكة المتحدة وأمريكا أثناء القرن 19. ووصلت مبادئ السوق الحرة ذروتها مع مبدأ laissez fai r e، أي "دعه يعمل" وذلك يعني أن الحكومة يجب ألا يكون لها دورا اقتصاديا وترك الاقتصاد وحده والسماح لأصحاب الأعمال مباشرة أعمالهم كيفما يروق لهم. ويتضارب هذا المبدأ مع قوانين المصنع مثل منع توظيف الأطفال والحد من ساعات العمل وأي لائحة من لوائح أوضاع العمل. وتقوم تلك الفردية الاقتصادية على فكرة السعي غير المقيد وراء الربح والذي في النهاية يؤدي إلى المنفعة العامة. واستمر مبدأ "دعه يعمل" قويا في المملكة المتحدة على مدى القرن 19 وكذلك في الولايات المتحدة حتى عام 1930، حيث لاقى معارضة حادة. وفي أواخر القرن 20، تم أحياء فكرة السوق الحرة أثناء إدارة ريجن في الولايات المتحدة وحكومات تاتشير وماجور في المملكة المتحدة. فمن المتوقع أن تقوم الدولتان بزيادة كفاءة الاقتصاد وإنمائه ورفع "يد الحكومة الميتة" عنه، والسماح للقوة الطبيعية لآلية السوق أن تثبت نفسها مرة أخرى. ومن المظاهر الأخرى لليبرالية الاقتصادية هي التجارة الحرة.
=============(31/210)
(31/211)
الدارونية الاجتماعية
08/08/2004
هبة رءوف عزت**
فرانكلين روزفلت
مما تتميز به الليبرالية الكلاسيكية (والجديدة) مواقفها من الفقر والمساواة الاجتماعية. ينظر الفكر السياسي الفردي إلى الأوضاع الاجتماعية من حيث المواهب وجدية عمل كل فرد على حدة، فيعمل الأفراد ما يريدونه وفي حدود قدراتهم بحياتهم الخاصة. وتعتبر السوق الحرة في سماحها لكل الناس أن يحققوا مصالحهم الخاصة ضمانا للعدالة الاجتماعية، فمن كان لديه القدرة والاستعداد للعمل سوف ينجح (من جد وجد). ويبدأ كتاب صمويل سميلز كما يبين عنوانه "الاعتماد على النفس (1859)" بالمقولة "السماء تساعد من يساعدون أنفسهم"؛ فقد تبنى المؤيدون لـ"دعه يعمل" تلك الأفكار عن المسئولية الفردية. على سبيل المثال نادى ريتشارد كوبدن (1804 - 1865) -وهو عالم اقتصادي وسياسي إنجليزي- بتحسين أوضاع الطبقات العاملة، ولكن يتم تحقيق ذلك من خلال جهودهم الذاتية والاعتماد على النفس وليس من خلال القانون ونصحهم ألا يركزوا على البرلمان ولكن أن يركزوا على أنفسهم.
وتبلورت مبادئ اعتماد الفرد على نفسه في كتاب "الإنسان مقابل الدولة (1884)" الذي كتبه ألبرت سبنسر (1820 - 1904، فليسوف وعالم اجتماع إنجليزي). وقد دافع سبنسر بشدة عن مبدأ "دعه يعمل" مستندا إلى حجج استخدامها فيما بعد العالم البريطاني تشارلز دارون (1809 - 1882) في كتابه "في أصل الأنواع (1859)". وضع دارون نظرية التطور التي تفسر التنوع في المخلوقات على الأرض؛ فهو يرى أن كل نوع من المخلوقات يمر بسلسلة من التغيرات العشوائية الجسدية والعقلية. وبعض هذه التغيرات ساعدت على بقاء ونجاح النوع، ولكن غيرها استحال لها البقاء. خلقت المخلوقات على الأرض في نطاق واسع، ولكن كثيرا منها انقرضت؛ فإنها عملية "الانتخاب الطبيعي" التي تحدد النوع الصالح للبقاء ومن هو غير ذلك.
وبالرغم من أن آراء دارون كانت تقتصر على العالم الطبيعي فإنها استخدمت في صياغة نظريات اجتماعية وسياسية. ويعتقد سبنسر مثلا أن عملية الانتخاب الطبيعي تسري أيضا على المجتمع الإنساني الذي يتسم بمبدأ "البقاء للأصلح"، فصور المجتمع على أنه ساحة لنزاع الأفراد للبقاء، فمن كان أكثر تكييفا للطبيعة صعد إلى القمة بينما يسقط إلى القاع من كان أقل تكييفا. فإن التفاوت في الثروة والوضع الاجتماعي والنفوذ السياسي أمر طبيعي وحتمي يجب ألا تحاول الحكومة التدخل فيه؛ فدعم ومساعدة الفقير أو العاطل أو المحروم هو تحدٍّ للطبيعة نفسها. وقام وليم سمنر (1840 - 1910، وهو تلميذ سبنسر) بكل جرأة يعبر عن هذا التفكير عام 1889 بقوله: "السكير في البالوعة هو المكان الذي يحق أن يكون فيه".
وتتعارض الدارونية الاجتماعية في الفكر الليبرالي مع فكرة الرفاهة الاجتماعية. إذا وفرت الحكومة المعاشات والإعانات والتعليم والعلاج المجاني؛ فذلك سيساعد الفرد على الكسل، وسيحرم من احترام نفسه، ولكن إذا تم تشجيع الناس على الاعتماد على أنفسهم فسوف يتمتعون بالإحساس بالكرامة، وسيصبحون عناصر منتجة في المجتمع. ولم تقتصر هذه الآراء على القرن 19، بل امتد أثرها إلى اليمين الجديد في أواخر القرن 20. فسعت إدارة ريجن إلى دعم "أيديولوجية الحدود" التي تؤكد على الاعتماد على النفس وعقد المشروعات. وكذلك هاجمت حكومات تاتشير وماجير في المملكة المتحدة "ثقافة التبعية" التي شجعتها حكومة الرفاهة، وتبنت بدلا منها "ثقافة المشروعات" على الطريقة الأمريكية.
يطلق على الليبرالية الحديثة في بعض الأحيان ليبرالية القرن 20. تماما مثلما ارتبط ظهور الليبرالية الكلاسيكية بالرأسمالية الصناعية في القرن 19، تعلقت الليبرالية الحديثة بالتقدم في التنمية الصناعية والتي جلبت معها ثروات مهولة للبعض، ولكن صاحبها انتشار العشوائيات والفقر والجهل والمرض. وأصبح من الصعب التغاضي عن التباين الاجتماعي المتمثل في أوضاع طبقة العمال التي أصبحت الطبقة المحرومة من جراء الأجور المنخفضة والبطالة، وتدني ظروف العمل والظروف المعيشية. وكانت لهذه الأوضاع الأثر على الليبرالية البريطانية منذ أواخر القرن 19، ولم تظهر آثارها في الدول الأخرى إلا فيما بعد؛ فمثلا في أمريكا لم تتأثر الليبرالية الأمريكية بها إلا في الثلاثينيات عند حدوث أزمة الركود الاقتصادي. ففي ظل تلك التغييرات التاريخية كان من الصعب أن يتمسك الليبراليون بمقولة: إن الرأسمالية الصناعية جلبت معها الرخاء والحرية للجميع. ونتيجة لذلك بدأ مراجعة المبادئ الأولى التي تزعم أن السعي وراء المصالح الشخصية بدون قيود يؤدي إلى وجود مجتمع يتمتع بالعدالة الاجتماعية. وتزايد الهجوم على الفردية الاقتصادية وأعاد الليبراليون النظر في موقفهم إزاء الدولة. وأصبحت النظرية الكلاسيكية بخصوص الدور المحدود للحكومة غير قادرة على حل مشكلات التفاوت الاجتماعي وغياب العدل في المجتمع المدني. ومن ثَم بدأ الليبراليون الجدد في تشجيع سياسة التدخل الحكومي والدور الفعال للدولة.(31/212)
ويشارك الليبراليون الجدد الكلاسيكيين في تفضيل الأفراد المعتمدين على أنفسهم والمسئولين عن حياتهم، ولكن الاختلاف في أن ذلك يحدث فقط تحت أوضاع اجتماعية تسوق إلى ذلك. وترتكز الليبرالية الحديثة على مساعدة الأفراد من أجل تمكينهم من مساعدة أنفسهم.
وشهد القرن 20 تنامي تدخل الحكومة في معظم الدول الغربية وكثير من الدول النامية في السوق لضمان الرفاهة في حدها الأدنى والذي في الغالب أخذ شكل تقديم الدعم للمواطنين للقضاء على الفقر والمرض والجهل. وإذا كانت الدولة المحدودة تمثل ما كانت عليه الدولة في القرن 19، أصبحت الدولة الحديثة في القرن 20 دولة رفاهة وذلك لأسباب تاريخية وأيديولوجية. كانت الحكومات تسعى وراء تحقيق النهوض القومي وزيادة قوى العمل الصحية وتعزيز جيوش قوية؛ كما تعرضت الحكومة في الانتخابات لضغوط من أجل الإصلاح الاجتماعي الصادرة من عناصر شعبية حديثة التصويت مثل العمال وفي بعض الأحيان الفلاحين. ولا يقتصر الجدل السياسي على نشر الخدمات والرفاهة الاجتماعية على أيديولوجية واحدة دون غيرها، ولكن تم تناولها بطرق مختلفة من قبل الاشتراكيين والليبراليين والمحافظين وأنصار الحركة النسائية حتى الفاشيين. طرح الليبراليون الجدد فكرة الرفاهة على النقيض التام مع الكلاسيكيين الذين مجدوا مبدأ مساعدة الذات والمسئولية الفردية. وكانت المساواة في الفرص حجة الليبراليين الجدد في الدفاع عن الرفاهة الاجتماعية. فإذا كان هناك أفراد أو جماعات محرومة بسبب ظروفهم الاجتماعية، فعلى الحكومة مسئولية اجتماعية للقضاء على هذا الحرمان. وتنعكس هذه المسئولية في تنمية دولة الرفاهة. ولا تقلص زيادة مسئوليات الحكومة من حقوق الفرد بل توسعها؛ فمثلا اكتسب المواطنون مجموعة من الحقوق الاجتماعية كالحق في العمل والحق في التعليم والحق في إسكان لائق. وكان الليبراليون الكلاسيكيون يؤمنون بأن الحقوق الوحيدة التي يستحقها المواطن هي الحقوق السلبية التي تعتمد على تقييد نفوذ الحكومة مثل الحق في التعبير والحق في العبادة الدينية؛ حيث إنها تمثل "عالما خاصا" يجب ألا تقترب منه الحكومة. من الجانب الآخر نجد أن حقوق الرفاهة هي حقوق إيجابية من قبل الحكومة عن طريق توفير المعاشات والمنح والعلاج والتعليم المجاني.
وأثناء القرن 20 كان للحكومات والأحزاب الليبرالية عادة الريادة في مناصرة قضية الرفاهة في المملكة المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى على يد حكومة أسكيث الليبرالية التي طبقت نظام المعاشات للمسنين والتأمينات الصحية وتأمينات البطالة. وعندما توسعت دولة الرفاهة في المملكة المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في عهد حكومة أتلي العمالية كانت قائمة على تقرير بفيريدج لعام 1942، وهو برنامج عمل تقدم به الليبرالي الحديث وليم بيفريدج (1879 - 1963)، ويقترح هذا التقرير إيجاد نظام شامل للأمن الاجتماعي يضم كل المواطنين "من المهد إلى اللحد". وقام الحزب الليبرالي في كندا بحملة لتبني سياسات للرفاهة شاملة، بينما أيد الحزب المحافظ التقدمي مبادئ المسئولية الفردية والعمل الحر.
وتطورت الرفاهة الليبرالية في الولايات المتحدة في الثلاثينيات في عهد روزفلت. وبقت الفردية الاقتصادية ومساعدة الذات مسيطرة في القرن 20 حتى جاء روزفلت بـ"البرنامج الجديد" كإعانة عامة للعاطلين والمسنين والأطفال والأرامل والمكفوفين. واستمرت ليبرالية البرنامج الجديد بعد موت روزفلت في عام 1945 ووصلت ذروتها في الستينيات بسياسات جون كيندي التي تسمى "الحدود الجديدة" وبرنامج "المجتمع الكبير" في عهد ليندن جونسون الذي ركز فيه على تحسين الحقوق المدنية لدى السود الأمريكيين وكذا مواجهة الفقر والقذارة في المدن الأمريكية. كما نشأت التفرقة الإيجابية في الولايات المتحدة والتي يطلق عليها "العمل الإيجابي" لتعهدها الليبرالي في تكافؤ الفرص. وهنا يعامل الأفراد أو الجماعات باعتبارات خاصة تعويضا عن ظروف اجتماعية عائقة. ففي الولايات المتحدة تم تبني المبدأ في نطاق واسع منذ الستينيات لتوفير الفرص الاجتماعية للسود ذوي الدخول المنخفضة ومعدلات البطالة المرتفعة والإسكان الفقير. ويمكن في أمريكا للطلبة السود الالتحاق بالتعليم العالي بمؤهلات أقل من نظائرهم البيض. ومن الطبيعي يمكن تطبيق مبدأ التفرقة الإيجابية على العوائق الاجتماعية الأخرى الناتجة عن الجنس والسن والإعاقة الجسدية.(31/213)
وبالإضافة إلى توفير الرفاهة الاجتماعية سعت الحكومات الغربية في القرن 20 إلى تحقيق الرخاء وذلك "بإدارة" اقتصادهم. ويأتي ذلك مرة أخرى ضد التفكير الليبرالي الكلاسيكي، لا سيما السوق الحرة التي تعمل ذاتيا، ومبدأ "دعه يعمل"، أو سياسة عدم التدخل التي صرف النظر عنها من جراء تزايد الاقتصاد الرأسمالي الصناعي تعقيدا وعدم قدرته على تحقيق الرخاء إذا تُرك يعمل ذاتيا. وقد أدى الركود الاقتصادي الكبير في الثلاثينيات الذي تسببه انهيار بورصة وول ستريت عام 1929 إلى معدلات عالية في البطالة في العالم الصناعي وكثير من الدول النامية. وكان ذلك تأكيدا لفشل السوق الحرة. وسارعت كل الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية بتبني سياسات التدخل الاقتصادي لتجنب الرجوع إلى معدلات البطالة فيما قبل الحرب.
وكانت تلك السياسات مستوحاة لحد كبير من كتاب "النظرية العامة عن العمالة والمصلحة والمال (1936)" لجون ماينارد كينز الذي هاجم فكرة السوق الذي يعمل ذاتيا. وفي نظر الكلاسيكيين هناك حلول للمشكلات الاقتصادية فتنخفض البطالة مع انخفاض الأجور ولكنها تستمر على ما عليها إذا كانت مستويات الأجور غير مرنة، وذلك عادة يحدث ضغوط الاتحادات العمالية. فحرفيا حسب هذا الرأي يقيم العمال أنفسهم خارج وظيفتهم. وجاء كينز يقول: إن مستوى النشاط الاقتصادي، وبالتالي العمل يحدد حسب الحجم الكلي للطلب -الطلب الإجمالي- في الاقتصاد: إذا انخفضت الأجور تقل قوة الشراء في الاقتصاد، وبالتالي الطلب الإجمالي. وإذا قل المال في يد الناس قل إنتاج السلع والبضائع، وحينئذ تتحرك السوق الحرة لولبيا نحو الركود ولا يمكنها النهوض بنفسها. وذلك ما حدث في الثلاثينيات على حد قول كينز، وعلى خلاف ما سبقها من الدورات التجارية لم ينتهِ الركود الكبير إلى الارتفاع "الطبيعي" في الثروات الاقتصادية. ويرى كينز أن الحكومات يمكن أن تدير اقتصاداتها من خلال الطلب الإجمالي، فالصرف الحكومي عبارة عن إدخال مجالات جديدة من الطلب في الاقتصاد، فمثلا بناء المدارس يخلق فرص عمل للبناءين ويوجد الطلب على مواد البناء، مما يكون له الأثر في الاقتصاد فهؤلاء البناءون سيكون لهم القدرة أكثر على الشراء. وذلك ما يطلق عليه كينز "الأثر المضاعف". أما الضرائب فهي تعتبر "ارتدادا" في الاقتصاد؛ لأنها تقلل من الطلب الإجمالي وتخمد النشاط الاقتصادي.. وفي أوقات البطالة اقترح كينز أن الحكومة عليها أن "تنعش" الاقتصاد من خلال زيادة المصروفات العامة أو خفض الضرائب؛ فذلك يحل مشكلة البطالة، ولكن ليس "باليد الرأسمالية الخفية"، بل بتدخل الحكومة من خلال العجز في الميزانية؛ أي أن الحكومة تنفق أكثر مما لديها من موارد. وتمكن طريقة كينز في إدارة الطلب الحكومة من التحكم في العمل ومستويات النمو، وبالتالي ضمان الرخاء العام.
ومع توفير نظام الرفاهة الاجتماعية اعتبرت الليبرالية الحديثة إدارة الاقتصاد عملا بنّاء يعمل على تعزيز الرخاء والتوافق في المجتمع المدني. ولم يرفض كينز الرأسمالية ولكنه كان منقذها؛ ففي رأيه عدم تقييد المشروعات الخاصة شيء غير مُجدٍ في المجتمعات الصناعية المعقدة. وكان "البرنامج الجديد" في عهد روزفلت أول تطبيق لفكر كينز، ولكن تعهد روزفلت لميزانية متوازنة؛ حيث إن رفض زيادة الإنفاق الحكومي على الأشغال العامة من أجل رفع إيرادات الضرائب أدى إلى انخفاض تدريجي في معدلات البطالة. وفي الواقع انتهى الركود الكبير بالتوسع الملحوظ والمنتشر في المجال العسكري استعدادا للحرب، ولم يكن ذلك مقصودا لعلاج مشكلة البطالة. وبدا هذا الوضع جليا في ألمانيا عندما انخفضت معدلات البطالة إلى النصف في 18 شهرا بعد تعيين هتلر مستشارا في عام 1933. وتم معالجة البطالة في الفترة بين الحربين بدون قصد بالطريقة الكينزية.
وعلى صعيد آخر بعد الانتهاء من الحرب العالمية الثانية رسخت مبادئ كينز على نطاق واسع لتصبح تقليدا اقتصاديا في الغرب بدلا من سياسة "دعه يعمل" القديمة. وبالفعل استخدمت كل الدول سياسة الإدارة الاقتصادية في إعادة البناء الاقتصادي في الفترة ما بعد الحرب وفي التخطيط والنمو المستقبلي. وكان الفضل للكينزية التي كانت السبب الرئيسي في الازدهار الاقتصادي الطويل في الخمسينيات والستينيات؛ حيث الانتشار الواسع في الثراء، وذلك على الأقل في الدول الغربية. وانتصرت في تلك الفترة مبادئ كينز على مبادئ المحافظين والاشتراكيين حتى الليبراليين.(31/214)
ولم تواجه الطريقة الكينزية أي نقد في الغرب الصناعي حتى ظهور المشكلات الاقتصادية في السبعينيات التي جددت التفكير في النظريات الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي. وتحولت الأولويات عن الطريقة الكينزية في العمالة الكاملة إلى سياسات تخفيض الضخم الذي ارتفع بشكل مستمر نتيجة لزيادة النفقات العامة مما عرقل النمو الاقتصادي. ولكن مرة أخرى تم إحياء مبادئ كينز في الاقتصاد بعد فشل ثورة السوق الحرة في الثمانينيات التي أسفرت عن سقوط اقتصادي طويل المدى. وبالرغم من أن الكينزية البحتة التي طبقت في الخمسينيات والستينيات لا جدوى لها في عصر العولمة؛ فإنها جددت الوعي بحقيقة الرأسمالية غير المنتظمة التي لا تجلب إلا استثمارا منخفضا وقصر الأجل وانهيارا اجتماعيا.
==============(31/215)
(31/216)
الليبرالية في القرن 21
08/08/2004
هبة رءوف عزت**
فرانسيس فوكوياما
اتسم القرن 20 بإعلان الليبرالية انتصارها على مستوى العالم في مقولة فوكوياما الشهيرة حول نهاية التاريخ التي أغفلت جرائم الليبرالية الاقتصادية في حق الطبقات الدنيا وفي حق الشعوب غير الغربية، وقد عبر عن ذلك فوكوياما (1989) في قوله: "إننا نشاهد نهاية التاريخ وذلك في نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وعالمية الديمقراطية الليبرالية الغربية كآخر شكل للحكومة الإنسانية".
ومن السهل تأسيس هذه الفرضية على بعض الشواهد التاريخية؛ فبعد سقوط الفاشية في عام 1945 كانت الشيوعية السوفيتية البديل الرئيسي لليبرالية الغربية، ولكن حتى هذا النظام انهار باندلاع الثورات في دول أوربا الشرقية في الفترة 1989 - 1991 رافضة لمبادئ التخطيط والتدخل الحكومي. وأما في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يتم عملية دمقرطة النظم السياسية بانتشار التنافس الحزبي وتنامي الاتجاه نحو الإصلاح الاقتصادي القائم على السوق. وإذا كانت تلك العمليات المستمرة تعكس التفوق الواضح لليبرالية على الأيديولوجيات المنافسة (كنهاية للتاريخ كما تزعم النظرية)، أو أنه نتيجة لظهور نظام رأسمالي كوني تسيطر عليه شركات متعددة الجنسية (كما يحذرنا النقاد)، فالمستقبل يبدو لنا ظاهرا: سوف تنكمش الاختلافات الاقتصادية والسياسية تدريجيا في معدلات مختلفة لتلتقي جميعا على النموذج الليبرالي.
لكن الانتصار الليبرالي يواجه تحديات داخلية وخارجية جديدة. فداخليا تتعرض الليبرالية في المجتمع الغربي لنقد من قبل المفكرين الذين أعادوا اكتشاف أهمية المجتمع التراحمي. وظهرت "النظرية المجتمعية" كرد فعل لمساوئ الليبرالية الفردية. وعلى سبيل المثال رفض المفكران أليسدير ماك إنتير ومايكل ساندل الفردية على أنها سطحية ومعادية للجماعة الاجتماعية، حيث إنها تعامل الذات على أنها غير مسئولة تستمد هويتها من داخلها بدلا من العوامل الاجتماعية والتاريخية والثقافية المحيطة بها. ففي نظرهم أن الذات جزء لا يتجزأ من الممارسات والعلاقات الاجتماعية، كما أن العيب الذي يكمن في الليبرالية هو أنها غير قادرة على إنشاء سياسة الصالح العام؛ بسبب تركها للفرد اختيار الحياة التي تروق له والتي يستحسنها من مفهومه الشخصي. ويساعد هذا الفراغ الأخلاقي على تفكك المجتمع. ونظرا لعدم تقيدهم بالواجبات الاجتماعية والمسئولية الأخلاقية. ولا يهتم الأفراد إلا بمصالحهم وحقوقهم الشخصية؛ فعلى المدى الطويل قد يفقد المجتمع الليبرالي المنابع الثقافية لمراجعة الأنانية غير المقيدة أو لتعزيز التعاون والجهد الجماعي.
ويأتي التحدي الخارجي لليبرالية من خارج الغرب. فمع نهاية النظام العالمي الثنائي القطب الذي تمثل في الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي أفسح المجال لقوى جديدة غير ليبرالية كالتي ظهرت مع الديمقراطية الليبرالية. ففي أوربا الشرقية أثبتت الصحوة القومية التي يستمد منها الشعب القوة والثبات والأمن أنها أقوى من الليبرالية الحاسمة. وترتبط هذه القومية بالنقاء العرقي والسلطوية عنها بالمبادئ الليبرالية مثل إقرار المصير والكبرياء الحضري. كذلك ظهرت نماذج متنوعة من الأصولية في الشرق الأوسط وفي بعض مناطق أفريقيا وآسيا. وينتشر الإسلام السياسي عن الليبرالية في كثير من الدول النامية؛ لأنه قادر على تقديم موقف غير غربي بدلا من اتخاذ موقف ضد الغرب. وذلك بالإضافة إلى أن المناطق التي نجح فيها اقتصاد السوق لم تكن دائما قائمة على قيم ومؤسسات ليبرالية، فمثلا قد ترجع صحوة شرق آسيا إلى قدرة الكنفوشسية للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي عنها إلى تأثير المبادئ الليبرالية مثل المنافسة والبقاء الذاتي.
وبدلا من الاتجاه نحو عالم ليبرالي موحد تتصف التنمية السياسية في القرن 21 بتنامي التنوع الأيديولوجي، وقد يكون الإسلام والكنفوشسية وحتى القومية السلطوية المنافسين الجدد لليبرالية الغربية. ويقول جون جراي صاحب كتاب "ما بعد الليبرالية": إن هذا المنظور ينبع من طور أكبر؛ ألا وهو انهيار المشروع التنويري الذي تعتبر الليبرالية جزءا منه. ويفترض هذا المشروع أن هناك مجموعة من المبادئ العقلانية قابلة للتطبيق العالمي يمكن أن ترسي أوضاعا تسمح للأفراد بالسعي وراء غايات غير متساوية. وتقع مهمة الليبرالية في إيجاد مؤسسات لتحقيق هذا الهدف، وهي تتمثل في الحكومة التمثيلية والتنافس الحزبي واقتصاد السوق لتحقيق حياة طيبة للفرد بدون خلل وانهيار اجتماعي.
مراجع مقترحة للباحث في النظرية الليبرالية
08/08/2004
…
هبة رءوف عزت**(31/217)
(31/218)
(31/219)
(31/220)
الأقلية الليبرالية ..والصراع الداخلي المفتعل!
صخرة الخلاص
لا يزال المجتمع السعودي على وجه التحديد، هو المجتمع الذي يستعصي على العلمانية والليبرالية، ولا زال الصخرة التي تتحطم عنها آمالهم وتطلعاتهم.
المجتمع السعودي يثبت في كل لحظة -أعني في كل لحظة يكون فيها الخيار حراً- أن الناس تختار ربها ودينها وإسلامها، وأن كلمات الليبراليين لن تتجاوز قدرها المحصور في جريدة زرقاء أو خضراء.
لكن الملاحظ أن الأقلية العلمانية -ولا يوجد ليبرالية سعودية إلا جدلاً- استطاعت أن تفرض لها وجوداً عريضاً على الورق الصحفي، وتكتب وتجادل وتصارع، حتى يخيل لك أنهم نصف البلد أو أكثر. وهذا أمر لا يستغرب إذ الإعلام بيدهم وهم الذين يتصرفون فيه كما يشاءون، فيمنعون ويفسحون ما يشاءون.
هذا لا يهم.. بقدر انجرار بعض الأحبة الفضلاء في تضخيم هؤلاء وإعطائهم أكبر من حجمهم في أرض الواقع، وهم -أي الليبراليين- يريدون أن يوهموا المجتمع بأن حجم صراعهم الورقي هو نفس حجم وجودهم المجتمعي، وأظن أنهم لحد بسيط نجحوا حينما انجر بعض الفضلاء في جعل الليبرالية هي قضيته في برامجه وحواراته ومقالاته.
هذا ما يريده هؤلاء فعلاً، ولدي سؤال بسيط للأخوة الفضلاء: ما هو حجم العلمانية عندنا؟ وهل تتوقع أن تجد لهم همساً لو مُنعوا من الصحافة الوطنية؟
الكل سيؤكد أنهم أقلية قليلة تُعد على أصابع اليد، وإنما كبروا لأن الجرائد المحلية تُركت بأيديهم، وهكذا خُيَّلَ للناس أن لهم وجود يوازي وجود كيان كبير داخل المجتمع!
أتمنى من الأخوة الفضلاء أن يصرفوا وقتهم وجهدهم هذا -وبحكم مكانتهم- إلى ما هو أنفع، والذي يتمثل في المطالبة بإعطاء المجتمع الحقيقي دوره في الكتابة في جرائده الوطنية. وإذا كان هؤلاء المشايخ الفضلاء الذين نعرفهم محبين لوطنهم ولولاة أمورهم ولهم مكانة طيبة في المجتمع وعند ولاة الأمر، وفي نفس الوقت يقولون: "إن هؤلاء الليبراليين يكتبون في صحفنا المحلية ما يناقض الثوابت وأصول الدين أو يقولونه في نواديهم".
أليس الأولى -يا مشايخي الكرام- بدل أن نشارك في صراع الأقلية الضئيلة ونضخمهم، أن يُمنع هؤلاء الأقلية من الكتابة في صحف السعودية بلاد الحرمين، وأن يُبذل الجهد عند ولي الأمر لبيان حقيقة هؤلاء وخطرهم بالدلائل والبراهين والوثائق، فإن الله ينزع بالسلطان مالا ينزع بالقرآن.
وإن اعتبر أن هذا ديكتاتورية ومصادرة لحرية الرأي، فلماذا لا تعلن انتخابات حرة ونزيه يُختار بموجبها رؤساء التحرير وكتاب المقالات؟ أليس هذا من العدل، بل ومما يتماشى مع لعبة الليبرالية؟
القضية أبسط مما يتصور البعض إذا أريد حلاً حقيقياً يحل ذلك الصراع المفتعل، والذي -والله- سيؤدي لهزيمة الوطن، والتشكيك في كل شيء إذا تُرك هؤلاء يعبثون بأفكار الناس وفي صحفنا المحلية.
فأمريكا وهي أمريكا - بلد الحرية وقبلة الليبرالية- حاربت كل أستاذٍ وكاتب وفنان ومطرب يحمل توجهاتٍ شيوعية، وأقامت محاكمات لهؤلاء، وفصل الكثير منهم، في مرحلة شهيرة في التاريخ الأمريكي تسمى (المكارثية) نسبة لجوزيف مكارثي، الذي قاد حملة ثقافية عارمة ضد الخطر الثقافي الشيوعي وقد وقفت معه وأيدته -خاصة في البداية- أغلبية الشعب الأمريكي، وذلك لأن الخطر الشيوعي الثقافي أصبح واقعاً، ثم إن مكارثي نفسه اعتمد في حربه للشيوعية على فلسفة تتلخص في: (أن الشيوعية دين يريد القضاء على دين المسيحية).
وعلى أثر ذلك، قام وزير الخارجية الأمريكي (جيمس بيرنز) بفصل مائة شخص في وزارته، مع أنهم لم يكونوا من الشيوعيين جميعاً، بل كان أكثرهم ينتمون إلى اليسارية أو الليبرالية.
وقامت كذلك الحكومة الأمريكية على منع دخول كتب أكثر من أربعمائة كاتب وصحافي وأستاذ جامعي أوروبي. إلى غير ذلك من الأحداث المشهورة.
فإذا كان هذا يحدث في أمريكا -وهي بلد الليبرالية- في المكارثية القديمة، ويحصل الآن فيها في عصر (المكارثية الجديدة) أليس من باب أولى أن تُمنع الأقلية من العبث بفكر المجتمع؟ أليس من باب الأمانة أن يوقف هذا الهجوم الصارخ على كل مبادئ وثوابت وقيم المجتمع ومقدراته وقدراته؟
ومن أعجب الأمور -أيضاً- التي أراها؛ أن المثقفين والنخب الاجتماعية في أكثر البلدان مع اختلافهم الكبير وتباينهم الشاسع يتحدون معاً متناسين تلك الخلافات حينما يحدق أو تنزل بأمتهم أو بلدهم أي نازلة.
ولا يشك عاقل أن ما حل ببلدنا المبارك -حفظه الله من شر كل عابث- يُعد نازلة خطيرة، تداعت لها المُحدقات داخلياً وخارجياً.
وكان المنتظر من النخب الثقافية أن تتولى دورها في توحيد الصف والكلمة. لكن الذي حصل في الواقع أن بعضاً من المثقفين في بلدي شرعت تفريقاً في الكلمة والصف، مستغلة مفهوم (الوطنية) كتكفيرٍ جديد يقابل تكفير الإرهابيين التكفيريين، فصار بعض أبناء الوطن يكفرون وطنياً من يخالفهم في مفاهيمهم الليبرالية أو العلمانية. وأصبحت ساحة المعارك هي إما الجرائد المُحتكرة وإما عالم الإنترنت.(31/221)
ومما يحزنني أن أصبحت عورات المجتمع الصغيرة ا أو الكبيرة تُنشر في الآفاق الخارجية، ويفرح ويتندر بها أعداء البلد من الخارج، وإذا أحالوا في مصادرهم أحالوا إلى جرائد وطنية مُدعين لأنفسهم الموضوعية!
وأنا والله أسأل: إلى متى ستستمر هذه المذبحة الثقافية؟ ولحساب من تهدر الطاقات؟ وتهاجم الجهات الحكومية ذات الصبغة الدينية؟ وتزعزع مكانة المرأة السعودية؟ ويشكك في الثوابت، ويُتعدى على النصوص الشرعية من قبل من لا يمتلك الأهلية لذلك؟
لم نعد نحتاج إلى دليل لنثبت وجود هجوم خارجي غير مسبوق على بلادنا ، المملكة العربية السعودية ، وعلى رموزها وقياداتها من أعلى الهرم وإلى آخره في: افتتاحيات الصحف والمجلات ، الأخبار والتحليلات ، المقابلات المكتوبة والمشاهدة ، التصريحات، تسريب معلومات مغرضة من هنا وهناك!
ومع ذلك كان الداخل معزولاً بشكل كامل عما يجري في الخارج بل وكأنه امتداد لهذه الحملة الشرسة.. أمر مثير للدهشة!
وهؤلاء الليبرالية لا يُقدرون ما يمر به الوطن من مخاطر، بل قد يستغلون نقاط ضعفه لجره لمزيد من الضعف، وعلموا أو لم يعلموا أن ذلك يحقق مصالح أعداء الوطن.
وأنا هنا احذر كل مثقف غيور على وطنه، أن المسألة أخطر مما يتصور البعض، فهذا المفكر الغربي ( أرنولد هوتنغر) يقول موضحًا استراتيجية الغرب الخطيرة :
يقول: (نحن نتمسك دائما بسياسة "فرق تسد" وأن ُتصنع الدواعي والأسباب التي تدفع بهؤلاء إلى التحارب والتقاتل، بينما ننشغل نحن بتنسيق مصالحنا وسياساتنا، وسيكون بمقدورنا دوماً أن نبعث بقوات دولية لتلك المناطق بدعوى حفظ السلام والاستقرار ، ثم نبقيها هناك إلى أبد الأبدين)!!
وقد يتصور البعض أن مشكلة الغرب مع بعض المتطرفين والإرهابيين، وكنا نتمنى ذلك، لكنه مشكلته ليست مع هؤلاء، بل مع الإسلام ككل، فمهما حاول الإصلاحي أو الليبرالي أن يُظهر الإسلام بصورة متوافقة مع الغرب فلن ينال رضا الغرب، لأن مشكلة الغرب -كما يقولون هم وليس أنا- هي في الأساس مع الإسلام نفسه!
يقول ( صاموئيل هنتنغتون ) الخبير في وزارة الخارجية الأمريكية:
(إن المشكلة بالنسبة للغرب ليست الإسلاميين المتطرفين، وإنما الإسلام ككل، فالإسلام بكل طوائفه وفي مختلف دوله عبارة عن حضارة كاملة تشتمل الدين والدنيا ، وكل مظاهر الحياة اليومية، ولذا قلتُ إن الإسلام ونظام الدول الغربية لن يلتقيا ، إن المسلمين يعلنون في وجه كل غربي إن دينهم هو الأحسن وأن عاداتهم وتقاليدهم هي الأفضل، كلهم يقول ذلك المتطرف والمعتدل).
أما عن المراهقين الليبراليين فهم لا يفهمون هذا ولن يفهموه أبداً، لأن قضيتهم ليست قضية مبدأ، أو وطن، أو فلسفة مثالية، بل القضية كلها ( شهوة) وإلا فلماذا نسلك اليوم في صراعنا ما سلكته قبلنا المجتمعات العربية والتي لم تقدم لها العلمانية أو الليبرالية شيئاً يذكر، سوى الفقر والديكتاتورية والانحلال الأخلاقي. وهذا غير مستغرب، لأن الليبرالية العربية صورة من صور الهزيمة النفسية!
يقول الدكتور (زكي نجيب) وهو أحد ضحايا الهزيمة النفسية: (لقد لبثت أعواما لا أرى للحياة إلا صورة واحدة، وهي صورة الحياة كما يحياها أبناء أوروبا وأمريكا، هكذا كان الرأي عندي حتى أواسط الستينات ولقد بلغت فيه حد التطرف الذي لم يعرف لنفسه حيطه أو حذرا، وكان الأمر يبدو أمام ذهني وكأنه من البديهيات التي لا حاجة بها إلى مزيد بحث أو تأمل) .
ويقول المفكر المصري النصراني العلماني (رفيق حبيب) معلقاً على هؤلاء الضحايا:
(الانبهار بالغرب أدى إلى هزيمة عقل الأمة ومن العقول المهزومة ظهر فريق يحاول أن يتحد مع المنتصر ويتبنى حضارة الغرب، ولكن لدى وكلاء الغرب كانت الصدمة سببا في الالتحاق بالغرب ونقل قيمه وأفكاره ونموذج حياته وكانت الدعوة للحرية الغربية تجد طريقها لدى النخبة المثقفة).
أخوتي المشايخ الفضلاء، نحن نعلم علماً يقينياً أن الدخول مع هؤلاء الأقلية في صراع، يظلم الأكثرية الساحقة، ويُظهر وكأن المجتمع في صراع متوازنٍ.
إن هؤلاء الأقلية المراهقة لا تعي مصلحتها ومن باب أولى لا تعي مصالح الوطن، ومن الأولى أن تُمنع كما يمنع الصائل، فإن لم يكن ذلك كذلك، فلا أقل من أن يفتح الباب حراً للجميع، حتى يظهر للجميع من سيختاره المجتمع.
الأمر الآخر، أننا إذا أصررنا على الدخول مع هؤلاء في حوار، وتركنا الخيار الأمثل، فليكن الحوار مع عقلائهم وكبارئهم، ولنترك صغارهم. الأمر الثاني : أن الحوار يحتاج إلى علمية بحثية متخصصة، كما يحتاج إلى صراحة ووضوح وشجاعة، ويجب أن لا ننجر إلى تفريعاتهم التاريخية أو الجغرافية أو اللسانية، وليركز على القضية الأساس فقط، ولتكن هي المحور.
فلا يعقل أن يقال عن الليبراليين السعوديين -إن وجدوا أصلاً- : "هم جواسيس للسفارات الأجنبية. ثم في نفس الوقت يقال: لا نشك في وطنيتهم". أو يقال: "هم ينقضون أصول الإسلام وثوابته" ثم يقال عنهم" هم أخوتنا ويصلون معنا".. هل يُعقل مثل ذلك الارتباك والتشوش!(31/222)
أخيراً همسة في أذن العلماني.. يقول المفكر الفرنسي المعروف (جاك بيرك) : (هل النموذج الغربي ضروري وحتمي لكافة الشعوب؟ لا ليس بضروري ولا حتمي، بل يؤدي في أحيان كثيرة إلى نوع من الفشل والقلق والتمرد)!
============(31/223)
(31/224)
الطريق الثالث..تحولات الليبرالية أم أمل الاشتراكية؟
28/02/2001
…
غادة موسى
يثور بصدد مفهوم أو مصطلح الطريق الثالث أو طريق الوسط عدة تساؤلات، بعضها يتعلق بمحتوى المفهوم ذاته، وأسباب ظهوره على سطح الحياة النظرية بهذه الكثافة، وتساؤلات أخرى تتعلق بجدوى هذا المفهوم وقدرته على طرح حلول لإشكاليات تعاني منها النظم الاشتراكية المتهاوية والنظم الليبرالية المستأسدة على حد سواء.
معظم الدارسين والمنظّرين الذين تناولوا هذا المفهوم بالتحليل ركّزوا على جانبه الاقتصادي متناسين - ربما بحسن نية - أن النظم السياسية سواء الشمولية أو الديمقراطية الليبرالية هي المتسبب الأول في هذا الارتباك الفكري على مستوى التنظيم السياسي والاقتصادي الاجتماعي معًا، نتيجة تطبيق كل منها الحد الأقصى والسقف الأعلى للسياسات، فالاشتراكية أسرفت في اشتراكيتها، والرأسمالية غالت في رأسماليتها، وضاع طريق الوسط على أرض الواقع، بل وعلى مستوى النظرية في أحيان كثيرة.
جاذبية الطريق الثالث
الطريق الثالث كما ظهرت فكرته لأول مرة عام 1936 على يد الكاتب السويدي "a r quis Child " هو طريق الوسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، فهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي.
وتنبع جاذبية هذا المفهوم من كونه لا يتبنّى السقف الأعلى أو الحد الأقصى لكل نظرية، أي أنه جسر بين الأيدولوجيات. وعلى الرغم من أن الاشتراكية الثورية لم تحظَ بأي قبول داخل الولايات المتحدة فإن القيم والمثل الاشتراكية - خاصة قيمة العدل الاجتماعي - تغلغلت بشكل قوي في توجهات الديمقراطيين الليبراليين واليساريين على حد سواء، كما لا يخفى على معظم المفكرين حقيقة إصابة المجتمعات الأوروبية والمجتمع الأمريكي بخسائر من جرّاء تطبيق الأفكار الليبرالية المحضة. وبغضّ النظر عن النتائج المؤسفة من جرّاء تطبيق القيم الاشتراكية في ظل النظم المركزية الشيوعية، فإنها تظل لها جاذبيتها في وجدان الأغلبية من المستضعفين.
لماذا تجدّد طرحه؟
هناك عدد من العوامل والظروف الدولية والمحلية ساعدت على طرح هذا المفهوم مجددًا، أبرزها:
1.
- سقوط القطبية الثنائية بتهاوي الاتحاد السوفييتي وسيادة الولايات المتحدة على مسرح الأحداث العالمي، متجاوزة الأطراف الأخرى، ليس فقط الدول النامية ولكن بعض الدول الأوروبية كذلك.
2.
- الوعي بخطورة سياسات الجات على الدول النامية والدول الصناعية الجديدة خاصة الآسيوية، وسعي بعض الدول الأوروبية لتفادي كارثة دولية تتمثل في صراع قد ينشب بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وذلك بمحاولة إيجاد حوار بين دول العالم الثالث والدول المتقدمة لعلاج المشاكل التي تواجه الجميع في عالم واحد، وهو ما جسّدته الأحداث الأخيرة في سياتل 2000 وغيرها.
3 - ظاهرة الدمج بين الشركات العملاقة والوحدات الكبيرة على حساب الأسواق المحلية، والشعور بالحاجة إلى دولة قوية ومجتمع قوي في آن واحد، أي صيغة جديدة لعلاقة شراكة وليس تنافس بين الدولة وقوى المجتمع.
4 - انحسار دور مجموعة عدم الانحياز وتضاؤل الفكرة ذاتها، وانكماش مجموعة الـ 77 بحيث اقتصرت مؤخرًا على 15 دولة تمثل ثلاث قارات (آسيا - أفريقيا - أمريكا اللاتينية)، وأخفقت تلك الدول في عرض مطالبها في مفاوضاوت الجات، كما أن بعض الدول النامية كان الغبن عليها كبيرًا؛ إذ لم تجد من يمثلها التمثيل الذي يحقق مطالبها في مواجهة الدول المتقدمة؛ لذلك فقد تولّدت لدى هذه الدول الحاجة لتبني مبدأ يتجاوز سلبيات التخطيط المركزي ومساوئ الرأسمالية، وأثرهما على الطبقات الفقيرة تحديدًا.
مظاهر الصعود
هناك عدة مظاهر لصعود الطريق الثالث كخيار بين الحركات الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا المتمسكة بشكل معلن بمفهوم العدالة الذي كانت تعبّر عنه الشيوعية، ورافضة لحدوث تحولات اجتماعية تهمش الطبقات الفقيرة، خاصة من اللاجئين والمهاجرين من الدول النامية.
كذلك نلحظ تغلغل المفهوم في أدبيات وخطاب الأحزاب المسيحية الديمقراطية اليمينية سواء في ألمانيا الأحزاب المسيحية أو في إيطاليا في الفاتيكان؛ لوجود اهتمام لدى هذه الأحزاب الدينية هناك للتقليل من حدة آثار الرأسمالية الشرسة؛ لذلك نجد أيضًا أن معظم أحزاب يمين الوسط قد تبنت تصورًا لدولة الرفاهة الحديثة في مقابل مصالحة الأحزاب السياسية الأخرى مع الرأسمالية والسوق الحر.
ويجد المتأمل للساحة الأوروبية أن معظم الأحزاب السياسية التي تسيطر على مقاليد الحكم حاليًا هي أحزاب يسارية ترفع مبدأ الاشتراكية الديمقراطية وضرورة التغير المستمر بشكل سلمي، بدءًا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا، مرورًا بالحزب الاشتراكي في فرنسا، ثم حزب العمال في إنجلترا (العمال الجديد كما يقول بلير)، وهي يسارية جديدة تتخلى عن الدوجماتية، وتطور رؤاها بما يتفق مع الطريق الثالث، وتقدم أطروحات هامة في مجال المرأة ومجال البيئة.(31/225)
ومع قوة المجتمع المدني في هذه الدول واتساع هامش الحريات وحرية الصحافة، أوصل الناخبون غير الموالين لأي أيدلوجية هذه الأحزاب التي يطلق عليها "الوسط الجديد" والتي تعتنق الفكر الاشتراكي الديمقراطي إلى مقاعد البرلمان بأغلبية لافتة، فبالنسبة لرجل الشارع فإن هذا الطريق هو الذي يطبق - حسب تعبير Bodo Hombach المستشار الخاص لشرودر - مبدأ المساواة في البداية والمساواة في النهاية، أي المساواة في الفرص وفي الدخل، حتى وإن كان ذلك حلمًا يسعى الجميع بجد لتحقيقه.
اقتصاد بلا أيدلوجية
يسعى المفهوم لتحقيق غايات أساسية:
1.
- وضع اقتصاد بعض الدول على المسار الصحيح، من حيث تغليب الصالح الاقتصادي الوطني بعيدًا عن الارتباط بأيدلوجية بعينها، أي تحرير الاقتصاد من الأيدلوجيا (وهو ما رآه المعارضون تحريرًا في ظل السيادة الرأسمالية الشرسة بما يعني الوقوع الحتمي في براثنها).
2.
- تمكين بعض الدول الآخذة في النمو من الفرص التي يتيحها هذا الأسلوب، كأسلوب بديل في ظل الأحادية الموجودة والرأسمالية الطاغية.
3.
- اتباع نهج اقتصادي واجتماعي يمكّن من مواجهة التأثيرات السلبية للأحادية السياسية والاقتصادية للحصول على حد أدنى من المكاسب الديمقراطية في الواقع الاستبدادي.
4.
- تعظيم درجة تخصيص الموارد وخاصة الناجمة عن الخصخصة لصالح البعد الاجتماعي من جهة، وأيضًا تعظيم زيادة قاعدة التملك للطبقات العاملة ومحدودة الدخل في الوحدات التي تتم خصخصتها (وهو ما يثور الخلاف بشأن إمكانية تحققه في ظل سياسات التكيف الهيكلي التي يدرّها البنك وصندوق النقد الدولي).
5.
- تبني المبادئ التي تنادي بأن دور الدولة يجب أن يوجّه أساسًا لخدمة الأهداف الاجتماعية جنبًا إلى جنب مع الأهداف الاقتصادية، أي وضع الدول أمام مسؤولياتها في الرفاهية الواجبة تجاه مواطنيها.
هل حدث تقدم؟!
يمكن القول: إن الدول الأوروبية في المقام الأول - وعلى رأسها الدول الاسكندنافية وألمانيا وإنجلترا وفرنسا - تحاول إيجاد الحلول اللازمة للتقدم على هذا الطريق، وفي ما يراه بعض المراقبين محاولة من الأنظمة الرأسمالية لتطوير نفسها وسدّ فجوات التطبيق وثغراته.
والطريق الثالث عند هذه الدول يُعَدّ مقياسًا يتم به قياس مدى نجاحها في المواءمة بين متطلبات الاقتصاد، والحد من تنافس ومبادرة وحريات فردية، ومتطلبات الرفاهة الاجتماعية من خدمات تعليم وصحة وتأمين اجتماعي وإعانة المسنين والمتبطلين.
ومما لا شك فيه أن هذه الدول وجدت نفسها في مأزق حقيقي، فهي ما زالت عاجزة عن الحفاظ على معدل إنتاج ملائم، وفي الوقت نفسه خلق فرص عمل جديدة، وأيضًا تدبير نفقات تمويل الخدمات الاجتماعية، خاصة الذين لا يشاركون في سوق العمل، مما شكل عبئًا كبيرًا على كاهلها، وتبرز هذه الأزمة في دول مثل فرنسا وألمانيا، أخذًا في الاعتبار هبوط الميزان الديمغرافي لصالح من هم فوق 65 سنة والمهاجرين الذين لا يجدون فرصة عمل مناسبة ويدخلون في البطالة.
الاختلاف حول طريقة الوصول
ولا يزال مفهوم الطريق الثالث في حاجة إلى مهلة زمنية حتى يتم تفعليه وحتى يمكن تطبيق مبادئه بشكل براجماتي لخدمة مصالح الطبقة الوسطى الآخذة في التآكل ليس فقط في دول العالم المتقدم، بل أيضًا في دول العالم النامي؛ فالوسط الجديد يحتاج إلى الدولة، ولكن أي شكل من أشكال الدولة؟
هناك من يراها الدولة التي تتبنى النهج الاشتراكي الديمقراطي، وتؤمن بالمنافسة العالمية؛ لأن المعلومات في مجال التكنولوجيا، كما أنها تؤمن بالابتكار، وتحدّ من سطوة جهازها البيروقراطي، وتلجأ إلى حلول مبتكرة، فإنها تستلهمها من قوى المجتمع المختلفة للتوفيق بين الحاجات المتصارعة.
ولا يمكن القول بأي حال من الأحوال: إن هذه الأمنيات سوف تتحقق بمعزل عن مشاركة قوى المجتمع المدني والأحزاب السياسية، فالأحزاب السياسية يجب في المرحلة القادمة أن تعكس مصالح الطبقة الوسطى، وأن تتبنى برامج براجماتية وتطور قدرات بحيث تجتذب الأجيال الشابة.
كما على الدولة القيام بوضع سياسات عامة تطرح حلولاً جديدة، مثل: تحرير سياسة العمل لتسمح بالعمل الجزئي أو الموسمي أو العمل المنزلي، ومشاركة صاحب العمل في أعباء الضمانات الاجتماعية، وأن تزيد من مسؤوليتها في مجال إعادة التدريب والتعليم.
ولكن على الجانب الآخر يرى بعض الاقتصاديين أن الحل الأمثل للخروج من هذه الأزمة يتمثل في رفع يد الدولة عن الاقتصاد حتى تتمكن من تمويل نفقاتها الاجتماعية، بعبارة أخرى أن تقوم الدولة باتخاذ بعض الإجراءات الليبرالية الجديدة للخروج من هذه الأزمة، وتتمثل هذه الإجراءات في الآتي:
- تحرير المشروعات الخاصة من أية قيود تفرضها الحكومات بغض النظر عن الآثار الاجتماعية التي ستنجم عن ذلك.
- مزيد من الانفتاح على التجارة والاستثمار العالميَّين.
- حرية كاملة لحركة رأس المال والسلع والخدمات.(31/226)
- تخفيض الإنفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، ولا تشمل تلك الخدمات فقط خدمات الصحة والتعليم، بل تمتد إلى أدوار الدولة الأساسية في الحفاظ على الأمن، وتعبيد الطرق، والإمداد بالمياه، وهي الأدوار التي ظلت تلازم الدولة حتى في ظل سيادة مفهوم العولمة.
- إلغاء مفهوم الخدمة العامة أو الخدمة الاجتماعية وإحلال محله مفهوم المسؤولية الفردية، وذلك من خلال الضغط على الطبقات الدنيا؛ لتبحث عن حلولها لمشاكلها التعليمية والصحية، وتأمين نفسها بعيدًا عن موارد الدولة.
ويتضح مما سبق أن هذه الليبرالية الجديدة وإن كان أنصارها يدعون أنها في المدى الطويل تخدم فكرة تطبيق الطريق الثالث أو الاشتراكية الديمقراطية في تدبيرها التمويل اللازم لنفقات الدولة الاجتماعية، فإنها تعبر عن ضغط من المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليّين.
هذه الليبرالية الجديدة ظهرت آثارها بشكل واضح في الضغط الذي مُورس على دول مثل شيلي والمكسيك من أجل خفض أجور العمال بمعدلات تتراوح بين 40 - 50%، في الوقت الذي زادت فيه تكلفة المعيشة بمعدل 80%، ونتج عن ذلك إفلاس أكثر من 20 ألف مشروع صغير ومتوسط.
بل حتى في الولايات المتحدة تضغط الشركات متعددة الجنسيات، مستهدفة الحد من الإنفاق على برامج الرفاهة الاجتماعية والهجوم على حقوق العمال، ويخشى الشعب الأمريكي أن يكون العقد الاجتماعي للجمهوريين في الألفية الثالثة هو ليبرالية جديدة محضة، فالليبراليون الجدد يبذلون مجهودًا كبيرًا للحدّ من برامج الحماية الاجتماعية للأطفال وللمسنين وللمتبطلين، أي المعاناة إلى ما لا نهاية.
الطريق الثالث للدول النامية
المأزق الذي تعيشه الدول النامية منذ نصف قرن هو عدم قدرتها على استلهام نموذج سياسي اقتصادي يلائم ظروفها وطبيعتها، مع ثبوت فشل تبنّيها لسياسات اشتراكية ماركسية وليبرالية ديمقراطية؛ لغياب العوامل والمكونات اللازمة لترسيخ أي من هاتين النظريتين.
لقد بدأت الدول النامية تخطو خطواتها الأولى نحو الانفتاح على الأسواق العالمية وتحرير اقتصادها وخصخصة مشاريعها، خاصة عقب انهيار النظام الاشتراكي وفقدانها الحماس للأفكار والقيم الاشتراكية، وفي الوقت الذي تحاول فيه أن تلعب دورًا في الاقتصاد العالمي، وأن تشارك في فعالياته نجدها تحاول جاهدة الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتوفير الخدمات الاجتماعية في حدودها الدنيا، أي الحفاظ على دولة الرفاهة مع عدم التخلف عن ركب الاقتصاد العالمي.
فمن الناحية النظرية يبدو هذا الطريق مجديًا لهذه الدول، محققا لآمالها وطموحاتها بدون الالتزام بالانحياز لأي فكر وأيدولوجية ما.
أما من الناحية البراجماتية(النفعية)، فإن هذه الفكرة قد يصعب تحقيقها دون مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل أكبر لدور الأحزاب السياسية، وإحياء الطبقة الوسطى بحيث تعبّر الأحزاب عن احتياجاتها وفكرها، دون الضغط على موازنة الدولة أو جرّها للعب الدور الرئيسي المركزي والحاكم في الاقتصاد الوطني مرة أخرى، وفي الوقت ذاته دون دفعها إلى مزيد من الاقتراض بحيث تصبح مثقلة بالديون ومطالبة بسداد فوائدها المرتفعة عن طريق الاستقطاع مرة أخرى من نفقات دولة الرفاهة.
=============(31/227)
(31/228)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ).
الحرب على السلفيّة..!
( نقد الفكر "الليبرالي" السعودي )
فئة ضالة جديدة
بقلم/ د. محمد بن عبد العزيز المسند
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
قسم الدراسات القرآنية
وعضو الجمعية العلمية السعودية للقرآن وعلومه
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود ـ رحمهما الله تعالى ـ قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.. والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها ـ بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية ـ صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادىء وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب ـ الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة ـ، ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق(!)، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى اتّباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول ا صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.. وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:
1. أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..
2. تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.
3. أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.
4. تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13709: " ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أنّ الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه ـ والداه أو إخوته مثلاً ـ من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع... "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدّوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون ) الوطن: 921.
ثم يقول الأول في مقاله: إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله..!!، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس..(31/229)
ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف ـ بإذن الله ـ لفضحه وبيان فساده وخطله..
وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:
أوّلاً: سماتهم الشكلية الظاهرة..
ثانياً: سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..
ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..
هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..
أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري، ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401: " فلسطين والنهضة العربية، أيّهما الوسيلة، وأيّهما الهدف؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ.. "!!! .
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال ـ في مقال له بعنوان ( غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني ) الرياض: 13477: " يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. " ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: " وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها ( هكذا ) اهتمامهم.."، وأضع تحت كلمتي ( طراز ) و( بالذات ) عدّة خطوط.
وفي مقال آخر بعنوان ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551، يقول الكاتب نفسه: " مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.. ".
أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:
• ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: 13490.
• ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني ) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551.
• ( التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة.. ) من مقال بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667.
• ( المخيال الجمعي ) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) الرياض: 13716، وغيرها من العبارات.
بل إنّ أحد كبرائهم ـ وهو أشدّهم افتتاناً بالحضارة الغربيّة وتمجيدًا لها ـ صرّح في مقال له بعنوان: ( أسباب التباس مفهوم الثقافة ) الرياض: 13789 بمنهجهم في التلقّي، يقول: " أمّا التوغّل الفردي في اكتساب المعرفة المقروءة، والتحليق في آفاق المعارف الإنسانيّة؛ فهو من التغيّرات التي طرأت على الحياة البشريّة، وهو عالميّ المصدر، فرديّ الاهتمام، فهو لا يكون جماعياً، ولا يمثّل سياقاً عامّاً، أو نسقًا سائدًا، وإنّما هو عمل فرديّ يقتصر مداه على صاحبه ومن يتأثّرون به، ويستجيبون له [ يقصد حزبه الليبراليّ ]، وتكون مرجعيّته المعرفيّة من خارج النسق الثقافي المحلّي المغلق(!)، إنّه يعتمد على المصادر المكتوبة الممحصّة(!)، وهي مصادر مجلوبة من خارج الثقافة السائدة "(31/230)
هذه هي مرجعيّتهم، إنّها مجلوبة من خارج الثقافة السائدة(!) وهي كتب المستشرقين الحاقدين، وأذنابهم من الزنادقة الملحدين، والمفكّرين المنحرفين كما تدلّ على ذلك كتاباتهم!!!.
ثمّ يواصل: " فالفرد المهتّم يكوّن ذاته بذاته منفردًا، ويفتح ذهنه لكلّ المتاح من الإنتاج العالميّ، من الأفكار والمعارف والآداب(!) والفنون حيث يتجاوز الفرد بهذا التحليق(!) الثقافة السائدة تجاوزًا موغلاً(!) معتمدًا في ذلك على التأمّل العميق والاستقصاء الدقيق، والبحث الدائم، والمعايشة المنفردة(!) ".
فهو يرى أنّ مجرّد القراءة الفرديّة، والجهد الفرديّ في التلقّي، ومن مصادر خارج النسق الإسلاميّ المنضبط، هو سرّ التميّز والتثقيف والتقدّم المنشود، وهو إذ يقول ذلك ـ بهذه السذاجة الغريبة ـ لا يخاطب جمعًا من المثقّفين والنخب الذين لديهم التمحيص والتمييز بين الغثّ والسمين، والنافع والضارّ، وإنّما يخاطب الناس جميعًا في صحيفة سيّارة، فكيف يصدر مثل هذا من كاتب يعدّ نفسه من نخبة النخبة(!)، وقد حذّر سلفنا الصالح من هذا النوع من التلقّي، وشاعت بينهم المقولة الشهيرة: ( من كان شيخه كتابه، كثر خطؤه، وقلّ صوابه )، وهي مقولة صحيحة يؤكّدها الواقع القديم والحديث، فإنّك لا تجد رجلاً تفقّه وتعلّم وتتلمذ على الكتب إلا وتجد له من الأخطاء والشذوذ ما يفوق الحصر.
ثمّ إنّ هؤلاء وهم يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتّباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلّدون هذا الجابري وأمثاله، ويردّدون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدونها، والتي صدرت ـ أوّل ما صدرت ـ من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلّدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بدّ من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين، من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم(!!!).
وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:
أوّلاً: السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة ـ التي يتستّرون بها على أفكارهم ـ، فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء ـ اللحى الليبرالية ـ، حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين كما سيأتي.. وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..
ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..
كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد ـ غير الموضوعي ـ لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة ـ دعا في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، إلى فرض الوصاية على الخطباء ـ الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات ـ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..
يقول أحدهم ـ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي ـ في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: ( التجييش الطائفي على المنابر ) الرياض: 13770، ـ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي ـ، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. " إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة للتحليل، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..(31/231)
وفي مقال بعنوان: ( نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني ) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه ـ كما يقول ـ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه ( كاد المريب أن يقول خذوني )، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.
هذه مجمل سماتهم الظاهرة..
أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، أذكرها أوّلاً بإجمال، ثمّ بتفصيل:
أوّلاً: الإجمال:
1. محاربة السلفية.
2. الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم.
3. الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ).
4. العزف على وتر الإنسانية.
5. الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين ( وهو لبّ مشروعهم الذين يدعون إليه ).
6. الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، ومدحه، وكيل الثناء عليه.
7. الجهل.
8. تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم!!.
9. عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، والتشهير بهم.
10. المزايدة على حبّ الوطن، وهم أشدّ الناس خطرًا على الوطن.
11. الطعن في أئمّة السلف قديمًا وحديثًا، والتقليل من شأنهم، مع إجلال الزنادقة والملحدين والمارقين والمبتدعة.
12. الغرور والكبر واعتقاد امتلاك الصواب..
13. الهجوم الشديد على المؤسسات الدينية والمناشط الدعوية والأشرطة والكتيّبات النافعة.
هذه بعض سماتهم بإجمال، أمّا التفصيل:
السمة الأولى:
محاربة السلفية
وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً ـ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي(!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل ـ بأقصى سرعة ـ إلى الماضي السحيق(!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية ـ أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها ـ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية ـ دائماً(!) ـ في صف الماضي على حساب الحاضر(!) ". والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر التغريبي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق ـ على حدّ تعبير الكاتب ـ الذي منتهاه رسول الهدى r، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.
فمن هذه المصطلحات:
• ( السلفية التقليدية ) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة التي تتمثّل فيها هذه السلفية، كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..
• ( الفكر الصحوي ) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه ـ كما يقول أحدهم ـ " النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها " الرياض:13436.
• ( الإسلام الحركي ) أو ( الحراك المتأسلم!! )، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.(31/232)
• ( الإسلام السياسي ) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً "دراويشياً" لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..
• ( التنميط ) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..
• ( الأيديولوجيا )، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ـ بل يكاد يكون ترداده سمة لهم ـ ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.
وقد سلك هؤلاء المارقون في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:
1. محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة ـ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" ـ كما يعبّرون استهزاء ـ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:(31/233)
( السلفية العتيقة ) الرياض: 12953، ( السلفية التقليدية ) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي ) الرياض: 13338، ( قوى التقليد والجمود والظلام ) الرياض: 13485، ( قوى التقليد والظلام والإرهاب ) الرياض: 13331، ( قوى التأسلم ) الرياض: 13359، ( قوى التخلف والتوحش والانغلاق ) الرياض: 13352، ( قوى التطرف ) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، ( التقليدية البلهاء ) الرياض: 13065،( التقليدية الميتة ) الرياض: 13331 ، ( الثقافة الميتة ) الرياض: 13072، ( الثقافة التي تصنع الغباء ) الرياض: 13072، ( الثقافة التقليدية البائسة ) الرياض: 13065، ( ثقافة الانغلاق ) الرياض: 13065، ( ثقافة تقتل الوعي ) الرياض: 13065، ( ثقافة التجميع واللا عقل ) الرياض: 13072، ( ثقافة الموت الوعظية الحمقاء ) الرياض: 13072، ( ثقافة كسيحة ) الرياض: 13156، ( الوعي الكسيح ) الرياض: 13002، ( الوعي المتسطّح الكسيح ) الرياض: 13072، ( الوعي المأزوم ) الرياض: 13380، ( وعي غارق في مخلّفات عصور الانحطاط ) الرياض: 13156، ( القراءة التراثية المبعثرة ) الرياض: 13331، ( الطرح المتسطّح ثقافياً ) الرياض: 13163، ( رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي ) الرياض: 13128، ( براثن التنميط والمحافظة والتقليد ) الرياض: 13128، ( الاحتيال اللا معرفي وجرثومة الوصاية ) الرياض: 13065، ( الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة ) الرياض: 13072، ( الإفلاس المعرفي ) الرياض: 13072، ( الاستغفال المعرفي ) الرياض: 13121، ( الترنح المعرفي ) الرياض: 13282، ( تيار الجمود والارتياب ) الرياض: 13282، ( الاختطاف الثقافي والاجتماعي ) الرياض: 13128، ( قصور معرفي حاد ) الرياض: 13163، ( البلاهة السياسية ) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللا وعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المنزل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..
هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام(!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:
أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.
نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.
ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: ( المتأسلمون )، ( قوى التأسلم ) ، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.(31/234)
ج- أنّ هذه الشتائم لم تقتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف ( الجماهير ): فهم ( الجماهير البائسة الظامئة )، و( جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و( الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجيب بإذن الله تعالى..
د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف ( الشتائم ) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: ( رمتني بدائها وانسلّت )!!.
ه- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.
والعجيب أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً؛ ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتانناً بالحضارة الغربية ـ في مقال له بعنوان: ( تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك ( بريخت ) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب(!)، واشتغل بالمسرح(!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة ـ وبئست التربية ـ، فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.
وأعجب من ذلك أنّ هذا الكاتب نفسه ـ صاحب الشتائم السابقة ـ حينما تحدّث عن بعض الكُتّاب المنحرفين في مقال له بعنوان ( قراءة الإسلام بين العلمية والإيديولوجيا 2/2 ) الرياض: 14185 وصفه بوصف هو أجدر أن يوصف به فقال: " لا غرابة في أن تصدر هذه الشتائم عن إنسان مريض يعاني من عقد الاضطهاد، وربما مر بمواقف زادت من تأزمه واضطرابه، أو ربما كان خاضعاً لتربية غير سوية، قادته إلى استخدام هذه اللغة السوقية التي لا تجد من يلوكها إلا في الحواري الخلفية، وعند الحشاشين والقوادين، وإنما العجب أن تحتفي بعض الصحف المحترمة، كأخبار الأدب، وأدب ونقد، ودور النشر العلمية.. بمثل هذا العابث، والذي لا يمتلك سوى هذا الكلام الذي يراه صاحبه علماً. الجهالة من ناحيتين، جهالة أولية، وجهالة جراء عدم إدراك مستوى ضحالة الذات معرفياً ".
وهو في مقاله هذا نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام والدين، وهو الذي كان يكيل الشتائم لأهل الدين كما سبق، ويرميهم بكل نقيصة، فلم يسلم منه حتى الأئمّة الكبار كابن القيّم وغيره، ولا فرق بين من يطعن في الدين نفسه، ومن يطعن في حملته وأهله، سوى أنّ الأوّل طعن صريح، والثاني خبث مغلّف بتلميح..
وفي مقال له بعنوان ( متطرفون في الزمن الليبرالي ) الرياض: 14220 دعا فيه صراحة إلى اعتناق الفكر الليبرالي وبشّر فيه بها!!! قال: " والمجتمع الليبرالي مجتمع راشد، يتجاوز هذا السباب الطفولي، وإن اضطر في سياق الخطاب اللاهوتي إلى شيء من ذلك - كحق في التعبير عن الرؤية - فإنه يطرحه في سياق موضوعية صارمة، لا يسمح لها بالإساءة المباشرة إلى أحد ". هذا هو نصّ ما قاله: سباب طفولي في سياق موضوعية صارمة !!! ودون إساءة إلى أحد !! وهل بعد ذلك الكمّ الهائل من الشتائم الطفولية السابقة من إساءة تطال كلّ سلفي موحد في هذه البلاد السلفية ؟. أهذه هي الليبرالية التي يدعون إليها ويبشّرون بها؟..
2. ربط السلفية بالإرهاب ـ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة ـ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: ( السلفيّة الجهادية ).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ ( الإرهابيين )، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..(31/235)
يقول أحدهم ـ وهو مقيم في لندن ـ في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين ) الوطن: 1139 : " ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.
ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ(!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.." وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان ـ ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم ـ بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.. }، وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..}، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " أخرجه مسلم. ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة"، وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنترنت والخطاب الديني) الرياض: 13247: " .. كما أظهر هذا الخطاب [ يعني خطاب التطرّف ] أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة(!) وإنّما مصدر الاستدلال ـ في الغالب العام ـ: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".
إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.
أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك ـ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965 )، زعم فيه ـ زوراً وبهتاناً ـ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.(31/236)
وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: " إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه ـ تطبيقاً ـ في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها ـ لفظاً ـ أن تكون بالمثنّاة ( قرادة )، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً ـ بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة ـ: " ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟. وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".
ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا)، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".
وبعد الطعن في السلفية ـ خصمه اللدود ـ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومة، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللا منهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..
ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.
ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا(31/237)
ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!) صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أو يثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه ـ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة ـ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم ـ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي ـ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..
ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟
ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة ـ سأضع تحتها خطاً ـ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..
ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة ـ حسب رأي هذا الكاتب ـ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.
أمّا دندنة الكاتب ـ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي ـ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له سمة مستقلة بإذن الله تعالى.
كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ينزلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً سمة خاصّة بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.
وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:(31/238)
فهذا أحدهم ـ وهو الكاتب السابق نفسه ـ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!
والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا ـ كما هو ظاهر ـ: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص ـ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!
ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..} ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق t مانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..}، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول ا صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان ـ حسب زعمهم ـ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.(31/239)
ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.
ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد ـ يريد مذهب السلف ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.
وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. }، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم ـ بلا خلاف أعلمه ـ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..".. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. }، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سيأتي في مبحث جهلهم.(31/240)
ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."
إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. }، وقال سبحانه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..
ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..
يقول ـ وتأمّلوا ما تحته خط ـ: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".
فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها (النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه صلى الله عليه وسلم المتهافتين على الباطل ـ كهذا الكاتب وأمثاله ـ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.
ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. هـ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ صلى الله عليه وسلم الفريقين على اجتهادهما.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب ـ للتلبيس ـ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!(31/241)
ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً ـ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة ، والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة ـ واحدة فقط ـ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل ـ من مسائل الاعتقاد ـ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي، وإنّما وقع الخلاف بينهم في الفروع.
وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل ـ وحتى الإلحادية منها(!) ـ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.
3. الطعن في مذهب السلف، والتندّر به، وكيل التهم له بلا حساب..
ففي مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف ـ حسب زعمه ـ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري تلميذ المستشرقين والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).
ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..
ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة ـ براجماتياً(!) ـ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..(31/242)
ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه ـ أي الترتيب التاريخي للخلفاء ـ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي ـ بأقصى حدود الواقعية الصريحة ـ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله ـ أو خبثه ـ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .
ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر:10]، وطاعة صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " إلى آخر ما ذكر.
هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.
وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً(!) ـ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، ـ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة ـ، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب ـ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس ـ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..
السمة الثانية:
الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم(31/243)
وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:
1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.
وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }[سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.
ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..
ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ "
إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصّل كافرة إمّا لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإمّا لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك "..
والقبوريّون هم عبّاد القبور، المعظّمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شكّ في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضادّ للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذّر منه..
وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسّحه بذلك، فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفيّة (الوهابيّة في نظرهم) لأنّها غير ديموقراطية، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.(31/244)
وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه ـ على سبيل الشتم ـ بالتجهيل، أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متّهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنّهم قد اختطفوها، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.
3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..
وقد كتب أحدهم ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً ـ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضادّه ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الاجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبرّي من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.
ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشّنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..
ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النصّ، روعيت المصلحة(!) باعتبار أنّ المصلحة هي السبب في ورود النصّ، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف(!)".(31/245)
فتأمّلوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النصّ، ثمّ من الذي يحدّد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلّى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصّة جداً، لكنّها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلّى عنها: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل:106].
4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة ـ التي تتّخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها ـ والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...
ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفية بلا حساب ولا برهان، والذي يعدّونه من النقد!!. ويقرّر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }[هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلّي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود:119]، فجعل الله الاختلاف مقابل الرحمة. وقوله: ( ولذلك خلقهم ) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنّة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعّد الكافرين من الجنّ والإنس بنار جهنّم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجّة أنّ الاختلاف أمر جبلّي فطريّ كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..}[البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أنّ الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.
ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..
ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي ـ وهذا هو مربط الفرس لديه ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما ـ أيّاً كان دينه ومذهبه ـ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..
ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف ـ حديث الافتراق والفرقة الناجية ـ، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.(31/246)
وفي مقال لهذا الكاتب بعنوان: ( العقل قبل ورود السمع ) الرياض: 13688، الذي هو أصل من أصول المعتزلة، يثني الكاتب على هذا الأصل، الذي يعلي من شأن الفلسفة والمنطق وعلم الكلام المذموم، ويصف موقف السلف من ذلك بالركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون... أمّا تراجع بعض كبار أساطين الفلاسفة عنها، وتسجيل اعترافاتهم في ذمّها، وأنّها لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، فيعدّه الكاتب في مقال له ساخر بعنوان: ( التراجعات المذهبية ) الرياض: 13572، مجرّد دعوى لا حقيقة لها، وأنّ ما قالوه، معظمه منحول عليهم، ولا يخفى ما في قوله هذا من اتّهام للسلف بالكذب والافتراء على أولئك المتراجعين، ودفاع عن تلك الفلسفة البائسة العقيمة باعتراف أساطينها.
وفي هذا السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( تعميق التعددية الفكرية... تأسيس لتطور المجتمعات ) الوطن: 2305، مثنياً على مذهب الاعتزال، ولامزاً مذهب السلف: " ويزخر تاريخنا القديم بمدارسَ فكرية متعددة شاركت في زمانها في حراكٍ فكري ثقافي في قضايا فلسفية متعددة كثيرة شغلت تلك المدارس بالتأليف والردود, وأفرز ذلك الحراك الفكري الثقافي مدرسةً فلسفيةً عقلية وهي فكر الاعتزال بيد أننا لم نستفد من تلك المدرسة العقلية التي كانت تُحاكي عقل الإنسان ولم نحاول أن نبرز الأدوات والوسائل التي كانت أساساً لتلك المدرسة, بل قد أُبرزت تلك المدرسة على أنها ضارة وغير نافعة وهذه إشكاليةُ فكرٍ تفردَ بمجتمعٍ فأصبح يملي عليه ما يجوز التفكير فيه وما لا يجوز وساهم في ترسيخ منظور ومنهج واحد تدرسُ من خلاله تلك المدارس الفكرية العقلية التي تزخرُ بالثقافة, فهل سوف تتغير طريقة طرحنا للمدارس الفكرية المتعددة كي نوظفها في خدمة الحراك الفكري الثقافي لكي يمارسه أفراد مجتمعنا ويتفاعلوا معه والذي هو مطلب أساسي للإصلاح والتطوير أم إننا سوف نبني سداً يحول بين عقولنا وآليات تفعيلها كي تبقى على القديم ؟ وكيف سوف نغير طريقة طرحنا؟ ومتى؟".
أنّها دعوة صريحة إلى تبنّي مذهب الاعتزال ، ونبذ منهج السلف الذي يصفه بأنّه ( فكر تفرّد بمجتمع )، فهو لا يفرّق بين الفكر والعقيدة التي لا مجال للمساومة عليها، بل إنّه يعدّ الأخذ بمذهب الاعتزال المنحرف مطلباً أساسياً للإصلاح والتطوير !!!!!..
5. الدعوة إلى نقد الثوابت(!) والتشكيك فيها، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى... الخ ..وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتاناً بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفكر النقدي شرارة الانطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إن إخفاق العرب والمسلمين في تحقيق الإفلات من قبضة التخلف وعجزهم عن إحراز النهوض وعدم القدرة على التفاهم وغياب تبادل الاحترام واستمرار التمركزات المتنافرة بين الأقطاب المختلفة داخل الأمة والاحتكام إلى القوة والعجز عن الاتفاق عند أي اختلاف ان هذه كلها وغيرها من المعضلات المزمنة تعود بشكل أساسي إلى حرمانهم من آليات النقد التي كانت المفتاح الذي اهتدت إليه بعض الأمم وأحسنت استخدامه فحقق لها الوئام المنتظم والتكامل المكتظ والنمو المطرد ومكنها من الازدهار المتجدد.. أجل إن النقد للأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرك الحضارة وهو صانع التقدم في كل مجالات الفكر والفعل وهو الشرارة التي فجرت طاقات الإنسان وصنعت له أمجاد الفكر والعلم ووفرت له أسباب الازدهار فالأمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حققت طموحاتها وأنجزت إثبات ذاتها ووقفت شامخة بين الشعوب في سباقات الفكر والفعل أما الأمم التي أخمدت هذا المحرك الأكبر أو تجهله أو لا تحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مبارحة خنادق التخلف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأن حرمانها من النقد والمراجعة حرمها من اكتشاف نقائصها كما حرمها من التعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائل فبقيت تتوهم أنها الأفضل والأرقى وظلت رهينة هذا الوهم .."(31/247)
فهو قد ساوى بين الأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد.. وبين المسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصحيح الذي لا يقبل النقد، بل يعدّ هذا التفريق بين الدينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سواه باطل، فإنّك حينئذ تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن ندرك عظمة هذا السبق المذهل الا إذا تذكرنا أن أصعب معضلة واجهت الإنسانية وسببت لها الفظائع والشرور وعرقلت مسيرتها الحضارية هي الانغلاق الثقافي الناتج عن توهم الكمال واعتقاد كل طرف من المختلفين أنه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المطلقة وأن كل الأطراف الأخرى غارقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصنا عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والاقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر، وسيأتي قريباً إن شاء الله الحديث عما يسمّى بامتلاك الحقيقة المطلقة..
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ".
فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحررا من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الانهزامية والتبعية والانحراف الفكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ).
وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إن الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والاختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والاستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".(31/248)
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!) ـ بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق { الذين يؤمنون بالغيب }[ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر..
ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!!
ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أن الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ".
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }[ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلا الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم..
ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة.
وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم ".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟!
وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى ) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقا معرفيا أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضا إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصا أن أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الاجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...."
إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....(31/249)
وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
ويبدو أنّهم بدأوا في تطبيق ما يدعون إليه، فهذا أحدهم في مقال له بعنوان (الأمن الفكري والركض في الطريق الآخر!! ) الوطن: 2322، يطعن في مذهب أهل السنّة والجماعة، ويقرر الفكر الليبرالي المنحرف فهو يرى أنّ الأمن الفكري هو : " أن يفكر جملة الناس وأفرادهم تفكيرا لا يؤدي إلى إيقاع الخطر بالمجتمع ".
ثم يقرر " إن هناك رؤيتين مختلفتين في تحقيق هذا الهدف. الأولى تقول إن الفكر الآمن هو الفكر "السلمي". بمعنى الفكر الذي يطرح آراءه وأفكاره بطريقة سلمية دون أن يلزم أحد بها أو يفرضها بالقوّة " وهذه هي الرؤية الليبرالية التي يريد أن يقررها .
ويواصل: " الرؤية الثانية ترى أن الفكر الآمن هو الفكر الذي يسير في الطريق المحددة سلفاً. طريقة يرى أصحاب هذه الرؤية أنها هي السليمة قطعا وبالتالي فإن تحقيق الأمن للفكر يكون في السير على هذه الطريقة وكل ما يخرج عنها يعتبر فكرا خطرا ويهدد الأمن الفكري ". وهذه هي الرؤية السلفية الصحيحة، وهي التي يريد أن ينقضها، ولذا يقول: " شتّان بين الرؤيتين فكل منهما تنطلق من أساس فكري ورؤية للإنسان والحياة تختلف عن الأخرى. الرؤية الأولى التي ترى الأمان الفكري يكمن وينبع من التفكير السلمي بدون إضافة أي قيد آخر على هذا التفكير تنطلق من مبدأ حرية التفكير غير المحدودة إلا بكونها سلمية. حرية التفكير التي هي حق أولي للإنسان وشكل من أشكال تحقيق وجوده الحقيقي في الحياة. هذه الحرية هي منطلق وطريق كل الإنجاز البشري وأفكار التقدم والتحرر على مدار التاريخ. كل الفلاسفة والمصلحين على مدى التاريخ انطلقوا من هذا الحق حين كانوا يواجهون بمعارضة شديدة من مجتمعاتهم في البدايات. صحيح أن الكثير منهم انقلب على هذا المبدأ بعد أن استقر لأفكارهم الأمر إلى أن المبدأ الأول كما شملهم يفترض أن يشمل من بعدهم بالتأكيد . الرؤية الثانية تنطلق من أن فكرة أن الحق معروف سلفاً، في جملة آراء جماعة ما " يقصد أهل السنة والجماعة، ثم يواصل: "وبالتالي فإنه لا يسع أحد أن يخرج عن هذا الفكر وإلا اعتبر مباشرة خارجاً عن الحق".
ثم يقول ساخراً: " لا تهتم هذه الرؤية بحرية الفكر، ولا تعتد بها، بل تحاربها بقدر ما تستطيع، وتعتبرها سبباً من أسباب الدمار والبلاء. ولذا فعلى الناس استمرار الاتباع للحق، الذي هو حق محدد عندهم في جملة من الأقوال والآراء وفي ما وافقها فقط "..
وحرية الفكر عند هؤلاء تعني حرية الكفر، والسخرية بالدين وأهله، والتشكيك في الثوابت كما سبق..!! أما الحقّ المحدّد في جملة من الأقوال والآراء ـ حسب وصفه ـ فواضح أنّه يريد به مذهب السلف، وهل هناك حقّ غيره عندنا ؟.
وفي مقال بعنوان ( لا إجحاف ) الوطن: 2322، كتبت إحدى الكاتبات من أصحاب هذا الفكر ـ وهي التي سبق قريباً أنها طالبت بالشكّ في الثوابت ـ تنتقد وبصراحة وقحة بعض الثوابت المتعلّقة بالمرأة، والتي وردت فيها نصوص صحيحة وصريحة، وقد خلطتها مع بعض القضايا الأخرى التي هي محل اجتهاد، ومن هذه الثوابت التي انتقدتها وأنكرتها ـ وسأذكرها بالنصّ الذي ذكرته ـ:
" ممنوعة من السفر بدون إذن، ممنوعة من استئجار غرفة بفندق بدون إذن، ممنوعة من إلحاق أبنائها في المدرسة التي تحب بدون إذن، ممنوعة من استخراج جواز سفر بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المنزل بدون إذن، ممنوعة من الخروج من الدوام (للمعلمات والطالبات) دون إذن، ممنوعة من الالتحاق بالعمل بدون إذن، ممنوعة من استئجار منزل وحدها بدون إذن، ممنوعة من الاستفادة من البعثات الخارجية بدون إذن، ممنوعة من تزويج نفسها بدون إذن، ممنوعة من التوقف عن الإنجاب بعملية بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المستشفى إذا نومت فيه بدون ولي لاستلامها، ممنوعة من دخول الإدارات الحكومية ومقابلة المسؤولين بدون ولي، ممنوعة من الامتناع عن فراش الزوجية بدون عذر، ممنوعة من طلب الطلاق بدون عذر ودفع غرامة، ممنوعة من اللحاق بأطفالها إذا أخذهم طليقها خارج البلاد دون إذن وليها، ممنوعة من تزويج بناتها دون إذن، ممنوعة من الوقوف في محل بيع أو مقهى هي تملكه، ممنوعة من استلام مناصب تنفيذية عليا في القطاع الخاص والحكومي، ممنوعة من لقاء وفد لعقد صفقة عمل، محرم عليها الركوب مع سائق وحدها، محرم عليها العمل في المكان المختلط، محرم عليها إغضاب زوجها، وأخيراً صوتها عورة لا يجب أن يظهر للملأ لتبقى قضيتها طي الكتمان.. ".(31/250)
ويلاحظ أنّ أغلب ما ذكرته يدور حول أخذ الإذن من الزوج أو الولي في الخروج والسفر ونحوه، والاختلاط والخلوة المحرّمة، وقد وردت في ذلك نصوص شرعية صحيحة، فهذه الكاتبة ـ أصلحها الله ـ تريد من نسائنا أن يخرجن من بيوتهن، بل يسافرن حيث شئن ويتزوجن من شئن دون إذن من أوليائهنّ، ومعلوم شرعاً وعقلاً وذوقاً وأدباً في أي تجمّع، أو مؤسسة، أو إدارة حكومة أو أهلية، أنّ الموظّف لا يخرج من عمله إلا بإذن، وإلا لأصبح الأمر فوضى وتسيب، فكيف بمؤسسة الأسرة التي هي المحضن الأوّل للتربية والتعليم.. فهل تريد هذه الكاتبة من نسائنا أن يكن فوضويات متسيبات بلا رقيب ولا حسيب ؟! وإذا كانت هي ترى نفسها مثقفة وواعية، فهل كل النساء والفتيات كذلك؟!.
أما الاختلاط بين الجنسين ـ وأعني به الاختلاط المقصود ـ فهو أم البلايا ومقدمة الرزايا، فهو المقدمة للخلوة المحرمة المنتهية بالمآسي العظيمة، ولدي قصص مفجعة لضحايا الاختلاط من الجنسين، ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود من هذه الدراسة، لذكرت شيئاً من ذلك، والعاقل اللبيب ينظر ويتأمل.
والعجيب أنّ بعض نساء الغرب العاقلات أكثر وعياً وإنصافاً للمرأة المسلمة، من هذه الكاتبة المنتسبة إلى الإسلام.. ففي مقابلة أجرتها مجلة الوطن العربي (العدد 314 ) مع امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي قالت: " وجدتُ المرأة العربية ( المسلمة ) محترمة ومقدرة داخل بيتها أكثر من الأوروبية ، وأعتقد أن الزوجة والأم العربيتين تعيشان سعادة تفوق سعادتنا.."
ثم توجه نصحها للمرأة المسلمة قائلة: " لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك، لأنّ عائلاتنا هي أنموذج رديء لا يصلح مثالاً يحتذى ".
وفي مقابلة أجرتها مجلة صدى الأسبوع مع فتاة إنجليزية أعلنت إسلامها، كان من الأمور التي دفعتها أن تترك النصرانية وتدخل الإسلام: الأسرة المسلمة ومكانة المرأة، قالت: " المرأة المسلمة دائماً في حماية ورعاية، تجد من يعيلها أينما حلت، وهي جزء هام من المجتمع الإسلامي، جو عائلي تفتقده الكثير من الأسر الغربية.." .
والخلاصة أنّ ما تدعو إليه هذه الكاتبة حث نسائنا وبناتنا على التمرّد على أوليائهنّ، وأن يخرجن بلا حسيب ولا رقيب، وينزعن جلباب الحياء بلبس اللباس غير الساتر، ويرفعن أصواتهن في المجامع، ويختلطن بالرجال ليكن فريسة للذئاب البشرية، ولو غضب أولياؤهن، حيث إنّ الكاتبة أباحت لهن ذلك.. هذا ما يُفهم من مقالها، فما الذي بقي من الثوابت في قضايا المرأة ؟ وهل سيقف هؤلاء في نقدهم عند مثل هذه الثوابت الجزئية، أم سيتعدّى الأمر إلى الثوابت الأخرى ؟
السمة الثالثة:
الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة )
وأنّ أحداً من الناس ـ كائناً من كان ـ لا يمتلك هذه الحقيقة، وهم لا يفرقون عن عمد بين أمور الاعتقاد ( الثوابت )، وبين غيرها من الأمور الخاضعة للنظر والاجتهاد، بل ظاهر كلامهم ينصرف إلى هذه الثوابت للتوصّل إلى مرادهم، وهو التشكيك في مذهب أهل السنّة والجماعة، أو ما يطلقون عليه: ( السلفية التقليدية )، فلا أحد عندهم يمتلك الحقيقة المطلقة حتى في أصول الدين وأمور الاعتقاد التي أجمع عليها سلف الأمّة منذ فجر الإسلام، وإلى وقتنا الحاضر، فالمسلم الموحد، واليهودي، والنصراني، والمبتدع، كلّهم سواء من ناحية الحقيقة، لا حقّ لأحد منهم ـ حسب زعم هؤلاء ـ في امتلاكها(!) وهذا هو حالهم على الحقيقة، فهم حائرون تائهون مرتابون، أمّا نحن ـ ولله الحمد والمنّة ـ فليس لدينا شك في ديننا وعقيدتنا، فنحن مطمئنون موقنون. إمامنا في ذلك رسولنا الكريم الذي قال الله له: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }.
وفيما يلي بعض أقوالهم في هذه القضية التي أقلقتهم، وأقضّت مضاجعهم، وحالت بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي:
تقول إحدى الكاتبات في مقال لها بعنوان ( النزعة الإنسانية ) الجزيرة: 11966 " تتميز التوجهات الفكرية المحافظة والمغلقة على نفسها، بالجمود والتشدد وعدم الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير أو المختلف، يرافق هذا شعور متأصل بالرعب والتهديد من العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذا العالم هو غابة من الشرّ والفساد والعهر.. حتى تصبح حالة من التيبس داخل طهرانية وأوهام بامتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين.."، ولا أدري عن أي مجتمع محافظ تتحدث ـ وهي بالتأكيد تتحدث مجتمعنا السلفي المسلم المحافظ، لكنها لا تجرؤ على التصريح ـ، فهل يوجد اليوم مجتمع ليس لديه الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير والمختلف، يبدو أنّ الكاتبة تتحدث عن بعض مجتمعات مجاهل أفريقيا، أو الواق واق.. أمّا أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين فهو الشاهد من هذا النقل التغريبي الواضح.(31/251)
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551: "..العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً ( وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع ) بأنّه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم، وردهم لحياض الحقيقة المطلقة "..
وهكذا ينبغي للناس ـ كما يريد الكاتب ـ ألا تكون لديهم عقيدة ثابتة راسخة يقينية، يربيهم عليها علماؤهم، ليظلوا في ريبهم يترددون.
ويوضّح هذا الكاتب ما أجمله في هذا المقال في مقال آخر له بعنوان: ( الخوف من النقد) الرياض: 13509، فيقول: " يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجّة [ ويقصد به الرعب عند الطعن في الأصول ونقدها ] بانعدام التربية ـ كجزء من الحالة الثقافية المعاشة ـ على مراعاة حقّ الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد، أيّاً كان هذا الجانب، سواء أكان فرداً أو جماعة أو هيئة أو مذهباً أو خلافه.. "، فلا فرق ـ على رأي الكاتب ـ بين مذهب أهل السنة والجماعة، وغيره من المذاهب الأخرى المنحرفة، وكلّ ذلك توطئة وتميداً للتبشير بفكرهم الليبرالي الاعتزالي التغريبي.
ويقول آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً ـ في مقال له بعنوان: ( أيضاً في الطائفية ) الرياض: 13503، وهو يساوي بين أهل السنة وبين الرافضة: "وكانت تنشأ في الإسلام [ أي الفرقة والاختلاف ] جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النصّ الديني، يغذّيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة.."، وهكذا أصبح التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهم زائف بامتلاك الحقيقة!!!.
وفي هذا السياق يقول أشدّهم تطرّفاً وبذاءة في مقال له بعنوان: ( التفكير.. وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065: " وإذا عرفنا أنّ ( التفرّد ) في الفكر وفي الممارسة المادية، هو المتعين السلوكي لمعنى الحريّة، وأنّ الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، وأنّ كلّ إنسان يولد ـ على الفطرة ـ حرّاً؛ أدركنا حجم الجناية التي ترتكبها الثقافة التقليدية البائسة في سعيها الحثيث لقولبة الأفراد وقسرهم على رؤى متشابهة إلى حد التطابق بإلزامهم بأقوال ختمت ـ زوراً ـ بختم المطلق الإيماني والثابت اليقيني، كي يتنازلوا ـ طائعين ـ عن ( فرديتهم/ إنسانيتهم/ وجودهم ) في سبيل أوهام التقليدية الميتة، وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط ".. والثقافة التقليدية البائسة وأوهامها الميتة وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط يريد بها السلفية التي يسمها بالتقليدية كما صرّح بذلك في المقال نفسه، بل إنّه ضرب مثلاً على ذلك بحادثة قتل الجعد بن درهم الذي أعلن كفره وإلحاده وتكذيبه للقرآن فقتله الوالي آنذاك خالد القسري حداً لردته، فينبري هذا الكاتب مدافعاً عنه، فيقول" ولعلّه ليس من قبيل المصادفة أن يتغنى التقليدي في هذا الزمن الراهن بكل ما شهده ذلك الصراع التاريخي من قمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة(!)، ويترحم على القاتل ويلعن المقتول، ويتمنى أمثالها قرابين ترضي مرضه السادي، ولا يزال التقليدي [ يعني السني السلفي ] يطرب كلما سمع أو تذكر قصّة الطاغية الذي ضحى يوم عيد الأضحى بـ ( إنسان ) بدل أضحيته في أوائل القرن الثاني الهجري ".. وهكذا يتحوّل من يقيم حدود الله إلى طاغية، ويتحوّل الطاغية المرتدّ المكذب للقرآن وللرسو صلى الله عليه وسلم إلى ( إنسان ) مسكين يستحق الشفقة، ويصبح إقامة الحد الشرعي جريمة، وقمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة !!!!!! إنّ هذا لعمر الله قلب للحقائق، بل هي ردة يجب أن يستتاب منها هذا الكاتب.
وليته اكتفى بذلك، بل يواصل بذاءته ساخراً من الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله وسائر علمائنا السلفيين بعده، وتلامذتهم، واصفاً إياهم جميعاً بالسفهاء(!!) فيقولً: " وأصبحت هذه الجريمة منقبة للقاتل يمتدح بها عبر القرون بحيث لا يخجل أحدهم ـ وكان على علم ـ أن يمتدحه في نونيته التي قالها بعد الجريمة بستة قرون فيقول: (لله درك من أخي قربان )، ويردده من خلفه السفهاء(!) وأشباه السفهاء(!) على مرور الأيام ".. فهل بعد هذا التطرّف من تطرّف، وهل بعد هذا الإرهاب الفكري من إرهاب ؟!!.
والعجيب أنّ أسياده الغربيين وعملاءهم من الباطنية فعلوا مثل ما فعل القسري حين أعدموا صدّام حسين شنقاً في يوم عيد الأضحى ـ مع الاختلاف الشاسع في أسباب الإعدام ودوافعه ـ ومع أنّ الغرب كان هو الداعم الرئيس لمعظم جرائم صدّام، والمبارك لها!! إلا أنّ هذا الكاتب البائس لم يساو بين الجلادَين في الحالتين، وكذلك لم يساو بين الضحيتين في حكمه البائس أيضاً، بل راح يكيل الشتائم لصدّام ويجرّده حتى من الخصال التي اتفق الناس عليها حتى جلادوه، أمّا الجلاد والقاتل الحقيقي فقد عمي عنه هذا الكاتب، ولم يشر إليه ولا مجرّد إشارة، مع الفارق الكبير ـ كما أسلفت ـ بين الحادثتين.. !
السمة الرابعة:
العزف على وتر الإنسانية(31/252)
وذلك في مقابل الأخوّة الإيمانية، وأخوّة العقيدة، وهذا بناء على ما قرّروه سابقاً من أنّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة ! وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( الإنسانية والطائفية: صراع الأضداد ) الرياض: 13754، يؤصّل فيه هذه النزعة الإنسانية شرعاً(!!) في جرأة متناهية حسب فهمه للنصوص ومقاصدها(!!) ـ وبئسما ما فهم ـ، فيذكر إن الإسلام "جاء أوّلاً لتفكيك العصبية القبلية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية، وعندما خلخل الأساس المعرفي القيمي التي تقوم عليه العصبية الجاهلية؛ قام بتجذير أساس قيمي جديد قوامه { أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وهي نقلة نوعية متطورة ـ كما يقول ـ على طريق أنسنة(!) العلاقات في المجتمع العربي على أنقاض العصبية القبلية وما شاكلها من مقومات الطائفية(!)، ولأنّ القرآن كنص مؤسس لاجتماع جديد لا يستطيع وفقاً لقوانين الاجتماع البشري من جهة، ووفقاً لحركته ضمن جدلية التأثر بالواقع والتأثير فيه أن ينقل مجتمعاً غارقاً في قبليته كالمجتمع العربي القديم من أقصى قيمة سلبية ـ كما هي العصبية القبلية ـ إلى أقصى قيمة إيجابية ـ كما هي الإنسانية المطلقة فقد بدأ باستبدال الأخوة التي تقوم على العصبية القبلية بالأخوّة التي تقوم على الرابطة العقدية من جنس { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، ومن جنس: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ولكنها ليست تجسيداً نهائياً لأنموذج العلاقة التي يجب أن تحتذيها المجتمعات، بل إنّها لا تعدو أن تكون خطوة على طريق الأنسنة الشاملة ليس إلا، يؤيّد ذلك قوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وأيضاً {يا أيها الناس إنا خلقناكم من نفس واحدة }(1) " انتهى كلامه بنصّه، وهو كلام في غاية الخطورة والجهل والجرأة على النصوص الشرعية، حيث جعل النصّ المكيّ المتقدّم ناسخاً للنصّ المدني المتأخّر، وهذا لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، بل هو دليل على غاية الجهل والعبث بالنصوص الشرعية، لتقرير النزعة الإنسانية في مقابل الأخوة الإيمانية والرابطة العقدية التي يصنفها هذا الجاهل بأنّها من ضروب الطائفية(!!!).
وفي هذا السياق يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية ـ موضحاً ولكن بعبارات تمويهية في مقال له بعنوان: ( ما بعد الكائن النمطي ) الرياض: 13499: " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدّم سؤال الهويّة ـ أيّة هويّة ـ على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان "، فهو يرى أنّ إثبات الهوية، ـ ويؤكد ذلك بقوله: (أية هوية) حتى تشمل الهوية الإسلامية والسلفية على وجه الخصوص كما نص على ذلك في بقية مقاله ـ يكون على حساب الإنسان!! وهذه ـ عنده ـ بداية ما يسميه بالتنميط بإيديولوجيا الهوية، أي أن يكون للمسلم هوية وعقيدة تميّزه عن غيره، فذلك عنده يعني نهاية الإنسان..
ويؤكّد ذلك بقوله: " المجتمعات المحافظة ـ والمنتجة للأصولية بالضرورة ـ مجتمعات نمطية يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. ".. فمن هي يا ترى هذه المجتمعات المحافظة والمنتجة للأصولية بالضرورة؟! وماذا يقصد بالأصولية؟ لا شك أنّه يقصد مجتمعنا السعودي المحافظ، بعقيدته السلفية الأصيلة، ومرجعيته المعتبرة، وقد أوضح ذلك فيما بعد من مقاله هذا بمن وصفهم بـ " رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الأيديولوجيا المحلية " وزعم أن هذه الرموز أصبحت ـ بعد الانفتاح الإعلامي الهائل ـ فضيحة إعلامية بعد أن وضعت على المحكّ في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها ـ وانتصر عليها في الماضي ـ بالأدلجة وبتجهيل الجماهير لا بالحوار المعرفي الجاد.. وهكذا تصبح رموز الحداثة المارقة رموزاً معرفية(!!)، أمّا الرموز الإسلامية بمرجعيتها الشرعية المعتبرة فهي تنميطية مؤدلِجة مجهلّة للجماهير !!!(31/253)
وفي مقال آخر له بعنوان: ( تأملات في الغضب الإسلامي ) الرياض: 13744، وذلك في أعقاب استهزاء الدنمارك بالرسول الكريم يقول: " يخيّل إليك ـ أحياناً ـ أنّ بعض أطياف الإسلامويّة(!) مبتهجة بالحدث لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها، وإذا كنا لا بد أن نغضب ـ مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد؛ فإننا لا بد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها، كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية(!)، بل تقف ـ من خلال مجمل مضامينها ـ على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرّر الإنساني(!) ".. فهو لم ينس خصومه الذي ينعتهم استهزاء بالإسلامويين حتى في هذه النازلة الكارثية التي لم يسبق أن اجتمع المسلمون اليوم جميعا مثل اجتماعهم عليها ، كما لا ينسى أن يبشّر بمشروعهم التغريبي ذي المنحى الإنساني(!) الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرر الإنساني، في مقابل قوى التقليد والظلام والإرهاب والتأسلم والتخلف والتوحش والانغلاق والتطرف، وهي الأوصاف الذي أسبغها كما سبق على السلفية وكل ما تقاطع معها من الحركات الإسلامية ولو من بعيد. أمّا قوى التقدّم والتحرّر الإنساني عنده فهي القوى الحاملة للواء الحداثة ـ لا بوصفها منهجاً أدبياً فقط ـ كما يصفها في مقال له بعنوان: (المرأة والحداثة ) الرياض: 13457: فيقول: " نزل خطاب الحداثة إلى الواقع كخطاب نهضة واعدة، نهضة تتمركز حول الإنسان(!)، وتعنى بكل ما تقاطع مع البعد الإنساني، من مساواة(!) وتحرير، وديمقراطية.. الخ، وهذا الإنساني في خطاب الحداثة يعني ـ بالضرورة ـ أنه خطاب مهموم بالمسألة النسوية بوصفها إشكالاً يلازم المجتمعات التقليدية التي تسعى الحداثة لتقويضها(!!!) "، فهو يصرّح بأنّ الحداثة تسعى إلى تقويض المجتمعات التي يصفها بالتقليدية، ويريد بذلك ـ كما تدل عليه سائر مقالاته ـ المجتمعات المسلمة المحافظة، وخاصّة السلفية منها كمجتمعنا، لكن هؤلاء الكتّاب على عادتهم لا يجرؤن على التصريح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
وفي مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401، يكثر من العزف على هذا الوتر ـ وتر الإنسانية ـ فهو يقرّر أوّلاً أنّ الصراع بين الطرفين ليس صراعاً عقدياً، ويَسِمُ من يعتقد ذلك بأنّه متطرّف: يقول: " المتطرّفون من هنا (العرب والمسلمون ) ، ومن هناك ( الإسرائيليون ) يفترضون الصراع الدائر الآن صراعاً عقائدياً، لا مجرّد وقائع سياسية تقوم على دعاوى عقائدية ".. ولم يحدثنا الكاتب عن سبب اختيار اليهود لدولة فلسطين ( أرض الميعاد ) دون غيرها من بقاع الأرض، ولا عن هيكل سليمان ـ عليه السلام ـ الذي يراد بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، فكل ذلك في نظره ليس شأناً عقائدياً، والحقيقة أنّ اليهود أنفسهم هم الذين ألقوا في روع المسلمين أنّ هذا الصراع ليس عقائدياً ليأمنوا جيشان العقيدة في نفوس المسلمين، وليعزلوا الفلسطينيين المسلمين عن باقي المسلمين!
ثم يهزأ بالأحاديث الشريفة التي تُحدّث عن نهاية هذا الصراع، ومنها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله ) ولعلّ هذا الحديث لا تقبله عقولهم المريضة لأنّ فيه نطق الحجر، وهذا أمر مخالف للعقل عندهم، فيقول: " إنّهم يرونه صراعاً لا في لحظته الراهنة فحسب، وإنّما هو كذلك منذ البداية وحتى النهاية "..!!(31/254)
ثم يبدأ العزف على وتر الإنسانية ساخراً ببعض النصوص الأخرى التي تفصّل في هذا الصراع، فيقول: " النهاية عقائدية كما يراها مَن هنا ومَن هناك، وهي ذات ملامح تفصيلية في ضمير الغيب الآتي، ملامح تلتهم إمكانيات الرؤية الواقعية الآنية، وتحدد خيارات الحوار(!) والحراك. إنّها رؤية إيمانية قطعية عند كلا الطرفين ومن ثم يصعب الحلّ تحت هذا السقف أو ذاك، فلا خيار للإنسان.. يتم تصوّر ما هو كائن وما سيكون بواسطة تفكير غيبي يلغي الفاعلية الإنسانية أو يكاد، ويؤطّر ما بقي منها لينتهي في مضمار الإلغاء.."، وهكذا يساوي بين الرؤية الإيمانية القطعية عند الطرفين، فلا فرق عنده بين ما يعتقده المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة التي تكفّل الله بحفظها، وبين ما يعتقده اليهود حسب نصوص توراتهم المحرّفة، ثم هو لا يفرّق أيضاً بين الفلسطيني المسلم صاحب الحقّ والأرض المغتصبة، وبين اليهودي الكافر المحتلّ الذي يمارس أبشع أنواع الإرهاب ضدّ الفلسطيني المسلم الأعزل، بل يرى أن لا ثوابت في هذه القضية أصلاً في ميدان الفعل السياسي، فيقول: " إنّ لدى الفلسطيني ثوابت! كما أنّ لدى الإسرائيلي ثوابت. وثوابت هذا تتناقض ـ واقعياً ـ مع ثوابت ذاك، لكنها ثوابت في التصور لا في الواقع، لأن الواقع ـ وهو ميدان الفعل السياسي ـ لا ثوابت له، ومن هنا فأية جراحة فكرية إنسانية لبنية التصور، كفيلة بأن تمهد للحل السلمي ، ليس الواقع صلداً كما يتصوّره كثير منا، أو كما يريدونه أن يكون، بل هو مفتوح على كافة الاحتمالات، شرط أن تتفتح لها الأذهان!!! ".
وبعد أن ساوى بين الطرفين، أخذ يتباكى على ضحايا هذا الصراع، ولو كانوا من اليهود الغاصبين المحتلين، ويصفهم بالأبرياء عازفاً على وتر الإنسانية، مع أنّ الشعب اليهودي كلّه مجند ضد الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، يقول: " للأسف نحن لم ننظر إلى العنف نظرة محايدة، بوصفه ظاهرة لا إنسانية، تطال الإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. ضحايا العنف في معظم الأحيان من الأبرياء(!!!) وحتى ما سوى ذلك، فإنه يبقي خلفه مآسي تطال أبرياء لا محالة. يجب ألا يغيب عن الوعي أن لهؤلاء وهؤلاء أمهات وأبناء وأزواج وأحباب تكاد قلوبهم تتفطر حزناً وألماً بعد كل مشهد من مشاهد العنف، تلك المشاهد التي ليست مقصورة على طرف دون آخر. هل انغرس في وعينا أن الإنسان هو الإنسان على هذا الطرف من أطراف الصراع أو ذاك، مهما حاول أحدهما قصر الإنساني عليه ؟! ما لم يكن هناك إحساس عميق ومشترك بالمأساة التي تطال الإنسان من كلا الطرفين؛ فستبقى دائرة العنف اللا إنسانية تدور رحاها دون توقف ".
ولم يفته في هذا المقام أن يعرض بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ـ على عادته في لمز كل ما هو إسلامي ـ، فيقول: " لا شك أن الأيديولوجيا حاضرة بقوة في هذا العنف المتبادل(!)، بدليل أن العنف في طرفي الصراع يصدر بالدرجة الأولى من المحاضن الأيديولوجية، وكلما تضخمت الأيديولوجيا زادت حدة العنف، زادت فعلاً وتهديداً "..
ثم ينكر على المثقفين على امتداد العالم العربي والإسلامي الوقوف مع المقاومة الفلسطينية وتأييدها فيقول: " تزداد المسألة قتامة حين نرى الطلائع الثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي تبارك هذا العنف(!) بل وتهتف له، إلا فيما ندر مما يعدّ نشازاً في سياق العنف الذي تباركه جماعات اليقين(!) ، بل أصبح هذا الصوت النادر ـ المنطوي على تصورات إنسانية ـ موضع اتهام وتخوين ".. وصدق من قال: كاد المريب أن يقول خذوني!! أمّا جماعات اليقين التي يسخر منها فهي الواثقة بوعد الله بقتل اليهود ونطق الحجر والشجر لصالح المسلمين كما صحّت بذلك الأخبار، وليسمّ الكاتب ذلك ما يسميه، فإن وعد الله آت لا مرية فيه... هذا وإنّ مما يلاحظ في مقال هذا الكاتب ـ مع طوله ـ أنّه لم يصف المحتل بالوصف الشرعي الذي وصفه الله به وهو اليهودي، وإنّما يصفه بالإسرائيلي، ولذلك دلالته العقدية التي تدل على فكر هذا الكاتب، ونظرته العلمانية ( الإنسانية ) لهذا الصراع التي أفصح عن شيء منها في هذا المقال.
بل إنّ هذا الكاتب نفسه كتب مقالاً بعنوان: ( المستقبل لهذا الإنسان ) الرياض: 13779، وهو يريد بهذا العنوان ـ عن خبث وإلحاد ـ معارضة كتاب سيّد قطب ـ رحمه الله ـ ( المستقبل لهذا الدين )، فانظر كيف جعل الإنسان بدلاً من الدين، بناء على ما قرّروه من تقديم الأخوّة الإنسانيّة على الأخوّة الإيمانية الدينية، وقد انتهى في هذا المقال إلى أنّ الإيمان بالإنسان ـ لا بالدين والعقيدة ـ هو المنتصر دائمًا(!!!).(31/255)
وأخطر ممّا سبق وأشدّ وضوحاً ما سطّره أحدهم ـ وكان تكفيرياً ثم تحوّل بمقدار 180درجة إلى مرجيء غالٍ ـ في مقال له بعنوان: ( كثيراً من الإنسانية قليلاً من الرهبانية ) الرياض: 12928: يقول وهو يقرر مذهب الإرجاء: " إنّ الله يكفيه منّا أن نحمل الشعلة في قلوبنا، أن نكون دائماً على أهبّة الاستعداد للعكوف بمحرابه لنقدّم شيئاً ( لعياله ) لعباده، فهو غنيّ عن عبادتنا(!)".. فهو يزعم ـ مفترياً على الله ـ أنّ مجرّد حمل الإيمان في القلب كاف عند الله، دون الإتيان بالشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وصيام وحج.. الخ
ويؤكّد ذلك فيقول: " الرسو صلى الله عليه وسلم يذكر أنّ رجلاً دخل الجنّة لم يعمل خيراً ولا حسنة في حياته، وارتكب الكثير من الذنوب، ومع ذلك دخل الجنّة، لأنّهم وجدوا له بطاقة يعلن فيها صادقاً مخلصاً عن حبّه له وإيمان به: ( لا إله إلا الله ) ".. هذه هو فهمه لكلمة ( لا إله إلا الله )، وتالله لقد كان أبو جهل ومشركو قريش أعلم منه بهذه الكلمة، فلو أنّ مجرّد الإيمان بها في القلب كاف في دخول الجنّة، لما وقفت قريش بخيلها ورجلها في وجه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولقالتها وظلت على شركها وطقوسها، ثم كيف يكون المرء صادقاً مخلصاً وهو لم يعمل بمقتضى هذه الكلمة، إلا أن يكون قد منعه مانع، أو حال بينه وبين العمل حائل، كمن أسلم ثم مات قبل أن يعمل ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور، أمّا أن يطلق هذا الحكم، فهو أمر في غاية الخطورة، إذ فيه ترغيب للناس على ترك فرائض الإسلام من صلاة وصيام والاكتفاء بمجرد ترديد هذه الكلمة دون عمل، وهذا هو مذهب الإرجاء..
ثم يختم حديثه ـ وهذا هو الشاهد ـ فيقول: " لتعلموا أنّ ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم (إنّ هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن) كلّ المؤمنين من كلّ الأديان: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..}، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ".. ولا شكّ أنّ الدين الذي لا يسعى لسعادة الإنسان فهو وبال، ولكن ما الحل إذا رفض الإنسان هذا الدين، وأصرّ على دين باطل منسوخ محرّف يسعى لشقائه؟ ويبدو أنّ عدوى التحريف قد انتقلت إلى الكاتب نفسه فحرّف الحديث الشريف، كما حرّف معنى الآية الكريمة.. فأمّا الحديث فلفظه الصحيح: ".. أهون عند الله من سفك دم مسلم "، والكاتب حرّفها إلى ( مؤمن ) لتشمل جميع المؤمنين بزعمه من الأديان الأخرى ممّن أدرك النبيّ الخاتم، ثمّ راح يؤكّد تحريفه مستشهداً بالآية الشريفة التي لم يفهم معناها الصحيح، فإنّ المقصود بها من آمن بالله من الطوائف المذكورة في زمن نبيّهم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم،وليس بعد البعثة، وسبب نزول الآية يبيّن معناها، فقد نزلت في أصحاب سلمان الفارسي t، فإنّه لما قدم على رسول ا صلى الله عليه وسلم جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله، كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنّك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " يا سلمان، هم من أهل النار "، فأنزل الله: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا..} وتلا إلى قوله: { ولا هم يحزنون }. (أسباب النزول للواحدي ص 13 )، فتبين من سبب النزول أنّ الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قبل مبعث النبيّ، كانوا يؤمنون بمبعثه، ويشهدون أنّه رسول من عند الله، لكنّهم لم يدركوه، فأين هؤلاء من قوم أدركوا بعثته، بل راحوا يسخرون من صلى الله عليه وسلم ، ويصورونه في رسوم ساخرة بأنّه إرهابي، أو امرأة، ويتواطئون على ذلك غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباعه؟!!!
أمّا مرجعيّة هذه الإنسانية عندهم، فيبيّنها أحدهم ـ وهو مقيم في لندن(!) ـ في مقال له بعنوان تفوح منه رائحة العلمنة والسخرية وهو: ( الإسلام السياسي وتجديد الأحكام السلطانية ) الوطن: 1188، يقول: " إنّ الأخذ بالمفاهيم الإنسانيّة يجب أن يكون على أساس عقلي في المقام الأوّل، بعيداً عن كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالنصوص(!) " وليس هذا التأصيل بغريب عليهم إذا كانوا يطمحون إلى إحلال الإنسانية محلّ الرابطة الدينية، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء.
السمة الخامسة
ـ وهي لب مشروعهم الذي يبشرون به ـ:
الدعوة إلى علمنة الحياة
وإقصاء الدين بحيث لا يكون له أي سلطان على مناحي الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنّهم يهزؤون من فكرة أسلمة العلوم ـ أي صبغها بالصبغة الإسلامية بعد تنقيتها من الشوائب الكفرية والإلحادية ـ، ويقللون جداً من شأن الإعجاز العلمي في الكتاب والسنّة، ويرفضون أن يكون ( الإسلام هو الحلّ )، ويحاربون كل من يرفع هذا الشعار، بل ويفسّرون التاريخ والأحداث بشكل عامّ تفسيراً سياسياً بمعزل عن الدين، وفيما يلي شواهد من أقوالهم على كلّ ما سبق:(31/256)
يقول أحدهم في مقال له تفوح منه رائحة العلمانية بعنوان: ( ممارسة السياسة شأن مدني خالص ) الرياض: 13756: " من نافلة القول أنّ مثل هذه الشمولية لا تختصّ بها قومية معينة، أو دين بعينه، ولكنّ العبرة تكمن في النهاية في قدرة المجتمع من خلال تجاوز مرحلة تزييف وعيه، ومن ثم عبور ذلك الوهم الأيديولوجي عبر الإيمان المطلق بنسبيّة السياسة ووضعيتها، ومن ثم تعرضها للتغير والتبدل وفقاً لقوانين الاجتماع البشري وليس ثباتها المتوهم وفقاً لما يعرف بمفهوم الحقّ الإلهي في الحكم.." فالكاتب هنا يشير أوّلاً إلى ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وأنّ هذا الإقصاء لا يختصّ بدين بعينه، فيشمل حتى الإسلام، فلا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يزعم أنّ ديناً بعينه هو الحلّ(!)، أمّا مفهوم الحقّ الإلهي في الحكم، فيريد به قول الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..} فيرى أنّه وهم لا بدّ من تجاوزه(!)، أو على حدّ تعبيره في المقال نفسه: " إنزالها [ إي السياسة ] من السماء إلى الأرض "..
ثم لا يفوته في آخر المقال أن يعرّج على بعض خصومه التقليديين من الإسلاميين، الذين يرفعون شعار ( الإسلام هو الحلّ ) فيسخر منهم بحجج واهية لا تخلو من مغالطات وجهالات، ثم يختم المقال بطامّة كبرى من طاماته فيقول: "ويبقى القول بأنّه لا خيار في مجال السياسة الإسلاميّة إلا استخدام المنطق الذي أعلنه الرسو صلى الله عليه وسلم في وجه مؤسلمي السياسة عندما أعلنها مدويّة بقوله ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) وهو منطق مدني على أيّة حال.. " إنّه ـ لعمر الله ـ عبث بالنصوص، واعتداء على حرمة الدين، ومقام سيد المرسلين، فهل ترك النبيّ r السياسة لغيره واعتكف في مسجده، أم أنّه أقام دولة الإسلام، وجيّش الجيوش، وفتح الفتوح، وساس الأمة، أم أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما صوّره الكاتب يقول خلاف ما يفعل ؟!!، وهل قول صلى الله عليه وسلم " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مراد به أمور السياسة وشؤون الأمّة، أم المراد قضية عين في أمر دنيوي خالص لا علاقة له بالسياسة العامّة كما يدل على ذلك سبب الحديث؟.. إنّها مهزلة يجب إيقافها ومحاسبة أصحابها احتراماً لديننا وعقيدتنا..
أمّا المجتمع المدني الذي يدندنون حوله كثيراً، ويعدونه النموذج الأمثل للدولة الحديثة، فيصفه أحدهم ـ وهو متخصّص في الكتابة السياسية ـ في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني هل يستمرّ كعائق في الحرب على الإرهاب ) الوطن: 1160، بأنّه: " مجتمع مدني رحب، ليس هناك مساحة لأوصاف من قبيل: ( كافر )، أو ( مبتدع )، أو ( علماني )، أو غير ذلك(!).."، هذا هو المجتمع المدني الذي يريدونه، والذي لا يقوم إلا على أنقاض التوحيد، وعقيدة الولاء والبراء التي وصفها النبيّ r بأنّها أوثق عرى الإيمان، وكأنّهم لم يقرأوا قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }، ولكنّ هؤلاء القوم لا يعقلون، وإن كانوا يدّعون العقلانية.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية 1/398: " قيل لعمر بن الخطاب t إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة ( أي نصراني ) حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين.." قال ابن كثير رحمه الله: " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطّلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ".. هذه في مجرد الكتابة، فكيف بغيرها من شؤون الدولة ؟!! وهو أيضاً في الذمي الذي يدفع الجزية وهو صاغر، فكيف بمن يرى أنّه مساو لك في جميع الحقوق والواجبات في ظل مجتمعهم المدني المزعوم.
وفي سياق العلمنة يقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية.. ) الوطن: 1139: وهو يتحدث عن التفجيرات الأخيرة " هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال الدين(!) نعم، ولكن الذنب هذه المرة هو التطرّف الديني والغلو المتضخم(!) في ثقافة المجتمع. الذنب هو في القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلّها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة "، إنّ إقحام الدين ـ حسب تعبيره ـ في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة المارقة ذنب عند هذا الكاتب، وهكذا تصبح العلمنة وإقصاء الدين عن شؤون الحياة حسنة يُدعى إليها.(31/257)
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرهاب من الفكر الخارجي إلى السلوك القرمطي ) الرياض: 13436: " ليس صحيحاً ما يروّج له الإسلامويّ(!) من أنّ الزجّ بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة هو عنوان التدين الحقيقي، أو أنّ ممارسه والمتحمّس له من أفراد المجتمع هو الأكثر تديّناً من غيره ".. إلى أن يقول: " تحييد الديني في الوقائع المدنية(!) التي ليس فيها حكم شرعي صريح، أمر ضروري لئلا تمنح القداسة إلا للديني الخالص الذي نصّ عليه الشرع الحنيف..".. أنّها علمنة خفية، تتدثر بلباس العلمية، ولو أنّا أخذنا بقول هذا الكاتب، واقتصرنا على ما فيه نصّ صريح، لما بقي لنا من ديننا إلا القليل، وهذا ما يريده أهل العلمنة.. وإنّ من المعروف لدى صغار طلبة العلم، أنّ الشريعة جاءت بكليات تندرج تحتها جميع الجزئيات، فلم ينصّ الله تعالى على كل جزئية بعينها، إذ إنّ ذلك يطول ولا يكاد ينتهي، مع ما يستجدّ من الجزئيات التي لم تكن قد وجدت عند نزول النصّ، ومهمة العالم أن يرجع هذه الجزئيات إلى كلياتها، ليبين حكمها، وما من قضية ولا مسألة إلا وفي كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم بيان لها، إمّا بالنصّ الصريح، وإمّا بالتلميح من خلال الكليات المذكورة، قال تعالى : { ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }، وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }.
ويقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( ما بعد الأيديولوجيا.. العقد الاجتماعي ) الرياض: 13702 بعد أن شتم السلفيّة أو ما أسماه بالوعي السلفي(!): " لا بدّ من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأنّ العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات، لا طائفية، ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية... لا بدّ أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون جميعاً دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها، دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدّس ".. فالكاتب يريد مجتمعاً بلا هوية ولا دين، يريد دولة لا دين لها، ولا فرق فيها بين المسلم والكافر ـ كما صرح بذلك غيره من أصحاب هذا الفكر ـ، ولا فرق فيها بين الموحّد والمشرك، وصاحب السنة وصاحب البدعة، بل لا فرق فيها بين الرجل والمرأة كما صرّح بذلك بقوله: " وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان ". ويضيف إلى ذلك ( المناطقية ) ليعزف على وتر حسّاس يثير الطائفية التي يحذر منها..
ثم يقول بعد ذلك: " لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية ـ أيّاً كان نوعها ـ بعد ذلك المقدّس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي.. لا بد أن يدرك المؤدلج أنّ العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حريّة إبداء الرأي ( المؤدّب ) في سلوك الآخر، وبعد ذلك فليس على أحد بمسيطر ".. فالمقدس لديه هو هذا العقد الاجتماعي العلماني المزعوم، أمّا الدين والتوحيد فليس ذلك بمقدّس عنده، وإنّما هو مجرّد خصوصية تخص كل فرد على حدة، وليته يخبرنا ما الذي جعل رسول الهدى r يعاني في مكة وأصحابه ثلاثة عشر عاماً، ويصبرون على البطش والأذى والتعذيب والتشريد، وقد عرضت قريش عليه كلّ ما يريد مقابل تخلّيه عن دينه وعقيدته ودعوته، والتعايش السلمي معهم، مع الكف عن عيب آلهتهم، فيأبى حتى يقيم دولة الإسلام والتوحيد في المدينة، ومن ثم يعلن الجهاد على المشركين لرفع راية التوحيد خفّاقة، وإزالة كل مظهر من مظاهر الشرك، ولم يكتف بذلك بل يجهّز قبل وفاته جيشاً ضخماً لمحاربة الروم في الشام، وإخضاعهم لدين الله الحقّ ؟!.. سيقول هذا الكاتب وأمثاله: إنّ الزمن تغيّر، ولم يعد دين الرسول الكريم صالحاً لهذا الزمن، وهذه هي الطامة الكبرى والفجيعة العظمى التي حلّت ببعض أبنائنا، ليعتنقوا هذا الفكر المنحرف..
أمّا قوله: ( حرية إبداء الرأي المؤدب(!))، فذلك واضح جداً في أدبه الجم مع خصومه السلفيين والسلفية خاصة، فهو لم يترك شتيمة إلا رماها بها كما سبق ( انظر ص 14 )، فإذا كان هذا هو الأدب الذي يدعو إليه، فعلى الأدب السلام..
وفي هذا السياق نراهم يدافعون عن العلمنة، ويغضبون من ذكرها على سبيل الاتهام، مع أنّهم لا يتورعون عن كيل التهم جزافاً لخصومهم التقليديين ( السلفيين خاصّة والإسلاميين بشكل عام )..(31/258)
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( العلمانية تهمة جاهزة لكل من اختلف معهم ) الجزيرة: 12022: " لا أدافع عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ العلمانية على اعتبار أنّها ( فصل الدين عن السياسة ) مصطلح ( وافد ) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية وحمولات تاريخية تجعل من تطبيقه على غير المجتمعات ( المسيحية ) أمر لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.."، هكذا ينفي التهمة عن نفسه، وعن زملائه الذين يقررون كثيراً في كتاباتهم ـ كما سبق شيء من ذلك قريباً ـ ضرورة تحييد الديني عن المدني كما يقولون، وهو بهذا التعميم ينطبق عليه المثل القائل ( كاد المريب أن يقول خذوني).
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( الإسلاميون والمشاركة السياسية.. الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني ) الوطن: : " أثناء وجودي في ألمانيا الشهر الماضي كان على مقربة من جامعة أيرلنجن حيث أتردد: مكتب حزبي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. لقد ترددت بعض الشيء في دخول المقرّ سذاجة مني لتوهمي أنّه يشبه تلك التجمعات الإسلامويّة المتشددة الموجودة في بعض البلاد العربية، المليئة بالكتيبات والأشرطة الصوتية الصاخبة التي تتحدث عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية التي يتبارى نوابها في المطالبة بإيقاف الكاتب فلان، أو محاكمة السياسي علان، أو حتى في أوقات الاستراحة السياسية يتم التصعيد في البرلمان ضد راقصة أو مغنية بحجّة حماية الأخلاق ومراقبة الذوق العام.." ثم راح بعد ذلك يكيل الثناء لذلك الحزب النصراني الكافر، ويصفه بالحزب الناجح، ويدافع عن تسميته بالحزب المسيحي ( نسبة إلى المسيح u ) في دولة تدعي العلمانية ...!!!! إلى آخر ما ذكر.. ويلاحظ في ما نقلته من هذا المقال سخريته من إخوانه المسلمين المحتسبين الذين يتحدثون عن قضايا شرعية كالحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية، والمطالبة بإيقاف الكتّاب المنحرفين ومحاكمتهم، ومحاربة العفن الفني من رقص وغناء ماجن.. كلّ ذلك يسخر منه الكاتب، ويعدّه تشدداً، فهذا هو مفهوم التشدد عندهم، في الوقت الذي يثني فيه على حزب نصراني زاره للمرّة الأولى، فراح يكيل له عبارات الثناء.. إنّها قلوب مريضة، غطتها ظلمات الشهوات والشبهات، فلم تعد ترى الأشياء على حقيقتها، نعوذ بالله من الخذلان.
أمّا تفسير الأحداث التاريخية والصراعات العقدية تفسيراً سياسياً ( علمانياً ) فهو ديدنهم للتقليل من شأن الدين والعقيدة، وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( خدعوك فقالوا نجد والشرك !! ) الرياض: 1423، قرر فيه بصفاقة عجيبة أنّ دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما كانت صراعاً مريراً حول السلطة والسياسة، وليست ضد الدين. حيث كانت الحالة الأمنية قبل قيام الدولة السعودية ـ كما يزعم ـ تعيش في تأزم وتناحر وتصارع وقد وحُدت بحمده تعالى تحت كيان واحد. بينما كانت الحالة الدينية على مذهب أهل السنة والجماعة ولم يدخل نجداً ما ذكر عنها ابن غنام وغيره من وجود الخرافات والشركيات المنتشرة في جنباتها..!!! هذا ملخّص ما ذكره.وهكذا بجرّة قلم يبطل هذا الأفّاك الأثيم كلّ جهود الشيخ في محاربة الشرك ومظاهره التي كانت منتشرة في نجد، ورسائل الشيخ تنضح بالكثير من هذه الجهود التي يراها الأعمى قبل البصير، لكن هؤلاء عميت بصائرهم، مع سلامة أبصارهم إلا إذا كان يتهم الشيخ بالكذب فتلك طامة آخرى أعظم وأطم.. ثم إنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين كما سبق، فالفصل بينهما كالفصل بين الروح والجسد، لكنّ هؤلاء المتعلمنين لا يفقهون.
ولم يسلم من هذا التفسير العلماني السقيم حتى إئمّة السلف، فبمثل هذا التفسير فسّروا فتنة خلق القرآن التي تعرّض لها أئمّة السلف وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، حيث ذكروا أنّ الأمر لا يعدوا أن يكون صراعاً سياسياً محضاً بين أهل الحديث وأهل الاعتزال على السلطة، وليس للدين ولا للعقيدة شأن بهذا الصراع إلا من باب ذرّ الرماد في العيون كما يزعمون.. المهم عندهم ألا يكون للدين ولا للعقيدة سلطان على الحياة، لأنّ ذلك يزعجهم كثيراً، وهذا هو الذي يسعى إليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى لإخماد جذوة الإيمان والعقيدة في نفوس المسلمين، ومن ثم يسهل التغلّب عليهم واختراقهم، وما هذه الفئة المارقة إلا بمثابة الطابور الخامس لهؤلاء الأعداء كما سبق، كفانا الله شرّهم.
وأختم الحديث عن هذه السمة بطامة أخرى أتى بها أحدهم ـ وهو كاتب له روايات أفتى عدد من علمائنا بكفر ما في بعضها ـ، يقرر هذا الكاتب في مقال له بعنوان: ( من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير ) الشرق الأوسط: 8952 ، أنّ: " منطق الدولة الحديثة متناقض مع منطق الدين " ثم يوضح ذلك قائلاً: " منطق الدولة محدود ومحدد، ومنطق الدين هو المطلق ذاته، وتأتي الكارثة للدولة والدين معاً حين محاولة الدمج بين منطقين لا يلتقيان، وهنا تكمن معضلة الإسلامويّة(!) المعاصرة وجوداً لا عقلاً .."..(31/259)
وعلى الرغم من العلمنة الواضحة فيما ذكر، مع الجهل الفاضح بدين الإسلام وحقيقته؛ إلا أنّه يحاول أن ينفي هذه التهمة عن نفسه على طريقة ( كاد المريب أن يقول خذوني ) فيقول: " قد يقول قائل هنا: إذن فهي دعوة للعلمانية!، والحقيقة أنّ القضية لا علاقة لها بعلمانية أو أصوليّة إذا كانت الغاية هي البحث عن جواب يخرجنا من المأزق أو المآزق التي نحن فيها .." وهكذا بكل بساطة ينفي التهمة الساطعة كالشمس عن نفسه إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة هي الإساءة إلى ديننا وانتقاصه، والافتراء على نبينا صلى الله عليه وسلمليرضى عنّا أعداؤنا !!.
السمة السادسة:
الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )
وحبّه، وكيل الثناء عليه بغير حساب، والدعوة إلى احتذائه حتى في ثقافته وأخلاقه، ويريدون بالآخر في الغالب: الغربي الكافر صاحب الحضارة الماديّة، والعقل الفلسفي، وهذا الإعجاب نتاج طبعي للهزيمة النفسيّة، والصدمة الحضارية التي أصابتهم، وعقدة النقص التي تلازم قلوبهم المظلمة الممتلئة بالشهوات والشبهات، ونحن لسنا ضدّ الاستفادة من علوم الآخرين فيما لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا، لكنّ هؤلاء فهموا الحضارة فهماً ناقصاً مغلوطاً، فاختزلوها في صناعة طائرة أو سيارة أو صاروخ، أو أيّ آله من الآلات الحديثة، أو في بناء ناطحات سحاب، أو تقدم طبي أو تقني، وكلّها أمور مادية يمكن لأيّ أمّة وأيّ شعب اللحاق بها والوصول إليها إذا تهيأت له الظروف المناسبة، وسلم من هيمنة هذا الآخر وجبروته وكيده..
إنّ الحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الروحي والأخلاقي، وهذا الأخير هو ما تفتقده الحضارة الغربية المعاصرة التي بلغت الحضيض في تردّي الأخلاق وموت الروح، فهي كما وصفها سيد قطب رحمه الله: كطائر ضخم، أحد جناحيه كبير يرفرف في السماء، والآخر مهيض كسير لا يكاد يقوى على الحركة، فماذا سيكون حاله سوى التخبط وإيذاء من حوله، وهذا هو حال الحضارة الغربية اليوم حيث إنّها ـ مع ما فيها من الجوانب الإيجابية المضيئة ـ نشرت الخراب والدمار، ونشرت معه أسوأ الأخلاق من تفسخ وعري وفساد أخلاقي.
وليس الغرب ملوماً في إقصاء الدين عن الحياة، فقد كان الدين الذي يدينون به محرّفاً، يحارب التقدّم المادي النافع، ويقتل المبدعين والنابغين في العلوم الطبيعية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين الصحيح، ولذا فإنّه لا خلاص للبشرية اليوم، ولا سبيل لها إلى الوصول إلى الحضارة الحقّة المكتملة التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الأخلاقي والروحي إلا بأن تعتنق هذا الدين الحقّ ( الإسلام ) الذي تكفّل الله بحفظ مصادره، وجعله الدين الوحيد الذي لا يُقبل سواه، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[ آل عمران: 85].(31/260)
وفي هذا السياق يحاول أحدهم بجهل فاضح أن يؤصّل لهذه المسألة تأصيلاً شرعياً(!!)، فيزعم في مقال له بعنوان ( المقاومة الفكرية للإرهاب ) الرياض: 13561، أنّ الأصل في الولاء والبراء " موالاة ( الكافر ) المسالم الموادع مهما كانت ديانته"، وفي مقال آخر له بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، أتى بما هو أطم، فيقول: " والرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل صحابته الأول إبان الفترة المكية إلى الحبشة اتقاء لشر قريش قال لهم إنّ فيها ـ يعني الحبشة ـ ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولم يبرر إرساله لصحابته بإسلام المجتمع الحبشي بدليل أن ذلك المجتمع ظل حتى وفاة النجاشي نصرانياً خالصاً مما يؤكد(!) أن الولاء حين ينصب على العلاقة مع الآخر فهو يدشن لموالاة المسالم والبراءة من المعتدي بغض النظر عما يدين الله به وهذه العلاقة السلمية ـ الأهلية منها والدولية ـ المبنية على الولاء للمسالم والبراء من المعتدي منظمة بشكل واضح لا لبس فيه في القرآن الكريم إذ يقول تعالى في الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، وهي إشارة إلى موالاة الآخر(!) المسالم الملتزم بشروط العلاقة السلمية ببرّه والقسط إليه.. " إلى أن يقول: " هذا هو المسار الصحيح(!) لمفهوم الولاء والبراء المتكيف مع أصول الإسلام وغاياته العظام(!) " إلى آخر ما ذكر، وأنا أتحدّى هذا الكاتب وغيره أن يأتي بنص واحد من كتاب الله أو سنة رسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى موالاة الكفار أياً كانوا، بل إن نصوص الكتاب والسنة تحذر من موالاة الكفار بإطلاق كما في قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }[آل عمران:28]، وقوله في سياق الحديث عن المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }[النساء:144]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[المائدة:51]، بل في السورة نفسها التي استشهد الكاتب بآية منها قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وذلك أنّ مقتضى الموالاة: المحبة والنصرة، وذلك لا يصدر من مؤمن لكافر على الإطلاق، وإنّما الذي أذن الله فيه تجاه الكافر المسالم: البر والعدل كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر y، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: " نعم " فأنزل الله فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ }. فإذا كان للمسلم أب كافر أو قريب أو جار ونحو ذلك، ولم يكن محارباً، فلا حرج على المسلم أن يحسن إليه ويبره ولا يظلمه، لكن أن يحبه وينصره أو يفضله على إخوانه المسلمين مهما كانوا عاصين، فذلك خلل عقدي عظيم، وهذا هو حال هذه الفئة الضالة، كما سبق قريباً من تفضيل أحدهم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني على من أسماهم تهكماً بـ (الإسلامويين ) المتشددين الذين يتحدثون عن عفن العلمانية، ويطالبون بمحاكمة الكتّاب المنحرفين فكرياً !!!.
ثم هل الكافر الذي ( يوالونه ) الآن مسالم حقّاً، أم أنّّه يقتل المسلمين بالأسلحة المحرمة دولياً، ويسخر من نبي الإسلام في رسوم سخيفة ماجنة ؟؟؟؟؟، بل ويهين المصحف في معتقلات غير شرعية ولا قانونية.. فأين عقول هؤلاء؟!!!.(31/261)
وبمناسبة ذكر الآخر ( الكافر ) يلاحظ في مقال هذا الكاتب الذي امتد من أعلى الصفحة إلى أسفلها بما يزيد عن نصف المتر أنّه لم يذكر لفظ ( الكافر ) بتاتاً بناء على مذهبهم في ضرورة التخلي عن هذا المصطلح الشرعي الأصيل الذي امتلأ به القرآن والسنة، والعدول عنه إلى ألفاظ مثل: ( الآخر )، و ( غير المسلم )، وما شابه ذلك حتى لا يغضب هذا الآخر، بل بعضهم (يتوّرع ) عن اعتقاد كفر اليهود والنصارى، ويعدهم مؤمنين و(إخوة) لنا في الإنسانية(!)، كما مر سابقاً.
أمّا قضية النجاشي، والهجرة إلى الحبشة، فلا علاقة لها بموضوع الولاء والبراء. وذكرها في هذا المقام من الخلط العجيب، فإنّ المسلم إذا لم يتمكن من إظهار دينه في بلد فله أن يهاجر إلى بلد آخر يتمكن فيه من إظهار دينه، وهذا قبل أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشرع الله، فإذا قامت الدولة فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، كما قال الصادق المصدوق r ، فما علاقة ذلك بالولاء والبراء ؟!!.
ويقول آخر ـ وهو من أصحاب التحولات الإنفراجية ـ في مقال له في غاية السذاجة بعنوان: ( نحن وأمريكا والديموقراطية ) الشرق الأوسط: 9212 مدافعاً عن الآخر الكافر: ".. الغرب حينما يدعم الديموقراطية، ويفكر في وضع هذا الجزء من العالم، فليس ذلك من قبيل التبشير أو الاهتداء بروح الأم تيريزا، قدر أنها مصلحة غربية جوهرية تكمن في إنقاذ الشرق الأوسط المتعثر(!!!) "، وعلى الرغم من أن الآخر النصراني ممثلاً في زعيمه صرّح بأنّ الحرب على العالم الإسلامي حرب صليبية، إلا أنّ هؤلاء ( العقلانيين ) لا يزالون أشدّ إخلاصاً للآخر من الآخر نفسه، حيث يعدونه في سذاجة واضحة (جبهة إنقاذ) للشرق المتعثر!!!!.
ولم يكتف هذا الكاتب بالثناء على ( الآخر ) وديمقراطيته المزعومة، بل راح ينتقص دينه الحق ( الإسلام ) ومبدأ الشورى المذكور في القرآن، يقول: " طُرحت فكرة الشورى كبديل أصيل عن الديموقراطية، ولكن اتّضح(!) أنها تختلف اختلافاً فلسفياً ومفارقاً للديموقراطية، فرفضت من الإسلاميين الأصلاء(!)، والليبراليين الخلصاء(!)، أمّا الأخيرون فبحجة أنّ الشورى أبعد ما تكون عن العقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية الواسعة، فهي ليست إلا تدبير أهل الحلّ والعقد، وهم طبقة ضيقة من كبار القوم والملأ.." إلى آخر ما ذكر.
السمة السابعة
الجهل
فعلى الرغم من أنّهم أشدّ الناس تعالماً وادّعاءً لفهم النصوص ومقاصد الشريعة، ورميهم العلماء وطلاب العلم السلفيين بالضدّ من ذلك!!؛ إلا أنّهم أكثر الناس جهلاً بالنصوص وبالمقاصد وبالناسخ والمنسوخ والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد من نصوص الشريعة، كما تشهد بذلك كتاباتهم، والسر في ذلك أنّ معظمهم ليسوا من أهل التخصّص الشرعي، فإذا انضاف إلى ذلك الهوى وتمكن الشبهات من قلوبهم؛ كانت الطامة أكبر، وفيما يلي بعض الأمثلة على جهلهم بالنصوص الشرعيّة:
1. في مقال لأحدهم بعنوان: ( الذين يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم) الرياض: 13698، يقول: " أُعطي الرسو صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وهي ميزة خصّه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين u، فهو r يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر ب صلى الله عليه وسلم في ألفاظ قصيرة، لكنّها حملت معاني عظاماً، قول صلى الله عليه وسلم : ( الدين المعاملة ).. ".. ثمّ بنى مقاله على ما زعم أنّه حديث، وجزم بنسبته إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم !! وهو ليس بحديث، وإن اشتهر على ألسنة العامّة، بل إنّ معناه في غاية البطلان لمن تأمّله بعقل منضبط بالشرع، لا بعقل منفلت كعقول هؤلاء الزاعمين بأنّهم عقلانيون، فإنّ مقتضى هذا الحديث المزعوم أنّ الكافر إذا كان حسن المعاملة فهو مسلم ومتدين، والمسلم إذا كان سيء المعاملة ليس بمسلم، لأنّ المقصود بالدين هنا هو الإسلام كما قال تعالى: { إن ّالدين عند الله الإسلام }، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، عن عائشة t قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان؛ كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: " لا ينفعه. إنّه لم يقل يوماً: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين ". فلم ينفعه حسن خلقه، وإحسانه للناس مع كفره.(31/262)
2. وفي مقال آخر بعنوان فضائي: ( الحوار الوطني: سيرة وانفتحت ) الرياض: 13702، يقول الكاتب نفسه: " من غير المجدي وفقاً لمعطيات العمران البشري أن تقسر شخصاً على رؤية معينة، لمجرّد أنّك تعتقد بصوابها، فهذا الآخر الذي تودّ قسره على رؤيتك يملك من الأدلّة والطرائق الحكمية(!) ما يستطيع بها نفي صوابية ما تعتقده حتى وإن كنت لا تؤمن بمرجعيته الدلالية بنفس الوقت الذي لا يعترف فيه هو أيضاً بمرجعيتك في استنباط أدلة تصويبك لرؤيتك، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن يعتزل مقام مشركي قريش حين يخوضون في آيات الله تعالى حتى يصرفوا حديثهم إلى جانب آخر، ولم يأمره بحربهم أو قسرهم على رؤيته ممثلاً بقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... } أفلا نترك نحن غيرنا أحراراً ...".. فاستدلاله بهذه الآية في غاية البطلان، ودليل على جهله الفاضح ـ أو تجاهله ـ لنصوص الشريعة، والمراحل التي مرّت بها الدعوة، فماذا يصنع هذا الكاتب بمثل قوله تعالى في سورة التوبة: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد.. }، وقوله في السورة نفسها: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }، وقول صلى الله عليه وسلم :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. " الحديث، وقوله: " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحقّ أطراً " أي تقسروهم عليه قسراً، يعني العصاة، فضلاً عن المبتدعة.. وليس في دين الله تعارض، ولكنّ الواجب أن تنزل النصوص منازلها، فاعتزال المشركين كان في العهد المكي، وأما آيات القتال والأطر على الحقّ ففي العهد المدني، وبهذا يتبين جهل هؤلاء بمدلولات النصوص مجتمعة، فكيف يؤتمنون على توجيه الناس في صحف سيّارة !!!!!.
3. وفي مقال بعنوان: ( هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ؟) الجزيرة: 11980، كتب أحدهم ـ وهو وللأسف الشديد من سلالة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله !!! ـ مقللاً من شأن الحضارة الإسلامية يقول: " الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ولغة، وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية.." إلى أن يقول: " وهذا ما نلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين، فالإمام ابن تيمية رحمه الله ـ مثلاً ـ اتّخذ موقفاً مناهضاً بشدّة لعلم الكيمياء.." إلى آخر ما ذكر، وهو دليل على جهل فاضح، لأنّه ظن أنّ الكيمياء التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي الكيمياء المعروفة اليوم، وليس الأمر كذلك، فالكيمياء التي ذكرها شيخ الإسلام نوع من الغشّ، وصناعة ذهب مغشوش يشبه الذهب الذي خلقه الله، وبيعه على الناس على أنّه ذهب خالص، ولذا قال الشيخ رحمه الله: " وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أنّ هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. " إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
4. وفي مقال بعنوان: ( فلا يلومنّ إلا نفسه.. فلسفة جديدة ) الوطن: 1173، كتب أحدهم ـ وهو طبيب يكثر من الحديث عن الدين والعبث بالآيات ـ كتب بعد أن ساق الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) يقول: " وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما فعله النووي، فهذا الرجل جمع أربعين حديثاً اشتهرت باسمه، وهي رياض الصالحين..".. وهذا جهل فاضح، فهو يظن لجهله أنّ كتيب الأربعين النووية الصغير، هو نفسه كتاب رياض الصالحين المجلّد الضخم، وكلاهما للإمام النووي رحمه الله، وصغار طلاب العلم يعرفون الفرق بينهما.
5. وفي مقال بعنوان ( ذكريات غير صحوية وحديث عن الثبات والتحوّل ) الرياض: 12722، كتب أحدهم منظرّاً ـ وكان من هواة التكفير والتفجير ثم أصبح من غلاة المرجئة ـ يقول: " وقد نسمع أحياناً وصف الآخرين بالفسق أيضاً. وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حقّ الكفّار والمشركين كما في سورة السجدة، غير أنها في فترة متأخّرة جرى التوسّع في استخدام لفظ الفاسق على المسلم الذي يأتي بعض المخالفات الشرعية..".. وهذا جهل فاضح، وجرأة على كلام الله تعالى، وقد يعجب هذا الكاتب إذا علم أنّ وصف الفسق جاء في القرآن الكريم في حقّ أحد أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو الوليد بن عقبة t، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، وذلك باتّفاق المفسّرين. ولكنّ الجهل داء لا دواء له.(31/263)
6. وفي نفس المقال يقول هذا الكاتب: " لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفّة المرأة، وشدّة تديّنها، في وقت سابق لم تكن النساء تعرف ذلك.. " وهذا من جهله، فقد كان هذا معروفاً في زمن النبوّة، فقد صحّ عن صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين "، ففيه دليل بيّن على أنّ الصحابيات كن يلبسن القفازين لكمال الستر، وإنّما نهين عن ذلك وقت الإحرام.
هذا غيض من فيض من جهلهم بالنصوص الشرعيّة، وكيفية تعاملهم معها، ومع كلام الأئمة، ولو ذهبت أستقصي جهلهم، من خلال كتاباتهم لطال بي الأمر..
والعجيب أنّهم على الرغم من جهلهم الواضح الذي سبق الكثير منه؛ إلا أنّهم يزعمون أنّهم أكثر فهماً للإسلام ممّن شابت لحاهم في تعلّم العلم الشرعي، ومزاحمة العلماء بالركب، بل أكثر فهماً للإسلام حتى من العلماء الكبار، مع أنّ جلّ أصحاب هذا الفكر قد عاشوا ردحاً من الزمن في بلاد الغرب لتعلّم تخصّصات غير شرعية قد تكون مفيدة في مجالها لكنها لا تؤهل صاحبها للحديث عن الأمور الشرعية الدقيقة.. وفي هذا السياق كتب أحدهم ـ وهو رئيس تحرير إحدى صحفهم ـ في مقال له بعنوان: ( الأسهم تقول إنّهم أقليّة محدودة ) الرياض: 13770 يقول: " نحن جميعاً مسلمون.. بل إنّ معظم الليبراليين هم أكثر فهماً للإسلام وسعياً لحلّ مشاكله وتقديمه بصورته الحضارية للعالم الأجنبي..!! " قال ذلك في أعقاب تصدي بعض العلماء له في محاضرة أقيمت في فعاليات معرض الكتاب الدولي بالرياض.. والليبراليون يعني بهم نفسه وزمرته.
بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ كتب مقالاً بعنوان: ( الجهل كخطاب: مقاربة أولية لنماذج وصور واقعية !! ) الرياض: 14136، رمى فيه جامعاتنا الإسلامية بأنّها معاقل لتفريخ الجهل وإنتاجه، يقول: " إن هذا يتم في نطاق المؤسسات العلمية، أو التي تدعي ذلك، حيث يتم استيراد آليات البحث العلمي، بل أحدثها، ووضعها في خدمة خطاب الجهل. وجراء ذلك، تعتمد الأطروحات، وتناقش في أجواء تشي بالعلمية، بينما هي تستخدم في تعزيز مستوى أعلى وأشد تعقيداً من الجهل الذي لا بد من تفكيكه من زوايا كثيرة، ليس أقلها كشف زيف ادعاء العلمية )!!! ".
وكان سبب هذا الهجوم وهذا التجهيل الجماعي لمؤسساتنا العلمية، أنّ بعض الأساتذة الغيورين حذّر من بعض الكتب المنحرفة فكرياً، وطالب بمنعها في معرض الكتاب وغيره، حيث يقول الكاتب: " لم نستطع أن نفهم كيف ينادي أستاذ جامعي، قضى عقوداً من عمره في القراءة، بضرورة منع هذا الكتاب أو ذاك. لن نستطيع أن نفهم؛ كيف يسمح له ضميره (العلمي!) بمصادرة حق الآخرين في الاختيار القرائي، ما لم نع أن بنيته الذهنية - رغم جامعيتها وقرائيتها - تكونت عبر خطاب الجهل. يحدث هذا، بينما رجل الشارع الذي ليس لديه أدنى اهتمام قرائي، يفتح فاه متعجبا، كيف يكون الكتاب محظوراً، وكيف تكون المعرفة محرمة!. وهذا دليل على أن رجل الشارع أقل جهلاً من ذلك المشتبك منذ عقود مع خطاب الجهل )!!! " وهكذا يجعل رجل الشارع مقياساً للحكم، ولا أدري كيف يصنع بحديث عمر الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ لمّا رأى معه النبيّ صلى الله عليه وسلم كتاباً أصابه من بعض أهل الكتاب، قال له مغضباً: "أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. "، أخرجه أحمد وغيره وهو حسن بشواهده، فإذا كان هذا مع عمر الفاروق الذي أجرى الله الحقّ على لسانه؛ فكيف بغيره من الشباب والمراهقين ومن ليس عنده حصانة شرعية كافية!! .
وسيأتي المزيد حول هذه المسألة في مبحث خاص بإذن الله تعالى.
السمة الثامنة:
تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم:(31/264)
وقد سلك هذا المسلك أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية، ففي مقال له بعنوان: (التفكير وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065، شتم فيه السلفية عدة شتائم، يقول: " إنّ ما نراه في الخطاب التقليدي ـ السائد ثقافياً على المستوى الشعبوي(!) خاصّة ـ من محاولة التقليدية البلهاء ـ المتلبّسة بصيانة الأعراف والتقاليد و.. الخ ـ فرض الوصاية على أعين الناس، وعلى آذانهم، وألسنتهم وأقلامهم ليس بدعاً في سلوك المنظومة التقليدية أياً كانت طبيعتها، فهي ـ دائماً ـ تسعى لتعطيل هذه الحواس التي هي نوافذ العقل، ومنها يستمد العقل مادته وتجتهد في لتقنيتها في أتباعها بفرض الوصاية عليها ليصبح الناس ـ إذا تعطلت لديهم فاعلية هذه الحواس ومن ثم تعطل العقل ـ كالأنعام بل هم أضل وهذه الحال شعر الأيديولوجي التقليدي أو لم يشعر منتهى الأماني لديه ". فهو يرى أن تحصين الناس من الأفكار المضللة، وحمايتهم منها، ضرب من ضروب الوصاية، ويرى أن ترك الناس بلا تحصين كافٍ ليعتنقوا مثل أفكاره المنحرفة التي يدعو إليها، ويدافع عنها، لذا فهو يرى أنّ : " مفردات من نوع ( الإرشاد/ التوجيه/ الرعاية الفكرية/ الأمن الفكري/ التحصين ضد الأفكار الهدامة/ مروجي الشبهات/ التغريب/ البرامج الهابطة/ العهر الفضائي ) " مفردات تستخدمها الثقافة التقليدية ( السلفية ) في وقوفها ضد الفكر الحديث ( يعني فكره العفن ) وصدق والله، فهو تحصين ضد الأفكار الهدامة ومروجي الشبهات من أمثاله، وهذا هو سر عدائه للسلفية..
والشاهد هنا من مقاله تنزيل الآية التي وردت في الكفار وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف:179]، وقد أنزلها في الناس السلفيين الذين يفرض عليهم السلفي ( التقليدي ) ـ كما يزعم هذا الكاتب ـ وصايته، وسيأتي المزيد من الحديث عن الوصاية لاحقاً بإذن الله تعالى..
وفي مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، وهو جزء من آية في سورة المائدة، نزلت في اليهود وأذنابهم من المنافقين، وقد أنزلها في خصومه السلفيين، في مقال شتم فيه السلفية على عادته، وقد سبق الحديث عن هذا المقال..
وفي مقال له بعنوان: ( من صور التطرف والاعتدال ) الرياض: 13282، سخر فيه من بعض مناصحيه من السلفيين، إضافة إلى شتم السلفية، والثناء على رموز التغريب؛ لم يكتف بآية واحدة، بل ثنّى بآيتين، إحداهما قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[البقرة:15]، اقتصر على آخرها، وقد أنزلها في ما يراه ضحايا للمدرسة السلفية، وأطلق عليهم ( الأبرياء المذنبون ) حيث يجري توظيفهم من حيث لا يشعرون(!)، يقول: " في الغالب لا يكون التوظيف مباشراً ومقصوداً، بل تفعل المنظومة التي يجري الترويج لها فعلها بقوة الدفع الذاتي فيها، دون أن يشعر بنوها أنهم في طغيانهم يعمهون "(!).
ثم يختم مقاله باتهام الناصح له بالتكفير فضلاً عن بذيء السباب(!)، على الرغم من أنه في هذا المقال يصف الصحوة الإسلامية بالمتأسلمة أو ما أسماه بـ ( تيارات التأسلم ) و(تيار الجمود والارتياب )، وهي تهمة تعني عدم الإسلام الحقيقي.
أما السباب؛ فقد ضمّن مقاله هذا عدداً لا بأس به من الشتائم للسلفية، إضافة إلى تهم الإرهاب وغيره، فضلاً عما في سائر مقالاته من السباب البذيء ليس للأشخاص فحسب، بل للمذهب والمعتقد، وبعد أن اتهم ناصحه بالتكفير والإرهاب(!) راح ينزل عليه آية نزلت في المنافقين، يقول: " أَتَذَكّر كل هذا وأقول: صدق الله العظيم القائل: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }[التوبة:57 ] "، وهكذا يرمي كل من اختلف معه تارة بالآيات التي نزلت في الكفار، وتارة بالآيات التي نزلت في المنافقين، ثم يرميهم بتهم التكفير والإرهاب(!!!!)، فأي إرهاب فكري أعظم من هذا الإرهاب.
وفي مقال له بعنوان: ( ما بعد المعركة الخاسرة ) الرياض: 13303، شتم فيه السلفية على عادته، وتشفّى مما حدث في الفلّوجة من قتل ودمار، وسبب هذا التشفّي أنّ الفلّوجة تعدّ معقل السلفيّة في العراق، ثمّ أنزل عليهم آية نزلت في المنافقين بأسلوب تهكّمي ساخر، يقول: " انتهت معركة الفلّوجة، معركة خاسرة بلا ريب، انتهت معركة. ومعارك أخرى غيرها على صورتها ( صورة طبق الأصل ) في الانتظار ما دامت بيانات الحماس الديني والقومي تشعل أوارها، ومؤتمرات الأحزاب الحالمة تنفخ فيها بالكثير من غبائها التاريخي المجيد!. الإسلاموي(!) والقومي كلاهما نسي التاريخ خاصّة إذا ما كان تاريخ هزائم وعبر، مع أنّه تاريخ ليس بالبعيد، إنهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذكّرون "(!!)، وهذه آية من سورة التوبة نزلت في المنافقين.(31/265)
وفي مقال له بعنوان: ( الاتصال والانفصال بين الديني والمدني ) الرياض: 13324، تفوح منه رائحة العلمنة، يذكر فيه إشكالية العلاقة بين الديني والمدني عنده هو، وعلى عادته في شتم خصومه وتنزيل الآيات التي في الكفار عليهم، يقول: " حلُّ الإشكال يتمّ من خلال الوعي بدرجة تعقيده، لا بتبسيطه أو تجاهله في سبيل الأدلجة الماكرة بأصحابها قبل أن تمكر بغيرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وهذه آية من سورة إبراهيم نزلت في المشركين !!!.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، وعلى عادته قام بشتم السلفية، وعدّها ( الخصم الأيديولوجي الشرس ) للمرأة، ثمّ أنزل عليها آية نزلت في حقّ الكفار، يقول: " قبل استفحال الأيديولوجيا المتأسلمة ( ويعني بها الصحوة الإسلامية المباركة ) كانت المجتمعات على براءتها الأولى ( يعني الجهل والغفلة ) صحيح أنها كانت محكومة بأعراف وتقاليد تحدّ من حريّة الإنسان، وترسم له كثيراً من الخطوط التي قد لا يرضاها، لكنّها ـ على كلّ حال ـ كانت بريئة من الارتياب الذي يقود إلى التزمّت(!) وإلى خلق مسارات للمجتمع ما أنزل الله بها من سلطان [ ليته ذكر بعض هذه المسارات ] وليست إلا من اتباع الظنّ، والظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً "..
وهكذا يشبّه هذه الصحوة المباركة التي قامت برعاية علمائنا الكبار من أمثال الإمام عبد العزيز ابن باز والعلامة محمّد العثيمين وغيرهما من الأموات والأحياء؛ بحال المشركين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }[ النجم: 27، 28 ]، ألا يعدّ هذا ضرباً من ضروب التكفير، أو في أقل الأحوال: التضليل الذي ينهون عنه من أجل إقامة مجتمعهم المدني المزعوم؟!!!.
والعجيب أنّ أحدهم كتب مقالاً في الجريدة نفسها بعنوان: ( الشيخ السعدي وميتافيزقيا اللغة ) الرياض: 13058، اتهم فيه الشيخ العلامة المفسّر عبد الرحمن ابن ناصر السعديّ ـ رحمه الله ـ بإنزال الآيات الواردة في أذى المشركين والكفار للمؤمنين الصالحين، على قومه الذين ثاروا عليه وآذوه، وعدّ الكاتب ذلك معضلة، وأنّ الشيخ ـ رحمه الله ـ أخطأ طريق الإصلاح(!!!).. أمّا عنوان كتاب الشيخ السعديّ الذي انتقده هذا الكاتب النكرة فهو: ( الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير )، ويلاحظ من خلال هذا العنوان أنّ القوم الذين أنزل الشيخ السعدي عليهم الآيات ذوو خرافات وثنية، أي أنّهم أهل شرك وخرافة، ولو أنّ هذا الكاتب بدلاً من التنقيب في كتب الأئمّة الأعلام، واتّهامهم بما هم منه براء؛ نظر إلى كتابات زميله في الصحيفة الذي نقلتُ بعض مقالاته آنفاً، وهو يقوم في القرن الحادي والعشرين بتنزيل الآيات التي نزلت في الكفّار والمنافقين على المختلفين معه من أصحاب العقيدة السلفية؛ لو أنّه نظر إلى هذه الكتابات، لوجد فيها ضالّته التي أراد إنكارها، إن كان هذا هو مراده حقّاً، لكنّه عمي عن الجذع في عينه وعين زميله البذيء، وأبصر الذرة في عين غيره، بل أبصر الوهم، فيا لله العجب كيف يفكّر هؤلاء، وكيف يحكمون !!.
والأعجب من ذلك أنّ الكاتب الأوّل نفسه في مقال له بعنوان ( الوحدة الاستراتيجية في التحالف الإرهابي ) الرياض: 13856، اتّهم بعض علمائنا الأجلاء بأنّهم ينزلون الآيات التي نزلت في المنافقين على أناس يعترفون بأنّهم أبناء مجتمعنا(!!) ثمّ يقول: " نسمع ونقرأ مثل هذا، ثمّ نسأل من أين يأتي التكفير.."، وهو الذي ما فتىء في مقالات كثيرة ينزل الآيات التي نزلت في المشركين واليهود على هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم من عامّة السلفيين، فالحمد لله الذي جعله يحكم على نفسه بأنّه تكفيريّ جلد، بل خارجيّ كما ذكر في مقال له بعنوان ( بيانات التطرّف وبيان الاعتدال ) الرياض: 13863، بأنّ هذه الصفة من صفات الخوارج المارقين، ولا شكّ بأنّ هذه الفئة الليبرالية الاعتزالية الضالّة، خارجة مارقة عن جماعة المسلمين في هذا البلد السلفي الأمين.
السمة التاسعة:
عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، وبغضهم، والتشهير بهم
بل وصلت الوقاحة بأحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ إلى التندّر بأشكالهم وخَلْقهم الذي هو خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ!!(31/266)
ففي مقال له بعنوان: ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13282 ذكر فيه صورًا عدّة لمن ناصحوه، فسخر في إحداها من رجل فاضل حذّره من عميل الفكر الغربيّ طه حسين ( أعمى البصر والبصيرة ). وفي صورة أخرى سخر فيها من قريب له ناصحه(!) ـ وهو شيخ فاضل وأستاذ في العقيدة ـ بل أظهر الرحمة والشفقة عليه(!) لأنّه كما يقول: " ضحيّة ثلاثين عامًا من الاشتغال على الصراع العقديّ ". وهكذا يصبح المشتغل بتصحيح العقيدة، وكشف فرق الضلال ضحيّة، ولا أدري ضحيّة ماذا؟!! ثمّ واصل سخريته باتّهام شيخ العقيدة بالتكفير، وبذيء السباب، وهو الذي ما فتىء يسب ويشتم السلفية وأئمّة السلف في صحيفة سيّارة!!
ثمّ يواصل في الجزء الثاني من مقاله ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13289 السخرية من الناصحين فيذكر قصّته مع أستاذ العقيدة في جامعته الذي زاره في البيت لمناصحته، وأطال عنده الجلوس، وهو لم يقرأ كتاباته ـ الرواية من طرف واحد ـ، إلى أن قال: " ولولا رقّة في أخلاقه، وسماحة تندى بها ملامحه ( لم تكن سماحة، وإنّما كانت بلادة وبلهًا وخمولاً ) لطردته غير آبه.. "، بهذه البذاءة يصف علنًا من جاء يناصحه سرًا ويحذّره من كتاباته البذيئة، وأفكاره المنحرفة.
ولم يكتف بذلك، بل واصل سخريته واستهزاءه ذاكرًا أنّ اللقاء استمرّ ساعات طويلة، وصف ما تمّ فيها بأنّه " من الهراء الميّت الذي لا طعم ولا رائحة له، ولم يكن للكلام من دور فيها إلا تحسين العلاقات الثنائية بين الطرفين عاطفيّاً لا فكريًا..".
ثمّ يضيف ساخرًا ـ وما أقبحها من سخرية ـ: " وكنت في تلك الأثناء وأنا أنظر إليه، لا أستمع إليه، بقدر ما أتأمّل مقدار ما تحمله تلك العيون الخاملة، والأهداب الذابلة، والجفون المسترخية، من معاني الغباء والبلادة والخمول التي تكاد لكثافتها أن تمتدّ بعدواها إلى متأمّلها، بل والجماد حولها "!!!! فهل ثمّة بذاءة ووقاحة أعظم من هذه البذاءة والوقاحة، وفي صحيفة سيّارة؟ لا أظنّ.
ثمّ ختم هذه الصورة باتّهام هذا الأستاذ الناصح بالتكفير، وهي تهمة جاهزة لكلّ من أقدم على نصح هذا الكاتب، وتحذيره من مغبّة ما يكتب، ومن أمن العقوبة، أساء الأدب.
وفي مقال ساخر لأحدهم بعنوان ( حرّاس الله !! ) الوطن: 293، ـ والسخرية بادية من العنوان ـ سخر فيه من أحد مناصحيه، بعد أن نشر هذا الكاتب النصيحة على الملأ، ثمّ عقّب على هذه النصيحة قائلاً بسخرية سمجة سخيفة: " يا رب ليس لنا إلا أنت، نحتمي بك سبحانك من ( حرّاسك )..".
وعلى عادتهم في قلب الحقائق والتلبيس على الناس وإلقاء التهم جزافاً، فقد اتّهم مناصحه بالحكم على نواياه وما في قلبه قائلاً: " ولكنّ ( حرّاسك ) يؤذون قلوبنا حين يدّعون معرفة ما فيها، وكأنّهم أنت والعياذ بالله ممّا يصفون.. "، مع العلم بأنّ هذا الكاتب قد كتب عدّة مقالات تهجّم فيها على المحاكم الشرعيّة، وسخر فيها من الحجاب!! والناس ليس لهم إلا الظاهر، أمّا ما في القلوب فعلمه عند الله تعالى.
وفي مقال لأحدهم بعنوان: ( الفرق بين العادة والعبادة ) الرياض: 13883، سخر فيه من شابّ ناصحه، يقول هذا الكاتب: " بينما كنت أيمّم وجهي شطر باب المسجد هامًّا بالخروج منه بعد انقضاء إحدى الصلوات؛ اندفع إليّ شابّ حدث لا يكاد يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وبدأ في إبداء نصائحه لي تجاه ما يراه أخطاء وقعت بها أثناء قضاء ما فاتني من الصلاة، وهي في الحقيقة لم تكن أخطاء بقدر ما صوّرت له ذهنيته الآحاديّة أنّها كذلك..". وهكذا نجد أنّ التهم عند هؤلاء جاهزة لإلصاقها بالناصحين، فبدلاً من تقبّل النصيحة بصدر رحب، وشكر الناصحين عليها، نراهم يسخرون منهم علنًا في صحف سيّارة، ويرمونهم بالتهم الجائرة. وحتى لو كان هذا الناصح مخطئاً أو مستعجلاً، كان الواجب تشجيعه على هذه الروح الناصحة، المشفقة على الغير، وتعليمه الطريقة المثلى للنصح، بدلاً من السخرية به، وكيل التهم له، انتصارًا للنفس.
السمة العاشرة:
التناقض الصارخ فيما يأمرون به وينهون عنه
وهو نتاج طبعي للتخبط، واختلال المنهج، والبعد عن منهج الحقّ، فكلمّا كان المرء قريباً من منهج الحقّ؛ كان أقلّ تناقضاً في أقواله وأفعاله، والعكس صحيح: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[ النساء: 82].
ومن ذلك:(31/267)
1. أنّهم ينهون عن التضليل والتبديع والتفسيق، وهم يفعلون ذلك، فيبدّعون العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين هم على منهج السلف، وقد كتب أحدهم مقالاً نشره في أحد مواقع الأنترنت المشبوهة، وتواطأت الصحف المحليّة على نشره، وكان عنوان المقال (الصحوية والصحويون!! ) الجزيرة: 12318، شكّك فيه بالصحوة الإسلامية المباركة، وضمّنه الكثير من المغالطات والافتراءات والتهم والنقولات المبتسرة، وفاحت منه رائحة العلمنة، خلص فيه إلى ما نصّه: " ممّا تقدّم يتّضح لنا بجلاء أنّ الصحوة هي التي فجّرت منابع الإرهاب، وأنّ أدلجة المذهب السنّي أدلجة سياسية محضة هي قلب الصحوة النابض، وأنّ فكرة التنظيم - الكهنوت هو الوسيلة، وهو أسّ البلاد، وأنّ استثمار قضايا المرأة السعوديّة هو استثمار سياسي بحت، وأنّ مذهب أهل السنّة والجماعة شيء، والصحوة في جوهرها وأهدافها شيء آخر ".
وهكذا بجرّة قلم يحكم الكاتب الصحفيّ(!) على قطاع كبير من مجتمعنا يمثّل الأغلبيّة من العلماء والدعاة والصالحين ومن يثق بهم من سائر أبناء مجتمعنا، وهم عامّة الناس، بل على مجموعات كبيرة في العالم أجمع تفتخر بانتمائها إلى هذه الصحوة ولله الحمد، يحكم عليهم بأنّهم ليسوا على مذهب أهل السنّة والجماعة، وإنّما هم شيء آخر، أي ضلاّل مبتدعة، ولعمر الله إنّ هذا لشيء عجيب، وقلب واضح للحقائق المبينة، فالذين ينافحون عن مذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأمّة أصبحوا اليوم ليسوا من أهل السنّة والجماعة، أمّا الذين يطعنون في مذهب أهل السّنّة والجماعة وسلف الأمّة كابن تيمية الذي قال عنه هذا الكاتب ـ كذباً وزوراً ـ إنّه يحرّم الكيمياء المعروفة اليوم(!) والذين يبالغون في الثناء على الغرب، فهم الهداة المهتدون، وهم أهل السنّة عند هذا الكاتب، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض.
2.
البحث لما يكتمل.....
(1) صواب الآية: ( يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة.. ) [ النساء: 1 ].
==============(31/268)
(31/269)
أزمة الخطاب الليبرالي
محمد بن عيسى الكنعان
يؤكد الليبراليون دائماً على ( المبادئ الحضارية والقيم الإنسانية ) .. كتحقيق الحرية الفردية.. وإقامة العدالة الاجتماعية.. وتطبيق الديمقراطية السياسية.. وإشاعة المساواة البشرية .. وتقرير الحقوق الإنسانية.. إلى غير ذلك في قائمة المبادئ والقيم ، التي يرونها تمهد ل(الإصلاح الشامل) ، وتعزز مسيرة الأمة بوسائل الفكر والإبداع كي تلحق بركب الحضارة الإنسانية الذي تجاوزها منذ قرون، لذا هم يحاربون (الوصاية الفكرية) بكل أشكالها، ويدينون سياسة (تكميم الأفواه) التي تعارض الحق الإنساني في التعبير، أو جريرة (الإقصاء) بكل صوره، لأنه نقيض احترام الآخر، كما يرفضون التدخل في شؤون الناس، أو عقلية رفض المخالف (عقائدياً) والأخذ من ثقافته، أو التحجر عند الماضي وعدم التعاطي مع الحضارة المعاصرة..!
كل هذا الوصف (النظري) ينقلب إلى خسف (عملي) عندما يقدر الله لك التعاطي مع الخطاب الليبرالي والنزول إلى (واقعه) والاحتكاك بالليبراليين على ميادين الكتابة، والتعامل معهم على مسارات الفكر الواعي أو ملتقيات الحوار الجاد، بل لا أبالغ إن قلت إنك سوف تصطدم بمن يلتهم مبادئ الليبرالية في الليل فهماً وحفظاً، ثم يدوسها في النهار جهاراً نهاراً في أول مقال يكتبه على رقاع الصحافة، أو فكرة يترجمها إلى مشاركة إلكترونية، ناهيك عن حالة (التبلد الفكري) التي تنتابهم إزاء قراءتهم للأحداث والمواقف التي تتقاطع فيها النظرة الإسلامية مع النظرة الغربية، أو تتصادم معها على مساحات الرفض أو القبول أو الحياد، فتلك القراءة تفتقر لمنطق الأشياء في تحليل هذا الموقف أو ذاك الحدث، كما تمتاز بالازدواجية في الحكم على الأطراف الفاعلة في الحدث أو الموقف، أضف إلى ذلك الخروج البائن عن إجماع الأمة في قضية من قضاياها المصيرية بالإعلان عن هذا الخروج بموقف يتمسح بعباءة الغرب ويتغنى بفضائله الحضارية، بحجة أننا أمة رعاع ليس لها راية أو قيادة أو حضارة. ولعل احتلال العراق، أو قضية الرسوم الدنمركية المهينة، أو تصريح البابا الفاتيكاني العدائي خير شاهد.
لهذا أخفقوا بدرجة (امتياز) في استمالة جماهير الأمة نحو مشاريعهم الحضارية أو برامجهم التنموية، وشواهد الإخفاق حاضرة مع الاختبارات الأولى لهم، فالذي ينادي ب(الديمقراطية) ثم ينقلب عليها لأن صناديق الانتخابات (لفظته)، حتى اتهم شعبه بالجهل وعدم النضج .. كيف يكون ديمقراطياً أصلاً ؟
والذي يدعو لتحرير المرأة من قيد (الأصولية) الإسلامية، كيف يحارب الوصاية الفكرية وهو يخلصها من القيد ويرميها بوحل التغريب، كي تكون مسخاً للمرأة الغربية في طريقة التفكير وأسلوب الحياة، ولك أن تعجب عندما شنوا حملة فكرية شعواء على الشيخ الهلالي مفتي أستراليا على خلفية تصريحه (اللحم المكشوف) عن النساء العاريات، لأن هذا تعدٍّ على الآخر لكنهم صمتوا صمت القبور على تصريح أحد وزراء الثقافة العرب ضد الحجاب واعتبروه رأياً يدخل في حرية التعبير.
يسفهون خصومهم من الإسلاميين لأنهم يمجدون التاريخ الإسلامي ويستلهمون منه نظرتهم للمستقبل، ولكنهم لا يفعلون ذلك مع غيرهم الذين يمجدون الإغريق ويتعلقون بآخر حرف كتبه أحد فلاسفة اليونان وهو على فراش الموت عن وحدة الوجود، لأن المعين بالنسبة لهم واحد، خاصة وأنهم رضعوا موروثات الحضارة الإغريقية ثم قفزوا إلى مائدة الحضارة الغربية فتغذوا على أيدي التنوير وموائد الاستشراق، وخلال هذه القفزة كانت قطيعتهم مع الموروث الديني والشاهد التاريخي، الأمر الذي أوجد لديهم قدرة عجيبة ونفساً طويلاً في جلد الذات العربية والتشكيك في الحضارة الإسلامية والطعن في تاريخ الأمة.
أما (الإقصاء) فهو الشماعة التي يعلقون عليها (انحسار) مدهم الفكري إلى المنصات التي يتحدثون منها في الندوات الفكرية والملتقيات الأدبية، لذا هم يحفلون بأي نظام يقصي الإسلاميين عن مراكز السلطة أو دوائر صنع القرار أو منابر مخاطبة الجماهير، لأن المبرر أن الإسلاميين إذا وصلوا فصلوا.
يتحدثون كثيراً عن (الحرية الفكرية) التي تتعارض تماماً مع سياسة (تكميم الأفواه)، غير أنهم لا يجدون بأساً في تكميم أي فم لا يتحدث بخطابهم الليبرالي، لأن أي خطاب ما عدا خطابهم هو خطاب (متطرف) يستلزم تكميمه أو سحقه إن لزم الأمر، لدرجة أن بعضهم يبرر عدم التسامح مع أتباع التيار الديني لأنهم أعداء التسامح! وينادي بالمنطق العقلاني في تناول الأمور ويشدد على الواقعية في تصور الأشياء والحكم عليها إلا مع الإسلاميين لأنهم جميعاً متطرفون ومشاريع جاهزة للإرهاب، وعليه لا تجد في قواميسهم إلا القنوات الفضائية الإسلامية التي يتحدثون عنها ويحذرون منها ويشنعون عليها ويرمونها بكل نقيصة، دون الموازنة وفق المنطق المتبصر عن العهر السياسي والأخلاقي الذي تمثله قنوات تتبنى الطرح الليبرالي.(31/270)
بعد هذا كله.. هل يمكن تصديق الخطاب الليبرالي الذي ثبت أنه يعيش أزمة حقيقية، أو هل يمكن الوثوق بالليبراليين أو على أقل تقدير التلاقي معهم على أرضية مشتركة، خاصة وأن عدد المنصفين منهم يكاد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة ؟
ربما.. وهو بعيد الاحتمال، ما لم تكن هناك مكاشفة فكرية حقيقية معهم، تدفعهم نحو تبني مواقف عاقلة وقراءة الأحداث قراءة واعية تسهم في تخفيف حدة الغلو في خطابهم الذي بات مكشوفاً على كل الصعد والمجالات الحياتية ، فلعل فيهم بارقة أمل للعلاج حتى لا نضطر يوماً إلى إنشاء وكالة غوث الليبراليين، بسبب أنيميا الفكر وهزال الوعي ، إذا كنا بالفعل نبتغي (وحدة الصف) وننشد (إصلاح الفكر) ، خاصة وأن الإسلاميين قد تجاوزوا إشكالية نقد الذات مع واقع مراجعة خطابهم ورفض الغلو فيه والدعوة للتجديد الديني، والوقوف في وجه المتطرفين منهم ونقد منهجهم بأدوات الفكر الإسلامي ونصوصه الدينية المقدسة، إضافة على دورهم الفاعل والرئيس في فضح دعاوى الإرهابيين ونقض حججهم الدينية.
المصدر : جريدة الجزيرة السعودية
===============(31/271)
(31/272)
ما بال رجال ؟!
في صحيح البخاري (2424) مسلم(1504)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: " جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق- في كل عام أوقية فأعينيني- فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلت, ويكون ولاؤك لي؟
فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها!
فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم!
فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته!
فقال خذيها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء, فإنما الولاء لمن أعتق!
قالت عائشة: فقام رسول ا صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فما بال رجال منكم يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟
فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل, وإن كان مائة شرط, فقضاء الله أحق, وشرط الله أوثق!
ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق يا فلان ولي الولاء؟! إنما الولاء لمن أعتق!"
في هذا الحديث الشريف يستنكرُ نبيُنا العظيم على أولياء بريرة هذا الشرط اللاشرعي ويجهر بإنكاره من خلال خطبة عصماء واضعاً النقاط على الحروف دون مجاملة لأحدٍ أو مدارة لعشيرة أو قوم !!
بيد أنَّ نبينا الكريم قد اكتفى بالتعريض دون التصريح يقول "ما بال أقوام ؟!" لأنَّ المقام لا يتطلب أكثر من هذا ؛ ولأنَّ الغرض إنكار المنكر والصدع بالحق دون الحاجة إلى التشهير المباشر !!
وكون الناس يتمكنون بطريقة أو أخرى من معرفة المقصود , لا يمنع المحتسب من الإنكار مادام متأسياً بنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم عند جهره وإسراره , وعند ستره وإعلانه !!
ونحن نقول ما بال أقوام يتساهلون في إباحة المساهمات المحرمة والمشبوهة بدعوى التسهيل والتوسيع على الناس ؟!
وما بال أقوام يًقلِّلون من شأن ذروة سنام الإسلام ويهمشون وظيفته في إعلاء كلمة الله ؟!
وما بال أقوام يُجيزون الغناء والمزامير والمعازف ويخالفون أدلة كالجبال الرواسي , ويُسهِّلون للناس أسباب الخلاعة والفسوق ؟!!
وما بال أقوام يبيحون التأمين التجاري مع اشتمال على الربا والغرور والجهالة ؟!!
وما بال أقوام يُسوِّغون لفساق " طاش ما طاش" ممارسة فجورهم بدعوى (معالجة!!) مشاكل المجتمع ونقد تصرفات المتدينين ؟!!
وما بال أقوام يبنون جسوراً وهمية خدّاعة مع أساطين الليبرالية والرافضة بدعوى الحوار والاستماع للآخر ؟!!
وما بال أقوام يُحذِّرون ظلماً وعدواناً من "حلق التحفيظ" و"الجمعيات الخيرية" و"المراكز الصيفية" بدعوى تفريخها للإرهاب ؟!!
وما بال أقوام يُهوِّنون من شأن عمل المرأة في مجامع الرجال وتبرجها في الشوراع واختلاطها بالرجال ؟!!
ألا فاتقوا الله ياهؤلاء
===============(31/273)
(31/274)
الديمقراطيات الليبرالية حين تتنكر للخصوصيات الثقافية*
2004/11/03
…
أحمد أبو زيد**
المحجبات في فرنسا
تثير مواقف الرفض والعداء التي تتخذها شعوب بعض الدول الغربية من الأقليات العِرقية والدينية التي تتألف من المهاجرين الوافدين من الخارج للإقامة والعمل، وكذلك القيود الشديدة التي تفرضها حكومات تلك الدول على تحركات هؤلاء الوافدين والاعتراض على كثير من مفردات أساليب الحياة التي يتبعونها ومقاومة القيم الخاصة بهم والتي تحدد لهم سلوكياتهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم الداخلية، كثيرا من الشكوك والتساؤلات حول صدقية النظم الديمقراطية الليبرالية في ما تزعمه عن الاعتراف بمبدأ التعددية الثقافية والتسامح مع الآخر وإمكان تعايش الثقافات المختلفة المتباينة في المجتمع الديمقراطي الذي يحترم خصوصية الأفراد والجماعات داخل نطاق النظام العام الذي يسود المجتمع.
انقلاب على المبادئ
فالواضح من الأحداث والوقائع والقرارات الرسمية التي تصدر عن هذه الحكومات وبخاصة في الآونة الأخيرة أن ثمة كثيرا من المحاذير والتحفظات تتمسك بها هذه الدول ضد الثقافات الأجنبية الوافدة مع هؤلاء المهاجرين الذين يحملون على أية حال جنسيات الدول التي يعيشون ويعملون فيها كمواطنين على رغم أن تلك الثقافات الوافدة ثقافات محافظة وغير ليبرالية ولا تتفق مبادئها وقيمها مع المعايير الغربية الليبرالية التي تتيح للفرد قدرا كبيرا جدا من الحرية في التفكير والسلوك تختلف كل الاختلاف عن مظاهر الكبت والقهر التي تميز الثقافات المحافظة والتي يخضع لها أعضاء تلك الأقليات، ولذا ترى هذه الحكومات أن من حقها التدخل في شئون هذه الجماعات لتعديل وتغيير أو حتى تحريم ومنع بعض السلوكيات الخاصة المميزة ضمانا للمحافظة على التوافق الاجتماعي والتناغم الثقافي داخل المجتمع.
وتنسى هذه الحكومات أن هذا التدخل يمثل في حد ذاته خروجا على مبادئ الليبرالية وإهدارا لمفهوم التعددية الثقافية ويكشف عن التناقض بين الشعارات النظرية التي تتغنى بها تلك الدول وبين الواقع المشاهد المحسوس الملموس الذي تفرضه على تلك الفئات والجماعات بقوة القانون كي تتخلى عن نظمها وقيمها ومفهومها للحياة وتراثها الثقافي التقليدي وتذوب بالتالي كلية في المجتمع الكبير.
فالديمقراطيات الليبرالية في الغرب لا تتورع في محاولاتها تغيير القيم التي يؤمن بها مواطنوها من الأقليات الوافدة عن الالتجاء إلى أساليب القهر والقسر نفسها التي توصف بها الثقافات الليبرالية التي جاء منها أفراد تلك الأقليات.
وعلى أية حال فإن الوضع في المجتمعات الغربية في ما يتعلق بالنظرة إلى تلك الأقليات صعب وشائك ويحتاج إلى كثير من التروي والمرونة والحكمة حتى يمكن تجنب الصراع السافر الذي قد يتخذ شكل العنف المتبادل للدفاع عن الكيان الاجتماعي والمقومات الثقافية المتعددة ذات التوجهات المتعارضة.
نموذج الليبرالية الغربية
ولقد أفلحت الثقافات الليبرالية في الغرب في تحرير الفرد من كثير من القيم التقليدية المتوارثة والأحكام التي تفرضها تلك القيم بخاصة الأحكام المتعلقة بمفهومي الصواب والخطأ. فلم يعد الفرد - على سبيل المثال - يعطي أهمية كبرى لمبدأ المسؤولية الشخصية المستمد من القيم الأخلاقية والتعاليم الدينية ويرفض أن تكون تصرفاته وحياته الخاصة وتعامله مع الآخرين محلا للتقويم والحكم عليه اجتماعيا وأخلاقيا كما يحدث في المجتمعات والثقافات المحافظة أو غير الليبرالية. فالصواب والخطأ مفهومان تعسفيان صاغهما أشخاص سوداويون متسلطون لإخضاع الآخرين لإرادتهم ووجهة نظرهم المتعسفة الضيقة ولذا يجب رفضهما حتى يحيا الفرد حياته بالطريقة التي تروق له.
وقد تكون هذه نظرة متطرفة لفهم مبدأ الليبرالية وما تكفله للفرد من حرية شخصية. وعلى ما تقول غرترود هيلمفارب في مجلة "Academic Question 2000" التي تصدرها رابطة الأساتذة الأكاديميين في أميركا، إن هذه النظرة المتطرفة قد تؤدي في آخر الأمر إلى إهدار هيبة ورهبة الأخلاق المجتمعية. وتستشهد على ذلك بآراء وأقوال عدد من أساتذة الجامعات حول مواقف طلابهم السلبية من بعض المشاكل الشائكة التي يرفضها الرأي العام العالمي مثل مشكلة التطهير العرقي والتمييز العنصري وتجارة الرقيق والشذوذ الجنسي والإدمان ودعارة الأطفال وما إليها، وتقبلهم لهذه الأوضاع الشاذة على أنها أمر واقع لا ينبغي الحكم عليه بالصواب أو الخطأ لأن كل شيء نسبي في هذه الحياة، وأن إطلاق الأحكام التقويمية هو نوع من الاستبداد في الرأي وعدم التسامح والرغبة في التحكم في الآخرين وهو عكس ما تقضي به معايير الليبرالية السليمة من اتساع الأفق وتقبل آراء وسلوكيات الآخرين.(31/275)
والمفارقة هنا هي أنه في الوقت الذي يتيح فيه المجتمع الديمقراطي الليبرالي كل هذه الحرية بل والتحرر للفرد في ما يتعلق بآرائه وأفكاره وتصرفاته التي قد تخرج على النمط العام السائد في المجتمع فإن هذا المجتمع نفسه يرفض منح مثل هذا الحق للجماعات العرقية والأقليات الوافدة المقيمة فيه ويمنعها من ممارسة حياتها بطريقتها وأسلوبها الخاصين تبعا لمنظومة القيم الدينية والأخلاقية التي تعتنقها، بل إنه قد يعمل على نبذ وطرد هذه الجماعات إن أخفق في احتوائها ودمجها تماما في الثقافة القومية التي تعترف بها الدولة. ويزداد الموقف تعقيدا في الحالات التي تتمركز فيها تلك الجماعات بأعداد كبيرة في مناطق محددة وفي شكل يلفت الأنظار إليها بحيث يمثل وجودها وسلوكها نوعا من الاستفزاز لمشاعر بقية السكان كما هو شأن العرب في فرنسا والأفارقة في بريطانيا والأتراك في ألمانيا وهكذا.
وكثيرا ما تثير هذه الأوضاع مشكلات ذات أبعاد سياسية وأخلاقية وفلسفية حول إمكان التوفيق بين الاعتراف بمبدأ التعددية الثقافية وفقا للفكر الليبرالي وبين المحافظة على وحدة المجتمع وتماسكه وهويته الثقافية المتميزة على رغم عدم التجانس ورفض الأقليات التنازل عن هويتها كخطوة للاندماج في الكل الاجتماعي. فالمأزق الذي تواجهه هذه الدول الديمقراطية إذا هو صعوبة الجمع بين مبدأ احترام الآخر بخاصة إذا كان هذا الآخر ينتمي في الأصل إلى ثقافة غير ليبرالية وغير ديمقراطية ومتطلبات المحافظة على الوحدة وعلى الكيان الاجتماعي والثقافي مع الالتزام في الوقت ذاته بمبدأ العمل على تحرير الأفراد من القهر الاجتماعي الذي قد يتعرضون له من جراء انتمائهم إلى ثقافاتهم الأصلية المحافظة. وقد تمثل هذا المأزق في الآونة الأخيرة في موقف فرنسا من غطاء الرأس أو الحجاب الذي تتمسك به المواطنات المسلمات. وأخذت المسألة أبعادا قد تكون أكبر من حجمها الحقيقي ونشأت عنها أزمة اجتماعية انقسم الرأي العام حيالها وكان من الممكن أن تتحول إلى أزمة سياسية تتجاوز حدود الدولة الفرنسية.
والواقع أن مسألة الحجاب كانت أثيرت في فرنسا نفسها في الثمانينات من بعض الكُتاب بحجة الدفاع عن علمانية التعليم في دولة علمانية ليبرالية، وشاركتهم في ذلك بعض الحركات النسائية التي ترى في الحجاب رمزا على قهر المرأة المسلمة واستعبادها، ولم يعط الرأي العام الفرنسي لهذه الدعاوى كثيرا من الاهتمام في ذلك الحين بعكس ما حدث أخيرا مما قد يوحي بوجود عوامل أخرى جديدة ساعدت على اشتعال الموقف مثل تزايد الشعور بخطورة اتجاهات بعض الجماعات الإسلامية الرافضة لثقافة الغرب.
تناقضات أم نفاق اجتماعي؟
والغريب في الأمر هنا هو أن بعض الأوضاع المناقضة للقيم الغربية ولحركات التحرر النسائي لم تثر في فرنسا مثل الأزمة التي أثارها تمسك المسلمات الفرنسيات بالحجاب. والمثال الذي يحضرني هنا هو ظاهرة تعدد الزوجات في العائلات الأفريقية المقيمة في فرنسا. ففي الثمانينات أيضا من القرن الماضي سمحت الحكومة الفرنسية للمواطنين من أصول أفريقية باستدعاء زوجاتهم العديدات للإقامة معهم. ويقدر البعض عدد هذه العائلات البوليجامية بحوالى مائتي ألف عائلة في باريس وضواحيها، ويبلغ حجم بعضها عشرين شخصا يقيمون في مسكن واحد تحت ظروف غير آدمية حيث تزدحم المساكن بالزوجات وأطفالهن مما لا يحقق للمرأة خصوصياتها حتى في معاشرة الزوج. وحاولت الحكومة الفرنسية أخيرا معالجة هذا الوضع الذي يتعارض مع الأعراف والقيم والقوانين الغربية فاعترفت بزوجة رسمية واحدة فقط واعتبرت الزيجات الأخريات باطلة. وبطبيعة الحال لم يغير هذا الإجراء من الواقع شيئا بالنسبة لتعدد الزوجات وإن نجمت عنه مشكلات جديدة تتعلق بالوضع الاجتماعي والقانوني لهؤلاء الزوجات "الأخريات" وأطفالهن ومصيرهم جميعا.
وفي مقال طريف بعنوان "هل التعددية الثقافية ضارة بالنسبة للمرأة؟" ظهر في "بوسطون ريفيو" تقول الكاتبة سوزان موللر أوكين: إن ادعاء الحركات الليبرالية والنسائية الرغبة في تحقيق المساواة بين الجنسين وتحرير المرأة من الاضطهاد والقهر الاجتماعي لا يمكن اعتباره مبررا كافيا لثورة الرأي العام الفرنسي ضد حرص النساء المسلمات على التمسك بالحجاب كرمز للهوية الثقافية الخاصة بينما لا يعترض هذا الرأي العام الفرنسي ذاته على تعدد الزوجات الأفريقيات على رغم أن المرأة الأفريقية نفسها ترفض هذا النظام وتطالب بإلغائه. فهناك تناقض بين الموقفين يكشف عن نوع من النفاق الاجتماعي في مجتمع ليبرالي ديمقراطي المفروض أنه يحترم الخصوصيات الثقافية للمواطنين مما قد يشير إلى وجود أبعاد وعوامل أخرى خفية تفرض على دول الغرب الديمقراطي اتخاذ مواقف متعارضة ومتناقضة إزاء مشاكل من النوع نفسه. وهذا يتطلب من هذه الدول مراجعة سياساتها حتى لا تفقد صدقيتها أمام الشعوب.
==============(31/276)
(31/277)
أزمة الخطاب الليبرالي العربي الجديد
2004/04/05
…
د. بشير موسى نافع **
يواجه الليبراليون العرب أزمة متفاقمة؛ فسياسيا بات الاتجاه الليبرالي العربي (الجديد) -بوعي أو بدون وعي- يخدم مباشرة سياسات الإمبريالية الجديدة التي تقودها الإدارة الأمريكية الحالية وبعض حلفائها في المعسكر الغربي، وفكريا يكرر الليبراليون العرب تجربة الحركة الماركسية العربية التي انتهت إلى مدرسة فكرية أرثوذكسية ترى العالم من خلال منطلقات أيديولوجية مصمتة، بغض النظر عن حقائق الواقع البسيطة والواضحة.
يضم التيار الليبرالي العربي عشائر متباينة الأصول من مثقفين وكتاب ورجال سياسة وتجارة. بعضهم يعود في أصوله إلى الأحزاب والمنظمات الماركسية التي انتعشت في الستينيات والسبعينيات، ثم سرعان ما أصاب أغلبها الانقراض والعزلة بفعل الاندحار العالمي للمعسكر الشيوعي. وهؤلاء هم أكثر الليبراليين العرب دوغمائية وعدمية؛ إذ ربما تحركهم دوافع الإحساس بالذنب تجاه الماضي الماركسي العبثي، والرغبة في تطهير الذات وتبرئتها من ذلك الماضي، ولكنهم لسبب أو لآخر عجزوا عن التحرر من منهجية القراءة الأحادية الأيديولوجية للواقع.
الجهل سبب الفهم المشوه
ما تغير في خطابهم ليس منهج النظر؛ بل مصطلحات الخطاب ولونه وتحالفاته الدولية. وبعضهم إسلامي سابق، أو حتى إسلامي حالي، ممن انتهى بهم ميزان القوى العالمي والهجوم على العالم الإسلامي إلى كراهية الذات، ومحاولة إخراج الإسلام في نسخة معاصرة، حديثة وعصرية -وبالطبع ديمقراطية- في استلهام مشوه لاتجاهات الإصلاح الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أو في محاولة اعتذارية.
وهؤلاء هم أكثر الليبراليين العرب جهلا وكسلا ذهنيا، يعرفون القليل عن التجربة التاريخية العربية الإسلامية، ويحسبون قراءتهم الانتقائية لها التي تفتقد إلى أبسط قواعد المنهجية الغربية رؤية نافذة للتاريخ. ولكن جهلهم الأكبر هو بالنموذج الغربي ذاته، النموذج الذي يشكل مرجعيتهم المستبطنة، وهو جهل مركب لتاريخ النموذج وتطوره، وواقعه الاجتماعي والسياسي وتعقيدات خطابه الفكري. وبعضهم أصحاب مصالح تجارية وسياسية، طفوا على الساحة العربية بفعل الانقلابات المفاجئة في الاقتصاد العربي خلال العقود الثلاثة الماضية، بفعل السمسرة التجارية أو السياسية، أو بفعل انقلابات توازن القوى في العالم والنزوع الفطري للاحتماء بالأقوى. وهؤلاء هم أكثر العشائر الليبرالية العربية انتهازية، وأغلبهم لا يخفي حقيقة دوافعه، وطبيعة الدور الذي يقوم به، والمصالح الذاتية التي يسعى وراءها.
الليبراليون الأصلاء..قلة
قلة من الليبراليين العرب هم الذين يمكن تسميتهم بالليبراليين الأصلاء؛ فأولئك الذين قادوا أحزابا مثل حزب الوفد وحزب الأحرار الدستوريين في حقبة ما بين الحربين، أو رجال الفكر والسياسة من أمثال محمد حسين هيكل، ومعروف الدواليبي، وعلال الفاسي. فهؤلاء هم الليبراليون الوطنيون الذين تحركهم دوافع الحفاظ على الاستقلال، ودفع التدخل الأجنبي، وإقامة علاقة سوية مع المعسكر الغربي، والنهضة العلمية والاقتصادية، وتعزيز القيود الدستورية على سلطة الدولة. ولكن طغيان العشائر الليبرالية الأخرى على الساحة، وانتشارها، وعلو صوتها جعل الليبراليين الأصلاء فئة أقرب إلى الانقراض والتقوقع، منها إلى الاستمرار والحيوية.
بدأ الاتجاه الليبرالي العربي (الجديد) في الصعود وبلورة خطابه منذ نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات. وقد جاء صعود الخطاب الليبرالي على خلفية من تحولات دولية وإقليمية دراماتيكية. فقد انهارت الكتلة الشيوعية، وتعرضت روسيا إلى انقلاب أيديولوجي كبير، وبرزت الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأدت أزمة الدخول العراقي إلى الكويت والحرب التي نجمت عنها إلى انقسام عربي فادح، ثم جاءت اتفاقية أوسلو ليبدو وكأن القضية الفلسطينية قد وصلت إلى منعطف تاريخي يخرجها من الوعي العربي الجمعي.
عالج الليبراليون العرب مجمل هذه التحولات والواقع العربي المتولد عنها من خلال منظارغربي (بل أمريكي) مستتر. كان الشعار الأعلى صوتا في الخطاب العربي الليبرالي هو شعار ضرورة التحول الديمقراطي في العالم العربي، واللحاق بركب الديمقراطية المتزايد نفوذا وانتشارا في العالم أجمع. ولكن هذا لم يكن كل شيء؛ فقد تبنى الليبراليون العرب النتائج السريعة التي توصل إليها بعض الأكاديميين الغربيين ذوي الأجندة السياسية (مثل برنارد لويس وأوليفييه روي)، وأعلنوا أن فكرة القومية العربية قد انتهت، وأنه قد آن الأوان للقذف بمشروع الوحدة العربية إلى سلة مهملات التاريخ. كما أعلنوا نهاية الإسلام السياسي، ليس فقط كمشروع دولة كان يستدعي ويستحق النقد والمراجعة بالفعل، بل أيضا نهاية دور الإسلام وقيمه في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمسلمين.
ساعدوا في الانتشار الإسرائيلي(31/278)
واحتفل الليبراليون باتفاق أوسلو، جاعلين من ياسر عرفات بطلا تاريخيا للعرب والفلسطينيين، ليس بسبب سجله النضالي الطويل بل بسبب استعداده للتخلي عن فلسطين التاريخية، وبسبب الدور الذي لعبه اتفاق أوسلو في فتح الباب العربي على مصراعيه للتطبيع والانتشار الإسرائيلي في المنطقة، وما سمي حينها بالمشروع الشرق الأوسطي. وتحت شعار التحول الديمقراطي أراد الليبراليون العرب حسم معركة الوحدة وفلسطين، والالتحاق بالركب الأمريكي والعلمنة الشاملة بدون إطلاق طلقة واحدة. وكان ميزان القوى في التسعينيات يغري بذلك.
بيد أن نهاية عقد التسعينيات جاءت لليبراليين العرب بخيبة أمل بالغة. فالولايات المتحدة كانت أكثر حرصا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة على الحفاظ على علاقاتها بالأنظمة الحليفة (الفاسدة) في المنطقة منها على التحول الديمقراطي، وعلى مستوى الصراع العربي الإسرائيلي نجح حزب الله في دحر الاحتلال الإسرائيلي وهزيمته في جنوب لبنان، مثيرا في العرب إحساسهم العميق بالوحدة والمصير المشترك. ثم جاءت انتفاضة الأقصى لتؤكد عبثية طريق أوسلو وحقيقته من ناحية، وتعيد التذكير بجوهر المشروع الإسرائيلي وارتكازه إلى العنف والسيطرة من ناحية أخرى، وما إن أطل القرن الجديد حتى راحت الولايات المتحدة تخوض حربا عالمية هوجاء، بل ضد حلفائها الأوروبيين التقليديين أحيانا؛ لتعزيز تحكمها في القرار العالمي وسيطرتها على مقدرات العالم.
وقد بدا للحظة أن الخطاب الليبرالي العربي قد أصيب بنكسة كبرى؛ فالفرضيات التي انطلق منها في عقد التسعينيات اصطدمت اصطداما محبطا بحقائق الواقع العربي والعالمي الجديد؛ فلا العرب اشتروا شعار الديمقراطية على حساب قضاياهم الرئيسة، ولا العالم انتقل إلى حقبة من الترابط والسلام وسيادة القيم الإنسانية المشتركة. على العكس أصبح العرب أكثر استماتة في الدفاع عن ثوابتهم، بينما ضج العالم بأزيز الطائرات القاصفة والصواريخ والأساطيل المسلحة.
تحت العلم الأمريكي
يحلم الليبراليون بقدوم التمثال مع الدبابات الأمريكية
باحتلال العراق وانتقال الحرب الأمريكية على الإرهاب إلى حرب فكرية وسياسية وثقافية ضد العرب والمسلمين.. وجد الليبراليون العرب فرصة جديدة للخروج من نكسة نهاية التسعينيات وإحباطاتها. ولكن الليبراليين العرب يدركون أن هذه الفرصة فرصة يائسة، فرصة لا تنبع من نجاحات خطابهم، وإنجازات جهدهم الخاص، وانحياز الجماهير العربية إلى معسكرهم، بل من حالة الهجوم الأمريكي، وبطش أدواته وإمكاناته الهائلة، وإن كان انحياز الخطاب الليبرالي العربي في التسعينيات للمشروع الأمريكي انحيازا مستبطنا أو موضوعيا؛ فقد أصبح هذا الانحياز الآن سافرا وعضويا.
يدرك الليبراليون العرب بالطبع أن هذه الشراكة مع المشروع الأمريكي ليست شراكة متكافئة، بل ليست شراكة بأي صورة من الصور، بل هي مجرد التحاق بالقاطرة الأمريكية؛ وهو ما يستدعي دفع تكاليف هذا الالتحاق، سواء من جهة تبرير المشروع الأمريكي وتسويغ وسائله، أو من حيث تبني أهدافه ومنطلقاته. وقد أدى ذلك إلى انقلاب جوهري في الخطاب الليبرالي العربي. فبعد أن كانت الدولة هي الهدف الرئيسي (والمعلن على الأقل) للخطاب الليبرالي العربي، أصبح الهدف هو المجتمع العربي وإنسانه وقواه. ولأن الاستهداف الأمريكي للمجتمع العربي والإنسان العربي يقوم على فرضيات خاطئة، ويستبطن أهدافا معروفة ومحددة مسبقا؛ فقد اضطر الخطاب الليبرالي العربي (الخطاب المحلي الشريك للخارج) للجوء إلى الدوغما الأيديولوجية لقراءة الأزمة العربية وتشخيص عناصرها.
يقدم الخطاب الليبرالي العربي في صيغته الجديدة صورة مأساوية للعرب ومجتمعاتهم. المشكلة هنا ليست تعرية التخلف التقني أو الانقسام الداخلي؛ فكل خطاب نقدي في العالم هو خطاب متْرَع بالتأزم، وليس ثمة من مجتمع يمكنه الحفاظ على دينامياته وتقدمه بدون خطاب نقدي دائم. المشكلة كما يقرؤها الليبراليون العرب هي حالة تأزم عربي مغلق ومطلق، حالة انهيار كامل وشامل، حالة تحلل غير مسبوق في تاريخ العرب والعالم، حالة خروج فعلي ونهائي من التاريخ. وطبقا لهذا الخطاب فإن الإنسان العربي إنسان متخلف، تسكنه الخرافة، نتاج تعليم بشع ومشوه، غير قادر على أن يقف موقفا نقديا من ذاته ومجتمعه وقيمه، يفتقد إلى أدنى القيم المدنية، ولا يعرف حقوق وواجبات المواطنة.
المجتمع العربي مجتمع مؤسس على الاستبداد والنظام الأبوي. وهو مرة مجتمع قبلي عشائري طائفي، ومرة أخرى مجتمع مصمت مغلق، تختفي فيه توجهات الإبداع الفردي الإنساني لصالح الكل المسيطر والمهيمن.
العرب لا يقرؤون، لا يترجمون، وحظهم من الصحف أدنى من حظوظ المتوسط العالمي، أما إعلامهم فكاذب ومضلل وسطحي، بينما يهبط إنتاجهم القومي عن أدنى مستويات إنتاج الدول من الدرجة الثانية، وهم غير قادرين على التعامل مع التقنية الحديثة، لا يتمتعون بخيرات الإنترنت، وقد أصبحوا فوق ذلك المصدر الرئيسي للعنف والإرهاب والموت العبثي في العالم.(31/279)
آن الأوان -طبقا لهذا الخطاب- لأن يتوقف العرب عن التعلل بالصراع مع الدولة العبرية، أو التذرع بمقاومة الخطر الإمبريالي المزعوم. فالعيب ذاتي وداخلي قبل أي شيء آخر. النتيجة المنطقية لهذا الخطاب بالطبع ضرورة تدخُّل قوة خارجية ما لإصلاح أمرنا؛ لإعادة النظر في نظم حياتنا وقيمنا وأنماط اجتماعنا، قوة تنهضنا من هذا السبات الطويل والعميق.
ثمة -لا شك- أمثلة عديدة على افتقاد الخطاب العربي للصواب، أمثلة على كسله الذهني، بينما تدلل أخرى على أن دوافع إنشائه هي التي تشكل إطاره المرجعي لا حقائق الواقع. كيف يمكن -مثلا- تفسير الإبداع العربي المميز خلال نصف القرن الماضي في مجالات الأدب، والرواية، والشعر، والموسيقى، والفنون التشكيلية. من أين جاءت هذه القدرة العربية غير العادية على الإبداع والتجديد في كل هذه المجالات؟ وكيف يمكن تفسير انتشارها من القاهرة إلى دمشق ومن بغداد إلى تونس ومن حلب إلى الدار البيضاء؟ كيف أمكن لدولة مستبدة كدولة صدام حسين ولشعب (صغير) نسبياً كالشعب العراقي أن يحقق الإنجازات العلمية والصناعية التي حققها خلال فترة صغيرة من الزمن؟ بل كيف أمكن لدولة مثل ليبيا أن تؤسس صناعة نووية، وقد أنجز أغلب ذلك سرا ومن خلال أسواق جانبية أو هامشية، وفي ظل صعوبات هائلة؟
لماذا؟
كيف يسكت الباحثون والمنظِّرون العرب لسنوات طوال على حساب الناتج القومي للدول العربية بمقياس معدلات الصرف النقدي (المقياس الذي يصفه البنك الدولي بأنه غير صحيح، ولا يقدم صورة حقيقية عن إنتاج وثروات الأمم)، وكيف يتجاهلون المقياس الأكثر دقة المعروف بمقياس "القوة الشرائية المتعادلة"؟ وهل يمكن في ظل حالة التجزئة العربية وانعدام وجود سوق عربية واسعة أن تقوم صناعة عربية ذات جدوى؟ ولماذا تدفع كل دولة عربية إلى أن تعقد -على حدة- اتفاقيات تحرير السوق وإلغاء التعريفة الجمركية مع الاتحاد الأوربي أو الولايات المتحدة، بينما لا يسمح للدول العربية أن تعقد مثل هذه الاتفاقيات فيما بينها كمجموعة إقليمية تربطها اللغة والثقافة والتقاليد والجوار؟
لماذا ضربت كل محاولة للنهضة والتصنيع العربي بلا هوادة ولا رحمة من مصر محمد علي وجمال عبد الناصر إلى عراق صدام حسين، وما إن هزمت تلك المحاولات في ساحات الحرب حتى دمرت قاعدتها الصناعية، وسرح علماؤها، أو تعرضوا للاغتيال (كما يحدث في العراق اليوم)، وأجبرت على التحول إلى مستهلك للإنتاج الأجنبي؟
لماذا عاشت وتعيش الجماعات والطوائف في هذه المنطقة بسلام، تعرف حقوقها وواجباتها والتزاماتها تجاه بعضها البعض وتجاه البلاد التي تقطنها، ثم تنهار لُحمتها، ويقوض سلمها الداخلي لدى التدخل الأجنبي؟ ألم يوجد العراق -مثلا- بهويته كعراق منذ أربعة عشر قرنا؟ ألم يقم في ظل الولاة المماليك العثمانيين طوال القرن الثامن عشر والثلث الأول من القرن التاسع عشر ضمن حدوده الحالية؟ فلماذا يتحول فجأة إلى شمال ووسط وجنوب، وإلى شيعة وسنة وأكراد؟ وهل صحيح أن بريطانيا -موطن الصحافة في العالم- تنتج من الصحف القومية الجادة أكثر مما تنتجه مصر، أم أن من الضروري أن تعج شوارع القاهرة بصحف الجنس ومستنقعات التابلويد حتى تتساوى بالدول المتقدمة؟ كيف يقال عن أمة تخدمها أكثر من خمسين قناة تلفازية تتحدث لغتها الأم، وعشرات محطات الإذاعة، بما في ذلك كبار الإذاعات الغربية الموجهة بأنها تفتقد معرفة العالم ومجرياته، في الوقت الذي تعرف فيه عجائز قبائلها الصحراوية حقائق السياسة الدولية أفضل مما يعرف فيه الأمريكي المتوسط حقائق سياسات بلاده؟
هناك مشاكل عديدة لا بد أن يواجهها العرب في حياتهم ومجتمعهم والقيم المحركة لكليهما. ولكن هذه المشاكل لا يمكن أن تواجَه بدون قراءة صحيحة لمكونات المجتمعات العربية ودينامياتها المعرفية الخاصة وتجربتها التاريخية. ولا يمكن أن تواجَه قبل مواجهة المشكلة الكبرى التي تنبع من السيطرة الخارجية، السيطرة بالقوة والعنف على مقدراتهم وسيادة بلادهم وطموحاتهم. وإلا فكيف نفسر هذا الاهتمام العالمي المتواصل منذ نهاية القرن الثامن عشر بهذه المنطقة؟ وكيف تسعى الولايات المتحدة في مشروع غير مسبوق في التاريخ الحديث لإشراك جميع دول العالم العظمى في إعادة صياغة هذه المنطقة وإنسانها.
أما الذي لا يريد أن يرى أزمة هذه المنطقة وشعوبها إزاء الخارج، وإزاء "الشريك" الأمريكي على وجه الخصوص؛ فعليه أن يتذكر أن هناك حربا دموية تدور على أرض العراق منذ مارس/آذار من العام الماضي، طرفها الرئيسي هو الاحتلال الأمريكي العسكري. لا تستطيع واشنطن أن تزرع الموت والدمار في العراق، وتساعد على زرع الموت والدمار في فلسطين، ثم تتحدث بلسانها أو لسان شركائها الليبراليين العرب عن مناهج التعليم في السعودية أو لا سامية الصحافة المصرية. إن كان لليبراليين العرب أن يؤكدوا التزامهم بقضايا شعوبهم؛ فعليهم أن يقفوا في وجه هذه العواصف الهوجاء التي تريد أن تجعل من البلاد العربية ساحة للدمار والموت مرة، وساحة لتجارب موظفي الإدارة الأمريكية مرة أخرى.
==============(31/280)
(31/281)
عمرو خالد.. الطبعة الإسلامية لليبرالية الجديدة!
2003/08/10
حسام تمام
الاهتمام بحركات التدين الجديد لا يتوقف، والدراسات التي تتناول الظواهر الدينية الجديدة لا تنقطع في أنحاء العالم وداخل كل الأديان، فالقرن الحادي والعشرون سيكون قرن الدين أو لن يكون، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو.
وفي إطار هذا الاهتمام كانت الدورية الفرنسية "السياسة الأفريقية" قد أصدرت عددا خاصا (العدد 87) بعنوان "موضوعات الرب" لبحث التغيرات الجديدة على مستوى العلاقة بين اليومي، أو المعيش، والمقدس في قارة أفريقيا السمراء.
"السياسة الأفريقية" واحدة من أهم الدوريات المتخصصة في الشئون الأفريقية، وتصدر عن مركز الأبحاث السياسية والقانونية في القارة الأفريقية بجامعة السوربون، ويرأس تحريرها "ريشار بانيا" و"رولان مارشال". وهي تعكس الاهتمام الفرنسي الكبير بالقارة السمراء التي شهدت منذ نهاية الثمانينيات نوعا من العودة للدين على كل المستويات، وهو ما يحاول الملف رصد أشكاله المختلفة.
الملف يضم دراسات ومقاربات مختلفة حول الدين والحياة في أفريقيا؛ فيقدم الباحث "هيرفيه ميبو" مقاربة لدور الدين في الانتخابات الكينية التي أسفرت عن وصول المعارضة للحكم لأول مرة منذ استقلال البلاد، ويكتب "أندريه ماري" عن سياسة المتنبئين الرعاة في كوت ديفوار التي تمثل اللقاء بين التقليدي -وهم أولئك المتنبئون الرعويون- والحداثي وهو شكل الحكم في البلد الأفريقي الذي كان مثلا للاستقرار ثم تحول إلى منطقة اضطرابات عنيفة.
وفي الملف أيضا موضوع عن النمو الديني وطابع الحكم، يناقش أبعاد العلاقة ما بين التقليدي القبلي والسياسي الحداثي في بوركينا فاسو للباحث "بيير جوزيف لورين"، كما يكتب "جوزيف توندا" عن اقتصاديات المعجزات الدينية في أفريقيا الوسطى.
الإسلام كظاهرة اجتماعية
عمرو خالد
أما أهم دراسات الملف فكانت عن الشيوخ الجدد وظاهرة عمرو خالد، وأهميتها ليست فقط في كونها الوحيدة في الملف التي تتعرض للإسلام في أفريقيا قارة الإسلام؛ بل لأنها ربما كانت الأولى والأهم عن ظاهرة جديدة على الحقل الديني الإسلامي.
الدراسة أعدها "باتريك هاني" وهو باحث اجتماع سويسري يعيش في مصر وهو مختص في الظاهرة الإسلامية، وحصل على الدكتوراة من معهد الدراسات السياسية في باريس عن الحركة الإسلامية في منطقة إمبابة "إحدى الضواحي الشعبية في مدينة القاهرة"، ونالت جائزة أحسن رسالة دكتوراة باللغة الفرنسية عن العالم الإسلامي لعام 2001، ودراسة باتريك عن "الإسلام كظاهرة اجتماعية: الشيوخ الجدد- نموذج عمرو خالد" تقوم بالأساس على رفض التفسير العلماني الشائع في مصر لظاهرة عمرو خالد والذي ينظر إلى الظاهرة باعتبارها وجها من وجوه انتشار الأصولية الإسلامية وتغلغلها في كافة شرائح المجتمع المصري على اختلافها، وتتعامل معها على أنها الطبعة الأرستقراطية لخطاب الإسلام السياسي صاحب الصوت الأعلى في مصر طوال العقود الثلاثة الأخيرة.
كما تختلف الدراسة في منطلقاتها أيضا مع التفسير الذي يُرجع انتشار ظاهرة عمرو خالد إلى أزمة الطبقة الوسطى، حيث يرى باتريك أن كلا التفسيرين ينكر حاجة المجتمع بما فيها الشريحة العليا وأبناء الطبقة الأرستقراطية للتدين، كما أنهما يتأثران إلى حد بعيد بالمعركة السياسية التي تخوضها تيارات علمانية ضد انتشار الظاهرة الإسلامية.
أخلاقيون خارج السياسة
ظاهرة عمرو خالد في رأي باتريك مختلفة تماما عن تيار الإسلام السياسي ممثلا في الجماعات والتنظيمات الإسلامية التي جسدت ظهور وانتشار الظاهرة الإسلامية في العقود الماضية. وأهم نقاط الاختلاف التي ترصدها الدراسة كانت الابتعاد عن السياسة والتزام خطاب أخلاقي يختلف مع خطاب هذه الجماعات والتنظيمات السياسية. فعمرو خالد في رأي باتريك وقف على بوابة الإسلام السياسي، ولم يدخلها، وهو أخلاقي بحت حتى إذا تحدث في السياسة، ويضرب مثالا بمحاضرة لعمرو عن فلسطين يرى فيها أن المسلمين خسروا القدس بسبب ضعف الإيمان وهي لن تعود إليهم إلا إذا قوي إيمانهم مرة أخرى والتزموا بالأخلاق الإسلامية!
وتنظر الدراسة إلى ظاهرة عمرو خالد باعتبارها تعكس التوظيف الاجتماعي للإسلام بما يبتعد بها تماما عن حركات وتنظيمات الإسلام السياسي فترى أن نموذج عمرو خالد يمثل تلبية للاحتياجات الدينية للنخب والطبقات العليا في مصر ومحاولة لتقديم إسلام بمواصفات خاصة لأبناء هذه الشرائح التي تستقر بأعلى الهرم الاجتماعي في مصر بما يلبي رغبتها الحقيقية في التدين وفي ألا تحمل شعورا بالذنب أو إحساسا بالتقصير يدفعها إلى إعادة النظر في وضعها الاجتماعي وما يكفله لها من امتيازات لا تتاح للطبقات الأقل، وهو تدين ذو مواصفات خاصة لن تجده هذه الشرائح في خطاب الشيوخ التقليديين المحسوبين على تيار الإسلام السياسي من أمثال الشيوخ: وجدي غنيم، ومحمد حسان، ومحمد حسين يعقوب...
تدين النخب الأرستقراطية(31/282)
وفي ضوء ذلك تتعامل الدراسة مع عمرو خالد باعتباره تجسيدا لخطاب إسلامي جديد لا ينفصل عن الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها ويعبر عن تطلعاتها، فعمرو لا ينفصل عن طبقته الأرستقراطية في خطابه الإسلامي في حكم كون أبيه طبيبا كبيرا في رئاسة الجمهورية وأمه حفيدة إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس وزراء مصر الأسبق (قبيل الثورة المصرية 1952)، وخطابه بالأساس رافض لانحلال الطبقة البرجوازية التي ينحدر منها، ولكنه أيضا متصالح مع هذه الطبقة، ويستجيب لرغباتها في تدين بمواصفات خاصة بها وبالشباب منها بصفة خاصة باعتباره الحلقة الأضعف من هذه الطبقة وهو تدين جديد؛ الدنيا حاضرة فيه بقوة وليست على صِدام مع الدين، كما لا يتعرض فيه البناء الاجتماعي للطبقة والعلاقات الأسرية إلى خلخلة أو تفسخ أو صدام بين أطرافه كما يحدث في التدين السلفي الذي تقدمه جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي.
ففي ظاهرة عمرو خالد يمكن للشاب البرجوازي أن يلتزم دينيا دون أن يعيد النظر في وضعه الاجتماعي أو في علاقاته الاجتماعية، ودون أن تضطرب أوضاعه الأسرية.
لقاء الليبرالية بالإسلام
وتنظر الدراسة إلى عمرو خالد ونظرائه ممن أطلق عليهم الشيوخ الجدد أمثال الحبيب الجفري وخالد الجندي.. إلخ باعتبارهم ظاهرة إسلامية جديدة هي نتاج لتفاعلات بين الخطاب الإسلامي والخطاب الليبرالي الجديد، وتقارن بين خطاب عمرو خالد من خلال تحليل مضمون درسه (الشباب والصيف) وبين خطاب الإصلاح البروتستانتي في أوائل القرن التاسع عشر لتتحدث عن أوجه تشابه كبيرة بينهما خاصة فيما يتعلق بالنظرة إلى الثروة الاقتصادية، فخطاب عمرو خالد يتحدث عنها باعتبارها ليست عيبا أو ذنبا بل هي نعمة من الله، ويؤكد على ذلك في كل دروسه مبررا التراكم الاقتصادي الذي حققته الطبقة البرجوازية في السنوات الأخيرة ويعطيه الشرعية الدينية مشروطة بأداء حقه وهو خطاب موجه بالأساس إلى الطبقة المهيمنة أو الصاعدة اقتصاديا حتى في رؤيته للأخلاق والقيم الإسلامية، فالصبر مثلا في خطاب عمرو خالد يختلف عن الصبر في الخطاب الإسلامي التقليدي الذي يأخذ طابعا (قدريا) في حين يعني عند عمرو التواصل والاستمرار في العمل وتنظيم الوقت والمثابرة على النجاح... إلخ.
وتنظر الدراسة بناء على ذلك إلى ظاهرة عمرو خالد والشيوخ الجدد باعتبارها مرتبطة أيضا بمنطق السوق والقطاع الخاص إلى حد كبير، فدروس عمرو وزملائه تتم في نوادي النخبة والفنادق الفخمة وبعضها في مدينة دريم لاند التي تمثل صورة مصغرة لمجتمع النخبة الرأسمالية والتي يستدعي ذكرها اسم (ديزني لاند) أحد أشهر رموز الرأسمالية الغربية.
ومحاضرات عمرو وزملائه ودروسهم الدينية بضاعة تلفزيونية رائجة للقنوات الاستثمارية الخاصة مثل (دريم) و(إل بي سي)، وصار هناك سوق اقتصادية كاملة وضخمة أنشئت وارتبطت بهذه الظاهرة الجديدة المستوعبة كاملا داخل العولمة على ما يراه باتريك هاني.
التصالح الديني والطبقي
ما اقترب منه الباحث ولم يقله أن المهم في ظاهرة الشيوخ الجدد هي الحالة التي يصنعونها وليس أشخاصهم ولا مضمون كلامهم. الحالة هنا هي الجو المحيط والوسيط الذي ينتقل عبره الكلام والجمهور الحاضر وهكذا.. فهذه الحالة تؤدي إلى تصالح شعوري بين الواقع المعيش وبين الدين الذي يمثل المرجعية الأساسية للشخص الحاضر المنتمي للبرجوازية الجديدة. ويصير السلوك الشخصي المعيش حياتيا المرفوض دينيا (مثل الاختلاط مع الفتيات غير المحجبات أو المحجبات والتعرف عليهن) سلوكا دينيا مطلوبا (فالشاب صار يدعو الفتاة للدين).
وفي نفس الآن فإن الحالة التي يقدمها الشيخ المحاضر تجذب أيضا الشباب من الطبقات الفقيرة؛ لأنها تمثل لهم فرصة الانتماء للطبقات الصاعدة والغنية، أي فرصة للحراك الاجتماعي على المستوى التخيلي على الأقل. فمجرد الجلوس مع أفراد الشباب من الطبقات الغنية والاستماع للشيخ يعني الانتماء لنفس الجماعة؛ ومن ثم يخلق أيضا حالة التصالح الشعوري لديهم على المستوى الطبقي.
في موجة الإيمان الجديدة(31/283)
وتضع الدراسة ظاهرة عمرو خالد في سياق عالمي تأثر بهيمنة خطاب الليبرالية الجديدة عالميا وعلى كافة الأديان، فيرى أنها تقترب كثيرا من جماعات الإيمان الجديدة المسيحية التي انتشرت مؤخرا في الغرب في رفضها للمؤسسات الدينية التقليدية واستقلالها عنها، وفي طابعها الفردي المستقل البعيد عن الجماعية، وفي تركيزها أيضا على المشاعر والعواطف، فظاهرة عمرو خالد نشأت واستمرت بعيدا عن المؤسسات الدينية التقليدية، سواء أكانت رسمية (كالأزهر والأوقاف) أو غير رسمية كالمؤسسات الأهلية والتنظيمات الإسلامية الرئيسية (كالجمعية الشرعية، وأنصار السنة، والإخوان المسلمين...) فقد بدأ عمرو دروسه في أندية النخبة، ثم انتقل إلى بيوت الأغنياء ثم مساجدهم حتى تلقفته القنوات الفضائية الخاصة دون أن يرتبط بالمؤسسات أو التنظيمات السائدة والتقليدية، وكان في معظم الأحيان يعمل مستقلا أو بمساندة تيار التوبة الذي يمثله الفنانات المعتزلات وهو تيار منفصل أيضا عن التنظيمات والمؤسسات الدينية.
وجمهور عمرو خالد كان في مجمله من غير المؤطرين تنظيميا أو سياسيا، ويتشكل من مجموعات صغيرة أقرب إلى مفهوم الشلة (الذي تنتظم وفقه العلاقات بين أبناء النخبة) منه إلى مفهوم الجماعة والتنظيم؛ فحضور دروس عمرو كان دائما ما يتم عن طريق مجموعة الأصدقاء أو (الشلة) وهو جزء من تفاعلات العلاقة بين أعضاء هذه المجموعة التي مثلما تذهب لحضور دروس عمرو تذهب أيضا إلى المصيف والنادي والسينما وأداء العمرة في الأراضي المقدسة، وهذه الصيغة في العلاقة تعكس حاجة أبناء هذه المجموعات الصغيرة إلى التفاعل خارج مفهوم الجماعة بصورتها التي كانت تطرحها الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسيسة والتي قد تصل أحيانا إلى إلغاء الفرد ضمن صيغ جماعية أكثر تجريدا مثل (الأمة) وهو ما يظهر بوضوح في خطاب أسامة بن لادن وتنظيمه القاعدة.
أما الملمح الثالث للتشابه بين ظاهرة عمرو خالد وجماعات الإيمان الجديدة فهو التركيز على المشاعر والعواطف. فليس المهم عند عمرو تنفيذ وأداء الواجب الديني بل الأهم منه الإحساس به وهو ما يخالف الخطاب السلفي التقليدي الذي يركز على الشكل أولا، فعمرو خالد يركز على العواطف والأحاسيس ويقيم علاقة متداخلة بينه وبين جمهوره بحيث لا تسير الدروس في اتجاه واحد بل على أساس تفاعل وتبادل وتداخل فيأخذ رأيهم ويستبين مشاعرهم وأحاسيسهم، ويتجنب دائما إصدار أي حكم مباشر على أفراد جمهوره الذين كثيرا ما يخالفون المبادئ الإسلامية (مثل حضور الفتيات للصلاة والدرس بملابس غير ساترة وبدون حجاب)، ويتعامل بإحساس الأخ الأكبر الذي يغلب روح الحب، ويرفض سياسة التخويف التي لا تتلاءم بدورها مع النفسية البرجوازية، وربما مع نفسية العصر أيضا.
وترصد الدراسة أن عمرو خالد يختلف مع كل ما هو تقليدي من الظاهرة الإسلامية، وأنه يجسد بشكله وهيئته وعمره وتعليمه وطبقته الاجتماعية خروجا على الصورة المستقرة للداعية الإسلامي، غير أن أهم ما اختلف به هو أسلوبه وطريقته التي تشبه -بحسب الدراسة- طريقة الاعتراف حيث يعطي لجمهوره الفرصة لإخراج داخلياته والتعبير عن خصوصياته بما فيها من أشياء لم يكن يسمح المجتمع التقليدي بالبوح بها، إلا أن هذا الاعتراف ليس في الصورة الكنسية المعروفة في الفكر المسيحي إذ إنه لا يصدر أحكاما غير المعترف.
وتؤكد الدراسة أن ظاهرة عمرو خالد والشيوخ الجدد مرشحة للتكرار ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي والإسلامي بفعل التفاعلات المستمرة والمكثفة بين الخطاب الإسلامي وبين قيم وأفكار وتوجهات الليبرالية الجديدة.
=============(31/284)
(31/285)
الطريق إلى الحداثة يبدأ بانتقادها!
2004/03/11
…
جواد الشقوري**
منير شفيق وطه عبد الرحمن في ملتقي الحكمة للمفكرين بالرباط
"المفكر المسلم منير شفيق يذكرنا بالفيلسوف المسلم روجي جارودي".. بهذه العبارة قدم الفيلسوف المؤسس والمجدد طه عبد الرحمن ضيف "منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين" المفكر الأستاذ منير شفيق؛ إذ رأى طه أن هناك عدة أوجه تشابه في مسار الرجلين نحو تبني الإسلام. ولو أن طه أكد أن منير شفيق كان له مدرجه الخاص به في تعامله مع التحولات التي شهدها مساره الفكري. وذكر طه أن الأستاذ منير له أكثر من 40 مؤلفا، زاهدا في مردودها بل ناسيا حتى بعض عناوينها، وكأن غيره هو الذي ألف تلك الكتب.. فمنير شفيق يذكرنا بالأقدمين الذين كانوا يزهدون فيما يكتبون كما يزهدون فيما ينفقون. ويعتبر كتاب "الحج.. تأملات وخواطر" آخر ما كتبه الأستاذ منير.
في بداية مداخلته التي كان عنوانها "الحداثة والعلوم الإنسانية"، والتي أقيمت في كلية العلوم بالرباط (27/2/2004)، أشار الأستاذ منير إلى أنه عندما يقال يجب أن ندخل الحداثة أو أن نصبح حداثيين المقصود أن نتمثل بالأنموذج الغربي في كل المناحي الحياتية.. بهذا المعنى لا تصبح الحداثة فقط فلسفة الأنوار وما يقوله مفكروها، إنما تصبح أيضا النظام نفسه القائم في الغرب ونمط الحياة الاقتصادي والاجتماعي والإنساني..
ومن خلال هذا التحليل فإن الاستعمار -في رأي منير- بكل مراحله والهيمنة الخارجية وما عرفته هذه الحضارة من ألوان العنصرية؛ ابتداء من إبادة الهنود الحمر في الولايات المتحدة، والتمييز العنصري الذي مورس ضد السود وضد شعوب كثيرة يجب إدراجه في الحداثة، ويؤكد شفيق أن الحداثة يجب أن تقرأ من كل جوانبها وألا تجزأ؛ وهذا في تصوره مدخل رئيسي لفهم الحداثة.
بين حداثتين
ما سبق ذكره هو الذي قاد منير شفيق إلى تقسيم الحداثة إلى حداثة مهيمنة ومسيطرة وحداثة تابعة ومقلدة؛ والسبب الذي يبرر هذا النوع من التقسيم هو أن الغرب بطبيعة نظامه غير قابل للتعميم؛ إذ تعميم الرأسمالية وإنتاجها يؤدي إلى دمار هذا العالم.. فالعالم لا يحتمل هذا النمط من الحداثة إذا أدرجنا فيه نمط الاستهلاك والإنتاج الرأسمالي ونمط الحياة العامة الموجودة في الغرب.
وعن الذين يعتبرون أن الديمقراطية أو حرية الرأي أو حرية الفرد يمكن تعميمها، يقول لهم منير: إنها لا يمكن أن تنتزع من إطارها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي القائم في الغرب، وبالتالي النماذج التي تخرج منها هي بالضرورة نماذج تابعة.
من هذا المنطلق كان من الضروري أن نأخذ موقفا نقديا بداية من هذا النظام الرأسمالي العالمي الذي قسم العالم إلى هاتين الحداثتين.. وهذا ينطبق على المؤسسة الاقتصادية وعلى الدولة في العالم الثالث، وعلى الجامعة، وعلى السوق، وعلى أنماط الحياة.. ولفت منير شفيق الأنظار إلى أن الصراع العالمي الذي تمثله الحداثة ليس فقط مع العالم الإسلامي، ولكن مع العالم كله، وبالتالي يجب أن نرى أن جوهر مشكلتنا موجود في العالم.
وفي هذا الصدد تطرق منير إلى الحديث عن الحداثة الاشتراكية التي تعتبر من بين الاتجاهات النقدية للحداثة الغربية، والتي حاولت أن تنقد الحداثة الرأسمالية. وتوقع المحاضر -مع نمو مناهضة العولمة في داخل الغرب- أن تبقى هنالك تيارات داخل الغرب تكافح ضد الحداثة في محاولة لنقدها. بمعنى أن هناك أيضا إشكالات من داخل الحداثة نفسها في الغرب وصراعات حقيقية، خصوصا أن هذه الحداثة سائرة ليس فقط إلى إلحاق دمار كبير بحياة شعوب كما حدث حتى الآن، وإنما سائرة بفلسفتها إلى تدمير البيئة. وهذا ما سيضاعف القوى والأوساط التي ستلعب دورا معارضا ومناقضا للحداثة..
بل حتى ما يسمى "ما بعد الحداثة" والحديث عن غياب المعنى و"اللامعنى" مؤشر على أن فلسفة الأنوار آيلة إلى الانهيار.. وبالتالي -كما يقول منير- لا بد أن تنشأ من داخل الغرب نفسه تيارات تجدد مرة أخرى نفسها لمواجهتها. ويرى أن التيار الماركسي/الاشتراكي يحاول أن يجدد نفسه مرة أخرى منذ ثلاث أو أربع سنوات؛ ليعود إلى الساحة من جديد. ويعتقد منير بأن هذا التيار سيكون واعدا أفضل من التيار الذي سبقه.
الطريق إلى الحداثة
والطريق -والكلام لشفيق- كي ندخل في نمط من أنماط الحداثة المناقضة لهذه الحداثة هو شن نضال عالمي ضد العولمة والنمط الحداثي الذي تريد أن تفرضه.
ولم يفت شفيق أن يشير إلى أن الحداثة الجديدة فيها رائحة صهيونية واضحة، يتجلى هذا في اتجاهات السياسة الأمريكية التي تتزعم هذه الحداثة العالمية بكل أوجهها في هذه المرحلة.. وأشار منير إلى أنه الآن أصبحت هناك محرمات في هذه الحداثة التي تفتخر بحرية التفكير والديمقراطية وحرية الرأي؛ إذ أصبح من الممنوع علينا أن نتحدث عن السياسات الإسرائيلية بذريعة "محاربة السامية"! إن هذه الحداثة -في تصور منير- تدخل طورا خطيرا ينسف كثيرا من القيم الحداثية التي بشر بها الكثيرون؛ فالديمقراطية في الغرب/أمريكا دخلت مأزقا، على الأقل منذ ثلاث سنوات.(31/286)
وأشار منير إلى أنه ينبغي أن ننظر إلى الأكاديمية الغربية والعلوم الإنسانية والجامعة كجزء من هذه المنظومة بمقاييسها المسيطرة التي أشير إليها.. وذكر منير أن إدوارد سعيد في "الاستشراق" قام بنقد حداثي للأكاديمية الغربية في مجال من مجالات العلوم الإنسانية وهو مجال الاستشراق.. إلى حد أظهر أن كل هذه الهيبة وتلك السيطرة الثقافية لمدرسة الاستشراق أصبحت ضعيفة غير قادرة على الدفاع عن نفسها، وأنها قامت على أسس واهية من الناحية المعرفية ومن الناحية العلمية.. حتى إن البعض ذهب إلى القول بأن مدرسة الاستشراق التي تحدث عنها إدوارد لم تعد موجودة، وبدلا منها هناك ما يسمى بالدراسات الإسلامية في الغرب.
وفي تصور منير شفيق فإن نفس الشيء يجب أن يمارَس على مستوى كل العلوم الإنسانية وكل ما بين أيدينا في الأكاديمية الغربية يجب أن تنزع عنه هالته.. وأن يتجرأ العلماء الشرفاء على نقد هذه الحداثة بما فيها فلسفة الأنوار نقدا صارما وعلميا، وعلى أسس دقيقة بديلة؛ لتكون عندنا مناهج ومدارس جديدة في علم الاجتماع، وفي علم النفس، وفي اللسانيات، وفي القانون، وفي الفلسفة، تكون بديلا لهذا النقد؛ نفس هذه العملية -يقول منير- حاول ماركس أن يمارسها في كتابه "رأس المال" عندما قام بنقد النظام الرأسمالي.. وهذا الكتاب يشكل -في نظر منير- نموذجا لنمط النقد الذي يعنيه للحداثة الرأسمالية الليبرالية أو الحداثة المهيمنة.
قراءة جديدة
ومن بين الأمثلة التي ذكرها منير في هذا الصدد: البنك في العالم الغربي؛ إذ رأى أنه يجب ألا ينقد فقط من زاويته الربوية وإنما أيضا من داخله، وأن تدرس آلياته، وأن يرى أخطبوطا يمسك بكل شرايين المجتمع ويمسك بالأفراد وبحياتهم ويقرر إلى حد بعيد أنماط حياتهم وأنماط الاقتصاد؛ حيث إن المشكلة في مبدأ البنك المسيطر والأخطبوط العالمي.. ووجه منير الدعوة إلى الأساتذة والطلبة ومعدي الدكتوراة كي يصرفوا سنوات طويلة من حياتهم، ويكدوا كدا حقيقيا في البحث والتنقيب حتى يخرجوا بنقد علمي دقيق صارم لهذه المؤسسة..
نفس الشيء يجب أن يطبق على علم الاجتماع، وذكر الأستاذ منير أن بعض كبار علماء الاجتماع يتحدثون عن النظام الأبوي في المجتمع العربي، ويصفونه بالنظام البترياركي، وأن معظم كليات علم الاجتماع راحت تتكلم عنه، دون أن تقوم بدراسة دقيقة لمكونات العائلة، بكل جوانبها وبكل مركباتها وتعقيداتها؛ لتقدم لنا نمط العائلة على ضوء دراسة واقعية موضوعية، وليس بنقل مسلّمة تعتبر علمية وتلبس إلينا تلبيسا.. وعندما تأتي لتطبقه على عائلاتنا تجد أن العائلة العربية المسلمة لا ينطبق عليها هذا الوصف ومحدداته!!
فعلوم الاجتماع والعلوم الإنسانية الغربية بما في ذلك الفلسفة الغربية -والكلام لمنير- ليست بالقوة والهالة، حتى من الزاوية العلمية المعرفية التي تتمتع بها، ولولا السيطرة العسكرية والاقتصادية والسياسية والمالية العالمية لما صمدت.
وعمليا لا بد -كما يقول شفيق- أن نشجع علماء من بيننا عندهم استعداد أن يقضوا عمرهم من أجل أن يخرجوا بدراسة بديلة لعلم الاجتماع وعلم اللسانيات وعلم الاقتصاد وعلم القانون... ويصبح لها السيطرة العلمية المطلوبة. وهذا الأمر يحتاج إلى نوع من الشجاعة والتخلص من هذه الهيبة المهيمنة على العقول، وأن يكون محصلة جهود سنين وتعاون بين عدة أشخاص.. وأن نهتم بترجمة الأعمال العلمية إلى الإنجليزية مثلا أو الفرنسية؛ فإدوارد معتبر في الأكاديمية الأمريكية؛ لأنه نشر بالإنجليزية.
ويضيف شفيق أنه لو كتب نفس الكتاب أستاذ في عالمنا العربي باللغة العربية لما اهتم به، وما كانت له نفس الهيبة؛ فلا مناص -في تصور منير- من تشجيع الأساتذة والطلبة على خوض غمار هذه التجارب العلمية والدخول إلى عالم الإبداع وليس فقط التقليد؛ إذ طريقنا للدخول في الحداثة يتم من خلال نقدها..
ويؤكد منير على هذه الفكرة قائلا: الذي يريد أن يدخل في الحداثة لا يمكن أن يدخلها مسيطرا عليه مقلدا ضائعا، وإنما يجب أن يدخلها ندا ناقدا مقدما جهدا حقيقيا، وهذا الجهد حتى يكون له تأثيره يجب أن يتمتع بدرجة من القوة والسطوة العلمية، وهذا يتطلب المشاركة والدعم والتكامل.
ولم يفت منير أن يشير إلى ضرورة استعمال الوقف في ترجمة ونشر أعمال علمية ذات قيمة فعلية تقرأ وتقدم على مستوى لغات أخرى، وإلى لغات لمخاطبة شعوب العالم الثالث؛ لأن مثقفيها يدخلون إلى الثقافة من خلال هذه اللغات. وإذا كنا نتحدث عن إبداع معرفي فلا بد أن نهيئ له أسبابا اجتماعية من المجتمع تكون مستقلة.
حضارة اللامعنى(31/287)
ومن بين ما يحفزنا على الإسراع في إنجاز ما سبق وجود أرضية ناضجة على المستوى العالمي؛ إذ هناك حراك في أمريكا اللاتينية وفي الغرب.. ومناقشة لما يجري في هذه الحضارة التي ستوصلنا إلى اعتبار أن أهم قيمة هي "اللامعنى"؛ وحتى العلوم والتقنيات التي تجري في هذه الحداثة -كما يذكر الأستاذ منير في تحليله- تسير بلا هدف وبلا غاية محددة؛ فالذي لعب دور العمود الفقري في التطور العلمي والتقني والصناعي في الغرب كان المؤسسة العسكرية وبرعاية البنتاجون..
ومن الأمثلة التي ذكرها منير الهاتفُ الجوال الذي كان موجودا عند الجيش قبل عشرين سنة، وظروف الحرب الباردة كانت تمنع خروجه.. وأيضا بالنسبة للكمبيوتر والإنترنت.. كل هذه التقنيات ذات الاتصالات العجيبة، يقول منير: لا تنزل إلى عالم الاستهلاك والإنتاج المدني إلا بعد أن تكون قد تقادمت 10 سنوات لبديل آخر موجود!! وفي هذا الإطار يتساءل الأستاذ منير: كيف يستقيم أنه حتى في مجال التطور التقني والعلمي وتطور الأدوية ألا يكون هدفها الإنسان والغالبية الساحقة من شعوب العالم، وألا يكون هدفها الحفاظ على الطبيعة ومستقبل أولادنا؟!
لا يجوز أن يبقى فقط الهدف هو السيطرة والقوة العسكرية، والوصول إلى الصاروخ والطائرة والقنبلة الذرية والقنابل الجرثومية... هل يجب أن يكون الهدف السرعة الهائلة لاكتساح الآخر، وألا نضع لاتجاه تطور العلوم والتقنيات أهدافا أخرى أكثر إنسانية.
ولم يفت الأستاذ منير شفيق أن يرد في المناقشة على الذي يعتقدون بأن الغرب حقق التقدم بفضل تخليه عن الدين وانخراطه في التقدم العلمي.. وبين الأستاذ أن العلمانية الفرنسية ربما حاولت أن تقيم سدا منيعا بين الدين والحداثة أو التقدم، ولكن في الثقافة الأنجلوساكسونية لا نلاحظ مثل هذا التصور للدين، ولا أحد يقول عن بوش وتياره الراجع بصورة مشوهة للتوراة أنه خارج عن الحداثة!!
الانفصال عن الواقع
ويعتقد منير أن النقاش الفكري ومناقشة القضايا من الزاوية الفلسفية والمفاهيمية والفكرية يبتعد كثيرا عن مناقشة واقع العالم المعطى، وكأننا خارج المعارك الحقيقية الدائرة، سواء على المستوى الدولي بين الدول الكبرى في داخل ما يسمى بالحضارة الغربية أو على المستوى العالمي..
وعن الذين يقولون إن الغرب تقدم بسبب العقل العلمي والتخلص من الأساطير والتحرر من الماضي، وفصل الدين عن الدولة.. رأى منير أن هذا لم يكن السبب الرئيسي وراء تقدم الغرب.. ويقول منير شفيق بأنه ليس من المدرسة التي لا تقرأ المفاهيم والأفكار عبر التاريخ وعبر الوقائع والإستراتيجيات الدولية. فالذي حرك الفكر الذهني عند الغرب، وجعله يتخلص سواء من الحكم المطلق أو من نفوذ الكنيسة كان انفتاح الآفاق على الغرب للتوسع، وحاجة الأسطول لفتح العالم من جديد. ويدعونا منير إلى ملاحظة أن كل ما حدث من نهضة وتطورات فكرية تم بعد "اكتشاف أمريكا"، وبعد "اكتشاف رأس الرجاء الصالح"، وبعد تدفق الثروات الضخمة على أوربا في ذلك الوقت!
والذين يقولون: كيف يمكن أن يكتشفوا كل ذلك إذا لم يكن عندهم تطور علمي؟! يقول لهم شفيق: هذا التطور العلمي الذي قاد كولومبوس كان معتمدا على تطور العلوم البحرية عند العرب والمسلمين، حتى إن ماجلان لما كان في اكتشافاته كان هناك بحارة لعبوا دورا أساسيا في قيادة السفن في ذلك الوقت... وعندما بدأت الثروات تتراكم، وبدأ الأسطول يلعب دورا أساسيا في التوسع وفي مراكمة هذه الثروة أصبحت هناك ضرورات لتطوير العلم والوضع الاقتصادي والوضع السياسي. ولم يكتفِ منير بتقرير هذه المسألة، بل ذكر أن الديمقراطية هي نتاج هذه العملية التاريخية.
إن الذين يقولون: إن الغرب تقدم لأنه فصل بين الدين والدولة، هم يريدون فقط -يقول منير- أن يبعدوا موضوع الإسلام، والرؤية الإسلامية لموضوع الدولة.. ويضيف: إذا جاءت دول وفصلت بين الدين والدولة فلا تظنوا أنها ستتقدم، ولا أنها ستخترع الذرة، وستكون لها أساطيل، وسوف تستطيع أن تتحدى!
وبيّن الأستاذ أنه في كثير من بلدان العالم الثالث فصلت عمليا بين الدين والدولة، ولم تتقدم بالمعنى العلمي والقوة العسكرية كما حدث في الغرب!!
=============(31/288)
(31/289)
الليبراليون في عصر النبوة
عبد الملك عبد الله آل ملفي
لعل مما أُبتلي به المسلمون اليوم هو حرب المصطلحات , وهذه الحرب ليست بالبساطة التي يتوقعها البعض , ولتوضيح هذه المسألة فإن فكرة هذه الحرب تعتمد على استبدال مصطلحات شرعية بأخرى ذات دلالات مغايرة بهدف التلبيس على الناس وتهوين شأن المعصية في نفوسهم , أو للهروب من الصفات المترتبة على انطباق بعض المصطلحات الشرعية في حق من يقترف ما يقتضي ذلك, ومن أمثلة ذلك ما توصف به فاحشة الزنا في بعض البلدان بأنها (تجارب عاطفية) , أو ما توصف به الخمر من أنها ( مشروبات روحية ) ,وقد ورد في بعض الأحاديث ما يفيد بوقوع مثل هذا الأمر في آخر الزمان كما في الحديث الذي رواه أبو أمامة الباهلي عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال :) لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) (1)
ومن المصطلحات الحادثة على مجتمعاتنا الإسلامية اليوم ما يعرف بمصطلح الليبرالية (LIBE r ALISM) , وهو في الأصل مصطلحا غربي المنشأ ، ويعرَّف بأنه : مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي" (2).
ولها تعريفات مرتكزها الاستقلالية؛ ومعناها: التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي؛ ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاقة والانفلات نحو الحريات بكل صورها .
و بالرغم من أن هذه الفلسفة تنادي بتقديس حرية الفرد حتى ولو على حساب الدين أو العرف بل حتى الفطرة!مما يعني تعارضاً صريحاً مع شريعة الإسلام, إلا أنك تجد وللأسف في بعض بلاد المسلمين اليوم من يُصرِّح بكونه ( ليبرالياً ) أو نحو ذلك, ويحاولون تجاوز حقيقة المصطلح المصادم للشرع , وذلك عن طريق كثرة التغني بمفاهيم الحرية والمساواة و العدل وحقوق الإنسان , حتى يظن من يجهل حقيقة الدين أن هذه المفاهيم إنما هي وليدة هذه الفلسفة وأنها ليست موجودة في الإسلام , بل أن البعض ممن يتسمون بهذا اللقب يعتقدون أن مجرد التسمي به سوف يجعل الناس يقبلون كل ما يمارسه أو يدعو إليه, مستغلين ذلك البريق الزائف لهذا المصطلح .
و يأتي هذا المقال المتواضع إسهاما في تعرية هذا الزيف , و ذلك عن طريق محاولة وزن تلك الممارسات و الدعوات التي يمارسها هؤلاء ( الليبراليين ) بالميزان الشرعي , وكذلك بمحاولة إحلال المصطلح الشرعي بديلاً لمثل هذه المصطلحات الخادعة .
ولكن يبقى السؤال ما هو البديل الشرعي الأمثل لهذا المصطلح ؟
وللإجابة على هذا التساؤل فإني أعتقد أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى أبرز صفات و ممارسات ودعوات من يطلقون على أنفسهم هذا المصطلح , ثم ننظر هل وُجِد في عهد صلى الله عليه وسلم من يشابههم في شيء من ذلك, ثم ننظر إلى المصطلح الذي استخدمه صلى الله عليه وسلم للدلالة عليهم فنستخدمه ,
وبناءً على ذلك فإني سوف استعرض أبرز ممارسات ودعوات من يسمون أنفسهم ب( الليبراليين ) , وسأحاول قدر المستطاع أن أكون دقيقاً في ما أنسبه إليهم مستشهداً على ذلك بجملة من مقالاتهم أو مواقفهم المعروفة و المشهورة , ثم أقارن بينها وبين ما وقع في عهد النبي صلى الله مما يشابهها, ومن ثَم سيتبين لنا جميعاً المصطلح الشرعي المناسب للحكم على هذه الممارسات والدعوات وأصحابها , فمن ذلك :
(1) دعوة الشعوب المسلمة إلى إلغاء الجهاد وعدم تدريس أحكامه بما فيها الشعوب المحتلة .
من أبرز دعوات الليبراليين في هذا الزمن دعوة الشعوب الإسلامية المحتلة إلى "التخلي عن خيار المقاومة نهائياً و الخروج من دوامة الحروب والقضية الفلسطينية , والجنوح الى السلام وقبول الأمر الواقع وإغلاق كل ملفات القتال" و القبول بالسلام بدون شروط , بل بما يراه العدو مناسباً بحجة "أن المهزوم يقبل ولا يفرض" (3) ,بل و ويوجهون أشد أنواع النقد لكل عمل من أعمال المقاومة والجهاد تقوم به تلك الشعوب (4) , و كذلك يدعون إلى إلغاء تدريس أحكام الجهاد بزعم أنه هو ( الأساس الذي يستغله المفجرون والمخربون ليجندوا أبناءنا الآن فيما يسمونه "جهادا (".(5), وبقليل من النظر و التأمل فإننا نستطيع القول بأن هذه الدعوة قد وُجدت في عهد صلى الله عليه وسلم , فقد كان هنالك طائفة يقفون ضد مبدأ الجهاد ويرون أنه عمل لا مبرر له ويمتنعون عن المشاركة فيه, حتى ولو كان ذلك تحت راية أعظم إمام في التاريخ وهو رسول ا صلى الله عليه وسلم , فقد ورد في قصة غزوة أحد أن عبد الله بن أبي انسحب بنحو ثلث العسكر ـ ثلاثمائة مقاتل ـ قائلاً : ما ندري علام نقتل أنفسنا ؟!!! (6)
(2) النيل من رموز الأمة وعلمائها و التطاول عليهم بالسخرية والتنقص و التهم الكاذبة.(31/290)
وهذا الأسلوب من أكثر ما يمارسه الليبراليون, وقصدهم بذلك تشويه صورة العلماء و الدعاة لدى العامة , ومما يؤسف له أن هذا الأسلوب اخذ في التنامي في الفترة الأخيرة في ظل السكوت المطبق عنهم, حتى وصل الأمر ببعضهم أن يصف أحد أعضاء هيئة كبار العلماء في المملكة, بأنه ( يعد نفسه من العلماء، ومحسوب على هيئة كبار العلماء في المملكة ) و أنه ( يميّع أصل المسألة ) ويختتم مقالته بقوله (ونطالبك أنت يا شيخ ..... بالاعتذار عما بدر منك في حقنا جميعاً ) (7).
وهذا الأسلوب أيضاً ليس جديداً فقد مارسه أشباههم على عهد صلى الله عليه وسلم أيضاً ، ونكتفي بذكر مثالا واحداً و إلا فالشواهد عديدة في هذا الباب , فمن ما رواه محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل وهو يصف صلى الله عليه وسلم والصحابة : " ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً وأكذبنا ألسنة, وأجبننا عند اللقاء" فرفع ذلك إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال: {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ـ إلى قوله ـ كانوا مجرمين} وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة رسول ا صلى الله عليه وسلم . (8)
(3) ممارسة أساليب التزلف للقادة وتصنع الغيرة على الوطن.
ومن أمثلة ذلك المزايدات المكشوفة حيال بعض الموضوعات كـ(الوطنية) و إعطاء تصوراً أنها أي (الوطنية) حكراً على أصحاب الفكر الليبرالي، وأنهم أحرص الناس على مصالح هذا الوطن ، ومحاولة اتهام كل من خالفهم بعدم حب الوطن ,كما قال أحدهم معدداً مآثر القوم (وتحدثوا عن الوطن والوطنية، وعَلَم البلاد وهيبتها؛ يوم كان بعضهم يحرم ذلك ) (9)
وهذا الأسلوب قد مارسه أشباههم على عهد صلى الله عليه وسلم أيضاً, فقد كان عبد الله بن سلول يقوم بين يدي رسول ا صلى الله عليه وسلم كل جمعة حين يجلس رسول ا صلى الله عليه وسلم للخطبة، فيقول" هذا رسول ا صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله و أعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا" ثم يجلس، فيقوم رسول ا صلى الله عليه وسلم فيخطب، وكان من أمره أن فعل ذلك في الجمعة التي أعقبت معركة أحد فقام ليقول ما كان يقوله من قبل، فأجلسه المسلمون بثيابه وقالوا : اجلس يا عدو الله فلست لذلك بأهل وقد فعلت ما فعلت . (10)
(4) الدعوة إلى الفساد تحت مسمى الإصلاح .
يرى الليبراليون اليوم في كثيرٍ مما لديهم من دعواتٍ إفسادية إصلاحاً , ويصفون من يخالفهم بالتشدد والتكفير , حتى قال قائلهم وهو يصف العلماء و الدعاة الذين عارضوا ما وقعت فيه بعض الوزارات من خطأ بقوله : ( حتى أوصلهم ما وصلوا إليه من تشدد وتكفير، وجرأة وصلت إلى التكتل الهائل ضد قرارات الدولة وخططها التطويرية والإصلاحية، وما الموقف المتشنج من قرار وزارة العمل بتشغيل النساء في محلات الأدوات النسائية عنا ببعيد) (11) وكذلك فهم يعتقدون بأن الإصلاح لا يتم إلا إذا تخلت الأمة عن ماضيها وانسلخت عن دينها و ( أدارت ظهرها بالكامل نحو المستقبل ) (12) ,
و قد وُجد في عهد صلى الله عليه وسلم فئةٌ يرون في ما يمارسون ويدعون إليه إصلاحاً ,{و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} (البقرة 11) ولكن لما كان ما يزعمونه إصلاحاً هو في الحقيقة عين الإفساد , فقد رد الله عليهم بقوله {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} ( البقرة 12 )
(5) استغلال الأخطاء التي يقع فيها بعض المنتسبين للدين لتشويه صورة جميع المتدينين جميعاً, واتهامهم بأنهم يستغلون الدين لأهداف أخرى.(31/291)
فكما لا يخفى,فإن الليبراليون قد استغلوا ما وقع من أحداث إجرامية ,ارتكبها فريقٌ من الجهلة الغالين وشرذمة من الضالين , للنيل من الدعوة و الدعاة و المتدينين جميعاً ووصفهم بأنهم ( تيار "الإسلام السياسي", وأن " هذا التيار بدأ تكوين نفسه بعد أحداث "الحرم المكي" مباشرة قبل أكثر من ربع قرن، عندما التقى الفكر التنظيمي للإخوان المسلمين مع التراث الفقهي المتشدد للمدرسة السلفية التقليدية السعودية " و أنه " لا يريد الإعلان عن نفسه تحت صفة سياسية فبحث عن دثار يغطيه فوجد تياراً انطلق بقوة الإعصار وانتشر انتشار النار في الهشيم، فمجتمع المملكة شعب مسلم بالفطرة، والدولة قامت أصلاً على الشريعة الإسلامية، فاستغلَّ التيار هاتين الحقيقتين واستثمرهما استثمارا منقطع النظير، حيث تغلغل تغلغلا هائلا في المدارس والجامعات والمساجد والأسواق والمناهج المدرسية والجامعية ومختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها، واستخدم كل الوسائل المتاحة، وسائل الإعلام كلها، النشرات والمطويات، الأشرطة، المخيمات، المراكز.. إلخ"،" وأن " التيار السياسي ودعاته لم يدعوا شيئا إلا وأسلموه وحشروا الدين فيه حشرا أو حشروه في الدين ابتداء من المرأة وشؤونها، وانتهاء بشكل الرجل ولباسه وحديثه، " و أن "خطأ في الحسابات قد حدث فانفلت الشباب من عقال التنظير الكثيف، إلى ميدان التطبيق العنيف، ) ( 13 )،,
لكن المتأمل يجد أيضاً بأن هذا الأسلوب قد سلكه البعض على عهد صلى الله عليه وسلم ويشهد لذلك ما رواه البخاري ومسلم(14) , فقد كان رسول الله صلى اله عليه مقيماً على المريسيع، ووردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير يقال جهجاه الغفاري فازدحم هو وسنان بن وبر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار و صرخ جهجاه يا معشر المهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم : (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟! دعوها فإنها منتنة) وبلغ عبد الله بن أبي ذلك فغضب - وعنده رهطٌ من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث - فقال : "أوقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا و والله ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم ... الحديث" .(15) , وهكذا فإنك تستطيع أن توجد العديد من أوجه الشبه بين الموقفين , ومن ذلك :
1. أن الفريقان قد استغلا ما وقع من أخطاء لاتهام خصومهم باستغلال الدين من اجل أهداف أخرى ( كالسيطرة على البلاد أو الوصول إلى السلطة ),ولم يحاولا تحديد سبب الخطأ ومعالجته بما يستحق.
2. أن الفريقان استخدما ( عمداً ) لغة التعميم , فكما أن الليبراليين قد وضعوا الدعوة و العلماء و الدعاة في المدارس والجامعات والمساجد والأسواق والمناهج المدرسية والجامعية ومختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها, في كفة واحدة مع شرذمة من المخربين و المفسدين وعمّوهم بلفظ ( تيار الإسلام السياسي ), فقد وضع عبد الله بن أبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة جميعاً مع من حدث منه الخطأ وعمهم بلفظ ( جلابيب قريش) .
(6) التحالف مع أعداء الإسلام في الداخل و الخارج .
أما داخلياً , فلا يخفى على أحد ما يمارسه أصحاب الفكر الليبرالي من تعاونٍ مع بعض الطوائف و الفرق المناوئة لمنهج أهل السنة و الجماعة وحضورٍ لمنتدياتهم و المشاركة فيها ويحتجون بأن ذلك هدفه تعزيز الوحدة الوطنية (16), ويصورون أن منع هذه الفئات من ممارسة طقوسهم و شعائرهم إنما هو نوع وصاية من طائفة معينة ذات مذهبٍ وفكرٍ معين ,وإقصاءٌ لا مبرر له ,
وقد كان من أشباههم في عهد صلى الله عليه وسلم من يدافع حتى عن اليهود, فقد ورد في قصة غزوة بني قينقاع أنهم وبعد نقضهم العهد مع صلى الله عليه وسلم حاصرهم فنزلوا على حكمه في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا , فعند ذلك قام عبد الله بن أبي بن سلول فألح على رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يصدر عنهم العفو ولم يرى مسوغاً لقتلهم وقال : يا محمد، أحسن في موإلى ـ وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول ا صلى الله عليه وسلم فكرر ابن أبي مقالته فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درعه، فقال له رسول ا صلى الله عليه وسلم : ( أرسلني ) ، وغضب حتى رأوا لوجهه ظُللاً ، ثم قال : ( ويحك، أرسلني ) . ولكنه مضى على إصراره وقال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة ؟ !! (17)(31/292)
وأما خارجياً فإنك لن تجد عناءً كبيراً في إثبات مدى التعاون القائم بين هؤلاء الليبراليين و بين أعداء الأمة من الدول الكافرة, بل كل ما عليك هو الرجوع إلى بعض التقارير التابعة لبعض مراكز البحوث الغربية و التي تنادي بدعم هذه الفئة واستغلال أنشطتها و منابرها لنشر الديمقراطية الغربية .(18) , وهم بذلك إنما يشابهون من نزل فيهم قول الله تعالى : ( وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) التوبة 107
فقد ذُكر أن سبب نزول هذه الاَيات الكريمات, أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول ا صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب, وكان له شرف في الخزرج كبير, فلما قدم رسول ا صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية, شرق بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها, وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد, ورأى أمر الرسو صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور, ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده, وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول ا صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك, فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى تبوك, وجاءوا فسألوا رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته, وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية, فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم, نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة,(19) ,
فكم يوجد اليوم من ( جمعيات و أندية وملتقيات ضرارٍ ) ينشئها الليبراليون ويسعون دائما ً أن تحمل صفة الرسمية وأن يفتتحها بعض المسئولين , , ولو سألتهم عن أهدافها (لَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَىَ ) , بينما هي (ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ )
وبعد هذا العرض الموجز لبعض ما يدعوا إليه ويمارسه من يتسمون ب(الليبراليين) في هذا العصر وما كانت تدعوا إليه وتمارسه تلك الفئة المعروفة بمخالفة المسلمين في عهد صلى الله عليه وسلم , نجد أن الطائفتان قد اتفقتا في مجمل تلك الدعوات والممارسات إلى حد التطابق , مما يؤكد لنا أن دوافع كلا الفريقين واحدة , وعليه فلا ينبغي أن تستوقفنا المصطلحات كثيراً , بل الواجب العودة الى المصطلح الذي وصف الله ورسوله به من يقع في مثل هذه الأعمال ,وتحذير من وقع فيها ( بعلم أو دون علم ) من أن يكون شريكاً لهم في العقوبة , وكذلك ينبغي علينا أن نكون على حذر ممن شابهوا من قال الله فيهم ( هم العدو فاحذرهم ) .
والحمد لله رب العالمين,,,
al-mulfy@hotmail.com
-------------------------------
(1) رواه ابن ماجة برقم (3384) وصححه بن القيم وغيره, ويشهد له أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه فيما ترجم عليه باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسمِّيه بغير اسمه.
(2) الموسوعة الميسرة .
(3) الحل الذي لا غيره / عكاظ العدد : 1863
(4) انظر مثلا مقاله: "لماذا تستنجدون بالعرب قبل أن تسألوهم؟ / الشرق الأوسط 4 تموز 2006.
(5) عذراً يا شيخ صالح / الوطن , العدد :2085
(6) الرحيق المختوم
(7) ما مغزى تهديدات وترويعات (الفوزان)..؟!! الجزيرة العدد: 12386
(8) تفسير بن كثير
(9) ما مغزى تهديدات وترويعات (الفوزان)..؟!! الجزيرة العدد: 12386
(10) ابن هشام 2/15
(11) تبين أن اختلافي معك حول كيان لا حول تحرير مصطلحات / الوطن العدد 2058
(12) الطريق إلى عصر الأنوار /الجزيرة (12354)
(13) تبين أن اختلافي معك حول كيان لا حول تحرير مصطلحات / الوطن العدد 2058
(14) البخاري (1/499) ومسلم (2584)
(15) ابن هشام (3/42-43)
(16) انظر مثلاً تفاصيل ندوة بعنوان :«الوحدة الوطنية... مقومات ومعوقات» على موقع www..okhdood.com
(17) الرحيق المختوم
(18) انظر مثلاً تقرير بعنوان : (الإسلام الديمقراطي المدني : الشركاء و المصادر والاستراتيجيات) لعالمة الاجتماع "شاريل بينا رد" لمركز البحوث الأمريكي المسمى راند ( r and ) .
(19) تفسير بن كثير
===============(31/293)
(31/294)
الحداثة الإسلامية وتجديد الخطاب الديني ذاتيًّا
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
الفكر الإنساني بلا تجديد ركود ناشز، فطبيعة الإنسان وفطرته تدعو إلى التجديد والتطوير، بل تعتبر عملية التجديد نسيج متلاحم للفكر الإنساني على اختلاف الأنساق الفكرية والعقدية، وهو شريان من شرايين البقاء في الحياة على صورة من العيش الكريم، ومعايشة التطور البشري بجميع أشكاله، سواء تلك التي يكون للإنسان دخل فيها، أم تلك التي يكون مجبرًا عليها، مساقًا إليها.
وكل محاولة للتجديد لا بد لها من محركات فكرية وعقدية وثقافية وحضارية، تشكل الأساس الذي تتحرك منه، والقاعدة التي تسير عليها، وتعطي معرفة بأهداف هذا التجديد، والغرض من وراء تلك العملية التجديدية.
ويعتبر المنطلق العقدي من أهم المنطلقات في عملية التجديد؛ إذ يحدد الوجهة المرادة، والطريق المسلوك. ولا بد للمجموعة البشرية التي تنظر إلى هذه العملية أن تراعي منطلقها العقدي.
ولكن هل يعني هذا أن المكون العقدي هو الأوحد في تشكيل عملية التجديد؟ وهل الاطلاع على النماذج والأنساق الأخرى والاستفادة منها تُعَدّ عائقًا عن السير في الطريق الصحيح لهذه العملية؟ وهل من العيب أن ينظر إلى الأنساق المغايرة للمنطلق العقدي أثناء إنشاء عملية التجديد؟ وهل لهذا أثر في تحديد الاتجاه المراد، وما يراد منه في نطاق المجموعة البشرية التي تقوم بهذه العملية التجديدية؟
وهل يتطلب الانفصال الحاد حتى يكون هناك نوع من التمايز والمغايرة والاستقلالية في طبيعة عملية التجديد؟
وهل للمواطنة في أرض غير التي نشأ فيها الإنسان أثر في تشكيل العقل التجديدي، سيرًا وراء التغيرات الاجتماعية والفكرية بحكم المخالطة المتغايرة، والمعايشة المتباينة، مما قد يحيد به عن التمايز الذي يبرزه المنطلق العقدي مع المواطنة التي تولد من وطن النشأة.
وما هو الطريق الأسلم للوصول إلى أسلمة المعرفة بنوع من الجمع بين الأصالة والمعاصرة؟
هذه الإشكاليات طرحها الباحث الجزائري عبد القادر قلاتي في ورقته حول تجديد الخطاب الديني.
بناء التجديد في النمط الغربي
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
لا يمكن أن نحدد شروطًا موضوعية لتتم عملية التجديد في حقل التداول الإسلامي دون توقف هذه المحاولات التي تتم بعيدًا على النصوص المؤسسة لتراثنا الديني. والتي تعمل على الاستنجاد بمفاهيم تشكلت خارج هذا الحقل التداولي. لتصوغ مفاهيم هامشية لا تلمس بنية التراث وإطاره العام، ومن ثَم لا يطال مجهودها سوى ما تشكل في التاريخ من نصوص أفرزتها قراءات تمت حول هذه النصوص المؤسسة (القرآن والسنة). والتي ارتبطت بسياقات تاريخية وحيثيات وليدة تلك اللحظة التاريخية، وإذا كنا نشترط إبعاد هذه المحاولات، فإننا لا نملك اشتراط إزاحة مجهودها الذي قارب القرن ونصف القرن.
وفي محاولتنا لتحديد الشروط الموضوعية التي يجب أن يستوفيها حصول عملية التجديد بعيدًا عن الأنساق المعرفية والأنماط الحدثية التي ترتبط بحقل تداولي آخر. يستوجب ذلك التقدير السليم للحقيقة الدينية التي تختلف اختلافًا بينًا عن المعايير الفلسفية التي تطبع النمط الحداثي الغربي. ذلك أن "مسالك الغرب في التحديث بُنيت أصلاً على أسس عقدية وقواعد مذهبية تعارض الحقيقة الشرعية الإسلامية. وكل من اتبع هذه المسالك الحداثية من غير إتمام التبصر بسياقاتها العقدية وكامل التبين لآثارها ومآلاتها القريبة والبعيدة، لا بد أن يقع في الإضرار بعقيدته الدينية وبعمله الشرعي، ذلك أن هذه المسالك قامت على صنفين من الفصل: أحدهما: فصل العقل عن كل دلالة على الغيب، ومن المعلوم أنه لا عقل في الإسلام إلا ممن أدرك هذه الدلالة الغيبية وعمل بها؛ والثاني، فصل العلم عن الأخلاق" 1، وهنا يكمن الخلاف المعرفي بين النمطين المذكورين. ذلك أن العقل والعلم يمثلان المستند بالنسبة لكلا النمطين، فالحداثة الغربية تستند إلى العقل بعيدًا عن كل دلالة غيبية وعن العمل عندما يتجرد من كل دلالة خلقية.
وهذا ما يدفعنا للبحث عن نمط مخالف يبقي للدلالة الغيبية والخلقية حضورها عند كل محاولة للتجديد لما للدلالتين من ارتباط بهذين الصنفين؛ لذا يجب أن نطلب نمطًا تحديثيًّا مغايرًا، لما كنا قد سلمنا به منذ الإرهاصات الأولى للمشروع التجديدي الذي يزيد عن قرن ونصف إذا اعتبرنا لحظة التجديد بدأت مع الحركة الوهابية، واعتبرنا هذه المحاولة أولى حلقات ما قد نسميه بالتجديد الذاتي الذي تم بعيدًا عن فتنة النمط الحداثي الغربي الذي هيمن على كل المحاولات التي جرت هنا أو هناك في عالمنا العربي والإسلامي.(31/295)
فالمحاولة، وإن كانت بسيطة إلا أنها طرحت مفهوماً ذاتيًّا للتجديد يتلخص في "سيطرة الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة. لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ سقوط خلافة بغداد" 2 دون الاستناد إلى مفاهيم من خارج المنظومة الفكرية الإسلامية. وهنا تكمن فرادة هذه المحاولة التي لم تبدد فاعليتها سوى تحالفات سياسية ألغت كل بعد لفكرتها الأساس. ثم ظهرت محاولات أخرى بدت أنها امتداد لها غير أن طغيان النمط الحداثي الغربي دفع بهذه المحاولات بعيدًا عن (الفكرة الأصيلة في الإسلام) كما يسميها المرحوم مالك بن نبي. فالشروط الموضوعية التي يمكن أن تضمن تحقق محاولة تجديدية جادة ليست واضحة بالقدر الذي يجعلنا نحددها ضمن عناصر معينة، بل إن هذه الشروط حسب تقديرنا للحالة التي يعيشها الفكر الإسلامي المعاصر غير واضحة المعالم في ضوء هذا الجمود والارتهان للحداثة الغربية، ومن ثَم فالفكر الإسلامي يجب أن يتحرك ضمن تفكير جديد انطلاقًا من الموروث الديني، وأن يستثمر الآليات التي صاغت مفهوم العلم والمعرفة في إطار هذا الموروث دون الارتهان للنمط الحداثي الغربي، بل يستفيد من الحركة النقدية التي بدأت تطال الأبستملوجيا الغربية.
في نقد المحاولات التجديدية
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
يمكن أن ندرك بيسر أهم الأخطاء التي وقعت فيها حركة التجديد المعاصرة في محاولاتها التي تمت في حقل التداول الإسلامي، ذلك أن إصرارها على التقريب بين حقلين تداوليين يملك كل منهما خصوصية الاختلاف عن الآخر جعلت أي متابع للخطاب الديني يلحظ هذا الخلط المنهجي في عموم ما أنتج من تنظير فكري خلال عمر هذه التجربة التي اعتبرنا بدايتها ظهورا لحركة الوهابية في الحجاز.
فعملية التقريب التي تمت في إطار هذه المحاولات والتي استقت مفاهيم وآليات نقلتها من حقل تداولي «مغاير للمجال التداولي الإسلامي العربي..» 1.
أظهرت عدم إمكانية الإحاطة بالحداثة الغربية وفهم سياقاتها التاريخية «لأنها مفهوم معقد لا يمكن الإحاطة به» 2 أو التمكن من فهم تجربته دون قراءتها بعيداً عن الانبهار ودون التخلص من آثار لحظة الاصطدام التي طرقت بقسوة العقل العربي والمسلم، وراحت هذه المحاولات تحاكي النمط الحداثي الغربي الذي كان يستبطن نبذ كل ما هو قيمي باعتباره نمطا يستند في تجربته الحداثية على العلم الذي لا يمكن للجانب الأخلاقي أن يتدخل في ممارسته؛ فالحضارة الغربية كما تنعت «حضارة منكفئة على «اللوغوس» في دلالته اليونانية الأصلية أو بإيجاز إنها «حضارة لوغوس...» 3 ومن معاني «اللوغوس» التي برزت معنيان «اشتهرا أكثر من غيرهما، وهما: «العقل» و«القول»؛ فحينئذ، تكون الحضارة الحديثة حضارة ذات وجهين: «حضارة عقل» و«حضارة قول»؛ لكن الوجه الذي شغل الناس عمومًا والمتفلسفة والحداثيين خصوصًا أكثر من الآخر إلى حد الافتتان به، هو كونها «حضارة عقل»؛ وتجلى هذا الافتتان في رفع «الخاصية العقلية» -أو بالاصطلاح المعروف؛ «العقلانية»- إلى أعلى مرتبة من مراتب الإدراك الإنساني كما تجلى في الميل إلى تخصيص أهل الغرب بها» 4 فالمحاولات التجديدية التي حسمت موقفها من الحداثة من أول لحظة بأن اختارت تقريب النموذج الحداثي الغربي مع تراثنا الفكري دون أن تتميز خصوصيات هذا النموذج، ودون أن تبرز خصوصية الدين الإسلامي راحت تخوض في موضوع «العقلانية» بعيداً عن خصوصية الذات، وتستند في كثير من تنظيراتها إلى هذه الخاصية «حتى تواردت عليه ضروب من الشبهة والإشكال، وتطرقت إليها صنوف من الخلل والفساد، هذه الضروب والصنوف التي تحتاج إلى استجلاء أوصافها وبيان أسبابها وتحديد آثارها حتى نحترز من الوقوع فيها ونهتدي إلى طريق في «العقلانية» يكون موافقاً للأخلاق الإسلامية» 5. فإذا حاولنا أن نجمل المحاولات التي استقت معايير العقلانية الغربية (المجردة) نستطيع أن نلاحظ ثلاث حقائق من واقع الاشتغال بهذه العقلانية حصرها طه عبد الرحمن فيما يلي:
1- أن كل من تولى النظر في وسائل النهوض بواقع العالم الإسلامي والعربي لم يتردد في أن يجعل العقلانية على رأس هذه الوسائل، مشيدًا بفضائل وفوائد المناهج العقلية في تحصيل المطلوب من التقدم والتحضر.
2- أن التعلق بالعقلانية تساوي فيه من يتمسك بأخلاق الدين الإسلامي ومن يميل عن هذا الدين مبتغيًا العمل بأخلاق أخرى وكذا من ينزل منزلة بين هذين الطرفين، منتقيًا بعض الأخلاق من الدين الإٍسلامي والبعض الآخر من مذاهب غير إسلامية أو غير دينية، بحجة مسايرة التطور والاستجابة لمقتضى التغيير.
3- أن هذه الدعوة إلى العقلانية التي تشترك فيها الفئات الإسلامية والعربية على تباين اختياراتها العقدية تزايدت في الشدة والانتشار على مدى فترة استغرقت قرنًا ونصفًا من الزمن وامتدت من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين 6.(31/296)
ولم تخضع مَوْضَعَة «العقلانية» في المجال الإسلامي. أو تنظيرات هذه المحاولات لعملية نقد، بالقدر الذي يجعلها مقبولة التوظيف والتقريب من المجال التداولي العربي الإسلامي، بل اندفعت المحاولات التجديدية نحو مَوْضَعَة العقلانية، وكأنها المخلص لأوضاعنا الحضارية وأبت هذه المحاولات كما قال طه عبد الرحمن: «إلا التمادي في التعلق بالعقلانية والاحتجاج بها والاحتكام إليها، نظرًا لراسخ إيمانهم بكمال مبادئها وتجانس مناهجها وسلامة مآلاتها، حتى أنهم لو فوتحوا في أمر هذا التمحيص وأشعروا باستعجال الحاجة إليه، لكرهوا الدخول فيه لما بلغه هذا الاعتقاد من أنفسهم» 7 وتذهب هذه المحاولات في تقريبها لتراثنا الديني نحو المعايير العقلانية، وإن اختلفت فهومهم نحو أي من الجوانب التراثية أقرب إلى الاستجابة لهذه المعايير. «منهم من يقول بأنها النصوص الفلسفية، ومنهم من يرى أنها النصوص الفقهية، ومنهم من يعتقد أنها النصوص اللغوية، ومنهم من يذهب إلى أنها هي النصوص الكلامية، ومنهم أخيرًا من يجمع أجزاء هذه النصوص، ثم ما كان من هذه النصوص واضح الانتساب إلى العقلانية لزم في نظرهم تحقيقه والانتفاع به وفق مقتضيات الحداثة وشروط التطلع إلى المستقبل»8.
إن أشكال الوعي المغلوط الذي صاحب هذه المحاولات عندما تصور أصحابها إمكانية تبنّي المنظومة الحداثية الغربية دفع بها إلى التسليم بمرجعية الحداثة وطرح تصورات ومحاولة إبداع مفاهيم ضمن هذا التصور المغلوط الذي يكشف مدى سذاجة هذه المحاولات عندما تصورت مثلاً إمكانية أسلمة المنظومة المعرفية التي أنتجها النمط الحداثي الغربي وهي إحدى الآفات التي وقعت فيها حركة التجديد بعد آفة العقلانية المجردة غير المسددة (بتعبير طه عبد الرحمن). وظهرت فكرة الأسلمة على الرغم من براءتها من تهم التغريب وتشويه الإسلام التي عادة ما تتهم بها بعض المحاولات المؤدلجة، وتطورت دعوتها حتى غدت اتجاهاً كبيراً ضمن هذه المحاولات. وظهرت دعوتها الأساس، وهي أسلمة المعرفة الغربية، وخصوصًا العلوم الإنسانية كالاقتصاد والعلوم الاجتماعية والأنثربولوجيا وعلم النفس والفلسفة. وخلقت هذه المحاولة خطًّا جديداً في التفكير الديني بدأ يعمل على بناء نظام معرفي وفق الرؤية الإسلامية، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته دون التغاضي عن «الإجابات الفلسفية الوضعية بأشكالها المختلفة وإعادة توظيف هذه العلوم ضمن نظام منهجي ديني غير وضعي»9.
غير أن المحور الأساسي في أدبيات هذه المحاولة التجديدية هو بناء الأنساق المعرفية التي عرفها تاريخنا وذلك «للربط بين الأنساق المعرفية أو النماذج وبين الإنتاج الفكري الذي وجد في تلك العصور لتحديد مدى الاستقامة والفعالية والتجديد والشمول في ذلك الإنتاج أو تجديد العلاقة بين الأزمة الفكرية التي عاشتها الأمة وبين الأنساق التي سادت في تلك الفترات... ثم محاولة كشف وبيان كيفية استمداد النماذج المعرفية الجزئية من النظام الكلي التوحيدي» 10.
كل ذلك تمهيداً كما يقول طه جابر العلواني «لإمكانية تشكيل نماذج معرفية في مختلف العلوم الاجتماعية والتطبيقية قائمة على عقيدة التوحيد والجمع بين القراءتين، قراءة الوحي وقراءة الواقع مع الاستفادة مع النماذج المعرفية التي سادت التراث والنماذج المعرفية التي طورها الفكر الغربي أو الإنساني المعاصر» 11.
طالع بقية محاور الورقة:
*
بناء التجديد في النمط الغربي
*
في نقد المحاولات التجديدية
*
نشأة أسلمة المعرفة
*
حدود إمكانية التجديد الذاتي
*
فك ترابط علاقة التجديد بالحداثة
1- طه عبد الرحمن ـ تجديد المنهج في تقويم التراث ـ المركز الثقافي العربي ـ ص 237.
2- داريوش شايفات ـ أوهام الهوية ـ دار الساقي. ص 117.
3- طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ ص 59.
4- طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ـ ص 59.
5- نفس المرجع ـ ص 60.
6- نفس المرجع ـ ص 60.
7- طه عبد الرحمن ـ سؤال الأخلاق ص . 60 ـ 61.
8- طه عبد الرحمن ـ تجديد المنهج. ص 25.
9- محمد أبو القاسم حاج حمد ـ منهجية القرآن وأسلمة فلسفة العوم الطبيعية والإنسانية ـ نقلاً عن إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم ـ طه جابر العلوي ـ ص11.
10- طه جابر العلواني ـ إسلامية المعرفة بين الأمس واليوم ـ ص 20.
11- نفس المرجع ـ ص 20.
------------------
نشأة أسلمة المعرفة
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
يرجع أغلب الدارسين فكرة أسلمة المعرفة إلى كتابات سيد نقيب العطاس في كتاب نشره عام 1969. وكانت فكرته تهدف إلى تحرير الناس في عالم الملايو من التقاليد الخرافية والثقافات المحلية والسيطرة العلمانية على التفكير واللغة. غير أن بدايات البناء التنظيري لهذه الفكرة كانت مع جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية. خصوصًا عند إسماعيل الفاروقي وجعفر شيخ إدريس، بالإضافة إلى سيد حسين نصر والعطاس.(31/297)
لقد بدأت تنظيرات هؤلاء العلماء استنادًا إلى الحركة النقدية التي بدأت تطال الإبستملوجيا الغربية من طرف عدد من الفلاسفة الغربيين أنفسهم، "ونخص بالذكر هنا «هيوم» (Hume) في كتابه حول الطبيعة الإنسانية؛ حيث هاجم المبالغة في الموضوعية ورفعها إلى مكانة «شبه إله»، كما تساءل عن مبررات افتراض أولي لعالم خارج ذواتنا أو حتى عن ذات منفصلة عنه.
كما صرّح أن «التكرار» -أحد مبادئ الموضوعية العلمية- ليس لديه أي قوة برهنة على الإطلاق، وذلك بالرغم من أدائه دورًا رئيسيًا في «فهمنا» للأشياء.
وبالفعل فإن «هيوم» كان مقتنعًا بأن كلاً من العقل والحجج لا يقومان إلا بدور صغير فقط في «فهمنا»؛ فالمعرفة لا تتعدى كونها معتقدًا لا يمكن الدفاع عنه"1.
وانطلقت مدرسة «إسلامية المعرفة» في هذا الاتجاه مستثمرة هذه الحركة النقدية التي بدأت تتسع في الغرب ومن داخل المجتمع العلمي، خصوصا «وايتهيد» (Whitehead)، و«توماس كون» (Kuhn)، و«بولانيني» (Polanyi)، وبول فييرابند (P.k.feye r abad)، وميتروف (Mit r off)، ورافتز ( r avetz)، هذه الحركة النقدية التي بدأت تؤسس لإبستملوجيا غربية بديلة ولأنماط معرفية غير غربية للتفكير.
وجاءت محاولة «أسلمة المعرفة» كرد فعل إسلامي -كما قال ضياء الدين سردار- على الإمبريالية الإبستملوجية الغربية.
وبدأت محاولة التنظير تركز على تقديم انتقادات حادة للإبستملوجيا الغربية، جسدتها كتابات سيد محمد النقيب العطاس وإسماعيل راجي الفاروقي، فقد قدم العطاس في مقالة له: (نقض تغريب المعرفة 1985) «أشد الانتقادات تدميرًا للإبستملوجيا الغربية؛ حيث أكد أن مذهب "الشكية" شاسع الانتشار، وهو الذي لا يعرف الحدود الأخلاقية والقيمية، والمنتمي للنظام المعرفي الغربي، وهو نقيض الإبستملوجيا الإسلامية»2 فيقول:
«يبدو أنه من المهم أن نؤكد على أن المعرفة ليست حيادية، وأنه بإمكانها فعلاً أن تستقرأ مع طبيعة ومضمون معينين، ومن ثم تتنكر بقناع المعرفة. كما أنها في الواقع تؤخذ ككل -ليس كمعرفة حقيقية، ولكن كتأويل لها من خلال "موشور" للتصوير العالمي للرؤيا الفكرية وللإدراك الحسي النفسي للحضارة التي تلعب الآن الدور الرئيسي في صياغتها ونشرها.
إن ما يصاغ وينشر هو معرفة نقعت في خاصة وشخصية تلك الحضارة، بحيث تصهر المعرفة المقدمة والمنقولة كمعرفة على هذا النمط بمهارة مع الحقيقة بغية أن تتخذ -عن جهل وبرمتها- كالمعرفة الحقيقة نفسها»3.
ويعتقد العطاس أن «قيم التنوير» والحركة الفلسفية الفرنسية للقرن السابع عشر هي القيم الأصلية للعلم والتكنولوجيا الحديثة»4، رغم أنه يقر ما للإسلام وتراثه من مساهمة في بناء المعرفة التي عرفها الغرب فيما بعد، والتي أبدعت نموذجه الحضاري، والتي كان لها الدور المعتبر في تطوير العلم والتكنولوجيا الغربيين. «لكن المعرفة والروح والعلمية العقلانية أعيدت صياغتها وقولبتها لتذوب في بوتقة الثقافة الغربية. وهكذا أصبحت منصهرة ومندمجة مع جميع العناصر الأخرى التي تكون خاصية وشخصية الحضارة الغربية».
إن هذا الاندماج وذلك الانصهار أنتجا -كما يقول سردار- «ثنائية مميزة في التصور العالمي وقيم النظام المعرفي الغربي»5، وهذه هي نقطة الارتكاز في نقد العطاس للنموذج الحداثي العربي ودعوته إلى الأسلمة تبدأ بالعمل على إبداع النظام المعرفي الإسلامي الذي يتم بعيدًا عن النظام المعرفي الغربي.
ذلك أن المساهمات الإسلامية داخل هذا النظام المعرفي «لا يمكن إلا أن يزيد في صيت القيم والتوترات الداخلية للثقافة والحضارة الغربيتين. كذلك فإن منظومة المعرفة والعلم هذه لا يمكن أن تلبي حقاً احتياجات المجتمعات الإسلامية أو حتى أن يكون لها جذور اجتماعية داخل العالم الإسلامي»6.
وقريبًا من هذا تأتي أطروحة الفاروقي حول الأسلمة؛ فهو يرى أن مرض الأمة لا يداوى «إلا بجرعة إبستملوجية، وأن أصعب مهمة تواجه الأمة الإسلامية هي إيجاد حل لمشكلة التعليم»7 ذلك أنه لا أصل في نهوض هذه الأمة من ركودها الحضاري وربطها بدورة حضارية جديدة، ما لم تبدع نظامًا تعليميًّا تلغي به هذه الازدواجية الراهنة في التعليم الذي انقسم إلى نظامين: ديني وآخر دنيوي.
ودعا الفاروقي إلى إيجاد هذا النظام التعليمي الذي «ينبع من الروح الإسلامية، ويعمل باعتباره وحدة متكاملة مع برنامج الإسلام العقدي» 8، ويحدد الفاروقي في خطته للأسلمة خمسة أهداف هي:
- التمكن من العلوم الحديثة.
- التمكن من التراث الإسلامي.
- إثبات الصلة بين الإسلام ومختلف فروع المعرفة الحديثة.
- البحث عن وسائل تمكننا من التأليف المبدع بين التراث والمعرفة المعاصرة.
- وضع الفكر الإسلامي في المسار الذي يتيح له إنجاز النموذج الإلهي.(31/298)
إن التطبيق العملي لهذه الخطة يقوم على افتراض أساسي هو البدء بالمجالات المعرفية كما هي الآن في سياقاتها الغربية. مع شيء من الحذف والإضافة لتتم في الأخير الأسلمة المطلوبة أو كما يرى الفاروقي. والفاروقي باعتباره من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية كان تركيزه الأساس في دعوته إلى الأسلمة، هو أسلمة هذه العلوم تحديداً. فهو يرى أنها العلوم أكثر ترويجًا للنموذج الحداثي الغربي ومفاهيمه الخاصة بالدولة ـ الأمة (Nation - state)، والهوية العرقية» 9. غير أن الفاروقي أغفل ما للعلم والتنكولوجيا من دور في المحافظة على الأنساق الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي يسيطر بها الغرب على العالم. لم يعد المجتمع (الغربي تحديداً) يصاغ من مفاهيم العلوم الاجتماعية بل إن هذه الوظيفة انتقلت إلى المعرفة العلمية والتكنولوجية التي أصبحت «هي الأداة الرئيسية للإمبريالية المعرفية الغربية»10.
إن المعرفة لا يمكن فصلها على التصور والنظام العقدي الذي تمتد فيه جذورها وأي محاولة لاختراق هذا المفهوم وتصور إمكانية تجاوزه، لا تقود إلى أي مشروع إيجابي؛ فالإيستمولوجيا أو نظرية المعرفة «تعمل على تحديد المعرفة والتمييز بين فروعها الرئيسية وتعيين مصادرها وإقامة حدودها. إن إمكانية وكيفية المعرفة هي التساؤل المركزي للإبستملوجيا..»11، لذا فإن محاولة أسلمة الفروع العلمية والمعرفية التي تطورت في الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي، هي غير ذي جدوى فجدير بعلماء الأمة والمشتغلين بالبحث العلمي أن يوجهوا طاقاتهم لإبداع منظومة معرفية تستند إلى الإطار المرجعي الديني الذي يملك منهجيته ومفرداته ومفاهيمه. حتى نصل إلى مرحلة إبداع علوم تختلف عن العلوم الغربية المعاصرة، فلا نستطيع مثلاً أن نقول بأسلمة الأنثربولوجيا، العلم الذي نشأ في إطار ظروف خاصة، وقام على أسس ومبادئ معينة، أو نزعم أنه بإمكاننا أن ننشأ علم أنثربولوجيا إسلامي، ذلك خطأ منهجي يتضمن قبول الحدود الاصطناعية التي وضعت لهذا العلم ضمن المنظومة الحداثية الغربية.
إن أسلمة المعرفة ليست إلا مغالطة إبستملوجية أظهرت الإسلام وكأنه دين يحتاج إلى الارتباط بالمعرفة الحديثة متغافلة عن حقيقته كدين صالح لكل زمان ومكان (وهو مفهوم مركزي في المنظومة المعرفية الإسلامية)، فحاجة الأمة إلى التقدم الحضاري يجب ألا تتجاوز أبعاد هذا الدين وحقيقته.
كما يجب علينا كأمة أن نعترف بأن أبستومولوجيا العلم الغربي هي التي صاغت العلم الحديث. «إن أبستملوجيا العلم الحديث هي التي تحدد الطريقة التي تمكن الأفراد في المجتمعات المصنعة من تصور «عالمهم» ومحاولة معرفته وفهمه والسيطرة عليه. وتركز هذه الإبستملوجيا أساسًا على التمييز بين الذاتية والموضوعية... إن هذه الثنائية بين الوقائع والقيم، الحقيقة الموضوعية والإحساس الذاتي تمثل الميزة الرئيسية لإبستملوجيا العلم الحديث، إنها طريقة معرفية تناقض تلك التي تسود في كثير من المجتمعات التي تتصور الحكمة والمعرفة في حالتها الشعورية الذاتية»12.
إن الغرب وعبر فلاسفة كثر بدأ يبحث عن أبستومولوجيا بديلة. لتلك التي ارتبطت بالمغامرة الأستدمارية (Colosation) الأوروبية وبظهور العقلانية العلمية كوسيلة شرعية وحيدة لفهم الطبيعة والسيطرة عليها. فلماذا لا نبدأ نحن محاولاتنا التجديدية بالبحث عن صيغة لتصور ذاتي للمعرفة ؟ مستند إلى مفهوم العلم، المصطلح الأقرب إلى الرؤية الإسلامية. بل هو المفهوم الوحيد والمركزي لما قد نسميه بإبستملوجيا إسلامية. فقد ظل العلم عبر تاريخ أمتنا الطويل يربط المجتمع الإسلامي بمحيطه ويعطي للإسلام حركته وحيويته .
إنه في ظل هذه الدعوة ـ صناعة إبستومولوجيا إسلامية ـ يجب على الحركة التجديدية أن توظف طاقاتها وقدراتها في طرح خطاب تجديدي متماسك يستند إلى الذات بعيداً عن فتنة النمط الحداثي الغربي، فالأسلمة أشبه ما تكون كما يرى ضياء الدين سردار بعملية إعطاء روح من القيم الإسلامية في حقول معرفية تشكلت بالرؤى الكلية والمفاهيم واللغة والنماذج المعرفية الغربية، وهي كما يخشى سردار أقرب إلى تغريب الإسلام منها إلى أسلمة المعارف الغربية.
طالع بقية محاور الورقة:
*
بناء التجديد في النمط الغربي
*
في نقد المحاولات التجديدية
*
نشأة أسلمة المعرفة
*
حدود إمكانية التجديد الذاتي
*
فك ترابط علاقة التجديد بالحداثة
1- ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / العدد 75 / شتاء 1994، ص 106.
2- نفس المصدر ص 108.
3- نقلاً عن ـ ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / عدد 75 /شتاء 1994. ص 109.
4- ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / عدد 75 / شتاء 1994. ص 109.
5- ضياء الدين سردار ـ مجلة الكفر العربي / عدد 75 / شتاء 1994. ص 109.
6- نفس المصدر ـ ص 109.
7- نفس المرجع ـ ص 109.
8- نفس المرجع ـ ص 110.
9- نفس المرجع ـ ص 113.
10- نفس المرجع ـ ص 113.
11- ضياء الدين سرداد،مجلة الفكر العربي، العدد 75، شتاء 1994، ص 104.
12- سردار، الفكر العربي، عدد 75، شتاء 1991، ص 105..
-----------------(31/299)
حدود إمكانية التجديد الذاتي
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
بعيداً عن ثنائية تقليد/حداثة:
إلى أي حد يمكن أن نجدد تفكيرنا الديني بعيداً عن هيمنة النمط الحداثي الغربي؟ ثم إلى أي حدٍّ يمكن أن ندفع التفكير الديني نحو إبراز منظومة من الإبداع التكويني الذاتي في جدلية التعاصر والتثاقف استناداً إلى شرط النهوض التاريخي والحضاري دون الامتثال لمعايير خارجية في جدلية العلاقة الذاتية مع الآخر (النمط الحداثي الغربي)؟
إن إمكانية ذلك لا تتم إلا عندما تقتنع المحاولات التجديدية التي تتم في حقل التداول الإسلامي بأن لا فائدة مرجوة لوضع الإسلام مقابل الحداثة. وأن التجديد لا يتم إلا وفق معادلة حددتها هذه المحاولات التي اعتبرت أن الإسلام يمثل الماضي (التقليد). بينما الحداثة هي لغة العصر. وهي من يجب أن يحدد علاقتنا به. وما لم تتم عملية تقريب بين حقلي الإسلام والحداثة فإنه لا يمكن أن تبدع منظومة معرفية إسلامية تقوم على توافق بنيوي بين هذين الحقلين.
إن هذه الجدلية الحادة المطابقة لصورة الحركة التجديدية منذ إرهاصاتها الأولى هي التي صاحبت هذه الحركة في كل محاولاتها التجديدية، لقد اندفعت هذه المحاولات في تفسيرها للظواهر والبنى الاجتماعية الأكثر تعقيداً نحو استخدام هذه الثنائية الجامدة حداثة/تقليد. وهذا ما جعلها تسلم بفاعلية التقريب مع الحداثة الغربية. ذلك أن الغرب ونمطه الحداثي هو من أبدع هذه الثنائية (خصوصاً الدراسات الاستشراقية). لتفسير الظواهر الاجتماعية، في العالم غير الحداثي (التقليدي غير الأوروبي)، "إن بسط الكلام في مفهوم التقليد يجب أن يحملنا على الاعتراف باستواء التقليد وجهاً من الحياة الاجتماعية، وليس مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي، ومن وجهة بالغة الأهمية ليس التقليد والحداثة حالتين متنابذتين في مرتبة الثقافة والاجتماع، وإنما هما حيثيتان مختلفتان للوضعية التاريخية. وبهذا اللحاظ فإن عدداً من الأشياء التي يجري التفكير فيها بوصفها أشياء حداثية إنما ترتبط بوثيق صلة بتقاليد لها جذورها في التاريخ الغربي"1.
هناك صيغ تقليدية كثيرة تندرج ضمن الحداثة، وقد تشكل إحداها مفهوماً مركزياً لها. كالليبرالية مثلاً، فهي لا تتعين باعتبارها مزيجاً من عناصر تقليدية وأخرى حديثة. إنها تقليدي يرسم وجها مركزيا من وجوه الحداثة الغربية ومع كونها تقليدية فهي أكثر حداثة من الكثير من المفاهيم المندرجة ضمن متن الحداثة. ومع هذا لا يطال النقد الموجه إلى التقليد هذه الصيغ الحديثة في الغرب، بل يكثف جهوده نحو نقد ما يسمى "مجتمعات / ثقافات تقليدية".
في سياق هذا التفكير يمكن للحركة التجديدية أن تخرج من أسر ثنائية تقليد/حداثة، وأن تعاود التفكير في الصيغ الجاهزة التي أبرزتها المنظومة الحديثة الغربية، وهو أن التقليد يعني غياب الحداثة، وأن الحداثة فعل اجتماعي وثقافي يمكّن من التحرُر من هيمنة التقليد. ثم النأي بتفكيرنا الديني عن كل التفسيرات القائلة بالتوافق البنوي بين الفكرين الإسلامي والغربي. وإمكانية التقريب بينهما. وأن التراث (التقليد) لا يمكن أن يفهم من ذاته. وإنما يتطلب دائماً نقيضاً مفهومياً. وهو طبعاً الحداثة.
--------------
فك ترابط علاقة التجديد بالحداثة
عبد القادر قلاتي
…
03/09/2003
لا يمكن فك هذه العلاقة المتشكلة ضمن شروط تاريخية وإكراهات حداثية لم يكن التفكير الديني قادرًا على أن يعط مفهومًا ذاتيا عن التجديد والتغيير إلا ضمن هذه الشروط (ربط التجديد بالحداثة) ما لم نحرر مفهوم التقليد (التراث) «الذي تنحصر دلالته بحسب الأدبيات الشائعة في الدعوة إلى ماضٍ أساسي يقاس به التاريخ اللاصق ويرد إليه»1.
إن العلاقة بين التجديد كآلية والحداثة كمعطى اجتماعي وثقافي لم تتشكل إلا ضمن تصور مغلوط فرضته شروط تاريجية عند حاجة الأمة إلى النهوض. وبالتالي فالإسراع في التأكيد ألا حاجة ماسة من وراء هكذا علاقة مطلب ضروري عندما تبدأ محاولة تجديدية جادة. تبدع شروطها التاريخية الناسخة لتلك المشوهة وتبرز حاجة الأمة إلى التغيير أو التجديد ضمن رؤية وتصور ينطلقان من الذات ولا يستبعدان ما قد يستفاد من إنجازات الحداثة. في أي محاولة للتجديد (الذاتي).
إن الدعوة إلى تحرير مفهوم التقليد (التراث) من أسر تصورات خاطئة جعلته يلتصق بخاصة «زمانية أي أنه تابع للزمن». وهذا ما كرس هذا الوهم نحو مفهوم التقليد. حيث إن أعراضه «تنقض بالفراغ من عملها بدون بقاء أثر أو قيمة»، وهذا ما يُحاول تيار التغريب أن يُكرسه كتصور منطقي لإبعاد الإسلام ومنظومته المعرفية من أي محاولة سياسية أو ثقافية. باعتبار الإسلام -في نظر هؤلاء- شكل تقليدي (تاريخي) انتفت فاعليته بانقضاء حضوره في الزمن. والمحاولات التحديدية التي ربطت مصيرها بالحداثة لم تكن بعيدة عن هكذا تصور، أي أن تراثنا الديني الذي صنع وجودنا الحضاري، وظل يحدد مسار تفكيرنا عبر تاريخ طويل لا بد أنه فقد الكثير من فاعليته، وأن عطباً واسعاً طال آلياته. ومن ثم الارتهان إلى الحداثة مصير وليس خيارا.(31/300)
إن المحاولات التجديدية لم يلامس عملها بنية التراث بل عملت على إضفاء طابع حداثي على مفاهيم تراثية. وحاولت بإجراء تعسفي تأصيل صيغ حداثية ضمن فضاء التراث. وأكسبتها شرعية الممارسة الإسلامية. وضمن فقه الواقع (الارتهان إلى الحداثة). طال مجهودها غير المجدي الكثير من الصيغ التراثية والتي تملك في أحايين كثيرة شرعتها من النص المؤسس. لكن هذه المحاولات المحدثنة وبدعوى فقه الواقع تعمل على تجاوز هذا المعطى، وتبرر عملها هذا بعنوان واسع ومتهافت (فقه الواقع وضرورة العصر)، كي لا تحدث قطيعة معرفية مع الأصول والمقاصد الكبرى لهذا الدين. وهي لا تدرك أن القطيعة المعرفية حاصلة بمجرد سحب مفاهيم التراث وتقريبها نحو هذه الصيغ الحداثية. وقد نقرأ في كثير من أدبياتها جملاً من قبيل «العقلانية الإسلامية المؤمنة» التي تختلف بحسب هذه الأدبيات عن العقلانية اليونانية المتجردة من البعد الديني، العقلانية الوضعية التي جاءت نقيضاً للدين عكس عقلانية هذه المحاولات التي جمعت بين النقل والعقل بين حكمة والشريعة، وما إلى ذلك من عبارات وجمل صيغت ضمن هذا التنظير
والإشكالية هنا ليس فيما قد تطرحه هذه التنظيرات من الصيغ المستحدثة وإنما في التأصيل الذي غيّب أي محاولة إبداعية للتجديد، فالمحاولات التجديدية التي استندت إلى التأصيل في تنظيراتها غفلت عن حقيقة تظهر لأي متابع للفكر الإسلامي المعاصر. الذي غيبت منهجية التأصيل بنيته الأصلية التي كان يمكن للمحاولات التجديدية أن تعيد صياغة المفاهيم والقيم الإسلامية ضمنها -أي بنية الفكر الإسلامي- بدل النظر إلى هذه القيم والمفاهيم من زاوية حاجات العصر وضروراته.
ومن أخطر ما تقبله الفكر الإسلامي تحت ضغط منهجية التأصيل إدماج قيم حداثية ضمن المنظومة المعرفية الإسلامية وذلك بالقول مثلا إن الديمقراطية «موجودة في الفكر الإسلامي تحت اسم الشورى، وأن العلمانية موجود تحت اسم العقل»!!.
إن هذه المنهجية جعلت محاولات التجديد تغفل حتى عن النظر إلى هذه القيم الحداثية نظرة نقدية بل عملت على إدخالها إلى حقل التداول الإسلامي باعتبارها «مكتسبات أو اكتشافات إنسانية وعقلية نهائية، ولم تنظر أو لم تفكر في النظر إلى ما يمكن أن تنطوي عليه من محدودية تاريخية أو تناقضات داخلية»2. ذلك أن الضغط المنهجي الذي صاحب المحاولات التجديدية جعلها تعتقد أن التجديد يكمن في «تحديد المعاني والمفاهيم المستخدمة في إطار منظومة ثقافية أو فكرية بما يتفق مع القيم الحديثة أو العصرية.. إن الخطأ هو في التفكير في أن التجديد هو مطابقة أو مسايرة لقيم معينة داخل المنظومة، أي ما أصبحنا نردده فيما بعد، ونسميه التكيف مع قيم ومعطيات العصر»3.
ما يمكن أن نخلص إليه من فك الترابط بين التجديد والحداثة. وجعل هذه العملية -التجديد- تتم بعيدًا عن النمط الحداثي الغربي، هو دفعها نحو وضعية مختلفة وشروط مختلفة عن تلك التي عرفتها المحاولات التجديدية التي تمت في حقل التداول الإسلامي. لعلها تبدع نمطها في التحديث انطلاقاً من الذات (التراث). وإن كنا لا نستطيع أن نحدد هذه الوضعية وأن نكتشف الشروط الممكن أن تتم فيها محاولة جديدة للتفكير الديني.
---------------
1- صبا محمود، السلطة المدنية وإعادة تشكيل التقاليد الدينية ، مقابلة مع طلال أسد، مجلة الاجتهاد (عدد 49/48/2000)، ص 255..
2- نفس المصدر ص 108.
3- نقلاً عن ـ ضياء الدين سردار ـ مجلة الفكر العربي / عدد 75 /شتاء 1994. ص 109.
================(31/301)
(31/302)
دعاة اللبرلة .. عقول محتلة... أم ولاءات مختلة ؟
د. عبد العزيز كامل
ربما لم يأخذ الفكر الليبرالي حظه من الدراسات التحذيرية في حقول الدراسات الإسلامية خلال عقود طويلة مضت، كما حدث مع الفكر الشيوعي أو القومي أو البعثي، ولعل ذلك يعود إلى أن الليبرالية كثيراً ما تسترت وراء ديكور الديمقراطية، وتنكرت أحياناً أخرى بأقنعة الحرية الفكرية، والسعادة الفردية، وقِيَم التحضر والتمدين والتحديث، في أوقات كان معظم العالم العربي والإسلامي يئن تحت وطأة نظم شمولية بأفكار قمعية تاقت الشعوب معها إلى معاني الحرية والانطلاق. وقد انهمك المثقفون والمفكرون في مناهضة الفكر الإلحادي، شرقياً كان أو غربياً، ظانين أن الفكر الليبرالي متحرر من الأيديولوجيات والثوابت أياً كانت.
ولما انهار جدار الشيوعية، فرح بذلك العالم (الحر) في أمريكا والغرب، ودق طبول النصر لعصر جديد، تتسيد فيه القيم الغربية الليبرالية بلا منافس أو منازع، ليشترك العالم بالترغيب أو الترهيب في رفع رايات انتصار خادع، على جثة نِدٍ حضاري مزيف، هو الاتحاد السوفييتي السابق، ورفع أحد فلاسفة أمريكا المعاصرين «فرنسيس فوكوياما» عقيرته بانتصار الليبرالية في المعركة الحضارية الإنسانية، ليسدل الزمان أستاره على المشهد الأخير والمثير من مسرحية «نهاية التاريخ»!
وبدأ الأمريكيون بعدها يتحركون بهستيريا لإخضاع (العبيد) أو (الهنود) للدخول قسراً في سجن الحرية الليبرالية، وأصبحنا أمام (جوانتنامو) ثقافية واقتصادية وسياسية وأمنية اسمها (العولمة)؛ حيث لا مجال للحديث معها عن ديمقراطية الأغلبية، ولا الذاتية الشخصية أو الخصوصية الثقافية، ولا حتى منطق المصلحة، وبخاصة إذا كانت مصلحة (الآخر).
ويؤسفنا بعد كل هذا أن نجد من بني جلدتنا من يجعل من نفسه منصة تنطلق منها صواريخ الدمار الفكري الشامل القادم من أمريكا، صوب أراضينا المكشوفة وسماواتنا المفتوحة، متعللين بحريتهم في الفكر والفعل.
إن القضية قبل أن تكون اعتناقاً لفكر، أو اقتناعاً بمبدأ؛ هي قضية إيمان وتسليم؛ فمن الحقائق المقررة في ديننا أن الله لم يترك مناهج إصلاح البشر للبشر بشكل مطلق، بل تولى ـ سبحانه ـ ذلك بنفسه، فأرسل لذلك الرسل وأنزل الكتب، ونادى الوحي في الناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 176]. وإن الظن بأن البشر يمكنهم التفرد بتدبير شؤونهم بما يتفق مع غاية خلقهم، هو سوء ظن بالإله الخالق ـ سبحانه ـ وادعاء عليه بالعبثية وعدم الحكمة ـ جل ربنا عن ذلك ـ إذ كيف يخلق ويرزق، ثم يأذن للإنسان بأن يفسد باسم الإصلاح، أو يفجر باسم التحرر...؟ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 27 - 34].
إن كل فكر إنساني لا يعبأ إلا بالحياة الدنية القصيرة، دون اكتراث بالنجاة في الحياة الآخرة الباقية؛ لهو فكر معاد للإنسانية، مهما ادَّعى أصحابه الحرص على سعادة الإنسان؛ لأن هذا الفكر في النهاية هو اتباعٌ للهوى الذي يهوي بالإنسان إلى دركات التيه والضياع.
والفكر الليبرالي (Lib r alisme) لم يبلوره مفكر واحد في عصر واحد، بل اشترك في وضع أصوله العديد من المفكرين في أزمنة وأمكنة مختلفة، حتى صارت له أسسٌ تشمل نواحي الحياة في جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية، إلاّ أن هذا الشمول لا ينفي عن الليبرالية صفة القصور؛ لأنها اقتصرت في الجملة على تلبية الغرائز الدنيا في الإنسان، دون أدنى اعتبار للقيم العليا التي من أجلها كرّم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، بل هي فوق ذلك لا تعتمد إلا على أخس قدرات الإنسان على الفعل، وهي التمرد على إرادة الله عن طريق الكسب الاختياري الذي منحه إياه: {بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5 - 6]، وهذا هو أحط أنواع العبودية لغير الله؛ حيث يجعل من نفسه إلهاً لنفسه.(31/303)
لقد نشأ الفكر الليبرالي في بيئة غير بيئتنا، وتأصل على غير شريعتنا وأخلاقياتنا، وطُبق في غير مجتمعاتنا، واستهدف علاج آفات وإصلاح عيوب لم تعانِ منها أمتنا؛ فليس عندنا تسلط كنسي على عقول الناس، ولا احتكار كهنوتي للحقيقة، ولا خرافة طقوس تقوم على الخصومة المفتعلة بين الدين والعلم، ومع هذا، هَامَ به ـ على طريقة جُحر الضب ـ أقوام من المسلمين، وأرادوا أن يستوردوه ومعه العز والتقدم والشرف، فلم يجرُّوا بذلك على أمتهم إلا الذل والتأخر والانكسار، وصعب عليهم بعد ذلك ـ كما فعل الغراب حين أراد أن يقلد مشية الهُدْهُد ـ أن يعودوا لما كانوا عليه، فلا هم ظلوا مسلمين صلحاء أنقياء، ولا هم صاروا غربيين خلصاء بل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143].
نشأ الفكر الليبرالي عن فلسفة سياسية واقتصادية، أفرزت قناعات ثقافية وممارسات اجتماعية، حاولت بعد ذلك أن تتحول إلى منطلقات لحرية دينية، ونسبية اعتقادية، تؤول إلى (اللا دين). والليبرالية، بكل تعريفاتها لكل أصنافها؛ تركز على جوهر واحد يتفق عليه جميع الليبراليين، وهو أنها: تعتبر الحرية هي المبدأ والمنتهى في حياة الإنسان، وهي وراء بواعثه وأهدافه، وهي المقدمة والنتيجة لأفعاله. فالحرية هي سيدة القيم عندهم دون أدنى حدود أو قيود، سواء كانت هذه الحدود هي (حدود الله) أو كانت تلك القيود لسبب سياسي أو اجتماعي، أو ثقافي، أما مبدأ عبودية الإنسان لخالقه كما جاءت به رسالات السماء جميعاً، فهي عند الليبراليين لون من تراث الماضي «المتخلف».
بدأ الفكر الليبرالي في مرحلته المبكرة داعياً إلى حق التمرد ضد الحكومات التي تقيد الحريات الشخصية، ولهذا أوحت الأفكار الليبرالية بالثورة الإنجليزية عام 1688م، والأمريكية عام 1775م، والفرنسية عام 1789م، وأدت هذه الثورات إلى قيام حكومات تعتمد على دساتير تقدس حق الإنسان في الحرية الشخصية بأوسع دوائرها، دون التزام تجاه شيء، إلا القوانين المصاغة أصلاً لحماية الحريات الشخصية.
صحيحٌ أن الحرية الإنسانية، بضوابطها الأخلاقية، قيمة عظيمة، يفقد الإنسان من حقوقه الآدمية بقدر ما يفقد منها، ولكن التحريف الذي لحق بدين الأوروبيين النصارى، في تقنين ألوان من العبودية، جعلتهم يثورون على تلك التطبيقات المنحرفة للأديان المحرفة، ولو كنا مكانهم تحت التسلط والاستبعاد، لثرنا مثلهم؛ لأن للحرية الإنسانية حدوداً لا يطيق الإنسان بوصفه إنساناً أن يُحرم منها على الشكل الذي شرعته الكنيسة من دون الله. ولكن الفكر الليبرالي لم يقف عند حد علاج الخلل الناشئ بسبب فساد تصورات الكنيسة في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع، بل جعل الآلهة المتعددة إلهاً واحداً هو الهوى، فهو المعبود الحقيقي في الملة الليبرالية.
الليبرالية... وتأليه الهوى:
يدرك من له أدنى إلمام بتصنيفات وتفريعات أصحاب الملل والنحل والأديان، أن الإنسان بمعزل عن هداية الوحي، عبد كل شيء من حجر وشجر وشمس وقمر، وقدَّس الكثيرَ من الحيوان والهوام، وأطاع كل طاغوت من إنسان وجان، إلا أن هناك عبادة أخرى لم تشتهر بين العبادات؛ لأن المعبود فيها غير مشخص ولا ثابت، والعبادة فيها بلا شعائر ولا طقوس، ألا وهي عبادة الذات وتقديس الهوى، وتلك العبادة تختلف عن غيرها، بأن العبودية فيها غير واضحة المعالم؛ فهي مجرد سير أعمى وأهوج في طرق مظلمة بحثاً عن سعادة مفقودة، وغاية غير موجودة.
وهذا الظلام الحالك، هو ما أشار إليه القرآن في قول الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، ففي الآية تنديدٌ بمن يأتمر بأمر هواه؛ فما رآه حسناً فعله، وما رآه قبيحاً تركه، وهذا هو جوهر التأليه؛ فكل ما يستلزم الطاعة بلا قيود فهو عبودية، والإله المعبود في الآية هو الهوى، من باب التشبيه البليغ أو الحقيقة، والطاعة هنا مستلزمة للمحبة والرغبة، فـ (هواه) بمعنى: مهويه ومرغوبه المطاع.
ولهذا فإن عِلْم عابد الهوى لا ينفعه إن كان عنده علم؛ لأن الله ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فلا هادي له ولا مرشد من بعد الله؛ لأنه أغلق على نفسه باب الهداية عندما عزل نفسه بنفسه عنها.
ولم نرَ في الأفكار والمناهج المنحرفة شيئاً ألصق بوصف عبادة الهوى وتقديس الذات مثل الليبرالية المعاصرة من حيث وضعها وتعريفها؛ فهي تعني طلاقة حرية الإنسان وانفلاتها من كل القيود، بحيث لا يكون هناك أي مانع أو رادع من فرد أو أسرة أو جماعة أو دولة أو فكر أو دين أو تقاليد، بل يتصرف المرء وفق ما تمليه النفس وتسوق إليه الرغبة على ألا يتعدى على حرية الآخرين. صحيح أن أرباب الليبرالية يختلفون فيها بقدر اختلاف أهوائهم، إلا أنهم يتفقون على شيء واحد، وهو وصف موسوعة (لالاند) الفلسفية لها بأنها: «الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة».(31/304)
وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: «الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية)» وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها: «الحرية الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا». وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها «غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء».
وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تُجمِع على أنها انكفاء على النفس مع انفتاح على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه، ولا أسيراً إلا لهواه، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: «الليبرالية هي الانفلات المطلق».
ولهذا فإننا نعجب كل العجب ممن لديه أدنى معرفة بمعنى العبودية لله في الإسلام؛ كيف يجرؤ أن يقول: (الليبرالية الإسلامية) فيجمع بين متناقضين، وهل يمكن أن ينادي من أسلم بـ «انفلات مطلق» أو «تطبيق للقوانين التي اشترعها الإنسان بنفسه لنفسه»؟! وهل هناك في الإسلام استقلال عن كل المؤثرات الخارجية في الاعتقاد والسياسة والنفس والمادة؟! كيف يمكن أن تنسب كل هذه القبائح للإسلام أو تصبغ به؟ إن الليبراليين الغربيين يحلو لهم كثيراً أن يكسوا هذه الدمامة بأصباغ من الجمال المصطنع، فيفلسفوا اتِّباع الهوى بـ «تحكيم العقل» ويصفوا التمرد على القيم والثوابت بـ «الحرية المطلقة» أو «منع المنع»، ويرددوا دائماً بأنهم ضد الاستبداد السياسي الذي يمثله استبداد الدولة، والاستبداد الاجتماعي الذي تمثله القيم والأعراف، والاستبداد الديني الذي تمثله العقائد.
ولذلك نرى الليبراليين بكل أصنافهم ينفرون من كلمة (ثوابت) ويضيق عَطَنُهم من كلمة (عقيدة) ويفرون كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة إذا حدثتهم عن ثبات الأحكام، ودوام الحكمة والصلاحية فيها.
وبالنظر إلى أن طبيعة الهوى وسجية أهل الأهواء هي التقلب والتغير، فقد صاحَبَ الغموضُ مصطلحَ (الليبرالية) في مرحل تطورها، إلا في أمر واحد؛ وهو: تحقيق الرفاه والترف والذاتية الفردية إلى الحد الأقصى، وتحول هذا من الإطار الذاتي إلى الإطار الجمعي لدى المجتمعات التي تبنت الأفكار الليبرالية، والتي أسمت نفسها (العالم الحر)، وأصبح هذا العالم (حراً) في أن يحقق الحد الأقصى من الرفاة والمتاع، سيراً وراء الهوى المتبع والشح المطاع للأفراد، كل ذلك على خلفية المصلحة، المرادفة في كل الأحوال للأنانية المفرطة.
ولهذا وجد الناس البَوْن شاسعاً بين شعارات الليبرالية في عالم المثال، وتطبيقاتها في عالم الواقع؛ فقد غاب العامل الإنساني، وحل محله العامل الطبقي أو العنصري، ولم يعد (الإنسان) هو قضية الليبرالية الأولى إلا بحسب لونه أو جنسه أو مستواه الاقتصادي. فالليبرالية السياسية (الديمقراطية) في الغرب تختلف عن ديمقراطيات البلدان التابعة أو المستعبَدة من الغرب، والليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) في الغرب يجب أن توصِل عندهم إلى نتائج مسيطِرة، وعندنا إلى نتائج مسيطَر عليها. وأما بقية مفردات الليبرالية من ثقافية واجتماعية ودينية، فهي ينبغي أن تمثل عندهم نموذج القدوة والمثال، بينما تمثل لدى مقلديهم أنماط التبعية والذوبان إلى حد الابتذال.
أما الليبرالية الفكرية الثقافية والدينية فهي الأخطر، وتعني عندهم المزيد من هجر الخصوصيات والثوابت عند الأمم، في حين يفيئون هم إلى ما يعدُّونه قِيَماً يجب تصويرها بأحسن صورة، وتصديرها على أوسع نطاق.
وقد حدثت في ذلك تجارب وتجارب، دأب المفتونون بالفكر الليبرالي فيها على أن ينقلوا إلى مجتمعاتنا أدواء الليبرالية، دون أن يستطيعوا أن يداووا بها مرضاً.
لن نتحدث هنا عن تجربة تركيا المريرة في ذلك، سواء على يد العلمانيين أو أشباه الإسلاميين؛ فقد يقال إن تركيا في قسم منها جزء من أوروبا، ولهذا تسعى للتواصل معها واللحاق بها، ولكن أمامنا تجربة أخرى عربية غير تلك التركية، وهي التجربة المصرية التي خاضها العلمانيون كاملة لتنتهي إلى نتائج وخيمة لا تزال الأجيال في مصر تعاني منها لليوم، ومع هذا فقد ظلت هذه التجربة الخاسرة جاهزة للتصدير رغم كل علامات التحذير من انتهاء صلاحيتها وفساد مكوناتها.
تكرار التجارب... واجترار الأخطاء:(31/305)
انبرى نفر من المفتونين بالفكر الليبرالي فيما مضى من العقود في مصر يبشرون بذلك الفكر على صُعُد مختلفة، ففي السياسة برز (سعد زغلول) ليكون داعية للنهج الأوروبي في الأداء السياسي، وبالبرغم من نشأته الأزهرية، إلا أن رحلاته المتعددة لأوروبا غيرت من فكره، وأقنعته بأن المحتل الأوروبي عندما يرحل ـ ولا بد أنه سيرحل ـ يجب الإبقاء على ما جاء من أجله، وهو تجذير التغيير في بنية الشعوب، لتقترب من النموذج الأوروبي، ولم يكن سعد زغلول وحيداً في حمل الهم الأوروبي رغم اقتران اسمه بالبحث عن الاستقلال، بل حمل معه هذا الهم كثيرون ممن أُشرِبوا في قلوبهم حب الأوروبيين من خلال التعليم في مدارس الإرساليات أو معاهد الأقباط، أو ضمن البعثات الخارجية؛ حيث دشن هؤلاء (العائدون من أوروبا) حملة تغريب منظمة بالتنسيق مع قوى (الاحتلال) حيناً، وتحت راية (الاستقلال) أحياناً.
فالاستعمار الإنجليزي استمر في مصر الفترة نفسها التي استمر فيها المد الليبرالي، وتحت إشراف ذلك المستعمر، وضع الليبراليون أيديهم على كل منافذ التأثير، وقد تعاقبت على حكم مصر حكومات تنتمي إلى أحزاب سياسية، وكان أكثرها يحمل المبادئ الليبرالية في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، كحزب الوفد الضليع في علمانيته الذي أسسه سعد زغلول والذي تفرعت منه أو انشقت عنه أحزاب علمانية، تؤمن كلها بالمبادئ الليبرالية على اختلافٍ بينها في الوسائل، وفي المدة من (أكتوبر 1922م) وحتى قيام ثورة (يوليو 1952م) أي فيما يقرب من ثلاثين عاماً، قامت في مصر إحدى وأربعون وزارة، كان الوفديون الليبراليون أو المنشقون عن الوفديين (السعديين) يتناوبون فيها مع غيرهم من العلمانيين على كراسي رئاسة الوزراء، ولم يكن التنافس بين هذه الأحزاب في الغالب إلا بقدر إثبات قدرتها على إحداث التغيير في بيئة المجتمع المصري وفق معايير الغرب؛ فماذا كانت الحصيلة؟
* وضع دستور علماني لمصر عام (1923م) على يد حزب الأحرار الدستورين المتعاطفين مع الانجليز، وهو الدستور الذي ظل معمولاً به مدة المد الليبرالي، والذي نص صراحة على أن التشريع حق خالص للبرلمان، وهو ما يعني تنحية الشريعة، وظل ذلك تقليداً متبعاً بعد ذلك.
* أبرمت معاهدة (1936م) بين الإنجليز وبين حزب الوفد الليبرالي في إحدى فترات (مصطفى النحاس) الذي تولى رئاسة الوزراء سبع مرات، وكانت معاهدة تحالف مع الاحتلال، تتخفى وراء مفاوضات الاستقلال، وقد استمرت لثلاثة عقود، في ظل المد الليبرالي المنادي بالتحرر.
* في ظل الأحزاب الليبرالية، جرى (تأليف) أحكام مبدلة وضعية بدلاً من الأحكام الشرعية على يد (عبد الرزاق السنهوري)، وفريقه، وهي الأحكام والقوانين المحادة للشريعة والمتناقضة مع أحكامها ومقاصدها والتي أصبحت مصدراً تستمد منه معظم الدول العربية فيما بعد قوانينها، وقد أحلت تلك القوانين كثيراً من المحرمات وألغت مرجعية الشريعة بشكل عملي.
* انطلقت مؤامرة (لبرلة) أو (تحرير المرأة) من حجاب العفة والكرامة، على يد قاسم أمين (تنظيراً)، وهدى شعراوي وصفية زغلول (تطبيقاً) وانتشرت العدوى بعد ذلك إلى بلدان عربية عديدة حتى صارت بعض العربيات ينافس الأوروبيات في (الليبرالية) الاجتماعية والأخلاقية.
* أُرسيت قواعد التعامل الربوي لتُبنى عليها صروح الاقتصاد، على يد (طلعت حرب) الذي أقام اقتصاداً وطنياً حراً، ولكنه كان حرباً على الله ورسوله؛ لأنه لم يذر ما بقي من الربا، بل أقام له المؤسسات والشركات ليؤكل أضعافاً مضاعفة.
* أُصِّل «بطلان» الحكم الإسلامي على يد (علي عبد الرازق) الذي بلغت (اليبرالية الدينية) على يديه أن زعم أن المسلمين أحرار في أن يهجروا تحكيم الشريعة؛ لأن الإسلام دين لا دولة.
* جرت علمنة مناهج التعليم، على يد المستشار (دنلوب) المفوض الإنجليزي الذي كلف بوضع المعالم الرئيسة لمناهج التعليم المصرية؛ بحيث يُحَيَّد فيها الدين والتاريخ الإسلامي، وتهمش اللغة، وتستلهم المبادئ الغربية.
* أما الصحافة والإعلام فلا تسل عن تعاون الفجار مع الكفار في إنشاء مؤسساتها وإرساء قواعدها على أسس منافية للدين عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً؛ حيث اشتهرت أسماء لأخبث قوى الهدم باسم الكتابة والفن والأدب، ولمعت أسماء كثير من النصارى واليهود الذين قاموا في ظل حماية الحكومات الليبرالية بهدم كل ما طالته أيديهم من قيم وأخلاق ومبادئ، بالتعاون مع حثالة من دروز لبنان، ونصيرية سوريا، وأقباط مصر، مع من داروا في فلكهم من سقطة القوم.(31/306)
إن المحصلة النهائية للتجربة الليبرالية التي سادت في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، أثمرت جيلاً تطلع إلى المزيد من الانحراف باسم التحرر، حتى جاء الثوريون ليثوروا على التحرريين، ويزايدوا عليهم في المناداة بمبادئ الحرية، حتى نعتوا أنفسهم بـ (الضباط الأحرار) تشبهاً بعتاة العلمانيين في تركيا، وتحت دعوى القضاء على فساد الأحزاب المتعددة في عهد الملكية، جرى جمع الفساد كله في حزب شمولي واحد أطلقوا عليه (الاتحاد الاشتراكي)، وهو الحزب الذي تسربت إليه، وتحيزت إلى صفه كل عناصر الفساد القديمة، إضافة إلى العناصر المفسدة الجديدة.
واليوم تحاول الولايات المتحدة تحت مسمى إصلاح الشرق الأوسط الكبير، أن تجدد الدماء المتجمدة في عروق الليبرالية المصرية، وتنشئ لها على عينها أجيالاً جديدة، بعد (الانقلاب الأبيض) الذي قام به الثوريون على أنفسهم، انتقالاً من النهج الاشتراكي الشرقي، إلى النهج الديمقراطي والرأسمالي الغربي؛ حيث لم يَرُقْ للأمريكيين ذلك التردد والتلكؤ الذي سلكه بقايا (جيل الثورة) في انقلابهم على النهج الاشتراكي، كما لم تقنعهم نتائج (المواجهة الشاملة) مع أصحاب النهج الإسلامي، الذين أظهروا رفضاً لكلا المنهجين المستوردين الاشتراكية والرأسمالية؛ ولهذا فإن الأمريكيين اليوم يتطلعون إلى إيصال قوى شابة، تقود المعركة من جديد لصالح الغرب مع الإسلاميين، أو بالأحرى مع الإسلام في مصر، غير تلك القوى التي قادت المعركة من قبل لصالح الشرق.
ولكن الولايات المتحدة نفسها، بدأت بنفسها في إثبات أن ما يسمى بـ (القيم الديمقراطية والليبرالية) تسقط عند أول اختبار في ميدان المصالح، وتترنح في حلبة الصراع، عندما يكون الند المحارب صاحب حق، أو طالب حرية حقيقية.
تعدد الليبراليات وتهاوي الشعارات:
إذا كانت الليبرالية السياسية تعني حق الإنسان في اختيار النظام الذي يريده، والنواب الذين يمثلونه، بما يكفل تحقيق العدالة والمساواة والاستقلال؛ فإن هذه الليبرالية بدأت تسقط كشعار على يد الولايات المتحدة ودول الغرب المبشرة بها؛ فقد درجت الولايات المتحدة وحلفاؤها على انتهاك سيادة وحرية العديد من الدول في السنوات الأخيرة، مرة بالغزو المباشر، ومرة بالتدخل السافر، ومرات ومرات بأنواع العقوبات، وبهذا يجري بانتظام إهدار ما يعده الغرب قيماً وأعرافاً قامت لأجلها الثورات الكبرى هناك، ويحدث هذا من أمريكا بالذات على يد يمين ديني مغالٍ، يؤمن بالحرفية أكثر مما يؤمن بالحرية، حتى إن الحقوق السياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، باتت تعيش خطراً وضرراً بدأ يصل إلى حد ارتفاع بعض الأصوات بحرمان النساء والسود والمهاجرين من حق الانتخاب، وقصر ذلك على البيض البروتستانت. وهو ما يؤكد أن مشروع الهيمنة الأمريكي ليس من أجل الحريات، بقدر ما هو بسبب المصالح العنصرية والطبقية في الداخل والخارج.
إن هذا يعني في النهاية أن مسلسل سقوط (القيم) الليبرالية قد بدأ بالفعل على يد من بشروا بها، ووضعوا خطط السيطرة على العالم من أجلها، بل إن الديمقراطية نفسها ـ كأبرز تجليات الليبرالية السياسية ـ بدأت تفقد بريقها الخادع هنا وهناك، بعد أن بدا للجميع أنها لا تزيد عن عملية بيع وشراء، لا للسلع والمنتوجات، ولكن للذمم والأصوات، فهاهي الولايات المتحدة نفسها، ترتفع فيها تكاليف شراء المناصب العليا بمعدلات صاروخية؛ فمجموع ما أُنفق على الانتخابات الرئاسية قد ارتفع من 175 مليون دولار عام 1960م إلى أكثر من مليار ومائتي مليون دولار عام 1980م، وارتفع إلى ثلاثة مليارات ومائتي مليون دولار في التسعينيات، ووصل إلى أربعة مليارات من الدولارات في آخر التسعينيات، وفي الانتخابات الأخيرة بلغت تكاليف فوز بوش وحزبه خمسة مليارات من الدولارات.
هذا عند زعيمة العالم الليبرالي الحر في الغرب. وأما في الشرق؛ فإن الكراسي ومناصب الحكم بل مقاعد النيابة عن الشعب عند من يلهثون وراء السراب الليبرالي والديمقراطي، تُسرق ولا تُشترى، فإذا كان كبار رجال الأعمال في الغرب يشترون الأصوات شراء؛ فإن كبار المحتالين عندنا يسرقونها سرقة، بتزوير ظاهر، وتحايل مكشوف، بل بـ (بلطجة) وشيطنة وانحراف. أما في واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط (إسرائيل) فقد تكشفت مؤخراً فضيحة تورط شارون وابنه (عمير) بالكذب والتزوير وإنفاق مبالغ طائلة من أموال دولة اللصوص القائمة على الاغتصاب، لإنفاقها على العملية الانتخابية التي جاءت بشارون.
أما الليبرالية الفكرية التي تعد أساساً لليبرالية السياسية، فهي تؤصل منذ نشأتها للفوضي الفكرية، ولهذا فإن كل ما يبنى فوقها من منشآت سياسية يؤول أمره إلى الفوضى، وثورة الليبرالية على الدين وثوابته لا تلبث أن تتحول إلى ثورة على السياسية ومسالكها.(31/307)
وتأتينا الليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) بوجهتها الانتهازية ونكهتها اليهودية؛ إذ تقوم منذ وضع أسسها (آدم سميث 1723 ـ 1790) على المصلحة، أو (الأنانية)، فهي المحرك الوحيد للنشاط الإنساني كما يقول، ولا ينبغي أن يوضع أمام المصلحة أي قيد، وهو ما عبر عنه بقوله: (دعه يعمل، دعه يمر)؛ فالاقتصاد لا ينظمه حسب النظام الرأسمالي إلا قانون العرض والطلب وقوانين الطبيعة البشرية، دون أي قيود أو ضوابط.
وتجيء الليبرالية الدينية، أو (الميتافيزيقية) كما يسمونها أحياناً، لتكون عاراً على كل من يتبنى الليبرالية ممن يدعي احترام المبادئ الإنسانية فضلاً عن القيم الإسلامية، فالليبرالية الدينية، أو التعددية الدينية تسعى إلى نمط من الفكر الديني، لا يتقيد بأية قواعد، ولا يستند إلى أية مرجعية، بل يستند إلى حرية الإنسان في اختيار الإله الذي يهواه، ولو عبد كل يومٍ إلهاً.. ولو لم يعبد إلهاً على الإطلاق إلا هواه.
والليبرالية الدينية تقوم على فكرة نسبية الحقيقة، وترِّوج لمقولة: لا دين على الإطلاق يحتكر الصواب.
ولهذا كانت الليبرالية الدينية دائماً هي الأداة الخادمة والدافعة لبقية الليبراليات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ لأن الليبرالية الدينية تهدم أولاً القواعد، وتزيل الحواجز، لينطلق (البناؤون الأحرار) بعدها في تشييد أبنية الضلالة على أسس الغواية، كل ذلك على خلفية إلغاء الخصوصيات الثقافية، وتدمير مفهوم (المقدس) وتبديله بمهفوم (النسبية) في الحقائق والعقائد والقيم لإزالة الثبات عنها، حتى لا يبقى هناك مجال لأصول تبنى عليها الهوية، أو ترتكن إليها القيم.
وفي عالمنا الإسلامي، وبالرغم من أن الليبرالية بدأت تظهر حقيقتها على أنها حملة استئصالية، تستهدف الدين في أصوله قبل فروعه، والأخلاق في جوهرها قبل مظهرها؛ فقد وجدت من الأفّاكين من يروِّج لها ويتحدث باسمها، بل تطور الأمر إلى أن بعض الطيبين انساق إلى الانخداع بالليبرالين والإنصات لقولهم، وصدق الله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
وتمخض الأمر عن ميلاد ما يعرف الآن بـ (الليبرالية الإسلامية) على غرار ما كان يعرف بـ (اشتراكية الإسلام) و (اليسار الإسلامي) وكذلك دعوى (ديمقراطية الإسلام) والدعوة إلى (أسلمة العلمانية).
والسؤال هنا: هل سيؤول مصير (الليبرالية الإسلامية) إلى معنى (الليبرالية الدينية) المتمحور حول مقولة (جون هيك): «لا دين يحتكر الحقيقة»؟! نخشى أن يحدث ذلك! وهل سيقول الليبراليون (الإسلاميون) إن الإسلام لا يملك كل الحقيقة، وأن عقيدته لا تمثل كل الصواب؟ فبعض الأفراخ الجديدة للفكر الليبرالي (الإسلامي) بدأت تكشف عن نفسها في جراءة لا تُستغرب على من يؤمن بـ (نسبية الحقيقة) و (تطور القيم)، وهو ما قد يوصِل إلى التطابق والتماثل بين (الليبرالية الإسلامية) والعلمانية الرامية إلى فصل الدين عن الحياة، ولكن هذه قضية أخرى تحتاج إلى تفصيل وتأصيل.
غير أن إرهاصات التحول (العربي) الليبرالي العلني إلى محادَّة الدين تشعرنا بالقلق، من أن تتحول هذه العدوى إلى التوجه الليبرالي (الإسلامي) المدَّعى.
يثير موقع شبكة (الليبرالية الكويتية) في زاوية (من نحن؟) السؤال التالي: «هل الليبرالي علماني؟»، ويجيب: «نعم! كل الليبراليين علمانيون»، ثم يثير سؤالاً آخر: «ما هو موقفنا من تطبيق الشريعة الإسلامية؟» فيجيب: «الحقيقة هي أنه لا توجد هناك أية شريعة إسلامية، بل هناك شرائع إسلامية متعددة.. وقد أثبت التاريخ أن جميع الدول الدينية في التاريخ الإنساني هي دول دكتاتورية قمعية، ولا يوجد نموذج لشريعة إسلامية حتى الآن يتوافق مع حقوق الإنسان الأساسية» ثم ينتهي القائمون على الموقع إلى القول: «الطريق إلى العدل والمساواة والحرية يبدأ بتطبيق الديموقراطية والليبرالية الحرة، أما الدعوة إلى الشريعة؛ فما هي إلا أوهام مخلوقة من الجماعات الأصولية لبسط نفوذها».
هل يستطيع الليبراليون (الإسلاميون) تبرئة زملائهم من الليبراليين العرب في الكويت أو غيرها من هذا الإلحاد الصريح؟ وهل يستطيعون أن ينفوا عن الليبراليين (الإسلاميين) في تركيا مثلاً توقهم المتسارع والمندفع إلى نحو تلك الليبرالية الدينية..؟ لقد قال نجم الليبرالية (الإسلامية) «رجب أردوغان»: «نحن بحاجة إلى تغيير توجهنا إلى حيث الليبرالية الدينية..»، ومع هذا لا يزال «أردوغان» فارس أحلام العديد من (الإسلاميين) الليبراليين، الذين تسميهم بعض الأوساط الأمريكية (الإسلاميين الجدد).
لا نشك أن الولايات المتحدة سترعى هذه التيارات الجديدة، وستتبناها؛ لأنه أقصر طريق للوصول إلى بغيتها في ضرب ما تسميه (الإسلام الأصولي) أو (السلفي) أو (الوهابي)، بل إنها ستزرع زرعاً ـ من خلال نفوذها على الحكومات ـ مثل هذه العناصر الداعية إلى (التحرر الديني) في مناصب التأثير والتوجيه الاجتماعي، وهو ما كشف عنه تقرير معهد (راند) الشهير عن (الإسلام المدني الديموقراطي) أي (الإسلام الليبرالي) وكذلك تقرير (عقول وقلوب ودولارات).(31/308)
والولايات المتحدة لم تعد تخفي رغبتها العارمة في فرض (الليبرالية الدينية) تحت مسمى (الحريات الدينية)؛ فقد بدأت منذ سنوات في إصدار تقرير سنوي باسم (تقرير الحرية الدينية في العالم) تركز فيه على العالم الإسلامي، وهذا التقرير يصدر بموجب ما يسمى بـ (قانون الحرية الإمريكي) الصادر عام (1998م) والذي يستهدف بحسب وصف موقع الخارجية الأمريكي على الإنترنت «دراسة وفحص المعوقات التي تحول دون (إطلاق) الحرية الدينية في مئة وسبعة وتسعين دولة ومنطقة في العالم».
صدر التقرير السابع عن الحرية الدينية في العالم في 8/11/2005، على أن يُقدَّم للكونجرس الأمريكي لمناقشته، وقد انتقد حالة الحرية الدينية في عدد من الدول العربية والإسلامية، وأثنى على (التقدم) الحاصل في دول أخرى في جوانب «التحرر» الديني. وقبل أن أذكر أبرز ما ورد في ذلك التقرير، أريد التنبيه على النقاط التالية المستخلصة من محتوى التقرير:
1 - الولايات المتحدة تتجه نحو اعتبار قضية (الحريات الدينية) من الشؤون الدولية لا من خصوصيات الدول الداخلية.
2 ـ لا تريد الولايات المتحدة أن تتعامل مع أفكار (الحرية الدينية) كمجرد أفكار تقترح أو دعوات تعرض، وإنما تريدها إملاءات، توصل إليها الإغراءات أو الضغوطات.
3 ـ (فوضى العقائد) هي السقف المحدد والغاية المرجوة من «فرض» الحرية الدينية، حتى تنفتح كل الأبواب أمام التنصير أو بالأصح التكفير الذي يستهدف بشكل خاص عوام المسلمين.
ولنمر سريعاً على لقطات من التقرير الخطير:
أ ـ ما يتعلق بإيران:
يأخذ التقرير على إيران، عدم الاعتراف بالطائفة البهائية (التي تؤمن بـ «المرزا غلام أحسن» نبياً بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -) وينتقد إغلاق مراكز التبشير النصراني البروتستاتي في إيران، ويرى أن اتخاذ سياسة معادية لدولة (إسرائيل) يدخل ضمن عدم الالتزام بالحرية الدينية، كما يشير إلى التحيز الحاصل في إيران ضد الطائفة السنية.
ب ـ ما يتعلق بالسعودية:
يدعي التقرير ألاَّ وجود للحرية الدينية في المملكة العربية السعودية، ويدل على ذلك بـ (إجبار) الدولة مواطنيها جميعاً على اعتناق دين الإسلام فقط، وعدم سماحها للمواطن بأن يغير دينه، وينتقد أيضاً عدم الاعتراف داخل المملكة بالأديان الأخرى، فضلاً عن حمايتها، ويرى أن عدم السماح لأصحاب الأديان الأخرى من غير المواطنين بممارسة شعائرهم علناً أمر متعارض مع الحرية الدينية، ويُعد التقرير من مظاهر انتهاك هذه الحرية عدم السماح للمواطنين بالرجوع عن الإسلام، ومن مظاهر انتهاكها: إطلاق الشرطة الدينية (أهل الحسبة) لمراقبة المتهاونين في أداء الصلاة، ومن المظاهر المنتقدة أيضاً إلزام جميع الطلاب في المراحل المختلفة بدروس ومناهج دينية تتطابق مع التعاليم «السلفية». كما يرى التقرير أن معالجة الصحافة للقضايا الدينية محدودة للغاية ومقيدة.
وأشار التقرير إلى أن الحكومة الأمريكية تطالب بالالتزام العلني بالسماح بأداء الشعائر لغير المسلمين، وتحث على إلغاء التمييز بين الطوائف والأديان، وأظهر التقرير أن وزير الخارجية الأمريكي السابق (كولن باول) كان قد وصف الأوضاع بالسعودية عام 2004م بأنها مثيرة للقلق بسبب «الانتهاكات الشديدة» للحريات الدينية.
ج ـ ما يتعلق بالسودان:
يأخذ التقرير على الحكومة السودانية أنها تعتبر نفسها «حكومة إسلامية» وأن الحزب الحاكم يلتزم بـ (أسلمة) البلد، ولهذا يفرض كثيراً من القيود والتمييز ضد غير المسلمين وغير العرب، ويرى التقرير أن الحرية الممنوحة للمسلمين في بناء المساجد ليست ممنوحة لغير المسلمين في بناء معابدهم، وأشار التقرير إلى أن وزارة الخارجية الأمريكية صنفت السودان مرات عديدة بأنه بلد مثير للقلق فيما يختص بالانتهاكات الشديدة للحرية الدينية، وأن ممثلي السفارة الأمريكية هناك ربطوا بين تحسين العلاقة مع الخرطوم، وبين اتخاذ إجراءت للتخفيف من تلك الانتهاكات.
د ـ ما يتعلق بمصر:
يرى واضعو التقرير أن تمييز الحكومة المصرية ضد المسيحيين لا يزال مستمراً؛ فهناك تمييز في التعيين في المناصب العامة وهيئات التدريس، ويُرفض قبول المسيحيين في جامعة الأزهر! وهناك إعاقة لحرية بناء الكنائس، ويعتبر التقرير من المآخذ على الدولة المصرية أنها تمتنع عن الاعتراف بالطائفة البهائية، وينتقد محاولات «التضييق» على النشاط التبشيري بين المسلمين بذريعة منع الفتن الطائفية.(31/309)
وقد أشار التقرير إلى أن المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزيرة الخارجية الأمريكية ومساعدها للشرق الأوسط والسفير الأمريكي وغيرهم، أثاروا مع كبار المسؤولين المصريين موضوع الحرية الدينية، كما أعربوا عن قلقهم بشأن التمييز ضد البهائيين والمسيحيين، وأشار التقرير إلى أن أعضاء من الكونجرس الأمريكي أبدوا غضبهم أثناء زيارتهم لمصر مؤخراً من المقالات التي تعادي السامية، وأبلغوا بذلك رؤساء تحرير الصحف وغيرهم من الإعلاميين، وأشار التقرير كذلك إلى أن هناك برامج أمريكية في مجالات عدة لتمويل مشاريع تتعلق بالحريات الدينية، منها برامج للتعاون مع الأقباط في جنوب مصر وبرامج لتشجيع التقارب بين الطوائف الدينية، ونوه التقرير بمشاركة بعثة أمريكية في تشجيع وضع مواد دراسية تحث على الحرية الدينية في مناهج التعليم باللغتين العربية والإنجليزية.
هـ ـ ما يتعلق بالعراق:
لأن العراق أصبح ساحة مفتوحة أمام التجارب الأمريكية في تنفيذ مفاهيمها حول الحرية الدينية؛ فقد أشار التقرير إلى أن هناك تنسيقاً على مستوى عالٍ بين المسؤولين في البلدين لجعل العراق بلداً نموذجياً في إطلاق الحريات الدينية، ولهذا تستضيف الإدارة الأمريكية العديد من الندوات والحوارات حول هذا الموضوع، وتمول المشاريع الهادفة لذلك لجمع جهود المذاهب والطوائف كلها ضد ما تعتبره الولايات المتحدة إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته.
شهادة إشادة..!
في مقابل هذه الانتقادات المتعددة لبلدان كثيرة، أشاد تقرير الحرية الدينية الأمريكي بدولة الإمارات لاستضافتها مؤتمراً دولياً لمحاربة الإرهاب والتشدد الديني؛ في حين أن حكومتها تبرعت بقطعة أرض في أواخر عام 2004م لبناء كنيسة (سانت ماري) لجالية الروم الأرثوذكس في دبي، ورحب التقرير باشتراك وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في أبو ظبي في الاحتفالات الدينية التي أقامتها الكنيسة الإنجيلية العربية هناك بمناسبة عيد الميلاد؛ حيث حضرها وكيل وزارة شؤون المساجد ومساعد وكيل وزارة الشؤون الإسلامية. وأثنى التقرير أيضاً على قيام مستشار الوزارة للشؤون الدينية في دبي بإزاحة الستار عن حجر الأساس لبناء كنيسة (الأنبا أنطونيوس) القبطية المصرية على أرض دبي، برفقة رئيس أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر والخليج والشرق الأوسط.
وماذا بعد:
ـ فهل هذا ما يريده الليبراليون ـ علمانيين أو «إسلاميين»؟
ـ هل يطالبون بأن تتحقق (المساواة) بين التوحيد والتثليث، وتعدد الآلهة وانعدام الآلهة.. في بلاد المسلمين..؟
ـ وهل يسرهم ذلك (العدل) بين المعبودات، فلا يفرق بين عبادة خالق الكون الواحد الأحد، وبين عبادة الصلبان والنيران والجُعلان..؟
ـ هل يرضيهم أن يفرض (السلام) مع كل أعداء الإسلام، وتشن حروب الإبادة فقط على عباد الرحمن؟
ـ وهل يفرحون بانتشار الكنائس في جزيرة العرب التي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يجتمع فيها دينان..؟
ـ وهل يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتتم العودة عن الحجاب، استجابة لدعاوى التحرير والتغرير؟
ـ وهل يغتبطون باستمرار استبعاد الشريعة بحكم الدولة والقانون، ولا يبقى منها إلا نصوص مجمدة في صدور بعض الدساتير..؟
ـ وهل تنشرح نفوسهم عندما يرون التعليم والإعلام يمسخ أجيال الأحفاد بعدما دمر كثيراً في أجيال هي الآن آباء وأجداد..؟
ـ وهل يرغبون في أن تظل فئام من الأمة تأكل الربا أضعافاً مضاعفة، معرّضين أنفسهم والناس معهم لحرب من الله ورسوله..؟
لا نظن الدعوة لهذا وغيره في بلاد المسلمين تصدر إلا من دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ فإن كان الليبراليون العلمانيون اللادينيون لا يستنكفون عن هذا الوصف لأنفسهم، فلا نظن أن الليبراليين «الإسلاميين» يجهلون أن هذه هي أبرز معالم البرنامج الذي يريد به الأعداء أن يردونا به إلى الوراء.
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89].
اللهم اهدنا جميعاً سواء السبيل.
=============(31/310)
(31/311)
(ديموقراطيّة أمريكا) و (ليبراليّة طالبان)
نواف القديمي 3/5/1427
30/05/2006
يمكن لي أن أفهم لماذا قتل ستالين الملايين ترسيخاً لعقيدة شمولية دموية .. وأستطيع أن أجد تفسيراً لطبيعة الدوافع التي سفكت دم الملايين في معارك إثنية طاحنة بين الهوتو والتوتسي .. وبإمكاني أن أتفهم مسوّغات حركة طالبان في تطبيقها لنموذج ديني متشدد .. لكنني لم أستطع ـ حتى الآن ـ أن أستوعب كيف يكون القتل باسم الديموقراطية، والدمار تحت شعار الدفاع عن الحرية!!
أعتقد أن الولايات المتحدة لم تمر في تاريخها بحالة من التشوّه الأخلاقي كما باتت عليه اليوم "أمريكا بوش".
صار الحديث عن "ديموقراطية أمريكا" أشبه بالحديث عن "ليبرالية طالبان".
تحاصر ليبيا عشر سنوات كي تدفع لها عشرين مليون دولار عن كل "رأس" أمريكية سقطت في تفجير لوكربي .. ثم ترمي بورقتين قذرتين من فئة المئة دولار (وفقاً لتسعيرة حقوق الإنسان الأمريكية) لقيمة الرأس الأفغانية، بعد أن قتلوا خمسين منهم في قصف جوي "خاطئ" ـ ولكنه محمل بالنوايا الحسنة!! ـ على قافلة عرس قروية.
وتريد أن تحرر الشعب العراقي من طاغية قام بقتل بضعة آلاف في فترة حكمه الممتدة ثلاثين عاماً، وذلك عن طريق إشعال حرب راح ضحيتها مائة ألف قتيل في ثلاث سنوات!!
وفي الوقت نفسه الذي تحاكِم فيه "العدالة الأمريكية" ذات الطاغية على إعدام (148) شخصاً حاولوا اغتياله في الدجيل تقوم بسفك دماء ثلاثة آلاف مواطن بريء في الفلوجة سقطوا ـ دون قصد!! ـ أثناء بحثهم المشروع عن "الإرهابيين" المتورطين بمقاومة دولة تسميها الأمم المتحدة "دولة احتلال"!!
وفي الزمن الذي تسجن فيه المئات في معتقلات بشعة بغوانتنامو، وتقيم سجوناً سرية خارج دائرة القانون في أوروبا الشرقية تصدر تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان في العالم لتدافع فيه عن حق المرأه في قيادة سيارة!!
أمريكا باتت لا تحتاج مسوغاً قانونياً أو أخلاقياً لتفعل ما تريد .. صارت مثل الأب الذي لا يجوز لأبنائه محاسبته على أفعاله .. لذا فقد أخذت على عاتقها مطاردة الإرهابيين وتتبعهم، وفي حال وصلتها معلومات استخبارية ـ من نوع معلومات أسلحة الدمار الشامل في العراق ـ عن مكان يتواجد فيه "إرهابيون" ، فيتم التحقق من صحة هذه المعلومات عن طريق قصف القرية "المشبوهة"، فإن لم يكن الإرهابي المطارد أحد الضحايا العشرين الذين ماتوا في القصف ستعلم حينها أن المعلومات التي وصلتها "غير دقيقة"!!
ولأنها تؤكد دائماً صرامتها في الدفاع عن حقوق الإنسان فقد قامت بإجراء رادع حين حكمت على مجند أمريكي بالسجن لـ "ثلاث سنوات!!" لكونه تسبب في قتل عراقي عن طريق خنقه في كيس قذر حتى الموت .. وفي الوقت نفسه حكمت بالسجن "مائة وعشرين عاماً" على رجل ـ لم يسرِ في عروقه نقاء الدم الأزرق ـ لأنه أساء معاملة خادمته التي تعمل عنده منذ تسع سنوات!!
أنا مازلت لا أفهم لِم تتم المناورات التدريبية لـ (FBI) داخل الأحياء السكنية حين يشن ثلاثون عنصراً مسلحاً هجوماً في منتصف الليل على منزل صغير؛ ليقوموا بالقبض على رجل عربي بسيط ـ مع زوجته وأطفاله ـ ربما لا يعرف الفرق بين رجال الاستخبارات ورجال الإطفاء.
ولكن ذلك لا يهم .. لأن أمريكا ستضمن له كامل حقوقه، وهو يعيش في زنزانة انفرادية يمارس فيها كافة حقوقه الديموقراطية والليبرالية في انتظار أن يتأكد رجال الأمن من أنه لا علاقة له بالإرهاب، على ألاّ تتجاوز مدة انتظاره خمس السنين!!
على الرغم من كل ذلك سأحاول أن أتفهم هذه الممارسات الأمريكية .. شيء وحيد أظنه يتأبّى على الفهم .. هو حين يجلس مثقف أمريكي على طاولة المحاضرات ليتساءل وهو يحتسي القهوة بكل براءة:
(لماذا يكرهوننا)؟!
=============(31/312)
(31/313)
الليبراليون .. غربة الدين والوطن
د . محمد بن سعود البشر 13/4/1427
11/05/2006
الليبراليون المسْخ على فريقين: إما مولع برموز الفجور الفكري، والعهر الأخلاقي في الخارج .. وإما عميل يتردّد على الأجنبي في الداخل، وكلاهما مُفرط في الدين .. خائن للوطن..
كنت أحسن الظن في بعض المثقفين الذي يتشرفون بأن يصنفهم المجتمع ضمن (التيار الليبرالي)، فإن غابت الغيرة على الدين في لقاءاتهم ومنتدياتهم فإن الغيرة على الوطن حاضرة في أطروحاتهم الفكرية، ورؤاهم الثقافية، ومشاعرهم الوجدانية.
حسن الظن هذا نسفَتْهُ بعض مواقف هؤلاء في غير مناسبة ثقافية أو لقاء فكري.
في جمع ثقافي، قال أحدهم:
ندعو (محمود درويش) ليأتي إلينا .. هو علم، وله جماهير، وسيأتي إلينا جمع غفير من داخل بلادنا وخارجها .. واستطرد مادحاً حتى قلنا ليته (سكت).
صوت عاقل يجيب:
كيف تدعون من يسبّ الله، والرسولل، ويشتمكم، ويسب بلادكم، بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ..؟! إن لم تكن بكم غيرة على الدين، فلتكن غيرة على وطنكم .. إني لأعجب منكم أيها الليبراليون السعوديون: كيف أكون أكثر غيرة منكم على بلادكم ..؟!
آخر يتفاعل:
لقد وجهتم إليه الدعوة للحضور .. فرفض .. فلماذا التملّق والتميّع ..؟! ولماذا تصرّون على دعوة من يسب الله والرسولل والمؤمنين، ويستهزئ بنا وبوطننا؟! لا أظن أن هناك (شريفاً) يرضى أن يُسبّ أبوه في داره؟!
هذان فريقان ليبراليان متطرفان .. وبينهما فئة متميّعة، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً .. يتقلّّبون كما الليل والنهار .. يبيعون آخرتهم وانتماءاتهم بعرض من الدنيا، يخالفون ما عليه إجماع الأمة، فإن أُعطوا من الدنيا رضوا، وإذا لم يُعطَوْا منها تحدثوا وكتبوا، وناقشوا، وخالفوا ليدخلوا في دائرة المؤلفة قلوبهم ..!!
الليبرالية في الغرب: علمانية التوجة، وطنية الإنتماء ..
والليبرالية في بلادنا تجمع غربتين: غربة الدين وغربة الوطن ..
وهذا هو (المسْخ الحقيقي) ..
ليست هذه حماسة جيّاشة .. أو تصعيد في الظن أو اجتهاد خاطئ .. بل إن أسماءهم .. وأشخاصهم .. وهيئاتهم حاضرة في الذهن، تذكّرني بقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ..).
==============(31/314)
(31/315)
نقض دعوى حرية الرأي
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين؛ خلق الخلق فأحاطهم بقدرته وعلمه، وقضى فيهم بحكمه وحكمته {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } نحمده على جزيل عطائه، ونشكره على عظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله ؛ أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وقضى بهيمنة دينه على كل الأفكار والملل، والآراء والنحل {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أنقى هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم أعمالا، أخلصوا لربهم، واتبعوا نبيهم، ونصروا دينهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإنكم في زمن كثرت فتنه، واشتدت محنه، وازدادت غربة الدين وأهله فيه، فتمسكوا بدينكم ولو تفلت الناس منه، والزموا هدي نبيكم r ولو أحدثوا فيه؛ فإن العبد يسأل يوم القيامة عن عمله لا عن عمل غيره {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ }.
أيها الناس:(31/316)
يحتكم البشر فيما بينهم في كل زمان ومكان إلى ما يرتضونه من شريعة أو عرف أو قانون؛ فأتباع الشريعة الربانية لا يرضون بغير شريعة ربهم حكما بينهم، فهي قانونهم ونظامهم، يقفون عند حدودها، ويلتزمون قيودها. وأهل الشرائع المحرفة أو المبدلة يفعلون ذلك فيما ارتضوه من شرائعهم، والملاحدة لهم قانون يلتزمونه فيما بينهم، بل إن جهلة الناس من أعراب الصحراء، ومن يعيشون في الأدغال، ولم يطلعوا على شيء من الحضارات والمعارف لهم أعرافهم وأنظمتهم التي ينظمون بها شئونهم، ويعرف أفرادهم بواسطتها حقوقهم، ولا يوجد بشر مهما كانوا ليس لهم نظام ولا قانون يلتزمونه، وهذا من أبين الأدلة على أن الإنسان مفتقر للعبودية، فإما أن يكون عبدا لخالقه سبحانه، وإما أن يكون عبدا لمخلوق مثله، ولا يوجد شيء في الأرض يسمى حرية مطلقة لا في الأفعال ولا في الأقوال. خلافا لما يزعمه الزاعمون من أن الإنسان ولد حرا بلا قيود عليه فله أن يدين بما يشاء، وأن يفكر كيف يشاء، ويقول ويفعل ما شاء، ويكتب وينشر ما شاء، وهذه كلها دعاوى عريضة ليس لها وجود في واقع البشر لا في زماننا هذا ولا قبله، ولا في دول الشرق ولا في دول الغرب، بل الموجود في كل زمان ومكان وفي كل الدول وعند كل البشر أنظمة وقوانين تضبط أقوال الناس وأفعالهم، وليس من حق أحد في أي جزء من الأرض أن يقول ما يشاء، أو يفعل ما يشاء، أو ينشر ما يشاء. وفي شريعة الإسلام للعبد حدود في أقواله وأفعاله لا يجوز له تجاوزها وإلا حوسب عليها في الدنيا والآخرة {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} وفي آية أخرى {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي آية ثالثة {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ }.وفي الإسلام ليس للإنسان أن يقول ما يشاء، أو يكتب ما يشاء، أو ينشر ما يشاء؛ فقد يقول كلمة أو يكتبها أو ينشرها فيكفر بها، ويستحق القتل بسببها، وقد يقول السوء في شخص فيجلد حدا أو تعزيرا. فإن لم يكن مسلما فليس له أن يسب الله تعالى أو رسول صلى الله عليه وسلم أو دين الإسلام وإلا استحق القتل. وليس له أن يقذف بالسوء أحدا من المسلمين وإلا عوقب. هكذا يؤاخذ الإنسان بما يقول وبما يكتب مسلما كان أم كافرا. والرأي أو الكلمة التي يزعم بعض الناس أن الإنسان حرٌ فيها قد تودي بالإنسان إلى النار، وتستجلب غضب الجبار جل وعلا وهي مجرد كلمة أو رأي قاله؛ كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) رواه مسلم، وفي لفظ للترمذي (يهوي بها سبعين خريفا في النار) ولما أمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يكفوا ألسنتهم عما لا ينفع من الكلام قال له معاذ رضي الله عنه: (وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) رواه الترمذي وصححه.وفي كل قوانين البشر الوضعية المعاصرة ضوابط لما يقال وما يكتب وما ينشر، وعقوبات لتجاوز هذه الضوابط خلافا لما يزعمه دعاة الحرية بأثوابها الغربية في بلاد المسلمين؛ ولذا قرنوا في تعريفاتهم للحرية بين الحرية والمسئولية، وجعلوا حرية الشخص تنتهي عند حرية الآخر، وجعلوا من ضمن الأذى الممنوع في باب حرية الرأي: الأذية بالقول أو الكتابة، كالكذب على الأشخاص أو النميمة فيما بينهم أو نشر إشاعة مغرضة تضر ببعضهم، وقوانينهم تعاقب على كل هذه التصرفات التي يسمونها غير مسئولة، ولا يجيزونها بدعوى حرية الرأي أو حرية الكتابة والنشر. وكم سمعنا من قضايا رفعت على أقوام تسمى دعاوى التشهير.ولو صاح بالناس إنسان في أكبر بلاد الدنيا حرية أن حريقا قد اشتعل بالقرب منهم، أو أن قنبلة قد وضعت في طائرتهم وكان كاذبا متعمدا للكذب لعوقب على ذلك؛ لأنه من باب الأذى للناس وترويعهم، والإزعاج للسلطات المسئولة، ولا تشفع دعوى حرية الرأي، أو محبة المزاح لصاحبها في مثل ذلك، مع أنه لم يعتد على أحد لا بقول ولا بفعل.وكل دولة فيها من القوانين ما يُجَرِّم إفشاء الأسرار للدول الأخرى، وقد تصل عقوبة ذلك إلى القتل، مع أن مفشي الأسرار لم يتجاوز إلا أن قال قولا، أو كتب كتابا نبذه إلى من ينتفع منهم.ولو شهد شاهد على قضية ثم اتضح كذبه في شهادته لعاقبته كل قوانين القضاء في الأرض، شرعية كانت أم وضعية، مع أنه بشاهدته لم يخرج عن إطار القول، وبعض الناس قد يكون مولعا بشهادة الزور، أو يتأكل بها، ولم يقل أحد من العالمين إن شهادة الزور تجوز من باب حرية الرأي.وفي البلاد الغربية تمنع الكتب، وتحجب المقالات، وتُقَيَّدُ حرية الرأي والكتابة والنشر، إذا خالفت سياسة المهيمنين على الأحزاب المتنفذة ، أو كان فيها فضح لممارساتهم، أو تجييش للجماهير ضدهم، أو كان فيها ما يعكر على مشاريعهم الاستعمارية، وفي الدولة الليبرالية الأولى في العالم منعوا كتاب الخديعة الكبرى؛ لما فيه(31/317)
من تشكيك فيما يسمى بأحداث سبتمبر، مع أنه لا يعدو أن يكون رأيا رآه صاحبه، وحلل الحدث بموجب رأيه.ولما وقفت الصحفية الأمريكية ريتشل كوري أمام بلدوزر يهودي في محاولة منها لمنع سائقه من تدمير منزل فلسطيني، فدهسها البلدوزر عن عمد ثم عاد إلى الخلف ليدهسها مرة أخرى، لما فعلت ذلك وفقدت حياتها ثمنا لذلك تفاعل مع موقفها هذا زميلة لها فأرادت أن تعمل مسرحية باسمها، فمنعت من ذلك في بلاد الحرية التي يؤمها دعاة الحرية عندنا، وهذا المنع الذي يعد اغتيالا لحرية الرأي علق عليه أشهر الصحفيين الإنجليز ساخرا وهو يقول: كانت شجاعة ريتشل من النوع الخطأ، وكانت تدافع عن حرية الشعب الخطأ.وباحثة أمريكية نصرانية درست كتب الشيخ المجدد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وخلصت في مقابلة لها إلى أن كتب الشيخ رحمه الله تعالى لا علاقة لها بما يجري في الأرض من عنف وإرهاب، فاتهمت بأنها وهابية وهي نصرانية، ولم تشفع لها حرية الرأي، وكونها باحثة متجردة في ذلك.ولن يجد أي سائح أو باحث في كل البلاد الغربية التي هي قبلة حرية الرأي في هذا العصر أي كتاب يشكك في المحارق النازية لليهود، أو يقلل من خسائرها، أو يوجد مسوغات لها، ولو سولت لكاتب غربي نفسه أن يبحث عن حقيقة ذلك، وينشره على الناس لكان مصيره المحاكمة والسجن، ولحوسبت دار النشر التي تنشر له، ولسحب كتابه من الأسواق تحت دعوى معاداة السامية، مع أن ذلك لا يخرج عن مجرد الرأي والبحث.وقد أوذي في سبيل ذلك عدد من الباحثين والمؤرخين والصحفيين الغربيين.وفي البلاد الأولى في الحرية فصلت مؤرخة أمريكية من مجلس النواب لمجرد أنها قالت: وجهة نظر النازيين بصرف النظر عن عدم شعبيتها لا تزال وجهة نظر، ولا تأخذ حقها في التعبير.وفي كندا حكم قاض على امرأة بالسجن مدى الحياة لأنها ذبحت زوجها بسكين، ثم علق على بشاعة جريمتها بقوله: لقد ثبت أن المرأة تستطيع أن تكون أكثر عنفا من الرجل، حتى النازي لم يعذب ضحاياه اليهود قبل قتلهم. فثارت ثورة الجمعيات النسوية واليهودية عليه حتى أفقدته منصبه بسبب هذا التعليق البسيط الذي لا يخرج عن كونه رأيا رآه. وحوسب أستاذ جامعي في فرنسا لأنه أنكر أن يكون الأرمن قد تعرضوا لإبادة جماعية على أيدي القوات العثمانية في القرن الفائت. وكم من كتب في بلاد الغرب صودرت، ومقالات حجبت، وكم من كُتَّاب حوسبوا وسجنوا على قضايا فكرية، وآراء رأوها، ولا سيما إذا تعلق ذلك باليهود وتاريخهم. وقد بان بهذه الحوادث -وغيرها كثير- أنه لا يوجد حرية مطلقة في الكتابة والنشر والرأي في أي مكان في الأرض، وأن الإنسان في الغرب قد يجرم ويعاقب على رأي رآه، أو كتاب أصدره، أو مقال نشره، أو قول أذاعه، إذا خالف قوانينهم، أو أزعج المتنفذين في بلادهم. أما إذا كانت الشتيمة تتعلق بمقدسات المسلمين فإنهم لا ينفكون أبدا عن الاحتجاج بحرية الرأي، والتلويح بها في وجوه الغاضبين عليهم، كما فعلوا لما أساء ملاحدتهم والمتعصبة منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والمسوقون لبضاعتهم الرديئة في بلاد المسلمين يرددون خلفهم كالبله والمعاتيه ما يلقونه عليهم من دروس الحرية دون نظر أو مناقشة أو سؤال عما ينتهكونه هم من حريات الرأي والنشر إذا لم يتوافق مع أهوائهم. وبهذا يتبين حجم من يزعمون أنهم مفكرون ومثقفون، وينتفخون على الناس بألقابهم التي لا تساوي شيئا أمام الحقائق، وهم يستوردون أسوأ البضائع الغربية؛ ليفرضوها في بلاد المسلمين بالاستبداد والكذب والتخويف. حمى الله تعالى بلادنا وبلاد المسلمين من شرهم وكيدهم، وردهم على أعقابهم خاسرين.إنه سميع قريب وأقول ما تسمعون.....
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ اصطفانا من عباده مؤمنين، وجعلنا من خير أمم العالمين، نحمده على ما اصطفانا واجتبانا، ونشكره على ما أولانا وأعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه قال تعالى {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
أيها المسلمون:(31/318)
يعتقد المؤمن أن الله تعالى هو الخالق المدبر، له الأمر وله الحكم في خلقه، لا رادَّ لأمره ولا معقب لحكمه، وأما البشر فهم عبيد مخلوقون؛ فوجب أن يكون لهم حدود ينتهون إليها ولا يجاوزونها في أقوالهم وأفعالهم وأفكارهم، ولكن الزنادقة يرفضون ذلك لأنهم جعلوا الإنسان مركز الكون والمتصرف فيه بما يشاء، وتلك هي الفكرة التي انطلق منها ملاحدة الغرب، ثم تلقفها عنهم ملاحدة العرب؛ ليبيحوا للإنسان بها فعل ما يشاء، وقول ما يشاء، واعتقاد ما يشاء، وأي قيود دينية أو أخلاقية أو عرفية على ذلك فهي مرفوضة عند هؤلاء الملاحدة؛ لأنها تعارض الحرية المقررة عندهم المبنية على فكرة تأليه الإنسان، وكونه مركز الكون. إنهم يصيحون في مجتمعاتهم وعلى حكوماتهم يطالبونهم بحرية الرأي، وحرية النشر، وتحطيم القيود الرقابية على ما ينشرونه من قيح أفكارهم، وردغة شهواتهم، سواء كانت قيودا دينية أم سياسية أم أخلاقية، مستشهدين بدساتير الغرب ومنظماته الحقوقيه، وكأنها الحق الذي لا باطل فيه، مع أنه قد بان لنا أن حرية الرأي والنشر في البلاد الغربية لا تخلو من انتقائية ظالمة، وليست مطلقة من كل القيود. ثم إن هؤلاء المنحرفين التي ابتليت بهم أمة الإسلام يمارسون ما هو أبشع من انتقائية الغرب، فلا يسمحون لأحد بانتقادهم ولا مناقشة أفكارهم، ولا منع خبالهم، ويفرضون فكرهم الخبيث على جمهور المسلمين بأشد جرائم التزوير والاستبداد، والإقصائية والإرهاب. إنهم يزعمون أنهم لا يرتضون في باب حرية الرأي الكذب على الناس، والتشهير بهم، وبث الشائعات المغرضة ضدهم، وهم يفترون الكذب على العلماء والدعاة والصالحين، ويشهرون بهم، ويختلقون الإشاعات عليهم.ويزعمون أنهم لا يبيحون في باب الحريات أذية الغير ولو بالرأي، وأي أذى أعظم من أذيتهم للمؤمنين في ربهم جل جلاله وقد روجوا لكتب إنكاره، وزعم موته والانتصار عليه تعالى الله عن إفكهم علوا كبيرا، وآذوا المؤمنين في الملائكة والرسل عليهم السلام ففسحوا لكتب السخرية بهم، وتكذيبهم، وآذوا المؤمنين في شريعة ربهم فملئوا معرضهم بكتب الطعن فيها وانتقاصها وردها وتكذيبها وتحريفها.ناهيكم عن روايات الإثم والفجور، وكتب العهر والشذوذ، ودواوين الفسق والمجون لأشهر زنادقة العرب والعجم، تعرض للمراهقين والمراهقات والنساء والرجال، وكأنهم يسوقون بضاعتهم الرديئة على قوم لا يؤمنون بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكأنهم لا يعرفون منهم إلا أنهم شهوانيون منحرفون لا يطفئ سعارهم إلا كتبهم ودواوينهم ورواياتهم المنحلة الهابطة، فأي إهانة أهانوها لجمهور المسلمين؟ وأي جريمة اقترفوها في حق البلاد والعباد باسم حرية الرأي وحرية النشر.عاملهم الله تعالى بما يستحقون. إنهم باسم حرية النشر، وحرية الرأي قد روجوا للكتب والرويات والدواوين التي تطعن في جلال الله تعالى وعظمته، وتسخر من ملائكته ورسله، وتكذب كتبه وشرعه، وتبيح الفواحش بأنواعها. إن هؤلاء المنحرفين الشهوانيين يعظمون البشر أشدَّ من تعظيم الله تعالى، هذا إذا كانوا يعظمونه، ويحترمون الإنسان كإنسان أكثر من احترامهم للملائكة والرسل والصحابة وسلف هذه الأمة، فهم لا يجيزون شتيمة الناس بعضهم لبعض، ولا الكذب عليهم، ولا السخرية بهم، ولا بث الشائعات المغرضة عنهم، ولو من باب حرية الرأي وحرية النشر، ولكنهم يجيزون الكذب على الله تعالى وعلى ملائكته ورسله عليهم السلام، ويجيزون الطعن في خيار هذه الأمة وسلفها الصالح، ويكذبون بالثوابت والمسلمات، ويسفهون النبوءات والديانات، ويدمرون الفطرة والأخلاق.وإذا كان الله تعالى قد نهى عن سب آلهة المشركين مع استحقاقها للسب لئلا يسبوا الله تعالى {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} فكيف إذا بفسح الكتب التي تسب الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله لتأخذ مواقعها في بيوت المسلمين ومكتباتهم.اللهم إنا نبرأ إليك مما قالوا ومما فعلوا ومما نشروا، اللهم إن أنزلت عذابا فخصهم به ولا تجعله عاما على عبادك، اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، وفساد المفسدين، وتربص المتربصين، وردهم على أعقابهم خاسرين، أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
=============(31/319)
(31/320)
هل يعود الليبرالي إلى عباءة "الشيخ الإصلاحي"
محمد أبو رمان 3/4/1427
01/05/2006
ثمة رهانات واسعة النطاق لنخب عربية وغربية على إخفاق تجربة الإسلام السياسي وأفولها في المرحلة القادمة، وتقيم هذه النخبة دعوى الرهان على حجج ورؤى فكرية وسياسية مختلفة. فعلى الصعيد العربي لا يزال مفكرون في التيار اليساري يرون في الحركات الإسلامية قوة متحالفة مع الإمبريالية العالمية ضد المشروع التقدمي والطموح الاقتصادي العربي بالتحرر من التبعية والهيمنة الغربية وتسلط المركز الرأسمالي. أمّا الليبراليون العرب فيرون-تبعاً لنخبة من المستشرقين الكبار- أنّ العالم العربي أمام خيارين متناقضين مختلفين؛ إما الأصولية الإسلامية وإمّا الليبرالية والفردية والحرية، وطالما أنّ الأصوليين أصحاب شعارات جوفاء فإنّ الواقع كفيل بكشف عجز المقاربة الإسلامية عن مواجهة مشكلات الواقع.
وتتوافق رهانات نخب غربية واسعة مع الرؤى السابقة؛ إذ يرى مستشرقون وباحثون غربيون أنّ الانتشار والصعود الإسلامي لا يعكس إلا روح الإحباط وضعف المعرفة العلمية الموضوعية، والواقع العام المترهل على الصعيد السياسي- الاقتصادي. وفي حال سيطر الإسلاميون على السلطة في دول عربية فلن تطول تجربتهم.
مشكلة هذه الرهانات أنّها تختزل قراءة الحل الإسلامي بالحراك الذي يتم على السطح السياسي دون إدراك حقيقي للجذور الاجتماعية الراسخة له عربياً وإسلامياً، التي تجعل العلاقة بين المجتمعات العربية والإسلامية وبين المشروع الإسلامي علاقة عضوية. أمّا التنبؤ بإخفاق الحل الإسلامي قياساً على التجارب القومية والاشتراكية العربية فهو قياس مع الفارق؛ فتلك التجارب وليدة شروط تاريخية- نفسية مغايرة تماماً لمقتضيات البيئة العربية- الإسلامية، التي ينطلق منها أصحاب المشروع الإسلامي.
الملاحظة الرئيسة التي تغيب عن المبشرين بإخفاق الحل الإسلامي أنّ الشعوب العربية والمسلمة لا تبني علاقتها بالإسلام على حسابات الربح والخسارة الواقعية، وإنما هي صلة روحية، لها وشائجها غير المادية، وربما يؤدي إخفاق الحركات الإسلامية وعجزها أو أزمتها في دولة وظروف تاريخية- سياسية معينة إلى مراجعة لسمات تلك التجربة وترجيح مقاربة إسلامية على أخرى، لا الرجوع عن الحل الإسلامي أو رفضه من الأصل.
ففي التجربة المصرية والجزائرية، على سبيل المثال، وجدت المجتمعات أنّ الحركات التي تتبنى الخيارات المسلّحة والمتشددة، في ردها على قمع السلطة، قد ورطتها في أزمات كبرى سياسياً واقتصادياً، وهو ما عزّز التفاف الجماهير حول الحركات "المعتدلة"، ولم يؤد - في المقابل- إلى انحسار المد الإسلامي ذاته. وفي التجربة التركية لم تُجْدِ كل محاولات "العلمنة القسرية" إلا في تأكيد الهوية الإسلامية للمجتمع وتعزيز حضور التيار الإسلامي وقدرته على تطوير مقاربته الأيدلوجية والتحلي بروح براغماتية أكبر.
إلاّ أنّ الجذور الاجتماعية للمشروع الإسلامي تتجاوز "الصلة الروحية" إلى خبرة تاريخية ممتدة مؤثرة وتراث عريض متراكم، عبر قرون طويلة، له حضوره في الواقع الشعوري والمعرفي للعرب والمسلمين. كما أن هناك تياراً واسعاً من المفكرين والأدباء والعلماء والفقهاء والمثقفين والمؤسسات الدينية والاجتماعية وشبكات وعلاقات اجتماعية كلها مبنية على التواصل الكامل مع المشروع الإسلامي.
إذاً الحديث عن تجاوز الحل الإسلامي في المجتمعات العربية غير واقعي، وبدلاً من ذلك لا بد من التفكير في ترشيد المقاربة الإسلامية وتطويرها، وهو ما يقودنا إلى مناقشة رهان خاسر آخر يتمثل بافتراض حالة من التناقض بين الديمقراطية وتطوير المجتمعات العربية والإسلامية وبين الحل الإسلامي. ويقوم - هذا الرهان- على عدم التمييز بين الخطابات الإسلامية على اعتبار أنّها في السياق العام تنبثق من خطاب تاريخي معادٍ لقيم الحداثة ويتخذ من الديموقراطية أداة للوصول إلى أهدافه السياسية بإقامة الدولة الإسلامية.
يتجاهل هذا الرهان مقاربات فكرية وسياسية إسلامية على درجة من الاجتهاد والمعاصرة والتواؤم مع روح العصر ومقتضياته. بل نجد أنّ كثيراً من الحركات الإسلامية اليوم تطور رؤاها، وتجدّد مشاريعها السياسية، وتقبل بكثير من القيم والأفكار التي كانت في السابق إمّا مرفوضة أو موضع جدل عنيف في الحراك الإسلامي الداخلي.
وتؤكد الدراسة الجديدة الصادرة عن مؤسسة (كارنيغي) للسلام بعنوان "الحركات الإسلامية والعملية الديمقراطية في العالم العربي: اكتشاف المناطق الرمادية" على أنّ الحركات الإسلامية قد طوّرت بالفعل خطابها السياسي باتجاه القبول بالقيم والمفاهيم الديموقراطية.(31/321)
وتستعرض الدراسة ما تسميه "المناطق الرمادية" في فكر الحركات الإسلامية، أي التي تمثل موضع جدل وخلاف غير واضحة. وتتناول، في هذا السياق، عدة قضايا ومفاهيم: القانون الإسلامي، استخدام العنف، التعددية السياسية، الحقوق المدنية والسياسية، حقوق المراة والأقليات الدينية، وتؤكد على وجود تطور في رؤية الحركات الإسلامية تجاه الموضوعات السابقة. وتصل - الدراسة- إلى أنّ الحركات الإسلامية المعتدلة سيكون لها دور كبير في صوغ المستقبل العربي على النقيض من الحركات الراديكالية، التي على الرغم من قدرتها على تحقيق الأذى ضد أناس كثيرين، إلاّ أنّها لا تمتلك أهدافاً سياسية واقعية. وفي ظل ضعف التيار "الليبرالي" فإنّ إدماج الحركات الإسلامية الإصلاحية في الحياة السياسية سيساهم في تعزيز مسارها الواقعي ودعم الحياة الديموقراطية في العالم العربي.
وإذا خرجنا من سياق الحركات إلى الخطاب الإسلامي ستكون الأمور أوضح تماماً؛ إذ إن هناك تياراً فكرياً عقلانياً يقدم مقاربة متقدمة على صعيد العديد من القضايا والمفاهيم، سواء على المستوى السياسي أو الثقافي الاجتماعي. لكن المشكلة الحقيقية ليست في الخطاب الإسلامي بقدر ما هي في النظم العربية الحالية، التي تمثل بحق حجر العثرة أمام حق المجتمعات والشعوب العربية بالديموقراطية، وهي التي تؤدي بممارستها وإخفاقها في إدارة أزماتها إلى تعزيز حضور التيار المتشدد وإضعاف التيار الإصلاحي المعتدل.
ما سبق يقودنا إلى الرهانات الناجحة والمفيدة؛ الأول هو القبول بالحركات الإسلامية المعتدلة ومنحها الفرصة للاندماج في الحياة السياسية وتطوير مقاربتها السياسية والفكرية، والثاني تمكين التيار الإصلاحي المعتدل من الإمساك بمفاتيح الإصلاح الديني لتحقيق اختراق ثقافي واجتماعي وتعريف الوظيفة السياسية والاجتماعية للإسلام. والرهان الثالث تطوير المؤسسات الدينية وكليات الشريعة وبناء مؤسسات فقهية حديثة لضبط الفتوى وبث الروح في مفهوم الاجتهاد والتجديد.
في التجربة الإسلامية الإصلاحية في بداية القرن الماضي كان هناك جهود حقيقية في مجال التنوير والاجتهاد، ويكفي رصد أن رموز الليبرالية الوطنية المصرية قد خرجوا من عباءة الإمام محمد عبده وتجربته في الإصلاح الديني
===============(31/322)
(31/323)
أزمة أوربا والمسلمين.. الحل في ليبرالية جديدة
ترجمة وتحرير: شيرين حامد فهمي**
…
20/02/2005
بريان يصف الليبرالية الأوربية بالتكنوقراطية
"في العقد الأخير، اجتاحت أوربا موجة عارمة من الكره الشديد - غير المبرر وغير المنطقي xenophobia - تجاه كل ما هو أجنبي، وتجاه كل ما هو غير أوربي". هكذا يرى الباحث الأمريكي "بيتر أو بريان" B r ien' Pete r Oالوضع الحالي في أوربا، وهو أستاذ متخصص في العلوم السياسية بجامعة T r inity بولاية "تكساس" الأمريكية، ووضع يده على حقائق كثيرة ودالة، تؤكد بدورها على مصداقية رؤيته، وتدلل على صدق مقولته. ومن ضمن هذه الحقائق - التي وضع يده عليها ثم وضعها بين أيدينا- استفتاء شعبي حديث، أظهرت نتائجه أن حوالي ثلث الأوربيين يصنفون أنفسهم على كونهم "عنصريين". ومن ضمن هذه الحقائق أيضا، اتجاه عدد متنام ومتصاعد من الناخبين والمصوتين الأوربيين صوب الجناح اليميني المتطرف، ففي فرنسا نجد أن الكتل التصويتية اتجهت بثقلها نحو "جان-ماري لو بان" Jean-Ma r ie Le Pen، وفي النمسا نجدها متجهة نحو "يورج هايدر" Joe r g Haide r ، وفي إيطاليا نجدها متجهة نحو "أومبيرتو بوسسي" Umbe r to Bossi. وفي ذلك يقول "بريان"، في مقال نشره المركز البحثي الأمريكي "معهد أوكلا الدولي" (UCLA Inte r national Institute): "لم يعد الأوربيون المعتلون بالفوبيا تجاه الأجانب يمثلون هامشا من الخبل أو ضربا من الجنون - كما كان الوضع من قبل - بل صاروا يتقلدون الآن المراكز الخامسة أو الرابعة من نتائج الانتخابات. فها هي دولة ليتوانيا (إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق) تنتخب صورة مصغرة أو مستنسخة من (جان-ماري لو بان)، وها هي امرأة نمساوية متعصبة لليميني المتطرف يورج هايدر تفوز بـ47.6% من نتائج التصويت النمساوي".
وتعتمد فرضية "بريان" على رفض الزعم القائل بأن أسباب هذه الـxenophobia قد تكمن في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أو قد تكمن في معدلات البطالة المرتفعة التي اجتاحت أوربا في السنوات الأخيرة. فكلا الأمرين لا يضعهما الباحث الأمريكي في الاعتبار، ولا يراهما مفسرا حقيقيا لموجة العداء الأوربي تجاه المهاجرين، وخاصة المسلمين منهم. ويدلل على ذلك قائلا: "إن معدلات البطالة في سبعينيات القرن العشرين كانت أشد وطأة، وعلى الرغم من ذلك لم ينتج عنها هذا النوع من الـxenophobia، هذا بالإضافة إلى أن الـxenophobia لم تنتشر فقط في أعقاب هجوم (القاعدة) في 2001، بل انتشرت قبله".
إذن، ما هو تفسير "بريان" لتلك الظاهرة المستفحلة في أنحاء أوربا؟ هذا ما سيتحدث عنه المقال الماثل أمامنا، من خلال عرضنا لرؤية جديدة حول قضية قديمة.. قضية "المسلمون في أوربا" التي عادت إلى الأضواء ثانية، أو التي كشفت عنها أحداث عالمية، بعد طول غياب. واللافت للانتباه - كما سنرى - هو الحل غير التقليدي الذي يقدمه "بريان" للقضاء على هذه الظاهرة، وهو حل يتعلق بتغيير الليبرالية التقليدية الرافضة للمنظومة الإسلامية على الإطلاق، وتحويلها إلى ليبرالية ما بعد حداثية Postmode r n libe r alism قابلة للإسلام، متعايشة معه، غير متعالية عليه.
رفض الإرث الليبرالي = xenophobia
إن فرضية "بريان" تقوم باختصار على المبدأ التالي: إذا ما تعرض الإرث الليبرالي الأوربي إلى الرفض من قبل أناسٍ، فإن أصحاب هذا الإرث يتحولون إلى أعداء لدودين لأولئك الناس. بلغة أكثر تفصيلية: إن هذا الإرث يعتمد - منذ عصر التنوير في القرن الثامن العشر - على منظومة عقائدية منسجمة ومتآلفة مع مجموعة من القيم العلمانية العقلانية، فإذا ما سرت هذه المنظومة في وسط أناسٍ يرفضون اعتناقها، فإن هؤلاء الليبراليين الأوربيين - أصحاب الإرث الليبرالي - يتحولون إلى كارهين ومعادين لأولئك الرافضين.
إن العقيدة الليبرالية - كما يوضح "بريان" - تقول "بأن المعارضين للنهج الليبرالي يتوقع لهم، في يوم من الأيام، التحول صوب الليبرالية العالمية؛ومن ثم أيضا، فإن فشل المسلمين في التحول الليبرالي، سيؤدي إلى فقدان الإيمان بالليبرالية، واعتناق ما هو ضد الليبرالية".(31/324)
ويعلق هنا "بريان" على تلك "الليبرالية" التي يشهدها في قلب الثقافة الأوربية - ليبرالية "بيكون" و"نيوتين" و"ديكارت" و"لوك" مشيرا إلى كونها قائمة في الأساس على الإيمان بكلٍ من العقل والعلم والإمبريقية البرجماتية (أي استلهام العلم فقط من واقع التجارب والملاحظات الحسية)، والإيمان خاصة بالحرية التي تقع في صلب النظرية الليبرالية. وتعتقد الأنظمة الليبرالية الأوربية أن كل حر لا بد أن يعود في النهاية إلى الإيمان والتيقن بما نظره وقاله هؤلاء "المنظرون العظماء" عن الليبرالية. ولكن الإشكالية التي تطرح نفسها هنا - والتي يطرحها "بريان" أيضا - تتمثل في التالي: ماذا لو أن هذا الحر لم يوافق على ما يقوله منظرو الليبرالية؟ هل سيتحول - بموجب ذلك - إلى كائن غير حر غير عقلاني؟.
إن "بريان" يأسف على وجود تلك القناعات المسَلم بها التي تذهب إليها الأنظمة الأوربية، فتغذي بها شعوبها عبر مؤسساتها، وأهمها طبعا المؤسسات التعليمية. ويأسف على استشراء تلك القناعات ليس في المجتمع الأوربي فقط بل في المجتمع الأمريكي أيضا، حيث باتت تصب جميعها في نظام جديد، أسماه "الليبرالية التكنوقراطية". وهو نظام يحتم على مسلمي أوربا تعديل عقولهم، وصبها في القوالب الليبرالية رغما عنهم، وهو ما يناقض القيمة الأساسية في النظرية الليبرالية، وهي قيمة الحرية. إلا أن ما نشهده على أرض الواقع - كما يقول "بريان" - أتى على عكس ما اشتهته وما زالت تشتهيه الأنظمة "الليبرالية التكنوقراطية"، فالمجتمعات المسلمة رفضت مبدأ تعديل العقول، مستبدلة به إياه مبدأ الانفصال التام عن كل ما يمت بالمنظومة الليبرالية الأوربية بصلة، من إقامة "جيتو" خاص بهم إلى منع أطفالهم من حضور المدارس الحكومية إلى... إلخ.
الإعلام يتجاهل المسلمين المعتدلين
كذلك ينتقد الباحث الأمريكي توجه الإعلام الأوربي نحو المتعصبين المسلمين - الذي يعيشون في أوربا - دون سواهم. ويتساءل: لماذا لا يركز الإعلام الأوربي مثلا على مسلمي أوربا المعتدلين الذين يتحدثون بلغة أكثر نضجا وعقلا؟ ولماذا لا يعكس الإعلام الأوربي المضايقات التي يتعرض لها هؤلاء المسلمون، والتي يصرحون بها على الدوام، ولكن دون فائدة؟.
وأولى تلك المضايقات - كما يقول الباحث - تتمثل في إحساس الكثير منهم بازدواجية المعايير، وبالتفرقة في المعاملة بينهم وبين غير المسلمين، حيث يرون أنهم لا ينالون نفس الحقوق والامتيازات التي ينالها غير المسلم. ويرصد "بريان" بعض الشكاوى التي صدرت عن بعض مسلمي أوربا، منها شكوى مسلم بريطاني يقول: "الإسلام لا يُسمَح له أبدا بالتحدث عن نفسه. فهم (يقصد الأوربيين) لا يرون (في المسلمين) إلا الإرهاب والديكتاتورية السياسية"، ومنها سؤال استنكاري لمسلم أوربي آخر، يقول فيه: "هل كانت ستمر مجازر البوسنة بسلام إذا ما كان الضحايا مسيحيين؟!"، ومنها اعتراض آخر على السلطات الأوربية التي تتسامح مع أحداث العنف التي تحدث في داخل الأسر المسلمة، بينما لا تتسامح مع نظيرتها في الأسر المسيحية، ومنها مقولة أحد المسلمين الفرنسيين: "إن المرأة الفرنسية إذا لبست غطاء رأس فهي تصير أنيقة، أما إذا لبست المرأة المسلمة غطاء رأس فهي تصير خطرا على الحضارة".
ويسجل "بريان" مثالا آخر عن ازدواجية المعايير - التي يعاني منها مسلمو أوربا - متناولا قضية المساجد الأوربية التي لا تحصل على نفس الحقوق التي تحصل عليها الكنائس الأوربية. ففيما عدا "بلجيكا"، لا تحصل المساجد على أي نسبة من الدعم المالي "الفضفاض" الذي تتلقاه الكنائس من الجهات الحكومية. هذا بالإضافة إلى المشاحنات التي تفتعلها الأجهزة الحكومية عند تشييد كل مسجد جديد. ويكفي القول - كما يصرح "بريان" - بأنه على الرغم من وجود 13-15 مليونا مسلما في أوربا، فإن معظم المساجد في أوربا تنشأ وتشيد بطريقة تجعلها تبدو في النهاية في شكل مزر للغاية. كما يكفي القول، بأنه بينما يسمح للعمال الأوربيين بأخذ وقت للراحة وسط أشغالهم لكي يدخنوا سجائرهم، فإنه لا يسمح للعمال المسلمين بأخذ نفس الوقت لكي يؤدوا صلواتهم.
وكما تجاهل الإعلام الأوربي انتقادات المسلمين المعتدلين للأوربيين الليبراليين كأشخاص، فقد تجاهل أيضا انتقاداتهم للنظام الليبرالي كنموذج. وقد انصبت تلك الانتقادات - كما يقول "بريان" - على السوق الحرة، التي تعتبر أحد إفرازات الليبرالية، والتي يرون فيها استعبادا للبشر لا تحريرا لهم. كما انصبت الانتقادات على طبيعة المجتمع الغربي التي أفرخت كما كبيرا من العنف والوحشية، حتى صار الإنسان فيها خاويا وحيدا. ويأسف الباحث الأمريكي على تجاهل الإعلام الغربي لمثل هذه الانتقادات، التي كان من المفترض طرحها للمناقشة والحوار.
التشبث بالحل الليبرالي.. آفة أوربا(31/325)
ومما يأخذه "بريان" على النظرية الليبرالية العلمانية، هو تصورها بأن نموذجها هو الحل الأوحد والوحيد لكل إشكالية أو معضلة. بل إن بعض الدراسات ذات الاقتراب الليبرالي تعتقد بأن عدم قدرة تفاعل المهاجرين - القادمين من المجتمعات التقليدية - مع المجتمعات الحديثة إنما هو ناتج عن الاضطراب الذي يصيبهم جراء هذا الانتقال المفاجئ، ويتمثل هذا الاضطراب في الصدمة الثقافية أو "عقدة الساعة المجمدة" f r ozen clock synd r ome. ومن ثم، يصير هناك - تبعا لنتائج مثل هذه الدراسات - فريقان: فريق الأوربيين العقلاء الذين يعيشون بالمجتمعات المدنية الحديثة، وفريق المسلمين الذين لم يصلوا بعد إلى كامل حريتهم وعقلانيتهم بسبب تغير نمط حياتهم المفاجئ.
ويرى "بريان" أن مثل هذه الاقترابات والأفكار لا تزيد المهاجرين المسلمين إلا بعدا عن النموذج الليبرالي. فتشخيص "عدم التفاعل أو الاندماج" nonassimilation مع المجتمعات الأوربية كاضطراب غير طبيعي، وكأنه داء أو مرض، سيشكل بدوره عائقا يحول بينهم وبين اعتناق الليبرالية. بل إن الكثير منهم يرفض التحرر ليبراليا، لكونه يرى في ذلك تهجما عليه. فحينما تفرض الحكومات الأوربية على مسلميها الاندماج مع المجتمعات الأوربية لكي يتمدنوا ويصيروا ليبراليين، فهذا معناه أنهم ليسوا ليبراليين، مما يمثل إهانة صريحة إليهم، كما أن تقبلهم لإعانات ومساعدات الدول الأوربية - من برامج الأمن الاجتماعي إلى التعليم المجاني - سيعني إقرارهم بكونهم غير ليبراليين، وأنهم بحاجة إلى "لبرلة" واندماج مع المجتمعات الحديثة المتمدنة، وهو ما يمثل إهانة أخرى إليهم. فهذه الإعانات والمساعدات لا تستهدف - في النهاية - إلا إدماج المسلمين كلية في المجتمعات الأوربية، دون تمكينهم من لعب أي دور حيوي، وأكبر دليل على ذلك، هو استبعادهم عن تصميم أو تخطيط أية مشاريع تخصهم.
وبسبب تلك النظرة الدونية لمسلمي أوربا، فإن "بريان" يتوقع مقاومتهم للبرلة والإدماج الكامل full assimilation الذي تخطط وتروج له الحكومات الأوربية منذ سبعينيات القرن العشرين. وستكون نتيجة هذه المقاومة، دق ناقوس الخطر لدى الليبراليين، الأمر الذي سينبئ حتما بانقلاب الحكومات الأوربية على النهج الليبرالي وعلى القوانين الليبرالية بل على المنظومة الليبرالية برمتها، وانتهاجها لسياسات غير ليبرالية ضد المهاجرين المسلمين.
الحلول الأربعة
وفي نهاية مقاله، يعرض "بريان" أربعة حلول ممكنة لفك الخلاف القائم بين الليبرالية العلمانية من جهة، وبين الإسلام في أوربا من جهة أخرى. وهذه الحلول هي:
• الليبرالية التكنوقراطية: حيث تستمر أوربا على إصرارها في إدماج المسلمين إدماجا كاملا، إلا أن هذا الحل قد تم تجريبه على امتداد العقود الثلاثة الماضية، ولم يسفر عنه أي نجاح.
• الليبرالية النقية: حيث تسرع الحكومات الأوربية بإعطاء المسلمين حقوقهم كاملة، بحيث يصيرون مواطنين كاملي الأهلية، مع الاعتبار بأن نفس هذه الحقوق يمكن استخدامها من قبل المسلمين للترويج ضد الليبرالية.
• الليبرالية القوية: حيث يتم إخراس مسلمي أوربا وجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، وذلك في إطار نظرية صاموئيل هنتنجتون عن صراع الحضارات. معظم مؤيدي هذا الاقتراب ينادون أيضا بإخراس صوت الأوربيين اليمينيين العنصريين، إلا أن "بريان" يرى في هذا الاقتراب تأييدا واحتضانا للمسلمين الليبراليين الذين سيقبلون بهذا النوع من المواطنة من ناحية، وقمعا للمسلمين الذين سيرفضون اللبرلة من الناحية الأخرى.
• الليبرالية ما بعد الحداثية: وهو الحل المحبذ لدى الباحث، الذي يؤمن بتواجد الرؤيتين الميتافيزيقيتين بجانب بعضهما، دون أن تسود رؤية على الأخرى. فالرؤية الإسلامية ستقف جنبا إلى جنب مع الرؤية الليبرالية العلمانية. وفي نهاية حديثه يقول: "لا تستطيع أن تغير اعتقاد المسلمين، ولا تستطيع أن تحتويهم، ولكن هذا لا يهم. فأوربا دون رؤية دينية سائدة لن تكون أسوأ مما نحن عليه الآن".
والسؤال المطروح الآن هو: هل يمكن فعلا لهذا الحل الأخير أن يطبق على أرض الواقع؟ وهل يمكن للحكومات الأوربية أن تتقبل هذه الليبرالية الجديدة؟ وأن تقبل بوجود المنظومة الإسلامية كما هي، دون تغيير أو تعديل؟.
=============(31/326)
(31/327)
سنن الله تعالى في التدافع
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً). أما بعد.
فإنّ خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هديمحمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس
إنّ سنن الله تعالى في عباده لا تتبدل ولا تتغير، ولا يمكن لأيّ قوة مهما بلغت أن تعطل لله تعالى أمراً، أو ترد له قدراً، أو تبطل سنة من سننه: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً). (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ). (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).
ومن سنته تبارك وتعالى أنْ قدَّر التدافع بين الإيمان والكفر، وبين العدل والظلم، وبين الحق والباطل: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً).
ومن سنته سبحانه وتعالى أن شرع للمؤمنين مدافعة الكفر وأهله، ومقارعتهم بالحجة والبرهان، ومقاتلتهم باليد والسلاح.
لقد كانت سنة الله تعالى في الأمم الغابرة إهلاك المكذبين بعذاب من عنده؛ كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعاداً بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل، وقوم شعيب بيوم الظلة.
فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام، وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق أنزل التوراة على موسى عليه السلام، وشرع فيها قتال الكفار، وكان ذلك أولَ أمرِ الجهاد في الشرائع الربانية، واستمر في بقية الشرائع بعده على ذلك، وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى).
وسيظل الجهاد قائما إلى آخر الزمان إلى أن يجاهد المسيح ابن مريم عليه السلام والمؤمنون معه الدجال وأتباعه من اليهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "بُعثتُ بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري". [رواه أحمد].
وبيّن r أن الجهاد باق إلى يوم القيامة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم". [رواه البخاري].
وكان من سنة الله تعالى لما شرع الجهاد، وكلف العباد به: أنْ جعل الأيام دولاً بين الحق والباطل، فتكون الغلبة لأهل الحق تارة، وتارة أخرى تكون لأهل الباطل؛ وذلك ابتلاءاً وامتحاناً للعباد، وتمحيصاً للقلوب، وتمييزاً للثابت على الحق من الناكص على عقبيه، المبدل لدين الله تعالى.
وإنّ الحكمة من هذه السنة الثابتة منصوص عليها في القرآن أيضاً: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
وفي الآية الأخرى: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
وفي براءة: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وفي العنكبوت: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).(31/328)
وفي القتال: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ).
وفي آخر السورة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ).
ثم كان من سنة الله تعالى أن كتب الغلبة لأهل الحق والإيمان والعدل على أهل الباطل والكفر والظلم، ولكن بشرط أن يكونوا قائمين بأمر الله تعالى، ناصرين لدينه، مستمسكين بشريعته، فإن غلبهم أعداؤهم فبسبب تقصيرهم في دينهم، ومعصيتهم لربهم.
وهذه السنة العظيمة جاءت بذكرها آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، بل أقسم عليها الرب جل جلاله في قوله سبحانه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وفي آيات أخرى كثيرة: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً). (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
ولكن إن أخلَّ أهل الحق بهذا الشرط المتمثل في نصر الله تعالى بالاستمساك بدينه، وتعظيم شريعته، والعمل بها، فقدوا سبب النصر، وعوقبوا بالذل والهوان، وتسلط الأعداء؛ تذكيراً لهم وتأديباً، لعلهم إلى ربهم يرجعون، وبدينهم يستمسكون، وعن المعاصي ينتهون.
وهذا التأديب والتذكير ذاق شدته ومرارته أفاضل هذه الأمة، فحين عصى الرماة في أحد أمر الرسو صلى الله عليه وسلم ، انقلب ميزان المعركة لصالح المشركين، وكف الملائكة عن القتال إلا حمايةً للنبي r، وأصاب المسلمين كربٌ شديد، وألمت بهم محنة عظيمة، وأحاط المشركون ب صلى الله عليه وسلم في نفر قليل من الصحابة رضي الله عنهم، وشُجَّ رأسُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وكُسِرت رباعيته، وهُشِمت البيضة على رأسه، وأشاع المشركون قتله، وقُتل سبعون من خيار الصحابة رضي الله عنهم، ومَثَّل المشركون ببعضهم، وأُصيب أهلُ المدينة في آبائهم وأزواجهم وإخوانهم وأولادهم، وأنزل الله تعالى آيات كريمات تبين أن معصيتهم هي سبب مصابهم (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). إلى أن قال سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
إنّها حقائق من رب العالمين، وإخبار العليم الخبير، وليست تكهنات كهّان، أو استنتاجات خبراء، أو تحليلات سياسيين، أو تخبّطات صحفيين، لا يرى أكثرهم أبعد من أنوفهم، ولا يدركون سنن الله تعالى في خلقه، ولا يحسنون التلقي عن كتابه الكريم.
إن الذلّ والهوان قد أصاب المسلمين في هذا الزمان على أيدي كفرة أهل الكتاب من بني إسرائيل، من عباد العجل وعباد الصليب، الملعونين في كتاب الله تعالى على لسان أنبيائهم داود وعيسى ابن مريم عليهم السلام؛ فاستباحوا الديار، واحتلوا البلدان، ونهبوا الثروات والتفوا على القرارات، وصاروا يلعبون بالمسلمين ذات اليمين وذات الشمال في مجالس ومنظمات أُسست على الباطل، وكانت قائمة على الظلم وراعية له منذ نشأتها إلى يومنا هذا.
لقد أقضت هذه الحال المزرية مضجع كل غيور على أمته، وراح الكُتّاب والباحثون يشخّصون المشكلة، ويبحثون أسبابها، ويقترحون الحلول لعلاجها؛ فرأى أقوام منهم أن سببها تمسك المسلمين بموروثهم من دين وكتاب وسنة، وأن العلاج في اطراح ذلك، وأخذ دين الذين كفروا المتمثل في الديمقراطية والليبرالية، والحرية المزعومة، وهو ما تصيح به أكثر الإذاعات والفضائيات، ويُسَوَّدُ في الصحف والمجلات مع كل نازلة تنزل أو أزمة تتجدد، يريدون إخراج الناس من دينهم، وتجريدهم من مصدر عزهم وقوتهم، وتالله إن هذا لهو البلاء الماحق، والداء القاتل.(31/329)
ورأى آخرون أن ما أصاب الأمة المسلمة ما هو إلا بسبب الركون إلى الدعة والكسل، والتقاعس عن العمل في المجالات الدنيوية، ويكثر حديث هؤلاء عن البناء الحضاري، والتقدم التقني، ويتكرر في خطابهم استخدام المصطلحات الانهزامية، كمصطلحات السلام والتعايش والإنسانية ونحوها، وتجد استدلالهم بأقوال حكماء الكفار وفلاسفتهم أكثر من استدلالهم بالكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، حتى في مجالات الأخلاق والسلوك؛ مما ينم عن انهزام أمام المناهج المنحرفة، وانبهار بمنجزات الحضارة المعاصرة، وافتتان بالدنيا.
ويرى هؤلاء أنه لا مخرج للأمة إلا بتغيير العقلية القديمة المألوفة إلى عقلية جديدة واسعة الآفاق، متفتحة على الآخرين، ونهاية مقولاتهم تلتقي مع مقولات الطائفة الأولى، ولولا سابقة بعضهم في العلم والدعوة لربما نحو نحوها.
والحق الذي لا مرية فيه - إن شاء الله تعالى - أن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ما هو إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وهي التي أورثت التنازع والاختلاف، وهي سبب تسلط الظالمين والكافرين، وكل ما يُذكر من أسباب التخلف والضعف فمردّه إلى المعصية؛ لأنّ المسلمين لا يصلحون إلا بطاعة الله تعالى، ولا يُهزمون إلا بمعصيته.
وإذا كانت معصية واحدة في غزوة أحد أورثت ذلاً بعد عزّ، وقلبت المعركة من نصر إلى هزيمة، فكيف بمئات المعاصي التي تمتلئ بها بيوتنا وأسواقنا وأعمالنا؟!.
كم في المسلمين من معاصٍ سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية؟!.
كم فيهم من ظلم وعدوان، وبخس للحقوق، وتضييع للأمانات، وترك للواجبات، ومسارعة إلى المحرمات؟!.
يستوي في ذلك كبار القوم وأراذلهم.
إن الواحد من المسلمين لو أحصى ذنوبه في يومه وليلته، سواء فيما يتعلق بحقّ ربّه عز وجل، أو حق نفسه، أو حقوق الآخرين من والد ووالدة وزوج وولد، وذي رحم وجوار، وحقوق وظيفته وعمله، وحقوق رعيته ودولته وأمته، لو أحصى ذلك كله لعلم أنّ ذنوب يوم واحد كفيلة بحجب نصر الله تعالى، وتنزل عقوبته، وتسلط أعدائه.
فكيف إذا عدها في عام كامل، ثم جمع معها ذنوب إخوانه المسلمين؟!.
إنها الذنوب التي تورث الذل، وتسبب التنازع والفشل، وتؤدي إلى الضعف والعجز، وتدفع إلى حب الدنيا وضعف الهمة للآخرة، وليس بعد كلام الله تعالى في هذا الأمر كلام، واقرؤوا إن شئتم سياق الآيات من سورة آل عمران في مصاب المسلمين في أحد وأسبابه تعرفوا أثر المعصية على الأفراد والجماعة والأمة، كيف وهذا المعنى قد قرر في غير الحديث عن أحد في عدد من الآيات:
(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).
وقد خاطب الله تعالى نبي صلى الله عليه وسلم بذلك: (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ).
هذا هو الداء، والعلاج في التوبة من هذا الداء، والعودة إلى الله تعالى، أفرادا وجماعات، شعوبا وحكومات، وإلا كان المزيد من الذل والهوان، والظلم والاستضعاف نسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يردنا إليه ردا جميلا، وأن يعفو عن ذنوبنا، وألا يؤاخذنا بما كسبت أيدينا، ولا بما فعل السفهاء منا إنه سميع قريب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ كتب الذل والهوان على الكافرين، وجعل العاقبة للمتقين، أحمده حمداً يليق بجلاله وسلطانه، وأشكره على جزيل نعمه وإحسانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد.
فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه، واحذروا المعاصي فإنها سبب الذل والهوان، والجوع والخوف: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ).
أيها المسلمون
ربنا جل جلاله هو خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر، وبيده مقاليد كل شيء، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو على كل شيء قدير.
بيده سبحانه وتعالى الذلّ والعزّ، والنصر والهزيمة، وهو الذي يعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، ويرفع ويضع: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).(31/330)
من ابتغى العزة فليطلبها منه وحده لا شريك له، ولا عزة إلا في دينه الذي ارتضاه لعباده: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي: من أرادها فليطلبها بطاعته، بدليل قوله سبحانه بعد ذلك: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ).
ولا يضر المؤمن قدح الكفار والمنافقين في دينه، أو انتقاصهم له، فإن العزة فيه مهما قالوا: (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً).
ولما قال المنافق: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). كان الجواب: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
وبيّن سبحانه أن من والى الكفار يطلب العزة منهم فقد طلبها في غير محلها: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً).
وبيده سبحانه النصر والتأييد، ويُطلب ذلك منه، لا من أحد غيره، مهما علا قدره، ومهما بلغت قوته: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ). (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). (يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
أفبعد هذه الآيات المحكمات الواضحات يسوع لمؤمن بالله تعالى أن يطلب العز والنصر من غير الله تعالى أو يبتغيه في غير دينه، وقد قضى سبحانه بأن من نصره بالتمسك بدينه فسوف ينصره على أعدائه؟!.
أيسوغ لمسلم أن يقنط من رحمة الله تعالى وهو يقرأ كتابه؟!. أو ييأس من عودة القوة والعزة والكرامة للأمة المسلمة؛ لتحكم في الأرض بالعدل وقد امتلأت جورا وظلماً، وهو يعلم أن العاقبة للتقوى، وأن المستقبل لهذه الأمة، وأن دين الله تعالى عزيز رغم ضعف المسلمين؟!.
نحتاج فقط إلى التوبة النصوح التي يتخلص بها كل واحد منا من ذنوبه، ويستشعر مسؤوليته، ويحاسب نفسه، ويراقب الله تعالى في كل شؤونه، ويسعى في نصر المستضعفين من المسلمين في كل مكان بكل ما يستطيع من أنواع النصرة، مع ثقته بربه عز وجل، والإكثار من الدعاء والتضرع بين يديه سبحانه؛ فإن الدعاء سلاح لا يخطئ، وقوة لا تغلب، وما تسلّح الفاتحون من أسلافكم بسلاح أمضى منه.
سأل سليمان بن عبد الملك موسى بن نصير عليهم رحمة الله تعالى: "ما كنت تفزع إليه عند الحرب؟!". قال: "الدعاء والصبر".
ولما صافَّ قتيبة بن مسلم رحمه الله تعالى للترك، وهاله أمرهم سأل عن محمد بن واسع رحمه الله تعالى، فقيل: "هو ذاك في الميمنة، جامح على قوسه، يبصبص بأصبعه نحو السماء". قال: "تلك الأصبع أحب إليَّ من مئة ألف سيف شهير، وشاب طرير".
وكان صلاح الدين رحمه الله تعالى إذا سمع أن العدو داهم المسلمين خر ساجداً لله قائلاً: "إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل".
فثقوا بربكم -أيها المسلمون- وتعلقوا به، وتوبوا إليه، واسألوه فإنه سميع قريب مجيب.
وصلوا وسلموا على نبيكم.
===========(31/331)
(31/332)
لقاءات الباب المفتوح - (ج 233 / ص 13)
معنى كلمة (ليبرالي وعلماني) وحكم إطلاقهما على من يتفاخر بهذه التسمية:
السؤال: هل يجوز إطلاق لفظ علماني أو لبرالي على من يتفاخر بهذه التسمية ويقول: أنه علماني ولبرالي، ويعارض علناً تطبيق الشريعة. الشيخ: من هو اللبرالي؟ السائل: الذي يدعو إلى الحرية المطلقة بدون قيود.
الشيخ: الواجب على ولاة الأمور أن مثل هؤلاء القوم يحاكمون ويحكم عليهم بما يقتضي الشرع؛ لأن الذي يدعو إلى التحرر مطلقاً من كل قيد ولو كان دينياً هذا كافر، وما معنى أن نقول: أنت حر، صل أو لا تصل، صم أو لا تصم، زك أو لا تزكِ؟ معناه: أنه أنكر فريضة من فرائض الإسلام، بل فرائض الإسلام كلها، وأباح الزنا واللواط والخمر، فكيف يكون هذا مسلم؟!! هذا مرتد كافر، يحاكم فإن رجع إلى دين الإسلام وكف شره عن المسلمين وإلا فالسيف. أما العلمانيون فليس عندي تصور فيهم، وإن كان عندك تصور فصفه لنا ونفتي بما نرى أنه واجب؟ السائل: هم الذين يرون فصل الدين عن الدولة. الشيخ: هؤلاء أهون من الأولين؛ لأن هؤلاء أخطر، والدولة إذا لم تعمل بالدين فهي خاسرة، وسبحان الله العظيم كل آيات القرآن وأحاديث السنة كلها تدل على أن الإسلام هو الدولة، بمعنى: أنه يجب على الدولة أن تطبق الإسلام في نفسها وقوانينها وفي شعبها. وعلى كل حال: أنا أوصي إخواني المؤمنين حقاً أن يثبتوا أمام هذه التيارات؛ لأن الكفار الآن بما أعطاهم الله تعالى من قوة الصناعة والسيطرة على الناس صاروا يريدون أن يخرجوا المسلمين من دينهم بألفاظ تشبه الحق وليست بحق، كالعولمة مثلاً، العولمة معناها: أن الناس أحرار كلهم سواء، سوق عواصم الكفر وسوق عواصم الإسلام على حد سواء، بع ما شئت واشترِ ما شئت ولك الحرية في كل شيء، ولهذا يجب على المسلمين -على الحكام أولاً ثم على الشعوب ثانياً- أن يحاربوا العولمة، وألا يتلقوها بسهولة؛ لأنها في النهاية تؤدي إلى أن يكون اليهود والنصارى والمجوس والملحدون والمسلمون والمنافقون كلهم سواء، عولمة عالمية، فالواجب علينا نحن أن نرفض هذا الفكر. والحمد لله الحكام ربما إذا وجدوا الضغط من الشعب استجابوا له، حتى في الحكام الذين لا يبالون بتطبيق الشريعة، أما الحكام الذين يهتمون بتطبيق الشريعة وينادون لذلك في كل مناسبة فهؤلاء نرجو أن يكون الدواء في أجوافهم، لا يحتاجون إلى دواء من الخارج. وأنت أفدتنا الآن، اللبرالي نحن دائماً نسمع اللبرالي، فإذاً: معناها: التفسخ من الدين!
=============(31/333)
(31/334)
لماذا .... نكره...... اللبرالية ...؟
موسى بن ذاكر الحربي
ربما سمع البعض مثل هذه العبارة ( لماذا أنتم ضد اللبرالية ) البعض يقولها بخبث طوية فهو يعلم حقيقة اللبرالية وما تنطوي عليه من الكفريات واحتقار تعاليم الدين الحنيف الذي أكرمنا الله به .
والبعض الآخر يقولها بحسن نية ظانا أن لا تعارض بين اللبرالية والإسلام !! وقائل هذه العبارة أحد رجلين .
إما إنه لا يعرف من اللبرالية إلا اسمها !! فهو جاهل بحقيقتها وما تستره من وجهها القبيح !
وإما جاهل بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف وقيمه النبيلة التي تحكم حياة الفرد والمجتمع !
أما من عرف الإسلام بعقيدته الخالدة وأحكامه العادلة كما طبقها المصطفى صلى الله عليه وسلم وعرف اللبرالية وما تخفيه من محاربة لعقيدة التوحيد والسلوك السوي والحشمة والفضيلة ؛ فلا يشك أن بينهما تضاد كما بين الأرض والسماء والنار والماء .
ولست هنا لأكتب تعريفا باللبرالية فقد ألف فيها الفضلاء مؤلفات كثيرة تبين قبحها وخروجها عن المنهج الرباني الذي جعله الله للعبد في السير إليه ؛ فجزاهم الله خير الجزاء .
لكن ما أريده هو الإجابة عن أسئلة اللبراليين وبعض من لا يعرف اللبرالية ( لماذا نحن ضد اللبرالية ) وحتى تتضح الإجابة أنقل للقارئ الكريم نموذجين فقط - مما سطرته أقلام اللبراليين في مواقعهم ومنتدياتهم على الانترنيت - وتركت أضعفا مضاعفة مما تنوء بحمله الجبال من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى وصدق الله ومن أصدق من الله حديثا { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (مريم : 90 )
وإليكم هذين النموذجين تبرز وقاحة هؤلاء القوم
أولا - الاستهزاء ب صلى الله عليه وسلم يقول اللبرالي ( من أهم سمات المعجزة في الأديان أن يكون عليها شهود. جميع معجزات محمد، سواء في القرآن أو الحديث، "حدثت" دون إن يراها احد. بمعنى يأتي محمد إلى اصطحابه و يقول أمس ركبت حصان له رأس إنسان و حلقت في الفضاء الخارجي و دردشت مع الله و من ثم عدت! فيردون عليه سبحان لله..الخ و لم يتعب احدهم نفسه و يسأل: "لماذا بالليل و لماذا لم يراك احد؟ لماذا لم تفعلها امامنا في وضح النهار لكي نكون شهود؟ مع كل احترامنا لك القصة خارقة للطبيعة و غير معقولة حتى لعربي أمي من الصحراء فرجاء زودنا بدليل". احدهم لم يفعل ذلك بالطبع خوفا من إن يطير رأسه قبل إن يكمل سؤاله. طبعا أورد محمد ما اسماه دليلا لاحقا انه رأى قافلة كذا و كذا. كيف يثبت ذلك انك طرت على حصان له رأس انسان؟ ليس مهم، المهم هو تصديق القصة بسبب الخوف و السحر و هذا ما يجعلها معجزة. )
ثانيا - التجني على الإسلام والمسلمين يقول اللبرالي ( هل يؤدي الإسلام إلى لإصابة بالأمراض النفسية ؟ الجواب القصير هو نعم سبق و أن بينت أن المسلمون ( ) يتسمون بالغوغائية و العنف و الفوضى و التدمير و الإيمان بالخزعبلات و هذا واضح مما نراه في وسائل الإعلام من سلوكيات تبرز ذلك. اليوم حببت أن اتطرق الى فكرة انتشار الأمراض النفسية بين المسلمين بشكل كبير لدرجة انك لا تستطيع ان تميز بين العاقل و المريض فيهم لأن كلاهما يتصرفان بنفس الطريقة. فالمسلمون يبدون للعالم المتحضر و كأنهم بشر خرجوا للتو من مستشفى للمجانين و ذلك لأن الكثير من سلوكياتهم لا يمكن تفسيرها الا انها ضرب من الجنون ) انتهى
هل عرف اللبراليون لماذا نحن نكره اللبرالية ؟! ولماذا نحن نقف ضدها ؟!!
===========(31/335)
(31/336)
الليبراليون والدعوة إلى نقد الثوابت...
الليبرالية، العقلانية، التنوير، النهضة، الإصلاح، الحداثة، الإنسانية.. الخ، أسماء برّاقة لفكر واحد منحرف هو امتداد للفكر الإعتزالي القديم ولكن بوجه عصري جديد، هذا الفكر بصورته العصرية ظهر قبل أربعة عقود من الزمان، ثم اندثر، وها هو الآن يطل بوجهه القبيح مستغلاً تراجع الصحوة الإسلامية المباركة التي تمّ التآمر الدولي لإيقاف مدها الكاسِح، باسم مكافحة الإرهاب، دون تفريق بين مُحقّ ومُبطل، ومُصلح ومُفسد..
ولمّا كانت هذه الصحوة المُباركة بثوبها السَّلفي الطَّاهر النَّقي هي العدوّ التقليدي لهذا الفِكر الإعتزالي القديم والحديث، فلا غرابة أن يكون أصحاب هذا الفِكر جُزءاً من تلك المؤامرة كطابور خامس للأعداء.
ومنذ تراجع هذه الصحوة المباركة ـ وهو تراجع مؤقت للتمييز والتمحيص ـ وأصحاب هذا الفِكر يشنّون حرباً شعواء على السَّلفية، وينعِتونها بأقبح الصِّفات مستقوين بالعدوّ الخارجي، وقد بدأوا أوّلاً بنقد الفروع والجزئيات، ثم انتهى الأمر بهم إلى الدعوة إلى نقد الثوابت، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى.. الخ وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم بلاهة وفِتنة بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفِكر النَّقدي شرارة الإنطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إنَّ النقد للأفكار والرُؤى والأوضاع والأعراف والتَّقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرِّك الحضارة وهو صانع التَّقدم في كل مجالات الفِكر والفِعل وهو الشَّرارة التي فجَّرت طاقات الإنسان وصَنَعت له أمجاد الفِكر والعِلم ووفَّرت له أسباب الإزدهار فالأُمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حقَّقت طُموحاتها وأنجزَت إثبات ذاتِها ووقفت شامخة بين الشُّعوب في سِباقات الفِكر والفِعل أمَّا الأُمم التي أخمدت هذا المُحرك الأكبر أو تجهله أو لا تُحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مُبارحة خنادِق التَّخلُّف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأنَّ حِرمانها من النَّقد والمُراجعة حرّمها من اكتشاف نقائِصها كما حرّمها من التَّعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائِل فبقيت تتوهَّم أنَّها الأفضل والأرقى وظلَّت رهينة هذا الوهم .."
فهو قد ساوى بين الأفكار والرُؤى والأوضاع والأعراف والتَّقاليد.. وبين المُسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنّقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المُحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصَّحيح الذي لا يقبل النَّقد، بل يعدّ هذا التّفريق بين الدِّينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيُّها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سِواه باطل، فإنّك حينئذِ تدّعي امتلاك الحقيقة المُطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن نُدرك عَظَمة هذا السبق المُذهل إلا إذا تذكَّرنا أنَّ أصعب معضلة واجهت الإنسانيَّة وسبَّبت لها الفظائِع والشُّرور وعرقلَت مسيرتَها الحضاريَّة هي الإنغلاق الثَّقافي الناتج عن توهُّم الكمَال واعتِقاد كل طرف من المختلفين أنَّه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المُطلقة وأنَّ كل الأطراف الأخرى غارِقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصناً عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والإقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر.(31/337)
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ". فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغُموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحرراً من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الإنهزامية والتبعية والإنحراف الفِكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ). وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إنَّ الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والإختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والإستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".(31/338)
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!)بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيَّما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر.. ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!! ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أنَّ الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ". وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلاَّ الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والإتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم.. ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة. وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة العوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟! وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقاً معرفياً أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".(31/339)
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضاً إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصاً أنَّ أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الإجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...." إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
فمن يوقف هؤلاء عند حدّهم..
===========(31/340)
(31/341)
الليبراليون الجدد.. عمالة تحت الطلب
ترجمة: إبراهيم عرفة أحمد
كتب جون بي آلترمان مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية الأمريكيمقالاً تحت هذا العنوان تحدث فيه عن تنامي الدعم الغربي لليبراليين العرب محذراً من أن تعاظم هذا الدعم سيضر الليبراليين العرب ولن يفيدهم، ومحذراً الغربيين من الرهان عليهم. ويعد هذا المقال اختصاراً لمقال آخر كان قد كتبة
أصبحت الحاجة ماسة إلى الليبراليين العرب أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يرى فيهم بعض الغربيين الأمل والقوى القادرة على مواجهة خطر «القاعدة» لذلك يدعوهم كبار مسؤولي الحكومات في واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم الغربية إلى موائد الأكل وشرب الخمر.
لقد ازداد الدعم الغربي لليبراليين العرب، لكن يبدو أن تنامي هذا الدعم قد يحدث تأثيراً معاكساً؛ فبدلاً من أن يؤدي إلى تقويتهم فإنه سيؤدي إلى تهميشهم ووصمهم بالعمالة، بل جعل الكثيرين يتشككون في الإصلاح السياسي الذي يسعى الغرب إلى تحقيقه في المنطقة.
يعتبر اتخاذ السياسة الغربية لليبراليين العرب قاعدة انطلاق لتنفيذ سياساتها في المنطقة أمراً منطقياً؛ بالنظر إلى التجانس الموجود بين الطرفين؛ فالليبراليون العرب على مستوى تعليمي جيد، ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة، وفي بعض الأحيان يتحدثون الفرنسية أيضاً. فالساسة الغربيون يجدون الراحة في التعامل معهم وهم كذاك يحبون التعامل مع الغرب.
لكن إذا أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا، فيجب أن نعترف أن الليبراليين العرب القدامى قد كبر سنهم وازدادت عزلتهم وتضاءل عددهم، ولم يعد لهم إلا تأثير محدود في مجتمعاتهم والقليل من الشرعية؛ فهم بالنسبة لمواطني بلدانهم وبخاصة الشباب منهم لا يمثلون أمل المستقبل، بل يمثلون الأفكار الغابرة التي لم تنجح في الماضي، ولم يعد لديهم القدرة على استمالة قلوب وعقول أبناء بلدانهم.
إن اهتمام الغرب المتزايد بالليبراليين العرب يُنذر بتأزم موقفهم، ويجعلهم يوصَمون بالعمالة، ليس العمالة الهادفة إلى تحقيق الحرية والتقدم، ولكن العمالة للغرب ومساعدته في مساعيه لإضعاف وإخضاع العالم العربي. بل الأسوأ من ذلك جعلهم يتحولون إلى الغرب؛ حيث يجدون حفاوة الاستقبال تاركين بذلك مجتمعاتهم؛ لأنهم لا يجدون فيها تلك الحفاوة التي يجدونها في الغرب.
إن الناظر إلى حال الليبراليين العرب يجد أن السواد الأعظم منهم ينتظر أن تأتي الولايات المتحدة لتسلمهم مفاتيح البلاد التي يعيشون فيها؛ في الوقت الذي تقوم فيه الجماعات المحافظة بعمل برامج نشطة إبداعية مبهرة يقدمون من خلالها مجموعة من الخدمات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين. مع هذا؛ فإن كثيراً من الليبراليين يعتقدون حتى الآن أن دورهم ينتهي بمجرد كتابة مقالة.
وإن من غير المحتمل أن يؤدي هذا الدعم المتنامي إلى انغماس هؤلاء الأشخاص في مجتمعاتهم، بل على العكس؛ فإن ذلك الدعم سيشكل حافزاً لهم لتعلم كيفية الحصول على المساعدات من الهيئات الغربية التي تقدم المعونة. وقد ذكر لي أحد أصدقائي بالإدارة الأمريكية أن نموذج المتلقين للمعونة التي تقدمها الإدارة الأمريكية هو ابن لأحد السفراء من أم ألمانية وتصادف أنه يدير منظمة أهلية. إن تقديم المساعدات إلى تلك المنظمات لا يجعلها تبدو نبتاً للوطن بل على العكس يقلل من ذلك التصور.
إن السياسة الحكيمة تقتضي تنفيذ النقاط الثلاث الأساسية التالية بدلاً من الرهان على الليبراليين العرب:
أولاً: أن نستثمر الحرية؛ وذلك بأن ندعم الحرية للجميع ليس فقط لمن يدعمون أفكارنا، بل ولمن يعارضونها. وقد يرى بعضنا أن الضغط على الحكومات العربية لإتاحة المجال أمام حرية التعبير وحرية إنشاء الجمعيات الأهلية والانضمام لها يشكل خطراً كبيراً، خاصة في ظل الحرب العالمية على الإرهاب. لكن ذلك أمر غاية في الأهمية؛ لأن تلك الحرية ستوجد سوقاً حرة تُعرض فيها كل الأفكار، وهو الأمر الذي سيمكِّن الليبراليين من كسب الدعم الشعبي بدلاً من أن يُنظَر إليهم على أنهم قد اختيروا من الغرب ليكونوا بديلاً عن القوميين والمحافظين والراديكاليين. نحن دائماً ندعي أننا نرغب في أن تقوم دولة عظمى بإدارة الشرق الأوسط كي تتيح المجال للمنافسة. إذاً لماذا لا نرحب بتلك المنافسة بين الأفكار المبنية على مبدأ تكافؤ الفرص للجميع؟
ثانياً: يجب أن نقلل من الشروط والصفات المطلوبة في المنظمات التي نقدم لها الدعم. فعدم تقديم الدعم لمنظمات تقوم بأعمال إرهابية يعد أمراً طبيعياً. لكن سياسة منع الدعم عن المنظمات التي لا تقدم الدعم لسياستنا تعتبر هزيمة لأنفسنا، وستؤدي بنا إلى العزلة، كما ستضعف من مصداقية كل من نرغب في العمل معه.(31/342)
ثالثاً وأخيراً: يجب استحداث أنشطة جديدة لا تحمل ختم الإدارة الأمريكية؛ هذه الأنشطة الجديدة يمكن أن تنفذ بمشاركة من الحلفاء الأوروبيين الذين يشعر الكثير منهم بالقلق من تأزم الوضع السياسي والاجتماعي في العالم العربي. بعض الأنشطة الأخرى يمكن أن تقوم بها المنظمات الأهلية والجامعات ومؤسسات أخرى. الهدف من ذلك ليس إخفاء الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في هذه الأنشطة، بل الهدف هو جذب قطاع كبير من المجتمعات الشرق أوسطية إلى قطاع كبير من المجتمعات الغربية.
كما يجب أن لا نتخلى عن الليبراليين العرب؛ فكثير منهم يقاتل بشجاعة في سبيل تحقيق أفكار ندعمها، والتخلي عنهم سيبعث برسائل خاطئة. لكن في الوقت نفسه يجب أن لا نعلق أملنا على نجاحهم؛ فالأفضل لنا أن نحقق نجاحات جزئية مع قطاع كبير من العامة بدلاُ من أن نحقق نجاحاً كبيراً مع مجموعة من النخبة المنعزلة والتي لا تتمتع بأي تفويض شعبي.
إننا نريد أن نروِّج للفكر التحرري بين جماهير العالم العربي الموجودة في القاهرة وبغداد وبيروت، وليس في واشنطن ولندن وباريس؛ لذلك يجب أن يأتي الدعم المقدم إليهم من حكومات تلك الدول وليس من الحكومات الغربية. وإذا نسينا ذلك فعندئذ لن نكون قد أسأنا لأنفسنا فقط، بل سنكون قد أسأنا في حقهم أيضاُ.
===========(31/343)
(31/344)
على خطى بولس وابن السوداء !
محمد جلال القصاص
( شاؤول ) لص في الثلاثين من عمره ، يُعذب المؤمنين ، لا يعرف حراما ولا حلالا ، ولا يرحم صغيرا ولا كبيرا ، وفي ذات يوم وهو في طريقة إلى دمشق تخلَّف عن صاحبيه وغاب قليلا ، وعاد مُغْمَضْ العينين بالكاد يمشي ثم استلقى بين أيديهم ـ كما تقول الروايات الصديقة ـ وبعد يومين صحى من سَكْرَتِهْ ، وتحدّث بأن ( رب المجد يسوع[1] ) ظهر له وناداه ، وأرسله رسولا للعالمين مبشرا ومنذرا باسم ( الرب يسوع ) .
ذاك ( بولس الرسول ) ، رسول النصرانية الحقيقي وصاحب الرسائل الملحقة بالعهد الجديد في كتاب النصارى ( المقدس ) .
لم يكن ( شاؤول ) أو ( بولس ) ذاك المجرم الغبي الجاهل ، وإنما كان على درجة عالية جدا من الذكاء ، ودارسا للفلسفة على يد أكبر معلميها في عصره ، وقيادي من الدرجة الأولى أُسند إليه أمر مطاردة ( المؤمنين ) .
وسبحان الله . أصبح بولس ( رسولا ) ، وهو لم يلتق المسيح ولم يجلس إليه يوما ، وسبحان الله أصبح ( بولس ) معلما من يومه الأول وهو لم يتعلم ساعة من المسيح عليه السلام ولا من تلاميذه ، وسبحان الله مزّق اليهود التلاميذ كل مُُُُمَزَّق ، وراح ذكرهم وانتهى أثرهم إلا بولس ، فقد راح وجاء وقال ووجد من يسمع ، وصار كلامه مقدسا ضمن الإنجيل إلى اليوم .
لم يستطع ( شاؤول ) اليهودي .. اللص المجرم .. رد المؤمنين بالسوط ، أو القضاء عليهم بالسيف فادعى التوبة وتحول لـ ( بُولِس ) الرسول . وفعل بلسانه ـ بعد توبته ـ ما لم يستطع أن يفعله بسوطه وسيفه .
وعجزت يهود عن قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين ظهرانيهم في المدينة فتجمعوا له في خيبر ، ففرّق الله جمعهم وعاقبهم بكفرهم وسوء صنيعهم .
ولما أدركوا أن دولتهم قد ذهبت وأنَّ الله ناصر دينه . تَابَ بن السوداء وأعلن أنه أسلم وأناب إلى الله . ومن يومه الأول وهو يُفتي ويناظر ويُعدِّل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويتجول بالأمصار داعيا إلى مذهبه الجديد .
حتى أشعل الفتنة التي أتت على ذي النّورين ـ رضي الله عنه ـ ووضعت السيف بين أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ولم يكن هدف بن السوداء رقاب المسلمين وإنما عقولهم ـ وقد لا تصل إلى العقول إلا بقطع رقاب بعض الناس ـ ، وانظر ماذا يقول عنه ابن كثير ( زعم أن في علي بن أبي طالب جزءا إلهيا , لذلك فهو لا يموت وإنه لم يقتل وإنما الذي قتل هو الشيطان, تصور بصورته وتوهم الناس أنه قتل, كما توهم اليهود والنصارى أن عيسى قتل. وزعم أن في علي جزءا ناسوتيا أيضا, وأن الجزء الإلهي يحيا في السماء والرعد صوته والبرق بسمته وأنه سينزل إلى الأرض ليملأها عدلا بعد أن ملئت جورا. ) .
أليس هذا هو ما قاله ( شاؤول ـ بولس ) اليهودي عن المسيح عليه السلام . ؟؟
ولكن الله سلّم ، فلم يجد ابن السوداء من ينصره وينشر فكره فكان كمن ارتطم بصخرة فمات من رطمته بيّدَ أنه لطخها بدمه القذر .
وقريب منه مَنْ أسلموا من نبهاء الكفار في وقت قوة المسلمين كابن المقفع ، ترجم للعربية ( كليلة ودمنة ) وكان المقصود منه ـ لاحظ ـ تعليم الآداب بواسطة أقاصيص على لسان الحيوانات . وترجم كتب أرسطو الثلاث في المنطق ، وترجم كتاب التاج في سيرة كسرى أنوشروان .
ولك أن تتساءل : ولم تَعَلُّم الآداب من غير سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم ؟!
ولك أن تتساءل : ولم كُتب أرسطو تحديدا ؟ .
ولم استحضار سيرة كسرى أنوشروان ؟؟!
بل و ( الجعد بن درهم ) و ( عمرو بن عبيد ) و ( واصل بن عطاء ) و ( الجهم بن صفوان ) كلهم كانوا من الموالي ، الذين دخلوا الإسلام ولم يجلسوا إلى علمائه بل راحوا يتكلمون في الأمور العظام ويضعون رؤوسهم برؤوس علماء أهل السنة .
وانظر إلى هذه السلسلة : طالوت اليهودي ـ بن أخت لبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته ــ علّم بيان بن سمعان وبيان علّم الجعد بن درهم ، والجعد علّم الجهم بن صفوان والجهم علّم بشر المريسي وبشر علّم أحمد بن أبي دؤاد .ثم جاء الأشاعرة والماتردية ـ وهم من أهل القبلة في الجملة ـ فوردوا هذه الحياض الكدرة العفنة فشربوا وارتووا ومازالوا بين ظهرانينا إلى اليوم يسقون ناشئتنا.
ولك أن تستحضر ماذا فعلت أفكار هؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام وفي أنفسهم ما فيها من حقد على الإسلام والمسلمين في عقيدة المسلمين ، وما ترتب على ذلك من فتنة وتفريق بين المؤمنين .
بل . إن رحتَ تتبع تاريخ الفكر الإسلامي تجد أن كل انحراف تم في تاريخنا الفكري كان سببه الرئيسي أحد هؤلاء ( التائبين ) المتسللين للإسلام ، بأنفسهم أو بتعليمهم لبعض المغرضين من المنحرفين من أبناء المسلمين .
يدعمهم أغبياء من أهل السلطان أ و ( طيبون ) من بعض المنتسبين للعلم الذين يحاولون التوفيق بين الحق والباطل ، و( الاستفادة ) من جميع الطاقات ، أو يبهرهم لباقة القوم وكثرة معرفتهم فيحاولون ( التوفيق ) بين مذهبهم ومذهب أهل الحق ، وبهذا يختلط الحابل بالنابل .(31/345)
وما حدث بالأمس يحدث اليوم ، إننا من قرابة قرن من الزمان نعيش صحوة إسلامية تهدف إلى تصحيح المفاهيم والتصورات في أذهان الناس وتحكيم شريعة رب العالمين في حياة الناس كي تعود كما بدأت ( خلافة راشدة على منهاج النبوة ) ، وقد التحق بالصحوة بعض ( التائبين ) ممن تغذوا على موائد الشرق الملحد والغرب الكافر المشرك ، وقفوا بين الصفوف يدّعون ( العقلانية )
وأنهم ( المتنورون ) . وأنهم ( مفكرون ) .
ولم يتتلمذوا على يد شيوخنا ، ولم يشربوا من مائنا بل جاؤوا إلى تراثنا وقرؤوه بخلفيتهم
الفكرية السقيمة وراحوا يتكلمون في أصول الدين .
في الولاء والبراء ، وفي تنحية الشريعة ومن ينحون الشريعة . وأهل الذمة . والحجاب . . . الخ .
فمنهم من يقول : أن الخلافة فترة تاريخية كانت ولن تعود ، وأن علينا التفكير بشكل آخر يتفق مع مستجدات العصر !
ومنهم من يقول : أن المسلمين لا يفضلون على غيرهم فقط لكونهم مسلمين . وربي أعلم منهُ وأحكم ، قال الله ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين . ما لكم كيف تحكمون . أم لكم كتاب فيه تدرسون . إن لكم فيه لما تخيرون ) .
ومنهم من يقول : أن الحكومات العلمانية التي تحكم الدول الإسلامية تطبق الشريعة الإسلامية تطبيقاً غير كامل يعذرون فيما انتقصوه
ومنهم من يقول : الفاروق عمر هو العلماني الأول في الإسلام !!
ومنهم من ادعى أن الحجاب عادة جاهلية لا علاقة لها بالإسلام . وزعموا أن الاجتهاد من حق الكل تماماً كالجهاد[2].
وقد فرح بهم بعض شياطين الإنس في الإعلام فأفسحوا لهم ليتكلموا للناس ، فملئوا الفضاء بهرائهم ، وشوشوا على أهل الوضوء والصلاة .
ومدّ إليهم بعض إخواننا ( التوفيقيين ) أيديهم يقولون : طاقات لا بد أن نستفيد منها ، وعقول ( جبارة ) كيف نوصدها .
ونحن نقول بقول الله ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا . ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ) ، وقد خرجوا فينا وأوضعوا خلالنا الفتنة ، فما يُستهلك في نقاش قضايا الداخل الإسلامي أكثر مما يصرف للخارج . وقد تأرجحت الصحوة في مكانها ، ولم تعد تعرف موقفها الصحيح من كثير من القضايا التي تواجهها اليوم بسبب شوشرة هؤلاء . ولكن أين من يعقل ويتدبر ؟ !
أين من يقرأ التاريخ ؟ !
------------------------
[1] يسوع هو المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
[2] راجع " موقف العصرانين من الفقه وأصوله " مجلة البيان العدد 147،146 ]
===============(31/346)
(31/347)
حوار مع ليبراليّة
محمد العبد الكريم 25/3/1426
04/05/2005
قالت: أنا ليبراليّة
قلت: لماذا؟
قالت: وصف جميل، والله يحب الجمال!!
قلت: وماذا تعني لك الليبراليّة؟
قالت : "إتيكيت" "وموضة"، وإلا لو أردت الحقيقة فلا أعرف منها أكثر من حروفها!!
ثم إنها جسر أعبر من خلاله للصحافة والإعلام! والعلاقات! واللقاءات! والحوارات الوطنية، والمؤتمرات الدوليّة! فهو جواز سفري إلى العالم!
قلت: هل تشعرين بالظلم كما يقولون دائماً: المرأة مظلومة وحقوقها مهضومة.
قالت: كنت أعتقد أن المرأة في السعودية مظلومة، ولكن اكتشفت أن معظم الفريق الليبرالي الذين يردّدون حقوق المرأة يريدون حقوقها في حرية "جسدها"، والدليل على ذلك أن الذين يطالبون بحقوق المرأة يركّزون فقط على قضية العمل، ويقترحون آليات تسرع بخروجها لكل الأعمال، والويل لمن يستدرك عليهم بالضوابط.
أما النواحي الاجتماعية التي تعاني منها المرأة كالحرمان من الميراث، والتلاعب بأموالها والقسوة، والضرب، والعنف، والتسلط، والعادات والتقاليد البالية التي تنتقص المرأة وتحتقرها فلا اعتبار بها.
قلت: لكننا دائماً ما نراهم يكثرون الحديث حول القضايا الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والآن يطالبون بحقوقها السياسيّة وحقها في الترشيح والانتخاب..
قالت: نعم، ولكن لعلك تقصد أنهم يجعلون ذلك ستاراً.
قلت: أنا لم أقل ذلك.
قالت: دعني أخبرك.
هؤلاء عندما يكونون بمفردهم، وفي مواقعهم على الإنترنت، وفي مقاهيهم الخاصة يقولون عكس ما يظهرون.
قلت لم أفهم!!
قالت: هم في تلك المواقع لا يرون في المرأة إلا لوحة عارية، يرسمونها جسداً، ولا يرونها عقلاً، يعتبرونها نصف كأس ممتلئ بالجعة.
قلت: أنت لا تعرف ما يدور في مجالسهم.
قالت: أنتم أيها الإسلاميون تحسنون الظن بمعظم الليبراليّين؟
قلت: نحن نحسن الظن بهم!! نحن دوماًً في مواقع التهمة لديكم، متهمون بأننا نسيء الظن بكم، وأننا نضيّق واسعاً، وأننا لا نفهم المرأة ولا تفهمنا، وخطابنا متهم بأنه خطاب مأزوم تجاه قضية المرأة.
وعندما صدرت آخر وثيقة عن المرأة، وقد وقّعها عدد كبير من العلماء وطلاب العلم، تأكّد لديكم أن مشروعنا مشروع نظريّ، وأفكارنا مجرّدة وغير قابلة للتطبيق، وليست مسايرة لروح العصر.
قالت: نعم أنتم لديكم مشكلة، ولكن مشكلتنا أكبر منكم.
مشكلتكم أنكم لا تحسنون طرح مشاريعكم على الرغم من أن الناس تحبّكم وتميل إليكم، وفطرتهم تساعدهم على أن يكونوا في صفكم، أنتم تستهلكون وقتاً في تتبّع ما نقوله عن المرأة وتستخرجون الفتاوى كل يوم لملاحقتنا، ولو أنكم أجهدتم أنفسكم في جعل أفكاركم أفكاراً عملية لاستطعتم أن تفرضوا نموذجاً يجبر الآخرين على السير وراءكم.
إن لكم تجارب ناجحة فرضتم فيها رؤيتكم العلميّة والعمليّة؛ فأصبحتا نموذجاً أجبر أهل النوايا السيئة بالسير خلفكم، تجربتكم اليوم في صيغ التمويل الإسلاميّة حاربت بعض الربا وقلّلت من انتشاره...
أما نحن فكل ما لدينا أننا نكتب لكم مقالاً أو مؤتمراً عن المرأة نشغلكم فيه عن منكراتنا.
ولا شأن لنا بردودكم!!
قلت: ولكن لماذا الإصرار على الليبرالية؟ هل لأنها تشبع شهواتكم؟
قالت: نعم أنا مصرّة إلى أن يستجدّ خطابكم، ويصبح خطاباً يتحدث مع الجميع، ويتعايش مع الناس بمختلف طبقاتهم.
أنتم وضعتم تصوّراً عن المرأة، جعلتم النساء شكلاً واحداً ونموذجاً واحداً، وحكمتم عليهنّ بحكم واحد.
أشغلتم الساحة كل يوم بالمقالات والفتاوى والوثائق، وأعراضنا تنتهك بالمغريات، وتراكم الشهوات.
أنتم لم تُدركوا بعد مكمن النزاع رغم أنكم صادقون وغيورون
تشخيصكم للدّاء لم يتغيّر
نظرتكم عن النساء لم تتغيّر
والزمن من حولكم يتغيّر
فلماذا لا أكون ليبراليّة؟
================(31/348)
(31/349)
أزمة منهج أم أزمة رجال ؟
محمد جلال القصاص
كثرت على الساحة الفكرية الإسلامية الدعوة إلى (التعقل) و(التفكر)، و(مد الجسور مع الآخر) ذي المناهج العلمانية، و(الإفادة من القوى الوطنية الأخرى)، و(فهم طبيعة المتغيرات)، و(انتهاز الفرصة السانحة)، و(أن رأس الأوليات هو الإصلاح الديني) رغبةً في التقدم المادي والارتقاء بمستوى الأمة خاصة والإنسانية عامة.
ودون ذلك دعوات أخرى تنادي بـ (الانفتاح على الآخر)، وإعادة قراءة الشريعة من جديد تحت ضوء المصالح والمفاسد - بمفهوم أصحاب هذا الطرح -، ودفع أعلى الضررين بتحمل أدناهما، واعتبار المقاصد في التشريع، وأن الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان والمكان.
أتفهم هذا كله، وأجاهد نفسي على قبوله ولا أستطيع.
أعرف جيداً أن للنص سبب نزول، وأن الأصل في الأحكام التعليل، وأن للسياق دِلالة لا تُهمل، وأن معرفة الحكم لا تعني أبدا إصداره، إذْ لا بد من تنقيح المناط.
وأعرف أن هناك (روح للشريعة)، ومقاصد للتشريع تعطينا الرخصة - أحياناً - لتجاوز الدلالة الظاهرة للنص وإعمال التأويل المصاغ.
ولكن ما يطرحه القوم، لا يتماشى - عندي - مع هذا كله، بل تصطدم - عندي - أطروحتهم بأشياء:
منها أن المقاصد متأخرة على الأحكام لا أنها سابقة عليها، وهذا ينسف كثيرا من هذه الأطروحات.
فالعقل يستنبط المقاصد من الأحكام الشرعية لا أنه يضع مقاصد يصيغ من أجلها الأحكام.
والعقل لا شأن له بالحكم الشرعي، وإنما بالمناط الذي ينطبق عليه هذا الحكم.
فمثلاً لا مجال لإعمال العقل في كون " كل مسكر خمر وكل خمر حرام "، وإنما في كون ما شُرب خمراً أم لا؟
ولا مجال لإعمال العقل في أن الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، وإنما في كون المصلي تحرك كثيرا أم لا؟
وإن راح العقل ناحية الدليل فكي يستبين صحته... من صحة طرق إثباته، أو طريقة استنباطه، والبحث عن العلة إن كانت بادية ليُعمل القياس وينقح المناط.
أما إن خَفيت العلة فلا سبيل للعقل على الحكم الشرعي. ولا مناص له من الانقياد، والتسليم إن كان مسلما.
أما ما يحدث اليوم من قبل أصحاب هذه الأطروحات هو شيء آخر.
فحين تنظر في خلفيات الكلام، وتتعدد قراءتك لأصحاب هذا الطرح، تجد أن من يتكلمون بهذه الأفكار، يحاولون - في الجملة - تعديل الشريعة الإسلامية، أو قل: إعادة قراءة الشريعة الإسلامية من جديد، أو بعبارة أوضح هي حالة عجز أصابت رجال اليوم وهم يتعاملون مع الواقع المرير الذي آلت إليه الأمة، فراحوا يُلقون بالتبعة على الشريعة الإسلامية ذاتها لا على الإنسان المعاصر، خروجا من هذا المأزق التاريخي. هذا ما أفهمه.
وتصطدم عندي هذه الأطروحات بأن هدف البعثة المحمدية - وكل بعثة كانت، من آدم _عليه السلام_ إلى محمد _ r_ هي تعبيد الناس لله وليس ما يسمى الرقي المادي بالإنسانية، "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء:25). بل إن الرقي المادي لازم من لوازم الانضباط على شرع الله، قال الله _تعالى_: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (الأعراف:96).
"وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" (المائدة:66).
فمن هنا الطريق وليس من هناك، وكثيرا ما أردد قول حسان بن ثابت حين أقرأ هذه الأطروحات:
إذا زحفت للغور من بطن عالج *** فقولا لها ليس الطريق من هنالك
وتصطدم هذه الأطروحات عندي بأن المشكلة مشكلة رجال يحملون المنهج وليس مشكلة المنهج نفسه، فلا أرى أن أحداً يخالفني في القول بأن الواقع تُشكله الفِكرة وليس الفكرة هي التي تشكل الواقع. هذه بديهة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث في وسط ركام هائل من التصورات المغلوطة، وفي وسط أمواج متلاطمة من الكفر والفسوق والظلم. وبالعبيد والضعفاء كان ما كان... وصاغ المنهج الإسلامي الحفاة العراة الأميون صياغة أخرى لم يعرف التاريخ مثلها...أخرج منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. وكتب الله لهم الغلبة على كل قوى الأرض يومها، وانتشر العدل والأمان بين الناس... ومنهم كان النور الذي اقتبس منه كل الناس، صار بأيديهم كل شيء، ثم حين غيرنا غيَّر الله علينا.
وفي القرآن تشخيص دقيق للداء "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ" (الشورى:30)، "قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ" (آل عمران: من الآية165)، "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: من الآية11).(31/350)
فكان الطريق الصحيح هو أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح _رضوان الله عليهم_ لنتقدم ونرتقي مادياً ومعنوياً وسياسياً وعسكرياً كما تقدموا _رضوان الله عليهم_. نُرضي ربنا فيرضينا ويسبغ علينا نعمه الظاهرة والباطنة، والقرآن بين أيدينا يرشدنا "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (الأعراف: من الآية96).
وندعو أوروبا - ومن سار خلفها - وقد جربت الدين المنحرف وكيف فعل بها، أن تنبذه وراء ظهرها، وتأخذ بالإسلام إن كانت تريد الخير في الدنيا والآخر، ونقول لهم ما امرنا الله بتبليغه "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً" (النساء:174)، "...تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً..." (آل عمران: من الآية64).
الأسوار التي تحيط بنا عالية، وعلى من لا يستطيع أن يهدمها أو يقذفها أو يتسلق عليها... عليه أن لا يزين للباقين الجلوس خلفها.
=============(31/351)
(31/352)
بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه .
درس من الإسراء والمعراج
محمد جلال القصاص
جِيء بالبراق ، وركب رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ لبيت المقدس فصلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السموات العلى ، فدنى وتدلى وكان قاب قوسين أو أدنى ، ورأى من آيات ربه الكبرى ، ثم عاد إلى الناس يخبرهم بما كان من أمره ، ولم يخش في الله لومة لائم ، لم يخش من تكذيبهم وقد كان يتوقعه .
صدّق البعض ولم يتردد ، وكذَّب البعض ولم يتردد ، وطلب فريق الدليل على صدق الخبر ، ورأى فريق أن في الأمر فرصة للتشهير بالنبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بالكذب فراح يُسوِّق الخبر بطريقته .
والحقيقة أن هذا هو حال الناس مع الوحي جملة ... مع أحكامه وأخباره . منهم من يصدق الخبر ثقة في المخبر ، ويقتنع بالحكم ثقة في حِكمة المشرع جل وعلى ، ومنهم من يعرض الخبر على عقله أو على رصيده المعرفي فإن اقتنع وإلا ردّه .
ومنهم المغرضون الذين لا هم لهم إلا صدِّ الناس عن دين الله . . . الذين ينتظرون فرصة ليشهروا بالدين والدعاة . مع أنهم يعرفون ما في الدين من الخير " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " [ النمل : 14] .
هي قضية كبرى . . . هي قضية أساسية محورية : ما هو المصدر اليقيني للمعرفة ؟ من هو الذي نثق فيه ونأخذ منه العلم ؟
أهو الوحي ؟ أم هو العلم التجريبي . . . الحواس الخمس ؟ . والشرع لا يتعارض أبدا مع العقل .
مما لا شك فيه أن الحواس لا تستطيع إدراك كل شيء على حقيقته ، ومما لا شك فيه أيضا أن المعرفة التجريبية نسبية تتغير يوما بعد يوم تبعا لتطور وسائل البحث ، فانظر إلى النظريات العلمية كيف أن نظريات اليوم تعدل نظريات الأمس ، وكيف أن هذا الأمر في كل العلم التجريبي بلا استثناء . إذا كيف يثق المرء بهذا العقل العاجز المحدود ؟ وكيف تنبني ثقة على من يتغير كلامه يوما بعد يوم ؟!
إن من كذَّب حادث الإسراء قاس الأمر على عقله وعلى ما لديه من معرفة تجريبية فقال : " نضرب إليها أكباد الإبل شهرا ونعود شهرا وأنت تزعم أنك أتيتها وعدت في ليلة واحدة ؟!
عرض الأمر على معلوماته الحسية الضئيلة فلم يستقيم الأمر عنده فرده بدعوى استحالة ورود المعنى الحقيقي !!
إن العقل محدود التفكير ومحدود الوسائل ، وإن الشرع من الله العليم الخبير القدير ، فإن صح الخبر واستقامت الدلالة مع أساليب اللغة العربية فليس لنا إلا التصديق والإتباع ، كما فعل الصديق ــ رضي الله عنه ـــ حين سمع بخبر الإسراء والمعراج .
أذكر مرة كنت أتحدث مع زميل لي حول هذا السؤال : بم يفهم الإنسان ؟ بقلبه أم بعقله ؟
وكنت قد قرأت لأئمة أهل السنة والجماعة السابقين والمعاصرين أن المرء يفهم بقلبه وليس بعقله . لصريح القرآن "ولقد ذرأنا لجهم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها " [ الأعراف : 179 ] ولصريح قوله تعالى " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب لا يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " [ الحج : 46 ]
فقلت : هو يفكر بقلبه وليس بعقله ــــ وإن كانت معلوماتي الطبية تضاد ذلك ـــ ثقةً في دلالة الخبر القرآني . وهو جزم بما درسناه بأن العقل في الرأس ثقة بأن الذي قال هذا هو العلم التجريبي المشاهد . واحتج علي بأنه تم نقل قلب هندوسي إلى مسلم فقام المسلم يصلي ولو كان الأمر كما تقول لقام يعظم البقرة .
ومن قريب سمعنا أن الطب اكتشف أن عملية التفكير تتم في القلب وليس في العقل . فكتبت إليه رسالة عنوانها هذه الآية " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله "[ يونس : 38 ] .
ومن يتدبر حال من قالوا بنفي الصفات عن الله عز وجل ، ونفي رؤية الله في الجنة ،ومن يتدبر حال هؤلاء المُحدثين الذين يسمون بـ ( المفكرين ) أو ما يسمون بـ ( العقلانيين ) ـــ مع التحفظ الشديد على الاسم ولذا وضعته بين قوسين ـــ تجد أن لُبَّ المشكلة في قضية التسليم للخبر حين تتضح الدلالة ، وأن العقول معظمة عند أصحابها لذا وطئ بعضهم النص بلا حياء ولا رهبة ، وحمله البعض الآخر وصار به حيث يريد هو لا كما يريد النص .
إن المخلصون .. الأتقياء البررة يقولون ـــ بلسان حالهم ومقالهم ــ أن صدق الخبر نستدل عليه من صدق المخبر ، ومن هؤلاء أبي بكر ، صدق لأن المتكلم هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ــ ليس إلا .
وهذا مسلك الصالحين : أخبرني من لا ينطق عن الهوى ، أخبرني الصادق الأمين . وكون الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يحتاج لدليل يعضده . وإن تعارض مع كل عقل ونقل : " قل أأنتم أعلم أم الله " . لا شلك : الله أعلم .
ومن وجهة نظري أن الخلل هو في فقد التصور الكامل عن الله عز وجل والثواب والعقاب ، خلل في توحيد الربوبية ( معرفة الله بأسمائه وصفاته ) أدى إلى نقص في توحيد العبادة ( الألوهية ) ، ونفوس جهلت ــ أو نسيت ـــ أنها موقوفة بين يدي الله عز وجل وأنها مسئولة ثم إلى نار أو إلى جنة .(31/353)
لو أن النفوس تعلم ربها حق المعرفة ، لوقفت حين تحتار في أمر الخبر وما جرئت على المساس بالنص فضلا عن المرور عليه أو حمله بتأويلات فاسدة ، تماما كما فعل أبو بكر يوم الإسراء ويوم الحديبية حين علم بشروط الصلح . وكما فعل عمر يوم حاطب بن أبي بلتعة حين قيل له "لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " َدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ [ البخاري / كتاب المغازي ]
إن مشهد الناس حول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ وهو يحدثهم عن الإسراء والمعراج ، هو هو حالهم اليوم مع أحكام الشرع اليوم ، بين مزعن مطيع يقول سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا " ، ومناقش يبحث عن العلة كي يفهم الحكم ... الخ .
نحتاج اليوم من يتصدر لهذه الحالة من النقاش والجدل حول النصوص ، وينادي في القوم ربكم أعلم وأحكم ، وليس لكم إلى البحث عن صدق الخبر وصحة الدلالة . وإن في الإسراء لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
============(31/354)
(31/355)
الإسلام والليبرالية
(حقيقة التوجه الأمريكي وإمكانية الالتقاء الفكري)
خالد أبو الفتوح
بعد أحداث سبتمبر 2001، وتحديداً في عام 2003م، وضمن جهود أمريكا لرسم خريطة التغيير المزمع اتباعها في العالم الإسلامي، نشرت مؤسسة (راند) الأميركية تقريراً استراتيجيّاً بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء، والموارد، والإستراتيجيات) للباحثة في قسم الأمن القومي (شيرلي بينارد)، وفي ربيع عام 2004م قامت الباحثة نفسها بنشر ملخص
ولمن لا يعرف مؤسسة (راند)، فهي مؤسسة نشأت بصفتها مركزاً للبحوث الإستراتيجية لسلاح الجو الأميركي، ثم تحولت بعد ذلك إلى مركز عام للدراسات الإستراتيجية الشاملة، ويعدها المحللون السياسيون بمثابة «العقل الاستراتيجي الأميركي».
تقرير الباحثة (بينارد) الذي اهتم بتقديم توصيات عملية لصاحب القرار الأمريكي، يتكون من تمهيد وثلاثة فصول وأربعة ملاحق وقائمة مراجع:
الفصل الأول عنوانه: «رسم خريطة للموضوعات: مقدمة لآفاق الفكر في الإسلام المعاصر»، ويناقش فيه الوضع الراهن من حيث المشكلات المشتركة والإجابات المختلفة، ويحدد مواقف التيارات الإسلامية إزاء عدد من الموضوعات الرئيسية، مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، ولبس المرأة، والسماح للأزواج بضرب الزوجات.
أما الفصل الثاني فهو يمثل صلب التقرير، وعنوانه: «العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديمقراطي»، وهو يتضمن تصنيف التيارات الإسلامية المعاصرة إلى أربعة: العلمانيين، والأصوليين، والتقليديين، والحداثيين؛ حيث يحدد السمات الرئيسية لكل تيار وموقفه من المشكلات المطروحة.
أما الفصل الثالث وعنوانه: «إستراتيجية مقترحة»، فهو يتضمن توصيات عملية موجهة لصانع القرار الأميركي لاستبعاد التيارات الإسلامية المعادية وتدعيم التيارات الإسلامية الأخرى، وخصوصاً ما يطلق عليه التقرير التيارات العلمانية والحداثية، ولأنها أقرب ما تكون إلى قبول القيم الأميركية وخاصة القيم الديمقراطية.
وتقرر (بينارد) أن الغرب يراقب بدقة الصراعات الإيديولوجية العنيفة داخل الفكر الإسلامي المعاصر، وتقول بالنص: «من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث والمجتمع الدولي ككل تفضل عالماً إسلامياً يتفق في توجهاته مع النظام العالمي، بأن يكون ديمقراطياً، وفاعلاً اقتصادياً، ومستقراً سياسياً، تقدمياً اجتماعياً، ويراعي ويطبق قواعد السلوك الدولي، وهم أيضاً يسعون إلى تلافي (صراع الحضارات) بكل تنويعاته الممكنة، والتحرر من عوامل عدم الاستقرار الداخلية التي تدور في جنبات المجتمعات الغربية ذاتها بين الأقليات الإسلامية والسكان الأصليين، في الغرب، وذلك تلافياً لتزايد نمو التيارات المتشددة عبر العالم الإسلامي، وما تؤدي إليه من عدم استقرار وأفعال إرهابية».
وبناء على هذه الدراسة المتعمقة يقدم التقرير عناصر أساسية لإستراتيجية ثقافية وسياسية مقترحة لفرز الاتجاهات الإسلامية الرئيسية التي يجملها التقرير في أربعة وهي: العلمانيون، والأصوليون، والتقليديون، والحداثيون. وفي ضوء هذا الفرز تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً ثقافية - إن صح التعبير - ضد الاتجاهات الإسلامية العدائية، وفي الوقت نفسه تصوغ إستراتيجية لدعم الاتجاهات الإسلامية القريبة من القيم الأميركية، مادياً وثقافياً وسياسياً؛ لمساعدتها في الاشتراك في ممارسة السلطة السياسية في البلاد العربية والإسلامية.
ومن هنا نفهم كلمات العنوان الفرعي للكتاب التقرير «شركاء، وموارد، وإستراتيجيات»، فكلمة (الشركاء) تشير إلى هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الذين سيقبلون - لسبب أو لآخر - الاشتراك مع الجهود الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في عملية إعادة صياغة الأفكار الإسلامية، من خلال عملية إصلاح ديني لها خطوطها البارزة، والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف، مما سيؤدي بالضرورة إلى تجفيف «منابع الإرهاب»، أي: تحديد الشركاء الإسلاميين المناسبين، والعمل معهم لمكافحة التطرف والعنف و «الإرهاب»، وتشجيع قيم الديمقراطية على الطريقة الغربية الأميركية.
أما إشارة العنوان الفرعي إلى (الموارد) فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للإنفاق على المشروع، من خلال «وكلاء» يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الإصلاحي الإسلامي الجديد.
وتبقى كلمة (الإستراتيجيات) الواردة في العنوان الفرعي للكتاب، وهي تشير بكل بساطة إلى الإستراتيجية التي تقترحها الباحثة لشن حرب ثقافية ضد التيارات الأصولية الإسلامية من ناحية، والتعاون الفعال مع عناصر من التيارات العلمانية والحداثية والتقليدية الإسلامية من ناحية أخرى.(31/356)
ومن الملفت للنظر أن الباحثة الأميركية ـ التي لا تتردد في وصف مهمة كتابها التقرير بأنه إسهام في عملية «إعادة بناء الدين الإسلامي r eligion Building» ـ أفردت ملحقاً خاصاً لمناقشة (السنة النبوية) والتي تتمثل في الأحاديث، وقررت أنه من الضروري تنقية هذه الأحاديث؛ لأن بعضها يستخدم كأساس للفتاوى الدينية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتطرفة في كراهية الآخر والهجوم على الغرب سياسة وثقافة.
لم يمض وقت طويل على هذا التقرير حتى تولى مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم تنفيذ التوصيات الأميركية الخاصة بالإسهام في (إعادة بناء الدين الإسلامي) بما يتفق مع القيم الأميركية، ونظم في القاهرة مؤتمراً ـ مولته أمريكا حسماً من المعونة الأمريكية لمصر ـ موضوعه (الإسلام والإصلاح)، بمشاركة 20 باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية، بالتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية، وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنَّى الدعوة إلى «إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي ومراجعة التراث الإسلامي مراجعة جذرية، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، ومواجهة وتفنيد مقولات ورؤى وأفكار التيارات الدينية المتطرفة، وتكثيف الحوار مع القوى المعتدلة والمستنيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الأميركي خاصة، وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار إستراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، وضرورة إجراء حوار عام موسع مع تيارات الإسلام السياسي السلمي».
غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر: دعوته إلى تنقية التراث الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن الكريم كمرجعية وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين وإيجاد مدرسة اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
وقد قوبلت توصيات المؤتمر التي أعلنت في مؤتمر صحفي في نهايته باعتراضات عنيفة من الحضور وبعض الصحف المصرية، والتي أفاضت في ذكر الهجوم العنيف على منظم المؤتمر والمشاركين فيه، واتهامهم المباشر بالعمالة لأمريكا.
معظم ما سبق هو مقتطفات منسقة من مقالات نشرت في الفترة من 15/7 إلى 5/8/2004م، و 5/10/2004م، بجرائد الأهرام المصرية والنهار اللبنانية وملحق (وجهات نظر) من الاتحاد الإماراتية، للكاتب (السيد ياسين)، وهو كاتب غير متهم بالتطرف أو الأصولية، بل على العكس يصنفه كثيرون على أنه يقف في الخندق المواجه للتيار الإسلامي.
وبحسب الكاتب نفسه في المقالات نفسها: فإن الاهتمام بما أطلق عليه (الصحوة الإسلامية) أكاديمياً وبحثيّاً لم يكن وليد الساعة، ولكنه ظهر واضحاً عام 1979م عقب نجاح الثورة الإيرانية، بَيْدَ أن الأب الحقيقي للتيار الأكاديمي الأميركي الذي حاول بعمق شديد ونادر تأصيل الليبرالية الإسلامية، هو عالم السياسة الأميركي المعروف (ليونارد بايندر) في كتابه (الليبرالية الإسلامية: نقد للأيديولوجيات التنموية) الصادر عام 1988م عن دار نشر مطبعة جامعة شيكاغو.
ومن الأهمية بمكان في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم، أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه، وهو يقول: «المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية، وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس أيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط، ويتساءل الكتاب عما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية».
وبعد أن يرصد (الأستاذ ياسين) بعض التطورات الفكرية والتحركات السياسية لبعض القوى الإسلامية، يقول:
وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية (ليونارد بايندر) بالليبرالية الإسلامية منذ عام 1988م(1)، قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد - من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة ـ إلى أن يُصدر عالم السياسة الأميركي (رايموند ويليام بيكر) عام 2003م كتاباً ملفتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه (إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد)، نشرته جامعة هارفارد، وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين، وهم: (أحمد كمال أبو المجد)، و (طارق البشري)، و (فهمي هويدي)، ومحمد سليم العوَّا.. ويضيف كاتب المقالات نفسه إلى هؤلاء الأربعة: الشيخ يوسف القرضاوي.(31/357)
بالطبع لا يعني ذلك أن محاولات أمريكا والغرب عموماً لـ (ليبرة) الإسلام بدأت منذ هذا التاريخ، فقد أشار كاتب إسلامي كبير في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي إلى خطورة (الإسلام الأمريكي) الذي تحاول الولايات المتحدة إيجاد موطئ قدم له في العالم الإسلامي، وقد أشرت في مقالات سابقة إلى محاولات الغرب الدؤوبة لإيجاد إسلام (بروتستانتي) لا يثير العداء للغرب ولا يستفز المسلمين، خاصة الجهود التي بذلت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(2).
ورغم الهجمة الأمريكية الشرسة والضغوط الغربية الهائلة التي تهدف إلى تمرير هذه المشروعات في عالمنا الإسلامي، فإني لم أجد جديداً أو غريباً في هذه المساعي، اللهم إلا في حجم التوجه ومقدار تكثيف الجهود في فترة زمنية محددة، ولكن الجديد حقاً كان في محيطنا الداخلي، وأعني به: ظهور فئة تنتسب إلى التيار الإسلامي (العامل) يَسِمُ أفرادها أنفسهم بأنهم (إسلاميون ليبراليون).
ويبدو أن ضغوط الواقع الاستبدادي التسلطي، وضيق ـ أو اختناق ـ مساحات الحريات، وشيوع مناخات الأحادية والمصادرة... جعل كثيراً من أفراد هذه الفئة يسترقون السمع لأي دعوى حرية، حتى ولو كانت نابتة خارج إطارنا الإسلامي، حتى ولو كانت باسم (الليبرالية). كنت أستغرب ـ ولا يُستغرب ـ أحدهم وهو ينعت نفسه بأنه (إسلامي ليبرالي)، وكأنه يصف نفسه بأنه مسلم (شافعي)، أو (مالكي)، أو حتى (شيعي)، أو كأنه ينسب نفسه بأنه (مسلم إندونيسي) أو (مسلم مغربي)، كان لا يستهجن ذلك، في حين كانت كلماته تقرع أذني وكأنها (إسلامي ماركسي) أو (إسلامي بوذي) أو (إسلامي علماني).
ومع استبعادي لعمالة هذا الشخص وأمثاله ـ أو حتى وعيه ـ للمشروع الأمريكي السابق ذكره، فإني على قناعة بأن أحدنا لا يفهم الإسلام، أو لا يفهم الليبرالية، أو لا يفهمهما معاً، هذا إذا كان هذا الشخص جاداً وصادقاً في كلامه.
وإذا كان المقام لا يتسع لعرض جميع أبعاد هذا الموضوع، فسأكتفي هنا بعرض وجهة نظري في الفرق بين الإسلام والليبرالية في أصولهما ومنطلقاتهما وما يترتب على ذلك من فروق على نطاق التصورات أو التطبيقات.
* الليبرالية والحريات.. الأصول والمنطلقات:
بداية فإنه لا يختلف أحد من الليبراليين (الأصوليين) على أن (الفكر الليبرالي) لا يقتصر على حقل الفكر السياسي، بل يمتد إلى ما هو أبعد منه، ليكوِّن فلسفة اجتماعية شاملة ترتبط بتوجهات محددة في مجالات الأخلاق وفلسفة العلم والقيم الاجتماعية والاقتصاد، إضافة إلى السياسة.
لقد لحق مفهوم الحرية ـ الذي ارتبط بالديمقراطية في المدن الإغريقية ـ تطور هائل من المدرسة الليبرالية، خصوصاً مع (جون لوك) في القرن السابع عشر؛ فالحرية في هذا المفهوم هي حرية الفرد، وهي الاعتراف له بمجال خاص لا يجوز التعدي عليه أو التدخل فيه؛ فالحرية هنا هي الاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لا يجوز التعدي عليها ولو بموافقة الأكثرية: للفرد الحق في الحياة، في العقيدة، في التعبير، في الاجتماع، في الملكية، في التعاقد.. وهكذا لم يبق للحرية مفهوم إجرائي لاختيار الحكام، أو لأسلوب اتخاذ القرارات السياسية، بل أصبح للحرية مضمون حقوقي قانوني، هو الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان باعتباره إنساناً.. وهذا هو المفهوم الليبرالي للحرية.
فعندما نتحدث عن الحرية فإننا قد نقصد أموراً مختلفة، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم المتعددة تحت ثلاثة مفاهيم: هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية الجمهورية)، وهي تتطلب المشاركة في الحياة السياسية واختيار الحكام ومسؤولياتهم، وهي تقابل المفهوم المستقر للديمقراطية السياسية، وهذه تجد جذورها في الديمقراطيات الإغريقية أو ما يطلق عليه (كونستانت) الحرية بالمفهوم القديم.
وهناك من ناحية ثانية (الحرية الليبرالية) وهي تشير إلى الاعتراف بحقوق وحريات أساسية للأفراد لا يجوز الاعتداء عليها أو التعرض لها، وهي تقابل المفهوم الحديث للحرية عند (كونستانت) أو الحرية السلبية عند (برلين)، وهي أيضاً ما يقابل ما يعرف حديثاً بـ (حقوق الإنسان) الأساسية كما صدر عن منظمات الأمم المتحدة في وثائقها المتعددة.
وأخيراً هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية المثالية) أو الحريات الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث يتعلق الأمر بضرورة تمكين الفرد من ممارسة حرياته، بتوفير حد أدنى من المستوى الاقتصادي وتقديم الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة»(1).
وإذا كان هذا الكلام يُظهر بعض الاختلاف في نظرة الليبراليين أنفسهم إلى (الحرية)، إلا أنه يوضح أننا لا نستطيع أن نفصل مسيرة الحريات الليبرالية عن مسيرة حقوق الإنسان في الغرب؛ إذ تتشابك وتتداخل المفاهيم في كليهما.(31/358)
ينقسم الحديث عن الحقوق والحريات إلى شُعب عديدة: فهناك (حق المعرفة) و (حرية الإبداع) و (حرية الاعتقاد) و (حرية الرأي ) و (حرية التعبير)، و (حرية التعليم)، و (حرية الملكية)، و (الحرية الشخصيّة)، ويمكن أن يضاف إلى ذلك: (حق تكوين الأحزاب والتكتلات). وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرية الشخصيّة، التي تشمل: (حرية التنقل) و (حق الأمن) و(حرية المسكن)، ويعد بعض الباحثين (حرية الرأي) الأصل في هذه الشُّعَب والأقسام جميعاً، وليس من هدفنا في هذا المقال تناول هذه الحريات والحقوق تفصيلياً، بقدر ما يهمنا وضع إطار كلي نستطيع من خلاله فهم النسق الذي توضع فيه هذه الحريات والحقوق وكيفية فهم خريطة العلاقات بينها.
فمفهوم قيم (الحريات) و (حقوق الإنسان) اصطبغ بالخلفية الفكرية التي خرجت منها هذه الحقوق، وخضع للمنظومة القيمية العامة للمجتمع الذي نشأت فيه، وهو ما يختلف كلية عن الخلفية الإسلامية والمنظومة الإسلامية التي تحوي المفردات أو المصطلحات نفسها.
فمن المعروف أنه يختلف مفهوم كل مصطلح وطبيعة العلاقة بين القيمة التي يحملها وقيم المصطلحات الأخرى بحسب الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي يسبح فيه هذا المصطلح، وعليه: لا نستطيع أن نختزل مفهوماً ما ونقتبسه من بيئته الفكرية والقيمية ثم نحاول إسقاطه على بيئة أخرى ومجتمع آخر له خلفيته الفكرية الخاصة ومنظومته القيمية المتمايزة.
من الملاحظ أن تبلور الليبرالية تزامن، في القرن السابع عشر الميلادي، مع ظهور الرأسمالية في أوروبا، عندما ظهرت حاجة الرأسماليين الصاعدين وقتها لإيجاد ذريعة أخلاقية وفكرية لحق تخزين الأموال الشخصية وكنزها، واعتقد المفكرون الليبراليون الأوائل بأنه لو خُلِّيَ العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائياً نحو الحل، وأننا لو تركنا الأفراد يعملون وفق إرادتهم الخاصة، فإن ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الأخوة، ومن ثم: اعتقدوا أن عامة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي إلى سعادتهم وراحتهم، وعليه: فلا تحتاج المسألة إلى افتراض تصور أو نظام يفرض عليهم من فوقهم، سواء من رجال الدين أو غيرهم؛ فالناس أنفسهم يمكنهم تعيين الحقوق والتكاليف التي يجب أن يستجيبوا لها بدون وجود سلطة عليا من خارجهم تفرض ذلك عليهم، وهذا ما تعرض للنقد حتى من مفكرين غربيين، كـ (تشارلز فرنكل) في كتابه (أزمة الإنسان الحديث)، ففي الحقيقة أن الغرب لم يلغِ المرجعية والسلطة بإطلاق، بل استبدل مرجعية بأخرى وسلطة بغيرها، بعد أن أزاح الدين عن ساحة التوجيه والتنظيم.
الغرب في نهضته استمد خلفيته الفكرية من الفكر الفلسفي اليوناني القائم على تقديس العقل - الذي أعلى من قيمته مرة أخرى مكتشفات عصر النهضة -، كما أن الغرب في نهضته كان خارجاً لتوه من سيطرة كنسية طاغية قائمة على تخلف علمي واستدلالي يورد الفيلسوف (فرانسيس بيكون) نموذجاً لها، فيقول: «وقع بحث ونقاش سنة 1432م، في مجمع من المجامع العلمية، حول عدد أسنان الحصان. لقد جرى التفتيش عن الإجابة عن هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين، بيدَ أن ذلك لم يقدم أي نتيجة، وبعد أربعة عشر يوماً من التحقيق أبدى أحد الطلاب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعد أسنانه، لكن هذا الاقتراح تم التعاطي معه على أنه كفر، وأن قائله مستوجب للتأديب الشديد، وفي نهاية المطاف، وبعد عدة أيام من البحث والجدال، أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل؛ نظراً لعدم ورودها في كتب القدماء، فأحس الغرب بأهمية الاستدلال العقلي وبتعطشه للتجربة الحسية التي حرمته منها الكنيسة، مهدراً أي طريق آخر للمرجعية المعرفية، وأصبح إثبات الحقائق أو نفيها مرهوناً بوقوع هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية وتجاربنا الحسية، وهذا معناه أنه لا يجوز الاعتراف بأي شيء اعترافاً مسبقاً؛ فكل شيء قابل للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين.(31/359)
وهذا ما أثر على نظرة الغرب إلى (الدين) و (الغيبيات) وتصوراته عن الكون والإنسان والحياة عموماً؛ حيث إن الدين والغيبيات لا يمكن للعقل المجرد إدراك مسائلهما، وعليه: فهي نسبية وغير يقينية ولا يستطيع أحد الزعم بأحقية تصوره وإبطال تصور الآخرين، ولذا: فهي متروكة لاعتقاد كل فرد، ومن ثَم: ينبغي على كل إنسان أن يفسح المجال لاعتقادات الآخرين وأن يتسامح معهم في معتقداتهم؛ لأنها ببساطة متساوية مع اعتقاداته في نسبتها إلى الحقيقة، أو بالأحرى: في افتقارها إلى الحقيقة. وعندما صادروا الدين والغيبيات من دائرة العقل والحواس فإنهم وضعوهما في دائرة العواطف والضمير الإنساني، وهي الدائرة التي لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها أو يصادرها، وفي أقصى الافتراضات: فهي عاطفة تقوم على الإقناع وليس على الإلزام.. كما أثر ذلك على نظرة الغرب إلى كيفية بحث الإنسان عن أهدافه وغاياته وعن طرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.. كما أثر ذلك أيضاً في النظرة إلى الأخلاق، حيث لا توجد أخلاق مقدسة أو مؤبدة أو مطلقة؛ فالحُسن والسوء ليسا مطلقين ولا كليين، كما أن تحديد الخير والشر والحسن والقبح يختلف من إنسان إلى آخر، ومن ثَم: لا ينبغي أن تُفرض هذه الأخلاق من سلطة عليا أيّاً كانت. وإذا كان الأمر كذلك فإن السلوك الإنساني سيتحدد من خلال الرغبات والميول البشرية، وعندها سيكون الحَسَن هو ما يحبه الأفراد أنفسهم ويرغبون فيه، والقبيح والسيئ هو ما ينفر منه هؤلاء الأفراد ويتعارض مع الرغبات الإنسانية.
لم يكن هذا هو التأثير السلبي الوحيد للكنيسة على منظومة الغرب في حقوق الإنسان وحرياته؛ فلقد أدت نظرة الكنيسة إلى الإنسان على أنه يحمل خطيئة أبدية ورثها من أبيه آدم، أي: إنه مذنب بالأصالة حتى يخلصه المسيح، أدى ذلك إلى رد فعل عكسي عند الليبراليين تمثل في تمحورهم حول الإنسان، فهو البداية وهو النهاية وهو الغاية. وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان وفق المنظور العقلي والحسي فإنه يتجرد من (الروح) ولا يبقى منه إلا الأبعاد الذاتية والنفعية، أي: الغرائز والشهوات والماديات.
والخلاصة: أن الغرب لم يُخرج تصوراته عن منظومته في حقوق الإنسان وحرياته - في الربع الأخير من القرن الثامن عشر - إلا بعد قطيعة حادة مع الدين ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية - التي أذعنت في النهاية لهذه القطيعة رافعة شعار (دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) - ثم تجسدت هذه القطيعة في أكبر تجلياتها على أرض الواقع عبر الثورة الفرنسية عام 1789م بشعارها الماسوني المثلث (حرية - مساواة - إخاء)، وهو الشعار الذي يعد أصل كافة حقوق الإنسان في المنظور الغربي، تأسيساً على أنها حقوق عامة تشمل جميع الأفراد بموجب (الحق الطبيعي) الذي يسبق جميع الثقافات والحضارات - حسب هذا الفكر - وعليه: صدر في العام نفسه (إعلان حقوق الإنسان والمواطن).
فواضح أن المرجعية في الغرب ـ بعد انقطاعه عن الكنيسة في مجالات الحياة ـ تحولت إلى العقل إضافة إلى الحس التجريبي، ومن هذه المرجعية انبثقت هذه الحقوق والحريات، مع مراعاة البعد الاقتصادي في تطور المجتمع الغربي آنذاك، وواضح أيضاً أن المنهجية التي تأسست عليها هذه الحقوق والحريات هي العلمانية.
وإذا رصدنا ترتيب الهرم القيمي الذي استقر عليه الغرب بناءً على هذه المرجعية وهذه المنهجية نجد أن (الحرية) و (المساواة) تتبوآن قمة هذا الهرم، وعليه: فتحقيق هاتين القيمتين - حسب المفهوم المستقر لديهم - له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له، أو تتقيد به، أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى، ومن هنا: أصبحت (الحرية) و(المساواة) على رأس (الثوابت) و(المقدسات) التي لا يمكن المساس بهما، والتي يمكن - أيضاً - التضحية بالقيم الأخرى والحقوق الأخرى من أجل المحافظة عليهما.
وعلى هذا الأساس انتظمت (الحقوق) و (الحريات) و (العلاقات). ففي العلاقات بين الأفراد نجد أن (حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين)، وفي العلاقة بين الفرد والمجتمع برزت نظرية (العقد الاجتماعي) التي نضجت قبيل الثورة الفرنسية في فكر (جان جاك روسو)، والتي بمقتضاها يتنازل كل فرد في المجتمع عن بعض إطلاقات حقوقه وحرياته للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسدها الدولة، مقابل (تنظيم) هذه الدولة لممارسة تلك الحقوق والحريات بين جميع الأفراد وحمايتها لها، وهكذا تحولت هذه الحقوق والحريات (الطبيعية) إلى حقوق (مدنية) لا يسمح بالخروج عليها؛ حيث تحميها سلطة المجتمع (الدولة)، وهو الأساس الذي قامت عليه الدولة الحديثة في الغرب.(31/360)
وبانتشار الفلسفة التحررية (الليبرالية) واستقرارها في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر.. أخذت الحريات والحقوق الفردية بُعداً جديداً، عندما أصبحت هذه الفلسفة هي الأساس النظري للتنظيم السياسي والاقتصادي والقانوني للمجتمعات الغربية، فنادت الليبرالية - في الفكر السياسي - بالوقوف ضد كل أشكال التمييز الاجتماعي أو القانوني بين البشر (مساواة)، وطالبت بإطلاق كل الحريات لكل الناس (حرية)، ولكن في حدود قانون واحد يحكمهم ويحتكمون إليه دون تمييز، أو بتعبير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم»، فأصبح القانون هو الذي يجسد حقوق الإنسان في نهاية الأمر - حسب الرؤية الغربية - كما نادت الليبرالية بأقل قدر ممكن من القيود التي قد يفرضها المجتمع على تصرفات الأفراد (فردية منهجية).
وتوج ذلك بإصدار الغرب، المنتصر عام 1948م والمتأثر بما أشيع عن حجم المذابح التي تعرض لها اليهود في هذه الحرب، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموافقة 48 دولة وامتناع 8 دول عن التصويت - معظمها من دول ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، ثم تلاه مواثيق وعهود دولية متعددة لحقوق الإنسان، وقد جاء هذا الإعلان مهملاً لقيم لا يزنها الغرب بميزان الحقوق (حق الارتباط الأسري، حق الجوار، حق المسافر «ابن السبيل».. إلخ)، وفي الوقت نفسه: مارس - وما يزال - فرض وجهة نظره في هذه الحقوق على المجتمعات الضعيفة بلا أدنى مراعاة لحرية الاختيار وحق الاختلاف، حيث يرى الغرب في كل زمن وصوله إلى مرحلة النضج والكمال في هذا الزمن، ويرى تخلف غيره من المجتمعات، ويرى أن عليه رسالة سامية، هي (تحضير) هذه المجتمعات المتخلفة بفرض رؤيته (الحضارية) عليها.
وهكذا نرى أن ملامح الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي خرجت منه الحريات والحقوق في الغرب تتمثل في أن:
1 - العقل المجرد هو مرجعية هذا الحقوق والحريات، حتى وإن اقتبس هذا العقل بعض قيم الدين ـ كما في تأثر الليبرالية بالبروتستانتية ـ فإن العقل المجرد يبقى هو الحاكم على هذه القيم بالرفض والقبول.
2 - العلمانية (فصل الدين عن الحياة وعن الدولة) هي المنهجية التي تنتظم فيها هذه الحقوق والحريات.
3 - (الحرية) و (المساواة) هما أعلى قيم المجتمع التي تخضع لها وتنتظم معها قيم المجتمع الأخرى، فهما (ثوابت) و (مقدسات) لا يمكن المساس بهما.
4 - إعلاء قيمة (الفرد) ومصالحه مقابل تقليص دور المجتمع ومصالحه.
وعلى هذه الأسس نستطيع رد الأحداث الجزئية إلى أصولها وتفسيرها تفسيراً منطقياً:
ففي الغرب يحق لأي شخص اعتناق الدين الذي يروق له سواء أكان سماوياً أو غير سماوي أو أن يكون ملحداً أو أن يغير دينه (انظر: المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)؛ لأن ذلك يدخل في إطار حق (حرية الاعتقاد)، وهو حق (شخصي / فردي) لا يجوز التدخل فيه. وواضح هنا أن تصور (الاعتقاد، أو الدين) جاء منسجماً مع النظرة العلمانية الغربية للدين التي تفصل بين الدين والحياة؛ فالدين عندهم لا علاقة له بالعقل ـ أي: لا يوزن بمعيار الصحة والخطأ ـ أو بنظام المجتمع، ولكنه عاطفة أو ضمير يكنه الشخص داخل نفسه فقط.
وعلى ذلك: فلو أن شخصاً ما كان من دينه الذي (يعتقده) إباحة تعدد الزوجات مثلاً وأراد ممارسة ذلك فإن الدولة تتدخل لـ (تقييد) هذه الحرية وتمنعه من ذلك؛ لأن تلك الممارسة خارجة عن حقه في (حرية الاعتقاد)؛ إذ إنها خرجت عن إطار (العاطفة والضمير الشخصي)، ولأن في ذلك خرقاً للقانون وللعقد الاجتماعي وللنظام الذي ارتضاه معظم الأفراد (فصل الدين عن الحياة)، ولأن فيه تعدياً على حقوق أفراد آخرين (المرأة، حتى ولو كانت راضية) حسب زعمهم، ولكن في الوقت نفسه: يباح لهذا الشخص معاشرة نساء أخريات خارج إطار الزوجية، ما دام ذلك يتم برضاهن ـ حتى لو كان ذلك مخالفاً لدينه الذي ينتسب إليه - لأن في ذلك إشباعاً لحاجات غريزية يمارسها أفراد بمقتضى (حريتهم) الشخصية التي لم يقيدها القانون؛ فالمسلم في هذه البلاد يستطيع أن (يعتقد) و (يعبر) بحرية عما يعتقد ـ وذلك افتراضاً؛ فتداعيات أحداث سبتمبر كشفت قشرة التجمل الديمقراطية ـ ولكنه لا يستطيع أن يمارس بالحرية نفسها تطبيق ما يعتقده ويعبر عنه (تأمل أيضاً قضية حجاب الفتيات المسلمات في فرنسا، ومنع الذبح الشرعي في أكثر من دولة أوروبية، ومصادرة كتب إسلامية لأكثر من كاتب في أحد معارض الكتب بباريس «عاصمة النور!»، وتأمل معها في الوقت نفسه: الموقف من سلمان رشدي وأمثاله).(31/361)
وفي الغرب رُفعت قضايا عديدة ضد أكثر من مفكر وكاتب ومؤرخ لمجرد أنه (عبر عن رأيه) بالتشكيك في محارق النازية لليهود (الهولوكست) نفياً لوجودها أو تقليلاً من عدد ضحاياها، وقد كانت حجج اليهود أن في ذلك معاداة للسامية، وهي عنصرية تعمل على إشاعة الكراهية ومضادة (الإخاء) و (المساواة)، وهي (ثوابت) و (مقدسات) في المجتمع الغربي، يجب المحافظة عليها حتى ولو اقتضى ذلك تقييد (حرية الرأي) ومصادرة (حرية التعبير) لأفراد مفكرين، يمكن أن يكون مآلهم السجن (عكس الحرية تماماً) أو الحكم بالغرامة المالية، بدلاً من تشجيعهم على البحث الحر والرأي الحر.
في الغرب يقوم نظام الحكم على الديمقراطية (وهي من أكبر عمليات النصب الفكري في التاريخ، ولهذا حديث آخر) التي قوامها القبول بالتعددية، وضماناً لإعمال هذا المبدأ تقوم أنظمة الحكم الغربية بإطلاق (حرية تكوين الأحزاب السياسية والتكتلات) ومع ذلك نجد أن بعض هذه الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع (تقييد هذا الحق وتوجيهه) فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي، أو قيام حزب ملكي في بلد جمهوري، أو قيام حزب انفصالي في بلد اتحادي، أو قيام حزب شيوعي في بلد رأسمالي (كما في أمريكا مثلاً)، أو قيام حزب نازي أو فاشي في بلد ليبرالي - وخاصة ألمانيا وإيطاليا - ولو حدث اختراق لبعض هذه الشروط والقيود تحت مسميات ومظلات أخرى فإن العقوبات تكون بالمرصاد لهذا الاتجاه ولزعيمه ولبلده، وحالة حزب الحرية (القومي النمساوي) وزعيمه (يورج هايدر) ليست ببعيدة.
وأسباب ذلك التقييد والتضييق قريبة من الأسباب المذكورة في النقطة السابقة.
وباختصار: ماذا لو خرج في الغرب ـ مِن منطلق الحريات ـ مَن يطالب بهدم (ثابت) الحرية (المقدسة) وإسقاطه؟ الرد الفوري الجاهز من أنصار الحرية سيكون الشعار المعروف: (لا حرية لأعداء الحرية) بدعوى أن هؤلاء (سيستخدمون الحرية لقتل الحرية).
وبالطبع فإنهم لا يعدون هذه القيود انتقاصاً للحقوق والحريات، بل يعدونها حماية لهذه المكتسبات التي أصبحت ثوابت (مقدسة) وضبطاً لها؛ حتى لا تتحول إلى فوضى يضيع معها نظام المجتمع.
* الحريات في الإسلام بين الحق والضبط:
وفي مقابل المنظومة الغربية في الفكر والقيم نجد في الإسلام و (المجتمع الإسلامي) منظومة مختلفة تماماً: مختلفة في المرجعية والمنهجية، وفي الثوابت والمقدسات، وفي الغايات والأهداف، وحتى في الوسائل والأدوات القانونية والاقتصادية والسياسية لتحقيق هذه الغايات.
فمقابل (العقل المجرد) و (الحس التجريبي) نجد في الإسلام أن (الوحي) هو المرجعية الأولى للفكر والقيم، مع عدم إهمال أهمية المرجعية المعرفية للعقل والحس، ولكن وضعهما في إطارهما واستعمالهما في مجالاتهما.
ومقابل (العلمانية) نجد في الإسلام أن (الشريعة) وانتظام الدين مع الدنيا هو المنهجية التي يقوم عليها المجتمع.
ومقابل (الفردية) نجد في الإسلام المسؤولية المتبادلة بين الفرد والمجتمع والتآلف بينهما من غير جور أو تعدي أي منهما على الآخر (حقوق شخصية، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)، وهو ما يؤكده حديث السفينة التي استهمها ركابها، وهذا المفهوم يرقى بحريتي الرأي والتعبير ـ وفق التصور الإسلامي ـ من مرتبة (الحق الشخصي) إلى مرتبة (المسؤولية الاجتماعية).
ومقابل (الحرية) و (المساواة) نجد في الإسلام أن (العبودية) لله رب العالمين و (العدل) بين البشر (ليس بالضرورة أن يكون العدل هو المساواة كما يفهمها بعض البشر) يتربعان على قمة الهرم القيمي في المجتمع الإسلامي، فهما أكبر (الثوابت) و (المقدسات) في المجتمع، وتحقيق هاتين القيمتين وعدم المساس بهما له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له أو تتقيد به أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى بما فيها الحقوق والحريات.(31/362)
وأعني بـ (العبودية) لله ـ عز وجل ـ: الخضوع والدينونة العامة له (سبحانه)، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، وفي هذا الإطار نلاحظ أن تحقيق (العبودية) لله ـ عز وجل ـ يتناسب طردياً مع (التحرر) من المخلوقات؛ فكلما عظمت حقيقة العبودية لله ـ تعالى ـ وارتفعت في نفس المسلم، كلما ازداد تحرره من المخلوقين. كما نلاحظ أن هذا التحرر يكون داخلياً وخارجيّاً؛ فالعبودية لله ـ سبحانه ـ تجعل المسلم يتحرر حتى من سيطرة (الأشياء) والتعلق بها؛ «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أُعطي رضي وإن لم يُعْطَ لم يرضَ»(1). وتأمل موقف سلطان العلماء (العز بن عبد السلام) عندما أغلظ في القول جهراً مناصحة للملك الصالح نجم الدين أيوب، لما رأى الأمراء يقبِّلون الأرض بين يديه. يقول تلميذه الباجي: «سألت الشيخ لمَّا جاء من عند السلطان ـ وقد شاع هذا الخبر ـ: يا سيدي! كيف الحال؟ فقال: يا بني! رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه؛ لئلا تكبر نفسه فتؤذيه، فقلت: يا سيدي! أما خِفتَه؟ فقال: والله! يا بني! استحضرتُ هيبة الله ـ تعالى ـ فصار السلطان قدامي كالقط».
أما (العدل) فإنه من أبرز خصائص هذه الأمة {وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، والوسط هو العدل - كما جاء في تفسيرها-.
وضمن هذا الإطار تنتظم (الحقوق) و (الحريات) الشخصية، وليعذرني القارئ في استعراض بعض هذه الحقوق والحريات حسب شكل الإطار الغربي:
فـ (حق المعرفة) مكفول في الإسلام، ولكن تحت ظروف معينة جاز تضييقه بعض الشيء لأجل الارتقاء بمستوى (العبودية) والمحافظة عليها، كما في حديث معاذ عندما أخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرَّمه الله على النار»، فقال معاذ: «يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟»، قال: «إذن يتكلوا»(1)، وهو ما يسميه العلماء: جواز كتم العلم للمصلحة.
و (حرية العقيدة) في المجتمع الإسلامي مكفولة (في إطار) مراعاة الثابت الأعلى لهذا المجتمع (العبودية والدينونة لله عز وجل)، ومن هنا اتسع المجتمع الإسلامي لوجود التعدد الديني فيه، عندما قَبِلَ أن يتعايش فيه أفراد يعتنقون اليهودية والنصرانية - وقد يلحق بهما المجوس كما جاء في بعض الروايات، باعتبار أن لهم شبهة كتاب - وترك لهم حرية تنظيم شؤونهم الشخصية، بينما لم يتسع لغيرهما من الديانات الوثنية أو الإلحاد، وذلك باعتبار أن اليهودية والنصرانية ديانتان ذواتا أصل سماوي ويعلنان انتسابهما إلى مظلة تلك العبودية والدينونة في الجملة؛ فالقاعدة في ذلك: قبول المجتمع الإسلامي أن ينضوي تحت مظلته كل من يعلن قبوله لسلطان الله عليه في الجملة، ونبذه لكل من يعلن تمرده وخروجه على هذا السلطان.
ولكن الانحراف والتحريف الطارئ على تلكما الديانتين - والذي يتصادم مع حقيقة (ثابت) العبودية - يجعل دائرة (حرية التعبير) أضيق في حقهما من دائرة (حرية الاعتقاد)، فلا يحق لهما الدعوة - أو التبشير ـ بدينهما، ولا إظهار شعائر عباداتهما ـ المعبرة عن انحرافهما ـ خارج دائرة معتنقيهما. فخروج (حرية التعبير) عن هذه الدائرة يخرق نظام المجتمع ويهدم الثابت الأساس والمقدس الأول في الهرم القيمي للمجتمع. وهنا يضاف ـ في حق هؤلاء ـ إلى قبول سلطان الله: قبول شريعة الإسلام باعتبارهما المرجعية والنظام اللذين يقوم عليهما المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية.(31/363)
ويتعلق بـ (حرية الاعتقاد) مسألة المرتد عن الإسلام: ففي حين أن الإسلام لا يعاقب من لم يدخل فيه ابتداء، كما أنه لا يُكره أحداً على اعتناقه والدخول فيه، {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]، كما لا يمنع ولا يعاقب من انتقل من دين إلى آخر أو من مذهب عقدي في هذه الأديان (التي تعيش في ظله) إلى آخر - وفي ذلك خلاف فقهي ضعيف -.. نجد أنه في الوقت نفسه يمنع و (يعاقب) من ينتقل منه إلى غيره، ولا ينفع في هذا المقام محاولات بعض المتكلفين إبراز آراء فقهية شاذة تنفي عقوبة القتل عن المرتد، بغية التطابق مع المفهوم الغربي لـ (حرية الاعتقاد) لأن التهديد والوعيد الأخروي الثابت في القرآن {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] يأبى إضفاء شرعية هذه الصفة (حرية الاعتقاد) لهذه الفعلة (الردة عن الإسلام) في المجتمع المسلم، وبحسب المفهوم الليبرالي الذي يتمحلون في موافقته؛ فإن ذلك الوعيد يعد ترهيباً معنويّاً لا يتفق مع الدعوة إلى حرية الاعتقاد.
ونستطيع فهم موقف الإسلام من المرتد عنه، في ضوء أن ذلك الانتقال عنه يعد طعناً في القيمة العليا والأساس التي يقوم عليها المجتمع، أو بعبارة أخرى: إنه يعد ذلك إعلاناً بالطعن في صحة هذا الدين، أو في عدم حاجة الإنسان إليه، وذلك غير مقبول في مجتمع يستمد شرعيته ومرجعيته بالأساس من اعتقاد صحة هذا الدين ومن الحاجة إليه.
ولا يقتصر (التضييق) على (حرية التعبير) على أهل الكتاب والمرتدين فقط، بل يشمل كل متطاول وطاعن في ثوابت المجتمع ومقدساته، سواء أكان منتسباً إلى الإسلام أم غير منتسب، بل إن ذلك الطعن من سمات (الإمامة في الكفر) كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]، وبالطبع فإن بعض المنتسبين إلى المنظومة الغربية قد يعدون الطعن في الدين (حرية إبداع) و (حرية رأي) و (حرية تعبير).
ولكننا نرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعتدَّ بـ (إبداع) ولا (حرية تعبير) اليهودي كعب بن الأشرف عندما شن حملة إعلامية (شعرية) هجا فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآذاه، كما لم يأبه القرآن الكريم ولا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا مجتمع الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بـ (حرية الرأي) عندما أبدى بعض المنافقين - في سياق التهكم والسخرية بدعوى التسلية واللعب - رأيهم في (قرَّاء) الصحابة (أي: فقهاؤهم وعُبَّادهم) بأنهم أرغب بطوناً وأكذب ألسنة وأجبن عند اللقاء(1)، وهو ما عده القرآن استهزاءً بالله وآياته ورسوله، استلزم أن يكون كفراً بعد إيمان لا يقبل فيه الاعتذار باللعب؛ فما بالنا بمن يهزأ صراحة ويعلن جديته في ذلك؟
وهنا نقطة يرددها كثيرون بدعوى أنها دليل على السماح بحرية الرأي المتضمن لنشر آراء كفرية في المجتمع الإسلامي... حيث يدعي بعض الكتاب أنه في مسألة مثل مسألة التعرض إلى الذات الإلهية وإنكار وجودها ابتداءً، نجد أن القرآن الكريم أورد وحفظ ما يصعب حصره من دعاوى غير المسلمين وآرائهم ومقولاتهم واتهاماتهم أياً كانوا في هذا الباب.
هذا الكلام وأمثاله يحمل في طياته خلطاً كبيراً بين مفهوم (حرية التعبير) الذي يستدلون له، ومفهوم (الحوار والجدل) الذي وردت في سياقه الآيات والآراء والمقولات التي أشاروا إليها. والحقيقة أن بين المفهومين فرقاً كبيراً؛ فحرية التعبير تقتضي ترك صاحب الرأي يعرض وجهة نظره وحججه بدون أي تعقيب أو تعليق مباشر، وقد لا يوجد تعقيب بالمرة، وهذا ما لم يحدث في القرآن ولا في غيره من المرجعيات الإسلامية؛ بينما الحوار والجدل عملية إلقاء حجة على حجة ورأي على رأي لإظهار الحق؛ ففي هذا المقام نلحظ أن إيراد القرآن لأقوال أهل الشرك والكفر لم يكن بقوة الحق الممنوح لهم (حرية التعبير)، بل كان بقوة الفعل الذي صدر منهم وأصبح واقعاً لا يمكن تجاهله، فأوردها في محاورات ومجادلات غاية في الدقة والأمانة والرقي، ونلحظ أيضاً أن (الحوار والمجادلة) بهذه الصورة يعد من أوسع الممارسات الفكرية في الحقل الإسلامي.(31/364)
ورغم هذا (التضييق) على حرية الرأي وحرية التعبير (الرأي يكون سابقاً للتعبير عنه) إذا تصادم هذا الرأي أو التعبير مع ثوابت المجتمع ومقدساته وأخلَّ بنظام الهرم القيمي فيه.. نرى في الوقت نفسه تسامحاً ومرونة واتساعاً في (حرية الرأي) و (حرية التعبير) حتى لو صدر من غير المسلم - وحتى لو كان هذا الرأي خاطئاً ومخالفاً لما هو راسخ، بل لو كان يحمل شبهة التطاول الضمني - وذلك إذا كان مستظلاً بمظلة ثوابت المجتمع ومقدساته: فهذا يهودي آخر يتقاضى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالاً فيجبذه من منكبه ويقول له: «إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل وإني بكم لعارف» ويرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما انتهر عمرُ اليهوديَّ، فيقول له: «يا عمر! أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي»(2)، وهذا رائد الخوارج يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - - بعدما قسّم بعض مال في المؤلفة قلوبهم -: «يا رسول الله! اتق الله!» أو «يا رسول الله! اعدل!»(3)؛ ففي هذه المواقف آراء تحمل شبهة تطاول ضمني على شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هذا التطاول ليس على مقام النبوة والرسالة، ومن حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو ويتنازل عن حقه الشخصي، وإن لم يكن من حق أمته التنازل عن هذا الحق. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الآراء كانت مستظلة بمظلة ثوابت المجتمع (العدل في الحالة الأولى، والعدل والعبودية لله ـ تعالى ـ في الحالة الثانية) ولذلك كان تذكير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصحيحه بأنه هو أول من يتمثل هذه الثوابت ويحميها: «ومن يعدل إن لم أعدل؟»، «أوَلست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟».
وتتسع هذه الحريات (حرية الرأي وحرية التعبير) كلما تأكد استظلالها بمظلة هذه الثوابت، حتى ولو أدت إلى (اختلاف) و (تنوع) و (تعدد)، وفي اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ومَنْ بعدهم من مدارس فقهية ومناهج كلامية ما يتعذر حصره في هذا الصدد.
وهنا نقطة جديرة بالذكر، وهي: أن التاريخ يشهد بأن مساحة (التنوع) و (حرية الرأي الآخر) و (حرية التعبير) كانت دائماً في أقصى مداها في ظل السيادة الثقافية والسياسية لأهل السنة والجماعة، بينما كانت هذه المساحة تتقلص دائماً - وأحياناً إلى حد الاختناق - مع تملك الفرق الأخرى لأزِمَّة الأمور، ومحنة خلق القرآن التي أراد فيها المعتزلة (أهل العقل) امتحان الأمة وحملها فرداً فرداً على اعتناق رأيها في هذه المسألة العقدية.. خير شاهد على ذلك.
وعلى النسق نفسه ينتظم حق تكوين الأحزاب والتكتلات؛ فمانعو الزكاة وأتباع مسيلمة الكذاب كوَّنوا تكتلات بناءً على (آراء) تبنوها، ولكن لما كانت هذه الآراء مصادمة لثوابت المجتمع ومقدساته لم يكن لها مكان في هذا المجتمع؛ فكان الصدام معها والقضاء عليها واستئصال آرائها، بخلاف الخوارج الذين تكتلوا على (رأي) أيضاً؛ فلم يقاتَلوا ابتداءً، بل لم يقاتلوا إلا عندما نابذوا الدولة الإسلامية بالقتال، فقوتلوا على جريمتهم السياسية وليس على آرائهم، واستمرت آراؤهم سيارة بعد ذلك في أتباع مذهبهم، يشملهم الانتساب إلى عموم الأمة بمصطلح (أهل القبلة)، وكذلك التكتلات الفكرية الأخرى، بل والتكتلات الاجتماعية كالقبائل، بل كالمهاجرين والأنصار، وهي تكتلات كانت مكونة تحت لواء (انتماء) وليس تحت راية (ولاء) الذي ظل دوماً معقوداً للقيم والمقدسات العليا في المجتمع الإسلامي.
فهل بعد ذلك يمكن القول إن الإسلام يدعو إلى الحريات والحقوق كما تدعو إليها الليبرالية، ويمكن الجمع بينهما بلا غضاضة؟.. أم أن إضافة الليبرالية إلى الإسلام ليست إضافة بيان أو ترادف، بل لإكمال نقص وسد خَلة في الإسلام؟
نبرئ إخواننا أن يكون ذلك قولهم..
============(31/365)
(31/366)
الليبراليون المؤدلجون .. والليبراليون الداجون !!
دكتور استفهام
نعم .. إننا نعيش مرحلة استثنائية وحرجة يمر فيها البلد ، وقد أفرزت هذه الأحداث التي تمر بها منطقة الشرق أوسط الكبير بروز تيارات كانت كامنة في الأرض ، وكمون تيارات ، وصار العامل السياسي العالمي واستراتيجية امريكا تلعب دورا بارزا في نشاط هذه التيارات التي تتبني الفكرة الغربية بحذافيرها ، وأصبح لها حضور فاعل وقوي ، بل وجرئ للغاية في طرح ما كانت تداري بإعلانه في المرحلة الماضية .
إن المعنى الدقيق لليبرالية يعاني من ضبابية واختلاف ولذلك لاختلاف طبيعة الحراك التاريخي للكلمة ، فهي بدأت بمفهوم خاص غير شمولي يدل على طبقة معينة من الناس ، ثم تطورت " سياسيا " حتى ارتبطت ارتباطا وثيقا بالرأسمالية ، إذ لا يمكن من الدعوة لليبرالية إلا بالدعوة للحرية الاقتصادية والحرية - وخاصة بالمال الخاص - ، وهذا يجعل محاولة " التلفيق " بين مبادئ الاسلام القارة الخالدة وبين الليبرالية بمفهومها الشمولي عبث فكري ، وسخف معرفي ، يدل على سطحية مفرطة وجهل بالكلمة ، او يدل على خبث في تمرير المفاهيم المبطنة من خلال اضفاء الشرعية عليها وأنها لا تتعارض مع الإسلام .
في المشهد الثقافي والفكري في " السعودية " يطالعنا بعض الكتاب " الليبراليين " ليعلنوا عن دعوتهم الى الليبرالية ، ثم هم لا يبينون عن أي ليبرالية يريدون ، حيث أن الليبرالية في الغرب مرت بمراحل من النقد والمراجعة والتطوير ، وكانت في نهايتها توسيعا لنفوذ الرأسماليين في الواقع ، والدعوة الى الحرية المطلقة المتفلتة من أي قيد ، ولكن كلمة " ليبرالية " تستهوي بعض الكتاب ليظهر نفسه بمظهر المثقف والمنفتح على الثقافات ، ولا يدري مآلات حمل هذه الفكرة على البلد سياسيا او ثقافيا او اجتماعيا .
إن هناك صنفان من الليبراليين :
الصنف الأول : الليبرالي المؤدلج الذي يتحيز إلى الغرب ثقافة وفكرا وتاريخا ، ويقوم مشروعه على التبشير بالمشروع الغربي لحمة وسدى ، وله موقف مبدئي من القيم الاسلامية ، بل من الاسلام ذاته ، ولولا وضع البلد سياسيا وقيما ، وكون الاسلام يشكل عمقا ضخما في البلد لأبان بموقفه من الاسلام بشكل مباشر وواضح ، ولكنه - ولهذا السبب - يمارس دور المنافق الذي يغمز ويلمز ويعمي الالفاظ ويخاتل بها إدراكا لطبيعة المرحلة التي يمر بها ، وان كانوا الآن أكثر صراحة ، ولعل هذا بداية مشروع لتأجيج الصراع مع الحكومة لقناعة الليبراليين بأن القفزة الى المجتمع الديمقراطي والليبرالي الرأسمالي الحر لا يمكن إلا من خلال ثورة حمراء ، لأن الحرية عندهم تنتزع ولا تعطى طوعا .
إن هؤلاء هم الذين يشكلون الخطر الحقيقي على البلد ، لأنهم يركبون مشروعا مناهضا للبلد واقعا ومستقبلا ، ويشكلون بديلا محتملا للأنظمة القائمة في المنطقة ، وما العراق إلا نموذجا لهذا ، حيث عمل هؤلاء على التسويغ للمحتل بدخول الأرض ، وكانوا قبل ذلك يحملون المشروع الغربي بكل تفاصيله ، ويبشرون به ، وخاصة بعد اكتشافهم بفشلهم في منحى " التغيير الاجتماعي " حين ادركوا إن المجتمعات الاسلامية قد لفظتهم وفشلوا في إحداث مشروعهم التغييري ، فان كان الاسلاميون قد نجحوا في تركيا اتاتورك ، فما بالك بموقع هؤلاء في بلد مثل المملكة العربية السعودية .
إن هؤلاء لهم أجنداتهم الخاصة ، ولهم كذلك مواقعم المؤثرة إعلاميا ، ولهم أتباع كثر ، ولهم دعومات كبيرة من جهات متعددة ، ولمثل هؤلاء يحتاج الى التركيز على مشروعهم ، ورصد تحركاتهم ، فإن مدافعتهم شريعة ماضية ، ومقصد شرعي حفظا لثوابت الأمة من جهة واستقرارها وأمنها في ظل دينها وعقيدتها وأخلاقها .
الصنف الثاني : أولئك الشلة الفاشلة من الشباب الذين يريدون التفلت من قيم الشريعة ، والاخلاق الاسلامية ، ويحملون في دواخلهم حنقا ضد كل التوجهات الاسلامية ، وهؤلاء ما أسميهم بـ " الليبراليون الداجون " ، فهم شهوانيون لا يريدون سوى تمتيع الشهوات وإلباس دعوتهم بالفكر والحرية والليبرالية ، وهؤلاء مساكين لاهثون خلف مصالحهم ، يُركبون من المؤدلجين لتحقيق مكاسب خاصة ، ثم يلفظونهم ليبحثوا عن صيدة أخرى ، ومن الخطأ الكبير إعطاء هؤلاء اكبر من حجمهم ، أو صرف الجهود عليهم ، لأنهم سيخبون ويخفتون حالما ينتهي الدور المصاغ لهم .
هذه فكرة عارضة أحببت ان اشارك فيها الاخوة .. والله الموفق !
===============(31/367)
(31/368)
الإسلام الليبرالي أو الضوء الذي يخفي الحقائق
محمد إبراهيم مبروك
يبدو أن قناعات المنظِّرين الأمريكيين من أمثال (هنتنجتون) و (فوكوياما) و (برنارد لويس) بأن الإسلام يملك الأيديولوجية الوحيدة القادرة على تحدي المنظومة الليبرالية العلمانية للحضارة قد غدت قناعات نهائية للسياسة الأمريكية بوجه عام.
ومع إصرار هذه السياسة على الانفراد بحكم العالم غدا قهر الإسلام وإرغامه على الالتحاق بالتبعية الغربية هو الهدف المحوري لتلك السياسة الذي تدور حوله باقي أهدافها الأخرى. ومع استعصاء الإسلام على هذا القهر الذي يتجلى في المقاومة الجهادية للأمريكيين في أماكن مختلفة من هذا العالم اقتضى العمل على اختراق الإسلام نفسه من الناحية الفكرية بابتداع ما يسمى بـ (الإسلام الليبرالي) الذي شاع عنه الحديث في المرحلة الأخيرة والذي يعني بكلمة مبسطة للغاية: ابتداع بناء مفاهيمي مزيف يجمع بين بعض الأطر الشكلية للإسلام والمضمون الليبرالي للحضارة الغربية القائمة، ويتم تبنيه ودعمه والترويج له بالطريقة التي تصنع منه الضوء الذي يخفي الحقائق.
الرصد والتنظير لمحاولات توظيف الإسلام للمصالح السياسية:
العمل على توظيف الإسلام للمصالح السياسية شأن قديم، مثله مثل كل ما يمكن العمل على توظيفه من معتقدات للمصالح السياسية في التاريخ الإنساني؛ حيث يتوقف النجاح في ذلك على مدى تيقُّظ أهل هذه المعتقدات لما يستهدفه أعداؤهم من اختراق لها؛ لدفعهم إلى الوجهة التي يريدون من خلال الخداع والتضليل.
ويمكن الحديث عن ثلاث محاولات للرصد والتنظير حول هذا الموضوع في النصف الثاني من القرن العشرين:
الأولى: هي ما رصده الأستاذ (سيد قطب) من محاولات أمريكية لتوظيف الإسلام لمصالحها السياسية أوائل تلك المرحلة الزمنية للعمل على إرث الإمبراطورية الإنجليزية، وسماه حينذاك بـ (الإسلام الأمريكاني).
الثانية: ما كان قائماً بالفعل في الاتحاد السوفييتي، وقام بالتنظير له أيضاً مجموعة من المفكرين العرب من العمل على توظيف الإسلام لخدمة الأهداف الشيوعية وهو ما كان يسمى حينذاك بـ (الإسلام الأحمر).
الثالثة: هي ما قام به صاحب هذه الدراسة من رصد ملامحه فترة السبعينيات والثمانينيات واستشفاف شيوعه في العقود التالية من التأثر بشيوع المفاهيم البراجماتية في المنطقة، ومن بينها البراجماتية الدينية، ومن ثم العمل على توظيف الإسلام للمصالح المختلفة بوجه عام سواء كانت المصالح السياسية الأمريكية، أو المصالح السياسية لقادة بعض الأنظمة، أو قادة بعض التيارات المعارضة، بل من جانب بعض المنتمين للتيار الإسلامي نفسه أيضاً وهو ما سماه حينذاك بـ (الإسلام البراجماتي أو النفعي) حيث صدر في كتاب يحمل العنوان نفسه عام 1989م.
ما هي الليبرالية؟
لوك وفولتير:
على الرغم من أن الليبرالية عادة ما تُنسب إلى الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك 1632- 1704) إلا أن (جون لوك) كان يهدف في الأساس من أفكاره السياسية إلى التحرر من سلطات الكنيسة السياسية، وما رسخته من أفكار حول نظرية التفويض الإلهي للملوك والتي نظَّر لها السير (روبرت فيلمر) في كتابه (دفاع عن السلطة الطبيعية للملك) والذي ذهب فيه إلى أنه «على من يؤمنون بأن الكتاب المقدس منزل من عند الله أن يسلِّموا بأن الأسرة الأبوية وسلطة الأب أقرهما الله، وانتقلت هذه السيادة من الآباء إلى الملوك»(1).
ومن أجل دحض آراء (فيلمر) هذه ذهب (لوك) إلى تصور أن الأفراد في «الحالة الطبيعية» يولدون أحراراً متساوين (وهذه هي نقطة الانطلاق في المذهب الليبرالي كله) وأنه بمقتضى العقل توصل الناس إلى اتفاق «عقد اجتماعي» تنازلوا فيه عن حقوقهم الفردية في القضاء والعقاب للجماعة ككل؛ وعلى هذا تكون الجماعة هي السيد أو الحاكم الحقيقي؛ وهي تختار بأغلبية الأصوات رئيساً أعلى ينفذ مشيئتها(2).
وذهب (لوك) أيضاً إلى ضرورة أن تُفصَل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية «فالسلطة التشريعية هي التي ينبغي أن تكون لها الكلمة العليا؛ لأنها مسؤولة فقط أمام المجتمع بصورة كلية، ذلك المجتمع الذي تعد هي ممثلة له» ومن هنا جعل لوك الأمة هي مصدر كل السلطات وهي الفيصل بينها أيضاً، كما أن مبدأ الفصل بين السلطات الذي فصله (مونتسكيو) بعد ذلك» مبدأ جوهري بالنسبة لليبرالية السياسية»(1).
وكان (فولتير) من أشهر زعماء الليبرالية في فرنسا والذي يعد تلميذاً خالصاً لـ (لوك) من الناحية الفلسفية البحتة، ولكنه يتجاوزه من حيث القدرات الأدبية في التأثير ونقده الحاد وسخريته اللاذعة. وكانت قضية (فولتير) الرئيسية هي تحرير العقلية الأوروبية تماماً من المسيحية الثالوثية عقائد ومفاهيم وقيماً؛ وهكذا كان يصرخ بعنف وسخرية: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت المسيحي؛ والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية»(2).(31/369)
واتساقاً مع ما سبق فقد دافع (فولتير) دفاعاً مريراً عن حرية الرأي بالنسبة للعقائد والأفكار؛ ولهذا تتردد له تلك المقولة الشهيرة: «أنا لا أوافقك القول، ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله».
جون ستيورات مل:
يعد (جون ستيورات مل) منظِّر الليبرالية الأكبر والذي اهتم في كتابه (عن الحرية) بشرحها شرحاً وافياً، وقد حدد أن الغرض من كتابه هذه هو تقرير المبدأ الذي يحدد معاملة المجتمع للأفراد «ومضمون هذا المبدأ هو أن الغاية الوحيدة التي تبيح للناس التعرُّض بصفة فردية أو جماعية لحرية الفرد هي حماية أنفسهم منه؛ فإن الغاية الوحيدة التي تبرر ممارسة السلطة على أي عضو من أعضاء أي مجتمع مُتَمَدْيِن ضد رغبته هي منع الفرد من الإضرار بغيره. أما إذا كانت الغاية من ذلك هي الحيلولة دون تحقيق مصلحته الذاتية أدبيةً كانت أم ماديةً فإن ذلك ليس مبرراً كافياً؛ إذ إنه لا يجوز مطلقاً إجبار الفرد على أداء عملٍ ما، أو الامتناع عن عملٍ ما»(3).
ولكن: ما الذي يمكن أن يحدد في سلوك الفرد ما هو قد يؤثر بالضرر على المجتمع أو لا يؤثر؟
يرى (جون ستيورات مل) أن هناك منطقة في حياة الفرد هي صميم الحرية البشرية، وليس للمجتمع بها إلا مصلحة غير مباشرة إن كانت له مصلحة على الإطلاق، وهي تتضمن:
أولاً: المجال الداخلي للوعي: وهذا يقتضي حرية العقيدة في أوسع معنى لها، وحرية الفكر والشعور، وحرية الرأي والميول في جميع الموضوعات عملية أو علمية، مادية أو أدبية، دينية أو دنيوية. وقد يتبادر إلى الأذهان أن حرية التعبير عن الآراء ونشرها يدخل في نطاق مبدأ آخر؛ إذ إنها تتعلق بتصرفات الفرد التي تمس الغير؛ ولكن لما كانت هذه الحرية لا تقل أهمية عن حرية الفكر نفسها إذ إنها تقوم على الأسباب نفسها؛ فلا يمكن إذن الفصل بينهما.
ثانياً: أن هذا المبدأ يتناول حرية الأذواق والمشارب: بمعنى أنه يطلق الحرية في رسم الخطة التي نسير عليها في حياتنا بما يتفق مع طباعنا، وأن نفعل ما نشاء، على أن نتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج دون أن يقف في طريقنا أحد من إخواننا في الإنسانية طالما كانت أفعالنا لا تنالهم بضرر حتى ولو اعتقدوا أن تصرفاتنا هذه دليل على السخف أو السفه أو الخطأ.
ثالثاً: إنه يتفرع من حرية كل فرد - وفي نطاق حدودها - حرية اجتماع الأفراد للتعاون على أي أمر ليس فيه ضرر للغير؛ على أن يكون الأشخاص المجتمعون بالغين راشدين لم يساقوا إلى الاجتماع بعنف أو إكراه»(4).
وهو بعد ذلك يؤكد تماماً أنه «لا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بالحرية دون أن يكفل هذه الحريات بوجه عام مهما كان نظام الحكم فيه، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتمتع بحرية تامة ما لم تكفل هذه الحريات كاملة غير منقوصة»(5).
وفي خطوة تالية يشرح (ستيورات مل) تناقضاته مع الديمقراطية ذاتها (والتي يشاع بين الكثيرين من الكُتَّاب والسياسيين لدينا أنها والليبرالية شيء واحد) فهو ينكر على الشعب استخدام أي وسيلة من وسائل الإجبار ضد حرية التعبير «أنكر على الشعب الحق في ممارسة مثل هذا الإجبار سواء عن طريقه أو عن طريق الحكومة؛ فمثل هذه السلطة غير مشروعة في ذاتها، ولا يجوز لأرقى الحكومات أو أقلها شأناً أن تلجأ إليها، وهي إذا صدرت بمشيئة الرأي العام فقد تكون أفظع وأشنع مما لو صدرت رغماً عنه وبمعارضته»(6).
وتنطلق المسألة هنا أساساً من رؤيته الفلسفية العلمانية التي انتهت لديه إلى النسبية المعرفية والقيمية المطلقة، ومن ثمَ فإنه على كافة الناس والحكومات أن يتصرفوا على قدر طاقاتهم، وأن يبذلوا أقصى جهدهم؛ فليس هناك شيء يسمى التعيين المطلق، وإنما هناك ثقة كافية لتحقيق غايات الحياة البشرية، ويجوز لنا أو يجب علينا أن نفترض صحة آرائنا لكي نسترشد بها في تصرفاتنا.
وليس ثمة ما يمكن فصله عن البحث والنقاش والجدال بما في ذلك المعتقدات والقيم حتى لو اجتمعت الأجيال على صحة هذا المعتقد أو ذاك الرأي «فإنه من الواضح تماماً أن الأجيال ليست أكثر مناعة من الأفراد في الوقوع في الخطأ؛ فإن كل جيل مضى كان يعتنق كثيراً من الآراء التي اكتشفت زيفها وتفاهتها أجيال تالية»(7) ثم يعمل (ستيورات مل) بعد ذلك على اتخاذ مثل تاريخي بارز لانتصار المسيحية الغربية على معارضيها ليستخدمه في دحضها بعد ذلك؛ فالإمبراطور (مارقس أوربليوس) كان أكثر معاصريه علماً وأدباً وحرصاً على أن يسود العدل؛ وعلى الرغم من ذلك «كان من أشد الحكام اضطهاداً للمسيحية؛ فبالرغم من استيعابه لجميع علوم الأقدمين وتبحره في حكمة الأولين ومن اتساع تفكيره وبُعد نظره.. إلا أنه لم يدرك أن المسيحية ستعود بالخير لا بالشر على العالم»(1).(31/370)
وهكذا تأتي الخطوة التالية لهدم المسيحية الغربية في قوله: «بَيْدَ أننا نخالف الإنصاف ونجانب الحقيقة إذا توهمنا أن (مارقس أوريليوس) لم يكن لديه ـ وهو يكافح المسيحية ـ كل المعاذير والحجج التي يلتمسها اليوم أنصار المسيحية لمكافحة ما يناقضها من الآراء. فما كان اعتقاد أحد من المسيحيين في كذب الإلحاد وفي أنه يؤدي إلى تداعي المجتمع وتفككه بأشد ولا أرسخ من اعتقاد (مارقس أوريليوس) في بطلان المسيحية وفي أنها تفضي إلى انحلال المجتمع وانهدام أركانه»(2).
ولا يكتفي (ستيوارت مل) بمهاجمة العقائد المسيحية الغربية، ولكنه يهاجم آدابها أيضاً؛ والمفارقة هنا أنه يقدم آداب الإسلام عليها على الرغم من اعتباره له أنه دين وثني؛ حيث يذهب إلى أنه «بينما نجد آداب الأمم الوثنية الراقية تصنع الواجبات الاجتماعية في أرفع منزلة من الاعتبار حتى تضمن في سبيل ذلك الحقوق الشخصية والحرية الفردية نرى الآداب المسيحية البحتة لا تكاد تشعر أو تعترف بتلك الواجبات المقدسة؛ وها نحن نقرأ في آداب الإسلام هذه الكلمة الجامعة: (كل والٍ يستكفي عاملاً عملاً وفي ولايته من هو أكفأ له فقد خان عهد الله وخليفته)»(3).
ولأنه يضرب بكل القواعد الأخلاقية عرض الحائط إذا مست بحرية الفرد فهو يعترض على الذين يتساءلون: «إذا كانت المقامرة والقذارة والسُّكْر والدعارة والبطالة من الآفات المزرية بالسعادة شأن الكثير من الأفعال المحظورة بنص القانون؛ فلماذا إذن لا يحاول المشرع قمعها بقدر ما تسمح حالة المجتمع؟ ثم لماذا لا يتقدم الرأي العام ليسد الفراغ الذي لا بد أن يتركه المشرع وينظم رقابة شديدة على هذه الرذائل وينزل العقاب الصارم بمن يوصم بها؟»(4).
وموقفه من هذا التساؤل هو أن معيار تجريم ذلك اجتماعياً هو إلحاق الضرر المباشر بالمجتمع «فمثلاً ليس من الحق أن يعاقب إنسان لمجرد السُّكْر، ولكن الجندي الذي يسكر وهو قائم بواجبه جدير بالعقاب.. أما الضرر العَرَضي ـ أو الضرر التقديري - الذي يصيب المجتمع عنماد يتصرف الفرد تصرفاً لا ينحل بأي واجب معين نحو الجمهور ولا يلحق أي أذى بأحد غير نفسه؛ فهو ضرر تافه خليق بالمجتمع أن يتحمله عن طيب خاطر في جانب ما ينشأ عن الحرية من الخير العميم»(5).
وخلاصة موقفه من الدين تتحدد في ذهابه إلى أنه من واجب الإنسان حمل غيره على إطاعة أوامر الدين هي الأصل لكل ما ارتكبه البشر من ألوان الاضطهاد.
ليبرالية العلمانيين العرب:
إذا كانت هذه الليبرالية كما نظَّر لها الفلاسفة الغربيون فإن الليبرالية التي يدعو إليها العلمانيون العرب تستهدف تحديداً الإطاحة بالعقائد والمفاهيم والقيم الإسلامية أو تذويبها تماماً. يقول (الدكتور أحمد أبو زيد) في هذا السياق: «لقد أفلحت الثقافات الليبرالية في الغرب في تحرير الفرد من كثير من القيم التقليدية المتوارثة والأحكام التي تفرضها تلك القيم؛ وبخاصة الأحكام المتعلقة بمفهومي الصواب والخطأ، فيتحرر الفرد من القواعد الأخلاقية والتعاليم الدينية، ويرفض أن تكون تصرفاته وحياته الخاصة وتعامله مع الآخرين محلاً للتقويم والحكم عليه اجتماعياً وأخلاقياً كما يحدث في المجتمعات أو الثقافات المحافظة أو غير الليبرالية. فالصواب والخطأ مفهومان تعسفيان صاغهما أشخاص سوداويون متسلطون لإخضاع الآخرين لإرادتهم ووجهة نظرهم المتعسفة الضيقة؛ ولذا يجب رفضهما حتى يحيا الفرد حياته بالصيغة التي تروق له»(6).
أما (جمال البنا) فيحدد أهم ما تستهدفه هذه الليبرالية في ضرب الثوابت؛ حيث يقول: «إن أهم ما يفترض أن تتجه إليه الحرية هو هذه الثوابت بالذات التي وإن كانت تقوم بالحفاظ والاستقرار للمجتمع وتمسكه من الانزلاق أو التحلل، إلا أن عدم مناقشتها يجعلها تتجمد، بل وتتوثن وتأخذ قداسة الوثن المعبود؛ هذا كله بفرض أن الثوابت هي دائماً صالحة ولازمة؛ ولكنها لا تكون كذلك دائماً»(7).
موقف الإسلام من الليبرالية:
ولسنا هنا بصدد نقد الليبرالية أو تقييمها فلسفياً؛ وإن كنا نود أن نسجل مبدئياً أن الأمر يتعلق بالأساس بالرؤية الفلسفية التي يصدر عنها فكر المفكر أو الفيلسوف؛ فقد تكون الليبرالية قابلة للأخذ والرد انطلاقاً من الرؤية العلمانية التي تقتصر على العقل وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة. أما إذا كان المفكر أو الفيلسوف يتبع عقيدة أو مذهباً معيناً فإن أول ما تمثله له هذه الليبرالية هي مطالبته بالتخلي عن هذه العقيدة أو هذا المذهب تماماً؛ وهذا ما يحدو بنا إلى مناقشة الفكرة الأساسية التي تتمحور عليها هذه الدراسة، وهي: هل من الممكن أن يتوافق الإسلام مع هذه الليبرالية؟
فالإسلام دين مبدئي شمولي لا يقبل التجزُّؤ يقوم على عقيدة متكاملة وقواعد ثابتة ومنظومة تجمع بين تصوراته لحقائق الوجود وقواعد السلوك التي ينبغي اتباعها من جهة الفرد والمجتمع على السواء وكذلك القيم الأخلاقية الموجهة لها. وإذا كان الإسلام يتسامح في الحرية العقائدية والفكرية فإنه يستهدف أيضاً إقامة مجتمع مستقر يستمد مرجعيته من قواعده العقائدية التي ارتضاها هذا المجتمع.(31/371)
وحقاً أن الإسلام يتسامح مع حرية العقائد والأفكار {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] والكثير من أعلام الفكر الغربي على مر التاريخ يضربون به المثل في هذا التسامح مقابلة مع المسيحية الغربية، ويستدلون على ذلك بالحرية التي تمتعت بها الأقليات غير المسلمة في أكناف الحضارة الإسلامية في الوقت الذي كان وجود المسلم في الدول المسيحية الغربية لا يعني سوى القتل. ولكن تسامح الإسلام هذا لا يعني قبول الإسلام بعرض عقائد مجتمعاته على الدوام على مائدة التفاوض والأخذ والرد؛ فهذا أمر يتعلق بعقيدة المجتمع ومن ثَم باستقراره، بخلاف حرية العقائد والأفكار للأفراد {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وبعيداً عن موضوع حد الردة فإن أي قوة لا تستطيع قهر أفراد هذا المجتمع المسلم نفسه على الثبات على عقائده؛ فالإسلام لا يأمر بالتفتيش عن دواخل الناس، لكن يظل هؤلاء ملتزمين بقواعد القانون العام.
وشمولية الإسلام تجعل من الإيمان بقواعد السلوك المستمدة منه جزءاً لا يتجزأ من الإيمان بالإسلام نفسه {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فكيف يمكن إذا أمر الإسلام بتحريم الزنا على سبيل المثال أن يقال إنه من الممكن في إطار الليبرالية الإسلامية المفترضة أن نجعل الموقف من الزنا عند ارتضاء الطرفين يمكن وضعه على محك التجربة لتقدير ما يمكن أن يؤدي إليه من أضرار على المجتمع؟ بل الأمر أكبر من ذلك؛ لأنه لو كان تقدير الأغلبية رفض هذا الموضوع بناء على ما قد تتوصل إليه من أضرار اجتماعية له (ولا أدري بأي مرجعية يمكن تقدير هذه الأضرار؟) فإن هذا يكون حكم الديمقراطية. ولكن الليبرالية تتجاوز ذلك، فتذهب إلى عدم سماح الأغلبية بالتدخل في مثل هذا الأمر؛ لأنه يدخل في تقديرها في منطقة الحرية الشخصية للأفراد التي لا يسمح للمجتمع بالتدخل فيها.
والناس أحرار في أن يقولوا إن موقف الليبرالية هذا أفضل من الإسلام في هذه المسألة أو غيرها؛ فكل هذا يقبله المنطق عند الوقوف على قاعدة اللا قاعدة، ولكن أن يقال إن هذا مسموح به في إطار الإسلام من باب التسامح والحرية اللذين دعا إليهما الإسلام فإن هذا يعني أنه بالإمكان أن نمشي فوق رؤوسنا.
ومسألة القيم الرائجة ليست منقطعة الصلة بهذا السياق؛ لأن القيم الرائجة لها دورها الفعال المباشر في إنماء المجتمع نحو غاياته أو انتكاسه إلى الاتجاه المضاد. فلا يصح بأية حال من الأحوال أن أقيم ـ على سبيل المثال ـ مجتمعاً إسلامياً ويتم السماح مع ذلك بترويج القيم الاستهلاكية فيه، تلك القيم التي تجعل من جلب المال وإنفاقه إلهاً آخر يُعبد من دون الله الواحد الأحد.
الإسلام الليبرالي والجمع بين البراجماتية والليبرالية:
هناك الكثير ممن يجمع بين البراجماتية والليبرالية. فمن الناحية الفلسفية فإن بين منظِّري الليبرالية والبراجماتية الأشهرين (جون ستيورات مل) و (وليم جيمس) الكثير من النقاط المشتركة؛ خصوصاً في الجانب العملي لفلسفتيهما. فالليبرالية تريد أن تضع العقائد أو الأفكار في ساحة النقاش والحوار، والبراجماتية في الوقت نفسه لا تلتزم بأية عقيدة أو فروض نظرية مسبقة أو عقائد أو أفكار جازمة. والليبرالية تجعل من إلحاق الضرر بالآخرين هي الحدود الوحيدة التي تقيد حرية الفرد فيما يرغب فيه من منفعة. والبراجماتية تجعل من المنفعة العملية هي المعيار الوحيد لكل الحقائق. وإذا كان (ستيوارت) قد استمد أفكاره عن النفعية من أستاذه (بتنام) الذي استمدها بدوره من (أبيقور) فإن (وليم جيمس) قد استمدها في الغالب مباشرة من (أبيقور).
أما من الناحية السياسية فإذا كانت البراجماتية الأمريكية تريد توظيف الإسلام في المنطقة لمصالحها السياسية؛ فإن الخطوة الأولى لتحقيق هذه المصالح هو تذويب المبدئية الإسلامية، ومن ثَم فإن الليبرالية ـ بمناهضتها لوجود أية عقائد اجتماعية أو قواعد تشريعية وقيمية مستمدة من هذه العقائد ومطالبتها أن تكون كل هذه الأمور عرضة للنقاش والحوار والصواب والخطأ ـ تكون وسيلة رائعة لتذويب هذه المبدئية، وهو الأمر الذي يعني تحقيق تلك المصالح الأمريكية.
نماذج واقعية قائمة للإسلام الليبرالي:
النموذج السياسي للإسلام الليبرالي: حزب العدالة والتنمية التركي:(31/372)
عندما صعد حزب العدالة والتنمية التركي لتولي الوزارة بقيادة (رجب أردوغان) من خلال الانتخابات ظهر الزعيم التاريخي لحزب الرفاه ورئيس وزراء تركيا السابق (نجم الدين أربكان) في أحد حلقات برنامج (بلا حدود) بقناة الجزيرة ليقول إن قيادات الحزب مجموعة من العملاء صعدوا إلى الحكم من خلال مساعدة أجهزة أجنبية نافذة في الدولة، وأنهم يعملون لتطويع الإسلام للمصالح الأمريكية في المنطقة وأنهم يقومون بتقديم تنازلات للعلمانية القائمة في الدولة تفقدهم الصفة الإسلامية. ولكن ما نسيه الزعيم الكبير أنه نفسه أول من أدخل الإسلاميين هذه اللعبة بتقديم التنازلات الحاسمة للعلمانية؛ وذلك بزيارته لقبر صنم العلمانية الأكبر (كمال أتاتورك) وإعلانه أمامه التزامه بالدستور العلماني في الحكم واقتصار جهوده على ممارسات سياسية واقعية في ظل مرجعية علمانية قائمة، وإذا كان هو قد فعل ذلك فعليه ألا يندهش أن يأتي تلامذته إلى الحكم بالتحالف مع السياسة الأمريكية. وإذا كان (أربكان) أعلن التزامه بالدستور العلماني أمام الصنم الأتاتوركي فإن تلامذته من قيادات العدالة والتنمية يستاؤون الآن من إطلاق صفة الإسلاميين عليهم، ويعلنون أنهم علمانيون. فالذي يحدث الآن أن التنازلات التي قام بتقديمها للعلمانية بعض زعماء الإسلاميين من باب المراوغة ـ على أفضل فروض حسن الظن ـ يقوم بها الآن وأكثر منها بعض تلاميذهم من باب الاقتناع، وما أن تبدأ بالتنازل عن بعض الإسلام حتى تنتهي على الفور بالإسلام؛ حدث ذلك في تركيا، ويحدث مثله في تونس ومصر وأماكن أخرى. والنتيجة هي كما تقول مجلة الشاهد البريطانية(1): «إن الصفقة التي تطبخ الآن تسعى إلى جعل الإسلام التركي مفرغاً من ثوابت الدين» ولكن الأهم من ذلك هو ترويج هذا النموذج التركي نفسه على أنه النموذج الإسلامي الليبرالي المعتدل الذي ينبغي الاقتداء به في كل دول العالم الإسلامي إلى درجة أن كبار القادة الأمريكيين مثل (الرئيس بوش) و(كولن باول) و(كوندليزا رايس) أعلنوا مراراً أن النموذج التركي هو النموذج الذي ينبغي أن يسود في المنطقة، بل إن اليميني المحافظ الصهيوني المعروف بعدائه وتعصبه الشديد للعالم الإسلامي (وولفويتز) أعلن أن «الأتراك يقاتلون من أجل مجتمع حر وديمقراطي ومتسامح يمكن أن يصبح نموذجاً مفيداً لدول أخرى في العالم الإسلامي». بل إن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يقوم في الأساس على الارتكاز الفكري لمفهوم الإسلام الليبرالي «بدأت تسريبات معالمه مع زيارة رئيس وزراء تركيا (رجب أردوغان) إلى واشنطن في 28/1/2004 ونشرت صحيفة (يني شفق) التركية (معناها: الفجر) في 30/1/2004 عرض الرئيس الأمريكي (بوش) على (رجب) معالم هذا المشروع الذي يمتد من المغرب حتى أندونيسيا مروراً بجنوب آسيا، وآسيا الوسطى والقوقاز، وقد ابتدأ العرض على تركيا لتتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني (بحسب خبر الصحيفة). والمقصود انبطاحها لأمريكا وأخوّتها لإسرائيل لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وُعَّاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي ليتولوا التبشير بنموذج الاعتدال التركي المطبق في تركيا.
هذه الأخبار ذكرها المحرر الرئيس للصحيفة المذكورة والذي كان ضمن الوفد الصحفي المرافق لأرودغان»(2).
الليبرالية والديمقراطية:
أظهرنا فيما سبق أن الليبرالية خصوصاً عند منظِّرها الأكبر (جون ستيوارت مل) تجعل من الفردية ـ أي من الفكر العقلي للأفراد وحسابات المصالح والأضرار ـ المرجعيةَ الوحيدة لكل أمر من الأمور، وتجعل من الحرية الشخصية منطقة محرمة لا يحق للمجتمع التدخل فيها؛ بينما تجعل الديمقراطية من الأغلبية معبرة عن إرادة الأمة، ومن ثم فعلى الأفراد الخضوع لأحكامها.
ومع ذلك تظل الديمقراطية هي أداة عملية معبرة عن الليبرالية التي تظل تعمل في الوقت نفسه على وضع العوائق في مواجهة الإرادة العامة للأغلبية لمنعها من التدخل في المنطقة الخاصة بالحرية الشخصية.
إذاً؛ فالتداخل كبير بين الديمقراطية والليبرالية، والترويج لليبرالية في المنطقة يعمل أساساً من خلال الترويج للديمقراطية كمدخل ضروري لها، ومن ثَم فإن مناقشة موقف الإسلام من الليبرالية يقتضي بشكل حتمي مناقشة موقفه من الديمقراطية.
موقف الإسلام من الديمقراطية:
وتُعَرَّف الديمقراطية بأنها «مذهب يراد به إرجاع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى السلطة العامة للأمة. أما الديمقراطية كنظام للحكم فيراد به النظام الذي يُرجِع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى الإرادة العامة للأمة»(3).(31/373)
والديمقراطي «هو ذلك الإنسان القادر على تعديل أوضاع حياته وأفكاره ومبادئه وقيمه وفقاً للمتغيرات الاجتماعية المحيطة به، وينبع التغيير من الإيمان بأن البُنى الاجتماعية لا تُبنى على قواعد ثابتة، بل هي نتاج لتفاعل الأفراد وخبراتهم واتفاقهم، ولذلك فما يراه الأفراد ممثلاً للحق والعدل فهو الحق والعدل؛ فالإطار الذهني الديمقراطي يُبنى على الثقة المتناهية في العقل الذي يُمَكِّن الإنسان من الحياة في إطار المجتمع التعددي بتقبله لنمط حياة الآخرين مما يعكس قدراً كبيراً من العقلانية»(4).
والديمقراطية توجد «إذا توفرت عدة شروط؛ منها: الانتخابات الدورية، والتعددية السياسية، والمنافسة والمشاركة السياسية، وهي التي تشكل في مجملها الأسس العامة للديمقراطية الليبرالية والتي تتمثل في التعددية السياسية، والتي تظهر في شكل تعدد حزبي وتداول على السلطة بين الأحزاب المتنافسة، وخضوع القرارات السياسية للتفاعل السياسي بين القوى السياسية المختلفة، وخضوعه للمساومة، والحل الوسط، واحترام رأي الأغلبية، والمساواة السياسية بمنح صوت لكل مواطن، وترسيخ مفهوم الدولة القانونية القائمة على الفصل بين السلطات مع وجود دستور مكتوب، وخضوع الحكام للقانون»(5).
وعلى الأساس السابق فإن الإشكالية الأساسية في تحديد موقف الإسلام من الديمقراطية هي في شبهة التشابه بينها وبين الشورى في مبدأ حق الأغلبية في اتخاذ القرار، ومن ثَم الانحياز إلى إرادة الجماهير في مواجهة استبداد الفرد. ولكن هذا التشابه أو التقاطع في هذه النقطة لا يؤثر أدنى تأثير في التناقض بين الإسلام والديمقراطية كمنظومة متكاملة بوجه عام؛ فبينما يتم اتخاذ قرار الأغلبية في الإسلام في إطار المرجعية الإسلامية؛ فإن اتخاذ قرار الأغلبية في الديمقراطية يتم دون إطار على الإطلاق؛ أي دون الالتزام بأيَّة قواعد عقائدية أو فكرية أو أخلاقية، وينطلق من الأرضية العلمانية في التفكير التي تقتصر على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة «فوجود منظور أخلاقي واحد للقيم في المجتمع يتعارض مع الفكر التعددي، ومن ثَمَّ؛ فأولئك الذين يرغبون في رؤية قيم عقائدية أو أخلاقية واحدة تسود في المجتمع لا بد أن ينتهي بهم المطاف إلى معارضة التعددية. وبناء عليه فالمجتمع الديمقراطي غير ملزم بتبني منظور أحادي للوحدة الاجتماعية، وحين يسود أو يسعى أي منظور عقائدي أخلاقي لفرض رؤيته على المجتمع فإنه من المتعذر بناء مجتمع ديمقراطي؛ وذلك لأن الديمقراطية تبنى على المنظور العلماني للمجتمع»(1).
وهذا يتناقض مع كون الدولة في الإسلام دولة عقيدية، تجعل من العقيدة الإسلامية مرجعيتها التي تستمد منها سلطاتها وأحكامها. من ناحية أخرى فإن الأفراد في الديمقراطية أيّاً كانت توجهاتهم لهم الحق دون تمييز في إبداء الرأي في كافة شؤون الدولة وتوجهاتها، ثم يتم اتخاذ القرارات بناء على تحديد موقف الأغلبية الناتجة عن ذلك أيّاً كان هذا الموقف. وهذا يتناقض مع التحريم على الأفراد أو غيرهم أن يتدخلوا فيما هو ثابت من الشريعة {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وكما يقول ابن تيمية: «والإنسان متى حلل الحرام المجمَع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمَع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء»(2).
كما أن القرار لا يعود للأفراد دون تمييز فيما هو محل الاجتهاد من الشرع، وإنما هذا يعود لأهل الاختصاص من العلماء؛ وهؤلاء هم الذين تطبق فيما بينهم قاعدة الأغلبية عند الخلاف. وما سبق لا يعني تجريد الأفراد العاديين من الحقوق السياسية في الإسلام؛ لأنه يعود لهؤلاء أيّاً كانت انتماءاتهم ما داموا مواطنين بالدولة الحق في اتخاذ قرارات الدولة العامة التي لا تحتاج إلى قدرات اجتهادية خاصة. ومن ناحية أخرى فإن القبول بمبدأ تداول السلطة مع أحزاب ذات أيديولوجيات مختلفة هو أشبه ما يكون بالقبول بمبدأ: «نعبد ربك يوماً، وتعبد ربنا بوماً» وهو المبدأ الذي رفضه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قريش.
من مداخل الغزو الفكري للإسلام الليبرالي:
أولاً: الإسلام الليبرالي من خلال محو الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية:
تنامت في السنوات الأخيرة الدعوة لعدم استقطاب الجماهير بين الإسلام والعلمانية، وتم الترويج لبعض الادعاءات العلمانية التي تزعم إيمان تيار عريض من العلمانيين بالإسلام مع عدم اقتناعهم بأن الإسلام دين ودولة، ورفضهم لتطبيق الشريعة الإسلامية، وقام أحدهم وهو (جمال البنا) بالترويج لمفهوم جديد بالنسبة للواقع الثقافي الإسلامي ـ وإن كان قد عمل على إشاعته من قبلُ بعض المستشرقين ذوي العلاقات الخاصة مع الاستخبارات الغربية ـ هذا المفهوم هو أن الإسلام دين وأمة، وليس ديناً ودولة، بل وأصدر (البنا) كتاباً بهذا العنوان كان قد نشر معظمه بجريدة القاهرة.(31/374)
وإذا كان العلمانيون يفعلون ذلك من جهتهم فإن الأغرب من ذلك هو ما يقوم به بعض الإسلاميين من الدعوة في هذا الاتجاه؛ حيث يفرق (فهمي هويدي) بين مستويين من العلمانية: العلمانية المتصالحة مع الدين... والعلمانية الرافضة للدين.
ويرى أن الفئة الأولى من العلمانيين لا تعارض العقيدة رغم تحفظها على تطبيق الشريعة الإسلامية في الواقع، ومن ثَم فلا مانع - كما يؤكد ـ من مد الجسور مع هؤلاء «ونفسح مجالاً للعلمانية المتصالحة مع الدين، ونفكر في تأصيل شرعي لهذا [عبارة عجيبة وكأن الخيارات العقلية تأتي أولاً ثم يتم البحث عن تأصيل شرعي لها من خلال التأويل القائم على الهوى طبعاً] وأظن أن ذلك ليس صعباً؛ فقد جاز لنا أن نقبل أهل الذمة. فهل يجوز لنا أن نقبل أناساً لهم تحفظات على علاقة الدين بالسياسة؟»(3). وفي هذا السياق أيضاً فإنه يقبل الماركسيين الذين لا يرفضون الدين رغم تحفظاتهم على الشريعة الإسلامية.
أما الدكتور (محمد عمارة) فيقسم العلمانيين تقسيماً يختلف قليلاً عن هذا وإن كان يمضي في الاتجاه نفسه تماماً؛ فهناك «علمانيون (عملاء وثوريون) يهدفون إلى ربط المسلمين بعجلة الغرب أو إلى نقض الدين وإلغائه في واقع الحياة، والخلاف مع هؤلاء خلاف في «الأصول». أما العلمانيون الآخرون فينادون فقط بفصل الدين عن الدولة والخلاف معهم خلاف في الفروع»(4).
ثانياً: الإسلام الليبرالي من خلال الاستجابة للعمل الديمقراطي:
تبنِّي بعض الإسلاميين للديمقراطية:
حديث بعض الإسلاميين عن تبني الديمقراطية حديث يعود إلى حوالي عقدين من الزمان كتعبير من هؤلاء عن قبول الحل السلمي في الصراع السياسي مع الأنظمة القائمة مقابل الخيار المسلح الذي اتخذته بعض جماعات العنف في تلك المرحلة وتراوحت الدوافع بين التسليم الواقعي بضرورة اتخاذ هذا المسار كخيار وحيد مستطاع للمشاركة في العمل السياسي وبين الرغبة في استثمار الصراع القائم المنهك والمسيء للصورة لدى الغرب بين طرفين لا يعرف كلاهما سوى لغة العنف، ومن ثمَ الظهور بصورة الودعاء الطيبين الراغبين في العمل السياسي وفقاً للقواعد الغربية.
وعلى سبيل المثال فقد أقر «الدكتور صلاح الصاوي» التعامل المرحلي مع الديمقراطية، وذلك من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد بقوله: «إذا كانت العلمانية هي الشر الواقع لا محالة فإن العلمانية الديمقراطية أهون وأخف وطئاً من العلمانية الديكتاتورية»(5).
وفي مارس 1994 أصدرت جماعة (الإخوان المسلمين) مجموعة من الوثائق - هي الأخطر في تاريخها من وجهة نظرنا - من بينها وثيقة بعنوان: «الشورى وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم»، وقد تناولت الوثيقة رؤية الإخوان للديمقراطية والتعددية والعمل الحزبي، وانتهت إلى ما يلي:
أولاً: أن الأمة مصدر السلطات.
ثانياً: إقرار وجود دستور مكتوب يفصل بين السلطات وبحفظ الحريات.
ثالثاً: قيام مجلس أمة منتخب.
رابعاً: الدعوة إلى تعدد الأحزاب والتعددية السياسية.
خامساً: إقرار تداول السلطة عن طريق انتخابات برلمانية دورية.
أما (محمد سليم العوا) فذهب إلى أنه في ظل الطغيان في كل الحكومات والمجتمعات فلا بديل عن التعددية وهي واجبة - وليست جائزة فحسب (لا أدري من أين يأتي هؤلاء الكتاب بكل هذه الجرأة على إصدار مثل هذه الأحكام) - في الجماعات العاملة للإسلام والعاملة في السياسة والمجتمع الإسلامي، وانتهى إلى أن التعددية تعني أنه «لا يمكن منع الاتجاهات الأخرى كالعلمانيين والشيوعيين والملاحدة عن الوجود في المجتمع المعاصر، بل يجب منعهم من الدعوة إلى هدم النظام الإسلامي، ثم تركهم بعد ذلك وجمهور الناخبين؛ فإذا خدعوه كان الإسلاميون مقصرين في دعوة الناخبين وتبصيرهم، ولا يجوز أن يحملوا تقصيرهم وقعودهم عن الدعوة الصحيحة على الآخرين - فكل الاتجاهات تتنافس»(1).
ويفرق (فهمي هويدي) بين ثلاث صور للعمل السياسي من المنظور التعددي:
الصورة الأولى: تظهر في العمل السياسي داخل الإطار الإسلامي، وتتمثل في تعدد الاتجاهات والاجتهادات الإسلامية.
أما الثانية: فتظهر في شكل فكر غير إسلامي يتحفظ على بعض جوانب الشريعة الإسلامية.
أما الثالثة: فتظهر في عمل خارج العقيدة الإسلامية ومضاد لها في الوقت ذاته.
ويرى هويدي أن الموقف من هذه الصيغ يكون كما يأتي:
أولاً: العمل السياسي للفئة الأولى مباح اتفاقاً.
ثانياً: العمل السياسي للفئة الثانية مباح ترجيحاً.
ثالثاً: العمل السياسي للفئة الثالثة محظور إجماعاً»(2).
وكل ما أستطيع قوله هنا بالنسبة للكلام السابق هو أن أتساءل: من أين استمد (هويدي) هذه الرؤية؟ هل من الممكن أن يكون قد استمدها من المرجعية الإسلامية؟
التمييز بين مواقف الإسلاميين من الديمقراطية:
لا بد أن نميز بين عدة مواقف من الديمقراطية حتى يمكن تحديد ما نقصده بالتساوم على الإسلام من خلال مدخل قبول العمل الديمقراطي:(31/375)
1 ـ القول بأنه لا تناقض بين الديمقراطية والإسلام أو الإقرار بقواعد اللعبة الديمقراطية بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة بين الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو الإسلامية بوجه عام والقول بأن ذلك يتفق مع نظام الحكم الإسلامي أو لا يتناقض معه.
2 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها بما في ذلك مبدأ المرجعية الشعبية، ومبدأ تداول السلطة مع الأحزاب ذات المرجعيات العلمانية أو اللا إسلامية بوجه عام، مع الإقرار بعدم اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي، ولكن قبوله فقط من باب اعتقاد ضرورة ذلك للمشاركة في العمل السياسي.
3 ـ قبول دخول اللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها والمراوغة في الإقرار بمدى اتفاق ذلك مع نظام الحكم الإسلامي.
4 ـ قبول دخول اللعبة السياسية على أساس إتاحة الفرصة للجماهير في اختيار النظام الإسلامي في ظل الظروف القائمة؛ مع الإعلان عن العمل على إصلاح النظم القائمة وتعديلها بما يتفق مع النظام الإسلامي، ومن ثم يكون اختيار الجماهير للجهة الإسلامية التي تتخذ هذا المسلك يعني اختيارها أيضاً للإجراءات التي أعلنتها لتعديل النظام.
وما نراه ـ وبناء على الأسس التي ذكرناها سلفاً بالنسبة لموقف الإسلام من الديمقراطية ـ فإنه إذا كان الموقف الرابع يمكن قبوله، والموقفان الثاني والثالث يحتملان الاجتهاد؛ فإن الموقف الأول يمثل مساومة صريحة على الإسلام.
ومع ذلك فقد تكون هناك حالات خاصة تجعل الموقف الإسلامي من المشاركة في العملية الديمقراطية أكثر تحديداً. فعلى سبيل المثال فإن مشاركة الإسلاميين في الانتخابات الكويتية يمثل واقعياً تحقيق الهيمنة على البرلمان الكويتي في ظل ظروف محيطة تجعل تطبيق النظام الإسلامي في هذه الدولة ضرباً من المستحيل. وعلى النقيض من ذلك فإن مشاركة الإسلاميين في انتخابات يديرها مجموعة من العملاء في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يقاومه المجاهدون في كل مكان تمثل خيانة عظمى تعمل على تدعيم هذا الاحتلال وإضفاء
--------------------------------------------------------------------------------
(1) نقلاً عن ول ديورانت - قصة الحضارة: مج 17 ج 2 ص 47.
(2) بريتراند رسل - حكمة الغرب: ج 2 ص 115.
(1) المرجع السابق: ص 116.
(2) نقلاً عن ول ديورات - قصة الحضارة: مج 19 ج 2 ص 205.
(3) الحرية: ص 72.
(4) المرجع السابق: ص 76 - 77.
(5) الحرية: ص 77.
(6) المرجع السابق: 83.
(7) المرجع السابق: ص 88.
(1) المرجع السابق: ص 100.
(2) المرجع السابق: ص 102.
(3) المرجع السابق: ص 139.
(4) المرجع السابق: ص 179.
(5) المرجع السابق: ص 181.
(6) الحياة 2 نوفمبر 2004.
(7) الحرية : ص 12.
(1) الشاهد: العدد 343.
(2) أبو محمد المقدسي - مشروع الشرق الأوسط الكبير: موقع المقريزي.
(3) إبراهيم عبد العزيز شيحا (مبادئ الأنظمة السياسية) نقلاً عن د. محمد أحمد مفتي - نقص الجذور الفكرية للديمقراطية: ص 31- 32.
(4)Zeuedie Ba r bu نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: 21- 22.
(5) علي الدين هلال - مفاهيم الديمقراطية في الفكر السياسي الحديث - نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 16.
(1) Michoel Novak نقلاً عن المرجع السابق: ص 22.
(2) نقلاً عن المرجع السابق: ص 40.
(3) التعددية السياسية والديمقراطية في الوطن العربي مجموعة من الكتاب: ص 55.
(4) من مظاهر الخلل في الحركات الإسلامية المعاصرة، الوعي الإسلامي العدد 316، نقلاً عن محمد أحمد مفتي - مرجع سابق: ص 77.
(5) الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي: ص 257.
(1) التعددية السياسية - مرجع سابق: ص 48.
(2) المرجع السابق: ص 55.
==============(31/376)
(31/377)
الليبراليون العرب هل هم حقاً ليبراليون؟
أحمد دعدوش
الليبرالية الجديدة تيار فكري حديث يُشكل امتداداً لليبرالية الكلاسيكية الغربية التي نشأت في كل من إنجلترا وفرنسا إبَّان عصر النهضة، والتي تُعدّ بمثابة منظومة أيديولوجية متكاملة تتناول كافة أشكال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تمتد لتشمل المناهج العلمية والفكرية وتحدد أدواتها وآلية عملها. وتعود نشأة الليبرالية الجديدة إلى منتصف القرن الميلادي الماضي، كردِّ فعل لإخفاق الليبرالية الكلاسيكية في تجنيب العقل الأوروبي تبعات التطرف العقائدي، والذي استفحل مع بروز الحركات الفاشية والقومية، وحتى الشيوعية التي خرجت كسابقاتها من رحم الفلسفة المادية، وهي المرجعية الأم للعقل الأوروبي الحديث بكافة أطيافه.
ومع تراجع الليبرالية الكلاسيكية التي حُمّلت الكثير من أوزار الحربين العالميتين، بدأت مرحلة جديدة من النقد وإعادة البناء في محاولة لإنقاذ الثقافة الليبرالية الغربية، فظهرت «الكينزية» كتعديل ضروري وعاجل للاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي ليسمح للدولة بالتدخل وإدارة الأزمات، وفي الفلسفة والآداب بدأ المفكرون والنقاد بوضع تصوراتهم المختلفة لمرحلة «ما بعد الحداثة». وفي السياسة برزت مفاهيم التكتل والأحلاف والاحتواء. أما الميدان العلمي فقد شهد انحساراً لنزعة المركزية الأوروبية المتعالية، وبدأ العلماء يدركون أن معرفتهم بالكون ما زالت أقل بكثير من تحقيق آمال القرن العشرين في الإحاطة بأسراره.
وفي هذا المقال سنقوم بإضاءة بعض النقاط التي توضح الفرق الكبير بين الليبرالية الغربية وصورتها المستوردة في العالم العربي والإسلامي، انطلاقاً من حقيقة رئيسة مفادها أن الليبرالية الغربية كانت قد نشأت في ظل ظروف سياسية واجتماعية خاصة، وأنها ظهرت كردِّ فعل للاضطهاد الكنسي للعلماء من جهة، وللاستبداد السياسي والاقتصادي من قِبَل النبلاء والإقطاعيين الغربيين من جهة أخرى. وعبر تحالف السلطتين الدينية والسياسية الإقطاعية تمكن رجال الدين المسيحي من فرض سلطانهم على العقلية العلمية الأوروبية، وحرّموا على العلماء والمفكرين الخوض في الكثير من القضايا التي أعطيت صفة القداسة، ومن ذلك الاضطهاد الذي تعرض له الفلكي الإيطالي «غاليليه» لادِّعائه دوران الأرض حول الشمس وليس العكس، وهو الأمر الذي يتناقض مع رأي الكنيسة التي تبنّت نظرية «بطليموس» وألبستها مسوح القداسة.
أما الإقطاعية فقد أخضعت الطبقة العاملة لنظامها الطبقي الجائر، وهو الأمر الذي دفع الطبقة البورجوازية الناشئة للتحالف مع العمال والفلاحين في سبيل التحرر من نير الإقطاع وإحلال الفكر الليبرالي الذي يحقق للفرد حريته وكرامته. وفي المقابل، فإن واقع مجتمعنا الشرقي الإسلامي يكاد يختلف جذرياً عن هذا النموذج الأوروبي، فضلاً عن الفرق الكبير في المنهجين الفكري والسلوكي لدى الليبراليين العرب عما هو متعارف عليه في الليبرالية الغربية، وسنسعى لتوضيح ذلك من خلال المقارنة التالية بين الطرفين:
1 ـ لقد قامت حركة التنوير الأوروبية وفق تسلسل مرحلي تلقائي؛ بدءاً من العلمانية ثم الليبرالية وأخيراً الديمقراطية، بحيث لا يمكن عزل أي مرحلة منها عن الأخرى أو تجاوز اللاحقة منها السابقة، فكانت بداية النهضة الأوروبية مع حركة العلمنة التي تعني تحرر العقل العلمي من سلطان الكنيسة الجائر، وإعفاءه من الالتزام بالولاء لما يتناقض مع أولى بديهياته، ونادت بإطلاق حرية العقل في التجريب والملاحظة بعيداً عن المسلّمات الأولية المتناقضة في النصوص الدينية، ولم يكن ذلك يعني التملّص من الإيمان الديني عند معظم العلمانيين، بل كانت حركتهم موجهة نحو تخليص العقل من سلطان الكنيسة لعدم إمكان الجمع بينهما، ومن ثَم عزل الإيمان الغيبي (الميتافيزيقا) عن الواقع التجريبي المحسوس.
أما في الشرق؛ فقد عمد أتباع الليبرالية العربية إلى اختزال المراحل التسلسلية ـ السابق ذكرها ـ من تطور الحركة التنويرية من العلمانية والليبرالية والديمقراطية وبشكل مبتسر؛ إذ ينادي معظم الليبراليين العرب بضرورة التطبيق الفوري والراديكالي للمفهوم الليبرالي الديمقراطي الغربي دون تغيير، وكأنه وصفة سحرية يمكن من خلالها حل معضلات العالم العربي وبشكل فوري.(31/378)
من جهة أخرى، يقتصر مفهوم العلمانية لدى الكثير من الليبراليين العرب على حتمية تناقض العلم مع الدين، وذلك بالمفهوم الكلي لكل من العلم والدين، دون النظر إلى أي خصوصية لهذا الدين أو ذاك، أو بحث في أوجه الخلاف بين الدين الإسلامي ـ الذي يراد عزله ـ وبين المنهج العلمي التجريبي الذي كان قد نشأ أصلاً تحت مظلة الإسلام في عصره الذهبي. إذ لم يرد في التاريخ الإسلامي أي ذكر لاضطهاد العلماء باسم الإسلام، كما لم تنشأ خلال العصور الوسطى أي طبقة كهنوتية تُخضِع لسلطانها طبقة أخرى تسمى طبقة العلماء، بل نجد أن معظم العلماء المسلمين الذين نقل لنا التاريخ إبداعهم العلمي في أي من فروعه، كانوا قد نشؤوا على التربية الدينية السائدة في ذلك العصر، والتي تقضي بترسيخ القاعدة العلمية الدينية من علوم القرآن والحديث والفقه والعقيدة واللغة، قبل أن يتوجه طالب العلم لاختيار التخصص الذي يريده من علوم دينية أو تجريبية. ولم يحدث أن اشتكى أي من علماء الإسلام من التناقض الذي يمكن أن يحدث بين عقيدته الإيمانية والتزامه بتعاليمها السلوكية والشعائرية، وبين أبحاثه وتجاربه في كافة ميادين العلم التجريبي والطبيعي.
أما ما ينسب للإسلام من اضطهاد للفلاسفة فهو أمر خارج عن نطاق المقارنة؛ إذ لم يكن حظرُ معظم علماء الدين الإسلامي للفلسفة إلا حظراً لدراسة العقيدة بأدوات الفلسفة اليونانية التي كانت قد نشأت في مجتمع وثني لم يحظَ بنور الوحي والرسالة، وهو أمر لا يعدو أن يكون وضعاً للأمور في مكانها الصحيح، ولو أن البحث لم يتناول الإلهيات والغيبيات وظل مقتصراً على الجانب الطبيعي التجريبي لما وُجد في التاريخ الإسلامي شيء يُذكر مما يتشبث به النقاد، علماً أن الحظر الإسلامي للبحث الفلسفي لا يختلف في جوهره عن الحظر المطبق في الكثير من الدول الليبرالية اليوم على الفكر المناهض للثقافة الغربية.
2 ـ بناء على التسلسل المرحلي السابق ذكره، فإن الليبرالية الاقتصادية والأيديولوجية لم تنشأ في الغرب إلا بعد شيوع العلمنة وتخليص العلم من سلطان الكهنوت، وهكذا فقد كان من الطبيعي أن تثور العقلية العلمانية على أيديولوجيا التسليم بالمطلق ومنح العلم صفة النسبية. وتزامن ذلك مع تطلع الفرد للتحرر الاقتصادي من نير الإقطاع، وتحالف البورجوازية الناشئة مع الطبقة الكادحة التي أصبحت أكثر وعياً وثقافة، مما أدّى إلى تقلّص سلطات الإقطاعيين ومنح الطبقات الدنيا حرية العمل والتملك.
أما في النظام السياسي- الاقتصادي الإسلامي، فعلى الرغم من انحسار التطبيق العادل لتعاليم الإسلام في مراحل متعددة من التاريخ السياسي الإسلامي، إلا أن إلباس هذا التاريخ حُلّةَ الإقطاع الأوروبي ليس إلا محض عبث، وخصوصاً أن علماء الدين الإسلامي كانوا يشكلون صف المعارضة الأول للاستبداد السياسي على مرِّ العصور، ولم يكن التحالف المزعوم بين الفريقين على الشكل الذي يراد له أن يكون في قراءة الليبراليين لهذا التاريخ. فضلاً عن أن النظام الاقتصادي في المجتمع الإسلامي لم يكن إقطاعياً من أي وجه، ولا يمكن تبرير هذه القراءة للتاريخ بالنظر إلى أملاك السلطان وأصحاب الجاه مع غضِّ الطرف عن الحرية الاقتصادية في العمل والتملك، وانتشار الأوقاف التي كانت تزيد على كل ممتلكات السلطان - كما في بلاد الشام - وهذا أمر يتنافى مع أولى بديهيات الإقطاع.
3 ـ إثر ذلك التغيير العقلي والاجتماعي في المجتمع الأوروبي نشأ النظام الديمقراطي كتطور تلقائي ليحل بديلاً عن نظام التوريث الإقطاعي الملكي، وما كان ذلك ليحدث لولا تغلغل الفكر العلماني الليبرالي في المجتمع، والذي أشاع مبادئ الحرية الفردية وحق تقرير المصير، مما أدَّى إلى تدخل الأفراد في انتخاب السلطة الحاكمة، ومن ثم نشوء النظام الديمقراطي القائم على الاقتراع ورأي الأغلبية.
وفي المقابل نجد أن الليبراليين العرب قد تجاوزوا كل هذه المراحل سعياً لإحلال النظام السياسي الديمقراطي دون التعرض لليبرالية الأيديولوجية وسياقها التاريخي، بل لم يجد بعضهم ضيراً في الاستعانة بالخارج والاتِّكال على الغرب لإحلال هذا النظام بالقوة إن دعت الحاجة، دون التعرض لحقيقة نوايا هؤلاء الحلفاء وأطماعهم في المشرق الإسلامي التي لا يخفيها الغرب نفسه.(31/379)
4 ـ لم يذكر لنا تاريخ النهضة الأوروبية أن أحداً من مفكري الليبرالية الغربية قد أقام مقارنة ذهنية بين المجتمع الأوروبي الذي ينتمي إليه وأي من المجتمعات الأخرى، كما لم يبادر أي منهم لاقتباس أي نظام سياسي أو اقتصادي من الخارج لإحلاله في أوروبا، سواء كان ذلك من جهة الاقتباس والإفادة من مجتمع يبادله الشعور بالندّية أو من جهة التقليد القائم على الشعور بالنقص. أما الليبرالية العربية فعلى النقيض من ذلك تماماً؛ إذ لم يسعَ مفكرو أي أمة من الأمم النامية في العصر الحديث إلى مثل هذا الاستنساخ المقصود للعقلية الغربية ومحاولة إحلالها كبديل عن الواقع المحلي، وبالشكل الذي ينادي به الليبراليون العرب منذ بداية ما يسمى بحركة النهضة العربية. يقول زكي نجيب محمود في كتابه (تجديد الفكر العربي): «هذا التراث كله بالنسبة لعصرنا فقد مكانته، فالوصول إلى ثقافة علمية وتقنية وصناعية لن يكون بالرجوع إلى تراث قديم، ومصدره الوحيد هو أن نتجه إلى أوروبا وأمريكا نستقي من منابعهم ما تطوعوا بالعطاء، وما استطعنا القبول، وتمثل ما قبلناه».
5 ـ الليبرالية الغربية تقتضي نسبية الحقيقة والموضوعية في النظر والقياس، ولعل إحدى أهم سِمَات العقل الليبرالي تتلخص في تجريد العقل وحياده، وتنزيهه عن الأفكار المسبقة والصور النمطية للأفكار والتصورات، ومنحه الحق في التجريب والقياس والنقد لكافة الظواهر دون تحيز؛ فالليبرالي الغربي يؤمن أن مرجعيته هي العقل وحده، سواء كان العقل غربياً أو شرقياً، مع تحيز في الكثير من الحالات للعقل الغربي انطلاقاً من مركزيته الأوروبية. أما الليبرالي العربي فقد وقع في الفخ الذي نصبه لخصومه «الإسلاميين» إذ نجده لا يقل تمجيداً وتقديساً لمرجعيته الليبرالية إلى حدٍّ يكاد يكون فيه مسلوب الإرادة أمامها؛ ففي الوقت الذي يُؤخذ فيه على «الإسلامي» تقديسه للنص الديني واعتماده التراث كمرجعية مطلقة، يظل هو متمسكاً بنصوص ومبادئ كبار مفكري العقلانية الأوروبية.
6 ـ امتداداً لما سبق ذكره؛ فإن الليبرالي العربي يلجأ عادة إلى التبرير عند محاكمة الغرب على أخطائه، بل ـ يلجأ لا شعورياً ـ إلى تحميل الذات المسؤولية عن كل خطأ وكأنه بات أسيراً لعقدة الذنب. وقد يتطور الأمر لدى بعضهم إلى إدانة شبه مطلقة لكل ما هو عربي - إسلامي، فتتحول دراسة التاريخ الإسلامي من النقد الموضوعي ـ بهدف طرح القداسة عنه ـ إلى بحث متعمد عن أخطاء الماضي وإدانة رموزه وتجريمهم، بل الافتراء عليهم إن دعت الحاجة، إلى درجة تشبيه «محمد الفاتح» بشارون وستالين في ترحيله نصارى القسطنطينية إلى أوروبا بالرغم من احتمائهم بتاجه السلطاني من ظلم الفاتيكان، ولا غرو - والحال هذه - في الادعاء أن الخليفة بعد الفتح قد تدثر «مرتاحاً بين الغلمان والحريم بعباءة كسروية» فقط لكونه خليفة على طريقة التوريث ولم يصل إلى الحكم بصناديق الاقتراع الديمقراطي ورغم أنف التاريخ. [خالص جلبي، الشرق الأوسط: العدد (8310) بتاريخ 10 جمادى الآخرة 1422هـ]، والأمر ذاته ينسحب على «صلاح الدين» الذي لم يشفع له شيء من إنجازاته عندما اكتشف الكاتب الليبرالي أنه قد أمر بقتل السهرَوَرْدي المتهم بالزندقة، ثم ترك مملكته لوارثي الحكم من أبنائه وإخوته بدلاً من سعيه لإحلال الديمقراطية. [الكاتب نفسه، الشرق الأوسط: 4 ربيع الثاني 1426 هـ، 12 مايو 2005 العدد 9662].
وبهذه العقلية المنهزمة، لا يتورع الليبرالي العربي عن اللجوء المسرف لآلية النقد الذاتي في معالجته لكافة القضايا المعاصرة؛ إذ لا يرى في الاستعمار الأجنبي إلا قابلية داخلية للاستعمار، ولا يجد في احتلال العراق إلا خروجاً بعضهم قومياً عن المنظومة الدولية، بل لا تعدو المقاومة في العراق وفلسطين أكثر من لعبة خطرة لا يدرك «المتشددون» أبعادها، أما العولمة - بوجهها الأمريكي السافر - فتتحول لدى بعضهم إلى نتيجة طبيعية للتطور الديالكتيكي للمجتمع الإنساني (بالمفهوم الهيوماني الشامل) والذي ما زال يعمل على كتابة صفحات تاريخه الأولى.
وهكذا؛ فإن المفهوم الليبرالي العربي للغرب لا يتعدى كونه مفهوماً ذاتياً لا موضوعياً؛ بحيث تقتصر دراسة المجتمعين الإسلامي والغربي على تقصِّي النواقص في الأول، وتلمُّس المزايا في الثاني، وكأن الأمر لا يخرج عن آلية المفاضلة لنقل الأول إلى الثاني ليس إلا، وبغضِّ النظر عن تفهّم حاجة الأول، وأخطاء الثاني.
وهذا فخ آخر يقع فيه الليبرالي العربي؛ ففي الوقت الذي يلوم فيه «الإسلامي» على استسلامه لعقدة المؤامرة التي تحكم نظرته للآخر، يكاد هو يحصر مفهومه عن الآخر في نطاق التمثل والتقليد، وإذا كان الأول يحاكم الآخر انطلاقاً من الثقة بالذات، فإن الثاني يحاكم الذات انطلاقاً من انهزامه أمام الآخر، وهذا الأمر يتناقض أيضاً مع واحدة من أهم مسلّمات الليبرالية التي تنظر إلى كل من الذات والموضوع بحياد ونزاهة.
ختاماً:(31/380)
فإن الليبرالية الغربية لم تنشأ في أوربا إلا بعد أن قطعت مرحلة طويلة من التطوير والتحديث، وكان الدافع لوجودها هو حاجة الفرد الأوربي إلى ذلك النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يضمن له حريته وكرامته، ويوفر له حاجاته المعيشية بشكل متوازن. وعليه، فقد كان حريّاً بالليبراليين العرب إذ رفعوا شعار تحقيق مصالح الفرد العربي والدفاع عن حقوقه، أن يُنعموا النظر أولا في خصوصيته وظروفه التي تحيط به، وأن يتجردوا وفقا للمفهوم الليبرالي من كافة المعطيات المسبقة التي تلقفوها عن الغرب، ثم يُعملوا عقولهم في استنباط نظام ليبرالي حر يكفل تحقيق كافة حقوق الفرد العربي، ويؤمّن له معيشة كريمة لا يعاني فيها من أي تناقض مع إيمانه الغيبي أثناء تفاعله مع معطيات الحياة اليومية. وعندئذ يمكن لغير الليبرالي العربي أن يطمئن في حواره مع من يدعي الليبرالية بأن الحوار سوف لن يكون عقيما.
============(31/381)
(31/382)
الليبرالية العربية..هدم «النص» والسقوط في التبعية..!
محمود سلطان
الخطاب الليبرالي العربي، منذ كان غضاً ـ أي وهو يحاول أن يعبر عن نفسه في عالم الفكر والمعرفة ـ وحتى الآن ظل محصوراً داخل نطاق ضيق لا يتخطى حدود خطاب «إطراء وإعجاب» بالمنظومة الفكرية والحضارية الغربية، ولم يستطع أن يتجاوز تلك الحدود ليشيد قاعدة فكرية واجتماعية تكون بمثابة «شريحة» مناضلة تقود التغيير بمعناه الشامل، أي أنه لم ينتظم في حركة تملك مشروعاً أو رؤية نجد بالفعل أثر آلياتها في المجتمع، ولكنه خط لنفسه حدوداً، وأرسى أبنية فكرية هي أقرب إلى الترف والدعة منها إلى الجدية المتوخاة في مثل هذا الموقف، وظل حبيساً داخلها!! فكان مجرد صوت مخنوق جلُّ همِّه وحَسْب تمجيد الآخر «المتقدم»، ومقت حاضره «المتخلف» وماضيه أيضاً..!
وغاب عنه حقيقة أن الأزمة الخانقة التي تفترس الفكر (الليبرالي ـ العلماني) العربي، ولا تزال، ومن ثم موضوعه (أي الواقع العربي) ترجع ـ في المقام الأول ـ إلى «التخندق» داخل نسق أيديولوجي مغلق عبَّر عن نفسه من خلال الثقة إلى مرتبة القداسة في النزعة المتطرفة نحو «النمذجة» واقتفاء أثر الآخر: «في حلوه ومره، خيره وشره» كما عبَّر عنها طه حسين وأقرها أقرانه الليبراليون المتطرفون أمثال شبلي شميل، وفرح أنطون، وسلامة موسى، وأحمد لطفي السيد، وإسماعيل مظهر، وقاسم أمين وغيرهم.
بل إن الأمر اتخذ أبعاداً أكثر جرأة مع أول تنظير فكري مصاغ بعقلية أزهرية تحاول علمنة الإسلام، وتأويل «النص القرآني» أو قسره كي يوازي في مضامينه ومحتواه النص المسيحي الشائع: «دع ما لقيصر لقيصر، ودع ما لله لله» تلك القضية التي فجرها القاضي الأزهري الشيخ «علي عبد الرازق» في كتابه: «الإسلام وأصول الحكم»(*) والذي لا يزال ـ حتى الآن ـ يعد الإطار المرجعي الذي يستند إليه العلمانيون المعاصرون في مواجهة التيار الصاعد الداعي إلى أسلمة الدولة العلمانية العربية المعاصرة.
ففي إطار منطق «اقتفاء الأثر» السقيم الذي أصَّل له طه حسين في كتابه: «مستقبل الثقافة في مصر» ظل المجتمع العربي على مدى العقود السبعة الماضية ـ انظر المثقف الليبرالي العربي ـ بناءاً يستند إلى قاعدة لبنتها الأساسية «النص»؛ ومن ثم شُغلت هذه الثلة المثقفة بمهمة تكاد تكون هي الوحيدة التي حشدوا من أجلها آلياتهم المستوردة من كل حدب وصوب: وهي كيفية تقويض «النص» والماضي العربي الذي أفرز هذا «النص»؛ إذ إن بتقويضه ـ وفق هذا التصور وفي ظل هيمنة الفكر الاستشراقي ـ سينهار الصرح الاجتماعي العربي «التقليدي» برمَّته..! معتقدين أن ذلك يمهد لهم السبيل نحو بناء عالم جديد مستحدث وإلحاقه ثقافياً وحضارياً بالغرب!
ولئن كان التراث (أو الماضي) ـ جملةً ـ ظل مرفوضاً في الخطاب الليبرالي العربي فإن تهافت هذا الخطاب وانزلاقه إلى الانفصام الكامل عن الموضوعية وعن الواقع أيضاً وتحوُّله إلى دوغمائية مغلقة، لم يكن في رفض التراث في حد ذاته ولا في مسعاه إلى تقويض الأطر المرجعية التي تؤسس التراث وتشكله؛ إذ إن هذا المنحى لم يتبلور في شكل موقف إزاء الماضي عامة بغض النظر عن هويته عربياً كان أم غير عربي، ولكن المشكلة في أن الماضي عند المثقف الليبرالي ظل مرفوضاً ومطلوباً في آن واحد؛ ومعيار المفاضلة عنده هو هوية هذا التراث ومصدره، فهو يدَّعي ـ على حد تعبير «سلامة موسى» ـ أنه يريد «تخريج الرجل العصري»، وأن الطريق الذي يراه إلى ذلك، هو طرد القدماء»!
ولكن أي قدماء؟! إنهم القدماء العرب واستبدالهم بفريق آخر من القدماء الغربيين!! بحيث يحل فرويد وفوكو وفولتير وروسو ونوتسيكو، محل الشافعي وابن حنبل وابن رشد وسيبويه والأصمعي!!(31/383)
لعل الدافع الأساس والرئيس لنزوع الليبرالي العربي نحو القطيعة مع تراثه وماضيه قد تأسس على الطريقة التي اعتمدها وهو يُعيد قراءتها من جديد، وهي طريقة تعوزها الحيدة والمنطق في آن؛ إذ إنه كان يقرأ التاريخ والثقافة العربية و «أوروبا» المتقدمة في رأسه، أي إنه قاس «الماضي» العربي على «حاضر» العالم الغربي المتقدم الآن، وهو خلل معياري كانت نتيجته الطبيعية والمترتبة عليه هو الحكم الظالم بجمود التراث أو تخلفه أو أي مرادف آخر لهما!! فهو يدَّعي أن ماضينا «متخلف». ولكن ألم يسأل نفسه: متخلف بالنسبة لمن؟! أبالنسبة إلى الحاضر العربي الآن، أم بالنسبة إلى المنظومات الحضارية الأخرى التي عاصرت ماضينا نفسه؟! أم بالنسبة إلى الحضارة الغربية المعاصرة؟! إن «الأخير» هو الذي كان مهيمناً على عقل الليبرالي العربي، وهو ما جعله يطلق وصف «التخلف» على تراثه بالكامل!! بالإضافة إلى أن انتصار أوروبا عسكرياً ـ وكذلك تفوقها التقني ـ على معظم دول العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الثامن عشر وإلى ما بعد الحرب العالمية الثانية زاد من حالة الانبهار بما تفرزه «أوروبا» ـ المنتصرة» من قيم ومفاهيم ونظريات ومدارس فكرية وفلسفية؛ مما رفعها ـ بمضي الوقت، في نظر المثقف الليبرالي، والأكثر انبهاراً بها ـ إلى مرتبة الحضارة «النموذج» التي تتحدث دائماً من موقع المصداقية، وتملك ـ من وجهة نظره ـ مشروعية الحكم على «المهزومين» ! ومن ثم نظر المثقف الليبرالي العربي إلى حاضره وماضيه من خلال نظرة أوروبا إليهما! ولا يخفى على أحد نظرة الاحتقار والازدراء التي كان ـ ولا يزال ـ ينظر بها إلينا العالم الغربي.
وفي ظل هذه الهيمنة الاستعلائية للنموذج الحضاري الغربي أثير هذا السؤال: «لماذا تأخرنا، وتقدم غيرنا؟!». وفي غياب الوعي بالأسباب الحقيقية للتحديث اختار المثقف الليبرالي العربي الطريق الأسهل: وهو التقليد والتشبه بالغالب المنتصر، ويبدو أنها كانت حالة اختلط فيها «الوعي» بـ «اللاوعي» مدفوعة بروح الإعجاب بالغالب المنتصر، والمؤدية إلى التبعية الكاملة له والتبرؤ من كل ما يتعلق بالذات «العربية ـ الإسلامية» من خصوصية، وهوية واستقلال تاريخي، وأكثر تجسيداً لما صاغه ابن خلدون بـ «أن المغلوب يتبع الغالب في الملبس والمذهب»(1)، ألم يقل أحد الليبراليين العرب بأن أوروبا المنتصرة: «هي المرشد الأول والقبلة التي يجب أن نحج إليها»؟(2)، ألم يقل سلامة موسى: «فلنولِّ وجهنا شطر أوروبا.. ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها ونؤلف عائلاتنا على غرار عائلاتها»؟(1) أوَ لم يقل فرح أنطون: «يجب أن تكون مدارسنا كالمدارس الفرنسوية معزولة عن الدين عزلاً قطعياً»؟(2).
هكذا كان حال المثقف الليبرالي العربي كما يصفه الباحث الليبرالي السوري هاشم صالح: «كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني الموثر، يقف مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي، وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير اللائق و (لغته غير الحضارية)، و (دينه المتخلف) ويستحسن المثقف الغربي منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى ليكاد يلعن نفسه أو يخرج من جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً!»(3). هذا الموقف ربما نلتمس العذر لأصحابه، وخاصة هؤلاء الذين عاشوا مناخ «الصدمة» التي أفقدت العقل العربي اتزانه في بدايات القرن الماضي حين أذهلته المنظومة الحضارية الغربية بتفوقها الهائل وديناميتها السريعة وهو ما أدى إلى سقوط المثقف العربي ـ دون أن يدري ـ إلى التبعية، ولكن بعد ذلك كان الوقت كافياً لالتقاط الأنفاس، وإعمال الفكر والنظر لاحتواء الصدمة، وانبثاق فكر ليبرالي جديد متحرر من تأثيرها، وغير ملتفت إلى فكر «التبعية» السابق عليه، والذي يمكن أن نقول إنه صيغ في إطار خصوصيته التاريخية؛ ولكن ما حدث هو إنتاج وإعادة إنتاج الفكر السابق (فكر القطيعة مع الهوية العربية الإسلامية)، والوقوف عنده، دون تقديم جديد يستحق الاهتمام به، فما نقرؤه الآن هو النص نفسه الذي كتبه طه حسين، وسلامة موسى، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وغيرهم، ولكن منسوباً لأسماء جديدة دخلت عالم الفكر حديثاً.
فنحن حين نقرأ لأدونيس قوله بأن «الحداثة هي ظاهرة تتمثل في تجاوز القديم العربي لتصهره في قديم أشمل يوناني، مسيحي، كوني»(4) وحين نقرأ لفرج فودة قوله: «إن هوية مصر فرعونية، قبطية، إسلامية، متوسطية»(5) حينذاك نجد أنفسنا أمام الفكرة نفسها والنص نفسه الذي كتبه طه حسين من قبل في «مستقبل الثقافة في مصر»!
وكذلك حين نقرأ لـ «هشام ترابي» قوله بأن «التراث الذي ينبغي دراسته والحفاظ على إنجازاته هو التراث الذي صنعته الأجيال الثلاثة أو الأربعة الماضية»(6) فإننا نجده النص ذاته الذي كتبه من قبل سلامة موسى حين قال إن هدفه من النهضة: «هو تخريج الرجل العربي العصري الذي لا يرجع تاريخه إلى أكثر من خمسمائة سنة فقط»(7).(31/384)