ويتناول المراسل تفاصيل عملية الاغتيال قائلاً: "صاحب البيت الذي قتل فيه عدي وقصي الشيخ (نواف محمد الزيدان) زعيم عشيرة (بوعيسي) في الموصل لم يكن هو الواشي بهما رغم أن كل الروايات التي تداولتها وسائل الإعلام تصر على أنه الواشي، كما يؤكد أن الأمريكيين حينما جاؤوا وأخذوا الرجل وابنه إلى بيت مجاور لم يكونوا يعلمون من الذين يؤويهم الرجل في بيته، وأنهم كانوا يعتقدون أنهم ربما يكونون من المجاهدين العرب أو بعض المطلوبين، وأن المؤكد أن أحد جيران الرجل الذي لاحظ تغير عاداته ربما يكون هو الذي وشى به حيث تعود الرجل أن يجلس كل يوم عند العصر خارج بيته يتحدث مع جيرانه، لكنه انقطع عن هذه العادة منذ أكثر من أسبوع واشترى مولدات كهرباء كبيرة جديدة وكان يطلب كثيراً من الطعام إلى بيته، وكانت هناك سيارات تروح وتأتي بشكل لافت لمن يتابع بدقة، مما أكد وجود أغراب عنده، لكن الشكوك لم تذهب مطلقاً إلى أنه كان يؤوي عدي وقصي، ولأن الخوف يتحكم في كل تصرفات الأمريكيين وكثيراً ما جاءتهم وشايات كاذبة من أناس على آخرين ذهب فيها كثير من الأبرياء ضحايا، فقد جاؤوا إلى الرجل واعتقلوه وابنه، وأخذوهما إلى بيت جيرانه ليتأكدوا من المعلومات التي وصلتهم قبل فعل أي شيء، وكان البيت به أيضا بعض العمال الذين شاهدوا ما جرى.
وحشية أمريكية
ويضيف المراسل: وروى شهود العيان أن أحد الضباط الأمريكيين أخذ يضرب الولد بكعب مسدسه بعنف أمام أبيه وهو يمسك بخناقه، وآخر يضع فوهة رشاشه على رأس الأب ويقول له بعنف: اعترف من عندك في البيت؟ فانهار الرجل الذي لم يتحمل ما يحدث أمام عينيه لابنه والتهديد المباشر له، وقال بهدوء شديد لدي عدي وقصي ومصطفي نجل قصي (14 عاماً) وأحد رجال الحماية الخاصة لهم يدعي "عبد الصمد"، سيطرت الدهشة على الأمريكيين الذين ربما لم يصدقوا هم الآخرون وجود هذا الصيد الثمين، فجلبوا جيشاً جراراً للمنطقة، وطوقوا المنزل الذي يقع في منطقة لا تكثر فيها المنازل، وطلبوا ممن داخل المنزل في البداية عبر مكبرات الصوت أن يستسلموا لكن أحدهم خرج وفتح رشاشه عليهم معلنا بداية معركة مع الأربعة المحاصرين في البيت استمرت ست ساعات، وانتهت بمقتل الأربعة، حيث استخدم الأمريكيون مقتل عدي وقصي الذي قالوا إنه الأهم منذ احتلالهم للعراق منقذاً حتى يخرجوا به من الأزمات التي تلاحقهم، والتي ربما تعصف ببوش وحكومته في النهاية، هذا عند الأمريكيين، أما عند العراقيين فكما كانت حياة عدي وقصي ضرباً من الخرافة والأساطير؛ سيظلون يتحدثون عنها عشرات السنين؛ فإن موتهما كذلك بهذه الطريقة حيث كانوا أربعة أفراد فقط بينهم طفل خاضوا معركة استمرت مع جيش أمريكي جرار عدة ساعات لن تكون أيضاً سوى ضرب من ضروب الخرافة والأساطير الذي ربما تكتمل به الصورة.
مؤامرة جديدة
وتحت عنوان مؤامرة جديدة تناول الكاتب الصحفي (مصطفي بكري) رئيس تحرير صحيفة "الأسبوع" المؤامرة التي تعد لها الإدارة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية بهدف ابتزازها والضغط عليها يقول الكاتب: "جاء الدور علي السعودية سريعاً، لم ينتظروا حتى مجرد هدوء الأوضاع على الساحة العراقية؛ بل راحوا يحيكون المؤامرة باتفاق بين الكونجرس والبيت الأبيض، والهدف هو الابتزاز وممارسة الضغوط علي المملكة وسياستها".
ويضيف بكري " بالرغم من أن السعودية تعد من الدول الصديقة للولايات المتحدة؛ إلا أن التحالف المسيحي الصهيوني الحاكم في واشنطن قرر أن يعلن الحرب بطريقته، فكان التقرير الأخير الذي أعدته لجنة بالكونجرس الأمريكي يترأسها بوب جراهام المرشح الديمقراطي لرئاسة الولايات المتحدة.
وقد تضمن التقرير الذي يضم 900 صفحة حوالي 28 صفحة تحوي اتهامات مباشرة للمملكة العربية السعودية بالتورط في تفجيرات 11 سبتمبر بالولايات المتحدة.
صحيح أن البيت الأبيض تدخل لحذف هذه الصفحات من التقرير المطبوع، إلا أن ذلك يدخل فقط في إطار لعبة توزيع الأدوار بين المؤسسات الأمريكية وليس أكثر.
ويدعي التقرير أن عمر البيومي الذي تزعم واشنطن أنه قد يكون عميلا للحكومة السعودية قد زار القنصلية السعودية في لوس أنجلوس في يناير عام 2001، ثم توجه منها مباشرة إلى أحد المطاعم لمقابلة اثنين من الذين شاركوا في خطف الطائرات هما: خالد المحضار، ونواف الحوازمي.
ويزعم التقرير أن البيومي ساعد الحوازمي والمحضار في استئجار شقة في منطقة سان دييجو بولاية لوس أنجلوس، وأنه قام بدفع الإيجار لمدة شهرين مقدماً.
وهذا الكلام يزعم باختصار أن الحكومة السعودية متورطة وكانت على علم بالتفجيرات الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر.
صحيح أن الحكومة السعودية نفت هذه الاتهامات علي لسان سفيرها في واشنطن، وقالت: إن الأمر لا يخلو من أسباب سياسية، ولكن بقي الاتهام في نهاية الأمر دليلاً على النوايا الأمريكية المعادية للمملكة وسياستها.
اتهام مكرر(28/494)
ويضيف بكري "هذا الاتهام الجديد ليس الأول من نوعه، ولكن يكون الأخير، فقبل ذلك أطلقت واشنطن يد الإعلام الأمريكي ليوجه الاتهامات إلى المملكة، ويحملها مسؤولية إنتاج وتمويل 'الإرهاب' في العالم من خلال النظام التعليمي والديني السائد، وكذلك عدم وجود رقابة على تبرعات المسؤولين ورجال الأعمال للمشروعات الخيرية".
وقد أوعزت جهات أمريكية نافذة في وقت سابق إلى أهالي ضحايا أحداث 11 سبتمبر لرفع قضايا أمام المحاكم الأمريكية، طالت عدداً من الأمراء السعوديين في مقدمتهم الأمير سلطان بن عبد العزيز نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
وقد أصدرت المحاكم الأمريكية أحكاماً جائرة بتعويضات تصل إلى مليارات الدولارات ضد الأمراء السعوديين وبعض المؤسسات البنكية والخيرية الأخرى.
مرحلة جديدة
ويؤكد مصطفي بكري أن الحكومة الأمريكية بدأت تعلن صراحة تبنيها للخطاب الإعلامي، وراحت تكشف عن وجهها بلا خجل، وتطلق رجالها وتعد لمرحلة جديدة في العلاقة مع المملكة.
وطرحت في هذا السياق أجندة أمريكية تهدف إلى التدخل في مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية للسعودية، وقدمت واشنطن ما يشبه الإنذار إلى الرياض للقبول بهذه الأجندة وتنفيذها.
وخلال فترة العدوان (الأنجلو ـ أمريكي) على العراق زادت أمريكا من حدة ضغوطها على السعودية، وطالبت بفتح القواعد والأجواء، بل والمشاركة في العدوان مباشرة، وبالرغم من أن المملكة لم تستجب للضغوط الأمريكية كاملة إلا أن واشنطن لم تنس لها هذا الموقف، فبعد العدوان بقليل قامت الولايات المتحدة بإعلان سحب مقر قيادتها وقواتها العاملة بالمملكة إلى قواعد عسكرية أخرى بإحدى مناطق دولة قطر.
وهكذا جاء الموقف الأمريكي الجديد الذي تضمنه تقرير الكونجرس كحلقة أخرى في إطار المخطط الذي يستهدف تمهيد الأجواء لممارسة المزيد من الضغوط علي المملكة، وهذه الضغوط تستهدف أولا إجبار السعودية على إقامة علاقات تطبيع كاملة مع العدو الصهيوني، والموافقة على إرسال قوات عسكرية إلى المستنقع العراقي، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد؛ بل إن المطامع الأمريكية في نفط السعودية وتقسيم المملكة لا تخفى على أحد!.
إن مطامع الولايات المتحدة هي مطامع لا حدود لها في المنطقة العربية، ولذلك يكون من الخطأ تصور أن الأمر سوف يقتصر علي العراق، أو بعض الدول التي تسميها واشنطن دولاً مارقة.
ثورة 23 يوليو
أما الدكتور (محمود جامع) فقد تناول في مقاله بجريدة "أفاق عربية" ثورة 23 يوليو، والتي حلت ذكراها في مصر مؤخراً، وتناول الكاتب تأثيراتها وأبعادها على المجتمع المصري. فتحْت عنوان "ثورة 23 يوليو ضاعت وضيعتنا!!" يقول الكاتب: "عدت بذاكرتي يوم قامت ثورة 23 يوليو.. وكيف كانت سعادة الناس كل الناس غامرة.. وكيف حملنا ثوارها على ظهورنا وأكتافنا التي ألهبوها بالسياط بعدها، ورفعناهم على أعناقنا .. فشنقونا، وصفقنا بأيدينا فكلبشوها بالحديد..، وهتفت حناجرنا فأخرسوها..، وألسنتنا فقطعوها..، وأرجلنا التي مشت خلفهم .. فقيدوها بالأغلال..، هكذا فعل بنا عبد الناصر .. بعد نجاح الثورة!!
وعبد الناصر كان في أول الأمر ينكر ذاته, ويختفي عن الأضواء, وعن الظهور في الصور في المقدمة في الصحف والمجلات, وكان يركب هو وزملاؤه الترام أو السيارات الجيب عند الضرورة القصوى، وفرح الشعب كل الشعب بأبنائه الذين يحكمون بلدهم الحبيب لأول مرة في التاريخ..، خاصة بعد أن أفرجوا عن جميع المسجونين السياسيين، وما هي إلا شهور حتى تبدل الحال غير الحال, خلعوا السترة العسكرية..، ولبسوا البدل الفاخرة و"الكارفتات" الحريرية ..، وساروا بالمواكب الفخمة وحولهم الحرس والحشم..، وتكالبوا علي مظاهر السلطة!!
يوم الثورة
يضيف الكاتب "وتذكرت يوم قامت الثورة، وقُبض على عبد الناصر وعامر وهما بالملابس المدنية بعد منتصف الليل في شارع الخليفة المأمون..، وكيف تعرف عليهم يوسف صديق بعد قيام الثورة، وأنقذهما من أيدي الجنود..، وكيف كان صلاح وجمال سالم في رفح يستحمان في البحر الأبيض المتوسط أثناء قيام الثورة ولم يحضرا إلى القاهرة إلا بعد ثلاثة أيام من نجاح الثورة, وكيف كان السادات في السينما ليلة الثورة, وكيف كان علي صبري وشعراوي جمعة في مناصب عليا..، رغم أنهما لم يكونا في يوم من الأيام من الضباط الأحرار، ولم يشتركا في الثورة ??!! وكيف حُكم بالإعدام في نفس الوقت على أعمدة التنظيم وأبطال الثورة الحقيقيين،أمثال: رشاد مهنا، وعبد المنعم عبد الرءوف، وحسين حمودة، وصلاح خليفة، ومعروف الحضري، ويوسف صديق، ومحسن عبد الخالق، وجمال منصور، وحسني الدمنهوري، وشقيقيه..، وغيرهم ..، وغيرهم ..، وكل ذلك على سبيل المثال لا الحصر..، وكيف حاكمهم وعاملهم وأهانهم زملاؤهم في التنظيم أثناء المحاكمة؟!.(28/495)
ويضيف الدكتور (جامع) "بقي المتسلقون والانتهازيون، والخونة وناهبو الأموال وقصور وشقق الحراسة ومصوغات وتحف الأسرة المالكة..، والقصور المصادرة..، وتولوا المناصب العليا والحساسة؛ وتوالت الهزائم والنكسات علي مصر وشعب مصر وجيش مصر..، واحتل اليهود أرض مصر..، بعد طرد الإنجليز، وظهرت فضائح القادة والحكام أثناء المحاكمات التي تمت بعد هزيمة 1967, وبعد ثورة 15 مايو التصحيحية أيام السادات وهي مكتوبة في سجلات المحاكم..، وبها حقائق يشيب لها الولدان!!
وضاعت السودان وسوريا واليمن وسيناء وغزة والضفة الغربية والقدس بسبب سياسة عبد الناصر..، الذي اعترف علانية بذلك الخطأ أثناء إذاعته لبيان التنحي، واعترف صراحة بمسؤوليته الكاملة عن هذه الأخطاء التي أدت إلي الهزيمة، وقالها علنًا في ذل وحسرة وانكسار.. ولم تقم له قائمة بعدها!!.
ناصر والثورة
* وتوفي بعد علاج خطأ...، فقد تعاطي علاج السكر وبقي دون طعام..، وشُخص على أنه أزمة قلبية..، وكان من الممكن إنقاذه بقطعة من السكر..!، وانتهت بوفاته ثورة 23 يوليو التي أكل أفرادها ثم أكلها..، وأكل كل مقومات الشعب وضيع شعبه.. وضيع تاريخه.. وضيع الثورة..، ولم يتحقق هدف واحد من أهدافها حتى وفاته.. ، وترك الشعب في ضياع وضياع: خزينة هاوية مثقلة بالديون, وسجون مليئة بالمعذبين والمظلومين من خيرة شباب مصر وعلمائها ودعاتها ومفكريها, ومجالس انتخابية مزورة بانتخابات 99,9% , وحكم شمولي وقضاء مذبوح, وتجسس على التليفونات والمنازل, وكبت للحريات, وخطف الأحرار الهاربين وصحفيين من جحيمه خارج مصر، وتخديرهم وإحضارهم له في صناديق!.
ويضيف الكاتب "إن الحال هو الحال ..، وإننا نلف وندور حول أنفسنا..، والسلبيات موجودة.. وموجودة!! وقد أعيتنا الحيل في المطالبة بالإصلاح الجذري!! والتخلص من كل هذه المصائب التي ابتلينا بها..، وورثناها عن ثورة 23 يوليو!! وأثقلت كاهلنا, ودمرت اقتصادنا, وقهرت شبابنا, وأنهكت شعبنا.. ولكن دون جدوي.. وكأن علي قلوب أقفالها!!.
الوهن العربي
إما مجلة "آخر ساعة" الأسبوعية فقد تناولت الملف السوداني وتطورات مباحثات السلام السودانية؛ فكتب الكاتب الصحفي (أسامة عجاج) يقول: "لم يعد خافياً على أحد حالة الوهن والضعف الذي يعيشها العالم العربي، والذي يعيش أزمة الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق، و'مأزق' في عملية السلام علي المسار الفلسطيني بصفة خاصة وتجميد للمسار السوري، وتزداد المخاوف من أن نستيقظ صباح أحد الأيام على مفاجأة انفصال الجنوب السوداني عن الدولة المركزية، والذي تسعى دول إقليمية وقوى دولية إلى تكريسه، وتجعل منه حقيقة علي الأرض، والدليل المقترحات التي تقدمت بها سكرتارية منظمة الإيجاد للسلام في السودان للطرفين المتفاوضين: الحكومة السودانية، والحركة الشعبية لتحرير السودان؛ والتي ستؤدي حتما إذا تم الموافقة عليها إلى فصل حقيقي للشمال عن الجنوب . حتى قبل المرحلة الانتقالية التي حددها اتفاق ماشاكوس، للتصويت في نهايتها، وبعد ست سنوات على الانفصال أو الوحدة، خطورة المقترحات دفعت الحكومة السودانية إلي رفضها جملة وتفصيلا.
ويضيف الكاتب "للأسف الشديد تعامل العرب باستهانة مع الأزمة السودانية، على اعتبار أنها محدودة المخاطر والتأثير وسط سيطرة طاغية للصراع العربي الإسرائيلي، ورغم خطورته على الأمن القومي العربي، إلا أنه في المجمل لا يزيد خطورة علي تداعيات الوضع في السودان والحرب الأهلية المستمرة منذ أوائل الثمانينات، حتى جاء اتفاق ماشاكوس في 20 يوليو من العام الماضي يومها اكتشف الجميع مع الإقرار بحق تقرير المصير لجنوب السودان، والاتفاق على مرحلة انتقالية لمدة ست سنوات بأن وحدة دولة عربية بحجم أهمية السودان مهددا وأن التقسيم قد يكون هدفاً علي أجندة دوله إقليمية وقوي دولية وجماعات هي في المجمل لا تتوافق مع الأمن القومي العربي".(28/496)
وبدأ الحديث عن دور عربي أو حتى 'غطاء' في المفاوضات التي ستجرى لتنفيذ الاتفاق، ولم يكن الأمر سهلاً أو هيناً؛ لأن هناك اتفاقاً علي قصر المفاوضات على جبهتين فقط هما: الحكومة السودانية، رغم أن حكومة الإنقاذ ليست هي القوة السياسية الوحيدة في الشمال، وهناك العديد من الأحزاب التاريخية إلا أنها جميعا في خانة المعارضة، والطرف الثاني في التفاوض هو الحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون جارا نج، رغم هيمنة قبيلة واحدة وهي 'الدنيكا' علي الحركة في ظل وجود 81 قبيلة في الجنوب و25 تنظيماً مسلحاً إلا أن المفاوضات وفقاً لرؤية الإيجاد باعتبارها تهدف إلى تحقيق السلام، مقصورة على القوي التي تحمل السلاح، ولهذا تم استبعاد قوى سياسية شمالية وجنوبية من عملية التفاوض، وظلت بعيداً عن مائدتها، فما بالك إذا تعلق الأمر برغبة سودانية بضرورة مشاركة قوى عربية وتأثيرها على مجرى المفاوضات؟!، مع وجود رغبة إقليمية ودولية على أن يكون الجهد الرئيس للمفاوضات، هو فقط للإيجاد، وهي منظمة إقليمية معنية بمقاومة التصحر والجراد، إلا أنها وجدت نفسها لأسباب عديدة معنية بملف السودان رغم تعدد المشاكل في دول الجوار دون وجود حل.
دور عربي
ويضيف الكاتب "البديل المطروح للإيجاد هو دور عربي في إطار الجامعة العربية يجعل من خيار الوحدة بعد المرحلة الانتقالية هو الخيار الأفضل عن طريق السعي إلى المساهمة في تنمية الجنوب من خلال صندوق عربي أقرته القمة العربية في بيروت في مارس 2002 وعقد لهذا الغرض عدة اجتماعات منها اجتماع 17 فبراير الماضي الذي شارك فيه جميع دول ومنظمات ومجالس وزارية متخصصة واتحادات عربية ونوعية كما استضافت الخرطوم في مارس 2003 اجتماعا لـ 50 منظمة عربية غير حكومية مهتمة بالأمر.
وزاد من أهمية الدور العربي أن الحكومة السودانية اكتشفت أن اتفاق ماشاكوس رغم توقيعها عليه؛ لا يختلف كثيراً عن اتفاق أوسلو، مليء بالعيوب، يحتاج كل بند فيه إلي اتفاق جديد وهو 'حمال أوجه' يسمح لكل طرف أن يفسره وفقاً لمصالحه ورؤيته، وبدأت المشاكل والخلافات وعلي سبيل المثال لا الحصر في الجولة الثانية من المفاوضات والتي انعقدت في أول سبتمبر الماضي قدمت سكرتارية الإيجاد أوراقا تحمل مطالب الحركة الشعبية لتحرير السودان لبحث مستقبل ما يطلق عليه "المناطق المهمشة" وهي جبال النوبة وايبي وجنوب النيل الأزرق وهو ما يخالف حتى اتفاق ماشاكوس الذي حسم هذا الأمر عندما اعتبر أن حدود الجنوب المعني بالاتفاق هي نفس الحدود القائمة عند استقلال السودان في يناير1956، واستمرت هذه الأزمة رغم اعتراف جون جارانج الواضح والصريح بأن المناطق المهمشة ليست تابعة للجنوب جغرافياً ولكنها مرتبطة ارتباطاً سياسياً مع الحركة الشعبية، وأعلن إصراره علي مناقشة أوضاعها في المفاوضات وعلي أن يكون لها الحق في تقرير مصيرها كما هو الحال مع الجنوب بعد فترة الست سنوات الانتقالية، تختار بعدها الشكل الذي يحدد مستقبلها في إطار السودان وقد رفضت الحكومة السودانية مناقشة هذه القضايا تحت مظلة الإيجاد، وقبلت بالتفاوض حولها في مسار مستقل خاصة وأن مبادرة الإيجاد تنص علي منح حق تقرير المصير للجنوب وتطبيقها علي مثل هذه المناطق يمثل خطورة هائلة تؤدي إلي تفتيت السودان إلي عدة كانتونات، واستمرت الأزمة دون حل.
وضع الخرطوم
ولم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة، فهناك وضع العاصمة الخرطوم تطالب بأن تخضع لأحكام الشريعة باعتبارها عاصمة إسلامية، والحركة تسعى لأن تكون عاصمة علمانية، وظلت المشكلة بدون حل أيضاً حتى قدمت سكرتارية الإيجاد مسودة مقترحات أطلق عليها "الوثيقة الإطارية" للحل النهائي، خالفت بشكل واضح وصريح ما تم الاتفاق والتوقيع عليه من قبل حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان في ماشاكوس، خاصة فيما يتعلق بالفترة الانتقالية والتي تحددت في البروتوكول لست سنوات يكون فيها السودان دولة موحدة، كما جاء في الفقرة الثانية من مقدمة الاتفاق، حيث أكد الطرفان التزامهما بالتفاوض من أجل حل سلمي وشامل للصراع في إطار وحدة السودان، وكذلك مجموعة المبادئ التي نص الأول منها علي أن وحدة السودان والمبنية علي إرادة شعبه والقائمة علي الحكم الديمقراطي والمساءلة والاحترام والعدالة لجميع السكان في السودان هي أولوية الطرفين، أما الفقرة العاشرة من المبادئ فقد نصت علي صياغة وتنفيذ اتفاقية السلام بطريقة تجعل خيار الوحدة جاذباً، خاصة وسط سكان جنوب السودان، كما نص عند الحديث عن ترتيبات الفترة الانتقالية على إنشاء لجنة للتقييم والمتابعة خلال الفترة التي تسبق الفترة الانتقالية مهمتها مراقبة تنفيذ اتفاقية السلام وإعداد تقييم بعد نصف الفترة حول ترتيبات الوحدة المنصوص عليها في الاتفاقية.
حبكة بريطانية(28/497)
أما مجلة "الأهرام العربي" فقد تناولت بالتحليل خبر وفاة الخبير البريطاني (ديفيد كيلي) أحد أبرز الخبراء البيولوجيين في بريطانيا، ومن أهم الأشخاص الذين اعتمدت عليهم لندن وواشنطن في البحث عن الأسلحة العراقية أثناء حملات التفتيش العديدة التي قامت بها هناك، وشككت المجلة فيما أثير حول انتحاره مؤكدة أنه تعرض للاغتيال تقول المجلة: "حبكة درامية بريطانية شديدة الإحكام على الرغم من أنها مكررة وتشبه الأفلام الهابطة، وسيناريو بريطاني مأخوذ من القصص الأمريكية ذات الباع الطويل في هذا المجال, والسيناريو هذه المرة يحكي قصة الخبير البريطاني ديفيد كيلي الذي عثر على جثته في الغابات المتاخمة لمنزله في أكسفورد شاير, وقد قطعت شرايين يده اليسرى وألقي بالسكين إلى جواره, إضافة إلى علبة من الأدوية المسكنة للألم والتي كان يكفي أخذ عدد من أقراصها لإنهاء الحياة في سهولة ويسر، لكن الشيء المؤكد أن رئيس الوزراء توني بلير يواجه أزمة عاصفة بسبب الاغتيال الانتحاري، وليس أدل على ذلك من السؤال القاتل الذي وجهه له أحد الصحفيين أثناء مؤتمره الصحفي في طوكيو عما إذا كانت يده لطخت بدماء الخبير البريطاني أم لا؟
وتتساءل المجلة: ما الذي يدفع بشخصية مرموقة مثل كيلي للانتحار؟ ولماذا الانتحار في هذا التوقيت بالذات والذي تزامن مع انتهائه من شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم في إطار التحقيقات الجارية بشأن استخدام معلومات استخباراتية تمس الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق؟ والحكاية ببساطة أن كيلي تحدث إلى أحد أصدقائه وهو (أندرو جيلجيان) والذي يعمل مراسلا لـ بي بي سي, وقال له: إن هناك مبالغة ما في تصوير التهديدات التي تمثلها الأسلحة العراقية على العالم, وأن ما حدث كان رغبة في اجتياح العراق فقط لأسباب أخرى بعيدة كل البعد عن الأسباب المعلنة.
كيلي هو واحد من أبرز الخبراء البيولوجيين في بريطانيا, إن لم يكن في العالم كله، وكان واحداً من أهم الأشخاص الذين اعتمدت عليهم لندن وواشنطن في البحث عن الأسلحة العراقية أثناء حملات التفتيش العديدة التي قامت بها هناك, وقد زار كيلي العراق37 مرة كانت كفيلة بكشف كل الحقائق والتأكد من أن الإدارة البريطانية والأمريكية أرادت أن تضخم من الحدث, لكي يتسنى لهما غزو العراق من منطلق شرعي إلى هنا, والإدارة البريطانية لا تعره أي اهتمام, فالرجل لا يحب الشهرة أو الأضواء، إنه قلما يتحدث, لكن ها هو عندما تحدث دفع حياته ثمنا لذلك.
============(28/498)
(28/499)
مقاومة التطبيع.. تبدأ من التعليم
بغداد - قدس برس- إسلام أون لاين.نت/9-3-2001
أكد خبراء أكاديميون عراقيون أن مقاومة التطبيع مع إسرائيل تتم من خلال تربية الجيل الحديث وفق خصائص ومعلومات معينة تحصنهم من الوقوع في مهاوي التطبيع بعد عمليات التسوية التي عقدتها بعض الدول العربية مع تل أبيب، وأتاحت المجال لإسرائيل لغزو العقل العربي ثقافيا.
وجاءت آراء الخبراء في ندوة عقدتها نهاية الأسبوع الماضي الجمعية العراقية للعلوم التربوية والنفسية بالتعاون مع "كلية التربية، ابن الرشد، في بغداد تحت عنوان "دور التربية في تعزيز انتفاضة الأقصى".
وأكد بحث الأستاذ حكمت البزاز، وزير التربية السابق، الذي جاء تحت عنوان "دور التربية في تعزيز النضال ضد الصهيونية" أن على المؤسسات التربوية العربية أن تسعى منذ الآن لإعداد مناهج دراسية تتضمن تعزيز الانتماء للقضية الفلسطينية، والتركيز على تاريخ النضال الإسلامي والعربي من أجل فلسطين، والتذكير بجرائم اليهود من أجل إعداد جيل يقاوم الصهيونية وعمليات التطبيع بشكل فاعل.
فيما أكد بحث الدكتورة سعاد معروف الدوري، رئيسة الجمعية، أن الندوات العربية المشتركة في هذا المجال تعزز مسار وضع إستراتيجية عربية ثقافية تربوية لمواجهة التطبيع، وعدم إفساح المجال لإسرائيل للقيام بعمليات غزو فكري ضد أجيالنا.
أما بحث الدكتور كامل علوان، أستاذ علم النفس في جامعة بغداد؛ فقد جاء تحت عنوان "دور المعلم العربي في مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني"؛ موضحا فيه أهمية امتلاك المعلم العربي لثقافة تاريخية ونضالية رصينة تمكنه من إفهام الطلبة حقيقة الوجود الصهيوني، وجرائمه ضد العرب والشعب الفلسطيني؛ ليصبح المعلم مصدر إشعاع لمقاومة التطبيع مع إسرائيل.
فيما أشار بحث الدكتور مالك الدليمي، عميد كلية التربية في جامعة بغداد، إلى ضرورة توعية الأجيال العربية بدور الانتفاضة في مقاومة الاحتلال الصهيوني، وتحرير الأرض العربية؛ بما يشجع رُوح الاندفاع والتضحية لمحاربة التعنت والصلف الصهيوني المستمر ضد أجيالنا العربية.
وكانت الندوة قد أصدرت توصيات تتضمن وضع خطة عربية وعراقية لمقاومة التطبيع ونشرها في المؤسسات التربوية العربية.
=============(28/500)
(29/1)
النظام العالمي والعدالة الاجتماعيّة "المساواة" (1/2)
د.عبدالله بن هادي القحطاني * 4/6/1426
10/07/2005
إن من المسلّمات التي لا يمكن التنازل عنها لأي نظام يصبو إلى العالميّة هو تحقيق المساواة بين كافة الشعوب، وكفالة العدالة الاجتماعيّة لهم. ومن المؤسف فإن مبدأ المساواة في التعامل مع البشر من خلفيات عرقيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة، وثقافيّة مختلفة مفقود في الأيديولوجيات المسيطرة على العالم، فالهند "أكبر ديموقراطية في العالم" -كما يزعمون- تعاني ولقرون عديدة من نظام طبقيّ اجتماعيّ مقيت cast system) )يُعامل بعض أفراده كآلهة ( Avata r s ) بينما يُعَدّ الآخرون، وهم الغالبية الساحقة أقل قدراً من العبيد، ويسمّوْن بطبقة المنبوذين (Untouchables) ليس لهم أية حقوق، وعلى الرغم من أن المسلمين لا يُصنفون دينياً وفقاً للهندوسية ضمن هذا السلم الاجتماعي الظالم، إلا أنهم يعاملون في كثير من أرجاء الهند معاملة جائرة ظالمة، ناهيك عن البقرة التي يقدسها ويعبدها كثير من الهندوس.
وأما النصرانيّة التي لم يُكتب لها أن تُطبّق كنظام حياة متكامل كما في الإسلام إلا أنها تحوي في تعاليمها كثيراً من المبادئ العنصريّة، والتي اتخذها كثير من أتباعها ذريعة لاستعباد الشعوب الأخرى واستعمارها. وفي الجانب الآخر، فإن التعاليم التلموديّة التي تقوم عليها اليهوديّة الحديثة تعلي من شأن اليهودـ وتصفهم بأنهم شعب الله المختار، وأما الأمم الأخرى بما فيهم أعوانهم من النصارى، فتصفهم بأنهم أمميّون، ويمكن أن تمتد القائمة لتشمل الشيوعيّة، ونداءاتها الجوفاء "بأن الناس سواسية"، والتي واقعها أن هناك" أناساً أكثر سواسية من غيرهم". وأما الرأسماليّة الطاغية بظلمها على العالم اليوم فإنها لا تهدف ولا حتى على المستوى التنظيري إلى تطبيق المساواة؛ لأنها تشجّع الابتزازيّة المطلقة، وتقوم على الاحتكار الذي يؤدي إلى اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وينعكس ذلك في كافة مناحي الحياة. بينما الاشتراكيّة والتي -نظرياً- تدعو إلى رأْب الصدع بين الشيوعيّة والرأسماليّة وبلورة نظمهما في بوتقة جديدة، ما فتئت إلا أن تخبطت في حمأة أخطاء ذينك النظامين. وبهذا لم تنجح في أن تقدم خياراً مقبولاً لنظام عالمي جديد، وبهذا فإن الإسلام يبقى الخيار الأوحد لنظام يسير حياة البشريّة. فهو يحترم حقوق البشر بغض النظر عن اختلافهم، ويعتبرهم أعضاء في أمة عالميّة واحدة تحيا في كنف الله في سلام ووئام، وبعد هذه المقدمة العامة فإنني سوف أتطرق لتعاليم بعض تلك الأنظمة بشيء من التفصيل، ومقارنتها بتعاليم الإسلام، فيما يتعلق بالمساواة بين البشر، بغض النظر عن الفوارق الاجتماعيّة والعرقيّة وغيرها.
1- النصرانيّة ومبدأ المساواة:
فمن خلال استعراضنا لبعض تعاليم النصرانية في كتبها الأصلية نقرر في كونها نظاماً يمكن أن تتطلع إليه الإنسانية ليحقق العدل والمساواة، وخاصة أن دستور أكبر دولة نصرانية في العالم قد تأثر كثيراً بتعاليم الكتاب المقدس عند النصارى، ولتعاليمها تأثير كبير على قادة الولايات المتحدة، ومثال ذلك مقولة الرئيس ريجان في خطاب ألقاه خلال فترة الحرب الباردة، قال فيه:
" لقد بدأت الأمور تتضح، ولن تكون بعيدة الآن، فإن إزاكل (1) يقول بأن النار والحمم ستمطر على أعداء شعب الله، وهذا يجب أن يعني أنهم سوف يُدمرون بالأسلحة النووية .. جوج الأمة التي تقود كل قوى الظلام الأخرى ضد إسرائيل، والتي سوف تأتي من الشمال فإن روسيا هي جوج ... وبما أن روسيا قد حاربت الإله .. فإنها تنطبق عليها أوصاف جوج وماجوج بدقة متناهية "(2).
وفي الحقيقة فإن رسالة عيسى الحقيقية كانت موجهة لشعب بني إسرائيل في عهده عليه السلام، ومازالت بقايا ذلك في كتب العهد الجديد عند النصارى.
( متى 10: 5ـ6)
فهي إذن ليست رسالة عالمية لكل البشر ولكل الأزمنة ، بل محدودة بزمن معين ولشعب بعينه . وفي مقطع آخر من العهد الجديد يشير متى إلى حادثة مرت بعيسى (عليه السلام ) حسب زعمهم وفيها إجحاف كبير على نبي الله أعزه الله وشرفه عما يقولون ، واتهام له بأنه عنصري متحيز ، فهو لا يرى أن أحداً أهل لدين الله من بني إسرائيل ، ولاشك في أن ذلك تجن على نبي من أولي العزم كرمه الله بالرسالة ، وجعل ميلاده معجزة وآية ، ولكنه دليل على أن تعاليم النصرانية الحالية تعاليم متحيزة ولا تسمو لتطبيع المساواة بين البشريّة.
(متى15: 21 ـ 26) .
ولاشك أن هذه المقاطع من كتاب النصارى المقدس قد وُضعت لتأكيد اصطفاء بني إسرائيل على كافة الأمم، وبأن ما ينطبق عليهم لا يمكن أن ينطبق على غيرهم مع إيماني بأن نبي الله ـ شرّفه الله عما يقولون ـ لايمكن أن يتلفظ بمثل هذه الكلمات التي تدل على احتقار الشعوب الأخرى والانتقاص منهم، وكأنهم ليسوا عباداً لله مثلهم. ولكنه أيضاً دليل على أصول العنصريّة الحديثة المعتمدة على التعاليم النصرانيّة المحرفة. والتي مهّدت للاستعمار والحروب الصليبيّة واستعباد الأحرار من عباد الله.(29/2)
فهذا السيناتور جون كالهون ( John Calhoun )من كارولينا الجنوبيّة يقول حول أحقيّة السود بالعبوديّة دون غيرهم:
" إن الحريّة عندما تُعطى لأناس لا يستحقونها فبدل أن تكون بركة فإنها تكون لعنة ... فإن الله خلقهم عبيداً .. وهذا هو وضعهم الطبيعي (3).
ونحن لا يساورنا أدنى شك بأن التعاليم الأصلية للنصرانيّة كما أتى بها نبي الله عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ كانت تعاليم خير وعدل وبركة، ولقد بقيت آثار لتلك الشريعة السمحة في بعض كتب النصارى الموجودة، ولكنه مع الأسف إندرس كثير منها في ظل التغييرات المتكررة في المجامع الكنسية المختلفة، حتى أصبح هناك نسخ متعدّدة من "الكتاب المقدس" بينها مساحات واسعة من الاختلاف، حتى غدا الكثير من فرق النصارى وكأنها أديان مختلفة تماماً.
2- اليهود ومبدأ المساواة بين الأمم الأخرى :
لقد أعطى (4) التلمود اليهود مرتبة لا يرقى إليها أحد من شعوب الأرض ولا حتى الملائكة، فاعتبر أن اليهود شعب الله المختار، فاليهود حسب التلمود أقرب إلى أن يكونوا آلهة، أما غيرهم من الأمم فهم " قيوم" غير مؤهلين لمرتبة اليهود، بل أقرب من أن يكونوا أقل من البشر، وخطورة هذه الرؤية العنصريّة هو أن التلمود يعتبر المرجعيّة الأولى عند اليهود.
وهذا إسرائيل شاحاك (المفكر اليهودي البارز) يقول:
" بأن المفهوم التلمودي الأرثوذكسي والذي يُرجع إليه بكثرة في كل الأوقات، هو أن الكون مقسم إلى خمسة أقسام: الجمادات ، النباتات والخضروات ، الحيوانات ، سائر البشر ، واليهود . وأن الفرق الشاسع بين اليهود وسائر البشر مثل البون الشاسع بين البشر والحيوانات " (5).
ولقد بين الكاتب اليهودي المعاصر هرمن ووك( He r man Wouk) في كتابه هذا هو إلهي (This is my God) بأن:
" التلمود يبقى حتى يومنا هذا القلب النابض للدين اليهودي ، فبغض النظر عن كوننا أورثوذكس، محافظين، إصلاحيين، أو مجرد متعاطفين فنحن نتبع تعاليم التلمود، إنه قانوننا".
ومن وجهة نظر اليهود فإن سبب اختيارهم واصطفائهم على سائر الأمم؛ هو أن غير اليهود لم يكونوا حضوراً عند جبل الطور كما يقول التلمود حيث تم تطهير اليهود من الخطيئة الأصلية التي يلصقونها بحواء؛
عندما اقتربت الحية من حواء نفثت فيها الفحش الخبيث .. وعندما وقف بنو إسرائيل على سيناء تم تطهير ذلك الفحش، ولكن فحش أولئك الوثنيين الذين لم يقفوا على سيناء لم يتوقف.
وعلى أية حال فاليهود وفقاً للتعاليم التلموديّة لا يمكن أن يكون لهم نداً أي من البشر، بل التلمود يتعامل مع غير اليهود وكأنهم ليسوا بشراً، وهذا قد يساهم في تفهم الحقد المقيت الذي يكنّه اليهود للأمم الأخرى؛ فهذا مقطع من التلمود يبين كيف يجب أن تكون العلاقة بين اليهود وغيرهم من الأمم ـ
الأممي (القيوم) لا يمكن أن يكون جاراً بمعنى تبادل الحقوق والواجبات .. بل إن قوانين الأمميّين لا ترقى إلى ذلك أبداً فلا يمكن أن تكون هناك علاقة مبنية على حقوق مشتركة .(Belc 13 b)
وبهذا فالتلمود لا يتورع في أن يبيّن حق اليهود في الحكم لصالحهم، وإن كانوا جائرين ظالمين لغير اليهود. فقانون الكيل بمكيالين أمر مشروع جداً عندما يكون ذلك في صالحهم وضد أعدائهم من غير اليهود، وقد يساهم هذا في تفهم الصلف الصهيوني في التعامل مع الفلسطينيين اليوم، وتجاهلهم لقرارات الأمم المتحدة، فهي بالنسبة لهم منظمة "قيوميّة" أمميّة يذعنون لأحكامها عندما تكون لصالحهم فقط . فمنظمة العلاقات الأمريكيّة الاسرائيليّة IPAAC)) المعروفة باللوبي الصهيوني الذي يستخدم نفوذه المذهل في الضغط من أجل ألاّ تطبق على إسرائيل من خلال مجلس الأمن أو غيره أية عقوبات أو إدانات قوية، وبما أن غالبية الناشطين اليهود في أمريكا من الصهاينة، فإن التلمود هو مرجعهم الأول في تقنين الظلم والكيل بمكيالين إن لم يكن بمكاييل كثيرة. وهذا المقطع التالي من التلمود يظهر غاية الجور وانعدام العدل والمساواة بين اليهود وغيرهم من الأمم،
عندما تقع مقاضاة بين إسرائيلي ووثني heathen ـ مع العلم أن هذا المصطلح يُطلق على النصارى أيضاً ـ فإن أمكن الحكم لصالح اليهودي وفق قانون إسرائيل فلا بأس فأحكم له وقل هذا "شرعنا"، وإن كان بالإمكان الحكم لصالح اليهودي بقانون الوثنيين فاحكم لليهودي، وقل للوثني"هذا شرعكم" ، وإن لم يكن ممكناً الحكم لليهودي بناءً على أي الشرعين فلتجد ذريعة للتحايل عليهم .Babakama 113a))(6)
ومن أمثلة احتقار اليهود لغيرهم واعتبار أنفسهم أمة مختارة على سائر البشر، أن تلمودهم يتحدث عن سائر الأمم بأنهم في منزلة منحطة ، ولا يمكن قبولهم كيهود حتى لو رغبوا ذلك ، فالتلمود يحرم تدريس التوراة لغير اليهود .
ووفقاً للموسوعة اليهودية :
فإن التلمود يحرم تدريس الأمميين التوراة ( ميراث أبناء يعقوب ) بل إن ر. جوهان يفتي بأن من يفعل ذلك "يستحق القتل " (7) .(29/3)
فبلا أدنى شك فإن نظاماً عنصرياً بهذه الدرجة لا يمكن أن يتقبله أحد كنظام حياة عالمي ينظم حياة كافة البشر . ولهذا فلا عجب بعد ذكر هذه المقتطفات البسيطة والمحددة من التلمود حينما تستمع لتصريحات القادة الصهاينة المتعجرفة والجائرة في عدم احترام حياة وحقوق غير اليهود ، وكأنهم ممنوحون دماءً خاصة . وتعاملاً خاصاً يميزهم لأنهم يهود على سائر الأمم ، فهذا مناحيم بيغن (الرئيس السابق للكيان الصهيوني) يرد بصلف وتعجرف على انتقادات واستنكارات الصحفيين والمنصفين بل كافة دول العالم حول مذبحة صبرا وشاتيلا التي قُتل فيها المئات من الأبرياء أطفالاً وشيوخاً ونساءً ، قائلاً :
قيوم "غير اليهود" يقتلون قيوم وتريدون أن تحاسبوا اليهود على ذلك ؟! (8)
وما المداهمات الإجرامية التي تقوم بها القوات الصهيونية في قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وهدم بيوتهم وتشريدهم وجرف مزارعهم وأشجارهم التي قد تأصلت جذورها في أراضيهم لعشرات السنين قبل احتلال اليهود لبلادهم، إلا مثالاً حياً أمام العالم الذي انعدمت فيه أي مصداقية لحقوق المسلمين لتعاليم التلمود العنصريّة.
بل إن شارون وتعامل حكومته مع الفلسطينيين بأقصى درجات الإرهاب على مسمع ومرأى من العالم، ومقتل داعية حقوق الإنسان الأمريكية دهساً بالجرافة أمام أعين الصحفيين والمصورين والعالم كله- إلا مثالاً لتلك الرؤية العنصرية الحاقدة التي تجذّرت في العقليّة الصهيونيّة المستشرية للحقد والكراهية والظلم . وما اغتيال الشيخ أحمد ياسين ـ الطاعن في السن المصاب بشتى العلل والمشلول تماماً ـ بأمر شارون نفسه رئيس وزراء الدولة الديموقراطيّة الوحيدة والمحافظة على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط كما يزعم ـ بدماء باردة بل بكل فخر واعتزاز ودون أي مبالاة برد فعل واستنكار العالم كله إلا دليل آخر على فساد الفطرة، وتأصل نظرة الحقد والاحتقار لكل ما هو غير يهودي، ومحاولة استغلاله وابتزازه بأشرس الطرق وأخس الوسائل.
ومع هذا قد يقول قائل من محبي السلام واللاهثين وراء سراب اليهود: إن تلك التعاليم آثار قديمة قد لا يكون لها تأثير كبير في واقع الممارسات الإسرائيليّة في واقعنا اليوم. فإسرائيل دولة ديموقراطيّة، وتلك تعاليم عنصريّة راديكاليّة، فلنستمع سوياً لتصريحات رئيس وزراء إسرائيل لما سببوه من دمار وقتل يفوق الخيال بغزو لبنان بلد ذا سيادة وحرمة .. فلقد رد بيغن بصلف على تساؤلات الأمريكيين حول المذابح التي ارتكبت قائلاً:
لا نشعر نحن بالمسؤولية لتبرير ما نقوم به للآخرين .. نحن فقط نبرر ذلك لأنفسنا (9) .
وبمفهوم تلمودي فإن كلماته تعني " أن اليهود أكبر وأعلى من أن ينتقدهم القيوم (غير اليهودي) وإن كان سيد نعمتهم وحامي ديارهم وحليفهم الأول" ومثال آخر على ذلك التفكير العنصري الصهيوني هو ما نشرته صحيفة صن داي Sunday) ) حول الحاخام والكيميائي اليهودي (موشيه أنتل مان) Moshe Antelman)) والذي يفخر بأنه استطاع تطوير رصاصة تحتوي على شحم الخنزير ولكن لم فعل ذلك؟ تقول الصن داي:
إن (أنتل مان) حاخام وكيميائي يهودي طوّر رصاصة مشبعة بشحم الخنزير لاستخدامها ضد الملتزمين من المسلمين، والذين يؤمنون بأن أي اتصال مع الخنزير يفقدهم الفرصة في دخول الجنة، حسب زعمه .. ولقد قدم هذا الحاخام "الطيب" اختراعه هدية لمستوطني الضفة الغربية، وبأمل أن يحصل على اهتمام البنتاغون في الاستفادة من هذا الاختراع الخنزيري العسكري (10).
وهذا مثال آخر سقناه عن كيف ينظر النخبة من اليهود ورجال الدين من الحاخامات للأمم الأخرى من غير اليهود.
كما يبين حقيقة اليهودية المعاصرة شاهد من أهلها، ألا وهو المفكر السياسي العالمي اليهودي الأمريكي الجنسيّة وأستاذ علم اللغة الشهير في معهد ماستشوستش للتكنولوجيا، البروفسور نعوم لتسوسكي Noam) Chomsky ) في مقابلة أجراها معه ديفيد بارسا ميان (David Ba r samian)حيث أجاب تشوسكي على سؤال وجه له حول نظرة اليهود للناس الآخرين فقال:
"لو نظرت إلى الثقافة اليهودية التقليدية سواء كانت في أوروبا الشرقية أوفي شمال أفريقيا ، لوجدت أنها تعدّ النصارى و غير اليهود وكأنهم مخلوقات مختلفة أقل مستوى من اليهود ... ولهذا فعلى سبيل المثال فإنه لا ينبغي للأطباء اليهود أن يعالجوا غير اليهود إلا إذا كان ذلك يعود بالفائدة على اليهود، ولهذا فإن موسى بن ميمون " الطبيب اليهودي الشهير" كان يعمل لدى السلطان صلاح الدين الأيوبي لأن اليهود سوف يستفيدون من هذا العمل وليس العكس (11).
وعندما سئل تشوسكي هل تلك النظرة الدونيّة من قبل اليهود جزء من تعاليم اليهوديّة الأصليّة أم جزء من الثقافة اليهوديّة الشائعة؟ .فقال:
إنها في الحلقة Halakah( التعاليم الحاخامية ) ... هناك الكثير من هذا، لقد كانوا أقلية مضطهدة ، ولكنهم كانوا عنصريين في نفس الوقت ، فهم يصبحون عنصريين عندما يصبحون أغلبية غير مضطهدة (12) .(29/4)
ومما يبرز أهمية إظهار التعاليم والتشريعات العنصريّة اليهوديّة هو تشدّق كثير من الساسة والإعلاميين والمثقفين الأمريكان بأن حضارتنا هي "حضارة يهودية ـ نصرانية " (Judo-Ch r istian) فإن كانت الحضارة الغربية حسب ما يقولون، فإنها بلاشك هجين غير متناسق من حضارتين (إن صحّ التعبير) متناقضتين في ركائزها العقديّة والأخلاقيّة، وإن جمعتهما أساطير ونبوؤات توراتيّة تفوح منها رائحة العنصريّة والاحتقار للأمم الأخرى، و بدأت طوائف نصرانيّة متطرفة أكثر من أي وقت مضى تربط مستقبلها السياسي وهيمنتها على العالم بإسرائيل وأساطيرها؛ إذ أدخل اليهود كجزء أساسي في منظومتها للهيمنة العولمية. ومن أولئك من يسمون "بالنصارى الصهاينة أو اليمينيين الجدد" . وهم من يحكم أمريكا في الوقت الحاضر، لقد استطاعوا السيطرة على حزب الجمهوريين في الولايات المتحدة لما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، ولهم امتداد يتزايد في مناطق أخرى من العالم وخاصة أوروبا.
* أ ستاذ مشارك جامعة الملك خالد - أبها
1- أحد الحواريين عند النصارى .
2- Jim Hill and r aud Cheadle's (1996) The Bible Tells Me So. Ancho r Book : New Yo r k (P.129).
3- Jim Hill and صلى الله عليه وسلم Cheadle, P.
4- عالمية الإسلام ص 13 ترجمة الحاشية رقم
5- Is r ael Shahak. "Is r aeli Apa r theid and The Intifada" r ace & Class,30 (1) 1988 : 1-12 (P.3) .
6- The Jewish Encyclopedia .ed.Cy r us Adle r , Isido r e Singe r , New Yo r k, London: Funk - Wagnalls, 1901-1906, P.620
7- T. Pike, (61) f r om The Jewish Encyclopedia (p. 623), Sanh. S 9a,Hagigah 13a .
8- T. Pike, p. 53
9- T. Pike. P.72. f r om New Yo r k Times, 5 August 1985, p. 1 and National Geog r aphic, Ap r il 1983, p. 514
10- Sunday. August 28,1994, p.18.
11- David Ba r samian and Noam Chomsky. P r opaganda and The Public Mind. South P r ess : Camb r idge, 2001,p85
12- Ba r samian and Chomsky,p.85
=============(29/5)
(29/6)
الصحافيون المصريون .. استفتاء حول التطبيع *
خدمةخاصة لموقع الإسلام اليوم 7/6/1424
05/08/2003
كشفت نتائج انتخابات نقابة الصحفيين المصريين لاختيار نقيب ومجلس نقابة جديدين عن هزيمة ساحقة لمرشح الحكومة "صلاح منتصر" ، بينما فاز مرشح المعارضة (جلال عارف) لأول مرة منذ أكثر من عشرين عامًا.
وكانت المعركة بين المرشحين على منصب النقيب هي استفتاء واضح على الموقف من التطبيع، وجاءت كلمة الصحفيين واحدة لا لبس فيها ولا غموض وعلى سواء ضد التطبيع ولصالح الالتزام بقرار الجمعية العمومية للصحفيين المصريين، والتي ترفض التطبيع مع الكيان الصهيوني بأي شكل كان.
ويأتي تصويت الصحفيين الكاسح لصالح مرشح المعارضة الناصري (جلال عارف) لتأكيد استمرار موقف جموعهم على رفض التطبيع؛ حيث جادل بعض الصحفيين المصريين المؤيدين للتطبيع في بعض المؤسسات الصحفية في أن قرار الجمعية العمومية الرافض للتطبيع كان في وقت لا يزيد فيه عدد الصحفيين عن ألفين، أما عددهم الآن فقد جاوز الأربعة آلاف، ومن ثم فإن قرار الجمعية العمومية عام 1996 لا يمثل جموعهم الراهنة.
لم يكن الفرز في معركة النقيب الانتخابية على أساس حكومة ومعارضة كما يحدث كل مرة، ولكنه كان على أساس الموقف من التطبيع؛ فكثير ممن أعطوا أصواتهم للنقيب يختلفون معه سياسيًا، لكنهم يتفقون جميعًا على أن التطبيع مع العدو الصهيوني خط أحمر لا يجوز تجاوزه أو التسامح بشأنه.
وفي كل المؤسسات الصحفية التي زارها مرشح الحكومة (صلاح منتصر) جُوبه برفض تام من كوادر الصحفيين بسبب زيارته للكيان الصهيوني مرتين، وبسبب اعتباره منذ عام 1984 من "أصدقاء دولة إسرائيل" حيث أدرجت السفارة الإسرائيلية بالقاهرة اسمه بهذا الوصف.
وأشار الصحفيون المصريون إلى أن (صلاح منتصر) نشر كتاباً عقب زيارته للكيان الصهيوني بعنوان "إسرائيل في عيون صحفي مصري"، كما أشارت المعلومات التي واجه الصحفيون بها مرشح الحكومة أنه يحمل الجنسية الأمريكية، وأنه عضو فاعل بنوادي الروتاري والليونز الماسونية.
ورغم اعتراف (صلاح منتصر) بخطئه وأنه "غلط" على حد تعبيره، وأنه لم يكتب مقالاً يدعو فيه للتطبيع ..، لكن موقف الصحفيين كان واضحًا في منح أصواتهم لنقيب معارض ورفض نقيب الحكومة؛ لأنه كسر الخط الأحمر الذي لا يمكن للضمير المهني أن يقبله، وهو السفر إلى الكيان الصهيوني، والتعامل مع سفارته في القاهرة.
وقد رفض الصحفيون المزايا المادية التي حصل عليها مرشح الحكومة (صلاح منتصر)، والتي قدرت بالملايين لصالح صندوق معاشات الصحفيين، ولصالح زيادة رواتبهم بما يساوي 40جنيهًا مصريًا؛ للتأكيد على أن إرادة الصحفيين في رفض التطبيع أقوى من المقايضة عليها برشاوى مالية لشراء أصواتهم لصالح مرشح الحكومة. ورغم أن برنامج (جلال عارف) النقيب المعارض الفائز اعتمد على عنوان "التغيير"، ويقصد به كسر احتكار مرشح الحكومة لمنصب النقيب، والذي يكون عادة من رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية الكبرى، لكن برنامج الجمعية العمومية للصحفيين كان عنوانه "رفض التطبيع". فقضية التطبيع عند الصحفيين الذين صوتوا لـ (جلال عارف) كانت أهم وأكثر أولوية من "قضية التغيير".
ولو تأملنا الأرقام التي حصل عليها كل من "مرشح الحكومة" المهزوم ومرشح المعارضة الفائز للاحظنا : أن (جلال عارف) حصل على 1785 صوتًا، منها280 صوتًا من مؤسسة الأهرام التي ينتمي إليها (منتصر)، مقابل 1415 صوتًا حصل عليها (صلاح منتصر)، منها 663صوتًا من مؤسسة الأهرام!. وفي كل المؤسسات الصحفية الأخرى كان التصويت لصالح (جلال عارف) بفارق كبير؛ وهو ما يعني أن إرادة الصحفيين في رفض التطبيع كانت أقوى من دعم الحكومة لمرشحها، والتي عملت على فوزه دون كلل؛ حيث تعتبر مؤسسة الأهرام المراهنة الأساسية لفوز مرشحيها.
الأبعاد الرمزية لهزيمة مرشح التطبيع
1.مثلت نقابة الصحفيين ومهنة الصحافة تعبيرًا عن الضمير القومي المصري الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولعب الصحفيون المصريون كقادة للرأي وتشكيل وعي المواطن العادي دوراً كبيرًا في كشف الطبيعة العنصرية للكيان الصهيوني، وكشف طبيعة السلام الذي يريد. كما لعبت الصحافة دورًا كبيرًا في مهاجمة "معاهدة كامب ديفيد" ، ومعاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية أيام السادات، كما خاضت الصحافة المصرية معارك كبيرة ضد بعض القطاعات التي نجح الكيان الصهيوني في اختراقها عبر التطبيع مثل وزارة الزراعة، ونبهت لخطر التطبيع الزراعي على الزراعة المصرية، وعلى صحة المواطن المصري، وكشفت الصحافة المصرية عن التطبيع الثقافي والديني ووقفت له بالمرصاد، كما خاضت الصحافة معارك كبيرة ضد المشاريع التطبيعية مثل مشروع الشرق أوسطية، والمؤتمرات الاقتصادية التي ارتبطت به، والقنوات الخلفية التي حاول الكيان الصهيوني التسلل منها لفرض التطبيع على بعض الدول العربية، خاصة بعض الدول الخليجية ..(29/7)
وكشفت الصحافة "مجموعة تحالف كوبنهاجن المصرية" التي حاولت إقامة علاقات مع ما أطلق عليه معسكر السلام في الكيان الصهيوني، وفي كل هذه المعارك كانت الصحافة المصرية والصحفيون المصريون تعبيرًا عن الضمير المصري، وزادًا له في نفس الوقت لاستحضار موقف الرفض الكامل للتطبيع مع العدو الصهيوني؛ باعتباره خطرًا حقيقيًا على الأمة العربية والإسلامية وعلى الحضارة العربية والإسلامية...، ولكل هذا كان رفض الصحافيين المصريين لمرشح التطبيع والماسونية الذي جاءت به الحكومة "من الظل" -كما ذكر هو-؛ ليكون نقيبًا للصحفيين المصريين، وأمينًا على مهنة الصحافة ونقابة الصحفيين؛ تعبيرًا عن أن الصحافة المصرية وفية لرفض التطبيع مع العدو الصهيوني ..، وأنها في هذه النقطة لا تجامل ولا تحابي ولا تُشترى ..، كما أنها في قضية التطبيع تعبر عن ضمير الأمة والمجتمع المصري والعربي.
2.ولأهمية ما تقوم به الصحافة المصرية كسلطة رابعة كاشفة ومراقبة للحفاظ على الوعي المصري والعربي فيما يتصل بقضية التطبيع؛ فإن الكيان الصهيوني اعتبر ما تنشره الصحافة المصرية عن جرائمه ومشاريعه معاداة للسامية ومخالفة للمعاهدة المصرية ـ الإسرائيلية .. وعادة ما كانت القضايا التي تنشرها الصحف المصرية أداة للضغط الصهيوني على النظام المصري في علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، كما أنها كانت موضوعًا للأخذ والرد في العلاقات الثنائية (المصرية ـ الإسرائيلية) من جهة أخرى. وكانت الحكومة المصرية تتحدث عن حرية الصحافة المصرية، وحقها في نشر ما تراه كما هو حادث في الكيان الصهيوني، حيث تشن الصحافة الصهيونية حملات عدائية على النظام المصري والعربي وعلى الحضارة العربية والإسلامية بشكل يفوق كثيرًا ما تقوم به الصحافة المصرية، ومن أجل ذلك حاول الكيان الصهيوني اختراق الصحافة المصرية عبر بعض عملائه من أصحاب الأقلام المأجورة، لكن ذلك ظل في نطاق ضيق ومستهجن، وكان المجيء بنقيب تطبيعي إيذانًا بفتح أبواب الصحافة المصرية على مصراعيها لاقتحام المشروع الصهيوني لها، حيث كانت نقابة الصحفيين المصرية -والتي تمثل عنوانًا لرفض التطبيع- ستصبح هي البوابة الواسعة لاستقبال مشاريع التطبيع وثقافته والترويج للتعامل مع الكيان الصهيوني . فقد جادل كثير من الصحفيين المصريين الكبار منذ فترة عن ما أطلقوا عليه التطبيع المهني -ويقصدون به حق الصحفي في السفر للكيان الصهيوني للتعرف عليه من الداخل-؛ لذلك فإن إعادة تعريف التطبيع وبث التشكيك حول المواقف الصلبة التي تسد ذرائع التطبيع كانت أمورًا مطروحة بقوة بين الصحفيين المصريين، خاصة وأن التشكيك في الموقف من التطبيع كان يقوم به صحفيون كبار من ذوي التوجهات اليسارية بالذات. ومن ثم فإن هزيمة مرشح الحكومة التطبيعي مثلت حماية حقيقية لنقابة الصحفيين ولمهنة الصحافة من أن تصبح مرتعًا لحمل أفكار ورؤى ومشاريع العدو الصهيوني.
3.في ظل التحول الكبير الذي حدث في العلاقات الدولية بعد أحداث 11سبتمبر؛ فإن الصحافة المصرية شكلت أداة هامة لحماية الثقافة العربية والإسلامية، والتي وصفت بأنها مصدر للتطرف والإرهاب، وأنه لا بد من إعادة هندستها من جديد للتكيف مع المطالب الثقافية الأمريكية والصهيونية في آن واحد من حيث إعادة هندسة المناهج الدراسية للطلاب، بحيث يحذف منها كل ما يعد إشارة لمفاهيم مثل: الجهاد، أو الولاء، أو طبيعة اليهود وعداوتهم للمسلمين...، وفرض مفهوم للإرهاب يشمل حركات المقاومة المشروعة في فلسطين مثل: حماس، والجهاد..، وحصار الإسلام الاجتماعي والسياسي بدعوى مقاومة الحركات الأصولية الإسلامية .
ومثّل موقف الصحافة المصرية تحديًا كبيرًا للمطالب الأمريكية، والتي تصب في خانة التطبيع مع العدو الصهيوني إلى درجة أن السفير الأمريكي في القاهرة كتب مقالاً في جريدة الأهرام يدعو فيه إلى أن يمنع رؤساء تحرير الصحف وجهات نظر الصحفيين التي تخالف وجهة النظر الأمريكية فيما يتصل بتحليلها لأحداث 11سبتمبر!.
الصحافة المصرية تمثل حصناً مهما يقف في وجه محاولات التطبيع الثقافي سواء فيما يتصل بالتكيف مع المطالب الأمريكية بشأن الدين والثقافة الإسلامية، أو المطالب الصهيونية فيما يتصل بالمطالبة بكسر الحاجز النفسي بين العرب والصهاينة؛ باعتباره الجدار الراسخ لمنع تقبل التعامل مع العدو الصهيوني.
4- تمثل الصحافة المصرية بموقفها الرافض للتطبيع دعماً قوياً للموقف الذي يفرض نفسه فيما يتصل بموقف الصحافة العربية في بلدانها؛ حيث إن نقابة الصحفيين المصرية هي التي تترأس اتحاد الصحفيين العرب، ولا شك في أن دورها في اتحاد الصحافيين العرب يمثل صمام الأمان لمنع الاندفاع نحو التطبيع الإعلامي سواء في مصر أو الدول العربية الأخرى. وكان من شأن مجيء نقيب للصحفيين ممن يؤمنون بالتطبيع على رأس الصحافة المصرية أن يؤدي إلى ضياع هيبة الصحافة المصرية، وفتح ثغرة كبيرة وخطيرة في الصمود الإعلامي والصحفي المصري والعربي.(29/8)
ومن ثم جاءت كلمة الصحافيين المصريين القاطعة لرفض نقيب التطبيع صمامًا حمى للنقابة وحدتها واستقلالها، وأبقى للصحافة المصرية كرامتها وريادتها في العالم العربي؛ بل إن صمود نقابة الرأي وصمود قادة الرأي حمى للعمل النقابي في النقابات الأخرى في مصر والعالم العربي موقفه الثابت والرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني. وأبقى للمقاومة العربية الرافضة للتطبيع روحها وقوتها ووهجها.
* مركز أبعاد للدراسات
============(29/9)
(29/10)
إندونيسيا تدفع ثمن تقاربها مع واشنطن
رضا عبد الودود / القاهرة 16/9/1426
19/10/2005
تفجيرات بالي الأخيرة التي وقعت في الأول من شهر أكتوبر الجاري، وأدّت إلى مقتل أكثر من (36) شخصاً وإصابة أكثر من (120) آخرين وضعت الكثير من علامات الاستفهام حول تداعيات ومنفذي الحادث الذي جاء في وقت بالغ الصعوبة في إندونيسيا؛ إذ الغضب الشعبي يجتاح البلاد بعد إقدام حكومة الرئيس سيالسو يوديونيو على رفع أسعار الوقود، كما أن جهود المصالحة واتفاق السلام في إقليم آتشيه لم تنته بعد..مما يجذب تفكير المحلل نحو سيناريوهات وأدلة الاتهام وتداعيات الحادث..ومغزى التوقيت الذي توافق مع حلول الذكرى الثالثة للهجمات الكبرى التي شهدتها نفس الجزيرة عام 2003، وسقط من جرائها أكثر من مائتي قتيل ومئات الجرحى...
وفي إطار تحليل الحدث يبرز سيناريوهان للجهة التي تقف وراء التفجيرات :
أولهما: وقوف جهات وعناصر تابعة للمخابرات الأمريكية التي اعتادت سفارتها في جاكرتا توجيه تحذيرات لرعاياها باحتمالات حدوث انفجارات متوقعة، الأمر الذي جعل المسؤولين الأمنيين في إندونيسيا لم يعودوا يستبعدون شبهة تدخلات خارجية لإحداث هذه التفجيرات في منطقة تنوء بالتوتر الديني والطائفي، خاصة أن المراقبين لاحظوا أنه قبيل كل تفجير تقريباً تشهده إندونيسيا تقوم سفارتا واشنطن واستراليا بإعلان حالة التأهب القصوى ومنع مواطنيها من السفر إلى إندونيسيا، وإطلاق التحذيرات من قرب وقوع حوادث إرهابية، دون أن تقوم السفارتان بإبلاغ السلطات الأمنية المحلية بمعلومات تفيدها في منع وقوع مثل هذه الحوادث.
ولعل المثال الأبرز ما وقع خلال مايو الماضي في تفجيرات "تينتينا" بعد عشرة أيام من تحذير استراليا مواطنيها بعدم السفر إلى إندونيسيا عقب تلقيها معلومات تشير إلى احتمال وقوع تفجيرات انتحارية، وعقب ثلاثة أيام فقط من قيام الولايات المتحدة بإغلاق بعثاتها الدبلوماسية الأربع في إندونيسيا، وفرض الحراسة الأمنية المشددة على المنشآت التي ترجع ملكيتها للحكومة الأمريكية في المدن الإندونيسية الأخرى بعد تلقيها تهديداً بهجوم محتمل، دون أن يوضح موقع السفارة الأمريكية على شبكة الإنترنت طبيعة هذه التهديدات، ومع اكتفائه بإنذار كافة الأمريكيين المتواجدين في أرجاء البلاد، وذكر الموقع أن الهجوم قد يحدث في أي لحظة، ويستهدف مواقع منها محلات يكثر فيها الأجانب والأمريكيون.
وقد أثار هذا السلوك الأمريكي المتكرر حفيظة الإندونيسيين وعمَّق من شكوكهم حول وجود أيادٍ خارجية خاصة الأمريكية منها، إن لم يكن بالتورط الفعلي أو التخطيط لهذه التفجيرات، فإنه يكون
بالشك في هذا الصمت الأمريكي، وعدم تقديم معلومات مفيدة حقاً للسلطات الإندونيسية، لا سيما أن الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر استفادة من هذه التفجيرات بما يدعم من تحالفها مع إندونيسيا في إطار حربها على الإرهاب في ضوء استمرار وجود بعض الخلايا في إندونيسيا التي لا تزال تتبنى فكر تنظيم القاعدة ، ذلك فضلاً عن المصالح السياسية والاقتصادية الأخرى للولايات المتحدة في إندونيسيا.
ولعل إعلان واشنطن واستراليا استعدادهما لتقديم المساعدات الأمنية لإندونيسيا والمشاركة في إجراء التحقيقات حول الحادث يصب في نفس الاتجاه الذي يسعى لإجبار إندونيسيا على الاستمرار في تقديم التنازلات السياسية على صعيد مسار العلاقات السياسية بين إندونيسيا وواشنطن واستراليا كطرف إقليمي يلعب دور شرطي أمريكا في جنوب شرق آسيا.
العلاقات الأمريكية الإندونيسية
ولعل قراءة ملف العلاقات الأمريكية الإندونيسية تشير إلى محاولات واشنطن الحثيثة لتطوير التعاون المشترك، حيث لم تكن العلاقات الأمريكية الإندونيسية حتى سنوات قريبة صالحة لإنشاء نوع من التطبيع الكامل بين البلدين؛ إذ ساءت العلاقات بينهما منذ عام 1999. عندما أوقف الكونجرس الأمريكي التعاون العسكري مع إندونيسيا بعد اتهامات وجّهتها واشنطن لحكومة جاكرتا بانتهاك حقوق تيمور الشرقية، خلال وبعد التصويت على الاستقلال عام 1999.(29/11)
ودخلت العلاقات بين البلدين مرحلة أصعب عام 2002، عندما أطلق مسلحون النار على منصّرين أمريكيين في إقليم بابوا، وجاءت تصريحات من قبل جماعات حقوق الإنسان تشير إلى أن المسلحين هم من الجنود الإندونيسيين. إلا أن واشنطن كانت حريصة جداً على عدم قطع صلاتها مع جاكرتا، التي تعد أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، كما أنها تضم حكومة لم تتخذ موقفاً معادياً لأمريكا منذ سنوات طويلة، وكون الحكومة تحارب على أرضها جماعات إسلامية تطالب بالاستقلال الذاتي ، وبسبب روابط قوية بين استراليا وجاكرتا. وبالتالي فإن واشنطن تطمع في أن يشكل وجودها في المنطقة تأكيدا لنفوذها العسكري في الجزء الشرقي الجنوبي من آسيا (على مقربة من الصين وروسيا وكوريا الشمالية). بالإضافة إلى آمالها بتضييق الخناق على تحركات الجماعات الإسلامية ، وإقامة نقاط استخباراتية وعملاء في تلك المنطقة، التي أشارت تقارير عديدة إلى دورها المحوري في تحركات واستقطاب بعض الزعامات التابعة لتنظيم (القاعدة) الأهم على الأجندة الأمريكية.
ومع تطورات الملفات الأمنية بين البلدين بدأت كل من الولايات المتحدة وإندونيسيا برنامجاً للتبادل العسكري استمر مدة أسبوعين في أوائل شهر سبتمبر الماضي، مخصص لزيادة التعاون وتبادل الخبرة بين البلدين. في وقت كان البيت الأبيض يعمل فيه بجد لإقناع الكونجرس بأن يرفع الحظر العسكري على إندونيسيا، في خضم سياسة الإدارة الأمريكية الحالية لدعم التطبيع الكامل بين البلدين. وجاء التعاون العسكري الجديد بين البلدين بعد تعاون سابق، حدث في أواخر شهر يوليو الماضي، عندما قامت مجموعة من قوات البحرية الأمريكية ، بتدريبات عسكرية مع البحرية الإندونيسية في مدينة (سورابايا). وهذه التدريبات كان من المفترض أن تكون سنوية، منذ عام 1995، عندما جرت التدريبات لأول مرة, إلا أنها ألغيت عدة سنوات، بعد سوء العلاقات بين البلدين.
السيناريو الثاني: وهو ضلوع عناصر الجماعة الإسلامية والإسلاميين المرتبطين بالقاعدة؛ حسبما تدور الشكوك الإندونيسية؛ إذ صرح رئيس جهاز مكافحة الإرهاب الاندونيسي أن التفجيرات تحمل بصمات الجماعة الإسلامية المتهمة بالارتباط بتنظيم القاعدة. وفي هذا الإطار كشف قائد شرطة جزيرة بالي مانغو باستيكا أن ستة أشخاص على الأقل متورطون في التفجيرات، مشيراً إلى أن هناك آخرين متورطين في الهجمات ومن بينهم المخططون ومعدو القنابل.. وتأتي تلك الاتهامات معتمدة على خبرة واسعة في تلفيق الاتهامات للإسلاميين في إندونيسيا حيث نسبت إليها جميع التفجيرات التي وقعت منذ ذلك التاريخ، بما فيها تفجيرات فندق ماريوت عام 2003 وانفجار السفارة الاسترالية عام 2004 وغيرها.
التفجيرات ثمن التطبيع الأمريكي
وإذا سلمنا بأن الجماعة الإسلامية وراء تفجيرات بالي الأخيرة، بالرغم من أنها لم تعلن عن مسؤوليتها عن الحادث حتى الآن. إلا أن تقليب أوراقها وأدبياتها عبر البيانات التي صدرت عنها سابقاً نجد ربطاً كبيراً بين أعمال العنف التي تتورط فيها وبين تطوير السلطات الإندونيسية لعلاقاتها مع واشنطن، حيث كانت قد أكدت الجماعة على مسؤوليتها عن تفجيرات نيننتا التي وقعت في مايو الماضي، مؤكدة أنها جاءت للرد على العلاقات الحكومية الغربية (وعلى رأسها الولايات المتحدة واستراليا) واعتقال زعماء للجماعة (كأبي بكر باعشير) والمجازر التي تقع بحق المسلمين في إندونيسيا . كما جاء في بيانات التنظيم حول بعض حوادث التفجيرات السابقة، أنها استهدفت السفارات الغربية والسياح الأجانب، للانتقام لجرائم قتل المسلمين في أفغانستان والعراق، في إشارة مباشرة للقوات الاسترالية العاملة في العراق مع قوات الاحتلال الأمريكي.
وعلى عكس التقارب الإندونيسي الأمريكي تقوم السياسات الحكومية على التشدد مع الداخل الإندونيسي خاصة في توسيع القوانين الاستثنائية وتطبيق قانون الأدلة السرية الذي تعتمده استراليا وواشنطن؛ مما يؤذي مشاعر كثير من المسلمين في البلاد؛ إذ أقامت لذلك حلفاً أمنياً مع دول الجوار، وأنشأت حلقة وصل استخباراتية مع الولايات المتحدة وأستراليا وتايلاند وغيرها. وباتت الأحكام القضائية الموجهة ضد المدانين المتهمين بالضلوع في التفجيرات حادة، وصلت إلى عقوبة الإعدام. وهو ما لاقى ترحيباً أمريكياً (رغم إدانات واشنطن السابقة لأي حكم بالإعدام في دول أخرى) واستراليا (التي عارضت بشدة أحكام السجن المخففة بحق المشتركين بتفجيرات بالي السابقة).(29/12)
ولعل أبرز الأمثلة التي أثارت استياء الأوساط الإسلامية في إندونيسيا على سبيل المثال، حكم المحكمة الإندونيسية في 13 سبتمبر الماضي على إيوان دارموان مثو (المتهم بالمشاركة في تفجيرات 9 سبتمبر 2004 أمام السفارة الأسترالية بجاكرتا) بالإعدام رمياً بالرصاص. على الرغم من أنه ليس أحد المنفذين، وكانت التهم الموجهة إليه هي "المساعدة بتنظيم وتنفيذ عملية فدائية، وبإخفاء المرتكبين للتفجيرات". كما حكم القضاء الإندونيسي أيضاً على أمروزي (المتهم الرئيس في تفجيرات بالي السابقة عام 2002) بالإعدام في وقت سابق.
ومن ثم فإن تلك التفجيرات التي وقعت في بالي وستقع لاحقاً تأتي في ضوء رفض غالبية الشعب الإندونيسي للتعاون الأمني الواسع والسياسي مع واشنطن وحليفتها استراليا؛ مما يستلزم من الإدارة الإندونيسية إعادة تقييم الموقف والدفع نحو مزيد من المشاركة السياسية لفصائل وتيارات المجتمع الإندونيسي ، ودعم حقوق المسلمين في كثير من جزرها الممتدة التي غالباً ما تأتي في مراحل لاحقة من حقوق النصارى التي تغازل بها إندونيسيا الأطراف الغربية والإقليمية، وهذا ما يتضح بالمقارنة بين حصول تيمور الشرقية على الاستقلال واتفاق حركة آتشيه الحرة مع الحكومة الإندونيسية.
=============(29/13)
(29/14)
الأردن يعتقل مناهضي التطبيع
عمان- منتصر مرعي- إسلام أون لاين/27-1-2001
قامت الأجهزة الأمنية الأردنية باعتقال خمسة على الأقل من نشطاء مجمع النقابات المهنية الأردنية مساء الجمعة على خلفية إصدار لجنة مقاومة التطبيع النقابية نشرة داخلية تضم أسماء الدفعة الثانية من المطبعين مع إسرائيل تحت ما عرف بـ "القائمة السوداء".
وأعلن نقيب المحامين صالح العرموطي أسماء المعتقلين الخمسة وهم: المهندس علي أبو السكر رئيس لجنة مقاومة التطبيع في نقابة المهندسين عضو مجلس الشورى في جماعة الإخوان المسلمين، وعلي حتر، وعصام أبو فرحة، وأحمد العرموطي، ومحمد أبو جبارة.
وقال العرموطي في تصريح لـ إسلام أون لاين إن اتصالات تُجرى حاليا مع رئيس الوزراء ووزير الداخلية لمتابعة عملية اعتقال النشطاء الخمسة الذين اقتيدوا إلى مكان غير معروف حتى الآن. غير أن مصادر نقابية رجحت أن يكونوا محتجزين لدى دائرة المخابرات العامة. وسيُعقد اليوم السبت اجتماع طارئ في مجمع النقابات المهنية لمتابعة الموضع واتخاذ الإجراءات اللازمة حياله.
وكانت الدفعة الثانية التي أصدرتها لجنة مقاومة التطبيع التابعة للنقابات المهنية الأردنية بأسماء عدد من المطبعين مع إسرائيل بغية الضغط عليهم قد ضمت أسماء شخصيات سياسية وإعلامية واقتصادية كبيرة أبرزها: عدنان أبو عوده رئيس الديوان الملكي السابق مستشار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني سابقا، وزير الخارجية السابق عضو الوفد الأردني المفاوض في عملية السلام فايز الطراونة، إضافة إلى العديد من كبريات الشركات الأردنية ذات الصلة بالكيان الإسرائيلي.
وكانت أسماء الدفعة الثانية من المطبعين مع إسرائيل محور لقاء رئيس الوزراء الأردني علي أبو الراغب قبل أيام مع رؤساء النقابات، والذي انتقد فيه عملية إصدار القائمة، وحاول ثني النقابات المهنية عن عزمها بذلك إلا أن جهوده لم تنجح في إقناع النقابات بعدم إصدار أسماء الدفعة الثانية من المطبعين مع إسرائيل، فيما يعتبر دعوة إلى مقاطعة الأسماء الواردة على مستوى الشخصيات والأفراد، الأمر الذي دفع بأحد الشخصيات الاقتصادية البارزة إلى طرد أحد أعضاء البرلمان من منزله أثناء قيام الأخير بزيارة لتقديم العزاء له بوفاة والده.
وزاد من غضب الوساطة النقابية ما تردد حول دس أسلحة ومتفجرات في منازل بعض المقبوض عليهم في محاولة لتلفيق تهم أمنية لهم وتحويل الأمر عن طبيعة الاعتقالات السياسية.
ويشهد الأردن حالة عداء متنامية من العداء لـ إسرائيل رغم أنها لم تشهد طيلة ستة أعوام على توقيع المعاهدة بين الأردن وإسرائيل عام 1994 أي تحسن ملحوظ، وزاد من وتيرة العداء التاريخي اندلاع أحداث الانتفاضة الثانية في 28/9/2000 وتراجع المستوى المعيشي للمواطن الأردني رغم ما بشرت به اتفاقية السلام.
============(29/15)
(29/16)
الحصاد المرُّ لكامب ديفيد
طلعت رميح 4/8/1424
30/09/2003
بعد 25 عاماً من توقيع اتفاقية كامب ديفيد..الأمة تعثر على الاستراتيجية البديلة!
يمر الآن 25 عاماً على توقيع الرئيس المصري أنور السادات على اتفاقيات كامب ديفيد، ولم تكن مصادفة أن تحل هذه الذكرى هذه الأيام، وأهم النواتج التي بنيت على كامب ديفيد أن اتفاقات أوسلو تشارف على نهايتها، بعدما أصدرت القيادة الصهيونية قرارها بطرد الرئيس عرفات، بما يعني إنهاء كل الاتفاقيات، وليست مصادفة أيضاً على الجانب الآخر أن تأتي ذكرى كامب ديفيد بينما دول الصمود والتصدي التي أعلنت أنها تتصدى للاتفاقية وجميعها في أسوأ وأخطر حال؛ فالعراق الذي رفع لواء المعارضة للاتفاقيات قد تم احتلاله على خلفية معارضته للخطة الأمريكية في المنطقة، وليبيا بدورها باتت في حالة سيئة حيث إنها لا تزال تسدد فواتير مواقفها؛ بل هي التي ذهبت إلى الجانب الأسوأ والأخطر على الأمة، أما سوريا؛ فهي الآن محاصرة ومهددة إلى درجة التلويح بالاحتلال العسكري على النمط العراقي، وإذا كانت ثمة ضرورة للإشارة إلى الموقف اليمني في القضية؛ فإن اليمن قدم كل ما هو مطلوب أمريكياً من تسهيلات للأمريكان ضمن خطة ضرب الحركات الجهادية التي تحاول الوقوف ضد مترتبات كامب ديفيد..
حصاد كامب مرير إذاً، سواء لمن مشى على خطي كامب ديفيد أو لمن وقف في وجهها وقت إعلانها، وهو ما يطرح فكرة أنها كانت بمثابة نقطة الانطلاق للوثوب على الأمة، أو مرحلة تحول خطيرة على مستقبل الأمة كلها..
والآن وفي هذه الذكرى وفي محاولة لإرساء نمط من التفكير الاستراتيجي؛ فإن الواجب الآن هو تقديم رؤية كلية للمضمون الاستراتيجي لأهداف كامب ديفيد والتغييرات الاستراتيجية التي حاولت إحداثها، والنتائج الفعلية لها بعد ما يربو على ربع قرن من التوقيع عليها. والأهم هو الإجابة عن السؤال الجوهري وهو: هل تمكنت الأمة من تحديد بديلٍ في المواجهة ليكون بديلاً عن استراتيجية كامب ديفيد؟ ذلك لأن السبب الرئيس الذي مكن كامب ديفيد من النجاح وتحقيق أهدافها لم يكن سوى افتقاد الأمة لطرح استراتيجية بديلة، ومن عاشوا تلك الأيام يتذكرون جيداً أن كل الذين أيدوا كامب ديفيد كانوا يطرحون سؤالاً دون إجابة من أحد: وما البديل؟ وكذلك فإن الذين تصدوا لكامب ديفيد لم يقدموا بديلاً، وكان أهم مؤشر لذلك أنهم شكلوا ما سُميت "جبهة الصمود والتصدي"!.
الأهداف الأمريكية والصهيونية
قبل كامب ديفيد مباشرة كانت الصورة الاستراتيجية لأوضاع الصراع في غاية الخطورة بالنسبة للكيان الصهيوني؛ فمن ناحية كانت صدمة حرب 73 في أوج تفاعلها بما حوته من نهاية مفهوم الأمن القومي الصهيوني - إذا جاز التعبير -، حيث انهارت نظرياته ومقوماته بحكم قيام الجيوش العربية بإثبات قدرتها على هزيمة الجيش الصهيوني الذي تحول للدفاع لأول مرة منذ قيام الكيان الصهيوني، ومن ناحية أخرى كانت صورة الوضع العربي قد جسدت إمكانيات خوض العرب حرباً مشتركة تقوم على خطة سياسية عسكرية موحدة ومفاجئة، حيث شاركت في الحرب كل الدول العربية، كما سخرت كل الإمكانيات العربية في المواجهة، وفي القلب منها سلاح البترول، وفي تلك المرحلة كان الكيان الصهيوني محاصراً بدول الطوق من كل جانب. كان التقدير الاستراتيجي لهذه المرحلة هو أن استمرار هذا الوضع إنما يمثل تهديداً مستقبلياً حقيقياً عليها، وأنه ينذر بتحول استراتيجي متصاعد لميلاد توحد عربي حقيقي وجذري، وهنا كان التغيير الاستراتيجي في الخطة الأمريكية والصهيونية من المواجهة العسكرية إلى خطة تفتيت الموقف العربي.
لقد استهدفت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إنهاء هذا الوضع الاستراتيجي الذي تحقق، أي إعادة رسم الوضع الاستراتيجي بما يخرج الكيان الصهيوني من هذا المأزق، فمن خلال كامب ديفيد جرى إخراج مصر من المواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الصهيوني، وتبع ذلك الانتقال إلى تكسير عظام وتركيع الدول الأخرى بالانتقال من تكتيك إنهاء وحدة الموقف العربي، وفكرة تكوين دول الطوق حول الكيان الصهيوني، والانتقال إلى عملية استراتيجية لتفكيك الأمة كلها وإدخال الكيان الصهيوني داخل جسدها، وكان اختيار عقد هذا الاتفاق مع مصر واضحاً في هذا البعد الاستراتيجي، بسبب وزنها الأكبر والأهم في التأثير على الأمة وقدراتها، وكانت المبررات التي سيقت وقتها هي أن الدول العربية فشلت في إزالة الكيان الصهيوني، وأن إسرائيل قد أصبحت حقيقة واقعة بالنسبة للنظام العربي الرسمي، وأنه لم تعد هناك إمكانية عسكرية لإزالتها، وأنه لا بديل عن الاعتراف بها..إلخ.(29/17)
ويبدو ضرورياً هنا طرح السؤال: لماذا كانت كامب ديفيد؟ أو: هل جاءت كامب ديفيد مفاجئة أو طارئة؟ والحقيقة أن كامب ديفيد جاءت كتطور طبيعي لاستراتيجية النظم العربية في المواجهة؛ فالنظرة الفاحصة للأساس الاستراتيجي للموقف الرسمي العربي بعد هزيمة عام 67 تظهر أن استراتيجيات النظم العربية قامت على أساس إنهاء نتائج 67، وليس إنهاء الكيان الصهيوني، وهو ما أتضح من قبول هذه الأنظمة لقرار 242 الذي شدد على الحدود المحتلة عام 67، وليس الأراضي المحتلة في عام 48 كما أتضح من خلال شعارات تحرير سيناء والجولان... إلخ. ومن ثم فإن هذه الاستراتيجية كانت بالفعل هي الأساس الممهد للقبول بكامب ديفيد.
ماذا بقي من كامب ديفيد؟
ثمة وجهتا نظر في التعامل مع نتائج كامب ديفيد منذ بدايتها حتى الآن: وجهة النظر الأولى تركز على نتائج وتأثير هذه المعاهدة على الرأي الشعبي، ومواقف الشعوب؛ فتركز مثلاً على أن الشعب المصري لم يقبل على تطبيع العلاقات مع الصهاينة، وأن 25 عاماً مرت دون أن يتمكن العدو الصهيوني من التغلغل داخل الرأي العام المصري، ونفس الأمر بالنسبة للأردن، وأن لبنان وسوريا لا تزالا صامدتين.. إلخ. لكن ثمة وجهة نظر أخرى تنظر للأمر من زاوية الترتيب الاستراتيجي للمنطقة، ومن وجهة النظر هذه؛ فإنه يمكن القول بأن كامب ديفيد قد نجح من خلالها العدو في تحقيق جوانب استراتيجية يمكن إجمالها في إنهاء حصار الكيان الصهيوني سياسياً، وهو ما تحقق بقيام علاقات سياسية مع الحكم في مصر والأردن، ثم بناء علاقات سياسية مع كل من موريتانيا وقطر، ومن أن يحضر قادته لمناسبات سياسية أو اقتصادية في عدد آخر من الدول العربية، آخرها الحضور الإسرائيلي لمؤتمر صندوق النقد الدولي في دولة الإمارات، كما يمكن القول أيضاً: إن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة اخترقا الوضع الاستراتيجي العربي الذي كان قد تحقق بعد حرب أكتوبر، وتم تفكيك وحدة الموقف العربي الذي تحول إلى جزر متفرقة، وأن كل التطورات التي جرت بعد ذلك في حرب الخليج كانت تطويراً للاختراق الأمريكي والصهيوني وليس العكس.
بديل كامب ديفيد
كانت الإشكالية الاستراتيجية التي واجهتها القوى الحية في الأمة وقت توقيع كامب ديفيد هي أنها لم تكن تملك أو تطرح استراتيجية بديلة، وقد كان لهذا ظروفه بطبيعة الحال، لكن إذ تأتي ذكرى مرور 25 عاماً على كامب ديفيد؛ فإن الأهم هو أن الأمة وجدت بديلاً؛ هذا البديل هو العمل الجهادي الشعبي المقاوم.
لقد جاءت كامب كامب ديفيد لتكون بمثابة إعلان بنهاية وفشل استراتيجية الحرب النظامية في المواجهة - التي اعتمدتها النظم الرسمية العربية-، حيث سارت تلك النظم بعدها جميعاً في طريق منحدرٍ رويداً رويداً إلى أن أجمعت كلها على ما سُمي بأن السلام خيار استراتيجي، وحيث انتهت فعلياً المواجهة الإسرائيلية السورية العسكرية في إطار الحرب النظامية، كما انتهت بعدها المواجهة الفلسطينية وفق نمط الحرب من الحدود، وجاء العدوان الأول على العراق، ثم الاحتلال؛ لتؤكد نهاية إمكانيات استخدام القوة النظامية المسلحة في الحروب ضد العدوان الأمريكي والصهيوني على الأمة، وهو نفس ما تأكد وفقاً لتجربة العدوان الأمريكي على أفغانستان، انتهت تلك الاستراتيجية لكن ذلك ورغم آلام حدوثه؛ قد فتح الطريق للمقاومة الشعبية الجهادية، وهو ما مثل البديل الجذري والحقيقي لأسلوب الحرب النظامية ولاستراتيجية الاعتراف الرسمي أو العملي بالكيان الصهيوني، والتي تطرح استراتيجيات وشعارات جذرية في المواجهة. وهذا هو الأهم في هذه المرحلة
============(29/18)
(29/19)
الوثائق السرية لكامب ديفد
أيمن محروس 7/8/1424
03/10/2003
- السادات يجيد العرض الدرامي.. وبيجن يعشق المراوغة
- كيف تحول شارون من داعم لكامب ديفيد إلى محارب للسلام؟.
- كارتر يوصي بالدراسة النفسية للسادات وبيجن قبل المفاوضات!
من الغريب أنه بعد مرور ربع قرن من الزمان على توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل نكتشف أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أريل شارون الذي يبذل قصارى الجهد والإرهاب الآن ضد الشعب الفلسطيني لنسف أي طريق نحو السلام, وهو ذاته شارون الذي لعب دوراً كبيراً في نجاح اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل؛ فقد كان بيجن متشدداً للغاية؛ ورافضاً لفكرة إزالة المستوطنات من سيناء, واعتبرها خطاً أحمر لا يجوز الاقتراب منه, في حين كان شرط الرئيس السادات هو استعادة سيناء نظيفة تماماً من أية خلايا استيطانية، وهنا تم الاتصال بشارون الذي كان آنذاك وزيراً للزراعة للحصول منه على موافقته على اتفاقية السلام، كي يؤمن بالتصويت لصالح الاتفاقية بالكنيست, ولاسيما وأنه كان وما زال ذا كلمة مسموعة بين المستوطنين، وبالفعل ما إن تلقى مناحم بيجن اتصالاً بتأييد شارون حتى سارع بتوقيع الاتفاقية.
وتشير الوثائق التي تم نشرها منذ أيام، والتي كانت بين يدي رئيس الولايات المتحدة السابق جيمي كارتر إلى الخطط المفصلة لاتفاقات بين إسرائيل ومصر حتى قبل محادثات السلام في 5 سبتمبر 1978.
وتشمل الوثائق التي نشرتها المكتبة الرئاسية لكارتر في جورجيا الاستعدادات الكاملة التى قام بها كارتر تمهيداً لتوقيع أول معاهدة سلام بين العرب والكيان الصهيوني، تبين الوثائق أن الولايات المتحدة اعتقدت في تلك الفترة أن حل القضية الفلسطينية لن يكون بدولة مستقلة، وأن كارتر ورجاله اعتقدوا أنه يمكن التوصل لحل مبتكر يمكن من استمرار الحضور الإسرائيلي في الضفة الغربية، أيضاً بعد إعداد حكم ذاتي فلسطيني، رغم أن الاتفاق النهائي تطرق إلى حكم ذاتي فلسطيني.
الدراسة النفسية للسادات وبيجن
خصص عمل كبير في مذكرات التحضير من أجل وضع خريطة كاملة لطباع كل من مناحم بيجن والرئيس أنور السادات، ودراسة نفسية لسلوكياتهما، وكيفية التعامل معهما في التوصل لاتخاذ القرارات، وتمت التوصية على إشعار كل منهما بالثقة، وأن يكونا على استعداد للتنازلات، وقد قيل عن بيجن: إنه برهن أحياناً أنه قادر على التغلب على مصالح شخصية وسياسية، ولهذا أوصى كارتر أنه عندما يبدأ بيجن بالحديث عن ماضيه، أو يستصعب التقدم باتجاه اتخاذ قرار؛ فيجب أن يقال له إنك قائد عظيم، وتلك مهمة مؤلمة ووحيدة؛ فأنك تركت خلفك أصدقاء قدامى، ومواقف قديمة، والهدف من ذلك أن يجعله يشعر بأن الرئيس الأمريكي يتعاطف مع مشاعره.
وقد وصف وزير الخارجية الأمريكي (فانس) ورجاله الذين أعدوا الوثيقة قادة مصر وإسرائيل بأنهم فنانون في التحايل، مؤكدين أن السادات يجيد العرض الدرامي لما يريد، أما بيجن؛ فإنه يلتصق بالتفاصيل الصغيرة والصياغات، لهذا أوصي كارتر أن يمتنع عن الدخول في مناقشات لغوية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، خاصة وأن بيجن يركز على التفاصيل التي في الأساس تقنية في محاولة التهرب والمراوغة كما جاء في الوثيقة.
استغلال موشيه ديان
كما تخوف الأمريكيون عند قدومهم إلى كامب ديفيد من عدم مرونة بيجن بما يكفي، ولهذا أوصي (فانس) أنه في المباحثات حول التسويات الأمنية يجب الانتقال إلى دائرة أوسع خلال قادة الكيان الصهيوني، حيث إن رأي ديان وربما أيضاً رأي عيزرا وايزمان من شأنه أن يكون نافعاً، وبالنسبة لمهمة ديان؛ فإن الإدارة الأمريكية أوصت بالفحص عن كيف نستطيع استغلال ديان من أجل تدريب بيجن على أن يكون أكثر مرونة؟
كما توقع الأمريكيون مشاكل مع السادات أيضاً، فلقد اعتقدوا في الواقع أن عدم مقدرته على التركيز في التفاصيل يستطيع أن يمنع الاحتكاكات، ولكنهم تخوفوا أيضاً من أن ميله إلى تجاهل التفاصيل قد يؤدي إلى عدم الفهم فيما يستقبل، ويبدو أن الأمريكيين قد اعتقدوا أن دوافع السادات ليست قومية عربية، وإنما وطنية مصرية، ولهذا اعتقدوا أنهم سيصلون معه إلى مصالحة بشأن القضية الفلسطينية. لقد طلب من سفراء إسرائيل ومصر كجزء من عمل الإعداد للمؤتمر أن يستوضحوا البرنامج اليومي لكل من السادات وبيجن من أجل التخطيط، وقد أبلغ كارتر أن بيجن يستيقظ من النوم في الساعة الخامسة والنصف صباحاً ولكن السادات يستيقظ في التاسعة فقط، في حين أن بيجن يأوي إلى فراشه في الساعة الحادية عشر ليلاً؛ فإن السادات يبقى مستيقظاً حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، لقد كان عمل الإعداد دقيقاً، وقد عرض أمام كارتر برنامج لكل يوم من أيام المؤتمر.
وهم الثقة الأمريكي(29/20)
ولقد كانت النظرية التي وجهت الولايات المتحدة هي أنه يجب أن تعرض على الزعيمين زاوية جديدة للقرار 242، والتأكيد على أن الحديث هو عن المبدأ الأساسي في المفاوضات، فإنه يجب أن تتم ملائمته لواقع سنة 1978 الذي يختلف عن الآخر لسنة 1967، وبالنسبة لمسألة السيادة في الضفة الغربية فهي تابعة لها، أو على أساس دولة فلسطينية ذات استقلال تام، ولقد اقترح فانس اختبار إمكانية تفسير الانسحاب من الضفة الغربية كإنهاء للاحتلال دون أن يخرج الإسرائيليون منها.
وتؤكد الوثاق تخوف الأمريكيين الأكبر من أن كل طرف سيحاول جر كارتر إلى أن يؤيد مواقفه، ولهذا وضح كارتر أن الولايات المتحدة لا تقف إلى جانب أي طرف، ولكن أن يوضع هذا بلطف من أجل أن يعطي كل طرف الإحساس بأننا نفهمه كما ورد في الوثيقة. يطرح وزير الخارجية فانس سؤالاً: كيف سننجح في الحفاظ على الثقة التي يمنحنا إياها بيجن والسادات؟ عندما عرض أمامهم مواقف الولايات المتحدة بان "مواقفنا ستذهلهم" إلا أن كارتر قد أضاف بخط يده إلى جانب ملاحظة فانس "لا أعتقد أن الأمر سيكون كذلك".
في الوقت الذي آمن فيه المصريون والإسرائيليون بأنهم يأتون إلى كامب ديفيد من أجل تحطيم الجليد فقط، وإعادة المفاوضات إلى مسارها؛ خطّط كارتر ورجاله كل الوقت لمؤتمر مستمر تكون نهايته وثيقة مكتوبة، وقد زوّد فانس كارتر قبل دخوله من بوابات كامب ديفيد بمسودات لاتفاقات مفصلة تشبه تلك التي تم توقيعها في نهاية المطاف، ولكن الأمريكيين استعدوا أيضاً لإمكانية الفشل.
والغريب أن الوثائق الأمريكية عددت عدة إمكانيات للفشل؛ لكنها أشارت إلى أكثرها احتمالاً في رأيهم، وهي أن مصر ستوافق، ولكن إسرائيل سترفض التوقيع.
ورغم أن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وصفتها الوثائق الأمريكية بالاستقرار الجيد؛ إلا أن النقد الموجه دائماً من جانب الإسرائيليين هو أن الاتفاقية كانت تقضي بالسلام والتطبيع معاً، وليس توقف الحرب وإعادة سيناء لمصر، خاصة وأن الخارجية الإسرائيلية توقعت أن مصر لن تبقي على القنوات الدبلوماسية مع إسرائيل، التي تخدم بدورها تدعيم موقف الفلسطينيين في مواجهة إسرائيل، وأن المشروعات المشتركة بين مصر وإسرائيل ستكون قليلة وعديمة الجدوى.
============(29/21)
(29/22)
إسرائيل وإندونيسيا.. تطبيع تجاري لا سياسي!
كوالالمبور- صهيب جاسم - إسلام أون لاين/26-1-2001
تسعى الحكومة الإندونيسية حاليا إلى إحياء عملية التطبيع مع الكيان الإسرئيلي إثر حالة الجمود التي تعرضت لها هذه العملية بعد قيام انتفاضة الأقصى، وتنامي الضغوط عليها؛ لوقف أية عمليات تطبيع مع إسرائيل.
ففي آخر تصريح لوزير التجارة الإندونيسي " لوهوت بانجايتان" نهاية الأسبوع الماضي قال: "إذا رغب رجال الأعمال الإندونيسيين في بناء علاقات تجارية مع إسرائيل فليقوموا بذلك"، وعبر عن أمله ألاّ يأخذ الأمر بعده السياسي مشيرا إلى معارضة التيار الإسلامي الواسع التأييد في أكبر بلاد المسلمين لأية علاقات سياسية مع إسرائيل.
وقد كرر الوزير" بانجايتان" ما صرح به مسؤولون إندونيسيون سابقا من أن العلاقات الدبلوماسية لم تقم بعد بين البلدين مؤكدين على فصل السياسة عن التجارة! وهو ما أكده وزير الخارجية "علوي شهاب" قبل أسبوع حينما أنكر نية بلاده تأسيس علاقة دبلوماسية مع إسرائيل حتى تنسحب من أراضي الـ67، وأشار الوزير إلى وجود طرف ثالث تتحرك منه الشركات الإندونيسية في اتصالاتها مع الشركات الإسرائيلية كالأردن أو إحدى الدول الأوروبية.
لكن الذي لم يتضح حتى الآن- مع قلة أهميته العملية في هذه المرحلة من التطبيع- هو ما إذا كانت وزارة التجارة الإندونيسية قد أصدرت حقا مرسوما ترفع بموجبه القيود عن التجارة مع إسرائيل، وذلك بعد أن صرح المدير العام للتجارة والصناعة الإسرائيلية "روفين هوريش" بأنه تلقى رسالة بذلك، وأن حجم التجارة بين البلدين قد يصل إلى مليار دولار في غضون 3 أعوام، لكن نظيره الإندونيسي" ريانتو" أنكر صحة كلامه.
اليهود يستغلون أوضاع إندونيسيا
وتشير التقارير والتحليلات إلى وجود عدد من كبار التجار بعضهم من المسلمين وآخرون من غير المسلمين ممن لديهم رغبة في أن يتاجروا مع إسرائيل أو يتعاونوا مع مستثمرين يكونون شركاء لهم في استثمارات محلية، وذلك في الوقت الذي تشهد إندونيسيا عدم اهتمام من قبل الكثير من المستثمرين الغربيين والآسيويين وعدم انتباه المستثمرين العرب والمسلمين لأهمية الاستثمار في إندونيسيا في هذا الوضع بالرغم من مخاطره التجارية.
وتتحرك الجهود الإسرائيلية نحو إكمال مسلسل التطبيع التجاري مع إندونيسيا وسط عدم استجابة المجتمع الدولي بشكل كافٍ لزيارات الرئيس "وحيد" خلال حكمه لأكثر من 40 دولة محاولا كسب ثقتهم واستعادة استثماراتهم في بلاده.
ويعد الرئيس وحيد أكثر الرؤساء الإندونيسيين رغبة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، فقد زار إسرائيل في عام 1994، وعين منذ ذلك الوقت عضوا في المجلس التنفيذي لمعهد بيزيز للسلام، وقد لفت انتباه الشارع الإندونيسي حينما ظهرت صورته في الصحف وهو يقف بجانب الوزير الإسرائيلي شمعون بيريز ليضع الورود على قبر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "رابين" الذي كان أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور إندونيسيا عام 1992 .
وكان نائب وزير الدفاع الإسرائيلي قد زار جاكرتا في يونيو 2000 ولم يعرف بالتحديد الهدف من الزيارة بالنسبة للجيش الإندونيسي، ثم رأس رئيس اتحاد الغرف التجارية الإسرائيلية "غيليرمان" وفدا تجاريا إسرائيليا زار إندونيسيا في مايو 2000 بدعوة من نظيره الإندونيسي، وكان هناك اجتماع آخر بعده بدعوة من رجال الأعمال الإسرائيليين لنظرائهم الإندونيسيين قد عقد في القدس؛ حيث كان موضوع النقاش الأول ضرورة فتح مكتبين تمثيليين في كل بلد، وكان "غيليرمان" قد زار جاكرتا قبل ستة أعوام لأول مرة في عهد الرئيس السابق سوهارتو.
وفي 14 سبتمبر، وخلال قيام الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بجولة في عدد من دول آسيا، قام شمعون بيريز بزيارة خاطفة إلى جاكرتا التقى فيها بوزير الخارجية الإندونيسي علوي شهاب، ثم التقى في اليوم التالي على مائدة إفطار الصباح بالرئيس وحيد، وكادت تكون الزيارة سرية لولا أن مراسل شبكة "ساتو" الإخبارية الإندونيسية عرفه وهو يدخل المطار عائدا إلى تل أبيب مما دفع وحيد إلى تأكيد ذلك، وكانت زيارة بيريز قبل يوم من زيارة عرفات الذي وجد الرئيس الإندونيسي قد تبنى وجهة نظر الإسرائيليين فيما كان عالقا من قضية القدس في المفاوضات آنذاك. وكانت إندونيسيا منذ استقلالها قد حافظت على موقفها الرافض للتطبيع مع الحكومة العبرية حتى بدأ رجال الأعمال يواجهون تسامحا رسميا في التعامل مع نظرائهم الإسرائيليين باسم دعم الاقتصاد الإندونيسي.
وفد إسرائيلي في جاكرتا(29/23)
من جهة أخرى.. تناولت الصحف الإسرائيلية من جانبها الأمر بشكل بارز جذب انتباه بعض وسائل الإعلام الإقليمية في جنوب شرق آسيا، فصحيفة "جيروسليم بوست" في عددها الصادر الخميس 25/1/2001 اعتبرت الرحلة السرية لبعثة تجارية حكومية من تل أبيب مؤخرا "نقطة تحول" والتي كانت برئاسة هوريش الذي يشغل منصب القائم بأعمال وزير التجارة حاليا، وقال هوريش للصحيفة في حوارها معه: "إن الرئيس وحيد قد قدم لي رسميا الأوراق الرسمية المتعلقة برفع الحظر عن التجارة مع إسرائيل وأكد لي بأن مشكلة الحصول على تأشيرة لحاملي الجوازات الإسرائيلية ستحل قريبا"، وقال هوريش بأنه في طريق عودته حضر اجتماعا يجمع رجال الأعمال الإسرائيليين والإندونيسيين في سنغافورة حيث أقرب سفارة للدولة العبرية لإندونيسيا وماليزيا التي لم تُقِم بعد علاقات دبلوماسية مع إسرائيل حتى الآن، وعبر هوريش عن أمله بأن تفتح حكومة جاكرتا قريبا مكتبا لها في إسرائيل يضم بعثة تعنى بالشؤون الاقتصادية.
أما صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية فقد نقلت تصريحا يوم الأربعاء 24/1/2001 لرئيس اتحادات الغرف التجارية الإسرائيلية "ديني غيليرمان" الذي دعا وزارة التجارة الإسرائيلية إلى الاستجابة إلى قرار رفع القيود في إندونيسيا عن التجارة مع بلاده، وذلك بأن تلغي هي أيضا النسب المفروضة على حجم السلع الإندونيسية المسموح لها بالدخول إلى الأسواق الإسرائيلية مادحًا قرار حكومة جاكرتا الذي اعتبره خبرا مفرحا ومفيدا لاقتصاد البلدين، وتوقع "غيليرمان" أن يصل حجم السلع المتبادلة بينهما في العام الأول من التعامل المباشر إلى 200 مليون دولار، مشيرا إلى ثروات إندونيسيا من الغاز الطبيعي والثروات المعدنية والنفطية الأخرى والأخشاب التي ستكون إسرائيل بحاجة لها عندما تصدر سلعا تقنية وصناعات مختلفة إلى إندونيسيا، وحسب الإحصاءات الإسرائيلية التي نقلتها الصحيفة فإن إسرائيل قد صدّرت خلال عام 2000 فقط ما قيمته 100 مليون دولار من الكيمياويات والالكترونيات لإندونيسيا، فيما صدرت إندونيسيا ما قيمته 20 مليون دولار من المطاط والأثاث وغيره لإسرائيل.
-============(29/24)
(29/25)
الاختراق "الإسرائيلي" لمنطقة الخليج
تقرير: مركز أبعاد 14/8/1424
10/10/2003
- أقامت قطر علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" عبر المكتب القطري التجاري في تل أبيب .
- في أول أبريل عام 1984 كشفت صحيفة "الأنباء" الكويتية عن تسرب كميات من السلع الإسرائيلية بصورة مكثفة إلى الأسواق الكويتية .
- في ديسمبر عام 1999 نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن صحفية إسرائيلية تدعى "أورلي أزولاي" أنها قامت بزيارة للمملكة العربية السعودية لإجراء حوارات مع مسؤولين سعوديين.
- قامت الإمارات بإغلاق مركز زايد للدراسات وتسريح موظفيه وباحثيه خضوعا للضغوط الصهيونية.
- ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أن مسؤول شؤون منطقة الخليج في وزارة الخارجية الإسرائيلية بروس كاشدان قام بزيارة سرية إلى البحرين في إطار توثيق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
- بلغ حجم المبادلات التجارية بين سلطنة عمان والكيان الصهيوني عام 1997م ما قيمته نصف مليون دولار.
تمثل دول الخليج من منظور الاستراتيجية الكونية منطقة حيوية ، فهي قلب العالم الحيوي بسبب ما تحتويه من موارد الطاقة التي يمثلها البترول والغاز الطبيعي ، ففي منطقة الخليج أكبر احتياطي بترولي عالمي وأكبر احتياطي للغاز الطبيعي ، وتمثل منطقة الخليج شريان الحياة للحضارة الغربية قاطبة ولحلفائها مثل اليابان في منطقة آسيا ؛ وبالإضافة على ذلك فهي تقع في منطقة هامة من الناحية الاستراتيجية والجيوبوليتيكية ؛ فالسعودية تطل بشواطئها الطويلة على البحر الأحمر وعلى منطقة مضايق "خاصة مضيق تيران" ، كما أن البحر الأحمر يعد بحيرة عربية إذ تتحكم اليمن في مضيقه الجنوبي ويمثل البحر الأحمر منفذًا هامًا لمنطقة البحار الواسعة في المحيط الهندي ، وتطل دول الخليج العربي على الخليج العربي الذي ينفتح على عالم آسيا وباكستان ، فمنطقة الخليج من الناحية الاستراتيجية والجيوبوليتيكة في موقع حاكم .
وكجزء من التكامل الصهيوني مع الاستراتيجية الأمريكية في السيطرة على موارد المنطقة خاصة تأمين الموارد النفطية لأمريكا وحلفائها. فإن "إسرائيل" سعت لاختراق دول الخليج وعمل علاقات مع الجهات الرسمية فيها وكذلك مع مؤسساتها الاقتصادية والثقافية ورجال الأعمال المستعدين للتعاون مع الكيان الصهيوني ، وبالطبع فالكيان الصهيوني في ظل رؤيته لوضعه كمركز اقتصادي يملك المقومات الإدارية والتقنية والتنظيمية فإن منطقة الخليج تمثل سوقًا واسعة ومهمة له خاصة للتصدير إليها ..
كما أن الاختراق الصهيوني لدول الخليج يعزل الجناح الشرقي للعالم العربي عن قلبه مصر وعن شمال العراق والشام وهو ما يؤدي إلى تفتيت المنطقة العربية ، فالكيان الصهيوني يسعى إلى إيجاد شرعية لوجوده عبر تطبيع علاقاته مع الدول العربية، وذلك بعقد معاهدات سلام مع هذه الدول كما فعل مع مصر بعقده معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية ثم بعقده معاهدة (وادي عربة) مع الأردن، وهي معاهدة ضمن بنودها تبادل العلاقات الدبلوماسية والسفراء وفتح الأسواق وتبادل الخبرات والتعاون التقني والعلمي، أو بفتح مكاتب للتمثيل التجاري كما هو الحال مع قطر وسلطنة عمان ، فإسرائيل تريد أن تقول إنها دولة طبيعية بين الدول العربية ولها علاقات معها ، ومن ثم فذلك ينفي عنها كونها دولة عنصرية تحمل مشروعاً استيطانياً للقضاء على الفلسطينيين .. فهي تريد علاقات تجارية واقتصادية ودبلوماسية مع الدول العربية بما في ذلك دول الخليج وفي نفس الوقت تنفرد بالفلسطينيين لفرض شروطها عليهم في ظل التخلي العربي عنهم .
وكأن مشروع الشرق أوسطية الذي دشنه شيمعون بيريز هو الإطار الذي يجعل من الكيان الصهيوني مركزاً اقتصادياً تدور دول المنطقة في فلكه. ورغم خطورة المشروعات التي طرحها لكن البعد الثقافي والحضاري كان كامناً خلف الشرق أوسطية ويتمثل بشكل أساسي في خلق إنسان شرق أوسطي جديد .. إنسان بلا قيمة F r ee-value وبلا هوية وبلا دين وبلا وطن .. إنه إنسان السوق الذي لا يعرف فقط سوى الربح والكسب بصرف النظر عن كيف يأتي؟ وممن يأتي؟ الشرق أوسطية .. تعبير جغرافي لا يعبر عن هوية أو حضارة .. وهو لذلك مناقض للعروبة ومناقض للإسلام . لكن ما هي أهم مظاهر التطبيع التي تمت بين الكيان الصهيوني ودول الخليج؟
قطر
أقامت قطر علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" عبر المكتب القطري التجاري في تل أبيب ، وعقب انتفاضة الأقصى أصدرت قطر بياناً في نوفمبر 2000 أعلنت فيه قرارها بإغلاق مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي في الدوحة، وذلك تحت ضغط الدول العربية وعلى رأسها ليبيا والسودان وسوريا والسعودية بعدم حضور مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامي الذي ينعقد في الدوحة .(29/26)
وكانت السعودية رفضت حضور منظمة المؤتمر الإسلامي إلا بعد وعد قطري قاطع بإغلاق المكتب الإسرائيلي التجاري في الدوحة والمكتب التجاري القطري في تل أبيب ، لكنه عقب ذلك التقى وزير خارجية الكيان الصهيوني وقتها شلومو بن عامي وزير خارجية قطر حمد بن جاسم آل ثاني في باريس ، حيث قال الوزير الإسرائيلي إن الوزير أعلمه أن قطر لم تتخذ قراراً بقطع علاقاتها مع الدولة العبرية ، وتناولت مباحثات الوزيرين استمرار العلاقات بين البلدين ، وقالت صحيفة هآرتس إن قطر لم تتخذ قراراً بقطع علاقاتها مع "إسرائيل" كما فعل غيرها من الدول العربية بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، وأكد أن المكتب التجاري الإسرائيلي يمارس أنشطته في العاصمة القطرية.
وفي الاجتماع الوزاري الرابع لمنظمة التجارة العالمية الذي عقد في الدوحة حضر وزير التجارة الصهيوني روني ميلو الذي رأس الوفد الإسرائيلي، وقال: "إن المكتبين التجاريين الإسرائيليين اللذين أعلنت قطر وسلطنة عمان إغلاقهما مازالا على قيد الحياة ويتنفسان" ، وأضاف: "أن المكاتب التجارية في الخليج جمدت كافة عملياتها لكنها لا تزال تتنفس وعلى قيد الحياة" .
وتحدث الوزير الصهيوني عن تبادل تجاري بين "إسرائيل" ودول الخليج مقدراً حجمه بعدة ملايين من الدولارات، وأكد أن هناك سلعاً إسرائيلية تدخل أسواق الخليج عن طريق شركات عربية وفلسطينية لكنه لم يذكرها.
وقال ميلو إن "إسرائيل" مهتمة بالتطورات الاقتصادية في الخليج وبمشاريع الغاز الطبيعي التي يمكن أن تفتح أسواقاً جديدة لها في "إسرائيل" إذا حدث نوع من التعاون ، وأكد أن "إسرائيل" لا تريد ربط تطوير الاقتصاد بما يجري حالياً في المنطقة في إشارة إلى الانتفاضة الفلسطينية، وأوضح أن الوفد الإسرائيلي بالمؤتمر أجرى عدة اتصالات مع بعض الوفود بهدف تحقيق تقدم وعدم عرقلة المشاريع المشتركة مع هذه البلدان. وأضاف: "العمليات التجارية والتعاون الاقتصادي المشترك بين "إسرائيل" ودول الخليج يجب أن تستمر بغض النظر عن مسائل السياسة موضحاً أن السلام يجب أن يقوم على قاعدة الاقتصاد" .
وقد مثل حضور الكيان الصهيوني لمؤتمر منظمة التجارة العالمية تحدياً للمشاعر الشعبية ، فأصدر المؤتمر الشعبي لمقاومة التطبيع في الخليج بياناً دعا فيه الدول العربية والإسلامية لمقاطعة اجتماع منظمة التجارة العالمية ، وذكر البيان "أن حضور الكيان الصهيوني في أي اجتماع أو مؤتمر يعقد في بلد عربي - في هذا الوقت - يعتبر طعنة في صدور المناضلين في فلسطين" ، كما طالب المؤتمر القومي العربي بمقاطعة اجتماع منظمة التجارة العالمية.
بيد أن الشيخ حمد بن فيصل آل ثاني مساعد وكيل وزارة المالية والاقتصاد والتجارة القطرية قال إن بلاده لم تتلق أي اعتراضات عربية أو إسلامية على مشاركة "إسرائيل" في المؤتمر الوزاري ، وذكر أن بلاده ينحصر دورها في الاستضافة والتأمين، أما المشاركة في المؤتمر من عدمه فلا علاقة لها به ، وأشار إلى أن "إسرائيل" ستشارك في حال استضافة أي بلد عربي لمثل هذه المؤتمرات.
وتعد قطر هي أكثر الدول الخليجية تورطاً في التطبيع مع الكيان الصهيوني ، وتشير المعلومات إلى أن جامعة كورنيل الأمريكية للدراسات الطبيعية افتتحت فرعاً لها في الدوحة بالاتفاق بين مؤسسة قطر للتربية والعلوم والتنمية الاجتماعية والجامعة الأم ، وأن السيدة (موزة المسند) حرم أمير قطر ورئيسة مجلس مؤسسة قطر للتربية والعلوم هي التي عقدت الاتفاق، وقالت: إن فرع الكلية سوف يتجاوز الخلافات الدينية والثقافية وسيكون مثالاً لعولمة سلمية ، وقد سجل في الجامعة 15 طالباً إسرائيلياً.
الكويت
في أول أبريل عام 1984 كشفت صحيفة "الأنباء" الكويتية عن تسرب كميات من السلع الإسرائيلية بصورة مكثفة إلى الأسواق الكويتية وأن "إسرائيل" تتحايل على قرار المقاطعة العربية عن طريق عدد من الشركات الأوروبية ، كذلك أشارت صحيفة "القبس" إلى أن منتجات زراعية إسرائيلية تباع علناً وبكثرة في أسواق دول الخليج بعد تسربها إليها عن طريق الضفة الغربية المحتلة.
وأعلن المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية عن إدانته للغزو العراقي للكويت وأن "إسرائيل" لن تتدخل ، وبعد انتهاء الحرب أعلن مدير الإدارة العامة للجمارك بالكويت عام 1991 أن حكومته تعتزم التخفيف من إجراءات المقاطعة التجارية المفروضة على الشركات الغربية التي تتعامل مع "إسرائيل" ، وحث الدول الخليجية على اتخاذ خطوات مماثلة، وأشار المسؤول أن ذلك يأتي في إطار رد الجميل ، وأن الكويت أصبحت أكثر اندماجاً مع الدول الغربية واليابان.
وتحدثت أنباء صحفية عن اعتزام الكويت مد خطوط استقبال هاتفي مع "إسرائيل" وأن لقاءات عقدت مع مسؤولين إسرائيليين في منتدى دافوس بسويسرا لمناقشة هذه المسائل (1) .(29/27)
وحين زار جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي المنطقة عام 93 حث على رفع المقاطعة الاقتصادية عن "إسرائيل"، وذكرت مصادر أمريكية وإسرائيلية أن الكويت تتخذ إجراءات لرفع المقاطعة العربية الاقتصادية عن "إسرائيل" والمستمرة منذ 42 عاماً. ويتيح رفع هذه الإجراءات لهذه الشركات التعامل التجاري الحر في الكويت لأنها لم تعد على القائمة السوداء وبعدها تتعامل الكويت مباشرة مع "إسرائيل".
وكما فعلت قطر؛ فإن الكويت أبلغت الأمانة العامة للجامعة العربية التزامها بقرارات المقاطعة، لكن وزير خارجية الكويت آنذاك الشيخ صباح الأحمد ذكر في اليوم التالي أن الكويت لم تعد تضع الشركات التي تتعامل مع "إسرائيل" على القائمة السوداء لاعتبارات تتعلق بالمصلحة الوطنية لدولة الكويت (2). وتحدثت مصادر عن تمويل الكويت لأنشطة حزب الليكود بما يساوي مليون دولار، لكن وكيل وزارة الخارجية نفى ذلك .
وذكر الشيخ جابر الصباح أمير الكويت: "أن إقامة علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" ليس صعباً، وأنه عندما تتم عملية السلام بالكامل فإن هذه العلاقات سيتم تحقيقها" ، وفي عام 1995 حققت السلطات الكويتية في واقعة قيام شركة الخطوط الجوية الكويتية بنقل 20 راكباً صهيونياً من مطار مسقط إلى دبي (3).
وفي عام 1996 نفى المدير العام لغرفة تجارة وصناعة الكويت ما أذيع حول زيارة مرتقبة يقوم بها رئيس الغرفة لإسرائيل (4).
وفي مارس 97 قامت مجموعة من الكويتيين بزيارة "إسرائيل" بهدف زيارة مدينة القدس المحتلة والصلاة في المسجد الأقصى وعدد من الأماكن الدينية الأخرى (5) .
وفي أبريل عام 97 طردت قوات الأمن الكويتية نائباً إسلامياً بعد أن هتف في أروقة المجلس بعبارات معادية لإسرائيل وأمريكا بعد رفض السلطات السماح له بتنظيم مظاهرة معادية لإسرائيل احتجاجاً على بناء مستعمرة أبو غنيم في القدس الشرقية (6).
وفي يناير 1999 زار صحفي كويتي الكيان الصهيوني وأجرى لقاءً مع نتنياهو ، وقامت سلطات الكويت بسحب جواز سفره والتحقيق معه (7) .
وصافح ولي العهد الكويتي باراك في جنازة الملك الحسن الثاني وذكر مصدر كويتي أن المصافحة كانت تلقائية وغير متعمدة (8).
ورحبت الكويت بمبادرة الأمير عبد الله ولي العهد السعودي على لسان أميرها خاصة ما يتصل بالتطبيع المشروط مع "إسرائيل"(9) .
السعودية
في عام 87 نفت وزارة الصحة السعودية أنباءً عن اتصالات سرية بين المملكة والكيان الصهيوني لإنشاء مركز إقليمي متخصص في عمليات زرع الكبد في الشرق الأوسط ، وفي عام 1991 إبان غزو الكويت أعلن ديك تشيني أن حوالي 7700 يهودي بين القوات الأمريكية في السعودية، ونفت السعودية هبوط 14 طائرة حربية إسرائيلية في الأراضي السعودية للمشاركة في الحرب ضد العرق.
ونفت السعودية زيارة مئتي سعودي للقدس خلال عام 1992 في شهر يونيو ، وأشارت مصادر صحفية لعقد قيمته 70 ألف دولار أبرمته شركة إسرائيلية مع شركة سعودية لتوريد منتجات ورقية وبلاستيكية.
واجتمع وزير الخارجية الصهيوني شيمون بيريز في فبراير عام 1993 مع رجل الأعمال السعودي رئيس الغرفة التجارية السعودية (عبد الله الرواس) حيث طلب منه بيريز الشروع في نشاطات غير رسمية لتنظيم التعاون التجاري بين المملكة والكيان، واجتمع رئيس اتحاد الغرف التجارية الإسرائيلية مع وزير المالية السعودي وتحدثت الأخبار عن قيام وفد إسرائيلي بزيارة للملكة عام 1992، التقى خلالها كبار المسؤولين للتباحث في عملية السلام وتأمين النظام السعودي، حيث طلب الكيان مقايضة الضغط السعودي على الدول العربية بإنهاء المقاطعة الاقتصادية في مقابل تقديم المعلومات الأمنية الصهيونية.
واجتمع محافظ البنك المركزي السعودي في واشنطن مع محافظ البنك المركزي الإسرائيلي لبحث مساهمة السعودية في الاقتصاد الفلسطيني.
وصرح (يوسف والي) نائب رئيس الوزراء المصري ونائب رئيس الحزب الوطني الحاكم أن غرف التجارة السعودية والكويتية أقامت اتصالات مع جهات إسرائيلية وتوقع رفع المقاطعة الاقتصادية عن "إسرائيل" قريباً.
كذلك هناك تقارير عن ملياردير سعودي معروف قام باتصالات مع شركات إسرائيلية لدراسة إنشاء خط بترول يمر داخل فلسطين المحتلة.
كذلك أكد ديفيد سلطان سفير "إسرائيل" بالقاهرة قيام رجال أعمال أردنيين باتصالات بين "إسرائيل" والسعودية لنقل الغاز الطبيعي السعودي لإسرائيل بشكل غير رسمي ، واجتمع مستشار وزير الزراعة الإسرائيلي مع أحد المسؤولين السعوديين الاقتصاديين حيث تم اتفاق للتعاون في مجالات الهندسة الوراثية والتكنولوجية والري وإزالة ملوحة مياه البحر.
وأعلن متحدث باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية أن أول مناورة عسكرية بحرية مشتركة بين "إسرائيل" وعدد من الأقطار العربية ستجرى أمام سواحل تونس ، وستشارك فيها قوات بحرية كويتية وسعودية وتونسية ومغربية بالإضافة لقطع وقوات إسرائيلية.(29/28)
وفي ديسمبر عام 1999 نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن صحفية إسرائيلية تدعى "أورلي أزولاي" أنها قامت بزيارة للمملكة العربية السعودية لإجراء حوارات مع مسؤولين سعوديين، حيث أكدوا - حسبما زعمت الصحفية التي تعمل مراسلة لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية - أن الصداقة بين الشعبين الإسرائيلي والسعودي تطوّرت منذ التجربة المشتركة القاسية التي فرضها عليهما الرئيس العراقي صدام حسين الذي قصف البلدين بصواريخ سكود خلال حرب الخليج عام 1991، إلا أن مسؤولين سعوديين أكدوا أن الصحفية قد دخلت إلى المملكة بموجب جواز سفر أوروبي.
وفي فبراير 2002 نقلت "نيويورك تايمز" عن الأمير عبد الله ولي العهد السعودي قوله إن السعودية على استعداد لتطبيع علاقاتها مع "إسرائيل" واقترح انسحاباً إسرائيلياً كاملاً من كافة الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس مقابل تطبيع كامل للعلاقات مع "إسرائيل" ، لكنه عدل عن رأيه بعد تفجر أعمال العنف الوحشية من الجانب الصهيوني.
وأعلن موشي كاتساف عن استعداده لدعوة الأمير عبد الله لزيارة القدس لعرض مبادرته، وأنه مستعد للتوجه إلى الرياض، وطلب السفاح شارون من الإدارة الأمريكية المساعدة في ترتيب عقد اجتماع علني أو سري مع مسؤولين سعوديين لبحث المبادرة .
الإمارات
أبدت بنوك عربية معروفة في الإمارات اهتماماً كبيراً بأسهم الشركات التي يتم الاتجار بها في بورصة تل أبيب، وطلبت تلك البنوك الموجودة في الإمارات من بنوك استثمارية وشركات استثمارية في نيويورك إعداد دراسات عن الشركات الرائدة في البورصة الإسرائيلية. وتقوم البنوك في دولة الإمارات وبقية دول الخليج بجمع بيانات عن الاقتصاد الإسرائيلي بشكل عام وعن البنوك والشركات الرائدة بشكل خاص.
في أغسطس 1994 أعلن متحدث باسم وزارة النقل الإسرائيلية أن الشيخ "حسن المكتوم" مدير مكتب الإعلام بإمارة دبي سيقوم بزيارة قريبة لإسرائيل لامتلاكه وكالة للسياحة بدبي ، ورغبته في تمثيل بين شركة طيران "العال" وشركات الطيران الخليجية.
وفي فبراير عام 1995 رفض أحمد بن حميد الطاير وزير المالية بدولة الإمارات إنشاء بنك تنمية شرق أوسطي بالاشتراك مع "إسرائيل" لأن الوطن العربي هو النطاق الإقليمي وليس الشرق الأوسط.
وفي عام 1999 اتهم قائد كبير في شرطة دبي الموساد الإسرائيلي بأنه كان السبب وراء انهيار بعض البنوك والأسهم بالإمارات.
وقال مدير غرفة تجارة دبي إن "إسرائيل" (طمعانة) في دبي . واهتمام "إسرائيل" بدبي تحديداً يعني أهميتها ورغبة "إسرائيل" في الاستفادة من موقعها وتجربتها الناجحة.
واحتج الكيان الصهيوني بشكل رسمي لدى الأمم المتحدة بسبب برنامج نشرته قناة أبو ظبي وظهر فيه شارون كسفاح لدماء الأطفال الفلسطينيين، واعتبر الكيان ما حدث تحريضاً على الكراهية.
ومنذ أن بدأت دولة الإمارات عمليات الخصخصة التي شملت قطاعات كثيرة في الاقتصاد ، رصدت مصادر إعلامية عدة محاولات إسرائيلية لاختراق مشروعات البنية الأساسية خاصة في مجال الكهرباء والمياه والبترول والغاز الطبيعي ، حيث نقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن مصادر بوزارة الاقتصاد الإسرائيلية أن "إسرائيل" تعمل على زيادة صادراتها إلى الأسواق الإماراتية بحوالي 400 مليون دولار ، خاصة من أجهزة الكمبيوتر والمعدات الطبية والأدوات الزراعية والمواد الغذائية.
وفي 21 ديسمبر عام 1999 كشفت صحيفة "الحدث" الأردنية النقاب عن أن مجموعة سياحية من دولة الإمارات ستقوم بزيارة إلى "إسرائيل" ، وقالت الصحيفة إن المجموعة التي تضم 15 سائحًا ستنزل في مستوطنة "أفيكم" في مرتفعات الجولان؛ حيث سيقوم أفراد المجموعة السياحية هناك بنزهة حول بحيرة طبريا ، وأشارت الصحيفة إلى تصريح لأحد المسؤولين عن مستوطنة "حاييم فاتسين" الذي أكد فيه تلقيه لمكالمة هاتفية من دبي طلب فيها المتصل الذي عرّف نفسه كوكيل لشركة سياحية حجز غرف لـ "15" سائحًا سيصلون من دبي في زيارة للكيبوتس ، وقالت إن أعضاء المجموعة السياحية سيصلون إلى "إسرائيل" بواسطة حافلة ركاب عن طريق الأردن .
الجدير بالذكر أنه توجد لجنة إماراتية لمقاومة التطبيع كشف أمينها العام عبد الله الشاش أن هناك دواء متداولاً في الأسواق المحلية تصنعه شركة إسرائيلية في كفر سابا لمصلحة شركة هولندية وتوزعه شركة بريطانية مقرها ليدز، وفي الأسابيع الأخيرة قامت الإمارات بإغلاق "مركز زايد للدراسات" وتسريح موظفيه وباحثيه خضوعاً للضغوط الصهيونية التي اتهمت المركز بمعاداة السامية!.
البحرين
تولي "إسرائيل" تطبيع علاقاتها التجارية مع البحرين اهتماماً كبيراً باعتبارها المعبر البري للسلع الإسرائيلية إلى المملكة العربية السعودية فضلاً عن كون السعودية الشريك التجاري الأول للبحرين ، وأيضاً باعتبارها أهم المراكز المالية في المنطقة العربية حيث يمكن لإسرائيل من خلالها اختراق أسواق الخدمات المالية العربية خاصة في ظل انتشار ما يعرف ببنوك "الأوف شور" بها.(29/29)
وفي أكتوبر 1994 وصل يوسي ساريد وزير شؤون البنية التحتية الإسرائيلية إلى البحرين كرئيس لوفد بلاده في مباحثات مجموعة السبعة المنبثقة عن المفاوضات متعددة الأطراف، وصرح أنه سيجري مباحثات سياسية خلال زيارته المنامة.
وصادرت البحرين مستحضرات تجميل إسرائيلية الصنع وسحبت إدارة الجمارك بضائع تطبيقاً لإجراءات المقاطعة.
وفي أكتوبر عام 1999 ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أن "إسرائيل" تجري مفاوضات سرية مع البحرين بغية إقامة علاقات دبلوماسية محتملة معها، وقالت الصحيفة: إن مسؤولين أمريكيين يمارسون ضغوطاً على البحرين لكي تقيم علاقات مع "إسرائيل" في إطار التقدم الذي سجل في عملية السلام ، وأضافت أن مسؤول شؤون منطقة الخليج في وزارة الخارجية الإسرائيلية بروس كاشدان قام بزيارة سرية إلى البحرين في إطار توثيق العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وفي عام 1999 ذكرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية أن اتصالات تجري بين "إسرائيل" والبحرين في سرية تامة تمهيداً لإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين . ورغم نفي البحرين؛ تأكد النبأ بعقد لقاء ثنائي في منتدى دافوس في يناير 2000 ، وذكرت صحيفة "القدس العربي" أن عبد اللطيف الرميحي رئيس الوزراء التقى خلال زيارة سرية لإسرائيل عدداً من المسؤولين الصهاينة.
سلطنة عمان
في أبريل عام 1994 زار وفد صهيوني برئاسة يوسي بيلين وزير الخارجية مسقط للمشاركة في اجتماعات لجنة المياه ، وهي أول زيارة لوفد إسرائيلي لإحدى دول مجلس التعاون الخليجي (10) . وأعلن مسؤول إسرائيلي أن قدومنا إلى عُمَان أدخلنا الخليج من الباب الخلفي، ووجودنا في مسقط كسر التحريم العربي ضدنا, وسنرى آخرين يسيرون في نفس المسار (11) .
في نهاية عام 1994 عقد السلطان قابوس اجتماعاً مع رابين الذي وصل مسقط في زيارة مفاجئة (12) ، وأقامت سلطنة عمان علاقات محدودة وفتحت مكاتب مصالح في يناير عام 1995 (13) .
وذكرت مصادر صهيونية أن (يوسف العلوي) وزير الدولة العماني للشؤون الخارجية التقى في 1987 رئيس الوزراء الإسرائيلي في زيارة سرية قام بها للكيان الصهيوني لدفع خطوات التطبيع الحثيثة بين البلدين عبر زيارة رجال الأعمال (14) .
وفي أكتوبر عام 1995 اتفقت سلطنة عمان "وإسرائيل" على فتح مكاتب التمثيل التجاري وتعيين ممثلين للتعاون الفني والاقتصادي بين الجانبين (15) .
ووافقت "إسرائيل" على منح سلطنة عمان معونة تقدر بـ 3 مليون دولار تخصص لإقامة مركز إقليمي للأبحاث وتحلية المياه في الخليج ، وذلك خلال مؤتمر حول تقنية تحلية مياه البحر عقد في مسقط في يناير عام 1996 وشاركت فيه "إسرائيل" ، ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن مدير المركز قصي قطيشات قوله إن إقامة المركز ليست مرهونة بعملية السلام؛ لأن التقدم التقني مستقل عن السياسة. وخلال مشاركة الوفد الإسرائيلي في المؤتمر صرح مدير إدارة الخليج في وزارة الخارجية الإسرائيلية ديفيد زوهر بقوله: "إن إسرائيل تجري اتصالات مع دول خليجية أخرى لكن الحديث عن هذه الاتصالات سابق لأوانه" ، وقال إن عشرات من رجال الأعمال من الجانبين يتبادلون الزيارات .
وفي مايو 1996 أعلن عوديد بنيامين رئيس أول شعبة تجارية إسرائيلية في دول الخليج عقب وصوله مسقط أنه سيكون أول سفير للكيان في سلطنة عمان، ويرأس المكتب التجاري الإسرائيلي الذي سيتم افتتاحه في مسقط (16) . وفي أغسطس من نفس العام أقامت مسقط مكتباً لرعاية المصالح التجارية في تل أبيب لتصبح أول دولة خليجية تقيم تمثيلاً اقتصادياً لها في "إسرائيل". وذكرت سلطنة عمان أن حجم مبادلاتها التجارية مع الكيان لا يتعدى نصف مليون دولار عام 1997 (17) .
وخرجت مظاهرة من جامعة مسقط تندد بالوحشية الصهيونية في الأراضي المحتلة تم على إثرها تقليص بعض النشاطات الصهيونية في السلطنة احتواءً لمشاعر الغضب.
أبعاد الاختراق
الأمر المؤكد أن مثل هذه التطورات "العلنية" لا تحمل كل الحقيقة في أبعاد الاختراق الصهيوني لمنطقة الخليج ، وثمة إشارات عديدة في تصريحات قادة الكيان الصهيوني تلمح إلى ذلك المعنى ، كما أن هذا التغلغل الصهيوني يتحرك بدعم ، أو قل: بضغوط قوية من جانب الولايات المتحدة لفرض الوجود " الإسرائيلي " في المنطقة. وهو الأمر الذي يفسر سرعة وتيرة التطبيع في السنوات الأخيرة رغم أن عوامل الجاذبية الاقتصادية والسياسية وحتى النفسية غير مشجعة على مثل هذه الخطوات في الخليج.
الهوامش
1-النشرة الدولية الخاصة 2-2-1993
2-الأهرام-8-6-1993
3-الأهرام المسائى29-10-1994
4-الأهرام 29-5-1996
5-الأهرام-10-7-1996
6-العالم اليوم-10-3-1997
7-الأهرام-12-1-1997
8-الأهرام-28-7-1999
9-الأهرام-22-2-2003
10-الأهرام 26-5- 1989
11-العربى25-4-1994
12-الأهرام-27-12-1994
13-الأهرام-5-2-1995
14-الأهرام 29-12-1994
15-الوفد-28-1-1995
16-الأهرام-12-8-1996
17-وكالة أنباء دبي 12-8-1998
==============(29/30)
(29/31)
أولمرت في انتظار المعجزة!!
ياسر الزعاترة 16/3/1428
04/04/2007
في حوار له مع موقع صحيفة يديعوت أحرونوت على الإنترنت أول أمس الثلاثاء، ذهب رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت إلى أن الدول العربية "المعتدلة" قد توصلت بعد حرب لبنان إلى قناعة مفادها أن إيران والإسلام الأصولي هما الخطر الأكبر عليها وليس الدولة العبرية. مضيفاً أن النظرة العربية الجديدة لمشهد الصراع، وهي نظرة مغايرة تماماً للنظرة القديمة، ستفتح أفقاً واسعاً للسلام في المنطقة.
خلال عامه في السلطة، أثبت أولمرت أنه زعيم ضعيف، بل لعله الأضعف بين زعماء الدولة العبرية طوال تاريخها، وها هي استطلاعات الرأي تثبت ذلك، حتى قبل نشر تقرير لجنة فينوغراد الذي سيعمّق أزمته السياسية، وربما أزمة الدولة برمتها.
في ضوء ذلك يحتاج أولمرت إلى معجزة تنجيه من واقعه المزري، الأمر الذي لن يحدث من دون اختراق سياسي يتمثل في موجة تطبيع مع الدول العربية، معطوفة على تكريس للتهدئة، وربما انتقال إلى المرحلة التالية من مشروع كاديما القديم الجديد، ممثلاً في الدولة المؤقتة التي تأسس الحزب من أجل تنفيذها، إضافة إلى خطوة عملية في التعاطي مع التحدي النووي الإيراني الذي يشغل بال المجتمع الإسرائيلي، فيما يعلم الجميع أن التعاطي مع هذا الملف ما زال من اختصاص الدوائر الأمريكية.
الآن تنشأ معادلة مدهشة بالنسبة لأولمرت تخلط الأهداف المشار إليها بعضهما ببعض على نحو بالغ الروعة، إذ يمكن للأمريكان الذين يحضّرون لضرب إيران أن يبيعوا ذلك على العرب الخائفين من "المشروع الإيراني" مقابل التطبيع ودعم التهدئة الفلسطينية، وصولاً إلى المضي في برنامج "كاديما" المشار إليه.
يحدث ذلك بالطبع لأن المحافظين الجدد لا يتحركون إلا على إيقاع الهواجس الإسرائيلية، أكان باحتلالهم للعراق أم باستهدافهم لإيران، أم بدعم الصفقة المشار إليها مع ما بات يعرف بالدول العربية المعتدلة.
يشار هنا إلى أن الإسلام المتطرف أو الأصولي، بحسب تعريف أولمرت، قد دخل في الصفقة أيضاً، وهو هنا لا يعني إيران، بل يعني جميع الحركات الإسلامية التي منحت الأنظمة حق التعامل معها؛ قمعاً وتنكيلاً وتحجيما.
تلك هي المعجزة التي ينتظرها أولمرت ودولته بكل أركانها السياسية والعسكرية، وحيث سيجري التخلص من كافة الأعداء على صعيد واحد (إيران، الحركات الإسلامية، ومن ضمنها حماس)، فيما تعبّد الطريق أمام رؤية شارون العتيدة التي صعد من خلالها إلى سد الزعامة التاريخية في الدولة العبرية، وهي كما أشرنا رؤية الدولة المؤقتة وتأبيد النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع تطبيع شامل مع الدول العربية.
هي رؤية حالمة يرسمها أولمرت وصهاينة الإدارة الأمريكية، مضيفين إليها الأمل بتطبيع الوضع العراقي؛ أيضاً بمساعدة المعتدلين العرب، لكن الفارق بين الحلم والواقع تبقى كبيرة، ونتذكر هنا ذلك الحلم الوردي الذي رسمه القوم قبل أعوام (نحتل العراق، فيستقبلنا العراقيون بالورود، ثم نتوجه نحو طهران وسوريا ونعيد تشكيل المنطقة على أسس جديدة كي تكون جاهزة للتسوية وفق المقاس الإسرائيلي، مع تقبل الزعامة الإسرائيلية).
لم يحدث شيء من ذلك، وهو ما سينطبق على الحلم الجديد، حتى لو مضت بعض مقدماته كما حصل في المرة الماضية عندما تعاونت بعض الدول العربية، إلى جانب إيران، مع الأمريكان من أجل التخلص من صدام حسين، لكن النتيجة كانت فتح "صندوق البندورا" والغوص في مستنقع بلا قرار.
لن يحدث شيء من ذلك، فالعراق سيواصل مقاومته، فيما سيساهم التورط مع إيران في تعميق الأزمة الأمريكية تبعاً لردود الإيرانيين المتوقعة في العراق وخارجه، أما تطبيع الوضع الفلسطيني على تهدئة مجانية ودولة مؤقتة بائسة فلن يمر، وتبقى الحركات الإسلامية التي لن تغدو نسياً منسياً بسبب ملاحقة الأنظمة، بل ستمنحها هزيمة الأمريكان دفعة جديدة، والنتيجة هي أن اللعنة التي أصابت المحافظين الجدد منذ مطلع الألفية الجديدة ستظل تلاحقهم حتى تدفع إمبراطوريتهم نحو التراجع، هي التي خططوا كي تتسيّد القرن الجديد من دون منافس.
=============(29/32)
(29/33)
جامعاتنا والتصنيف .. ربّ ضارة نافعة
سارة الراجحي 27/10/1427
18/11/2006
عرفت أوروبا الجامعات في القرون الوسطى، وكان ذلك نتيجة لعدة عوامل مهدت لها، منها الحاجة الملحة لتلبية متطلبات الحياة، والاحتكاك بالمسلمين والعرب، و ظهور المدن، والحركة المدرسية التي سبقتها.. وعلى الرغم من كون هذه الجامعات قد تولّدت عن مدارس تابعة للكاتدرائيات والأديرة، إلاّ أنّها استطاعت استيعاب العلوم الشائعة آنذاك، و نشر الثقافة والفكر والندوات والمحاضرات، و اقتحام السياسة واللاهوت، والتدخل في مهاجمة البابوية...
بل ويُرجع إليها كرأي علمي في الاختلافات.. ليس هذا فحسب بل إنها قد منحت طلابها امتيازات رجال الدين فأُعفوا من الخدمة العسكرية، وأُعفي أيضاَ الطلاب والأساتذة من الضرائب، وأغدقت عليها المنح، وخصت بعضها بأعضاء يمثلونها في المجالس النيابية للدولة.. منها جامعة اكسفورد و كامبردج وباريس.. فإذا كان ماسبق حالها في القرون الوسطى.. فلا غرابة فيما هي عليه الآن.. بل الغرابة تكمن في وجود جامعات دولة نفطية في آخر ركب جامعات العالم..!
إن نصيب الجامعات السعودية في التصنيف الأخير ( Webomet r ics r anking ofWo r ld (Unive r sities الذي كانت تتذيله مع دولتين - لديهما المسوّغات الكافية لذلك - مع التصنيفات السابقة كتصنيف(Shanghai Jiao Tong Unive r sity) ، ولأفضل (500) جامعة في العالم، و تقريرT Times Highe r Education Supplement) ) حول أفضل (200) جامعة لم يكن مفاجأة لدى الكثيرين؛ فمستوى جامعاتنا التي تئن من الهزال ومن القيود كان مصدر امتعاض لكثير ممن بين أروقتها بغض النظر عن هذه التصنيفات التي مهما شُكك في موضوعيتها ومصداقيتها إلاّ أنها تبقى قائمة على معايير ذات أهمية بمكان؛ بحيث لا يبقى مجال واسع للتشكيك، أو لنظرية المؤامرة.. كمعيار تقييم زملاء التخصص، و الجهات الموظفة لخريجي الجامعات، والطلبة الدوليين، و الإسهام البحثي للجامعة وقدرتها على استقطاب نخب الباحثين.. فأين جامعاتنا من هذه المعايير مثلاً..؟ قد نتفهم صعوبة بعض المعايير كأحد معايير (شانغهاي جياو تونغ) الذي يرصد 30% من الدرجات للجامعة التي ينال أحد منسوبيها أو خريجيها على جائزة نوبل.. لكننا نتساءل عن المعايير التي من المفترض أن تكون عفوية في أي بناء يُطلق عليه "جامعة.."!
وبعيداً عن تلك التصنيفات ومعاييرها.. فإن الجامعات بشكل عام تُناط بها مسؤوليات أبرزها: نشر العلم عن طريق إعداد الكوادر، وتنمية العلم وتطويره عن طريق البحث العلمي، وتوظيف العلم عن طريق الفاعلية في المجتمع وخدمته.. وإذا ما نظرنا إلى جامعاتنا فسنجد أن هناك خللاً كبيراً في كل ما سبق.. فمثلاً نشر العلم يُعدّ الهدف الأساسي لدينا عادة، في حين تعد الكثير من الجامعات الغربية أن تطوير العلم وتغييره هو الهدف الأساسي.. وإذا ما تأملنا هذه العلاقة فسنجد أن البحث وإن كان يستند إلى العلم، إلاّ أنه في ذات الوقت سيؤدي إلى علم، أما الاكتفاء بالعلم السابق فمعرض للوهن والجمود واجترار إنتاج الماضي، و بالتالي الحاجة إلى التطفل على موائد الآخرين بسبب "أنيميا" الإنتاج والإبداع..!
إن الثروة العلمية التي توصّل لها العالم الآن جاءت عن طريق البحث العلمي، و هو أهم مقياس لدور الجامعة الحيوي، كما أنه مرتبط كثيراً بسمعتها، وقد تنامى الاهتمام به إلى درجة أن بعض الجامعات الأمريكية اتجهت إلى تفضيله على النشاط التعليمي التقليدي.. بينما البحث العلمي في جامعاتنا يعاني من ضعف الدعم اللوجستي المتمثل في قواعد البيانات، ودعم البيانات، مع قبضة البيروقراطية المحكمة، و قلة الإمكانيات والاعتمادات المالية المخصصة له، وضعف القناعة بأهميته من قبل الجامعات ذاتها قبل قطاعات المجتمع الأخرى، حتى غدا غالباً وسيلة لنيل الدرجات العلمية، مما أدى إلى التشابه والتكرار و الاجترار.. وهذا الواقع المأزوم يفسر لنا سبب ضعف إنتاجية مراكز البحث العلمي في جامعاتنا كماً وكيفاً، و المقدرة بـ(75) مركزاً بحثياً كان إنتاجها خلال أربعة أعوام من 1999-2003 ما يقارب (1650) بحثاً فقط - بحسب موقع مشروع آفاق- و بحسبة بسيطة جداً فإن عدد البحوث في العام الواحد (412) بحثاً فقط لأكثر من (17465) عضو تدريس، وبحسبة بسيطة أيضاً فإن هذا يعني أن من بين كل (42) عضواً من هيئة التدريس عضو واحد فقط هو من يقدم بحثا.. !
ثم نتساءل: أين جامعاتنا ..؟!(29/34)
جامعاتنا التي تعاني أيضاً من الغياب الاجتماعي، والقدرة على التأثير.. على الرغم من وجود النخبة فيها، فلا أثر رسمياً أو حتى شعبياً يُذكر لأي جامعة على المستوى المحلي، فضلاً عن مستوى المجتمع العربي المسلم.. بينما في دول أخرى نجد أن الجامعات لها ثقلها في بعض القضايا.. بل ولها مساهمات خيرية في المجتمع تمثل توظيف العلم.. وقد نُصاب بشيء من الخيبة إذا عرفنا أن الجامعات الإسرائيلية الحديثة النشأة، و التي احتلت مراكز متقدمة، لها جهود ثقافية واضحة كالتي تهدف إلى التطبيع الثقافي مع العرب، وقبلها الجامعات الأوروبية التي خصصت برامج لدراسة مجتمعاتنا، وترجمة تراثنا، و تبنت "الاستشراق" الذي كان كثير منه بهدف التشويه وشن الحملات المعادية لثقافتنا.. .. فأين دور جامعاتنا التي لا تقبل إلا النسب المئوية المرتفعة، والتي رفضت بعضها حتى التسعينية منها.. وما هي جهودها الواضحة ومشاركاتها الواعية تجاه المستجدات و القضايا المعاصرة؟!
نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الثقافة العلمية السائدة لدينا، فإن من شأنها تحديد مسار وطبيعة أي عملية تعليمية وتربوية، فالثقافة العلمية السليمة الإيجابية تستحث البحث العلمي، وتشجع الابتكار والإبداع، و تعزز توظيف العلم في المجتمع، بينما الثقافة العلمية المشوّهة تحيد بجامعاتنا عن طريقها المأمول، وتمنعها من إنجاز مسؤولياتها ومهماتها على الوجه اللائق، وتحرمها من دورها الاجتماعي.. ومن أبرز الأمثلة على هذا الثقافة السلبية: فكرة متجذّرة لدى كثير من الطلبة والطالبات، وهي أن الجامعات ليست إلا أداة لشهادة يهشون بها حوائج الزمن، وبالتالي لا قيمة لإتقان فهم العلم وتوظيفه أو البحث العلمي، فما يهم حقيقة هو المسجل رسمياً نهاية الفصل من علامات.. وحتى أولئك الطلبة أو الطالبات الذي تمكنوا من تجذير الثقافة العلمية المحكمة بدواخلهم، يعانون من عدم توفر المعطيات التي تعينهم على المضي قدماً نحو الإبداع، كالمختبرات اللازمة، و مراكز البحث، وتوفر المراجع العلمية اللازمة.. لا سيما وأن بعض فروع الجامعات، وجل الكليات تكون مكتباتها مفتوحة في أوقات معينة، تتزامن كثيراً مع أوقات المحاضرات.. وهنا لا يفوتني أن أُذكّر بمعاناة طلبة وطالبات المدن الصغيرة والمحافظات، التي ربما توضع في قائمة خاصة بجامعات وكليات كوكب المريخ.. !
إن على جامعاتنا أن تقود حركات تغيير وتصحيح للثقافة العلمية، وأن تقوم بدور ثقافي جدّي عن طريق تعزيز العلاقات بين الثقافة والعلم بمختلف مجالاته، والإنماء الثقافي الذي يتخلص من المفاهيم السلبية، ويشكل المفاهيم الإيجابية على الأقل على مستوى حرم الجامعة، حتى يكون مركز إشعاع لما حوله.. فإذا كان الضعف ظاهرة عامة لدينا، والتخلّف ملمح في كثير من مناحي حياتنا، نتيجة عوامل متراكمة ومتداخلة، إلاّ أن الجامعات ليست معفية من مسؤولية معالجة ذلك، وقبله الإسهام فيه، ذلك بصفتها معاقل العلم، و مخرجة حامليه، ومحضن الشباب عماد أي مجتمع و أمة.. و أيضاً عادة ما تكون مناصب القيادة تحت من تخرّج من نفس الجامعات، وهذا يعني أن هناك حلقة مفرغة تحتاج إلى الكسر.. والتي من أسبابها الميل إلى إبقاء كل شيء على حاله والتهيب من التجديد من أولئك الذين رضوا بالتأخر، وباتوا جزءاً منه.. وقبل ذلك ضعف إدراك أهمية دور الجامعات الحقيقي والاهتمام بمسألة الكم لا الكيف.. نعم هناك مخلصون، ومبدعون، فضلهم على الجامعة أكبر من فضلها عليهم، وهناك عطاءات جميلة، ولكنها تبقى غالباً جهوداً فردية أو محصورة تحتاج إلى برامج متكاملة تقوم بتنظيمها وإشاعتها وتنويعها ..
فإذا لم تستطع الجامعات التخلص من العوائق الخارجية فليس أقل من مشاريع الإصلاح الداخلية، وإلاّ فليس من المنطقي أن تتحمل وزارة الخدمة المدنية أو وزارة المالية تلك الممارسات الخاطئة المنتشرة كالتي - مثلاً - تحرم الطلاب من ممارسة حقهم في حرية النقاش والتعبير عن الرأي، وتنظر إلى المحاور منهم ككائن ينشط هوامات القلق والإزعاج.. خاصة أن هذه المرحلة يُفترض أن يُشكل فيها الشخص آراءه من منبع ذاته لا من سُقيا غيره.. مما أدى إلى أن تحولت كثير من العقليات إلى نسق من قوالب ذات نمط واحد تتسم أحياناً بالخواء أو التصلب الفكري.. لاسيما وأن القدرات العقلية تركد وتأسن وتفقد القدرة على التطور، ما لم تكن في وضعيات مخالفة و مواجهة مع مستويات معرفية وفكرية مختلفة، تشكل مجالاً خصباً للاحتكاك والتكامل، وتعلّمهم مبدأ الحوار في الحياة عامة، بدلاً من تراكمات أجيال لا تحسن التعامل مع رأيها و الرأي الآخر..(29/35)
كما أنه ليس من المنطقي أن تُعزى أسباب التخلف إلى ضعف التمويل، بينما هناك دول أضعف اقتصاداً بمراحل، لكنها سبقتنا في التعليم العالي بمراحل.. نعم الإمكانيات المادية جزء مهم لا ينبغي إغفاله، لكن حسن الإدارة والتخطيط هو القاعدة التي لو لم تُحكم لكان ما يُبذل هدراً ليس إلاّ.. مع ضرورة الالتفات إلى مطالب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، وتفهم معاناتهم والتخفيف من مثبطات إبداعاتهم كانخفاض الأجور، وتدني فرص المشاركة في المؤتمرات، وعدم وجود تأمينات صحية وسكنية، وعدم جزل مكافآت الأبحاث العلمية في حين أن زملاءهم في الجامعات المتقدمة ينالون مردوداً اقتصادياً جيداً، وتبحث عنهم الشركات وتتنافس في احتضانهم.. مما جعل الجامعات بيئة غير خصبة للطموح والروح الإبداعية، فعزف الكثير منهم عن البحوث والمشاريع إلى كتابة المقالات في الجرائد، و منتديات الإنترنت بأسماء مستعارة ..
أخيراً نقول: رب ضارة نافعة، فلربما كانت التصنيفات سبب وقفة صارمة لتحسين الأوضاع، ووضع الخطط اللازمة للّحاق بركب العالم، وحجز مقاعد معقولة بدلاً من (2998) .. فعلى وزارة التعليم العالي والجامعات إعادة النظر في كل ما سبق- وغيره بالتأكيد- ومواجهة الواقع المُخجل بدلاً من إضاعة الوقت في محاولات التبرير التي لن تصنع مجداً
============(29/36)
(29/37)
السلام السري الإسرائيلي مع سوريا
عبد الحق بوقلقول / الجزائر 1/1/1428
20/01/2007
هل صحيح أن عملية السلام بين ضفتي نهر الأردن بكاملها باتت وشيكة؟ الظاهر أن هذا مطروح؛ فمسار التسوية على ما يبدو ماضٍ في طريق بعيدة عن أعين الكاميرات، و ثرثرة الصحف على أساس أن هاتين الأخيرتين تفسدان غالباً الطبخات السياسية التي تُعدّ على نيران هادئة في كواليس السياسة الدولية، و العلاقات الدبلوماسية التي لا تعترف في أكثر الأحايين بالثوابت القومية و شعارات على شاكلة: "لا تفاوض مع العدو" أو غيرها من الخطب الرنانة التي أضاعت أجيالاً من العرب و المسلمين دونما أن تحقق غير مزيد من سياسات التقشف و التسلط.
و بما أن السياسة كما يُقال، هي فن الممكن فإن جريدة (هآرتس) اليسارية الإسرائيلية طالعتنا في عددها الصادر في هذا الثلاثاء 16 من الشهر الجاري، بخبر حصري انفردت به وسط كل الصحف العالمية، و يتعلق الأمر بما ملخصه أن الإسرائيليين و السوريين كانوا طيلة السنوات الثلاث الأخيرة تقريباً، بصدد تبادل اللقاءات و المفاوضات، و أن هذا كاد يفضي إلى إعلان التوصل إلى اتفاق سلام لولا أن بعض المشكلات التجزيئية حالت دون ذلك، و منعت أن يخرج علينا المتحدثون باسم الحكومتين في دمشق و تل أبيب، بخبر نعي الصراع (العربي-الإسرائيلي)، و إنهاء عقود من التجاذب و الخلافات، و بالتالي ضمان عقود قادمة من الجمود و التسلط في بلداننا من قبل نخبٍ تستعمرنا منذ أعلنت الإمبراطوريتان الفرنسية و البريطانية 'استقلالنا'!!
إذاً يمكننا أن نقرأ من على هذه الصحيفة ما ترجمته: "بين شهري سبتمبر 2004 و يوليو 2006، تم عقد لقاءات 'سرية' في أوروبا بين إسرائيليين و سوريين، مما أدّى إلى 'تحديد الخطوط العريضة' لاتفاق سلام مستقبلي، و لكي تعزز الجريدة هذا السبق الصحفي، أوردت على شكل ملحق بالخبر، وثيقة (1) سرية توضح أن: "الهدف كان تحقيق علاقات سلمية و طبيعية بين حكومتي و شعبي البلدين -سورية و إسرائيل-، من خلال التوقيع على معاهدة سلام تتوج هذه المباحثات، و ستكون هذه المعاهدة متمحورة على أربع نقاط رئيسة" وصفتها الجريدة بأنها ستكون "أركاناً للمفاوضات و هي: الأمن، المياه، تطبيع العلاقات و ترسيم الحدود"، ثم تضيف بما يفيد أن الاتفاق كان يقضي بألاّ يتم التفاهم على أي من هذه النقاط بشكل انفرادي، و إنما: "أن يتم ذلك بشكل كلي و على النقاط برمتها دفعة واحدة".
على حسب هذه الوثيقة دائما، فإنه: "سوف يكون ترسيم الحدود عبر هضبة الجولان، و وفقاً للوضعية التي كانت عليها بتاريخ 4 حزيران/يونيو 1967" بمعنى أن الحدود سوف تكون على الشكل الذي كانت عليه عشية اندلاع حرب الأيام الستة، و أما ضمان ذلك فإن الوثيقة تورد: "تتولى الولايات المتحدة مسؤولية ضمان تنفيذ بنود الاتفاق إلى جانب الهيئة الأممية"، أما عن استغلال مياه كل من نهر الأردن و بحيرة طبرية، فالجريدة تقول إن الموضوع قد تم التطرق له بشكل مسهب؛ إذ -و على حسب الوثيقة- دائماً فإنه: "سوف يتم إنشاء منطقة منزوعة السلاح فوق هضبة الجولان بعد انسحاب القوات الإسرائيلية"، و من جانب آخر، فالمتوقع أن: "تعمل الأطراف سوية، لأجل تحقيق شرق أوسط مستقر و 'آمن' بطريقة تؤدي إلى إيجاد حلول للمشكلات الإقليمية المتعلقة بالفلسطينيين و اللبنانيين.." بل و حتى: "..بالإيرانيين" !!
في هذا الإطار، أكدت الجريدة بأن: "السوريين طالبوا بأن يتم الانسحاب العسكري الإسرائيلي من هضبة الجولان، في أجل أقصاه خمس سنوات" إلاّ أن الإسرائيليين-كما تقول الصحيفة-: "طالبوا بأن لا يتم تحديد ذلك بأقل من خمس عشر سنة" في حين أن النتيجة سوف تكون طبعاً، مثلما يضيف الخبر: "تخلي سورية عن كل من حزب الله و حركة حماس، فضلاً عن قيامها بالابتعاد 'تدريجياً' عن علاقاتها مع إيران"!!
من خلال هذا المقال دوماً، فإنه في وسعنا أن نعرف أن كل شيء كان قد بدأ قبل ثلاث سنوات من الآن، إذ و على حسب (هآرتس) فإنه: "في بداية العام 2004، و بينما كان الرئيس السوري بشار الأسد في زيارة رسمية إلى تركيا، وُصفت وقتها بأنها 'تاريخية'، شاءت 'الصدف' أن يكون متواجداً في نفس الفترة هنالك في العاصمة أنقرة، دبلوماسي إسرائيلي قديم هو (ألون ليل) الذي كان قد شغل فيما مضى منصب السفير الإسرائيلي لدى تركيا، و لقد كان هذا الشخص نازلاً في نفس الفندق الذي أقام فيه أفراد البعثة السورية"، ثم تواصل الجريدة: "تولى أصدقاء (ألون) من الدبلوماسيين الأتراك، مهمة الشرح لهذا الأخير بأن الشأن الإسرائيلي شغل موقعاً مهما من المحادثات التي جمعت كلا من الرئيس الأسد و رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان".(29/38)
في ذات المناسبة، استطاع (ألون) أن يعرف بأن: "الرئيس الأسد طلب من أردوغان أن يقوم هذا الأخير باستغلال 'العلاقات الحسنة' بين بلاده و إسرائيل، لكي يعمد إلى تحريك مفاوضات السلام معهم"، و هنا تقول الصحيفة إن: "سورية كانت ترغب في تحريك عملية السلام حتى تتمكن من محاصرة 'الإسلام الراديكالي' الذي يتهددها"، فضلاً على أن السوريين- وفقاً لذات الصحيفة-: "كانوا يدركون جيداً مبلغ ما سوف يحققونه من ميزات و نتائج اقتصادية وفيرة بعد توقيعهم لاتفاقية سلام مع الإسرائيليين".
بعد ذلك، يتحدث المقال/القضية، على أن تركيا لم تتمكن من أن تلعب دوراً مستقبلياً حقيقياً فيما تلا ذلك 'الجس' الأولي؛ لأن الأمر صار بأيدي الأمريكان من خلال وسطاء تدخلوا في الموضوع، و لقد أوردت الصحيفة من بينهم (جيوفري آرونسون)، الذي ينتمي إلى (مؤسسة السلام في الشرق الأوسط)، الواقع مقرها في العاصمة الأمريكية واشنطن، بالإضافة إلى شخص آخر يُدعى: إبراهيم سليمان الذي قالت عنه (هآرتس) أنه: "رجل أعمال أمريكي من أصل سوري و منحدر من الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد نفسه، و أغلب رجالات الدولة في النظام السوري".
أما عن عدد اللقاءات التي جرت فإن الجريدة تقول إنها كانت سبعة في مجموعها منذ سبتمبر 2004 في إحدى العواصم الأوروبية التي لم يتم الكشف عنها لحد الساعة قبل أن تواصل معلقة: "لقد أمسك الأوروبيون بقصب الوساطة، و لقد عُقد آخر لقاء في الصيف الماضي خلال أوج أيام حرب لبنان الأخيرة"، ثم توقفت المفاوضات عند ذلك بعد أن: "أصر الطرف السوري على أن تبقى المباحثات في طور السرية، و لا ضرر في أن يتم رفع التمثيل ليصل إلى حضور رسميين من المسؤولين السوريين و الإسرائيليين و حتى الأمريكيين"، و هو الطلب الذي رفضه الطرف الإسرائيلي مثلما تؤكد (هآرتس).
صحيح أن الوثيقة مثلما أفادت وكالات الأنباء، جوبهت بنفي رسمي من قبل كل دمشق و تل أبيب مباشرة عقيب نشرها، إلاّ أنها مع ذلك ما زالت موضوع تداول عالمي و إعلامي كبير بالنظر لأهميتها و سبقيتها أولاً، ثم بالنظر لما أوردته من معلومات و تفاصيل في غاية الدقة، و بطريقة تجعل أمر نفيها غير بسيط، ويكفي تعليق مقتضب لكي يمحو أثره و مدلولاته.
من بين هذه المدلولات الأخيرة يمكننا مثلاً أن نلاحظ مدى تعلق اليسار الإسرائيلي بأي وميض يوحي بإمكانية استئناف مسار التسوية مع المحيط العربي بعد أن نجحت عقود الاستنزاف من أن تفصل القضية الفلسطينية عن عمقها الإسلامي على المستوى الرسمي طبعاً، بمعنى أنه على الرغم من كل ما قيل و يُقال، لا يزال لدى اليسار في إسرائيل، بل و حتى الوسط، استعداد للدخول في التسوية، و هذا وحده دليل كاف على أن سياسة العصا الغليظة و التلويح بالقوة التي انتهجتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لم تؤت أُكُلَها، و الظاهر أنها انتهت بشكل فعلي مع ذهاب شارون إلى الغيبوبة العميقة، قبل أن تتولى الحرب الأخيرة على لبنان مهمة كشف مدى خواء و هوان الجبهة الداخلية في الدولة العبرية على كل المستويات: الأمنية و العسكرية و حتى السياسية، و لعل الأمر سيكون أكثر وضوحاً هنا حينما نلاحظ مثلاً أن أحد القراء الإسرائيليين، علق على الخبر في موقع الجريدة بقوله: "إن بوش و إدارته مجرمون لأنهم أوقفوا هذا المسار?
صحيح أنه ليس في مقدور أي كان في الوقت الحالي أن يثبت صحة الوثيقة و المعلومات التي أوردتها، إلاّ أن هذا لا ينفي من ناحية أخرى أيضاً، أن ما ورد فيها متوقع بل و منتظر؛ لأن الأمريكان الذين هم أصلاً، عرابو إسرائيل و ضمانة أمنها و تفوقها منذ تأسيس الكيان في 1948، باتوا مؤخراً في وضع غير مريح، أولاً بسبب انكسار مشروعهم القومي في العراق بشكل جعل من الإستراتيجيات الأمريكية مهزلة يجري تغييرها مع كل فصل بطريقة لا تختلف كثيرا عن الإستراتيجيات المرنة في بلداننا. و ثانياً لأن الأمريكيين صاروا يدركون حالياً أن المنطقة ليست مهيأة بشكل كامل لتقبل أنموذجها السياسي فقط من خلال فرض الديمقراطية 'المحمولة جواً'، و أوضح مظاهر ذلك مثلاً، تقدم الإسلاميين في جل الانتخابات التي نُظّمت هنا و هناك.
أخيراً، نستطيع أن نلحظ و لا بد لنا هنا أن نكون صريحين، أن أنظمة الممانعة و حركات المقاومة هي فعلا في وضع مكشوف، بمعنى أنه من السهل جدا لأنظمة لا تقوم على الشرعية الشعبية و احتضان الناس لها، أن تتنازل عنها عند تقديم أول مقابل مغر يسيل لعاب خبراء التخطيط و المناورة عندنا.
إن هذا يعني أن هذه الحركات على الرغم من كل ما حققته و تحققه، باتت اليوم مضطرة إلى مراجعة بعض من قواعدها و مرتكزاتها حتى لا تستيقظ يوماً فلا تجد من حولها غير أنظمة معادية قد يستلزم أمر الإفلات منها ربما الاستعداد لتحمل شراسة أفظع بكثير من شراسة الموساد الإسرائيلي نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)يمكن مطالعة نص الوثيقة على موقع الجريدة على الرابط:
http://www.haa r etz.com/hasen/spages/813769.html
=============(29/39)
(29/40)
الولايات المتحدة وديمقراطية الأنابيب من المغرب إلى باكستان!
إدريس الكنبوري 12/1/1425
03/03/2004
أعلنت الإدارة الأمريكية يوم 9 فبراير على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش عن وضع مشروع جديد أطلقت عليه تسمية"الشرق الأوسط الكبير"، من أجل دمقرطة المنطقة العربية والعالم الإسلامي وتطوير الحالة السياسية فيهما، والدفع بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وبالإطلاع على النص الكامل للمشروع، يتضح لنا بأنه لا يختلف كثيرًا عما طرحه قبل عامين كل من "ريتشارد هاس" مدير إدارة التخطيط في الخارجية الأمريكية، وكولن باول كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية، باسم "مبادرة الديمقراطية" في العالم العربي، ويمكن ملاحظة أوجه الاختلاف بين المشروعين السابقين والمشروع الحالي في نقطتين:
ـ النقطة الأولى: أن مشروع بوش يأتي قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سيخوض فيها الرئيس الجمهوري منافسة قوية مع غريمه الحزب الديمقراطي، وهو لذلك يريد إقناع الرأي العام الأمريكي بأنه يحمل مشروعًا شاملاً لتغيير منطقة الشرق الأوسط، وأن احتلال العراق لم يكن سوى الحلقة الأولى في هذا البناء الكبير، ومن ثم فإن هذا الاحتلال مشروع من هذه الناحية، وهو رد غير مباشر على الحملة التي يواجهها بوش حاليًّا بعد انكشاف الأكاذيب المخابراتية بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
ـ النقطة الثانية: أن المشروعين السابقين كانا مشروعين أمريكيين، دعوة وتنفيذًا، وقد لقيا لهذا السبب اعتراضًا قويًّا من لدن بلدان الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك التي كانت تعارض الحرب على العراق، أما المشروع الحالي فتريد الإدارة الأمريكية إشراك الاتحاد الأوروبي ومجموعة الثمانية الكبار فيه، وسوف تقدمه لقمة هذه الأخيرة التي ستعقد في يونيو القادم بالولايات المتحدة الأمريكية، للحصول على دعم أعضائها، كما أن المشروع يتضمن عدة إشارات إلى هذه الدول باعتبارها مسؤولة عن تطبيق ما ورد فيه ورعاية تنفيذه وتحمّل جزء من تمويله.
لكن مشروع بوش لا يختلف كثيرًا من حيث مضامينه عن مشروعي هاس وباول، فهو استمرار لهما في الروح التبشيرية التي انطلقا منها، كما يشترك معهما في القناعة بأنه لا بد من تغيير الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة.
مفهوم الشرق الأوسط الكبير
يعتبر المشروع أن مفهوم الشرق الأوسط الكبير، مع زيادة هذه الصفة إليه، يقصد به عموم المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، ولكنه يدخل فيه البلدان الإسلامية الأخرى غير المحسوبة على الشرق الأوسط مثل باكستان وإيران وتركيا وأفغانستان، وبطبيعة الحال الكيان الصهيوني الذي يعتبره المشروع جزءًا من الشرق الأوسط الكبير، مع ملاحظة أنه يعتبر الكيان الصهيوني البلد الديمقراطي الوحيد في هذا المحيط الجيوـ سياسي، ويهم المشروع كامل المنطقة التي تمتد من المغرب إلى باكستان.
مثل هذا المفهوم للشرق الأوسط لا بد أن يذكرنا بمفهوم آخر سبق وأن تم التسويق له على نطاق واسع في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، بعد المؤتمر الاقتصادي الشهير للشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي عقد بمدينة الدار البيضاء عام 1994، وهو"الشرق الأوسط الجديد"، والذي كان قد بشر به وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت شيمون بيريز الذي شارك في المؤتمر إلى جانب رئيس الوزراء المغتال أسحق رابين. ولكن مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي نادى به بيريز في كتاب له بنفس العنوان كان ذا أبعاد اقتصادية صرف، الهدف منه تحويل الكيان الصهيوني إلى دولة طبيعية في المحيط العربي من خلال آليات العمل الاقتصادي والتجاري المشترك مع البلدان العربية، وقطف ثمار التطبيع الاقتصادي الذي بدأ ينشط بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، بينما مفهوم الشرق الأوسط الكبير يتسع ليأخذ أبعادًا شاملة تصب في الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية، وتشكل الولايات المتحدة محورًا له.
النواقص الثلاث
ينطلق المشروع الأمريكي الجديد في تسويغ مطالبته بالإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي والإسلامي من تقريري التنمية البشرية العربية لعامي 2002 و 2003 الذين شخصا مواضع الأزمات في المجتمعات العربية وعوامل التخلف فيها، من ذلك مؤشرات التنمية الاقتصادية ومستوى الدخل الفردي ونسبة الأمية وغياب الديمقراطية وضعف المشاركة السياسية والفساد السياسي وغياب حرية التعبير وتبعية الإعلام الرسمي وغياب مجتمع المعرفة والمعلومات والفقر والبطالة، وهي ظواهر حقيقية يعيشها العالم العربي ولا يمكن التغافل عنها.(29/41)
ويرى المشروع أن هناك نواقص ثلاث يعتبر أنها" تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية"، وهي: الحرية والمعرفة وتمكين النساء، ويضيف أنه "طالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة"، وبعد أن يورد بعض الإحصاءات والأرقام الواردة في تقريري التنمية البشرية العربية المشار إليهما أعلاه، يقرر بأن"المنطقة العربية تقف عند مفترق طرق"، ليستنتج بأن"البديل هو الطريق إلى الإصلاح".
ما هي مرتكزات الإصلاح؟
يتضمن المشروع ثلاث أعمدة رئيسة ترتكز عليها خطة تغيير منطقة الشرق الأوسط الكبير:
ـ تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.
ـ بناء مجتمع معرفي.
ـ توسيع الفرص الاقتصادية.
وتعتبر هذه بمثابة الأولويات الضرورية لتغيير وتنمية المنطقة، حسب واضعي المشروع؛ "فالديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية"، ويدعو المشروع في إطار تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح في العالم العربي إلى تنظيم انتخابات حرة، وتنظيم زيارات متبادلة على الصعيد البرلماني بين هذه البلدان ودول مجموعة الثماني التي يدعوها المشروع إلى تبني أطروحاته وتمويل مشاريع الإصلاح في المنطقة العربية، ورعاية معاهد لتدريب النساء على القيادة السياسية، وتقديم المساعدة القانونية للناس العاديين. كما يدعم المشروع مبادرة تطوير وسائل الإعلام المستقلة والحرة في العالم العربي، وتنمية دور المجتمع المدني.
أما على صعيد بناء مجتمع معرفي؛ فالمشروع يرى أن الفجوة المعرفية في المنطقة العربية ونزيف الأدمغة يشكلان تحديًا لآفاق التنمية فيها، لذلك فهو يدعو إلى دعم التعليم الأساسي وتعميمه والقضاء على الأمية، وتحديث التعليم بحيث يواكب التطورات التكنولوجية الحالية، داعيًا إلى إنشاء ما أسماه "مدارس الاكتشاف" أسوة بالأردن، ويدعو المشروع في نفس السياق إلى عقد قمة خاصة بإصلاح التعليم في المنطقة في شهر مارس الجاري أو أبريل المقبل، قبل انعقاد قمة دول الثماني في شهر يونيو القادم.
وفيما يتعلق بالشطر الثالث من مبادرة الإصلاح الخاص بتوسيع الفرص الاقتصادية، يلح المشروع على تجسير الفجوة الاقتصادية بين بلدان الشرق الأوسط الكبير، عبر إحداث تحولات اقتصادية تشبه في مداها ما حدث في البلدان الأوروبية الشرقية الشيوعية، وإطلاق قدرات القطاع الخاص، ويدعو البلدان الثمانية الأوروبية المتقدمة إلى دعم وتمويل ما يسميه"مبادرة تمويل النمو" التي تقوم على مشاريع الإقراض الصغيرة وإنشاء "مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير" تقوم دول الثماني بالمساهمة في تمويله، وهدفه تمويل مشروعات التنمية في المنطقة، كما يدعو إلى إنشاء"بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير" على غرار البنك الأوروبي للإعمار والتنمية، لمساعدة الدول الراغبة في الإصلاح على توفير الاحتياجات الأولية للتنمية ( نشير إلى أن مشروع بيريز الذي أشرنا إليه أعلاه دعا إلى إنشاء بنك خاص بشمال إفريقيا والشرق الأوسط تقوم دول الخليج بتمويل القسط الأوفر فيه).
المشروع والخلافات الأوروبية ـ الأمريكية
كما سبق القول، لا يختلف المشروع الحالي لدمقرطة العالم العربي وتغييره عما طرحه مدير إدارة التخطيط في الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس في 4 ديسمبر 2002 حول"المزيد من الديمقراطية في العالم العربي"، ووزير الخارجية الأمريكي كولن باول في 12 ديسمبر 2002 بعده بأيام حول مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط، وما طرحه الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه يوم 6 نوفمبر 2003 أمام"الصندوق القومي للديمقراطية"، ولكن الجديد في المشروع الأخير هو أن الولايات المتحدة تريد تقسيم الأدوار بينها وبين الاتحاد الأوروبي والبلدان الصناعية الكبرى، عبر إيكال بعض الأدوار إليها، لا تتجاوز التمويل وبعض التقنيات التي لا تمس بجوهر المشروع، بمعنى أن الإدارة الأمريكية تريد لمخطط إصلاح العالم العربي أن يكون أمريكي الصنع أوروبي التسويق والتمويل.
إن واشنطن من خلال رغبتها في إشراك الأوروبيين في مشروعها، تريد أن تعطي دفعًا أكبر له وتأييدًا دوليًّا أوسع لأهدافه، وهي بذلك تحاول في نفس الوقت كسب أوروبا إلى جانبها بعد الفجوة التي اتسعت بينهما منذ ما قبل الحرب على العراق في أبريل من السنة الماضية، خاصة فرنسا وألمانيا، وأن تظهر للبلدان الأوروبية بأنها لا ترغب في أن تستحوذ لوحدها على المنطقة، ولكنها تمنح لها فرصة للمشاركة في تشكيل مستقبل بلدانها، من خلال الإحالة في إحدى الفقرات على مسلسل برشلونة الأوروبي ـ متوسطي لعام 1995، على الرغم من أن ما هو مخول لأوروبا لا يتجاوز الجوانب المالية والفنية، كما تفعل الولايات المتحدة دائمًا في منطقة الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني ـ الصهيوني، حيث تكون مبادرات التسوية السياسية أمريكية، وتمويل الإعمار والبناء أوروبيًّا.(29/42)
وقد وضعت ألمانيا في السابع من فبراير الماضي، بعد اطلاعها على المبادرة الأمريكية، مبادرة جديدة لتشكل نواة لمبادرة أوروبية أوسع تخص التغيير في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، وركزت المبادرة الألمانية على الاعتبارات الأمنية في المنطقة التي تشكل خطرًا على الأمن الأوروبي والأمريكي، وهو ما يوحي بأن هناك تقاربًا أمريكيًّا ـ أوروبيًّا قيد التبلور فيما يتعلق بمبادرات الإصلاح السياسي في العالم العربي. ويوم السبت الماضي، انطلقت في بروكسيل مناقشات فرنسية ـ ألمانية بمشاركة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا بشأن ورقة عمل تتعلق بالشراكة الاستراتيجية مع الشرق الأوسط، سوف تتم مناقشتها في إطار أوروبي أوسع، قصد وضع تصور أوروبي مشترك قبل انعقاد قمة البلدان الثمانية بين 8 و 10 يونيو القادم، والتي سيقوم فيها جورج بوش شخصيًّا بطرح مشروع "الشرق الأوسط الكبير" فيها، كما أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد سيدافع عن الجوانب الأمنية في المشروع في قمة دول حلف شمال الأطلسي التي ستنعقد يومي 28 و29 يونيو في استانبول بتركيا. غير أن الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة فرنسا وألمانيا، ما زلت متسعة فيما يخص هذه المبادر؛ فأوروبا ترى أن المطلوب أولاً إنهاء ملف الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي المسؤول عن توتر المنطقة، وطي الملف العراقي بزوال القوات الأمريكية وتفويض السلطة للعراقيين.
العرب أمام التحدي الجديد
رفضت بعض الدول العربية حتى الآن المشروع الأمريكي الداعي للتغيير السياسي والاقتصادي، بدعوى أنه يحاول الإتيان بالتغيير من الخارج وفرضه قسرًا على البلدان العربية، ووقعت الحكومتان السعودية والمصرية بيانًا رفضتا فيه الخطة لكونها مفروضة وتتجاهل الخصوصيات العربية، والتحقت سوريا بهما لاحقًا، لكن كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية كولن باول رد على هذه الاعتراضات بأن واشنطن" لن تقترح أبدًا خطة إصلاحات قادمة من الخارج"، وقال في الأسبوع الماضي في تصريحات له بأن كل ما تحاول الولايات المتحدة القيام به هو مساعدة هذه الدول على الإصلاح "بالطريقة التي يختارونها".
الإدارة الأمريكية أوفدت مبعوثًا خاصًّا إلى بعض الدول العربية هو مارك غروسمان وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، الذي بدأ جولة له في بلدان المغرب والمشرق العربي يوم الأحد الماضي بهدف طرح المبادرة الأمريكية على زعماء هذه الدول قبل انعقاد القمة العربية المقررة في العشرين من الشهر الجاري بتونس، وكانت بعض البلدان العربية قد أكدت بعد الاطلاع على الوثيقة الأمريكية بأن هذه الأخيرة يمكن أن تعرض للمناقشة في القمة إذا رغبت الدول العربية، ويبدو أن غرض جولة غروسمان هو فرض المشروع على القمة العربية لتتم مدارستها رسميًّا. وغروسمان هو المسؤول الأمريكي الثاني الذي يزور المنطقة العربية للترويج للمشروع، بعد الجولة التي قام بها ألان لارسون مساعد كاتب الدولة في الشؤون الاقتصادية والزراعية في الأسبوع الماضي.
هذه هي ديمقراطية الأنابيب الصناعية التي تريد الولايات المتحدة إنزالها من أعلى على بلدان العالم العربي وزرعها في جسمه، وهي تطرح تحديًّا جديًّا على العالم العربي والإسلامي الذي لم يعد يملك زمام أمره، وتفرض عليه بالتالي الاختيار بين نوعين من التغيير: التغيير من الداخل، أو التغيير القادم من الخارج والمفروض بالقوة والتهديد وربما بوسائل أكثر بشاعة. ويمكن القول إن هذه المشاريع الأمريكية المتعددة والمتوالية، وآخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير، قد رسخت لدى القيادات والنخبة العربية قناعة مفادها أن المنطقة قد أصبحت اليوم في مرمى الاستهداف الأمريكي والغربي، ولكنها أيضًا رسخت قناعة أخرى من الضروري التجاوب معها، وهي أن الإصلاح بات مطلبًا ضروريًّا، وأن تفادي المخاطر الخارجية ينطلق من الإنصات للدعوات الداخلية بالتغيير.
والواضح أن المشروع الأمريكي يكتسي الكثير من النفاق، فهو يتجاوز المشكلات الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني والاحتلال الصهيوني لفلسطين، وما يحدث في العراق يقدم الدليل حسب العديد من الملاحظين الأوروبيين على فشل الولايات المتحدة في إرساء الديمقراطية التي تنادي بها، علمًا بأنها تدّعي بأن العراق سيكون اللبنة الأولى في بناء الشرق الأوسط الجديد الذي تدعو إليه
==============(29/43)
(29/44)
العقلية الإسرائيلية.. كيف تفكر!
د. محمد مورو 6/2/1425
27/03/2004
من المهم بالطبع فهم طريقة التفكير الإسرائيلية، وفهم العقلية والوجدان الذي يحكم التصرفات الإسرائيلية، وبدهي أن العقلية والوجدان الإسرائيلي يتأثران بعاملين مهمين هما: العقلية والوجدان اليهودي، على أساس أن إسرائيل مشروع غربي استعماري يقوم على أكتاف اليهود.
وإذا كانت السمات الأساسية للعقلية والوجدان الغربي هي العنف والقهر والعدوان والعنصرية والعداء الصليبي للحضارة الإسلامية؛ فإن ذلك سيجد امتداداته الواضحة في السياسة الإسرائيلية، وإذا كانت العقلية والوجدان اليهودي -في مجمله وفي خطوطه العريضة- هي: العنصرية (شعب الله المختار)، الغدر ، الخيانة ، الخديعة ، المكر ، وعقلية الجيتو ، الجبن في القتال ... إلخ؛ فإن ذلك أيضًا يجد امتداداته في السياسة الإسرائيلية.
وبداية فإنه من الضروري هنا أن نتحرر من وهم اللحظة في الحكم على السمات العامة للعقلية والوجدان اليهوديين؛ دون أن نغفل -طبعًا- دراسة تلك اللحظة باعتبارها تكريسًا للعقلية التاريخية اليهودية، ونقصد هنا أن البعض عادة ما يتحدث عن العبقرية الصهيونية واليهودية والذكاء اليهودي ... إلخ، ولكننا نرى أنه مكر وليس ذكاء، بمعنى أنه يجيد فن التكتيك والمراوغة والمساومة، ولكنه مصاب بالعمى الاستراتيجي والغباء المستقبلي؛ ولعل من المفيد هنا أن نقول أن من المفهوم مثلاً -وهو خطأ وخطيئة طبعًا- أن ينكر إنسان وجود الله، ومن المفهوم مثلاً أن يؤمن إنسان بالله ثم يعصاه على أساس الضعف الإنساني (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولكن من غير المفهوم أن يؤمن إنسان بالله ويعرف حدود قدرته ثم يعانده، وهذا بالتحديد السمة الرئيسة لليهود، أليس هذا غباء استراتيجيًّا؟! إذًا علينا أن نتحرر من وهم العبقرية اليهودية والذكاء اليهودي، وأن نتعامل معهم على أساس أنهم مكارين ولكنهم أغبياء.
الجدار والنبوءة القرآنية
إحدى سمات العقلية اليهودية هي عقلية الجيتو، ولعل الجدار الذي تقيمه إسرائيل هو تكريس لعقلية الجيتو، والجدار هو في الحقيقة ثلاثة جدران:
الجدار الغربي: وهو شديد التلوي والتعرج بهدف التوغل داخل الضفة الغربية لإحاطة كل المستعمرات الإسرائيلية الكبرى في إطاره.
والثاني: هو جدار العمق الذي يتوغل داخل الضفة الغربية شرقًا لإحاطة مستعمرات أخرى وربطها بطرق التفافية وجدران فاصلة.
أما الجدار الثالث؛ فيقام على امتداد نهر الأردن بعمق 20 كيلو متر غربًا، أي بعمق الضفة الغربية، وهكذا فالجدار يستهدف إحاطة الكيان الصهيوني من كل جانب، وفي هذا الإطار تأتي خطة شارون للانسحاب من بعض المستعمرات التي لا يمكن للجدار أن يحيطها سواء في غزة ـ الأكثر ـ أو الضفة الغربية. عدد أقل ـ لتؤكد حقيقة الجيتو وحقيقة الخوف والجبن الصهيوني، والجدار يستهدف وضع الفلسطينيين في معازل أشبه بأقفاص الدجاج؛ ولذا يطلق عليه الكثيرون جدار الفصل العنصري، وهذا تكريس للعنصرية المستمدة من الأخلاق اليهودية والقيم الحضارية الغربية على حد سواء.
والجدار يتكون من عدد الاستحقاقات أو النطاقات الأمنية ويبلغ عرضه من 80 ـ 100 متر مكونة كالتالي: أسلاك شائكة لولبية، خندق بعرض أربعة أمتار وعمق خمسة أمتار يأتي مباشرة عقب الأسلاك، شارع مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض أربعة أمتار لكشف آثار المتسللين، جدار يعلوه سياج معدني إلكتروني بارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار مركبة عليه أجهزة إنذار إليكترونية وكاميرات أضواء كاشفة، وتوجد هذه المنشآت نفسها على جانبي الجدار، كما عمد الإسرائيليون إلى تثبيت رشاشات بالجدار ذات مناظير عبارة عن كاميرات تليفزيونية يمكن التحكم فيها من مواقع للمراقبة عن بعد.
ولعل هذه الاستحقاقات تؤكد أولاً الفشل الصهيوني في القضاء على المقاومة والانتفاضة الفلسطينية، وهو ما كان قد وعد به شارون عقب انتخابه، وضرب لذلك موعدًا هو ثلاثة أشهر، ومرت أكثر من ثلاث سنوات دون أن يحقق شارون وعده، وكذا فإن تلك الاستحقاقات تؤكد عقلية الجبن والخوف والفزع اليهودي، ومن ثم الإسرائيلي، وبناء الجدار في حد ذاته يؤكد ويحقق نبوءة قرآنية، يقول الله تعالى -وهو أصدق القائلين-: (لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر)، والقرى المحصنة هي المستعمرات الصهيونية وهي شديدة التحصين والحراسة، والجدر هي مجموعة الجدر المكونة للجدار!! ولعلنا هنا ننقل ملاحظة هامة عن الدكتور (عبد العاطي محمد عبد الجليل) الذي رصد أن كل الكتاب والسياسيين ووسائل الإعلام .. إلخ، استخدموا كلمة الجدار لوصف هذا الجدار الصهيوني، وكان يمكن مثلاً استخدام كلمة السور الواقي، أو الساتر أو الحائط أو غيرها من الأسماء، ولعل ما يؤكد ذلك أن الناس استخدموا مثلاً مصطلح سور الصين العظيم، سور برلين، خط ماجينو، خط سيجفريد، لوصف جدران عازلة أو خطوط دفاعية. والجدار فيه السمتان وهذا يؤكد النبوءة القرآنية.. والحمد لله رب العالمين.
الجدار يشتمل على ثلاث مراحل:(29/45)
المرحلة الأولى بطول 360 كم من قرية سالم أقصى شمال الضفة الغربية حتى بلدة كفر قاسم جنوبًا. والمرحلة الثانية تمتد 45 كم متر من قرية سالم حتى بلدة التياسير في غور الأردن. والمرحلة الثالثة من مستوطنة "إلكنا" حتى منطقة الفصل العنصري يستقطع 45% من أراضي الضفة الغربية وجزءًا كبيرًا من أراضي غزة. وقد بلغت المساحات الفلسطينية المصادرة حوالي 187 ألف دونم معظمها في محافظات جنين وقلقيلية والقدس، كما تم تدمير آلاف المباني والمنشآت وتشريد آلاف الأسر واستقطاع جزء كبير من المياه العذبة، أي أنه فساد في الأرض وهو خلق يهودي، وقيمة حضارية غربية طبعًا (ويسعون في الأرض فسادًا). وبدهي أن الفساد الصهيوني والغربي له آلاف الملامح والممارسات في فلسطين وخارجها وليس الجدار فقط.
ويجب هنا أن نلفت النظر إلى أن هذا الجدار لن يحمي إسرائيل في النهاية؛ لأن إرادة الجهاد لدى الفلسطينيين -بتوفيق الله تعالى- سوف تتغلب على كل العقبات كما تغلبت من قبل، وسوف تستمر المقاومة. وهذا يؤكد من جديد الغباء اليهودي الاستراتيجي. ومن الملفت للنظر هنا أن بناء الجدار وخطة الفصل العنصري تتعارض مع ما روج له الأمريكيون والإسرائيليون ودعاة السلام المزعوم والتطبيع من إمكانية دمج إسرائيل في المنطقة -الشرق الأوسط الكبير- وكل المشروعات المشابهة. والجدار أيضًا ينسف فكرة السلام وخارطة الطريق؛ بل وفكرة إمكانية قيام دولة فلسطينية في إطار حل الدولتين المزعوم. وهذا يؤكد الخداع والغدر الغربي والإسرائيلي.
خطة شارون
تقضي خطة شارون بالانسحاب من معظم غزة ومستعمراتها، وإخلاء بعض المستعمرات من الضفة الغربية، وهذه الخطة بالطبع تتعارض مع خارطة الطريق المزعومة، وهي حل من طرف واحد، ويتجلى فيها المكر الصهيوني (الذكاء التكتيكي) فالخطة تتخلص من غزة، أي تتخلص من المركز الرئيس للمقاومة، والثقل السكاني والأعباء الأمنية الكبيرة، وهو أمر إسرائيلي قديم وليس جديد، وقد قال رابين ذات يوم أنه عليه أن يصحو من النوم فيجد غزة قد غرقت في البحر، ويستهدف شارون أيضًا من تلك الخطة تكريس الاستيطان والاستيعاب للضفة الغربية والقدس، ثم إمكانية بناء جدار عازل حول إسرائيل "خطة الجدار" ومن ضمن المكر الصهيوني هنا هو المحاولات المستميتة لتسليم مسئولية غزة الأمنية إلى مصر، أي توريط مصر في حماية إسرائيل والعمل كشرطي لديها، وهو ما فشل فيه ياسر عرفات مسبقًا، ولكن الحكومة المصرية رفضت ذلك، ونرجو أن تستمر في هذا الرفض المبدئي. تقول صحيفة "معاريف" الإسرائيلية: "يعكف شارون على تحقيق لف غزة في ورق هدايا ثمين، ولا مانع أن يكون مزركشًا ومغريًا ليضعه تحت أقدام المصريين بعد سحب جميع قوات الجيش من هناك على أن تصبح مصر مسؤولة عن البركان النشط في غزة، وبذلك ينتقل صراع غزة المزمن من مكتب شارون إلى دوائر الحكومة المصرية التي يصبح لزامًا عليها بدلاً من شارون تحمل أعباء مواجهة حفر الأنفاق وتهريب السلاح والصواريخ والمواد المتفجرة والمتطوعين، وأن تدلف السلطات المصرية إلى غزة لتتعامل مع خطباء المساجد وصواريخ القسام ومدافع الهاون والشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي ونافذ عزام ومحمد الهندي.. كل هؤلاء ستتخلص منهم إسرائيل دفعة واحدة وتلقيهم في حجر المصريين.. صفقة رابحة بلا شكك؛ خاصة أن إسرائيل ستتحصن في تلك الأثناء خلف الجدار العازل وتلقي على مصر تبعات كل قذيفة هاون بالاتفاق مع أمريكا".
خطة شارون للانسحاب من مستعمرات غزة تحقق له الكثير من الأهداف التكتيكية، منها: التخلص من العبء الأمني المكلف اقتصاديًّا جدًّا -إحاطة الجدار بكل إسرائيل بعد التخلص مما هو خارجه، وهنا فإن خطة شارون تؤكد أخلاق الجيتو ونفسية العزلة والعنصرية ، التخلص من الصراع الديموجرافي ، توريط مصر، وغيرها من الأهداف ، ولكن في المقابل فإنه على المدى الاستراتيجي ؛ فإن هذا الانسحاب يؤكد أولاً أن المقاومة نجحت في إجبار شارون على التفكير في الانسحاب وهو ما يذكر بحالة جنوب لبنان.
وبدهي أنه لولا المقاومة والصراع الأمني في غزة لما فكر شارون في ذلك، وهذا يعني أن الأمل لا زال مفتوحًا أمام المزيد من المقاومة للمزيد من الانسحاب، وأن المقاومة وحدها وليست المفاوضات هي اللغة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل، ويجب ألا نغفل عن هذه الحقيقة، ونتصور أن شارون يفكر بمعزل عن تلك الحقيقة، وأن خطة شارون والجدار على المستوى الاستراتيجي ينسف فكرة دمج إسرائيل في المنطقة، وهذا يفيد لكشف زيف دعاة السلام والمطبعين وزيف وخداع مشروعات من أمثال الشرق الأوسطية والشرق الأوسط الكبير والمتوسطية...إلخ، وأن الحقيقة هي أن إسرائيل كيان غريب وجيتو عنصري في وسط عربي إسلامي لن يقبل بوجوده ، وسوف يلفظه بالمقاومة وليس بغيرها عاجلاً أم عاجلا
===========(29/46)
(29/47)
إنه كان منصورًا
د. سلمان بن فهد العودة 6/2/1425
27/03/2004
1 ـ ميلاده 1938م.
2 ـ 1949م ترك الدراسة ليعين أسرته المنكوبة عن طريق العمل في أحد مطاعم الفول في غزّة.
3 ـ 1952م أصيب بكسر في فقرات العنق أثناء اللعب مع بعض أقرانه ولم يخبر أحدًا من أسرته أن ذلك بسبب المصارعة مع أحد رفاقه (عبد الله الخطيب) خشية من حدوث مشكلات بين الأسرتين.
4 ـ إضافة إلى الشلل التام؛ ظل يعاني من ضعف شديد في البصر والتهاب مزمن في السمع وحساسية في الرئتين وأمراض والتهابات معوية.
5 ـ عمل مدرسًا للغة العربية والتربية الإسلامية وخطيبًا في مساجد غزة قوي الحجة جسورًا في الحق.
6 ـ اعتقل عام 1983م وحكم عليه بالسجن 13 سنة وأفرج عنه في عملية تبادل للأسرى عام 1985م.
7 ـ أسس حركة حماس بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 1987م وكان له دور مهم في الانتفاضة ومنذ ذلك الوقت صار يعتبر الزعيم الروحي للمقاومة الإسلامية.
8 ـ اعتقل عام 1989م، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة مضافاً إليه (15) خمسة عشر عاماً.
8 ـ أفرج عنه عام 1997م بموجب اتفاق بين الأردن والكيان الصهيوني.
10 ـ خلال انتفاضة الأقصى شاركت حركة حماس بزعامة الشيخ بفاعلية واقتدار.
11 ـ مع اعتراف السلطة الفلسطينية بأهمية المقاومة؛ إلا أنها فرضت الإقامة الجبرية على الشيخ أحمد ياسين أكثر من مرة.
12ـ حاولت سلطات الاحتلال اغتيال الشيخ عام 2003م.
13 ـ صباح مدينة غزة لم يكن عادياً هذا الاثنين 1/2/1425هـ
السماء تلبدت بالدخان!
والصمت يقطعه دوي القنابل!
آلاف الفلسطينيين هرعوا غير مصدقين نبأ استشهاد شيخ الانتفاضتين!
الشباب يبكون والأطفال يهتفون والمجاهدون يتوعدون والحزن يرتسم على الوجوه.
إلهامات
أ ـ الشهادة مَنْزِلَةٌ لا تنبغي إلا للخُلاصة من العباد الذين يختارهم الله على علم ولقد كان أهل الشيخ يتوقعون له وفاة طبيعية بسبب تفاقم المعاناة عليه في ذلك اليوم!
ويأبى الله إلا أن تتحقق أغلى أمانيه على يد ألد أعدائه.
فإن لا يكن حيًّا لدينا فإنه … …
لدى الله حيٌّ في الجنان مزوج
وقد نال في الدنيا سناء وصيتةً … …
وقام مقامًا لم يقمه مزلج
سلام وريحان وروح ورحمة … …
عليك وممدود من الظل سجسج
ولا برح القاع الذي أنت جاره … …
يرف عليه الأقحوان المفلج
ويا أسفي ألا ترد تحية … …
سوى أرج من طيب رمسك يأرج
وليس البكا أن تسفح العين إنما … …
أحر البكاءين البكاء المولج
عفاء على دار ظعنت لغيرها … …
فليس بها للصالحين معرج
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ"؛ فقد قال الصالحون من هذه الأمة كلمتهم, وشهدوا للشيخ بأنه عاش مجاهداً, ومات شهيداً بإذن الله, نحسبه كذلك والله حسيبه!
وقد أدى المسلمون في أنحاء الأرض عليه صلاة الغائب كما في الحرمين الشريفين وغيرهما.
ب ـ كان الشيخ إنساناً يعيش مشاعر الناس, ويشاركهم همومهم, وآلامهم, وأفراحهم, وأتراحهم ويقتسم معهم لقمة العيش, حتى غدا رمزاً للمواطن الفلسطيني, وليس فقط للمقاومة.
إن الفلاح والعامل والفقير ورب الأسرة والفتى والفتاة والإنسان البسيط؛ بحاجة إلى من يقف معهم ويستمع إليهم ويشاركهم همومهم ويفتح صدره لهم.
وإن قيم الإسلام مرتبطة بقيم الرجولة والإنسانية, وهو معنى كبير أن يصاب الشيخ بالشلل التام, ثم يتكتم على السبب حفاظاً على أجواء الودّ والعلاقة, وتفادياً للخلاف.
ولا أستطيع أن أتفهم تديناً حقيقياً يخلو من قيم الرجولة والإيثار والخلق الكريم.
ج ـ لم يعد أمام اليهود ما يخشونه، ولذا "فالخطوط الحمراء" لديهم كالأسطورة, وهم يمدون أيديهم بعنجهية واعتباط إلى حيث يريدون, ولا غرابة بعدما دخلت الأنظمة في دهاليز السلام المزيف, وشغلت بالحفاظ على وجودها, واكتفت بالإدانات التي لا تعدو ذر الرماد في العيون.
والأمر لا يتطلب معجزة؛ إنما يتطلب إرادة في الإصلاح, وتطبيعاً مع الشعوب, وتخندقاً معها.
يكفي أن نشعر جميعاً بأننا نعيش حالة من المهانة والذل والعجز, جرّأت علينا كل أحد, جعلتنا بدون تأثير ولا فاعلية!
د ـ إنني أقرأ في مقتل الشيخ -رحمه الله- كثيراً من معاني الأمل والتفاؤل والحيوية والصمود!
فما معنى أن يعكس كثير من الناس الآية؛ فيتحدثون بلغة التشاؤم واليأس والإحباط!
إنها مدرسة للتربية على العمل, ورفض المعاذير, وإلغاء التحجج بالعجز!
وهي ملحمة سطرها الشيخ وأبناؤه لم تدع لأحد عذراً, وهؤلاء المتشائمون إنما يعبرون عن انفصالهم عن روح الأمة وتاريخها وحاضرها ومستقبلها.
هـ ـ لقد تعود شعب فلسطين الصامد على المعاناة, وتكيّف مع ظروفها الصعبة ولأوائها, وأقسم على المُضي قدماً في الطريق مهما كانت التضحيات!
وها هو في المخيمات, وفي الملاجئ, وفي السجون الإسرائيلية, وفي السجن الكبير في الأراضي الفلسطينية, يُدوِّن دروس الصبر, والاعتماد على النفس بعد الله تعالى, وألا يذعن ولا ينتظر من الآخرين.
فلك الله من شعب صامد مبتلى؛ يعاني من قسوة الأعداء وخذلان الأصدقاء!!
حتى الإغاثة والإعانات الإنسانية لم يعد أهلك يجودون بها !!(29/48)
إنهم يخافون أن تلصق بهم تهمة الإرهاب!
و ـ أما السلام فعليه السلام!
فهو أحلام, وأوهام, ووثائق للاستسلام!
واللغة الفاعلة هي لغة القوة, والعلم, والوحدة لمن يحسن استخدامها, دون أن يعني هذا تغييب الرؤية السياسية, لكن متى كانت السياسة تعني الإذعان؟
ز ـ ويا أبناء الشهيد!
ويا شعب فلسطين الصابر!
الوحدة الوحدة!
وحذار أن تفلح جهود الأعداء في فتح ثغرة ولو صغرت في جدار الأخوّة والبناء المرصوص!
عدوكم محدد, وميدان المعركة واضح, والأدوات متنوعة, والطريق طويل, والنهاية محسومة (وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً)[ الإسراء:33].
أنتم منصورون ومظلومون؛ فلا تقتلوا إلا عدوكم الغاشم المحتل, واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.
=============(29/49)
(29/50)
حامد البيتاوي: خيار المقاومة هو الوحيد
حوار: بشار دراغمة 11/4/1425
30/05/2004
- الأداء السياسي فلسطينيًّا وعربيًّا سيئ، وليس على مستوى التضحيات.
- خطة فك الارتباط مصيرها الفشل كغيرها من الخطط.
- من يطالب بعدم عسكرة الانتفاضة يتاجر بالقضية الفلسطينية، ولا يمثل إلا نفسه.
- الموقف العربي الرسمي اتجاه القضية الفلسطينية مخز ومذل وأحيانا متآمر ومتواطئ.
الشيخ حامد البيتاوي، وصفه الصهاينة بأنه واحد من ثلاثة ممن يقودون حركة المقاومة الإسلامية حماس بالضفة الغربية، وهو أحد مؤسسي حركة الإخوان المسلمين في فلسطين، ورئيس رابطة علماء فلسطين، وخطيب المسجد الأقصى المبارك، وله العديد من المناصب الأخرى، أُبعد إلى مرج الزهور جنوب لبنان مع 415 فلسطيني كان من بينهم الدكتور الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، وعدد من قادة حماس، اُعتقل لدى الاحتلال عدة مرات، وكذلك اعتقلته السلطة الفلسطينية أثناء معاهدات السلام.
كان لشبكة (الإسلام اليوم) لقاء جريء مع الشيخ حامد البيتاوي وفيما يلي نص اللقاء.
الكل يعلم أن الشيخ أحمد ياسين هو من أبرز مؤسسي حركة الإخوان المسلمين، ما هو مصير هذه الحركة بعد رحيل الشيخ؟
مصير جماعة الإخوان المسلمين بعد استشهاد الشيخ القائد أحمد ياسين هو الاستمرار في نشاط الجماعة؛ بل ستزداد النشاطات والفعاليات، لأن هذه الجماعة ارتباطها بالفكر لا بالأشخاص، حتى وإن كانوا هؤلاء الأشخاص من أمثال الشيخ ياسين؛ فقد سبق وأن اغتال الإنجليز مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا، ورغم ذلك لم يضعف الإخوان، بل ازدادوا قوة وامتدادا، وبالتالي فإن الجماعة ستكون أقوى وأصلب بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين.
الاحتلال ركز في الآونة الأخيرة على اغتيال قادة المقاومة الفلسطينية، ومنهم الشيخ أحمد ياسين زعيم حركة حماس، والشيخ الدكتور عبد العزيز الرنتيسي قائد الحركة في قطاع غزة، هل باعتقادك هذه الاغتيالات تضعف المقاومة الفلسطينية كما يدعي الصهاينة؟
لا شك أن خسارة شعبنا كانت كبيرة بهذه الاغتيالات، إلا أن ذلك كله لن يضعف المقاومة الفلسطينية كما يدعي الصهاينة؛ لأن المقاومة والجهاد متجذران في شعبنا، وسبق أن اغتال الاحتلال قادة في حركة حماس وغيرها مثل إسماعيل أبو شنب والجمالين "جمال منصور وجمال سليم" ويحيى عياش وصلاح شحادة، ورغم ذلك كله استمرت المقاومة.
كيف تقرأ مستقبل المقاومة الفلسطينية؟
أنا متفائل من مستقبلها رغم التضحيات الجسيمة، التي قدمها شعبنا والمتمثلة، بقوافل الشهداء، الذين زاد عددهم عن أربعة آلاف شهيد وأكثر من خمسين ألف جريح، وعشرات الآلاف المعتقلين، ومثلهم بيوت مهدمة، والحصار والتجويع والتشريد، رغم ذلك كله إلا أن شعبنا لم يتعب من المقاومة، وما حدث في قطاع غزة من تدمير للدبابات الصهيونية في الآونة الأخيرة، والتي قتل خلالها 13 صهيونيًّا، هو دليل كاف على ما قلت.
هذا بالإضافة إلى أن المقاومة كبدت الصهاينة في انتفاضة الأقصى خسائر فادحة، حيث بلغ عدد القتلى في صفوفهم أكثر من ألف قتيل بين جندي ومستوطن ومدني، وأكثر من عشرة آلاف جريح، وكذلك خسائر اقتصادية بلغت مليارات الدولارات، إضافة إلى حالة الهلع والخوف التي أحدثتها الانتفاضة في صفوف الصهاينة.
لكن نقطة الضعف في المقاومة الفلسطينية هي أن الأداء السياسي فلسطينيًّا وعربيًّا هو أداء سيئ، وليس على مستوى تضحيات الشعب الفلسطيني.
حزب الليكود الصهيوني صوّت مؤخرًا ضد خطة فك الارتباط، هل كانت تلك الخطة لصالح الشعب الفلسطيني، ولذلك صوّت الليكود ضدها؟
ما طرحه المجرم الإرهابي شارون، في الآونة الأخيرة من خطط لفك الارتباط، لا يوجد به شيء لصالح شعبنا؛ بل هو لصالح العدو الصهيوني، ومصيرها الفشل كغيرها من الخطط.
بعد اغتيال الشيخ ياسين أصدر مجموعة من المثقفين والسياسيين بيانًا طالبت فيه حركة حماس والفصائل الفلسطينية بعدم الرد على جريمة الاغتيال، وأن تحول الانتفاضة إلى ثورة شعبية، بعيدة عن العمل العسكري، ما هو تعليقك على ذلك؟.
اللذين طالبوا بعدم عسكرة الانتفاضة لا يمثلون إلا أنفسهم، وهو جزء ممن يتاجرون بالقضية الفلسطينية، آثروا الفنادق على اللجوء إلى الخنادق، وهم طلاب دنيا وكما قال الشاعر:
السيف أصدق أنباء من الكتب … …
في حده الحد بين الجد واللعب
وقال أيضا:
وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة … …
شبا الحرب خير من قبول المظالم
إن خيار المقاومة هو الخيار الوحيد لطرد المحتلين، وعودة اللاجئين، خاصة بعد أن ثبت فشل المفاوضات، والاتفاقيات السلمية الهزيلة، التي وقعتها السلطة مع العدو الغاصب، ومضى عليها أكثر من عشر سنوات، وبالتالي فإن غالبية أبناء شعبنا مع المقاومة المسلحة، لا مع من يطالبون بعدم عسكرة الانتفاضة.
استهداف الاحتلال لمؤسسات إعلامية إسلامية، مثل قصف مقر صحيفة الرسالة وإذاعة الأقصى التابعتين لحركة حماس؛ فهل برأيك مجرد الرسالة الإعلامية، كانت تغضب الصهاينة، وهل كانت صحيفة الرسالة وإذاعة الأقصى ذات تأثير كبير يدفع الاحتلال لضربهما؟.(29/51)
إن ما أراده الاحتلال من هذا العدوان على صحيفة الرسالة وإذاعة الأقصى هو طمس الحقائق، التي تظهر جرائم الصهاينة، التي لم تستثن البشر والحجر والشجر، والأحياء والأموات، وطالت المساجد، خاصة المسجد الأقصى، والمدارس والمستشفيات.
في ظل العدوان الشرس على حركات المقاومة الفلسطينية، خاصة الإسلامية منها، هل يمكن أن يحولها ذلك، إلى حركات سرية؟
كل ما يقوم به الصهاينة من جرائم ضد حركات المقاومة الفلسطينية لا يمكن أن يحولها إلى حركات سرية، وإن كانت السرية في العمل العسكري والتنظيمي مطلوبة.
ما هو رأيك في الموقفين العربي والإسلامي اتجاه القضية الفلسطينية؟
الموقف العربي والإسلامي الرسمي اتجاه القضية الفلسطينية مخزٍ ومذل ويدمي القلوب لأنه موقف متفرج؛ بل أحيانا موقف المتواطئ والمتآمر على شعبنا وقضيتنا، وسوف يسجل التاريخ هذا الموقف المخزي في صفحات سوداء.
فكثير من الدول العربية تقيم علاقات تطبيع مع العدو سياسيًّا، واقتصاديًّا وإعلاميًّا وأمنيًّا؛ بل بعضها يقيم حلفًا مع العدو الصهيوني ويصدق فيهم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " إذا لم تستح فافعل ما شئت".
ولا أدري بأي وجه سيواجه هؤلاء رب العالمين يوم القيامة.
أما عن موقف الشعوب في العالمين العربي والإسلامي؛ فهو موقف داعم لشعبنا وقضيتنا، ويتمثل ذلك بالمظاهرات والمسيرات وجمع التبرعات المادية والعينية، وإن كان هذه الدعم لا يصل إلى الحد المطلوب، فإننا نشكرهم على هذا التأييد، وكما قال عليه الصلاة والسلام: " من لا يشكر الناس لا يشكر الله".
الحفريات التي يقوم بها الصهاينة في منطقة الحرم القدسي الشريف ما هي خطورتها على المسجد الأقصى، وكيف يمكن مواجهتها؟
كل ما يقوم به الصهاينة من حفريات تشكل خطورة بالغة على المسجد الأقصى، فالأقصى تعرض وما يزال يتعرض لجرائم العدو الصهيوني والتي تمثلت سابقًا في حرق المسجد ومنبره، ومحرابه وقبته، وكذلك حفر الأنفاق، وارتكاب المجازر ضد المصلين، واستشهاد وجرح المئات، وكذلك تمثل العدوان بمنع المصلين من دخول المسجد للصلاة فيه. فالمسجد الأقصى في خطر.
الاحتلال وصف الشيخ حامد البيتاوي بأنه أحد ثلاثة ممن يقودون حركة المقاومة الإسلامية حماس في الضفة الغربية.. ما هو ردك على هذا التصريح الصهيوني؟
هذا ادعاء باطل، فأنا أعمل في جهاز القضاء الشرعي، ورئيس لرابطة علماء فلسطين، وأحد خطباء المسجد الأقصى، ونائب رئيس لجنة زكاة نابلس، وعضو في جمعيات خيرية لبناء المساجد، وأحد دعاة الإسلام، وواجبي الديني والوطني يفرض علي أن أحرض ضد العدو الصهيوني امتثالاً لقول الله تعالى " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال".
وتهديدات الاحتلال لن تخيفني، فالأجل عند الله عز وجل، وأنا كغيري مشروع شهادة، وسبق أن سجنت، واعتقل خمسة من أولادي الستة، وأُبعدت إلى مرج الزهور بجنوب لبنان، وفُرضت علي الإقامة الجبرية عدة مرات، ولعدة سنوات لم يسمح لي بمغادرة مدينة نابلس، كما أنني ممنوع من السفر منذ ربع قرن، وبالتالي كل جرائمهم ضدي وضد شعبنا لن توهن من عزائمنا، ولن نتوقف عن جهادنا ضدهم، وأنا واثق أن المستقبل للإسلام وسينتصر شعبنا على المحتلين بإذن الله تعالى. " ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا".
=============(29/52)
(29/53)
العملُ الخيريّ بين التّشريع والتّطبيع
د. محمد بن عبدالله السلومي 18/5/1425
06/07/2004
ـ ورد في سُنَن النّسائي وغيره : عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: (سبق درهم مائةَ ألفِ درهم ! ) قالوا يا رسول الله : وكيف ؟ ! قال : ( رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدّق به ، ورجل له مالٌ كثيرٌ ، فأخذ من عُرض ماله مائة ألف ، فتصدّق بها ) .
حيث هنا تتأكّد أهميّة المشاركة بالدّرهم وأنّه يسبق أحياناً مائة ألف درهم .
ـ وورد في سنن أبي داود : قوله صلى الله عليه وسلم ( أفضل الصّدقة جُهْدُ المُقِل ، وابدأ بمن تَعُول )
ـ وورد في سنن الترمذي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( مَنْ دلّ على خير فله مثل أجر فاعله أو قال عامله ) .
ـ كما ورد في صحيح الجامع ( البيهقي وابن أبي الدّنيا) :
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( أفضل الأعمال أنْ تُدخل على أخيك المؤمن سرورًا ، أو تقضي عنه ديناً ، أو تطعمه خبزاً ) .
هذه الأحاديث وغيرها كثير تؤكد أنّ أعمال الخير والبرّ في ديننا الإسلاميّ تقوم على التنوّع والتعدّد في الوسائل والغايات ، كما تقوم على إشراك وتجييش كلّ الأمّة صغيرها وكبيرها ذَكَرها وأُنْثاها ، بل تقوم على مشاركة الفقراء ليس من خلال احتياجهم ولكن من خلال عطائهم الماديّ اليسير ومشاركتهم المعنويّة ، كما أنّ الذي لا يجد من الخير الماديّ شيئاً فإنّ عليه أن يُشارك في الدّلالة عليه : ( من دلّ على خير فله مثلُ أجر فاعله ) وإذا كان هذا هو الحال فإنّ هذا له متطلباته في المجتمع المسلم من ميلاد كل أنواع المؤسّسات والجمعّيات الخيريّة التي تُعنى حتى بإدخال السّرور على كل مسلم ومسلمة .
وهي دعوة إلى إيجاد كل ما يحقّق الخيريّة لأمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - من مراكز التّدريب والتّطوير والإسعافات، بل ومراكز التّرفيه النّظيف والمُؤسّسات المتخصّصة في معالجة كل جوانب الفقر، وليس فقط فقر الغذاء والدواء، بل فقر العلم والمعرفة وفقر الصّناعة والتّقنية الذي هو من القوّة المطلوبة للأمّة الإسلاميّة .
إنّ هذه الأحاديث وغيرها تؤكد على مشاركة المُقِلِّين والمعسرين وهذا يؤكد على أهميّة تواجد وزيادة أعداد صناديق التبرعات في كل مسجد ومدرسة وسوق لاستيعاب كل جهد مُقِل وكل صاحب درهم، وتكون المشاركة حتى باليسير ومتاحاً للصغار والطلاب والفقراء ، فقد يكون الطرف المُعْطِي أحوج للخير والمشاركة من الطرف الآخذ, وهذا ما تعمل به جميع الأمم والدول حتى في الفنادق والطائرات والمطارات ودور العبادة بل وعلى الشبكات المعلوماتيّة وفي القنوات الفضائيّة كحق قانوني للمُعطي والآخذ والخطأ المحتمل هناك يُصحّح ويُعالج.
وحينما نأخذ بمبادئ السيرة النبويّة ونعمل بالسّنة النبويّة فإنّ القطاع الخيريّ في الإسلام قد يصل من حيث الموارد الماليّة وتلبية احتياج حقوق الإنسان إلى أن يكون هو القطاع الأول من قطاعات التنمية الرّئيسة الثلاثة للدولة ( القطاع الحكوميّ والقطاع التجاريّ الخاص والقطاع الخيريّ ) وذلك من حيث الترتيب ؛ لأنّ الحضارة الإسلاميّة عبر التاريخ نتاج هذا القطاع حتى كان موقعه الإداريّ والتنمويّ قبل القطاع الحكوميّ والقطاع التجاريّ . وقد تمّ تغييب القطاع الخيريّ الإسلاميّ من موقعه الإداري والاعتباري في دول العالم العربي منذ عام 1224هـ زمن "محمد علي باشا" حينما أمّم العمل الخيري بتأميم الأوقاف والمساجد وأنظمتها وذلك بمشورة بعض الخبراء الفرنسيين وأصبحت الأعمال الخيرية من مسؤولية الدولة مع أنها حق للأمّة على الأمّة لتتفرّغ الدّولة للأمن الداخلي والخارجي. وبهذا التأميم والتّرسيم أُعطيت الأعمال الخيريّة فضول المواقع الإدارية، والأوقات والأموال لتعطي فضول النتائج بل وأصبح هذا القطاع بغياب مفاهيمه الإدارية والمؤسّسية الصحيحة التي تعطيه الصّفة الاعتباريّة والاستقلاليّة غائب عن الشّراكة في عمليّات التّنمية منذ ذلك الوقت . وحينما بدأت المؤسّسات الخيريّة الإسلاميّة في العالم أجمع لاستعادة شيء من هذه المكانة، وهي لازالت وليدة وفي طور الحضانة ماديّاً وإداريّاً كانت ( دعاوى الإرهاب ) جاهزة ومُعلّبة للإجهاز عليها .
ويكفي أنْ نعلم أن هذا القطاع في دول الشمال قد تم تطبيعه في كل مجالات الدولة والأمّة من دراسات وأبحاث ومناهج وجامعات وتطوّع وتبرّعات وبكل الوسائل, كما أنّ لهذا القطاع مُسَمّيات في ظلّ الإدارة الحديثة لأيّ دولة من الدول المتقدّمة مادياً، ولكل اسم دِلالات معيّنة وهامّة ومنها :
1- القِطاع المستقل ( Independent Secto r ) ويُرمز له ( IS )
2- قِطاع المنظّمات غير الحكومية : ( Non Gove r nment O r ganization ) ويُرمز له : ( NGO )
3- قِطاع المنظّمات غير الربحيّة ( Non P r ofit O r ganization ) ويُرمز له (NPO )
4- القِطاع الخيريّ ( Cha r itable Secto r ) ويُسمّى كذلك (Philanth r opy Secto r ) كتخصّص دقيق .(29/54)
إن الإدارة الحديثة للدولة والتي تعمل بها أمريكا ودول أوروبا وكثير من دول آسيا وبشكل عام كما يقال "دُول الشمال" كلها تعمل بمفهوم القطاع الثالث كقطاع شريك للقطاعين الآخريْن في عمليّات التّنمية , فيكون للقطاع الخيريّ جامعاته ومراكز بحوثه ودراساته ومستشفياته وشركاته الاستثمارية ومدارسه ليقوم بمساندة القطاع الحكوميّ وسدّ ثغراته, كما يقوم بالحد من جشع وطمع القطاع الخاص التجاريّ " كعملية توازن " والعمل وفق هذه الحقيقة الإداريّة هو الذي تطبقه الإدارة الحديثة للدولة في معظم دول العالم وهو التطبيع الذي تعمل به تلك الدول، كما أنّه لا يخرج عما رسمته السّيرة النبويّة وشرَّعته السّنة النّبويّة بدون تعسّف في فهم النصوص الواردة في هذا الشّأن، بل وكان العمل به عبر القرون السّابقة كما سبق.
============(29/55)
(29/56)
قمة رايس للعرب المعتدلين
ياسر الزعاترة 8/9/1427
01/10/2006
بحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية عدد يوم الخميس الماضي، فإن وزيرة الخارجية الأمريكية رايس ستعقد خلال جولتها الشرق أوسطية الجديدة قمة تجمع الزعماء العرب المعتدلين، وأقله وزراء الخارجية، وستحاول خلالها التوصل إلى تفاهم بشأن الملف النووي الإيراني، إلى جانب تفاهم آخر بشأن سبل التقدم في الملف الفلسطيني.
هكذا تستثمر الولايات المتحدة المخاوف العربية من التمدد الإيراني، وبالطبع في سياق سعيها لترتيب أوراقها الشرق أوسطية بعد الفشل المزمن في العراق والتصعيد المتواصل في أفغانستان، مع العلم أن الأجندة الأمريكية في المنطقة لا تزال على حالها منذ أعوام؛ إسرائيلية الوجه واليد واللسان.
لا خلاف على وجود مخاوف عربية من المشروع الإيراني، وهو مشروع يصعب حصره في الملف النووي، إذ يشمل مخاوف التمدد السياسي عبر لبنان وفلسطين، وعبر الأقليات الشيعية في منطقة الخليج بعد النجاح في تحقيق نفوذ هائل في الملف العراقي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يأتي العرب المعتدلون إلى قمة رايس من أجل ذات الأهداف المتعلقة بمخاوف التمدد الإيراني، أم يأتي بعضهم خضوعاً للأجندة الأمريكية من أجل تمرير سياسات داخلية، مع العلم أن السلطة الفلسطينية بقيادتها الحالية لا تزال عنصراً أساسياً في تيار الاعتدال العربي، وهي معنية بالضرورة بهم داخلي عنوانه التخلص من حكومة حماس بأقل الأضرار الممكنة، وبالطبع تبعاً لحرصها، خلافاً للآخرين، على قوة شعبية تضاف إلى القوة الأمنية والعسكرية، وهو بالضبط ما يدفعها إلى استدراج حماس إلى خطاب يشوهها قبل الإطاحة بها.
من الواضح أن الثمن السياسي الأولي لهذا الحراك السياسي قد دفع ممثلاً في تلك اللقاءات المتوالية مع الإسرائيليين، لاسيما من أطراف لم يسبق لها أن فعلت ذلك، أو لم يسجل عليها تطبيع مع الدولة العبرية، لكن هذه الموجة من التطبيع لن تتوقف بحسب أدق التقديرات، ومعلوم أن هذا اللون من السلوك السياسي يشجع بعضه بعضاً، ما يعني أن أخبار مثل هذه اللقاءات ستتوالى خلال الأسابيع والشهور المقبلة.
تبدو المشكلة في هذا السياق في جملة الأسئلة التي لا يجيب عليها هذا التيار في العمل السياسي العربي، وهي أسئلة تصيب الحاضر والمستقبل في آن، ولعل أبرزها هو المنطق القائم على الهروب من البرنامج الأمريكي الصهيوني لإعادة تشكيل المنطقة من خلال التحالف مع سادة هذا البرنامج ضد إيران.
ترى هل يسأل هذا التيار العربي عن حقيقة ما يجري في العراق وعن برنامج التقسيم الذي يمضي حثيثاً هناك، وكيف سيصب ذلك في صالح برنامج التصدي للمشروع الإيراني، وهل يسألون عن البرنامج الإسرائيلي للتسوية، وما الذي تغير فيه منذ كامب ديفيد2، وهل يسألون عن المخطط القائم في السودان وإلى أين يمضي. وهل يسألون عن معنى الشرق الأوسط الجديد وحقائقه القادمة على الأرض؟!
في المقابل، ماذا لو تفاهمت إيران مع الولايات المتحدة وقدمت ثمناً أفضل؟ أليس هذا هو السؤال الذي طالما طرحوه من أجل تبرير تسابقهم على الحضن الأمريكي، مع أننا نستبعد هذا الخيار لأن التعامل مع دول صغيرة مفككة أفضل بكثير من التعامل مع دولة كبيرة لها مطالبها وطموحاتها.
ثم ماذا لو ثبت انفصال شيعة العراق أو بعضهم عن البرنامج الإيراني، وصاغ هؤلاء صفقتهم مع الأمريكان بطريقتهم الخاصة؟ ألن يؤثر هذا على نظرائهم في الخليج وسلوكهم السياسي، وما الذي سيمنع استثمارهم في إثارة القلاقل وانتزاع التنازلات على مختلف الأصعدة؟
ليس ثمة إجابات واضحة على أي من هذه الأسئلة، فهنا ثمة أقوام يديرون سياستهم تحت وطأة الخوف على الذات وليس على الأوطان والشعوب، ولو كان الأمر خلاف ذلك لكان المسار مختلفاً إلى حد كبير، إذ ليس من المعقول أن نهرب من مشروع محسوم العداء وواضح البرنامج إلى آخر أقل قوة بكثير، وهو برسم التشكل ويمكن التعايش أو التفاهم معه بشكل من الأشكال.
==========(29/57)
(29/58)
الاختلاط المنهى عنه
هو الاختلاط المقصود منه تطبيع العلاقة بين الشاب والفتاة
وليد الحارثي - الإسلام اليوم 6/2/1428
24/02/2007
حمّل فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم "وسائل الإعلام والمجتمع مسؤولية النظرة الخاطئة عند الشباب عن الزواج" وقال أن "تأخر الشاب عن الزواج دون سبب هو خطأ، وفي السن التي يكون فيها الشاب في الجامعة يكون في ذروة الثورة الجنسية فيتأخر وهو يعتقد أنه حراً، ويمضي حياته في علاقاته، فيخسر شعوره بالعفاف، ويخسر شعوره بالنظافة" متسائلاً: "هل صحيح أن نقر في مجتمعاتنا أن الشاب قبل أن يتزوج يسافر للخارج ويقيم علاقات مع الشابات، حتى الفتيات لديهن هذا المعنى بحيث يكون لديهن صديق أو "خوي" كما تسميه البعض منهن، مؤكداً أن الأخطاء السابقة للشباب أو الشابات قد تكون سبب عدم توفيق في الزواج، والحقيقة أن بعض الشباب في مجتمعنا من الذين يستمتعون في فترة شبابهم، ويعتبرون الزواج مشروع مؤجل، والذي اقصده بعدم التوفيق أن الذكريات تبقى تؤلمهم وتنغص عليهم عيشهم، لكن باب التوبة مفتوح والله يتوب على من تاب عليه".
وجوب الزواج وجوب عام
وأوضح العودة استدراكاً على ما قاله الأسبوع الماضي في برنامجه الأسبوعي (الحياة كلمة): الزواج (واجب) نقصد به وجوبه العام، لكنه ليس واجباً على الأعيان، لأنه يكون على بعض الأشخاص (مستحب)، والبعض الآخر (مباحاً)، ويكون على آخرين (مكروهاً) بل قد يكون (محرماً) وقد يكون للبعض عدم رغبة في ذلك لأي سبب نفسياً أو جسدياً أو عائلياً..
وأضاف الشيخ سلمان: "أن هناك اعتقاد بأن الشاب كلما كبر كلما ازداد عقلاً، الزواج نعم يعقل الشاب، لكن أيضاً لا ينبغي أن تُغش الفتاة بتزويجها لشاب طائش أو لم ينضج بعد، ويجب أن يكون هناك قدر من الوضوح المعتدل في اختيار الشاب أو الشابة، وألا ينصبّ الاهتمام على الأمور الصغيرة التي لا يجب أن يُهتم بها".
البديل الزواج من خارج العائلة
وبيّن العودة في (الحياة كلمة) أن: "الاختلاط المنهى عنه والذي يجب أن يحذر منه هو الاختلاط المقصود منه تطبيع الاختلاط أو العلاقة بين الشاب والفتاة بدون أي قيود أو ضوابط، ولا بأس بالاختلاط في أوساط الأسر إذا كان هذا الاختلاط مقننا وملتزماً بضوابط الشرع مع الاحتشام والمحافظة وبغير ريبة، وهذا هو الأمر الذي كانت عليه الأوضاع وقت الرسالة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا حاصل الآن في بعض البيوت المحافظة كأن يزوج الأب أبنائه ويعيشوا في منزل واحد باحتشام وضابط شرعي يمنع الاختلاط المحرم".
متسائلاً عن سبب المنع لوجود الفتاة الطبيبة، وتوجه فتياتنا لكليات الطب ما المانع منه قائلاً: "ما المانع من ذلك؟ ولماذا لا يكون هناك نوع من بعد النظر، وإعادة التأمل في تطبيع التمريض والطب، وأن يكون هناك رفع لوعي الأسر والناس بمثل هذه الأمور، وفي حالات القبائل التي تمنع تزويج أبنائها بفتيات طبيبات أو يعملن في مجال التمريض يكون البديل للفتيات اللاتي يدفعن ثمن هذا المنع أن تتزوج الفتاة من خارج العائلة".
مؤسسات الزواج وتكاتف رجال الأعمال
وقال العودة معلقاً على أهمية دور جمعيات الزواج أو لجان مساعدة الشباب على الزواج: "لا زال الأمر يتطلب المزيد من اندماج رجال الأعمال مع مؤسسات الزواج بالدعم المادي، وألا يقتصر دعم هذه المؤسسات على الدعم المادي، بل لا بد أن يقوموا بإعطاء دورات للفتيات والشباب، كأن تشارك في عملية الربط بين الفتيات والشباب، وحل مشكلاتهن، أثناء الزواج. وفي الحقيقة أن توجه أولياء الأمور لمثل هذه المؤسسات ورجال الأعمال وكذلك أهل الفكر والرأي وقادة المجتمع والذين يتوجهون لمثل هذه المشروعات أمر عظيم ينبغي علينا جميعاً أن نتكاتف فيه".
ونبه العودة في حديثه إلى أن "الجمعيات الموجودة في السعودية تساعد السعوديين فقط. وهذا لا غبار عليه، لكن هناك من يعيشون بيننا من غير السعوديين فلماذا لا يكون لهم مجال في ذلك والمعروف أن كلفة زواجهم أقل بكثير من السعوديين، وأن الجمعيات التي تعالج هذه المسألة وتساعد على الزواج كلها رجالية، ولا يوجد جمعيات أو مؤسسات نسائية تعالج موضوع الزواج وتهتم به وهذه ضرورة ينبغي الالتفات لها، وأعتقد أن فكرة "منحة الزواج" والتي تطبقها بعض دول الخليج فكرة جميلة وأتمنى أن تعمم في بلاد الخليج ولو أقيمت مؤسسة للزواج تتبنى هذا المشروع ودعوة إلى تسريع هذا الأمر".
نحتاج أساليب تعرف على الفتيات
وأكد فضيلة الدكتور على حاجتنا "لوسائل وأساليب وفرص وإمكانيات يتعرف من خلالها على الفتيات وتتعارف الأسر فيما بينها، وأنه إذا استشعرنا أن مشكلة عويصة تواجهنا وأن هناك مشكلة بالبيت إما طلاق أو عضل أو عدم فهم للفتاة فإن ذلك يقودنا للاهتمام، وأن الزواج كمؤسسة من أهم المؤسسات التي تقوم على حفظ أخلاقيات الناس، والعصمة وحفظ المجتمع".(29/59)
وقال العودة أن "الخطوة لمعالجة البطالة لن تكون خطوة شخصية وإنما خطوة مجتمعية، وأنظمة في الدولة، وتحرك من الشباب أيضاً، وينبغي أن تكون هناك خطة وطنية في كل بلد لحل مشكلة البطالة وتهيئة فرص العمل للشباب حتى يستطيعوا أن يقدموا على الزواج" مؤكداً أن "بعض الذين يتولون عملية الاستشارات الزواجية غير مأمونين وصادقين، بل يزيدون المرأة إعراضاً عن الزواج بدل تقريبها من زوجها".
على المرأة أن تتجمل لزوجها
وخالف الشيخ من يضيق على المرأة في تجملها، وقال: "في بعض الحالات هناك من يضيق على الزوجة في قص شعرها وتجميل نفسها لزوجها، وينبغي أن تراعي المرأة زوجها وتتجمل له في وجهها وفي شعرها، وأعتقد أن جمال الروح، الابتسامة، الصبر ، القناعة تجعل الرجل يشعر بأن كل الأشياء في المرأة جمال، وبعض الأحيان تكون المرأة أمام الرجل "ملكة جمال" وذلك بالمقاييس المعروفة، لكنه يكرهها ولا يشعر بشيء تجاهها". مشيراً إلى أن "كثرة المغالاة في تكاليف الزواج من أسباب المشكلات بعد الزواج، ويشعر الزوج بأن المرأة يجب أن تكون مثالية لأنها كلفته الكثير".
=============(29/60)
(29/61)
هل يُصبح الخليج بوابة للمشروع الصهيوني؟!
مهنا الحبيل 19/4/1428
06/05/2007
انفرط العقد سريعاً، وهذه المرة من حدود فلسطين المحتلة، ومن الأردن تحديداً خصوصاً عن تفعيل قرارات كسر الحصار عن الشعب الفلسطيني وحكومة الوحدة الوطنية بعد أن قدمت قيادة الشعب الفلسطيني الممثلة بحركة المقاومة الإسلامية حماس كل التضحيات لتفويت الفرصة على الأعداء، وتشكيل حكومة وحدة تسعى لكسر الحصار، وأُنجز اتفاق مكة وبقي أن يُطبق على الأرض لكن عاهل الأردن اختار طريقاً آخر هو كسر الحصار عن أولمرت رئيس وزراء الكيان الصهيوني المحاصر، ولكن ليس من القوى الدولية وليس من النظام الرسمي العربي، وإنما المحاصر من فشله في إخضاع إرادة الشعب العربي في فلسطين لبرنامجه المدعوم من واشنطن.
ولم يكتف العاهل الأردني في هذه المبادرة نحو الكيان الصهيوني بالتطبيع المباشر، ولكن بدأ بتسويق قضايا خطيرة تدفع بالتطبيع نحو جعله أمراً واقعاً ويساوم فيه على حق عودة اللاجئين، بمعنى آخر إعادة الحياة للمشروع الصهيوني الذي تبنته الولايات المتحدة بعد مؤتمر مدريد ولكن بنسخة أسوأ.
ومع هذا الكرم من بعض أعمدة النظام الرسمي العربي إلاّ أن هذا الضخ الإعلامي المتنامي ليس كافياً على الإطلاق لهم؛ فهناك دلالات متزايدة على الأرض بأن الحركة الصهيونية العالمية في تل أبيب و نيويورك تسعى لتعجيل تدشين عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني في الخليج تحديداً، مستغلة مشاعر العداء الذي يحمله الشارع العربي الإسلامي في الخليج والشام للنظام الصفوي في طهران بعد ما فعله في العراق شراكة مع الأمريكيين أو استقلالاً بتقسيم الشارع الوطني في العمق العربي وبعث فتنة مذهبية وسياسية وعسكرية فيه.
ولكن ذلك لعمر الله عذر أقبح من الذنب، ووهم يظن بعض الساسة في الخليج بأنهم حين يفتحون الباب على مصراعيه للكيان الصهيوني سينجيهم ذلك من الخطر الإيراني الزاحف على إقليمهم، والحقيقة أنه يقربهم من حتفهم كرؤية إستراتيجية، وليس فقط كموقف مبدئي يؤمن به أبناء التيار العربي الإسلامي في الخليج المستقل عن واشنطن وطهران.
إن مواجهة أي تقلبات أو انفلات للأحداث خلال أو بعد ضربة الولايات المتحدة لإيران المحتملة إن وُجّهت فعلاً يستدعي حالة قوية من التفاهم الشعبي الرسمي وتأمين مستوى عال من الاستقرار الوطني يقوم على الحياد الحقيقي، مع التضامن الطبيعي مع الشعب الإيراني المسلم، وهو ما سيجعل هذا التطبيع مع الكيان الصهيوني و تسخير الجغرافيا الخليجية للعمل العسكري الأمريكي وسيلتي تفجير للمنطقة تؤدي إلى اضطراب لا يمكن السيطرة عليه في حال اندلاع مواجهات أو استهداف أهداف إستراتيجية لواشنطن في الخليج، سواءً كان ذلك عبر فصائل الثورة الإيرانية كردة فعل طبيعية لحماية الوطن الأم لهم أو دخول القاعدة كطرف مباشر على الميدان العسكري أو الإستراتيجي للمنطقة، وهو ما سنفصله في مقال آخر، لكن ما يعنينا هنا بأن اضطراب المنطقة أمر محتمل جداً في حالة التطورات الحالية التي تلي الانهيار الكامل للمشروع الأمريكي للعراق.
إن استفزاز الشعب العربي في الخليج والمراهنة على موقفه من عدوان النظام الإيراني على الأمة وهم لا يصمد أبداً أمام الوعي المتجذر والمدرك لدى الشعب العربي بأن أصحاب الإستراتيجية المعادية الأولى هما تل أبيب وواشنطن، وهما الطرفان اللذان استخدما الإيرانيين لتسهيل وتنفيذ مهمتهما ضد العراق العربي الإسلامي، وبالتالي الشارع العربي في الخليج يدرك هذه الحقائق، ويؤمن بها ولن تغني بعض المنشورات أو البرامج الطائفية الموجهة أمنياً لإرباك المشهد الواضح والذي يعطي دلالات متتالية على أن هناك برنامج عمل يسعى لتثبيت مشاريع التطبيع بسرعة على أرض الخليج عبر وفود وبرامج سياسية ولقاءات بين أقطاب الحركة الصهيونية والمجتمع المدني في الخليج حتى تسوق هذه المرحلة خلال صدى المواجهة بين واشنطن وطهران.
وهنا تبرز مسؤولية شخصيات وتيارات الفكر القومي والإسلامي والوطني بأن تعلن مبادئها ومواقفها من حالة الاختراق الجديد، وتُبلغ الرسالة السياسية والفكرية والإعلامية بوضوح وحزم كما أُفشلت هذه الحالة بعد مدريد، ولكن تحتاج إلى فاعلية أكبر. هذه الروح وهذه الجذوة يجب ألاّ تنطفئ وألاّ تُحبط أو نُحبِط كنخبة معنويات أبناء التيار العربي الإسلامي، مع الحذر من استغلال المعادي الإيراني للصوت الحر والمبدأ الحاسم في مواجهة صهاينة واشنطن وتل أبيب. فللقوم في طهران أجندتهم الخاصة التي ما فتئت تتربص بنا الدوائر، وقد عقد التيار العربي الإسلامي العزم، وعليه يمضي بأن يكون لله والشعب راية عربية إسلامية حرة أبية لا للشرق ولا للغرب
==============(29/62)
(29/63)
"كوندي" تبشر بشرق أوسط جديد!
عمان/ ياسر الزعاترة 1/7/1427
26/07/2006
عندما تحدث شيمون بيريس عن الشرق الأوسط الجديد وألف كتاباً قدّم من خلاله أطروحته "العظيمة" كان جورج بوش الأب هو سيد البيت الأبيض حينها ، وكان جيمس بيكر هو وزير الخارجية، ولم يكن الصهاينة قد سرقوا القرار السياسي الخارجي للولايات المتحدة تماماً بعد، ونتذكر ضمانات القروض التي رفضت أمريكا منحها لتل أبيب على خلفية موضوع الاستيطان، وهو الموقف الذي قيل إن بوش الأب قد دفع ثمنه خسارة في الانتخابات لحساب كلينتون، فيما رسخ في الذاكرة كعبرة لبوش الابن في تعامله مع اللوبي الصهيوني.
في عهد كلينتون تمدد الصهاينة في الإدارة التي غدت العبرية لغة متداولة في أروقتها، لكنهم في عهد جورج بوش الابن لم يتركوا لسواهم شيئاً، أقله فيما يتصل بملف السياسة الخارجية. وفيما ماطلهم الأول عندما أرادوا توريطه في احتلال العراق، لم يتردد الثاني في الخضوع بعد هجمات أيلول، وذهب إلى العراق مورطاً بلاده في مستنقع قذر لا زال منذ أكثر من ثلاث سنوات يستنزفها مالياً وبشرياً وسياسيا.
بدأ مشروع الشرق الأوسط الجديد بنسخته الشيمون بيريسية وانتهى قبل استلام المحافظين الجدد لمقاليد السلطة في واشنطن، لكنه مع ذلك لم ينجح، ولا ندري إذا كانت وزيرة الخارجية السمراء "كوندي" قد قرأت التجربة وتمعنت فيها.
بعد حرب الخليج ونهاية الحرب الباردة أراد الصهاينة استغلال اللحظة المناسبة من أجل صياغة المنطقة على مقاسهم، وتحدث بيريس عن شرق أوسط جديد تقوده تل أبيب بدل القاهرة. شرق أوسط مدجج بالتنمية والرفاه. هذا في الظاهر، أما في الباطن فهو شرق أوسط مفكك على أسس عرقية وطائفية ومذهبية يشتبك الجميع فيه مع بعضهم البعض بينما يتصالحون جميعاً، وربما يتحالفون أيضاً مع الدولة العبرية.
أدرك العرب حقيقة اللعبة، فكان أن تماسكوا قليلاً، وفي قمة الإسكندرية 96 بدأت ملامح التصدي التدريجي لمشروع الشرق الأوسط الجديد عبر رفض التطبيع المبكر مع الدولة العبرية، ورفع شعار ربط التقدم في عملية التطبيع بالتقدم في المفاوضات.
في قمة كامب ديفيد 2 أهيل التراب على حلم بيريس. حدث ذلك لأنه حلم لا يمكن أن يتحقق من دون استسلام عربي شامل، وفي تلك القمة تبدى للعرب أن ما يعرضه الإسرائيليون هو من الهزال بحيث يستحيل القبول به. أما ياسر عرفات فقد قال لمضيفيه الأمريكيين إنه لو قبل بما يعرضونه عليه فسيقتله الفلسطينيون.
الآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة كيف يبدو الشرق الأوسط الجديد في خيال كوندي؟
من المؤكد أنه كما شيّد شيمون بيريس بناءه على لحظة استثنائية من الانهيار العربي والتفوق الأمريكي بعد حرب الخليج الثانية ونهاية الحرب الباردة، تشيد كوندي مشروعها على لحظة تراجع غير مسبوق في الوضع العربي مع انسجام دولي استثنائي مع مساعي واشنطن لمواجهة التمرد العربي وروح المقاومة في المنطقة.
حدث ذلك أيضاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرح مطلع العام 2004، وعرض بعد ذلك بشهور على قمة الثماني، لكنه ما لبث أن دخل سجل الوثائق المنسية الخاصة بهذه المنطقة، وذلك بعدما أكتشف الأمريكيون أن جوهره (الإصلاح) سيصب في صالح ألد أعدائها من الأصوليين، فحيثما تكون الانتخابات الحرة يتفوق الإسلاميون، بدليل ما وقع في تركيا ومصر والعراق وفلسطين، بل والسعودية (الانتخابات البلدية) أيضأً.
تأتي كوندي بمشروعها الجديد في سياق مواجهة التمرد الاستثنائي الذي تمثله المقاومة الفلسطينية واللبنانية، فضلاً عن العراقية التي تحضر هنا لأن التفرغ لها بعد يعد أمراً بالغ الأهمية، ولا شك أن مواجهة هذا التمرد وإخضاعه يشكل الحلقة الأولى في المسلسل، ولن يتم ذلك من دون استعادة وضع التهدئة في الساحة الفلسطينية بعد الإفراج عن الأسير، مع استعادة الأسيرين الآخرين وفرض مسار جديد على حزب الله يمهد لنزع سلاحه بعد إبعاده عن الحدود من خلال قوات دولية أطلسية.
لا جديد بعد ذلك سوى ما يجري على الأرض، من مطاردة للبرنامج النووي الإيراني والضغوط على سوريا، مع محاولات مستميتة لترتيب الوضع العراقي على نحو يستعيد الأمل بجعله محطة لإعادة تشكيل المنطقة وفق تعبير سلف كوندي السيد كولن باول، وبما يمهد الطريق أمام خطة الانطواء التي سينفذها أولمرت بناءً على برنامج شارون للحل أحادي الجانب.
تلك هي أحلام الآنسة كوندي، لكنها أحلام لن تتحول إلى واقع، وكما تبخر حلم بيريس ومن بعده حلم باول سيتبخر حلمها هي الأخرى، وفي حين تتواصل المقاومة في العراق فيما يتحول نموذجه الديمقراطي العتيد إلى ساحة للموت والقتل على الهوية بعدما قسمه الاحتلال على أسس طائفية وعرقية، فإن أفغانستان تعود إلى هوايتها في مطاردة الإمبراطوريات، ولا تسأل بعد ذلك عن شارع عربي إسلامي يغلي بالكراهية للأمريكان والصهاينة وينحاز على نحو رائع إلى خيار التحدي والمقاومة.
============(29/64)
(29/65)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ
د. علي بن عمر بادحدح 6/7/1427
31/07/2006
إن أنباء تجَدُّد العدوان الصهيوني الآثم على فلسطين ولبنان تطغى على كل الأخبار، وتشغل المساحة الأكبر في وسائل الإعلام المختلفة، فعلى مرأى ومسمع من العالم كله قام الكيان الصهيوني بأبشع جرائم القتل التي كان ضحاياها من المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ، كما مارس التدمير الآثم على خدمات الكهرباء والمياه والمطارات والموانئ والجسور والطرقات، في جريمة كبرى لا مثيل لها في وضوحها وبشاعتها، وفي خضم المناورات والحسابات السياسية تختلط كثير من الحقائق والرؤى الصائبة، وهذه نظرات مستلهمة من القرآن والسنة حول المفاهيم والمواقف:
أولاً: مفاهيم الصراع المبدئية:
1- الصراع مع اليهود الصهاينة - ومركزه أرض الإسراء - صراع عقدي حضاري، وأسبابه لها جذور تاريخية في عداء اليهود للإسلام منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، و من هنا يأتي فهم سياق الأحداث الجارية من مثل قوله تعالى: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). [المائدة: 64].أي "كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم" [ ابن كثير ص 634 ] "وكون المراد من الحرب محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو المروي عن الحسن ومجاهد" [ الألوسي 6/183] ، ومزيد من البيان نجده في قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا). [المائدة:82] ،" وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مَرَنُوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم، ودَرَبُوا العتوَّ والمعاصي، ومَرَدُوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لحَجَتْ عداوتهم، وكثُرَ حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين" [ابن عطية ص 568]، وطبيعة الإجرام والعدوان اللإنساني الغاشم الذي يمارسه الكيان الصهيوني المحتل نراه جلياً بكل قسوته وفظاعته في قوله تعالى: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ). [ التوبة:8 -10].
2- الغايات التي يريدها الصهاينة، وأمريكا الداعمة لهم، والغرب المتواطئ معهم معرفتها سهلة لظهورها في الواقع مصداقاً لقول الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). [التوبة:32-33].
فالغايات الكبرى هي مناوأة الإسلام، ومحاربة عقائده ومبادئه، ومن ثم استهداف معتنقيه وحملته بالقتل بصفة دائمة كما ورد في قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:217].
3- سنة الكون لا تتبدل ولا تتغير، فالتمكين في الأرض ممزوج ومسبوق بسنة الابتلاء، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ). [البقرة: 214]
4- نهاية الصراع وعاقبة المواجهة والجهاد واضحة عند المسلمين، وهي دائرة بين اثنتين: (النصر أو الشهادة) وفي الأولى عز الدنيا، وفي الثانية فوز الآخرة (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [ التوبة:52]، والبيان التوضيحي لذلك نجده في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة". رواه البخاري.
ثانياً: مفاهيم المقاومة والانتصار:(29/66)
1- إن مقاومة المحتل والدفاع عن الأرض والعرض حق مكفول في جميع الملل والشرائع، ومشروعية المقاومة ضد المحتل أقرتها الأعراف والقوانين الدولية، واستمداد المشروعية - عند المسلم - لا يفتقر إلى ذلك لأن أساسه الوحي المعصوم ومواده آيات القرآن الكريم فالحق جل وعلا يقول: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين) [ التوبة:12 - 14]، وفي سنة سيد المجاهدين r عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد" [ رواه الترمذي،وله رواية مختصرة عند البخاري ]. فهل بعد هذه المشروعية الواضحة المحددة في الحالات المختلفة حاجة لمزيد؟
وينبغي التنبيه على أن مشروعية الجهاد الإسلامي الصحيح المشروع دائمة ومستمرة ومستمدة من سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فقد روى سلمة بن نفيل الكندي قال: كنت جالساً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: يا رسول الله أذال الناسُ الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه وقال: "كذبوا،الآن الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" رواه النسائي.
2- إن المرابطين المقاومين المجاهدين في سبيل الله، ومن ورائهم المؤمنون بالله حق الإيمان يدركون الحقائق الإيمانية، ويعرفون الموازين الإسلامية فيمضون في معاركهم، وهم على بصيرة، فهم على يقين أن النصر من الله، وليس بعدة ولا عتاد ولا كثرة أعداد (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [ البقرة: 249] (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). [ آل عمران: 126]، ومن قوة إيمانهم يثبتون ويصبرون، فموقفهم في مثل هذه المواجهة - رغم شدتها - التقدم لا التراجع، وكأنهم يمضون مع قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً). [ النساء:104]، ويجدّدون ما مضى عليه أسلافهم من المجاهدين المؤمنين قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23 ].
3- إن المقاومة دليل حياة الشعوب، ومؤشر على كرامة وحرية الرافضين للاحتلال، ولا يرضى بالذل، ويستسلم للعدوان إلا من سفه نفسه وفقد إنسانيته، ،ولا بد من تثبيت معاني كرامة وعزة المسلم، وأنه يجب أن لا يذل إلا لخالقه استجابة لنداء الحق جل وعلا: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). [آل عمران:139]، وحين يكثر الظلم وتتوالى الضربات والإهانات تضمر هذه المعاني، وللأسف فإننا نجد أن وسائل الإعلام تساهم في تكريس ذلك من خلال تزييف معاني العزة والكرامة والاستهزاء بها، وبالتالي تُنسى هذه المعاني مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، مما يستدعي التأكيد على ذلك سيما في مثل هذه الأزمنة التي مرت فيها الأمة الإسلامية بحالات من الضعف الشديد، ولعل من سبل مواجهة ذلك إبراز أثر المقاومة في العزة والاستعلاء الإيماني.(29/67)
4- إن تاريخ أمتنا يكشف لنا أن المسلمين انتصروا في معاركهم الكبرى جميعها على الرغم من قلة قوتهم عدداً وعدة مقارنة بعدوهم، ففي يوم بدر يقول سبحانه وتعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ). [ آل عمران:13]، وهكذا كان الحال في اليرموك والقادسية، بل وفي حطين وعين جالوت، ومثل ذلك في فتح الأندلس والقسطنطينية، وفي العصر الحديث كانت المقاومة الباسلة للمحتل الفرنسي في الجزائر، وللمحتل الإيطالي في ليبيا، وللمحتل الإنجليزي في مصر والعراق وغير ذلك، وقلّ أن تجد في التاريخ مقاومة لمحتل لديها قوة مكافئة للمحتل فضلاً عن أن تكون متفوقة عليه، ومن ثم لا بد من تقديم ضريبة العز، وبذل عربون النصر من خلال تقديم الشهداء، وضرب أروع أمثلة التضحية والفداء، وأما الانتظار إلى أن تتعادل الكفة، وتتكافأ القوى فغير ممكن وخاصة في ظل حكومات عربية لا هم لها سوى الحفاظ على كراسي حكمها، وبالتالي فإن أقل القليل هو دعم المقاومة الشعبية التي تنهك هذا العدو، وتزلزل كيانه وتقلق راحته.
ثالثاً: مفاهيم المواجهة الحالية:
1- إن أساس المواجهات الحالية وأصلها يتمثل في الاحتلال، ووجود الصهاينة المحتلين على أرض فلسطين ولبنان هو السبب لكل ما يجري، ولذا يجب أن تتجه الأنظار إلى لب المشكلة لا إلى آثارها، ولا يغيب عن ذهن أي عاقل ما سبق هذه الاعتداءات الصهيونية على فلسطين ولبنان من أعمال إجرامية مليئة بالغطرسة والعدوان من قتل وهدم وتجريف واعتقال، وهو ما يعتبر سمة أساسية في هذا الكيان الغاصب، الذي يضرب عرض الحائط بكل القوانين والقرارات الدولية، فلا يصح بحال قطع ما يحصل الآن من قصف لفلسطين ولبنان عن تاريخ هذا الكيان المليء بالانتهاكات والعدوان والظلم الشنيع، ومن ثم فإن كل فعل ضد هذا الإجرام الفظيع أقل درجاته أنه من باب الدفاع عن النفس، واسترداد الحق، ومعاقبة المجرم المعتدي، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ).[البقرة:194]، (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ). [الشورى:39]. 2- ينبغي الانتباه إلى أنه - في هذه الأحداث الدامية العصيبة - يوجد عدو مشترك وهو العدو الصهيوني الذي استقوى بأمريكا وغيرها من قوى الاستكبار، ومارس القتل والتشريد للمستضعفين من المسلمين بكافة أجناسهم وطوائفهم وهذا عدو للجميع، وينبغي التوحد في مواجهته، حتى وإن اختلفنا في المذاهب والتوجهات، وإن كل ما يضر العدو الصهيوني، ويؤذيه ويوقع فيه النكاية فالموقف منه التأييد بعض النظر عن مصدره ومعتقده أو مذهب فاعله، ولذلك أصل في أول سورة الروم (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). [الروم: 5]. 4- إن المعارك والمواجهات الحالية إنما هي جزء من مرحلة طويلة في مضمار الصراع، ولا تزال هناك مراحل مليئة بالمواجهات فلا ينبغي أن تُختصر القضية في هذه الأحداث الجارية حالياً، ولا ينبغي أن نُؤخذ بالأحداث الآنية فالأيام دول، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ). [آل عمران: 140]، وفي يوم أحد: "قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر يوم لنا ويوم علينا، ويوم نُسَاء ويوم نُسَر، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان وفلان بفلان"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا سواء، أما قتلانا فأحياء يُرزقون وقتلاكم في النار يُعذّبون"، وإن الأحداث الراهنة - بما فيها من شدة و عسر - تكشف صدق الصادقين وزيف المدعين الذين وجدوا في ظاهر الأحداث فرصة للتشفي من أمتهم ومبادئها، وتأكيداً لخنوعهم ودعوتهم المخذلة للارتماء في أحضان الخصوم والأعداء (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ). [آل عمران:179].
5- إن العقيدة الصهيونية قائمة على استغلال أي فرصة لضرب أي جهة تقاومها أو تفكر في مقاومتها مستقبلاً، ويخطئ من يظن أن المقاومة في فلسطين لها قدرة على تجنب القتال؛ لأنه مفروض عليهم بحكم النظرية العدوانية الصهيونية، ومن خلال التفوق في القوة والآلة العسكرية التي تتظافر على وجوب إرغام الجميع لسيادتها سواء تحت تهديد القوة أو الاستسلام المسمى بأسماء السلام أو التطبيع.(29/68)
رابعاً: مواقف الأطراف المختلفة:
1- إن موقف الدول الكبرى تراوح بين التأييد الظالم والسكوت المظلم، والمسارعة للضغط على الطرف المظلوم وتحميله المسؤولية، ومطالبته بتنفيذ شروط المعتدي والرضوخ لإرادته دون قيد أو شرط، وإضفاء الشرعية على عدوانه وصبغه بالدفاع عن النفس، وهذا هو موقف أمريكا المعلن، وموقف أوروبا المبطن، وموقفهم جميعاً - قبل الأحداث الأخيرة - كان متفقاً على محاربة الحكومة الفلسطينية المنتخبة ومحاصرتها هي والشعب الفلسطيني بكامله، على الرغم من المأساة والمعاناة، وكل ذلك دليل على زيف دعاوى تحقيق الديموقراطية، وعدم مصداقية الحفاظ على حقوق الإنسان، واختلال ميزان العدل، وغياب المساواة، وترسيخ مبادئ الظلم والعدوان، كما أنه دليل على أن تلك الدول تتبنى الإضرار بالعرب والمسلمين، وتفرح بأذاهم وتساعد على ذلك وتؤيده، بل إن أمريكا تمنع مجرد إدانة المعتدي، وذلك من خلال استخدام حق النقض الفيتو الذي يمثل شريعة الغاب، ويلغي الحق والعدل بالقوة والهوى، (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).[ البقرة:120].
2- تعوّدت الشعوب المضطهدة في فلسطين ولبنان، وغيرها أن تسمع من الدول العربية كلمات الشجب والاستنكار التي لا تدفع ولا تنفع، وقبل هذه الأحداث كانت مجازر شاطئ غزة وجرائم وحشية يهودية متكررة، فضلاً عن وجود آلاف الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم من النساء والأطفال، وكل ذلك قابله السكوت المطبق طوال الأشهر السابقة في فلسطين، وموقف الدول العربية من الأحداث الحالية يكشف عن ضعف وعجز وتخاذل وانكسار، وليت الأمر توقف عند هذا الحد على ما فيه من خزي وعار ومهانة، إلا أننا نرى بعض تلك الحكومات نزلت إلى درجة لم تكن متوقعة من التخلي التام عن المقاومة المشروعة بل وإدانتها بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك يتضمن إعطاء العدو الصهيوني مشروعية التدمير والعدوان، وهذا ما تذكره وتستشهد به أمريكا، وأين هذه المواقف من قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).[الأنفال:72]،وهذا كله بخلاف ما عليه شعوب البلدان العربية والإسلامية التي تؤيد في معظمها المقاومة وتتلهف لمعاونتها والوقوف في صفها.
خامساً: الموقف من حزب الله:
1- إن اتخاذ المواقف - في مثل هذه الأحداث - يؤسس على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك يرجع إلى اجتهاد أهل الشأن حسب تقديرهم المستهدي بأصول الشريعة ومحكماتها، والمستند إلى معرفة وخبرة واقعية بمجريات الأحداث، وهو اجتهاد قد يعتريه الخطأ، ويتغير بحسب ظروف الزمان والمكان.
2- لا يخفى على أي مطلع أن الحزب شيعي المذهب، وله ارتباطاته الواضحة بإيران، وصلاته المعروفة بسوريا، وذلك له أثره الواضح على توجهاته وأعماله، ولكن هذا ليس هو المقياس الوحيد في هذه المعركة التي نحن بصددها.
3- إن للحزب وحلفائه أهدافاً تخصهم وتصب في مصالحهم الذاتية، وأهدافاً يشتركون فيها - من خلال العمل الميداني على الأقل - مع المقاومة في فلسطين ومع مصالح بقية الأمة، وذلك في إلحاق الضرر بالعدو الصهيوني، وكل أذى ونكاية في هذا العدو مطلوبة ومرغوبة.
4- الوقت الحالي - مع استمرار هذا العدوان - ليس وقتاً مناسباً للمحاسبات المذهبية أو الطائفية بل هو وقت ينبغي فيه التركيز على العدو الأكبر الذي يهلك الحرث والنسل ويهدد البلاد والعباد.
5- إن النظرة الكلية للصراع تقتضي رد الجزئيات إلى الكليات وربط الفروع بالأصول والنظرة الشاملة هي المطلب الذي يساعد على صواب الرأي ووضع الأمور في نصابها من خلال رؤية خطورة وشمولية المعركة، والأطراف المشاركة والمؤيدة للعدوان، بحيث يكون التأييد أو التحفظ في إطار محدد ومتوازن، وبما يحقق المصالح ويدفع المفاسد.
6- إن العدوان الصهيوني الحالي في لبنان ليس وليد وقته، وليس ردة فعل لحدث معين - كما يبدو للناظر لأول وهلة - بل إن الوقائع تدل على غير ذلك؛ إذ لا يمكن أن يكون تحديد الأهداف الكثيرة، والعمليات المتواصلة مع تحديد مدد ومطالب معينة، كل ذلك لا يُمكن إلا بتخطيط مسبق وإعداد مبيت، ومثل هذا تماماً يُقال في الأحداث الأخيرة في فلسطين بعد عملية (الوهم المتبدد) وما تلاها من عمليات عسكرية وخطف للوزراء والنواب، وهذا يتوافق مع إستراتيجية العدوان الصهيوني الذي يسعى إلى إنهاء كل قوة محتملة يمكن أن تشكل مقاومة له أو حجر عثرة في طريق مخططاته.
سادساً: المواقف والأعمال المطلوبة:
إنه لابد لنا إزاء هذه الأحداث أن نغير في مسيرة حياتنا فكراً وشعوراً وسلوكاً بما يلزم من الاستمساك بالدين والاعتصام بالكتاب والسنة وهذه بعض الخطوات المطلوبة:
1- تجديد التوبة، وصدق الالتجاء إلى الله، والاجتهاد في الاستقامة على شرع الله، واجتناب المعاصي والابتعاد عما حرم الله.(29/69)
2- تحقيق الأخوة الإيمانية وتوكيد الرابطة الإسلامية بنصرة إخواننا المجاهدين في فلسطين ببذل المال وتقديم الإغاثة لهم بكل الوسائل والإمكانات المتاحة ومشاركتهم شعورياً وعاطفياً باستشعار مصابهم وآلامهم، علماً بأن إخواننا من أهل السنة في لبنان أصابهم بلاء كثير، وحصل لهم تهجير كبير، وهم موجودون في مزارع شبعا الحدودية وبعض قرى الجنوب، و مدينتا صيدا وصور هما عمق سني لشمال لبنان.
3- التوعية بالحقائق الإيمانية والمبادئ الإسلامية في مواجهة الأعداء ومجابهة الخطوب وتوضيح المعاني الشرعية الصحيحة للمفاهيم الإسلامية المهمة كالجهاد والولاء والبراء، وتعزيزها في ضوء النصوص الشرعية والأحداث الواقعية وحقيقة الصراع بين الحق والباطل مع التحذير من التخذيل واختلاط المفاهيم.
4- التخفّف من الدنيا وتجنّب الركون إليها والبعد عن الاستكثار من المباحات والانشغال بالكماليات، والاعتبار بما جرى لإخواننا من الدمار والعدوان، وتهيئة النفوس لحياة الجد والعزم، واستنهاض الهمم لعيش العزة والكرامة، وتحديث النفس بالدفاع عن الإسلام والمسلمين وصدّ عدوان المعتدين.
5- العمل على إحياء المقاطعة الاقتصادية للبضائع والخدمات والمصالح التجارية للكيان الصهيوني وأمريكا الداعمة له، والتنبيه على أهمية ذلك وجدواه كسلاح من أسلحة المقاومة ضد العدو.
6- استحضار ضراوة المعركة وخطورة المؤامرة التي يجتمع فيها العدو الصهيوني، مع دعم مطلق من أمريكا، وتآزر مباشر وغير مباشر من بعض دول أوروبا، وأهمية إدراك استهداف مكامن القوة والعزة عند المسلمين، والعمل على تفريق صفهم وتفتيت وحدتهم والاستفراد بهم كلاً على حده على مستوى الدول والشعوب، وضرورة تفويت الفرصة على الأعداء بالوحدة والنصرة حتى لا يأتي يوم يُقال فيه أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.
7- الابتهال إلى الله تعالى، والقنوت في الصلوات، والتضرّع في الخلوات، وتحري أوقات الإجابة في جوف الليل والأسحار بأن يعز الله الإسلام والمسلمين، ويحبط كيد الأعداء المجرمين.
8- قيام علماء الإسلام ودعاته ومفكريه بواجبهم في إيقاظ الأمة وتنبيهها للمخاطر، وتقوية عزيمتها، وحفظ إراداتها من أسباب الوهن والإحباط والاستسلام، وكشف طرائق ومخاطر الذين يسعون في جعلها تابعة ذليلة خانعة، ومن أوجب واجباتهم وضع التصورات والخطط وبرامج الأعمال التي تستهدف نهضة الأمة ووحدتها ورفع معنوياتها وزيادة فاعليتها ورسم مستقبلها وحفظ حقوق أجيالها وعدم الاكتفاء بإلقاء التبعة في ذلك على الحكومات.
والله نسأل أن يلم شمل المسلمين، ويوحد صفهم ويزيد قوتهم، وأن يدحر أعداءهم من اليهود وحلفائهم، وأن يكتب العاقبة للمؤمنين، ويجعل الدائرة على الكافرين، ولو بعد حين.
والحمد لله رب العالمين.
=============(29/70)
(29/71)
(...) في إسرائيل!
سلمان بن فهد العودة 11/8/1425
25/09/2004
أحداث الساعة تأبين للنظام العربي، وإعلان لخاتمة حزينة لهذه المرحلة بكل تطلعاتها وإخفاقاتها وممانعاتها.
النظام الأمني يتهتك في ظل حضور إسرائيلي مدروس في المنطقة، وتأثير مباشر على مجريات القرار في الولايات المتحدة.
وما خبر اكتشاف الجاسوس الإسرائيلي على أعلى المستويات في (البنتاجون) إلا نموذج لهذا التأثير.
وقد كان لهذه الجاسوسية تأثير حقيقي على قرار حرب العراق وما تلاه, وعلى مجمل السياسات الأمريكية في قضايا الشرق الأوسط، مما يؤكد أن حفظ أمن إسرائيل هو أبرز أهداف تلك الحملة.
بيد أن الإدارة الأمريكية -بجملتها- خاضعة للنفوذ اليهودي، ومرشحو الرئاسة يختلفون في أشياء عديدة, ولكنهم يتفقون على دعم إسرائيل وحمايتها, ويتنافسون في تقديم المزيد للمواطن الإسرائيلي.
ويأبى الإعلام أن يكشف للشعب الأمريكي حقيقة الأمر؛ فالإعلام خاضع هو الآخر للنفوذ اليهودي، كشركة (تايم وارنر) التي تملك عدداً من شبكات التلفزيون بينها (CNN) والمئات من شبكات الإعلان والفرق الرياضية وشبكات للإنترنت واستوديوهات ومؤسسات للإنتاج السينمائي ودور نشر للكتب، كما يسيطر اليهود على غيرها من محطات التلفزة كـ (Fox TV) و(Cbs tv) و(ABC) و (NBC) ومجموعة من الصحف اليومية واسعة الانتشار، ولليهود نفوذ كبير في هوليود وصناعة السينما العالمية.
ولذلك تم التستر على فضيحة الجاسوس في وزارة الدفاع, ولنا أن نتصور لو أن هذا الجاسوس كان عربياً!
لقد دارت التهم حول موظف عادي في سجن (غوانتاناموا) وتم تصعيد الخبر إعلامياً، وتكشفت النتائج عن وهم كاذب أو خداع مدروس.
وهذا يشكل التحدي الخارجي الهائل لما كان يسمى بـ "النظام العربي", فالإرادة -بتقديم الراء- الأمريكية ماضية على كسر أي امتناع عربي أو إسلامي يعكّر على الوجود اليهودي، ويحول دون إتمام صفقة سلام ذليل يفتح لإسرائيل الحدود العربية، ويقيم سفاراتها في العواصم الكبرى, ويقضي على كل وجود عسكري أو أمني يهددها في الحاضر أو المستقبل.
وفي الوقت الذي لا تزال خطة أمريكا في العراق تعاني من الإخفاق, فإن صقور الإدارة يتحرشون -بقوّة- بسوريا وإيران والسودان, ويضغطون على مصر والسعودية ولبنان.
ووضع كهذا يتزامن مع مساندة إعلامية وأمنية للقوى الداخلية المنسجمة مع السياسة الأمريكية؛ فهناك بند خاص لدعم "المثقفين" المتحالفين مع أمريكا, ويخطئ من يظن أن هذه الأساليب كانت حكراً على نظام البعث في العراق، فقد ذكرت (فرانسيس ستوندر) في كتاب (الحرب الباردة الثقافية) أن المخابرات الأمريكية قامت عام1950م بتأسيس منظمة ثقافية باسم (منظمة الحرية الثقافية) تحولت في عام1976م إلى الاتحاد الدولي للحرية الثقافية، وقد قامت هذه المنظمة بإنشاء فروع لها في خمس وثلاثين دولة تم اختيارها بعناية، وقد أصدرت هذه المنظمة أكثر من عشرين مجلة ذات تأثير كبير، وقامت بتنظيم المعارض الفنية والحفلات الموسيقية؛ لكي يتواصل الجميع مع الأسلوب الأمريكي في الحياة، ولخدمة المصالح الأمريكية، وكانت هذه المنظمة التابعة لـ (CIA) تدعم من تسميهم بـ "أصدقاء الحرية" بمبالغ طائلة تتجاوز خمسة ملايين فرنك سويسري شهرياً.
والقنوات الحرة تمارس تبشيراً مكشوفاً بالقيم الأمريكية, أو بـ "اللاقيم" على الحقيقة, وقد يصل بها الحماس إلى أنها لا تستطيع أن تداري انحيازها السافر لكل ما هو ضد العروبة والإسلام!
ولقد أصبح العديد من كتاب الأعمدة يشمتون بالمقاومة الوطنية الصادقة حيث كانت، ويعدّونها عبثاً وهدراً، في الوقت الذي يشيدون به بعملاء الغرب الذين يمنحونهم صفات العقلانية والتطوير والانجاز وإعادة الإعمار!
وضمن هذه الحلقة تتحرك جهود مكافحة الإرهاب لتشويه صورة المقاومة المشروعة، وقطع المساعدات المادية، أو المؤازرة السياسية وعزلها عن ارتباطها التاريخي بالشعوب الإسلامية.
وأمريكا التي تمسك بمعظم خيوط اللعبة توظف المنظمات الدولية لمصالحها الخاصة وتستصدر القرارات التي تشاء, وتغلق أبواب نادي العولمة الاقتصادية في وجه الدول التي تظهر شيئاً من استقلال الإرادة السياسية.
لسنا نستغرب أن يحدث هذا؛ فالذي لا يساعد نفسه لن يساعده الآخرون, والضعيف يظل عُرضة للابتزاز، ويغري الآخرين بهذا، لكن الغرابة في المسارعة العربية في هؤلاء القوم, حيث ترتفع نبرة الحديث عن علاقات طبيعية مع إسرائيل, ويبادر بعض القوم إلى زيارتها, ويسارع آخرون لتعويض اليهود المهاجرين -كحالة ليبيا المنكوبة- ويتوارى آخرون خجلاً من الحديث عن العدو الصهيوني الذي أصبح كياناً ثم دولة, وقد يأتي اليوم الذي تصفه بعض قنوات الإعلام السياسي بالصديق, وإذا لم تُفعّل مداراة للشعور الشعبيّ؛ فإنها تكون قد قطعت قبل ذلك شوطاً بعيداً في تبادل الخبرات الأمنية، والتعاون الاقتصادي، والتطبيع السياسي الهادئ.(29/72)
وقد يأتي اليوم الذي تتحدث فيه تلك الأقنية عن زيارات متكررة إلى "القدس" تحت سمع الكاميرات وبصرها.. ولم لا؟ فنحن في عصر التحوّلات والمفاجآت, وإذا لم يحدث هذا اعتباراً بما جرى في مصر فلتكن اللقاءات المكوكية المتخصصة هي البديل الأجدى لاندماج "إسرائيل" في الشرق الأوسط الكبير!
في النهاية لست متشائماً لأنني أعرف أن الطب نجح في زراعة الكبد والكلية و... و...، ولكنني لا أعرف حتى الآن أن الطب نجح في زراعة " رأس ".
إن أقسى هزيمة تحيق بنا أن نصل إلى شفير اليأس؛ فليكن لنا معتصم بإيماننا بالله ووعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الدائرة على الظالمين المعتدين، ولو فسح لهم في الوقت, والله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته, "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" [هود:102].
ملاحظة: كتب هذا المقال في نهاية شهر رجب الفرد 29/7/ 1425هـ
=============(29/73)
(29/74)
إلى التطبيع أيها الدعاة!
د. علي بن عمر بادحدح 6/9/1425
20/10/2004
"التطبيع" مصطلح معاصر له في الواقع دلالة مكروهة مرفوضة، فالتطبيع اليوم جوهر السلام وشعاره، وقاعدته وأساسه، أما مقتضيات ومتطلباته فحقيقتها الهوان السياسي، والانسلاخ الثقافي، والاختراق الأمني والارتهان الاقتصادي، والمراد ببساطة ووضوح أن نعتبر الأعداء أصدقاء، وننسى تاريخهم العدواني، ونغض الطرف عن واقعهم الإجرامي، ولأجل ذلك تغير مناهجنا، ونهجن إعلامنا، ونبدل مصطلحاتنا، لئلا يكون هناك ما يثير حفيظتهم أو يكشف حقيقتهم، ولمزيد من إثبات إنهاء العداء فعلينا أن نفتح لهم أسواقنا ليتاجروا، وأرضنا ليمتلكوا، ومصانعنا لينتجوا، وحقولنا ليزرعوا؛ بل ومدارسنا ومعاهدنا ليعلِّموا ويتعلموا، وأخيرًا ليمسخوا هويتنا، ويتحكموا في رقابنا.
والحقيقة أن الكلمة في أصل دلالتها اللغوية تعني جعل الأمور طبيعية، أي لا غرابة فيها ولا اعتراض عليها، ولا خجل ولا نفور منها، فكونها طبيعية يدل على أنها متوقعة ومألوفة ومقبولة، ويكون الأمر طبيعيًا إذ جاء متوافقًا مع الأصول الثابتة والحقائق الراسخة، ومتجانسًا مع الجذور التاريخية والبيئة الواقعية، مستندًا إلى المعرفة العلمية والممارسة العملية؛ فالأستاذ الجامعي يتحدث بلغة تعليمية ويكتب بمنهجية علمية وهذا طبيعي ولا غرابة فيه، ومثل ذلك التاجر إذا تحدث بلغة الأرقام والأرباح والخسائر.. وهكذا فإن الشيء من معدنه لا يستغرب.
وهنا تتضح لنا المسألة، فهناك أمور غريبة مرفوضة يراد أن تصبح طبيعية، تحت شعار السلام ودعوة العولمة وعصر القرية الكونية، وفي المقابل هناك أمور الأصل فيها أنها طبيعية مقبولة يراد لها أن تكون شاذة مرفوضة تحت شعار (العنصرية)، ولافتة (معاداة السامية)، وعلى خلفية الأصولية، وصناعة التطرف، ودعاية الإرهاب.
إن الشق الثاني أخطر من الأول، ووسائل الوصول إليه أكثر، وصور تسربه وتشربه أظهر. نعم.. إنه من الخطر أن تظهر في مجتمعات المسلمين وديارهم بعض تلك المظاهر؛ فهذا يخجل من انتسابه إلى الإسلام وذاك يخفي التزامه به، والثالث يخشى من الدعوة إليه، والرابع يتراجع عن الدفاع عنه، وتصبح تلك الأمور وغيرها غريبة وتحتاج إلى مقدمات ومبررات.
إن موجة الإرهاب بشقيه: اليهودي الصهيوني، واليميني النصراني بما له من قوة إعلامية وهيمنة سياسية، واختراقات أمنية يعمل جاهدًا على قلب الحقائق، وتغيير الثوابت، وإنشاء أنماط فكرية واجتماعية ضاغطة في الاتجاه المعاكس للأوضاع الطبيعية في المجتمعات الإسلامية.
ومن هنا فإن من واجب الدعاة أن يواجهوا هذه الحملات ويتصدوا لها، وأن يعملوا في التطبيع الصحيح لكل ما هو من أصول الإسلام وطبيعة مجتمعه، وأن تكون حقائق الدعوة وبرامجها وأنشطتها وما يتصل بذلك من ثقافة فكرية وسلوكيات اجتماعية أن يكون كل ذلك طبيعيًا مألوفًا مقبولاً.
لماذا لا يسعى الدعاة في كل البلاد الإسلامية إلى أن يكون من الطبيعي امتلاء المساجد بالمصلين، وانتشار حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وكثرة الدروس والمحاضرات، ووجود البنوك الإسلامية، وتنوع المؤسسات والمنتجات الإعلامية الإسلامية، وقيام المدارس والمعاهد والجامعات الإسلامية، وتأسيس الجمعيات والمنظمات الإسلامية، وتأسيس المؤسسات والتجمعات السياسية الإسلامية، وترويج البرامج الترفيهية والسياحية الإسلامية، وغير ذلك من جوانب الحياة المختلفة التي تنضوي تحت منهج الإسلام الشامل الكامل؟!
إنه من غير الطبيعي أن يكون حجاب المرأة المسلمة غريبًا في ديار الإسلام، فضلاً عن أن يكون مُحارَبًا، وكذلك من المؤسف المحزن أن يسمح في كثير من الدول الإسلامية بإنشاء أحزاب علمانية أو اشتراكية وتحظر الإسلامية، ومن غير المقبول ولا الطبيعي أن تُمنع المدارس الإسلامية أو يُضيّق عليها بينما المدارس الأجنبية على اختلاف أشكالها تُفتح لها الأبواب وتُيسر لها الأسباب. ومن الغرائب، ومن العجائب أن تمتلئ شاشات الفضائيات بما يندى له الجبين من العري والفسق وإثارة الشهوات ثم تُمنع المذيعة إذا تحجبت، وهذه مجرد أمثلة، والواقع يحتاج إلى انتباه؛ لأن انحصار الدعوة في ميادين محدودة وفي قوالب جامدة وعلى فئات قليلة يزيد من عزلتها، ويسهم في إبعاد المجتمع عن دينه وثقافته وتاريخه، بينما يتم التطبيع المعاكس.
إن مما يساعد على تحقيق هذا الهدف أمور عدة:
أولها: إثبات صواب هذا الرأي بالمقارنة بالآخرين؛ فاليهود يعلنون أن دولتهم دينية لا علمانية ويتصدون لكل من يمس اليهود أو اليهودية في شرق الأرض وغربها مما لهم به من صلة أو ليس لهم به من صلة بحجة معاداة السامية، ولا يقال إن هذا غريب أو مستنكر.
وثانيها: إن الحقائق تكشفت بعد ما عُرِف بأحداث سبتمبر وزالت الأقنعة وأصبح العدوان والظلم واضحًا لا تخطئه عين ولا ينكره عقل، ومن ثم؛ فإذا كان هذا العدوان والحملات الظالمة كلها لأجل ديننا واعتزازنا به ودعوتنا إليه؛ فلندرك أن ذلك هو سر قوتنا وأساس تميزنا ونقطة انطلاقنا.(29/75)
وثالثها: إن الأمة جربت كثيرًا من الخيارات التي جرّت عليها الوبال، وتجلى لها أن خيارها الأمثل عودتها إلى ربها واستمساكها بدينها؛ فلنسع إذًا إلى إزالة العوائق التي تحول دون ذلك، ولعل أمثل وأنجع ما يفيد في ذلك هو تطبيع الدعوة في الأمة؛ فهذا يعيدها لهويتها ويدنيها من وحدتها ويزيد من قوتها.
فهيا إلى التطبيع أيها الدعاة..
=============(29/76)
(29/77)
اختراق الاقتصاديات العربية
مشرف النافذة 8/11/1425
20/12/2004
شكل إبرام اتفاقيات سلام مع بعض الدول العربية أحد أنواع الحصار والتكبيل، وتزامن الأمر مع عقد المنتديات الحوارية واللقاءات الاقتصادية في العديد من الدول العربية، منها في الدار البيضاء والقاهرة والدوحة لتطبيع العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والإسلامية وإسرائيل بعيدًا عن الملف السياسي، إلا أن هذه المحاولات كان مصيرها الفشل نتيجة تعقّد الأمور، وتحدي الكيان الصهيوني لمشاعر العالمين العربي والإسلامي.
وفي وسيلة جديدة للهيمنة تشترط الولايات المتحدة على الدول العربية التي تريد أن تدخل منتجاتها السوق الأمريكية أن يكون هذا المنتج قد تم إنتاجه بمكونات إسرائيلية حتى ولو بنسبة صغيرة 8 إلى 11% كشرط لدخول السوق الأمريكية، ويشترط للاستفادة من اتفاقية الكويز "Q.I.Z" وهو اختصار لـ المناطق الصناعية المؤهلة (QUALIFIED INDUST r IAL ZONES) والحصول على الإعفاء أن يكون المنتج قد تم إنتاجه في المناطق الصناعية المؤهلة وفقًا لقواعد المنشأ المعمول بها لدى جمارك الولايات المتحدة.
وتشير قراءات الخبراء لمثل هذه الاتفاقيات النادر وجودها على مستوى العالم، أن أمريكا تغازل بها دول المنطقة العربية بمنحها مزايا وإعفاءات جمركية لمنتجاتها التي تشمل مكونًا صهيونيًا، حيث تمنح الدول العربية الحق في تصدير منتجاتها بدون جمارك للسوق الأمريكية كميزة اقتصادية.
بالتأكيد تسعى الولايات المتحدة إلى ترويح اتفاق المناطق الحرة، وهدفها النهائي هو إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل مقابل مكاسب اقتصادية تعود بالفائدة على الدول المرتبطة بالولايات المتحدة من ناحية اقتصادية.
فما هو هدف مثل هذه الاتفاقيات؟ ولماذا التسارع الأمريكي على توقيع الاتفاقيات الاقتصادية مع مصر وغيرها من الدول؟ ولماذا تشترط أن تكون البضائع المصدرة إليها قادمة من هذه المناطق؟ فهل هي حرب جديدة ضد المنتج الاقتصادي العربي رغم قلته، أم أنه خدمة للابن المدلل "إسرائيل"
==============(29/78)
(29/79)
اختراق الاقتصاديات العربية بِ(الكويز)
رضا عبد الودود 15/11/1425
27/12/2004
سعت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عدّة عقود، وعبر العديد من الأشكال لتطبيع العلاقات بين الدول العربية والكيان الصهيوني، وقد أخذت محاولات واشنطن طرقاً عديدة، أولها: إبرام اتفاقيات سلام مع بعض الدول العربية، وتكبيل هذه الدول بالتزامات تفتح أبوابها وأسواقها على مصراعيها أمام الساسة ورجال الأعمال الصهاينة. وفشلت هذه المساعي بسبب عدم جديّة العدو الصهيوني في تنفيذ التزامات الاتفاقيات التي وقّعها، ورفض الشعوب التطبيع مع هذا الكيان، وربط الأمر بتسوية لم تتحقق مع الفلسطينيين، والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة.
تطبيع بلقمة العيش
كرّست واشنطن جهودها لإنجاح محاولتها هذه المرة عبر اتفاق تجاري نادر لخدمة المساعي الصهيونية، حيث تشترط الولايات المتحدة على دول المنطقة التي تريد أن تدخل منتجاتها السوق الأمريكية أن يكون هذا المنتج قد تم إنتاجه بمكون الكيان الصهيوني حتى ولو بنسبة صغيرة 8 % أو 11 % مما يعني وجود المكون الصهيوني في أي سلعة عربية تدخل أمريكا، ووجود اتصالات وزيارات وتعاون مشترك بين أصحاب المصانع ورجال الأعمال في الدول العربية ونظرائهم في الكيان الصهيوني، وبذلك يتحقق الغرض الصهيوني والأمريكي في ضمان الهيمنة والسيطرة على المنطقة من خلال التحكم في اقتصادياتها عبر اتفاقية يُطلق عليها (الكويز) أي المناطق الصناعية المؤهلة.
ويشترط للاستفادة من اتفاقية (الكويز) والحصول على الإعفاء أن يكون المنتج قد تم إنتاجه في المناطق الصناعية المؤهلة وفقًا لقواعد المنشأ المعمول بها لدى جمارك الولايات المتحدة، وأن يتضمن نسبة مكون الكيان الصهيوني التي لا تقل عن 8 % وتصل إلى 17 %، ونسبة أخرى تدخل في الصناعة المؤهلة تمنح السلعة المصدرة منها إعفاءات، ولكنها لا تمنح السلعة الأمريكية الواردة أية إعفاءات؛ بمعنى أن الالتزامات غير متكافئة بعكس اتفاق التجارة الحرة، فإنه يمنح مزايا وإعفاءات ويرتب التزامات متكافئة، أما الفارق الأساسي فيكمن في أن الإعفاءات من الرسوم الجمركية تبدأ من اليوم الأول لتنفيذ الاتفاقية بنسبة صفر %، بينما في اتفاقية التجارة الحرة تندرج الإعفاءات بنسب متفق عليها لمدة عشر سنوات.
التجربة التركيّة والأردنيّة
سبقت تركيا دول المنطقة في توقيع هذه الاتفاقية مع واشنطن بعد تدشين التحالف العسكري مع تل أبيب عام 1996م، وتمّ إنشاء أكثر من خمس مناطق صناعية مؤهلة في تركيا تنفيذًا لاتفاقية (الكويز)، ورغم أن الصادرات الصناعية التركية قد زادت لواشنطن بمقدار 13 % بعد توقيع هذه الاتفاقية إلا أن رجال أعمال أتراكاً قد شكَوا كثيرًا من رداءة مكوّنات الكيان الصهيوني وعدم جودته، وتسببه في حدوث أخطاء فنية في المنتج التركي، إلا أنهم -وسعيًا للاستفادة من مميزات الكويز- تجنبوا انتقاد هذه العيوب بصورة متكررة رغمًا عنهم.
ورغم ذلك لم يستفد الاقتصاد التركي من هذه المميزات، ودخل نفقًا مظلمًا حيث تراكمت المديونيات، وأصاب الاقتصاد ركود كبير لدرجة أن تركيا طلبت دعم صندوق النقد والبنك الدوليين للتدخل لإنقاذ اقتصادها من هذا النفق، وكان الكيان الصهيوني المستفيد الأول من هذه الاتفاقية كون العلاقات التجارية الأمريكية التركية مزدهرة أصلاً، ولم تكن بحاجة لمثل هذه الاتفاقيات.
وجاءت الأردن الدولة التالية بعد تركيا انضمامًا لهذه الاتفاقية عام 2001، وكان انضمام الأردن ذا مغزى كبير، وقد ضمن الاتفاق دخول تل أبيب كحكومة موقعة على الاتفاق في مفاوضات على نسبة المكون الصهيوني الذي يصدر إلى السوق الأمريكية.
جاء هذا الاتفاق مع واشنطن بعد سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة مع تل أبيب وواشنطن آخرها اتفاق التجارة الحرة مع أمريكا؛ لكن كل هذا الكم لم يحقّق للأردن أي فوائد باستثناء زيادة صادراتها لواشنطن بمقدار (400) مليون دولار، وهذا رقم لا يقارن بالإغراءات التي قُدّمت للأردن التي تواجه سنوات عجافًا منذ 1994م، حيث لم تلمس ثمارًا حقيقية للسلام، ولا من جراء هذه الاتفاقيات، بل لم يحظَ الأردن بالإعفاء من المديونية العالية التي سعى لها اعتمادًا على دوره في عملية السلام.
(كويز) مصر(29/80)
وقَّعت مصر أول اتفاقية صناعية واقتصادية مع الكيان الصهيوني، وهي الاتفاقية المعروفة باسم المناطق المؤهلة أو (الكويز) ووفقاً لمعلومات رسمية صادرة عن وزارة التجارة المصرية فإن الاتفاق المصري مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة يشير إلى أن قواعد المنشأ المتفق عليها تمثل 35% من قيمة المنتج يتم تصنيعها محلياً، على أن تتضمن 11.7% مدخلات الكيان الصهيوني من سعر بيع المصنع، ويمكن استخدام مدخلات أمريكية بحيث لا تتجاوز قيمتها 15%، كما يمكن استخدام مدخلات من قطاع غزة والضفة الغربية، وتمّ اختيار (3) مناطق صناعية في ( 7 ) مناطق جغرافية تتمثل في: 15 مايو، والعاشر من رمضان، وشبرا الخيمة، والبدرشين (القاهرة الكبرى) ، وبرج العرب، والعامرية (الإسكندرية ) ، وبور سعيد لتكون المناطق التي سيشملها الاتفاق، مع إمكانية إضافة مناطق أخرى في المستقبل ، وحسب مصادر حكومية فإن المنشآت الصناعية بالمناطق الصناعية المؤهلة التي تم اختيارها تمثل نحو 60% من إجمالي المنشآت الصناعية، كما تستوعب 63% من إجمالي العمالة، ويقدر الاستثمار الصناعي بها بحوالي 58% من إجمالي الاستثمارات، ومعظمها يعمل في صناعة المنسوجات والملابس والأغذية والصناعات الهندسية والمعدنية .
ما هو (الكويز)؟
كلمة كويز (Q.I.Z) اختصار إنجليزي لعبارة: "المناطق الصناعية المؤهلة" التي طرحها الكونجرس الأمريكي في 1996م؛ بهدف دعم السلام في منطقة الشرق الأوسط. وهذه المناطق توافق عليها الحكومة الأمريكية، بينما يتمّ تصميمها من قبل السلطات المحلية في الدول الراغبة في توقيع الاتفاق كمنطقة مغلقة ومحدّدة ، وتدخل صادرات هذه المنطقة إلى الولايات المتحدة دون حصص أو رسوم جمركية أو ضرائب أخرى، ويشترط للاستفادة من (الكويز) والحصول على الإعفاء أن يكون المنتج قد تم إنتاجه في المناطق الصناعية المؤهلة وفقاً لقواعد المنشأ المعمول بها لدى جمارك الولايات المتحدة، وأن يتضمن نسبة مكون الكيان الصهيوني التي لا تقل عن 8% وتصل إلى 17%، وأيضاً نسبة أخرى من المكونات الأمريكية قد تصل إلى 15%.
وقواعد المنشأ يقصد بها الأنظمة التي تحدد نسب المكونات أو المدخلات التي تمّ استخدامها في صناعة أو إنتاج السلعة؛ مما أضفى عليها صفة "السلعة"، ويؤدي لإمكانية كتابة "صُنعت في دولة كذا" عليها . ومن ثم لا يجوز اعتبار أي سلعة تجارية جديدة أو مختلفة لمجرّد أنها حصلت على عمليات جمع أو تغليف بسيطة لا تغير خصائصها من الناحية المادية.
مخاطر تطبيق (الكويز) المصري
سياسياً، يعني هذا النموذج -لو تمّ تعميمه- أن أكثر من نصف الدول العربية ستقيم علاقات كاملة مع دولة العدو مقابل مكاسب اقتصادية مشكوكٍ بأمرها من المتاجرة مع أمريكا، وهو ما يشكل تنازلاً كاملاً حتى عن السقف السياسي -المتدني أصلاً- للمبادرة السعودية المطروحة في قمّة بيروت، واقتصادياً، تتضمن شروط منطقة التجارة الحرة نقطتين أساسيتين، لا يمكن أن نراهما بمعزل عن بعضهما: الأولى هي مضيّ الدول العربية بقوة في خصخصة القطاع العام، والثانية هي حق رأس المال الأمريكي والصهيوني بالعمل بحرية في منطقة التجارة الحرة، والنتيجة الموضوعية لهذين الشرطين إذا أُخذا معاً، هي وضع الأساس المادي والمؤسسي لتغلغل الطرف الأمريكي-الصهيوني في مفاصل الاقتصاديات العربية.
كما إن المؤيدين للاتفاق يغفلون أن اتفاقية الكويز هي إحدى أدوات تحقيق مشروع الشرق الأوسط الذي طرحه شمعون بيريز زعيم حزب العمل الحالي، ويهدف إلى دمج الكيان الصهيوني في الاقتصاديات العربية، واستبدال الهيمنة الاقتصادية باحتلال أراضي المنطقة، كما أنه من جهة أخرى تسليم مصري بالمشروع الأمريكي في المنطقة.
كما أن وجود مكونات الكيان الصهيوني في أي سلعة مصرية تدخل الولايات المتحدة يعني فتح الباب واسعاً أمام التجسس الصناعي للكيان الصهيوني، ويذكّر المعارضون لِـ(لكويز) في هذا الصدد بالجاسوس عزام عزام الذي كان يعمل في صناعة النسيج بمدينة العاشر من رمضان، وبأن القضية التي ألقي القبض عليه فيها هي تجسس معظمه صناعي.
كما أن مسألة جذب (الكويز) لاستثمارات أجنبية تقدر بخمسة مليارات دولار لمصر أمر وهمي وغير حقيقي في ظل تراجع الاستثمارات الأجنبية؛ حيث بلغت حوالي (237) مليون دولار فقط في العام الماضي، عدا عن أن اختيار عدد من المناطق الصناعية دون غيرها قد يؤدي لفجوة بين العمال وهجرة من منطقة صناعية إلى أخرى، كما أن الاختيار -أساساً- خضع لمصالح رجال الأعمال؛ فبعض المدن داخل المناطق (مثل البدرشين التي دخلت الكويز) لا تقارَن صناعياً مثلاً بالمحلة الكبرى أو الإسماعيلية التي لم تدخل الاتفاق، رغم أنهما من قلاع الصناعة المصرية، وهو الأمر الذي دفع بأصحاب المصانع في الإسماعيلية إلى إعلان استغاثة واعتصام احتجاجاً على حرمانهم من (الكويز).
ما هو البديل ؟(29/81)
وقبل التحدث عن البديل يجب أن نبحث أولاً أسباب تدهور صناعة النسيج والتصدير، وهي الأهم في مصر ومنها مجموعة من الأسباب التي تؤثر على القدرة التصديرية للنسيج المصري، ومنها ما هو داخلي، ويتركّز في التعنّت الواضح من جانب مصلحه الجمارك ضد المصدّرين العاملين بنظام السماح المؤقت الذي تعتمد عليه الصناعات التصديرية في كل دول العالم المصدرة لمنتجاتها ، وقد ظهر ذلك التعنت بدءاًً من عام 1999 م بإصدار قرارات متضاربة ومتعسّفة ضد مستخدمي نظام السماح المؤقت؛ مما أربك العمل بالمصانع وتسبب عنه التأخير في الالتزام بشروط التصدير إلى الخارج، وكانت النتيجة إحجام عدد من المستوردين الأجانب عن تجديد التعاقدات مع المصانع المصرية، وإلغاء عدد كبير من الصفقات .
وحول نظام السماح المؤقت يقول السيد كميل شمعون نائب رئيس المركز المصري للقطن، وأحد المستثمرين اللبنانيين في مصر: إن نظام السماح المؤقت في مصر يعتبر من أكبر معوقات التصدير، وباتخاذ تونس التي تستخدم نفس النظام في تصديرها للملابس كمثال مقارنة مع مصر نجد أن واردات المصانع التونسية تصل من الجمارك إلى المصنع خلال 24 ساعة، في حين يستغرق الإفراج عن الواردات في مصر أسبوعين إلى ثلاثة ، وتبلغ نسبة الصادرات السلعية إلى الناتج المحلي في تونس 29% ونسبتها في مصر 4% ويبلغ نصيب المواطن التونسي من الصادرات( 600 ) دولار سنوياً، بينما هو في مصر( 63 ) دولاراً للمواطن .
وفي الإطار نفسه تكشف دراسة لجمعية مصدّري الملابس أن صادرات الملابس الجاهزة تواجه صعوبات متعدّدة؛ حيث أصبحت عملية تسوية الضمانات بالنسبة للمصدّرين إجراءً مرهقاً بما تصدره مصلحة الجمارك من قرارات غير ثابتة ومتضاربة واستخدام أساليب الإرهاب للمصانع بالتهديد بإغلاقها أو منع التعامل معها ، هذا إلى جانب فرض رسوم جديدة عالية لتجديد الأذون المستخدمة في النظام، وتأخير التسويات بسبب الإجراءات الروتينية التي تصر الجمارك على اتباعها ، ووجود تناقض واضح بين ما تهدف إليه القيادة السياسية في مصر من تشجيع التصدير، وما تتخذه مصلحة الجمارك من إجراءات تعسفية ضد المصدّرين، وخاصة مصدري الملابس الجاهزة . وتنفي جمعية مصدري الملابس الجاهزة التهمة عن المصدّرين بقولها: إنهم لا يحتاجون إلى التهريب بسبب احتفاظ الجمارك بعيّنات من الخامات المستوردة لمطابقتها عند التصدير، ولا يستوردون بضائع مصنعة بل خامات لغزل القطن أو أقمشة معينة غير فاخرة ومستلزمات الإنتاج للملابس . أما التهريب فإنه إما ملابس جاهزة وإما أقمشة فاخرة . وتشير إلى أنه على الرغم من قيام مصدري الملابس بمطالبة مصلحة الجمارك بإصدار دليل إجراءات يوضح خطوات العمل والمستندات المطلوبة والرسولم إلا أن ذلك الدليل لم يصدر، بل لا يزال الأمر متروكاً لكل منفذ جمركي ليطبق ما يراه من قرارات صادرة عن مصلحة الجمارك وما أكثرها .
وقد اقترحت جمعيه مصدري الملابس الجاهزة عدداً من الحلول منها :
- إصدار تعليمات جمركية واضحة في نظام السماح الموقت تطبق في جميع المنافذ الجمركية .
- تجديد الشهادات لمدة عام وبرسم لا يزيد عن مائة جنيه كما جرى العمل عليه في السابق .
- الإفراج عن الواردات لمصانع الملابس الجاهزة خلال 48 ساعة كحد أقصى .
- إعفاء مستلزمات إنتاج الملابس من الجمارك أو فرض رسم جمركي لا يزيد على 1% مع إعفاء واردات (التيكيت) الخاص بالماركات العالمية التي تحمل اسم العلامة، والواردة من العملاء لوضعها على الإنتاج المصري المتعاقد عليه من الرسوم الجمركية؛ فهي غير صالحة للاستخدام أو البيع في غير الغرض المخصص له .
- وقف العمل بتحسين السعر جزافياً على الواردات حيث أصبح ذلك الإجراء متبعاً مع مصدري الملابس دون وجود مستندات موثقة لدى الجمارك تبرّر ذلك .
- إلغاء القرار الصادر في 1/3/2001 بتحصيل 3% من القيمة نظير التثمين والفحص بشكل قطعي بعد أن كان العمل هو ردّ الرسوم للمصدر .
وهناك حلول تشريعية تحتاج سلطة الدولة مثل :
- تخفيض الرسوم الجمركية على خيوط الغزل من 30% الحالية إلى 5% وستقوم معظم مصانع الملابس الجاهزة للتصدير بدفع الجمارك مما يدعم الخزانة المصرية .
- تطبيق نظام الحوافز للمصانع المخصصة للتصدير بما لا يتعارض مع التشريعات والقوانين الدولية . ولدى وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية خطة مدروسة للحوافز .
- إن الأمل معقود على وجود كفاية محلية في تزويد مصانع الملابس الجاهزة بالخامات اللازمة لصناعة محلية من مصر ولكن ذلك يتوقف على تفهم رسالة التصدير المصري وحتميته طبقاً لمقولة الرئيس : التصدير أو الموت .
- بالإضافة إلى ضرورة العمل على زيادة القدرة التنافسية لصناعة الغزل والنسيج والملابس الجاهزة باعتبارها صناعة كثيفة العمالة، وتوفر فرص عمل للمجتمع، وتتمتع فيها مصر بمزايا نسبية .(29/82)
وفي النهاية لا يصح - و نحن تحت تأثير زيادة الصادرات ـ أن نتنازل عن العديد من الثوابت ومنها: التعامل مع الصهاينة، ولا الخضوع لتهديد أي دولة للقبول بالطرف الصهيونيي حتى تزيد صادراتنا؛ حيث يتساءل الشارع العربي كله: ألا يوجد طريق آخر لزيادة الصادرات إلا بالتعاون مع الكيان الصهيوني؟ وهل أصبح الكيان الصهيوني وأمريكا هي المنقذ لجميع مشاكلنا حتى صادراتنا؟ ولماذا اختيار أسهل الطرق وأذلها لزيادة الصادرات؟! ولماذا الإصرار على دعم اقتصاد الكيان الصهيوني والتعاون معه رغم استخفافه بنا؟!
=================(29/83)
(29/84)
تطبيع أردني إسرائيلي ساخن
عاطف الجولاني * 23/11/1425
04/01/2005
رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز الذي يطلق عليه كثيرون لقب الحالم والرومانسي المغرق في التفاؤل، عاد مؤخراً لتفاؤله وللحديث عن شرق أوسط جديد، قال: إنه يرى أنه يبنى من جديد، متوقعاً أن يكون العام الميلادي 2005م عام الحسم في مسيرة التسوية السياسية.
أما وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم الذي عبّر هو الآخر عن قدر كبير من التفاؤل إزاء مستقبل العلاقات العربية الإسرائيلية، فتوقع علاقات تطبيعية ساخنة بين (إسرائيل) وعشر دول عربية خلال الفترة القريبة المقبلة.
على أن العلاقات مع الأردن تبقى الحلقة الأهم في أجندة الإسرائيليين الذين يولونها اهتماماً خاصاً، حيث يرون أن أي خطوة إيجابية واتفاق جديد يوقّع معه يُعتبر بمثابة جسر لتوقيع اتفاقيات إضافية مع دول عربية أخرى، وفق ما صرّح مسؤول إسرائيلي مؤخراً.
وقد شهدت الأيام الماضية توقيع اتفاق اقتصادي جديد لرفع مستوى العلاقات التجارية بين الجانبين وُصف بأنه الاتفاق الأهم الذي يوقعه الجانبان، وينص على إعفاء 60% من الصادرات بين الأردن و(إسرائيل) من الجمارك، مقارنة بنسبة إعفاء لم تكن تتجاوز الـ 10% بموجب الاتفاقية التي وقعها الطرفان عام 1995م، ومن المنتظر أن يوقّع الطرفان عام 2010 اتفاقاً لإلغاء الجمارك بصورة كاملة بينهما.
وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي إيهود أولمرت وصف الاتفاق بأنه خطوة كبيرة في العلاقات بين الجانبين، وقال: إنه "يُعتبر أوسع اتفاق يتم توقيعه مع دولة عربية حتى الآن"، مضيفاً أنه يُعتبر مثالاً للعلاقات بين (إسرائيل) ودول عربية أخرى ستذهب في أعقاب الأردن في المستقبل.
الاقتصاد هو الأساس:
مدير مكتب التجارة الإسرائيلية الأردنية (اسحق جال) قال: إن العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والأردن تُعتبر "الوقود المحرك للعلاقات بين الدولتين". وبموجب مصادر إسرائيلية فإن الصادرات الأردنية الإسرائيلية المشتركة إلى الولايات المتحدة من منتجات المناطق الصناعية المؤهلة في الأردن والمعفاة أمريكيا من الضرائب والجمارك، ارتفعت من 13 مليون دولار عام 1999م إلى نحو مليار دولار في العام 2004م معظمها في مجال النسيج الذي يوليه الإسرائيليون اهتماماً خاصاً، حيث قاموا بنقل الكثير من مصانعهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م إلى المناطق الصناعية المؤهلة في الأردن، مستفيدين من رخص أسعار المواد الأوليّة هناك، ومن تدني أجور العمالة الأردنية مقارنة بالعمالة في (إسرائيل).
غير أن العلاقات الرسمية بين الأردن وإسرائيل التي حافظت على قوتها طوال السنوات الماضية -رغم العواصف السياسية التي مرت بها المنطقة وبخاصة انتفاضة الأقصى والجرائم الإسرائيلية المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني- ما زالت تواجه ثلاث عقبات مهمة كان يمكن أن تلحق بها ضرراً كبيراً لولا إصرار الجانبين على تجاوز كافة العقبات والتحديات التي تعترض طريق التطبيع الساخن بين الجانبين.
رفض شعبي:
العقبة الأولى التي واجهت العلاقات الأردنية الإسرائيلية تمثلت بالرفض الشعبي الواسع في الشارع الأردني لكافة أشكال التطبيع مع الإسرائيليين، وهو ما أدّى خلال سنوات الانتفاضة إلى اختفاء ظاهرة مجاهرة بعض المطبعين بعلاقاتهم مع إسرائيل بعد أن كانوا قد تجرّؤوا على ذلك قبل الانتفاضة، وكانوا يفاخرون بعلاقاتهم التطبيعية مستندين إلى دعم وتشجيع رسميين، واضطر المطبعون غير الرسميين إلى ممارسة تطبيعهم سرًّا بعيداً عن الأضواء وعن وسائل الإعلام.
صحيفة هآرتس الإسرائيلية أوضحت أن العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع الأردن رافقها حساسية كبيرة لدى رجال الأعمال الأردنيين بسبب ردود الفعل القاسية تجاه خطواتهم التطبيعية في المجتمع الأردني على خلفية ما يحصل في المدن الفلسطينية من اجتياحات إسرائيلية متواصلة. وقالت الصحيفة: إن الأردنيين المشاركين لإسرائيليين في علاقات تطبيعية يدفعون ثمناً مرتفعاً. ونقلت عن أحد المطبعين الأردنيين (وهو رجل أعمال) قوله: إن المطبّعين يتعرضون لضغوط كبيرة في الشارع الأردني، مؤكدا أن "من يتصل بإسرائيل يوسم بسمة معينة، وعليه ضغط اجتماعي هائل، والخطر أن ينشر اسمه في الصحف، حيث يقاطعون تجارته، ولا يشترون بضاعة منه".
وكانت الضغوط الشعبية على الحكومة الأردنية نجحت في بدايات انتفاضة الأقصى في دفعها إلى سحب السفير الأردني لدى تل أبيب، لكن الصورة بدأت تتغير في الآونة الأخيرة؛ إذ تم تعيين قائم بالأعمال الأردنية في تل أبيب، ولا تستبعد بعض المصادر أن يتم في وقت قريب إعادة السفير الأردني إلى ممارسة عمله.
مشكلة المعتقلين معلّقة:(29/85)
فما زالت قضية إصرار إسرائيل على مواصلة اعتقال عشرات المواطنين الأردنيين في سجونها، تلقي بظلال قاتمة على العلاقات الرسمية بين الجانبين، لا سيما بعد فشل كل الجهود الرسمية التي بذلتها الحكومة الأردنية في إقناع المسؤولين الإسرائيليين بإبداء أي قدر من المرونة تجاه القضية التي باتت تؤثر بصورة كبيرة في توجهات الحالة الشعبية تجاه العلاقة الأردنية الإسرائيلية.
وزاد من حرج الموقف الرسمي الأردني، نجاح صفقة حزب الله اللبناني في إطلاق سراح مئات المعتقلين العرب والفلسطينيين مقابل إخلاء سبيل ضابط إسرائيلي مختطف، وتسليم جثث عدد من الجنود. ثم جاءت صفقة الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام من قبل الحكومة المصرية لتزيد من حالة الاستياء لدى عائلات المعتقلين الأردنيين، لكون الصفقة تجاوزت المعتقلين الفلسطينيين والعرب ومن بينهم المعتقلون الأردنيون.
وانتهاكات مستمرة للسيادة:
وإذا كانت أول عملية اختراق أمني إسرائيلي للسيادة الأردنية تمثلت في محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) خالد مشعل قبل سنوات في أحد أكبر شوارع العاصمة عمان، فإن آخر انتهاك للسيادة الأردنية جرى قبل أيام قليلة، حيث اعتقلت أجهزة الأمن شبكة إسرائيلية لتهريب الأسلحة إلى المتمردين في إقليم دارفور السوداني مخترقة بذلك أمن الأراضي الأردنية.
الحكومة الأردنية التي لم تنف أو تؤكد رسميا نبأ اعتقال الشبكة الإسرائيلية لتهريب السلاح، اكتفت على لسان الناطق الرسمي باسمها بالقول: إن التعامل مع أي قضايا من هذا النوع في حال حصولها سيتم بموجب القوانين الأردنية.
في حين قال الناطق باسم جبهة العمل الإسلامي (أكبر الأحزاب الأردنية): إن الاعتداء الإسرائيلي الأخير على أمن الأردن يُعدّ مؤشراً جديداً على أن الكيان الصهيوني لا يريد خيراً للأردن، لا سيما أن الانتهاك الإسرائيلي الجديد جاء متزامناً مع قيام إسرائيليين بتهريب مخدرات إلى الأردن وترويجهم للاتجار بها في البلاد.
وفي الوقت الذي عبرت فيه أوساط سياسية أردنية عن خشيتها من أن تتدخل عوامل سياسية في طريقة التعاطي رسمياً مع قضية الشبكة الإسرائيلية المعتقلة في الأردن، ومن أن يتم تغليب البعد الاقتصادي والحرص على العلاقات مع الجانب الإسرائيلي على البعد الأمني للقضية، فإن هناك من طالب الحكومة بأن تستغل اعتقال هذه الخلية للضغط من أجل تأمين إطلاق سراح المعتقلين الأردنيين في (إسرائيل).
وما يبدو واضحاً حتى اللحظة أن العقبات التي تعترض طريق التطبيع الرسمي بين الأردن وإسرائيل لا ترقى إلى مستوى التأثير في مسار العلاقات بين الطرفين، حيث تبدو هذه العلاقات محكومة بمصالح اقتصادية يراها الجانبان الرسميان، وبتدخلات دولية لا سيما من الجانب الأمريكي الذي يضغط باتجاه تعزيز التعاون الأردني الإسرائيلي، ويحول دون تأثير أية عوامل طارئة على اندفاعة هذا التعاون، الأمر الذي يجعل من تأثير الملفات الداخلية محدود التأثير على قوة العلاقات وضعفها. * رئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية
===============(29/86)
(29/87)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 30/11/1425
11/01/2005
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(29/88)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(29/89)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(29/90)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (libe r alism ) ص 525, دار العلم للملايين - بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي - الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.
=============(29/91)
(29/92)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 30/11/1425
11/01/2005
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(29/93)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(29/94)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(29/95)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (libe r alism ) ص 525, دار العلم للملايين - بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي - الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.
==============(29/96)
(29/97)
شرم الشيخ والتطبيع القادم..!!
مشرف النافذة 3/1/1426
12/02/2005
عُقدت قمة شرم الشيخ وفق العديد من الأجندات، ولتحقيق العديد من الأهداف المطلوبة، ومن أهمها تثبيت وقف إطلاق نار متبادل بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كما هدفت القمّة إلى بحث وقف النشاطات المسلحة على اختلافها، ونجحت في الوصول إلى هذا القرار...
وتوصل المؤتمرون في القمة الرباعية في شرم الشيخ إلى الوصول لقرار عودة الاتصالات بين القاهرة وعمان مع تل أبيب، بما يضع حداً للتطبيع البارد، ويفتح الأبواب لعودة السفيرين المصري والأردني، ويسهّل على شارون مهمة الهروب من غزة كبديل مناسب وفعّال لخُطّة خارطة الطريق وهي الخُطّة التي تنص على إقامة دولة فلسطينية هذا العام.
لقد شكلت العمليات النوعية للمقاومة الفلسطينية عاملاً مساعداً في تقديم الهدنة، وكما قيل فإن قمة شرم الشيخ ما هي إلا إنقاذ لشارون من أن يسجّله التاريخ في صورة الزعيم الهارب؛ من أجل تجنّب المزيد من الخسائر، في إشارة إلى هروب إيهودا باراك من المستنقع اللبناني، عدا أن قوى المقاومة لم تقدّم الهدنة للإسرائيليين، وإنما قدّمتها لمحمود عباس، بعد أسابيع من التصعيد النوعي في عمليات المقاومة.
فهل النجاحات التي حقّقتها قمة شرم الشيخ المتمثلة في الإفراج عن بعض الأسرى، وتثبيت وقف متبادل لإطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعودة سفيري مصر والأردن إلى تل أبيب كافية للوصول إلى حلّ للمعضِل الفلسطيني؟ وهل شكّلت قمّة شرم الشيخ بكل تفاصيلها وجزئياتها الصغيرة قمّة لـ وأْد الانتفاضة؟ وهل ستشهد الأيام المقبلة توقيعاً للمزيد من المعاهدات بين العرب وإسرائيل إيذاناً بدخول عصر السلام وعودة قطار التطبيع إلى مساره؟ وهل ما شاهدناه في مؤتمر شرم الشيخ هو ما عبّر عنه وزير الخارجية الإسرائيلي حين قال: من الآن وحتى نهاية العام سيبلغ عدد السفراء العرب المعتمدين في تل أبيب عشرة سفراء؟ وهل ستصمد الهدنة الهشّة أم أن إسرائيل ستعمد على قتلها كما حدث مراراً؟!
=============(29/98)
(29/99)
شرم الشيخ .. والتطبيع على حساب فلسطين
رضا عبد الودود 1/1/1426
10/02/2005
صلوات يهودية في (50) كنيساً بالأراضي الفلسطينية المتحدة لإفشال قمة شرم الشيخ، وتهليل إعلامي عربي بالقمة نفسها، تصريحات ورديّة عربية بتحقق السلام بعد شرم الشيخ ...الأمر يبدو مجرد فصل جديد من فصول الاستغلال الأمريكي الصهيوني لحالة الضعف والتفكك العربي نحو مزيد من فرض الأجندات الأمريكية على المنطقة؛ إلا أن أكبر المستفيدين هو شارون الذي ما جاء إلا لهدف واحد وهو وأْد المقاومة الفلسطينية التي بدت تتحول إلى "مشروع سياسي" لكافة الشعب الفلسطيني بعد فوز حماس الكاسح بانتخابات البلديات في غزة والضفة، وما يحمله ذلك من خيار وحيد، وهو استمرار المقاومة الفلسطينية رغم تهديدات "أبو مازن" بوقف عسكرة الانتفاضة.
وأْد الانتفاضة
تحتوي الأجندة الصهيونية على عدة أهداف مطلوب من قمة شرم الشيخ تحقيقها لشارون، حسبما صرح شيمعون بيريز لصحيفة (يديعوت أحر نوت)، بأن الهدف الأساسي من القمة هو تثبيت وقف إطلاق نار متبادل، وليس للتباحث في تنفيذ خطة "خريطة الطريق". بحيث تتوقف النشاطات المسلحة على اختلافها، على أن يجري تجميد الوضع بعدئذ إلى أن يتم الشروع في تطبيق خطة "الفصل" بإخلاء المستعمرات والنقاط العسكرية في قطاع غزة، مع الاحتفاظ بالسيطرة على المجال الجوي والمعابر الحدودية والمياه الإقليمية، ومع حرمان الفلسطينيين من بناء مطار وتشغيل الميناء، وهذا ما نصّت عليهما اتفاقية أوسلو، وأن يُصار خلال ذلك إلى إخلاء أربع مستعمرات معزولة في شمال الضفة الغربية المحتلة، وهي الخطة التي يُراد تنفيذها بين يونيو وسبتمبر من العام الجاري، ومع توقع الإفراج عن بعض مئات من المعتقلين (من جملة ثمانية آلاف) إضافة إلى عودة الاتصالات بين القاهرة وعمان مع تل أبيب، بما يضع حداً للتطبيع البارد، ويفتح الأبواب على مصراعيها لعودة السفيرين المصري والأردني.
ومن الواضح أن هذه الأجندة تحمل أهدافاً خطيرة منها إبقاء زمام المبادرة بيد الجانب الصهيوني، فهو الذي "يتكرم" بوضع الحلول، أو يستنكف عن ذلك متى وكيفما شاء. وما يطرحه من حلول يجب أن يكون قابلاً للموافقة عليه، وإلا فالبديل هو الامتناع عن تقديم أي شيء، محاولة فرض الرؤى الصهيونية كمرجعية وذلك بديلاً عن المرجعيّات الدولية المتفق عليها بعد نجاح فرض خُطّة إخلاء غزة، كبديل عن الحل المتكامل، وصرف الأنظار عن خُطّة "خريطة الطريق"، وهي الخُطّة التي تنص على إقامة دولة فلسطينية هذا العام، وما يعنيه ذلك من إعاقة أي جهد إقليمي ودولي لوضع حلول تنسجم مع الشرعية الدولية، ومواصلة بناء الجدار العازل في عمق الضفة الغربية المحتلة، مما يسلب مشروع الدولة الفلسطينية أرض هذه الدولة، إضافة إلى الاستمرار في تسمين المستعمرات وربطها جغرافياً وإدارياً بالكيان الصهيوني، ومواصلة تهويد القدس الشرقية.
صفقة أمريكية مصرية
ورغم أن مصر تحقق مكاسب دولية بالسماح بعقد القمة وتهدئة الأوضاع الفلسطينية، إلا أن عقد القمة ليس إنجازاً في حد ذاته، فالمسائل مرهونة بنتائجها، فمثلما أن إجراء انتخابات في العراق ليس ضمانة لعودة الأمن والاستقرار، فإن ما يمكن أن يتمخّض عنه مؤتمر شرم الشيخ من تهيئة الطريق للسلام الحقيقي هو المعيار الحقيقي للنجاح.
وعلى الجانب الأمريكي الذي مثّلت له القمة مجرد حملة علاقات عامة أمريكية تتزامن مع بدء الفترة الثانية للرئيس بوش، تهدف إلى تحسين وجه الإدارة الحالية، والتغطية على فشلها في العراق وأفغانستان، والردّ على بعض منتقدي السياسة الأمريكية في المنطقة، من حيث إهمالها للصراع العربي ـ الصهيوني ودعم مجازر شارون، وفي المقابل فإن "إدارة بوش" تريد مقابل تخفيف حدة انتقاداتها للأوضاع السياسية المصرية الاستفادة من نفوذ القاهرة القوي لدى كافة الأطراف الفلسطينية من أجل العمل على بلوغ تسوية سياسية للقضية الفلسطينية من جهة، بالإضافة إلى تجنب تصعيد الانتقادات ضد السياسات الأمريكية تجاه العراق وإيران؛ إذ تلعب الحكومة المصرية دوراً كبيراً في إنجاح هذه الحملة، من خلال تبنيها للقمة الرباعية، وتهيئة المناخات اللازمة لعقدها بعد أن أزالت كل ما كان يحول دون ذلك في الماضي، وخاصة تسخين العلاقات التطبيعية مع الدولة العبرية، واسترضاء شارون وإلغاء (الفيتو) الذي وضعه على زيارته للقاهرة بالإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام، وتوقيع اتفاقات (الكويز).
قد تحقق قمة شرم الشيخ الرباعية بعض النجاحات الصغيرة، مثل الإفراج عن بعض الأسرى، وتثبيت هدنة أو وقف متبادل لإطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكنها تظل نجاحات شكلية مؤقتة تعطي انطباعاً خادعاً بالسلام؛ إذ إن الرأي العام العربي لا يثق بالإدارة الأمريكية، ويشعر بالريبة والتوجّس تجاه كل خطوة تخطوها في المنطقة.(29/100)
وعلى الجاني الصهيوني فإن حكومة حزب العمل، تستبدل هدف كسر الإرادة الفلسطينية، بهدف التوغّل في المنطقة العربية ككل، وقد سبقت القمة تأكيدات عدة لِ (سيلفان شالوم)، عن إقامة وتفعيل علاقات كاملة مع عشر دول عربية. كما أوردت بعض وكالات الأنباء أخباراً عن زيارة وفد صهيوني إلي إمارة دبي، وعن نقل مصانع وخطوط إنتاج صهيونية إلى الأردن، حيث الأيدي العاملة الرخيصة. وسبق ذلك الاتفاقية الاقتصادية مع مصر، واستكمال الاتصالات لتعديل اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني بحيث يُتاح للمصريين، نشر (700) جندي، على الخط الفاصل بين قطاع غزة ومصر، يكون دورهم الأبرز هو منع أعمال المقاومة والجهاد الفلسطيني ضد الأهداف الصهيونية.
وبذلك فإن قمة شرم الشيخ تكون قد فشلت في صياغة حل عادل لقضايا الشعب الفلسطيني وإن كانت ستخطّ مساراً جديداً للعلاقات العربية الصهيونية، يكون الكيان الصهيوني هو المستفيد الأول والأخير في هذه القمة
=============(29/101)
(29/102)
الانتخابات العراقيّة بعيون صهيونيّة
بسيوني الوكيل 5/1/1426
14/02/2005
لم تختلف الرؤية الصهيونية كثيراً للانتخابات العراقية عن نظرة أمريكا، بل ربما تكون متوافقة تماماً مع رؤية الاحتلال الأمريكي التي يرى فيها -حسب زعمه- دعماً للديمقراطية في العراق، فبعد احتلال العراق أكّد الكيان الصهيوني أنه أمن شر العراق الذي كان يمثل له تهديداً، واستطاع الاحتلال الأمريكي أن يؤمن له هذا الجانب، ولا يزال الاحتلال الأمريكي يدعم الأمن الصهيوني في المنطقة عبر انتخابات هزليّة يُفترض أن تأتي بنظام عراقي يقبل الكيان الصهيوني كدولة ينبغي تطبيع العلاقات معها.
وفي إطار هذه الرؤية امتدحت الصحافة العبريّة الانتخابات العراقية، واعتبرتها تحولاً ديمقراطياً لعراق ما بعد صدام، والتي ترى فيها وسيلة لتفريخ نظام عميل لأمريكا يضمن أمن الكيان الصهيوني.
نصر عظيم
ويقول "باريل" في مقال نشرته صحيفة (هاآرتس) بعنوان (الانتخابات العراقية المهمة التالية للديمقراطية العراقية) زاعماً "أن نصراً عظيماً في العراق بدا واضحاً حيث تقول التقديرات إن بين 65 - 70 % من الناخبين سيشاركون في الانتخابات، وهذه إنجازات ضخمة تواجه منظمات المقاومة المعارضة للانتخابات والتي تبذل كل جهودها لتدمير الانتخابات، فهذه تعتبر انتصارات متعددة للحكومة العراقية (الموالية للاحتلال) التي رفضت تأجيل الانتخابات، وانتصارات أخرى للحكومة الأمريكية التي صنعت عراقاً ديمقراطياً".
وادّعى "باريل" أن الجماهير الكاسحة هي التي قدّمت الشرعية للانتخابات بلا ضمان، ويعترف أن فكرة الانتخابات تشكّلت منذ البداية كحلٍّ لترسيخ وجود الحكومة المؤقتة التي عيّنها الاحتلال، والتي يمثّل أغلب حقائبها الرئيسة الشيعة الذين يرون في الاحتلال وسيلة تمكين في النظام المنتظر.
شكوك حول الانتخابات
وحول مصداقية الانتخابات يقول "زافي باريل" في مقال آخر بصحيفة (هاآرتس) العبرية: "إن الانتخابات العراقية ربما تكون مناسبة تاريخية، ولكن الشكوك المحيطة بها ربما تكشف الموقف الكئيب في هذا البلد".
وفي ظل الفوضى التي صنعها الاحتلال في العراق والتهديد الأمني المتواصل يشير الكاتب إلى أن "الخوف على حياة حوالي (7500) مرشحاً تقدموا لانتخابات البرلمان العراقي كانت السبب وراء قيام اللجنة المسؤولة عن تنظيم الانتخابات بنشر أسمائهم بداية من يوم الثلاثاء فقط خوفاً من أن الإعلان عن أسمائهم سوف يضعهم وأسرهم في خطر، فضلاً عن أن قوات الشرطة أدّت عملها، وهم يغطون وجوههم خوفاً من هجمات المسلحين كنوع من التكتّم السياسي".
ويؤكد الكاتب أن الانتخابات التي تعد محسومة سلفاً بسيطرة الشيعة ستحمل الكثير من الشكوك؛ فأي شخص لن يعرف كيف تمت الانتخابات بتزوير، أو تهديدات، وهل صوت من ليس له رخصة؟"
وعلى النقيض من ذلك الانتخابات الفلسطينية التي شهدت تواجد عدد كبير من المراقبين، بينما وجد فقط (112) مراقباً أجنبياً الانتخابات في العراق؛ فالعدد قليل جداً، وغير كاف لتغطية صناديق الاقتراع على الأقل في بغداد.
دستور علماني
تمهد الانتخابات العراقية التي تمت في الثلاثين من يناير للفائزين في الانتخابات لوضع الدستور العراقي، والذي يتوقع أن يكون مشابهاً للدستور المؤقت؛ حيث تطفو عليه الصبغة العلمانية ويعتبر الشريعة الإسلامية (أحد مصادر) التشريع، وقد تناول الكاتب الصحفي الصهيوني "أولي هالبين" في تقرير له نشرته صحيفة (جروزاليم بوست) الإسرائيلية تحت عنوان "تحدي العراق القادم" بتاريخ 13 يناير لعام 2005 مسألة تشكيل الدستور العراقي بعد الانتخابات، وأوضح أن "الانتخابات التي استغرقت حوالي عشرة أيام لفرز الأصوات... المشكلة الكبرى فيها هي من سيشكل الدستور؟ فالسنة والشيعة والأكراد والعرب والنصارى والتركمان والآشوريون كلهم يرغب في تشكيل وطن مناسب للجميع".
ويقول "هالبين": "إن الأحزاب العلمانية والكردية لا تهتم بوضع تأكيدات على الإسلام في الدستور، و كما أن قضية الأكراد ستكون شوكة في كل جانب فالأكراد يضغطون لوضع نظام فيدرالي صارم في العراق، والذي سيحفظ الاستقلال الذي حصلوا عليه منذ عام ،1991 وإن كان سيقسم العراق عرقياً، وليس حسب أقاليمها".
اليهود والمشاركة الانتخابية
وتناولت الصحافة العبرية ما تردّد حول مشاركة اليهود من أصل عراقي في التصويت بالانتخابات العراقية حيث قال الكاتب الصهيوني "رون كمارا": "إن الإسرائيليين المؤهلين للتصويت في الانتخابات العراقية لا يرغبون في التصويت فبعضهم يرى أن السفر للأردن للتصويت غير مناسب, والآخرون يرون أنه لا سبب للتصويت أو يشعرون بانعدام صلتهم بالوطن".
وكانت متحدثة باسم المنظمة الدولية للهجرة "سارة توش" قد قالت: إنه "سيسمح للإسرائيليين من أصل عراقي أن يدلوا بأصواتهم في انتخابات المجلس الوطني العراقي"؛ إلا أن رئيس جمعية اليهود الإسرائيليين من أصل عراقي "موردخاي بن بورات" أعلن أنه "يشك في أن يكون هناك إسرائيليون يودّون فعلًا التوجه إلى الأردن فقط لهذه الغاية"
===========(29/103)
(29/104)
العلاقات الأردنيّة الإسرائيليّة تنتعش من جديد!
عمان - طارق ديلواني 26/2/1426
05/04/2005
كانت أولى بوادر الانفتاح في العلاقات شبه المجمدة منذ ما يزيد على أربع سنوات هي عودة السفير الأردني إلى تل أبيب - بعد مرحلة فتور شهدتها العلاقات الأردنية الإسرائيلية منذ اندلاع انتفاضة الأقصى- وهي خطوة قوبلت بالكثير من الصخب والاعتراض داخلياً خاصة أنها ارتبطت بموضوع الأسرى الأردنيين في السجون الإسرائيلية.
والحقيقة أن هذه الخطوة كانت بمثابة بداية تفاهمات إسرائيلية أردنية نسّقتها مجموعة من اللقاءات التشاورية بين وزير الخارجية الأردني هاني الملقي ووزير خارجية العدو الإسرائيلي سلفان شالوم في منتدى دافوس، ركّزت في مجملها على سبل إعادة العلاقات التطبيعية بين الجانبين إلى عهد ما قبل اندلاع انتفاضة الأقصى.
التقارب الأردني في العلاقة قابلته الخارجية الإسرائيلية بإعلان رسمي عن نية «شالوم» القيام بزيارة قريبة للأردن بهدف التباحث و«الردّ» على مجمل الأسئلة والمطالب التي تم التباحث فيها بين الأخير ووزير الخارجية هاني الملقي، والتي من ضمنها «موقف الحكومة الإسرائيلية من موضوع الإفراج عن الأسرى الأردنيين في السجون الإسرائيلية.
على حساب العلاقة مع المحيط العربي!
وما يهمنا هنا أن تحسن العلاقات الأردنية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة قابله بالتوازي سوء العلاقات الأردنية مع الكثير من الدول العربية والإسلامية المحيطة.
فأزمة العلاقات بين عمان وطهران بسبب حديث العاهل الأردني عن مخاوفه من الهلال الشيعي لم تكد تخبو حتى ساءت علاقات الأردن مجدداً مع دمشق ثم مع العراق واللافت هنا أن السياسة الخارجية للأردن كانت دوماً هي السبب في سوء العلاقات مع هذه الأطراف جميعها.
وبالحديث عن السياسة الخارجية للأردن يمكن القول: إنها تتسق تماماً مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بقضايا الإرهاب ومحور الشر والوضع في العراق وقضية الإصلاحات وجدلية سوريا ولبنان، وهي سياسة تأتي أيضاً في صميم الدور الإقليمي الجديد للأردن في المنطقة ومن بين أفكاره تسويغ قبول إسرائيل في المنطقة، ومحاولة إقناع بعض الدول العربية بإقامة علاقات مع إسرائيل .
التطبيع الاقتصادي!
أما على الصعيد الاقتصادي فبدا أن الأمر أكثر إشراقاً في العلاقة بين عمان و"تل أبيب"؛ إذ شهدت أرقام التبادل الاقتصادي بين الطرفين نمواً مضطرداً عزّزته زيارات واتفاقيات بزخم كبير لم تشهده حتى سنوات ما بعد اتفاقية وادي عربة للسلام بين الأردن و"إسرائيل" وما قبل انتفاضة الأقصى.
المناطق الصناعية المؤهلة في الأردن والتي تعتمد عليها التجارة الإسرائيلية الخارجية اعتمادا كبيراً زادت من حجم إنتاجها، وبالتالي تعزيز التجارة الإسرائيلية اعتماداً على التسهيلات ورخص الأيدي العاملة الذي تقدمه الأردن لإسرائيل من خلال هذه المناطق التي تصدر إنتاجها بالكامل لأمريكا وأوروبا تحت شعار "صنع في إسرائيل".
أما آخر المكاسب الاقتصادية الإسرائيلية من العلاقة مع الأردن فهي نية بعض المصانع الإسرائيلية نقل خط إنتاجها من الكيان الصهيوني إلى الأردن فضلاً عن اعتماد الكثير من الشركات الإسرائيلية ميناء العقبة الأردني لتحميل وتنزيل البضائع.
ويعوّل الإسرائيليون كثيراً على منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة بسبب وجود أيدي عاملة رخيصة ومتوفرة، وتسهيلات حكومية أردنية، وتكاليف البنى التحتية والطاقة أرخص بكثير مقارنة بـ«إسرائيل»، فضلاً عن قرب ميناء العقبة والمعبر الحدودي في العقبة، إضافة إلى إمكانية وصول المنتجات الإسرائيلية إلى الأسواق العربية.
المكسب الإسرائيلي الأكبر تجارياً من عودة العلاقة مع الأردن كان بالإعلان عن
إلغاء الجمارك بين الأردن و«إسرائيل» بشكل كامل عام 2010 حيث وقع الأردن و«إسرائيل» على واحدة من أهم الاتفاقيات التجارية بينهما والتي من شأنها تحرير التجارة بينهما وإلغاء الجمارك على ثلاثة آلاف مدخل إنتاج حتى عام 2010.
والاتفاقية الجديدة هي اتفاقية معدلة للاتفاقية الأردنية الإسرائيلية عام 1995 والتي طلب الجانب الإسرائيلي تعديلها على اعتبار أنها كانت تميل لصالح الأردن عند وضعها قبل نحو عشرة أعوام.
وبموجب الاتفاقية الجديدة والتي سيبدأ العمل بها اعتباراً من مطلع العام القادم (2005) سيتم تخفيض رسوم الجمارك على البضائع الأردنية المصدرة إلى «إسرائيل» بنسبة النصف، فيما سيجري خفض الجمارك على البضائع التي ستصدر من «إسرائيل» إلى الأردن بنسبة الثلث، وسيتم تخفيض الجمارك على ثلاثة آلاف مدخل إنتاج بشكل تدريجي في كافة القطاعات، وبخاصة الصناعات الكهربائية والالكترونية والغذائية والكيماوية والأدوية وصناعة الألبسة إلى أن يتم إلغاؤها في عام 2010.(29/105)
وجاء توقيع اتفاقية «تحديد قواعد المنشأ» بين الأردن والكيان الصهيوني على هامش مؤتمر دافوس الذي عقد في البحر الميت، لينقل العلاقات الاقتصادية الأردنية-الإسرائيلية إلى مستوى غير مسبوق، وصل إلى درجة «العلاقات الإستراتيجية» كما يراها العديد من المراقبين في الجانب الأردني ووزارة الخارجية في الجانب الإسرائيلي، خصوصاً أن الاتفاق نقل العلاقات الأردنية -الإسرائيلية في الجانب الاقتصادي من علاقات «تبادل تجاري» إلى علاقات «منطقة تجارة حرة» مرتبطة مباشرة باتفاقية التجارة الحرة مع أمريكا والاتحاد الأوروبي.
«زواج كاثوليكي» عبر بوابة الاقتصاد!
ويرى العديد من المراقبين والمحللين الاقتصاديين أن العلاقات الأردنية - الإسرائيلية باتت تتحول شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه «الزواج الكاثوليكي» غير قابل للفكاك بفضل الملف الاقتصادي، حيث باتت التجارة الخارجية الأردنية مع أهم شريك اقتصادي «الولايات المتحدة» تمر عبر «تل أبيب»، وهو الحال الذي يبدو أنه سينطبق على التجارة مع الاتحاد الأوروبي.
وتظهر أرقام صادرة عن جهات أردنية وإسرائيلية رسمية تصاعدا في حجم التجارة البينية خلال الأعوام الخمسة الماضية، والتي تضاعف فيها التبادل التجاري خمسة أضعاف، وهو مستوى لم يتحقق في علاقات الأردن مع دولة عربية.
ويقول الأردن: إن مصانع المدن المؤهلة تحظى بامتيازات عدة من بينها الإعفاءات الجمركية لبضائعها، وإعفائها من الضرائب والرسولم التي تفرض على البضائع المنتجة في الأردن عادة، إضافة إلى تمتع العمال العاملين فيها من غير الأردنيين بامتيازات عدة لا تخضعهم في كثير من الأحوال لبنود الإقامة المعروفة وحجم هذه العمالة مع العمالة الأردنية وفقاً للقوانين الأردنية، إضافة إلى ما تشكله العمالة الوافدة في المدن المؤهلة (60% من العمالة فيها) من استنزاف للعملات الأجنبية التي يجري تحويلها إلى خارج الأردن.
غير أن وثائق وأرقام إحصائية ترى أن الاستفادة الإسرائيلية تتعاظم شيئاً فشيئاً من العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، فمن جهة بات الإسرائيليون ينظرون للأردن «كبوابة إلى العالم العربي»، وهو ما تعترف به نشرة وزارة الخارجية الإسرائيلية المشار إليها، ويؤكد مراقبون أن «إسرائيل» لم تعد معزولة بسبب سياساتها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني، بل إن تجارتها مع الأردن في تضاعف، والحصة الإسرائيلية من هذه التجارة البينية تتزايد، إضافة إلى أن الجانبين الرسميين في الأردن و«إسرائيل» وقعا العديد من الاتفاقيات على الرغم من الانتفاضة القائمة.
ولعل ما يثبت أن العلاقات الأردنية الإسرائيلية تتطور بمعزل عن الظروف السياسية والممارسات الوحشية لحكومة العدو بحق الشعب الفلسطيني، هو توقيع الطرفين خمس اتفاقيات لمشاريع كبرى بعد عام 2000 الذي اندلعت فيه الانتفاضة. وذلك لتنشيط التعاون في مجالات التجارة والصناعة والسياحة وغيرها.
تساؤلات حول التوقيت؟!
على الرغم من ترويج الجانب الأردني الرسمي للعلاقات الاقتصادية مع إسرائيل على أساس أن فيها مصلحة اقتصادية للأردن تأتي بمعزل عن الظروف السياسية،
إلا أن العلاقات الاقتصادية بين الجانبين والعلاقة السياسية عموماً تأتي في توقيتات مبرمجة ومقصودة.
وخلافاً للموقف الأردني فإن موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية على الإنترنت أشار إلى «إستراتيجية» العلاقات الأردنية-الإسرائيلية التي تركز على تطوير العلاقات في كافة المجالات الممكنة»، ويشير موقع «التواصل نت» الناطق باسم الخارجية الصهيونية إلى أنه «إلى جانب المجال السياسي الذي يشهد حواراً مستمراً بين الدولتين، فإن إسرائيل ترى في الأردن لبنة هامة في إطار السلام مع جميع جاراتها في الشرق الأوسط.
المتتبع لتطور العلاقات الأردنية-الإسرائيلية يلاحظ أنها ليست «ضمن الحد الأدنى» كما يروّج العديد من المسؤولين في الحكومة الأردنية، بل هي علاقات متطورة ومتقدمة إلى حدود كبيرة جداً بالنظر إلى عمرها الذي لا يصل إلى عشرة أعوام «رسمياً»، حيث إن هذه العلاقات تطورت على أكثر من محور.
تطبيع رسمي!
القضية برمتها إذا يمكن وصفها بأنها تطبيع رسمي أردني يمكن ذكر دلالته بإيجاز بحسب ما ورد من قبل اللجنة العليا لمقاومة التطبيع في الأردن من قبيل تشجيع الاستيراد من دولة العدو، فكانت مستوردات الأردن منها سنة 1999 (20.5) مليون دينار، وأصبحت سنة 2001 (68) مليوناً.
ورد في سجلات وزارة الصناعة والتجارة الأردنية أن لدولة العدو (104) علامات تجارية سُجلت في الأردن خلال سنة (2000) بينما لم يسجل لدولة العراق خلال نفس السنة سوى (58) علامة تجارية مسجلة، ويُذكر أن الوزارة تحجب المعلومات عن علامات العدو التجارية، كما أن المعلومات عنها على الإنترنت مغلقة».
وبخصوص المناطق المؤهلة، أضافت المذكرة «المناطق الصناعية «المؤّهلة QIZ» التي يجب أن تستخدم 8% على الأقل من مدخلات مصنوعاتها من دولة العدو بدأت في إربد عام (1999) وأصبح عددها اليوم (10) مناطق».(29/106)
ونوهت مذكرة اللجنة إلى نشر مجلة الجامعة الأردنية في عددها الصادر في شهر تشرين الأول عام 2002 خبر اجتماع نائب رئيس الجامعة مع«سكوت جونز» رئيس مؤسسة «ائتلاف العمل من أجل السلام» في الولايات المتحدة، لبحث إنشاء مركز إقليمي «للسلام والتطور المستدام» في رحاب الجامعة الأردنية يقوم طلاب الجامعات وكليات المجتمع من خلاله بإنشاء «فرق السلام» للالتقاء مع طلاب جامعات «أخرى» بوساطة وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات «لبحث القضايا التي تتعلق بمجتمعاتهم وسبل حلها»، وزينت المجلة الخبر بصورة الأستاذين».
كما ذكرت المذكرة أن الحكومة سهلت «لعدد من الشباب والمراهقين الأردنيين الاشتراك في مخيم «بذور السلام Seeds of Peace» الذي عُقد في ولاية «مين» بالولايات المتحدة في شهر تموز 2002 المخصص للتعايش بين العرب و«الإسرائيليين» باشتراك شبيبة من دولة العدو». إلى جانب سماحها «بإصدار مجلة «صوت السلام» الأسبوعية التي تصدر في الأردن بطباعة أنيقة وورق ثمين وتُوزّع مجاناً»، وقيامها -أي الحكومة- بإسناد «وظائف عليا لعدد من الشخصيات الأردنية الذين اشتركوا في مؤتمر كوبنهاجن التطبيعي.
وهناك أمثلة عديدة أخرى من قطاع الزراعة وقطاع الصحة والتنسيق الأمني وغيرها.
-===========(29/107)
(29/108)
لعبة المصالح في علاقات أمريكا بالهند وباكستان
محمد السيد 28/2/1426
07/04/2005
اتفقت الصحف الأمريكية والآسيوية على أن الإعلان الأمريكي عن بيع طائرات "F- 16 " إلى باكستان، ثم محاولة استرضاء الهند بعرض أكثر إغراءاً من نفس الطائرات المقاتلة من شأنه أن يشعل سباق تسلح جديد بين الجارتين النوويتين، حيث سيكون الخاسر الأكبر فيها هي شعوب جنوب آسيا..
ففي مقال نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية بتاريخ 29 / 3 / 2005، تتبع الكاتب الأمريكي رو برت شير، سياسة الولايات المتحدة تجاه انتشار الأسلحة النووية، قائلاً إن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن بيع طائرات قتالية من طراز f - 16 قادرة على حمل رؤوس نووية لباكستان ، من شأنه أن يصعد سباق التسلح النووي في المنطقة، هو المثال الأخير لفشل الولايات المتحدة في التعامل مع أكثر القضايا أهمية في العالم "الانتشار النووي".
سياسات أمريكية متضاربة
ويتناول الكاتب هذه الفكرة من خلال سرد مجموعة من سياسات بوش المثيرة للجدل خلال ولايته الثانية:
فيقول "إن الولايات المتحدة أفنت حياة آلاف العراقيين والأمريكيين ومليارات الدولارات لدافعي الضرائب بعد تصميمها على ترديد ادعاءات كاذبة بشأن برنامج الأسلحة النووية العراقية المنتهي منذ زمن، والآن تتوقع أن يؤمن العالم بقصص مخيفة مماثلة عن جارتها إيران".
ويضيف "شير" " في الوقت الذي تتودد فيه إدارة بوش إلى باكستان ، تسعى واشنطن للتصعيد مع كوريا الشمالية بإبلاغ الحلفاء أن بيونج يانج وفرت مواد نووية لليبيا، على الرغم من إدراك الولايات المتحدة أن بلد المنشأ لهذه المواد النووية حليفتها، باكستان".
ويستشهد الكاتب بما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" أنه في إطار المساعي لزيادة الضغط على كوريا الشمالية، أبلغت إدارة بوش حلفائها الآسيويين في وقت سابق العام الحالي أن بيونج يانج صدرت مواد نووية إلى ليبيا، وهو ما لم تذكره المخابرات الأمريكية.." ، ليقول إن إحدى نتائج هذه السياسة الأمريكية القاصرة تمثلت في انهيار محادثات منع الانتشار النووي متعددة الأطراف مع بيونج يانج.
ويلفت الكاتب إلى أن قرار بوش الابن، الذي أنهى الحظر المفروض منذ عام 1990 والذي وضعه بوش الأب انتقاماً من تطوير باكستان لترسانتها النووية، يبدو شاذاً في الوقت الذي توبخ فيه واشنطن الدول الأوروبية لدراستها رفع حظر أسلحتهم عن الصين.
ويقول البيت الأبيض إن الـ -16 F مكافأة لإسلام أباد لمساعدتها في تفكيك "الشبكات الإرهابية" المزعومة ، على الرغم من التأييد القوي من باكستان لتنظيم القاعدة وحكومة طالبان في أفغانستان، لنحو عقد من الزمن.
وينتقل الكاتب إلى الملف الإيراني قائلاً : في الوقت الذي استمرت إدارة بوش في مواجهة إيران بشأن برنامج أسلحتها النووية المزعومة، اعترفت إسلام أباد أن عالم الأسلحة النووية عبد القدير خان، أمد إيران بأجهزة طرد مركزية، تستخدم في صنع أسلحة نووية.
ويخلص الكاتب إلى القول أنه على المدى البعيد، فإن تكلفة سياسات إدارة بوش ستكون باهظة الثمن متمثلة في "تآكل مثير للثقة في الولايات المتحدة بشأن الانتشار النووي".
عين أمريكية على الصين
من جانبها اعتبرت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتورز" الأمريكية في افتتاحية عدد يوم 31/3/2005 العرض الأمريكي لنيودلهي ببيع طائرات F18 وF16 ، بأنه " نوع آخر من الزلازل" التي ضربت منطقة المحيط الهندي، قائلة إنه "تحول بناء" من قبل الولايات المتحدة لتشكيل شراكة استراتيجية مع الهند وباكستان.
وأضافت أن الولايات المتحدة بعثت بإشارات لعهد جديد في العلاقات مع جنوب آسيا بعرضها بيع طائرات f-16 لباكستان وتقديم العرض الأول من نوعه بتصدير طائرات f-16 وطائراتf-18 المتطورة للهند، بالإضافة إلى عرض الولايات المتحدة التعاون معها في مجال إنتاج الطاقة النووية السلمية.
وتوضح الصحيفة أن هدف هذه السياسات الأمريكية، هو ما قاله المتحدث باسم البيت الأبيض "مساعدة الهند لأن تصبح قوة عالمية رئيسية في القرن 21 " .
وتفسر الصحيفة العروض الأمريكية السخية للهند وباكستان في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن لتعزيز زعامتها للعالم، قائلة إن الحقيقة الخفية، هي أن "الولايات المتحدة تحتاج إلى هند قوي كثقل موازي لتمدد الصين عسكريا واقتصاديا في آسيا "
إلا أن "كريستيان مونيتور" تلفت إلى أن دعم الهند ضد الصين من جهة وتعزيز العلاقات بين نيودلهي وإسلام أباد من جهة أخرى سيتطلب دبلوماسية حساسة خلال السنوات القادمة. وترى الصحيفة أن تنفيذ هذه السياسة بشكل صحيح، سيضع الولايات المتحدة في موقف المهاجم، بدلاً من لعب دور المدافع أمام جبهات عديدة.
شعوب جنوب آسيا الخاسر الأكبر(29/109)
أما الصحف الباكستانية والهندية فقد تباينت آراؤها بشأن التحولات الأمريكية الأخيرة، فحذرت صحيفة "دايلي تايمز" الباكستانية في مقال للكاتب الباكستاني "أحمد فاروقي" بتاريخ 30/3/2005 من أن "شعوب جنوب آسيا ستكون الخاسر الأكبر" من هذه السياسات الأمريكية الخبيثة. ويوضح فاروقي " أن سباق التسلح الهندي الباكستاني سيشتعل الآن من جديد ...فيما ستضاعف الصين من برنامج التحديث العسكري".
أما صحيفة "إنديان أكسبريس" فقالت في افتتاحيتها بتاريخ 29 مارس إنه "مع هاجس الهند إزاء حصول باكستان على طائرات f- 16 ، فإن الحكومة الهندية قد تنظر إلى عرض إدارة بوش بجعل الهند قوة عالمية بأنه عرض غير كاف" . في حين ترى الصحيفة أنه "إذا سخرت الهند من العرض الأمريكي بالشراكة الدفاعية - الصناعية، علاوة على عرض إدارة بوش بيع مفاعلات نووية للهند وتعزيز وضع نيودلهي العالمي، فإن ذلك سيعكس نظرة قاصرة لعرض مرتفع القيمة".
نحو تطبيع هندي باكستاني
من جانبه قال الكاتب الباكستاني نجم الدين شيخ في مقال نشرته صحيفة "داون" الباكستانية بتاريخ 30 مارس "إن عددا كبيرا من الباكستانيين ينظر إلى عرض F -16" " للوهلة الأولى على أنه يمثل مزيداً من الدعم الأمريكي لنظام مشرف.. كما ينظر إليه ثانية، كمكافأة لباكستان على تعاونها في الحرب ضد الإرهاب . وأخيراً، يعتبره البعض الآخر حافزا أمريكيا لباكستان بهدف تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة لعزل إيران".
ويضيف الشيخ أنه "بينما لعبت جميع هذه العوامل دوراً بدون شك.. فإن الدافع الأساسي للعرض الأمريكي هو الحاجة إلى جعل باكستان تشعر بعدم الأمان، الأمر الذي يشجعها على الاستمرار في طريق التطبيع الهندي - الباكستاني دون الخوف من أن الإفراز النهائي لهذه العملية يعني قبول باكستان بالهيمنة الهندية في جنوب آسيا. وهذا يعني أيضاً تشجيع الرئيس برويز مشرف والقوات المسلحة الباكستانية على الاستمرار في معركتهما ضد الإرهاب الداخلي"
=============(29/110)
(29/111)
بلاد شنقيط تستقبل شالوم .. الخلفيات والدواعي!!
أمين محمد / نواكشوط 12/3/1426
21/04/2005
في حلقة أخري من حلقات الاختراق الصهيوني لموريتانيا, سيقوم زير خارجية الكيان الصهيوني (شالوم) بزيارة لنواكشوط مطلع الشهر المقبل(مايو2005) في ثاني زيارة رسمية معلنة لوزير خارجية صهيوني لموريتانيا, بلاد شنقيط ، أرض المنارة والرباط,.. ! حيث زارها جزار" قانا" وزير الخارجية الصهيوني السابق شمعون بيريز في أكتوبر/تشرين الأول عام 2002.
الزيارة المذكورة أكدها وزير الخارجية الموريتاني في مؤتمر صحفي عقده رفقة نظيره اليمني في ختام أعمال اللجنة المشتركة الكبرى للتعاون بين البلدين خلال دورتها الأخيرة با لعاصمة الموريتانية نواكشوط ، وكانت الصحف العبرية قد نشرت خبر الزيارة خلال الأسبوع الماضي، معتبرة أن هدف الزيارة هو مساعدة هذه الدولة "المنكوبة" بكارثة الجراد على حد تعبيرها !
رفض وإدانة للزيارة :
فور إعلان وزير الخارجية الموريتاني عن الزيارة المرتقبة للمسؤول الصهيوني، بدأت ردود الفعل الغاضبة من الزيارة على مستوى الأحزاب والهيئات السياسية والإعلامية بالبلد ، حيث وزع الرباط الوطني لمقاومة الاختراق الصهيوني وللدفاع عن العراق وفلسطين(أهم هيئة محلية لمقاومة الاختراق الصهيوني ) بيانا ندد فيه بالزيارة التي وصفها بالخطوة التطبيعية المشينة، التي تأتى في وقت يعيش فيه العالم ذكرى استشهاد الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسى اللذين سفكت صواريخ "الأصدقاء" في تلابيب دماءهما بعد أن مهد زعماء العرب بسلامهم المزعوم الأجواء لذلك، داعيا جميع قوى المجتمع إلى التحرك قصد إفشال هذه الزيارة المشينة، والانتظام في مسيرات وتجمعات حاشدة تعبيرا عن وجه موريتانيا الحقيقي لا وجهها المزيف، وفاء للأهل في فلسطين وإحساسا بالمسؤولية وقياما بالواجب.
كما جدد مطالبته المستمرة للحكومة الموريتانية بقطع العلاقة مع الكيان الصهيوني والكف عن المتاجرة بقيم الشعب .
و ناشد جميع أحرار العالم وأصحاب الضمائر اليقظة للوقوف أمام المؤامرة التي يحيكها الكيان الصهيوني من أجل تدمير المسجد الأقصى ودفعه بالمستوطنين لتنفيذ ما يصبوا إليه .
وطالب الحكومات العربية بالخروج عن الصمت واستشعار خطورة اللحظة والعودة إلى خيار الشعب بدل التمادي في الخطئية والارتماء في أحضان الصهاينة.
وفي نفس السياق اعتبر حزب الصواب المعارض في بيان له بالمناسبة أن هذه الزيارة: "هي اكبر تحد ممكن لمشاعر شعبنا العظيم ولقيمه وثوابته الوطنية والقومية والدينية، التي تمنع التعاطي مع القتلة والمعتدين، وأي ركون للظلمة أعظم من التعاون معهم، والاعتراف بهم، وكتاب رب العالمين يقول ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)" وتساءل الحزب في بيانه: "أي شيء يمكن أن يبرر هذا الفعل الشائن؟ إذا كانت الهرولة الى إسرائيل بدافع التستر على انتهاكات حقوق الإنسان، فلماذا لا يعمل النظام على حلها داخليا مع شعبه؟ دعما للحق وللوحدة وسدا لمنافذ التدخلات الأجنبية، التي لن تتوان عن التلويح بها كلما دعت مصالحها الخاصة ذلك".
ودعا الحزب في ختام بيانه " سائر الأحزاب والشخصيات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والقوى الشابة من طلاب وتلاميذ وشباب إلى التنديد بهذه الزيارة ورفضها، ويطالب النظام بالتراجع عن الزيارة وقطع العلاقات مع العدو إلى حين استعادة كامل الحقوق الفلسطينية والعربية المغصوبة".
كما اعتبر السيد أحمد ولد داداه الأمين العام لاتحاد القوى الديمقراطية زيارة شالوم لموريتانيا "تحديا للشعب الموريتاني وانتهاكا لمشاعره وثوابته القومية والدينية".
مؤكدا في تصريحات لبعض وسائل الإعلام "أن الزيارة قد تكون تسويقا إعلاميا للجانب الإسرائيلي ودعما للنظام الموريتاني".
من جهتها أصدرت المبادرة الطلابية لمقاومة الاختراق الصهيوني بيانا حملت فيه بشدة علي الزيارة معتبرة أنها تمثل تحديا سافرا لقيم الشعب الموريتاني الأصيلة، داعية الجميع للتنديد والوقوف في سبيلها.
وقد اعتبر القيادي الإسلامي الأستاذ: محمد جميل منصور نائب رئيس حزب الملتقى الديمقراطي (حمد) وهو حزب غير معترف به، "أن هذه الزيارة تعتبر حلقة من حلقات علاقة الإهانة التي أقدم عليها النظام الموريتاني مع الكيان الصهيوني، تأتي لتنقل العلاقة من زيارات محتشمة، وأجندة خفية إلى إعلان متحد لكل المشاعر الإسلامية والوطنية لهذا الشعب، وليعبر بها النظام الموريتاني مرة أخري أنه مستعد لتأييد اليمين الإسرائيلي المتطرف في أوقات ينتقده الكثيرون؛ باستقبال رموزه، وبزيارته في فلسطين المحتلة".
وأضاف منصور في تصريح له لشبكة "الإسلام اليوم" "أن الأمر يتطلب من الشعب الموريتاني القيام بكل أنواع الاحتجاج من أجل غسل هذا العار الجديد، وإظهار صوت موريتانيا الحقيقي للعالم"
أهداف الزيارة : بين المعلن والخفي !(29/112)
يتناقض الموقف الموريتاني والصهيوني في حديثهما عن أهداف وغايات الزيارة المرتقبة، فهي بالنسبة لموريتانيا- كما عبر عن ذلك وزير خارجيتها- تأتي في سياق جهود موريتانيا لـ"دعم عملية السلام في الشرق الأوسط" وفي إطار "الجهود العربية المشتركة للسعي للسلام مع إسرائيل على قاعدة إستراتيجية وضعتها الدول العربية".
أما بالنسبة لإسرائيل فرغم أن أي حديث رسمي عن الزيارة لم يتم لحد الآن، إلا أن الصحف العبرية قد اعتبرت أن هدف الزيارة يتمثل في تقديم مساعدات إسرائيلية لهذه الدولة المنكوبة بكارثة الجراد".
غير أن الحقيقة المرة هي أن الهدف الحقيقي لا هذا ولا ذاك، فطموح النظام الموريتاني لا يصل إلي ذلك المستوي، بل لا يهتم به أصلا, فاهتماماته بتثبيت وترتيب الأوضاع الداخلية, بعد الهزات العنيفة التي أحدثتها المحاولات الانقلابية المتتالية, هي أساس تحركاته ومبادراته الخارجية. ومن هذه النافذة دخل موضوع التطبيع برمته، بعد أن ضاقت الأرض في الداخل بما رحبت، وزاد الاحتقان السياسي عن حدود المعقول، وظهر أن النصير الخارجي الأهم (فرنسا) بدأ يدير ظهره ، ويولي وجهه لاتجاه آخر، وأن لا ملجأ من منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات الصرف الدولية إلا إلى واشنطن، وهل من طريق معبد لواشنطن أفضل من الطريق الذي يمر عبر تلابيب؟
ومنذ إقامة العلاقات بين نواكشوط وتل آبيب بدأت التنازلات تترى بلا حدود،... ففي الوقت الذي تنتعش فيه المقاطعة الرسمية العربية لتلابيب، ويشتد الخناق عليها سياسيا تستدعى نواكشوط لكسر طوق المقاطعة، أو لتسويق مرحلة جديدة من مراحل الاختراق الصهيوني للجسد العربي.
وتحتفظ الذاكرة العربية بمواقف مشهودة في هذا السياق، فعندما جاء (نتنياهو) إلى السلطة في أكتوبر 98، ومصر والأردن وغيرهما من الدول العربية المطبعة في حالة تردد وانتظار، تم استدعاء وزير خارجية النظام الموريتاني حينها الشيخ العافية بن محمد خونة إلى تلابيب، من أجل قطع حالة التردد تلك، وإلغاء احتمال أي تلكإ عربي في التطبيع،
وفي مايو2001 وبعد قرار لجنة المتابعة العربية القاضي بمنع دول الجامعة من إجراء أي اتصالات مع الصهاينة احتجاجا على المجازر الشارونية البشعة, التي عاشتها الأراضي الفلسطينية في جنين والضفة والقطاع مايو 2001, وبعد استدعاء كل من مصر والأردن لسفيريهما في تلابيب؛ طار إلى "إسرائيل" وزير الخارجية الموريتاني آنذاك ولد عبدي ليلتقي شارون وبيريز !
وقد أثارت هذه الزيارة ردود أفعال محلية وعربية غاضبة ، حيث اعتبر الأمين العام للجامعة عمرو موسى الخطوة الموريتانية خروجا على وحدة الصف العربي في هذا الظرف الذي وصفه بالعصيب كما لاقت هذه الزيارة شجب واستنكار كل القوى الوطنية واعتبرتها تشجيعا لشار ون على ما يقترفه من مذابح بحق إخواننا الفلسطينيين العزل .
ومن هنا ندرك أن الزيارات المتبادلة بين موريتانيا والكيان الصهيوني هدفها الأساسي إعلامي يتعلق بتسويق التطبيع بين الدول العربية، وكسر الحواجز النفسية بيننا مع الصهاينة، وإعطاء انطباع بأن الصف العربي غير موحد، وأن عهود المقاطعة العربية قد عفا عليها الزمن، كما تأتي في ظل سعي الكيان الصهيوني لوضع خارطة استسلام جديدة لجر المنطقة بأكملها إلي رذيلة التطبيع مع الغاصبين لأولى القبلتين مستبيحي دماء الأطفال والشيوخ، كما تأتى الزيارة في ظل الحديث عن مبادرة للتطبيع الجماعي لدول المغرب العربي مع الكيان الصهيوني ، قبيل زيارة الإرهابي شارون لتونس المقبلة.
وتعيد زيارة وزير خارجية الصهاينة- للمرة الثانية وفي هذا الظرف - إلى الأذهان, مسيرة التطبيع الموريتانية الصهيونية التي برزت في أغلب حالاتها في ظرف دولي متسم بالسخونة والحرج لدولة الكيان الصهيوني.
محطات في تاريخ العلاقة الصهيونية الموريتانية
بدأ قطار التطبيع الصهيوني الموريتاني في 27 نوفمبر 1995 بتوقيع اتفاق يقضي بفتح مكتبين لرعاية مصالح البلدين بالعاصمة الإسبانية .
- وفي نهاية أكتوبر 1998 قام وزير الخارجية الموريتاني آنذاك الشيخ العافية بن محمد خونا بزيارة الكيان الصهيوني ، واتهمت المعارضة الوطنية حينها الحكومة بالتوقيع على اتفاق يقضي بأن تستضيف الصحراء الموريتانية نفايات نووية من مفاعلات ديمونة مقابل تمويل الكيان لمشاريع زراعية في موريتانيا.وقد تم اعتقال الأستاذين أحمد ولد داداه, رئيس حزب اتحاد القوى الديمقراطية آنذاك, ومحمد ولد باباه, في نفس الفترة على خلفية مطالبتهما للحكومة بفتح تحقيق مستقل بشأن النفايات المزعومة .
- وفي 11 يونيو 1999 وصل انواكشوط وفد طبي صهيوني لإجراء عمليات جراحية لمرضى العيون ولم يلق هذا الوفد الكثير من الترحاب الشعبي بعدما تلقى رئيسه "روزمبلات" صفعة من يد أحد فنيي المستشفى الوطني(الزايد بن خطاط رحمه الله تعالي) بعيد علمه بأنه "إسرائيلي".(29/113)
- وفي أكتوبر من نفس العام وقع وزير الخارجية الموريتاني أحمد ولد سيد أحمد ونظيره "الإسرائيلي" ديفد ليفي برعاية وزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت في واشنطن ابروتوكول اتفاق يقضي برفع مستوى العلاقات إلى درجة السفراء.
- وفي إبريل 2000 زار وفد من لكنيست ( البرلمان الصهيوني) انواكشوط برئاسة ناعومي شازان من حزب ميريتس الصهيوني وأجرى لقاءات مع رئيس الجمهورية وأعضاء في البرلمان وقام رفقة برلمانيين موريتانيين بجولات داخلية شملت مدن شنقيط ووادان بما يعنيه ذلك من دوس للتاريخ وعبث بالذاكرة الجماعية للشعب الموريتاني.
- وفي فبراير 2004 قام وفد صهيوني بزيارة إلى موريتانيا من أجل تركيب أجهزة ومعدات لما يسمى بـ « مركز الأبحاث والدراسات السرطانية»
- وتأتي هذه الزيارة في ذكرى استشهاد الشيخين, ياسين والرنتيسي, لتؤكد الطبيعة الشاذة للعلاقة بين البلدين, وتؤكد طبيعة الاستغلال الذي يقوم به الكيان الصهيوني للنظام الموريتاني كلما حاول فتح آفاق "تطبيعية " جديدة, أو أحس لحظة حرج أو ضغط دوليين.
==========(29/114)
(29/115)
بوشارون: المخلوط السياسي الذي يحاصر المنطقة العربية
إدريس الكنبوري / المغرب 17/3/1426
26/04/2005
المتابع لما يجري في منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام سوف يجد أن هناك عدة تحولات ترتسم في الأفق وترسم منظرا أسود اللون للمنطقة العربية، إلى حد أن لا أحد يتنبأ بما قد يحدث في الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة، وأزعم أنه حتى الحكام العرب أنفسهم، باتوا لا يعرفون الوجهة التي تسير فيها الأمور، وأين ستستقر غدا، وما هي الاختيارات الممكنة.
في الأيام الماضية شكلت الزيارة التي قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لواشنطن تكريسا للتحالف الاستراتيجي التام بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية،حصل بموجبه شارون، أو البلدوزر كما تطلق عليه الصحافة العربية على ما كان يطلبه باستمرار، وهو مصادقة البيت الأبيض على سياسته اتجاه السلطة الوطنية الفلسطينية، وخطته أحادية الجانب بالانسحاب من قطاع غزة، والبقع الاستيطانية في الضفة الغربية، والموقف الإسرائيلي من القدس الشرقية. وبخلاف بعض القراءات المتسرعة التي تعاملت مع تصريحات جورج بوش من داخل" العقل" الأمريكي نفسه، وحاولت أن توهم القراء بأن الأمر يتعلق بخلاف حقيقي لساكن البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي البدين، ورفض أمريكي لسياسة الاستيطان، فإن الواقع لا يقول أكثر من أن الأمر مجرد تضليل للعرب ومسرحية أخرجتها الإدارة الأمريكية وزعت فيها الأدوار بين الرجلين، حتى يبدو أن هناك مواجهة بين بوش وشارون بشأن قضايا الاستيطان لفائدة السلطة الوطنية الفلسطينية والتسوية السياسية للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهذا ليس مجرد استنتاج من خلال الأخبار والتصريحات، بل هو أيضا ما صرح به علنا الناطق الرسمي باسم الخارجية الإسرائيلية والسفير الإسرائيلي السابق في باريس ليومية"لوفيغارو" الفرنسية يوم الثلاثاء الماضي، فقد كشف الرجل عن وجود مراسلات سرية بين شارون وبوش وافق فيها الرئيس الأمريكي على مطالب شارون حول الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية التي تفصل بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم، بما يقود سلفا إلى منع إنشاء دولة فلسطينية متصلة جغرافيا، كما وافق فيها بوش على أن لا يكون هناك أي تراجع إسرائيلي إلى ما وراء خطوط 1967. ولا شك أن مثل هذه المواقف الأمريكية تقضي تماما على ما تعهد به جورج بوش نفسه للعرب والفلسطينيين قبل عامين من خلال ورقة خارطة الطريق، وما أطلق عليه"وديعة بوش" التي تؤكد من خلالها الإدارة الأمريكية على قيام دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل.
لكن جورج بوش الذي خرج عن تعهداته للعرب والفلسطينيين وأمطر صديقه شارون بكل الهدايا التي كان ينتظرها، لم يخرج عن تلك التعهدات التي قدمها لرئيس الوزراء الإسرائيلي منذ ولايته الأولى في البيت الأبيض عندما أطلق عليه قبل ثلاث سنوات لقب"رجل السلام". فما يقوم به شارون بالنسبة لبوش هو محاولة لصنع السلام مع الفلسطينيين، فيما يبدو هؤلاء واقفين في الصف الرافض للعروض الإسرائيلية، وهذا نفسه ما روج له شارون أثناء زيارته إلى واشنطن في الأسبوع الماضي، إذ وجه انتقادات قوية لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على اعتبار أنه ما يزال بعيدا عن التقدم نحو المشروع الإسرائيلي المعروض للتسوية، وشن حرب على فصائل المقاومة المسلحة، فيما تستمر الجرائم الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية تحت سمع وبصر المسؤولين الأمريكيين والعالم.
لقد دخل شارون إلى قلب بوش من نفس الباب الذي يحب هذا الأخير أن يدخله الجميع، وهو محاربة الإرهاب. وقد قضى السنوات الماضية كلها يبرر سياسته ناحية الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بهذا الأمر، وانتهى ذلك إلى قبول أمريكي رسمي لسياسة عزله من طرف الحكومة الإسرائيلية ثم محاصرته في مقر المقاطعة برام الله طيلة السنوات الأربع الأخيرة من عمره. ولذلك ليس غريبا أن يتم هذا التقارب الواسع بين الرجلين ليشكلا مخلوطا سياسيا خطيرا يتهدد المنطقة ويحاصرها من كل جانب، إسرائيل من داخل المنطقة وفي قلبها، وواشنطن عبر النافذة العراقية المطلة على سوريا وإيران والدول المجاورة.
المثير هو أن الكتابات الصحفية، سواء منها العربية أو الغربية، بل حتى الإسرائيلية، لا تأتي أبدا على ذكر العرب في كل القراءات التي تقدمها للتحولات الحاصلة في المنطقة، اللهم الا باعتبارهم ضحايا أو مفعولا بهم. فهو غائبون عن مسرح الأحداث وغير فاعلين فيها، أما ما سمي بالمبادرة العربية للتطبيع أو التسوية مع إسرائيل ، فهي غير موجودة إلا في أذهان صانعيها، بالرغم من أن ما يتم تحضيره للمنطقة يمس المستقبل العربي في الصميم ويحدد أشكال هذا المستقبل، وربما ينبئ من الآن بميلاد مولود مشوه الخلقة قد يجر المنطقة برمتها نحو الهاوية السحيقة.(29/116)
لقد بنى العرب كل شيئ على وعود بوش المتكررة لهم بدفع عجلة التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتحقيق حلم الدولة الفلسطينية، وركضوا جميعا خلف الوهم الذي صنعه الرئيس الأمريكي ومستشاروه. وفي وقت سابق شكل هذا الوهم غطاء سياسيا استفادت منه واشنطن في تمرير الحرب على العراق، إذ ضمن به بوش صمت البلدان العربية، لكن في وقت لاحق ظهر مبرر آخر وهو الحسم النهائي مع الإرهاب ومواصلة الإصلاحات السياسية في السلطة الوطنية الفلسطينية، بمعنى أن وعد بوش بإنشاء الدولة الفلسطينية أصبح مشروطا بهذين الأمرين، وذهبت هذه المواقف الأمريكية رصيدا إضافيا إلى حساب شارون على حساب حل القضية الفلسطينية.
الرؤية الأمريكية ـ الإسرائيلية لأمور المنطقة ولحل النزاع الفلسطيني تبدو متناغمة وليست بحاجة إلى جهد كبير للتفكيك، فهي تنطلق من ضرورة تغيير الوضع القائم في المنطقة العربية أولا واعتبار حل القضية الفلسطينية حاصلا لذلك التغيير لا مقدمة له، وهنا محور الاختلاف بين المطالب العربية من جهة والأمريكية ـ الإسرائيلية من جهة ثانية، والذي ظهر بعد وضع الإدارة الأمريكية لمشروع الشرق الأوسط الكبيروشمال إفريقيا، فقد علق العرب مطالب الإصلاح على حل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بينما علقت الإدارة الأمريكية هذا الحل على تلك الإصلاحات، ثم تغلبت المطالب الأمريكية على المطالب العربية لأن العرب لا يملكون الوزن الكافي لتمرير رؤيتهم للأمور.
وما يلوح في الوقت الراهن هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تضع الملف الفلسطيني في مركز الاهتمام فيما يتعلق بمنظورها الأشمل للتعاطي مع شؤون المنطقة، إذ أنها فتحت جبهات أخرى مع سوريا ولبنان وإيران، وتريد الانتهاء من هذه البؤر الثلاث بهدف وضعها داخل المساحة المتحكم بها لضمان استقرار إقليمي بالمنطقة بما يساير الأهداف الأمريكية في المستقبل المنظور. ولذلك تحرص على التجاوب مع حزمة المطالب الإسرائيلية لأنها توفر لها استراتيجية اللعب على الوقت الميت ريثما يتم دفع الأمور في الاتجاه المطلوب، ولذا يبدو من غير المؤكد حدوث تفكك في تحالف بوش ـ شارون أو"بوشارون" بما يقود إلى الفصل بين السياسة الأمريكية اتجاه الملف الفلسطيني والسياسة الأمريكية اتجاه ملف المنطقة العربية ككل واحد
============(29/117)
(29/118)
الدكتاتوريات تحاول تبسيط الظاهرة الإسلامية !
حوار : أمين محمد / موريتانيا 18/4/1426
26/05/2005
الأستاذ محمد غلام هو أحد قيادات التيار الإسلامي الشابة في موريتانيا ، والأمين العام للرباط الوطني لمقاومة الاختراق الصهيوني وللدفاع عن فلسطين والعراق - المنظمة الأبرز في مقاومة الاختراق الصهيوني في البلاد - فاجأ الأستاذ محمد غلام الرأي العام مؤخرا بقيادته لإحدى مسيرات الرباط المحتجة والمنددة بزيارة وزير خارجية الكيان لموريتانيا، وهو الذي تنهمك السلطات الأمنية في البحث عنه ..
شبكة"الإسلام اليوم" التقته عن طريق الهاتف وحاورته عن الرباط ودوره وعلاقاته، وعن الإسلاميين وأزمتهم مع النظام...
تشغلون الآن منصب الأمين العام للرباط الوطني،كيف تقدمون هذه المؤسسة للرأي العام، وما هو دورها في مقاومة الاختراق الصهيوني للبلد؟
الرباط الوطني لمقاومة الاختراق الصهيوني والدفاع عن فلسطين والقدس والعراق منظمة شعبية أسسها جمع من مختلف الأطياف والتوجهات لمقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني ومختلف مظاهر اختراقه للبلاد وللتوعية حول القضيتين الفلسطينية والعراقية ... دفع ملفه عند وزارة الداخلية التي مازالت ترفض الاعتراف به ومع ذلك ينشط على نطاق واسع لتحقيق أهدافه .. نظم عددا كبيرا من الندوات والمؤتمرات الصحفية .. أصدر البيانات والعرائض ومطبوعات مختلفة .. نظم مسيرات ومظاهرات وشارك بفاعلية في أخرى ...
تولى أمانته العامة منذ تأسيسه حتى السنة الفارطة الأستاذ المناضل و صاحب الصوت العالي واليد الطولى في مقاومة الاختراق الصهيوني محمد جميل ولد منصور. وقد عقد مؤتمرا عاما خلال السنة الماضية أسفر عن انتخاب هيئات جديدة، من ضمنها الأمين العام، ورئيس مجلس الرقابة والتوجيه الحاليين.
يلعب الرباط الدور الأبرز محليا في مقاومة الاختراق الصهيوني، ويتعاون باهتمام مع الناشطين في هذا المجال مثل "المبادرة الطلابية لمقاومة الاختراق الصهيوني"، وقد ظهر ذلك جليا في استقبالهما الأخير لوزير خارجية الكيان"شالوم"، حيث انفجرت مدينة انواكشوط كلها غضبا ورفضا لتلك الزيارة المشؤومة، فخرجت المظاهرات والاحتجاجات، واصطبغت الجدران بالكتابات المنددة والرافضة لتلك الزيارة، حتي مركز السرطان الذي يشرف الكيان علي بنائه ، ويخضع للحراسة المشددة؛ طالته هذه الكتابات الغاضبة، مما دفع السفاح الزائر لاختزال الزيارة، والانصراف سريعا.. سريعا..
ما هي العلاقة التي تربط بين مؤسستكم ونظيراتها في البلدان الإسلامية؟
يرتبط الرباط الوطني بعلاقات جيدة بعدد من المؤسسات والهيئات المهمة فهو عضو في الحملة العالمية لمقاومة العدوان ومشارك في مؤتمر القدس وله صلات بالمنظمات الفلسطينية وحضر أكثر من مؤتمر عربي وإسلامي مهتمٍ بمقاومة التطبيع في اليمن ولبنان وليبيا والمغرب والسودان وسوريا والبحرين.
لننتقل الآن إلي الأزمة التي يواجهها التيار الإسلامي في موريتانيا حاليا.. فباعتباركم أحد قيادات هذا التيار الذي يوجد الآن في سجون الأمن الموريتاني بعض أهم رموزه وقادته، كيف تفسرون ذلك؟
الشعب الموريتاني كغيره من الشعوب العربية المبتلاة بحكام الجمهوريات "الجبرية" .هذه الجمهوريات التي فشلت أنظمتها في التنمية والحرية والمحافظة على كرامة الشعوب ، ووسط أنات مسجونيها، يتواصل تهريجها الإعلامي يصرخ بالمنجزات الوهم التي تحققت في كافة المستويات!
ونظامنا في موريتانيا طبعة من هذه الطبعات يحاول التقرب "للأسياد " بتسويق ما يسمى ب"الإرهاب" حرصا على المعونات المادية التي تقدم لأي حاكم اليوم يثبت أن له يدا في محاربة "الإرهاب" ، وإن كان الظاهر أن النظام فشل في ذلك إذ بدأ السادة يكتشفون زيف ادعاءات الأنظمة الاستبدادية، بل بدءوا يفكرون بتجاوزها للتعامل مع شعوبها.
في الوقت الذي تتواصل هذه الاتهامات من طرف السلطة، تشهد هيئات المجتمع المدني الموريتاني صحافة وأحزابا سياسية وشخصيات عامة وكبار علماء بوسطية واعتدال عموم التيار الإسلامي الموريتاني، وعلى رأسه فضيلة شيخنا العلامة الشيخ محمد الحسن ولد الددو، كما يشهد بذلك الدبلماسيون الغربيون في البلد.
يلاحظ أن الاعتقالات شملت مختلف أطراف الساحة من أعضاء الحزب الحاكم والسلفيين والتبليغ، ما هو تفسيركم لذلك ؟
النظام الموريتاني له ثارات مع التيار الإسلامي بسبب حضوره القوي وتأثيره في المجتمع ومن ثم يحاول إقحامه في كل أزمة، وفي كل اعتقال أيا كان، بحق أو بغير حق، والاعتقالات الأخيرة جرت على خلفية ما قيل عن شباب قادم من صحراء الجزائر ينتمون للسلفية الجهادية ، حسب ادعاء أجهزة المخابرات،- غيرالمزكاة- وعلى الفور أدخلت رموز العمل الإسلامي المعروفين بمغايرة منهجهم لما ادعت، ألقت بهم في السجون، الشيء الذي أثار حفيظة كل الخيرين من رجالات المجتمع، وقد يكون منهم أعضاء في الحزب الحاكم عبروا عن امتعاضهم من هذا التلفيق ألقي بهم في "قعر مظلمة" حتى يذوقوا مرارة النصح في هذا الزمن الرديء!(29/119)
في البيان الذي أصدرته أجهزة الأمن الأخير، ذكروا أن هناك جهات تدفع أموالا للمحجبات وأئمة المساجد، ما حقيقة ذلك؟
حقيقة ذلك قول الله تعالى: " فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين". الدكتاتوريات دائما دعايتها ساذجة! فهي تحاول تبسيط الظاهرة الإسلامية بأن الدافع وراءها مادي، فالوزير الذي تحدث بهذا الكلام، هو أول من يعلم أن الستر في موريتانيا ظاهرة أصيلة ، أصالة هذا الشعب، وأصالة انتمائه لهذا الدين ، لا يدفع إليه إغراء مادي ، في الوقت الذي لا يمنع منه تخويف سلطان .
كيف تفسرون الصدام الدائب بينكم وبين هذا النظام ؟
سره راجع إلى طبيعة النظام الموريتاني الذي يرفض التعاطي والاعتراف بالتيار الإسلامي الذي هو ملئ سمع الدنيا وبصرها! هذا التيار المعتدل المستعد للتعاطي السياسي مع مختلف الشركاء المحليين والدوليين هذا التيار المستعد لأن يأخذ أقل من حقه ومكانته ليس من باب إعطاء الدنية في الدين، وإنما من باب احترام الآخر والحرص على حفظ بيضة الوطن والسعي في مصالحه ومع ذلك يصر النظام على أن يكون نشازا في طريقة التعاطي مع التيار الإسلامي كما تفعل "الدول المجاورة" فالمغرب المملكة استوعب تياره الإسلامي في حزب وصحف وجمعيات، والجزائر رغم جنرالاتها يوجد بها ثلاث أحزاب سياسية إسلامية ، وفي السنغال يشارك التيار الإسلامي في التحالف الذي جاء بالرئيس الحالي إلى سدة الحكم.
إن التيار الإسلامي يريد الخير لهذا البلد، يريد لأبنائه الحرية والعيش الكريم، يريد للنظام أن يتوجه نحو مزيد من الديمقراطية الحقة والانفتاح على مختلف الفرقاء.. ،
يريد منه أن يحترم هوية المجتمع الإسلامية .. ، يريد منه أن يعدل بين مواطنيه ..، يريد منه أن يكف عن إيذائنا وإيذاء سمعتنا بالعلاقات المدانة مع الكيان الصهيوني .
ولأجل ذلك كله فالنظام يحارب هذا التيار، ويصفه بأشنع الأوصاف، ويعتقل ويسجن كل مرة شيوخه ورموزه.ولكننا مع ذلك سنستقبل ابتلاءاتنا المتواصلة من هذا النظام بإيمان واطمئنان على مستقبل الإسلام وصحوته في أرض المرابطين، في هذه الربوع الطيبة، وستبقى هذه الأرض الطيبة صخرة تتكسر عليها محاولة المستبدين لسرقة هويتها والتنكر لذاتها.
============(29/120)
(29/121)
الإسلاميون في موريتانيا .. والدفاع عن الثوابت!
عاصم السيد / القاهرة 23/4/1426
31/05/2005
تتواصل الأزمة السياسية بين السلطات الأمنية والتيار الإسلامي في موريتانيا والمستمرة - منذ أسابيع- دون أن تتراجع الحكومة عن حملتها الهادفة لاحتواء التيار الإسلامي الذي يحظى بشعبية واسعة داخل البلاد .
فقد قررت السلطات الموريتانية إحالة أكثر من 30 قيادياً إسلامياً -اعتقلوا منذ نحو أكثر من شهر- إلى سلطات الادّعاء؛ بزعم اتهامهم بقيادة تنظيم سلفي، مرتبط بتنظيم "القاعدة".
ومن أبرز المتهمين الشيخ محمد الحسن ولد الددو - زعيم التيار الإسلامي في موريتانيا- والسفير السابق المختار ولد محمد موسى، والإمام النووي -الذي تعتبره الشرطة زعيم التنظيم السلفي الجهادي- والإمام محمد الأمين بن الحسن .
وتدَّعي الحكومة أن التحقيقات، أسفرت عن اكتشاف مجموعة من المساجد، يقوم عليها أفراد لهم صلاتهم الواضحة بتنظيم القاعدة، كما تشكل مراكز للاتصال مع خلايا هذا التنظيم عبر العالم.
ومن بين الاتهامات التي اعتدنا سماعها من النظام الموريتاني- كغيره من الأنظمة العربية اتهام الأمن الموريتاني لهذه المجموعة من الإسلاميين، بأنهم جندوا مجموعات من الشباب الموريتاني، وأرسلوهم للتدريب العسكري لدي الجماعة السلفية؛ للدعوة والقتال في مكان ما بالجزائر، من أجل إعدادهم؛ لتنفيذ أعمال مسلحة في موريتانيا، وأن هؤلاء يعتمدون على شبكات قوية للتمويل الخارجي، مكنتهم من الحصول علي مبالغ طائلة استخدمتها؛ لتمويل عدد من المساجد، من أجل نشر دعايتهم بين الشباب وتسهيل تجنيدهم، وكلها مزاعم وتهم باطلة .
وحسب ما اعتدنا عليه من أجهزة الأمن الموريتانية.. فإنه يمكن التوقع بسهولة أن ملفات المعتقلين خالية من أية إدانة ، وأن الأمن الموريتاني يسرب معلومات كل فترة؛ لتوريط المعتقلين في قضية لا دخل لهم فيها.
والغريب أنه في ظل مواصلة التلفزة والإذاعة، الحكوميتين لندوات تنبذ التطرف، هاجم الحزب الحاكم، الأحزاب التي طالبت بإطلاق سراح المعتقلين.
والأغرب من ذلك أن يصدر بيان للحزب -الذي يقوده الرئيس ولد الطايع- يعلن استغرابه الكبير لكون مسئولي بعض الأحزاب المعارضة، قد رضوا لأنفسهم بأن يوقّعوا عريضة مع أشخاص معروفين، بعدائهم للديمقراطية ودعمهم العلني لكل المحاولات الانقلابية، وخروجهم المستمر علي الشرعية ودولة القانون.
ونسي هذا الحزب أنه جاء إلى السلطة بانتخابات مزورة، وأنه هو حجر العثرة الرئيسي أمام الحرية والديمقراطية، باحتكاره للسلطة .
وتلاقي الحملة -التي تقوم بها الحكومة ضد الإسلاميين- ارتياحا كبيرا، غير معلن داخل الطرق الصوفية، التي تري في الإسلاميين قوة لتضليل المجتمع وهز معتقداته وربطه بمذاهب مستوردة، غير مجمع عليها.
وتتهم الأوساط المحافظة - ومن ضمنها مشيخات الطرق الصوفية، ذات التأثير الواسع والمؤيدة للحكومة-التيار الاسلامي الموريتاني، ببث مذهب الوهابية، الذي يكفر الصوفية ويضللها.
ويلاقي الإسلاميون تعاطفا كبيراً داخل أوساط المعارضة الموريتانية بكل اتجاهاتها السياسية ، وفي هذا النطاق.. ندد الرئيس الموريتاني السابق محمد خونا ولد هيداله بحملة الإعتقالات الحالية في صفوف الإسلاميين ووصفها بالتعسفية، مطالبا بإطلاق سراح جميع المعتقلين.
وأكد الرئيس السابق أن هذه الاعتقالات، تعتبر خرقا للقوانين الموريتانية، وانتهاكا صارخا للحريات، ومحاولة لوصف تيار معتدل بالتطرف؛ بهدف تصفية خصوم سياسيين، واصفا هذه الحملة بأنها خطوة في الاتجاه غير الصحيح .
يذكر أن القيادي الاسلامي الموريتاني، البارز محمد جميل منصور، كان قد أكد أن التيار الاسلامي الموريتاني مستعد، لإدانة أي نظام أو حركة تتبني العنف والإرهاب وأن الحرية والديمقراطية واحترام القانون وحقوق الإنسان، هي أهم الأسلحة لمواجهة العنف والتشدد، متهما بعض الأنظمة - ومنها النظام الموريتاني- بأنها تفضل وجود تنظيمات متشددة، ولذلك تبرر حالات الطوارئ والقمع والتشديد.. وبه تستدر عطف بعض الجهات الدولية، علي حد تعبيره.
وقال منصور: إن عملنا وفكرنا ودعوتنا وجهودنا الثقافية والإعلامية والسياسية، كل ذلك يصب في اتجاه الاعتدال، ونشر قيم التسامح والحوار والانفتاح، وأن تصرفات السلطة وقمعها واستغلالها السلبي للدين، يصب في الاتجاه المعاكس، وتحديدا نحن لا نتواطؤ مع أي جهة متشددة ولا ندعمها.
ويري رموز التيار الإسلامي ومناصروهم أن من حق الإسلاميين تبني ما يرونه من أطروحات سياسية في مجتمع ديمقراطي، خاصة وأن الإسلاميين الموريتانيين يتميزون عن غيرهم من الإسلاميين بالاعتدال والانفتاح واحترام الرأي الآخر.
متاجرة سياسية
ويوجد من ضمن المعتقلين حاليا بعض القيادات الدينية والسياسية المعروفة محليا وعالميا .. مثل السياسي والكاتب المعروف محمد جميل بن منصور، والشيخ العلامة محمد الحسن بن الدوو، والإمام محمد الأمين بن الحسن- أحد أقدم قيادات التيار الإسلامي في موريتانيا - وعدد من الأئمة المشهورين، الذين يعرفهم الجميع، ويكن لهم كل الاحترام.(29/122)
وهو ما سيؤثر على هدف السلطة من الاعتقال، ويجعل متاجرتها السياسية بأبناء شعبها غير مجدية، بل ذات مردود عكسي.
وقد جاءت ردة فعل الشارع في العاصمة الموريتانية، معبرة عن وعي الشعب بدوافع هذه المتاجرة السياسية، حيث أجمعت القوى السياسية الموريتانية على إدانة الاعتقالات، ومنها "الجبهة الموحدة للمعارضة" و"التحالف الشعبي التقدمي" و"حركة تطوير الديمقراطية" و اتحاد القوى الديمقراطية، وحزب الملتقى الديمقراطي و"الهيئة الوطنية للمحامين". واتحاد طلاب موريتانيا ، وغيرها من القوى السياسية بالبلاد .
لكن كل هذه الحقائق لم تغير حتى الآن من تفكير القيادة الموريتانية .
رفض شعبي للتطبيع ..
ويضاف إلى ذلك ثمن التطبيع.. حين غير الرئيس الموريتاني خريطة تحالفاته الخارجية، وتبني سياسة احتماء جديدة، ارتبط بمقتضاها بحام جديد هو أمريكا، وكان ثمن ذلك تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولا يمكن فهم الاعتقالات الأخيرة دون ربطها بموضوع التطبيع، فكل المعتقلين من الإسلاميين لهم جهود في مقاومة التطبيع بين موريتانيا وإسرائيل؛ فمحمد جميل منصور هو أول رئيس ل : "الرباط الوطني لمقاومة الاختراق الصهيوني وللدفاع عن فلسطين والعراق "، أما الشيخ محمد الحسن.. فقد أصدر فتوى - منذ شهور- وقّع عليها كبار العلماء الموريتانيين، تحرِّم العلاقات مع إسرائيل، أثارت ضجة كبيرة، وأحرجت السلطة الموريتانية كثيرا.
ولم يفتأ الشيخ محمد الحسن يحارب التطبيع في كل دروسه ومحاضراته العامة. والأئمة المعتقلون معروفون لسكان العاصمة الموريتانية بخطبهم المناهضة للعلاقات مع إسرائيل.
ومن هنا فإن زيارة سلفان شالوم وزير خارجية إسرائيل الأخيرة لموريتانيا - منذ أسابيع- أحيطت برفض شعبي وسياسي غير مسبوق، أعاد الشارع الموريتاني إلي تحمسه القديم، للدفاع عن عروبته وثوابته، فالزيارة شغلت كل موريتانيا، وعاش فيها الجميع علي أعصابه، ما بين غاضب لوطء شالوم أرض موريتانيا، ومهتم بتأمينه وانجاح زيارته.
وقد أحيط شالوم بإجراءات أمن، لم تشهدها العاصمة الموريتانية، من ذي قبل شاركت فيها وحدات إسرائيلية متخصصة.
وقوبلت زيارة سلفان شالوم بمظاهرات حاشدة، شاركت فيها كل القوى السياسية والشعبية بالبلاد ، رددت خلالها شعارات التنديد بالعلاقات مع إسرائيل ومطالبة بقطع علاقات نواكشوط بتل أبيب.
مبررات النظام الموريتاني لإقدامه على التطبيع مع العدو الصهيوني كثيرة، وأول هذه المبررات الواهية هي الادّعاء بأن الهدف من التطبيع هو إقناع الإسرائيليين بدرب السلام والتعايش، وكف العدوان عن الأشقاء الفلسطينيين !
التيار الإسلامي في موريتانيا
الاتجاه الإسلامي - والذي يعد امتدادا لفكر حركة الإخوان المسلمين - هو أحدث التيارات نشأة في الساحة السياسية الموريتانية، التي تضم خليطا من التيارات المتباينة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وقد نشأ التيار الإسلامي في حقبة ا السبعينيات من القرن الماضي، في أوساط خريجي الجامعات القادمين من المشرق العربي .
ولعبت عوامل من بينها الخارجي، مثل تنامي المد الإسلامي في العالم العربي وقيام الثورة الإيرانية، وعوامل داخلية منها تراجع المد القومي واليساري بسبب الحملات الأمنية العنيفة التي استهدفت الشيوعيين، أثناء حكم الرئيس الأسبق المختار ولد داداه والناصريين والبعثيين، في الثمانينات، بعد وصول الجيش للحكم.. لعبت دورا كبيرا في ولادة الاسلاميين في موريتانيا.
كما تعزز حضورهم في الساحة بعد تأسيس الجمعية الثقافية الإسلامية ـ الواجهة الثقافية والدعوية والخيرية للأداء الإسلامي السياسي في البلاد، طيلة العقدين الماضيين.
وشكلت أطروحات حركة "الإخوان المسلمون" المرجعية الفكرية للإسلاميين في موريتانيا، الذين قدموا أنفسهم على أنهم امتداد لحركات الإصلاح الإسلامية في العالم العربي .
وتتنازع التيار اليوم توجهات فكرية متباينة، بيد أن مدرسة الاعتدال، التي يمثلها العالم الشاب الشيخ محمد الحسن ولد الددو -أحد أبرز قيادات التيار الإسلامي حاليا - والمعارض الإسلامي البارز محمد منصور، تبدو هي الأقوى والمهيمنة على الساحة الإسلامية في موريتانيا .
وتتبنى المدرسة ـ كما يقول قادتها ـ نهج الكفاح السياسي السلمي ومنهج الوسطية، وأكد قادتها - مرارا- نبذهم للعنف، كوسيلة لحسم الصراع مع السلطة.
غير أن الإسلاميين الموريتانيين يعارضون التوجهات الدبلوماسية لنظام الرئيس معاوية ولد سيد احمد الطايع - الذي يحكم البلاد منذ 21 عاما- كما يعارضون سياساته الاقتصادية والاجتماعية المتحررة.
وكان ولد الطايع قد قام منتصف التسعينات( أواخر عام 96) بربط صلات مع إسرائيل، تقربا من واشنطن وذلك بعد الأزمة السياسية الحادة التي تفجرت مع الحليف التقليدي فرنسا - على خلفية اعتقال السلطات الفرنسية لضابط موريتاني خلال وجوده بفرنسا في مهمة تدريبية بدعوى ممارسته للتعذيب ضد سجناء سابقين - وتطورت هذه الصلات، فيما بعد لتصبح موريتانيا ثالث دولة عربية، بعد مصر والأردن تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل.(29/123)
غير أن التصعيد ضد الإسلاميين، غير مرتبط- فقط- برفضهم، للتطبيع مع إسرائيل، فالحملة الأمنية الجارية لتقليم أظافر الإسلاميين ليست الأولى، ففي نهاية 1993 رفضت السلطات الترخيص لحزب الأمة، الذي سعى الإسلاميون لتأسيسه بعد إقرار التعددية السياسية في البلاد يوليو (تموز) 1991.
كما تم اعتقال أكثر من 90ناشطا إسلاميا، ومنذ ذلك التاريخ دأبت السلطات الموريتانية على القيام من وقت لآخر بحملات اعتقال للإسلاميين، يجري خلالها توقيف قادتهم والحد من أنشطتهم في المساجد والساحة السياسية.
بيد أن هذه الحملات عجزت حتى الآن في الحد من تنامي التيار الإسلامي ، الذي يبرز اليوم كأهم قوة سياسية معارضة بموريتانيا .
=============(29/124)
(29/125)
أحداث موريتانيا والأهداف الأمريكية
الرباط / إدريس الكنبوري 2/5/1426
09/06/2005
في ليلة الخامس من يونيو الجاري وقعت على الحدود الموريتانية لجزائرية في موقع لمغيطي عملية مداهمة ضد ثكنة عسكرية خلفت مقتل نحو عشرين جنديا موريتانيا، وقد سارعت الحكومة في نواكشوط إلى توجيه الاتهام في ذلك الحادث إلى"الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالجزائر " التي تنشط على الحدود الموريتانية الجزائرية والموريتانية المالية في الصحراء الواسعة، حسبما تقول تقارير جزائرية وأمريكية، وسرعان ما جاء بيان للجماعة في اليوم التالي ليؤكد ذلك الاتهام، حيث تبنت الجماعة العملية ووصفتها بأنها"انتقام" لعدد من أفرادها المعتقلين حاليا في السجون الموريتانية، وصرح وزير الدفاع الموريتاني بأن سبعة من الإسلاميين الموريتانيين المعتقلين حاليا تلقوا تدريبا في معسكرات الجماعة السلفية للدعوة والقتال بالجزائر مؤخرا
هذا الحادث جاء في سياق وضع سياسي داخلي في موريتانيا يتميز بالتوتر والاحتقان، وتطبعه ثلاثة معطيات بارزة:
ـ الأول: الحملة التي تشنها السلطات الموريتانية في الداخل على الإسلاميين منذ الخامس والعشرين من أبريل الماضي وأدت إلى اعتقال حوالي خمسين منهم بدعوى صلة بعضهم بتنظيم القاعدة و الجماعة السلفية للدعوة والقتال، وقد تزامنت هذه الأحداث مع دخول هؤلاء المعتقلين الإسلاميين في إضراب عن الطعام للمطالبة بحقهم في مقابلة محاميهم.
ـ الثاني: احتضان موريتانيا لعدد من الجنود الأمريكيين في إطار التعاون العسكري الذي أصبح قويا في الفترات الأخيرة بين البلدين، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة في إقليم الساحل الصحراوي .
ـ ثالثا: التقدم الحاصل في وتيرة التطبيع بين نواكشوط وتل أبيب، إذ المعروف أن موريتانيا هي الدولة العربية الوحيدة التي أبقت على سفارتها في عاصمة إسرائيل بعد انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، وشهدت الزيارة الخاطفة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم في الشهر الماضي على أن هذه العلاقات أصبحت معطى"استراتيجيا" في السياسة الموريتانية.
وبعد ذلك الحادث، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية ـ التي هي موجودة في المنطقة أصلا ـ عن أنها ستقوم بالتحقيق فيه، الأمر الذي يثير حساسية سياسية كبرى في بلد محافظ لا تزال القبيلة فيه تلعب الدور السياسي الأول.
والسؤال الذي يطرحه المراقبون هو حول ما إن كانت هذه الأحداث الأخيرة سوف تفتح الباب واسعا للأمريكيين لتكثيف حضورهم العسكري في موريتانيا ومنطقة الساحل الإفريقي وبشكل أعم في منطقة شمال إفريقيا. فقد باتت هذه المنطقة منذ سنتين تقريبا في مركز الاهتمام الأمريكي، إلى حد أن البعض صار ينعتها بـ"قوقاز" جديدة تستقطب شهية الأمريكيين، بالنظر إلى الثروات النفطية الواعدة فيها وأهميتها الجيو ـ سياسية، هذا علاوة على أن واشنطن تعتقد أن تنظيم القاعدة لربما نقل مجال نشاطه العسكري من آسيا بعد معركة"تورا بورا" في أفغانستان عام 2001 إلى شمال إفريقيا، وتحديدا في منطقة الساحل الإفريقي التي هي عبارة عن مساحة صحراوية شاسعة غير خاضعة لأية حكومة أو جيش، وتشكل فضاء مفتوحا لقيادة الحملات العسكرية.
وقد أطلقت واشنطن في بداية شهر يونيو الجاري مخططا عسكريا جديدا يرمي إلى تعزيز التعاون العسكري والاستخباري مع بلدان الساحل وشمال إفريقيا يحمل عنوان"فلينتلوك 2005"أو"الزند الصواني"، وبدأ نحو 300 جندي أمريكي في مناورات عسكرية مشتركة مع وزارة الدفاع الموريتانية على الحدود الشمالية لموريتانيا قرب الصحراء. ويشمل هذا المخطط العسكري الثاني من نوعه بعد مخطط"بان ساحل" في العام الماضي سبع دول إفريقية هي موريتانيا والجزائر ومالي والنيجر والسينغال ونيجيريا والتشاد، على أن يتم توسيعه لاحقا إلى بلدان المغرب وتونس وليبيا، وسوف يستمر هذا المخطط العسكري الواسع مدة خمس سنوات بميزانية ضخمة تقدر بنحو 100 مليون دولار سنويا. وكان مخطط "بان ساحل" في العام الماضي قد أثمر عن اعتقال الأمريكيين لزعيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال عبد الرزاق البارا زعيم الجماعة منذ العام 1999، الذي تجري محاكمته حاليا في الجزائر.
مع حادث"المغايطي" على الحدود الموريتانية ـ الجزائرية أصبح للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة ما يبرره في نظر المسؤولين الأمريكيين، إذ إن هذه الأحداث سوف تعطيهم مبررا قويا على أن ما كانت تحذر منه بلدان المنطقة هو حقيقة قائمة، ومن هنا سوف تزداد مخاطر الوجود الأمريكي على أمن ومستقبل المنطقة وعلى ثرواتها، فواشنطن عازمة على تحقيق أهدافها التي تتحدد في ثلاثة أبعاد:
ـ بعد أمني: بضمان استقرار المنطقة أمنيا لفائدة بلدان حلف الناتو الذي دخل التعاون بينه وبين عدد من بلدان المنطقة كموريتانيا والمغرب والجزائر منعطفا كبيرا باشتراكه في مناورات عسكرية قبل ثلاثة أشهر كانت إسرائيل طرفا فيها، وبالتالي ربط أمن هذه البلدان ومصيرها بتعاونها مع الولايات المتحدة الأمريكية.(29/126)
ـ بعد اقتصادي: حيث تراهن الولايات المتحدة على النفط الإفريقي منذ زمن طويل، وازداد الاهتمام بذلك بعد أحداث 11 سبتمر 2001 ودخول منطقة الشرق الأوسط ـ المزود الرئيس لأمريكا ـ في دائرة من التطورات السياسية لم تعد واشنطن تدرك أبعادها المستقبلية ومدى قدرتها على التحكم بسيناريوهات التحول، بحيث صارت تفكر في إيجاد بدائل للنفط الشرق أوسطي بالتركيز على إفريقيا.
ـ بعد جيو استراتيجي: وذلك بمنافسة التواجد الأوروبي والفرنسي تحديدا، وهو ما تشهد عليه عودة فرنسا مؤخرا إلى حظيرة حلف الناتو بعد سنوات من الغياب عنه، بشكل متزامن مع التحول في استراتيجية الحلف الرامية إلى توطيد دعامة التعاون والتنسيق بينه وبين البلدان الإفريقية، وتريد فرنسا من وراء ذلك ـ من ضمن أهدافها المتعددة ـ نقل صراعها مع الولايات المتحدة حول إفريقيا إلى داخل الحلف الذي يشهد هو الآخر انقساما في الرؤية بين الأوروبيين والأمريكيين
=============(29/127)
(29/128)
أوهام الاستقلال...!!
نايف ذوابه 4/5/1426
11/06/2005
في مطلع القرن العشرين حينما كانت بريطانيا العظمى الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وتتربع على عرش عصبة الأمم، وتجثم على صدر العالم، وتصنع الأحداث فيه، كانت أساطيلها تجوب العالم شرقاً وغرباً تحمي نفوذها بالقوة العسكرية، وبالنشاط الاستخباري الذي كان ينخر في جسم دولة الخلافة الإسلامية (الدولة العثمانية) لتمزيقها، وتفتيتها. وبالغزو الثقافي والفكري وتشجيع الفكر الباطني ورعاية التصوف والحركات الصوفية، ومن خلال بعث القوميات واستعداء كل قومية على الأخرى, و بعث المشاعر الوطنية والمناداة بما يسمى بِ(الاستقلال الوطني) وتشجيع الحركات الانفصالية التي عملت على ضعضعة دولة الخلافة وإضعافها وتمزيق أوصالها.
في هذه الفترة دعا رئيس الوزراء البريطاني حينئذ إلى مؤتمر سُمّي بمؤتمر "الطاولة المستديرة"، طرح على المدعوين والمؤتمرين فيه( سياسيين، ومؤرخين، ورجال اقتصاد، ورجال دين، وفلاسفة، وعلماء اجتماع ...) سؤالاً يدور حول الأخطار التي تتعرض لها بريطانيا العظمى؛ لتحديد مكمن الخطر ووجهته، فأجمع المؤتمرون على أن الخطر الذي يهدد الإمبراطورية البريطانية يأتي من الشرق، وحُدّد مكان الخطر ومكمنه بالجزيرة العربية خاصة و ما حولها؛ لأنهامنطقة تضم نسيجاً بشرياً متجانساً في العقيدة والأفكار والمشاعر، ونوّهوا بأن هذه المنطقة -بالإضافة إلى ما تمتلكه من مقومات فكريّة- تمتلك مقومات ديموغرافية واقتصادية هائلة، وعبّروا عن ذلك بقولهم: إن هذه المنطقة مستودع من المال والرجال!!
وهكذا توجّهت أنظارهم إلى هذه المنطقة يرقبون فيها كل حركة، ويرصدون كل تطور أو تغير على إيقاع الأحداث فيها، وقد عزموا على تمزيقها إلى قطع فسيفسائية صغيرة وضعيفة لا تقوم لها قائمة، ولا يجتمع لها شمل، بتقسيم المجزّأ وتجزئة المقسّم، وجعلوا في كل منطقة مشكلة تستدعي وجودهم الدائم لتهدئتها، والتوسط لحلها، بحيث يضمن ذلك لهم إحكام السيطرة على المنطقة وأهلها، ويمكّنهم من نهب ثرواتها.
وهكذا لم ينصرم عقدان -تقريباً- من القرن الماضي بعد هذا المؤتمر حتى تمت تجزئة المنطقة من خلال اتفاقية سايكس بيكو وغدر الإنجليز المشهور للشريف حسين وأبنائه، ثم المؤامرة الكبرى والجناية على أمة الإسلام بهدم خلافتهم، وانفراط عقدها بإلغاء الخلافة العثمانية، وقطع الرابطة والرحم الحميمة بين تركيا حاضرة الخلافة، وبين المسلمين في كل أقطار الأرض، وفعلاً أصبح المسلمون -منذ ذلك اليوم الأسود- أيتاماً على مآدب اللئام، لا يرقب فيهم أعداؤهم إلاًّ ولا ذمة، ولا يتورّعون عن الإمعان في إذلالهم وتجويعهم، واصطنع المستعمر الماكر ثورات استقلال، قادها أناس جندهم لخدمته، حملوا أفكاره، وتشبعوا بمثله وقيمه وجعلوه قدوة لهم.
واستقلت هذه الأوطان في الظاهر بينما كانت في حقيقتها تحمل الولاء له، وترتبط بمعاهدات سرية ترتهن فيها البلاد والعباد لهذا المستعمر؛ فخرج الاستعمار من الباب وعاد من الشباك، من خلال دمًى خلّفها على الأوطان التي صنعها، ومنحها علماً ونشيداً وطنياً، وسن لها دساتير تحاكي دساتيره لكنها تحمل كل تناقضاتها ومثالبها، واستثنى من هذه الدساتير الوضعية كل قانون يمنح المواطن الحرية أو الكرامة أو الإنسانية .
ولم ينس المستعمر الداهية الذكي أن يجعل لكل قطر من هذه الأقطار يوما للوطن سمّاه "عيد الاستقلال" يحتفل الناس فيه بيوم إذلالهم وغربتهم في أوطانهم، وتجزئتهم، واستعداء بعضهم على بعضهم، ويحتفون بصور الهوان التي يعانيها كل مواطن عربي حين ينتقل من بلد إلى بلد، ومن حد إلى حد، وممّا سُمّي دولاً، وبعضها لا يملك مقوّمات الدولة، ولولا مساعدات الأجنبي لما كُتب لها الحياة شهراً واحداً، ولكن المستعمر أرادها دولة بل مخفراً يحرس التجزئة ويحول دون الوحدة، ثم تطور الدور الإقليمي ليكون توفير الحماية لكيان يهود، والسهر على أمنهم وراحتهم!!
ولا نعرف عمّن استقل هذا الوطن الأشم، إلا إذا كان حقاً قد استقل عن أخيه وجاره، عن الوحدة الحقيقية التي كانت تجمع المسلمين في ظل دولة واحدة بعد أن نجح الكافر المستعمر في أن يجد ضالته في فئة حاربت إلى جانبه، حاربوا دولة الخلافة، وأدخلوا الذئب إلى الحظيرة ليفترس ويسرق كما يشاء، وليفرّق بين الأخ وأخيه، بل ليجند الأخ لقتال أخيه باسم الاستقلال، برعاية جيوش كان يقودها لورنس العرب، الذي حرث البلاد العربية في مطلع القرن الماضي، وهو يتنقل فيها ضمن حملة للتنقيب عن الآثار، بينما كان في الحقيقة يضع علامات لترسيم الحدود الجديدة بين شعوب المنطقة؛ استعداداً للحظة التي تلفظ فيها دولة الخلافة الإسلامية العثمانية أنفاسها، ويتحوّل المسلمون الإخوة إلى أعداء يتصارعون على الحدود التي وضعها الأجنبي بينهم، حراساً للتجزئة!!(29/129)
هكذا تحولت الأمة الواحدة التي ألّف الله بين قلوبها وجمعها على حبّه وحبّ رسوله، و حب كتابه الكريم، وحبّ المؤمنين إلى أمساخ تستقوي بالأجنبي، وتصطف معه وتواليه، ثم ترفع رايات الاستقلال عن الأجنبي ادّعاءً وسفهاً، ويلبس الرجال الرجال أوسمة ونياشين البطولة احتفاءً بتمزيق أمتهم، وإذلال شعوبهم، بينما الثعالب تسرق وتنهب وتصفق للمغفلين!
أما الشعوب المغلوبة على أمرها فاكتفت بلعق جراحها، وكظم غيظها، وغطت عيونها ووضعت أصابعها في آذانها، وأطبقت على الأسى والهوان أفواهها!!
وأضربت هذه الدول "المستقلة" عن حب الله ورسوله وكتابه لتتفانى في حب الوطن... حب الوثن الذي صنعه المستعمر، ولتتفانى في حرب الله ورسوله وحرب أوليائه من المؤمنين المخلصين العاملين لوحدة الأمة، المحاولين لاستنقاذ الحمى المُستباح، الداعين لاستئناف الحياة الإسلامية، وتوحيد المسلمين تحت راية واحدة، وفي ظل كيان واحد!!
وفي مطلع القرن الماضي بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبعد أن انتصر الحلفاء في الحرب زار تشرشل وزير المستعمرات البريطاني حينئذ القدس، والتقى الأمير عبد الله بن الشريف حسين بن علي ليتداول معه شؤون المنطقة، ولينقل له تصور الحكومة البريطانية لخارطة المنطقة بعد أن اتفقت مع فرنسا، وقد أبلغ تشرشل الأمير عبد الله بأن على أخيه فيصل أن ينسحب من سورية، ويتوجه إلى العراق ليصبح ملكاً عليها، وأن على عبد الله نفسه أن يصبح أميراً على الأردن، ولما أبدى الأمير اعتراضه قائلاً : إن عرش العراق يقرّره أهل العراق!! مصّ تشرشل غليونه ونفخ الدخان في وجه الأمير عبد الله!! هذا ما ذكره ناصر الدين النشاشيبي في كتابه "من قتل الملك عبد الله"، وطبعاً الإنجليز هم الذين قتلوا الملك عبد الله بعدما بدأ يبدي تبرّمه بهم، ويعزف عن استشارتهم والاتصال بهم.
هكذا صُنعت هذه الأوطان؛ بإرادة المستعمر الأجنبي، ولخدمته وحراسة نفوذه، ومن لا يصدق فليتابع تصريحات الزعماء الإسرائيليين الذين يبدون دهشتهم من تهافت الزعماء العرب على التطبيع مع إسرائيل واستجداء رضاها، والاصطفاف في الطابور الطويل ليحجزوا لهم دوراً لزيارتها على الرغم من أن إسرائيل تستخدم أبشع أساليب العنف في إبادة الفلسطينيين!!
وقد عبّرت وزيرة العدل الإسرائيلية تسيفي ليفني عن هذه الدهشة بقولها: " حتى عندما كان يتملكني التفاؤل، وأقع أسيرة أحلامي الوردية لم أكن أتصور أن نُفاجأ بهذه المؤشرات على الرغبة العربية بالتطبيع معنا على الرغم من الحرب التي لا هوادة فيها التي تشنها حكومتنا على الفلسطينيين لإخماد انتفاضة الأقصى...!!
ومن لا يصدق، ويستعصي عليه فهم معنى الاستقلال في بلاد العرب فليتابع دور مصر والأردن في فك الارتباط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولينتبه إلى ما طلبته إسرائيل من مصر أخيراً بالسماح للجيش المصري للتواجد في مناطق كان محظوراً عليه التواجد فيها وفق اتفاقيات كامب ديفيد، وهذا التواجد(بناءً على طلب إسرائيل) ليس استعادة للسيادة، ولا صوناً للاستقلال والكرامة، بل لمراقبة الحدود المصرية الإسرائيلية مراقبة صارمة لتوفير الحماية والأمن للإسرائيليين!!
العالم كله يتجه للوحدة، والعالم العربي والإسلامي المنكود يتجه لمزيد من الاحتراب والتجزئة!
أوروبا تصوت للدستور الأوروبي، وهي التي يمزّقها تاريخ من الحروب والدماء، ويفصل بينها خنادق من العداء المستحكم تعقد فوق هذه الخنادق جسور الوحدة، والسياسيون في العالم العربي يهتفون للتجزئة، ويسعون إليها بأرجلهم وأيديهم وقلوبهم سعياً حثيثاً!!
باسم الاستقلال يشربون أنخاب التجزئة!
ونقول فليحيى الوطن!
===============(29/130)
(29/131)
الاندفاع نحو التطبيع..كما تفسّره إسرائيل
صالح محمد النعامي / فلسطين 6/5/1426
13/06/2005
تدافُعُ كثيرٍ من الدول العربية في الآونة الأخيرة لتطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية- فاجأ عدداً من كبار المسؤولين الإسرائيليين؛ ففي بادئ الأمر لم يستوعب عدد من وزراء الحكومة الإسرائيلية الميل العربي الرسمي للتطبيع، في الوقت الذي تُحكم فيه إسرائيل من قبل زعيم متطرف على شاكلة ارئيل شارون لعب في الماضي والحاضر دوراً حاسماً في جهود الحركة الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية، وإلحاق أكبر قدر من الأذى بالعرب. فالقائم بأعمال رئيس الحكومة أيهود أولمرت يقول: " إنني أقرّ بالشعور بالمفاجأة بسبب حرص أنظمة الحكم في العالم العربي على تطبيع علاقاتها معنا، بالذات في الوقت الذي تعمل فيه حكومتنا على استخدام أكبر قدر من القوة للقضاء على انتفاضة الأقصى، وتجريد الفلسطينيين من كل مصدر يمكنهم من مواصلة الكفاح ضد وجودنا في الضفة الغربية وقطاع غزة".
التفسير الإسرائيلي للتدافع العربي نحو التطبيع
لم يدم طويلاً الشعور بالمفاجأة لدى دوائر صنع القرار في الدولة العبرية حيال الميل العربي الرسمي للتطبيع مع إسرائيل، وسرعان ما تمت بلورة تفسير لهذا الميل. ومن الأهمية بمكان أن نقف على التفسير الذي قدمه الجنرال جيورا أيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، بوصفه أهم مرجعيات اتخاذ القرار في الدولة العبرية، للحرص العربي على التطبيع مع الدولة العبرية. فأيلاند يرى - في تقرير قدمه لحكومة شارون - أن الحرص العربي الرسمي على التطبيع موجه في الأساس للإدارة الأمريكية. وحسب أيلاند فإن العديد من أنظمة الحكم في العالم العربي ترى أنه من أجل استرضاء الإدارة الأمريكية التي جعلت على رأس أولوياتها تغيير الأنظمة الحاكمة كوسيلة لضمان مصالحها في المنطقة، فإن هذه الأنظمة ترى أن عليها التقرب من إسرائيل وبشكل لافت. ومن اللافت للنظر أن (ايلاند) يرى أن محاولة بعض أنظمة الحكم في العالم العربي استرضاء واشنطن لا يقتصر على التطبيع، بل أيضاً في حرص بعض الدول العربية في لعب دور في خطة "فك الارتباط"، وبالذات مصر والأردن. ويرى (ايلاند) أن الحكومة المصرية - على سبيل المثال - تصر على لعب دور في "فك الارتباط" لإقناع الإدارة الأمريكية باستثناء نظام الحكم في مصر من التغييرات التي تزمع واشنطن القيام بها ضمن جهودها لِ " دمقرطة " المنطقة.. الذي يثلج صدور الصهاينة هو حقيقة أن الحرص العربي على التطبيع يتزامن مع انعدام وجود أي توجه عربي لتعديل موازين القوى الإستراتيجية مع الدولة العبرية. فقد نقلت صحيفة الصفوة "هارتس" في عددها الصادر بتاريخ ( 18-1-2005 ) عن هيئة أركان جيش الاحتلال قولها: إن الخطة التسليحية للجيش المصري تلائم فقط الحروب السابقة، ولا يمكنها أن تشكل خطراً على الدولة العبرية في المستقبل.
التطبيع لعزل المقاومة
لا ينتمي شارون إلى أولئك الذين يؤمنون بفكرة "الشرق الأوسط الجديد"، بل على العكس تماماً. فشارون يحمل آراءً عنصرية بالغة التطرّف تجاه العرب، ومن الأهمية بمكان أن نذكر هنا ما يرويه المعلق الإسرائيلي (بن كاسبيت) الذي يقول: إن شارون دائماً ينهي كل حديث يتناول العلاقة مع العرب بالقول بكثير من الاستعلاء والعنصرية: " في نهاية المطاف، محظور علينا أن ننسى بأن الحديث يدور هنا عن العرب". ومع ذلك فإن شارون يولي أهمية للتطبيع مع الدول العربية. ويفسر نجله النائب عومري شارون ذلك بالقول: إن أهمية تطبيع العلاقات مع العالم العربي تكمن في أنها تساهم في عزل حركات المقاومة الفلسطينية، وتقلص من حجم الفضاء الذي تستفيد منه هذه الحركات في العالم العربي. ويشير شارون الابن إلى أنه بفعل الاتصالات مع بعض الدول العربية فقد تقلصت قدرة حركات المقاومة الفلسطينية - على سبيل المثال - على تجنيد الأموال اللازمة لمواصلة عملياتها ضد إسرائيل. في نفس الوقت فإن إسرائيل تستفيد من أجواء التطبيع في محاولة التأثير على ما يجري في الساحتين السورية واللبنانية. ولعل أقل ما يذكر هنا هو التأكيد الإسرائيلي على اتصالات أجراها مسؤولون إسرائيليون مع قيادات لبنانية من أجل العمل على أن يصدر البرلمان اللبناني عفواً عن عناصر جيش جنوب لبنان الذين فروا لإسرائيل في أعقاب انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في العام 2000.(29/132)
يرى الإسرائيليون أن الدور المصري والأردني في خطة " فك الارتباط "، هو الذي فتح الباب أمام بقية الحكومات العربية لتطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية. ويؤكد العديد من كبار المسؤولين الإسرائيليين على أن الدور المصري والأردني يساعد إسرائيل على تحقيق أهدافها من خطة " فك الارتباط ". فتل أبيب تتعاطى مع الدور المصري والأردني في هذه الخطة كبديل عن الدور الفلسطيني الرسمي، الأمر الذي يضفي صدقية على مزاعم إسرائيل بأن هذه الخطة "أحاديّة الجانب". تعي الدولة العبرية أن انضمام الطرف الفلسطيني كشريك في هذه الخطة يعني الربط بينها وبين خطة "خارطة الطريق"، التي تُلزِم إسرائيل - ولو من ناحية نظرية - بإخلاء مزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، وصولاً لإقامة الدولة الفلسطينية. الذي يبعث على الارتياح الإسرائيلي هو حقيقة أن كلاً من الأردن ومصر تواصلان التنسيق مع تل أبيب في تنفيذ خطة "فك الارتباط" على الرغم من إعلان إسرائيل لأهدافها من تنفيذ هذه الخطة. فقد سمع العالم كله(دوف فايسغلاس) كبير مستشاري شارون الذي أعلن أن خطة "فك الارتباط" جاءت للقضاء على أي فرصة لقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية في المستقبل". ولم تؤثر تأكيدات وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز على أن "فك الارتباط" تأتي لإعطاء "طفرة غير مسبوقة" للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية على خطط كبار المسؤولين الأمنيين في القاهرة لمواصلة التنسيق مع نظرائهم الإسرائيليين حول هذه الخطة، مع العلم أن تصريحات موفاز هذه أصبحت واقعاً تشهده الضفة الغربية حالياً. وهناك ارتياح إسرائيلي من تعاطي الحكومة المصرية مع " فك الارتباط" كما لو كان انسحاباً حقيقياً لجيش الاحتلال من قطاع غزة، مع أن هذا الجيش سيواصل سيطرته على أجواء وحدود ومياه قطاع غزة الإقليمية، الأمر الذي يتحول معه القطاع إلى سجن كبير. موفاز قال أكثر من مرة: إنه يرى في قبول مصر والأردن بلعب دور في "فك الارتباط" على الرغم من الأهداف الإسرائيلية المعلنة منها، وسيلة ضغط على الجانب الفلسطيني للتعاطي مع هذه الخطة والتسليم بالحقائق التي تفرضها على الأرض.
مفارقة
هناك مفارقة تكمن في حقيقة تزامن الحرص العربي على التطبيع مع تعدد المؤشرات التي تؤكد أن المجتمع الإسرائيلي يتجه بقوة نحو مزيد من التطرف والشوفينية بشكل محرج لكل الذين تذرعوا بدور في دفع إسرائيل للتسوية. الذي تتجاهله أنظمة الحكم العربية هو حقيقة أن انعدام وجود بدائل لدى العرب، و التهافت على التطبيع، يدفع الإٍسرائيليين لمزيد من التشدد. فرئيس الوزراء الإٍسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو ووزير المالية الحالي، والمرشح لخلافة شارون في زعامة "الليكود" وقيادة الدولة يملك تأويلاً للغزل المصري والتطبيع العربي؛ إذ يقول: "حرص العرب على استرضائنا وإقامة العلاقات معنا مظهر من مظاهر انتصار المشروع الصهيوني، لكن على إسرائيل ألاّ تدفع أي ثمن لهم لقاء ذلك".
==============(29/133)
(29/134)
مشروع قناة البحرين.. مكاسب مجانية لإسرائيل!
علي حسين باكير/ لبنان 7/5/1426
14/06/2005
يعتبر المشروع إحدى نتائج التطبيع المحموم الذي يجري في الآونة الأخيرة بين الدول العربية و إسرائيل بشكل عام و بين الأردن و إسرائيل بشكل خاص, حيث يبشر به المسئولون في الطرفين على أنه مشروع اقتصادي عظيم سيعود بالنفع على الجميع, لكن هل هذا الكلام صحيح؟ و أين يقع المشروع من مصطلحات التطبيع و السلام ؟ و ما هي الفوائد التي ستجنيها إسرائيل منه و ما هي مخاطره الاستراتيجية و السياسية؟! هذا ما سنحاول الحديث عنه في هذا التقرير.
نبذة عن المشروع
بدأ الترويج لهذا المشروع منذ معاهدة السلام للعام 1994 بين الجانبين الأردني و الإسرائيلي ، في سياق المحافظة على البيئة وإنقاذ البحر الميت من الجفاف والزوال. إلا أن الدلائل تشير إلى أن الهدف البيئي ما هو إلا غطاء دعائي يهدف إلى التقليل من حجم الانتقادات التي يمكن أن يواجهها المشروع على المستويين الإقليمي والدولي.و على العموم فإنّ المعلومات تشير الى انّ المشروع يتكون من مرحلتين:
المرحلة الأولى: و تشكل المرحلة الأساسية وهي إنشاء قناة تربط بين البحر الأحمر والبحر الميت على أن تنفذ عبر خطوتين:
- الخطوة الأولى: تتضمن قناة بطول 12 كيلومترا من شاطئ العقبة باتجاه الشمال، بسعة تدفق تصل إلى 60 مترا مكعبا في الثانية، لتصل بعد ذلك إلى محطة رفع تضخ المياه بواسطة الأنابيب إلى ارتفاع 126 مترا فوق سطح البحر.
- - الخطوة الثانية: بناء محطات لتوليد الطاقة الكهربائية للاستفادة من الارتفاع الشاهق لسقوط المياه.
المرحلة الثانية: و يتم فيها طرح عطاء عالمي للشركات المتخصصة لإنشاء محطة تحلية ونقل المياه إلى الأردن وإسرائيل وفلسطين علي أساس نظام بناء وتشغيل ونقل الملكية وبكلفة تقديرية تصل إلي ثلاثة مليارات دولار.
مبررات الموقف الأردني من المشروع
يعتبر المسؤولون الأردنيون أن مشروع قناة البحرين هو مشروع القرن الحالي بالنسبة للأردن، وتفسر ذلك الجهود الكبيرة التي يبذلها الأردن للترويج له على المستوى الدولي والعربي، وترتكز وجهة النظر الأردنية في تسويقها للمشروع وبخاصة على المستوى العربي على عدد من النقاط:
1- أن المشروع أردني المنشأ وأنه جاء ردا على مجموعة من المشاريع الإسرائيلية التي أرادت وصل البحر الميت بالبحر المتوسط أو الأحمر.
2- إثارة المشكلة البيئية للبحر الميت وبخاصة انخفاض مستوى المياه فيه بشكل مستمر، مع تسويق مقولة أن البحر الميت سيختفي بعد خمسين عاماً إذا لم يتم إنقاذه الآن.
3- أن المشروع يمثل حلا لمشكلة المياه الكبيرة التي يعاني منها الأردن بشكل خاص والمنطقة بشكل عام حيث سيوفر حسب المصادر الأردنية ما يزيد على 850 مليون متر مكعب من المياه سنويا للأطراف الثلاثة الأردن وفلسطين وإسرائيل، حصة الأردن منها تصل إلى نحو 570 مليون متر مكعب سنوياً.
4- أن التكلفة العالية للمشروع تحول دون تنفيذه من الجانب الأردني بمفرده وهو ما يحتم أن يتم التمويل على شكل منح وان هذا العمل يجب أن يكون مشتركا بين الأردن وفلسطين وإسرائيل وبالتالي لا بد من طرح هذا المشروع بشكل إقليمي كجزء من المشاركة الدولية في العملية السلمية.
المكاسب الإسرائيلية من المشروع
1- يشكل المشروع خرقا قويا لكل آليات مقاطعة التطبيع مع إسرائيل على المستوى العربي، ويمثل فجوة كبيرة يمكن من خلالها لإسرائيل العبور بقوة إلى الدول المجاورة، وبخاصة دول الخليج والعراق التي تمثل سوقا كبيرا للمنتجات الإسرائيلية، كما تركز إسرائيل على رؤوس الأموال الخليجية التي يمكن أن تستفيد منها في مشروعات صناعية مشتركة، و يعتبر المشروع دافعا لتنفيذ مشروعات إقليمية أخرى تخدم المصالح الإسرائيلية مثل مشروع أحياء أنبوب البترول الذي يربط الموصل بميناء حيفا.
2- يوفّر هذا المشروع قدرة توليد الطاقة الكهربائية لإسرائيل و يخفّف من اعتمادها على الطاقّة النفطيّة التي أصبحت تتوجّس منها و تبحث عن بدائل لها خاصّة بعد الأزمة النفطية التي فرضها العرب عليهم في السبعينات, كما يوفّر لإسرائيل القدرة على استغلال الطاقة الشمسية في نفس البقعة لأغراض ذاتية.
3- هناك أهمية خاصة للمشروع بالنسبة لإسرائيل من الناحية الأمنية تتمثل في خلق حواجز مائية تمنع تنفيذ عمليات عسكرية من الجهة الشرقية ضد الدولة العبرية.
4- يتنبأ بعض المحللين بأن القناة ما هي إلا مرحلة أولى لمشروع صهيوني لا يكتمل إلا بحفر قناة ثانية تصل البحر المتوسط بالميت، لتصبح إسرائيل دولة محورية في العالم تمتلك قناة تضارع بل تهدد قناة السويس. كما أن المشروع يمكن أن يحدث تغيرا خطيرا في البيئة الجغرافية للإقليم، مما يعني استمرار سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية للأبد.(29/135)
5- يرتبط مشروع قناة البحرين بالأهداف القومية الإسرائيلية المتعلقة بتطوير وتعمير صحراء النقب بتوفير مصادر المياه والكهرباء لها وسيؤدي ذلك إلى استيعاب المزيد من المهاجرين اليهود، وتغيير الطبيعة السكانية في النقب بما يشمله ذلك من الاستيلاء على مزيد من أراضي البدو والعرب في المنطقة.
6- توفر القناة لإسرائيل مصدر مياه شبه مجاني لتبريد مفاعل ديمونة النووي في صحراء النقب الذي يتم تبريده الآن باستخدام الطرق الهوائية المكلفة نسبيا، مما سيقلل من تكلفة إدارة المفاعل، كما سيؤدي ذلك إلى تشجيع إسرائيل على تنفيذ المزيد من مشاريع المفاعلات النووية الموجود بالفعل مخططات لإنشائها في المنطقة بعد تذليل مشكلة تبريد هذه المفاعلات، وهو ما سينعكس على نمو القدرة النووية الإسرائيلية بشكل كبير وبخاصة في مجال إنتاج الأسلحة النووية.
الأخطار الاستراتيجيّة للمشروع
1- سيعمل المشروع على تحسين صورة إسرائيل بشكل كبير أمام العالم فهي من ناحية ستبدو بصورة المتعاون مع الدول المحيطة بها، الساعية لإشاعة السلام والرفاهية في المنطقة، ومن جهة أخرى ستظهر في ثوب المٌدافع عن البيئة وبخاصة مع التركيز على إحياء المشروع للبحر الميت وإنقاذه من الاختفاء، كما أن أية معارضة فعلية من الجانب الفلسطيني للمشروع في حالة تعديه على الحقوق الفلسطينية ستبدو وقوفا في وجه تطوير المنطقة وضد الحفاظ على البيئة.
2- لم يعد خافيا على أحد أن الإدارة الأمريكية بعد سيطرتها على العراق أخذت تدفع باتجاه إقامة نظام إقليمي جديد، على أسس جغرافية، تلعب فيه إسرائيل دورا رئيسيا، و يشكل دعماً رئيسيا للمصالح الأمريكية في المنطقة. وبالتالي فإن المنطقة العربية تشهد تطويرا جذريا في استراتيجية الهيمنة الامبريالية، تتحول فيه إسرائيل من أداة فصل بين العرب إلي أداة وصلهم وربطهم بالمصالح الأمريكية الكونية. وبعد أن كانت التجزئة سبيل لتأصيل التبعية والاستغلال غدا التكامل الإقليمي المفرغ من المضمون القومي هو الأداة.
3- خلق واقع ديمغرافي جديد في منطقة النقب، عبر استيعاب المزيد من المهاجرين اليهود الذين ستتوفر لهم فرص ممتازة لإقامة تجمعات سكنية وللحصول على فرص للعمل بعد أن توفر مشاريع تحلية المياه و توليد الطاقة لإسرائيل المتطلبات الأساسية لخلق هذه التجمعات.
4- إقامة إسرائيل لمزيد من المفاعلات النووية سيمكنها من تضخيم قوتها العسكرية وتطويرها، وهو ما سيهدد أمن المنطقة وبخاصة أن إسرائيل ترفض التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية ولا تسمح للمنظمات الدولية بالتفتيش على مفاعلاتها النووية.
5- توفير المياه العذبة عبر محطات التحلية التي تعتبر جزءاً أساسياً من المشروع، سيفتح المجال واسعا أمام إسرائيل في بسط سيطرتها الكاملة على المزيد من مصادر المياه الطبيعية الأردنية والفلسطينية من خلال استغلال مياه نهر اليرموك والأردن والمياه الجوفية في الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل أكبر.
6- يسهم المشروع في تدعيم الموقف الإسرائيلي من مفاوضات المياه مع الجانب الفلسطيني، والذي ينطلق من أن موارد المياه الحالية لا يٌمكن من منح الفلسطينيين نصيبا منها، ولذلك عليهم الاعتماد على تحلية المياه أو شرائها من إسرائيل
==============(29/136)
(29/137)
.دلالات اصطفاء مهندس عمليات التصفية !
صالح محمد النعامي / فلسطين 13/5/1426
20/06/2005
خرج قادة الدولة العبرية، ومفكروها عن طورهم وهم يكيلون المديح للجنرال (دان حلوتس) الذي تم تعيينه مؤخراً رئيساً لهيئة أركان جيش الاحتلال، وتبارى الساسة الإسرائيليون في الحديث عن "مناقبه وأمجاده" . اللافت للنظر أن يكون وراء هذا السيل من المديح الإسرائيلي الرسمي لِـ(حلوتس) هو سجله الإجرامي في حق الشعب الفلسطيني، وبالذات بعد أن استحق عن "جدارة" لقب "متعهد عمليات التصفية"، التي استهدفت قادة وكوادر حركات المقاومة، وأودت بحياة المئات من المدنيين الفلسطينيين الذين كانت جريمتهم أنهم تواجدوا بالصدفة في مكان قريب من المستهدفين بالتصفية. فَ(دان حلوتس) الذي شغل منذ اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة منصب قائد سلاح الجو، تولّى عملياً تنفيذ عمليات الاغتيال بحق المقاومين؛ إذ إن أكثر من 80% من عمليات التصفية تمّت عن طريق استخدام مروحيات جيش الاحتلال من طراز "أباتشي" الأمريكية الصنع، وبعد ذلك عن طريق الطائرات بدون طيار من طراز "سيتشر" وغيرها. وبحكم منصبه هذا كان (حلوتس) يتولى الإشراف -بشكل شخصي- على تنفيذ عمليات التصفية. واشتهر عن (حلوتس) تشدّده في اختيار الطيارين من ذوي التوجهات العنصرية -بشكل خاص- لكي يتولّوا تنفيذ عمليات التصفية، بعد أن أكّد له الطيارون الذين شاركوا في أوائل عمليات التصفية أنه لا مناص من المس بالكثير من المدنيين الفلسطينيين، وأنه من المستحيل تجنّب قتل هؤلاء خلال عمليات التصفية. تعليمات (حلوتس) للطيارين قبيل تنفيذ عمليات التصفية كانت واضحة وصارمة "يتوجب الإجهاز على المرشح للتصفية حتى لو أدّى الأمر إلى قتل مائة مدني فلسطيني إلى جانبه !!".
لكن لا شك أن أكثر ما يظهر إجرام (حلوتس) وعنصريته وحقده الأعمى هو تعليقه على مجزرة حي " الدرج والتي سقط فيها خمسة عشر مدنياً، من بينهم تسعة أطفال، خمسة منهم من عائلة واحدة، وهي العملية التي استهدفت تصفية الشيخ صلاح شحادة، قائد الجناح العسكري لحركة "حماس"، كتائب الشهيد عز الدين القسام. فقد قال (حلوتس) واصفاً مشاعره في هذه الليلة: "لقد نمت في هذه الليلة هادئ البال مرتاح الضمير".
صحيح أن الجنرالات الذين نافسوا (حلوتس) على منصب رئيس هيئة الأركان ذوو سجل إجرامي بحق الشعب الفلسطيني، لكن الذي لا خلاف عليه أن تفضيل الحكومة الإسرائيلية لِ(حالوتس) على غيره من الجنرالات كان بسبب دوره في عمليات التصفية. الذي يعزز الدلالات التي يعكسها هذا الاختيار ، هو أيضاً تعيين شارون لِ(يوفال ديسكين) ليكون الرئيس الجديد لجهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، وهو الجهاز الذي يأخذ على عاتقه مهمة مواجهة حركات المقاومة الفلسطينية. ولئن كان يُطلق على (حلوتس) لقب "متعهد" عمليات التصفية فإن (ديسكين) يُوصف على نطاق واسع بأنه "مهندس" هذه العمليات. فَ(ديسكين) أخذ على عاتقه تنسيق عمليات التصفية عندما كان نائباً لرئيس "الشاباك" في الفترة الممتدة بين العام 2000و2003، وهو الذي حوّل المعلومات الاستخبارية المتوافرة لديه عن المقاومين الفلسطينيين إلى قذائف وصواريخ تغتالهم أثناء استقلالهم سياراتهم أو وجودهم في مكاتبهم ومنازلهم. وقد نجح (ديسكين) في إقناع الحكومة الإسرائيلية برفع مستوى عمليات الاغتيالات لتطال في البداية القيادات السياسية لحركات المقاومة، وبعد ذلك طالت القيادات والمرجعيات الروحية، وهو يتباهى بأنه هو الذي أقنع شارون بضرورة تصفية الشيخ أحمد ياسين.
الذي يضفي خطورة كبيرة جداً على تعيين كل من (حلوتس) و(ديسكين) في أهم وأخطر منصبين أمنيين في الدولة العبرية هو حقيقة أن تأثيرهما لا يقتصر على الجانب التنفيذي العملياتي، بل إن الاثنين -بحكم موقعيهما الجديدين- مسؤولان عن تقديم استشارات وتقديرات إستراتيجية ملزمة للحكومة بشأن طبيعة العلاقة والتعامل مع العالم العربي. وكل من يعرف بواطن الأمور في الدولة العبرية لا بد أنه أدرك منذ فترة التأثير الطاغي للجنرالات في رسم السياسات العامة للدولة، بل وإملائها على الحكومات المنتخبة. فقائدا الجيش والمخابرات في إسرائيل هما اللذان يحتكران المعلومات التي على أساسها تتخذ الحكومة القرارات الهامة. وثبت بالدليل القاطع أن قادة العسكر في الدولة العبرية يتعمدون تزويد الحكومة بالمعلومات بشكل انتقائي من أجل إقناع وزراء الحكومة بتبني توصياتهم.
دلالات فارقة:(29/138)
اختيار (حلوتس) و(ديسكين) لا يدل فقط على طبيعة الدولة العبرية والمعايير التي تحتكم إليها النخب الحاكمة فيها، بل يعكس أيضاً التوجهات المستقبلية لإسرائيل من ناحية إستراتيجية على المدى البعيد. فواضح تماماً أن من يختار (حلوتس) و(ديسكين) ومن هم على شاكلتهما فقط لدورهما في عمليات التصفية التي هي جرائم حرب ضد الإنسانية- لا يضع في حساباته مطلقاً التوصّل لتسوية حقيقية مع الشعب الفلسطيني والعالم العربي. فهذا التعيين يكمل دائرة التصور الشاروني لمرحلة ما بعد تطبيق خطة "فك الارتباط"، وهي المستندة إلى الافتراض بأن تفجّر عمليات المقاومة مجدداً هو أمر لا مفر منه آجلاً أم عاجلاً .
فإسرائيل تستعد لمواصلة المواجهة مع الشعب الفلسطيني في محاولة لإجباره على التسليم بديمومة احتلالها للضفة الغربية. فليس مفهوماً ولا مبرراً أن تتصارع القوى الفلسطينية حول نتائج الانتخابات المحلية، وتخاطر بالمس بالوحدة الوطنية من أجل مكتسبات ضيقة، في الوقت الذي يتربص فيه العدو بالشعب الفلسطيني وقضيته، وينتدب أكابر مجرميه لكي يكونوا رأس الحربة في هذه المواجهة المفتوحة!!
في نفس الوقت فإن تعيين (حلوتس) و(ديسكين) رسالة للدول العربية التي تضع كل بيضها في سلة التسوية والتطبيع مع الدولة العبرية. ومفاد هذه الرسالة أنه لا يمكن للعالم العربي أن يتجاهل الأجندة التي تحتكم إليها الدولة العبرية. فيكفي هنا أن نذكر أن (حلوتس) يشدّد دائماً على أنه يتوجب الانطلاق من الافتراض أن مواجهة عسكرية شاملة بين العالم العربي وإسرائيل لا بد أن تندلع يوماً من الأيام، لذلك فإن (حلوتس) يصب جامّ غضبه على أولئك الذين يراهنون على التسوية مع العالم العربي.
=============(29/139)
(29/140)
فوز نجاد .. وتحديات إيران القادمة
سامح جاد / القاهرة 20/5/1426
27/06/2005
مفاجأة كبيرة وصلت لحد الصدمة على المستويين الداخلي والخارجي ..حملها فوز محمود أحمدي نجاد عمدة طهران في الانتخابات الرئاسية الإيرانية ، خاصة بعد أن ألحق هزيمة ثقيلة بمنافسه علي أكبر هاشمي رافسنجاني بنسبة (62.1%) مقابل (35.1%) رغم أن الكثير من المراقبين توقعوا أن يحسم رافسنجاني الانتخابات في جولتها الأولى.
ويمثل فوز نجاد صفعة قوية للتيار الإصلاحي في إيران والذي يتزعمه الرئيس السابق محمد خاتمي الذي دعا الإيرانيين خلال الحملات الانتخابية إلى عدم العودة إلى الوراء في دعوة غير مباشرة إلى انتخاب رافسنجاني الذي يوصف بالمحافظ المعتدل، ولكن أحمدي نجاد الذي يصفه خصومُه السياسيون بالمتشدد نظراً لتاريخه السابق كأحد أقطاب الحرس الثوري الإيراني (الذراع العسكرية الحامية للثورة)، استطاع أن يستقطب فقراء طهران (7.5 مليون نسمة) عبر عدد من المشاريع الإصلاحية خلال عامين منذ انتخابه لتولي منصب عمدة طهران 2003، وكذلك عبر وعود بحل مشكلات البطالة ورفض التيارات التغريبية والانحرافات والفساد التي سعى البعض لإلصاقها بالتيارات الإصلاحية المنفتحة على الغرب سواء في سياساتها الخارجية أو الاقتصادية وكذلك الاجتماعية والثقافية.
ومع انحسار تيار الإصلاحيين الذي بدأ منذ الانتخابات البرلمانية الإيرانية والمجالس المحلية 2003 - 2004 والتي حقق فيها المحافظون فوزاً كبيراً يعود تيار المحافظين بقوة إلى الساحة الإيرانية على المستوى الشعبي والرسمي ليمثل في الوقت نفسه رد فعل شعبي على الضغوط التي تتعرض لها إيران من الجانبين الأمريكي والأوروبي بشأن ملفها النووي وعلاقاتها بسوريا وحزب الله اللبناني وموقفها من إسرائيل وكذلك المخاوف من تبعات الاحتلال الأمريكي للعراق .
الفقير الثائر
لم يقف المحافظون منذ الثورة الإيرانية 1979 كجناح للمعارضة حتى عندما حكم الإصلاحيون كان التيار المحافظ هو المحرك الرئيسي للأحداث مدفوعاً بتيار الأغلبية الشعبية وبدعم من مرشد الثورة ويمثل محمود أحمدي نجاد أحد أسرار حقبة المحافظين التي لا تنتهي؛ فنجاد من شباب المحافظين (48 عاماً) وأحد رموزهم منذ أن كان أحد قادة الحرس الثوري وكذلك ميلشيات الباسيج (والتي كانت مرهوبة لفترات طويلة من قبل الإيرانيين نظراً لحماس عناصرها لتطبيق مبادئ الجمهورية الإسلامية)
ورغم الاتهامات بالتزوير في العملية الانتخابية إلا أن فوز نجاد أصبح واقعاً ليتولى حكم إيران أحد المحافظين المعارضين لليبرالية التي سعى الرئيس الحالي محمد خاتمي لإرسائها، حيث حملت شعاراته الانتخابية التمسك بالقيم الإسلامية والثورية، ولذلك عارض باستمرار خاصة خلال عمله لدى مجلس صيانة الدستور البرنامج الإصلاحي لخاتمي، حيث يرى أن إعادة النظر في صلاحيات المجالس غير المنتخبة أو صلاحيات المرشد أمر محظور.
وبينما كان منافسه أكبر هاشمي رفسنجاني يتعرض لانتقادات بسبب ثروته الطائلة حيث يوصف بأنه أغنى رجل في إيران، كان نجاد يجتهد لتقديم نفسه بصورة الرجل البسيط حامل شهادة الدكتوراه في الهندسة، فكان يظهر بلباس عمال البلدية ويتنقل في سيارة بسيطة ويؤكد أنه لا يتقاضى المال مقابل قيامه بعمله، كما أنه تباهى بعدم استخدام البلدية في حملته الانتخابية، وقد وصلت رسالته بالفعل إلى الأحياء الفقيرة في طهران فتمكن من جذب الأشخاص المهددين بالبطالة والتضخم.
ردود الفعل الدولية
تباينت ردود فعل المجتمع الدولي على انتخاب نجاد وإن اختلط أغلبها بنظرة الريبة لما ستحمله الأيام القادمة من سياسات المحافظين وتعاملهم مع مختلف الملفات الداخلية والإقليمية والدولية فبعد أن انتقدت الولايات المتحدة سير العملية الانتخابية ذاتها ، هاجمت وزارة الخارجية الأمريكية النظام الإيراني متهمة إياه بأنه لا زال خارج سياق التغيير الديمقراطي.
أما بريطانيا أحد أضلاع الترويكا الأوروبية بشأن الملف النووي الإيراني (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) فقد أعربت على لسان وزير خارجيتها جاك سترو عن أملها بأن تتخذ طهران تدابير سريعة، استجابة لمخاوف المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي .
من جانبها انتقدت ألمانيا كذلك على لسان يوشكا فيشر وزير الخارجية إقصاء العديد من المرشحين والمرشحات من الانتخابات، وغيرها "من نقاط الخلل الكثيرة في عملية الاقتراع".
لكن فيشر تبنى موقفاً قريباً من موقف الاتحاد الأوروبي وفرنسا ولندن واليابان الذين دعوا نجاد لمواصلة التعاون مع الجهود الأوروبية الساعية إلى طمأنة المجتمع الدولي بشأن برنامج طهران النووي.
أما روسيا أحد حلفاء إيران بشأن ملفها النووي فقد هنأ رئيسها فلاديمير بوتين نظيره الإيراني الجديد بالفوز، معرباً عن أمله بأن تشهد علاقات بلديهما تطوراً خلال السنوات المقبلة.
كما أعلن بوتين في رسالة التهنئة التي بعث بها إلى نجاد عن استعداد موسكو لمواصلة التعاون النووي مع طهران، دون الإخلال بالتزاماتها في مجال حظر انتشار الأسلحة النووية.(29/141)
وعلى نفس الصعيد علق المعارضون الإيرانيون في الخارج بالقول أن انتخاب نجاد "بداية انهيار النظام الإيراني"، أما رافسنجاني (الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات) فقد عقب على هزيمته بالقول أن خصومه استخدموا أدوات الدولة وإمكاناتها في الترويج لبرامجهم ودعاياتهم الانتخابية.
نجاد والتحديات القادمة
إن اختيار الإيرانيين لأحمدي نجاد ليكون رئيسهم خلال الفترة القادمة (4 سنوات على الأقل) لا يمثل بالنسبة لهم خطوة للوراء، بل هو اختيار يحمل الكثير من الدلالات، فداخلياً هو خطوة للإصلاح ليس على طريقة خاتمي ولكن على طريقة عمدة طهران الذي أصبح رئيساً وما يفرضه التوجه "القديم الجديد" من تحديات مجتمعية ترفض التغريب وصور الانحراف والفساد، وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي لا تزال ملفات عديدة مفتوحة أمام الرئيس الجديد في حاجة إلى التعامل معها.
على الصعيد الداخلي :
رغم دبلوماسية أولى تصريحاته عقب إعلان فوزه التي حث فيها الرئيس الإيراني الجديد محمود أحمدي نجاد على المصالحة الوطنية إلا أنه يبدو متحفزاً لتحجيم الإصلاحيين، بعد إخفاقهم السياسي رغم انضمام المحافظ المعتدل هاشمي رافسنجاني لصفوفهم، ومن أقوال أحمدي نجاد "لم نقم بالثورة لنحصل على الديموقراطية.. ثقافتنا السياسية باتت خارجة عن السيطرة خلال السنوات الأخيرة، هناك شبكات منظمة تنشر فيها الانحطاط".
واقتصادياً فأمام نجاد تركة ثقيلة تستدعي تقليص البطالة ومحاربة الفساد وجذب الاستثمارات التي قدرها محللون بمائة مليار دولار خلال السنوات القادمة من أجل إنعاش الاقتصاد الإيراني، وهو ما يبدو في الوقت نفسه صعب المنال في ظل سياسة المحافظين التي ترفض الانفتاح الاقتصادي الذي تبناه خاتمي.
ومجتمعياً يبدو نهج الرئيس الجديد وهو ما بدت ملامحه خلال توليه منصب عمدة طهران يميل إلى العودة لتقاليد الثورة الإيرانية في بداياتها، وكبح جماح من يراهم التيار المحافظ دعاة التغريب والانحطاط، كما أن الرئيس الجديد سوف يجابه بمطالب السنة في إيران والذين يمثلون نحو 20 % من الإيرانيين الذين يعانون تهميشاً متعمداً ويحرمون من تولي المناصب القيادية ومن التمثيل السياسي الموازي للتمثيل الديمغرافي.
على الصعيد الإقليمي:
رغم أن الحكومة العراقية الحالية خرجت من عباءة النظام الإيراني إلا أن الرئيس الإيراني وحكومته القادمة يحتاج لبلورة علاقته مع العراق الجديد، ومع التهديد الذي يمثله الوجود العسكري الأمريكي في العراق وفي الخليج بوجه عام، كذلك العلاقة مع سوريا ومع تنظيمات المقاومة المسلحة في لبنان (حزب الله)، وما يحيط بتلك العلاقة الشائكة من تحديات ومخاوف المجتمع الدولي.
وفي المحيط الإقليمي أيضاً فمن غير المتوقع أن تشهد العلاقات الإيرانية الخليجية تغييراً ملحوظاً، في ظل المخاوف الخليجية -غير المعلنة- من تنامي قوة إيران، ومن ملفها الإيراني، وكذلك مخاوف المد الشيعي الإيراني وهو ما سبق وعبر عنه العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين بالهلال الشيعي، كما أن العلاقات الإيرانية مع الدول العربية تظل قيد الجمود النسبي، بل ربما تتراجع المحاولات التي حققها خاتمي بمحاولته لتطبيع العلاقات مع عدد من الدول العربية ومنها مصر، ولكن ما يعطي الأمل في تطور تلك العلاقات (العربية الإيرانية) وجود عدو مشترك وهو الكيان الصهيوني ومحاولات الهيمنة الأمريكية بدعوى الصلاح والشرق الأوسط الكبير، أما حرب التهديدات والتصريحات المضادة بين إسرائيل وإيران فيبدو أنها سوف تعلو حدتها مع تولي أحد صقور المحافظين لمقاليد الحكم في إيران، لكن الأمور قد لا تتطور عن كونها حرب تصريحات وتهديدات لا ترقى لدرجة تنفيذ هجمات.
على الصعيد الدولي:
لا شك أن العلاقات الأمريكية الإيرانية هي أعقد ما يواجه الرئيس الجديد ومن غير المتوقع أن تشهد تلك العلاقات الذي يعد ملف إيران النووي أبرز عناوينها انفراجه، بل على العكس فإن التصريحات التي أعقبت إعلان فوز نجاد تؤكد تزايد الخلاف بين الجانبين في عدة قضايا هي الملف النووي الإيراني وملف الإصلاح وما تقول واشنطن أنه دعم إيران لتنظيمات إرهابية ولجماعات مسلحة ومنها حزب الله، وفي ذلك جاء تصريح نجاد الذي أكد فيه "الجمهورية الإيرانية مستعدة لإقامة علاقات مع العالم أجمع، إلا أن هذا يجب أن يندرج في إطار مصلحتنا الوطنية".
وبشكل عام رغم ما يوصف به محمود أحمدي نجاد من التشدد فإن الظروف الإقليمية والدولية، بل والداخلية ربما تفرض عليه المراوحة بين النهج المتشدد في التعامل مع قضايا الداخل سعياً لتقليص واحتواء الإصلاحيين والمعارضة عبر قبضة نجاد رجل الحرس الثوري المدعوم من مرشد الثورة (علي خامنئي)، والبراجماتية في التعامل الخارج خاصة في ظل الحالة الجيوسياسية الحالية من تواجد مكثف للوجود الأمريكي في الخليج وضغوط سياسية تمارسها واشنطن والاتحاد الأوروبي، لتكشف الأيام ورما السنوات القادمة ما يحمله المحافظون من أسرار ومفاجآت داخل حقيبتهم، ربما لا تقل في وقعها عن مفاجأة انتخاب نجاد لرئاسة إيران.
============(29/142)
(29/143)
لتكن الأقليات المسلمة في الغرب مبشرة بالإسلام
9/1/1428
28/01/2007
خلفية المبادرة
لم يعد وجود المسلم كسائح عابر، أو مسافر قاصد، بل تعدى ذلك بأن يكون المسلمون مواطنين أُصلاء، ورقماً مهماً في العديد من الدول غير الإسلاميَّة وخصوصا في الغرب، إذ يقدر وجود المسلمين كجاليات في دول غير إسلامية بما يقارب من (432) مليون مسلم، (أي ما يقارب ثلث المسلمين في العالم يعيشون في دولهم كأقلية). لذلك فإن نجاح العمل الإسلامي المتكامل الموحد الجهود للجاليات يؤدي إلى التأثير في البلد الذي تقطنه الجاليات، لأنهم حينئذٍ سينظرون إلى المسلمين نظرة يعمل لها حسابها: كلمة واحدة، رأي واحد، كتلة واحدة، غير متعارضين - ولا متصادمين.
ولعل المتأمل يشاهد بوضوح أن ثمة العديد من الوسائل والآليات المتعددة، التي يمكن الأخذ بها من قبل الأقليات والجاليات المسلمة في الغرب لاستغلال الإمكانيات المتاحة لديها، بهدف تعظيم استفادتها الذاتية، ودعم البعد التأثيري لها على محيط مجتمعاتها. هذا بشكل عام، وبشكل خاص فإن أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ستؤدي في حال غياب أو تأخر الأطروحات الإسلاميَّة إلى ظهور أطروحات غربية، تخالف جذرياً الأطروحات الإسلاميَّة، مهيأة المناخ لصدامات تمسُّ هوية الأمة الإسلاميَّة وحضارتها مباشرة. وهذا ما عبر عنه العديد من الكتاب والمفكرين الغربيين في الصحف والمجلات الواسعة الانتشار، والتي تحظى بتأثير واسع على الرأي العام الغربي كصحيفة نيويورك تايمز، وصحيفة وول ستريت، ومجلة نيوزويك.
ومن هذا المنطق، ولضرورة قلب المعادلة لصالح الإسلام والمسلمين، تسعى المبادرة الحالية إلى تحديد العديد من الخطوات العمليّة والواقعية المرتبط بأدوار الجاليات في الغرب.
ولعل الحديث في هذه المبادرة ينصب على الجاليات المسلمة في الغرب، نظرا لوضعها القانوني والمعيشي من جهة، ولأهمية وحساسية الدول الغربيَّة في الوقت الراهن من الجهة الأخرى.
الداعية ونيس المبروك / بريطانيا - شفيلد يبدي ارتياحه لوجود الفرص الحقيقية لدى الجاليات الإسلاميَّة في الغرب، نظراً لشيوع الفهم المعتدل للإسلام بينهم، ونفور الكثير منهم من العصبية القطرية أو المذهبية، والشعور العام للتوحد على ما هو أولى وأهم، كـ: (قضية فلسطين - ما يحدث في الهند وأفغانستان والعراق. . . . الخ). ويرى أن هذه الأحداث أدت إلى ترسيخ قيم الأخوة الإسلاميَّة العامَّة، من جهة، ومن جهة أخرى أشعرت المسلمين بأنهم تجاه عدو مشترك، يريد أن يستأصل شأفتهم، لابد من مواجهته بروح التوحد على قضايا الأمة، ونبذ العصبية، والتعاون على البر والتقوى.
كما يؤكد على أهمية استثمار الفرص المهمة لوجود المناخ المناسب، والحر للتفاهم والحوار بين الدعاة الذين قدموا من الشرق وذلك:
أ - لزوال عامل الخوف من بطش الحكام وغيرهم.
ب - وليتعرف المسلمين على ظروف بلدانهم المختلفة بشكل حقيقي بعيداً عن دجل وتزويق الإعلام الحكومي في الدول العربية.
جـ - ولوجود الفرص المناسبة "للمطارحات الفكرية "، و"الندوات العلمية"، التي تساهم في تقريب وجهات النظر بين العلماء والدعاة.
على أن رأي الدكتور المبروك يجب أن لا يؤخذ على إطلاقه، أو يدعو إلى نوع من الاسترخاء والدعة. إذ أن مما يؤسف له أن الجاليات في الغرب على سبيل العموم، تشبه إلى حد كبير الشعوب في العالم الإسلامي، وأن بعض المجموعات الإسلاميَّة، تنتقل إلى الغرب بسلبياتها، بفيروساتها، بخلافاتها، بأوضاعها المحزنة فعلاً، وتحاول أن تتشاغل بنفس الأوضاع، وأن تصطنع نفس المعارك. لذلك ربما تنظر إلى كثير من المراكز الإسلاميَّة في أوروبا، و أمريكا، لتجد أنها منشقة على نفسها، بنفس الوضع الموجود في العالم الإسلامي: جماعات متناحرة، متصارعة، ومتقاتلة فيما بينها أحيانا. إن الصورة ليست بهذه السلبية في كل مركز، وإنما -ربما- بين الجماعات الإسلاميَّة والقيادية في بعض المراكز. لكن يبقى أن غالبية المسلمين هناك مثل غالبية المسلمين في العالم الإسلامي، أناس عاديون، ولكنهم أكثر وعياً بحكم المجتمع الذي يعيشونه، وأكثر إدراكاً للمتغيرات. لكن لا يوجد الاستثمار الحقيقي لوجودهم في الغرب، توازن الفرص التي يمنحها لهم الواقع الغربي، للدفاع عن قضايا المسلمين الموجودة في تلك البلاد ، سواء كانت قضايا فردية أو جماعية، ومحاولة تصحيح الصورة المنحرفة عن الإسلام في بلاد الجالية.
إن من أولويات العمل الإسلامي في الغرب إعادة ترتيب البيت الدعوي، حيث يوجد في أوربا وحدها أكثر من (7000) سبعة آلاف مؤسسة، ومركز إسلامي دعوي، كما لابد من التكامل بين أفراد الجاليات، لتنمية وتطوير موقع الجاليات في الغرب، والأخذ في الاعتبار، أن "البعد التربوي" أعمق من "البعد الفكري"، وأن "البعد العمليّ" أعمق من "البعد النظري" وأنه لابد من توفر شروط نجاح هذا التكامل.
كما لابد من تطبيع الثقافة الشرقية لدى أبناء الجالية الإسلاميَّة، التي تشكلت من عادات بلادهم، ولا تمت إلى الدين بصلة، (وهذا مما قد يؤدي إلى تفرق وتشتت أبناء الجالية).(29/144)
- المَحاور الرئيسة للمبادرة:
1- العمل على إبراز الصورة الحقيقية للإسلام بأسلوب علمي .
2- الانتماء الحقيقي للبلدان المضيفة والمشاركة الإيجابية داخل مجتمعاتها .
3- التفاعل التأثيري مع المثقفين ورجال الفكر وصناع القرار في الغرب.
4- تنظيم عمل الجاليات وتثقيفها وتطوير مجتمعها المحلي .
فيما يتعلق بالمِحوَر الأول يرى الداعية عثمان محمد (إمام وخطيب مسجد الرحمن في مدينة شفيلد / بريطانيا) أن الجاليات الإسلاميَّة يمكن أن تؤدي دورا بارزا، في التأثير على الشعوب الغربيَّة وأصحاب القرار السياسي على حد سواء في الغرب، في توضيح الصورة الحقيقية للإسلام، إذ ما وضعت نصب أعينها الاستراتيجيات التالية:
1. إزالة عقدة الخوف لديهم من الإسلام، وخاصة بعد ظهور كتب كثيرة لديهم (تحذر من الإسلام)، وتبرز لهم أن الإسلام هو العدو القادم إليهم، وأشهر هذه الكتب (كتاب صراع الحضارات).
2. الاهتمام بتربية الأجيال القادمة لتكون (نموذجاً إسلامياً) مجسداً لقيم الإسلام، لأن الإسلام في الغرب، لن يتضح للغربيين إلا عبر النموذج، فالعقل الغربي عقل عمليّ تطبيقي. (فنحن كلما تحدثنا عن الإسلام، سألونا أين هذا النموذج؟). ولذا لابد من الاعتماد على استراتيجية ربط الجاليات بالإسلام ربطاً سليماً وعمليّا، وتطبيق سلوكياته النقية على وجهها الصحيح، مع مواطني الشعوب الغربيَّة، ومن ذلك: (الإخلاص - مطابقة القول للعمل - الجدية والاجتهاد - الفهم الصحيح - حسن الخلق - العدل - عدم القنوط. . . الخ).
3. ومن الاسترايجيات الأخرى التي يوردها باحثون وعلماء آخرون ضمن هذا السياق:
1. سعي الدعاة وطلبة العلم الشرعي للعمل ضمن البيئات الاجتماعية المضيفة -مهنة التدريس مثلا-، والسعي إلى الاختلاط والاحتكاك. كما جاء في الحديث الشريف: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم". بحيث يلتزم هؤلاء الدعاة التحلي بما يلي:
• الفهم الصحيح للإسلام.
• الرفق وإحسان الوعظ والبيان.
• التدرج.
• موافقة العمل للقول.
• نشر الوعي والفهم الصحيح والمعتدل للإسلام، بين أفراد المسلمين عامَّة، والعاملين منهم خاصة، لوجود تيارات الغلو التي تنفّر وتصدّ عن الدين بدون قصد.
المِحوَر الثاني للمبادرة الحالية المتمثل في الانتماء الحقيقي للبلدان المضيفة ، والمشاركة الإيجابيّة داخل مجتمعاتها، حسب وجهة نظر العديد من الباحثين والمستفتين فيتضمن التالي:
1. بما أن المسلم اختار المعيشة في الغرب، فإنه اختار أن يكون (جزءاً) من الوطن والمجتمع الذي يعيش فيه، مما يوجب عليه أن (يفكر في همومه - والتحديات التي تواجهه)، ولكن من منظور دينه وعقيدته.
2.على المسلم أن يركز على عنصر التفاعل مع البيئة الغربيَّة، وعدم العزلة عنها، لأن رسالة المسلمين في الغرب، لا يمكن أن تؤتي أكلها إلا في أجواء من التعارف، والتواصل والتعايش والحوار.
3. تعايش المسلمين (الجاليات) مع مجتمعهم الجديد في الغرب، من داخل مواقع تأثيرهم اليومي، بدلاً من توسيع دائرة اهتمامهم بقضايا وتحديات لا يستطيعون معها حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ولم يكلفهم اللَّه عزّ وجل بالتغيير فيها من خلال (التحكم من بعد)، فالأقربون أولى بالمعروف ، وابدأ بمن تعول .
4. مطالبة المسلمين في الغرب بحقوقهم من منطلق (المواطنة)، التي يتمتعون بها ، لا من منطلق التميّز الديني عن أهلها، فهذا مما يساعد على تلبية مطالبهم، دون الوقوع في فخ الصراعات الطائفية والدينية مع أهل هذه الديار.
5.قيام المسلمين في الغرب بدورهم في الشهود الحضاري على الناس، وفق منظومة القيم والمعتقدات التي يدينون بها. وقطع المجال أمام الادعاءات الغربيَّة وحججها، بأن المسلمين هم الإرهاب والعدوان.
6. يضيف الداعية ونيس المبروك، ضرورة الولاء الصادق للديار الغربيَّة ، ومراعاة أن لها "حقوق الوطن " و"آداب المواطنة". مع الأخذ في الاعتبار أن الإسلام يحرص على بناء الوطن الذي يعيش فيه المسلم، والسعي في نهوضها ورخائها لأنها:
• مقر معاشهم.
• ديار أبنائهم من بعدهم.
• صلاح الأوطان وأمنها يعود على كل مواطنيها دون فرق.
أما ضمن المِحوَر الثالث للمبادرة الحالية فيرى الداعية ونيس المبروك / بريطانيا - شفيلد أنه يتوجب على المسلمين في الغرب التفاعل التأثيري والإيجابيّ مع المثقفين، ورجال الفكر والسياسة في الغرب، من خلال الاستراتيجيات التالية:
1. ألا يقوم المسلمون في الغرب بأي مشروع نهضوي حاليا، من شأنه أن يستفز الغرب، ويريه أنه خطر على مصالحه. وذلك مراعاةً للواقع العالمي الجديد بتفرد أمريكا، وحليفها الغربي بالسيطرة على مفاصل القوة العسكرية، والاقتصادية في العالم.
2. تفعيل التنسيق مع الأعداد الكبيرة الغربيَّة، التي تدعو إلى نصرة الحرية والعدل والمساواة في الغرب، نظراً للأرضية المشتركة معهم في القيم، التي نادى بها الإسلام العظيم.
ومن الاستراتيجيات الأخرى التي يقترحها مفكرون وكتاب آخرون ما يلي:(29/145)
3. توجيه المراكز والهيئات والدعاة وطلبة العلم إلى إقامة علاقات علمية، وبحثية، واجتماعية وطيدة مع النخب الغربيَّة من (كتاب وصحفيين وأكاديميين وسياسيين)، لتوسيع مفهوم الأرضية المشتركة.
4. فتح باب الحوار مع الغرب، وعلى وجه الخصوص الحوار مع عقلائهم ومفكريهم ومستشرقيهم وسياسييهم. ومما يساعد على ذلك عقد الحلقات العلمية والمشاركات الإعلاميَّة، في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، والمشاركة في المناسبات الفكرية والاجتماعية العامَّة.
5. الابتعاد بالحوار عن نقاط الاختلاف التي تفصل بينهم وبين أهل هذه الديار، سواء في المعتقد أو السلوك. ويركز على نقاط الالتقاء ولو كانت صغيرة، ثم الانطلاق منها لتحقيق تقدم سواء على صعيد الفكر أو السياسة.
أما المِحوَر الرابع حسب رأي الدكتور عبد الحكيم الصادق / مدير مركز المنار بمدينة كاردف، فيتضمن العديد من الاستراتيجيات الأساسية كالتالي:
1. الاهتمام بأبناء الجالية الذين يدرسون في كليات العلوم السياسية، والقانون الدولي وغير ذلك، وذلك بـ:
• توعيتهم بالهجمة الشرسة على الإسلام.
• دورهم المرتقب.
• تقوية جوانب العقيدة.
• الالتزام بأخلاق الإسلام.
2. تشكيل "مجلس عام" يشمل كافة وجهاء الجالية الإسلاميَّة في كل دولة، وكذلك تشكيل "مجالس مصغرة" على مستوى المناطق. يتمثل دور المجلس العام، والمجالس المصغرة بالتالي:
• تمثيل الجالية الإسلاميَّة.
• رفع القضايا للساسة.
• أخذ حقوق الجالية "القانونية " و"المالية ".
• رفع الظلم " الواقع " أو "المتوقع " عن أبناء الجالية الإسلاميَّة داخل البلاد وخارجها.
الشيخ محمد مصطفى المقرىء/ لندن وعدد آخر من الباحثين يضيفون التالي:
3. استفادة الهيئات الإسلاميَّة في بلاد الغرب من الحريات الواسعة الممنوحة للمسلمين - وهي غير متوفرة في البلاد العربية والإسلاميَّة - للتأثير والحضور والتواصل والبناء.
4. تنسيق مواقف المسلمين كجالية - أقلية - للتحرك كتلة واحدة، متراصة الصفوف، موحدة المواقف والرؤى، مبتعدة عن الانتماءات الحزبية والجغرافية الضيقة، والعصبيات المذهبية المفرطة.
5. تفعيل دور المراكز والمؤسسات الإسلاميَّة في أوربا، حيث ينتشر أكثر من (7000) سبعة آلاف مركز ومؤسسة، لبيان صورة الإسلام الناصعة، وتقديم خدمات متنوعة للمجتمع غير المسلم، بدلاً من التقوقع في إطار روادها من المصلين أو المتعلمين.
6. تخلص - أو تخليص- الجاليات من الحيرة التربوية التي وقعوا فيها، لاقتصار مناهج التربية لدى الجماعات والحركات الإسلاميَّة على واقع الشرق، حيث لم يجدوا في أدبيات الحركات التي انضموا إليها، ما يخلصهم من تلك الحيرة. لذلك فهم بحاجة إلى التكيف مع (فقه الواقع)، الذي يقتضي اجتهاداً متميزاً للمسلمين في الغرب.
============(29/146)
(29/147)
لا للحجاب .. ولا حوار مع الإسلاميين!!
ياسر الزعاترة 3/7/1426
08/08/2005
في مفاجأة للجمهور التونسي بمناسبة إحياء عيد الجمهورية الذي يوافق الخامس والعشرين من تموز/يوليو أكد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في خطابه على مسألتين؛ تتمثل الأولى في التأكيد على أن الحجاب أمر مرفوض في تونس باعتباره لباساً وارداً من الخارج يرمز لانتماء سياسي معين، أما الثانية فهي رفض الحوار مع حركة النهضة التونسية بزعامة الشيخ راشد الغنوشي، وهي حركة المعارضة الإسلامية الأساسية، ويتوزع قادتها بين المنافي والسجون، على أساس من رفض الحوار مع الأحزاب التي ترتكز إلى مرجعية دينية.
هكذا تأتي لاءات الرئيس التونسي لتهيل التراب على آفاق المصالحة التي بشر بها العديد من المراقبين في الساحة التونسية، ومعها بالطبع آفاق الانفتاح على المجتمع ووقف سياسة العسكرة الداخلية التي لم تأت على الإسلام السياسي وحده كما يصفه البعض، وإنما أتت على السياسة برمتها، والتي غدت عملياً من اختصاص الحزب الحاكم وحده الذي يفوز بكامل المقاعد في كل الجولات الانتخابية، حتى لو كانت تتعلق بنقابة لشيوخ الطرق الصوفية!!
من المؤكد أن غلق باب المصالحة، ومعها التفاؤل بالإفراج عن حوالي خمسمائة معتقل سياسي يقبعون في السجون منذ ستة عشر عاماً، قد أصاب البعض بالخيبة، لاسيما أولئك الإسلاميين، وبعضهم من رموز حركة النهضة، ممن عولوا على خطاب جديد تجاه النظام يمكنه أن يفتح نافذة للمصالحة، الأمر الذي عارضه آخرون لا يرون أملاً في الوضع القائم ويميلون إلى تشديد الضغط عليه عبر تحالف مع جميع القوى والفعاليات التي تشاركهم القناعة في تجذر حالة الانسداد السياسي في البلاد.
هكذا يثبت الموقف الجديد لرأس النظام التونسي صحة الموقف الذي تبناه الشيخ راشد الغنوشي وعدد من قادة الحركة، مقابل خطأ المواقف الأخرى التي كانت تحيل التأزم القائم في الداخل التونسي، وتحديداً فيما يتعلق بملف النهضة ومعتقليها، إلى المواقف المتشددة لزعيم الحركة في الخارج، فقد ثبت الآن أن أزمة النظام التونسي ليست مع الإسلام السياسي كما يقال، وإنما مع المظاهر الإسلامية برمتها، أي مع الإسلام. أي أننا إزاء علمانية تشبه العلمانية الأتاتوركية التي تعاني منها تركيا.
ليس من العسير القول - بناء على المواقف الأخيرة التي عكسها خطاب الرئيس التونسي- أن النظام لم يفقد رباطة جأشه في مواجهة اتساع دائرة المعارضة على نحو استثنائي في الآونة الأخيرة، لاسيما بعد مبادرته إلى دعوة شارون لزيارة تونس، ولا شك أن هذا الشعور إنما ينبع من استناده إلى الدعم الخارجي، الأمريكي تحديداً والغربي عموماً، وهو دعم لم يأت فقط بسبب المواقف الخارجية المنسجمة مع البرامج الأمريكية في المنطقة، بل أيضاً بسبب ترويجه لنموذجه الناجح في اجتثاث الإسلام السياسي من تونس بالوسائل الأمنية، ومن بعد ذلك تحجيم ظاهرة التدين نفسها، والتي يراها الصهاينة، بحسب نظرية المستنقع والبعوض، أرضاً خصبة لإنتاج الإرهاب.
يحيلنا ذلك إلى" اللاء " الأولى من لاءات السيد الرئيس في خطابه، وهي تلك المتعلقة بالحجاب، إذ أننا هنا إزاء موقف لا يتوفر إلا في تركيا، هناك حيث يجاهد أردوغان الذي تلبس زوجته وبنتاه ذلك الحجاب من أجل تغييره، إضافة إلى فرنسا التي لم تمنع الحجاب إلا في المدارس، فيما تمنعه تونس في المدارس والجامعات والدوائر الرسمية، في ذات الوقت الذي تحاربه في الشارع بكل ما أوتيت من قوة، على رغم مفاجأة الأعوام الأخيرة التي تمثلت في انتشار ظاهرة الحجاب على نحو أذهل مخططي حملة العلمنة القسرية في البلاد.
هكذا يستقوي النظام على الناس بسطوة القوة، ليس في شؤون السياسة وحسب، بل وفيما يتعلق بالحرية الشخصية ومن ضمنها الالتزام الديني العادي، وهي حالة فريدة يبدو أن من يدعمون هذا التوجه من الأمريكان يريدون نشرها ولو بعد حين، وبالطبع ضمن رؤية تعتقد أن التدين هو الداء الذي ينبغي أن يستأصل من أجل التخلص من الإرهاب، فيما الهدف الحقيقي هو التخلص من أي خطاب يتبنى مواقف معارضة إزاء الهيمنة الخارجية بشكل عام، وإزاء المشاريع الصهيونية في المنطقة بشكل خاص.
نذكّر هنا بأن ما يجري في تونس إنما يؤكد سخف مقولات "الإسلام المعتدل" المطلوب أمريكياً، أو ترويج النموذج التركي، بحسب ما تردد نخب علمانية، بل وإسلامية أيضاً ترى أن تحالفاً سيأتي بين "الإسلام المعتدل" والولايات المتحدة، بعد أن يتنصل الإسلاميون من التزامهم بالقضية الفلسطينية.(29/148)
والحال أن حركة النهضة هي أقرب الأمثلة إلى نموذج العدالة والتنمية التركي، لكنها ما تزال مرفوضة، وستبقى كذلك ما دام بوسع النظام مطاردتها من دون تأثيرات جانبية واسعة، أما اندماجها في مشروع يعترف بالدولة العبرية من أجل الحصول على الرضا الأمريكي فلا يبدو ممكناً، ليس لأن واشنطن ستفضل علمانيين يعترفون بمصالحها ومصالح تل أبيب على إسلاميين غير مضمونين فحسب، بل أيضاً لأن الحركة سترفض ذلك، إيماناً منها بأن الشارع الذي لم يحركه شيء قدر رفضه لزيارة شارون لتونس، لن يحترمها حين تسكت على قضايا الأمة في فلسطين والعراق، في تناقض واضح مع طروحاتها الأساسية.
في تونس اليوم يقدم النظام نموذجاً في التطبيع المبكر مع العدو الصهيوني كي يساهم في كسر الحواجز أمام الآخرين، فيما يقدم نموذجاً آخر في محاربة مظاهر التدين بعد "إبادة" الإسلام السياسي عسى أن يحتذيه الآخرون أيضاً، لكن الشارع التونسي المنحاز إلى دينه وأمته لن يقف مكتوف اليدين أمام ذلك كله، وما الحراك السياسي الأخير إلا محطة قد تتلوها محطات على صعيد استعادة الحرية المسلوبة والهوية المحاربة.
===========(29/149)
(29/150)
معاهدة وادي عربة
عرض : طارق ديلواني 6/11/1427
27/11/2006
الكتاب
معاهدة وادي عربة .. دراسة تحليلية
المؤلف
محمد عصام عايش
الناشر
دار البيارق - عمان
منذ توقيعها في السادس والعشرين من شهر أكتوبر عام 1994 لم تلتفت كثير من الدراسات والأبحاث إلى تحليل مضمون المعاهدة ونتائجها وسلبياتها وإيجابياتها إن وجدت.
لكن الصحفي والباحث محمد عايش واحد من الذين بحثوا بحثاً مستفيضاً في اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية وإمكانية إلغائها من قبل الجانب الأردني.
وحديث المؤلف في كتابه هذا ليس حديثاً عاطفياً بل دراسة تحليلية موضوعية يتناول بكثير من التفصيل العملية التفاوضية السابقة لمعاهدة وادي عربة الأردنية -الإسرائيلية، والتساؤل الذي يحاول الإجابة عليه مدى نجاح المفاوض الأردني في تحقيق الأهداف المرسومة له في محادثاته مع الطرف الإسرائيلي من مكاسب، وماذا قدّم من تنازلات.
ويقارن محمد عايش ما بين المرتكزات والثوابت والأهداف التي ذهب المفاوض الأردني إلى مؤتمر السلام على أساسها وبين ما حققه في معاهدة وادي عربة معرجاً في لمحة سريعة على الصراع العربي الإسرائيلي.
والمثير في هذا الكتاب القيّم أنه يعرض للدوافع والظروف الدولية والإقليمية التي دفعت الأردن إلى التوقيع على معاهدة وادي عربة، بينما ثمة هناك فصل كامل يتحدث بإسهاب عن مشروعية إلغاء المعاهدة من جانب واحد هو الجانب الأردني، وقد تناول هذه المسألة على الصعيدين الداخلي أي من وجهة النظر الدستورية، والخارجي أي مشروعية القرار في القانون الدولي ووفقاً للمعاهدات الدولية.
وفي الداخل عناوين فرعية كثيرة من قبيل قضية القدس والسلام العادل والشامل وإزالة المستوطنات وعودة اللاجئين، وفي ثنايا بنود المعاهدة مصطلحات ومفردات مهمة من قبيل الاعتراف والأراضي المؤجرة والأمن ومكافحة الإرهاب والعلاقات الاقتصادية بين البلدين.
والخلاصة التي يخلص إليها المؤلف أن خيار التطبيع الشعبي مرفوض تماماً
وإن مكاسب هذه المعاهدة جاءت أقل من التوقعات بكثير، لكن الأهم هو أن (12) سنة من التطبيع الرسمي لم تفلح في حث الأردنيين على تقبّل الإسرائيليين بقدر ما أخرجت الأردن من دائرة الصراع مع العدو الصهيوني وحيّدته تماماً، فكانت هذه المعاهدة التي ظلت حبراً على ورق بمثابة إعطاء شرعية لإسرائيل مجاناً دونما أي مقابل .
وخلافا للموقف الشعبي الرافض للمعاهدة وفي اتساق مع الرأي الرسمي يرى البعض أن " وادي عربة" منحت الأردن نصراً إستراتيجياً بعيد المدى تمثل بإبعاد فكرة الوطن البديل وترسيم حدوده لأول مرة مع "إسرائيل" التي ترفض الإقرار بحدود جغرافية، مدفوعة بنوايا توسعية منذ بسطت هيمنتها على فلسطين، وأعلنتها الأمم المتحدة دولة عام 1948.
والاهم أن المعاهدة أخرجت الأردن "من عزلته السياسية منذ حرب الخليج الثانية، وجعلت منه حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة من خارج منظومة حلف الأطلسي بعد أن كان في دائرة السهام الأمريكية.
وفي الحديث عن المكاسب الأردنية من هذه المعاهدة يبدو أن الأمور بقيت على حالها خاصة فيما يتعلق بالقضايا الشائكة بين الطرفين؛ فاقتصادياً مثلاً ذهبت عشرات الوعود بإقامة مشاريع ضخمة وإحداث انتعاش في السوق الأردني أدراج الرياح بعدما اكتشف الأردنيون أن الطرف الوحيد المستفيد اقتصادياً من هذا السلام هم الإسرائيليون.
فلم تتحقق مشاريع المطار المشترك في العقبة ومحطات تحلية المياه ومشروع سحب مياه الأحمر إلى البحر الميت، كما لم يحصل الأردن على حصته من المياه والتي تُقدّر ب (50) مليون متر مكعب سنوياً بحسب المعاهدة .
أما داخلياً فقد انعكست معاهدة السلام مع"إسرائيل" سلباً على الداخل الأردني من جميع النواحي؛ إذ تراجعت الحريات، وانخفض هامش الديموقراطية على أساس أن القضية المركزية للمعارضة الأردنية وقوام مبادئها هو رفض التطبيع مع إسرائيل .
وأصبحت تداعيات المنطقة وحراكها مسوّغاً على الدوام للتضييق، وهاجساً للحفاظ على الأمن .
فتعرضت قوانين متعلقة بالحريات العامة للتعديلات، من أهمها قانون الاجتماعات العامة الذي يحظر التظاهر إلا بضوابط، وقانون المطبوعات والنشر، وقانون الانتخابات (الصوت الواحد) الذي هدف لتحجيم الإسلاميين والمعارضين في الساحة الأردنية .
هذا فضلاً عما أسهمت فيه هذه المعاهدة المشؤومة من إلغاء وتغيير للعديد من القوانين الأردنية لتنسجم مع واقع السلام واستحقاقاته في المنطقة ككل من قبيل دخول الأردن في بعض الاتفاقيات الدولية، كالاتفاقيات المتعلقة بالإرهاب ومكافحته، والتي برزت كظاهرة قانونية وسياسية عقب عملية السلام.
==============(29/151)
(29/152)
الإخلاء والتطبيع .. رهانات إسرائيليّة
صالح محمد النعامي/ فلسطين 9/8/1426
13/09/2005
تحاول الدولة العبرية بكل ما أُوتيت من قوة أن تستغل قوة الدفع الناجمة عن تطبيق خطة "فك الارتباط" من أجل دفع التطبيع مع العالمين العربي والإسلامي قدماً. ليس هذا فحسب، بل إن حكومة شارون باتت تعد التطبيع مع العالمين العربي والإسلامي هدفاً إستراتيجياً يتوجب استنفاد الطاقة الكامنة فيه حتى النهاية. ومن المفارقات المؤلمة أن حكومة الليكود التي تتولى مقاليد الأمور في الدولة العبرية تعتبر أن التطبيع -بالذات- سيساعدها في تحقيق هدفها الإستراتيجي المتمثل في تصفية القضية الفلسطينية، وإنهائها، وهذا ما لا يتورع القادة الصهاينة عن الحديث عنه صراحة. ويمكن هنا أن نشير إلى أن دوائر صنع القرار ومراكز الأبحاث المستقلة والتابعة للأجهزة الاستخبارية في الدولة العبرية ترى أن نجاح "إسرائيل" في إقناع الدول العربية في تطبيع علاقاتها معها سيساعد حكومة شارون على إيجاد مناخ دولي يساعدها على تعزيز المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، واستكمال تهويد مدينة القدس، وإنجاز إقامة الجدار الفاصل في قلب الضفة الغربية بدون ممانعة دولية. وتشير هذه الدوائر إلى أنه سيكون من شبه المستحيل نجاح الفلسطينيين في تجنيد الرأي العام العالمي ضد توجه إسرائيل بتعزيز الاستيطان في الضفة الغربية، في الوقت الذي تواصل فيه الدول العربية المسارعة في تطبيع علاقاتها مع تل أبيب.وترى هذه الدوائر أن الدول الأوروبية والمنظمات الدولية التي كانت تبدي حساسية تجاه البناء في المستوطنات والجدار ستتغاضى عن ذلك، أو سيقل اعتراضها عليه في ظل مبادرة الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وتعدّ مؤسسة الحكم الإسرائيلية أن تطبيع الدول العربية لعلاقاتها معها سيدفع الفلسطينيين لتخفيض سقف توقعاتهم، وسيمثل أداة ضغط على قيادة السلطة للتقارب مع التصور الإسرائيلي للتسوية. وتشير دوائر صنع القرار العبرية إلى أن هناك الكثير من المؤشرات على ممارسة الدول العربية الضغط على قيادة السلطة من أجل تغيير الكثير من المواقف "التقليدية" المتعلقة بالتصور لتسوية الصراع، لا سيما في مجال دفع السلطة للتنازل بشكل مباشر أو غير مباشر عن حق العودة للاجئين. وهاهو مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلي جاك بورسو يعبر عن ذلك بشكل حر وصريح، عندما قال: إن هناك بعض الدول العربية تبدي استعداداً لقبول توطين اللاجئين الفلسطينيين. واللافت للنظر أن الدولة العبرية تخطط لتسوية قضية اللاجئين دون أن تدفع أي مقابل مادي وذلك عبر التطبيع. وحسب ما صرح به دوف فايسغلاس -كبير مستشاري شارون- فإن تل أبيب ستطرح على الدول العربية -وبتدخل أمريكي فاعل- القيام بإعادة تأهيل مخيمات اللاجئين في قطاع غزة والضفة الغربية وتحويلها إلى أماكن سكن ثابتة ومستقرة، وذلك بتمويل دول الخليج العربي.(29/153)
إلى جانب الرهانات السياسية، فإن الدولة العبرية ترى أن التطبيع مع العالمين العربي والإسلامي سيساعد على تحقيق أهداف أمنية ذات طابع إستراتيجي. فدوائر صنع القرار في الدولة العبرية ترى أن التطبيع مع العالم العربي سيساعدها في محاصرة حركات المقاومة عبر تشديد الحصار عليها، وتجفيف منابع الدعم لها داخل الدول العربية عبر التضييق عليها؛ إذ تفترض الدولة العبرية أنه سيكون هناك تعاون أمني نشط وفعّال بين الأجهزة الاستخبارية في كل من الدول العربية وإسرائيل. وتطمح الدولة العبرية إلى تبادل المعلومات الاستخبارية المتعلقة بحركات المقاومة الفلسطينية، اعتماد آلية التنسيق التكميلي بين الجانبين، بحيث تقوم الأجهزة الأمنية والاستخبارية في الدول العربية بتحويل المعلومات الاستخبارية التي تقدمها إسرائيل حول أنشطة عناصر حركات المقاومة إلى عمليات اعتقال وتحقيق بغية الحصول على مزيد من المعلومات الاستخبارية؛ فضلاً عن ردع ومعاقبة حركات المقاومة الفلسطينية. وتطمح الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية في قيام الدول العربية في الكشف عن قنوات ومصادر تمويل حركات المقاومة الفلسطينية لسدها وتجفيفها. و تخطط الدولة العبرية لاستغلال العلاقات مع الدول الإسلامية بشكل عام من أجل التعاون في الحرب ضد تنظيم "القاعدة"، والحركات الجهادية في أرجاء العالم. وحسب تقييمات الأجهزة الاستخبارية الصهيونية فإن تنظيم "القاعدة" قد وضع الدولة العبرية على رأس قائمة الأهداف التي يسعى لضربها في العالم. وتُقرّ الأجهزة الاستخبارية الصهيونية بوجود نقص كبير ومخل في المعلومات لديها حول هذا التنظيم، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان إحباط العمليات التي ينوي هذا التنظيم تنفيذها. وتأمل الأجهزة الاستخبارية في الدولة العبرية ممثلة في أجهزة الاستخبارات للعمليات الخارجية "الموساد"، وجهاز المخابرات الداخلية "الشاباك"، وشعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" في أن تساعد العلاقات الآخذة بالتوطد بين الدولة العبرية ونظام برويز مشرف في باكستان في تبادل المعلومات بينها وبين المخابرات الباكستانية، وذلك من أجل تكثيف الحرب ضد تنظيم "القاعدة"، وغيرها من التنظيمات الإسلامية. على الرغم من يأس دوائر صنع القرار في الدولة العبرية من إمكانية قبول الشعوب العربية والإسلامية لتقبل التطبيع معها، إلا أنها في نفس الوقت تراهن على قبول اقتناع بعض النخب في العالمين العربي والإسلامي بقبول التطبيع والدعوة له، على اعتبار أن هذه النخب هي الأكثر قدرة على التأثير على الرأي العام والتوجهات العامة للجماهير العربية. وعلى الرغم من أنه سبق لها أن يئست من إمكانية تقبّل الشعوب العربية لوجودها في المنطقة والتسليم ببقاء احتلالها للأرض الفلسطينية، إلا أن هناك رهانات كبيرة إسرائيلية على أن يساهم التطبيع مع الأنظمة في تآكل جدار الرفض الشعبي العربي لوجود الدولة. اللافت للنظر والمثير للدهشة أنه حتى في إطار جهدها لدفع الجماهير العربية لقبولها، فإن الدولة العبرية لا تتنازل عن حدة لهجتها عندما تتحدث عن تمسكها بالمشروع الاستيطاني في الضفة، وعزمها على مواصلة تهويد القدس. بكلمات أخرى فإن الدولة العبرية تطمح في تقبل قطاعات من النخب في العالم العربي هذه المواقف والتسويق لها عبر المنابر المتاحة لها، لاسيما المنابر الإعلامية. وتطمح الدولة العبرية في مساهمة التطبيع في تحسين الأوضاع الاقتصادية لها بشكل مباشر وغير مباشر. وكما عبّرت عن ذلك صراحة، فإن وزارة المالية الإسرائيلية ترى في انخراط رجال الأعمال الإسرائيليين في المشاريع الاستثمارية في دول الخليج -تحديداً- مصلحة اقتصادية. وتخطط "إسرائيل" لإقامة ممثليات دبلوماسية تُعنى تحديداً بتكثيف الأنشطة الاقتصادية الإسرائيلية في هذه الدول. إلى جانب ذلك ترى إسرائيل أن هناك مجالاً لأن يشارك رجال الأعمال الإسرائيليون رجال الأعمال الخليجيين في مشاريع في مناطق السلطة، بمساهمة المتنفذين في السلطة. الإغراء الذي تقدمه إسرائيل للدول العربية في هذا المجال هو الادّعاء أن الدولة العبرية قد قطعت شوطاً كبيراً في مجال التقنيات المتقدمة "الهاي تكنلوجي"، وتكون المعادلة التي تقدمها إسرائيل للعالم العربي على النحو الآتي: المشاريع المشتركة بين إسرائيل والدول العربية تقوم على مال عربي مقابل تقنيات إسرائيلية.
=============(29/154)
(29/155)
لماذا تخشى إسرائيل تحوّل العرب إلى الديموقراطيّة؟
صالح محمد النعامي / فلسطين 8/10/1426
10/11/2005
أمر بالغ الدلالة ما كشف عنه التلفزيون الإسرائيلي باللغة العبرية بتاريخ 10/10/2005 حول تفاصيل اجتماع عقده مؤخراً رئيس الوزراء الإسرائيلي ارئيل شارون وعدد محدود من وزرائه مع كبار قادة الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية حول تصوّر العلاقات المستقبلية مع العالم العربي. فقد كان من اللافت أن هناك إجماعاً بين شارون وقادة أجهزته الأمنية على أنه من مصلحة "إسرائيل" الإبقاء على أنظمة الحكم الشمولية في العالم العربي. ليس هذا فحسب بل إن المجتمعين توصلوا إلى استنتاج مفاده أن التحوّل الديموقراطي في العالم العربي -وبالذات في الدول التي تحيط بدولة الاحتلال- سيفاقم المخاطر الإستراتيجية على وجود الدولة العبرية نفسها. المجتمعون الذين استمعوا إلى تصوّرات قدّمها عدد كبير من المستشرقين الصهاينة وعدد من كبار قادة أفرع المخابرات الذين تعاطوا مع الشؤون العربية خلصوا إلى نتيجة مفادها أن التحوّل الديموقراطي في العالم العربي يعني بالضرورة وصول الإسلاميين إلى سدّة الحكم، الأمر الذي سيكون معه من المستحيل على الدولة العبرية التوصل إلى تسويات سياسية وفق بوصلة المصالح الإسرائيلية. ولم يكن هناك ثمة خلاف على أن وصول الإسلاميين للحكم يعني فيما يعني أن الصراع بين العرب و "إسرائيل" لن يُحلّ إلا عن طريق الحسم العسكري، الأمر الذي يعني أن على الدولة العبرية ألاّ تعيد سيفها إلى غمده أبداً، كما يقول المؤرخ الصهيوني (بنتسيون نتنياهو). ما توصّل إليه صٌنّاع القرار في الدولة العبرية من سياسيين وعسكريين من استنتاجات قاطعة، يُضاف إلى فيض من الأحكام التي توصّل إليها عدد من كبار الباحثين الصهاينة حول خطورة تحوّل العالم العربي نحو الدمقرطة. البرفسور (يحزكيل درور) الذي يوصف بأنه "أبو الفكر الإستراتيجي والسياسي" يقول في صحيفة (هارتس) بتاريخ 4/3/2005: "أنا مع الديموقراطية، ولكن هيّا نتخيّل ديموقراطيّة في مصر أو في الأردن. فهل هذا سيعزز سلامهما مع إسرائيل؟ بالطبع لا. النخب الحاكمة تفهم الحاجة للسلام، ولكن الجمهور في الشارع له رأي آخر، استطلاعات الرأي العام في مصر تظهر بوضوح بأن الجمهور لا يؤيد السلام مع إسرائيل". ويضيف "درور": إنه على مدى تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي كان للجماهير العربية دوماً توجهات"لا سامية" أكثر من الحكام العرب الذين كانوا في حاجة لليهود. ويصل (بن كاسبيت) المعلق الصهيوني البارز في صحيفة "معاريف 8/2/2005" إلى نفس الاستنتاج فيقول: إن إسرائيل لا يمكنها أن تعيش في ظل تحوّل العالم العربي نحو الديموقراطية؛ لإن الرأي العام العربي معادٍ للسلام معها؛ لأن الأنظمة الديموقراطية تستند إلى شرعية نتائج الانتخابات النزيهة التي يمليها الشعب، كما يرى المستشرق (جاي باخور) الباحث البارز في مركز "هرتسليا متعدّد الاتجاهات" في صحيفة (يديعوت احرنوت) بتاريخ 18/1/2004. وينوه (باخور) إلى أن حقيقة حرص الأنظمة العربية الشمولية على موائمة سياستها مع السياسة الأمريكية طمعاً في البقاء، جعلها ترى في مغازلة إسرائيل والتودّد لها بمثابة "جواز السفر" إلى قلب صناع القرار في واشنطن. ويجزم (باخور) أن مبادرة أنظمة الحكم العربية للتطبيع مع إسرائيل تأتي فقط لعدم استناد هذه الأنظمة إلى شرعية الانتخابات؛ إذ إن كل ما يهم هذه الأنظمة هو بقاؤها، وليس مصالح شعوبها. ومن المفارقة أن (باخور) يصل إلى استنتاج مثير؛ إذ يوصي صُنّاع القرار في الدولة العبرية بتجاهل مبادرات التطبيع التي تبديها الأنظمة العربية. ويشير الجنرال المتقاعد (داني روتشيلد) الذي شغل في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" إلى حقيقة استفادة إسرائيل دوماً من حصر الأنظمة الشمولية في العالم العربي اهتمامها فقط بالحفاظ على استقرارها، وعدم ارتباطها بمصالح شعوبها الوطنية والقومية. وأضاف في حديث مع الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية بتاريخ 23/7/2005: "الحكومات التي يتم فرزها ديموقراطياً تكون ملتزمة بالعمل على تحقيق المصالح الإستراتيجية لدولها، لذا فإن هناك مصلحة إسرائيلية واضحة وجلية في بقاء أنظمة الحكم العربية الحالية". ويضرب (روتشيلد) مثالاً على ذلك بالتطورات الدراماتيكية على سياسة معمر القذافي، وانقلابه على شعاراته القديمة بعد أن تملّكه الفزع من مصير كمصير صدام حسين، ومسارعته إلى الإعلان عن التخلص من الأسلحة الكيماوية، وخروجه عن طوره من أجل استرضاء أمريكا. من ناحيته يرى الكاتب والمعلق السياسي الشهير (الوف بن) أنه ليس من مصلحة إسرائيل تحوّل العالم نحو الديموقراطية، وذلك لأن إسرائيل في هذه الحالة ستفقد خصوصيتها كـ "واحة" للديموقراطية في منطقة تحكمها الديكتاتوريات، وبذلك تفقد تل أبيب الحق في الزعم بأنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تربطها قواسم مشتركة مع حضارة الغرب. ويرى الإسرائيليون أن الديكتاتوريات في العالم العربي أفرزت -مع مرور(29/156)
الوقت- قادة ضعافاً، وبوجود هؤلاء القادة تصبح إسرائيل هي التي تمنح السلام لهم، لا أن تصنعه معهم، كما
يقول بنيامين نتنياهو (هارتس 18/4/2005).ويؤكد (عكيفا الدار) أن إسرائيل وجدت فرصتها الذهبية في ممارسة الضغوط على القادة العرب الضعاف؛ فهؤلاء أبدوا دوماً قدرة كبيرة على الاستجابة للضغوط التي مارستها عليهم تل أبيب. ولا يساور (الدار) شك في أن إسرائيل ستفقد هذه القدرة في حال تم استبدال الأنظمة الشمولية في العالم العربي بأنظمة ديموقراطية. وقد وصل الأمر إلى درجة أن كبار قادة أجهزة المخابرات الإسرائيلية يرون أن هناك علاقة وثيقة بين هيمنة الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي وبين استعداد المواطنين العرب للسقوط في حبائل المخابرات الإسرائيلية، وقبول عدد كبير منهم للعمل لصالح هذه المخابرات. ويقول (رافي ايتان) الذي شغل منصب قائد وحدة تجنيد العملاء في جهاز الموساد المعروفة بِ "قيساريا" في حديث مع التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ (15/2/2003): إن وجود أنظمة حكم شمولية في العالم العربي سهّل على الموساد تجنيد العملاء من العرب
==============
المسكوت عنه في قمة تونس العالمية !
عبد الحق بوقلقول / الجزائر 13/10/1426
15/11/2005
تحتضن العاصمة التونسية غدا الأربعاء 16 نوفمبر أشغال القمة العالمية لمجتمع المعلوماتية وسط أضواء إعلامية مميزة ، تعتبر بكل المقاييس حالة غريبة من التداخل السافر بين الشعارات التي ترفعها المنظمة الأممية ، الراعي الرسمي لأشغال القمة، وبين حقيقة الحياة السياسية في هذا البلد العربي الذي ما يزال منذ عقود طويلة يعيش تحت سيطرة مطلقة لنظام بوليسي لا أحد يفهم كيف صار الغرب، الذي بات منشغلا كثيرا بواجب تحرير شعوب المنطقة العربية على وجه خاص، يغض البصر عن ممارسات سلطة لم يعد سرا أنها واحدة من أكثر سلطات العالم شمولية و قمعا للحريات العامة و الخاصة على حد سواء.
الزائر لتونس هذه الأيام لن تخطئ عينه حتما مدى التحضير والاستعداد الذي أعدته البلاد لزائريها بهذه المناسبة ، و لا ينبغي للزائر أن يرجع دون أن يلاحظ ذلك "الصرح التذكاري" الذي أعدته الجهات الرسمية في الدولة أيضا لكي يتذكر كل القادمين مستقبلا هذه المناسبة الفريدة التي لن تتكرر ربما قبل عقود .
لكن الحقيقة التي لم يصرح بها لحد الساعة هي أن تونس العاصمة ترغب في أن تكون القمة ذات طابع افتراضي -لو صح التعبير- بمعنى أنها لا ترغب في أن يتطرق المجتمعون لأي أمر من المشكلات التي تواجه المواطن البسيط في الحياة اليومية لهذا البلد ، فضلا عن المعلومات التي جاء هؤلاء الرسميون من كل جهات العالم لكي يتباحثوا أمر حرية تداولها ، من غير أن ننسى أن من بينهم وزير خارجية الكيان الصهيوني الذي وصل هذا المساء للعاصمة التونسية - في خطوة يصر النظام التونسي على ألا نفهم منها أي محاولة لجعل التطبيع مع هذا الكيان الغاصب "فريضة تكنولوجية" !
أكثر ما يهم في هذا السعي الدؤوب نحو الديمقراطية الافتراضية هو أن المجتمعين لن يتطرقوا بالتأكيد لتلك المعلومات التي يدركها كل مواطن تونسي ، و التي تؤكد أن شبكة الإنترنت في هذا البلد تشرف عليها حرم السيد الرئيس ، هذه واحدة ، و أما الثانية التي لن يتم التطرق إليها أيضا فتتعلق بتلك الأعداد الهائلة من رجال الأمن الذين تم تجنيدهم لأجل السهر على "الإنجاح الكامل لهذا الموعد" مما يعني أن هذه القمة العالمية سوف تجري في ظل منع رسمي من أن يصل أي شخص غير مكتوب على محاضر رجال الأمن إلى عين المكان ، وهو ما يعني أنها سوف تنعقد داخل نطاق أمني لا يختلف كثيرا عن تلك التعزيزات التي تتطلبها ملتقيات أخرى لا تلتقي مع أهداف اللقاء موضوع حديثنا في شيء.
و لأن المناسبة لا تخلو من فرص "بزنس" أيضا فإن شركات كبيرة في عالم المعلوماتية و الاتصال أبدت استعدادها للمشاركة التشجيعية في هذه القمة كشركة مايكروسوفت التي يملكها اليهودي بيل غيتس ، و شركة إريكسون التي ستتقدم بصك قيمته نصف مليون دولار بالإضافة إلى هواتف خلوية من الجيل الثالث لكل القادمين ، رغبة منها في الاعتراف بجميل السيد بن علي ، و أما الأولى فسوف تتبرع بعدد غير معلن حاليا من المنتجات المتطورة في ميدان الشبكات الداخلية للإنترنت .
في تونس أيضا لا تحظى "الأقلية المعارضة" بأي مكانة بما أنها تتجرأ -بشكل معاد للروح الوطنية- على انتقاد "استعداد البلاد لأن تحتضن الجولة الثانية من أشغال القمة العالمية لمجتمع المعلوماتية التي ينظمها الرئيس بن علي و قبول كل الدول، بلا استثناء، هذه الدعوة الكريمة في خطوة لا تدل إلا على مدى الإشعاع المتزايد الذي باتت تتمتع به تونس ، و الدعم الدولي لاختياراتها و توجهاتها" و بالتالي فإن إقدام ثمانية من المعارضين القدامى على تنظيم إضراب عن الطعام في محاولة منهم للفت أنظار "المجموعة الدولية" لواقع الحريات في بلادهم، "عمل مناف للأخلاق الوطنية".(29/157)
في الحقيقة، لم يتوقع معظم المتابعين للشأن التونسي أن يتواصل مظهر الانقباض السياسي مع اقتراب موعد القمة على الأقل، إلا أن الذي وقع كان العكس تماما ، فالقدر القليل من التطور الذي كان هؤلاء المتتبعون للشأن الداخلي في البلاد على مستوى المجتمع المدني يسجلونه، لم ينج هو الآخر. لقد ضاعفت السلطات من إجراءاتها التعسفية ضد المنظمات غير الحكومية المستقلة ، فجمعية القضاة التونسيين تعرضت لضربات شديدة ، و صار معظم الناشطين من بين أفرادها محل متابعات و إجراءات "تأديبية" مثلما أنه تم منع انعقاد المؤتمر التأسيسي لمنظمة الصحفيين ، زيادة على منع إجراء المؤتمر السادس لأشغال الرابطة التونسية لحقوق الإنسان . هذا التصعيد يدل بشكل أساسي على أن البلاد برمتها تعيش في ظل مناخ سياسي يسجل حالة فشل ذريع ، تتجلى أوضح معالمها في منع طباعة عدد من الجرائد المستقلة و رفض اعتماد الجمعيات الحرة فضلا عن الأحزاب التي تشتم منها رائحة المعارضة الفعلية ، من دون أن ننسى طبعا الإصرار على إبقاء عدد غير معلوم على وجه الدقة من السجناء السياسيين خلف القضبان وخاصة المنتمين للحركة الإسلامية .
إن القمة سوف تجرى وفقا للتقاليد التونسية في مناخ يغلب عليه طابع الانضباط الذي يشبه حالة الثكنات العسكرية إلى حد بعيد ، و داخل المكان الذي سيحتضن الأشغال تمكنت السلطات من أن تفرض أعرافها و سلوكياتها "الرقابية" على كل الوثائق التي من المتوقع أن تتداولها أيادي المجتمعين ، بما أنهم في تونس لا يحبون كثيرا مظاهر "الفوضى" و لعل في التأكيدات التي تحملها اللوائح التنظيمية التي تشرف على كل تفاصيل الأشغال خير دليل على هذا ، بما أنه قد تقرر ألا تسلم أية وثيقة للضيوف قبل المرور على سكرتارية المؤتمر و التأشير بقبولها !
=============
جنرال لإصلاح ذات البين بين المغرب والجزائر!
إدريس الكنبوري/ الرباط 18/10/1426
20/11/2005
بعد عدة أسابيع من التأخر في الالتحاق بالمغرب سفيرا جديدا للجزائر، وصل السفير الجزائري المعين الجنرال المتقاعد العربي بلخير إلى الرباط بداية الأسبوع الماضي، لتنتهي بذلك جميع التكهنات التي رافقت تعيينه في منتصف شهر أغسطس الماضي من طرف الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سفيرا "فوق العادة" لبلاده في المملكة المغربية .
ومع بدء الجنرال القوي في المؤسسة العسكرية الجزائرية مهامه في المغرب، شرع الوسط السياسي المغربي والدوائر المتابعة للعلاقات الساخنة بين الجزائر والمغرب في الحديث عن السيناريوهات المقبلة بين البلدين، منطلقين من أن تعيين بلخير في منصب سفير فوق العادة لا يمكن أن يكون خاليا من المعنى، فالرجل ظل في بلاده باستمرار رجل المهام الصعبة، خاصة في عهد الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بنجديد ، الذي يقول المطلعون على المطبخ الجزائري أنه كان وراء الدفع به نحو الرئاسة وإقناع الجيش به ، وواصل لعب الأدوار الرئيسية من وراء الستار خلال العقد الأخير بعد انطلاق الحرب الأهلية، وصولا إلى عهد بوتفليقة حيث قام بمهمة مدير ديوانه، قبل تعيينه أخيرا سفيرا في الرباط.
رجل الجيش في المرادية
الكثير من التساؤلات أحاطت بتعيين الجنرال العربي بلخير سفيرا في المغرب ، سواء في الجزائر أو في الرباط. فقد قيل في بلاده بأن بوتفليقة أراد بذلك التخلص منه، وهي وسيلة يلجأ إليها العديد من الحكام العرب في إبعاد بعض المقربين الذين يصبحون مزعجين في وقت ما، بـ"إبعادهم" كسفراء في بلدان أخرى. واستند هؤلاء إلى ما حصل في الشهور الأخيرة من تغييرات في الجزائر طالت المؤسسة العسكرية ، استهدف بوتفليقة من ورائها إبعاد بعض الوجوه التي رأى فيها عنصر إزعاج أمام مشروعه للمصالحة الوطنية والوئام المدني، وبعد إدخال تلك التعديلات بات من الضروري التخلص من بلخير، بإبعاده من محيطه الخاص إلى المغرب، بعدما ظل يرى فيه رجل الجيش في قصر المرادية.(29/158)
لكن في المغرب اختلفت طريقة التعاطي مع تعيين بلخير، كرجل من عيار خاص، فقد اعتبر الكثيرون أن هذا التعيين هدفه طي صفحة الماضي المحتقن بين الجارين اللذين لم يكفا عن تسخين الأجواء فيما بينهما، تارة بسبب قضية الصحراء الغربية ، وتارة بسبب الحدود وموضوع التهريب، وأخرى بسبب زعامة اتحاد المغربي العربي المجمد، وقد برر المراقبون في المغرب تفاؤلهم هذا انطلاقا من معطيين، الأول أن بوتفليقة بتعيين الجنرال القوي يوجه رسالة إلى المغرب بدرجة أولى، وإلى القوى الأوروبية المهتمة بحل مشكل الصحراء وتفعيل الاتحاد المغاربي ، باعتباره ضروريا لتقوية مسلسل الشراكة الأورو متوسطية التي تدخل هذا الشهر عامها العاشر منذ انطلاقتها عام 1995 ببرشلونة، ومحتوى هذه الرسالة أن الجزائر جادة هذه المرة في تطبيع علاقاتها مع الرباط. أما المعطى الثاني فهو أن العربي بلخير الذي يتمتع بتجربة سياسية كبيرة في بلاده لا يمكن أن يقبل بمنصب سفير فوق العادة ما لم يكن لديه برنامج للتحرك ، وبالتالي أمل في نجاح مهمة الوساطة بين البلدين، يكلل بها مسيرته السياسية ، ويختمها بتسويق صورة رجل المصالحة بعدما كان في الماضي من معارضي التقارب بين البلدين.
تكهنات
كان من المقرر أن يبدأ بلخير مهامه بداية شهر أكتوبر الماضي، لكنه لم يلتحق بمقر السفارة الجزائرية بالرباط في الموعد، لتبدأ التكهنات حول أسباب ذلك، فيما رد هو دواعي التأخر إلى خضوعه للعلاج في فرنسا، لكنه لم يتردد في إرسال إشارات مطمئنة للمسؤولين المغاربة عبر صحيفة"لوموند" في الأسبوع الأول من أكتوبر، حيث قال إن مهمته ستكون هي تقريب وجهات النظر بين المغرب والجزائر، وأنه سيحاول كل جهوده من أجل تحقيق المصالحة بين البلدين.
وقد تزامن ذلك التأخر مع المشكلات التي أثارها موضوع المهاجرين السريين الأفارقة ، الذين يجتازون الصحراء ويصلون إلى المغرب لعبوره نحو أوروبا، حيث انتقد المغرب المسؤولين الجزائريين، متهما إياهم بالتساهل مع المهاجرين الأفارقة الذين يعبرون التراب الجزائري ، بهدف إغراق المغرب بالمهاجرين، وتوريطه مع الاتحاد الأوروبي . وفسر عدم التحاق بلخير بالرباط بتلك الأحداث، وبعدم رغبة الجزائر في التعاون مع المغرب لمكافحة ظاهرة الهجرة السرية وتهريب البشر ، الذي طالب به الاتحاد الأوروبي ورصد له حوالي أربعين مليون أورو لفائدة المغرب.
الأمر الثاني هو أن تأجيل التحاق بلخير بمنصبه في الرباط تزامن مع الاقتراح الذي قدمه المغرب لحل مشكلة الصحراء ، التي أكملت ثلاثين عاما من عمرها دون أن يبدو في الأفق ما يؤكد أنها في الطريق إلى الانفراج، حيث أكد المغرب على لسان الوزير المنتدب في الخارجية الطيب الفاسي الفهري استعداده لمنح سكان الصحراء "الحكم الذاتي" الدائم تحت السيادة المغربية، في أول مبادرة من نوعها تتقدم بها الرباط. وقد أحرج هذا الاقتراح الجزائر كما أحرج جبهة البوليساريو في نفس الوقت، لأنه على الأقل ـ بالنسبة للمراقبين ـ أعطى الانطباع بأن المغرب لم يعد الجانب المسؤول عن التأزم الذي وصلته الأمور، بعدما كانت الجزائر والبوليساريو تحرصان في الماضي على القول بأن المغرب لا يريد حلا للأزمة، مستندين على موقفه الرافض لمخطط بيكر لعام 2003 حول منح الصحراء حكما ذاتيا"انتقاليا" لمدة خمس سنوات ، يليها استفتاء للسكان ، ولكن بآفاق غامضة جعلت الجانب المغربي يتخوف من الانفصال، ولم تتردد بعض المصادر في ربط تأخر بلخير بهذا الاقتراح المغربي، كونه يمثل تعبيرا عن الحرج الجزائري.
أما في الجزائر نفسها، فقد فسر البعض ذلك التأخر بعدم موافقة العربي بلخير على المنصب الجديد الذي أسند إليه، ملاحظا فيه شكلا مهذبا لإبعاده عن دفة الحكم في الداخل.
ديبلوماسية"الطرشان"
مهما يكن فإن ما حصل في حقيقة الأمر لا يخرج عن التقاليد السياسية والديبلوماسية السائدة منذ ثلاثة عقود بين البلدين اللذين تجمع بينهما الجغرافيا والدم ، وتبعدهما السياسة عن بعضهما البعض. ففي شهر يونيو الماضي أعلنت الخارجية المغربية في بيان لها عن زيارة سوف يقوم بها رئيس الحكومة الجزائرية أحمد أويحيى للمغرب، وعقد الكثيرون على تلك الزيارة آمالا قوية في تطبيع العلاقات الباردة بين الجارين، ولكن بعد أسبوع واحد فقط عادت الخارجية المغربية لتعلن في بيان لها عن"تأجيل" الزيارة التي وصفتها بـ"غير المواتية" في الظروف الحالية، رابطة أسباب التأجيل بما اعتبرته تصرفا جزائريا "غير مقبول" في موضوع الصحراء الغربية. وأثار موقف المغرب ردود فعل حادة في الجزائر، حيث رأى فيه الجزائريون سلوكا من جانب واحد ، ودون تشاور مع المسؤول الحكومي الجزائري، وصرح وزير الدولة عبد العزيز بلخادم ـ وزير الخارجية السابق ـ بأنه يرى الموقف المغربي"شيئا من عدم اللياقة الديبلوماسية"، وتساءل قائلا"لا أرى ما سيجنيه المغاربة من هذا التصرف؟".(29/159)
وفي غياب تقارب صريح بين البلدين ، واتفاق على طريقة التعاطي مع المواضيع الخلافية، وخاصة موضوع الصحراء الذي يشكل "لغما" في طريق التطبيع، تظل ديبلوماسية الطرشان التي تتحرك من جانب واحد دون أن تجد صدى لها على الجانب الآخر هي الديبلوماسية السائدة بين البلدين.
في ظل هذا الواقع القائم يصعب كثيرا التنبؤ بنجاح مهمة الجنرال العربي بلخير، مهما كان افتراض نواياه الحسنة، لأن علاقات البلدين ـ ببساطة ـ تجد جذورها التاريخية في نزاع الصحراء الغربية، ومن ثم فإن إنهاء حالة الاحتقان المستمرة مرتبط بإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب في قضية الصحراء. فالجزائر لا تزال متشبثة بالرؤية التي كرسها الرئيس الجزائري الأسبق الجنرال الهواري بومدين، والتي ترى في النزاع "تصفية استعمار" بينما يقول المغرب إن النزاع يتعلق باستكمال وحدته الترابية ، بعد انحسار النفوذ الإسباني في الصحراء في نهاية الخمسينات من القرن الماضي . وبين هذين الموقفين يقف بحر عريض من الحوار الناقص، والخطوات الديبلوماسية المتحفظة ، والتشكك المستمر في نوايا كل طرف تجاه الآخر
============(29/160)
(29/161)
"ترويض الوحش"
ياسر بن علي الشهري 29/12/1426
29/01/2006
أيقنت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بنهاية القرن الماضي أنها أصبحت القوة -البشرية- الأكبر في العالم، وأن الوقت قد حان لبسط الهيمنة الكلية على العالم قبل بروز القوى الصاعدة كالاتحاد الأوروبي والصين، مستمدة ذلك من بعض النظريات المرتجلة كنظرية "نهاية التاريخ" التي لا تحمل من "الحقائق الراسخة" إلا صور "قصور العقل" غير المهتدي.
وشهد العالم منذ بداية القرن الجديد عدداً من السقطات المريعة للحكومة الأمريكية، التي أطلقت العنان لقوتها "متعددة الوجوه" لتنسف العديد من الاتفاقات الدولية في عدد من المجالات (البيئية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والسياسية)، ولتبدأ في تشكيل المناطق الاستراتيجية في العالم حسب رؤيتها ومصالحها القومية.
(...إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) فقد أفرز-بأمر الله- ذلك التسلط والاستكبار؛ رأياً عالمياً معادياً ومتحدياً للحكومة الأمريكية. هذا الرأي العام العالمي الموحد ضد إدارة بوش، هو القوة العظمى -البشرية- الجديدة، كما يشير إلى ذلك كتاب "الهيمنة أم البقاء" لـ( تشومسكي) بحسب رصده للصحافة واستطلاعات الرأي العام العالمية، التي أفادت أن التظاهرات الحاشدة التي عمت أرجاء العالم اعتراضاً على سياسات الحكومة الأمريكية في العامين 2002و2003 كانت بمثابة إعلان عولمة مشاعر العداء للولايات المتحدة الأمريكية، وميلاد قوة عظمى معادية لها ولحلفائها.
إن هذه القوة الجديدة خارجة عن السيطرة الأمريكية، ومتجاوزة حدود المحلية، وكل الوسائل والأساليب التي ابتكروها لترويض الوحش -رأي الشعب- منذ عهد الرئيس (ودرو ويلسون) وإلى نهاية القرن الماضي حينما وصلت سياسة "صناعة القبول" ذروتها وقمة نضوجها.
اليوم أصبح الوحش عالميا بقدرة الله -سبحانه وتعالى- يكتسب قوته من تنوع الأجناس والألوان البشرية والأيديولوجيات التي تقف خلفه حتى من داخل المجتمع الأمريكي نفسه، ويستمد جزءاً من قوته من توافقه مع الأصول الرئيسة للدستور الأمريكي، فيما يتعلق بحقوق الإنسان -النظرية- في الرؤية الليبرالية، والديمقراطية.
إن الرأي العام العالمي ليس كما صوره (وليبمان) للأمريكان: "ضجيج وعجيج القطيع المنذهل"، بل إن الأمر أكبر من ذلك؛ فقطيع اليوم أصبح مشاركاً وفاعلاً، وظيفته إسقاط الرموز الداعمة للإدارة الأمريكية، وأول إنجازات هذه القوة الجديدة أنها أنهت زمن خضوع الأنظمة السياسية الطوعي للولايات المتحدة الأمريكية، وصار الخضوع تحت وطأة القوة فقط، وهُدمت فكرة "أن هناك نظاماً عالمياً يُرغم الجميع على دخوله والاندماج فيه".
كما لفظت كثير من الشعوب وكلاء الثقافة الغربية الذين زجت بهم أجهزة المخابرات إلى مواقع الصدارة ومنابر الثقافات المحلية، أو شكلت -في أقل الأحوال- وعياً بهم وبخططهم. وتأكد للعالم أنه بالإمكان الاستغناء عن التجارة الدولية، والاستعاضة عنها بالتبادل الإقليمي، بعد أن جرب الناس مقاطعة المنتجات الأمريكية وضرب خطط "رسملة العالم" في مفصل رئيس.
انتهى زمن "صناعة القبول" وتقهقرت الولايات المتحدة الأمريكية عشرات السنين، وعادت للعمل على تحسين صورتها من خلال خطط وإستراتيجيات طويلة المدى لتطوير رؤية إيجابية حيال مشروعها العالمي"فرض الديمقراطية!"، وعزل المسلمين، وتعزيز القيم العامة المشتركة بين الثقافات المختلفة، وهي إستراتيجية تعتمد بالدرجة الأولى على هدم المعايير التي تُرفض في ضوئها سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، حتى وإن كانت بالنسبة للآخرين جزءاً من دين أو مقدس، كما هو حال المعايير التي تتبعها الشعوب المسلمة في محاكمة ومواجهة الطغيان الأمريكي.
إن الغائب الأبرز عن هذا التغير العالمي -في موازين القوى- هو الإعلام العربي الذي لا يزال راكعاً تحت وطأة القوة "القديمة" التي يبجّلها ويستر عوارها؛ ، فكثير مما يدور اليوم في بعض الصحف والفضائيات العربية يؤكد أنها تعمل كوحدة رد سريع لمراقبة المجتمعات العربية الكارهة لأمريكا للردّ بشكل قوي على خطابات الكراهية ضد الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يُعبر عنه في إستراتيجية تحسين الصورة الأمريكية بـ"نشر فرق رد سريع إقليمية" على غرار فرق الشرطة في المدن الأميركية التي يتم استدعاؤها لمعالجة الأزمات الخطيرة.
كان من المفترض أن يعمل الإعلام العربي على إيقاظ "الوحش العربي" خاصة القنوات الفضائية، كما قاد التلفاز "أولى ثورات التلفاز" 1989م في الدول الشيوعية عندما كانت المظاهرات تًُشاهد في إحدى الدول فتخرج الجموع في ثورات عارمة ضد الأنظمة الشيوعية.
إن أكثر شعوب الأرض تضرراً من الولايات المتحدة الأمريكية هي الشعوب العربية والإسلامية، ولن يعدم الإعلام العربي -لو أراد- المضامين والأدلة والبراهين التي تكشف حالة المشهد العالمي من التردّد والتخبط التورط والتواطؤ، والتيه الذي يعيشه أصحاب "العقول الإستراتيجية"، ممن ينتدبون أنفسهم لقيادة العالم والسيطرة عليه، ويدّعون امتلاك الحلول لإنقاذ البشر وإصلاح الأمم!(29/162)
يمكن للمراقب لواقع الإعلام العربي أن يلحظ أنه ينفذ قدراً كبيراً من الإستراتيجية الأمريكية، وما يسوّغ مشروعية البحث عن البصمة الأمريكية في مضامين الإعلام العربي؛ ذلك الاكتساح (اللافت) -الذي تفرضه هذه الوسائل- لصورة الولايات المتحدة النمطية بتجلياتها وأشكالها المختلفة في حياتنا اليومية، إنها تعمل لتكون صورة "المهيبة، القوية" جزءاً من الثقافات السائدة في مجتمعاتنا؛ لتطبيع البعد الرمزي والثقافي والأيديولوجي لهذه الصورة.
لن يستطيع الإعلام العربي إقناعنا أن هدف الأمريكان احترامنا وتحقيق تقدمنا، فالشعوب العربية هي أكثر من يدرك أن ذلك لفرض الهيمنة والاحتلال، وهنا حقيقة -يجب أن تُفهم للقائمين على إعلامنا العربي- وهي: إن المسلمين ليسوا كغيرهم؛ فنحن قادرون في ضوء الحقائق الربانية التي نمتلكها على إدراك أبعاد هذه الحياة، وموقنون أن ما يحدث -اليوم- نهاية حتمية للإرادة البشرية حينما تصادم سنن الله الكونية. وندرك أن الإدارة الأمريكية تعمل -بأمر الله وسننه- على هدم الكثير مما كان يُتصور أنه مكاسب تحققت على صعيد حقوق الإنسان والتنظيم الديموقراطي، وندرك أنها تُزعزع الحضارة الغربية -غير المهتدية- من جذورها.
لقد كشفت الأيام عجز السيطرة على مقاليد المستقبل، رغم ما يبذله "عشّاق الهيمنة" للوصول إلى فهم عقلاني لأنفسهم وللعالم من حولهم؛ ليشكلوا التاريخ وفق أغراضهم الخاصة؛ وهذا كله آية من آيات الله التي يجب أن تكون منطلقاً للمسلمين في تقديم مقاربات فكرية للحياة العملية المستقبلية، فهم أجدر الناس بذلك لما يملكونه من الحقائق التاريخية والغيبية، ولما يؤمنون به من مفاهيم وقيم ربانية، تؤسس لحياة التقدم الحقيقي والاستقرار والنظام الضروريين للحياة البشرية، وما لم يُقدم المسلمون ذلك فإنه لا يمكن السيطرة على هذا "العالم الجامح".
فهل يبادر "المخلصون لأمريكا" بتقديم هذه الحقائق لها؟ إن كانوا صادقين في مشاعرهم! لترعوي، وإن كانوا غير ذلك، فهل يستثمرون حالة اضطرابها؛ لإيقاظ "الوحش العربي" ليشارك الوحوش الأخرى في الإطاحة بالفريسة المترنح
============(29/163)
(29/164)
لا عصمة للدعوة من الانحراف إلا بالقبول بالتنوع
وليد الحارثي - جريدة المدينة - الرسالة 1/6/1428
16/06/2007
قال فضيلة المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة: «إن المؤسسات الإسلامية بمعنى مؤسسة أو جماعة أو منظمة أصبح لها وجود كبير وتأثير ظاهر يقر به الموافق والمخالف اليوم، ومن الخطأ أن ننظر إلى من لم يكن في إطارنا الدعوي أو نظامنا نظرة انتقاص منتقداً تلك التصرفات التي تشنع على الأساليب الأخرى».
وبيّن فضيلته بأن «من الدعاة من يكون لديه قدرٌ من الاندفاع والحماسة للدعوة إلى الله في جوانب متعددة !، ويتولد لدى بعض الناس غيرة نتجت عن رغبته في الخير، وحداثته في الدعوة لكنها بغير علم، فأمثال هولاء من الممكن أن يفسدوا أكثر مما يصلحوا».
ولفت العودة إلى ما وجده عند بعض الدعاة من «التعصب لبعض المدارس أو المعلمين» مطالباً بـ:»تطبيع الدعوة إلى الله، وأنه لا يمانع أن يكون في مجتمعنا أناس متخصصون في الدعوة في دراستهم وخبرتهم وبحثهم، فمعظم سكان الأرض اليوم لم تصلهم الدعوة، وبناء على هذه النتيجة أصبح كل مسلم مسؤولاً عن الدعوة باللسان وبالقلم وبكل وسيلة. وهناك شعوب كثيرة لم يعرفوا اسم محمد». واعتبر العودة أن «الذين وصلتهم الدعوة مشوهة أنها لم تصلهم الدعوة أبداً».
وعلّق فضيلة الدكتور سلمان على واقع الدعوة الحالي «إحدى الإشكاليات في موضوع الدعوة فهمها على أنها لون واحد فيما يتعلق بالجانب الشرعي في الدعوة، ولا عصمة للدعوة من الانحراف إلا بالقبول بالتنوع» مضيفاً: «لا نظن أن أي داعية جديد أو أسلوب جديد أو نمط جديد أو طرح جديد من مؤسسة دعوية أو داعية أنه مخالف ويهاجم الدعاة السابقين». وقال: «نريد من الدعاة من عمله فقط التعامل بالأخلاق، وتعليمها فربما يظن الإنسان أن دعوته في قريته تشابه كل البيئات».
ومن جانب آخر كشف العودة عن ملاحظات كان ولا زال يراها ماثلة في المؤسسات الدعوية القائمة حيث نادى بأنه: «آن الأوان لأن تسعى هذه المؤسسات العاملة للإسلام للاندماج في المجتمع وتلمس واقعه، وينبغي أن يكون للعمل الإسلامي توجه لممارسة العمل الاجتماعي، الميداني، وهموم الناس .. لأنه مهم للدعاة فهم محتاجون للناس !».
وحذر فضيلته بأن الدعوة إن انعزلت عن الناس: «عرضت نفسها للإخفاق ومن ذلك القنوات الإعلامية، التي توجه لفئات معينة بينما هناك أخرى منفتحة !، كما أن الأخطاء التي تتكرر وتزداد عند الناس تذهب باختلاط الداعية بالناس وتصحيحه لمفاهيمهم، والتغيير على الميدان هو المحك المنتظر للدعاة لتقييم دعوتهم».
===========(29/165)
(29/166)
إذا آمن الإسلاميون بالديموقراطية فإن أمامهم مستقبل واعد
الرباط/عبد الغني بوضرة 23/6/1428
08/07/2007
المقرئ الإدريسي أبو زيد، أحد المفكرين الإسلاميين البارزين في المغرب العربي. خاض العمل السياسي تنظيراً وممارسة؛ فهو عضو مجلس شورى حركة التوحيد والإصلاح. ويُعدّ نائباً نشطاً ضمن الفريق النيابي للعدالة والتنمية للولايتين التشريعيتين 1997-2002 و2002-2007، إلى جانب كونه عضواً برابطة الأدب الإسلامي العالمية.
يؤكد المقرئ في حديثه لشبكة (الإسلام اليوم) أن الحكام يمارسون استغلال الدين في السياسة بطريقة دنيئة وواسعة وبدون أخلاق أو ضوابط، ويطالبون الحركات الإسلامية والأحزاب الإسلامية الامتناع عن ذلك.
ويرى الإدريسي أن القيمة التي أضافتها الحركة الإسلامية بمشاركتها السياسية تكمن في غرس الخيار والرؤية والصوت الإسلامي في الساحة السياسية، وتفعيل ذلك بالانطلاق من المنظور المتعلق بالأخلاق والهوية والعقيدة، والتذكير به داخل قبة البرلمان لأول مرة منذ إنشائه باختيارات واجتهادات تنطلق من الشريعة الإسلامية، ومن المرجعية الإسلامية، والسعي إلى الدفاع عن الهوية الإسلامية بخطاب متجدد مقنع وواقعي.
تفاصيل أوفى حول واقع العمل الإسلامي والسياسي بالمغرب في هذا الحوار ...
ما هي آفاق العمل السياسي الإسلامي في المغرب؟
هي آفاق واعدة ما لم يتم الانقلاب عليها أو التآمر ضدها؛ فالمد الإسلامي اليوم هو المد الواعد في كل العالم الإسلامي، وهو المد الواعد أيضاً لدى المسلمين في بلاد الغرب، وفي بلاد الأقليات. وإذا كان جوهر الديموقراطية هو الاستجابة لنفس الجماهير، فإن المستجيب الأول لنفس الجماهير اليوم خُطًا واختياراً ومرجعية وأولويات ومنطقاً في التفكير والتعبير والتقرير هو الحركة الإسلامية. ولهذا إذا آمنا بالديموقراطية، وآمنا بأنها ليست خصماً للشورى، وآمنا بدور الجماهير، وآمنا بالتفاؤل والمستقبل، فالعمل السياسي للواجهات والحركات والأحزاب الإسلامية، تنتظره آفاق واعدة على مستوى النجاح، وعلى مستوى التمكين والقدرة على تنفيذ البرامج رفعاً للمعاناة، وإعادة لجو التدين، وإحياء لروح الإسلام، وخدمة للجماهير، وتأصيلاً لاجتهادات جديدة في مجال تفاعل الإسلام مع الواقع. وأيضاً واعد في إطار ارتفاع أصوات العقل لدى الكثير من الجهات في القرار الأمريكي والأوروبي والغربي عموماً، والدولي التي ترتفع من أجل الدعوة إلى قبول التيار الإسلامي المعتدل كأمر واقع والتعامل معه وعدم عرقلة وصوله إلى السلطة تحسباً لما هو أسوأ، وهو أن يملأ الفراغ التيار الإسلامي الذي يؤمن بالعنف ويحمل السلاح.
وكيف تتعاملون مع نظرية فصل الدين عن الدولة؟
حتى الكنيسة التي تُقبل في الدول الغربية العلمانية كاختيار حضاري عام، تتدخل في السياسة وتمارس السياسة بقوة. بل ولا تصل يد السياسة إليها، بحيث لا نجد كنيسة تتدخل أجهزة وزارة الداخلية في خطبها وخطاباتها ومنشوراتها وسياستها، وأيضاً لا نجد جهة أمنية وغير أمنية تتدخل في استثماراتها ومشاريعها الاقتصادية والاجتماعية، ولا نجد بالأحرى من يتدخل في سياستها الدولية والتي تقوم على التنصير في آسيا وإفريقية. بل إنها تلعب أدواراً عليا في السياسة الدولية عن طريق مجلس الكنائس العالمي وعن طريق الفاتيكان، وتلعب في أمريكا ـ البلد الفاعل والأقوى في العالم ـ دوراً حاسماً في وصول أمثال بوش إلى السلطة.(29/167)
نحن نشهد في الكنيسة باعتبارها المؤسسة الدينية التي تعايشت مع العلمانية بعد الثورة الفرنسية حالة مد سياسي عارم، بل وفي البلاد الإسلامية أيضا بفعل التدخل والهيمنة والوصاية الغربية، فإن الكنائس تتدخل في السياسة وتلعب دوراً فيها. ومع ذلك فإنه لا يمكن ممارسة الإهانة ضدها بالرقابة أو الوصاية عليها من قبل الأنظمة العربية الجبرية أوالأنظمة الإسلامية الدكتاتورية خوفاً من التدخل الأمريكي. وهنا أشير إلى رفيق حبيب، وإلى دراسته القيمة حول الأصولية وهو ابن مؤسس الكنيسة البروتستانتية في مصر، والمتخصص في علم الاجتماع الديني والسياسي، هذه الدراسة المفصلة التي كشف فيها عن أن الكنيسة في مصر تتدخل في السياسة، وفي العالم كله تفعل ذلك، دون أن تسمح للسياسة بالتدخل فيها. فإذا أضفنا إلى هذا ديانات أخرى كاليهودية، أقامت دولة سياسية كإسرائيل، أو الهندوسية التي تلعب دوراً في قيام الأمة الهندية، أو الكونفوشيوسية التي حتى النظام الشيوعي الملحد في الصين يستلهمها ويختارها هوية لوطنه، فإننا سنتحدث عن آفاق سياسية لديانات لم تعرف العلمانية. فإذا جئنا إلى الإسلام طُلِب منه وحده اليوم أن يقبل هذا الفصل على الطريقة "الأتاتوركية" أو "البورقيبية ـ العابدية" السيئة والعنيفة. يُراد فقط من الإسلام الذي هو أبعد الديانات عن أن يفصل الدين عن السياسة لأسباب ذاتية وبنيوية وتاريخية وعقدية وتشريعية؛ ويُطلب منه اليوم أن يقوم بعملية جراحية قيصرية عنيفة تستأصل جزءاً من شبكته العصبية ومن قدرته "الحسية الحركية" على الوجود كجسم، مقابل أن يطبق لهؤلاء الضاغطين الدوليين، ولهؤلاء الدكتاتوريين المحليين، ما يريدونه من إماتة للدين على يد السياسة، وليس فصل للدين عن السياسة. وأخيراً إن هؤلاء الحكام يمارسون استغلال الدين في السياسة بطريقة دنيئة وواسعة وبدون أخلاق أو ضوابط، ويطالبون الحركات الإسلامية والأحزاب الإسلامية بالامتناع عن ذلك.
ما هي الأسباب المباشرة وراء غياب دور فعّال لعلماء المغرب في قضايا الوطن الكبرى؟ هل هم غائبون أم مغيّبون؟
هم غائبون ومغيبون. لقد لعب العلماء دوراً مفصلياً في تاريخ الأمة الإسلامية منذ الدولة الإدريسية بالمغرب، وكانوا في دولة المرابطين، في عهد يوسف بن تاشفين هم الحكام الفعليين، وكان لهم دورهم. يكفي أن العلماء هم من أسقط الدولة المرينية زمن عبد الحق المريني الذي حكّم يهوداً مفسدين في رقاب المغاربة، وكانت الثورة ضده انطلاقاً من مسجد القرويين، مروراً بعلماء من أمثال أبي علي اليوسي، ومحمد بن جعفر الكتاني، وانتهاء بدور العلماء المؤسسين للحركة السلفية الوطنية كأبي شعيب الدكالي، وتلامذته: محمد بن العربي العلوي، الطيب العلوي، علال الفاسي، المختار السوسي، ودورهم في فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار، كانوا ضمن الموقعين على وثيقة الاستقلال، وضمن المحاربين للظهير البربري، وانتفضوا ضد الاستعمار، وكانوا قد أفتوا للحركة الوطنية باستعمال السلاح ضد الخونة وضد المستعمرين. لكن مع فجر الاستقلال تم تهميش العلماء تهميشاً مهيناً من قِبَل السلطة والنظام، وأيضاً من قبل النخب السياسية التي توجّهت توجّهاً علمانياً ويسارياً، واستهزأت بالعلماء وروّجت ضدهم الأقاويل، وقامت الدولة المغربية بتحويلهم إلى ديكور يصادق على سياسات الدولة، ويبصم بالشرعية الدينية على قراراتها التي لم يكن لها أبداً صلة بالدين منذ فجر الاستقلال وإلى اليوم، بل بالعكس ذهبت في اتجاه تكريس خيارات الاستعمار، وأقامت نظاماً مبنياً على استمرار كل الانحرافات الكبرى التي جاء بها الاستعمار من مثل الربا والقمار والخمر، وتعطيل الشريعة، وتقليص دور الإسلام وحصره في الأحوال الشخصية، وحتى قوانين الأحوال الشخصية تم تعديلها بشكل قاسٍ. ولكن من جهة أخرى أيضاً العلماء غائبون لأن أغلبهم يعيشون حالة من الانهزام الفكري والنفسي والعجز عن التجديد، وغياب الجرأة السياسية، وعدم القدرة على امتلاك المبادرة، وأيضاً عجزهم عن أن يطالبوا ويؤدوا ثمن المطالبة بدورهم وموقعهم الطبيعي، ولهذا نحن أمام علماء أغلبهم عاجزون، وهنا نتذكر كتاب الشهيد عبد القادر عودة: "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه".
هل من سبيل لعودة دور العلماء الريادي؟(29/168)
نعم، لكن الأمر يتوقف عليهم، لا يمكن تغيير أية هيئة من خارجها (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، الأمل في جيل العلماء الشباب الذين امتزجت بدمائهم الفكرة الإسلامية بالفهم للواقع، وممارسة السياسة، وحمل هموم الأمم، والابتعاد عن ذلك التكلّس الفكري والنفسي الذي يعيشه العلماء التقليديون. الأمل فيهم، لكن يواجههم خطر المناهج الأمريكية الجديدة التي تدخل عبر ما يُسمّى بالإصلاحات اليوم، وعبر دعاوى تخريج علماء مرنين ومستنيرين، فنحن نتوقع ـ للأسف ـ بعد جيل، أن يأتينا مسخ من العلماء عن طريق ما أُحدث من تغييرات في وزارة الأوقاف وفي دار الحديث الحسنية، لكن هناك أمل انفتاح العلماء الشباب على الواقع السياسي، في مقابل خطر مسخهم وأمركتهم، وإخراجهم أبواقاً لـ"الإسلام الأمريكي" كما سماه سيد قطب.
بما أنكم تمارسون العمل السياسي من خلال حزب العدالة والتنمية، ما القيمة التي أضفتموها إلى المشهد السياسي المغربي؟
يصعب على مُنتمٍ لتجربة أن يقدمها بطريقة موضوعية، سيجد نفسه متورطاً في الدفاع عنها، أو تسويغها أو التستر على أخطائها، أو تضخيم إنجازاتها. وحبذا من الناحية الموضوعية أن يُسأل هذا السؤال غيرنا لعلنا ننصت إلى من يقوِّمنا من الخارج. ولكن إن كان لابد من ذكر شيء، فالقيمة المضافة الأساسية هي غرس الخيار الإسلامي والرؤية الإسلامية والصوت الإسلامي في الساحة السياسية، وتفعيل ذلك بالانطلاق من المنظور المتعلق بالأخلاق والهوية والعقيدة، والتذكير به داخل قبة البرلمان لأول مرة منذ إنشائه باختيارات واجتهادات تنطلق من الشريعة الإسلامية، ومن المرجعية الإسلامية، والسعي إلى الدفاع عن الهوية الإسلامية بخطاب متجدّد مقنع وواقعي: قضايا الخمر، وقضايا الربا، وقضايا السلفات الصغرى، الكازينوهات، اللغة العربية، حرمة القرآن، المقدسات الدينية، مواجهة التطبيع، التغوّل الأمريكي، إلى غير ذلك من القضايا التي يثيرها غيرنا بطريقة أضعف، أو لا يثيرها بالمرة، ونحن ننطلق فيها كأفراد تربّوا داخل الحركة الإسلامية على ثوابت وقيم، وأحسنوا الدفاع عنها في إطار الدعوة الخالصة، واليوم يحاولون الدفاع عنها في إطار العمل السياسي، ويظهر أيضاً هذا في برامجنا، وفي أنشطتنا حين تأطير الجماهير، وليس فقط في قبة البرلمان.
يرى البعض أن دخول رموز دعوية للصراع السياسي أدّى إلى التشويش على العمل الدعوي الرسالي، بينما العمل السياسي مرتبط بصراع المصالح والمواقع. ألا تعتبرون أن دخول هذه الوجوه من رموز العمل الدعوي سواء من المغرب أو الأردن أو السودان أو الجزائر سيؤدي إلى "أفول" العمل الدعوي داخل هذه الحركات؟
كلمة "أفول" قوية، قد نقول كلمة "تشويش" التي ذكرتهَا من قبل، أو نقول "ضعف" أو تضعضع. أنا أوافقك الرأي تماماً، كنت دائماً من أنصار الفصل بين قيادة الحزب (العدالة والتنمية) وقيادة الحركة (التوحيد والإصلاح)، وكان قرار تأجيل تطبيق هذا القرار الذي اتُّخذ برأي ديموقراطي شوري داخل مجلس الشورى لحركة التوحيد والإصلاح، كان تعطيله بالنسبة لي خطأ مازلنا نعاني تبعاته، كرسنا هذا الخطأ بخطأ آخر هو تحويل جريدة "التجديد" كلسان ناطق باسم الحركة، إلى مدافع عن الحزب وناشر لقراراته وبياناته اليومية، مما جعل الناس يخلطون بين العمل الدعوي على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الاختيارات وعلى مستوى الخطاب خلطاً هم معذورون فيه، ولا يحق لنا أن نلوم الناس على هذا الخلط التصوري والمؤسسي؛ لأننا نحن السبب فيه. ولهذا دعوت أيضاً إلى تجنيب قيادات إسلامية بارزة عملية المشاركة في الانتخابات القادمة بعد شهور، ولو من باب إنقاذ ما تبقى. كما أنني أتمنى أن تُميَّز رموز بعينها داخل قيادة الحزب، وداخل الأمانة العامة وتُمنع من الترشح للعمل البرلماني، وغداً للعمل الوزاري، إذا ما شارك الإخوان ـ لا قدّر الله ـ في الحكومة، وأن يعودوا إلى مواقعهم الطبيعية داخل الحركة لكي يحصل هذا الذي ننشده جميعاً من أن لا يكون العمل الدعوي داخلاً في صراع وحساب المصالح التي هي اجتهادية وترجيحية، أما الدعوة فمتجردة ومتسامية. ويحضرني هنا موقف عالم جليل حكيم رزين هو الشيخ سعيد رمضان البوطي الذي اقتُرِح عليه في مجلس الرئاسة الذي هو عضو فيه في بلده سوريا أن يكوِّن حزباً ذا مرجعية إسلامية، يُتَكامل به في الساحة داخل حلف الحكم في سوريا، ويغلق به على الخطاب الإسلامي المعارض، فرفض معتذراً للرئيس السوري بأن موقعه في حزب الرئاسة يمكنه من خطاب كل الأطراف والتأثير فيهم، أما إذا أصبح هو طرفاً منافساً لحزبه فلا أحد سينصت إليه.
يفهم من كلامك أنك لست مع مشاركة حزب العدالة والتنمية في الحكومة القادمة إذا ما دُعي الحزب للمشاركة فيها. لماذا هذا الموقف؟
أنا أنظر لذلك لاعتبارات عديدة أهمها اعتباران:(29/169)
الاعتبار الأول: هو أن الخطوط الحمراء الدولية التي توضع على الأنظمة التابعة ذات السياسات التبعية اقتصادياً وسياسياً، والآن أمنياً واستخباراتياً، لا يمكن تجاهلها بشكل موضوعي عن طريق المشاركة من داخل الحكومة الضعيفة التي ليس لها سلطة حقيقية. وبالتالي الدخول إلى هذه الحكومات إقرار بهذه الخطوط الحمراء وعمل داخلها بل وسعي إلى تسويغها. في حين أن العمل البرلماني من موقع المعارضة لا يلزم التعاطي مع هذه الخطوط الحمر، ويمكن تجاهلها بما أن موقعك في المعارضة لا يلزمك بشيء، كما أن العمل المحلي الذي أدعو إلى تقويته عن طريق الدخول الوازن في الجماعات المحلية، وإعطاء النموذج الفعلي أيضاً لا يلزم بالتعاطي مع هذه الخطوط الحمر إلاّ في حالات نادرة. إذ لا داعي للدخول في تجربة تنفيذية للسلطة الرسمية تفضي بالإنسان ليصبح مدافعاً عن التبعية للسياسات الأمريكية والفرنسية والإسبانية في المغرب.
الاعتبار الثاني: هو أن المنافسين وخصوصاً اليسار الشرس الذين هم الآن في موقع الجهاز التنفيذي، مستعدون لفعل أي شيء للتضييق على الحركة الإسلامية وإفشالها إذا ما زاحمتهم في الجهاز التنفيذي. وأمامنا تجربة التهميش لمشاركة الإخوان بالجزائر ولو بطريقة ناعمة، والحرب عليهم من داخل التحالف الحكومي من الحزبين "الشريكين". وأمامنا تجارب أخرى مأساوية كتجربة حماس التي وصل الأمر اليوم من أجل معاقبتها وإفشالها على دخولها إلى السلطة التنفيذية، إلى الاقتتال والمذابح. قد لا نكون في المغرب ضحايا للسلاح، ولكن سنكون ضحايا أحياناً لما هو أفتك وهو الضرب تحت الحزام. وبالتالي تجنباً للتنافس مع هذه الجهات الممكَّنة دولياً، والمستريحة في خطها الإيديولوجي مع هذه الجهات العليا، وأيضا سعياً إلى تعزيز موقع المعارضة الذي لن نتركه لحزب قوي؛ إذ لمن سنترك المعارضة وهي حق المواطن المغربي في أن يكون له حزب معارض قوي، يعطي نوعاً من الهيبة للرقابة داخل البرلمان.
المعارضة حق المواطن المغربي علينا، المعارضة دورنا، المعارضة موقعنا المريح في المرحلة القادمة، وعكس ذلك سيكون خطأ في حقنا وفي حق مشروعنا، وفي حق وطننا، وسيعرضنا لمزيد من الاحتكاك السلبي مع خصومنا الذين لن يراعوا فينا ولا في مصلحة الوطن العليا إلاًّ ولا ذِمّة.
ألا ترى معي أن هذا الخطاب فيه إحباط للذين يريدون التصويت على العدالة والتنمية ويأملون من الحزب أن يحسن من أوضاعهم؟
لا شيء يحبط مثل الخديعة وبيع الأوهام، أما التعاقد الواضح والشريف مع الناس فسيؤدي في أسوأ الأحوال إلى أن يعتذروا لك عن دعمهم، ويختاروا طريقاً آخر، أو يقفوا موقف المتفرج. أما من اقتنع بخطابك، فإنه سيتقدم معك على بصيرة إلى مجال دعمك؛ لأنه علم منك أنك ستختار المعارضة، وبالتالي سيقيِّم حساباته لدعمك على أساس هذا الاختيار. وإذا كان هناك مغاربة ذوي أفق ضيق وسقف واطئ وثقافة سطحية، وأحياناً منعدمة، يريدون حركة إسلامية تصل إلى السلطة من أجل تقديم خدمات شخصية لهم، فإن هناك قطاعاً عريضاً من الواعين ومن الملتزمين والنخب التي سوف تفهم هذا الخطاب الذي تقدمه وتقدره أكثر. لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرحلة المحنة لا يعد المسلمين بشيء إلاّ بالجنة، ولم يكن يدعي بأن الملائكة سينزلون عليه من السماء لحماية المستضعفين الذين كانوا يُقتّلون ويذبّحون في الفترة المكية، وطيلة مدة حصار شِعْب أبي طالب، لم يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - برنامجاً بوعود بالنصرة أو التمكين. بخلاف لما أصبح في الفترة المدنية قائد دولة، وبشر المسلمين بفتح قصور بلاد الشام وبلاد العراق، كان ذلك من منطلق ما أُطلِع عليه من وحي، وكان يفعل ذلك من منطلق أن مشروعه ثبت فوق الأرض كسلطة مستقلة، وكدولة قائمة. لهذا تأسياً بالمرحلة المكية يمكن أن نحدث الناس بكل صدق ووضوح عن تواضع سقفنا ومحدوديته. وعلى بصيرة من هذا الأمر يتقدمون للتصويت لنا، وإن لم يقتنعوا فهم أحرار وأسياد أنفسهم، خصوصاً وشعارنا السياسي: السيادة للأمة. فالنظرية السياسية عندنا في الإسلام تقوم على ثنائية الحكم لله والسيادة للأمة، ولها واسع النظر، وليس لنا سوى أن نعرض أنفسنا عليها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على القبائل.
تعالت أخيراً بعض الأصوات والكتب المنتقدة للحركة الإسلامية بالمغرب.. ما هي الصيغة المثلى في نظركم لنقد الحركة الإسلامية؟
الصيغة المثلى والصحيحة لنقد الحركة الإسلامية، هي نفسها الصيغة المثلى والصحيحة لأي نقد.(29/170)
نقد الحركة الإسلامية أو غير الحركة الإسلامية يحتاج إلى ضوابط شرعية أخلاقية عامة. لقد أعجبني جواب الدكتور أحمد الريسوني في حوار مع (إسلام أونلاين) حينما قال إنه شخصياً لا يخاف نشر الغسيل. أنا لا أوافق على هذه الكلمة، ولكن لا أخاف مضمونها، وأنا أوافقه أيضاً في أن من شاء أن يقول فليقل، فإن شعارنا قول سيدنا عمر رضي -الله عنه-: "رحم الله امرأً أهدى إليّ عيوبي". وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك "المؤمن مرآة أخيه"، وبالتالي فكل من ينتقد الحركة الإسلامية ولو في مفاصل غائرة، أو انتقادات قد تكون لاذعة ومحرجة، إذا ما سلم القصد وسمت العبارة و"قصد في مشْيه" إلى الموضوع دون لفّ أو دوران، وتحرَّى الحقيقة، فإن هذا يكون نفعاً للحركة الإسلامية وخدمة لها، ويكون صاحبه مأجوراً عند الله. وقد قال الدكتور أحمد الريسوني هذا الكلام رداً على الكتاب الذي أشرت إليه، والذي نتوقع غيره من غير مؤلفه، ولن نتصور يوماً ما أن تكف جهات لحسابات ونوايا مختلفة عن نقدنا سوى أن دورنا أن نفعل شيئاً، أن نمحِّص الجهات المغرضة من الجهات المخلصة، وأن نعتني اعتناء جدياً، ونعكف عكوفاً كاملاً على الانتقادات التي تقدمها الجهات المخلصة، وحتى إذا ما حصل شططٌ أو غلوٌّ في هذا النقد فإن واجبنا أن ننخله ونأخذ جوهره ونعتبر به، وأن نتجاهل الجهات المغرضة، ولا ندخل معها في نباح الكلاب
=============(29/171)
(29/172)
القرآن وسر الاهتمام باليهود
طارق حسن السقا
أخبرني صديق أن الدكتور عمر عبد الكافي - وعبر برنامجه الأسبوعي على قناة الشارقة الفضائية - اقترح على الحكام العرب والمسلمين أن يكثروا من قراءة القران الكريم - ولاسيما سورة البقرة - ليعرفوا كيف يتعاملون مع بني إسرائيل التعامل الأمثل . فالإنسان إذ لم ينتفع بتاريخه أو بما يمر به من خبرات, إنما بذلك يتخلى عن احد أهم خصائص الشخصية الإنسانية على الإطلاق . فالإنسان كائن له تاريخ يستفيد منه وينتفع به . عكس الحيوان الذي ليس له تاريخ يستفيد منه ولا ينتفع به . ولقد ذكرني هذا الاقتراح للدكتور عبد الكافي بسؤال لطالما شغل فكري وسيطر على عقلي طويلا ألا وهو : -
لماذا اهتم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بأمر هذه الفئة التي حل عليها غضبه ولعنته وضرب عليهم الذلة والمسكنة ؟
لماذا أفرد الله العديد من الآيات التي تتحدث عنهم ؟
ولماذا شَّرح الله شخصياتهم وطبائعهم هذا التشريح الدقيق والمستفيض في القران الكريم ؟
لماذا كل هذا التفصيل ؟
فالمتتبع - حينما يقلب كتاب الله العزيز - يجد أن الله تعالى يرسم صورا عديدة ودقيقة توضح طبائع وصفات الشخصية اليهودية. فلقد احتوت آيات القرآن الكريم على العديد من الصفات الشخصية , والنفسية , والأخلاقية التي تصف هذه الفئة من البشر . والتي تعكس غضب الله ولعنته على هؤلاء. . ومن هذه الصفات (1) :
• الكذب على الله :-
(وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( ال عمران - 78 )
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) (المائدة - 64)
(قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ) (ال عمران - 181 )
(نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ( المائدة -18 )
(وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً) (البقرة -80 )
• حبهم لسماع الكذب :-
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) ( المائدة - 41 )
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) ( المائدة - 42 )
• التمرد على الله :-
(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) ( المائدة- 13)
• التمرد على الرسل :-
(وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) (البقرة - 55 )
(فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ( المائدة - 24)
(كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) ( المائدة - 70 )
• سهولة الاغتيال :-
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ( البقرة - 61)
• نقض العهود :-
(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم) ( البقرة -100)
(الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) ( الأنفال - 56 )
• قسوة القلب :-
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ( البقرة - 7 )
• الجدال و المراء :-
(قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) ( البقرة - 70)
(أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ) ( البقرة - 247)
• كتمان الحق والتضليل :-
(وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ) ( البقرة - 42)
• النفاق :-
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ( البقرة - 44 )
(وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا) ( البقرة 14)
(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ( الفتح - 11)
• إيثار المنفعة الشخصية :-
(أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ) ( البقرة - 87 )
(وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) ( المائدة - 44 )
• حب الإفساد للناس :-
(كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً) ( المائدة - 64 )
• موت ضميرهم الأدبي :-
(كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ) ( المائدة - 79 )
• حب الشر للغير :-
(وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) ( ال عمران - 69)
(وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ ) (ال عمران - 118)
(وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) ( النساء - 44 )
(لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ) ( ال عمران - 99)
• كراهية الخير للناس :-
(إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ) (ال عمران - 120)
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) ( النساء - 54)
(مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) ( البقرة - 105)
• المسارعة إلى الإثم والمعصية :-(29/173)
(وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) ( المائدة - 62)
• الكبر والتعالي على الناس :-
( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) ( المائدة - 18)
(لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) ( ال عمران - 75)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يشاء) ( النساء - 49)
• الاستغلال والانتهازية :-
(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ ) (النساء - 161)
(أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) ( المائدة - 42)
• التحايل على المخالفة :-
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) ( البقرة - 65)
• الجبن والتخاذل :-
(قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة - 24)
(لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ) ( الحشر - 13)
(لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ) ( الحشر - 14)
(لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) ( البقرة - 249 )
• عدم الأدب في الخطاب :-
(سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ) ( النساء - 46)
• البخل والشح
(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) ( النساء - 53)
(فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ) ( التوبة - 6 7)
(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ ) ( آل عمران - 180)
(إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( التوبة - 34)
• الأنانية الطاغية :-
(تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ) ( العمران - 119)
(لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ( العمران - 75 )
• الخوف من الموت :-
(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) ( البقرة - 96 )
• تحريف الكتب المقدسة :-
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) ( المائدة - 13)
(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ( البقرة - 79)
- والسؤال الكبير هو :
- لماذا كل هذا الاهتمام وهذه الاستفاضة وهذا التفصيل ؟
علم العليم في سابق علمه أن هذه الفئة من البشر ستكون العقبة الكئود في وجه هذا الدين وأهله على مر الزمان . ومن هنا قدم الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة عبر كتابه الكريم كل هذا الوصف , وكل هذا التفصيل لتعلم حقيقة هذه الفئة و لتكون على بينة من أمرها عندما تتعامل معها , ولتحذر كل الحذر عند مواجهتها . فهاهي طباعهم وصفاتهم وأغوار أنفسهم جلية واضحة بينة في كتاب الله عز وجل لمن كان له قلب أو القي السمع وهو شهيد : يقول صاحب الظلال :
" فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة لتعرف من هم أعداؤها, ما طبيعتهم, وما تاريخهم, وما وسائلهم, وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم. ولقد علم الله أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ; كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ; ووسائلهم كلها مكشوفة (2) ومع هذا الكرم الرباني , ومع هذا الكشف , ومع هذا الفضح, ومع هذا التوضيح ، لم تستفد الأمة- في هذا الزمن - من كرم الله عليها حينما شرح لها طبائع اليهود الظاهرة والباطنة.
ومؤخرا رأينا مسلسل التهاوي والارتماء في أحضان اليهود , وأصدقاء اليهود تحت مسميات مختلفة : اتفاقيات للسلام , وتطبيع للعلاقات التجارية ولاقتصادية والثقافية ,والزراعية.... الخ . وأصبح مألوفا أن ترى مسئولا قطريا يتناقش ويتحاور مع مسئول إسرائيلي في الدوحة مثلا من اجل إبرام اتفاقات متبادلة ، وأن وفدا سياحا يهوديا يزور معالم الأردن ، وان إسرائيل تحتل المركز الرابع من حيث عدد السياح الإسرائيليين الذين زاروا مصر( إحصائية قديمة ) ، وان سلطنة عمان تبرم اتفاقات تبادل اتفاقي وتجارى واقتصادي مع اليهود وهكذا أصبح هذا الوضع طبيعيا. فهناك علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع ما يقرب من 75% من الدول العربية والإسلامية مع العدو الصهيوني اليوم , وهذا وضع مقلوب.(29/174)
تطورت الأمور ووصلت إلى أن رأينا في بعض من الدول الإسلامية أشد التنكيل بكل من يجاهر أو يعارض أو يوضح أو يبين للناس خطورة و طباع وصفات اليهود التي اشتهروا بها عبر القرون ويحذر منها . رأينا مسلسلات الاعتقالات لكل من يفضح مخططاتهم وألاعيبهم ، رأينا الشباب في مصر الإسلامية يعتقل ( بالتحديد قبيل انعقاد مؤتمر مدريد نوفمبر 1991م ) ويوضع رهن المعتقلات الرهيبة ويعامل أسوء معاملة , وتوجه إليهم تهمة عريضة عنوانها العريض:
أنت متهم بمعاداة دولة صديقة ( يقصدون إسرائيل) .-
والأعجب من ذلك, أن الشباب المسلم كان يرد على من يحقق معهم بقولهم :
نعم ، ونعم التهمة . ولم يثنيهم كل هذا العنت والتضييق عن توضيح وتبيان صفات وطبيعة الشخصية اليهودية والتحذير منها .
لقد قالوا لنا ونحن صغار أن ثمرة البرتقال المعطوبة إذا وضعت مع الثمار السليمة فإنها تعطبها وتفسدها . وإذا طالت المدة فان كل الثمار السليمة حتما ستصبح معطوبة و فاسدة . وهذا هو الحاصل . فلقد أعطب اليهود كل شعب اتصلوا به , وأفسدوا كل المجتمعات التي ذهبوا إليها , ولا أغالى حين أقول أن كل شعوب العالم اليوم قد أصابها العطب والفساد بسبب وجود الشعب اليهودي بصفاته السيئة الخبيثة التي ذكرها رب العزة عز وجل بين السكان في كل مكان . فأينما تواجدت الشخصية اليهودية فشرها المستطير , وضررها المحدق يصيب الجميع .
لذلك فمن واجبنا , وواجب كل الغيورين من أبناء هذه الأمة ألا يدخروا جهدا في توضيح وتبيان طبائع الشخصية اليهودية على مر الزمان . من واجبنا أن نوضح للقاصي والداني خطورة أن يحيى اليهود بيننا بكل حرية وانطلاق . من واجبنا أن نوضح للأجيال خطورة التعامل مع اليهود دون فهم لطبائعهم وخصائصهم كما جاءت في كتاب الله المحكم . من واجبنا أن نوضح للناس لماذا اهتم القران بهذه الفئة وأفاض في تشريح طبائعهم وخصائصهم في قران يتلى ويتعبد بتلاوته إلى يوم الدين
إن رئيسا بحجم السادات - كأول وأكبر المتحمسين للصلح والتطبيع مع اليهود - لما وضح له احد المخلصين موقف الدين , وقول رب العالمين في هؤلاء , و لما بين له رأي القران في قضية مثل الصلح مع اليهود . وأضح له طباعهم وصفاتهم التي أفاض القران الكريم في ذكرها , اقتنع السادات مجبرا بما سمع وسلم , لأنه لا يستطيع أن يعترض على قول الله عز وجل في هؤلاء .
يقول الأستاذ عمر التلمساني :
لقد أبينا على السادات معاهدة كامب ديفيد , منذ أن بدأت نذر شؤمها في الأفاق. أنكرنا عليه وثيقتي كامب ديفيد ومعاهدة السلام , أنكرنا كل هذا في جرأة , وصراحة ووضوح , ورمانا كتابة وحواريوه بالأمية السياسية وكراهية السلام.
لقد وقفنا في وجه التطبيع , وذكرت في إحدى افتتاحات" مجلة الدعوة " أن التطبيع شر كله ، وقدمت ما يزيد عن العشرين سببا لذلك. ولما سألني السادات عن سبب معارضتي لمعاهدة السلام عندما قابلته في ركن القناطر الخيرية , أوضحت له أني لا أعارض المعاهدة سياسية, فأنا أعارضها دينا . لأن الإسلام يرفض أن يعترف المسلم لغير المسلم باغتصاب أرضاً مسلمة ، لأن إذا ديست أرض المسلمين وجب على كل مسلم ومسلمة أن يخرجوا للجهاد ، حتى المرأة بغير إذن من زوجها والعبد بغير رضا سيده.
وأقسم غير حانث - والكلام للتلمساني - أن الرجل (يقصد السادات ) بعيد الاستماع إلي قال لي بمنتهى الصراحة والوضوح والرضا :
أكتب .
وهى حسنة لن أنساها للسادات ما حييت رغم ما لقيت منه يرحمني ويرحمه الله .( 3)
صحيح أن السادات اقتنع في الحجرات المغلقة , ولكنه لم يتراجع عن فكرته السياسية بأهمية وإستراتيجية الصلح مع اليهود . لان أقدام الرجل كانت قد وقعت في المصيدة, مصيدة من ليس له تاريخ يستفيد منه وينتفع به . مصيدة البعد عن كتاب الله عز وجل . وما أقساها من مصيدة . ومات السادات ولم تمت فكرة الصلح مع اليهود, بل كبرت ونمت وسرعان تبنتها قيادات ودول كانت بالأمس تعارضها. ولم ينتفع قادة الأمة من كرم الله عليهم في هذه الجزئية .
فكم كان الله سبحانه وتعالى كريماً معنا, ومع قادة هذه الأمة المسلمة , يوم أن بين لنا , ووضح لهم في كتابة الكريم طبيعة هذا العدو ، وقدم لنا إسرار عدونا واضحة جلية . وبين لنا كيفية التعامل معه وكيفية التفوق عليه .و وضعها بين أيدينا قرآن يتلى إلى يوم الدين احتوت آياته على فضح وشرح طباع هؤلاء . فالله يريد أن يعلمنا أنه من أراد التعامل مع هؤلاء فلن يستطيع التعامل معهم دون فهم التشريح الرباني للشخصية اليهودية عبر الزمان .ولن يستطيع التعامل معهم وقهر غرورهم وقذف الرعب في نفوسهم غير عباد الله الذين تربو على موائد القران قولا وعملا . فيا ليت أولي أمرنا يسمعون .
------------
1- غزوات الرسول شرف الآباء وهداية الأبناء- جمال الدين محفوظ - ص 153
2- قي ظلال القران - سيد قطب -
3 ذكريات لا مذكرات - عمر التلمساني - ص 192
======================(29/175)
(29/176)
هذا ما يريده اليهود فاحذروه!
كان هدف اليهود وأعوانهم من الأمريكان وغيرهم من الدول الغربية، وبخاصة بريطانيا التي هي أساس تمكين المحتل المعدي اليهودي، منذ كانت هي تحتل كثيرا من البلدان العربية، ومنه الأرض المباركة "فلسطين".
كان هدفهم أن يقدموا لما سمي بالسلطة الفلسطينية طعما يغريها بالدخول في صراع واقتتال مع المجاهدين الذين نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل الله دفعا لعدوان اليهود الذين احتلوا بلادهم وهدموا بيوتهم وأخرجوهم من ديارهم ومارسوا معهم كل أنواع العدوان، من قتل واغتيال وسجن وتعذيب وحصار، وتدنيس لمقدسات.
جعل ذلك كله شباب فلسطين الذين ولدوا في عهد الاستكبار اليهودي الذي أذل آباءهم وانتهك حرماتهم وظن أنه قد استتب له الأمر وأصبح سيد الموقف ومالك البلاد بدون منازع، جعلهم يتحلقون حول بعض علمائهم ومربيهم في مساجدهم وجامعاتهم، يتلون ويستمعون لسورة الأنفال والتوبة وآل عمران والأحزاب ومحمد والحشر، وهي تذكرهم بجهاد القدوة الأولى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وصفوة أصحابه، وهم ينظمون صفوفهم مجتمعين على كلمة الحق معتصمين بحبل الله، متوكلين عليه، يرفعون راية الإسلام يدفعون عدوان المشركين في غزواتهم وسراياهم.
ويتصدون لكيد اليهود وعدوانهم ومؤامراتهم مع المشركين والمنافقين، فطهروا منهم طيبة الطيبة التي عاثوا فيها فسادا، فأذاقوهم مالا يقوم معوجهم غيره، فطردوا من طردوا وقتلوا من قتلوا، وذلك هو الدواء الناجع لقتلة الأنبياء والآمرين بالمعروف ونهوا عن المنكر.
فأقلق شباب الجهاد في فلسطين اليهود المعتدين الذين امتلأت ترساناتهم ومخازنهم بكل أنواع السلاح الحديث الفتاك، من مقاتلات جوية، وأسلحة برية وبحرية، مدعومة من الصليبية الجديدة في البيت الأبيض، والعواصم الأوربية، وبخاصة لندن، أقلقهم ذلك الشباب بمواقفه الجديدة الغريبة على المحتل ومن يظاهره، لأنه باع نفسه لربه، باذلا نفسه وماله وأهله، يتلقى صواريخ العدو ورصاصه بصدره، لم يكن يملك إلا الحجر يرمي به وجوه هذا العدو بيده أو بمقلاعه، وأحيانا يقع في يده سلاحا خفيفا، جعل فرائص العدو ترتعد، وقلوبه ترتجف، والأرض تتزلزل تحت أقدامه.
فانطلق قادة الأمريكان يمهدون لليهود طوق النجاة من الجهاد الذي أخذ ينمو ويتصاعد، فبدءوا ذلك التمهيد بجر رئيس النظام السابق في العراق، لحرب الخليج الأولى، مع العراق، ثم بعدوانه على الكويت التي كانت تكأة لحرب الخليج الثانية.
ثم رتبت أمريكا مؤتمر مدريد الذي كانت وسائل الإعلام تضج به، وهم يخططون من وراء الستائر لاتفاقية أوسلو، فتم لهم ما ظنوا أنه سينقذ المحتل المعتدي من أطفال الحجارة وشباب الجهاد، عندما تطأ أقدام السلطة الأرض المباركة، فتصطدم بشباب الجهاد، وتوجه كل فئة رصاصها إلى صدور الفئة الأخرى، والعدو يصفق ويقهقه.
ولكن قائد السلطة السابق آنذاك كان يجيد المناورة ويحاول تجنيب الشعب الفلسطيني الانقسام والتقاتل، وقد كنا نرميه بالتآمر معهم ولكن مواقفه أثبتت أنه كان خيرا من مواقف غيره، فوقفوا من ذلك الموقف اليهودي الغادر الذي لا يفي بعهد ولا يتم ما أبرم من عقد، فسجنوه في منزله وحاصروه بدباباتهم وأزعجوه بصواريخهم، ثم لا ندري من قتله بالسم بعد أربع سنوات من حصاره، ولا غرابة إذا كانوا هم وراء تسميميه، لأن ذلك من شيمهم، وقد سممت إحدى نسائهم خير خلق الله محمدا r.
وهم اليوم يعقدون الاتفاقات مع السلطة الجديدة بوساطة دول مجاورة، تشتمل على ما تسميه السلطة بالتهدئة، وتحاول إقناع المجاهدين بها، فيستجيبون لذلك وهم يعلمون أن اليهود أهل غدر ومكر لا يمكن أن يلتزموا بتهدئة ولا هدنة مؤقتة أو غير مؤقتة، ولكن المجاهدين يريدون أن يثبتوا للسلطة وللوسطاء وللعالم أن طبيعة اليهود لا تتغير، وأنهم يطلبون أن يعطوا المزيد فيأخذوا وهم يقبضون أيديهم فلا يعطون غيرهم شيئا، وهذا ما حصل ويحصل منهم قديما وحديثا.
فقد حاول رئيس السلطة الاجتماع بزعيمهم الطاغية، لينفذوا شيئا مما تم الاتفاق عليه، ولم يستجب له اليهود منتظرين ما يطلبونه منه ومن سلفه، وهو سلب سلاح المجاهدين، واعتقال قادتهم ومصادرة مؤسساتهم والقضاء على ما يسمونه بالبينة التحتية لهم، وهدفهم من ذلك كله هو أن ينشب القتال بين السلطة وبين المجاهدين، لتستقر أمورهم ويصفو الجو لهم، لأنهم يعلمون أن المجاهدين قد شبوا عن الطوق وتجاوزوا قنطرة الهيمنة عليهم، وإن كانوا لا يرغبون مطلقا، أن يوجهوا رصاصهم إلى صدور إخوانهم الفلسطينيين، سواء كانوا في السلطة أو غيرها.
وقد صبروا كثيرا عندما أدخلوا السجون والمعتقلات، ورشوا برصاص السلطة وهم خارجون من بيوت الله التي يلجئون فيها إلى ربهم لينصرهم على عدوهم.
واليوم تصر السلطة على استمرار التهدئة من قبل المجاهدين وعدوهم يحتل مدنهم وقراهم، ويغتال أبناءهم ويعتقلهم ليملأ بهم الزنازين إضافة إلى إخوانهم الذين مضت لهم في السجون الأعواد تلو الأعوام.(29/177)
وبدأ الرصاص الفلسطيني يطلق على الصدور الفلسطينية، وتهديدات السلطة تدوي في وسائل الإعلام، ضد المجاهدين، والعدو يضغط ويشتد، وذلك ما سعى ويسعى إليه منذ اتفاقية أوسلو، ولا ندري كيف تصر السلطة على تهدئة من طرف واحد، وهم الفلسطينيون، بينما عدوهم يعيث فسادا في كل شبر من أرضهم.
هل تنوي السلطة المضي في تنفيذ ما يصر العدو على فعله، ليتحقق له ما أراد؟
إن هذا هو ما يتمناه اليهود، ويغريها به البيت الأبيض الذي يعتدي على العالم كله، وبخاصة البلدان الإسلامية، وبخاصة الشعوب العربية وأبنائها.
لذلك نناشد السلطة الفلسطينية أن تتحد مع أبنائها المجاهدين، وتيأس من الصلح مع اليهود، فلا سبيل إلى رد الحق إلى أهله من قبل اليهود إلا بما تضمنته السور الماضية: آل عمران والأنفال والتوبة والأحزاب ومحمد والحشر وغيرها من آيات الجهاد في سبيل الله.
ألا تكفيكم التجارب التي مررتم بها مع اليهود منذ قرن من الزمان.
كما نناشد رجال الجهاد أن يحاولوا الابتعاد عن المعارك مع السلطة أو مع أي فئة فلسطينية، فلا تطلقوا رصاصكم إلى صدوركم.
http://www.al صلى الله عليه وسلمawdah.net/ صلى الله عليه وسلم php?sub0=allbooks&sub1=a5_pal&p=6
http://saaid.net/Doat/ahdal/112.htm
((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا...
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران(103،105)]
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
=====================(29/178)
(29/179)
حكم عقد الهدنة مع العدو لمصلحة راجحة
كثر الكلام هذه الأيام عن الهدنة، وكثرت الاستفسارات عنها من حيث مشروعيتها، وبخاصة مع اليهود المغتصبين للأرض الإسلامية، وهل يدخل ما يسمى بـ"التطبيع" في الهدنة الشرعية؟
وهل يجوز للمجاهدين في فلسطين وفي غيرها من البلدان الإسلامية المغتصبة، أن يعقدوا هدنة مع عدوهم، إذا خافوا استئصالهم لقوة عدوهم وضعفهم؟
وحيث إن هذا الموضوع من أهم موضوعات الساعة، فلا بد من بيانه بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله وسيرت صلى الله عليه وسلم ، وما استنبطه علماء المسلمين في مؤلفاتهم، ليكون المسلمون على بينة من أمرهم من فقه دينهم، لا من العواطف وإطلاق الكلام بدون دليل.
وكثير من المسلمين المتحمسين لدينهم، والغيورين على أمتهم، الذين يقلقهم ما يرونه من عدوان على بلدانهم وعلى إخوانهم، في فلسطين والعراق وغيرهما من البلدان الإسلامية، يتوقون لجهاد عدوهم، وطرده من بلدانهم، يدفعهم إلى ذلك الحكم الشرعي الواضح الذي أجمع عليه علماؤهم، وهو أن من الحالات التي يكون الجهاد فيها فرض عين، أن يهجم العدو على بلاد المسلمين....
ثم إنهم يقرؤون في كتاب الله، وعده بنصر عباده المؤمنين على عدوهم، كما في قوله تعالى: ((ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين(171)إنهم لهم المنصورون (172)وإن جندنا لهم الغالبون)) [الصافات (173)]
وقوله تعالى: ((ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز]] [الحج (40)]
وقوله تعالى: ((ياأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)) [محمد (7)]
ومن الآيات التي تلهب عواطف الشباب المسلم وتدفعه إلى جهاد عدوه، بما يملك مما يعتبره قدرة، قوله تعالى: ((كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) البقرة [(249)]
ولهذا ينطلق هذا الشباب، مضحيا بنفسه، مهما قل عدده، وضعفت عدته، زاهدا في دنياه وزخارفها، لينال ما يشفي صدره، ويغيظ عدوه الظالم المعتدي، ولينال الشهادة عند ربه، وفي غمرة هذه العواطف الجياشة والرغبة الجامحة في التنكيل بعدوه، قد لا ينتبه لسنة طبيعية كونية شرعية، ينبغي مراعاتها مع الحكم الشرعي:
الحكم الشرعي هو جهاد العدو الذي أمر الله به، وأمر به رسول صلى الله عليه وسلم ، وطبقه هو وأصحابه ومن تبعهم من هذه الأمة.
والسنة الطبيعية الكونية الشرعية، هي القدرة التي إذا توفرت ترتب عليها الحكم الشرعي وهو وجوب الجهاد حتى يهزم العدو، وإذا فقدت سقط هذا الوجوب.
وهذه القدرة لها ركنان:
الركن الأول: وجود العدد الكافي من المسلمين، سالمين من الأعذار البدنية التي تمنعهم من قتال عدوهم، كالعمى والعرج والمرض المزمن وصغر السن ....
الركن الثاني: وجود آلة الجهاد من المال والسلاح اللذين يتيحان للمجاهد مقاتلة عدوه عادة.
والدليل على الركن الأول، قوله تعالى: ((ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)) [الأنفال (65)]
وجه الدلالة من الآية أن الواجب على المسلمين، أن يقاتل الواحد منهم العشرة من عدوهم، ولا يجوز لهم الفرار من عدوهم في هذه الحال، فإذا نقص عدد المسلمين عن هذه النسبة، كأن يكونوا عشرين وعدد عدوهم ثلاثمائة، فلا يجب عليهم قتاله، بل هم معذورون في ترك قتاله.
هذا قبل أن تنسخ الآية بالآية الأخرى التي خفف الله تعالى فيها عن المسلمين، فأوجب فيها عليهم أن يقاتلوا عدوهم بنسبة واحد إلى اثنين، كما قال تعالى: ((الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)) [الأنفال (66)]
فلا يجب على المسلمين قتال عدوهم عند كثرته وقلتهم في ميزان الشرع، وهو أن يزيد عدد عدوهم عن هذه النسبة، كأن يكون عدده ثلاثمائة وعدد المسلمين مائة...
والدليل على الركن الثاني: قوله تعالى: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وءاخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون)) [الأنفال (60)]
وجه الدلالة من الآية، أن المؤمنين مأمورون بإعداد العدة التي يستطيعونها، بحيث يترتب عليها رهبة عدوهم وخوفه منها، رهبة وخوفا يمنعانه من العدوان على المسلمين، فيفهم من ذلك أن القدرة الطبيعية الكونية مأمور بها شرعا كالحكم الشرعي.
فإذا نقص هذا الركن نقصا يغلب على الظن أنه يسلب المسلمين القدرة على هزيمة عدوهم، وقدرة عدوهم على هزيمتهم، سقط وجوب الجهاد عنهم، بل يجب عليهم الكف عن قتاله، إذا غلب على ظنهم أن الضرر المترتب عليه سيكون أعظم من الضرر الموجود.
ومعنى هذا أنه يجب أن يكون سلاح الفريقين متكافئا أو متقاربا، كالسيوف والخناجر والعصي والسكاكين، وكالمسدسات والرشاشات، وكالمدافع والصواريخ... ونحو ذلك مما تكون آثاره متقاربة على الجميع.(29/180)
وهذا المعنى [وهو غلبة ظن المسلمين أن قتالهم عدوهم، سيترتب عليه ضرر أشد] تجب مراعاته في السلاح أيضا، فقد يكون عدد المسلمين مساويا لعدد عدوهم أو أكثر منه، ولكن سلاح العدو شديد الفتك بالمسلمين، ولا يوجد عند المسلمين سلاح يستطيعون به الدفاع عن أنفسهم به لضعف سلاحهم وعدم جدواه أمام سلاح العدو.
مثال ذلك وجود السلاح النووي عند العدو، والصواريخ العابرة للقارات، وسلاح الطيران الذي لا يوجد ما يدفعه عند المسلمين، فإذا كان المسلمون لا يملكون ما يمكنهم من دفع هذا السلاح عن أرضهم وشعوبهم، فلا يكلفون القتال المعتاد ضد العدو في هذه الحال، وبخاصة إذا كان الجهاد جهادَ طلب، لأنه سيترتب على قتال العدو حينئذ أن يعود بالنقض على أهداف الجهاد، وهي أن تكون كلمة الله هي العليا، وتحطيم الحواجز أمام الدعوة إلى الله، وحماية ديار المسلمين من العدوان....
أما إذا كان المقصود من الجهاد دفع عدوان العدو الذي تمكن من اغتصاب أرض المسلمين، كما هو الحال في الأرض المباركة "فلسطين" فإن الواجب على جميع المسلمين في هذا البلد، أن يتحدوا ويخططوا للقيام بمقاومة العدو الممكنة، وهي تتمثل في العصيان المدني، كالإضراب الشامل أو الجزئي، وحرب الكمائن التي تقوم بها الوحدات المنفصلة ذات التدريب العالي، مع التنسيق الممكن فيما بينها.
وإلقاء المتفجرات في صفوف مقاتلي العدو من الجيش النظامي وغيره، في أي موقع من مواقعه، وبأي وسيلة مشروعة ممكنة، بما في ذلك العمليات الاستشهادية، وتحطيم مرافقه كالجسور ومحطات الكهرباء ومخازن التموين، وغير ذلك مما يتيح للمجاهدين عمله، مما يلقي الرعب في قلوب عدوهم، ويشغله عن تقوية نفسه عليهم....
وهذا العمل مع ما فيه من التضحية بالنفس والنفيس، ومن تلقي الضربات الموجعة من العدو الغاشم الذي يملك من العدد والعدة ما لا يتحمله إلا أولو العزم من الرجال، فإن الآثار التي تحدثها عمليات المجاهدين النوعية التي لا يملكها العدو أشد نكاية فيه، وأشد تحطيما لمعنويات.
وقد تبين ذلك في المدة الأخيرة التي انطلقت فيها حركة الأقصى الجهادية، حيث ارتفعت ضحاياه ارتفاعا لم يسبق له مثيل، وتدنى اقتصاده إلى أدنى دركاته، وتحطمت معنويات جنوده، وأعلن بعضهم تمرده ونادى بعصيان أوامر قياداته، وأصيب كثير منهم بالأمراض النفسية...
وحزم بعض اليهود حقائبهم فارين من لهيب العمليات الفدائية، معاكسين بذلك الهجرة إلى الأرض المباركة... وتحركت الحكومة الأمريكية لنجدة اليهود بالوعد بإقامة دولة فلسطينية بجانب الدولة ما يسمى بالدولة الإسرائيلية، وهي حركة ظالمة هدفها القضاء على الحركة الجهادية الفلسطينية....
ولو أن الفلسطينيين أجمعوا أمرهم، وتعاونوا فيما بينهم على استمرار الحركة الجهادية المباركة، وصبروا وصابروا ووجدوا عونا معنويا وسياسيا وماليا، من إخوانهم العرب والمسلمين، لرأوا ما يسرهم في المغتصب اليهودي الذي أهان هذه الأمة، بسبب هوانها على الله لهوانها على نفسها.
ولكن مواقف بعض أبناء هذا الشعب الذين أغرتهم المناصب السياسية، والوعود اليهودية والأمريكية الوهمية، مواقفهم من الحركة الجهادية ومحاربتها، طمعا في الحلول السلمية، التي بدأت بمدريد وانتهت بأوسلو وما تبعها من مؤتمرات واجتماعات سياسية واستخبارية، تلك المواقف أضعفت الحركة الجهادية في الأرض المباركة.
وحالت بينها وبين سرعة تحقيق أهدافها، التي من أهمها اضطرار العدو اليهودي إلى الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، وتفكيك القرى المسماة بـ"المستوطنات" والكف عن العدوان المستمر على الفلسطينيين في هاتين المنطقتين...ثم تبدأ مرحلة جديدة من مقاومة العدو المغتصب لأرض المسلمين.... في حدود القدرة المتاحة للمسلمين.
وقد عانى المجاهدون في فلسطين من السلطة الفلسطينية، مشقات متتابعة، من اعتقال وتعذيب وإطلاق نار، ومع ذلك كله صبر المجاهدون على تلك المشقات، وكفوا عن الدفاع عن أنفسهم مع قدرتهم على ذلك، حرصا منهم على عدم تحقيق أهم أهداف اليهود من كل مفاوضاتهم مع السلطة الفلسطينية، وهو وقوع الاقتتال بين الفلسطينيين أنفسهم، بدلا من القتال بينهم وبين اليهود...
وعندما فشل اليهود والأمريكان في تحقيق هذا الهدف عن طريق ياسر عرفات وأركان إدارته، عزلوه وأصروا على نقل سلطته إلى من ظنوه سيحققه لهم.
وهاهي اليوم أمريكا وبعض الدول العربية تدعم المعين الجديد، الذي تعهد بضرب الحركة الجهادية في فلسطين، ومنع أي معونات مالية تصل إلى مؤسساتهم الخيرية، مقابل وعد يهودي أمريكي بإقامة دولة فلسطينية مؤقتة، وهو وعد مكذوب يعرفه القاصي والداني.
وقد تكفلت أمريكا واليهود والدول الغربية، بتقديم الدعم المالي والسلاح والتدريب للسلطة الجديد، مع إشراف الولايات المتحدة المباشر على تنفيذ هذه السلطة ما تعهدت به، من القضاء على الحركات الجهادية...
وهذا هو هدف اليهود والأمريكان، الذي إذا حققوه نقضوا عهودهم ومواثيقهم، فيما وعدوا به مما يسمى بخريطة الطريق، مع ما فيه من ظلم للفلسطينيين وإهانات لهم وإذلال.(29/181)
ونحن المسلمين نعرف نقض عهود اليهود ومن ناصرهم من الصليبيين، من مصدرين:
المصدر الأول: كتاب الله منذ نزوله علىمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد أخبرنا أنهم في تاريخهم الطويل، لا يفون بوعودهم وعهودهم ومواثيقهم في .
كما قال تعالى: ((أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)) [البقرة (100)]
وقال تعالى: ((فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا)) [النساء(155)]
المصدر الثاني: واقعهم الذي يشهد على خيانتهم ونقض عهودهم وفسادهم في أي أرض سكنوها، وفي أي أمة أقاموا بين ظهرانيها، ويكفي أن نشير إلى خيانتهم رسول ا صلى الله عليه وسلم وأمته، من يوم وطئت قدماه المدينة، إلى يومنا هذا.
فكم اتفاقات عقدوها في عصرنا هذا مع من مد لهم يد السلم وتنازل لهم عن حقوق الأمة بدون إذنها، فخانوا وعدهم ونقضوا عهدهم معه، ولا زال يلدغ من جحر واحد مرات ومرات...
ومع ما نعرفه من نقض عهودهم، واستمرار ظلمهم للإسلام والمسلمين في كل أنحاء الأرض اليوم.
ومع استعلاء الإيمان، وعزة المؤمن وتوكله على ربه، وشجاعته وكرمه، ورغبته في دفع عدوان المعتدين، بل نشر دعوته في العالم، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ونصر المظلومين.
ومع يقيننا بأن الفئة القليلة من المؤمنين، تقف أمام الفئة الكثيرة المعتدية من أعداء الله وأعداء دينه وأوليائه المؤمنين، لا تهاب إلا خالقها ولا تخاف فيها لومة لائم.
ومع ما في قصص الأنبياء وتاريخ الأمم، وما ذكر في الآيات والأحاديث ونصوص السيرة النبوية التي سبقت الإشارة في هذا المبحث وغيره، من الدلالة على استعلاء المؤمنين على أعدائهم، معتمدين على ربهم الذي وعدهم بالنصر على أعدائهم.... مع كله، يجب أن نبين أن للمصالح والمفاسد والضرورات والحاجات أحكامها في شرع الله.
للمصالح والضرورات أحكامها
يجب هنا أن نبين أن سنن الله الشرعية، لا بد أن يصحبها الأخذ بالسنن السببية التي يجب على المسلمين مراعاتها والأخذ بها، وأن الله تعالى كلف عباده المؤمنين اتخاذ الأسباب، لتنفيذ ما أمرهم به شرعا، وأن العجز عن إيجاد الأسباب التي تعين على تنفيذ الأحكام الشرعية، يعذر به العاجز، ولهذا عذر الله تعالى بقلة العَدد كما سبق في قوله تعالى: ((الآن علم الله أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين…)) بعد أن نزل قوله: ((يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون.....)) وسبق كلام العلماء في ذلك، كما سبق أنَّ الله أمر المسلمين في مكة بالكف عن القتال، ومن أهم أسباب أمرهم بذلك، ضعفهم وقلة عددهم وقوة عدوهم وكثرته. [يراجع تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (1/525)]. على الآية "77" من سورة النساء]
ثم إن الله تعالى لم يكلف المسلمين في المدينة قتال عدوهم قبل ترتيب شئونهم، الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم يكلفهم ذلك إلا بعد أن أصبحت السلطة فيها للمسلمين بقيادة نبيهم r، وكان غالب جهادهم في المدينة جهاد دفع عدوان عدوهم، وليس جهاد طلبهم له
ومعلوم أن القاعدة الشرعية العامة، أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، لأن القدرة هي مناط التكليف، ولهذا شرع عقد المسلمين الهدنةَ مع عدوهم، عند الحاجة أو المصلحة.
تعريف الهدنة
الهدنة في اللغة العربية.
أصل الهدنة في اللغة العربية: السكونُ بعد الهَيْجِ، و هَدَنَ يَهْدِنُ هُدُوناً: سَكَنَ.
و هَدَنَه أَي سكَّنه، يأتي لازما ومتعديا.
و هادَنه مُهادَنَةً: صالحه، والاسم منهما الْهُدْنة.
ويقال للصلح بعد القتال والمُوادعة بين المسلمين والكفار، وبين كل متحاربين... و هادَنَ القومَ: وادَعهم. [تراجع مادة "هدن" في لسان العرب لابن منظور]
ومعنى الهدنة في الاصطلاح: "أن يعقد الإمام أو نائبه عقدا على ترك القتال مدة، ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة" [الإنصاف للمرداوي (4/211) المغني لابن قدامة]
قال شيخ الإسلام زكريا
"كِتَابُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ" "وَتُسَمَّى الْمُوَادَعَةُ وَالْمُعَاهَدَةُ"
وَالْمُسَالَمَةُ وَالْمُهَادَنَةُ لُغَةً الْمُصَالَحَةُ وَشَرْعًا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ, وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْهُدُونِ, وَهُوَ السُّكُونُ.
تَقُولُ هَدَّنْتُ الرَّجُلَ وَأَهْدَنْتُهُ إذَا سَكَّنْته، وَهَدَنَ هُوَ سَكَنَ وَالأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ قوله تعالى: ((بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)) الْآيَةَ، وَمُهَادَنَتُهُ r قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ , وَهِيَ جَائِزَةٌ لَا وَاجِبَةٌ" [أسنى المطالب شرح روضة الطالب]
أقوال العلماء في مشروعية الهدنة(29/182)
وقد شرع الله تعالى للمسلمين الصلح والهدنة، عندما يفقدون القدرة على الجهاد، أو يرون فيها مصلحة راجحة، أو ضرورة لازمة، أو حاجة داعية، كما حصل في صلح الحديبية، بين الرسو صلى الله عليه وسلم وقريش، مع ما كان في هذا الصلح من الإجحاف بالمسلمين، الذين حزنوا حزنا شديدا لعقده، وقد كان في هذا الصلح من المصالح العظيمة، أن سماه الله تعالى "فتحا" كما قال تعالى: ((إنا فتحنا لك فتحا مبينا)) [أول سورة الفتح]
وقد تكلم العلماء في مشروعية الهدنة والصلح مع الأعداء في كتب التفسير، بمناسبة تفسيرهم لبعض آيات القرآن الكريم التي لها صلة بالموضوع، وكذلك شراح الحديث بمناسبة شرحهم للأحاديث التي لها صلة بالموضوع كذلك، وفي كتب الفقه في الأبواب الخاصة بالموضوع.
يضاف إلى ذلك ما سطرته كتب السيرة النبوية، مما وقع من في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم ، أوفي كتب التاريخ في عهد صحابته من بعده، ثم ما تكرر في عهود الأئمة من بعدهم، في هذا الباب.
و يَرِدُ كلامُ المفسرين غالبا في تفسير الآيات الثلاث الآتية:
1-((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)) [سورة الأنفال (61)]
2-((فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)) [التوبة (5)]
3-((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم)) [محمد (35)]
فظاهر آية الأنفال يدل على أن المسلمين مأمورون، بأن يميلوا إلى السِّلم إذا مال إليه العدو، ومعنى ذلك أن يَقِف المسلمون الحربَ القائمة بينهم وبين عدوهم، إذا طلب العدو ذلك منهم، على صلح يعقد بينهم بشروطه.
فهل حكم هذه الآية ثابت باق في الإسلام، أو هو منسوخ بالآيتين المذكورتين في سورة التوبة وسورة محمد؟
1-رأى بعض العلماء أن آية التوبة نسخت آية سورة الأنفال، لأن أحكام الجهاد التي نزلت في سورة التوبة، كانت هي آخر مراحل الجهاد في الإسلام، ونسب القول بالنسخ إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره.
ومعنى النسخ أن حكم المهادنة والمسالمة، لم يعد مشروعا، فليس للمسلمين أن يعقدوا مهادنة مع عدوهم، إلا في حالة الضرورة، فالضرورة شرط في عقد الهدنة عند هؤلاء.
قال الكاساني: "وَشَرْطُهَا الضَّرُورَةُ , وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِعْدَادِ الْقِتَالِ , بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ , وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ , فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ" بدائع الصنائع (7/108وما بعدها)
وقال ابن رشد رحمه الله: " فأما هل تجوز المهادنة؟ فإن قوما أجازوها ابتداء... إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين، وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام..." [بداية المجتهد ونهاية المقتصد ((1/283)]
2-ورد القول بالنسخ كثير من العلماء من مفسرين وغيرهم، فأجازوها للمصلحة.
فقال ابن كثير رحمه الله: "وقول ابن عباس ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة والحسن، وقتادة: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)) فيه نظر أيضا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفا، فإنه تجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، يوم الحديبية، فلا منافاة، ولا نسخ ولا تخصيص. والله أعلم". [تفسير القرآن العظيم (4/84) تحقيق سامي بن محمد السلامة.
ومما استدل به القائلون بالنسخ، أن الله تعالى نهى المسلمين، أن يدْعوا عدوهم إلى المهادنة والمسالمة، لأنهم الأعلون عليهم بدينهم الحق، كما في آية محمد السابقة: ((فلا تهنوا... ) الآية.
ومعلوم أن للمسلمين عُلُوَّين: علو معنوي، وهو كونهم على الدين الحق الذي لا يقبل الله دينا سواه، فهم الأعلون على غيرهم في هذا، وعلو مادي، وهو القوة التي يستطيعون بها محاربة العدو طلبا أو دفعا، وهي التي أمرهم الله تعالى بها في قوله: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة))
ولا شك أن العلو المعنوي وحده، بدون العلو المادي، غير كاف في تكليف الله تعالى المسلمين قتالَ عدوهم، لأنه تعالى: لا يكلف نفسا إلا وسعها.
ولهذا فسر ابن كثير رحمه الله العلو في آية محمد بالعلو المادي، من كثرة العَدَد والعُدَد، فقال: " ثم قال جل وعلا لعباده المؤمنين ((فلا تهنوا)) أي لا تضعفوا عن الأعداء وتدعوا إلى السلم، أي المهادنة والمسالمة ووضع، القتال بينكم وبين الكفار، في حال قوتكم وكثرة عَدَدكم وعُدَّتكم، ولهذا قال: ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)) أي في حال علوكم على عدوكم.(29/183)
فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة، بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة، فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول ا صلى الله عليه وسلم ، حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم r إلى ذلك" [تفسير القرآن العظيم (4/182)
واستدل القائلون بمشروعية الهدنة للمصلح والحاجة، بما صح عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، أنه عقد الهدنة مع مشركي قريش.
كما روى ذلك البراء بن عازب وغيره، قال: "لما أحصر صلى الله عليه وسلم عن البيت، صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابة، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه"
[صحيح البخاري، برقم (2552) وصحيح مسلم، (1783) و"الْجُلُبَّان" قال النووي: "والجلبان بضم الجيم، قال القاضي في المشارق: ضبطناه جُلُبَّان، بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة، قال وكذا رواه الأكثرون، وصوبه ابن قتيبة وغيره، ورواه بعضهم بإسكان اللام، وكذا ذكره الهروي وصوبه هو وثابت، ولم يذكر ثابت سواه" شرح النووي على صحيح مسلم (12/136)]
ومعلوم أنه لا يسار إلى النسخ إلا بدليل يدل عليه، أو يحصل بين النصين تعارض لا يمكن معه الجمع بينهما، وقد أمكن الجمع هنا كما ترى.
وهذا هو رأي جماهير العلماء، بل ذكر النووي رحمه الله الإجماع على جواز الهدنة للمصلحة، فقال "وفي هذه الأحاديث دليل لجواز مصلحة الكفار إذا كان فيها مصلحة، وهو مجمع عليه عند الحاجة..." [شرح النووي على مسلم (12/143)
اختلاف حكم الهدنة باختلاف حال المسلمين ومصلحة الإسلام
فإذا كان المسلمون أقوياء عَددا وعُدَدا، لم تجز لهم المهادنة والمسالمة، إلا لمصلحة راجحة يراها أولو الأمر، كالطمع في إسلام العدو ونحوه.
وإذا كانوا ضعفاء عددا أوعدة، جاز لهم مهادنة عدوهم ومسالمتهم على أساس الصلح المتاح.
قال القرطبي: "قال السدي وابن زيد: "معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم، ولا نسخ فيها. قال ابن العربي وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عز وجل ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم))
فإذا كان السلمون على عزة وقوة ومنعة وجماعة عديدة وشدة شديدة، فلا صلح.... وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه.
وقد صالح رسول ا صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وقد صالح الضمري وأكيدر دومة، وأهل نجران، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده، وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة" [تفسير القرطبي (8/39-41)
قال الجصاص، بعد أن ذكر اختلاف المفسرين في نسخ المعاهدة وعدمه-: "وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين، فالحال التي أمر فيها بالمسالمة، هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم، وقد قال تعالى: ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم)) فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم" [أحكام القرآن للجصاص (4/354)]
وقال الشيرازي الشافعي: " فإن لم يكن فى الهدنة مصلحة، لم يجز عقدها لقوله عز وجل: ((فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم)) وإن كان فيها مصلحة، بأن يرجو إسلامهم، أو بذل الجزية، أو معاونتهم على قتال غيرهم، جاز أن يهادن..." المهذب (2/259)
و قال ابن قدامة الحنبلي في شرحه على الخرقي (7590 ) فَصْلٌ: "وَمَعْنَى الْهُدْنَةِ, أَنْ يَعْقِدَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَقْدًا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً, بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ. وَتُسَمَّى مُهَادَنَةً وَمُوَادَعَةً وَمُعَاهَدَةً, وَذَلِكَ جَائِز, بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ((بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)).
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)). وَرَوَى مَرْوَانُ, وَمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ, "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ, سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو بِالْحُدَيْبِيَةِ, عَلَى وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ سِنِينَ"، وَلأنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ, فَيُهَادِنُهُمْ حَتَّى يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ.
وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ إلا لِلنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ; إمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمْ ضَعْفٌ عَنْ قِتَالِهِمْ, وَإِمَّا أَنْ يَطْمَعَ فِي إسْلامِهِمْ بِهُدْنَتِهِمْ, أَوْ فِي أَدَائِهِمْ الْجِزْيَةَ, وَالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ" [المغني (9/238) ويراجع كتابه الكافي (4/340)(29/184)
والذي يظهر رجحانه، أن عقد الهدنة بين المسلمين وعدوهم، لمصلحة راجحة يراها ولي الأمر الأمين، أمر مشروع ثابت، بكتاب الله تعالى، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وعمل الخلفاء والأئمة من بعده، وعليه أئمة الفقه وعلماء الفتوى...
شروط جواز الهدنة:
واشترط العلماء لجواز الهدنة أربعة شروط، وهي:
الأول: أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه.
الثاني: أن تكون لمصلحة.
الثالث: أن يخلو عقدها عن شرط فاسد.
الرابع أن تكون مدتها معينة يعينها الإمام باجتهاده.
حاشية الدسوقي (2/206)
وسيأتي ذكر الخلاف في بعض هذه الشروط.
من يلي عقد الهدنة؟
الأصل في ما فيه مصالح أو مفاسد، يتأثر بها عامة المسلمين، ألا يتولى شأنها إلا ولي الأمر العام، كالإمام أو من ينوب عنه، الذي يراعي في عقدها مصلحة الأمة ودفع الضرر عنها، ولا يصح لغيره تعاطي ذلك، ومن هذا الباب عقد الهدنة، لما قد يلحق عقد الأفراد من ضرر على الأمة كلها.
وقد مضى على هذه السنة الرسو صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه ومن جاء بعدهم من الأئمة والأمراء.
وعلى هذا الرأي المالكية الشافعية والحنابلة.
قال الشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي ذاكرا شروط الموادعة:
"الأول: أن يكون العاقد لها الإمام أو نائبه"
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/206)
و قال الشيخ الشيرازي الشافعي: "باب الهدنة، لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صقع عظيم، إلا للإمام، أو لمن فوض إليه الإمام، لأنه لو جعل ذلك إلى كل واحد، لم يؤمن أن يهادن الرجلُ أهلَ إقليم، والمصلحة فى قتالهم، فيعظم الضرر، فلم يجز إلا للإمام أو للنائب عنه" [المهذب (2/259)] وعلى هذا جماهير العلماء..
وقال ابن قدامة الحنبلي: قال ابن قدامة: "ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه لأنه عقد يقتضي الأمان لجميع المشركين فلم يجز لغيرهما كعقد الذمة" [لكافي (4/339) وراجع المحرر (2/182)]
ويرى الحنفية أنه لا يشترط في الموادعة إذن الإمام، ما دام فيه مصلحة للمسلمين.
قال الكاساني: "وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ , حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ الْإِمَامُ , أَوْ فَرِيقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ ; لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وُجِدَ" [بدائع الصنائع. سبق قريبا و شرح فتح القدير لابن الهمام. (6/108)]
وقد توجد بلدان إسلامية، اغتصبتها دول كافرة، ولا توجد للمسلمين فيها حكومة، وبها جماعات إسلامية لا تجمعها قيادة واحدة، فالواجب على هذه الجماعات كلها، أن تجتمع على قيادة جهادية واحدة تتفق عليها حيث أمكن، تكون قادرة على جمع كلمتها وجهاد العدو بها، فإذا تعذر على الجماعات الاجتماع على قيادة واحد، بسبب تفريق العدو بينها، فلتختر كل جماعة من يقودها، في مناطقها، ولتحاول قيادات المجاهدين التنسيق فيما بينها حسب الإمكان، كالحال في جنوب الفيليبين، وفي بعض البلدان الإسلامية الأخرى.
ويكون عقد الهدنة مع العدو عند الضرورة أو المصلحة، هو أمير الجماعة الواحدة، أو أمراء الجماعات المتفرقة، بحسب حالة كل جماعة.
وفي ذلك شبه بأهل الثغور الذين يرابطون بإزاء العدو في أطراف بلاد الإسلام، فإنهم قد يضطرون إلى عقد الهدنة مع عدوهم، بدون الرجوع إلى ولي الأمر العام، لما في تأخير عقد الهدنة من مضرة قد تنزل بالمرابطين.
كما قال الجصاص: "وكذلك قال أصحابنا، إذا قدر بعض أهل الثغور على قتال العدو ومقاومتهم، لم تجز لهم مسالمتهم، ولا يجوز لهم إقرارهم على الكفر إلا بالجزية. وإن ضعفوا عن قتالهم جاز لهم مسالمتهم، كما سالم صلى الله عليه وسلم كثيرا من أصناف الكفار وهادنهم على وضع الحرب بينهم" [أحكام القرآن للجصاص (4/354)]
مدة الهدنة
مدة مهادنة الرسول لقريش
اختلف في المدة المهادنة التي عقد الرسو صلى الله عليه وسلم عليها المهادنة عام الحديبية، بينه وبين أهل مكة من المشركين:
فنقل عن ابن جريج، أنها ثلاث سنين.
ونقل عن عروة، أنها أربع سنين.
ونقل عن ابن إسحاق أنها عشر سنين.
وعلى هذا جمهور أهل العلم. [يراجع تفسير القرطبي (8/39) وما بعدها، وبداية المجتهد لابن رشد (1/283)]
واختلف العلماء في المدة التي يجوز للمسلمين، مهادنة أعدائهم عليها، ولهم في ذلك أربعة أقوال:
القول الأول: للإمام الشافعي رحمه الله
وهو إلى أنها لا تزيد عن أربعة أشهر، إذا كان المسلمون أقوياء قادرين على قتال عدوهم، واستدل بقوله تعالى في سورة التوبة: ((فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين)) [التوبة (2)]
وله قول آخر، وهو أن للإمام أن يزيد المدة على أربعة أشهر إذا دعت إليها الحاجة واقتضتها المصلحة، بشرط أن تكون أقل من سنة، ولا تجوز لسنة فما فوق، لأنه يجب إقامة الجهاد وأخذ أخذ الجزية كل سنة، والهدنة تعطل ذلك، مع قدرة المسلمين وقوتهم.(29/185)
أما إذا كان المسلمون ضعفاء، فيجوز لهم عقد الهدنة أكثر من ذلك، بحسب الحاجة، فإذا كانوا يحتاجون إلى خمس سنوات، وجب عقد الهدنة عليها، ولا تجوز الزيادة عليها، ولا تجوز الزيادة على عشر سنين.
واحتج لذلك بمهادنة الرسو صلى الله عليه وسلم المشركين عام الحديبية، فإذا انقضت المدة، وتبين لهم الحاجة إلى استمرار الهدنة، جاز استئنافها. [المهذب (2/259) وراجع كتاب البيان، للعلامة العمراني اليمني (12/302)]
القول الثاني: مذهب جمهور العلماء، وهو أنه يجوز للمسلمين، سواء كانوا أقوياء أو ضعفاء، عقد الهدنة لعشر سنين، فأقل، إذا رأوا المصلحة في ذلك، ولا يجوز لأكثر من عشر سنين.
واستدلوا بفعل الرسو صلى الله عليه وسلم ، في قصة الحديبية، فإن زادت المدة على العشر بطل العقد فيما زاد عليها، وإذا انقضت المدة وظهر للمسلمين أن المصلحة في تجديدها، جاز استئنافها من جديد.
ولا يجوز عندهم عقد الهدنة مطلقا أي بدون تحديد زمن معين، لأن إطلاقه يقتضى التأبيد، وهو يعود على أصل الجهاد والجزية بالنقض والإبطال، وهو ما لا يجوز في شرع الله. [نفس المصدر، وراجع كشاف القناع (3/111) للشيخ منصور بن يونس البهوتي]
القول الثالث: جواز عقد الهدنة لمدة محددة، قلت أو كثرت ولو زادت عن عشر سنين، ويجب الوفاء بها، ولا يجوز نقضها إلا إذا خاف المسلمون من نقض العدو بظهور أمارات تدل على إرادة النقض.
قال ابن الهمام الحنفي: "ولا يقتصر الحكم وهو جواز الموادعة على المدة المذكورة وهى عشر سنين لتعدى المعنى الذى به علل جوازها وهو حاجة المسلمين، أو ثبوت مصلحتهم فإنه قد يكون بأكثر..." [شرح فتح القدير (5/456)]
القول الرابع: جوازها محددة بزمن طويل أو قصير، وجواز أن تكون مطلقة، ما دام في ذلك مصلحة راجحة، وعقد الهدنة المطلقة جائز، وليس بلازم، بحيث إذا تبين للمسلمين أن المصلحة تقتضي قطع الهدنة، فللمسلمين نقضها بشرط أن ينبذوا إلى عدوهم عهده على سواء، وهو أن يبينوا لهم بيانا واضحا أنهم يريدون نقض العقد المبرم بينهم، فلا يأخذوا العدو على غرة.
ونصر هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: " تيمية: "بَابُ الْهُدْنَةِ، وَيَجُوزُ عَقْدُهَا مُطْلَقًا وَمُؤَقَّتًا، وَالْمُؤَقَّتُ لازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا لَمْ يَنْقُضْهُ الْعَدُوُّ، وَلا يُنْقَضُ بِمُجَرَّدِ خَوْفِ الْخِيَانَةِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ, وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ يَعْمَلُ الإمَامُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ". [الفتاوى الكبرى (4/612)]
وفصل القول في موضع آخر، بذكر الأدلة على رأيه، وأرى أن أثبت منه النص المناسب مع طوله، لأنه - فيما أرى - يناسب هذا العصر الذي يحتاج فيه المسلمون إلى فقه يبين لهم السبيل، ويزيل عنهم الشبهات والتضليل، فقال رحمه الله:
" وَمَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: إنَّ الْهُدْنَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مُؤَقَّتَةً، فَقَوْلُهُ - مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأُصُولِ أَحْمَد - يَرُدُّهُ الْقُرْآنُ وَتَرُدُّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفِي أَكْثَرِ الْمُعَاهَدِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ مَعَهُمْ وَقْتًا.
فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَهْدُهُ مُوَقَّتًا فَلَمْ يُبَحْ لَهُ نَقْضُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ((إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة (4)]
وَقَالَ: ((إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة (7)]
وَقَالَ: ((وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)) [الأنفال (58)] فَإِنَّمَا أَبَاحَ النَّبْذَ عِنْدَ ظُهُورِ إمَارَاتِ الْخِيَانَةِ; لأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْ جِهَتِهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)) [الصف (2،3)] الْآيَةَ
والأحاديث فى هذا كثيرة، مثل ما في الصحيحين عن عبدالله بن عمر، قالَ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، و من كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، و إذا و عد أخلف، و إذا عاهد غدر، و إذا خاصم فجر). البخاري، برقم (34) ومسلم، برقم (58)
و فى الصحيحين عن عبدالله بن عمر، قال قالَ رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة) [البخاري، برقم (6694) ومسلم، برقم (1735)
و فى صحيح مسلم عن أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه و سلم، قال: (لكل غادر لواء عند أسته يوم القيامة) و فى رواية: (لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به بقدر غدرته، ألا و لا غادر أعظم غدرة من أمير عامة) [برقم رقم: (1738)](29/186)
و فى صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب، قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم، إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، و فيمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: (اغزوا باسم الله فى سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا و لا تغلوا، و لا تغدروا، و لا تمثلوا، و لا تقتلوا و ليدا، و إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم الى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم و كف عنهم) الحديث. [مسلم، برقم (1731) فنهاهم عن الغدر كما نهاهم عن الغلول.
و في الصحيحين عن ابن عباس، عن أبى سفيان بن حرب، لما سأله هرقل عن صفة النبى صلى الله عليه و سلم: "هل يغدر؟ فقال: لا يغدر و نحن معه فى مدة لا ندري ما هو صانع فيها، قال ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا إلا هذه الكلمة. و قال هرقل فى جوابه: سألتك هل يغدر؟ فذكرت أنه لا يغدر، و كذلك الرسل لا تغدر" فجعل هذا صفة لازمة للمرسلين. [حديث أبي سفيان في البخاري، برقم (7) وهو حديث طويل].
و فى الصحيحين عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) فدل على استحقاق الشروط بالوفاء، و أن شروط النكاح أحق بالوفاء من غيرها. [الحديث في البخاري، برقم (2572) ومسلم، برقم (1418)]
و روى البخاري عن أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه و سلم، قالَ قال الله تعالى: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، و رجل باع حرا ثم أكل ثمنه، و رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه و لم يعطه أجره). فذم الغادر. و كل من شرط شرطا ثم نقضه فقد غدر. [الحديث في صحيح البخاري، برقم (2114)]
فقد جاء الكتاب و السنة بالأمر بالوفاء بالعهود و الشروط و المواثيق و العقود، و بأداء الأمانة و رعاية ذلك، و النهي عن الغدر و نقض العهود و الخيانة و التشديد على من يفعل ذلك...." انتهى كلام ابن تيمية من [مجموع الفتاوى(29/140-146]
وقد لخصت الموسوعة الفقهية هذه المسألة في السطور الآتية:
مُدَّةُ الْهُدْنَةِ: 14 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ, كَمَا "وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمأَهْلَ مَكَّةَ".
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ دُونَ تَحْدِيدٍ, مَا دَامَتْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ, لقوله تعالى: ((فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ)).
وَيَرَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ, اسْتِنَادًا إلَى مَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمفِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. فَإِنْ هُودِنَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْهُدْنَةُ مُنْتَقَضَةٌ ; لِأَنَّ الأَصْلَ فَرْضُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. وَالتَّفْصِيلاَتُ فِي مُصْطَلَحِ ( هُدْنَةٌ ). انتهى.
خلاصة الكلام: أن الهدنة مشروعة، لمصلحة الإسلام والمسلمين، فهي من المسائل التي يخضع حكمها للاجتهاد، وقد تدعو إليها الحاجة أو لضرورة، وإذا لم تكن فيها مصلحة، ولم تدع إليها الضرورة، فلا يجوز عقدها.
وأن مدتها تابعة لتلك المصلحة أو الضرورة، فتقدر بقدرها قلة وكثرة، وتوقيتا وإطلاقا...
وقد أفتى شيخنا العلام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، أن الصلح مع اليهود لا تقتضي تمليكهم الأرض الفلسطينين، بل للمسلمين عندما يقوون على طردهم في الهدنة المطلقة، أن يطردوهم منها.
"الصلح مع اليهود لا يقتضي التمليك أبديا
http://www.binbaz.o r g.sa/Display.asp?f=slh00008
س2: هل تعني الهدنة المطلقة مع العدو إقراره على ما اقتطعه من أرض المسلمين في فلسطين، وأنها قد أصبحت حقا أبديا لليهود، بموجب معاهدات تصدق عليها الأمم المتحدة التي تمثل جميع أمم الأرض. وتخول الأمم المتحدة عقوبة أي دولة تطالب مرة أخرى باسترداد هذه الأرض أو قتال اليهود فيها ؟
ج2: الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود، لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة.
وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .(29/187)
وهكذا النصارى والمجوس ؛ لقول الله سبحانه في سورة التوبة: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] ، وقد ثبت في الصحيح عن صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من المجوس
وبذلك صار لهم حكم أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط إذا لم يسلموا.
أما حل الطعام والنساء للمسلمين فمختص بأهل الكتاب ، كما نص عليه كتاب الله سبحانه في سورة المائدة . وقد صرح الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة الأنفال: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا الآية [الأنفال: 61] بمعنى ما ذكرنا في شأن الصلح". [انتهى كلام الشيخ.]
عقد الهدنة على مال
يجوز عقد الهدنة بدون أخذ المسلمين مالا من عدوهم، كما هو الحال في هدنة الحديبية.
ويجوز عقدها على مال يأخذه المسلمون من عدوهم، كما فعل الرسو صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، بعد الانتصار عليهم، فأقرهم على البقاء وعلى أن يعملوا ويؤدوا النصف، لما فيه من المصلحة، وليس المال الذي يؤخذ منهم في هذه الحالة، من الجزية في شيء، لأن شرط أخذ الجزية منهم، أن تنفذ عليهم أحكام المسلمين.
وهل يجوز أن يعقد المسلمون الهدنة، على أن يدفعوا لعدوهم الكافر مالا؟
الأصل أنه لا يجوز ذلك، لأن المسلمين هم الأعلون، ويجب أن يحافظوا على عزتهم وعلو شأنهم، لكن قد تنزل بالمسلمين نوازل فيها من الابتلاء والفتنة، ما لا طاقة لهم به، بحيث لو لم يبذلوا المال لعدوهم لأنزل بهم أشد الضرر، من قتل رجالهم وسبي نسائهم، وهدم منازلهم، وإفساد مزارعهم، وتسميم مياههم...
ففي هذه الحال يجوز للمسلمين، أن يعقدوا مع عدوهم الهدنة على مال يأخذه منهم، بشروط تحقق لهم ما أمكن من دفع الفساد الذي قد يصيبهم، إذا لم يوافقوا على الهدنة بمال يأخذه منهم العدو، لأن إعطاءه المال أخف ضررا، من إزهاق أرواحهم وانتهاك أعراضهم.
والدليل على ذلك ما كان يريد فعله الرسو صلى الله عليه وسلم ، من الصلح يوم الأحزاب، من موادعة عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهم عنهم، ولقاعدة الضرورات تبيح المحظورات.
قال المهلب: "إنما قاضاهم صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول ا صلى الله عليه وسلم عن مكة حين توجه إليها فبركت، وقال حبس حابس الفيل على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة، ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم إذا رأى ذلك الإمام وجها.
ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، لموادعة صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهم عنهم" [تفسير القرطبي (8/39 وانظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/283)]
وقال الشيرازي رحمه الله: "ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم، لان فى ذلك مصلحة للمسلمين، ولا يجوز بمال يؤدى إليهم لغير ضرورة، لأن فى ذلك إلحاق صغار بالإسلام، فلم يجز لغير ضرورة، فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار بالمسلمين وخافوا الاصطلام...." [المهذب (2/259) واستدل بعرض ثلث ثمار المدينة على غطفان يوم الأحزاب..]
وقال ابن قدامة رحمه الله: "فَصْلٌ: وَتَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَادَنَهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى غَيْرِ مَالٍ.
وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ ; فَإِنَّهَا إذَا جَازَتْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ , فَعَلَى مَالٍ أَوْلَى.
وَأَمَّا إنْ صَالَحَهُمْ عَلَى مَالٍ نَبْذُلُهُ لَهُمْ, فَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ, وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ; لِأَنَّ فِيهِ صَغَارًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ.
فَأَمَّا إنْ دَعَتْ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ, وَهُوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْهَلاَكَ أَوْ الْأَسْرَ, فَيَجُوزُ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ للأَسِيرِ فِدَاءُ نَفْسِهِ بِالْمَالِ , فَكَذَا هَا هُنَا, وَلأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ إنْ كَانَ فِيهِ صَغَارٌ, فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَحَمُّلُهُ لِدَفْعِ صَغَارٍ أَعْظَمَ مِنْهُ, وَهُوَ الْقَتْلُ, وَالْأَسْرُ, وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يُفْضِي سَبْيُهُمْ إلَى كُفْرِهِمْ.(29/188)
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ, فِي الْمَغَازِي, عَنْ مَعْمَر, عَنْ الزُّهْرِيِّ, قَالَ: "أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلمإلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ, وَهُوَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ - يَعْنِي يَوْمَ الْأَحْزَابِ -: (أَرَأَيْت إنْ جَعَلْت لَك ثُلُثَ تَمْرِ الْأَنْصَارِ, أَتَرْجِعُ بِمَنْ مَعَك مِنْ غَطَفَانَ, وَتَخْذُلُ بَيْنَ الأَحْزَابِ)؟ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُيَيْنَةُ: إنْ جَعَلْت لِي الشَّطْرَ فَعَلْت". قَالَ مَعْمَرٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ , "أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ يَجُرُّ سُرْمَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي عَامِ السَّنَةِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ, مَا يُطِيقُ أَنْ يَدْخُلَهَا, فَالآنَ حِينَ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلاَمِ, نُعْطِيهِمْ ذَلِكَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَنَعَمْ إذًا). وَلَوْلا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ , لِمَا بَذَلَهُ النَّبِيُّ r" [المغني (9/239) وراجع الكافي له (4/340)]
متى يشرع للمسلمين نبذ العهد إلى عدوهم؟
الأصل عند المسلمين الوفاء بالعقود والعهود، امتثالا لأمر الله تعالى واقتداء بسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، فقد قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)) [(1) المائدة]
وقال تعالى: ((وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا)) [الإسراء (34)]
ولا فرق في وجوب الوفاء بالعهد، بين أن يكون المعاهَد مسلما أو كافرا، ولهذا قال تعالى:
((إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة (4)]
وَقَالَ: ((إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة (7)]
وسبق قريبا ذكر بعض الأحاديث الموجبة للوفاء بالعهد، حيث جعل الرسو صلى الله عليه وسلم ، الغدر من صفات المنافقين: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، و من كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، و إذا و عد أخلف، و إذا عاهد غدر، و إذا خاصم فجر). هذا هو الأصل عند المسلمين، وهو الوفاء بالعقود والعهود، وعدم نقضها بغير سبب شرعي.
ولكن الله تعالى يعلم بأن غالب أعداء المسلمين، لا يفون لهم بعهودهم، كما يفي لهم بذلك المسلمون، بل يخونونهم ويغدرون بهم، ولهذا حذر الله تعالى المسلمين من خيانة أعدائهم وغدرهم بهم، وأمرهم بالتنبه لهم واليقظة لخداعهم، وأمرهم إذا ظهرت لهم أمارات الخيانة منهم، أن يطرحوا إليهم عهودهم بوضوح تام، حتى يكونوا على علم مساو لعلم المسلمين، بأنهم لم يعودوا في حالة سلم، بل أصبحوا في حالة حرب، كما كانوا قبل المهادنة، فقال تعالى:
((وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين)) [الأنفال (58)]
وهذا من محاسن الإسلام وخلال المسلمين: أمانة لا خيانة، وصدق لا كذب، ووفاء لا غدرن بخلاف أعدائهم في ذلك كله.
ومن هنا يجب فهم أمر الله للمسلمين، بالميل إلى السلم، إذا مال عليه عدوهم، كما سبق في قوله تعالى: ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)) [الأنفال (61)] فلا يجوز أن يسالم المسلم من لا يسالمه، ولا يجوز أن يدعو عدوه إلى السلم وهو قوي قادر، أن يخضع لعدوه ويتخلى عن إخراج الناس من الظلمات إلى النور، برفع راية الجهاد في سبيل الله، الذي لا يرهب طغاةُ الأعداء سواه، ولا يَقِفُهم عن العدوان على المسلمين وغيرهم غيرُه.
وهذا ما سطره الواقع في تاريخ الأمم قديما وحديثا، ونحن اليوم نشاهده في عدوان اليهود وأعوانهم من النصارى المعتدين، في كل البلدان الإسلامية، وبخاصة في أرض فلسطين المباركة، التي لا يخفى شأنها على أحد.
ولا يجوز كذلك أن يخدع المسلمين أعداؤُهم، فيُخدعوا، فلا زال خداع أعدائهم وخيانتهم لهم مستمرة، من المشركين في الجزيرة العربية، ومن اليهود في المدينة النبوية، ومن جميع الوثنيين في بلاد فارس والهند وما وراء النهرين، ومن النصارى في كل البلدان والأزمان، من يوم شرقت شمس الإسلام، إلى يومنا هذا، وكيف يخدعهم عدوهم، وقد بان الصبح لذي عينين؟
فللمسلمين مع عدوهم المعاهد أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يغلب على ظنهم وفاؤهم بالعهد، فعلى المسلمين الوفاء بعهدهم، وعدم نقضه، كما مضى.
الحالة الثانية: أن يتوهموا نقضهم العقد، بدون أمارة تدل عليه، وحكم هذه الحالة حكم الحالة الأولى، لأن مجرد الخوف بدون دليل لا يسوغ لهم نقض العهد، وإن كان يجب عليهم الحذر.(29/189)
وهذا قال ابن قدامة: "فصل وإن خاف الإمام نقض العهد منهم، جاز أن ينبذ إليهم عهدهم لقوله تعالى ((وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء)) الأنفال. يعني أعلمهم بنقض العهد، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم، ولا يكتفي بمجرد الخوف" [الكافي (4/345)
وقال ابن العربي، رحمه الله: "الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ قِيلَ : كَيْفَ يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ, وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لاَ يَقِينَ مَعَهُ, فَكَيْفَ يَسْقُطُ يَقِينُ الْعَهْدِ بِظَنِّ الْخِيَانَةِ؟
فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخَوْفَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ, كَمَا يَأْتِي الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ; كَقَوْلِه: ((لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)) .
الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ, وَثَبَتَتْ دَلاَئِلُهَا وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ, لِئَلاَّ يُوقِعَ التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ, وَجَازَ إسْقَاطُ الْيَقِينِ هَاهُنَا بِالظَّنِّ لِلضَّرُورَةِ, وَإِذَا كَانَ الْعَهْدُ قَدْ وَقَعَ فَهَذَا الشَّرْطُ عَادَةٌ, وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَفْظًا; إذْ لاَ يُمْكِنُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا" [أحكام القرآن في تفسير الآية، وراجع تفسير القرطبي.]
الحالة الثالثة: أن تظهر لهم أمارات ودلائل على إرادتهم الخيانة ونقض العهد على غرة من المسلمين، وهذه الحالة هي التي يجب على المسلمين، أن ينبذوا إليهم عهدهم على سواء.
والراجح في معنى قوله تعالى ((على سواء)) ما قاله الجصاص:"أَلْقِ إلَيْهِمْ فَسْخَ مَا بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ مِنْ الْعَهْدِ وَالْهُدْنَةِ، حَتَّى يَسْتَوِيَ الْجَمِيعُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ. ... لِئَلاَّ يَتَوَهَّمُوا أَنَّك نَقَضْت الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ" [أحكام القرآن]
الحالة الرابعة: أن يظهر المعَاهَدون خيانتهم، بحيث يعملون ما هو نقض صريح للعهد، وفي هذه الحالة يجب على المسلمين أن يغزوهم ويطبقوا عليهم أحكام الجهاد في سبيل الله، دون إنذار لهم ولا نبذ لعهدهم، لأنهم قد نقضوا العهد، فلم يعد له بقاء.
كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:
" وَإِذَا نَقَضَ الَّذِينَ عَقَدُوا الصُّلْحَ عَلَيْهِمْ, أَوْ نَقَضَتْ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَمْ يُخَالِفُوا النَّاقِضَ بِقَوْلٍ, أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا الإِمَام, أَوْ يَعْتَزِلُوا بِلاَدَهُمْ وَيُرْسِلُوا إلَى الإِمَامِ إنَّا عَلَى صُلْحِنَا, أَوْ يَكُونَ الَّذِينَ نَقَضُوا خَرَجُوا إلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ, أَوْ أَهْلِ ذِمَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُعِينُونَ الْمُقَاتِلِينَ, أَوْ يُعِينُونَ عَلَى مَنْ قَاتَلَهُمْ مِنْهُمْ فَلِِلإِِمَامِ أَنْ يَغْزُوَهُمْ, فَإِذَا فَعَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ إلَى الإِمَامِ خَارِجٌ مِمَّا فَعَلَهُ جَمَاعَتُهُمْ، فَلِلإِمَامِ قَتْلُ مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيُ ذَرَارِيِّهِمْ وَغَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ، كَانُوا فِي وَسَطِ دَارِ الْإِسْلاَمِ, أَوْ فِي بِلاَدِ الْعَدُوِّ.
وَهَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ r، بِبَنِي قُرَيْظَةَ عَقَدَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُهُمْ الصُّلْحَ بِالْمُهَادَنَةِ فَنَقَضَ, وَلَمْ يُفَارِقُوهُ، فَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ r، فِي عُقْرِ دَارِهِمْ وَهِيَ مَعَهُ بِطَرَفِ الْمَدِينَةِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى ذَرَارِيِّهِمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ" [الأم (4/186)]
حكم من نقض العهد من أهل الذمة.
هذا وليعلم أن حكم أهل الذمة، إذا نقضوا العهد، هو حكم المحاربين المعاهدين الذين نقضوا العهد، يحاربون ويقتلون، إلا أن ذرية أهل الذمة الذين ولدوا قبل العهد،ولم يبلغوا سن الرشد، عند نقض آبائه، لا يسبون ولا يسترقون،
أما من ولد منهم بعد النقض، فيسبون ويسترقون.
قال ابن قدامة: ( 7588 ) "مسْأَلَةٌ ; قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ, فَنَقَضُوهُ حُورِبُوا, وَقُتِلَ رِجَالُهُمْ, وَلَمْ تُسْبَ ذَرَارِيُّهُمْ, وَلَمْ يُسْتَرَقُّوا, إلاَّ مَنْ وُلِدَ بَعْدَ نَقْضِهِ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ.....فَإِنَّهُ يُقْتَلُ رِجَالُهُمْ, وَلا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ الْمَوْجُودُونَ قَبْلَ النَّقْضِ, لأَنَّ الْعَهْدَ شَمِلَهُمْ جَمِيعًا, وَدَخَلَتْ فِيهِمْ الذُّرِّيَّةُ, وَالنَّقْضُ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ رِجَالِهِمْ, فَتَخْتَصُّ إبَاحَةُ الدِّمَاءِ بِهِمْ..." [المغني (9/237)]
حكم العهد مع العدو المحتل لأرض المسلمين
كان ما تقدم من حكم إبرام الهدنة أو نقضها، مع عدو عقد المسلمون معه عهد الهدنة وهو في بلاده كحال قريش في مكة، أو أهل ذمة أمِنوا على دمائهم وذراريهم وأموا لهم، في ظل الدولة الإسلامية.(29/190)
وبقي الكلام على حالة أخرى، وهي أن يحتل العدو أرض المسلمين أو أحد أقاليمها، كما حصل في القرن الماضي، عندما احتل الأوربيون غالب بلدان المسلمين، وكما هو الواقع اليوم في الأرض المباركة "فلسطين" وبلاد "الشيشان" ونحوهما.
هذه الحالة في حاجة إلى إيضاح وبيان
معلوم أن الجهاد في سبيل الله، يكون فرض عين في ثلاث حالات، والذي يهمنا هنا التذكير بحالتين:
الحالة الأولى: أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، فيجب وجوبا عينيا على كل قادر من أهل البلد المعتدى عليه، رجالا ونساء شبابا وشيبا، أن يدفعوا العدوان عن بلدهم، ومن تأخر منهم عن ذلك فهو آثم.
الحالة الثانية: أن يستنفر ولي الأمر المسلمين، فيجب على كل قادر منهم تلبية النفير، ولا يجوز له التأخر، ومن تأخر منهم عن ذلك فهو آثم، واستنفار ولي الأمر رعيته في هذه الحالة واجب، وإذا لم يفعل فهو آثم، لأنه راع وكل راع مسئول عن رعيته.
وإذا قُدِّر امتناعُ مَن تولى أمرَ المسلمين عن استنفارهم لدفع العدو عن بلدهم مع القدرة على مقاومة العدو وطرده، فإنه يجب على أهل الحل والعقد من العلماء والمفكرين والساسة وأعيان البلاد، إقامة من يقودهم للجهاد في سبيل الله واستنفار الناس لدفع العدوان، ولا يجوز لهم القعود عن ذلك، لما فيه من الهوان والصغار لأهل الإسلام.
وإذا عجز أهل البلد عن الانتصار على عدوهم، وجب على من يليهم من البلدان، الأقرب فالأقرب نصرهم، وكل من قعد عن نصرهم من المسلمين، مع قدرته على ذلك بالنفس أو المال، أو بكليهما، فهو آثم، كما سبق في مبحث حكم الجهاد.
وإذا عجز أهل البلد عن مقاومة العدو، ولم يقم بقية المسلمين بنصرتهم، وهي فرض عين عليهم، أو كانوا غير قادرين، فلهم بسبب عجزهم أن يعقدوا مع عدوهم هدنة مؤقتة، بحسب حاجتهم، لأن التكليف منوط في شرع الله بالقدرة، ومن لا قدرة له، لا يكلفه الله غير ما يستطيع: ((لا يكلف الله نفسا إلا وسعها))
ويجب مع ذلك أن يعدوا أنفسهم لاستئناف الجهاد عندما يشعرون بالقدرة عليه.
ويجب عليهم أن يقوموا بإعداد العدة التي يرهبون بها عدوهم ويعزموا على مجاهدته عند القدرة على ذلك، ولا يجوز لهم عقد الهدنة عازمين على الاستسلام الدائم وتمكين المعتدي من استعبادهم واستعباد أجيالهم.
ومعلوم أن طرد المحتلين من البلدان الإسلامية أو غيرها، لا يتم إلا بالصبر على إزهاق النفوس والأموال وتخريب الديار، وإهلاك الحرث والنسل، ولكن العاقبة تكون للصابرين المصابرين من أهل البلد المغتصب، لأنهم أهل حق، والمغتصبون أهل باطل، وأهل البلد أكثر ثباتا في بلدهم من عدوهم الطارئ عليه.
وفي التاريخ من ذلك عبر وبراهين، فقد اغتَصَبت إمبراطوريات، بلدانا كثيرة في العالم، وعاثت فيها فسادا، ولكنها في آخر الأمر انسحبت منها تجر أذيال الهزيمة.
ومن أقرب الدول الأوربية المغتصبة، في القرون الأخيرة، حيث لم يبق بلد في العالم غير مغتصب لدولة من دولها، وقد أخلت تلك البلدان كلها بسبب مقومة أهلها الجادة، وهذه بريطانيا التي كان يقال عنها: لا تغرب عنها الشمس، أصبحت شبيهة بضب مختف في جحره...
وكذلك فرنسا وألمانيا وهولندا والبرتغال....
ومن الأمثلة الحية لذلك هزيمة الطاغوت المتغطرس اليوم "أمريكا" في فيتنام..
ومن الأمثلة كذلك هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، وتفكك الدول التي كان قد ضمها إليه بالقوة والظلم.
ونحن واثقون بأن الفلسطينيين، لو اجتمعت كلمتهم، ووجدوا من يمدهم بالمال الذي يوفر لهم حاجاتهم الضرورية، ومنها السلاح المتيسر، فإنهم سينتصرون على عدوهم من اليهود، مهما طال الأمد، ومهما طغوا وأمدهم الأمريكان بالمال والسلاح، وغير ذلك... ولقد زلزل أقدام اليهود شباب باع نفسه لله تعالى، مع ضعفه المادي، وقلة عدده ومحاربة بعض أبناء بلده له، وتكاتف دول العالم ضده، وخذلان الدول العربية له.
ومع ذلك اضطر كثير من اليهود إلى الهجرة المعاكسة، وهي الهرب من فلسطين، إلى الخارج، بدلا من الهجرة القوية من الخارج إلى فلسطين، وأصيب اقتصاد اليهود بنكسة شديدة، وبدأ بعض أفراد الجيش يظهرون عصيانهم للحرب ضد الفلسطينيين، ويدعون غيرهم إلى الانضمام إليهم...
ومن لا يعلم بجهاد الشعب الجزائري ضد المغتصب الفرنسي، ثم انتصاره عليه في النهاية...وهكذا عامة دول العالم؟
الخلاصة: جواز الهدنة مع العدو لمصلحة راجحة شرعية، مع العزم على إقامة علم الجهاد والإعداد، ولا تجوز هدنة لا مصلحة فيها للمسلمين، بل فيها مضر أو استعباد.
ونقول للمجاهدين في البلدان الإسلامية وبخاصة فلسطين، إنه يجب أن يوازنوا بين استمرار جهادهم، وعدم الاستجابة للهدنة، وبين وقف الحرب ضد العدو وعقد هدنة معه، فإن رأوا أن المصلحة في استمرار في الجهاد، وأن الضرر الذي يترتب على ذلك، أقل مفسدة عليهم من الهدنة، فعليهم أن يستعينوا بالله ويستمروا في جهاد عدوهم.
وإن رأوا أن المصلحة في عقد الهدنة، وأن ما يترتب على ذلك أعظم مصلحة وأقل مفسدة من استمرار الجهاد المسلح، فليقدموا على الهدنة، ويجتهدوا في الإعداد لجهاد عدوهم مستقبلا.(29/191)
وعندما يغلب على ظنهم القدرة على استئناف الجهاد، وأن المصلحة في ذلك هي الراجحة، فليستأنفوا جهادهم، والله ناصرهم ومعينهم.
هذا مع يقيننا أن العدو اليهودي، سينقض عهده، ويبادر بإلغاء الهدنة عملا، فقد علمنا كتاب الله وسيرة رسوله، وواقع اليهود من يوم وجدوا إلى اليوم، أنهم لا يفون بوعد، ولا يستمرون في إبرام عهد، وأنهم سيغدرون بمن يثقون فيهم ويتعاونون معهم، وأن العاقبة ستكون للجهاد والمجاهدين، لا للمستسلمين والمنهزمين.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
===============(29/192)
(29/193)
الصهيونية بإيجاز
تأليف الأستاذ / محمد بن علي باخريبه "
إشراف
الأستاذ الدكتور / مصطفى محمد حلمي سليمان
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة
إعداد الطالب
موسى بن محمد بن هجاد الزهراني
للسنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم
2003 -2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) [آل عمران:102].
(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) [النساء:1].
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ .1
وبعد فهذا عرض لكتاب الأستاذ/ محمد على باخريبه "الصهيونية بإيجاز"، أصل ونشأة المخططات الصهيونية العالمية ذات الصبغة العنصرية، وهو كتاب قيم في موضوعه؛ ذلك أن الأمة اليوم بحاجة شديدة إلى معرفة الأطر والأسس والقواعد التي يوفرها ويؤسسها العدو المتربص بالإسلام والمسلمين ويسير عليها، وأخطر عدو يواجه أمة الإسلام اليوم هو اللابس ثوب الصهيونية الضاربة بأطنابها في عقر دار الإسلام تحت ستر شتى: وهو أوضح للعيان في فلسطين اليوم والشيشان والعراق وأفغانستان و ... وهي المتحكمة اليوم في اقتصاديات العالم وسياساته.
وفق الله الكاتب الأستاذ/ محمداً لكل خير، وجزى الله أستاذنا الفاضل، الشيخ الأستاذ الدكتور/ مصطفى حلمي على تشجيعه لنا طلبه الدراسات العليا، الماجستير في عرض مثل هذه المواضيع الهامة، غفر الله له ووفقه للخيرات والصالحات في الدنيا والأخرى ، والله تعالى المستعان وعليه التكلان.
المبحث الأول
"تعريف بالمؤلف"
هو الأستاذ/ محمد بن علي باخريبه، من مواليه حضر موت عام 1962م، مقيم بالسعودية منذ طفولته، وأكمل بها جميع مراحله الدراسية.
يحمل بكالوريوس في الإدارة الصناعية من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، درس في جامعة بورتلاند بالولايات المتحدة الأمريكية، ويحضر حالياً للدراسات العليا.
له كتب وتأليف نافعة جلية في مجال الاقتصاد، ويعمل حالياً مديرا لإحدى الشركات الرائدة بالمنطقة الشرقية بالسعودية.
المبحث الثاني
وصف الكتاب وعرض موجز له:
يقع هذا الكتاب في جزء واحد من القطع الصغير في 221 صفحة أحدى وعشرين ومائتي صفحة، مطبوع بمكتبة جرير بالمملكة العربية السعودية الطبعة الأولى لعام 2001م، ويحتوى على:-
أولاً: التمهيد:
وضمنه المؤلف حفظه الله الأسباب والدوافع التي دعته إلى تأليف هذا الكتاب، ولعل أهمها بل هو الأهم على الإطلاق قضية المسلمين الأولى في هذا العصر، قضية فلسطين واحتلال اليهود الصهاينة لها، والقارئ يلمس مدى حرقة المؤلف على الأوضاع المؤلمة التي وصلت إليها الحال من جراء تسلط الصهيونية، ووقوف العالم بأسره متفرجاً على آثارها القبيحة في العالم الإسلامي عموماً وفلسطين خصوصاً وجعل الهدف من تأليف الكتاب "محاولة الغوص في أعماق أولئك الشراذم من اليهود الذين طغت عليهم الأنانية فنسوا إنسانيتهم، ليسلموها إلى أحقادهم، فكشفت طبيعة الصهيونية التي قلت فيهم كل ما يمت إلى الإنسانية من خلال الجري وراء أطماع غير عقلانية، وعندما تعمد إلى ترقيع اليهودية البالية، للسيادة على العالم بأساليب يتقزز منها العقل ويتبرأ منها الطبع السليم".
وهذا الكتاب جاء بفكرة العرض التسلسلي التاريخي لفكر الصهيونية العنصرية ليفضح تطلعات الصهيونية المستقبلية، وقد استخدم المؤلف نصوصاً مجتزأة أو من بروتوكولاتهم الشريرة تدعيماً للحقائق التي سيذكرها في الكتاب، ثم ختم ذلك بذكر أساليب التصدي لهذه الحركة الشريرة المدمرة عن طريق كشف مؤامراتها ورسم الخطط العامة، للوقوف أمامها ووضع استراتيجيات مستقبلية بعيدة المدى، لإيقاف زحفها، بل والتخطيط لإجهاض حملاتها المسعورة والنيل منها قبل النيل منا.
الفصل الأول
ويشمل مبحثين:
1- تعريف الصهيونية 2- نشأة الحركة الصهيونية.
أولاً: تعريف الصيهونية:(29/194)
عرف المؤلف حفظه الله كلمة صهيون كما فسرها اليهود بمعان ثلاثة:-
1.…مدينة الملك الأعظم.
2.…اسم حصة سماه نبي الله داود.
3.…اسم جبل يقع في شرق القدس.
أما المفهوم السياسي فهي الفلسفة القومية لليهود التي أخذ اليهود تعاليمها من التوراة والتلمود الذي سيطر هو والبروتوكولات على الصهاينة سيطرة كاملة فيسيرون على مخططاتهما، جاعلين مبدأ استهجان الغير مبدأهم الأول.
ثانياً: نشأة الحركة الصهيونية:
يرجع المؤلف نشأة الصهيونية على تهجير اليهود عن فلسطين على يد البابليين في القرن السادس وعلى يد الرومان تيطس 70 ب.م ثم إصرار النصارى على عدم رجوعهم إلى بيت المقدس إبان الفتح الإسلامي إلا أن ظهور منظمة تهتم بهذه الفكرة كان في أغسطس 1897م في مدينة بازل السويسرية حين اجتمع 204 من قادة اليهود وانتخبوا هرتزل رئيسا للمنظمة وقاموا بصياغة البروتوكولات السرية التي افتضح أمرها بعد ذلك.
ويعرف المؤلف اليهود أنهم كتلة بشرية ضئيلة من أول أمرها في الوجود، وعلى هذا أجمع المؤرخون حتى في زمن أنبياء اليهود كانوا حفنة قابلة لأن تذروها الرياح بين إمبراطوريات الشرق، وإن كان هناك جذور لبدء الحركة الصهيونية من سقوط الدولة اليهودية إلى اضطهاد الروس ودخول اليهود إلى الغرب واستعبادهم فإن بوادرها تأسيس حركة تحرير لليهود من نير استعباد الأوربيين وهي التي عرفت باسم الماسونية وكانت تحاول مساعدة اليهود وإخراجهم من محنتهم وخيرتهم بين ست خيارات:-
1.…فمن من رأى أن خلاصهم عن طريق المسيح المنتظر فلجأوا إلى التدين.
2.…ومنهم من رأى أنهم يجب عليهم الذوبان في مجتمع غير اليهود ونسيان الذاتية اليهودية للتخلص من هذه المعاناة.
3.…ومنهم من رأى أن الهجرة من البلاد التي يعانون فيها إلى غيرها من البلدان التي لا تعامل اليهود بعنصرية هي الأجدى .
4.…وبحثوا في فكرة الاستيطان ودعمها من قبل رجالات المال الأثرياء وإنشاء الجمعية اليهودية للاستعمار ولم تكن فلسطين هي المكان الوحيد المقترح بل هناك أمريكا والبرازيل والأرجنتين وغيرهم.
5.…ومنهم من رأى البقاء في أوربا الشرقية لذلك رأوا أن من مصلحتهم الانضمام للحركات الشعبية والسياسية والاقتصادية ثم التملص منها وتحقيق أغراضهم من خلال الحكومات التي نصروها ووضوعوا دساتيرها.
6.…ورفض بعضهم كل الحلول السابقة ورأوا العودة إلى التعاليم التوارتية مهما كلفهم ذلك من مال وجهد ونفس.
ويرى المؤلف أن الشخصية اليهودية متباينة تباينا شديد وما ذاك إلا لما مرت به عبر التاريخ من تجارب، ولذا فإن السمة اللازمة لهم هي الحقد والكراهية والبغض الذي قد يتعدى غير اليهودي إلى اليهود أنفسهم.
ويوضح المؤلف أن الصهيونية هي طريق عودة اليهود إلى فلسطين الذي يسبقه عودتهم إلى اليهودية وأنها لا يمكن أن تحدد لأنها (مبدأ متغير حسب مصلحة معتنقيه)، وكل تعاريفها تدور حول شخصية اليهود الفريدة المتميزة عن باقي شخصيات الشعوب.
ويرى المؤلف أن اليهود لا يشكلون شعباً لأن ديانتهم لا تعطيهم تلك المفاهيم التي يقوم عليها الشعب ، ويرى أنهم جماعات منها السفارديم وهم يهود الشرق الأصليون ، ومنها الأشكناز وهم يهود أوربا ، ورأت الصهيونية أن بإمكانها أن تخلق بينهم تجانساً وتوحيداً بين عقائدهم وهذا كان المسيطر على أفكار القادة من الصهاينة آنذاك.
الفصل الثاني
ويتناول المؤلف فيه:
الهيئة التنظيمية للصهيونية العالمية ، اعتمد الصهاينة على مصدريين لإعطاء المنظمة وجودها:
1.…مصدر عاطفي عميق دائم.. قديم بعمر الدين اليهودي - ويعتمد على الوعد بالعودة إلى اليهودي الأول إبراهيم عليه السلام فيما يزعمون.
2.…مصدر تجديد وعمل وثمرة مؤتمر الفكر السياسي العلمي الناشيء عن ظهور الزمان والمكان والمنبعث من التطورات والثورات التي شهدتها أوربا.
وكان لهذين أثرٌ كبيرٌ في تحقيق ما أراده الصهاينة من خلال القنوات الرئيسية والفرعية التي حددوها في تركيبتها وبنيتها في سبيل تنظيم العمل وتنسيق سريان الوظائف والأعمال التي تقوم بها اللجان والإدارات والوحدات والتنظيمات وترتبط جميعها بهيكله تنظيميه ذات مرجعية مركزية.
ويأخذ المؤلف بعد ذلك في عرض جداول توضيحية عن:-
1.…الهيكل التنظيمي للوكالة اليهودية حتى 1929م.
2.…الهيكل التنظيمي للمنظمة الصهيونية العالمية عام 1982م.
3.…أسماء رؤساء المنظمة الصهيونية العالمية بداية بهرتزل 1897-1904م نهاية بـ ناحوم غولدمان 1956-1968م.
•…ركائز الحركة الصهيونية العالمية:
فتقوم ركائز الصهيونية على أربعة ركائز:-
1.…الروابط التاريخية والدينية القديمة التي تربط اليهود بأرض فلسطين والصهاينة بعهود.
2.…أصل اليهود واحد وهم أصحاب جنسية واحدة هي الجنسية الإسرائيلية.
3.…الأرض الموعودة هي لشعب الله المختار وهي فلسطين وما حولها من النيل إلى الفرات.
4.…أن الرب قد تعهد أن يرقى بذرية إسرائيل في النهاية إلى سيادة العالم وفلسطين قاعدة الإمبراطورية اليهودية المنشودة.(29/195)
ويتكلم المؤلف عن بعض هذه العناصر بالتفصيل موضحاً أن اليهود ليس لهم حق في فلسطين لأنها أرض العرب في مبدأها (ويقصد الكنعايين) ومنها بعرب فلسطين، وما اليهود إلا غزو أتى على أهل الأرض كالفرس والروم والصليبين وغيرهم، فكلامهم على أنهم أصحاب الأرض ليس إلا دعاء وجري وراء السراب.
ويبين أن اليهود لا ينتمون إلى أصل واحد، وأنه لم يتبقى من اليهود الأصليين السفارديم إلا القليل ممن عاش في الشرق والباقي هم أخلاط شتى من الأوربيين الأشكناز الذين اعتنقوا اليهودية من بلاد الخزر إبان قيام مملكتهم في الأرض الروسية فليس لهم اصل سامي ولا تجمعهم جنسية واحدة بل هم جماعات شتى يشتركون في دين واحد.
ويوضح أن وعودهم بالأرض الموعودة والأمبراطورية المنشودة ما هو إلا ضرب من الخيال.
الفصل الثالث
1- أهداف الصهيونية:
يجمل المؤلف أهداف الصهيونية في ستة أهداف وضعت كما يراها (بدقة بحيث تضمن هذه الجماعة من الصهاينة الدعم الشعبي من القاعدة العريضة من اليهود والدعم العالمي من كبرى دول العالم وأصحاب النفوذ في العالم).
الهدف الأول: الدعوة للصهيونية في حواضر العالم المتمدنة، وخاصة بين رجال الحكم والسياسة في الدول التي بيدها مقاليد حكم أغلبية الشعوب. واتخذوا لذلك وسائل إما عن طريق الإقناع والإغراء، بنفوذ أو مال، أو بأساليب مؤثرة على الشخصيات العالمية والمهمة في الدول الرائدة أو عن طريق ممارسة الضغط القهري لتنفيذ المخططات الصهيونية ، كمحاولة "هرتزل" مع السلطان عبد الحميد الثاني، ولا يقف نشاط الصهيونية عن ذلك بل يمتد لسلب خيرات الدول والشعوب.
الهدف الثاني: غرس وتنمية الفكرة الصهيونية في أعماق اليهود حيثما كانوا وحملهم على اعتناقها وتحقيقها، فقضيتهم مبنية على كسب ود الفرد اليهودي وإقناعه بالعمل لأجل الصهيونية، وهذا يؤكده استمرار عملهم إلى الآن، في جمع التبرعات لدعم الدولة اللقيطة، تلك الحملات التي كان لها أثران مهمان في دعم الصهيونية:-
الأول: الأثر المادي.
الثاني: الأثر المعنوي.
الهدف الثالث: إغراء الدول العظمى التي بيدها الحل والعقد بربط مصالحها بمصالح اليهود في إقامة دولتهم في فلسطين والتحدث مع كل دولة بما يتماشى مع هواها وأهدافها القريبة والبعيدة، ولأجل تحقيق هذه الأغراض قاموا بالسيطرة على الأفراد الحاكمة كما مر بالإضافة إلى الحكومات المسيطرة، مع توطين العلاقات بالدول ذات الحل والربط للوصول إلى الأهداف المنشودة، كبريطانيا ووعد "بلفور" المشهور وأمريكا والامتداد الجغرافي والتوسع فيه.
الهدف الرابع: طمأنينة العالم المسيحي على الأماكن المقدمة في فلسطين طالما أنها بعيدة عن سيطرة العرب، وتحت تصرف اليهود الذين سيؤمنون حماية واسعة وصادقة وذلك بتشويه صورة تلك الأماكن تحت حكم المسلمين وجعلهم من المنتهكين لحرماتها وما أشبه اليوم بالبارحة، صليبيو الأمس يهود اليوم ، فالهدف واحد.
الهدف الخامس:هو إقامة دولة إسرائيل في فلسطين وتقوية هذه الدولة حتى يتمكن لها التوسع في المستقبل لتصبح دولة إسرائيل الكبرى.
وقد استطاع اليهود أن يقيموا دولة إسرائيل ، واليوم يزيدون من قوتها للانطلاق في التوسع وتحقيق أهدافهم في السيطرة على الشعوب، ويرجع نجاح مخططاتهم لسببين:-
1.…عدم وضع الأهداف للتنفيذ إلا بعد خطة مدروسة على أسس موضوعية ووضع البدائل لها.
2.…عدم وجود القوى المواجهة التي تتصدى لتلك المخططات لدحضها وفق خطط متناسقة.
كيف حققت الصهيونية أهدافها:-
ببساطة2 اعتمدت المنظمة الصهيونية على مبدأ التخصص في أعمالها، فأسست الهيئات والمكاتب واللجان والفروع المتخصصة ووظفت بكل هيئة مجموعة من العاملين وأعطت كل فرد من أفرادها عملاً حسب تخصصه ، وبهذا أطمأنت إلى أن أعمال جميع برامجها ستتم بنجاح ودون تعطيل أو تأخير من أي جهة مهما كانت ، وحتى لو كانت لدى جهات خارجية قادرة على التأثير سلباً فإنها تتولى بطرقها المشروعة وغير المشروعة تسهيل وتسليك جميع العقبات والعوائق.
تلك المنظمة الصهيونية منظمة متشابكة متداخلة معقدة التركيب فليس عملها بالعمل الهين، فأصل المذهب الميكافيلي هو عقيدة اليهود النفعية ؛ فلذا كانوا يستحلون قتل اليهود أنفسهم للوصول إلى أهدافهم لاعتناق الصهيونية.
أهم التنظيمات التي قام بها مقررو مؤتمر حكماء صهيون:
1.…إنشاء الأحزاب الصهيونية في كافة أنحاء العالم وتحديد مهامها وأنصارها.
2.…رسمت هيكلة لعملها ووضعتها في إطار حديث.
3.…إيجاد رئيس للمنظمة الصهيونية يتبعه نائبان إداريان، الأول رئيس الإدارة الصهيونية الخاص بمشروعها العام. والثاني لإدارة الحركات اليهودية من غير الصهاينة.
4.…يتبع هاتين الإدارتين لجنتان لتنفيذ مشاريع الصهيونية.
5.…جعلت تفريعات خاضعة للجنتين السابقتين متمثلين بدوائر صهيونية متخصصة ومؤسسات مالية يهودية تقديم خدماتها للشعوب اليهودية.
6.…تأسيس الصندوق القومي اليهودي وصندوق النداء الإسرائيلي.
7.…أنشئت الاتحادات الصهيونية في أوربا ومكاتبها منتشرة في أوربا وأمريكا وأفريقيا.(29/196)
8.…أوجدوا مجموعات تنشر الصهيونية ومبادئها وتتابع تطبيق أجندات المؤتمرات الصهيونية.
تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية:
قسمت هذه المنظمة إلى عدة تشكيلات:-
1.…التشكيل السياسي.
2.…التشكيل الاقتصادي.
3.…التشكيل العلمي والثقافي.
4.…التشكيل الإعلامي.
5.…التشكيل الاجتماعي.
ثم يسهب المؤلف في ذكر تفاصيل كل واحدة من هذه التشكيلات وما يخطط اليهودية لنشر الصهيونية والتحكم في العالم والسيطرة على القرار العالمي.
الفصل الرابع
بعض التنظيمات ذات الصلة بالصهيونية
1- المحافل الماسونية: كما يقول المؤلف:
هي جمعية تحوي صنفاً من الناس ينتمون إلى مذاهب وديانات وجنسيات وأوطان مختلفة تضم الملحد والمؤمن والشيوعي والديمقراطي والدكتاتوري والعلماني والقومي والوطني والعربي وغير الغربي والمسلم واليهودي والنصراني والعامل ورب العمل تجمعهم غاية واحدة يعملون لها. ولا يعلم حقيقتها إلا آحاد.
وسواد أعضائها جميعاً عمي القلوب يجهلونها كل الجهل ويوثقهم عهد يحفظ الأسرار وعدم البواح بها، وهي ثلاثة أقسام.
1.…الماسونية الرمزية العامة: وهي مجموع الناس وتحتوي ثلاثة وثلاثين درجة.
2.…الماسونية الملوكية: ولا يسمح لغير اليهود بدخولها عدا من وصل إلى أعلى مراتب الرمزية.
3.…الماسونية الكونية: أعضاؤها جميعاً يهود ويلقب الرئيس بالحكيم ويديرون دفة الأمور.
ويعرض المؤلف للمجددين للماسونية ورؤوسها "كآدم وايز هويت" و "ألبرت بايك" وغيرهم ثم ينتقل الفتاوى الشرعية لعلماء المسلمين بتحريم الانتماء إلى الماسونية كما في المؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة 1974م وفتوى المملكة الأردنية الهاشمية 1964م، وفتوى الأزهر الشريف 1985م، والمجمع الشيعي 1986م، والمجمع الفقهي بمكة 1978م وقرار جامعة الدول العربية 1977م.
نوادي الروتاري:
هي منظمة عالمية لها إدارة معروفة ذات عضوية يشترك بها العضو اختياراً من قبل إدارة النادي ويرشح من قبل الأعضاء ويؤدي الأخوة الإنسانية وغيرها، والغرض الخفي هو تجنيد الإنسانية لخدمة الصهيونية ويختار الشخص على أساسين:
1.…أن يكون مشهوراً وذا مركز اجتماعي أو علمي أو اقتصادي أو صاحب منصب.
2.…أن يكون ذا منفعة أو مصلحة مرتبة مستقبلاً .
وقد حذرت الفتاوى الشرعية من هذه النوادي وحرمت الانضمام إليها.
نوادي الليونز (أو الأسود):
هي نوادي ذات صبغة اجتماعية وحرفية واقتصادية وتركز اهتمامها على الأعمال الخيرية الظاهرية ولكنها في الحقيقية أصبح من أصابع الماسونية العالمية ولها إدارة معروفة ومحددة المهام مثل الروتاري، يختار أعضاءها من أصحاب النفوذ، ملوك.. وزراء وزارات ، أباطرة مال... الخ.
وليست أحسن حالاً من سابقتها بل الهدف واحد ، والفتاوى فيها واحدة.
شهود يهوه:
جماعة دينية دخيلة على المسيحية وتعاليمها خليط بين العهد الجديد وما ورد في الإنجيل مفسراً لخدمة العهد القديم. وهي جماعة ذات تعاليم يهودية صرفة حتى في شعاراتهم مثل الشمعدان السباعي ونجمة داود، وتخدم الهدف الصهيوني وربهم: أله اليهود (يهوه) وعيسى زعيم لمملكة الإله (يهوه) ويقولون بالتثليث المكون من (يهوه) والابن والروح والقدس.
وتدعو لتمجيد اليهود والربط المضلل بين المسيحية واليهودية والتركيز على عودة اليهود إلى أرض الميعاد.
بناي برت: (أبناء العهد):-
منظمة يهودية ماسونية صرفة، لا يسمح بعضويتها إلا لليهود فقط، وأهدافها خدمة القضية الصهيونية وتركيز خدماتها على تحقيق الخدمة لإنشاء وحماية دولة إسرائيل.
محافلها منتشرة في العالم كله حتى في البلاد العربية ولهم سطوة على الإعلام والسياسية والقدرة على التوظيف.
ولها مساهمات فعالة في جميع نشاطات المنظمة الصهيونية والوكالات اليهودية ووحداتها، ولها نفوذ في القطاع التعليمي والثقافي منقطع النظير، ولها دور ريادي في توجيه الجامعات المهمة والكبيرة وتأييد أبحاث اليهود.ولها نفوذ واسع وقوى في الوسط السياسي، وتقوم بمحاربة أي كيان يتعرض للجهود بالنقد أو التجريح.
اليهود من أجل المسيح:
هي جماعة دينية خليط بين البروتستانت واليهود اتخذت من نيويورك مقراً لها، ومعابدهم كمعابد اليهود (السينقار) تستند على الشباب المشرقي من اليهود ممن سخروا لخدمة أمتهم وتضليل الشباب المسيحي من غير اليهود. وينتشرون ثقافتهم بين السذج .
تنظيمات أخرى:
لم يترك اليهود والصهاينة مجالاً للغوييم، كما وعدوا في البروتوكولات إذ بحثوا عن الطرق والأساليب للوصول إلى غاياتهم وسعوا إلى كل من كان بوسعه مساندتهم ونصرة قضيتهم فوظفوا لذلك..
ومن تلك النوادي التي أنشاؤها لذلك : الاتحاد العالمي لليهود، وحركة الأسود العالمية، فرسان المعبد الصليبي، التجمعات الماركسية الصهيونية الخ.
الأهداف المستقبلية للحركة الصهيونية:
1.…تدعيم الاقتصاد الصهيوني بإنشاء المصانع الضخمة المتعددة الأغراض.
2.…التوسع والامتداد على حساب الدول العربية المجاورة في جميع المجالات.
3.…تفريغ فلسطين من العرب بشكل كامل.
4.…السيطرة على العالم ككل وجعل أبناء صهيون سادة العالم.(29/197)
5.…تركيع وإذلال أي محاولة تخرج للقضاء على الصهاينة ومخططاتهم.
6.…التحكم في مجريات الأحداث في حياة الناس اليومية.
7.…التحكم في السياسة الأمريكية لتثبيت مصالحهم وذلك بالتغيير والعزل وما إذا ذلك.
الفصل الخامس
النكبات العربية ودور الصهيونية فيها:- يعرض المؤلف هذه النكبات مختصرة في:-
1.…نكبة زوال الخلافة العثمانية.
2.…نكبة إعطاء وعد بلفور.
3.…نكبة تقسيم دول الاستعمار لشمال إفريقيا ووسط السودان.
4.…نكبة تفعيل مقررات مؤتمر القياديين الصهاينة بعد ترجمة البروتوكولات.
5.…نكبة قيام دولة إسرائيل عام 1948م.
6.…العدوان الثلاثي لعام 1956م.
7.…نكبة فقد الكرامة العربية 1967م.
8.…نكبة اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان لعام 1982م.
9.…نكبة توقيع معاهدات السلام مع اليهود وتتابع الدول العربية على ذلك.
نتائج تحققت لنشاطات الحركة الصهيونية:
1.…تفويض الخلافة الإسلامية مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتجزئة السلطنة العثمانية.
2.…تفويض نظام الحكم القيصري في روسيا 1917م.
3.…القضاء على العروش الأوربية والتسلل في كل دول العالم.
4.…إثارة الحرب الأولى والثانية العالميتين.
5.…إقامة دولة إسرائيل لعام 1948م.
دور الحركة الصهيونية في أهم أحداث العالم :
وفي هذا الفصل المبحث يتحدث المؤلف عن أهم الأدوار التي قامت بها الصهيونية والتي كانت لها تأثير كبير في مجريات أحداث العالم ذاكراً إياها بلا تفصيل مع ذكر تاريخها.
فعل سبيل المثال يذكر قتل الطبيب اليهودي "جاكوب ماستيرو" للسلطان العثماني محمد الفاتح 1430م، وخلع ملك إنجلترا شارل الأول 1647م وما إلى ذلك.
الفصل السادس
ويتناول فيه موضوعين:
الأول: بعض ما قيل عن اليهودية والصهيونية:
ويعرض فيها المؤلف لما ورد عن اليهود في القرآن والسنة والإنجيل والتوارة وكلام العلماء والحكماء والرؤساء وغيرهم ممن تكلموا في هذا الأمر.
فيعرض لآية المائدة قوله تعالى ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا3) وآية آل عمران قوله تعالى ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) وآية البقرة قوله تعالى ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) يعرض لها كلها بلا تعليق.
وكذا حديث البخاري ومسلم (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر و الشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم ! يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود )4 نقلها بلا تعليق كما نقل عن كثير من المصادر والمراجع غير المسلمة ، والأقوال لأرباب السياسة من يهود ونصارى .
الثاني: أمثلة لبعض بروتوكولات حكماء صهيون :
ويعرض لها فيقول:
يبلغ عددها 24 بروتوكولاً تتراوح في الطول حجماً وتتشعب أفكارها وموادها الجمة، حيث تغطي جميع النواحي ويقتبس منها اقتباسات لتوضيح الغرض منها والمؤامرات التي يدبرها اليهود للكيد للمسلمين، فيعرض لمقتبسات من البروتوكولات مثل عرض لفترة اليهود في البروتوكول الأول حول سعيهم للسخرية من البشرية جمعاء وتوظيف منظمات كالماسونية لجذب الناس بشعاراتها الحرية والمساواة والإخاء.
ثم شرحها.. وهكذا إلى أخر البروتوكلات.
الفصل السابع
مؤامرات الصهيونية وأهدافهم
ويتحدث فيه عن كشف مؤمرات الصهيونية والتصوير لها إذ بعد أن بين مؤامرات الصهيونية وأهدافهم يضع العلاج لذلك بأنه "يجب أن يكون برنامج حكماء وبدره يرسم مخططاً فلسطينياً ومخططاً عربياً لمواجهة مع إسرائيل ويكون مفصلاً ويعكس المستقبل وما نستطيع عمله في الأمد القريب والمتوسط والبعيد الأجل ويحقق الغرض ويهدف الرد على حكماء صهيون ولا بأس من الاستفادة مما وصل إليها الأعداء".
ويورد بعض الإجراءات التي يراها للتصدي لذلك.. مثل:
1.…عدم وضع الثقة في القيادات الإسرائيلية إطلاًقاً أو إبرام أي اتفاقات معها.
2.…التروي في التطبيع مع إسرائيل، وأخذ موقف الحيطة والحذر وتجنب عقد أي اتفاقات دبلوماسية أو اقتصادية مع الكيان الصهيوني.
3.…إعادة دراسة نظريات الصهيونية العالمية وتمحيصها والتعرف على مكنوناتها بدقة وعناية.
4.…تخليص الفكر العربي وقادة الحكم والسياسيين من سيطرة الأفكار اليهودية والصهيونية بشكل واسع.
5.…تجنيب الاقتصاد العربي من الدخول في متاهات الاقتصاد اليهودي، والتأثر به من خلال إيضاح الحقائق الاقتصادية للإخطبوط الاقتصادي اليهودي.(29/198)
6.…توجيه جل الاهتمام بالثقافة والعلوم العربية، وتخليص المثقفين من أفكار وتأثير الفكر اليهودي، والرد المنطقي على أدعياء الثقافة والمخدوعين بهذا الفكر.
7.…التبسط في توجيه الرأى العام العربي والإسلامي وبشكل مستمر إلى حقائق المخططات الصهيونية ، وتنبيهه إلى كل ما يرمي إليه العدو الصهيوني.
8.…الرجوع إلى تعليم الدين الإسلامي، وفرض جميع نصوصه بشكل منطقة علمي في سبيل تحقيق الغاية الأساسية وهي بناء الروح الإسلامية للمواطن.
9.…بناء القاعدة العسكرية القادرة التي تقوم على الأسس والمبادئ السليمة غير المتأثرة بالأغراض.
10.…الانتباه واليقظة للحيلولة دون تنفيذ المخططات التي يضعها اليهود والصهاينة بصفة خاصة.
11.…السيطرة التامة على وسائل الثقافة والتعليم بشتى فروعها وخاصة مصادر التعليم ومؤسساته كالمدارس الابتدائية والجماعات.
12.…إنشاء شبكات التجسس القوية والعلمية التي تستطيع كشف المؤمرات والخدع والتي تضع الإجراءات والقواعد للرد على الصهاينة وأعوانهم.
13.…إجراء الترتيبات الاستشارية، وإيضاح حقائق الصهيونية للعالم وتخليص المنظمات العالمية كهيئة الأمم المتحدة، واليونسكو التي تتبع لها من تأثير الصهاينة.
14.…المحافظة على الانتماء الفلسطيني وبقاء الذات الفلسطينية حية في قلوب أبناء القضية من خلال:
1.…تذكير من هو خارج الأرض من أبناء فلسطين بالوطن وزرع هذه الفكرة في مخيلتهم باستمرار.
2.…دعم صمود الفلسطينين في الأرض المحتلة، وتشجيع انتفاضاتهم الباسلة حتى يتمكنوا من مواجهة المد الصهيوني.
15.…القضاء على اية خلايا خائنة من الصهاينة الإسرائيليين بوسط البيت الفلسطيني بطريقة قانونية وتصفية من يبيع ضميره منهم، وتأصيل الانتماء الحقيقي للوطن.
16.…العمل على تصديع الصف الإسرائيلي، وتصعيد الصراع ما بين الفئات المختلفة للمجتمع الإسرائيلي والتأثير على سياساتهم الداخلية.
17.…مناصرة التقارب ما بين المسلمين والمسيحيين وعدم الخوض في أوجه الاختلاف، ومحاولة تقريب وجهات النظر والبعد عما يوسع فجوة الخلاف والجفوة ما بين المسلمين من العرب وهم الأغلبية الساحقة وإخوانهم العرب المسيحيين واستدل بالآية 82 من المائدة قوله تعالى : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82.
قلت (القائل موسى ) :
وهذا التقارب الذي ذكره المؤلف حفظه الله غير ممكن مطلقاً إلا بأحدى اثنين:
1.…إما بتنازل المسلمين عن عقيدتهم.
2.…أو برجوع النصارى إلى الإسلام.
أما الأول فمحال أبدأ كما هو معلوم؛ إذ كيف يكفر المسلمون بعقيدة التوحيد الخالص ويقولون بقول أهل التثليث من أجل التقارب.
أما الآخر ممكن فرديا لا جماعياً كما هي سنة الله في خلقه، ولا يمكن تقريب وجهات النظر بعد ذلك.
ملاحظة أخرى:
1.…قوله: إخوانهم العرب من المسيحيين: لا يجوز أن تقال هذه الكلمة؛ إذ الأخوة هي أخوة الدين فحسب "إنما المؤمنون إخوة" والكافر لا يمكن أن يكون أخاً للمسلم بأي حال. والشواهد من القرآن الكريم والسنة كثيرة جداً.
2.…أما استدلاله بالآية فليس بصحيح، لأنها تتحدث عن واقعة معينة أنظر تفسيرها في تفسير القرآن العظيم لابن كثير. وفي آخرها إخبار بأنهم أسلموا وأمنوا بالنبي (.5
3.…كرر الكلمة أيضاً في ص 199 بلفظ "إخواننا النصارى من العرب وهم شركاء في قضيتنا..." والواقع يثبت خلاف ذلك قطعاً، فضلاً عما في الكلمة من مخالفة شرعية واضحة، ولأن الاستاذ/ محمد حفظ الله ليس من المختصين في العلم الشرعي فإننا نلتمس له العذر في ذلك مع مراعاة استخدام هذه الألفاظ مستقبلاً في تأليفه.
4.…قوله في الصفحة نفسها "قداسة الباب بولس السادس) وفي رأيي أن هذا تكريم لهم ولا يجوز ذلك ؛ لفساد عقيدتهم وبطلان دينهم (الحالي المحرف) والله تعالى يقوم (ومن يهن الله فما له من مكرم).
الخاتمة
استدل المؤلف في هذه الخاتمة بقوله تعالى: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) المائدة (64).
وتحدث عن دلالة هذه الآية وإحاطتها "بفكر اليهود والصهاينة وأوضحت ما لهم من غاية وهم ينشدون هدفهم النهائي وأوجزت في وصف محك فكرهم وهو إشعال نار الحرب والفتنة والوبال على الأمم والبشرية عامة".
ثم ذكر تغطية هذا الكتاب لجوانب هذا الموضوع المهم المتعلق بالصهيونية العفوية المعادة.
نقد الكتاب
ميزة الكتاب:
1.…لقد بذل الأستاذ محمد وفقه الله جهداً عظيماً في استقصاء ما يتعلق بهذه المنظمة الخطيرة، وصاغه في نقاط موجزة جامعة مانعة بما يمكن معه القول أنه عرض فكر هذه المنظمة وما يتعلق به باختصار غير مخل ، وإجمال غير ممل .
2.…جودة العرض المتمثل في تقسيم البحث إلى فصول مندرجة تحتها النقاط المتعلقة بكل فصل مع استيفاء الغرض من ذلك.(29/199)
3.…في الفصل الخامس ربط الكاتب الأحداث المؤلمة التي مرت بها الأمة في القرون الأخيرة بتخطيط الصهيونية الفاجرة وتنفيذها مخططاتها، وهذا حق قل أن ينتبه لها، وكذلك تنبيهه على أن أحداث العالم الجسام مربوطة أيضاً بتخطيط هذه المنظمة.
4.…استطاع أن يلم شتات الموضوع لهذا الأخطبوط المسمى الصهيونية بقراءته في كل ما يتعلق بها ، ومن واقع مشاهداته في أمريكا لبعض نشاطاتها ، مما أضفى على الكتاب رصانة ملموسة .
أما الملاحظات اليسيرة على الكتاب ، فكما يلي :
1.…أحياناً ركاكة في الأسلوب في بعض الجمل بحاجة إلى إعادة صياغة من حيث اللغة والنحو مثل قوله : "كعرب ومسلمين " ص 188 فهذه تشبيه ، والصواب أن يقال "بصفتنا عرباً ومسلمين "وغيرها كثير في الكتاب تحتاج إلى إعادة نظر .
2.…هناك بعض الأخطاء العقدية التي لا يقصدها الكاتب وفقه الله مثل:
•…قوله : التروي في التطبيع مع إسرائيل ص 191 ، وهذا أمر لا يجوز ترده آيات القرآن الكريم، وأحداث السيرة النبوية ، والواقع المعاصر ، والمعروف أن اليهود نقضة العهود.
•…أما الهدنة المؤقتة لعدم قدرتنا اليوم على قتالهم فجائز حتى تقوى شوكتنا ونستطيع مواجهتهم وفي فتوى للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: يرى أنه "تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة ، إذا رأى ولى الأمر المصلحة في ذلك لقول الله سبحانه "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم" ... وأن الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولاموالتهم ، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين ، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر ، وغير ذلك ، كالبيع والشراء ، وتبادل السفراء ... وغير ذلك من المعاملات التي تقتضي مودة الكفار ولا موالاتهم6 .
وفي رد له على فضيلة الشيخ الدكتور / يوسف القرضاوي حفظه الله ، لتعقيب له على مقال الشيخ بن باز نشر في مجلة المجتمع الكويتية العدد 1133 الصادرة يوم 9 شعبان 1415 هـ الموافق 10/1/1995م. حول الصلح مع اليهود واستنكار الشيخ القرضاوي فتوى الشيخ بأنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك ليأمن الفلسطينيون في بلادهم ويتمكنوا من إقامة دينهم .
وقد رأى الشيخ يوسف أن ما قاله الشيخ مخالف للصواب ، لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم .. إلى آخر ما ذكر فضيلته .
فرد عليه الشيخ رحمه الله رداً طويلاً ، خلاصته : "أن الواجب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية ، إن كانوا من أهلها ، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وعن العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم ، تأسياً ب صلى الله عليه وسلم في حربه وصلحه ، وتمسكاً بالأدلة الشرعية العامة والخاصة ، ووقوفاً عندها فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة7"
•…من الأفضل استخدام التسمية الشرعية للأشياء مثل "النصارى" بدلاً من المسيحية ص 198.
•…سبق التنبيه على خطورة وصف الكفار بالأخوة وأن ذلك يحرم وكذلك كلمة "قداسة البابا" فلا نرفعهم ونكرمهم إذ أذلهم الله.
•…أخيراً ... يشكر المؤلف جزيلاً على جهده وما بذله في سبيل إخراج هذا الكتاب الجيدة في هذه الصورة.
كان هذا عرضاً سريعاً لكتاب الصهيونية بإيجاز للأستاذ الفاضل / محمد بن علي باخريبه .. أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت في عرضه على الوجه الذي يليق بالكتاب ، وأن يجزي كاتبه خيراً ، وأن يوفق شيخنا الفاضل الأستاذ الدكتور / مصطفى حلمي لكل خير في الدنيا والآخرة ..
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ..
أهم المراجع
1.…القرءان الكريم .
2.…سنن النسائي.
3.…سنن الترمذي .
4.…سنن ابن ماجه .
5.…صحيح الجامع الصغير . للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ت(1420هـ ).
6.…خطبة الحاجة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ت(1420هـ ).
7. مجموع فتاوى ومقالات متنوعة .
ت الشيخ العلامة/ عبد العزيز بن باز ت :1420هـ طبع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء 1423هـ .
8. كتاب العرض ( الصهيونية بإيجاز ) محمد علي باخريبة .. 2001م ط1 الخبر .
==============(29/200)
(29/201)
حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها
د. عبد الرحمن عبد الخالق
بسم الله الرحمن الرحيم {الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين}.
والصلاة والسلام على المبعوث بالدين القويم، والصراط المستقيم، والجهاد بالسيف إلى يوم الدين، وعى آله وأصحابه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، وبعد..
فإن الأمة الإسلامية قد ابتليت في هذه السنوات بكارثة عظيمة لم تكن قبل وقوعها في الحسبان ولم يكن أحد من أهل الإسلام يحسب أو يظن أن يقع هذا في أمة الإسلام، ألا وهو انتصار اليهود وهم شرذمة قليلة على أمة الإسلام، وذلك في أربع حروب متتابعة، قاتل اليهود فيها وهم صف واحد أمة الإسلام وهم صفوف مختلفة، قد حملوا شعارات تخالف الإسلام من القومية والوطنية والإقليمية أو مجرد الدفاع عن الأرض، وقد هزم العرب المسلمون أمام أعدائهم اليهود هزائم لم يعرف التاريخ لها مثيلاً.. ثم إن العرب المسلمين الذين نالتهم هذه الهزائم تنادوا إلى وجوب الصلح والسلام مع اليهود، وأنه لا حيلة أمامهم إلا ذلك، متعللين بأن اليهود تساندهم أمم الغرب وأمريكا، والعرب المسلمون لا حول لهم ولا سلطان.
وبعد أن مدوا أيديهم للصلح مع اليهود عقد بعضهم معهم معاهدات سموها معاهدات سلام، ولما كانت هذه المعاهدات بما انطوت عليه من شروط باطلة، أشد خطراً وأكبر من الهزيمة في الحرب وكان الناس يسألون ما موقف المسلم اليوم من اليهود؟ وما موقفه من هذه المعاهدات التي أبرمت؟ وكان الله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على من أوتي علماً أن يبينه ولا يكتمه فإنني أحببت أن أكتب مختصراً في الموقف الشرعي الواجب على أبناء الأمة الإسلامية من هذه المعاهدات التي سموها معاهدات السلام.
أولاً: مقدمات:
فأقول والله المستعان:
1- اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ الرسو صلى الله عليه وسلم رسالته وإلى أن يخرج الدجال:
اليهود أعداء هذه الأمة منذ بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، وستظل عداوتهم لهذه الأمة إلى قيام الساعة، ولقد بدأ الرسو صلى الله عليه وسلم الحرب معهم مبكراً فحارب بني قينقاع لغدرهم، وانتصر عليهم، وأخرجهم من المدينة، ثم بني النضير لغدرهم وأخرجهم من المدينة، ثم بني قريظة لغدرهم وخيانتهم، ثم فتح خيبر وكانت منطلقاً لدسائسهم، ثم أجلاهم عمر بن الخلاطب رضي الله عنه عن الجزيرة العربية كلها وانتقل عداؤهم بعد هزائمهم إلى الكيد الخفي، فكانوا وراء جميع الفرق الباطنية، ومعظم الفتن الداخلية في أمة الإسلام، ثم كانوا وراء إنهاء آخر خلافة للمسلمين وهي خلافة بني عثمان، وهم الذين حولوا وجهة دول الغرب النصرانية لحرب الإسلام، ومكرهم بالإسلام وأهله لا تحويه المجلدات.
ولايزال عداؤهم بالمسلمين إلى أن يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلاً: «يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله» وحتى يخرج آخرهم في ركاب الدجال.
وعداء اليهود لأهل الإسلام ورسول صلى الله عليه وسلم إنما كان حسداً وبغياً، حسداً أن تنتقل الرسالة والنبوة من فرع إسحاق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله ودينه و شرعه قال تعالى: « بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين». (البقرة: 90).
وهم بدأو العداوة، واستمروا عليها، ولايزالون عليها كما قال تعالى: «وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين». (المائدة: 64).
ومن ظن أن الحرب والعداوة توضع بين المسلمين واليهود فهو مكذب بوعد الله، ودينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر بالله سبحانه وتعالى، فإن أصل الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ولا يجوز لمسلم أن يجمع في قلبه بين حب الله والمؤمنين وموالاة أعدائه «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده». (الممتحنة: 4).
فلا موادة بين المسلم والكافر إلا أن يصبحا كافرين أو مسلمين.. فإما أن يدخل الكافر في الإسلام فيكون أخاً لنا نحبه ونواليه، وإما أن يخرج المسلم من الإسلام فيكون محباً وأخاً للكافر «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياً بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين». (المائدة: 51)
2- لا دعوة للمسلم إلا إذا ذل الكافر واستسلم أو كان دفعاً لمفسدة أكبر بارتكاب مفسدة أقل:(29/202)
الأصل في العلاقة بين المسلمين والكفار هي العداوة والحرب وذلك لقوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله» وقوله تعالى: «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون». (التوبة: 29).
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً وكلها تأمر أن يباشر المؤمنون القتال حتى يكون خضوع الجميع لدين الله وشرعه إما طوعاً وإما إذلالاً وقهراً.
ولم يسمح الله لأمة الإسلام أن تدعو إلى السلم مع الكفار إلا في إحدى حالتين:
أ- أن يذل الكفار ويضعفوا وتخور قواهم ويجنحوا إلى السلم، فعند ذلك يكون السلم في صالح المسلمين لأن عقيدتهم أقوى، وفعلهم أكبر، وبذلك يفتح المجال لدخول الناس في الدين كما كان الشأن بين الرسو صلى الله عليه وسلم وقريش، فإن صلى الله عليه وسلم بدأ حربهم في بدر، ثم أحد ثم الخندق ثم ثم الحديبية، وقد بايع أصحابه على الموت في الحديبية لما أخبر بأن قريشاً قد قتلت سفيره عثمان بن عفان رضى الله عنه، ولم يجنح الرسو صلى الله عليه وسلم إلى السلم مع قريش إلا بعد أن جنحوا هم، وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، وهذا لقوله تعالى: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لهاوتوكل على الله»(الانفال: 61) وكان هذا الصلح والسلام في صالح المؤمنين تماماً فقد دخل أكابر الناس في الإسلام في مدةالصلح.
ب- أن يكون الصلح من باب ارتكاب أخف الضررين فيلجأ المسلمون إليه دفعاً لمصيبة أعظم كما هم الرسو صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على نصف ثمار المدينة حتى يفك تحالفهم مع قريش، وينفرد صلى الله عليه وسلم بقتال قريش بعد ذلك.
وأما في غير هاتين الحالتين فإنه لا يجوز للمسلمين الدعوة إلى السلام كأن يكون ركوناً إلى الدنيا وكراهة للجهاد أو خوفاً من كثرة الكفار، وذلك أن أهل الإيمان ينصرون مع قلتهم على الكفار مع كثرتهم، وهذه سنة الله الجارية أبداً في عباده «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين» (البقرة: 249) «ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً، سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنه الله بديلاً». (الفتح: 22 -23).
وأما الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائياً، ومصالحة الكفار أبداً، ونبذ الحرب والقتال مطلقاً، فهذا كفر بالله تعالى مخرج من ملة الإسلام، وإلغاء لفريضة الجهاد التي جعلها الله فرضاً على كل مسلم إلى يوم القيامة كما قال تعالى: «كتب عليكم القتال وهو كره لكم» (البقرة: 216) وكتب بمعنى فرض، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية». (رواه مسلم والنسائي وأحمد والترمذي.
فالجهاد ماض بعد فتح مكة إلى يوم القيامة، وهو إما خروج بالنفس وهذا الفرض العيني، وإما نية دائمة لكل مسلم يجب أن يصحبها دائماً، ويموت عليها، فيكون مستعدا لمزاولة القتال في كل حال، قائماً به في حال الوجوب العيني، وإلا أثم إذا ترك الفرض العيني.
3- لا يجوز للإمام المسلم أن يشترط في صلحه مع الكفار شرطاً يخالف الكتاب والسنة ودين الإسلام:
معلوم من الإسلام ضرورة أنه لا يجوز للإمام والقائد المسلم في صلحه الجائز مع الكفار أن يشارطهم على شيء يخالف القرآن والسنة.. وكل شرط يخالف هذه الأصول فإنه يقع باطلاً.
فالشروط التي يجوز اشتراطها مع الكفار هي الشروط الجائزة فقط، كعقد هدنة للحرب سواءً كانت مؤقتة بوقت محدد، كما صالح الرسو صلى الله عليه وسلم قريشاً على وضع الحرب عشر سنين، أو كانت غير مؤقتة بوقت محدد كما صالح الرسو صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة ووادعهم دون تحديد هذا بزمن معين.
فالهدنة والصلح شرط جائز يجوز للإمام المسلم إبرامه مع الكفار، وكذلك مصالحتهم على شيء يدفعونه للمسلمين أو شيء من المال يدفعه المسلمون اضطراراً أو نحو ذلك من الشروط الجائزة.
وأما الشروط الباطلة فمثالها أن يشارطهم على أن يتنازل المسلمون عن شيء من دينهم كالصلاة أو الصوم أو الجهاد، أو الحكم بما أنزل الله، فإن هذا ومثله كفر بالله تعالى، وتبديل لشرعه ودينه، وترك من المسلمين لدينهم وعقيدتهم من أجل إرضاء الكفار وهذا كفر بالله تعالى.
وكل معاهدة وصلح بين المسلمين والكفار تتضمن شروطاً باطلة فهي باطلة، وإن كان مائة شرط.. بل إن أي شرط في أي عهد أو عقد بين مسلم ومسلم إذا تضمن شرطاً باطلاً ليس في كتاب الله ولا سنة رسول صلى الله عليه وسلم فإنه يبطل هذا العقد أو الشرط، وقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : «ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق». متفق عليه.
ولذلك فإن عقود الربا والزنا، وقتل المسلم، والقمار، والعقد على كل ماحرم الله سبحانه وتعالى يقع باطلاً، ولا يجوز للمسلم أن يعقد مثل هذا العقد، ولا أن يفي به -وإن عقده- لأنه يقع باطلاً، ولا يجوز الوفاء به.
ثانياً: الاتفاقيات التي عقدت بين بعض الساسة العرب واليهود باطلة للحيثيات والمبررات الآتية:(29/203)
بعد المقدمات الضرورية السابقة نقول بأن الاتفاقيات الثلاث التي عقدت بين اليهود وبعض الساسة العرب هي اتفاقيات ومعاهدات باطلة شرعاً لا يجوز للمسلم اعتقاد صحتها، ولا تنفيذ شيء منها إلا مكرهاً مجبراً فيما يجوز فيه الإجبار والإكراه، وأما ما لا يجوز فيه الإجبار والإكراه فلا يجوز الالتزام به، كقتل المسلم فإنه لا إجبار فيه لأن نفس القاتل الذي يدعي الإجبار ليست بأنفس من نفس المقتول.
الأدلة على هذا الحكم ما يلي:
- في المعاهدات .. وضع الحرب إلى الأبد بين المسلمين واليهود وهذا شرط باطل:
لا يجوز للمسلم أن يشارط الكفار يهوداً كانوا أو غيرهم على وضع الحرب إلى الأبد بين المسلمين وبينهم، فإن القتال فريضة قائمة إلى يوم القيامة، ولا يجوز إلغاؤه من التشريع، ومن اعتقد عدم وجوب الجهاد، أو سعى إلى إلغائه وإبطاله فهو كافر بالله سبحانه وتعالى كفراً مخرجاً من ملة الإسلام، ومكذباً بمعلوم من الدين ضرورة، فالقتال فريضة ماضية إلى يوم القيامة وقد قامت أدلة القرآن والسنة وإجماع الأمة على ذلك في كل عصورها، ولكن يجوز وضع الحرب فقط لسنوات محددة أو وضع الحرب دون تحديد سنوات.
أما النص على أن الحرب انتهت بين المسلمين والكفار، وأن هذا عهد للسلام الدائم والشامل فهو إبطال لفريضة الجهاد وإقرار للكافر على كفره، ولا يجوز هذا لمسلم أبداً، إلا أن يكفر بالله ورسالاته.
- المعاهدات نصت على إزالة أسباب العداوة والبغضاء وإزالة كل نصوص التشريع التي تبقي هذه العداوة:
وهذا الشرط باطل لأنه يخالف أصل الإيمان الذي يقوم على التفريق بين المسلم والكافر وأن الكافر عدو لله أبداً حتى يسلم ويتخلى عن كفره، وقد حرم الله على المؤمنين موالاة الكفار ومودتهم حتى لو كانوا آباءً أو أبناءً أو أخوةً أو عشيرةً أو أزواجاً، كما قال تعالى: «لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم». (المجادلة: 23).
وهذه المعاهدات نصت على وجوب إزالة العداوة وأسبابها مطلقاً، بل حرمت الاستشهاد بآيات القرآن وأحاديث السنة التي تؤصل هذه العداوة، وأمرت بحذف أحداث التاريخ التي تذكر تاريخ العداوة بين اليهود والمسلمين، وذلك لسلخ المسلمين عن دينهم وتاريخهم وتراثهم.
- هذه المعاهدات أقرت اليهود على ما أخذوه من أرض الإسلام عنوة وغدراً، وهذا لا يجوز:
هذه المعاهدات أقرت اليهود على ما اقتطعوه من أرض الإسلام في فلسطين وهي أرض فتحها المسلمون، ودخل أهلها في الإسلام، وأصبحت بذلك من أرض الإسلام التي لا يجوز للمسلمين التخلي عنها، بل يجب على المسلمين القتال لاستردادها من اليهود، ولا شك أن إقرار اليهود عليها وإعطاؤهم عهداً وصكاً بملكيتها، وأنهم قد أصبحوا أصحابها وملاكها والمتصرفين عليها، وهذا خيانة لله ورسوله ولهذه الأمة، وتفريط فيما ملك الله المسلمين إياه، وما بوأهم من ملك الأرض، وأكبر من ذلك التفريط في المسجد الأقصى الذي رده الله إلى أمة الإسلام إعلاناً بانتقال إمامة الدين، وقيادة الناس إلى أمة الإسلام.
وإقرار اليهود على ملك أرض فلسطين باطل، لأن الكافر لا يجوز إقراره على ملكه الذي نشأ فيه إلا إقراراً مؤقتاً، فكيف يعطى ما كان بأيدي المسلمين ملكاً مؤبداً؟
إن هذا قرين الكفر والخروج من دين الله، ومثل هذا لا يجوز لمسلم اعتقاده قط، بل يجب الاعتقاد أن اليهود مغتصبون ما ليس لهم، وأن ما تحت أيديهم من أرض فلسطين ليس ملكاً لهم، بل أخذوه بطريق الغصب، والغفلة من المسلمين، ويجب رفع أيديهم القذرة عن هذه الأرض إلى الأيدي الطاهرة: «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين». (الأنبياء: 105 -106)
- هذه المعاهدات أبرمت عن غير مشورة من المسلمين وكل عقد يهم المسلمين إذا أبرم عن غير رضا ومشورة فهو عقد باطل:
الصلح بين اليهود والمسلمين، وإعطاء اليهود أرض فلسطين أو بعضها ملكاً لهم، هذه قضية تهم كل مسلم لأنها ترتبط بعقيدته وإيمانه، وبالتشريع الذي أنزله الله وأكرم كل مسلم به، وهذه المعاهدات عقدت بواسطة حكام متفرقين كل يزعم أنه يمثل بعضاً من المسلمين في إقليم من أقاليم البلدان الإسلامية (مصر، الأردن، فلسطين..) ولا شك أن هذه المعاهدات لا تلزم أي مسلم في الأرض، لأنها عقدت بمسميات وطنية وإقليمية وهذه المسميات في أساسها باطلة لأنها تفرق بين أبناء الأمة الواحدة، والملة الواحدة، وبالتالي فما يعقده أي رئىس من رؤساء المسلمين منفرداً لا يلزم جميع المسلمين في العالم، لأنه لم يفوض نيابة عنهم ولايجوز له التحدث باسم جميعهم، وبالتالي فإن هذه الاتفاقيات لا تلزم عموم المسلمين، بل ولا تلزم أي فريق منهم لأن الشعوب الإسلامية لم تستشر في شيء من ذلك وإنما فاجأهم الساسة بما وقعوه وأبرموه، ومثل هذه العقود التي عقدت عن غير مشورة لا تلزم المسلمين.
- هذه المعاهدات من عقود الإكراه، وعقد الإكراه لا يجوز في الإسلام:(29/204)
السبب الخامس في بطلان هذه المعاهدات أنها من معاهدات الإكراه، فالشعوب الإسلامية التي وقع ساستها على هذه المعاهدات فرضوها عليهم بالقوة والبطش والإكراه والإلزام، ولم يستشر فيها أهل الدين من العلماء، وأهل الرأي والخبرة والنجدة والنظر من المسلمين، وإنما أبرمها من لا يقيم وزناً للدين، ولا يميز بين المشروع والممنوع وبين ما يجوز أن يصالح عليه الكفار وما لا يجوز، ثم فرضها بقوة ما معه من السلاح والقهر، والمسلم المجبور والمقهور الذي قد يظهر أنه راض -وهو مجبور ومقهور - لا أثر لرضاه هنا، ولا لإقراره لأن إقرار المجبور والمقهور لا أثر له في العقود، بل العقد لا بد أن يكون عن رضا، فشرط صحة العقود في الإسلام هو التراضي حتى بين المسلم والمسلم، فمن باب أولى بين المسلم والكافر، وإذا أجبر المسلم على عقد من العقود فإنه لا يجوز أن يقبل به إلا مجبراً، وعليه رفضه عند بدء القدرة على رفضه ولو كان ذلك في قول كلمة الكفر: «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم». (النحل: 106)
ومن أجل الأسباب السابقة قلنا بأن هذه المعاهدات معاهدات باطلة وقعت يوم وقعت باطلة، والعقد الباطل كأن لم يكن وهي كعقود الربا والزنا والسرقة وقطع الطريق وقتل المسلم، لا يجوز الوفاء بها ولا اعتقاد صحتها.
ومعلوم أنه لا يجوز للمسلم أن يعقد عقداً باطلاً، ولو كان فيه بعض المنافع الدنيوية، فعقد الربا فيه نفع دنيوي لكل من المقرض والمقترض، ولكن منافعه ملغاة لأن الله حرمه، وكذلك عقد الزنا هو منفعة متبادلة بين الزاني والزانية، فالزاني يستمتع ويقضي شهوته، وهي تستمتع وتأخذ أجرتها، وكذلك في عقود الميسر، وبيع الخمر حيث فيها ولا شك بعض المنافع الدنيوية ولكن لما كان الله قد حرمها فإن منافعها الدنيوية تلغى ولا ينظر إليها.
وهذه المعاهدات التي أبرمت مع اليهود إذا احتج محتج بمنافعها الدنيوية، قلنا إن العقد المحرم يقع باطلاً وإن كان فيه بعض المنافع الدنيوية، وجدال من يجادل في منافع الصلح مع اليهود كجدال من يجادل في منافع الزنا والربا والقمار وبيع الخمر.. الخ.
والعقود المبرمة مع اليهود أشد بطلاناً من هذه العقود المحرمة، لأنها عقد على إسقاط الجهاد، وإسقاط العداوة للكفار، وإخراج المسلم من الإسلام، وسلخه عن أمته ودينه بل وتاريخه وحضارته.
ولا شك أن هذا أكبر إثماً من التعاقد على الربا والزنا والقمار وبيع الخمر.
6 - هذه المعاهدات ستفسد دنيا المسلمين وليس دينهم فقط:
قد يجادل في صحة هذه المعاهدات وجواز الأخذ بها من يظنون أنها ستحقق خيراً للمسلمين في الدنيا، وأنها يمكن أن تجعل عند المسلمين فسحة من الوقت ليستعدوا لعدوهم، وقد يقول من يقول ممن باع آخرته بدنياه بأن ثمرات السلام كبيرة جداً، وأن هذا السلام المزعوم سيأتي بالخير والرخاء على شعوب المنطقة كما يقولون، والصحيح أن الفساد الدنيوي والمادي، والآثار الضارة لهذه المعاهدات كثيرة جداً، يربو أضعافاً مضاعفة على ما يلوح ويظن من المنافع.
ومعلوم شرعاً أنه لا يجوز للمسلمين أن يعقدوا صلحاً مع عدوهم تربو فيه سيئاته على حسناته، وهذا في الشروط الجائزة، لأن مثل هذا يكون تفريطاً في حق المسلمين، وضياعاً لأموالهم، ودنياهم، ومصلحتهم.
وهذا أحد مبطلات العقد مع الكفار كما نص الأئمة على ذلك من حيث أنه لا يجوز إبرام عقد ليس في صالح المسلمين، فكل عقد تزيد خسائر المسلمين فيه على منافعه لا يجوز لهم أن يعقدوه لأنه يكون تفريطاً في حق الأمة، وإعطاء للأعداء بغير سبب للإعطاء، وتقويتهم على المسلمين.
وهذه بعض الخسائر التي تحققت للمسلمين من وراء هذه المعاهدات:
1- أنها تطلق يد اليهود في أموال المسلمين، وتفتح أسواق المسلمين لهم، وترفع الحصار الاقتصادي عنهم، وبذلك تنمو تجارتهم ويستقوون بمال المسلمين على المسلمين، كما فعلوا ذلك في أمريكا وأوروبا فمع أن اليهود قلة في أمريكا بالنسبة لمجموع الشعب الأمريكي إلا أن الدورة الاقتصادية تكاد تكون جميعها بأيدي اليهود، وبالتالي ملكوا ناصية الحياة في أمريكا، واستعبدوا شعبها، وهذا المصير المؤلم سيكون مصيراً للعرب لو فتح لهم باب الدول العربية ليسيطروا على اقتصادها ويعبثوا بهذه الأمة كما عبثوا بالشعوب النصرانية، وجعلوها في خدمتهم وتحت أقدامهم.
ومما يؤسف له أن الشعوب العربية الإسلامية قد تخلى كثير منهم عن آداب الإسلام وأحكامه، وأصبحوا من الشعوب المسرفة التي تنفق أكثر مما تكسب، ولا تكاد تنتج عشر معشار ما تأكل وتركب وتلبس وتستعمل، واليهود عكس ذلك.. فهم أمة مدخرة منتجة عاملة وهذا سيجعلهم في النهاية سادة المسلمين وقادة العرب لأن أموال المسلمين ستحول بالضرورة لتكون بأيدي اليهود، ويصبح أبناء العرب غداً خداماً لليهود: عمالاً في مصانعهم، وفلاحين في مزارعهم، وموظفين صغاراً في مكاتبهم، وتجاراً بالمفرق لكبار تجارهم، ووكلاء صغاراً لشركاتهم، وخدماً لبيوتهم، وبنائين وعمالاً لعماراتهم.(29/205)
2- دخول اليهود ليكونوا عضواً في جسم الدول العربية والأمة الإسلامية بعد أن نزعوا عنها مسمى الإسلام والعروبة، فالمنطقة العربية الإسلامية قد نزع عنها هذا الإسم وسميت باسم جديد هو «الشرق الأوسط» وهي تسمية تجعل دولة اليهود جزءاً من هذا «الشرق الأوسط» لأن موقعهم فيه، وهذا سيعطي اليهود صفة المواطنة في هذا الجزء من أرض الإسلام، بل والأخوة والصداقة، والجوار، والوحدة في إطار هذا «الشرق الأوسط» الذي قد تقوم فيه وحدة سوق، ووحدة سياسات وأهداف، وبالتالي يصبح اليهود جزءاً من هذا النسيج، ودخول اليهود إلى الجسم العربي والإسلامي على هذا النحو سيعطيهم حرية الحركة في بث سموم الفرقة والبغضاء بين المسلمين، وينشرون العقائد الزائفة والنحل الكافرة، وكل ما امتازوا به عبر التاريخ في هدم أعدائهم.
إن اليهود هم الساعون في الأرض بالفساد منذ ضلوا عن دين الله المنزل على موسى، ولعنهم الله ولعنوا على ألسنة جميع أنبيائه ورسله بعد موسى «لعن الذين كفروا من بني "إسرائيل" على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» (المائدة: 78). ولازال سعيهم بالفساد والإفساد إلى آخر الدنيا، وإلى أن يروجوا للدجال، ويمهدوا الأرض له على أنه الله ملك السموات والأرض، فكفار اليهود هم الذين قتلوا أنبياءهم، وسعوا في قتل عيسى بن مريم، ونجاه الله من مكرهم، وسعوا في قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ونجاه الله مراراً من ذلك، ثم كان موت أحد أصحابه بأثر السم الذي دسته امرأة منهم في طعام رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وسعوا في إبطال دين الإسلام كما أبطلوا دين النصرانية، ولكنهم فشلوا في إبطال دين الإسلام، ولايزال هذا الدين قائماً إلى آخر الدنيا رغم دسائسهم، وإلى أن يبيدهم الله بأيدي المسلمين في آخر الزمان.
وهؤلاء اليهود الذين أصبحوا بهذه المعاهدات جزءاً من الوطن الإسلامي العربي الذي سموه «الشرق الأوسط» ستتيح لهم هذه المعاهدات أن ينفثوا سمومهم في أمة الإسلام، وأن يشعلوا الحروب الداخلية بين المسلمين بهدف تدميرهم وإذهاب قوتهم.. وسيفعلون ذلك آمنين مطمئنين لأنهم قد أصبحوا داخل البيت الإسلامي بعد أن كانوا -بنسبة ما- خارجه.
وغداً لو طبقت هذه الاتفاقات، فلا يوجد مكان يمكن أن يمنعوا منه إلا مكة والمدينة، وأما سائر بلاد الإسلام والعرب فستكون مسرحاً لمؤامراتهم وفسادهم.
فهل يقول عاقل إن هذه المعاهدات هي في صالح الإسلام والمسلمين في أمور دنياهم.
3- إن حقيقة المنافع التي لوح بها اليهود للمسلمين من وراء هذه المعاهدات إما أنها مضار خالصة، أو شيء تافه لا يقوم بما أخذوه وحصلوا عليه، فالتخلي عن حرب اليهود وعداوتهم هو مضرة خالصة لأنه ترك للدين، وإبطال للشرائع وهذا ضرر محض على المسلم، وأما أن السلام سيجلب المساعدات من الكفار للمسلمين فهذا ضرر كذلك لأن الكافر لا يساعد المؤمن مجاناً، ولا من أجل وجه الله، ومساعادت الكفار للمسلمين مشروطة بشرط من الذل والعار وترك الدين، وهدم الإسلام، وحرب الصالحين لا يرضاها من يخاف الله ويتقيه، وإما أن تكون قروضاً يرتهن فيها المسلمون لأعدائهم، ويقع المسلمون بها في شباك الربا المركب الذي يرهن اقتصادهم وثروتهم بالكفار وهذا ما فعله الكفار في بلاد المسلمين.
وأما ما سموه بالحكم الذاتي للفلسطينيين فهو نوع من الذل والإهانة حيث تصبح الأرض لليهود، وللفلسطينيين حكم أنفسهم في بعض شؤونهم على أرض اليهود وليس على أرضهم.
وقد كان الأولى أن يعيش أهل فلسطين في أرض فلسطين، وهم يعتقدون أنها أرضهم المغتصبة خيراً من أن يعيشوا على أرض فلسطين وهم يعتقدون أنهم قد تنازلوا عنها لليهود، وقد أصبحت أرضاً لليهود، ولأن يحكمهم اليهود بالفقر في جميع أمورهم، وهم كارهون معادون لهم خير من أن يحكموا أنفسهم في بعض الأمور الصغيرة ويتركوا كل الأمور الخطيرة بأيدي اليهود طوعاً وتنازلاً من الفلسطينيين لهم.
والخلاصة:
أن الخسائر الدنيوية والمفاسد العاجلة لهذه المعاهدات لا تحصى كثرة مع منافع إما أنها موهومة كالأمن والرخاء، وأما أنها قليلة عديمة المنافع، وفي المقابل تخلى المسلمون لليهود في هذه المعاهدات عن دينهم وعزتهم وكرامتهم وأرضهم ومقدساتهم... فأي كسب يعدل هذه الخسائر؟
ثالثاً: الواجب على المسلم تجاه هذه المعاهدات:
والآن نأتي إلى السؤال الأهم وهو: ما الواجب اليوم على المسلم تجاه هذه المعاهدات؟
والجواب:(29/206)
1- الواجب الأول هو اعتقاد بطلانها وأنها لم تضمنته من الشروط الباطلة وقعت باطلة، وولدت يوم ولدت ميتة، لأن المسلم لا يجوز أن يشارط الكفار على ترك الجهاد وإسقاط فرضه، ولا على ترك عداوة اليهود، وإيجاب محبتهم ومودتهم، فإن هذا مخرج من الملة، وتضمنت كذلك وجوب حجب آيات القرآن، وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم التي تعلن هذه العداوة لليهود وهذا تواطؤ مع الكفار على كتمان الدين والعلم وتعطيل آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم التي تبين حقيقة العلاقة الواجبة مع اليهود، وهذا في حقيقته إخراج للمسلمين من الإسلام، وسلخ للأمة عن عقيدتها وتاريخها.
ولما كانت هذه المعاهدات قد تضمنت هذه البنود، ونصت نصاً صريحاً علىها فإنها بذلك تعد باطلة ولا يجوز للمسلم اعتقادها.
2- الواجب الثاني أن يعتقد المسلم أن هذه المعاهدات لا تلزمه، ولا يجوز له تنفيذ شيء من محتواها إلا إجباراً وضرورة فيما يجوز فيه الاضطرار..
وذلك لما سلف من تضمنها للشروط الباطلة، ولأنها عقدت عن غير رضا منه ومشورة من أهل الدين والعلم والرأي، ولأنها ستفسد دينه ودين أبنائه وذريته، وتفسد كذلك دنياه.
3- الواجب الثالث هو العمل على إسقاطها، وشأنها في ذلك شأن كل منكر وجد على أرض الإسلام يجب إنكاره وفق شروط وضوابط إنكار المنكر من الاستطاعة، وألا يترتب على ذلك منكر أكبر منه، وألا تنكر منكراً بمنكر.
4- والواجب الرابع اعتقاد أن اليهود ماداموا متمسكين بدينهم الباطل، ومحاربين للإسلام وأهله فهم أهل أمة قد غضب الله عليها، ويجب حربهم ومقاومتهم ما ظلوا على مسلكهم في حرب الإسلام والكفر به، والعدوان على المسلمين، إن بغضهم دين يجب على المسلم أن يدين الله به.
5- وجوب توحيد الأمة نحو هذا الهدف في القضاء على علو اليهود في الأرض، وبطشهم بالمسلمين وأسرهم لمسرى رسول ا صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.
6- الاعتقاد بأن اليهود ما تمكنوا وعلوا في الأرض على هذا النحو إلا بعد أن ألغى الإسلام من دين الدول العربية ودساتيرها وتشريعها -إلا ما رحم الله-، وحلت الدعوات القومية واللادينية محل الإسلام، وتصدر لهذه القضية اللادينيون الذين حاربوا اليهود تحت شعارات غير الإسلام، وعزلوا الإسلام عن هذه القضية ثم لما فشلوا - وهذه سنة الله في خلقه-، وأعلنوا سلمهم الذليل، وارتموا تحت أقدام اليهود جعلوا هذا منتهى الحكمة والعقل، فخابوا في حربهم، وأذلهم الله وأخزاهم في الدنيا قبل الآخرة، ببعدهم عن الدين، ونبذهم لكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم .
ومن أجل ذلك فلا انتصار في هذه القضية ولا إزاحة لليهود عن صدر الأمة.. وإنهاء علوهم في الأرض إلا بالإسلام عقيدة ومنهجاً وجهاداً.
7- دعا الله سبحانه وتعالى ليلاً ونهاراً أن يجمع كلمة أهل الإسلام، وأن يوحد صفوفهم وأن يردهم إلى دينهم، وأن يهيئ لهم الأسباب للنصر على عدو الله وعدوهم.
============(29/207)
(29/208)
هل يجوز عقد الصلح مع اليهود إن كان المسلمين وضعهم ضعيف ؟
الجواب :
يعتبر هذا الموضوع من الموضوعات الشائكة، والحساسة في نفس الوقت، لما يحيطه من أمور سياسية خفية، وعواطف جياشة، غير مستعدة لسماع رأي سوى ما تؤمن به، علاوة على المتاجرة بهذه القضية من قبل الساسة الرسميين، أو الجماعات والأحزاب الطامحة للسلطة.
وقد بحثت شبكة "إسلام أون لاين" هذا الملف تحت عنوان :قضية فلسطين اليوم ... رؤية فقهية سياسية، وقد تعددت الآراء في المسألة فيمكنك الرجوع إلى الشبكة المذكورة إذا كان الموضوع يهمك.
ولكن ما أنصح به جميع الباحثين في مثل هذه الموضوعات الحساسة، أن يجمعوا جميع أطراف الموضوع، سواء أكانت شرعية أم ميدانية، وأن لا يبنوا أحكامهم على نبض الشارع.
فالمفتي هنا مقامه مقام القاضي، بل أشد، لأن القاضي يبحث في قضية محددة، وهذا يتكلم في مصير الأمة.
وأنقل إليك ملخصاً عن الموسوعة الفقهية الكويتية عن أحكام الهدنة، لعلك تستفيد به لتكوين رأي ناضج في المسألة -والله يوفقنا إلى سواء السبيل-.
الهدنة
الهدنة في اللغة: السكون: مأخوذ من هدن الأمر، أو الشخص يهدون هدوناً، سكن بعد الهيج، ويقال: هادنه مهادنة: صالحه.
وفي الاستصلاح: عرفها الفقهاء بتعاريف متقاربة، وهي: الصلح على ترك القتال مدة بمال أو بغير مال إذا رأى الإمام مصلحة في ذلك.
وتسمى الهدنة: موادعة، ومعاهدة، ومسالمة، ومصالحة.
مشروعية الهدنة
لا خلاف بين الفقهاءفي مشروعية الهدنة في الجملة ودليل مشروعيتها: الكتاب، والسنة النبوية، وإجماع الأمة.
فمن الكتاب قوله تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }التوبة-1-7.
وقوله عز وجل: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا }الأنفال-61.
ومن السنة: مهادنته -صلى الله عليه وآله وسلم- قريشاً عام الحديبية عشر سنين.
أما الإجماع: فقد أجمعت الأمة على مشروعية الموادعة مع غير المسلمين في الجملة وهي جائزة لا واجبة، وقد تجب لضرورة كأن يترتب على تركها إلحاق ضرر بالمسلمين لا يتدارك.
شروط عقد الهدنة
يشترط في صحة عقد الهدنة شروط وهي:
الشرط الأول: الإمام أو نائبه:
اختلف الفقهاء فيمن له ولاية عقد الهدنة على رأيين:
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء "المالكية والشافعية والحنابلة"، أن يكون العاقد للهدنة هو الإمام أو نائبه، فلا يصح أن يعقدها غير الإمام أو نائبه، لما فيها من الخطر، ولأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- هادن بني قريضة بنفسه، وهادن قريشاً بالحديبية بنفسه، وأمنّ صفوان بن أمية عام الفتح بنفسه.
ولأن الإمام لإشرافه على جميع الأمور العامة أعرف بمصالحها من أشتات الناس، ولأن تجويزه لغيره يتضمن الجهاد وفيه افتيات على الإمام.
ولأن عقد الهدنة من تصرفات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بصفة الإمامة دون غيرها من تصرفاته -صلى الله عليه وآله وسلم- كالتبليغ، والفتوى والقضاء.
وكل ما تصرف عليه الصلاة والسلام بصفة الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام إقتداءً به -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة يقتضي ذلك.(29/209)
الرأي الثاني: للحنفية، وهو أنه لا يشترط إذن الإمام للموادعة، فيجوز عقد الموادعة لفريق من المسلمين كما يجوز للإمام ونائبه ولو بغير إذن الإمام، لأن المعول عليه وجود المصلحة في عقدها، فحيث وجدت جازت، ولأن موادعة المسلمين أهل الحرب جائزة بالاتفاق كإعطاء الأمان مثلاً وهو نوع من الموادعة.
الشرط الثاني: المصلحة:
يشترط لصحة عقد الهدنة أن يكون فيه مصلحة للمسلمين، ولا يكفي انتفاء المفسدة لما فيه من موادعتهم بلا مصلحة ولا حاجة، لقوله تعالى: { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }محمد-35.
والمصلحة المبيحة عقد الموادعة هي كل ما يحقق للمسلمين غرضاً مقصوداً شرعياً، بأن يكون بالمسلمين ضعف من قلة عدد أو عدة أو مال، والعدو قوي، أو بالمسلمين قوة وفي الموادعة مصلحة من نوع آخر:
بأن يرجى إسلامهم بالموادعة باختلاطهم بالمسلمين، أو يُطمع في قبولهم بذل الجزية، أو يكفّوا عن معونة عدو ذي شوكة، أو يعينوا المسلمين على قتال غيرهم من المشركين إلى غير ذلك من المنافع، فإن لم تدع إلى عقدها حاجة فلا يجوز عقدها بالاتفاق.
الشرط الثالث: تعيين مدة الهدنة:
اختلف الفقهاء في اشتراط تحديد مدة معينة لصحة الهدنة:
فذهب جمهور الفقهاء -المالكية والشافعية والحنابلة- إلى أنها لا تنعقد مطلقة لأن إطلاقها بلا تحديد مدتها يؤدي إلى ترك الجهاد، واختلفوا في هذه المدة على تفصيل تنظر في المراجع المعتمدة في المذاهب.
وذهب الحنفية إلى أن عقد الموادعة يصح أن يكون مطلقاً عن المدة، ويصح أن يكون مؤقتاً بمدة معينة، فإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم وكان في ذلك الصلح مصلحة للمسلمين فلا بأس به، لقوله تعالى: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ }الأنفال-61.
والآية وإن كانت مطلقة لكن أجمع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هي قوله تعالى: { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ }محمد-35.
ووادع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، ولا يقتصر جواز الموادعة على المدة المدذكورة في الحديث لتعدي المعنى وهو حاجة المسلمين أو ثبوت مصلحتهم دفع الشر عنهم إلى ما زاد عليها، لأن الموادعة تدور مع المصلحة، وهي قد تزيد وتنقص.
الشرط الرابع: خلو عقد الهدنة عن شرط فاسد:
لا يجوز للإمام أن يعقد الهدنة على شروط محظورة قد منع الشرع منها:
كأن يهادنهم على خراج يضربونه على بلاد المسلمين.
أو على مال يحمله الإمام إليهم.
أو على رد ما غنم من سبي ذراريهم لأنها أموال مغنومة.
أو على دخول الحرم أو استيطان الحجاز.
أو على ترك القتال أبداً.
أو على ألا يستنقذ أسرانا منهم.
فهذه وما شاكلها شروط محظورة قد منع الشرع منها فلا يجوز اشتراطها في عقد الهدنة، فإن شرط بطلت الشروط وعلى الإمام نقضها، لقوله تعالى: { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ }محمد-35، ولقول عمر -رضي الله عنه-: ترد الناس من الجهالات إلى السنة
=============(29/210)
(29/211)
الصلح مع اليهود . والمعاهدات مع الدول المعادية
فتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 72)
المفتي
حسن مأمون .
جمادى الأولى 1375 هجرية - 8 يناير 1956 م
المبادئ
1 - هجوم العدو على بلد إسلامى يوجب على أهلها الجهاد ضده بالقوة، وهو فى هذه الحالة فرض عين .
2 - يتعين الجهاد فى ثلاثة أحوال عند التقاء الزحفين، وعند نزول الكفار ببلد، وعند استنفار الإمام لقوم للجهاد حيث يلزمهم النفير .
3 - الاستعداد للحروب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية .
4 - ما فعله اليهود بفلسطين اعتداء على بلد إسلامى يوجب على أهليه أولا رده بالقوة، كما يوجبه ذلك ثانيا على كل مسلم فى البلاد الإسلامية .
5 - الصلح مع العدو على أساس رد ما اعتدى عليه إلى المسلمين جائز، أما إن كان على أساس تثبيت الاعتداء فهو باطل شرعا .
6 - موادعة أهل الحرب أو جماعة منهم جائزة شرعا، ولكن بشرط أن تكون لمدة معينة، وأن يكون فيها مصلحة للمسلمين، فإن لم تكن فيها مصلحة فهى غير جائزة بالإجماع .
7 - قوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين فى ذلك أخذا من قوله تعال ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون .
8 - المعاهدات التى يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة شرعا إذا كانت فيها مصلحة للمسلمين، أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامى فإنها تكون تقوية لمن اعتدى ، وذلك غير جائز شرعا .
9 - لليهود فى فلسطين موقف خاص، فهم موجودون بها بحكم سياسى هو الهدنة التى فرضتها الدول على الفريقين، ونزلت الحكومات الإسلامية على حكمها غلى حين وجود حل عادل للمسألة .
10 - ما فعله المسلمون من منع السلاح والذخيرة عن اليهود بعدم السماح بمرور ناقلاتها فى بلادهم جائز ولا شىء فيه، وإن كان اليهود يعتبرون ذلك اعتداء عليهم
السؤال
من السيد / .
قال ما بيان الحكم الشرعى فى الصلح مع دولة اليهود المحتلة .
وفى المحالفات مع الدول الاستعمارية والأجنبية المعادية للمسلمين والعرب والمؤيدة لليهود فى عدوانهم
الجواب
يظهر من السؤال أن فلسطين ارض فتحها المسلمون وأقاموا فيها زمنا طويلا، فصارت جزءا من البلاد الإسلامية أغلب أهلها مسلمون، وتقيم معهم أقلية من الديانات فصارت دار إسلام تجرى عليها أحكامها وأن اليهود اقتطعوا جزءا من أرض فلسطين وأقاموا فيه حكومة لهم غير إسلامية وأجلوا عن هذا الجزء أكثر أهله من المسلمين .
ولأجل أن نعرف حكم الشريعة الإسلامية فى الصلح مع اليهود فى فلسطين المحتلة دون نظر إلى الناحية السياسية - يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أى بلد من بلاد المسلمين هل هو جائز أو غير جائز .
وإذا كان غير جائز فما الذى يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان - إن هجوم العدو على بلد إسلامى لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه، فدار الإسلام يجب أن تبقى بيد أهلها ولا يجوز أن يعتدى عليها أى معتد، وأما ما يجب على المسلمين فى حالة العدوان على أى بلد إسلامى فلا خلاف بين المسلمين فى أن جهاد العدو بالقوة فى هذه الحالة فرض عين على أهلها يقول صاحب المغنى يتعين الجهاد فى ثلاثة - الأول إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان - الثانى إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم - الثالث إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أى اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم .
قال الله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } الأنفال 60 ، فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدى عليهم لدينهم، وضد كل من يطمع فى بلادهم، فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها .
والخلاف بين العلماء فى بقاء الجهاد أو عدم بقائه وفى أنه فرض عين أو فرض كفاية - إنما هو فى غير حالة الاعتداء على أى بلد إسلامى، أما إذا حصل الاعتداء فعلا على أى بلد إسلامى فإن الجهاد يكون فرض عين على أهلها .
وقد بحث موضوع الجهاد الحافظ بن حجر وانتهى إلى أن الجهاد فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، وإلى أن التحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه .
وعلى ضوء هذه الأحكام يحكم على ما فعله اليهود فى فلسطين بأنه اعتداء على بلد إسلامى يتعين على أهله أن يردوا هذا الاعتداء بالقوة حتى يجلوهم عن بلدهم ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية وهو فرض عين على كل منهم، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين .
ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها دارا لكل مسلم فإن فرضية الجهاد فى حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولا، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين فى بلاد إسلامية أخرى ثانيا .(29/212)
لأنهم وإن لم يعتد على بلادهم مباشرة إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامى هى جزء من البلاد الإسلامية وبعد أن عرفنا حكم الشريعة فى الاعتداء على بلد إسلامى يمكننا أن تعرف حكم الشريعة فى الصلح مع المعتدى هل هو جائز أو غير جائز والجو اب إن الصلح إذا كان على أساس رد الجزء الذى اعتدى عليه إلى أهله كان صلحا جائزا، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحا باطلا لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلا مثله .
وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة مع أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيها مصلحة للمسلمين .
لقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } الأنفال 61 ، وقالوا إن الآية وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين فى ذلك بآية أخرى هو قوله تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } محمد 35 ، فأما إذا لم يكن فى الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع .
ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التى سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم، وليس فيه مصلحة للمسلمين .
ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين أما هذه الشروط والقيود فلا تتعرض لها، لأن غيرنا ممن اشتغل بهذه القضية أقدر على معرفتها وبيانها على وجه التفصيل منا والجواب عن السؤال الثانى إن الأحلاف والمعاهدات التى يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة من الناحية الشرعية إذا كانت فى مصلحة المسلمين .
أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامى كاليهود المعتدية على فلسطين فإنه يكون تقوية لجانب المعتدى يستفيد منه هذا الجانب فى الاستمرار فى اعتدائه، وربما فى التوسع فيه أيضا، وذلك غير جائز شرعا ونفضل على هذه الأحلاف أن يتعاون المسلمون على رد أى اعتداء يقع على بلادهم، وأن يعقدوا فيما بينهم عهودا وأحلافا تظهرهم قولا وعملا يدا واحدة تبطش بكل من تحدثه نفسه بأن يهاجم أى بلد إسلامى .
وإذا أضيف إلى هذه العهود والمواثيق التى لا يراد منها الاعتداء على أحد وإنما يراد منها منع الاعتداء السعى الحثيث - بكل وسيلة ممكنة فى شراء الأسلحة من جميع الجهات التى تصنع الأسلحة، والمبادرة بصنع الأسلحة فى بلادهم لتقوية الجيوش الإسلامية المتحالفة .
فإن ذلك كله يكون أمرا واجبا وضروريا لضمان السلام الذى يسعى إليه المسلم، ويتمناه لبلده ولسائر البلاد الإسلامية بل ولغيرها من البلاد غير الإسلامية .
ويظهر أن لليهود موقفا خاصا فلم يعقد مع أهل فلسطين ولا أية حكومة إسلامية صلحا ولم تجل بعد عن الأرض المحتلة وهى موجودة بحكم سياسى .
وهو الهدنة التى فرضتها الدول على الفريقين، ونزلت على حكمها الحكومات الإسلامية إلى أن يجدوا حلا عادلا للمسألة، ولم يرض بها اليهود ونقضوها باعتداءاتهم المتكررة التى لم تعد تخفى على أحد .
وكل ما فعله المسلمون واعتبره اليهود اعتداء على حقوقهم هو محاصرتهم ومنع السلاح والذخيرة التى تمر ببلادهم عنهم .
ولأجل أن نعرف حكم الشريعة فى هذه المسألة نذكر أن ما يرسل إلى أهل الحرب نوعان .
النوع الأول السلاح وما هو فى حكمه . الثانى الطعام ونحوه وقد منع الفقهاء أن يرسل إليهم عن طريق البيع السلاح، لأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين، وكذا الكراع والحديد والخشب وكل ما يستفاد به فى صنع الأسلحة سواء حصل ذلك قبل الموادعة أو بعدها، لأنها على شرف النقض والانقضاء فكانوا حربا علينا، ولا شك أن حال اليهود أقل شأنا من حال من وادعهم المسلمون مدة معينة على ترك القتال، وعلى فرض تسمية الهدنة موادعة فقد نقضها اليهود باعتداءاتهم ونقض الموادعة من جانب يبطلها ويحل الجانب الآخر منها - وأما النوع الثانى فقد قالوا إن القياس يقضى فى الطعام والثوب ونحوهما بمنعها عنهم إلا أنا عرفنا بالنص حكمه وهو أن صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه - وقد ورد النص فيمن تربطه بالنبى صلة الرحم ولذلك أجابهم إلى طلبهم بعد أن ساءت حالتهم .
وليس هذا حال اليهود فى فلسطين . ولذلك نختار عدم جواز إرسال أى شىء إليهم أخذا بالقياس، فإن إرسال غير الأسلحة إليهم يقويهم ويغريهم على التشبث بموقفهم الذى لا تبرره الشريعة .
والله تعالى أعلم
==============(29/213)
(29/214)
الصلح مع اليهود
المجيب
…سلمان العودة
التصنيف
…أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ
…1/7/1421
عدد القراء
…2359
السؤال
هل يجوز الصلح مع اليهود أو النصارى على أرض بلد مثل (فلسطين مثلاً)، وقد كانت تحت حكم المسلمين سابقاً، ويكون هذا الصلح بلا تحديد لمدة معينة ؟
الجواب
الذي أختاره في هذه المسألة، أعني مسألة الهدنة مع الكفار يهوداً كانوا، أو نصارى، أو وثنيين أنها لا تجوز إلا مؤقتة محددة، وأقصى ما عاهد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان في الحديبية، ومدتها عشر سنين، وليس هذا بمتعين ألاّ يجوز أكثر منه؛ لأنه أمر مرتبط بالمصلحة وظروف الواقع والحال.
وإنما لم تجز الهدنة المطلقة لأسباب، منها: أنها تفضي إلى إبطال الجهاد المقرر في القرآن والسنة، والثابت ثبوتاً قطعياً لدى جميع المسلمين، والباقي بقاءً قدرياً ولو كره الكافرون.
ومنها أنها تفرض على الأمة الالتزام بتبعات فترات الضعف والعجز حتى حين تقوى وتقدر على دفع عدوها، واسترداد أرضها، ولذلك نرى أن الهدنة المطلقة غير ملزمة للأمة إذا قويت على أخذ حقها.
والقول بذلك، أعني بتحريم الهدنة المطلقة هو قول جمع من أهل العلم، ولذلك قال الشافعي: "أحب للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة.. مهادنة يكون النظر لهم فيها ولا يهادن إلا إلى مدة، ولا يجاوز بالمدة مدة أهل الحديبية، فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة، فإن لم يقوَ الإمام فلا بأس أن يجدد مدة مثلها، أو دونها ولا يجاوزها، وإن هادنهم إلى أكثر منها فمنتقضة؛ لأن أصل الغرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
قال: "وليس للإمام أن يهادن القوم من المشركين على النظر مدة هدنة مطلقة، فإن الهدنة المطلقة على الأبد، وهي لا تجوز لما وصفت ...الخ " باختصار.
وذكر ابن قدامة في (المغني) معنى الهدنة، وأنها عقد على ترك القتال مدة، ثم قال: لا تجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة؛ لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، ولا يجوز أن يشترط نقضها لمن شاء منهما؛ لأنه يفضي إلى ضد المقصود منها.
ثم ذكر -رحمه الله- الخلاف في المدة، هل تجوز على أكثر من عشر سنين؟ كما هو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد؟ أم لا تجوز كما هو منصوص الشافعي كما سبق ورواية أخرى عن أحمد.
والأصح الجواز -والله أعلم- إذا اقتضته المصلحة، أو دعت إليه الضرورة.
وذكر ابن القيم في أحكام أهل الذمة خلافاً في الهدنة المطلقة، وقال: هل يجوز لولي الأمر أن يعقد الهدنة مع الكفار عقداً مطلقاً لا يقدره عدة، بل يقول: نكون على العهد والميثاق ما شئنا، ومن أراد فسخ العقد فله ذلك إذا أعلم الآخر ولم يغدر به، أو يقول: نعاهدكم ما شئنا ونقركم ما شئنا.
وذكر في المسألة قولين: أحدهما: المنع، وهو قول للشافعي ورواية عن أحمد.
والثاني: الجواز، وهو نص الشافعي في (المختصر)، ثم ذكر قولاً ثالثاً لأبي حنيفة، وهو أنها تكون جائزة غير لازمة.
والذي يظهر من كلام ابن القيم أن مرادهم عدم تجديد مدة في العقد، وهذا يختلف عن أن يتفق الطرفان على أبدية العقد، والحديث موصول.
================(29/215)
(29/216)
المعركة الفاصلة مع اليهود
تأليف
فضيلة الشيخ
سلمان بن فهد العودة
المشرف العام على موقع الإسلام اليوم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أمَّا بعد:
فسيكون -بعون الله- مدار الحديث في هذه الرسالة على موضوع مهم، يفرض نفسه في كل وقت وحين، ألا وهو مسألة اليهود واحتلالهم لفلسطين، ونتناول هذا الموضوع بمنظور شرعي من مختلف جوانبه من خلال الفصول الآتية:
الفصل الأول: إسرائيل تحصد ميداليات مؤتمر السلام!
الفصل الثانى: حجج المنادين بالسلام.
الفصل الثالث: ما هو المخرج؟
الفصل الرابع: نظرة شرعية.
الفصل الخامس: بشائر المستقبل.
سلمان بن فهد العودة
الفصل الأول
إسرائيل تحصد ميداليات مؤتمر السلام!
لقد حقَّق اليهود -ولا زالوا يحققون- مكاسب كبرى في كل عملية سلام يحاولها العرب، وأبرز هذه المكاسب ما يلي:
أولاً: الاعتراف الواضح المطلق بإسرائيل، وحقها في الوجود:
ولذلك يقول (بيريز) في مقابلة مع جريدة الأهرام المصرية عقب بداية مفاوضات السلام: "العالم العربي قريب جدًّا من الاعتراف بإسرائيل، مما لا يعني فقط إنجاز السلام؛ بل دخول مرحلة جديدة أيضًا"، يقصد بهذه المرحلة أن العرب أصبحوا يعترفون بأن إسرائيل لها حقوق تاريخية في فلسطين -كما صرح بذلك الوفد المصري-، بمعنى أنهم لم يعودوا يقولون الآن: إن إسرائيل واقع لا مفر من الاعتراف به والتعامل معه، إذ فرض نفسه بالقوة؛ بل أصبحوا الآن يقولون: إن لليهود حقًّا في أرض فلسطين ويجب الاعتراف لهم بهذا الحق، وإقرارهم عليه. وسأعرض لهذه القضية إن شاء الله تعالى.
يقول أحد المؤلفين تعليقًا على هذا الأمر: "إن إجبار العرب على الصلح مع إسرائيل هو هدف حيوي من أهداف السياسة الإسرائيلية، لابد لها من السعي إلى تحقيقه، إذا أرادت التخلص من الوضع الشاذ الذي يستحوذ عليها منذ مولدها عام ثمانية وأربعين إلى الآن.
فإسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلى الأبد مع جيران يعادونها، ويرفضون الاعتراف بها، ويقاطعونها سياسيًّا واقتصاديًّا مقاطعة لا هوادة فيها، ويهددون كيانها، ويتربصون بها الدوائر...
والنتيجة الوحيدة للوضع الشاذ لإسرائيل، هي حرب مستديمة لا تتوقف لفترة معينة إلا لتنشب من جديد، والحرب تكلِّف إسرائيل نفقات ضخمة وخسائر جسيمة في الأموال والأرواح، وهذا الأمر لا تطيقه إسرائيل إلى الأبد بحال من الأحوال.
لذا فقد حرص عقلاء اليهود حرصًا بالغًا على بقاء اليهود في الماضي مشتتين في أقطار الدنيا، وعلى عدم تجمعهم في فلسطين؛ لأن بقاءهم في بلاد كثيرة يقيهم من الفناء الذي يتعرضون له إذا تجمعوا في بلد واحد؛ ولأن العرب أو المسلمين إذا ناموا ساعة فلن يناموا إلى قيام الساعة، فإذا عرف العرب طريقهم وساروا عليه، فإنهم سيقضون على إسرائيل عاجلاً أو آجلاً.
ثم يسترسل المؤلف قائلاً: لقد توقع زعماء الصهاينة أن العرب سيرضخون للأمر الواقع بعد مولد إسرائيل عام ثمانية وأربعين ويعترفون بها، ولكن الحوادث أثبتت عكس ذلك؛ إذ إن حقد العرب والمسلمين المقدَّس -كما يقول المؤلف- ازداد على إسرائيل شدة واضطرامًا مع مرور الأيام.
والمسؤولون العرب أول من يعرف استحالة الاعتراف بإسرائيل أو مصالحتها من قبل الشعوب، والذي يُقْدم على الاعتراف بها أو مصالحتها من هؤلاء المسؤولين يخسر مكانته بين شعبه، وبين العرب والمسلمين، ثم يخسر سلطانه وحياته أيضًا.
لذلك لن يعترف المسلمون بإسرائيل مختارين أبدًا، ولكي تجبر إسرائيل العرب على الصلح معها والاعتراف بكيانها، فقد لجأت إلى وسائل العنف، فاعتدت على الدول العربية العديد من المرات...".
والمقصود أن من أهم وأعظم مكاسب إسرائيل من السلام هو اعتراف العرب بها، وإقرارهم بوجودها، وأن لها الحق في أن تقيم في أرض فلسطين، وأن تنادي اليهود من كل مكان في الدنيا؛ حتى يهاجروا إلى هذه البقعة من الأرض الإسلامية.
ثانيًا: كسر العزلة بين إسرائيل وعدد من بلاد العالم:(29/217)
فقد كانت هناك عزلة اقتصادية وعلمية بين إسرائيل وبين روسيا وكثير من بلاد أوروبا، لكن الآن هناك زيارات متبادلة بين المجموعة الأوروبية وبين إسرائيل، بعد أن كان جزء من الرأي العام الأوروبي قد نبذ إسرائيل قبل أزمة الخليج، وقد أدى هذا الأمر إلى اتساع مجال التعاون بين الجانبين الإسرائيلي والأوروبي، ونمو الآفاق العريضة لتطويره في الأعوام المقبلة؛ إذ إن إسرائيل مرشحة لعضوية النادي الاقتصادي الأوربي.
كما كان من ضمن التنازلات، قيامها بتأسيس وتدشين(1) وتأييد قيام أكبر حركة تهجير للسوفييت اليهود إلى إسرائيل حتى الآن، وبذلك كسرت إسرائيل طوق العزلة العالمية التي كانت تضرب عليها في عدد من بلاد العالم.
ثالثًا: دفع الركود الاقتصادي الذي تعاني منه إسرائيل:
فالركود الاقتصادي كان يهدد اقتصاد إسرائيل في كل لحظة، مما يؤثر بطبيعة الحال على التسليح خاصة، ومن المعلوم أن سعر الأسلحة المتطورة قد ارتفع كثيرًا، وأصبح من الصعب على إسرائيل توفيره في ظل ظروف الركود الاقتصادي الذي كانت تعيشه
ومن المعلوم أيضًا أنه لكي يُضمن نجاح وتقدم اقتصادي لابد من وجود استقرار سياسي، أي أن رؤوس الأموال لا يمكن أن تهاجر من العالم إلى إسرائيل وهي بلد قلق مضطرب، يمكن أن يتغير أو تُشنُّ عليه حرب في أي لحظة، فلابد أن يضمن المستثمرون وجود قدر من الاستقرار السياسي والأمن الاقتصادي؛ لتوظيف رؤوس أموالهم التي يمكن أن تهاجر إلى إسرائيل.
وهذه من أعظم المكاسب التي سوف تحصل عليها إسرائيل، خاصة أنه - وفي ظل الهجرة اليهودية المكثفة إلى إسرائيل- لو وجد المهاجرون ظروفًا اقتصادية صعبة فمن الممكن أن يرجعوا، ويكون هناك ما يُسمَّى بهجرة معاكسة، أي خروج اليهود من إسرائيل إلى المكان الذي هاجروا منه، فإذا ما استقر الوضع اقتصاديًّا كانت إسرائيل هي البيئة المناسبة لاستقبالهم واستقرارهم فيها.
لهذا لا نستغرب إذا نادى شيمون بيريز -وهو زعيم حزب العمل- بإمكانية أن يتخلى اليهود عن غزة وبعض أراضي الضفة الغربية المكتظة بالعرب؛ لكي تدمج في اتحاد فيدرالي أردني فلسطيني! هذه فكرته، أما لماذا؟ فقد جاء الجواب على هذا في قوله: "لكن نحن إذ نتخلى عن بعض حقوقنا هنا -فجعلها حقًّا لهم-، نكون قد أدَّينا واجبنا تاريخيًّا تجاه أنفسنا، فأولاً ستحافظ إسرائيل -كما يقول- على نقائها العرقي وهويتها الدينية من هؤلاء الدخلاء، وبذلك تستطيع أن تحكم العرب جميعًا وليس فلسطين وحدها".
ولنلاحظ قوله: الدخلاء، فهو يَعُدُّ العرب المسلمين دخلاء -من الناحية العرقية والدينية- في مثل جو إسرائيل وبيئتها؛ ولذلك إذا تخلَّى عن هذه الأراضي ذات الكثافة الإسلامية والعربية، يكون قد تخلَّص من هؤلاء الدخلاء الذين يشكِّلون شيئًا غير مرضي عنه، ولا مرغوب فيه، يعكر نقاء العنصر الإسرائيلي -كما يزعم-، وفي الوقت نفسه فإنها تفتح أمام إسرائيل الأبواب المغلقة.
وهناك اتجاه آخر لبعض زعماء إسرائيل، حيث يطالبون بعدم التخلي عن شبر واحد من أرض فلسطين، والفرق بين هؤلاء وأولئك -كما عبَّر أحدهم- هو فرق بين زعامتين: إحداهما عجولة متسرعة، تريد أكل العرب بيديها وبسرعة، والأخرى متأنية بطيئة حكيمة، تريد أكل العرب والمسلمين بالشوكة والسكين، وإلا فهم متفقون على الأكل، لكن مختلفون في الطريقة.
فإسحاق شامير(2) يمثِّل صورة الذي يريد أن يلتهم المسلمين بكلتا يديه وبسرعة؛ لذلك لما استقبل المهاجرين السوفييت، ورأى جموع اليهود تفد إلى إسرائيل، أصابه ذلك بفرح غامر وسرور لا حدود له، فانطلق يتحدث على سجيته، في لحظة من لحظات الانفعال والتجلي العاطفي، بعيدًا عن الأساليب الدبلوماسية الرسمية، وقال وهو يخاطب المهاجرين: "إن إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي عقيدتي، وحلمي الشخصي، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة، ولا الصعود إلى أرض الميعاد، ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم".
رابعًا: إزالة آثار المقاطعة السياسية والثقافية والحدودية مع العرب:
فتلك المقاطعة تؤثر سلبيًّا في صعوبة نقل السلع الإسرائيلية؛ لأنها لا يمكن أن تنقل عبر البر بسبب المحاصرة العربية، بينما يمكن أن تنقل جوًّا بصعوبة، مما يجعل أسعارها مرتفعة، وغير قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية، وبالتالي يصاب الاقتصاد اليهودي بشيء من الكساد.
فإذا زالت هذه المقاطعة، أمكن أن تنقل إسرائيل بضائعها عبر الأراضي العربية؛ بل أمكن أن تنقل بضائعها إلى البلاد العربية نفسها، بحيث تكون الأسواق العربية مفتوحة على مصاريعها للبضائع والمنتجات والصناعات الإسرائيلية.
إن منع التواصل بين اليهود وبين العرب والمسلمين في هذه الرقعة يضر بإسرائيل كثيرًا، فهم حريصون أشد الحرص على فتح الحدود، فيأتي اليهود إلى البلاد العربية، ويذهب العرب والمسلمون إلى إسرائيل دون أي تحفظ.(29/218)
إن إسرائيل تريد أن تكون حدودها مفتوحة للمسلمين، وحدود البلاد الإسلامية والعربية مفتوحة لها، وهذا يفسِّر حرص إسرائيل على عقد المؤتمر أو بعض جلساته -كما يقولون هم- في الشرق الأوسط؛ ذلك لأن من أهم مقاصدهم أن يأتي العرب إلى إسرائيل، أو حتى أن يذهب اليهود إلى أي بلد عربي آخر كالأردن مثلاً، أو لبنان أو سوريا، أو أي بلد عربي آخر حتى تعقد المفاوضات هناك.
فاليهود يرون أن من أهم مكاسبهم اعتراف العرب بإسرائيل، وأن تكون العلاقات بينهم طبعية، بعيدًا عن تجنب إسرائيل أو مقاطعتها؛ لذلك فهم يعدون عقد المفاوضات في إحدى البلاد العربية تمهيدًا لكسر هذه الحواجز الحدودية.
وقد دعا بيريز في مقال له عن آفاق التعاون الإقليمي، إلى التعاون بين دول المنطقة العربية وغير العربية، وقال: "إن هذا التعاون يمكن أن يقوم على المعرفة والمهارة والتقنية اليهودية، وعلى النفط والسوق العربيين، وعلى المياه التركية، فهذا هو التكامل". وأحيانًا يصرِّحون بأخذ العمالة البشرية ورؤوس الأموال من البلاد العربية، والخبرة والعقول من اليهود.
هذه نظرة عنصرية فوقية، تستهدف الاستحواذ على الثروة النفطية وعلى الطاقات الإسلامية، وكأن المسلمين ليسوا مؤهلين الآن ولا مستقبلاً للإفادة من هذه الطاقة، فيحتاجون إلى أن يتولى اليهود بمعرفتهم ومهارتهم -فيما يزعمون- الانتفاع بها.
ومن أهم نتائج ذلك -كما هو ظاهر- غزو الأسواق بالمنتجات اليهودية التي كانت تقاطع بالأمس، وفتح الطريق أمام علاقات دبلوماسية مع اليهود، وإقامة سفارات أو قنصليات -كما هو مطروح-، وهو ما يسمى بالتطبيع، وللحديث عنه مواضع أخرى إن شاء الله تعالى؛ لأنه من أهم القضايا التي تبنى على عملية السلام.
كذلك فتح الباب أمام السياح اليهود كي يأتوا إلى البلاد العربية؛ بل ومن حقهم أن يزوروا حتى الأماكن الدينية والأثرية والتاريخية على حد سواء مع العرب والمسلمين، وهذه من بنود الصلح الذي عقد في مؤتمر كامب ديفيد كما سيأتي.
أما التعامل الثقافي فجانب مهم من جوانب التطبيع، وخلاصته إنهاء حالة العداء مع اليهود، ولعل مما يظهر ذلك العناق الحار الذي رؤي وشوهد في أكثر من مكان بين الوفد الإسرائيلي ومجموعات من الوفود العربية، والابتسامات العريضة التي كست وجوه بعض العرب، والتي كانت بعرض المصيبة التي أصابت الأمة الإسلامية، لا من اليهود -فليس غريبًا أن يحارب اليهود أمة الإسلام و يكيدوا لها-، لكن من هؤلاء الذين ذهبوا إلى مدريد، وصافحوا وعانقوا الوفد الإسرائيلي، واتفقوا معه على بيع أرض المسلمين (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف:20].
خامسًا: حرب المياه:
إن إسرائيل تخطِّط للمستقبل القريب والبعيد، ومن المعروف أنها الآن تستهلك من المياه خمسة أضعاف ما يستهلكه العرب كلهم، وإنما غزت إسرائيل لبنان للسيطرة على منابع بعض الأنهار؛ كنهر الليطاني، والحصباني، والوزاني، وغيرها، حتى إن بعضهم يقول: إن إسرائيل من الممكن أن ترفع شعار: "الماء مقابل السلام"؛ لأنه شريان حيوي هام، فلا حياة إلا بالماء، كما قال الله - عز وجل -: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء:30]، فالماء أمر ضروري ضرورة الهواء لوجود الإنسان، والإسرائيليون تمكنوا من سرقة مليون وثلاث مئة ألف متر مكعب من مياه الأنهار العربية، بالإضافة إلى مئتي مليون متر مكعب من المياه الجوفية، بطريقتهم الخاصة.
ومما يتوقعه بعض الباحثين -والعلم عند الله تعالى- أنه في القرن القادم سوف يتعرض ألف ومئتي مليون إنسان للعطش؛ بسبب نقص المياه، وغالبية هؤلاء الناس هم في الشرق الأوسط، يعني في البلاد العربية وفي إسرائيل أيضًا.
ولعله من المعروف أنه عُقد في تركيا مؤتمر بعنوان: مؤتمر مياه السلام، وهو يهدف إلى استثمار مياه الأنهار الرئيسة في الشرق الأوسط، وكثير من هذه الأنهار ينبع من بلاد يقع غالبها تحت قبضة الدول الغربية ومن يدور في فلكها، كتركيا مثلاً التي تنبع منها عدة أنهار هي التي تسقي البلاد العربية.
ومما جاء في هذا المؤتمر: أنه من الممكن أن تستثمر تركيا مياه الفرات، وتتحكم فيها، وتبيعها إلى إسرائيل بكميات هائلة مقابل شيء آخر، وقد عرضت تركيا بيع هذه المياه على العرب مقابل النفط، حيث المياه أهم من النفط؛ لأن النفط يمكن الاستغناء عنه، لكن الماء لا يمكن الاستغناء عنه.
وفرصة بيع المياه التركية إلى إسرائيل لو حصلت فستكون مناسبة لدمج إسرائيل بالمنطقة العربية من الناحية الاقتصادية عن طريق التعاون البري، كما تم التعاون من قبل في موضوع يعد - في نظرهم - بريئًا وهو ما يسمى بحماية البيئة.
فإذا عرفنا أن العرب يعانون نقصًا في المياه بمقدار أربعة وأربعين بالمئة، وأن منابع المياه يتحكم فيها دول أخرى، وأن إسرائيل تتحكم في جزء كبير من الموارد المائية العربية، وتخطِّط للهيمنة على مواقع المياه في البلاد العربية؛ بل والأفريقية في منابع نهر النيل؛ ظهر مدى الخطر الذي يتهدد العرب في أحد أهم مقومات حياتهم.(29/219)
.الخسائر العربية من جرَّاء التفاوض مع اليهود:
في مقابل هذه المكاسب الإسرائيلية، وغيرها من المكاسب التي لا يمكن حصرها، فهناك خسائر عربية كبيرة، منها:
- أولاً: دخول كل دولة من الدول العربية على حدة في مفاوضتها لإسرائيل دون الدول الأخرى، وبكل تأكيد فإن هذا التمزيق الذي تسعى إليه إسرائيل لن يُمكِّن العرب من استرجاع هويتهم الجماعية(3).
إذن ينبغي أن يُعرف أن إسرائيل تحرص على تفتيت الدول العربية إلى دويلات صغيرة أكثر مما هي عليه الآن، وقد جاءت تقارير عديدة تؤكِّد ذلك، منها مقال غاية في الغرابة للدكتور عبد الله بن فهد النفيسي تعجبت وذهلت بعدما قرأته، وأظن أن المقال كُتب عام 1406هـ بعنوان: "إسرائيل والخليج".
وقد جاء فيه مما يتعلق بهذا الموضوع: "أكد موسى ساريد رئيس وزراء إسرائيل الأسبق في مذكراته أنه لكي تبقى إسرائيل فلابد من تحقيق هدفين مهمين:
أولهما: أن تصبح إسرائيل قوة إقليمية مهيمنة، تتمتع دائمًا بالتفوق العسكري على العرب.
وثانيهما: أن تفرض إسرائيل تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، ضعيفة ومفككة".
لقد كتب ساريد هذا الكلام في الخمسينات، ومن يتفحص واقع الصراع العربي الإسرائيلي لا يحتاج إلى كثير ذكاء كي يعرف أن إسرائيل نجحت في تحقيق الهدف الأول نجاحًا واضحًا، وأنها مستمرة في تحقيق الهدف الثاني.
فقد طرح ساريد وابن جوريون(4) عدة أفكار لتحقيق الخطوة الثانية، أي تقسيم المنطقة الإسلامية إلى دويلات صغيرة ضعيفة ومفككة، تارة تحت شعار طائفي أو عرقي أو غير ذلك، وقد طرحوا آراء لتقسيم لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر... الخ.
إذن هم يرون أن من أهم مكاسبهم تمزيق العرب والمسلمين إلى دويلات صغيرة مفككة ومشتتة؛ بل ومتناحرة فيما بينها، وذلك بإيجاد التناقضات بينهم.
وهذا ما حصل في مؤتمر السلام، فقد دخلت كل دولة من الدول العربية على حدة في مفاوضات مع إسرائيل، وكانت إسرائيل غير ملزمة بأن تتفاوض مع الجميع، فتتفاوض مع من تريد وترفض مفاوضة من لا تريد، فمن الممكن جدًّا أن ترفض التفاوض مع الفلسطينيين مثلاً، أو السوريين، أو أي طائفة أو دولة لا ترضى بالتفاوض معها.
- ثانيًا: بدت إسرائيل وكأنها هي التي تنظِّم المؤتمر، وتدير شؤون العرب فيه، فهي التي تحدِّد الوفد الفلسطيني مثلاً، وترفض أن يكون لهم انتماء إلى منظمة التحرير أو غيرها، وأن يكونوا ممثلين لكل طبقات الفلسطينيين، كما رفضت واشنطن التمثيل المستقل للفلسطينيين بناء على طلب إسرائيل، ورفضت أيضًا إدراج موضوع القدس ضمن القضايا المطروحة، كما رفضت الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ورفضت أمريكا أن تطلب من إسرائيل تجميد عمليات الاستيطان التي لازالت قائمة على قدم وساق، حتى قال أحد الوزراء الإسرائيليين: "هناك حملة اليوم لا مثيل لها في الاستيطان منذ عام ثمانية وأربعين"، وحقًّا لأول مرة تُشن هذه الحملة الضارية من الاستيطان اليهودي؛ لإثبات أقدام اليهود وترسيخها في البلاد التي احتلوها.
- ثالثًا: لو فُرض وجود سلام مؤقت فإنه ليس في صالح العرب؛ ذلك أن إسرائيل قد جنَّدت كل أجهزة استخباراتها وكل وسائلها وإمكانياتها؛ لسرقة الأسرار العسكرية والحربية والاقتصادية من أنحاء العالم، وكل يوم يزيدها رسوخًا وثباتًا وعمقًا.
أما بالنسبة للعرب، فإنهم على النقيض من ذلك، فهم يحاولون أن يلتقطوا أنفاسهم، حتى يضمنوا للمواطن شيئًا من طلب الرزق الذي حرم منه في أكثر من بلد، وأصبح يلهث ليله ونهاره بحثًا عنه.
وخلال هذه المفاوضات، استطاعت إسرائيل أن تخترق المجال الجوي لعدد من الدول العربية عدة مرات، وهذا الاختراق له دلالاته، فهو إشارة إلى الذراع الطويلة القوية لإسرائيل لتهديد العرب؛ إشعارًا لهم بأن إسرائيل تتفاوض معهم من موقع قوة، وهو أيضًا رسالة من إسرائيل إلى أمريكا تقول فيها: إن إسرائيل تستطيع أن تستغني عنكم، وليست بحاجة إليكم حتى تدافعوا عنها، فهي قادرة على أن تدافع عن نفسها.
وكذلك الحال بالنسبة للنواحي العسكرية، والاقتصادية، والأخلاقية، والاجتماعية، والأمنية، في البلاد الإسلامية والعربية، فإن الوقت فيها عامل سلبي، في حين تُحكم إسرائيل قبضتها لضبط أمورها، والقضاء على كل التحديات التي تواجهها.
- رابعًا: ومن الخسائر الفادحة والواضحة أنه مع اعتراف العرب بالوجود الإسرائيلي، والجلوس على طاولة المفاوضات، وتقديم قائمة طويلة من التنازلات؛ فإن من المعروف أن هذا المؤتمر أشبه ما يكون بندوة حوار ومناقشة؛ إذ ليس له حق إصدار القرارات، أو التصويت، أو فرض حلول معينة على أحد أطراف النزاع، وبذلك نعلم أن إسرائيل قد حصدت -كما يقال- ميداليات السلام في هذا المؤتمر، وذهبت بها، وأنها حتى على فرض تقديم تنازلات شكلية فهي الرابح الأول.
* * *
الفصل الثاني
حجج المنادين بالسلام
.الحجة الأولى: التعجيل برفع معاناة الشعب الفلسطيني:(29/220)
هناك بعض الناس يقولون: أنتم تتكلمون عن أمور بعيدة وقضايا خيالية، إذ كيف تقولون: إن العرب والمسلمين يستطيعون مواجهة إسرائيل؟ فربما كان السلام أفضل حل الآن، وربما يكون غياب العرب والمسلمين عن هذا المؤتمر خسارة لا تعوض، فلماذا لا يذهبون إلى مؤتمر السلام؟ وعلى فرض أنهم لم يكسبوا شيئًا فإنهم لن يخسروا شيئًا!
والجواب عن هذا أن نقول:
أما الخسارة فقد تبين أنهم قد خسروا أشياء كثيرة في الجوانب العقدية والأخلاقية والعلمية والاجتماعية، لكننا سوف نعالج بعض الحجج التي يطرحونها.
أما معاناة الشعب الفلسطيني المشرد، الذي قد أوذي واضطهد من قِبَل الأصدقاء قبل الأعداء، ووقعت له مجازر في عدد من البلاد العربية، وصار ضحية هجمات شرسة متبادلة من هذا الحاكم أو ذاك، فيقولون: إلى متى تستمر هذه المعاناة الطويلة؟ وهل تريدون من هذا الشعب أن يظل مشردًا بلا وطن وبلا مأوى؟ متى يعود إلى أرضه وإلى بلاده وإلى شجره، وإلى المكان الذي ولد فيه؟
فنسألهم على الطرف الآخر: هل سينهي المؤتمر هذه المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني؟ وعلى فرض وجود دولة فلسطينية تحت المظلة الإسرائيلية أوغيرها، فهل هذا يعني أن الشعب الفلسطيني قد انتهت معاناته وآلامه؟
إن القضية ليست قضية الشعب الفلسطيني فقط؛ بل هي قضية الأمة الإسلامية في أكثر بقاعها، حيث تواجه من ألوان المضايقة والاضطهاد في أقواتها وأرزاقها، وقبل ذلك في دينها، فالمعاناة واحدة، والهم واحد،
وكما قيل:
بكيتُ ونحن مختلفون دارًا
ولكن كلنا في الهمِّ شرقُ
ثم نسلّم حقاً أن الشعب الفلسطيني يعيش معاناة لا يعيشها غيره من الشعوب العالمية والعربية والإسلامية، هل هذا الحل العاجل الذي ينتظرونه ويتربصونه، والمتمثل بوجود دولة مسخ لهم بأي صورة من الصور تحت مظلة إسرائيل، دولة منزوعة السلاح.. هل هذا الحل العاجل الضعيف هو الحل الصحيح؟ أم أن صبر هؤلاء على معاناتهم وتحملهم لما يقاسونه الآن وما تحملوه أزيد من خمسين سنة، ربما يكون سببًا في حل قوي، يضمن الحقوق الكاملة.
إن هناك شعوبًا كثيرة تعاني من الاضطهاد؛ بل شعب إسرائيل نفسه قبل قيام دولة إسرائيل كان شعبًا مضطهدًا في كل مكان، وكانوا أقليات مشردة، ولعلنا نذكر ما لقيه اليهود على سبيل المثال في ألمانيا الهتلرية من ألوان الاضطهاد الذي يُعَدُّ أشبه بالأساطير، وهناك وثائق تدل على أنه حصل شيء من ذلك، ولكنه ضُخِّم لمصالح إسرائيلية، وحوربوا في بريطانيا نفسها، وفي أمريكا، وفي أكثر من مكان، وكان يُنظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار، ومن عمق المأساة والمعاناة التي واجهها شعب اليهود انبثق الحل، وأدركوا أنه لابد من وجود دولة تحميهم وتدافع عن حقوقهم، فقد ظلوا في التيه زمانًا طويلاً، ثم تجمعوا في فلسطين.
إذن لا مانع أن نقول: إن عمق المأساة والمعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني أو الشعب المسلم في أي بلد عربي آخر؛ كالعراق مثلاً أو ليبيا أو غيرها من البلاد، التي بالغت في اضطهاد المسلمين ومضايقتهم؛ هذا الاضطهاد قد يكون بداية الحل، وأقرب ما يكون الفجر عندما يشتد الظلام، كما قيل:
اشتدي أزمة تنفرجي
قد آذن ليلك بالبلج
حينما يفقد الإنسان جميع الأوراق يبدأ بامتلاك قوة جديدة . . شريطة ألاّ يفقد الإرادة.
.الحجة الثانية: سلام مؤقت مع إعداد العدة:
ومن حجج دعاة السلام أيضًا قولهم: إن السلام ليس منزَّلاً من السماء، فبإمكان العرب إذا تقوَّوْا أن يحاربوا إسرائيل، فلا مانع أن يعقدوا الآن سلامًا، ثم يحاربوا بعد ذلك.
إننا نعلم أن العرب خلال أكثر من خمس و أربعين سنة كانوا في حال حرب مع إسرائيل، وخاضوا فيها عدة معارك حامية الوطيس، ولا زالوا في حال حرب، ومع ذلك لم يتقووا، وقد كانت إمكانية التقوي والتسليح في الماضي أكثر منها في الحاضر، فكانت إمكانية حصول العرب على السلاح في ظل ما يسمى بالحرب الباردة بين روسيا وأمريكا أسهل، أما الآن، وبعد زوال التوازن الدولي، وسقوط الإمبراطورية السوفييتية، صار الحصول على السلاح أصعب.
وفي الوقت نفسه، لم يعد العرب يشعرون بأهمية كبيرة للحصول على السلاح؛ لأنهم قد عقدوا معاهدة سلام مع إسرائيل، فكيف يُظن الآن أنهم سوف يتقوون بعدما أبرموا تلك الاتفاقيات؟!
ثم إن السلام قد يعني أن يتحالف اليهود مع شركائهم في مقاومة أي توجه إسلامي في البلاد العربية، والقضاء عليه، وهذا هدف مشترك للجميع.
.الحجة الثالثة: توجيه النفقات إلى التنمية بدلاً من التسليح:
بعض المتحدثين عن السلام والمطالبين به يقولون: إن السلام فرصة للإنفاق على التنمية بتقليل نفقات الدفاع والتسليح، وتوجيهها إلى التنمية.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف نظن أن السلام فرصة للتقوّي على العدو، في حين أنهم يعدونه فرصة لتقليل التسليح؟!(29/221)
ولعله ليس سرًّا أن نعلم أن شروط (بوش)(5) بعد حرب الخليج في نزع السلاح من دول الشرق الأوسط، لا تمس إسرائيل من قريب ولا من بعيد؛ لأنها لا تتحدث عن الأسلحة المتطورة التي يملكها اليهود، إنما تتحدث عن الأسلحة التي يحاول العرب أحيانًا أن يمتلكوها، فشروطه تزيد الضعيف ضعفًا، ولكنها تسمح لإسرائيل أن تكسب مزيدًا من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل.
.الحجة الرابعة: حق اليهود التاريخي للبقاء في فلسطين:
هناك من يقول إن لإسرائيل حقًّا تاريخيًّا للبقاء في أرض فلسطين، ونجيب عن ذلك بما يلي:
- أولاً: الوجود في فلسطين هو لأتباع الأنبياء الصادقين، سواء كانوا أتباعًا لموسى أو داود أو سليمان أو عيسى أو محمد - صلى الله وسلم عليهم أجمعين - ، فليست القضية قضية يهود، إنما هي قضية أتباع الأنبياء والرسل! ولهذا كان موسى عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: (اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].
إذن ليست العاقبة لليهود بوصفهم جنسًا أو عرقًا معينًا؛ بل العاقبة للمتقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وهم المتقون كما هو ظاهر هذه الآية ونصها وروحها.
وأرض فلسطين وغيرها من البلاد هي إرث للمؤمنين المسلمين الصادقين، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105].
إن وجود اليهود في فلسطين وجود طارئ، فقد كانت معمورة قبلهم وبعدهم بالكنعانيين، والذين هم من ذات الأصول العربية من داخل الجزيرة العربية، إن سيادة يهود على قطعة محدودة من أرض فلسطين قد انتهت قبل ميلاد المسيح - عليه السلام - بستة قرون، وبعد خمسة وعشرين قرنا يحاولون أن يعيدوا هذا التاريخ السحيق مرة أخرى فأين حق الذين كانوا يعمرونها قبلهم وبقوا فيها بعدهم ؟!
- ثانيًا: أن بقاء مجموعات من أهل الكتاب من اليهود أو النصارى تحت ظل حكم إسلامي في أرض هم مقيمون فيها أصلاً، هذا أمر ممكن، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وفيها يهود، فأقرهم بمقتضى معاهدة أبرمها معهم - كما هو معروف في السيرة(6) -، وله دلائل تشهد بثبوته وصحته.
فمن الممكن أن يقر المسلمون وجود مجموعة من اليهود أو النصارى تحت ظل حكم إسلامي، وفق الشروط الشرعية كالشروط العمرية وغيرها، وقد تكلم الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذا تفصيلاً في كتابه: "أحكام أهل الذمة"(7).
- ثالثًا: إذا كان الأمر مطالبة بحقوق تاريخية، فمعنى ذلك أنه يجب على الشعب الأمريكي الذي يدعم إسرائيل الآن بلا حدود، ويتفانى في خدمتها، يجب عليه أن يخلي الولايات المتحدة الأمريكية، ويذهب إلى أماكن وجوده الأصلية في أسبانيا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، ويترك أمريكا للهنود الحمر وغيرهم ممن كانوا مقيمين فيها أصلاً!
وعلى ذلك يجب إعادة خريطة العالم من جديد إلى ما كانت عليه قبل ألف سنة، أو قبل ثلاثة آلاف سنة!
* * *
الفصل الثالث
ما هو المخرج؟
يتساءل الكثير قائلين: صحيح أن السلام فيه ما فيه، لكن ما لنا منه بد، وما من مخرج سواه.
وقد ذكرنا عددًا من الحلول، وهي غير مرتبة، ولكنها -بلا شك- تعبِّر عن جانب من الحل الذي يجب أن يفكر فيه المسلمون الآن.
. أولاً: التخلية بين الشعوب وبين الالتزام بالدين:
ينبغي أن تخلي الحكومات بين شعوبها وبين الإسلام، فتوقف الحرب على شعائر الدين، وعقائده، وأخلاقه، وقيمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتسمح للناس بالتدين.
فإننا نجد كثيرًا من هذه الحكومات قد سمحت للفساد بشتى صوره وألوانه بالانتشار، فبيعت الخمور، ومورست الدعارة علنًا في أكثر من بلد عربي، تارة باسم الفن، وتارة باسم الرقص، وتارة باسم الحرية الشخصية، وتارة باسم السياحة.
على الجانب الآخر ضيَّقت هذه الحكومات حتى على كل نشاط دعوي في التعليم والتربية، وحجمت الشعائر الشرعية وحاصرت خطيب الجمعة وكل معلم للناس الخير.
فبدلاً من عقد الصلح مع إسرائيل، على هذه الحكومات أن تعقد صلحًا مع شعوبها، تسمح - بموجبه - بممارسة شعائر الدين علانية دون ضغط أو إكراه، فيُسمح لمن يريد أن يصلي بأن يصلي، ويُسمح لمن يريد أن يعفي لحيته أن يعفيها، ولمن يريد الحج أن يحج، ولمن يريد أن يُحفِّظ الناس القرآن ويعلمهم أمور دينهم في المساجد أن يفعل، دون أن يتعرض للمحاكمة والإيقاف والاستجواب والمساءلة.
إن الله - عز وجل - إنما شرع الجهاد في الأصل حتى لا يُفتن الناس أو يضايَقوا في دينهم، يقول الله - عز وجل -: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله) [الأنفال:39]، فالقتال شُرع من أجل رفع الفتنة عن الناس في دينهم، وألا يُكرهوا على ترك الدين أو اعتناق دين آخر.
ونحن نجد أن هذه الفتنة الآن قائمة في عدد من البلاد الإسلامية بدرجة أو بأخرى.(29/222)
إذن نريد عقد صلح بين هذه الحكومات وبين شعوبها، تسمح بمقتضاه بأن تخلي بين شعوبها وبين أن تتدين، ونحن نعلم أن هذا هو أكثر ما يزعج الغرب، وقد سمعنا عن مقال يهدِّد فيه أحد الرؤساء أنه إذا لم يتحقق السلام فسوف يطلق العرب لحاهم.
لِمَ لا نرفع شعار التطبيع مع هذه الشعوب التي هي عزنا وسندنا وعمقنا والالتمام معها هو - بإذن الله - ضمان المستقبل؟
.ثانيًا: توجيه الطاقات إلى إعداد القوة:
هناك جهود ضخمة تُنفق في ملاحقة الناس، ومحاربتهم في أرزاقهم، وكتم أنفاسهم، إلى غير ذلك... هذه الجهود المتزايدة المتعاظمة يومًا بعد يوم تشكل عبئًا على ميزانيات الدول العربية، وهي -في الغالب- دول فقيرة، ويجهد الإنسان فيها لتحقيق قوته اليومي وقوت أولاده.
فنريد توجيه الطاقات السابقة إلى الحصول على أسرار التسليح وخفاياه، والحصول على التكنولوجيا المتطورة، كما فعلت إسرائيل تمامًا، فلم تكن مهمة الموساد -وهو جهاز الاستخبارات الإسرائيلي- مضايقة المستوطن الإسرائيلي، أو ملاحقته، أو حبس حريته؛ بل كانت مهمته خدمة المصالح القريبة والبعيدة لليهود، وتنفيذ العمليات الداخلية والخارجية التي يعتقد اليهود أنها في صالحهم.
وعلى كل حال، فإن إسرائيل لم تصل إلى هذا المستوى من التصنيع والتطور إلا بجهود ضخمة وسرية، بواسطة أجهزة مخابراتها وأمنها؛ للحصول على التسليح، وتجنيد أعداد هائلة من الناس -سواء كانوا من اليهود أو من غيرهم- لتحقيق مصالحها.
فلماذا لا تُوجَّه تلك القوى إلى الحصول على أسرار التسليح، وتجنيد أفراد -سواء من العرب والمسلمين أو من غيرهم- للحصول على ذلك، حتى يتمكن العرب من الوصول إلى ما يريدون، ويتمكن المسلمون من مواجهة إسرائيل بنفس السلاح الذي تملكه؟
.ثالثًا: تيسير سبل العيش للشعوب الإسلامية:
فينبغي ألا تحارَب الشعوب الإسلامية في أرزاقها؛ فإن الفقر كاد يكون كفرًا كما روي في الحديث الضعيف(8)؛ ولهذا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ منه(9)، وإن تجويع الشعوب العربية والإسلامية يحولها إلى أنعام همها السعي في طلب الرزق، فتصير كالقطعان التي لا تبحث إلا عن المرعى.
فهذه الطوابير المتراصة الطويلة التي لا ترى طرفها في بعض البلاد، تستهلك أوقات المواطنين، وتشغلهم بالهمِّ القريب عن الهمِّ البعيد، فلا يعود الواحد منهم مهتمًّا بتعلم دينه في كثير من الأحيان، ولا عارفًا بعقيدته، ولا مهتمًّا بإصلاح أخلاقه، وأخلاق بيته وأسرته وذويه، ولا مهتمًّا بهموم أمته؛ لأنه مشغول بالهمِّ القريب الفطري، الذي لا يلام الإنسان على الاهتمام به.
ولذلك كان من مهمات الحاكم في الإسلام توفير الكساء والغذاء والقوت من الطعام والشراب، حتى يعبد الإنسان ربه - تبارك تعالى - في جو هادئ، وحتى يعرف مسؤوليته والواجب عليه. أما أن تجيعه وتفقِره، ثم تطالبه بعد ذلك بأمور كبيرة، فهذا لا يمكن أن يكون على أي حال، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكننا حين نحوِّل الإنسان إلى باحث عن الوظيفة، أو المال، أو لقمة الخبز، نكون قد مسخنا إنسانيته، وأهدرنا كرامته، وقضينا على كل معاني الرجولة والإباء والشهامة فيه.
.رابعًا: إيقاف سياسة التضليل الإعلامي:
لقد مسخت تلك السياسة عقول الناس وجهَّلتهم، وجعلتهم صورة طبق الأصل بعضهم من بعض، فصاروا نسخًا مكررة، ولكنها أيضًا مزوَّرة، ليس لديها إبداع، ولا تفوق، ولا تصميم، ولا أمل، ولا طموح.
لابد من إعادة الثقة إلى الشعوب، ومكاشفتها بالحقائق، وجعل الصورة واضحة أمامها، ونحن نجد أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المؤيَّد بالوحي من السماء، والذي يستحيل أن يحصل زعيم في الدنيا سابقًا أو لاحقًا على مثل الحب والإكبار والثقة التي كان يمنحها المسلمون له صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك نجد أنه كان يبيِّن الحقائق كاملة لأصحابه، ويشاورهم فيها، كما استشارهم صلى الله عليه وسلم في معركة أحد(10)، وكما استشار السعدين في قضية الأحزاب، لما أراد أن يعطي الكفار ثلث ثمار المدينة(11)، وكما قال في صلح الحديبية: "أشيروا عليَّ أيها الناس"(12).
ولم يكن أحد أكثر مشاورة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فلم تكن مشاورة مع تعتيم وتضليل وتغيير للحقائق؛ بل كانت مع كشف كامل للحقائق، أي أنه كان يبيِّن لهم الواقع على حقيقته ثم يسألهم: ماذا ترون؟
أرأيت إذا وجدت أمة عندها استعداد أن تموت ذودًا عن حياضها، وحفاظًا على دينها، وحماية لأعراضها؛ فرحًا بالموت في سبيل عقيدتها، لماذا نحول بينها وبين الموت؟!
فمن اعتقد أن ميدان المعركة ليس وقته الآن، وأنه غير مناسب، فهلُمَّ إلى الجهاد في مجال الصناعة، والعلم، والسياسة، وفي الميدان الاجتماعي، وميدان الإعداد العسكري، وهلُمَّ إلى ميدان الحياة الرحب، نبَْنِ ونصلحْ ونستدرك؛ لنعيش حياة كريمة تليق بقوم شرفهم الله بالانتساب إلى هذا الدين العظيم.(29/223)
هل نحن صادقون فيما ندَّعيه بأننا عاجزون؟ هل حاولنا الخروج من هذا النفق؟ هل بدأنا؟ بل هل سمحنا لأصحاب الهمم العالية وأصحاب الطموح والإمكانات والمواهب أن يقدِّموا خدماتهم وإمكاناتهم؟ هل يُعد سرًّا ما يكتب عنه في الصحف -بل في عشرات الكتب- أن من أعظم المآسي التي تشهدها الساحة العربية والإسلامية اليوم ما يسمى هجرة العقول العربية إلى بلاد الغرب؟! إذ تتحدث المجامع العلمية والنشرات والدوريات عن هجرة العقل الإسلامي الذي لا يجد المناخ المناسب في تلك البلاد، فيهاجر إلى هناك، ويصب في بحر المصالح الغربية.
فمتى نغري هذه العقول الفذة النادرة العبقرية بالعودة إلى قواعدها سالمة؟ ومتى نؤويها، ونوفر لها البيئة المناسبة، والمناخ المناسب، سواء من الناحية المادية أو المعنوية، مع الحفاظ على كرامتهم، وحقوقهم الإسلامية والإنسانية؟
.خامسًا: العناية بدعم الجيوش الإسلامية:
- (أ) : دعم الجيوش من الناحية الشرعية والأخلاقية:
وذلك برفع الروح المعنوية لديهم، وتربيتهم على الفضائل، وإحياء الشوق في قلوبهم إلى الجهاد، والشهادة في سبيل الله - عز وجل -، وحمايتهم من تيار الرذيلة الذي يهددهم.
إن كثيرًا من هذه الجيوش قد تعرَّض لما يسمى بغسيل المخ، بحيث يصبح كل ما في عقل أفرادها هو الدفاع عن منجزات الحزب، أو منجزات الزعيم، أو ما شابه ذلك، وربما لا يدري أحدهم أصلاً لماذا يقاتل؟
بل ربما تصير القضية عنده قضية وظيفة وأكل عيش فقط! حيث أصبح لدى بعضهم شعور باللامبالاة واليأس من جميع الشعارات، فكل الأقوال التي يسمعونها تردد أمامهم صارت في أذهانهم بلا قيمة، وصاروا يعتقدون أن الجميع مهرِّجون، وأنك يجب أن تكون واحدًا من هؤلاء لا غير، وأن الدنيا لا يمكن أن تتغير بك أنت بمفردك.
فلابد إذن من العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية أولاً من الناحية الشرعية والأخلاقية، عن طريق رفع الروح المعنوية لديها، وتحديد الهدف الذي يقاتلون من أجله، وهو حماية الدين، وحماية الأرض الإسلامية.
- (ب) : تكثيف عدد أفراد الجيش المسلم:
حتى يكفي لسد حاجة الأمة في الدفاع عن نفسها، والاستغناء عن عدوها، والقدرة على مقاومة العدو ورده وردعه.
إن المسلمين كثير عددهم، ولو أن كل مسلم وجَّه نفخة لإسرائيل لطارت في الهواء، ولو أن كل مسلم بصق على إسرائيل لغرقت، ولكننا نجد أن المسلم لا يملك حتى نفخة يوجهها إلى إسرائيل.
لذلك تقول بعض القوانين العسكرية: إن عشرة بالمئة من تعداد كل أمة يجب أن يكونوا قادرين على حمل السلاح، وإذا تصورنا أن العرب يتوقع أن يكون عددهم في القرن القادم أكثر من مئتين وخمسين مليونًا -هذا عدد العرب فقط، أما المسلمون فأكثر من ألف مليون حسب الإحصائيات الرسمية-، فمعنى ذلك أنه باستطاعة العرب الآن -وعددهم مئة مليون- حشد عشرة ملايين مقاتل، وباستطاعتهم في المستقبل حشد خمسة وعشرين مليون مقاتل، أما المسلمون جميعًا فباستطاعتهم حشد أكثر من مئة مليون مقاتل للحرب، ونفوس جميع اليهود اليوم في فلسطين لا تزيد على بضعة ملايين، فماذا يحدث لإسرائيل لو صدق المسلمون ما عاهدوا الله تعالى عليه؟
- (ج) : معرفة الجندي موقعه وعدوه الحقيقي:
أي أنه يجب على الجندي أن يوجِّه البندقية نحو عدوه وليس إلى صدور مواطنيه، فإن الجيش لا يُستخدم للتهديد بالنزول إلى الأسواق والشوارع، أو لتهديد البلاد العربية والإسلامية، ولكن يُستخدم لحماية الحدود من المغيرين، ولحفظ المكتسبات الإسلامية، وحماية الحرمات، والدفاع عن الأعراض.
.سادسًا: معرفة الشعب الفلسطيني لموقعه:
ينبغي أن يعرف الفلسطينيون موقعهم؛ فهم أصحاب القضية الرئيسون، وعليهم أن يدركوا أنهم الخطُّ الأول والأساس في مصاولة طويلة، ولا بأس فهم أهل الشوكة والتضحية والصبر.
يجب ألاّ يقبل الفلسطينيون إلا أن يكون الإسلام هويتهم، ومنهجهم، وأصلهم، ومنطلقهم، يربون عليه أبناءهم، ويغرسونه في نفوس الناشئة، فيربونهم على التضحية والفداء والبذل، ويعمِّقون لديهم روح العداوة للمحتلّ.
وما لا يتم الآن، يمكن أن يتم بعد عشرين سنة أو ثلاثين، فمعركتنا مع عدونا ليست معركة اليوم؛ بل هي معركة الأمس، واليوم، والغد، وكم من شعوب اضطهدت وشُرِّدت وطُردت، ومع ذلك استطاعت أن تبني نفسها بناء صحيحًا، فمن كهف الاضطهاد والتشريد يولد التحدي، الذي يفجرالتخطيط والإبداع.
إذن هناك مسؤولية كبيرة على الشعب الفلسطيني، وخاصة على الواعين المسلمين اليقظين فيه، فعليهم أن يعملوا عملاً جادًّا على إعادة هذا الشعب إلى دينه، وتصحيح عقيدته، وجمع كلمته على الهدى والحق والتوحيد، وأن يعرفوا أن كل الأبواب موصدة أمامهم إلا باب الإيمان، والرجوع إلى الله تعالى، والتجمع لا على أساس شعار طائفي أو مادي، وإنما على أساس إسلامي رباني، وإذا فعلوا هذا فإن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، ونقول كما قال الله تعالى على لسان موسى - عليه السلام -: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].(29/224)
.سابعًا: ضرورة التوعية العامة:
وذلك على كافة المستويات، من كبار وصغار، وبكافة الوسائل الممكنة: بالكتاب، والشريط، والمحاضرة، والدرس، والخطبة، والندوة، والأمسية، والمقالة، والقصيدة، والقصة، والكلمة، حتى بالحديث الشخصي.
فلابد من التوعية العامة بحقيقة العداء مع اليهود، وترسيخ عقيدة البراءة من المشركين وأهل الكتاب -التي جاء بها الإسلام- في نفوس جميع المسلمين، من الناشئة والشباب والشيوخ والرجال والنساء، ولابد من عقد لقاءات وندوات ومحاضرات ودروس وخطب وبرامج مكثفة لهذا الغرض.
* * *
الفصل الرابع
نظرة شرعية
.حكم الشرع في معاهدات السلام مع اليهود:
يتساءل كثيرون عن حكم الشرع في هذا المؤتمر، أو في الصلح مع إسرائيل عمومًا.
ولقد عقدت مؤتمرات إسلامية كثيرة في القاهرة ومكة وعمَّان سنة 1968م، وعقد مؤتمر آخر في كوالالمبور (عاصمة ماليزيا) بعد سنة، وقد حضر هذه المؤتمرات عدد من علماء المسلمين، وأعلنت الجهاد بإجماع آراء العلماء الذين شهدوا هذه المؤتمرات والذين لم يشهدوها.
وقد جاء في بعض المؤتمرات أن أسباب وجود الجهاد التي حددها القرآن الكريم قد أصبحت كلها متوافرة في عدوان اليهود على أرض العرب والمسلمين، وانتهاكه لحرمات الدين في أقدس شعائره وأماكنه، وبما كان من إخراج المسلمين والعرب من ديارهم، وبما كان من قسوة ووحشية في تقتيل المستضعفين من الشيوخ والأطفال؛ فمن أجل ذلك كله صار الجهاد بالمال والنفس فرضًا في عنق كل مسلم، يقوم به على قدر وسعه وطاقته، مهما بعدت الديار.
إذن، فقد قررت تلك المؤتمرات رفع علم الجهاد، وليس الجهاد حملاً للسلاح فقط؛ بل نريد أيضًا جهادًا من منطلق الإعداد، بدءًا من الإعداد المعنوي، بإعداد الأمة من الناحية العقدية، فالأمة نسيت عداوتها لليهود وحلفائهم.
وكما قيل:
رضيت من الغنيمة بالإياب(13)
فيكفينا أن تحافظ أجهزة الإعلام العربية على إشعار الأمة بأن اليهود أعداؤنا اليوم وأمس وغدًا.
كما أن هناك فتوى متأخرة من علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، فعلماء المسلمين أفتوا بعدم جواز الصلح مع اليهود في حال اغتصابهم أيَّ شبر من بلاد المسلمين، من تلك الفتاوى مثلاً:
- فتوى علماء فلسطين التي صدرت عن المؤتمر الأول المنعقد في القدس عام 1935م.
- وفتوى الشيخ محمد رشيد رضا في السنة نفسها.
- وفتوى رئيس جمعية العلماء المركزية في الهند في السنة نفسها.
- وفتوى علماء نجد عام 1937م.
- وفتوى علماء العراق في العام نفسه.
- ونداء علماء الأزهر بتحريم الصلح مع اليهود ووجوب الجهاد عام 1956م.
- وفتوى شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية حسن مأمون.
- وفتوى علماء المؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان عام 1968م.
- وفتوى لجنة الفتوى بالأزهر عام 1979م، وقد جاءت في رد على سؤال يخص التنازل عن أي جزء من فلسطين، وقد نُشرت في جمعية الإصلاح بالكويت في كتاب صدر عنها في يناير عام 1990م.
وقد وقَّع على هذه الفتوى أكثر من ستين عالمًا من علماء المسلمين في الفترة الممتدة من 1988م إلى 1989م، وخلاصة ما جاء فيها: "نحن الموقعين على هذه الوثيقة نعلن للمسلمين في هذه الظروف الصعبة، أن اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، اغتصبوا فلسطين، ودنَّسوا مقدساتها، ولن يقر لهم قرار حتى يقضوا على دين المسلمين، وينهوا وجودهم.
ونحن نعلن بما أخذ الله علينا من عهد وميثاق في بيان الحق أن الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين، وليس لشخص أو جهة أن يقر اليهود على أرض فلسطين، أو يتنازل لهم عن أي جزء منها، أو يعترف لهم بأي حق فيها.
.شروط الهدنة مع الأعداء(14):
يتكلم الكثيرون عن الهدنة، وشروطها، وما يتعلق بها، من الناحية الفقهية، فأقول: يجوز للمسلمين عقد الهدنة مع عدو يحتاجون إلى الهدنة والمصالحة معه بشروط:
- الشرط الأول: أن تكون الهدنة لمصلحة المسلمين، كالعجز عن القتال مثلاً، أما إذا كان المقصود من الهدنة مصلحة الكفار فليست هدنة في الحقيقة، وإنما ذاك اسمها في الواقع لقلب الحقائق، لكن عمومًا إذا كانت لمصلحة الكفار فلا تجوز، كما أنها إذا كانت لمصلحة أطراف أخرى فإنها لا تكون - حينئذ - هدنة صحيحة.
- الشرط الثاني: أن تكون مدتها محدودة بزمن، حتى قال كثير من الفقهاء: لا يجوز عقد هدنة أكثر من عشر سنوات؛ لأنها أقصى مدة عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها صلحًا مع قريش في الحديبية، وهو اختيار الشافعي.
وقيل : يجوز بأكثر من عشر سنين وهو قول أبي حفيفة، وذكر ابن قدامة أن عقد الصلح المطلق يفضي إلى إبطال الجهاد.
ثم هذا الذي يطرح الآن هو الاعتراف الحقيقي بالوجود الدائم لليهود، وأنهم جزء من هذه المنطقة، وأن لهم الحق في البقاء فيها، وأنهم ينبغي أن يكوِّنوا مع العرب والمسلمين تكاملاً ثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، إلى غير ذلك...
فليست المسألة إذا تكتيكاً، ولا هدنة مؤقتة لظروف عابرة.(29/225)
ونحن لا نقول للناس جاهدوا الآن وهم لا يملكون القدرة على الجهاد، لكن نقول: لا يجوز لمسلم أن يعترف بأن الجهاد باطل أو منسوخ.
- الشرط الثالث: أن يخلو عقد الهدنة من شرط فاسد، وذلك كشرط معاونة الكفار مثلاً على المسلمين، وهذا لعله أن يكون موجودًا في عدد من المهادنات والمصالحات التي تعقد اليوم وأمس وغدًا.
ويحتج البعض بصلح الحديبية، والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية جاء إلى مكة أصلاً، وعقد صلحًا مع المشركين لمدة معينة لا تتجاوز عشر سنوات.
ويحتج بعضهم بموقفه صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة عندما عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد معاهدة معهم كان هو الحاكم فيها، وكان اليهود مطالَبين بموجبها أن يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي شجار يحدث بينهم، ومطالبين بموجبها بالدفاع عن المدينة ضد أي هجوم، فلما خانوا العهد أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عنها(15) ولا أحد ينكر أصل العقود مع غير المسلمين على ما فيه مصالح البلاد والعباد، إذا أبرمها المعنيون بمستقبل الأمة الحريصون على حمايتها، الصادقون في تمثيلها.
* * *
الفصل الخامس
بشائر المستقبل
يتسائل البعض عن سمة التفاؤل: هل هي لغرض تربوي كرفع معنويات الناس، أو هي قناعة؟ وإذا كانت قناعة فما مصدرها؟
والحق أنها قناعة راسخة مصدرها أمور:
- أولاً: النظر في التاريخ وتقلباته:
فالتاريخ يعيد نفسه -كما يقال-، والله تعالى يقول: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140].
- ثانياً: النظر في الواقع:
فإننا نجد انهيار المعسكر الشيوعي ماثلاً أمامنا على رغم قوته الضاربة إلى أكثر من سبعين سنة، وبذلك يمكن انهيار قوى أخرى معادية لإسرائيل.
ومن طبيعة الإنسان أحيانًا أنه يرى الواقع الذي يعيشه سرمدًا لا يزول، فقد نسينا الآن سقوط الشيوعية، وبدأنا نتصور أن الواقع باق لن يزول، وهذا خطأ كبير.
- ثالثاً: النظر في السنن الكونية والنواميس الإلهية:
فالله تعالى يقول -كما سلف-: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140]، ويقول جل وعز: (وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ) [البقرة:251]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُبقت ناقته العضباء: "حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه"(16).
إذا تم شيء بدا نقصه
ترقب زوالاً إذا قيل تم(17)
- رابعاً: النصوص الشرعية التي تؤكد انتصار الإسلام:
وهي كثيرة ذكرتها في رسالة "مستقبل الإسلام"، ورسالة "الجولة مع اليهود"، منها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله"(18)، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا داعي أن نضرب ونرجم بالغيب بعد كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فوالله الذي لا إله غيره ما كَذَبْنا ولا كُذِبْنا، فهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبر الله تعالى عنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3،4].
وجاء في رواية أخرى: "على نهر الأردن، أنتم شرقيُّه، وهم غربيُّه"(19)، وهذه راوية إسنادها فيه ضعف يسير، لكن حسنه جماعة من أهل العلم، والواقع يصدقه، ويشهد على ثبوته.
فحين دُوِّنت الكتب من قبل وأُلِّفت، لم يكن لليهود وجود يذكر في فلسطين، ولم يكونوا قريبين من نهر الأردن، لكنهم وجدوا بعد ذلك خاصة في هذا الزمن.
وأنا أرجو الله تعالى ألا يتجاوزوا نطاقهم الحالي، وأظن أنهم لن يذهبوا عنه بعيدًا، لكن هذا بلا شك ليس قطعًا، وإنما هو ظن غالب، فقد يتوسع اليهود ثم ينكمشون بعد ذلك، وقد يكون الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم معركة تأتي اليوم، أو غدًا، أو بعد عشر سنين، أو بعد خمسين سنة، فالله تعالى أعلم. المهم أن ننتبه إلى عدة أمور بشأن هذه المعركة:
أولاً: هذه المعركة حق، وكل مسلم يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يؤمن بها، وأن يعلم أنها قادمة لا محالة، على رغم كل العقبات والظلمات والحواجز؛ فهذا غيب أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام.
ثانيًا: هذا لا يعني أبدًا القعود وترك الأمر؛ بحجة أن المعركة قادمة، والنصر قادم، لا.. فالنصر ليس هبة للقاعدين والكسالى؛ بل النصر هبة من الله - عز وجل - للمجاهدين والمضحِّين والصابرين والمرابطين، قال - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].(29/226)
ثالثًا: هذه المعركة لا تعني ألا نهتم بما يجري الآن، ولا نكترث له، ونقول دعهم يفعلون ما يشاؤون؛ لأن الاهتمام بالواقع هو جِبِلّة وطبيعة عند الإنسان، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان موعودًا بالنصر، حتى إنه في مكة -كما في صحيح البخاري- كان يقول لأصحابه: "والله ليَتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"(20).
ومع ذلك في معركة بدر، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوة العدو وبأسه وكثرته، وقلة أصحابه، رفع يديه إلى السماء، ودعا الله - عز وجل -، وخشع وابتهل، وقال: "اللهم، إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض"(21)، فهذه طبيعة الإنسان، أن يهتم بواقعه ويتابعه؛ إذ الاهتمام به جِبِلّة.
والاهتمام بأمور المسلمين مطلب يدل على التعاطف، والرسولل - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: "مثل المسلمين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(22)، ويقول صلى الله عليه وسلم : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"(23).
رابعًا: لننظر ماذا يقول القرآن عن خصومنا من اليهود: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) [آل عمران:112]، ويقول سبحانه: (لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) [الحشر:14].
وقد عاش اليهود زمانًا طويلاً تحت ظل البطش والإرهاب في أكثر من بلد، وهم الآن يتحركون بالعقلية ذاتها.. عقلية اليهودي المضطهد، فهي عقلية تبالغ في التخوف من كل شيء، مما قد يبدو للناس أنه مكر ودهاء.
والواقع أن عقلية الشعور بالاضطهاد تجعل اليهود دائمًا خائفين، حتى وهم متمكنون الآن، فشعور التوتر والقلق وعدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي يطاردهم.
إن اليهود طائفة محصورة محدودة، غير قابلة للنماء والزيادة؛ لأنهم لا يقبلون انضمام أحد إليهم، وهذه بحد ذاتها معضلة كبرى، خاصة واليهود يواجهون الشعوب الإسلامية وهي تتزايد بشكل غريب جدًّا، وكثافة عددية هائلة لا يقاس بها أي شعب آخر.
فكم يجني أولئك الذين يمنحون إسرائيل السلام والاستقرار، وكم يقدمون من خير!
نسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويثبت المجاهدين في سبيله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
================(29/227)
(29/228)
موقف الإسلام من الصلح مع اليهود…
في حالة إذا وقعت جميع الدول العربية الرئيسة معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني ربما ارباب ثقافة السلام يخرجون بمقولة تدعو لاعتبار الصهاينة بناء على هذه المعاهدات أهل عهد أو هم معاهدون ؟ الرافض لهذا الفهم ، كيف يرد تأسيساعلى تأصيل شرعي ؟ …السؤال
21/03/2000…التاريخ
……الحل …
…الأخ السائل الكريم، ننقل لك بدايةعن الدكتور القرضاوي تعريفا عاما وشاملا لطبيعة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب وكيف نتعامل معهم ثم ننقل لك رأي الدكتور القرضاوي في التعامل مع اليهود الآن، وفي كل الأحوال فليس معنى أن يوقع العالم كله معاهدة سلام مع اليهود، ليس معنى ذلك أن نقر لهم ونوافقهم على سلبنا أرضنا وحقنا،وإليك الآن الفتوتان:نظرة خاصة لأهل الكتاب
إذا كان الإسلام لا ينهى عن البر والإقساط إلى مخالفيه من أي دين لو كانوا وثنين مشركين -كمشركي العرب الذين نزلت في شأنهم الآيتان السالفتان- فإن الإسلام ينظر نظرة خاصة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. سواء أكانوا في دار الإسلام أم خارجها.
فالقرآن لا يناديهم إلا بـ (يا أهل الكتاب) و(يا أيها الذين أوتوا الكتاب) يشير بهذا إلى أنهم في الأصل أهل دين سماوي، فبينهم وبين المسلمين رحم وقربى، تتمثل في أصول الدين الواحد الذي بعث الله به أنبياءه جميعا: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) سورة الشورى:13.
والمسلمون مطالبون بالإيمان بكتب الله قاطبة، ورسل الله جميعا، لا يتحقق إيمانهم إلا بهذا: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) سورة البقرة:136.
وأهل الكتاب إذا قرؤوا القرآن يجدون الثناء على كتبهم ورسلهم وأنبيائهم.
وإذا جادل المسلمون أهل الكتاب فليتجنبوا المراء الذي يوغر الصدور، ويثير العداوات: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) سورة العنكبوت:46.
وقد رأينا كيف أباح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب وتناول ذبائحهم. كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم مع ما في الزواج من سكن ومودة ورحمة. وفي هذا قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) سورة المائدة:5.
هذا في أهل الكتاب عامة. أما النصارى منهم خاصة، فقد وضعهم القرآن موضعا قريبا من قلوب المسلمين فقال: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) سورة المائدة:82.
أهل الذمة
وهذه الوصايا المذكورة تشمل جميع أهل الكتاب حيث كانوا، غير أن المقيمين في ظل دولة الإسلام منهم لهم وضع خاص، وهم الذين يسمون في اصطلاح المسلمين باسم (أهل الذمة) والذمة معناها: العهد. وهي كلمة توحي بأن لهم عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنين.
وهؤلاء بالتعبير الحديث (مواطنون) في الدولة الإسلامية، أجمع المسلمون منذ العصر الأول إلى اليوم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، إلا ما هو من شؤون الدين والعقيدة، فإن الإسلام يتركهم وما يدينون.
وقد شدد صلى الله عليه وسلم الوصية بأهل الذمة وتوعد كل مخالف لهذه الوصايا بسخط الله وعذابه، فجاء في أحاديثه الكريمة: "من آذى ذميا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله"."من آذى ذميا فأنا خصمه ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة"."من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة".
وقد جرى خلفاء الرسو صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الحقوق والحرمات لهؤلاء المواطنين من غير المسلمين. وأكد فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم هذه الحقوق والحرمات.
قال الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي: "إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسول صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام".
وقال ابن حزم الفقيه الظاهري: "إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسول صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".
موالاة غير المسلمين ومعناها
ولعل سؤالا يجول في بعض الخواطر، أو يتردد على بعض الألسنة، وهو:(29/229)
كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين، والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم أولياء وحلفاء في مثل قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) سورة المائدة:51،52.
والجواب: إن هذه الآيات ليست على إطلاقها، ولا تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر. ولو فهمت هكذا لناقضت الآيات والنصوص الأخرى، التي شرعت موادة أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا، والتي أباحت مصاهرة أهل الكتاب، واتخاذ زوجة كتابية مع قوله تعالى في الزوجية وآثارها: (وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم:21. وقال تعالى في النصارى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا. الذين قالوا: إنا نصارى) سورة المائدة:82.
إنما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للإسلام، محاربين للمسلمين، فلا يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم ومظاهرتهم -وهو معنى الموالاة- واتخاذهم بطانة يفضي إليهم بالأسرار، وحلفاء يتقرب إليهم على حساب جماعته وملته؛ وقد وضحت ذلك آيات أخر كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم !!) سورة آل عمران:118،119.
فهذه الآية تبين لنا صفات هؤلاء، وأنهم يكنون العداوة والكراهية للمسلمين في قلوبهم، وقد فاضت آثارها على ألسنتهم.
وقال تعالى: (ولا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) سورة المجادلة: الآية الأخيرة. ومحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، وإنما هي مناصبة العداء للإسلام والمسلمين.
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم، أن تؤمنوا بالله ربكم) أول سورة الممتحنة. فهذه الآية نزلت في موالاة مشركي مكة الذي حاربوا الله ورسوله، وأخرجوا المسلمين من ديارهم بغير حق إلى أن يقولوا: ربنا الله. فمثل هؤلاء هم الذين لا تجوز موالاتهم بحال. ومع هذا فالقرآن لم يقطع الرجاء في مصافاة هؤلاء، ولم يعلن اليأس البات منهم، بل أطمع المؤمنين في تغير الأحوال وصفاء النفوس، فقال في السورة نفسها بعد آيات: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذي عاديتم منهم مودة، والله قدير، والله غفور رحيم) سورة الممتحنة:7.
وهذا التنبيه من القرآن الكريم كفيل أن يكفكف من حدة الخصومة وصرامة العداوة، كما جاء في الحديث: "أبغض عدوك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
وتتأكد حرمة الموالاة للأعداء إذا كانوا أقوياء، يرجون ويخشون، فيسعى إلى موالاتهم المنافقون ومرضى القلوب، يتخذون عندهم يدا، يرجون أن تنفعهم غدا. كما قال تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) المائدة: 52. (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم العزة؟ فإن العزة لله جميعا) سورة النساء:138،139.
استعانة المسلم بغير المسلم
ولا بأس أن يستعين المسلمون -حكاما ورعية- بغير المسلمين في الأمور الفنية التي لا تتصل بالدين من طب وصناعة وزراعة وغيرها، وإن كان الأجدر بالمسلمين أن يكتفوا في كل ذلك اكتفاء ذاتيا.
وقد رأينا في السيرة النبوية كيف استأجر رسول ا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط -وهو مشرك- ليكون دليلا له في الهجرة. قال العلماء: ولا يلزم من كونه كافرا ألا يوثق به في شيء أصلا؛ فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة إلى المدينة.
وأكثر من هذا أنهم جوزوا لإمام المسلمين أن يستعين بغير المسلمين -بخاصة أهل الكتاب- في الشؤون الحربية، وأن يسهم لهم من الغنائم كالمسلمين.
روى الزهري أن رسول ا صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم، وأن صفوان بن أمية خرج مع صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين وكان لا يزال على شركه.
ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به؛ لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.
ويجوز للمسلم أن يهدي إلى غير المسلم، وأن يقبل الهدية منه، ويكافئ عليها، كما ثبت أن صلى الله عليه وسلم أهدى إليه الملوك فقبل منهم. وكانوا غير مسلمين.
قال حفاظ الحديث: والأحاديث في قبول صلى الله عليه وسلم هدايا الكفار كثيرة جدا وعن أم سلمة زوج صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: "إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من حرير".
إن الإسلام يحترم الإنسان من حيث هو إنسان فكيف إذا كان من أهل الكتاب؟ وكيف إذا كان معاهدا أو ذميا؟(29/230)
مرت جنازة على رسول ا صلى الله عليه وسلم فقام لها واقفا، فقيل له: "يا رسول الله إنها جنازة يهودي؟! فقال: أليست نفسا"؟! بلى، وكل نفس في الإسلام لها حرمة ومكان.
الإسلام رحمة عامة حتى على الحيوان
وكيف يبيح الإسلام للمسلم أن يسيء إلى غير المسلم أو يؤذيه، وهو يوصي بالرحمة بكل ذي روح، وينهى عن القسوة على الحيوان الأعجم.
لقد سبق الإسلام جمعيات الرفق بالحيوان بثلاثة عشر قرنا، فجعل الإحسان إليه من شعب الإيمان، وإيذاءه والقسوة عليه من موجبات النار.
ويحدث رسول ا صلى الله عليه وسلم أصحابه عن رجل وجد كلبا يلهث من العطش، فنزل بئرا فملأ خفه منها ماء فسقى الكلب حتى روي.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم فشكر الله له فغفر له. فقال الصحابة: أإن لنا في البهائم لأجرا يا رسول الله؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر".
وإلى جوار هذه الصورة المضيئة التي توجب مغفرة الله ورضوانه يرسم النبي صورة أخرى توجب مقت الله وعذابه فيقول: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
وبلغ من احترام حيوانية الحيوان أن رأى صلى الله عليه وسلم حمارا موسوم الوجه (مكويا في وجهه) فأنكر ذلك وقال: "والله لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه".
وفي حديث آخر أنه مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: "أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها".
وقد ذكرنا قبل أن ابن عمر رأى أناسا اتخذوا من دجاجة غرضا يتعلمون عليه الرمي والإصابة بالسهام فقال: "إن صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا".
وقال عبد الله بن عباس: "نهى صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم". والتحريش بينها: هو إغراء بعضها ببعض لتتطاحن وتتصارع إلى حد الموت أو مقاربته.
وروى ابن عباس أيضا أن صلى الله عليه وسلم "نهى عن إخصاء البهائم نهيا شديدا". والإخصاء: سل الخصية.
وكذلك شنع القرآن على أهل الجاهلية تبتيكهم لآذان الأنعام (شقها) وجعل هذا من وحي الشيطان.
وقد عرفنا عند الكلام على الذبح كيف حرص الإسلام على إراحة الذبيحة بأيسر وسيلة ممكنة، وكيف أمر أن تحد الشفار وتوارى عن البهيمة.
ونهى أن يذبح حيوان أمام آخر.
وما رأت الدنيا عناية بالحيوان إلى هذا الحد الذي يفوق الخيال!!(29/231)
الفتوى الثانية للدكتور القرضاوي:بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فالسؤال عن الصراع بيننا وبين اليهود، هل هو صراع على الأرض أم على العقيدة، وهل الصراع على الأرض ينفي الطابع العقائدي عن الصراع بيننا وبين اليهود، فهناك سوء فهم، أنا قلت وأقول أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع على الأرض لا من أجل يهوديتهم، لأنهم أهل كتاب يجوز مآكلتهم ومصاهرتهم (طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) وقد عاش اليهود في ذمة المسلمين قروناً طويلة، لكن منذ أن طمع اليهود في أرضنا، أرض فلسطين، أرض الإسراء والمعراج، أرض المسجد الأقصى ومنذ خططوا على أن يقيموا دولة على أنقاض المسجد الأقصى، بدأ الصراع بيننا وبينهم ولكن ليس معنى هذا أنه ليس صراعاً دينياً ولا عقائدياً، فهناك خلل في هذه القضية، نفي أنه ليس صراع على العقيدة، لا ينفي أنه صراع ديني وعقائدي، لأننا أمة دينية واليهود أمة دينية، فصراعنا على الأرض مختلط بالدين، المسلم حين يدافع عن أرض لا يدافع عن مجرد تراب، هو يدافع عن أرض الإسلام، عن دار الإسلام، لذلك إذا قتل دون أرضه فهو شهيد، وإذا قتل دون ماله فهو شهيد، وإذا قتل دون أهله فهو شهيد، وإذا قتل دون دمه فهو شهيد، وإذن كل هذا يعتبر شهادة، وهذا معناه أنها معركة دينية، فالإنسان الملتزم كل معاركه تختلط بالدين، وخصوصاً في هذه المعركة، فهي أرض القبلة الأولى، أرض النبوات، وثالث المسجدين المعظمين أرض الإسراء والمعراج، فهذه الأرض لها طابع خاص عند المسلمين ومكانة، المسلم يدافع عن أرض له فيها مقدسات هائلة، وكذلك اليهودي فهو عنده معركة دينية لأنه يعتبر هذه الأرض هي أرض الميعاد، لهم فيها أحلام توراتية وتعاليم تلمودية، وهم عندهم أقاليم ثلاثة الله والشعب والأرض بعضهم يعبر عنها التوراة والشعب والأرض، الثلاثة متداخلة مع بعض، لذلك هو يقاتلنا باسم الدين، لذلك نحن ننكر على من يريد إخراج الدين من هذه المعركة، لذلك أرجو ألا يفهم كلامي أنني أريد أن أخرج الجانب الديني والعقائدي من القضية، هذه خيانة أنا لا أريد هذا ولا ينبغي أن يفهم كلامي على هذا، إنما أنا أريد أن أقول لبعض الناس كيف يفهمون الآية (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) أن هذا بالنسبة للوضع الذي كان أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد ذلك اليهود دخلوا في ذمة المسلمين وعاشوا بينهم آمنين ولم يجدوا دارا تؤويهم إلا دار المسلمين، وكانوا يعيشون بين المسلمين على أفضل ما يكون أصحاب ثروة ونفوذ، لم يكن بيننا وبينهم صراع إلا ثقافي أحياناً، إسرائيليات، الأشياء التي قذروا بها نقاء الثقافة الإسلامية ونشروها بين المسلمين عن طريق من أسلم منهم وقراءات من كتب غير معتمدة، وروايات شفوية، أفسدت على المسلمين كثير من ثقافتهم. اليهود كان لهم دور كذلك أيام سيدنا عثمان وسيدنا علي، عبدالله بن سبأ اليهودي ودوره، وبعضهم من دخل الإسلام وعليهم علامات استفهام مثل كعب الأحبار. من 13 قرنا، كان اليهود مثلما كان النصارى، الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر عاهدهم وهم الذين غدروا، لاشك أن اليهود وبني إسرائيل عامة لهم أخلاق توارثوها تحدث عنها القرآن: القسوة، الغدر، الأنانية، العصبية، حتى إنهم حولوا كتابهم التوراة لكتاب قومي، ودينهم لدين قومي، فهي تتحدث عن بني إسرائيل وأحداثهم وملكهم ولا تتحدث عن الآخرة أو الجنة والنار، فهذه أشياء موجودة في الكيان النفسي والفكري والخلقي لليهود، تصنعه هذه التوراة المحرفة، وأكثر منها التلمود، هذه التعاليم الخفية التي يقدسونها أكثر مما يقدسون تعاليم التوراة، والتي تعتبر اليهود صنفاً مميزاً على جميع الخلق، وأن الجميع يجب أن يكونوا عبيداً لهم واعتبر الشعوب الأخرى أحط من البهائم وأذل من الكلاب، فهذه أشياء نحن نعرفها ولا نستطيع أن ننكرها، إنما أنا أقول من الناحية الدينية أنا كمسلم، اليهودي مثل النصراني من أهل الكتاب، حتى في هذا العصر مع اعتداءاته، لا أغير الحقائق من أجل العدوان، وفي وقت من الأوقات كان النصارى أشد علينا من اليهود (أيام الحروب الصليبية) وكان اليهود مع المسلمين في هذا الوقت، الأولى أن نعطي كل ذي حق حقه، مثلاً أنا لو سئلت الآن هل يجوز للمسلم أن يتزوج يهودية؟ سأقول له لا، لأن الفقهاء أجمعوا أنه لا يجوز أن نتزوج من قوم معادين حتى لو كانوا أهل كتاب، كأنني أتزوج جاسوسة تكون لإسرائيل، والمفروض حسب استقرائنا أن جميع اليهود هم مؤيدون لبني إسرائيل فلا يجوز الزواج من أي يهودية في أي قطر، وهذا بصفة عامة، الأصل في اليهودي أنه مع إسرائيل، وإسرائيل قامت بتبرعات اليهود في العالم ونفوذهم. اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة له هيمنته ونفوذه وتأثيره في قيام واستمرار إسرائيل، النفوذ والمال والسلاح، والفيتو الأمريكي بتأثير اللوبي اليهودي في أمريكا، ولا نستطيع أن ننكر ما جاء في القرآن (لا يؤمنون إلا قليلاً) (إلا قليل منكم) لأنه(29/232)
دائما فيه استثناءات، فالإنصاف أن نذكر وجود الاستثناءات إنما عندما تحكم تقول عموم اليهود، لأننا نحكم على الأغلبية والفقهاء يقولون للأكثر حكم الكل والنادر لا حكم له.
الصراع مستمر والجهاد فريضة، حتى يسترد الحق وتعود الأرض إلى أهلها، وكما قلت أننا لا نطلب، ولن يطالبنا الله عز وجل أن يكون عندنا ترسانة نووية، إنما أن نعد لهم ما استطعنا ونجاهد بما نقدر عليه، وألا نسلم أبدا مهما كان، فهذا واجبنا، ونحن نعتقد أننا أصحاب الحق، وصاحب الحق في النهاية لابد أن ينتصر (دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)، فلسطين احتلت 200 عام أيام الحرب الصليبية، والمسجد الأقصى ظل 90 عاما في أيدي الصليبية، ومع هذا استرد المسلمون حقوقهم، وأنا أعتقد أن النصر لنا إن شاء الله، فعندنا البشائر من القرآن والسنة والواقع والتاريخ وسنن الله عز وجل، حتى اليهود عندهم هذا، فبعض الفلسطينيين قالوا لموشى ديان، إن عندنا بشائر أننا سننتصر ونستعيد فلسطين، فرد عليه ونحن عندنا هذا ولكن ليس هذا الجيل الذي سينتصر علينا، إنما جيل الصحوة إن شاء الله الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ونبياً، ووضع روحه في يديه ورأسه على كفه، ويجعل من نفسه قنبلة موقوتة يقذف بها العدو. هذا هو الجيل المنشود إن شاء الله والذي سميته جيل النصر المنشود
===========(29/233)
(29/234)
ضوابط التصالح مع اليهود الغاصبين لأرض فلسطين…
ما حكم التفاوض مع اليهود وعقد المعاهدات معهم وهم حتى الأن يعملون القتل في أهل فلسطين لايفرقون بين شاب وكهل ولا بين رجل وامرأة ؟؟؟
…السؤال
27/11/2006…التاريخ
……الحل …
…بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
فما فعله اليهود بفلسطين هو اعتداء على بلد إسلامي يوجب على أهل فلسطين في المقام الأول رده بالقوة ، كما يوجبه على كل مسلم في البلاد الإسلامية المعتدى عليها، مثلهم في ذلك مثل أي دولة يعتدى عليها .
فالشعب الفلسطيني من أكثر الشعوب تعرضاً للاضطهاد والتشريد والقتل؛ فمنذ أوائل ومنتصف القرن العشرين وهو يلاقي الاضطهاد وفي بلده على أيدي الصهاينة الغاصبين لموطنه.
والصلح مع الأعداء يكون على أساس رد ما اعتدى عليه ذلك العدو إلى المسلمين ، أما إن كان الصلح يعمل على أساس تثبيت الاعتداء فهو باطل شرعا، هذا خلاصة ما جاء في فتاوى دار الإفتاء بالأزهر الشريف (للشيخ حسن مأمون عام 1956م) ,وإليك نصها:
لأجل أن نعرف حكم الشريعة الإسلامية في الصلح مع اليهود في فلسطين المحتلة دون نظر إلى الناحية السياسية - يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أي بلد من بلاد المسلمين هل هو جائز أو غير جائز . وإذا كان غير جائز فما الذي يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان؟ .
إن هجوم العدو على بلد إسلامي لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه، فدار الإسلام يجب أن تبقى بيد أهلها ، ولا يجوز أن يعتدي عليها أي معتد، وأما ما يجب على المسلمين في حالة العدوان على أي بلد إسلامي فلا خلاف بين المسلمين في أن جهاد العدو بالقوة في هذه الحالة فرض عين على أهلها
يقول صاحب المغنى : يتعين الجهاد في ثلاثة :
الأول:إذا التقى الزحفان ، وتقابل الصفان - الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم - الثالث: إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أي اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم .
قال الله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } الأنفال 60 ، فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدي عليهم لدينهم، وضد كل من يطمع في بلادهم ، فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها .
والخلاف بين العلماء في بقاء الجهاد أو عدم بقائه ، وفي أنه فرض عين أو فرض كفاية - إنما هو في غير حالة الاعتداء على أي بلد إسلامي، أما إذا حصل الاعتداء فعلاً على أي بلد إسلامي فإن الجهاد يكون فرض عين على أهلها.
وقد بحث موضوع الجهاد الحافظ ابن حجر وانتهى إلى أن الجهاد فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، وإلى أن التحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه ، وإما بماله ، وإما بقلبه .
وعلى ضوء هذه الأحكام يحكم على ما فعله اليهود في فلسطين بأنه اعتداء على بلد إسلامي يتعين على أهله أن يردوا هذا الاعتداء بالقوة حتى يجلوهم عن بلدهم ، ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية ، وهو فرض عين على كل منهم، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين . ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها داراً لكل مسلم ؛ فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولا، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانيا ؛ لأنهم وإن لم يعتد على بلادهم مباشرة ، إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي هي جزء من البلاد الإسلامية .
ضوابط الصلح مع اليهود:
وبعد أن عرفنا حكم الشريعة في الاعتداء على بلد إسلامي يمكننا أن تعرف حكم الشريعة في الصلح مع المعتدى هل هو جائز أو غير جائز ؟
والجواب :
إن الصلح إذا كان على أساس رد الجزء الذي اعتدى عليه إلى أهله كان صلحا جائزا، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحا باطلا؛ لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلا مثله.
وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة مع أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيها مصلحة للمسلمين . لقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } الأنفال 61 ، وقالوا : إن الآية ، وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هو قوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } ، فأما إن لم يكن في الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع .
ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التي سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم، وليس فيه مصلحة للمسلمين . ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين ...
وخلاصة هذا الكلام :
أن المتعين على المسلمين هو جهاد العدو بالقوة ، حتى يجلوهم عن بلاد المسلمين التي اغتصبوها ، ويعيدوا هذه البلاد إلى حظيرة البلاد الإسلامية .(29/235)
و التصالح مع اليهود إنما يكون جائزا إذا قام اليهود برد جميع الأراضي التي استولوا عليها من المسلمين دون تقديم تنازلات من المسلمين ، أما إن كان التصالح معهم من شأنه أن يثبتهم في ديار المسلمين فمثل هذا الصلح يكون باطلا شرعا
===============(29/236)
(29/237)
حكم دعم اليهود والتصالح معهم…
ماحكم من يدعم اليهود؟ وهل يجوز التصالح معهم؟…السؤال
28/11/2001…التاريخ
……الحل …
…الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله
إن فلسطين أرض فتحها المسلمون وأقاموا فيها زمنا طويلا، فصارت جزءا من البلاد الإسلامية أغلب أهلها مسلمون، وتقيم معهم أقلية من الديانات فصارت دار إسلام تجرى عليها أحكامها وأن اليهود اقتطعوا جزءا من أرض فلسطين وأقاموا فيه حكومة لهم غير إسلامية وأجلوا عن هذا الجزء أكثر أهله من المسلمين.
ولأجل أن نعرف حكم الشريعة الإسلامية في الصلح مع اليهود فى فلسطين المحتلة دون نظر إلى الناحية السياسية - يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أي بلد من بلاد المسلمين هل هو جائز أو غير جائز.
وإذا كان غير جائز فما الذي يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان - إن هجوم العدو على بلد إسلامي لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه، فدار الإسلام يجب أن تبقى بيد أهلها ولا يجوز أن يعتدي عليها أي معتد، وأما ما يجب على المسلمين في حالة العدوان على أي بلد إسلامي فلا خلاف بين المسلمين في أن جهاد العدو بالقوة في هذه الحالة فرض عين على أهلها يقول صاحب المغني يتعين الجهاد في ثلاثة :-
الأول إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان
الثاني إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم
الثالث إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أي اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم.
قال الله تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } الأنفال 60 ، فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدي عليهم لدينهم، وضد كل من يطمع في بلادهم، فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها.
والخلاف بين العلماء في بقاء الجهاد أو عدم بقائه وفي أنه فرض عين أو فرض كفاية - إنما هو في غير حالة الاعتداء على أي بلد إسلامي، أما إذا حصل الاعتداء فعلا على أي بلد إسلامي فإن الجهاد يكون فرض عين على أهلها.
وقد بحث موضوع الجهاد الحافظ بن حجر وانتهى إلى أن الجهاد فرض كفاية على المشهور، إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يدهم العدو، وإلى أن التحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه.
وعلى ضوء هذه الأحكام يحكم على ما فعله اليهود في فلسطين بأنه اعتداء على بلد إسلامي يتعين على أهله أن يردوا هذا الاعتداء بالقوة حتى يجلوهم عن بلدهم ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية وهو فرض عين على كل منهم، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين.
ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها دارا لكل مسلم فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولا، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانيا لأنهم وإن لم يعتد على بلادهم مباشرة إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي هي جزء من البلاد الإسلامية وبعد أن عرفنا حكم الشريعة في الاعتداء على بلد إسلامي يمكننا أن نعرف حكم الشريعة في الصلح مع المعتدي هل هو جائز أو غير جائز والجو اب إن الصلح إذا كان على أساس رد الجزء الذي اعتدى عليه إلى أهله كان صلحا جائزا، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحا باطلا لأنه إقرار لاعتداء باطل، وما يترتب على الباطل يكون باطلا مثله.
وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة مع أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيها مصلحة للمسلمين.لقوله تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } الأنفال 61 ، وقالوا إن الآية وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هو قوله تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } محمد 35 ، فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع.(29/238)
ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التي سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم، وليس فيه مصلحة للمسلمين.ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين أما هذه الشروط والقيود فلا تتعرض لها، لأن غيرنا ممن اشتغل بهذه القضية أقدر على معرفتها وبيانها على وجه التفصيل منا والجواب عن السؤال الثاني إن الأحلاف والمعاهدات التي يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة من الناحية الشرعية إذا كانت في مصلحة المسلمين.أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامي كاليهود المعتدين على فلسطين فإنه يكون تقوية لجانب المعتدي يستفيد من هذا الجانب في الاستمرار في اعتدائه، وربما في التوسع فيه أيضا، وذلك غير جائز شرعا ونفضل على هذه الأحلاف أن يتعاون المسلمون على رد أي اعتداء يقع على بلادهم، وأن يعقدوا فيما بينهم عهودا وأحلافا تظهرهم قولا وعملا يدا واحدة تبطش بكل من تحدثه نفسه بأن يهاجم أي بلد إسلامي.وإذا أضيف إلى هذه العهود والمواثيق التي لا يراد منها الاعتداء على أحد وإنما يراد منها منع الاعتداء السعي الحثيث - بكل وسيلة ممكنة في شراء الأسلحة من جميع الجهات التي تصنع الأسلحة، والمبادرة بصنع الأسلحة في بلادهم لتقوية الجيوش الإسلامية المتحالفة.فإن ذلك كله يكون أمرا واجبا وضروريا لضمان السلام الذي يسعى إليه المسلم، ويتمناه لبلده ولسائر البلاد الإسلامية بل ولغيرها من البلاد غير الإسلامية.
ويظهر أن لليهود موقفا خاصا فلم يعقد مع أهل فلسطين ولا أية حكومة إسلامية صلحا ولم تجل بعد عن الأرض المحتلة وهي موجودة بحكم سياسي.وهو الهدنة التي فرضتها الدول على الفريقين، ونزلت على حكمها الحكومات الإسلامية إلى أن يجدوا حلا عادلا للمسألة، ولم يرض بها اليهود ونقضوها باعتداءاتهم المتكررة التي لم تعد تخفى على أحد.وكل ما فعله المسلمون واعتبره اليهود اعتداء على حقوقهم هو محاصرتهم ومنع السلاح والذخيرة التي تمر ببلادهم عنهم.ولأجل أن نعرف حكم الشريعة في هذه المسألة نذكر أن ما يرسل إلى أهل الحرب نوعان.النوع الأول السلاح وما هو في حكمه. الثاني الطعام ونحوه وقد منع الفقهاء أن يرسل إليهم عن طريق البيع السلاح، لأن فيه تقويتهم على قتال المسلمين، وكذا الكراع والحديد والخشب وكل ما يستفاد به في صنع الأسلحة سواء حصل ذلك قبل الموادعة أو بعدها، لأنها على شرف النقض والانقضاء فكانوا حربا علينا، ولا شك أن حال اليهود أقل شأنا من حال من وادعهم المسلمون مدة معينة على ترك القتال، وعلى فرض تسمية الهدنة موادعة فقد نقضها اليهود باعتداءاتهم ونقض الموادعة من جانب يبطلها ويحل الجانب الآخر منها - وأما النوع الثاني فقد قالوا إن القياس يقضي في الطعام والثوب ونحوهما بمنعها عنهم إلا أنا عرفنا بالنص حكمه وهو أن صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه - وقد ورد النص فيمن تربطه بالنبي صلة الرحم ولذلك أجابهم إلى طلبهم بعد أن ساءت حالتهم.وليس هذا حال اليهود في فلسطين. ولذلك نختار عدم جواز إرسال أي شيء إليهم أخذا بالقياس، فإن إرسال غير الأسلحة إليهم يقويهم ويغريهم على التشبث بموقفهم الذي لا تبرره الشريعة.
والله تعالى أعلم.
================(29/239)
(29/240)
معاهدة عمر لأهل بيت المقدس…
ما هو نص المعاهدة التي كانت بين النصارى و بين الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند فتحه لبيت المقدس ؟
…السؤال
31/03/2001…التاريخ
……الحل …
…بسم الله و الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
دخل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بيت المقدس يوم الاثنين، وأقام بها إلى يوم الجمعة ، وخطب خطبة الجمعة هناك .ثم أقام ببيت المقدس عشرة أيام، وارتحل بعد أن كتب لأهله عهداً ، وأقرهم في بلدهم على الجزية، وسار بمن معه في العساكر إلى الجابية، فأقام بها ودوَّن الدواوين ، وأخذ الخمس الذي للّه مما أفاء اللّه على المسلمين، ثم قسَّم الشام إلى قسمين فأعطى أبا عبيدة من حوران إلى حلب ويليها، وأمره بالمسير إلى حلب ، وأن يقاتل أهلها إلى أن يفتحها اللّه على يديه، وأعطى أرض فلسطين وأرض القدس والساحل ليزيد بن أبي سفيان، وجعل أبا عبيدة والياً عليه.
عهد الفاروق عمر لأهل بيت المقدس:
ذكر الشيخ رشيد رضا في كتابه : "عمر بن الخطاب" نص معاهدة الفاروق عمر لأهل بيت المقدس نقلاً عن الطبري في كتابه : "تاريخ الأمم والملوك" فقال:
هذا نص عهد أهل بيت المقدس الذي أعطاه لهم عمر بن الخطاب:
"بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد اللّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها ،وسائر ملتها. إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ،ولا ينتقض منها ،ولا من خيرها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم. فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلى بِبَعِهم وصلبهم؛ فإنهم آمنون على أنفسهم ،وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد ، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فلا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم .
وعلى ما في هذا الكتاب عهد اللّه وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية ابن أبي سفيان .وكتب وحضر سنة خمسة عشر".
والله أعلم
===============(29/241)
(29/242)
موقف الإسلام من الصلح مع اليهود…
في حالة اذا وقعت جميع الدول العربية الرئيسة معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني ربما ارباب ثقافة السلام يخرجون بمقولة تدعو لاعتبار الصهاينة بناء على هذه المعاهدات أهل عهد أو هم معاهدون ؟ الرافض لهذا الفهم ، كيف يرد تأسيساعلى تأصيل شرعي ؟ …السؤال
21/03/2000…التاريخ
……الحل …
…الأخ السائل الكريم، ننقل لك بدايةعن الدكتور القرضاوي تعريفا عاما وشاملا لطبيعة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب وكيف نتعامل معهم ثم ننقل لك رأي الدكتور القرضاوي في التعامل مع اليهود الآن، وفي كل الأحوال فليس معنى أن يوقع العالم كله معاهدة سلام مع اليهود، ليس معنى ذلك أن نقر لهم ونوافقهم على سلبنا أرضنا وحقنا،وإليك الآن الفتوتان:نظرة خاصة لأهل الكتاب
إذا كان الإسلام لا ينهى عن البر والإقساط إلى مخالفيه من أي دين لو كانوا وثنين مشركين -كمشركي العرب الذين نزلت في شأنهم الآيتان السالفتان- فإن الإسلام ينظر نظرة خاصة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى. سواء أكانوا في دار الإسلام أم خارجها.
فالقرآن لا يناديهم إلا بـ (يا أهل الكتاب) و(يا أيها الذين أوتوا الكتاب) يشير بهذا إلى أنهم في الأصل أهل دين سماوي، فبينهم وبين المسلمين رحم وقربى، تتمثل في أصول الدين الواحد الذي بعث الله به أنبياءه جميعا: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) سورة الشورى:13.
والمسلمون مطالبون بالإيمان بكتب الله قاطبة، ورسل الله جميعا، لا يتحقق إيمانهم إلا بهذا: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) سورة البقرة:136.
وأهل الكتاب إذا قرؤوا القرآن يجدون الثناء على كتبهم ورسلهم وأنبيائهم.
وإذا جادل المسلمون أهل الكتاب فليتجنبوا المراء الذي يوغر الصدور، ويثير العداوات: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) سورة العنكبوت:46.
وقد رأينا كيف أباح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب وتناول ذبائحهم. كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم مع ما في الزواج من سكن ومودة ورحمة. وفي هذا قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) سورة المائدة:5.
هذا في أهل الكتاب عامة. أما النصارى منهم خاصة، فقد وضعهم القرآن موضعا قريبا من قلوب المسلمين فقال: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) سورة المائدة:82.
أهل الذمة
وهذه الوصايا المذكورة تشمل جميع أهل الكتاب حيث كانوا، غير أن المقيمين في ظل دولة الإسلام منهم لهم وضع خاص، وهم الذين يسمون في اصطلاح المسلمين باسم (أهل الذمة) والذمة معناها: العهد. وهي كلمة توحي بأن لهم عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنين.
وهؤلاء بالتعبير الحديث (مواطنون) في الدولة الإسلامية، أجمع المسلمون منذ العصر الأول إلى اليوم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، إلا ما هو من شؤون الدين والعقيدة، فإن الإسلام يتركهم وما يدينون.
وقد شدد صلى الله عليه وسلم الوصية بأهل الذمة وتوعد كل مخالف لهذه الوصايا بسخط الله وعذابه، فجاء في أحاديثه الكريمة: "من آذى ذميا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله"."من آذى ذميا فأنا خصمه ومن كنت خصمه، خصمته يوم القيامة"."من ظلم معاهدا، أو انتقصه حقا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة".
وقد جرى خلفاء الرسو صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الحقوق والحرمات لهؤلاء المواطنين من غير المسلمين. وأكد فقهاء الإسلام على اختلاف مذاهبهم هذه الحقوق والحرمات.
قال الفقيه المالكي شهاب الدين القرافي: "إن عقد الذمة يوجب حقوقا علينا؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمتنا وذمة الله تعالى، وذمة رسول صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء، أو غيبة في عرض أحدهم، أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسول صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام".
وقال ابن حزم الفقيه الظاهري: "إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك صونا لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسول صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة".
موالاة غير المسلمين ومعناها
ولعل سؤالا يجول في بعض الخواطر، أو يتردد على بعض الألسنة، وهو:(29/243)
كيف يتحقق البر والمودة وحسن العشرة مع غير المسلمين، والقرآن نفسه ينهى عن موادة الكفار واتخاذهم أولياء وحلفاء في مثل قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) سورة المائدة:51،52.
والجواب: إن هذه الآيات ليست على إطلاقها، ولا تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر. ولو فهمت هكذا لناقضت الآيات والنصوص الأخرى، التي شرعت موادة أهل الخير والمعروف من أي دين كانوا، والتي أباحت مصاهرة أهل الكتاب، واتخاذ زوجة كتابية مع قوله تعالى في الزوجية وآثارها: (وجعل بينكم مودة ورحمة) سورة الروم:21. وقال تعالى في النصارى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا. الذين قالوا: إنا نصارى) سورة المائدة:82.
إنما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للإسلام، محاربين للمسلمين، فلا يحل للمسلم حينذاك مناصرتهم ومظاهرتهم -وهو معنى الموالاة- واتخاذهم بطانة يفضي إليهم بالأسرار، وحلفاء يتقرب إليهم على حساب جماعته وملته؛ وقد وضحت ذلك آيات أخر كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم !!) سورة آل عمران:118،119.
فهذه الآية تبين لنا صفات هؤلاء، وأنهم يكنون العداوة والكراهية للمسلمين في قلوبهم، وقد فاضت آثارها على ألسنتهم.
وقال تعالى: (ولا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم) سورة المجادلة: الآية الأخيرة. ومحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، وإنما هي مناصبة العداء للإسلام والمسلمين.
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم، أن تؤمنوا بالله ربكم) أول سورة الممتحنة. فهذه الآية نزلت في موالاة مشركي مكة الذي حاربوا الله ورسوله، وأخرجوا المسلمين من ديارهم بغير حق إلى أن يقولوا: ربنا الله. فمثل هؤلاء هم الذين لا تجوز موالاتهم بحال. ومع هذا فالقرآن لم يقطع الرجاء في مصافاة هؤلاء، ولم يعلن اليأس البات منهم، بل أطمع المؤمنين في تغير الأحوال وصفاء النفوس، فقال في السورة نفسها بعد آيات: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذي عاديتم منهم مودة، والله قدير، والله غفور رحيم) سورة الممتحنة:7.
وهذا التنبيه من القرآن الكريم كفيل أن يكفكف من حدة الخصومة وصرامة العداوة، كما جاء في الحديث: "أبغض عدوك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
وتتأكد حرمة الموالاة للأعداء إذا كانوا أقوياء، يرجون ويخشون، فيسعى إلى موالاتهم المنافقون ومرضى القلوب، يتخذون عندهم يدا، يرجون أن تنفعهم غدا. كما قال تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) المائدة: 52. (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم العزة؟ فإن العزة لله جميعا) سورة النساء:138،139.
استعانة المسلم بغير المسلم
ولا بأس أن يستعين المسلمون -حكاما ورعية- بغير المسلمين في الأمور الفنية التي لا تتصل بالدين من طب وصناعة وزراعة وغيرها، وإن كان الأجدر بالمسلمين أن يكتفوا في كل ذلك اكتفاء ذاتيا.
وقد رأينا في السيرة النبوية كيف استأجر رسول ا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أريقط -وهو مشرك- ليكون دليلا له في الهجرة. قال العلماء: ولا يلزم من كونه كافرا ألا يوثق به في شيء أصلا؛ فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة إلى المدينة.
وأكثر من هذا أنهم جوزوا لإمام المسلمين أن يستعين بغير المسلمين -بخاصة أهل الكتاب- في الشؤون الحربية، وأن يسهم لهم من الغنائم كالمسلمين.
روى الزهري أن رسول ا صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم، وأن صفوان بن أمية خرج مع صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين وكان لا يزال على شركه.
ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به؛ لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.
ويجوز للمسلم أن يهدي إلى غير المسلم، وأن يقبل الهدية منه، ويكافئ عليها، كما ثبت أن صلى الله عليه وسلم أهدى إليه الملوك فقبل منهم. وكانوا غير مسلمين.
قال حفاظ الحديث: والأحاديث في قبول صلى الله عليه وسلم هدايا الكفار كثيرة جدا وعن أم سلمة زوج صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: "إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي من حرير".
إن الإسلام يحترم الإنسان من حيث هو إنسان فكيف إذا كان من أهل الكتاب؟ وكيف إذا كان معاهدا أو ذميا؟(29/244)
مرت جنازة على رسول ا صلى الله عليه وسلم فقام لها واقفا، فقيل له: "يا رسول الله إنها جنازة يهودي؟! فقال: أليست نفسا"؟! بلى، وكل نفس في الإسلام لها حرمة ومكان.
الإسلام رحمة عامة حتى على الحيوان
وكيف يبيح الإسلام للمسلم أن يسيء إلى غير المسلم أو يؤذيه، وهو يوصي بالرحمة بكل ذي روح، وينهى عن القسوة على الحيوان الأعجم.
لقد سبق الإسلام جمعيات الرفق بالحيوان بثلاثة عشر قرنا، فجعل الإحسان إليه من شعب الإيمان، وإيذاءه والقسوة عليه من موجبات النار.
ويحدث رسول ا صلى الله عليه وسلم أصحابه عن رجل وجد كلبا يلهث من العطش، فنزل بئرا فملأ خفه منها ماء فسقى الكلب حتى روي.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم فشكر الله له فغفر له. فقال الصحابة: أإن لنا في البهائم لأجرا يا رسول الله؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر".
وإلى جوار هذه الصورة المضيئة التي توجب مغفرة الله ورضوانه يرسم النبي صورة أخرى توجب مقت الله وعذابه فيقول: "دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
وبلغ من احترام حيوانية الحيوان أن رأى صلى الله عليه وسلم حمارا موسوم الوجه (مكويا في وجهه) فأنكر ذلك وقال: "والله لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه".
وفي حديث آخر أنه مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: "أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها".
وقد ذكرنا قبل أن ابن عمر رأى أناسا اتخذوا من دجاجة غرضا يتعلمون عليه الرمي والإصابة بالسهام فقال: "إن صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا".
وقال عبد الله بن عباس: "نهى صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم". والتحريش بينها: هو إغراء بعضها ببعض لتتطاحن وتتصارع إلى حد الموت أو مقاربته.
وروى ابن عباس أيضا أن صلى الله عليه وسلم "نهى عن إخصاء البهائم نهيا شديدا". والإخصاء: سل الخصية.
وكذلك شنع القرآن على أهل الجاهلية تبتيكهم لآذان الأنعام (شقها) وجعل هذا من وحي الشيطان.
وقد عرفنا عند الكلام على الذبح كيف حرص الإسلام على إراحة الذبيحة بأيسر وسيلة ممكنة، وكيف أمر أن تحد الشفار وتوارى عن البهيمة.
ونهى أن يذبح حيوان أمام آخر.
وما رأت الدنيا عناية بالحيوان إلى هذا الحد الذي يفوق الخيال!!(29/245)
الفتوى الثانية للدكتور القرضاوي:بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فالسؤال عن الصراع بيننا وبين اليهود، هل هو صراع على الأرض أم على العقيدة، وهل الصراع على الأرض ينفي الطابع العقائدي عن الصراع بيننا وبين اليهود، فهناك سوء فهم، أنا قلت وأقول أن الصراع بيننا وبين اليهود صراع على الأرض لا من أجل يهوديتهم، لأنهم أهل كتاب يجوز مآكلتهم ومصاهرتهم (طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) وقد عاش اليهود في ذمة المسلمين قروناً طويلة، لكن منذ أن طمع اليهود في أرضنا، أرض فلسطين، أرض الإسراء والمعراج، أرض المسجد الأقصى ومنذ خططوا على أن يقيموا دولة على أنقاض المسجد الأقصى، بدأ الصراع بيننا وبينهم ولكن ليس معنى هذا أنه ليس صراعاً دينياً ولا عقائدياً، فهناك خلل في هذه القضية، نفي أنه ليس صراع على العقيدة، لا ينفي أنه صراع ديني وعقائدي، لأننا أمة دينية واليهود أمة دينية، فصراعنا على الأرض مختلط بالدين، المسلم حين يدافع عن أرض لا يدافع عن مجرد تراب، هو يدافع عن أرض الإسلام، عن دار الإسلام، لذلك إذا قتل دون أرضه فهو شهيد، وإذا قتل دون ماله فهو شهيد، وإذا قتل دون أهله فهو شهيد، وإذا قتل دون دمه فهو شهيد، وإذن كل هذا يعتبر شهادة، وهذا معناه أنها معركة دينية، فالإنسان الملتزم كل معاركه تختلط بالدين، وخصوصاً في هذه المعركة، فهي أرض القبلة الأولى، أرض النبوات، وثالث المسجدين المعظمين أرض الإسراء والمعراج، فهذه الأرض لها طابع خاص عند المسلمين ومكانة، المسلم يدافع عن أرض له فيها مقدسات هائلة، وكذلك اليهودي فهو عنده معركة دينية لأنه يعتبر هذه الأرض هي أرض الميعاد، لهم فيها أحلام توراتية وتعاليم تلمودية، وهم عندهم أقاليم ثلاثة الله والشعب والأرض بعضهم يعبر عنها التوراة والشعب والأرض، الثلاثة متداخلة مع بعض، لذلك هو يقاتلنا باسم الدين، لذلك نحن ننكر على من يريد إخراج الدين من هذه المعركة، لذلك أرجو ألا يفهم كلامي أنني أريد أن أخرج الجانب الديني والعقائدي من القضية، هذه خيانة أنا لا أريد هذا ولا ينبغي أن يفهم كلامي على هذا، إنما أنا أريد أن أقول لبعض الناس كيف يفهمون الآية (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) أن هذا بالنسبة للوضع الذي كان أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد ذلك اليهود دخلوا في ذمة المسلمين وعاشوا بينهم آمنين ولم يجدوا دارا تؤويهم إلا دار المسلمين، وكانوا يعيشون بين المسلمين على أفضل ما يكون أصحاب ثروة ونفوذ، لم يكن بيننا وبينهم صراع إلا ثقافي أحياناً، إسرائيليات، الأشياء التي قذروا بها نقاء الثقافة الإسلامية ونشروها بين المسلمين عن طريق من أسلم منهم وقراءات من كتب غير معتمدة، وروايات شفوية، أفسدت على المسلمين كثير من ثقافتهم. اليهود كان لهم دور كذلك أيام سيدنا عثمان وسيدنا علي، عبدالله بن سبأ اليهودي ودوره، وبعضهم من دخل الإسلام وعليهم علامات استفهام مثل كعب الأحبار. من 13 قرنا، كان اليهود مثلما كان النصارى، الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر عاهدهم وهم الذين غدروا، لاشك أن اليهود وبني إسرائيل عامة لهم أخلاق توارثوها تحدث عنها القرآن: القسوة، الغدر، الأنانية، العصبية، حتى إنهم حولوا كتابهم التوراة لكتاب قومي، ودينهم لدين قومي، فهي تتحدث عن بني إسرائيل وأحداثهم وملكهم ولا تتحدث عن الآخرة أو الجنة والنار، فهذه أشياء موجودة في الكيان النفسي والفكري والخلقي لليهود، تصنعه هذه التوراة المحرفة، وأكثر منها التلمود، هذه التعاليم الخفية التي يقدسونها أكثر مما يقدسون تعاليم التوراة، والتي تعتبر اليهود صنفاً مميزاً على جميع الخلق، وأن الجميع يجب أن يكونوا عبيداً لهم واعتبر الشعوب الأخرى أحط من البهائم وأذل من الكلاب، فهذه أشياء نحن نعرفها ولا نستطيع أن ننكرها، إنما أنا أقول من الناحية الدينية أنا كمسلم، اليهودي مثل النصراني من أهل الكتاب، حتى في هذا العصر مع اعتداءاته، لا أغير الحقائق من أجل العدوان، وفي وقت من الأوقات كان النصارى أشد علينا من اليهود (أيام الحروب الصليبية) وكان اليهود مع المسلمين في هذا الوقت، الأولى أن نعطي كل ذي حق حقه، مثلاً أنا لو سئلت الآن هل يجوز للمسلم أن يتزوج يهودية؟ سأقول له لا، لأن الفقهاء أجمعوا أنه لا يجوز أن نتزوج من قوم معادين حتى لو كانوا أهل كتاب، كأنني أتزوج جاسوسة تكون لإسرائيل، والمفروض حسب استقرائنا أن جميع اليهود هم مؤيدون لبني إسرائيل فلا يجوز الزواج من أي يهودية في أي قطر، وهذا بصفة عامة، الأصل في اليهودي أنه مع إسرائيل، وإسرائيل قامت بتبرعات اليهود في العالم ونفوذهم. اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة له هيمنته ونفوذه وتأثيره في قيام واستمرار إسرائيل، النفوذ والمال والسلاح، والفيتو الأمريكي بتأثير اللوبي اليهودي في أمريكا، ولا نستطيع أن ننكر ما جاء في القرآن (لا يؤمنون إلا قليلاً) (إلا قليل منكم) لأنه(29/246)
دائما فيه استثناءات، فالإنصاف أن نذكر وجود الاستثناءات إنما عندما تحكم تقول عموم اليهود، لأننا نحكم على الأغلبية والفقهاء يقولون للأكثر حكم الكل والنادر لا حكم له.
الصراع مستمر والجهاد فريضة، حتى يسترد الحق وتعود الأرض إلى أهلها، وكما قلت أننا لا نطلب، ولن يطالبنا الله عز وجل أن يكون عندنا ترسانة نووية، إنما أن نعد لهم ما استطعنا ونجاهد بما نقدر عليه، وألا نسلم أبدا مهما كان، فهذا واجبنا، ونحن نعتقد أننا أصحاب الحق، وصاحب الحق في النهاية لابد أن ينتصر (دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)، فلسطين احتلت 200 عام أيام الحرب الصليبية، والمسجد الأقصى ظل 90 عاما في أيدي الصليبية، ومع هذا استرد المسلمون حقوقهم، وأنا أعتقد أن النصر لنا إن شاء الله، فعندنا البشائر من القرآن والسنة والواقع والتاريخ وسنن الله عز وجل، حتى اليهود عندهم هذا، فبعض الفلسطينيين قالوا لموشى ديان، إن عندنا بشائر أننا سننتصر ونستعيد فلسطين، فرد عليه ونحن عندنا هذا ولكن ليس هذا الجيل الذي سينتصر علينا، إنما جيل الصحوة إن شاء الله الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ونبياً، ووضع روحه في يديه ورأسه على كفه، ويجعل من نفسه قنبلة موقوتة يقذف بها العدو. هذا هو الجيل المنشود إن شاء الله والذي سميته جيل النصر المنشود
===============(29/247)
(29/248)
هل يجوز التنازل عن القدس من أجل السلام؟…
هل يجوز للسلطة الفلسطينية أن تتنازل عن المسجد الأقصى من أجل أن يعيش الفلسطنيون في سلام مع العدو الصهيوني وتحقن بذلك دماء الشعب الفلسطيني ؟
…السؤال
11/02/2007…التاريخ
المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث…المفتي
……الحل …
…
…بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد جاء في فتوى لمجلس الإفتاء الأوربي ما نصه :
لا يجوز لأحد أن يتنازل عن أي جزء من أرض الإسلام، فأرض الإسلام ليست حقّاً لرئيس، ولا لأمير، ولا لوزير، ولا لجماعة من الناس، حتى تتنازل عنها تحت أي ضغط أو ظرف. وإنما الواجب على الأفراد والجماعات أن يسعوا بكل الوسائل لمقاومة الاحتلال وتحرير القدس الشريف، واستعادتها إلى دار الإسلام.
وإذا عجز جيل من أجيال الأمة أو تقاعس، فلا يجوز له أن يفرض عجزه أو تقاعسه على كل أجيال الأمة القادمة إلى يوم القيامة، فيتنازل عما لا يجوز له التنازل عنه.
ولهذا يفتي المجلس بتحريم بيع الأرض للأعداء في القدس أو غيرها من أرض فلسطين أو قبول التعويض عنها بالنسبة للاجئين المشردين؛ لأن أوطان الإسلام لا تقبل التنازل أو التعويض عنها بحال من الأحوال، ومن فعل ذلك فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين.
وإذا كان هذا الحكم في شأن أي أرض إسلامية، فكيف إذا كانت هذه الأرض في القدس الشريف، أولى القبلتين، وبلد المسجد الأقصى، وثالث المدن المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة، والأرض التي انتهى إليها الإسراء، وابتدأ منها المعراج، وحسبنا في فضلها قول الله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } [الإسراء: 1 ].
ولهذا كان للقدس مكان في قلب كل مسلم، في المشرق أو المغرب، تمس شغافه، وتتغلغل في أعماقه، حبّاً لها، وحرصاً عليها، وغيرة على حرماتها، واهتماماً بشأنها. ومن أجلها أصبحت قضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى، لها يفزعون، وعليها يحافظون، وفي سبيلها يدافعون ويقاتلون، ولا يضنون عليها بنفس ولا نفيس.
إنَّ القدس ليست للفلسطينيين وحدهم، إنها للمسلمين جميعاً، عربهم وعجمهم، كما أنها للعرب كافة، مسلمهم ومسيحيهم.
ولا يجوز للفلسطينيين وحدهم أن يتصرفوا في مصير القدس، ويفتئتوا على المسلمين في أنحاء الأرض. وهذا بالتالي يوجب على المسلمين - حيثما كانوا - أن يقوموا بواجبهم ويبذلوا ما في وسعهم في الدفاع عن بيت المقدس، والمسجد الأقصى، وهذا فرض عليهم جميعاً، يتكافلون في الذود عنه بأنفسهم وأموالهم وكل ما ملكت أيديهم، وإلا حقت عليهم عقوبة الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } التوبة: 38-39.
وحينما احتل الصليبيون القدس قديماً، كان الذين عملوا على تحريرها مسلمين من غير العرب، مثل عماد الدين زنكي التركي، وابنه نور الدين محمود الشهيد، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي الكردي، الذي حرر الله القدس على يديه.
وما يزال المسلمون في كل مكان - أكثر من مليار وثلث - مستعدين للبذل والتضحية من أجل القدس العزيز، وهذا شيء يلمسه كل أحد لدى الشعوب الإسلامية، ابتداء من الفليبين وإندونيسيا في الشرق إلى موريتانيا في المغرب العربي، وإن لم ينعكس هذا بصورة قوية وواضحة لدى بعض حكام المسلمين، للأسف!</<B r />
إنَّ القدس جزء عزيز من دار الإسلام، وأرض الإسلام، ووطن الإسلام، وقد صار للمسلمين فيها أربعة عشر قرناً من الزمان، ولم يأخذوها من اليهود، فقد انتهى الوجود اليهودي فيها منذ مئات السنين، كما انتهت دولتهم قبل ذلك بمئات السنين، فلم تقم لليهود دولة في فلسطين إلا بضع مئات من السنين، وكان العرب فيها منذ آلاف السنين.
لقد تسلم عمر بن الخطاب القدس من (بطريركها) النصراني صفرنيوس، وكان مما شارطه عليه عمر: ألا يساكنهم فيها يهود.
إنَّ السيادة على القدس يجب أن تكون إسلامية عربية فلسطينية، وهذا لا يمنع المسيحي، كما لا يمنع اليهودي، أن يقيم شعائر دينه فيها بكل حرية وسماحة، عرف بها الإسلام على توالي العصور.
) وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ( يوسف 21
والله أعلم
=============(29/249)
(29/250)
السلام في الإسلام ..رؤية فقهية…
يقال إن الإسلام دين يدعو إلى العُنف، ويقاوم السلام، فما مبلغ هذا القول من الحقيقة أو الخطأ؟
…السؤال
26/07/2005…التاريخ
……الحل …
…
…بسم الله ،والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله ،وبعد:
لم تعرف البشرية دينا اشتهر بالسلام كما اشتهر الإسلام ،فالتحية بين أهله السلام ، والجنة دار السلام ،كما أنه أتى ليحافظ على النفس البشرية من أي ضرر،ولكنه في ذات الوقت لا يرضى الخنوع والذل ،وقد شرع الجهاد دفاعا عن النفس ،فإن انتهى الأعداء عن الاعتداء ،فالمنهج الذي بيننا وبينهم قائم على احترام الحقوق ونشر السلام .
يقول الدكتور أحمد الشرباصي الأستاذ بجامعة الأزهر رحمه الله
هناك أكاذيب كثيرة ومفتريات عديدة، توجه إلى الإسلام والإسلام منها بريء، ومن بين هذه المفتريات القول بأن الإسلام يدعو إلى العنف، ويقاوم دعوة السلام، مع أن الإسلام هو أكثر الأديان دعوة إلى السلام، وحثًّا عليه، وتحبيبًا فيه، ويكفي للتدليل على ذلك بصفة مبدئية أن اللَّه ـ تبارك وتعالى ـ جعل من بين أسمائه اسم "السلام" للتذكير بأنه مصدر السلام، والداعي إلى السلام، والمحبِّب في السلام.
وقد جعل الإسلام التحية المتبادلة بين أبنائه وأتباعه هي عبارة "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وجعل ختام كل صلاة من الصلوات التي تتكرر كل يوم عدة مرات هي عبارة "السلام عليكم ورحمة الله" يقولها المصلي عند ختام الصلاة عن يمينه وشماله. وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم وجدنا فيه الحديث المتكرر والمتأكد عن التحبيب في السلام، والدعوة إليه، فيقول القرآن الكريم: (واللهُ يدعو إلى دارِ السلامِ ويَهدي مَنْ يشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ)0 (يونس: 25)، ويقول عن العباد الأبرار الأتقياء: (لهمْ دارُ السلامِ عند رَبِّهِمْ) 0(الأنعام: 127). ويجعل القرآن تحية المؤمنين في العالم الآخر هي تحية السلام، فيقول: (تَحِيَّتُهْم يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) (الأحزاب: 44). ويُخبرنا بأن الملائكة إذا دخلوا على المؤمنين في جنات النعيم ألْقَوْا على المؤمنين تحية السلام، فيقول القرآن الكريم: (والملائكةُ يَدخلونَ عليهم مِن كلِّ بابٍ سلامٌ عليكمْ بما صبرتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدارِ).(الرعد: 24).
والإسلام لم يَشرعِ الحربَ إلا دفاعًا عن النفس، وصدًّا لهجوم الأعداء وطلبًا لتحرير المكان أو الإنسان من المحتلِّين والمستغلين والمستعمرين، فقال القرآن الكريم: (أُذِنَ للذينَ يُقاتَلُونَ بأنهمْ ظُلِمُوا وإنَّ اللهَ على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)0 (الحج: 39). ويقول: (فَمَنِ اعْتَدَى عليكمْ فاعْتَدُوا عليهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدَى عليكمْ).(البقرة: 194). وقال: (فلا عُدْوَانَ إلاَّ على الظالمينَ). (البقرة: 193). وقال: (وقاتلُوا في سبيلِ اللهِ الذينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ). (البقرة: 190).
والإسلام يُقَرِّرُ أن المؤمنين يأخذون بأسلوب السلام إذا انتهى عدوُّهم عن العدوان، وقَبِلَ مبدأ السلام القائم على العدل والحق والإنصاف، ورد الحقوق إلى أصحابها، ولذلك يقول القرآن الكريم: (وإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فاجْنَحْ لها وتَوَكَّلْ على اللهِ إنَّهُ هُوَ السميعُ العليمُ). (الأنفال: 61).
ويُقرر الإسلام أن القتال إنما يكون أيضًا للدفاع عن المهضومين المظلومين، فيقول القرآن في سورة النساء: (وما لكمْ لا تُقاتلونَ في سبيلِ الله والمُستضْعَفِينَ مِنَ الرجالِ والنساءِ والوِلْدَانِ الذين يقولون ربنا أخْرِجْنَا مِنْ هذه القريةِ الظالِمِ أَهْلُهَا واجعلْ لنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا واجعلْ لنا مِنْ
لَدُنْكَ نَصِيرًا . الذينَ آمنوا يُقاتِلُونَ في سبيلِ اللهِ والذينَ كفروا يُقاتلونَ سبيلِ الطاغُوتِ فقَاتِلُوا أولياءَ الشيطانِ إنَّ كَيْدَ الشيطانِ كانَ ضَعِيفًا). (الآيتان : 75-76).
وهناك في الإسلام نصوص كثيرة تؤكد أنه دين السلام والمحبة والأخوة الإنسانية، فالقرآن يقول: (يا أيُّها الناسُ اتَّقُوا ربَّكم الذي خلقَكمْ مِنْ نفْسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زوجَهَا وبَثَّ منهما رِجالاً كثيرًا ونِسَاءً). (النساء 1). ويقول: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خلقْناكمْ مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى وجعلناكمْ شُعُوبًا وقبائلَ لِتَعَارَفُوا). (الحجرات: 13). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خيرالناس أنفعُهم للناس". وقال: "المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويَدِه، والمؤمن من أَمِنَ الناسُ بَوَائِقَهُ". أي أَمِنُوا أن يُصِيبَهُم شَرٌّ من جهته.
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثٍ له أن من فضائل الأعمال الأساسية الفاضلة في الإسلام: "بذل السلام للعالم".وهكذا نرى أن الإسلام دين سلامٍ وأمان، لا دينَ عُنْفٍ أو عدوان.
والله أعلم.
================(29/251)
(29/252)
الاستدلال بتعامل الرسول _ r_ مع اليهود على التطبيع
أجاب عليه … فضيلة الشيخ د. سعد العتيبي
التصنيف …الفهرسة/ الركن العلمي/ العقيدة/الولاء والبراء
التاريخ … 14 / 10 / 1426 هـ
رقم السؤال … 10379
السؤال
هل يصح الاستدلال بتعامل الرسول _ r_ مع اليهود وعقده الصلح معهم على جواز التطبيع مع اليهود في هذا العصر ( ما يسمى دولة إسرائيل ) والتبادل التجاري معهم، وهل هذا من جنس الصلح المذكور في كتب الفقه؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه .. أما بعد ..
فإنَّ الاستدلال بتعامل النبي _ r_ مع يهود، على جواز التطبيع، لا يصح ؛ لأوجه عديدة :
منها: أنَّ يهود في العهد النبوي لم يكونوا محتلين لبلاد المسلمين؛ وإنَّما معاهدون، سواء كان ذلك بصلح مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، أو صلح مطلق ينتهي متى أراد المسلمون إنهاءه بشرط إعلام المصالحين بذلك ، وإمَّا أنهم صاروا رعايا من رعايا الدولة الإسلامية بدخولهم في عقد الذمّة ؛ كما في صلح أهل نجران ، وقصة خيبر، فمنها ما فتح عنوة بالقوة العسكرية ومنها ما فتح صلحا ، وعلِّق فيه بقاؤهم في خيبر بحاجة المسلمين . قال ابن عبدالبرّ : " أجمع العلماء من أهل الفقه والأثر وجماعة أهل السير على أن خيبر كان بعضها عنوة وبعضها صلحاً " (التمهيد ، لابن عبد البر :645) . وقال أبو العباس ابن تيمية عن أهل خيبر وفتحها : " فإنَّها فتحت سنة سبع قبل نزول آية الجزية ؛ وأقرّهم فلاحين وهادنهم هدنة مطلقة قال فيها : (( نقركم ما أقركم الله )) " (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح :1/216-217 ) ؛ ولهذا أمر _ r_ عند موته بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ؛ وأنفذ ذلك عمر رضي الله عنه في خلافته " (أحكام أهل الذمة ، لابن القيم :2/478) .
فاليهود الذين تعامل معهم النبي _ r_ لم يكونوا محاربين ولا محتلين ، بل كانوا مسالمين خاضعين للشروط الإسلامية بالعهد ، وقد قال الله _عز وجل_ : "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ "[الممتحنة8] ؛ ثم هم في حالة ضعف ، لا يقدرون على نشر ما يريدون من ثقافة وفكر ، بعكس واقع اليهود اليوم فهم محاربون غير مسالمين كما نرى ويرى العالم ، وهم يفرضون رؤاهم الفكرية والثقافية وقناعاتهم الباطلة ليسلم لهم بها الآخرون رغماً عنهم ! وقد قال الله _عز وجل_ : "إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "[الممتحنة9] .
ومنها : ما أشرت إليه في سؤالك بقولك : هل هذا من جنس الصلح المذكور في كتب الفقه ؟ وجوابه : أنَّك ذكرت في سؤالك مصطلحين مختلفين ، وهما ( الصلح ) و ( التطبيع ) ، وببيان مدلول كل منهما يظهر الفرق بينهما في الحكم .
فمصطلح ( الصلح ) في كتب الفقه ، يطلق على معاهدة الكفار بما في ذلك عقد الذمَّة الذي يدخل به غير المسلم في رعاية الدولة الإسلامية على الدوام ، والغالب استعمال لفظ الصلح رديفاً لمصطلح ( الهدنة ) عند علماء الإسلام ، والهدنة هي : المعاقدة بين إمام المسلمين أو من ينيبه ، وبين أهل الحرب ، على المسالمة ، مدة معلومة أو مطلقة ، ولو لم يدخل أحد منهم تحت حكم دار الإسلام . فهي تعني المسالمة المؤقتة عند جميع الفقهاء ، وتشمل المسالمة المطلقة غير المؤبدة على رأي عدد من المحققين من أهل العلم ، وهو الذي تسنده الأدلة الشرعية . ومرادهم بالمطلقة : التي لا يُصرّح عند الاتفاق عليها على مدّة محدّدة بل تبقى دون مدّة ، ويكون العقد فيها جائزاً ، أي أنَّ لكل من الطرفين أن يعلن انسحابه منها بعد إشعار الطرف الآخر بمدة كافية لأخذ الحذر منه ، فهي مطلقة لا مؤبّدة (ينظر : العقود ، لابن تيمية : 219 ؛ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام :29/140 ؛ وأحكام أهل الذمة ، لابن القيم :2/476 وما بعدها). بخلاف المؤقتة فالعقد فيها واجب ، بمعنى أنّه لا يجوز لأحد الطرفين أن ينقضها قبل انتهاء المدة ، ولو فعل ذلك أهل الكفر ، فإن تصرفهم هذا يُعد نقضاً للعهد ، ومن ثم ينتهي تمتعهم بآثار عقد الهدنة ، و يتحولون من معاهدين إلى محاربين كما كانوا قبل الهدنة . فالهدنة والصلح عند الفقهاء في كتاب الجهاد شيء واحد ، ولذلك يُعَرِّفون أحدهما بالآخر ، فليس هناك صلح دائم إلا مع الذميين الذين هم في الحقيقة من رعايا دولة الإسلام .(29/253)
أمَّا الصلح في القانون الدولي وفي اللغة السياسية الدارجة ، فالمراد به السلام الدائم ! فالقانونيون الدوليون يرون أن الهدنة مدة تسبق الصلح مهما طالت ومدتها ، كما هي الحال بين شطري كوريا ، فهما متهادنان منذ تقسيمها . وأمَّا الصلح عندهم فهو تسوية نهائية أي : إيقاف القتال بصفة نهائية دائمة ( ينظر على سبيل المثال : القانون بين الأمم ، لجيرهارد فان غلان : 3/72) .
وهذا النوع يعدّ من المعاهدات المحرّمة بالإجماع ، وشدّد العلماء في إنكاره ؛ لأنَّه يؤدي إلى إبطال ما علمت شرعيته بالضرورة ، وهو جهاد العدو ؛ بل غلّظ بعض الفقهاء في إنكاره ، حتى حكى بعضهم ردة من قال بمشروعيته !
ومع ذلك شذّ بعض فقهاء العصر - من الفضلاء - فأجازوا الصلح المؤبّد ، بتأويلات مردودة بالأدلة الشرعية الواضحة ؛ وقد ردّ قولهم عدد من العلماء ، وكشفوا ضعف هذا الرأي المردود بالإجماع ، ولله الحمد .
فالصلح الدائم ، لا يجوز مع غير المحتل بالإجماع ، فكيف يجوز مع المحتل ؟! ولهذا اتفق فقهاء العصر الأجلاء على تحريم الصلح الدائم مع الكيان الصهيوني اليهودي ، حتى من شذّ في القول بالصلح الدائم حرّم الصلح مع اليهود ! ( ينظر : موسوعة الأسئلة الفلسطينية ، إصدار مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية :220- 269 ، ففيها العديد من الفتاوى الجماعية والفردية ) .
وأمَّا التطبيع فيراد به : الصلح الدائم الذي يتم بمقتضاه الدخول في جملة من الاتفاقات متنوعة الجوانب بما في ذلك الجانب الثقافي والاقتصادي والأمني وغيرها ، حتى غيرت مناهج التعليم في بعض بلاد المسلمين وحذفت نصوص قرآنية منها رضوخا لمتطلبات التطبيع ! فهو في التكييف الفقهي الشرعي صلح مؤبّد مضاف إليه جملة من الشروط التي يحرم قبولها في شريعة الإسلام .. فلا يقول بجواز التطبيع - ديانة - من عرف حقيقته من علماء الإسلام . ولاسيما أنَّ الكيان اليهودي لا يقبل بأقل من بقائه على الدوام في قلب العالم الإسلامي بزعم أنَّ الأرض لهم ! وهذا هو نشيدهم الوطني :
" طالما في القلب تكمن .. نفس يهودية تتوق .. وللأمام نحو الشرق .. عين تنظر إلى صهيون .. أملنا لم يضع بعد .. حلم عمره ألفا سنة .. أن نكون أمّة حرّة على أرضنا .. أرض صهيون والقدس .. " ( الموسوعة الإنجليزية ) .
وآثار التطبيع على الحكومات التي ارتضته ظاهر في انتهاك سيادتها ، والعبث بخيراتها ، ولذلك رفضته الشعوب المسلمة ، وكونت لأجل ذلك لجانا وجمعيات كثيرة .
ومن المؤسف أنَّنا نرى التطبيع الإعلامي في إعلام العرب والمسلمين يسابق التطبيع السياسي ، ومن ذلك : كثرة ترداد الأسماء والمصطلحات العبرية ، مثل : (حاجز إيريز ) بدل معبر بيت حانون ؛ و( حائط المبكى ) بدل حائط البراق ؛ و( إيلات ) بدل أم الرشراش ، و( أشكيلون ) بدل عسقلان ، و( تل أبيب ) بدل تل الربيع .. و ( الأراضي الفلسطينية ) بدل فلسطين ، وفيه الإقرار بأنَّ ما تبقى حق ليهود ! و (إسرائيل) للإشارة للكيان اليهودي الصهيوني المحتل أو للأراضي المحتلة عام 1948م ، والإيحاء بأنَّ هذا الجزء المحتل صار حقاً ليهود ، لا يجوز حتى التفاوض عليه ، بخلاف الأراضي المحتلة عام 1967م فلا زالت تستحق أن يُتفاوض عليها ! ( ينظر للمزيد : مصطلحات يهودية احذروها من إصدارات مركز بيت المقدس )
ومما ينبغي التنبه له أنَّ بعض الناس قد غلط على شيخنا العلامة / عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حين نسبوا إليه جواز الصلح مع اليهود بالمفهوم العرفي الدولي - الصلح المؤبّد - مع أنَّه - رحمه الله - قد أوضح ما عناه وبيّنه بقوله : " الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا ، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة ، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة . وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ... "( مجلة البحوث الإسلامية : العدد (48) ص : 130-132 ) .
فالصلح مع العدو على أساس تثبيت الاعتداء باطل شرعا ، بخلاف الصلح على أساس رد ما اعتدى عليه العدو إلى المسلمين .
والخلاصة : أنَّ الاستدلال بتعامل صلى الله عليه وسلم مع يهود ، على مشروعية التطبيع مع الكيان الصهيوني ، استدلال لا يستقيم بلْه أن يصح ؛ لأنَّ اليهود في فلسطين ، محتلون محاربون كما يشاهد العالم ، لا يرقبون في صغير ولا كبير إلاً ولا ذمّة ، بخلاف من كان يتعامل معهم النبي _ r_ ، فقد كانوا معاهدين خاضعين لحكم الإسلام أو موفين بعهدهم مع النبي _ r_ حينها . والله تعالى أعلم .
نسأل الله _عز وجل_ أن يعيد للأمّة عزتها ومكانتها ، وينصرها على أعدائها ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
================(29/254)
(29/255)
مجالات السياسة الشرعية وتطبيقاتها (6)
[ من صور الضرب الأول والثاني وتطبيقاتهما المعاصرة ]
د. سعد بن مطر العتيبي 16/3/1428
المقالة الرابعة :
جاء في الحلقة الماضية إيراد تطبيق تقعيدي وصفي ، يمكن تنزيله على كثير من قضايا الواقع التي تندرج تحته في كل بلد من البلاد الإسلامية وغيرها .
وفي هذه الحلقة نواصل الحديث - إن شاء الله تعالى - عن صور أخرى من صور الضرب الأول من النوع الثاني ، فمن تلك الصور أيضاً :
- تغيُّر الحكم التطبيقي لتغيُّر العلَّة التي بُني عليها ؛ بالنظر إلى تغير حال الناس أو تغير الحال في محل الحكم .
(1) ومن أمثلته التي يذكرها أهل العلم : ما ورد من أمر عثمان رضي الله عنه بالتقاط ضوالّ الإبل لمصلحة أهلها ؛ مع أنَّ النَّصَّ جاء آمراً بتركها (2) ؛ لتغير المصلحة التي بني عليها المنع ؛ فالأمر بتركها في عهد صلى الله عليه وسلم كان يحقق المصلحة منه ؛ لغلبة الصلاح في الناس حيث تترك ضالة الإبل حتى يجدها ربُّها .
وأمّا في زمن عثمان رضي الله عنه فقد حصل تغيّر في حال الناس أورث خوفاً على أموال الرَّعيَّة من أن تمتدّ إليها يد الخيانة ؛ فرأى عثمان رضي الله عنه أن المصلحة حينئذ في الأمر بالتقاطها وتعريفها ، كسائر الأموال ، ثم تباع ، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ، إذ لم يعد الأمر بتركها يحقق المصلحة منه على الوجه الأصلح ؛ ولو عادت علَّة المنع من الالتقاط كما كانت في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم لعاد الأمر بالمنع من الالتقاط (3) .
ومنها : وقف عمر رضي الله عنه لسهم المؤلفة قلوبهم لما نتفت علة التأليف في القوم الذين كانوا يؤلفون إلى بعض عهد الصديق رضي الله عنه .
ومن أمثلته المعاصرة : مشروعية التقاط لقطة الحرم بغرض تسليمها مباشرة إلى الجهة المختصة بحفظ ما يلتقط من أموال الحجاج والمعتمرين والزوار ؛ لما يترتب على ذلك من تحقيق المقصد الشرعي بحفظ المال ، وإمكان إيصاله إلى صاحبه ، أو مراجعة صاحبه للجهة المختصة لتسلّم ماله المفقود منها ، ولا سيما مع غلبة الظن بفقدها لتركها عرضة للسرّاق وضعاف النفوس ممن يتصيدون غفلة الزائرين وانشغال الطائفين والعاكفين والركع السجود .
ومنها : مسألة منع بيعِ واقتناءِ أطباق البث الفضائي ، ثم الإذن بها بضوابط تتعلق بالمشاهِد والمشاهَد ؛ وإنَّما منعها من منعها من أهل العلم الكبار في حينه ، لانحصار استعمالها في الشرّ في وقتٍ ، وغلبته فيما بعد ؛ ثم لمَّا ظهرت القنوات النافعة ، لم نجد الفتوى التي تأذن فحسب ، بل وجدنا الفتوى التي تحض على الاشتراك في القنوات الصادرة عن لجان شرعية ، كقناة المجد ، وقناة الناس في وضعها الحالي ، مثلاً، وهذا كلّه من حرص أهل العلم على فتح الذرائع المشروعة ، وتشجيع البَدَل المشروع ، ونشر الخير نشراً آمناً من الخلط والمزج بالشرّ ما أمكن ذلك .
ومنها : مسألة تعليم المرأة في المملكة العربية السعودية تعليما نظامياً ، فلم يمنعه شرعاً أحد من العلماء المعتبرين - كما يزعم بعض النَّاس - وغاية ما في الأمر أنَّ الاختلاط - في بعض البلدان - بين الجنسين كان هو السِّمة العامة لتعليم النساء نظاميا في تلك الحقبة التي مُنِع فيها ، ولذلك استنكره - حينها - كثير من المواطنين حميَّة وغيرة من غير فتوى ؛ فلمَّا اتفق العلماء والولاة على ضمانات خلو التعليم من مفسدة الاختلاط وتوابعها ، مثل قلة الاحتشام وما يترتب عليه -لم يكتف العلماء بالسماح بتعليم المرأة ، بل قادوا هم مؤسستها الحكومية ، وأشرف عليها مفتي الديار ورئيس القضاة حينها الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رحمه الله .
- ومن تلك الصور : تغيُّر الحكم التطبيقي المبني على العرف ؛ لتغير العرف الذي بني عليه الحكم الأول . ومن أمثلته : تعجيل المهر بعضه أو كله ، أو تأجيله ؛ بحسب العرف ، وما يترتب على ذلك لدى القضاة ، من اعتبار الزوجة ناشزاً أو غير ناشز إن هي امتنعت عن الدخول في طاعة الزوج (4) .
الضرب الثاني : مسائل ثبت في كل واحدة منها أكثرُ من حكم ، بنص أو إجماع أو قياس ؛ بحيث يجتهد أولو الأمر في اختيار الأصلح (5) منها - شرعا - للواقعة المماثلة .
ومن أمثلته : أحكام المهادنة التي مرّ ذكرها في التطبيق السابق ، وكذا الخيارات المصلحية في أحكام الأسرى .
ومن أمثلته المعاصرة : فتوى شيخنا العلامة / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - في الصلح مع اليهود ، فقد نال منه بها قومٌ ، ظنّاً منهم أنَّ الشيخ قد أخطأ ، مع أنَّ فتواه رحمه الله جاءت على الأصول الفقهية المعتبرة في مشروعية الصلح بمعنى ( الهدنة ) .(29/256)
والشيخ رحمه الله قد بيّن حرمة الصلح الدائم مع اليهود ، وأكَّده في الفتوى ذاتها ، وفي بيانه لمراده - رحمه الله - في فتاوى لاحقة (6) ، وهذا الفرق يدركه العلماء ورجال السياسة ؛ ولذلك نجد اللجان الشرعية في حركة حماس الإسلامية ، تبني موقفها الحالي من الامتناع عن الصلح على موقف الكيان الصهيوني من عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الذي هو جزء من الأمة المسلمة في أرضه كلها وماله ، وهو ما يفسِّر عدم جنوح قيادات الكيان الصهيوني للسلم ؛ بينما لو فعل ذلك ، فلن تجد حركة حماس ما يمنعها شرعا من الصلح ( الهدنة ) مع هذا الكيان .
هذا ما ما ناسب ذكره في هذه الحلقة . وفي الحلقة القادمة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن الضرب الثالث من هذا النوع ، وذلك الضرب هو : مسائل ورد بشأنها أحكام شرعية ، لكن احتف بها ما يقتضي عدم فعلها ، أو استثنائها من أحكام نظائرها . وهو من أهم مجالات السياسة الشرعية وأكثرها تطبيقا في واقعنا المعاصر ، ولذلك سأورد إن شاء الله تعالى في الحلقة القادة جملة مهمة من التطبيقات العصرية .
والله الموفق .
--------------------------
(1) ينظر : الموطأ ، للإمام مالك : ك/الأقضية ، ب/ القضاء في الضوال ، ح (51) .
(2) في قول صلى الله عليه وسلم لما سأله أعرابيٌّ : كيف ترى في ضالة الإبل ؟ فقال : (( دعها فإن معها حذاءها و سقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها )) ، رواه البخاري : ك/ اللقطة ، ب/ ضالة الغنم ، ح(2428) ؛ ومسلم : ك/ اللقطة ، في أول أحاديثها ولم يوضع فيه تحت باب ، ح (1722) .
(3) ينظر : رفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين : 362 .
(4) ينظر : السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي ، لعبد الرحمن تاج : 82 ؛ و المدخل إلى السياسة الشرعية ، لعبد العال عطوه : 45 . ونشوز المرأة : عصيانها لزوجها ، وامتناعها عنه . ينظر : المصباح المنير ، للفيومي : (نشز) .
(5)ينظر : إجابة الغزّالي على سؤال المصيصي في : البحر المحيط ، للزركشي :6/258-259 ؛ و خطبة ابن حبان لكتابه : المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع ، وهي في : الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ، لعلاء الدين الفارسي :55 ؛ وينظر : مقدمة أستاذنا د. فؤاد عبد المنعم لكتاب : السياسة الشرعية ، لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بِدده أفندي : 66 ؛ ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية ، لشيخنا د. يعقوب الباحسين :361 ؛ ونظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي ، لعبد السلام العسري :213 .
(6)ولعلّ من أسباب سوء فهم بعض طلبة العلم ، عدم إدراكهم للفرق بين مصطلح الصلح في الشريعة الإسلامية ، وفي القانون الدولي ، وبيانه : أنَّ المراد بـ ( الصلح ) بالمعنى القانوني الدولي ، هو : عقد اتفاق دائم بين الأطراف المتصالحة . بخلاف معنى الصلح في المصطلح الشرعي الذي يعد رديفا للهدنة في المصطلح الشرعي الفقهي الإسلامي وفي القانون الدولي . وقد بينت ذلك بتفصيل في الجواب على سؤال عن حكم التطبيع مع الكيان الصهيوني نشر في موقع المسلم من قبل ، وهذا رابطه :
http://www.almoslim.net/ r okn_elmy/show_question_main.cfm?id=10379
==============(29/257)
(29/258)
التأصيل الشرعي لجهاد حركة حماس
فيما يلي ملخص لمحاضرة ألقاها الأستاذ محمد أحمد الراشد حول موقف الشريعة الإسلامية من عمل حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، والنظرة الفقهية لموقفها من عملية التسوية مع العدو الصهيوني.
ملخص المحاضرة:
لقد اعتمدت في هذه المحاضرة على ثلاثة مصادر رئيسية أرى أنها تغني عن متابعة المعلومات الفقهية في موضوع الجهاد والعلاقة مع العدو : الكتاب الأول فهو كتاب "الجهاد في سبيل الله" للدكتور عبد الله القادري وهو في الأصل رسالة أعدها المؤلف لنيل درجة الدكتوراه، أما الكتاب الثاني فهو "شرح السير" وهو كتاب قديم للإمام محمد بن الحسن الشوكاني صاحب الإمام أبي حنيفة، وقد خصصه للبحث في أمور الجهاد وشرحه لاحقاً شمس الائمة السرخسي كبير فقهاء الحنفية، و"السير" في عرف القدماء من الفقهاء هي ما يتعلق بأمور الجهاد من أحكامه ووثائقه، أما الكتاب الثالث الذي رجعت إليه فهو كتاب "آثار الحرب في الفقه الإسلامي" للدكتور وهبه الزحيلي وهو أيضاً رسالة دكتوراه.
أما المحاضرة فهي تنقسم إلى قسمين رئيسين ، القسم الأول ما أنا بصدده من بيان الادلة الشرعية على ضرورة إنشاء حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وموافقة الهدف القتالي الذي اتخذته لفريضة الجهاد في الاسلام وبيان أن الجهاد فرض، في حين سيخصص القسم الثاني لأمر الصلح مع العدو وحكمه وشروطه ومطابقة هذه الشروط على محاولات الصلح الحالي.
بداية نقول أن الأدلة الفقهية تشير إلى أن قيام الحركة أمر موافق لأحكام الشرع وغاياته، وذلك للأسباب التالية:
أولاً : اتفقت المذاهب (الإسلامية) الاربعة وغيرها على أن الجهاد في سبيل الله فرض إذا قامت به طائفة من المسلمين سقط عن بقيتهم وإلا أثموا جميعاً.
ولبيان فرضية الجهاد هناك آيات كثيرة يستدل بها الفقهاء، وأحاديث تسند هذه الآيات من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
وقوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل) إلى تمام الاية .
وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ، إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً إن الله على كل شيء قدير) ، وقوله تعالى (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).
وغيرها من الآيات التي تتضافر لبيان فرضية الجهاد، وان الأمر بالجهاد قد جاء مطلقاً وتظاهرها احاديث كثيرة مشهورة.
ويقول الدكتور وهبة الزحيلي «ورتبة مشروعية الجهاد هو أنه فرض للأوامر القطعية ومن الواضح أن دلالة نص الايات في الجهاد دلالة قطعية لأن ألفاظ اقتلوا ، جاهدوا ، انفروا لا تحتمل أكثر من معنى كافتراض الصلاة والصيام ونحو ذلك ، وهي قطعية الثبوت لأنها واردة في القرآن الكريم ).
فيما قال الشوكاني «وظاهر الأمر في هذه الآيات هو الوجوب ولا يمكن أن يكون الأمر مصروفاً في هذه الآيات إلى غير الوجوب كالندب والإباحة مثلاً، لأن كلمة انفروا تدل على وجوب النفر، فأصل النفر هذا الخروج إلى مكان لأمر واجب ، وأما بقية الآيات فتدل على الوجوب المطابق للأصل في صيغة الأمر بقرائن كثيرة منها آية (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) وهي تدل على وجوب الجهاد في كل حال ، لأن الله سبحانه نص على أن التثاقل عن الجهاد أمر منكر فكونه أمر منكر تعلم أن ما يضاده يكون أمراً حسناً وليس بمنكر، وهو اتيان هذا الجهاد».
ومن ألأحاديث المشهورة التي تعزز هذا الفهم قول صلى الله عليه وسلم (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) من مضى الأمر ونفذه، وهذا يكون في الفرض من بين الأحكام ففي الندب والإباحة لا يجب الامتثال والبقاء، أما كلمة «إلى يوم» فتدل على تضمين معنى الامتداد والبقاء وقد أجمعت الأمة لذلك على فرضية الجهاد.
ثانياً : ليس في آيات الجهاد ما هو منسوخ بل لكل آية حكمها والعمل بما يلائم المراحل، وهذه شبهة أتت عند بعض الباحثين لما رأوا أن بعض الايات تأمر بالكف والمسالمة، فظنوا أن بعض الآيات ينسخ البعض الآخر، مثل قول بعض المفسرين إن آية السيف وهي قوله تعالى (فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) قد نسخت مائة واربعة وعشرين مرة بآيات تأمر بالإعراض عن المشركين والصفح.(29/259)
ويقول الدكتور الزحيلي «الواقع أنه لا يوجد أي تناقض ولا تعارض بين آيات القتال ولا داعي للقول بوجود النسخ، لان النسخ لا ملجأ إلى القول به عند التعارض الحقيقي مع أن الايات تتلاقى جميعها عند حكم واحد وغاية واحدة فهي لذلك آيات محكمات» ، فيما يقول الدكتور القادري في تعريجه على مثل هذا المعنى «رجح المحققون عدم النسخ لأي مرحلة من المراحل الجهادية، وهو الظاهر».
ويتعرض السرخسي في كتابه "شرح السير الكبير" إلى هذه المسالة تعرضاً واضحاً، مبيناً كيف تدرج الأمر بالقتال وأن ليس هناك نسخ ، فيقول «إن الأمر بالجهاد والقتال نزل مرتباً فقد كان صلى الله عليه وسلم مأموراً في الابتداء بتبليغ الرسالة والاعراض عن المشركين لقوله تعالى (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)، وقال تعالى ( فاصفح الصفح ا لجميل )، ثم أُمر بالمجادلة بالتي هي احسن كقوله تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقوله (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)، ثم أذن لهم في القتال بقوله (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) ثم أمروا بالقتال إن كانت البداية منهم (من الأعداء) بالايات التي تلت ذلك ثم أمروا بالقتال بشرط انسلاخ الأشهر الحرم كما قال الله تعالى (فاذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) ثم أمروا بالقتال مطلقاً بقوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) فاستقر الامر على ذلك».
ثالثاً: اتفاق الفقهاء على أن الجهاد اليوم فرض عين.
فقد تولدت شبهة عند البعض من استخدام لفظ فرض الكفاية، وأن الجهاد واجب البعض دون الآخرين، ويرى العلماء أن ذلك ليس صحيحاً، فإن الفقهاء عنوا في هذا اللفظ أنه إن كان البعض من المسلمين منهم كفاية لتحقيق أمر الجهاد وإعزاز أمر الإسلام فهم يغنون عن الآخرين، وإن لم يكن ذلك متحققاً بمن نفر من المسلمين فيظل الأمر واجباً حتى يتحقق معنى الجهاد وتأتي النتيجة لصالح المسلمين.
وقد قال الفقهاء في ذلك الكثير وبينه الدكتور القادري في كتابه الجهاد، مشيراً إلى أن «الجهاد فرض كفاية وفرض الكفاية هو الذي لايتعلق بكل مكلف عيناً، وإنما الفرض القيام به قياماً كافياً من طائفة منهم ، فاذا قامت هذه الطائفة بهذا الفرض قياماً كافياً سقط عن الباقين وإن لم تكف هذه الطائفة وجبت على المسلمين أن يُخرجوا من يكفي وإلا فيخرج جميع المسلمين - لقلّتهم مثلاً - (عندها يجب عليهم جميعاً الخروج) (..) ويأثمون بتركه فيصبح في هذه الحال فرض عين وعلى هذا القول عامة المذاهب وجمهور العلماء المسلمين».
ويقول السرخسي رحمه الله «فريضة الجهاد على نوعين أحدهما فرض عين على كل من يقوى عليه بقدر طاقته وهو ما إذا كان النفير عاماً، قال تعالى (انفروا خفافاً وثقالاً) ولقوله ( ما لكم إذا قيل لكن انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض)، ونوع هو فرض على الكفاية إذا حصل المقصود بالبعض وإلا إن لم يحصل المقصود فهو فرض على الجميع».
ويُعقّب الدكتور القادري على اقوال هؤلاء الفقهاء من أمثال ابن قدامة وابن حزم والنووي في مسألة الكفاية والعينية بالقول فرض الكفاية هو الفرض «الذي إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين أن تكون تلك الطائفة كافية للقيام به حتى يسقط وليس المراد مجرد قيام طائفة لو لم يكن قيامها كافياً فلا يصح اسقاط فرض الجهاد عن المسلمين كلهم بقيام طائفة منهم في جزء من الأرض ولو كفت في ذلك الجزء مع بقاء أجزاء أخرى ترتفع فيها راية للكفر فان كل جزء من تلك الاجزاء يجب على المسلمين القريبين منه أن يجاهدوا الكفرة فيه حتى يقهروهم فإذا لم يقدروا على قهرهم وجب على من يليهم من المسلمين أن ينفروا معهم ، وهكذا حتى تحصل الكفاية»، ونقل عن حاشية ابن عابدين قوله «وإياك أن تتوهم أن فرضيته (الجهاد) تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلاً، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية، فلو لم تقع إلا بكل الناس فرض عيناً كصلاة وصوم».
رابعاً: سبب آخر في فهمنا لفرضية الجهاد، وقيام حركة "حماس" الآن واجب، وهو إذا غزيت دار الإسلام وجب الجهاد ولو طال الزمان، وهذه الفرضية مؤكدة اليوم بالغزو الذي يكون من قبل الكفار لنا ولو طال زمان الغزو ، بمعنى تقادم الأمر وكان الجيل الأول من المسلمين متخاذلاً أو مقهوراً لا يستطيع رد الاعتداء فعلى الاجيال التي تأتي من بعد أن تسترجع ما أخذ بهذا الغزو من ديار الإسلام.
يقول الدكتور الزحيلي «إن كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيها أحكامه وأقيمت شعائره قد صار من دار الإسلام ووجب على المسلمين عند الاعتداء عليه أن يدافعوا عنه وجوباً كفائياً بقدر الحاجة وإلا فوجوباً عينياً وكانوا كلهم آثمين بتركه وإن استيلاء الأجانب عليه لا يرفع عنهم وجوب القتال لاسترداده وان طال الزمان»، ومقولة وإن طال الزمان تنطبق على فلسطين اليوم كما كانت تنطبق على حالة الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي لها.(29/260)
من هنا أقول فهمت "حماس" وجوب الجهاد لاسترجاع فلسطين التي ليست جزءاً من دار الإسلام فحسب بل هي أغلى الأجزاء بعد الحرمين في الحجاز لما وصفها الله تعالى من أنها الأرض المقدسة ومكانة المسجد الأقصى وآثار الأنبياء عليهم السلام .
خامساً : استمرار فرضية الجهاد ، أن هذا الجهاد يستمر إلى قيام الساعة ، يقول الدكتور الزحيلي «أجمع الفقهاء أن الجهاد ما زال شريعة محكمة لم تنسخ والدواعي إليه قائمة في كل زمان، غير أن المسلمين لا يستعملونه».
والدليل على بقاء فرضية الجهاد قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، وقول النبي عليه الصلاة والسلام (الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقابل آخر أمتي الدجال ، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل) وقوله أيضا فيما رواه الطبراني عن بلال رضي الله عنه (لكل أمة رهبانية ورهبانية أمتي الجهاد) وهذا مبرر آخر لحركة "حماس" في أن تتواصل فريضة المرابطة .
سادساً: ضرورة إحياء معنى الجهاد بعد أن نسيه المسلمون ومالوا إلى المعاصي، فإن الملاحظ بوضوح اليوم وجود تفريط كبير في أمر الجهاد وجيل المسلمين الحاضر نسي هذا المعنى.
فحتى لا يطول هذا النسيان وينشأ جيل جديد له صلة بهذه المعاني الشرعية ينبغي أن تنتدب طائفة نفسها لتجاهد حتى لو لم تكن هذه الطائفة صاحبة مقدرة على الوصول إلى النصر الكامل، إنما تجاهد ليبقى المعنى حياً إلى أن يأذن الله بقيام جيل آخر راشد واقرب إلى الجد ويكون منه البذل الكثير فيكون النصر.
ففي هذا ما يوجب على حركة "حماس" أن ترشح نفسها لتذكير المسلمين بما فرض عليهم، فالتذكير العملي بقيام هذه الفريضة ليس التذكير القولي فقط.
سابعاً : نجاهد لئلا يستضعفنا أهل الباطل وهذا مبرر آخر.
يقول الدكتور القادري «في بيان استضعاف أهل الباطل لأهل الحق إذا كانوا أذلة، قال تعالى (قالو يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) يقصد هنا بالمنطق الايماني العام الذي لقننا إياه القرآن الكريم «وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ، قال يا قومي أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً إن ربي بما تعملون محيط)، (..) فقوم شعيب كما هو واضح من الآيتين لا يقيمون وزناً له ولدعوته ولا يحترمونه ويجاهرون بأنه ضعيف لديهم لا عزة له ولا منعة ، وهم يريدون قتله (..) بالرجم بالحجارة ، ولا يمنعهم عن ذلك إلا احترامهم لعشيرته التي هي على دينهم ، ولو كان هذا الرهط على دين شعيب لما حصل لهم هذا الاحترام إلا إذا كانوا قادرين على رد عدوانهم وكبح جماحهم»، ويشير القادري إلى حالة ثانية هي حالة نبي الله لوط عليه السلام قائلاً «وقد تمنى لوط عليه السلام عندما أراد قومه الاعتداء على ضيفه أن تكون له قوة يدفع بها عن ضيفه (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)».
ثامناً : حركة "حماس" حلقة في سلسلة وراثة النبوة ذات الحديد.
فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام نبياً مجاهداً ، ولما دخل مكة دخلها ومعه جيش يرفل مقاتلوه بالحديد ، يومها وقف أبو سفيان على باب واد من وديان مكة وجيش الفتح يُعرض أمامه فيسأل من هذه الكتيبة فيقال : بنو سليم، فيقول: مالي ولبني سليم ، مالي ولبني سليم ثلاثاً حتى مرت كتيبة المهاجرين وهي في الحديد لا يرى منهم إلا أعينهم مما لبسوا من الحديد، فلما رأى هذه الكتيبة قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال للعباس رضي الله عنه «والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً، قال : قلت يا أبا سفيان إنها النبوة إنها النبوة، قال: فنعم إذن، ويعقّب الدكتور القادري على هذه الحادثة فيقول «إي والله نعم إذن ، نعم لكتائب الرحمن المرعبة التي تحمي النبوة وتحرسها وتنشر دعوتها، نعم للحديد الذي حملته سواعد أهل الإيمان وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ولقد كانت النبوة موجودة بحججها وبيناتها وموجودة في المدينة بحججها وبراهينها وبقوتها التي لم تصل إلى أن يقال لها "فنعم إذن" أما الآن فقد وصلت إلى "نعم اذن" ، فليعتبر دعاة الإسلام إن كانوا يريدون فنعم إذن» .
تاسعاً : قياس أمر حركة "حماس" على تجويز الفقهاء اتفاق المجاهدين على أمير يغزو لهم.
يقول محمد بن الحسن الشوكاني صاحب أبي حنيفة «لو أن قوماً من المسلمين لهم منفعة أمّروا أميراً ودخلوا دار الحرب مغيرين بغير إذن الامام فأصابوا الغنائم، فلهم خمس ما أصابوا، يقول السرخسي شارحا «لأنه باعتبار منعتهم يكون المال مأخوذاً على وجه اعزاز الدين فيكون حكمه حكم الغنيمة» قال الشوكاني «فإن نقل أميرهم فذلك جائز منه على الوجه الذي كان يجوز من أمير سرية قلده الإمام وبعثه» في بعض التفصيل في الشرح عن هذه المسالة يقول الشوكاني «الأصل فيه إمامة الصديق رضي الله عنه وكذلك الامارة على أهل السرية يثبت باتفاقهم كما يثبت بتقليد الإمام».
وحركة "حماس" عصبة من أولي العزم تنادوا للجهاد وانتخبوا أميراً، لما رأوا خلو الأرض من خليفة يجاهد.
عاشراً : تتمسك حركة "حماس" بالأرض ولا تهاجر.(29/261)
وإن كان هناك من يقول بالهجرة من أرض فلسطين وافراغها ، وقد قاس هؤلاء على ظاهر الأمر بهجرة المستضعفين، غير أني أقول أن الأمر هنا يستنبط من باب المصالح وسد الذرائع إلى المفاسد فان الفتنة الشديدة التي تصيب المؤمن من خلال معيشته تحت ظل الكفرة هي العلة في حكم الهجرة، فاذا انتفت أو كانت خفيفة رجحت المصالح التي يمكن تحصيلها من مرابطته على المفسدة المحتملة من الفتنة ، وكان مثل هذا المنطق وراء فتوى بعض الفقهاء بعدم جواز هجرة العلماء من مصر أيام الفاطميين رغم الشدة واحتمال القتل لما في مرابطتهم من تثيبت للعامة على العقيدة الصحيحة .
ومرابطة رجال "حماس" اليوم وعموم الفلسطينيين في أرضهم تقاس على ذلك، يقول ابن العربي «فالنية تقلب الواجب من هذا حراماً والحرام حلالاً بحسب حسن القصد واخلاص السر عن الشوائب».
حادي عشر : مشروعية الدفاع حتى وفق قانون الأمم المتحدة ومواثيقها، وليس فقط حسب أحكام الشريعة الإسلامية.
يقول الدكتور الزحيلي إن «ميثاق باريس لعام سنة 1928 وميثاق الأمم المتحدة وإن حرما الحرب فإنهما ما زالا يقرران مشروعية الحرب التي تدخل فيها الدولة دفعاً لاعتداء واقع عليها ، وهي الحالة الطبيعية لكل انسان ، حالة الدفاع عن النفس».
ونصت المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة على هذا الحق باعتباره حقاً طبيعياً مقدساً، فقالت «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينقض الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ الأمن»، يقول الزحيلي «فالحرب في القانون الدولي ما زالت مشروعة إذا اضطرت الدولة إلى الإلتجاء إليها لدفع اعتداء واقع عليها أو لحماية حق ثابت لا انتهاك دون مبرر»، وفي هذا تأييد لحق حركة "حماس" في مقاومة المحتل الغاصب.
ثاني عشر : ايقاف النزيف والاحتفاظ ببقية الأرض الإسلامية، التي يطمع فيها اليهود.
فليس الصراع الإسلامي مع اليهود حول فلسطين مثل أي نزاع آخر بين الدول حول اقليم معين ينتهي بضم ذلك الإقليم أو استرجاعه لإحدى الدولتين المتنازعتين، ولكنه في جزء منه يعكس رغبة لدى يهود بالتوسع التدريجي فقد احتلوا معظم أرض فلسطين عام 1948، ثم توسعوا عام 1967 وما زالوا ينوون التوسع، فإسرائيل تهدف إلى تفتيت الوطن العربي وتمزيقه وهي تعمل على اخضاع جزء من مصر بضم الاسكندرية والدلتا إلى سيناء تحت علمها وإلى احتلال الأجزاء الهامة من العراق وسوريا واحتلال الجزيرة العربية حيث تقع المدينة المنورة وأطلال بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة، وقد صرح موشى دايان يوم دخوله مدينة القدس في السابع من حزيران / يونيو 1967 قائلاً «لقد وصلنا أورشليم وما زال أمامنا يثرب وأملاك قومنا فيها»، ولما زارت غولدا مائير (رئيسة سابقة لوزراء الحكومة العبرية) مواقع في جنوب طابا تنفست وقالت «أشم نسيم يثرب وخيبر».
فلو لم يجاهد أبناء الشعب الفلسطيني ضد الصهاينة ومشاريعهم التوسعية فإن الصهاينة عندها سينشغلون بالتوسع بدلاً من الانشغال بمواجهة جهاد حركة "حماس"، فهذا الجهاد حتى لو لم يسترجع فلسطين فإنه سيوقف اليهود عند حد ويحمي بقية الأراضي التي يريد اليهود احتلالها، حتى يأذن الله وتستعيد الأمة عافيتها وتستطيع دحر العدو، أما جهاد حركة "حماس" فإنه يستهدف في جزء منه إلى تحجيم التوسع الاسرائيلي.
هذه الأسباب تتضافر معاً، ويضاف بعضها إلى بعض ليقنعنا أن أحكام حركة "حماس" موافق للشرع، وقيامها ضرورة بل إنها تأتي أمراً واجباً شرعاً، ومستساغاً قانونياً في عرف الدول والقانون العالمي .
أما ما يشهد لموقف "حماس" الرافض للصلح من البراهين الشرعية والقانونية كذلك فهي أدلة كثيرة نسوق منها ما يلي:
أولاً: حتمية قتالنا للمعتدين اليهود، ونحن نؤمن بأن لنا يوم سننتصر فيه عليهم، بإذن الله تعالى، لما ورد في الحديث المشهور «حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله».
ثانياً : إن الجهاد إنما شرع لإزالة الطواغيت من الأرض ونصر المستضعفين ولكي تكون السلطة الإسلامية هي الظاهرة، عندها المستضعفون في كل مكان يستطيعون أن يدخلوا في دين الله، نحن لا نجبر أحداً على اعتناق ديننا ، لكن الجهاد فُرض لإزالة الذين يتعسفون ويحولون بين الجماهير والدعوة إلى الله.
ثالثاً: اليهود بدأوا العدوان ضد المسلمين، فأصبحت مجاهدتهم فرضاً، حتى في مذهب سفيان الثوري وغيره ممن يقول لا نقاتل إلا دفاعاً، وهذا أضعف مذاهب المسلمين.
يقول الثوري «القتال مع المشركين ليس بفرض الا أن تكون البداية منهم حين إذن يجب قتالهم دفعاً لظاهر قوله ( فان قاتلوكم فاقتلوهم )»، فمسألة الدفاع في حالة فلسطين واعتداء اليهود عليها حاصل، مما يوجب قتال المعتدي.
رابعاً : عدم تحقيق الصلح الذي يحاول البعض فرضه اليوم للمصلحة العامة ، سبب آخر لرفض الصلح مع اليهود شرعاً.(29/262)
فإن الأمر مشروط بتحقق المصالح للمسلمين ، هكذا قال الفقهاء فليس كل ما جاز شرعاً جاز فعله، بل لا بد من مراعاة ورؤية الأثر المصلحي إلى جانب الجواز الشرعي فإذا تخلف أحد الشرطين وجب الامتناع عن اجراء الصلح، خاصة وأن كل الشواهد والدراسات تشير إلى الأضرار لاقتصادية والنفسية والاجتماعية التي يسببها الصلح مع اليهود.
خامسا: المحاولات الجارية تؤسس لصلح دائم، والفقه يوجب التوقيت، مما يجعل من الصلح الحالي مرفوض شرعاً.
فالفقهاء اشترطوا تحديد زمن للصلح مع العدو، بل منهم من قال لا يجوز الصلح لأكثر من عشر سنوات، لأن ما ورد في السيرة من هدنة الحديبية ما كانت إلا كذلك، وهذا الشرط لا يمكن أن يتحقق في حالة الصلح مع اليهود التي يجري التأسيس لها ومحاولات فرضها، لأن الصلح هنا دائم غير قابل للنقض، ويلزم أجيالاً عديدة من أجيال المسلمين المقبلة ، وهنا مكمن الخطر، فهو تنازل واعتراف وتسويغ للباطل واضفاء صفة القانون الدولي عليه وليس هدنة كان الفقهاء يقصدونها حين يتحدثون عن الصلح، وحالة الصلح الدائم غير المحدد والتي أجازها فقهاء آخرون لم تكن تؤدي إلى مثل هذه النتيجة وإلى تطبيع وتعايش تترجح فيه مصالح العدو وانما كانت تعنى هدنة دائمة.
فالهدنة شي والصلح الحالي شي آخر ، ونقول مرة ثانية إن مكمن الخطر يكون في تسجيل معاهدات الصلح لدى الأمم المتحدة فتكون بذلك عقداً دائماً ملزماً للأجيال مهما تغيرت المصالح، وهذا لا يشبه ما تكلم عنه بعض الفقهاء من جواز الصلح .
سادسا: الصلح المقصود اليوم صلح مع غير ذي شوكة، فلا يجوز.
قال الفقهاء إن «الصلح يجوز إذا كان العدو ذو شوكة ويستأصل المسلمين، (عندها) لأمة الإسلام أو لذاك الإقليم الإسلامي أن تصالح» بمعنى أن يسعى المسلمون إلى هدنة لأن المسلمين ما لهم طاقة بعدوهم ويخشون أن يستأصلهم.
وفي حالة الصراع مع اليهود حول فلسطين فإن الأمر ليس كذلك ، فاليهود ليسوا أهل شوكة ماحقة لا تستطيع الأمة أن تقف في وجوههم، بل يمكن بدون هذا الصلح أن نبقى، وتكون مناوشات وسجال بحيث قد لا نحارب الحرب الهجومية التي تدخلنا في مرحلة حسم ولكننا نستطيع الاحتفاظ بوضعنا هكذا إلى أن يأذن الله بتجمع المسلمين في جيش قوي.
الشوكة التي يتحدث عنها الفقهاء غير قائمة اليوم فيما نعلم عن اليهود، وبذلك ينتقض السبب في ضرورة مصالحتهم، يقول السرخسي «فإن كانوا عاجزين عن كسر شوكتهم كان عليهم أن يحفظوا قوة أنفسهم بالموادعة» .
سابعاً : فقدان الحاكم المهادن اليوم لأهلية التصرف التي عناها الفقهاء، وقد أجاز الشرع الجهاد مع ولاة الجور من أجل أن لايتعطل الجهاد ولم يجوز الشرع قبول ما هو ضد ذلك منهم من ترك الجهاد والخنوع وتمكين العدو ، فعلة الحكم الشرعي في هذه الحالة قد انتفت وصار العكس.
ثامنا: مناقضة الصلح الحالي لغاية عقود الذمة الإسلامية وهي صلح دائم يكون عندما يلقي قطر من أقطار الكفار السلاح ويرضى بدفع الجزية ويكون من أهل الذمة.
أما الصلح الحالي فهو يقلب الأمور ويعكسها حيث يصير المسلمون في ذمة اليهود وتكون للعدو اليد العليا علينا وبذلك تفعل الظواهر الحضارية والحقائق النفسية الانسانية فعلها، مما أبان عنه علماء الاجتماع من ابن خلدون في مقدمته وحتى اليوم، عندما درسوا علاقة الغالب والمغلوب والظواهر الحياتية التي تتبعها، إن بروز هذه الحقيقة ورجحان تأثر أجيال المسلمين بالتربية اليهودية بعد حصول الاسترخاء الذي تولده الحالة السلمية وتعين عليه وسائل الاعلام المتطورة ودراساتهم المتقدمة في مجال علم النفس .
بروز هذه الحقيقة يجعل الصلح مع العدو انتحاراً وهذا الدليل عندي هو أقوى الأدلة في الحكم على الصلح بالخطأ.
تاسعا: حصول الضرر الاقتصادي لنا من خلال الصلح ، وتلك حقيقة تعاكس التدليس الواعد بحالة اقتصادية مزدهرة للمسلمين بعد الصلح .
إن رعاية المصالح الاقتصادية الإسلامية هي من تمام الإسلام واعتبارها والاستدلال بها من تمام النظر الفقهي العميق، وفي السوق الشرق أوسطية التي قررتها خطة التطبيع قابلية لأن تخدم يهود وتحول لهم الأموال وتمتص ثروات بقية البلاد العربية والخليجية بخاصة ، بل وثروات العالم الاسلامي وثروات دول العالم الثالث أيضا ..
عاشراً : الصلح الحالي نوع جديد من العقود لم يعرفه الشرع من قبل.
يقول الزحيلي «ذلك أن المالكية والشافعية ، والحنابلة اتفقوا أن العدو إذا نقض الهدنة بقتال أو بمظاهرة عدو أو قتل مسلم أو أخذ مال انتقضت الهدنة»، كما تنتقض بأشياء أخر مثل سب الله تعالى أو القرآن أو رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وكل ما اختلف العلماء في أنه ينقض الذمة ينقض الهدنة جزماً لأن الهدنة ضعيفة غير متأكدة ببذل الجزية.(29/263)
مثل هذه التقديرات تدفعنا للقول أن الصلح الحالي عقد جديد ليس هو عقد الذمة الذي يكون فيه خضوع الكافر للسلطة الإسلامية وليس هو المهادنة لاستحالة قبول المجتمع الدولي الضامن للصلح بأن ننقضه لسبب من الأسباب التي ذكرها الفقهاء، فلو قتل العدو فلسطينياً واحد تنتقض الهدنة، ولكن في الوضع الحالي فإن قتل ألوف لن يمكننا من نقض الصلح، إذ أن تعقيد القانون الدولي المعاصر وهيمنة النظام العالمي الجديد تجعلان عقدنا مع اليهود من نوع لم يعرفه الفقهاء الأولون أبدا، وهو بحاجة إلى اجتهاد جديد تكون أطرافه ثلاثة مجاميع إذا أردنا الشهادة له بأنه مقبول شرعاً: الطرف الأول فقهاء كثيرون من أهل التقوى تترجح عند أكثريتهم صحة العقد، أما الطرف الثاني فهو حكام يحكمون بالإسلام ، والطرف الثالث جمهور يرفل بالحرية يمكنه أن ينقض ويشارك بالرأي، هذه الاطراف الثلاثة في الاجتهاد الحالي غير متوفرة وبذلك لا يكون اجتهاداً اسلاميا بل محض فذلكة سياسية غير موفقة ولا مخلصة .
أحد عشر : أن الصلح الحالي ناقض لتراكم ايجابيات التطور الدعوي الاسلامي ، بعد ما أينعت ثمار الصحوة الاسلامية العالمية .
فالمحلل لتاريخ الدعوة الاسلامية الحديثة يرى نجاحها في ممارسة تطوير نفسها على مدى قرن كامل ، حتى قاربت اليوم مرحلة التمكين بإذنه تعالى فقد بدأ فيها المعنى التنظيمي بعد تسيب ومنهجية التربية بعد ارتجال وشمول الاهتمام بعد اقتصار ثم انتقلت إلى مرحلة وضع هدف سياسي سعت إليه وقدمت حكماً إسلامياً متكاملاً، وطرقت أبواب الإعلام وحولت أعمالها إلى أعمال مؤسسة، وتوغلت في إرساء قواعد اقتصاد إسلامي واستعادت بعض المال ووضعته في الأيادي المتوضئة وبدأت تمارس الجهاد وجمعت الشتات عبر تنظيم عالمي ودخلت مرحلة التخصص، وأصبح واضحاً بحمد الله أن المستقبل لهذا الدين وأن الحسم قريب في بلاد كثيرة مما يؤهلها لمرحلة تعبوية شاملة تستفيد منها أرض فلسطين المقدسة.
وما كان قصد الصلح هذا والاستعجال به إلا لاستباق الأحداث، وهو ما أقر به رابين حين رد على منتقدي سياسته بالصلح مع عرفات قائلاً «نحن نفاوض عرفات مختارين قبل أن نجلس لنفاوض حماس مضطرين».
ثاني عشر : إقرار الصلح يعني وقوف العالم كله ضد حملة الجهاد المستقبلية من خلال نصوص صريحة في القانون الدولي.
فالصلح المقترح صلح فيه اعتراف بالدولة اليهودية وتحديد لحدود وتسجل الاتفاقية ومخططاتها في سجلات الأمم المتحدة، وبذلك تكون إسرائيل في حماية كل دولة من أعضاء هيئة الأمم المتحدة وبموجب قانون الهيئة فإن أي دولة في العالم يسوغ لها قانوناً عند إقرار الصلح أن تتدخل لصالح اسرائيل اذا تعرضت لحرب وغزو.
فإذا تم استكمال الصلح مع اليهود وأراد المسلمون أن يستعيدوا فلسطين فستقف مائة دولة في صف اليهود لأن ذلك يعتبر خرقاً لاتفاق مسجل في هيئة الامم وعدوان على دولة ذات حدود اعترف بها جيرانها، ولئن كان وقوف الغرب مع دولة اليهود في السابق من وراء ستار في صورة ارسال معونات مالية وسلاح فإنه في المستقبل سيكون وقوفاً مباشراً لأن ميثاق الامم المتحدة يخولها صراحة ارسال جيوش تحارب في صف اليهود.
ثاني عشر: الاعتراف باسرائيل يحول الثورة الفلسطينية إلى انطباق القانون الجنائي اليهودي عليها بدلاً من القانون الدولي وهذا مكمن خطر آخر.
يقول الدكتور الزحيلي «الحرب لا تكون إلا بين الدول أما النضال المسلح الذي قديقع بين بعض الجماعات داخل دولة من الدول أو الذي تقوم به جماعة من الأفراد ضد دولة أجنبية فلا يعتبر حرباً ، ولا شأن للقانون الدولي العام به ، بل هو يخضع لأحكام القانون الجنائي للدولة التي تحدث فيها ، كذلك لا يعتبر حرباً بالمعنى الدولي النضال المسلح الذي يقوم به إقليم ثائر في وجه حكومة الدولة التي يتبعها»، مشيراً إلى أن «الثورة كفاح داخلي بين السلطة الحاكمة والرعية تخضع بصفة مباشرة للقانون الداخلي للدولة وخاصة القانون الجنائي».
وهكذا يتضح خطر جديد كامن في خطة الصلح إذ أن القوات اليهودية ما زالت تعامل كقوات احتلال حتى اليوم في القانون الدولي وفقاً للقانون الدولي والاعتراف ينهي ذلك ويجعل الفلسطينيين مجرد رعايا في دولة اسرائيل تعاقبهم عند ثورتهم وفقا لقانونها الجنائي .
أن اجتماع هذه الاسباب العديدة يشجعنا على أن نجزم بعدم جواز الصلح مع يهود شرعا لا اتفاق كامب ديفيد ولا اتفاق اريحا، ولا أي صلح عربي جماعي .
هذا هو الحكم الصحيح إن شاء الله واذا اختلف دعاة الإسلام في هذا الأمر فالأحوط أن يكون رأي المجاهدين هو النافذ، ولهذا يقدم رأي رجال حركة "حماس" على الأقوال الأخرى ، وتلك هي وصية الامام أحمد والإمام ابن المبارك لقوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) قال ابن تيمية «فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى»، ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد ابن حنبل «اذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول (والذين جاهدوا فينا لنهدينم سبلنا )» .(29/264)
. فحماس بادرت ورابطت على الثغور فكان من حق رجالها أن يقوم رأيهم على آرائنا فإنهم مظنة الهداية والتوفيق بإذن الله تعالى، وأخيراً نقدم التحية لحركة "حماس" وشهدائها رحمهم الله، وأبطالها نصرهم الله وأخذ بأيديهم ورفع شأنهم كما رفعوا رأسنا بين الأنام .
=================(29/265)
(29/266)
الصلح مع اليهود استسلام
في عالم اليوم بين الأحزاب السياسية والأحزاب المعارضة يحتدم الصراع ويدوم النزاع، بين الآراء المؤيدة والآراء المنازعة، حول قضية الصلح مع اليهود. فالأولون يدّعون إحلال السلام في المنطقة والتكلم بلغة ضبط الأعصاب وان تعرض الشعب
اليهود وتاريخ فلسطين
الحركة الصهيونية وآثار البعد عن الاسلام
من هدي القرآن والسنة
الفلسطيني للموت والدمار، خوفاً على مصالح (اليهودية الغاصبة) بسبب الانتفاضة، التي عمت الأراضي المحتلة، واللجوء إلى أسلوب الحوار السياسي المداهن وعقد الاتفاقات الزائفة التي لم تجن منها فلسطين غير الخراب والدمار والموت. وفي المقابل تفرض الصهيونية شروطها من غير شرط مقابل. حتى تمادت هذه العصابات القذرة في غيها حيث أرادت هدم أحد أركان المسجد الأقصى المبارك.
أما الطرف الآخر وهو الذي يعلم من هي إسرائيل وعصاباتها يصر على مبدأ الحرية الكاملة والحقوق المشروعة لشعب فلسطين، وأن هذا الصراع ليس صراعاً (يهودياً فلسطينياً) فحسب وإنما هو صراع (اليهود والإسلام) بين الذين قال الله فيهم ((كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ)) وقال سبحانه فيهم: ((قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)) وقال ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)) وبين أنصار الحق والمستضعفين، ولتبيين بعض الحقائق كان هذا النفح اليسير الذي أملاه المجدد الثاني الإمام الشيرازي (رضوان الله تعالى عليه) حول قضية (الصلح مع اليهود) في كراسه هذا موضحاً فيه حقائق تاريخ اليهودية الحديثة التي لا ترتبط بقوم موسى (عليه السلام) بأي صلة أخلاقية، دينية، تاريخية... ثم عرض أصلها ومزاعمها ونزوحها إلى البلاد العربية، ونشوء الحركة الصهيونية وأنها صنيعة الاستعمار وبيان خطواتها وأهدافها، وعروض السلام الخائن الذي تصوغه مواقفها. وكيف تدعي في ظل الإعلام العالمي أنها تحت طائلة (الإرهاب) الفلسطيني؟!!
ثم بين الامام المجدد (رضوان الله تعالى عليه) سبب فشل المسلمين أمام اليهود حيث الابتعاد عن الإسلام وأن الإسلام هو المنقذ الوحيد.
ثم يعرج مقتبساً من نور الكتاب المنير والسنة الشريفة ختاماً للكراس.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
قال الله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)(1).
من الخطأ أن نتصور أن اليهود اليوم هم أنفسهم قوم موسى(عليه السلام)، ومن الخطأ أيضاً أن نتصور أن بني إسرائيل اليوم هم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه العزيز وفضلهم على العالمين ـ أي عالمي زمانهم ـ ، في قوله تعالى:(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) (2).
أو هم أولئك الذين اختار الله تعالى منهم كثيراً من الأنبياء (عليهم السلام) أمثال موسى، وهارون، ويوسف، والياس، ويونس بن متى (عليهم السلام)، والذين جعل منهم الملوك كما قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (3).
أو أنهم المقصودين في الآية الكريمة حينما كانوا أبراراً وآتاهم الله ما لم يؤت أحداً في زمانهم، كما قال الله تعالى:(وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ) (4).
ولكن يهود اليوم وإسرائيل اليوم هم من سلالة أولئك العصاة الذي تكبروا في الأرض فجعلهم الله عزوجل قردة وخنازير فقال سبحانه: (وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (5).
إذن يهود اليوم.. يختلفون عن يهود الأمس الذين كانوا من أتباع موسى (عليه السلام)، وإسرائيل اليوم غير إسرائيل الأمس.
الأصل الجديد ليهود اليوم
ويعرف ذلك من هذه القطعة التاريخية التي تقول: (.. ما بين القرنين السابع والعاشر الهجري، سيطر شعب مغولي هو شعب (الخزر) على الطرف الشرقي من أوروبا ما بين (الفولغا والقفقاس) وكان يواجه الدولة الإسلامية في الشرق والجنوب الشرقي والدولة المسيحية المحيطة به، وهو اختيار يحير بعض المؤرخين، كما انه لم يكن صدفة: (كما ذكروا) (6)، ويفسره البعض بأنه حرص شعب (الخزر) على الاحتفاظ بشخصيته الخاصة بين القوتين العالميتين حينذاك (أي القوة الإسلامية والقوة المسيحية).
وفي القرن (الثاني عشر ـ الثالث عشر) انهارت دولة الخزر، وفروا في اتجاه الغرب إلى القرم وأوكرانيا وهنغاريا وبولندا وليتوانيا، يحملون معهم ديانتهم اليهودية (التي عرفها العصر الحديث) وبذلك فان يهود العالم اليوم في غالبيتهم الساحقة ينحدرون من هذا الشعب المغولي خاصة، وان اليهود الأصليين الذين ينتمون إلى القبائل الإسرائيلية (الاثنتي عشرة) في التاريخ القديم قد ضاعت آثارهم..) (7).(29/267)
هذه الحقيقة التاريخية تثبت أن اليهود اليوم لا علاقة لهم تاريخياً ولا غيرها من قريب أو بعيد بيهود الأمس، وإسرائيل اليوم لا علاقة لها ببني إسرائيل الأمس.
كما أنه لا علاقة لهم بفلسطين إطلاقاً.
مزاعم اليهود
الحقيقة التاريخية السالفة الذكر أطلق اليهود عليها اسم (الشتات) وجعلوها عنواناً (لمظلوميتهم) كما يدعون، حيث تزعم (الصهيونية) الآن أن القوى الظالمة (أي الإسلامية والمسيحية) فرضت عليهم الشتات، وحالت عبر التاريخ بينهم وبين عودتهم إلى (ارض الميعاد) لكن التاريخ ينسف هذه المزاعم وهذه الأسطورة.. فالمعروف انهم رحلوا طلباً للعيش قبل أن يطاردهم أحد، بل هاجروا قبل السبي البابلي، وبعد قيام (مملكة إسرائيل) التي ظهرت على أثر انقسام فلسطين إلى مملكتين (مملكة يهوذا في القدس) و(مملكة إسرائيل) في السامرة بعد وفاة نبي الله سليمان (عليه السلام) عام (935ق.م) وفي القرن السادس قبل الميلاد زال كل أثر فعلي لليهود في فلسطين إلا من اندمج منهم بسكان البلاد الأصليين.
ثم اتسع (تشتت) اليهود في مراكز الاقتصاد والتجارة مثل: (الإسكندرية وقرطاجة) قبل تدمير الهيكل سنة (70م)...
الطابع التجاري لديانة اليهود
اليهود أينما تجمّعوا فذلك يعني انهم تجمّعوا حول نواة تجارية مالية، ولا يهمهم شيء حول ما إذا كانت تجارتهم هذه دنيئة أم لا، المهم عندهم جمع المال من التجارة والتحكم بالعصب الاقتصادي والسياسي للمنطقة، فلو جاء عشرة رجال من اليهود الفقراء إلى منطقة، لوجدناهم يتحكمون بالسوق في بضع سنوات وذلك عبر خطة عالمية تدعمهم، بغض النظر عن الوسائل التي يتبعونها في ذلك.
فمثلاً في أوروبا كان الربا مقدماً على التجارة والأعمال لكسب الربح السريع. وقد استغله اليهود وكذلك الدعارة ويعود عملهم بالربا إلى أن الكنيسة الكاثوليكية حرمت الربا على النصارى. فبقي فراغ شغله اليهود، فأخذوا يتعاملون به بجشع.
اليهود في البلاد العربية
بدأ بعض اليهود بالنزوح إلى البلاد العربية من القرن السادس قبل الميلاد (النفي البابلي)، ثم جاء بعضهم بعد سقوط القدس (القرن الأول الميلادي) فنزحوا شرقاً نحو العراق وجنوباً نحو الجزيرة العربية وبالاتجاه الجنوبي الغربي نحو مصر، وتسربت أعداد منهم وامتزجت بأهل البلاد الأصليين واختلطت بهم اختلاطاً مباشراً في جوانب حياتهم وظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كما شاركوهم في ـ اللغة والتقاليد وأسلوب التفكير ـ .
وقد ضاعت وحدتهم العنصرية رغم تقوقعهم ورغم تعصبهم العنصري لديانتهم، كما فقدوا لغتهم المشتركة (العبرية) فتكلموا بلغات مختلفة حسب الموقع الذي يعيشون فيه، وهذا يبين أنهم هجين من عدن قوميات ومن عدة لغات.
أما تواجدهم في فلسطين فسوف نتطرق إليه ضمن مراحل تاريخية متتالية.
فلسطين في التاريخ
ذكر بعض المؤرخين: انه عرفت فلسطين بأرض (كنعان) قديماً (حوالي 2500ق.م)، وفي عام (2100ق.م) تعرضت لغزو القبائل الكريتية التي سكنت شواطئها بين يافا وغزة، فسميت تلك المناطق باسم (فلسطين) ثم صار هذا الاسم لكل المنطقة فيما بعد وبحكم موقعها تعرضت لحروب طاحنة وغزوات وهجرات متوالية لكن كان معظم الغزاة عابرين إلا من استقر فقد اندمج مع السكان وصار منهم.
خرجت قبائل العبرانيين من مصر متجهة إلى الشرق بقيادة النبي موسى (عليه السلام) في عام (1290ق.م) وتوقفت في صحراء (التيه) 40 عاماً.
وفي عام (1000ق.م) أخضع النبي داود (عليه السلام) (الكنعانيين اليبوسيين) في منطقة القدس وجعل أورشليم (القدس) عاصمة لهم.
وبعد وفاة ابنه النبي سليمان (عليه السلام) عام (635ق.م) انقسمت المملكة إلى مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل.
وفي القرن السادس ق.م تعرضت فلسطين لغزوات الآشوريين والكلدانيين وتبعثر اليهود على أثرها وفي عام (529ق.م) غزا الفرس فلسطين وألحقوها بدولتهم.
وفي عهدهم عادت قبيلة (يهوذا) مع بقايا الأسر البابلية إلى القدس، وأعادت الهيكل من جديد.
وفي عام (332 ق.م) غزا الاسكندر فلسطين.
وفي عام (90 ق.م) قدم العرب إلى الأنباط والحقوا فلسطين بعاصمتهم.
إلى أن احتلها الرومان في أوائل القرن الميلادي وظلت تتبع روماً أولاً وبيزنطة بعدها، إلى أن جاء الإسلام وحررها من أيديهم.
الفتح الإسلامي
نظراً لأهمية فلسطين دينياً عند جميع الأديان ـ ففيها أولى القبلتين عند المسلمين وكونها (أرض الميعاد) لدى اليهود وحيث سمّت أرضها التوراة (أرض السمن والعسل)، ولكونها وسط الحضارات والإمبراطوريات القديمة وكونها معبراً بين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا وملتقى لها ـ كل ذلك جعل أرضها مسرحاً تتجابه عليه مختلف القوى العالمية قديماً وحديثاً وتنجذب إليها أمواج الهجرات المتتالية والمتصاعدة باستمرار من مختلف الديانات والقوميات، وبانتصار الإسلام في جزيرة العرب.. انطلقت القوة الإسلامية الجديدة إلى جميع الاتجاهات لتحمل رسالة الإسلام والحضارة الإسلامية. وتوجهت قوات المسلمين شمالاً إلى فلسطين لتقضي على الجيوش الرومانية في معركتين حاسمتين معركة أجنادين بالقرب من القدس فدخلت القدس سنة (638م).(29/268)
ثم معركة اليرموك التي أنهت الوجود الروماني في فلسطين وتم استيلاء المسلمين على كل فلسطين، وصارت جزءاً لا يتجزأ من البلاد الإسلامية بسقوط (قيصارية) سنة (460م) لينتهي فصل الختام للإمبراطورية الرومانية في أرض الإسلام، ليبدأ بعدها فصل جديد بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية (الصليبية).
المملكة الصليبية
في القرن الحادي عشر الميلادي تحركت الجيوش الأوروبية (الصليبية) بعوامل الطموح ودوافع الطمع والحماس الديني نحو المشرق تحت شعار (تحرير الأراضي المقدسة) وكان هدفهم القضاء على المسلمين، وبالفعل فقد اغرقوا القدس بعد احتلالها في بحر من الدماء وقتلوا من فيها من المسلمين وحتى المسيحيين واليهود الشرقيين وأقاموا مملكة باسم (مملكة القدس) وبعد ثمانين سنة من سقوط القدس بأيديهم استطاع المسلمون مرة أخرى استردادها من أيديهم (1187م) بعد أن ألحقوا بهم هزيمة نكراء.
ونتيجة لانتصارات المسلمين، انحسر نفوذ الصليبيين إلى المنطقة الساحلية من فلسطين وأصبحت (عكا) هي عاصمتهم الجديدة.
وبعد ذلك نشبت معارك طويلة ومريرة طوال السنتين استطاع بعدها (مماليك مصر) من المسلمين تحرير (عكا) وطرد الصليبيين وإزالة آخر أثر لهم من الأراضي الإسلامية سنة (1291م).
الحكم الإسلامي في فلسطين
بعودة الحكم الإسلامي إلى فلسطين سمح لليهود بالهجرة إليها والإقامة فيها بعد أن منعتهم من ذلك الحكومات الصليبية وقضت على وجودهم في فلسطين قضاءً تاماً.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها اليهود للاضطهاد من قبل الأوربيين (الصليبيين) فقد طردوا من أوروبا الغربية وخلت من اليهود تقريباً، وقد أطلق على اضطهاد اليهود الجديد هذا، اسم جديد متأثر بنظرية الأجناس وتفوق العرق (اللاسامية) وقد عاشت الطوائف اليهودية في أوروبا في القرون الوسطى في نظام خاص(8) وهو النظام الذي يحصر تواجد اليهود فيه في أماكن معينة. وحين انتصر الإفرنج على المسلمين في الأندلس أشاعوا محاكم التفتيش، وكان على اليهود كما كان على المسلمين أن يختاروا بين البقاء والتكثلك أو الفرار والتشرد، ولو قارنا ذلك بوضعهم في ظل المسلمين لوجدنا الفرق شاسعاً جداً.
فقد تميزت معاملة المسلمين لليهود بالتسامح في حين كانت أوروبا تغلق عليهم كل شيء،وقد تمكن الأقلية اليهودية من المساهمة بحرية في الحضارة الإنسانية في ظل الحكم الإسلامي. وتُذكر الأندلس دائماً كمثل على المركز الممتاز الذي تمتع به اليهود في العالم الإسلامي.
التدفق الجديد لليهود
في زمن الدولة العثمانية ومنذ بداية القرن السابع تدفق اليهود القادمين من أوربا (الشرقية) (9) ويعرفون باسم خاص(10) يميزهم عن بقية اليهود في العالم على فلسطين، وزادت الهجرة مع ضعف الدولة العثمانية وازدياد نفوذ الدول الكبرى وتصاعد الاضطهاد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ومع نمو الحركة الصهيونية توجهت هذه الهجرة إلى (فلسطين) واستمرت بالازدياد المطرد إلى يومنا هذا.
1ـ سورة المائدة: 82.
2ـ سورة البقرة: 47.
3ـ سورة المائدة: 20.
4ـ سورة المائدة: 20.
5ـ سور المائدة: 60.
6ـ أنظر المؤرخ المجري (د. انطال بارثا).
7ـ من كتاب (القبيلة الثالثة عشر) لـ(أرثور كوستلر).
8ـ يسمى (الغتيوات).
9ـ بولندا، ليتوانيا، روسيا.
10ـ اشكنازيم.
الحركة الصهيونية
بدأت هذه الحركة منذ القرن السابع عشر تقريباً إلا أن الاجتماع الأول (للحركة الصهيونية في العالم) كان في عام (1897م) في مدينة بازل في سويسرا بزعامة (مؤسس الصهيونية)(1)، ويمكن تلخيص ما جاء في المؤتمر بما يلي:
(ان هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بضمن القانون العام) وحدد عدة خطوات لتحقيق هذا الهدف يمكن حصرها فيما يلي:
1: تشجيع استيطان العمال الزراعيين والصناعيين اليهود في فلسطين.
2: تنظم اليهود والربط بينهم من خلال مؤسسات تتفق مع القوانين الدولية والمحلية لكل بلد.
3: تقوية الشعور والوعي القومي لدى اليهود وتعزيزهما.
4: اتخاذ خطوات تمهيدية للحصول على موافقة الدول حيث يكون ضرورياً لتحقيق هدف الصهيونية.
المراوغة من أساليب اليهود
وتمكن اليهود بوسائلهم وأساليبهم اللاإنسانية والملتوية التي استخدموها لتحقيق مآربهم في بناء دولتهم (اللاشرعية).
ومن أساليبهم المراوغة التي اتبعها (أحد زعماؤهم)(2) هو انتزاع وعد (بلفور)(3) من الحكومة البريطانية عام (1917م) الذي أعطى اليهود ما لا يملكون، وتجاوزت الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارات كان أهمها قرار التقسيم الذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ووضع القدس تحت الإدارة الدولية.
ومما يذكر أن (زعيمهم هذا) قام بألفي مقابلة للوصول إلى تصريح (بلفور) وزير خارجية بريطانية، وقد كيّف نقاشه بحذف شديد مع كل سياسي يقابله وبحسب الحالة الخاصة لذلك السياسي.
اليهود بؤرة الفساد والكساد(29/269)
وكما ذكرنا فلليهود طرق كثيرة وأساليب خاصة وملتوية لتحقيق غاياتهم في امتصاص دماء الآخرين من غير اليهود، أما مع بعضهم فيحرّمون هذه الأشياء. فمثلاً يجب التعامل بالربا مع غير اليهودي ويحرّم مع اليهودي، ولما لأساليبهم الخاصة من أثر في جمع المال والثراء السريع فانهم يحاولون بشتى السبل تحطيم اقتصاد البلاد التي يعيشون فيها بيد، بعد الإمساك بزمام الاقتصاد بيد أخرى. وحينما كنا في العراق شاهدنا اليهود قبل عام (1948م) عندما كانوا في سوق الشورجة ببغداد وقد احتكروا جميع المواد الاستهلاكية والغذائية في أيديهم وخلقوا كثيراً من الأزمات الاقتصادية، وتلاعبوا بالأسعار مما سبّب شحّة من جانب وكساد من جانب آخر، وبالتالي جمعوا كل تلك الأموال وحطّموا اقتصاد العراق ثم نقلوا كل أرصدتهم معهم إلى إسرائيل.
ويذكر أن في طهران أيضاً زمن الشاه كان سوق طهران الكبير بيد جماعة من اليهود، ولما كان هؤلاء يتحكّمون بالسوق على أهوائهم، والشاه قد منحهم الحرية الكاملة، لذلك فانهم أخذوا يتحكمون بكل شيء في السوق من عرض وطلب وتسعير واحتكار وتلاعب إلى غير ذلك من الأساليب الخبيثة والملتوية.
واليهود بالاضافة إلى ذلك فانهم يقتلون الأخلاق الحسنة في المجتمع، وان أول أعمالهم التي يقومون بها هي نشر الخمور والزنا والبغاء فقد أسسوا في طهران (14000) محل لبيع الخمور وذلك على علم من الشاه.
هذا هو المعروف والمتعارف عليه من اليهود، فانهم لم ينشروا الخمور والزنا والفحشاء إلا من أجل افساد المجتمع؛ حيث إن اليهودي لا يستطيع أن يعيش ويتسلط على غيره إلا بعد أن يفسد ما حوله؛ لكي يخلق جواً ينسجم ويتواءم مع رغباته ويسهل له الحصول على مبتغاه.
فهم بؤرة الفساد في كل الدنيا ونجد أنهم من وراء مراكز الدعارة وربما يجعلون مقرّات للزنا والدعارة تحت اسم آخر مثل (مراكز الخدمات الإنسانية) ويتسترون تحت هذه الأسماء لتحقيق أغراضهم، وهكذا كان الحال في العراق وإيران ومصر وغيرها من البلدان الإسلامية.
اليهود وإثارة الفتن
من أعمال اليهود المعروفة ـ بالإضافة لما سبق ـ إثارة الفتن والخلافات والنزاعات وتشجيع التطاحن بين أبناء المسلمين والنتيجة طبعاً ستكون لصالح اليهود، فقد استخدموا أساليب كثيرة في الدسّ بين طيّات الكتب والطعن بالمعتقدات، وإثارة النعرات الطائفية والعرقية بين المسلمين بأساليب جديدة أدت إلى تدمير البلاد وضياع الكثير من الثروات ونهبها عن طريق تأسيس عصابات ذيلية ترتبط بهم مطليّة بصبغة الأحزاب السياسية العلمانية.
ولو بحثنا وراء جذور الحزب الشيوعي والحزب البعثي في العراق لوجدنا ان المؤسسين هم من اليهود، وذلك عن طريق التنسيق مع بعض السفارات الغربية. ومن هذا ترى أن قادة حزب البعث في العراق لم يقوموا بأي عمل ضد اليهود. مع انهم قاتلوا واعتدوا على اقرب الدول لهم وبكل شراسة.
لعبتهم مع الملوك
قبل (3500) عام كان حاكم إيران (كورش بادشاه)(4)، وقد سمى الشاه المقبور ابنه (كورش) تيمناً بذلك الاسم كي يعيد ذكرى ذلك الحاكم الظالم على الرغم من أن إيران بلد إسلامي.
ويذكر المترجمون لحياة كورش الملك: أن زوجته ولدت عشرة أطفال وكانت جميلة وثرية ومن عائلة معروفة، كما كان له رئيس وزراء حكيم مفكر، وقد أدار شؤون البلاد بجدارة وسعى لتعمير البلاد.
إلا أنه وبعد بضع سنوات حصل اليهود على فرصة لدخول بلاط الملك وأقاموا معه علاقة وطيدة، وبعد ذلك استدرجوه باسم النصيحة وطلب الخير له وطلبوا منه أن يتقبل شابة حسناء من اليهود (لخدمة القصر الملكي)(5).
وبعد مدة وقعت رغبة (كورش) على تلك الفتاة وتزوجها.. وبعد خطة محكمة وضعوها، قامت هذه الشابة بافساد العائلة.. وتشكيك الزوج بزوجته ورئيس وزرائه.. وجن جنون الزوج الملك.. فأمسك بسيفه، وقطع رؤوس كل أفراد عائلته.. ورئيس وزرائه.. ولم يعرف هذا الزوج البائس عن الخطة المحكمة التي وضعها هؤلاء اليهود ونفذتها هذه الفتاة اللعوب وهكذا نجح اليهود بتطبيق الخطة على كورش مثلما نجحوا بتطبيقها على غيره من الملوك والأمراء في أماكن كثيرة من العالم.
إسرائيل صنيعة الاستعمار
ثياب الاستعمار كثيرة فكلّما بلي ثوب لبس غيره، وبعد الحرب العالمية الثانية ظهر للدول الاستعمارية أن لعبتهم هذه سوف لن تستمر، وباتت لعبة قديمة ورأوا أن الإسلام لو تحرك بحرية بين هذه البلدان المستعمرة فانه سيشكل قوة ضاربة خطيرة تعصف بهم وبمصلحتهم في هذه المنطقة الحيوية من العالم وفي مناطق أخرى كثيرة، لذلك فان إسرائيل (وهي اللعبة الجديدة والثوب الجديد) للاستعمار ستكون كفيلة بتحديد حرية تحرك الدول الإسلامية في هذه المنطقة لذا فيجب أن (تصنع) في هذا المكان الحساس، وولدت بعد محاولات بذلتها الصهيونية العالمية واليهودية مستفيدة من كل الظروف العالمية، ولكن ذلك صادف رغبة ملحة وهوى من نفوس الدول الاستعمارية تحقيقاً لمصالحهم.
اذن إسرائيل صنيعتهم والخادم المنقذ لمصالحهم. وبالفعل فقد حققت لهم إسرائيل كل مصالحهم وخرج الاستعمار من الباب ليدخل من الشباك كما يقولون.
إسرائيل وعروض السلام!!(29/270)
إسرائيل وهي عصابة العنف والإرهاب لا تترك مناسبة إلا وتطرح فيها عروضها للسلام!! وسلامها الذي تنشده هو أن يقوم على أساس الظلم والغصب وذلك بالاحتفاظ بالأراضي المغصوبة ورفض عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم. ومن دون أن تبدي تنازلاً لأصحابها الشرعيين فهي غير مستعدة لأن تقدم أية تنازلات.
وكثيراً ما تظاهروا بهذه العروض الكاذبة، فقد تظاهر زعماؤهم بالسلام قبل العدوان الثلاثي على مصر عام (1956م)، وتظاهروا بذلك أيضاً قبل حرب (1967م) فكأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين عروضهم هذه وبين توقيت اعتداءاتهم.
وإسرائيل ترفض أن تبحث موضوع احتلال القدس وتصر على احتلالها، وقد رفضت أغلب المعاهدات(6) والقرارات(7) التي تخوض في هذا الموضوع سراً فيما تظهر الالتزام بالتنفيذ علناً.
العرض الخياني
مما تقدم نعرف أن (إسرائيل) و(اليهود) عصابات إرهابية ولا علاقة لها (بعالم الأمس) كما علم أن الصهيونية والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وعلمنا أيضاً غاية الصهيونية ولدت في قلب الأمة الإسلامية وليس في نيتها الرحيل، وحقدها على الإسلام (حقد مقدس)! كما يسمّيه اليهود.
اذن هل هناك وجه للمصالحة معها.. وكيف ستمد يد المصالحة لها؟!! فهل يجوز لك أن تصالح غاصب بيتك وتسميه صديقاً!!
وماذا نسمي زيارة السادات(8) لإسرائيل هل هي صلح أم سلام أم استسلام، أم (تطبيع علاقات)، كما يحلو للسادات أن يسمّيها بذلك.. أم أنها الخيانة؟!!
زيارة وتجارة
هناك من بارك ومن صفق لهذه الزيارة المخزية وتسلّم الأجور مقدماً في داخل مصر وخارجها. وتاجر بدينه وشرف كلمته وصوته من أجل حفنة دراهم!! وهناك من وقف وقفة المتفرج بانتظار ما تفرزه هذه الزيارة سلباً وإيجاباً.
أي ان هناك من يتمنى النجاح للزيارة وهو صامت، وهناك من يتمنى فشلها أيضاً، كما أن هناك من رفض الزيارة رفضاً فيه نوع من الصمود والتحدي، وآخر رفضها رفضاً مطلقاً (أي مطلق الرفض).
وبمثل هذه المواقف أيضاً خرجت قمة بغداد حيث إن الزعماء العرب جميعاً (اتفقوا على أن لا يتفقوا) على عكس قادة اليهود الذي (اتفقوا على أن يتفقوا) وسنوضح ذلك متعرضين إلى مواقف كلا الطرفين.
مواقف الأنظمة العربية
يمكن تلخيصها بالمجاميع الثلاث التالية التي برزت في قمة بغداد.
الأولى: دول القبول: الدول التي قبلت الزيارة وهناك قبول مشروط وقبول غير مشروط.
الثانية: دول الصمت: هناك من صمت متمنياً نجاح الزيارة وهناك من صمت متمنياً الفشل لها.
الثالثة: دول الرفض: الدول التي رفضت الزيارة وفضّلت (الصمود والتحدي) وهو رفض رباعي وهناك رفض منفرد له رأي آخر، وأخرجوا مصر من قمة بغداد وقاطعوها (وأخرجوها ليلتحقوا بها فيما بعد! ).
مواقف العدو الصهيوني
وهنا نجد أن الرأي العام للعدو والنظام (طرفان لعصا واحدة)؛ ذلك لأن (الكنيست) يضم عدة مجاميع لها برامجها وسياساتها الخاصة بها مثل.
1: مجموعة المعراج(9).
2: مجموعة الليكود(10).
3: الأحزاب الدينية والشيوعية والتكتلات الصغيرة الأخرى، فالرأي العام تمثله هذه المجاميع، وهذه المجاميع تمثل الكنيست (والكنيست يمثل النظام)، (اذن الرأي العام يمثل النظام).
والمجاميع المذكورة جميعها متفقة على رأي واحد يتلخص في ثلاث نقاط:
1. رفض الانسحاب إلى خطوط (1967م).
2. رفض قيام دولة فلسطينية على أي بقعة من التراب الفلسطيني.
3. رفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية تحت أي ظرف.
فإذا كان هذا موقف العدو فعلى أي أساس تتم المصالحة؟!! أليس ذلك خيانة واستسلاماً واعترافاً بإسرائيل دون تنازلها عن أي شيء، والجدير بالذكر أن الزعيم الصهيوني (بيغن) صرح عند قدوم السادات وقال: (إننا لم نطلب من أحد الاعتراف بوجودنا.. إننا نريد اعترافاً مشتركاً للطرفين في السيادة والأمن).
فهل هناك ذل واستسلام أكثر من هذا؟!!
وتمسكنوا ليتمكنوا
وهكذا سعى مفكرو اليهود بشتى الطرق وبأخبث الوسائل لأن يستعيدوا قوتهم ومجدهم وتراثهم (حسبما يدّعون)، وعملوا من دون كلل حتى حصلوا على كل ما يبتغون، وتمكنوا من بناء دويلتهم الصهيونية في قلب المنطقة الإسلامية، بالإرهاب والقوة وسفك الدماء، وحققوا ما كانوا يصبون إليه بالأمس بهمة شرسة، وبدعم مالي واسع وتخطيط دقيق.. وإعلام مكثف حول مظلومية اليهود الكاذبة ومسكنتهم إلى أن تمكنوا جيداً وأصبح زمام المبادرة بأيديهم، وبات الكثير ممن يدعي الثورية أو القومية من الأنظمة العربية يتقرب إليهم سراً وعلانية.
وهذا الإعلام المكثّف إزاء مسكنتهم هذه، له دور كبير في بناء دويلتهم الغاصبة.
ففي سنة واحدة تطبع إسرائيل وتوزع (15) مليون كتاب، ولديها ما يقارب الألف صحيفة خارج فلسطين. وهذا يعني أن صحفها ومجلاتها تفوق عدد صحف ومجلات الدول العربية قاطبة بما فيهما لبنان ومصر المشهورتان بالطباعة والنشر.
أنظر! من أين لهم هذا؟ ومن الذي يوحي لهم بذلك وهم الكفار بينما يتراجع بعض المسلمين؟(29/271)
والجواب هو قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)(11) لضرب الإسلام والمسلمين، بينما يتراجع بعض المسلمين لأنهم ابتعدوا عن نهج الإسلام وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) الأطهار وانشغلوا بالتنازع فيما بينهم ولذلك فشلوا وقد قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)(12).
مهازل بسبب البعد عن الإسلام
قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(13).
فلو أن بعض المسلمين أخلصوا النية لله تعالى وجاهدوا في سبيله لما أضلّوا السبيل وما انتصرت عليهم دويلة صغيرة لا تتجاوز نفوسها الثلاثة ملايين بل (2.229.000) نسمة فقط في حين أن المسلمين العرب وحدهم يزيدون على المائة مليون(14)!!
أليست هذه هي المهزلة بعينها؟ وإلا فما معنى ذلك؟
ويجب هنا أن نقول للشعب المسلم: إن النصر من عند الله فانه لا يكتب ذلك إلا للذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ويطبقون كافة القوانين الإلهية من الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة والحريات و... فقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(15).
إذن البعد عن الإسلام هو سبب هذه المهازل، وإلا فما معنى حرب (1948م) ثم النكسة عام (1967م) في الخامس من حزيران؟
وما معنى مباركة قرار مجلس الأمن القديم (242) عام (1968م) من قبل (12) دولة عربية؟ ثم تأتي مجزرة أيلول الأسود عام (1970م) في الأردن، حيث سفكت دماء الفلسطينيين على يد أحد الملوك العرب(16).. وبعدها تأتي حرب (1973م) خوفاً على التيجان وحفاظاً على ماء الوجه (لكن الولادة أجهضت) ثم استخدم النفط كسلاح للمعركة ويفشل. ثم يتحول سلاح الرفض إلى شبه تأييد ثم تأييد ثم حوار غير مباشر ثم مباشر ثم زيارات سرية للقدس ثم علنية تطوّع لها السادات بحجة تطبيع العلاقات والحوار المباشر، وقد سبقه (أقرانه) إلى الخنوع والذل والاستسلام من أمثال بعض الحكام ومن سار في ركبهم في الخفاء، وهكذا يستمر الحال نحو كثير من المهازل.
وتكون النتيجة الذلة والخسران. يقول تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)(17).
الإسلام هو العلاج
المهازل السابقة سوف لن يوقفها إلا الإسلام والعمل به، وعند ذلك ستسقط كل الشعارات المزيفة، ذكر أحد القادة الفلسطينيين: (إن علاجنا ليس بالقومية ولا بالشيوعية ولا بالبعثية). وهذا هو الكلام الصحيح فان الحل هو الإسلام ولا توجد في الإسلام قومية، لا فارسية ولا عربية ولا أفغانية ولا هندية ولا تركية، وان القوميات في الإسلام محكوم عليها بالزوال؛ بقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(18).
ونحن المسلمون لسنا مرتبطين بالقومية ولا بالشيوعية، بل ارتباطنا هو بالإسلام وبقوانين التشريع الإلهي وكفى.
ولو تركنا الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة وتمسكنا بالقومية فهذا يعني اننا فقدنا قوانين الإسلام وما يوجب عزتنا وقدرتنا، وأن ذلك يعني أيضاً أننا ضيعنا الأمة الإسلامية وكل ثقافتها. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أيام حكومته المباركة عمل على تقوية وحدة الأمة الإسلامية وإزالة القوميات كلها، وان بلال الحبشي وهو من سود أفريقيا، جعله النبي (صلى الله عليه وآله) مؤذناً له مع أن بلال لم يكن يتقن تلفظ العربية، وقد ذكر التاريخ أن بلالاً لم يكن قادراً على تلفظ الشين وكان يلفظ السين محلها ويقول (أسهد أن محمداً (صلى الله عليه وآله) رسول الله). حتى أن بعض المسلمين اعترض على ذلك، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال سين بلا شين عند الله وذلك لكي يثبت أن لا قومية في الإسلام واحتفظ بلال بعمله هذا مؤذناً حتى آخر عمره.
إن أحدى شعارات القوميين هي:
سلامٌ على كفرٍ يوّحد بيننا ***وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ بعيد
إن المسلمين إذا ارتبطوا بالشرق أو الغرب وبالقومية والشيوعية فانهم لا يفقدون الآخرة فقط بل يفقدون الدنيا كذلك. أما لو تمسكنا بالإسلام فلن يحدث أن يأتي العرب وهم أكثر من (100 مليون) ليصالحوا بل يستسلموا لإسرائيل التي تعدادها (2.229.000) نسمة(19).
نعم، لو تمسكنا بالإسلام لما كان يحدث أن يذهب العرب وهم الأكثر عدداً وعدة.. ليتصالحوا مع إسرائيل..
ولو تمسكنا بالإسلام.. لاستطعنا مواجهة كل القوى الكافرة. ليس إسرائيل فقط. وإنما الشرق والغرب معاً؛ لأن الإسلام بما يمتلكه من قوة إيمانية ومعنوية عالية.. يستطيع حسم الكثير من الخلافات.. ووضع حد للمشاكل والصعوبات التي تعاني منها الأمة.. كما أن الإسلام هو القوة القاهرة التي تتكفل الوقوف بوجه كل المستكبرين والطغاة..(29/272)
وما إسرائيل إلا (نصل) للأنظمة الطاغوتية، وكل قوى التجبر العالمي موجّه إلى صدر الإسلام والمسلمين، وسننتصر بعون الله، وستنجلي هذه الغمة في الغد القريب ان شاء الله إذا اهتم المسلمون وتضامنوا وعملوا جادين في سبيل ذلك.
وعلينا بالدعاء أيضاً مبتهلين ومتضرعين إلى الباري عزوجل طالبين منه المدد لنصرنا على كل هذه الدوائر التي أحاطت بالإسلام.
(اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله وغيبة ولينا وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصل على محمد وآله، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وبضرّ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين)(20).
1ـ ثيودور هرتزل: (1860/1904م) كاتب مجري يهودي أسس الحركة الصهيونية.
2ـ حاييم وايزمن.
3ـ آرثر جيمس (1848/1930م) سياسي إنكليزي وزير الخارجية (1917م)، أصدر وعد بلفور بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين.
4ـ كورش (قورش) اسم ملكين من السلالة الأخمينية في فارس، الأول (640/600ق.م) مؤسس السلالة، الثاني أو الكبير (557/528ق.م) استولى على آسيا الصغرى وبابل، أذن لليهود بالعودة إلى فلسطين.
5ـ ومما يذكر أن منزل بهلوي أيضاً كان يحوي على رجال يهود لخدمة وإدارة شؤون المنزل.
6ـ منها معاهدة (سايكس بيكو).
7ـ قرار الأمم المتحدة عام (1967م).
8ـ أنور السادات (1918 / 1981م) ضابط وسياسي مصري رئيس الجمهورية (1970م) خلفاً لعبد الناصر قاد الحرب المعروفة بحرب أكتوبر (1973) اغتيل عام (1981م).
9ـ وتضم (الماباي / المابام / راني).
10ـ وتضم (الأحرار / حيروت المركز).
11ـ سورة الأنعام: 121.
12ـ سورة الأنفال: 46.
13ـ سورة العنكبوت: 69.
14ـ الإحصاءات الأخيرة تقول ان عدد العرب بلغ ثلاثمائة مليون، أما اليهود في إسرائيل فلا يتجاوزن خمسة ملايين.
15ـ سورة الحجرات: 15.
16ـ الملك حسين بن طلال ملك الأردن (1935/1999م) أدخل بلاده في حرب (1967م) أدت إلى احتلال إسرائيل للضفة الغربية قطع الروابط الإدارية بين الأردن والضفة الغربية.
17ـ سورة طه: 124.
18ـ سورة الحجرات: 13.
19ـ سبق قبل صفحات الإحصاءات الجديدة.
20ـ أنظر مصباح الكفعمي: ص582 الفصل 47 فيما يعمل في شهر رمضان.
من هدي القرآن الحكيم
النهي عن موالاة ومودة الكافرين
قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)(1).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)(2).
وقال عزوجل: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ)(3).
وقال سبحانه: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللهِ فِي شَيْءٍ)(4).
وقال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)(5).
اليهود والفساد
قال سبحانه: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ... كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(6).
وقال تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً)(7).
وقال سبحانه: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)(8).
وقال عزوجل: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)(9).
ذم المكر والسعي في الفتنة
قال تعالى: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ)(10).
وقال سبحانه: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(11).
وقال عزوجل: (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ)(12).
من هدي السنة المطهرة
النهي عن موالاة أعداء الله
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إني بريء من كل مسلم نزل مع مشرك في دار حرب)(13).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من أتى ذمياً وتواضع له ليصيب من دنياه شيئاً ذهب ثلثا دينه)(14).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (ومن والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله، ومن عادى أولياء الله فقد عادى الله تبارك وتعالى، وحق على الله عزوجل أن يدخله في نار جهنم)(15).
الاستسلام والغدر والخيانة(29/273)
قال أبو عبد الله (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يجيئ كل غادر بإمام يوم القيامة مائلاً شدقه حتى يدخل النار)(16).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (جانبوا الخيانة فإنها مجانبة الإسلام)(17).
وقال (عليه السلام): (ألا وان الغدر والفجور والخيانة في النار)(18).
وقال (عليه السلام): (رأس النفاق الخيانة)(19).
معرفة العدو ومعاملته
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ألا وان اعقل الناس، عبدٌ عرف ربه فأطاعه، وعرف عدوّه فعصاه)(20).
وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (لا تغترن بمجاملة العدو فانه كالماء وإن أطيل اسخانه بالنار لم يمنع من اطفائها)(21).
العودة إلى حكم الإسلام
عن الإمام الحسين (عليه السلام) قال: (لو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله، كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلطهم على ذلك فراركم من الموت واعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم)(22).
1ـ سورة المائدة: 51.
2ـ سورة الممتحنة: 1.
3ـ سورة القصص: 86.
4ـ سورة آل عمران: 28.
5ـ سورة الفتح: 29.
6ـ سورة المائدة: 64.
7ـ سورة الإسراء: 4.
8ـ سورة المائدة: 82.
9ـ سورة البقرة: 96.
10ـ سورة غافر: 25.
11ـ سورة الأنفال: 30.
12ـ سورة النمل: 50 ـ51.
13ـ الكافي: ج5 ص43 ح1.
14ـ كنز الفوائد: ج1 ص280 فصل من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وحكمه.
15ـ صفات الشيعة للشيخ الصدوق: ص7 ح11.
16ـ الكافي: ج2 ص337 باب المكر والخديعة ح5.
17ـ غرر الحكم ودرر الكلم: ص460 ح10525 الفصل الثالث.
18ـ الكافي: ج2 ص338 باب المكر والخديعة ح6.
19ـ غرر الحكم ودرر الكلم: ص460 ح10520 الفصل الثالث.
20ـ أعلام الدين: ص337.
21ـ غرر الحكم ودرر الكلم: ص334 ح7689 الفصل الرابع.
22ـ تحف العقول: ص238 من كلامه (عليه السلام) في الأمر بالمعروف.
=================(29/274)
(29/275)
الرد على فتوى ابن باز بجواز الصلح مع اليهود
فضيلة الشيخ ابن باز ـ حفظه الله ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، نحمد الله إليكم الذي أنزل الكتاب آيات بينات ، ورفع الذين أوتوا العلم درجات ، وأخذ عليهم ميثاقًا بالصدع بالحق وبيانه وحذرهم من المداهنة فيه وكتمانه . والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد القائل (( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )) [حديث صحيح رواه أحمد وغيره]
وبعد ..
فإن من المعلوم لديكم ما حبا الله به أهل العلم من منزلة عظيمة ، وأعطاهم من مكانة كريمة ، ولا غرو في ذلك ، فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، ورثوا عنهم هذا الدين ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، وتمييع الظالمين المسرفين ، ويمثلون القدوة الحسنة والأسوة المثلى للأمة في النهوض بأعباء الانتصار للحق وإيثاره على ما عند الخلق .
وقد قام العلماء الصادقون من سلف الأمة وخلفها خير قيام بهذه المهمات ، وما وقوف سعيد بن جبير في وجه طغيان الحجاج صادعًا بالحق ، وتحدي الإمام أحمد بن حنبل لجبروت الحكم والسلطان وصبره في فتنة الخلق بالقرآن ، وتحمل ابن تيمية وحسن بلائه في السجن انتصارًا للسنة ، إلا نماذج من القيام بواجب النصرة للحق وأهله ، قام بها هؤلاء الأئمة الأعلام انتصارًأ للحق و غيرة على الدين ، رحمهم الله جميعًا .
فضيلة الشيخ؛ لقد أردنا من ذكر ما سبق تذكيركم بواجبكم تجاه الدين ، وتجاه الأمة وتنبيهكم إلى مسئوليتكم العظيمة ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين .. أردنا تذكيركم في هذا الوقت الذي انتفش فيه الباطل ، وعربد المبطلون المضلون ، ووئد الحق ، وسجن الدعاة ، وأسكت المصلحون ، والأغرب أن ذلك لم يتم بعد بعلم منكم وسكوت فقط ، بل مُرر على ظهر فتاواكم ومواقفكم ، ونحن سنذكركم ـ فضيلة الشيخ ـ ببعض هذه الفتاوى والمواقف التي قد لا تلقون لها بالاً ، مع أنها قد تهوي بها الأمة سبعين خريفًا في الضلال ، كي تدركوا معنا ولو جانبًا من خطورة هذا الأمر والآثار السيئة المترتبة عليه .
وإليكم بعض الأمثلة :
1 ـ إن مما لا يخفى على أحد المدى الذي وصل إليه انتشار الفساد العارم والذي شمل كافة نواحي الحياة حيث فشت منكرات المختلفة التي لم تعد تخفى على أحد ، كما فصلت مذكرة النصيحة التي تقدم بها نخبة من العلماء ودعاة الإصلاح ، وكان من أخطر ما بينوا هو الشرك بالله المتمثل في التشريع وسن القوانين الوضعية التي تستبيح المحرمات والتي من أشنعها التعامل بالربا المتفشي ففي البلاد ، وذلك من خلال مؤسسات الدولة وبنوكها الربوية التي تزاحم أبراجها مآذن الحرمين ، وتعج بها البلاد طولها وعرضها.
ومما هو معلوم بالضرورة أن الأنظمة والقوانين الربوية التي تتعامل بها هذه البنوك والمؤسسات مشرعة من قبل النظام الحاكم ومصدق عليها منه ، ومع ذلك لم نسمع منكم إلا أن تعاطي الربا حرام لا يجوز ، غير مكترثين بما في كلامكم هذا من التلبيس على الناس ، بعدم التفريق بين حكم من يتعاطى الربا فقط ، وحكم من يشرع الربا ويقننه … مع أن الفرق بينهما واضح كبير ، فمتعاطي الربا مرتكب لموبقة من أكبر الموبقات ، أما مشرع الربا فهو مرتد كافر كفرًا مخرجًا من الملة بعمله هذا ، لأنه جعل من نفسه ندًا لله وشريكًا له في التحليل والتحريم - وهذا ما فصلناه في بحث مستقل سينشر قريبًا إن شاء الله -
ومع أن متعاطي الربا غير المنتهي عنه قد أعلن الله ورسوله عليه الحرب { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فما زلنا نسمع منكم عبارات الثناء والإطراء لهذا النظام الذي لم يكتف بالإدمان على تعاطي الربا فقط ، بل شرعه وقننه وأباحه ، وقد قا صلى الله عليه وسلم : (( الربا ثلاثة وسبعون بابًا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه )) [صحيح رواه الحاكم] .
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( فمن كان مقيمًا على الربا لا ينزع عنه ، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه ) [رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس] ..هذا فيمن يتعاطى الربا .. فما بالكم بمن يحلل ويشرع الربا !!!!
إن ما تتخبط فيه البلاد من أزمات اقتصادية وسياسية وما انتشر فيها من الجرائم بشتى أنواعها ، وبشكل مذهل ما هو إلا عقوبة من الله ، وجزء من الحرب التي أعلنها سبحانه على من لم ينته عن تعاطي الربا ونحوه من المنكرات والمحق الذي حكم به على الربا { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } .
2ـ وحينما علق الملك الصليب على صدره ، وظهر به أمام العالم فرحًا مسرورًا ، تأولتم فعله ، وسوغتموه مع شناعته وفظاعته ، رغم وضوح أن هذا الفعل كفر ، والظاهر من حال فاعله الرضا والاختيار عن علم .
3ـ ولما قررت قوات التحالف الصليبية واليهودية الغازية في حرب الخليج ـ بتواطؤ ـ مع النظام احتلال البلاد باسم تحرير الكويت سوغتم ذلك بفتوى متعسفة بررت هذا العمل الشنيع الذي أهان عزة الأمة ولطخ كرامتها ، ودنس مقدساتها معتبرة ذلك من باب الاستعانة بالكافر عند الضرورة ، مهملة قيود هذه الاستعانة ، وضوابط الضرورة المعتبرة .(29/276)
4ـ ولما قام النظام السعودي الحاكم بمساعدة ودعم رؤوس الردة الاشتراكية الشيوعية في اليمن ، ضد الشعب اليمني المسلم في الحرب الأخيرة التزمتم الصمت،ثم لما دارت الدائرة على هؤلاء الشيوعيين أصدرتم ـ وبإيعاز من هذا النظام ـ "نصيحة !" تدعو الجميع إلى التصالح والتصافح باعتبارهم مسلمين !! موهمة أن الشيوعيين مسلمون يجب حقن دماءهم ، فمتى كان الشيوعيون مسلمين ؟ ألستم أنتم الذين أفتيتم سابقًا بردتهم ووجوب قتالهم في أفغانستان ، أم أن هناك فرقًا بين الشيوعيين اليمنيين والشيوعيين الأفغان ؟ فهل ضاعت مفاهيم العقيدة وضوابط التوحيد واختلطت إلى هذا الحد ؟.
وما زال هذا النظام يؤوي أئمة الكفر هؤلاء في مختلف مدن البلاد ولم نسمع لكم نكيرًا ، وقد قا صلى الله عليه وسلم : (( لعن الله من آوى محدثًا )) [رواه مسلم].
5ـ وحينما قرر النظام البطش بالشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي ، اللذين صدعا بالحق وتحملا في الله الأذى ، استصدر منكم فتوى سوغ بها كل ما تعرض ويتعرض له الشيخان ومن معهما من دعاة ومشائخ وشباب الأمة من البطش والتنكيل .. فك الله أسرهم ورفع عنهم ظلم الظالمين .
هذه بعض الأمثلة التي لم نقصد منها الحصر ولكن اقتضى المقام ذكرها ونحن بين يدي فتواكم الأخيرة بشأن ما يسمى بهتانًا بالسلام مع اليهود والتي كانت فاجعة للمسلمين ، حيث استجبتم للرغبة السياسية للنظام لما قرر إظهار ما كان يضمره من قبل ، من الدخول في هذه المهزلة الاستسلامية مع اليهود ، فأصدرتم فتوى تبيح السلام مطلقًا مقيدًا مع اليهود ، فما كان من رئيس وزراء العدو الصهيوني وبرلمانه إلا أن صفقوا لها وأشادوا بها ، كما أعلن النظام السعودي عقبها عن نيته في تنفيذ المزيد من التطبيع مع اليهود .
وكأنكم لم تكتفوا بإباحة بلاد الحرمين الشريفين لقوات الاحتلال اليهودية والصليبية ، حتى أدخلتم ثالث الحرمين في المصيبة بإضفائكم الشرعية على صكوك الاستسلام التي يوقعها الخونة والجبناء من طواغيت العرب مع اليهود إن هذا الكلام خطير كبير ، وطامة عامة لما فيه من التدليس على الناس والتلبيس على الأمة من عدة جوانب منها :
1ـ إن العدو اليهودي الحالي ليس إلا عدوًا مستقرًا في بلاده الأصلية محاربًا من الخارج حتى يجوز معه الصلح ، بل هو عدو صائل مفسد للدين والدنيا ، وعليه ينطبق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( والعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط ، بل يدفع بحسب الإمكان ، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم ) [الاختيارات الفقهية ص309]
إن الواجب الشرعي تجاه فلسطين وأخواننا الفلسطينين من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، هو الجهاد في سبيل الله وتحريض الأمة عليه حتى تتحرر فلسطين عن أخرها وتعود إلى السيادة الإسلامية . وفلسطين في غنى عن مثل هذه الفتاوى المخذلة عن الجهاد والمخلدة إلى الأرض ، هذه الفتاوى التي تقر احتلال العدو لأقدس مقدسات المسلمين بعد الحرمين الشريفين ، وتضفي الشرعية عليه ، وتدعم بكل قوة مساعي العدو لضرب الجهود الإسلامية المتلهفة لتحرير فلسطين عن طريق الجهاد الذي أكد من خلال عمليات أبطال الحجارة وشباب الجهاد المسلم في فلسطين أنه السبيل الوحيد الناجع في مواجهة العدو والكفيل بتحرير الأرض إن شاء الله .
ونذكركم هنا بفتواكم السابقة في هذا الشأن ، لما سئلتم عن السبيل لتحرير فلسطين ، فقلتم أنه : ( لا يمكن الوصول إلى حل لتلك القضية إلا باعتبار القضية إسلامية ، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها ، وجهاد اليهود جهادًا إسلاميًا حتى تعود الأرض إلى أهلها ، وحتى يعود شذاذ اليهود إلى بلادهم ) [فتاوى بن باز 1/281].
2 ـ هب أن هذا العدو اليهودي عدو يجوز الصلح معه وتوفرت فيه الشروط ، فهل ما تقوم به الأنظمة والحكومات الطاغوتية العربية الانهزامية مع اليهود من سلام كاذب مزعوم يعتبر سلامًا تجوز إقامته مع العدو؟
الكل يدرك أنه ليس كذلك فهذا لسلام المزعوم الذي يتهافت فيه المتهافتون الآن من الحكام والطواغيت مع اليهود ما هو إلا خيانة كبرى تتمثل في توقيع صكوك استسلام وتسليم للقدس وفلسطين كلها من قبل هذه الحكومات لليهود ، والاعتراف بسيادتهم عليها إلى الأبد .
3ـ إن هؤلاء الحكام المرتدين المحاربين لله ورسوله لا شرعية لهم ولا ولاية لهم على المسلمين وليس لهم النظر في مصالح الأمة ، ولكنكم بفتواكم هذه تعطون الشرعية لهذه الأنظمة العلمانية وتعترفون بولايتها على المسلمين ، وهذا ما يتناقض مع عرف عنكم من تكفيرها في في السابق ، وقد بين لكم ذلك نخبة من العلماء والدعاة في مناشدتهم إياكم سابقًا بالامتناع عن هذه الفتوى ، وسنرفق لكم صورة من تلك المناشدة تذكيرًا لكم وتنبيهًا .(29/277)
إن فتواكم هذه كانت تلبيسًا على الناس لما فيها من إجمال مخل وتعميم مضل ، فهي لا تصلح فتوى في حكم سلام منصف ، فضلاً عن هذا السلام المزيف مع اليهود الذي هو خيانة عظمى للإسلام والمسلمين ، لا يقرها مسلم عادي فضلاً عن عالم مثلكم يفترض فيه من الغيرة على الملة والأمة .
إن الواجب فيمن يتصدى للفتوى في قضايا الأمة الخطيرة الكبيرة ، أن يكون على علم بأبعادها وما قد يترتب عليها من أضرار وأخطار ، لأن العلم بذلك من شروط المفتي التي لا غنى عنها ، يقول الإمام ابن القيم : ( ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم ، أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بها علمًا ، والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكمه في كتابه وعلى لسان رسول صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الأخر ) [إعلام الموقعين 1/87].
وإذا كانت الشروط لازمة للفتوى بصورة عامة ، فإنها تتأكد في الفتوى فيما يتعلق بالجهاد والصلح ونحوه ، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله : ( والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا ، دون الذي يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين ، فلا يؤخذ برأيهم ، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا ) [الاختيارات الفقهية 311].
إن الفتاوى السابقة لو صدرت عن غيركم لقيل بتعمد صاحبها ما تتضمنه من الباطل ، ويترتب عليها من أثار وأخطار ، ولكنها لما صدرت منكم تعين أن يكون سبب الخلل فيها غير ذلك من الأسباب التي لا ترجع إلى نقص علمكم الشرعي ، ولكن لعدم إدراك حقيقة الواقع ، وما يترتب على مثل هذه الفتاوى من أثار ، مما يجعل الفتوى حينئذ غير مستوفاة الشروط ومن ثم لا يصح إطلاقها ، مما يحتم على المفتي عندئذ أن يتوقف عن الفتوى أو يحيلها حينئذ على المختصين الجامعين بين العلم بالحكم الشرعي والعلم بحقيقة الواقع .. وقد ثبت أن الإمام أحمد بن حنبل كان يتوقف في كثير من المسائل وقد كان الإمام مالك إذا سئل عن القراءات أحال إلى الإمام نافع رحمهم الله جميعًا .
فضيلة الشيخ؛ إن إشفاقنا البالغ على حال الأمة والعلماء من أمثالكم هو الذي دفعنا لتذكيركم ، فإننا نربأ بكم وبأمثالكم عن أن يستغلكم النظام الحاكم هذا الاستغلال الفظيع ويرمي بكم في وجه كل داعية ومصلح ، ويسكت بفتاواكم ومواقفكم كل كلمة حق ودعوة صدق ، كما حدث عند ردكم على "مذكرة النصيحة" و "لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية" وغيرها .
فضيلة الشيخ؛ لقد تقدمت بكم السن ، وقد كانت لكم أياد بيضاء في خدمة الإسلام سابقًأ ، فاتقوا الله وابتعدوا عن هؤلاء الطواغيت والظلمة الذين أعلنوا الحرب على الله ورسوله ، وكونوا مع الصادقين ، وإن لكم في سلف الأمة وخلفها الصالح أسوة حسنة فقد كان من ابرز سمات العلماء الصادقين الابتعاد عن السلاطين ، فقد فر الإمام أبو حنيفة رحمه الله وغيره من العمل مع حكام عصره على رغم استقامتهم الكبيرة على الدين إذا ما قورنوا مع حكام اليوم الذين لا يخفى ما هم عليه من فساد الدين وسوء الحال ، وفي زماننا هذا ،حينما أدرك العلامة الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله خطورة المسار الذي يمضي فيه النظام السعودي الحاكم وما يترتب عليه من خطر وضرر لمن يشاركه أو يختلط به آثر الفرار بدينه واستقال من رئاسة مجلس القضاء الأعلى .. وقد قال الإمام الخطابي ـ رحمه الله ـ في التحذير من الدخول على هؤلاء الحكام ((ليت شعري من الذي يدخل عليهم اليوم فلا يصدقهم على كذبهم ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسهم ومن الذي ينصح ومن الذي ينتصح منهم )) كتاب العزلة
وقد صح الحديث : (( من أتى أبواب السلطان افتتن )) فاحذروا فضيلة الشيخ الركون إلى هؤلاء بقول أو عمل { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } ، إن من لم يستطع الجهر بالحق والصدع به فلا أقل من أن يمتنع من الجهر بغير الحق ، قا صلى الله عليه وسلم : (( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت )) [رواه البخاري]
وأخيرًا: نرجو أن لا تجدوا في أنفسكم من هذا الكلام وتعتبروه خارجًا عن آداب النصح وما تقتضيه من إسرار وعدم إشهار فالأمر جلل خطير ومهم كبير لا يسوغ عنه السكوت ، ولا يجوز عنه التغاضي .
وما ذكرناه معلوم لدى أهل العلم ، وقد سبقنا إلى تنبيهكم عليه نخبة من علماء ودعاة الأمة ، حيث تقدموا لكم بمناشدات عدة في هذا الصدد منها مناشدتهم إياكم قبل مدة بالامتناع عن الفتوى بجواز هذا السلام الاستسلامي المزعوم مع اليهود ، مبينين عدم استيفائه للشروط اللازمة شرعًا ، محذرين من المخاطر الجمة الدينية والدنيوية المترتبة عليه ، ومن الموقعين على تلك المناشدة الشيوخ الأفاضل - ابن جبرين ، عبدالله القعود ، حمود التويجري ، حمود الشعيبي، البراك ، العودة ، الخضيري ، الطريري ، الدبيان ، عبدالله التويجري ، عبدالله الجلالي ، عائض القرني ، وغيرهم كثير -(29/278)
وفي حرب اليمن الأخيرة لما صدر منكم الكلام المشار إليه سابقًا أصدر خمسة وعشرون عالمًا فتوى معارضة له مبينة الصواب الشرعي في المسألة ، ومن هؤلاء العلماء الأفاضل، المسعري، الشعيبي، الجلالي، العودة، الحوالي، العمر، اليحيى، التويجري .. وغيرهم كثير .
وفي الختام نسأل الله تبارك وتعالى أن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه ، ويرنا لباطل باطلاً ويرزنا اجتنابه ، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويحكم فيه بالعدل ويصدع فيه بالحق ، وتعلو فيه راية الجهاد خفاقة ، لتستعيد الأمة عزتها وكرامتها ، وترفع راية التوحيد فيه من جديد فوق كل أرض إسلامية سليبة ..ابتداء بفلسطين ووصولاً إلى الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام الضائعة بسبب خيانات الحكام وتخاذل المسلمين
كما نسأله تعالى أن يولي أمورنا خيارنا ويصرف عنا شرارنا
ونسأله السداد في القول والصواب في العمل والتوفيق لما يحبه ويرضاه في الحياة وحسن الختام عند الممات
إنه ولي ذلك والقادر عليه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
هيئة النصيحة والإصلاح
==================(29/279)
(29/280)
ابن باز يجيز الصلح مع (( إسرائيل ))
ما تزال فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي السعودية حول الصلح مع الكيان الصهيوني والتي نشرت في صحيفة (( المسلمون ))، السعودية تثير ردود فعل مستهجنه في الاوساط الإسلامية، وننقل هنا بعض التعليقات على الفتوى من الدكتور يوسف القرضاوي من مصر والدكتور همام سعيد والدكتور محمد أبوفارس من الاردن إضافة إلى التعليق الأهم والذي جاء عند انعقاد مؤتمر مدريد في صورة رسالة موجهة إلى الشيخ بن باز من مجموعة من علماء السعودية.
العلامة الدكتور يوسف القرضاوي:
سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز واحد من كبار علماء المسلمين المرموقين في هذا العصر، وفتاواه معتبرة في الأوساط العلمية والدينية وهو رجل يوثق بعلمه ودينه، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تعالى. ولكنه ـ على كل حال ـ ليس بمعصوم، فكل بشر يصيب ويخطئ وقد تعلمنا من سلفنا الصالح: ان كل واحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن أجل هذا جاء التحذير من (زلات العلماء) ومن (زيفة الحكيم) كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه، فيما رواه أبوداود. وقد قال معاذ: احذروا زيفة الحكيم، ولا يثنيكم ذلك عنه، فإنه لعله ان يراجع.
وفتوى العلامة ابن باز التي نشرت حول السلام مع ((اسرائيل)) ـ ان صحت عنه ـ يخالف فيها الكثير من علماء المسلمين. وأنا منهم وعلى الرغم من مودتي وتقديري الكبير له، ولكن كما قال الحافظ الذهبي عن شيخه الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه! وفي رأيي أن موضع الخطأ في فتوى الشيخ حفظه الله ليست في الحكم الشرعي والاستدلال له، فالحكم في ذاته صحيح، و الاستدلال له لاغبار عليه، ولكن الخطأ هنا في تنزيل غير صحيح، وهو ما يسميه الاصولويون ((تحقيق المناط)) فالمناط الذي بني عليه الحكم لم يتحقق وأوضح ذلك فيما يلي:
بنى الشيخ ابن باز فتواه على أمرين أو على دليلين:
الأول: قوله تعالى: C وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله B.
الثاني: ان الهدنة تجوز شرعاً مؤقتة ومطلقة، وكلاهما فعله صلى الله عليه وسلم مع المشركين، فقد صالح صلى الله عليه وسلم مشركي مكة على ترك الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، يكف بعضهم عن بعض، وصالح كثيراً من قبائل العرب صلحاً مطلقاً، فلما فتح مكة نبذ إليهم عهودهم، وأجّل من لاعهد له أربعة أشهر.
وعلى أساس هذين الدليلين قال الشيخ يجوز لولي الأمر ان يعقد الهدنة إذا رأى المصلحة في ذلك.
وينظر في الدليل الأول للشيخ العلامة، وهو الآية الكريمة من سورة الأنفال، تقول لامشاحة في ان العدو إذا جنح للسلم ينبغي نحن ان نجنح لها متوكلين على الله، ولكن تطبيق هذا على واقع اليهود معنا غير صحيح، لان اليهود الغاصبين لم يجنحوا للسلم يوما وكيف يعتبر اليهود جانحين للسلم بعد ان اغتصبوا الأرض، وسفكوا الدماء، وشردوا الأهل واخرجوا الناس من ديارهم بغير حق؟ وما مثل اليهود من أهل فلسطين إلا كمثل رجل اغتصب دارك. واحتلها بأهله وأولاده واتباعه بالقوة والسلاح واخرجك واهلك وعيالك منها، وشردك في العراء وظللت أنت وعيالك تقاومه وتحاربه ويحاربك، وتقاتله ويقاتلك، كي تسترجع دارك، وتسترد حقك.. وبعد مدة طالت من الزمن قال لك: تعال اصالحك واسالمك، سأترك لك حجرة من الدار الكبيرة ـ دارك أنت ـ على أن تسالمني ولا تحاربني، وتسالمني ولا تنازعني فسأترك لك الأرض مقابل سلامي، مع أن الأرض أو الحجرة التي سيتنازل عنها في زعمه أرضك أنت مقابل سلامه هو! فهل يعتبر مثل هذا المغتصب المصر على اغتصابه جانحاً للسلم؟!
ان الآية التي ذكرها هنا ليست آية سورة الأنفال، بل آية سورة محمد (ص)]فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وانتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم[.
وننظر في الدليل الثاني للشيخ، وهو ان الهدنة تجوز مؤقتة ومطلقة فنقول: ان الهدنة معناها وقف القتال ولكن هل الذي وقع مع اليهود مجرد هدنة تترك فيها الحرب ويوقف فيها القتال ويكف الناس بعضهم عن بعض؟
الواقع يقول: ان الذي حدث بين اليهود والفلسطينين ليس مجرد هدنة، بل هو شيء أكبر وأخطر، واعتراف اليهود بأن الأرض التي اغتصبوها بالحديد والنار، شردوا أهلها بالملايين، أصبحت ملكاً لهم أصبحت لهم السيادة الشرعية عليها، وغدت حيفاً ويافا وعكا واللد والرملة وبير السبع، بل القدس نفسها أرضاً إسرائيلية وان هذه البلاد العربية الإسلامية التي ظلت أكثر من ثلاثة عشر قرناً مع المسلمين، صارت جزءاً من دولة ((إسرائيل)) اليهودية الصهيونية، ولم يعد لنا حق فيها، ولا حتى مجرد المطالبة بها، ومعنى هذا: ان ما أخذ بالسلاح والقوة اكتسب الشرعية!
ما حدث إذاً ليس مجرد هدنة كما تصور شيخنا الكريم، بل هو اعتراف كامل بحق (( إسرائيل)) في أرضنا الإسلامية العربية، وفي سيادتهم عليها، وانها اخرجت من أيدينا إلى الأبد! قد وقعنا على ذلك العقود وأشهدنا على ذلك الشهود! إننا هنا نخالف سماحة الشيخ في تطبيق الحكم الشرعي على الواقع الراهن، فهو تطبيق ـ في نظرنا ـ غير سليم.(29/281)
وقد جرت عادة الشيخ معنا في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي الذي يرأسه سماحته، ان لانفصل في الامور التي تحتاج إلى رأي الخبراء المتخصصين إلا بعد ان نسمع شروحهم وننصت لآرائهم ثم يحكم الفقهاء بعد ذلك. هذا ما يحدث في الامور المالية الاقتصادية حيث يدعى لشرحها خبراء المال والاقتصاد. ويحدث في الامور الطبية حيث يدعى لشرحها كبار المتخصصين من رجال الطب في الفرع الذي يبحث فيه. ويحدث هذا في الامور العلمية والفلكية حيث يدعى الأساتذة المتخصصون فيها لسماعهم والحوار معهم قبل ان يحكم أهل الفقه. وكان على الشيخ الكبير في هذا الموضوع الخطير الذي يتعلق بعدو ظللنا نحاربه لبغيه وعدوانه ـ ما يقارب من خمسين سنة بعد قيام دولته، وعشرات السنين الاخرى قبل قيام الدولة ـ ان يستمع إلى رأي الخبراء في السياسة والسلم والحرب، الخبراء الثقات المأمونين الذي لايدورون في فلك الحكام الخونة أو المتخاذلين ليعلم منهم: هل جنح اليهود للسلم فعلا؟ هل ان ما حدث هو مجرد هدنة أم اعتراف كامل يسقط حقنا بالكلية؟
والمسلمون في ديار الإسلام يعجبون من العرب كيف تغيروا ما بين عشية وضحاها، وجعلوا العدو صديقاً ووضعوا أيديهم في يد من قاتلهم وقتلهم أخرجهم من ديارهم وابنائهم، والموقف السلمي هنا ماحكاه القرآن ] وما لنا الا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وابنائنا[؟
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، آمين.
الدكتور هشام سعيد (نائب اردني وعالم في الحديث النبوي)
الحقيقة ان كلام الشيخ ابن باز بجواز الهدنة الدائمة أو الصلح الدائم مع اليهود هو ليس في محله وليس من الشرع وذلك لان الهدنة الدائمة والصلح الدائم مع اليهود المغتصبين للأرض وللمسجد الأقصى والقدس تقر لهم ذلك الاغتصاب والاحتلال، وهذا تنازل كامل وسلخ لفلسطين كلها والمسجد الأقصى المبارك عن الهوية الإسلامية وقدسيتها واعتراف ومباركة دولية تمكن اليهود من هذا الاحتلال وانه شرعي وضمن قرارات الأمم المتحدة، كما ان في ذلك اعتداء على الوقف الإسلامي الذي أوقفه عمر بن الخطاب ولا يجوز بيعه أو التنازل عنه والتفريط به. وكنا نأمل من ابن باز ان يفتي بالجهاد ودعم المجاهدين وتحرير الأرض المقدسة، وجمع الأموال لتلك الغاية، اما ان تكون تلك الفتوى من أجل استقرار وأمن هذا المغتصب فبأي حق يكون ذلك.
كما ان ابن باز عندما دعا إلى زيارة المسجد الأقصى فهو يفتح الباب أمام الزيارات وعدد كبير من هؤلاء الزائرين يذهبون لتحقيق الشهوات من خلال العلاقة مع اليهود وليس من أجل الصلاة، إذا كانت زيارة المسجد الأقصى سنُة فالعلاقات مع اليهود هي حرام فكيف نهتم بتحقيق السنّة ونرتكب الحرام، كما انه من المؤسف ان تكون هذه الفتوى مطابقة لتصرفات بعض الأنظمة والحكام، و يجب علينا ان لاننسى أيضا فتوى ابن باز الماضية بجواز قدوم القوات الأجنبية إلى المنطقة وجعلها أمراً مقبولا فنأمل ان يراجع ابن باز موقفه هذا وينظر إلى خطورة فتواه لانه ربما يمكن اليهود من احتلال مكة والمدينة أمام حكام متخاذلين و نتبع تخاذلهم بفتاوى إسلامية.
د. محمد فارس ( أحد علماء الشريعة في الاردن )
ما نشر في الصحف هو كلام عام والفتوى في واقعة وليست في كلام عام، والأصل أن يكون ابن باز صريحاً وان يقول الموقف الشرعي عن ما يجري على أرض فلسطين أو خارج أرض فلسطين و ان يذكر حكم الشرع فيه، حيث فهم الناس انه موافق على ما يجري وان الشرع يسمح بذلك. وما يجري هو ليس هدنة وإنما اليهود احتلوا وقاتلوا المسلمين في دينهم واقاموا دولتهم على أرض المسلمين، فكيف تكون الهدنة والصلح هي الحكم بل يجب أن يكون القتال والجهاد، فمن هنا الموقف الشرعي الأصل أن يكون واضحاً، لا لبس فيه ولا عرض، ومطلوب من ابن باز أن يتأكد، ما يطرح عليه من المسائل والأخذ بالحيطة والحذر، لما نعرفه من حقيقة العدو، وإذا تفاضى ابن باز عن تلك البديهية وأعطى فتواه فتلك كبيرة من كبائر. يكون قد اقترفها ابن باز، ومن يقول بقوله فنحن ننكر عليه هذا ونناشده ان يتراجع عن ذلك، لان في كلامه إقرار لليهود بأرض فلسطين الإسلامية، ويا عجبي ان يقوم (الشيخ) شمعون بيريز بتأييد فتوى ابن باز وهو مسرور منها جداً لانها تحقق لذلك (الشيخ) ما يريده اليهود ويبدو انها فتوى سياسية وليست شرعية أو دينية، وفقهاء السلطان موجودون في كل مكان وهؤلاء الناس لايؤخذ بفتواهم.
رسالة علماء السعودية إلى الشيخ بن باز
كتب عدد من علماء السعودية الرسالة التالية إلى الشيخ ابن باز ضمنوها مقدمة حول ظروف الرسالة ثم وجهوا إليه الخطاب التالي:
ونلخص ـ سماحة الشيخ ـ اجتهادنا في النقاط التالية:(29/282)
الصلح المزعوم هو عبارة عن هدنة مطلقة غير محددة بمدة معلومة، وهذا لايجوز، لانه تعطيل لشعيرة الجهاد في سبيل الله، بل ذهب كثير من أهل العلم إلى انه لاتجوز الهدنة أكثر من عشر سنوات ـ وهي المدة التي صالح عليها الرسو صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية، وهي الحادثة التي يحتج بها الكثيرون من مؤيدي الصلح. وبغض النظر عن هذا القول، فإنه مما لاشك فيه انه لايجوز عقد هدنة أبدية مع أي طائفة من طوائف الكفار، لا اليهود ولا غيرهم. جاء في المغني (13/ 154):.. لاتجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة، لانه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية.. .
ان تاريخ اليهود هو سجل حافل بالغدر والخيانة والتآمر فقد خانوا عهدهم مع أفضل الخلق r فكيف يكون مع غيره. يقول أحد زعمائهم (مناحيم بيغن) في كتابه ((الثورة قصة الارجون)): كما في كتاب ((نظرية الأمن الإسرائيلي)) ص 17: … لن يكون هناك سلام لشعب اسرائيل ولا في أرض اسرائيل، ولن يكون هناك سلام للعرب ولا في أرض العرب وستستمر الحرب بيننا وبينهم حتى لو وقع العرب معنا معاهدة صلح…!
يقول تعالى: أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ( البقرة 100) . انهم يفتعلون أكثر من مفهوم لأي بند كما حصل في اتفاقات كامب ديفيد ثم يحققون ما يريدون على ضوء الفهم الذي فسروا به بنود الصلح.
ان هذا الاستسلام سيوقعه عن الامة أناس لم تفوضهم الامة به وهم لايمثلونها ولا يؤتمنون على مصالحها لان حكمهم قائم على عقائد ومبادئ مغايرة للإسلام.
ان وراء جهود المصالحة خط أبعد لانهاء حالة العداء بين جميع الشعوب والأديان من منطلق بدعة النظام الدولي الجديد الذي يفترضون فيه ان تنتهي الخصومات والحروب بين الشعوب في ظل هيمنة العالم الغربي. وسيترتب على ذلك نزع السلاح ـ خاصة من أيدي المسلمين ـ بحجة انه لامسوغ له بعد المصالحة. كما سيترتب عليه ـ وهذا هو الأهم ـ جهود ضخمة للتطبيع، وتغييراً المناهج الدراسية والسياسات الإعلامية وغيرها لحذف كل ما يعتقدون انه إساءة إلى اليهود، ومنع الحديث عن هذه الامور باعتبارها إساءة إلى إحدى الدول المجاورة أو القريبة، ويمكن مراجعة الوثائق الخطيرة المنشورة في كتاب التطوير بين الحقيقة والتضليل وكتاب التاريخ بين حقيقة والتضليل للدكتور جمال عبدالهادي.
وسيترتب عليه رفع الحظر عن بضائعهم، وتبادل الخبرات والمصالح والمعلومات المتنوعة معهم. ولذلك بدأت الصحافة تطالعنا بمقالات وتحقيقات وندوات تؤكد انه لم يعد هناك أعداء للإسلام واننا يجب ان نقيم علاقتنا مع الجميع على ضوء المصالح المتبادلة فحسب!
الجلوس على مائدة المفاوضات مع اليهود، وعقد اتفاقات الصلح الدائم معهم هو إعتراف بدولتهم وحقهم على أرض فلسطين، ونزع لملكية الامة المسلمة لهذه الأرض المباركة بغير حق، وبغير رضا أو قبول من أصحاب الحق ـ وهم المسلمون ـ وهذا لايجوز، وهو عقبة في وجه الأجيال التي ستعمل على تحرير بلاد الإسلام من الغاصبين، فإذا لم يتمكن المسلمون الآن من اعلان الجهاد على اليهود، فلا أقل من ان يفتحوا الطريق لمن يصنع ذلك. وقد علمنا يقينا من الحديث المتفق عليه من ابن عمر ان للمسلمين معركة حاسمة مع اليهود، يقول فيها الحجر والشجر: يامسلم ياعبدالله هذا يهودي ورائي فاقتله. وفي حديث نهيك بن صريم: على نهر الاردن: نعم. على نهر الاردن بالذات!
من هو الذي يملك ـ شرعاً ـ ان يعقد الصلح مع اليهود؟ ان صلى الله عليه وسلم حين اراد مصالحة غطفان على ثلث ثمار المدينة استشار الصالحين من أهل المدينة أستشار السعدين ـ وهم أهل الأرض ـ فهل استشير الصالحون من أهل فلسطين في ذلك ؟ ومن هو ولي أمرهم المتكلم بأسمهم؟!
هل هناك معركة قائمة الآن بيننا وبينهم؟ أصحيح ان مثل هذا الخسف والهوان الذي يسمى السلام سيضع حدا لمعاناة المسلمين في فلسطين؟ ام انه سيجعل كافة الأطراف ضدهم في آن واحد؟ ومتى حدث في حقب التاريخ كلها ان يستولي الكفار على دولة إسلامية ثم يلتقي المسلمون على مائدة المفاوضات ليكتبوا لهم وثيقة اعتراف واستسلام، ويمنحوهم المزيد من المكاسب المادية والمعنوية؟!
ان صلى الله عليه وسلم حين هم بمصالحة غطفان لحماية أرض فلسطين ورد العدو حتى يتقوى المسلمون على قتالهم، وحين علم كراهية الأنصار لذلك رفضه فكان ذلك خيراً عظيماً للمسلمين، في كسر شوكة الأحزاب، وردهم بغيظهم لم ينالوا خيراَ. اما الاستسلام المعروض اليوم فليس معه جهاد ولا اعداد ولا تقوية للمسلمين في المستقبل ولا عن موافقتهم.
واخيراً ـ سماحة الشيخ: فاننا نعتقد ان الطريق الوحيد والمضمون لاحباط كيد اليهود، وحقن دماء المسلمين ورد الفتن العامة والخاصة هو الجهاد في سبيل الله، وتربية الناس على ذلك، واعدادهم له. وإذا لم نملك ذلك الآن فيجب ان يبدأ التوجه الصادق لتحريك همم الشعوب الإسلامية واعدادها اعداداً مادياً ومعنوياً Cولينصرن الله من ينصره، ان الله قوي عزيزb (الحج،40).(29/283)
وإذا لم نر مصلحة في ان ننكر هذه المصالحة ونردها، فلا أقل من ان يحفظ علماء المسلمين سمعتهم من ان تنالها الألسنة بسوء نتيجة اجتهاد كانت الامور كلها ستتم ـ والله اعلم ـ دون الحاجة إليه.
سماحة الشيخ: ان نريد إلا الاصلاح ما استطعنا، وما توفيقنا إلا بالله، عليه توكلنا وإليه ننيب. وفي المتفق عليه عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً : انما الاعمال بالنيات، وانما لكل امرئ ما نوى.
وفقنا الله وإياكم وسائر علماء المسلمين إلى ما فيه مرضاته. والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المقدمون
حمود بن عبدالله التويجري، عبدالله بن حسن القعود، حمود بن عبدالله بن عقلا الشعيبي، عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، عبدالله الحمد الجلالي، محمد بن صالح المنصور، سلمان بن فهد العودة، عبدالله بن حمود التويجري، ناصر بن عبدالكريم العقل، عبدالله بن صالح بن عبدالله الخضيري، عائض بن عبدالله القرني، علي بن محمد الدخيل الله، عبدالله بن محمد بن خنين، صالح بن محمد الونيان، إبراهيم بن محمد الدنيان، صالح بن محمد السلطان، عبدالمحسن بن ناصر العبيكان، سعيد بن مبارك آل زعير، سعد بن عبدالله الحميد، محمد بن سعيد القحطاني، عبدالله بن إبراهيم الطريقي، عبدالوهاب بن ناصر الطريري، سعيد بن نصار الغامدي، عبدالرحمن بن نصار البراك.
عن مجلة العالم
==============(29/284)
(29/285)
مبادئ الصلح مع اليهود في فلسطين
س: ما بيان الحكم الشرعي في الصلاح مع دولة اليهود المحتلة ، وفي المحالفات مع الدول الاستعمارية والأجنبية المعادية للمسلمين والعرب والمؤيدة لليهود في عدوانهم ؟
…السؤال
والجواب : يظهر من السؤال أن فلسطين أرض فتحها المسلمون وأقاموا فيها زمنًا طويلاً ، فصارت جزءًا من البلاد الإسلامية أغلب أهلها مسلمون ، وتقيم معهم أقلية من الديانات فصارت دار إسلام تجري عليها أحكامها ، وأن اليهود اقتطعوا جزءًا من أرض فلسطين وأقاموا فيه حكومة لهم غير إسلامية ، وأجلوا عن هذا الجزء أكثر أهله من المسلمين ، ولأجل أن نعرف حكم الشريعة الإسلامية في الصلح مع اليهود في فلسطين المحتلة دون نظر إلى الناحية السياسية - يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أي بلد من بلاد المسلمين هل هو جائز أو غير جائز ، وإذا كان غير جائز فما الذي يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان - إن هجوم العدو على بلد إسلامي لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه ، فدار الإسلام يجب أن تبقى بيد أهلها ، ولا يجوز أن يعتدي عليها أي معتد ، وأما ما يجب على المسلمين في حالة العدوان على أي بلد إسلامي فلا خلاف بين المسلمين في أن جهاد العدو بالقوة في هذه الحالة فرض عين على أهلها . يقول صاحب (المغني) : يتعين الجهاد في ثلاثة : الأول : إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان . الثاني : إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم . الثالث : إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير ؛ ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أي اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم ، قال الله تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ) [ الأنفال : 60] . فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدي عليهم لدينهم ، وضد كل من يطمع في بلادهم ، فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها ، والخلاف بين العلماء في بقاء الجهاد أو عدم بقائه وفي أنه فرض عين أو فرض كفاية ، إنما هو في غير حالة الاعتداء على أي بلد إسلامي ، أما إذا حصل الاعتداء فعلاً على أي بلد إسلامي ، فإن الجهاد يكون فرض عين على أهلها . وقد بحث موضوع الجهاد الحافظ ابن حجر ، وانتهى إلى أن الجهاد فرض كفاية على المشهور ، إلا أن تدعو الحاجة إليه كأن يبدأهم العدو ، وإلى أن التحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه . وعلى ضوء هذه الأحكام يحكم على ما فعله اليهود في فلسطين بأنه اعتداء على بلد إسلامي يتعين على أهله أن يردوا هذا الاعتداء بالقوة حتى يجلوهم عن بلدهم ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية وهو فرض عين على كل منهم ، وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين ، ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها دارًا لكل مسلم ، فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولاً ، وعلى غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانيًا ؛ لأنهم وإن لم يعتد على بلادهم مباشرة ، إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي هي جزء من البلاد الإسلامية . وبعد أن عرفنا حكم الشريعة في الاعتداء على بلد إسلامي يمكننا أن نعرف حكم الشريعة في الصلح مع المعتدي ، هل هو جائز أو غير جائز . والجواب : إن الصلح إذا كان على أساس رد الجزء الذي اعتدي عليه إلى أهله كان صلحًا جائزًا ، وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحًا باطلاً ؛ لأنه إقرار لاعتداء باطل ، وما يترتب على الباطل يكون باطلاً مثله . وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة مع أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيها مصلحة للمسلمين ؛ لقوله تعالى : ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ) [ الأنفال : 61] . وقالوا : إن الآية وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هي قوله تعالى : ( فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) [ محمد : 35] . فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع ، ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التي سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها إليها لا يحقق إلا مصلحتهم ، وليس فيه مصلحة للمسلمين ؛ ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية ، إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين . أما هذه الشروط والقيود فلا نتعرض لها ؛ لأن غيرنا ممن اشتغل بهذه القضية أقدر على معرفتها وبيانها على وجه التفصيل منا . والجواب عن السؤال الثاني : إن الأحلاف والمعاهدات التي يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة من الناحية الشرعية إذا كانت في مصلحة المسلمين ، أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامي كاليهود المعتدين على فلسطين ؛ فإنه يكون تقوية لجانب المعتدي يستفيد منه هذا الجانب في الاستمرار في(29/286)
اعتدائه ، وربما في التوسع فيه أيضًا ، وذلك غير جائز شرعًا ، ونفضل على هذه الأحلاف أن يتعاون المسلمون على رد أي اعتداء يقع على بلادهم ، وأن يعقدوا فيما بينهم عهودًا وأحلافًا تظهرهم قولاً وعملاً يدًا واحدة
، تبطش بكل من تحدثه نفسه بأن يهاجم أي بلد إسلامي ، وإذا أضيف إلى هذه العهود والمواثيق التي لا يراد منها الاعتداء على أحد وإنما يراد منها منع الاعتداء السعي الحثيث بكل وسيلة في شراء الأسلحة من جميع الجهات التي تُصَنِّع الأسلحة ، والمبادرة بصنع الأسلحة في بلادهم لتقوية الجيوش الإسلامية المتحالفة . فإن ذلك كله يكون أمرًا واجبًا وضروريًّا لضمان السلام الذي يسعى إليه المسلم ، ويتمناه لبلده ولسائر البلاد الإسلامية ، بل ولغيرها من البلاد غير الإسلامية . ويظهر أن لليهود موقفًا خاصًّا ، فلم يعقد مع أهل فلسطين ولا أية حكومة إسلامية صلحًا ، ولم تجل بعد عن الأرض المحتلة وهي موجودة بحكم سياسي ، هو الهدنة التي فرضتها الدول على الفريقين ، ونزلت على حكمها الحكومات الإسلامية إلى أن يجدوا حلاًّ عادلاً للمسألة ، ولم يرض بها اليهود ونقضوها باعتداءاتهم المتكررة التي لم تعد تخفى على أحد ، وكل ما فعله المسلمون واعتبره اليهود اعتداء على حقوقهم هو محاصرتهم ، ومنع السلاح والذخيرة التي تمر ببلادهم عنهم ، ولأجل أن نعرف حكم الشريعة في هذه المسألة نذكر أن ما يرسل إلى أهل الحرب نوعان : النوع الأول : السلاح ؛ وما هو في حكمه . الثاني : الطعام ونحوه . النوع الأولى : قد منع الفقهاء أن يرسل إليهم عن طريق بيع السلاح ؛ لأنه فيه تقويتهم على قتال المسلمين ، وكذا الكراع والحديد والخشب ، وكل ما يُستفاد به في صنع الأسلحة ، سواء حصل ذلك قبل الموادعة أو بعدها ؛ لأنها على شرف النقض والانقضاء فكانوا حربًا علينا ، ولا شك أن حال اليهود أقل شأنًا من حال من وادعهم المسلمون مدة معينة على ترك القتال ، وعلى فرض تسمية الهدنة موادعة فقد نقضها اليهود باعتداءاتهم ، ونقض الموادعة من جانب يبطلها ، ويحل الجانب الآخر منها . وأما النوع الثاني : فقد قالوا : إن القياس يقضي في الطعام والثوب ونحوهما بمنعهما عنهم ، إلا أن عرفنا بالنص حكمه ، وهو أن صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه ، وقد ورد النص فيمن تربطه ب صلى الله عليه وسلم صلة الرحم ؛ ولذلك أجابهم إلى طلبهم بعد أن ساءت حالتهم ، وليس هذا حال اليهود في فلسطين ، ولذلك نختار عدم جواز إرسال أي شيء إليهم أخذًا بالقياس ، فإن إرسال غير الأسلحة إليهم يقويهم ويغريهم على التشبث بموقفهم الذي لا تبرره الشريعة
=================(29/287)
(29/288)
قضية فلسطين بين العروبة والإسلام
أولاً ـ مَنْ أصحاب القضية ؟
لاشكّ في أن لكل قضية صاحباً أو أصحاباً، وإذا كان ثمة قضية فلسطينية فمن هم
أصحابها؟ وللجواب على هذا السؤال لابدّ في البداية من تحديد المعنيين بهذه
القضية، وبالتالي فالمعنيون بها إلى حدّ التبني هم أهلها وأصحابها.
كما لابدّ أيضاً من تبيان أمر مهم يتعلق بالدراسة وهو: أنّ هذه القضية سميت
ودعيت قضية فلسطين شكلاً وعنونة، لأنّ المضمون ليس «فلسطين» باعتبارها قطعة ارض
جغرافية، وإنما المضمون فلسطين من حيث كونها حاضناً «للقدس الشريف» والقدس
مدينة مقدّسة لدى المسلمين، كمكةَ المكرّمة والمدينة المنوّرة، فهي تضمّ المسجد
الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى الرسول محمد صلى الله عليه وآله
وسلم ومعراجه الى السموات العلى.
بيدَ أنّ هذا لا يعني إبعاد خط الجغرافيا والعِرق من أن يكون أربابها معنيين
بها وأحق بها وأهلها. فها نحن أولاء ـ إذاً ـ أمام ثلاثة امتدادات للمسؤولية عن
فلسطين وقضيتها:
فالمسلمون معنيون وهم أولو امتداد القدس عقيدة وشريعة، والعرب الذين بنوها ـ
أعني القدس ـ معنيون بالمسؤولية بدافع واجب التاريخ والأصالة والجغرافيا،
والفلسطينيون بالذات هم أهل الامتداد الثالث: لأن فلسطين وطنهم الشرعي وأرضهم
ومحل امتلاكهم.
فالقدس ـ في النهاية ـ لبّ فلسطين وجوهرها، وهي عربية النشأة إسلامية الهوية،
تشكّل مع المدينتين المقدّستين ـ مكة المكرمة والمدينة المنورة ـ محوراً رمزياً
يتجاوز قضية الجغرافيا ولا يهملها، بل غدا قضية على مستوى الصراع الحضاري، وقد
أريد له أن يكون مجرد حالة دينية ضيقة تتحرك في هامش الخصوصيات الإسلامية
الذاتية الغارقة في الصراعات الصغيرة(1)، وأن يُعزل عن كل مواقع القوة، ويُقصى
عن مواطن القداسة الروحية المتمثلة في خصوصيته المنفتحة على كل قداسات الديانات
الإلهية.
نعم القدس عربية لأنّ الكنعانيين بنوها: وهي إسلامية، وإسلاميتها ممتدة، لأنّ
هذه الإسلامية لاتقتصر على خصوصيات المرحلة الإسلامية المنطلقة من نبوة محمد
صلى الله عليه وآله وسلم ، بل كانت بدايتها منذ انطلاقة صفتها الدينية المقدّسة
في وعي الأنبياء الذين عاشوا فيها وهاجروا إليها وتحرّكوا في رحابها وامتدوا
إلى ما حولها، وقد تعاقب على القدس من الأنبياء ما لم يتعاقب على مكة المكرّمة.
وهكذا وبناءً على ما سبق، فليتقدّم الفلسطينيون المواطنون الشرعيون، ومعهم
العرب بناة القدس ومشيّدوها وأهل أرضها، ومع هؤلاء وأولئك المسلمون الذين ترتبط
القدس لديهم بالعقيدة والشريعة والتاريخ.
ثانياً ـ القدس في نصوص الدين الإسلامي:
قال الله تعالى: ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) الإسراء:1.
وقال تعالى : (يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة ) المائدة:21. والأرض المقدّسة
هي القدس.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " إن الجنة لتحنُّ شوقاً إلى
بيت المقدس، وبيت المقدس من جنة الفردوس وهو سرّة الأرض "(2).
ـ وعن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت : قلت يا
رسول الله، أفْتِنَا عن بيت المقدس. قال صلى الله عليه وآله وسلم : " نعم
المصلى، هو أرض المحْشَر، وأرضُ المنْشَر، إيتوه فصلّوا فيه، فإن الصلاة فيه
كألف صلاة " قلت: بأبي وأمي أنت، ومَنْ لم يُطق أن يأتيه؟ قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم : " فَلْيُهْدِ إليه زيتاً يُسرَجُ فيه، فإن من أهدى إليه
كمن صلّى فيه " (3).
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " مَنْ أهلّ بحجة أو بعمرة من
المسجد الأقصى غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر "(4).
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى،
أنّه عزّ وجل قال : " أنت جنّتي وقُدسي، وصفوتي من بلادي، من سكنك فبرحمة مني،
ومن خرج منك فبسخط مني عليه "(5).
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " لا تزال طائفة من أمّتي على
الدين ظاهرين، لعدوّهم قاهرين، لا يضرّهم من خالفهم، ولا ما أصابهم من البلاء،
حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك " . قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: " في بيت
المقدس وأكناف بيت المقدس " (6).
ـ وقال صلى الله عليه وآله وسلم : " لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد،
المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى "(7).
ـ وعن أبي ذرّ رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة
في بيت المقدس أفضل، أو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " صلاة في مسجدي هذا خير من أربع صلوات فيه،
ولَنِعْمَ المصلى ـ أي بيت المقدس ـ هو أرض المحشر والمنشر، وليأتينَ على الناس
زمانٌ ولَقيدُ سوطِ، أو قال: قوس الرجل حيث يرى منه بيت المقدس خير له، أو أحبّ
إليه من الدنيا جميعاً " (8).
ثالثاً: ـ النصر على الصهيوني المحتل طريقه المقاومة الموحّدة:
1 ـ هاكم كلمة في التمهيد: وليعلم من يريد أن يعلم:(29/289)
أ ـ أنّ انتصار الصهيونية في هذه الفترة وتحقيق أهدافها ومخطّطاتها لم يكن
انتصار رسالة على رسالة، ولا انتصار أمة على أمة، ولا انتصار دين على دين، ولا
حقّ على باطل، فإنّ اليهود ليست لهم أية رسالة في هذا العصر. كما لم يكن هناك
معركة بين اليهود والأمة الإسلامية، أو الشعوب العربية. فإنه لم يُسمح لهذه
الأمة، ولا لهذه الشعوب أن تخوض هذه المعركة وتبرز جدارتها وكوامنها، ولم يسمح
كذلك للإسلام بالخوض في حرب حزيران، بل عزل عن الميدان وأقصي عن ساحة الحرب
بتصميم وإرادة.
إنّ جلّ ما هنالك في ذاك الانتصار أنه انتصار أقدر قيادة على أخيب قيادة(9).
ب ـ إن قضية فلسطين سهلة هيّنة، وانتصار العرب مضمون إذا كانوا أحراراً في
تصرّفهم. مالكين لزمامهم، مدبّرين لسياساتهم، مغامرين بأرواحهم وجنودهم،
محكِّمين لسيوفهم وأسنّتهم، واثقين بنصر الله، معتمدين على سواعدهم فقط،
متمرّدين على المادة والشهوات، مصمّمين على الكفاح والجهاد.
وعلى القضية أن تملك علينا المشاعر والتفكير وتغدو الهم الشاغل والهاجس الذي لا
يغادر.
يقول القاضي بهاء الدين المعروف بابن شدّاد المتوفى سنة 632هـ عن صلاح الدين
محرّر القدس من الصليبيين: «تاب عن المحرمات، وترك الملذات، ورأى أن الله خلقه
لأمر عظيم، لا يتفق معه اللهو والترف، ولقد كان حبّه للجهاد والشغف به قد
استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، حيث ما كان له حديث إلا فيه،
ولا نظر إلا في آلته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره
ويحثّه عليه، وكان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال)(10).
مسؤولية فلسطين قد قسمت على شعوب كثيرة، ولكن ليس من شعب بأولى من شعب في تحمل
كل المسؤولية أو جلّها، فهي في النهاية مسؤولية الجميع.
2 ـ إشارات لها دلالتها:
اليهود الصهيونيون يعيثون فساداً وينفثون السموم، سمّهم عداوة وبغضاء، وحقد
وكراهية، ومكر وخداع، وقتل واستباحة وتشريد، وتلفيق وأكاذيب، كالحيّات السامة
القاتلة، ومن كان كذلك فحظّه القتل أنّى كان، كالحية الزعفاء، ولذلك قال النبي
صلى الله عليه وآله وسلم : " ما سالمناهنَّ منذ حاربناهنَّ ـ يعني الحيّات ـ
ومَنْ ترك قتل شيء منهن خيفة فليس منّا "(11). ويقول صلى الله عليه وآله وسلم
: " من قتل حيّة فله سبع حسنات " (12). وقال أيضاً: " اقتلوا الحيات كلّهن
"(13).
فاليهود الصهاينة لا يُسالمون على اختلاف أسمائهم وأسماء أحزابهم ، فهم في
الإيذاء جميعاً سواء ، قتلوا الأنبياء واعتدوا على الحرمات ، وكذبوا على الله ،
وشوهوا صور الملائكة ، ونالوا من الأبرياء ، ولم يسلم منهم الأطفال والنساء
العفيفات لقين منهم العنت وما من رذيلة إلا فعلوها . فيا أمة الخير لا لقاء مع
الشر ، إلا بمواجهة و مجاهدة ويا أمة الإيمان لا لقاء مع الكفر المعتدي الآثم
إلا مضارعة مقاتلِة ، ويا أمة الوفاء لا لقاء مع الغدر الحاقد الظالم إلا
مناورة مسالِحة .
3 ـ وللعربي الواعي فارس الخوري رأي :
نصيحتي لكل عربي ولكل مسلم ولكل عامل في الحقل الوطني والسياسي أن لا صلحَ مع
اليهود مهما يكن نوع الصلح ومداه ، فإن أي صلح مع اليهود مهما كان نوعه ، ومهما
يكن السم الذي يعنون به هو تضحية بالأمة العربية على مذبح الحماقة والجهل
والمطامع الوقتية ، وهو عار يلحق مرتكبه على مدى الأزمان ، لأنه سيكون حتماً
بداية القضاء على هذه الأمة وعلى جميع مقوماتها المادية والروحية .
ثم إن عقد الصلح مع اليهود سيجعل العرب مسؤولين دولياً عن المحافظة على الوضع
الذي سينشأ عن قيامه ويفقدهم حرية العمل ، ويجعل من العسير عليهم القيام في
المستقبل بأي عمل يرجى منه صيانة عروبة فلسطين فضلاً عن تحريرها .
ولا يصدقن أحد ما تردده دوائر الاستعمار من أن الصلح مع اليهود سيقر الأمن
والسلام في الشرق الأوسط كما تزعم الدول الاستعمارية وستضع حداً للمطامع
اليهودية في بقية الأقطار الأخرى ، لأن اليهود سيلجؤون لأساليب أخرى في القضاء
على الأمة العربية ـ لو تم صلح ما معهم ـ عن طريق نشر المبادئ والآراء والعقائد
والأخلاق التي تجافي آداب العرب وروح الإسلام والمسيحية في هذه الديار، مما
يسهل عليهم بمرور الزمان القضاء على الكيان العربي وعلى الروح الإسلامية القضاء
المبرم الذي لا نهوض بعده .
فليتدبر المسلمون والعرب أمرهم ، وليقاوموا أشد المقاومة كل فكرة لفرض صلح
عليهم مع اليهود ، وليستعدوا دائماً وأبداً للجولة الحاسمة ولو اقتضى الأمر من
الصبر قروناً وأجيالاً» (14).
وأخيراً خاتمة :
نفحة من ذكرى القدس
يا أولى القبلتين، يا ثالث الحرمين، يا أيها المسجد الأقصى . ذكراك ذكرى
السَّعة والشمول ، إذ كنت القبلة أولاً لصلاة ترفع إلى الله ، ومن أوسع من الله
! ومن أشمل منه إذ يُتوجه إليه؟!
ذكراك ذكرى الحَصانة والحضانة ، فأنت ثالث الحرمين ، وقد جعلك الله حرماً يرمز
إلى أمان ، ومكاناً يعبِّر عن اطمئنان ، و مشعراً يشعر بالالتزام بما أمر به
الدَيَّان . ذكراك ذكرى الاستيعاب ، فما من حد إلا و أنت بحدودك له أقصى منه ،(29/290)
وبإحاطتك به أكبر منه . زُرتُكَ يا مسجد الصخرة في سنٍ صغيرة ، لكن المعاني
التي سكبتها فيَّ كانت كبيرة ، وها أناذا أنهل منها ما يجعلني أُجَدِّد الولاء
لشِرعةٍ حكت عنك حكاية الرفعة ، وأسعى لتثبيت دعائم الإيمان في جذور منتفضين
ذكَّرونا قصة المَنَعة.
فيا قدسُ : شوقي إليك يزيد ، ويا قدس ها أناذا بين يديك مريد . عهداً أن أعيش
معك في سري وإعلاني ، وقسماً أن أبقى أردِّدك نشيداً من أفضل ألحاني .
دمت يا قدس ؛ مسرى الرسالة ، و معراج النبوة ودامت ثقتك بأتباعك ليكونوا على
مستوى الرجولة و النبالة
.
بقلم الدكتور الشيخ محمود عكام
دمشق ، صحيفة تشرين ، مدارات ، الاحد 1 تموز 2005
الهوامش :
(1) ـ وتتميز المرحلة على مساحة منتصف القرن العشرين ، وإلى أيامنا بالتقاء
الصليبية السياسية الغربية ولا سيما الأمريكية الصهيونية في خطة تتكامل في
عناصرها وتتوحد في مصالحها .
(2) ـ أخرجه ابن مندة كما في فضائل القدس لابن الجوزي .
(3) ـ أخرجه أحمد . والزيت هنا يمكن أن يتنزل على البترول العربي والمسلم ،
فالبترول زيت ، وبالتالي على بلاد البترول تخصيص جزء من عائداته للأقصى جهاداً
وتحريراً وصيانة ورعاية وعناية .
(4) ـ أخرجه أبو داود والبيهقي .
(5) ـ أخرجه ابن الجوزي في فضائل القدس .
(6) ـ أخرجه أحمد .
(7) ـ أخرجه البخاري .
(8) ـ أخرجه البيهقي . وقد ورد في الأثر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
: من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس ، وقال صلى
الله عليه وآله وسلم من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء . انظر: حسن
الباش ، القدس بين رؤيتين ، دار قتيبة ، دمشق .
(9) ـ انظر المسلمون وقضية فلسطين لأبي الحسن الندوي ، العلامة الداعية ، ط :
المجمع الإسلامي في الهند .
(10) ـ النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية ، ص19.
(11) أخرجه أبو داود .
(12) أخرجه أحمد .
(13) ـ أخرجه أبو داود .
(14) ـ فارس الخوري وأيام لا تنسى للأستاذ محمد الفرحاني ، ص/ 304 ـ 305.
===============(29/291)
(29/292)
الإرهاب والعنف في الإسلام
اما المعاهدات
في الإسلام فيمكن ردها إلى ثلاثة أنواع وذلك لجملة العهود التي عقدها المسلمون مع غيرهم وهي: عهد الأمان ، وعهد الذمة ، وعهد الصلح.
عهد الأمان:
هو عهد مؤقت لا تزيد مدته في العادة عن سنه يعقده المسلمون مع أحد الحربيين اي مواطني العدو أو عدد محدود منهم، ويسمى هؤلاء بعد حصولهم على الأمان باسم (المستأمنين) ، حتى إذا انتهى مفعول العهد الممنوح لهم عادوا حربيين.
عهد الذمة:
هو نوع من العهود كان يتم عقده بين قادة جيوش الفتح (الغزو) وبين سكان البلاد المفتوحة اللذين اختاروا البقاء على ديانتهم الأصلية مع دفع الجزية .
وبمجرد توقيع هذا العهد تطبق على المعاهدين الذميين قواعد القانون الإسلامي ( الشريعة).
عهد الصلح:
معاهدة تاتم بين دار الإسلام من جهة وبين دار الحرب من جهة ثانية.
والصلح في الشرع الإسلامي عبارة عن عقد على ترك القتال مدة معلومة لازمة يقع بين طرفين في زمن محدد بشروط مخصوصة.
وعهود الصلح لا تزيد مدتها من الناحية الشرعية عن عشر سنوات
تقليداً لصلح الحديبية الذي عقده محمد مع القريشين وكانت مدته كذلك.
وللمعاهدات في الإسلام شروط وهي :
أولا: الا تخالف المعاهدة حكماً من الأحكام الشرعية: لكي تنعقد المعاهدة بشكل صحيح يجب الا تخالف اي حكم قطعي وارد في القران وذلك نزولاً عند حكم الحديث القائل{ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل} فتاوى ابن تيمية 3/329.
2} ان يكون في ذلك مصلحة للمسلمين: فان لم يكن للمسلمين مصلحة كتجاوز ضعف، أو توفير مال، أو توقع إسلام المعقود معهم الصلح، فلا يهادنون بل يقاتلون حتى يسلم الكفار أو يدفعون الجزية.
3} ان لا يكون في العقد شرط يأباه الإسلام منها:
اعتراف أو إقرار الكفار على جزء ولو كان شبراً من ارض المسلمين لانه لا يجوز لاحد ان يتصرف فيما لا يملك ولا يفاوض عليه.
يقول الإمام مالك: { إذا وقع الخليفة الصلح000 والمسلمون لا يرون الا الجهاد فمهادنته منقوصة وفعله مردود}. راجع فتح العالي لإمام مالك 1/289.
الاستنفار للجهاد : إذا تعين الجهاد بطل الصلح كما إذا دخل العدو ارض المسلمين أو كان طالباً لهم. وحيث تعين الجهاد في موضع لم يجز فيه الصلح.
4} ان لا تزيد مدة المصالحة عن أربعة اشهر عند قوة المسلمين وأمنهم ولا تجوز الزيادة عن عشر سنين ولا إطلاق المدة.
فلا بد ان تكون المصالحة معلومة محدودة لان تركها من غير تقدير يقتضي إلى ترك فريضة الجهاد بالكلية هذا في حالة كون العدو في بلاده أو بأطراف البلاد الإسلامية على الحدود اما ان اخذ العدو جزءاً من بلاد الإسلام وادعى ملكيته لهذا الجزء ، وانكر حق المسلمين فيها وجار عليهم في العدوان. فان المصالحة أو المهادنة أو المسالمة لا بإجماع آراء الفقهاء في كافة العصور الإسلامية.
اما إذا كان المسلمين في حالة ضعف كمثل الذي هم عليها ألان ، فلا بأس في ان يعقدوا صلح مؤقت مع أعدائهم الى ان يزول سبب ضعفهم.
فان كان سبب ضعف المسلمين لأسباب خارجة عن أرادتهم وظهور قوة عدوهم عليهم، جاز لهم المهادنة والمصالحة لمدة محدودة ومعلومة حتى يزول سبب الضعف.
فالصلح المطلق والمقود والمتضمن ترك الجهاد يجب نقضه لانه بمقضي الشرع غير مبرم ، وحكمه غير لازم عند كل من حقق في أصول الشريعة.
أما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك. راجع تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي في شرحهم لآية سورة محمد 35. والتوبة 5 .
قال الطبري في تفسيره : إذا كان المسلمون في حالة ضعف: رخص لهم في موالاتهم - اي في موالاة الأعداء- إذا أخافوهم، والمراد بتلك المولاة محالفة ، ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة، والبغضاء، وانتظار زوال المانع من قصر العصا، وإظهار الطرية. راجع تفسير الطبري في شرحه لآية آل عمران 28.
اما إذا كان المسلمون في حالة ضعف والعياذ بالله ، فلا باس ان جنحوا مع الأعداء إلى السلم، ان يجنح لهم المؤمنون.{وان جنحوا للسلم فاجنح لها} أنفال 61.
اما ان كان المسلمون في حالة قوة تسمح لهم بالمقاومة، فلا يجوز شرعا عقد سلم او مصالحة وذلك لقوله : { فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأعلون} . محمد 35.
" فلا تهنوا" إي لا تضعفوا عن الأعداء " وتدعوا إلى السلم" أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعدتكم ولهذا قال "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون أي في حال علوكم على عدوكم . راجع تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي والشوكاني والواحدي في شرحهم لآية سورة محمد 3.
اذن يتضح من استعرا ضنا لأحكام وأسباب معاهدات الصلح في الإسلام، ان السلام المعقود ما بين العرب المسلمين وبين إسرائيل ، هو من وجهة نظر عربية إسلامية شرعية تكتيك وليس استراتيجية... تكتيك يتقي فيه المسلمون العرب شر دخول الحرب مع إسرائيل .. انها التقية بحسب المصطلح الإسلامي .
هذا ليس ايماني وحدي . بل هذا ما اتفق عليه أكثرية علماء أمة الإسلام.(29/293)
يقول الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق في كتابه (حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود، وموقف المسلم منها) : اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ رسول الله رسالته والى أن يخرج الدجال.
اليهود أعداء هذه الأمة منذ بدأ الرسول- صلى الله عليه وسلم - دعو إلى الله، وستظل عدواتهم إلي هذه الأمة إلى قيام الساعة، ..... إلى أن يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلا ((يا مسلم هذا يهودي ورائي فأقتله)) (متفق عليه)، وحتى يخرج آخرهم في ركاب الدجال.
وعداء اليهود لأهل الإسلام ورسوله إنما كان حسدا وبغيا، حسدا أن تنتقل الرسالة والنبوة من فرع إسحاق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله ودينه وشرعه . .....
ومن ظن أن الحرب والعداوة توضع بين المسلمين واليهود فهو مكذب بوعد الله، ودينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر بالله سبحانه وتعالى، فإن أصل الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ولا يجوز لمسلم أن يجمع في قلبه بين حب الله والمؤمنين وموالاة أعدائه .....
فلا مودة بين المسلم والكافر إلا أن يصبحا كافرين أو مسلمين فإما أن يدخل الكافر في الإسلام فيكون أخا لنا نحبه ونواليه، وإما أن يخرج المسلم من الإسلام فيكون محبا وأخا للكافر ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم
فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) (المائدة\51).
لا دعوة للمسلم إلا إذا ذل الكافر واستسلم أو كان دفعا لمفسدة أكبر بارتكاب مفسدة أقل:
الأصل في العلاقة بين المسلمين والكفار هي العداوة والحرب وذلك لقوله تعالى : (( وقاتلهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) (الأنفال 3)، وقوله تعالى : ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ))(التوبة 29) والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا وكلها تأمر أن يباشر المؤمنون القتال حتى يكون خضوع الجميع لدين الله وشرعه إما طوعا وإما ذلا وقهرا.
ولم يسمح الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام أن تدعوا إلى السلم مع الكفار إلا في إحدى حالتين:
أ- أن يذل الكفار ويضعفوا وتخور قواهم ويجنحوا إلى السلم، فعند ذلك يكون السلم في صالح المسلمين لأن عقيدتهم أقوى، وفعلهم أكبر، وبذلك يفتح المجال لدخول الناس في الدين كما كان الشأن بين الرسول وقريش.
ب- أن يكون الصلح من باب ارتكاب أخف الضررين فيلجأ المسلمون إليه دفعا لمصيبة أعظم كما هم الرسول أن يصالح غطفان على نصف ثمار المدينة حتى يفك تحالفهم مع قريش، وينفرد النبي بقتال قريش بعد ذلك..
أما في غير هاتين الحالتين فإنه لا يجوز للمسلمين الدعوة إلى السلام كأن يكون ركونا للدنيا وكراهة للجهاد أو خوفا من كثرة الكفار، وذلك أن، أهل الإيمان ينصرون مع قلتهم على الكفار على كثرتهم، وهذه سنة الله الجارية أبدا في عباده((كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )) (البقرة\249)، (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا * سنة الله التي قد خلت من قبل
ولن تجد لسنة الله تبديلا)) (الفتح\22-23)
وأما الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائيا، ومصالحة الكفار أبدا ونبذ الحرب والقتال مطلقا، فهذا كفر بالله تعالى مخرج من ملة الإسلام، وإلغاء لفريضة الجهاد التي جعلها الله فرضا على كل مسلم إلى يوم القيامة كما قال تعالى : ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم ))(البقرة \21) وكتب بمعنى فرض ..... فالجهاد ماض بعد فتح مكة إلى يوم القيامة، وهو إما خروج بالنفس وهذا الفرض العيني، وإما نية دائمة لكل مسلم يجب أن يصحبها دائما، ويموت عليها، فيكون مستعدا لمزاولة القتال في كل حال، قائما به في حالة الوجوب العيني، وإلا أثم .
ان الاتفاقيات التي عقدت بين بعض الساسة العرب واليهود باطلة شرعا لا يجوز للمسلم اعتقاد صحتها، ولا تنفيذ شيء منها إلا مكرها مجبرا فيما يجوز فيه الإجبار والإكراه .
الأدلة على هذا الحكم (أي حكم بطلان هذه المعاهدات،ما يلي :
1) في هذه المعاهدات .. وضع الحرب إلى الأبد بين المسلمين واليهود وهذا شرط باطل:لا يجوز للمسلم أن يشارط الكفار يهودا كانوا أو غيرهم على وضع الحرب إلى الأبد بين المسلمين وبينهم، فإن القتال فريضة قائمة إلى يوم القيامة، ولا يجوز إلغاءه من التشريع، ومن اعتقد عدم وجود الجهاد، أو سعى إلى إلغاءه أو إبطاله فهو كافر بالله سبحانه وتعالى كفرا مخرجا من ملة الإسلام، ومكذبا بمعلوم من الدين ضرورة.
فالقتال فريضة ماضية إلى يوم القيامة وقد قامت أدلة القرآن والسنة وإجماع الأمة على ذلك في كل عصورها، ولكن يجوز وضع الحرب فقط دون تحديد سنوات.
أما النص على أن الحرب انتهت بين المسلمين والكفار، وأن هذا عهد للسلام الدائم والشامل فهو إبطال لفريضة الجهاد وإقرار للكافر على كفره، ولا يجوز هذا لمسلم أبدا، إلا أن يكفر بالله ورسالاته.(29/294)
2) المعاهدات نصت على إزالة أسباب العداوة والبغضاء وإزالة كل نصوص التشريع التي تبقي هذه العداوة..
وهذا الشرط باطل لأنه يخالف أصل الإيمان الذي يقوم على التفريق بين المسلم والكافر وأن الكافر عدو لله أبدا حتى يسلم ويتخلى عن كفره، وقد حرم الله على المؤمنين موالاة الكفار ومودتهم حتى لو كانوا آباء أو, أبناء أو أخوة أ, عشيرة أو أزواجكما قال تعالى : (( لا تجد قوما يؤمنون بالله و باليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ))(المجادلة 22. راجع كتاب (حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود، وموقف المسلم منها) للشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق . الكتاب موجود على العنوان لتالي : http://www.salafi.net
يقول الشيخ الدكتور عبد القادر بن عبد العزيز في كتابه الجامع في طلب العلم الشريف : ولا يمنع المسلمين من الجهاد إلا العجز،وذلك لقوله تعالى: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السَّلم وأنتم الأعلون(، فما دامت بالمسلمين قوة وكانوا أعلى من عدوهم فلا سِلْم ولا هدنة ولا صلح، بل القتال حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وذلك لأن آخر ما نزل في الجهاد هو قوله تعالى: )فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم(، فهذه الآية وآية الجزية بنفس السورة أمر بالقتال العام، وهو من أواخر ما أنزل من القرآن، فلا ناسخ له، وروى البخاري عن البراء قال: "آخر سورة نزلت براءة") صحيح البخاري حديث 4654.
وهكذا فَعَلَ النبي والخلفاء من بعده في قتال المشركين وأهل الكتاب ، ولا يمنع من هذا إلا العجز.
مما سبق تعلم أن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكافرين هو القتال وأن الاستثناء منه هو السلم في صورة هدنة أو صلح وأنه لا يلجأ إلى هذا الاستثناء إلا لضرورة من عجز ونحوه، وذلك لقوله تعالى: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون(.
قال ابن قدامة: ومعني الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعِوَض وبغير عِوَض وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة وذلك جائز بدليل قول الله تعالى: )براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين( وقال سبحانه: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها(
وروي مروان ومِسْوَر بن مخرمة أن النبي صالح سهيلاً بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوي المسلمون، ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين. إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح. إذا ثبت هذا فإنه لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية) المغنى لابن قدامه 10/517.
وكما ترى أن ابن قدامة قال عن الهدنة: "لا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين" أي لمصلحتهم كما فَصَّله.
وقال صاحب المجموع: "لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صقيع إلا للإمام أو لمن فوض إليه الإمام لأنه لو جُعِل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم، والمصلحة في قتالهم فيعظم الضرر فلم يجز إلا للإمام أو النائب عنه، فإن كان الإمام مستظهراً نُظِرَت فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يجز عقدها لقوله عز وجل: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم(") المجموع شرح المهذب 19/439.
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم(. قال: ")فلا تهنوا( أي لا تضعفوا عن الأعداء )وتدعوا إلى السلم( أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عَدَدِكم وعُدَدِكم ولهذا قال )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون( أي في حال علوكم على عدوكم فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأي الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك كما فَعَل رسول الله حين صده كفار قريش عن مكة ودَعَوْه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم إلى ذلك.
ويذهب البعض - خاصة من المُحْدَثِين - إلى أن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكافرين هو السلم وأن الاستثناء من هذا هو القتال إذا دعت إليه الضرورة. ويحتجون لذلك بقوله تعالى: )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله(.
وهذا رأي يفضي إلى تعطيل الجهاد بالكلية . وهذا لا يجوز شرعا . لان الجهاد فريضة . مثله مثل الصيام . (كتب عليكم الصيام) بقرة 183. (كتب عليكم القتل) بقرة 216 . فكما انه لا يجوز شرعا تعطيل صيام رمضان لانه كتب على المسلمين أي فرض ليهم . هكذا أيضا لا يجوز شرعا تعطيل فريضة القتال لانها كتبة على المسلمين كصيام شهر رمضان.
أما الآية المحتج بها فلا حجة فيها إذ إنها محمولة على جواز المسالمة بشرط حاجة المسلمين لذلك وهذا الشرط تبينه الآية الأولى )فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون( فآية الأنفال تختص بحال وهو كون المسالمة في مصلحة المسلمين ويحتاجون إليها، أما آية سورة محمد(29/295)
فهي تختص بحال آخر وهو كون المسالمة ليست في مصلحة المسلمين وذلك عندما تكون بهم قوة يقهرون بها عدوهم فإنه لا تجوز المسالمة حينئذ لهذه الآية ولأن في هذا عدول عن الأصل المطلوب وهو إظهار دين الإسلام على ماعداه، لقوله: )وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله( الانفال، وقوله : )ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون( الوبة والصف .
قال ابن كثير في تفسير آية الأنفال )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها( قال: "قال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة )قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر( الآية، وفيه نظر أيضا، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية ، وكما فعل النبي يوم الحديبية
وقال ابن حجر في نفس الآية )وإن جنحوا للسلم فاجنح لها( قال: "هذه الآية دالة على مشروعية المصالحة مع المشركين - إلى قوله - ومعنى الشرط في الآية أن الأمر بالصلح مقيد بما إذا كان الأحظ للإسلام المصالحة، أما إذا كان الإسلام ظاهرا على الكفر ولم تظهر المصلحة في المصالحة فلا".) فتح الباري 6/275-276.
فالآية المحتج بها دالة على مشروعية المسالمة عند الحاجة لا وجوب المسالمة.
هذا وقد اجمع علماء الإسلام على عدم جواز عقد معاهدات صلح مع إسرائيل . وذلك بناءً على موقف الشريعة من معاهدا الصلح والسلام في الإسلام.
لنأخذ بعض الفتاوى الصادرة عن الأزهر وعن كبار علماء الإسلام كمثال نؤكد من خلاله صحة دعوانا .
" في يناير سنة 1956م أصدرت لجنة الفتوى بالأزهر برئاسة الشيخ حسنين مخلوف فتواها بشأن الموقف الإسلامي من إنشاء ما يُسمى، دولة إسرائيل ومن الدولة الاستعمارية التي تساندها ومن الصلح معها، وكان الجواب التالي:
جواب لجنة الفتوى بالأزهر : اجتمعت لجنة الفتوى بالجامع الأزهر في يوم الأحد 18 جمادى الأولى سنة 1375هـ الموافق (أول يناير سنة 1956م) برئاسة السيد صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف عضو جماعة كبار العلماء ومفتي الديار المصرية سابقًا وعضوية السادة أصحاب الفضيلة الشيخ عيسى منون عضو جماعة كبار العلماء وشيخ كلية الشريعة سابقا (الشافعي المذهب) والشيخ محمد شلتوت عضو جماعة كبار العلماء (الحنفي المذهب) والشيخ محمد الطنيخي عضو جماعة كبار العلماء ومدير الوعظ والإرشاد (المالكي المذهب) والشيخ محمد عبد اللطيف السبطي عضو جماعة كب العلماء ومدير التفتيش بالأزهر (الحنبلي المذهب) وبحضور الشيخ زكريا البري أمين الفتوى.ونظرت في الاستفتاء الآتي وأصدرت فتواها التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فقد اطلعت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف على الاستفتاء المقدم إليها عن حكم الشريعة الإسلامية في إبرام الصلح مع إسرائيل التي اغتصبت فلسطين من أهلها وأخرجتهم من ديارهم وشردتهم نساء وأطفالا وشيبًا وشبانًا في آفاق الأرض واستلبت أموالهم واقترفت أفظع الآثام في أماكن العبادة والآثار والمشاهد الإسلامية المقدسة وعن حكم التواد والتعاون مع دول الاستعمار التي ناصرتها وتناصرها في هذا العدوان الأثيم وأمدتها بالعون السياسي والمادي لإقامتها دولة يهودية في هذا القطر الإسلامي بين دول الإسلام وعن حكم الأحلاف التي تدعو إليها دول الاستعمار والتي في مراميها تمكين إسرائيل ومن ورائها الدول الاستعمارية أن توسع بها رقعتها وتستجلب بها المهاجرين إليها وفي ذلك تركيز لكيانها وتقوية لسلطانها مما يضيق الخناق على جيرانها ويزيد في تهديدها لهم ويهيئ للقضاء عليهم.(29/296)
وتفيد اللجنة أن الصلح مع إسرائيل كما يريده الداعون إليه، لا يجوز شرعًا لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه، والاعتراف بحقية يده على ما اغتصبه، وتمكين المعتدي من البقاء على دعواه، وقد أجمعت الشرائع السماوية والوضعية على حرمة الغصب ووجوب رد المغضوب إلى أهله وحثت صاحب الحق على الدفاع والمطالبة بحقه، ففي الحديث الشريف: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قٌتل دون عرضه فهو شهيد" وفي حديث آخر "على اليد ما أخذت حتى ترد" فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين واعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم على أي وجه يمكن اليهود من البقاء كدولة في أرض هذه البلاد الإسلامية المقدسة، بل يجب عليهم أن يتعاونوا جميعًا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لرد هذه البلاد إلى أهلها، وصيانة المسجد الأقصى مهبط الوحي ومصلى الأنبياء الذي بارك الله حوله، وصيانة الآثار والمشاهد الإسلامية من أيدي هؤلاء الغاصبين وأن يعينوا المجاهدين بالسلاح وسائر القوى على الجهاد في هذا السبيل وأن يبذلوا فيه كل ما يستطيعون حتى تطهر البلاد من آثار هؤلاء الطغاة المعتدين. قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" ومن قصر في ذلك أو فرط فيه أو خذل المسلمين عنه أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة وتشتيت الشمل والتمكين لدول الاستعمار والصهيونية من تنفيذ خططهم ضد العرب والإسلام وضد هذا القطر العربي والإسلامي فهو في حكم الإسلام مفارق للجماعة المسلمة ومقترف أعز الآثام كيف ويعلم الناس جميعًا أن اليهود يكيدون للإسلام وأهله ودياره أشد الكيد منذ عهد الرسالة إلى الآن،وأنهم يعتزمون أن لا يقفوا عند حد الاعتداء على فلسطين والمسجد الأقصى وإنما تمتد خططهم المدبرة إلى امتلاك البلاد الإسلامية الواقعة بين نهري النيل والفرات، وإذا كان المسلمون جميعًا ـ في الوضع الإسلامي ـ وحدة لا تتجزأ بالنسبة إلى الدفاع عن بيضة الإسلام فإن الواجب شرعًا أن تجتمع كلمتهم لدرء هذا الخطر والدفاع عن البلاد واستنقاذها من أيدي الغاصبين، قال تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا" وقال تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم"، وقال تعالى: "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا".(29/297)
وأما التعاون مع الدول التي تشد أزر هذه الفئة الباغية وتمدها بالمال والعتاد وتمكن لها من البقاء في الديار فهو غير جائز شرعًا، لما فيه من الإعانة لها على هذا البغي والمناصرة لها في موقفها العدائي ضد الإسلام ودياره قال تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". وقال تعالى: "لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنه ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون". وقد جمع الله سبحانه في آية واحدة جميع ما تخيله الإنسان من دوافع الحرص على قراباته وصِلاته وعلى تجارته التي يخشى كسادها ، وأمر بمقاطعة الأعداء وحذر المؤمنين من التأثر النفسي بشيء من ذلك واتخاذه سببًا لموالاتهم ، فقال تعالى: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره إن الله لا يهدي القوم الفاسقين". ولا ريب أن مظاهرة الأعداء وموادتهم يستوي فيها إمدادهم بما يقوي جانبهم ويثبت أقدامهم بالرأي والفكرة وبالسلاح والقوة-سرًّا وعلانية- مباشرة وغير مباشرة، وكل ذلك مما يحرم على المسلم مهما تخيل من أعذار ومبررات، ومن ذلك يعلم أن هذه الأحلاف التي تدعو إليها الدول الاستعمارية وتعمل جاهدة لعقدها بين الدول الإسلامية ابتغاء الفتنة وتفريق الكلمة والتمكين لها في البلاد الإسلامية والمضي في تنفيذ سياساتها حيال شعوبها لا يجوز لأي دولة إسلامية أن تستجيب لها وتشترك معها لما في ذلك من الخطر العظيم على البلاد الإسلامية وبخاصة فلسطين الشهيدة التي سلمتها هذه الدول الاستعمارية إلى الصهيونية الباغية نكاية في الإسلام وأهله وسعيًا لإيجاد دولة لها وسط البلاد الإسلامية لتكون تكأة لها في تنفيذ مآربها الاستعمارية الضارة بالمسلمين في أنفسهم وأموالهم وديارهم ، وهي في الوقت نفسه من أقوى مظاهر الموالاة المنهي عنها شرعًا والتي قال الله تعالى فيها: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" وقد أشار القرآن الكريم إلى أن موالاة الأعداء إنما تنشأ من مرض في القلوب يدفع أصحابها إلى هذه الذلة التي تظهر بموالاة الأعداء فقال تعالى: "فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين". وكذلك يحرم شرعًا على المسلمين أن يمكنوا إسرائيل ومَن وراءها من الدول الاستعمارية التي كفلت لها الحماية والبقاء من تنفيذ تلك المشروعات التي يُراد بها ازدهار دولة اليهود وبقاؤها في رغد من العيش وخصوبة في الأرض حتى تعيش كدولة تناوئ العرب والإسلام في أعز دياره. وتفسد في البلاد أشد الفساد وتكيد للمسلمين في أقطارهم، ويجب على المسلمين أن يحولوا بكل قوة دون تنفيذها ويقفوا صفًّا واحدًا في الدفاع عن حوزة الإسلام وفي إحباط هذه المؤامرات الخبيثة التي من أولها هذه المشروعات الضارة، ومَن قَصَّر في ذلك أو ساعد على تنفيذها أو وقف موقفًا سلبيًّا منها فقد ارتكب إثمًا عظيمًا. وعلى المسلمين أن ينهجوا نهج الرسو صلى الله عليه وسلم ويقتدوا به ،وهو القدوة الحسنة في موقفه من أهل مكة وطغيانهم بعد أن أخرجوه ومعه أصحابه رضوان الله عليه من ديارهم وحالوا بينه وبين أموالهم وإقامة شعائرهم ودنسوا البيت الحرام بعبادة الأوثان والأصنام فقد أمره الله تعالى أن يعد العدة لإنقاذ حرمه من أيدي المعتدين وأن يضيق عليهم سبل الحياة التي بها يستظهرون فأخذ عليه الصلاة والسلام يضيق عليهم في اقتصادياتهم التي عليها يعتمدون، حتى نشبت بينه وبينهم الحروب، واستمرت رحى القتال بين جيش الهدى وجيوش الضلال، حتى أتم الله عليه النعمة، وفتح على يده مكة، وقد كانت معقل المشركين فأنقذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، وطهر بيته الحرام من رجس الأوثان، وقلم أظافر الشرك والطغيان. وما أشبه الاعتداء بالاعتداء، مع فارق لا بد من رعايته وهو أن مكة كان بلدًا مشتركًا بين المؤمنين والمشركين، ووطنًا لهم أجمعين بخلاف أرض فلسطين فإنها ملك للمسلمين وليس لليهود فيها حكم ولا دولة. ومع ذلك أبى الله تعالى إلا أن يظهر في مكة الحق ويخذل الباطل ويردها إلى المؤمنين، ويقمع الشرك فيها والمشركين فأمر سبحانه وتعالى نبي صلى الله عليه وسلم بقتال المعتدين قال تعالى: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم".(29/298)
والله سبحانه وتعالى نبه المسلمين على رد الاعتداء بقوله تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" ومن مبادئ الإسلام محاربة كل منكر يضر العباد والبلاد، وإذا كانت إزالته واجبة في كل حال، فهي في حالة هذا العدوان أوجب وألزم. فإن هؤلاء المعتدين لم يقف اعتداؤهم عند إخراج المسلمين من ديارهم وسلب أموالهم وتشريدهم في البلاد ، بل تجاوز ذلك إلى أمور تقدسها الأديان السماوية كلها وهي احترام المساجد وأماكن العبادة وقد جاء في ذلك قوله تعالى: "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم". أما بعد فهذا هو حكم الإسلام في قضية فلسطين وفي شأن إسرائيل والمناصرين لها من دول الاستعمار وغيرها، وفيما تريده إسرائيل ومناصروها من مشروعات ترفع من شأنها. وفي واجب المسلمين حيال ذلك تبينه لجنة الفتوى بالأزهر الشريف. وتهيب بالمسلمين عامة أن يعتصموا بحبل الله المتين. وأن ينهضوا بما يحقق لهم العزة والكرامة وأن يقدموا عواقب الوهن والاستكانة أمام اعتداء الباغين وتدبير الكائدين، وأن يجمعوا أمرهم على القيام بحق الله تعالى وحق الأجيال المقبلة في ذلك، إعزازًا لدينهم القويم.
نسأل الله تعالى أن يثبت قلوبهم على الإيمان به وعلى نصرة دينه وعلى العمل بما يرضيه والله أعلم.
حسنين محمد مخلوف
رئيس لجنة الفتوى وعضو جماعة كبار العلماء، ومفتي
الديار المصرية سابقًا
عيسى منون
عضو لجنة الفتوى وعضو جماعة كبار العلماء وشيخ كلية الشريعة
"الشافعي المذهب"
محمود شلتوت
عضو لجنة الفتوى وجماعة كبار العلماء "الحنفي المذهب
محمد الطنيخي
عضو لجنة الفتوى وجماعة كبار العلماء ومدير الوعظ والإرشاد
"المالكي المذهب"
محمد عبد اللطيف السبكي
عضو لجنة الفتوى وجماعة كبار العلماء ومدير التفتيش بالأزهر
"الحنبلي المذهب"
زكريا البري
أمين الفتوى
" وفي 25 من جمادى الأولى سنة 1375 هـ الموافق 8 من يناير سنة 1956 أصدر فضيلة الشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر فتواه في الصلح مع اليهود في فلسطين.. والمعاهدات مع الدول الاستعمارية المعادية للعرب والمسلمين والمؤيدة لليهود في عداوتهم فكانت فتواه التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، اطلعنا على
الطلب المقدم من علماء الأزهر الشريف والمذكرة المرافقة له
المتضمنة طلب بيان الحكم الشرعي في الصلح مع الدولة اليهودية المحتلة، وفي المحالفات مع الدول الاستعمارية الأجنبية المعادية للمسلمين والعرب والمؤيدة لليهود في عدوانهم.
الجواب: يظهر في السؤال أن فلسطين أرض فتحها المسلمون وأقاموا فيها زمنًا طويلا فصارت جزءًا من البلاد الإسلامية أغلب أهلها مسلمون وتقيم معهم أقلية من الديانات الأخرى فصارت دار إسلام تجري عليها أحكامها وأن اليهود اقتطعوا جزءًا من أرض فلسطين وأقاموا فيه حكومة لهم غير إسلامية وأجلوا عن هذا الجزء أكثر أهله من المسلمين. ولأجل أن تعرف حكم الشريعة الإسلامية في الصلح مع اليهود في فلسطين المحتلة دون النظر إلى الناحية السياسية يجب أن نعرف حكم هجوم العدو على أي بلد من بلاد المسلمين هل هو جائز أم غير جائز ؟ وإذا كان غير جائز فما الذي يجب على المسلمين عمله إزاء هذا العدوان؟ إن هجوم العدو على بلد إسلامي لا تجيزه الشريعة الإسلامية مهما كانت بواعثه وأسبابه فدار الإسلام يجب أن تبقى بيد أهلها ولا يجوز أن يعتدي عليها أي معتد ، وأما ما يجب على المسلمين في حالة العدوان على أي بلد إسلامي فلا خلاف بين المسلمين في أن جهاد العدو بالقوة في هذه الحالة فرض عين على أهلها.يقول صاحب المغني: يتعين الجهاد في ثلاثة : الأول إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، الثاني إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم، والثالث إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير ؛ ولهذا أوجب الله على المسلمين أن يكونوا مستعدين لدفع أي اعتداء يمكن أن يقع على بلدهم، قال الله تعالى: "وأعدوا له ما استطعم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم". فالاستعداد للحرب الدفاعية واجب على كل حكومة إسلامية ضد كل من يعتدي عليهم لدينهم ، وضد كل من يطمع في بلادهم فإنهم بغير هذا الاستعداد يكونون أمة ضعيفة يسهل على الغير الاعتداء عليها ، وإن ما فعله اليهود في فلسطين هو اعتداء على بلد إسلامي يتعين على أهله أن يردوا هذا الاعتداء بالقوة حتى يجلوهم عن بلدهم ويعيدوها إلى حظيرة البلاد الإسلامية وهو فرض عين على كل منهم وليس فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين.ولما كانت البلاد الإسلامية تعتبر كلها دارًا لكل مسلم فإن فرضية الجهاد في حالة الاعتداء تكون واقعة على أهلها أولا ثم على غيرهم من المسلمين المقيمين في بلاد إسلامية أخرى ثانيا لأنهم وإن لم يعتد على بلادهم مباشرة إلا أن الاعتداء قد وقع عليهم بالاعتداء على بلد إسلامي وهو جزء من البلاد الإسلامية.(29/299)
وبعد أن عرفنا حكم الشريعة في الاعتداء على بلد إسلامي يمكننا أن نعرف حكم الشريعة في الصلح مع المعتدي هل هو جائز أم غير جائز؟
والجواب أن الصلح إذا كان على أساس رد الجزء الذي اعتدى عليه إلى أهله كان صلحًا جائزًا وإن كان على إقرار الاعتداء وتثبيته فإنه يكون صلحا باطلا ؛ لأنه إقرار لاعتداء باطل وما يترتب على الباطل يكون باطلا مثله.
وقد أجاز الفقهاء الموادعة مدة معينة مع أهل دار الحرب أو مع فريق منهم إذا كان فيه مصلحة ؛ لقوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله".
وقالوا إن الآية وإن كانت مطلقة لكن إجماع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة المسلمين في ذلك بآية أخرى هي قوله تعالى: "فلا تهنوا وتجنحوا إلى السلم وأنتم الأعلون". فأما إذا لم يكن في الموادعة مصلحة فلا تجوز بالإجماع ونحن نرى أن الصلح على أن تبقى البلاد التي سلبها اليهود من فلسطين تحت أيديهم وعلى عدم إعادة أهلها اليها لا يحقق إلا مصلحتهم وليس فيه مصلحة للمسلمين ؛ ولذلك لا نجيزه من الوجهة الشرعية إلا بشروط وقيود تحقق مصلحة المسلمين.
والجواب عن السؤال الثاني: أن الأحلاف والمعاهدات التي يعقدها المسلمون مع دول أخرى غير إسلامية جائزة من الناحية الشرعية إذا كانت في مصلحة المسلمين أما إذا كانت لتأييد دولة معتدية على بلد إسلامي كاليهود المعتدين على فلسطين فإنه يكون تقوية لجانب المعتدي يستفيد من هذا الجانب في الاستمرار في اعتدائه ،وربما في التوسع أيضا وذلك غير جائز شرعًا. ونفضل على هذه الأحلاف أن يتعاون المسلمون على رد أي اعتداء يقع على بلادهم وأن يعقدوا فيما بينهم عهودًا وأحلافًا تظهرهم قولا وعملا يدًا واحدة تبطش بكل من تحدثه نفسه بأن يهاجم أي بلد إسلامي، وإذا أضيف إلى هذه العهود والمواثيق التي لا يراد منها الاعتداء على أحد وإنما يراد منها منع الاعتداء والسعي الحثيث بكل وسيلة ممكنة في شراء الأسلحة من جميع الجهات التي تصنع الأسلحة والمبادرة بصنع أسلحة في بلادهم لتقوية الجيوش الإسلامية المتحالفة فإن ذلك يكون كله أمرًا واجبًا وضروريًّا لضمان السلام الذي يسعى إليه المسلم ويتمناه لبلده وسائر البلاد الإسلامية ، بل لغيرها من البلاد غير الإسلامية.
ويظهر أن لليهود موقفًا خاصًّا فلم يعقدوا مع أهل فلسطين ولا أية حكومة إسلامية صلحًا ولم تجل إسرائيل بعد عن الأرض المحتلة ، وهي موجودة بحكم سياسي وهو الهدنة التي فرضتها الدول على اليهود نقضوها باعتداءاتهم المتكررة التي لم تعد تخفى على أحد ، وكل ما فعله المسلمون واعتبره اليهود اعتداء على حقوقهم هو محاصرتهم ومنع السلاح والذخيرة التي تمر ببلادهم عنهم ، ولأجل أن نعرف حكم الشريعة في هذه المسألة نذكر أن ما يرسل إلى أهل الحرب نوعان: النوع الأول السلاح، وما هو في حكمه ، والثاني الطعام ونحوه ، وقد منع الفقهاء أن يرسل إليهم عن طريق البيع السلاح ؛ لأن فيه تقويتهم على قتل المسلمين وكذا الحديد والخشب وكل ما يستفاد به في صنع الأسلحة ، سواء حصل ذلك قبل الموادعة أو بعدها ، ولا شك أن حال اليهود أقل شأنًا من حال من وادعهم من المسلمين مدة معينة على ترك القتال ، وعلى فرض تسمية الهدنة موادعة ، فقد نقضها اليهود باعتداءاتهم ، ونقض الموادعة من جانب يبطلها ويحل الجانب الآخر منها. وأما النوع الثاني فقد قالوا : إن القياس يقضي في الطعام والثوب ونحوهما بمنعها عنهم إلا إذا عرفنا بالنص حكمه وهو أن صلى الله عليه وسلم أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه ، وقد ورد النص فيمن تربطه بالنبي صلة الرحم ؛ ولذلك أجابهم إلى طلبهم بعد أن ساءت حالتهم، وليس هذا حال اليهود في فلسطين ؛ ولذلك نختار عدم جواز إرسال أي شيء إليهم أخذًا بالقياس ، فإن إرسال غير الأسلحة إليهم يقويهم ويغريهم بالتمسك بموقفهم الذي لا تبرره الشريعة والله تعالى أعلم.
حسن مأمون
================(29/300)
(29/301)
معاملة اليهود للنبي r
مرزوق بن سالم الغامدي
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: هذه وقفة مع سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، مع جهاده ودعوته بعد هجرته من مكة إلى المدينة حيث هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون المهاجرون من مكة بعد أن ذاقوا الأمرين من كفار قريش، فراراً بدينهم ليجدوا الأرض التي أذن الله لهم فيها بالقيام بعبادته، بعد مناصرة الأنصار لهم والدخول في الإسلام.
ولكن لم يسلم المجتمع المدني من بعض القلاقل والمكايد من اليهود والمنافقين..وستكون الخطبة اليوم عن العلاقة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود منذ وصوله المدينة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم .
اليهود أيها الإخوة: جماعة نزلت يثرب هروباً من الرومان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي أربعمائة عام وقد بلغ المقاتلون منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حوالي (2000) رجل، ألفي رجل قادر على حمل السلاح، فهي جالية كبيرة، تنقسم إلى ثلاثة أقسام، بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة.
وبعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، والأنصار بالطبع بدأ النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم المدينة وكتب وثيقة موادعة ومعاهدة مع الجالية اليهودية، واشترط عليهم أن لا يمالئوا عدوه وأن ينصروه على من دهمه، دفاعاً عن المدينة، وأقرهم على دينهم، فمن أسلم فله النصرة وهو من المؤمنين، وأن لا يخرج أحد منهم إلا بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يُنفِقَ اليهودُ مع المؤمنين ما داموا في حرب وغيرها من الشروط التي أوردتها كتبُ السيرة في معاهدة النبي صلى الله عليه وسلم لهم والتي فيها أن أي شجار أو أي إشكال يحصل في المجتمع المدني مرده إلى الله وإلى الرسول، وخاصة لو حصل بين مسلم ويهودي.
أما ما يحصل في الأحوال الشخصية بين اليهود أنفسهم فالرسول مخير بين أن يحكم بينهم أو لا يحكم، كما قال - تعالى -: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين.
أيها الإخوة: بالرغم من طباع اليهود المعروفة وكما جاء أنهم قوم بهت يبهتون الناس ويفترون عليهم، حتى عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - لم يسلم من بهتانهم وزورهم حينما علموا بإسلامه، كما ذكر البخاري أن عبد الله بن سلام حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فنظرت إلى وجهه فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء فحينما أجابه النبي عما سأل أعلن إسلامه وقال يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي يبهتوني فأرسل إليهم فسلهم عني.
فأرسل إليهم فقال: ((أي رجل ابن سلام فيكم؟)) قالوا: حبرنا وابن حبرنا وعالمنا وابن عالمنا قال: ((أرأيتم إن أسلم تُسلمون؟)) قالوا: أعاذه الله من ذلك: فخرج عليهم عبد الله بن سلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا فقال: يا رسول الله ألم أخبرك أنهم قوم بهت!!؟.
أيها الإخوة: كان النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى في التعامل معهم، وهم العدو المراوغ الذي يستخدم كل أساليب المراوغة والخداع.. لقد زار النبي صلى الله عليه وسلم ابن جارٍ له يهودي حينما علم بمرضه وعرض عليه الإسلام فقبل الابن وأسلم ففاضت روحه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)) أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
وقد كان اليهود يحظوا بالرعاية في المجتمع الإسلامي في المدينة النبوية وما حولها. فهل هم حافظوا على هذه العلاقة بينهم وبين المسلمين؟ هل قاموا بدورهم في بناء المجتمع والحفاظ عليه؟ في الواقع أنهم ما فتئوا في طعن الإسلام وفي إيذاء المسلمين والتربص بهم وبالنبي صلى الله عليه وسلم في كل لحظة.. فغدروا ونقضوا العهد مراراً وتكراراً وأعلنوا الحرب سراً وجهاراً على الإسلام وعلى النبي صلى الله عليه وسلم .
فهذه بنو قينقاع أظهروا البغض والحسد حينما انتصر النبي والمسلمون في غزوة بدر الكبرى، وأخذوا يظهرون بغضهم وحسدهم في أقوالهم وأفعالهم، فجمعهم النبي صلى الله عليه وسلم ونصحهم ودعاهم للإسلام، فردوا بقولهم: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا.
وهذا منتهى التحدي والتهديد بالرغم من أنهم جالية تحت رئاسة النبي صلى الله عليه وسلم بموجب المعاهدة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم .(29/302)
وقام رجل منهم من بني قينقاع في السوق بعقد ثوب امرأة من المسلمين خلفها وهي جالسة دون أن تعلم فحينما قامت انكشفت عورتها وصاحت في المسلمين، فقام أحد المسلمين وقُاتل اليهودي فقتله، وقُتل المسلم من اليهود الذين في السوق، فجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً وحاصرهم في حيهم مدة خمسة عشرة ليلة واستسلموا ونزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم النساء والذرية فقط، أما الأموال فللمسلمين، والرجال يقتلوا، فكلمه المنافق عبد الله بن أبي سلول وألح في ذلك.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((هم لك)) تنازلاً لرغبة ابن سلول وأمر بإجلائهم عن المدينة.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
وماذا فعل بنو النضير أيضاً؟ خططوا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في السير أنهم طلبوا من النبي أن يخرج إليهم في ثلاثين رجلاً وهم أيضاً سيخرج منهم ثلاثون رجلاً ليستمعوا منه فإن صدقوه آمنوا به.. فحينما اقترب النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه المكان المحدد للاجتماع اقترح اليهود أن يجتمع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثة من أصحابه بثلاثة من أحبارهم، فإن أقنعهم آمنوا كلهم وكان مع الثلاثة اليهود خناجرهم مخفية تحت الثياب، ولكن النبي جاءه خبر بالمؤامرة فرجع ولم يقابلهم.
والرواية الثانية التي في السيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ومعه بعض الصحابة ليأخذ منهم دية رجلين قتلا خطأً فقالوا: نعم، اجلس هنا، وانتظر حتى نجمع لك المبلغ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت جدار.. فقال اليهود: هذه فرصة لو يصعد أحدهم بحجر فيلقيه على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فيقتله ويتخلصوا منه، فجاء الوحي بالخبر ورجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
فسواء صحت هذه الرواية أو التي قبلها، فالتخطيط واحد والغدر واحد.. فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم ست ليالٍ فنزلوا على الصلح ووقعت معاهدة ثانية معهم على أن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها فيحملون ما وافقهم من خشبها.
وبهذه المعاهدة الثانية حقن النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأجلاهم عن ديارهم قال - تعالى -: " سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذابُ النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ".
الخطبة الثانية:
وما زال الغدر مستمراً من اليهود وكذلك نقض العهود حيث تعاون اليهود مع الكفار والمشركين في غزوة الخندق، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بغزوهم في بني قريظة بعد غزوة الخندق، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان سعد بن معاذ - رضي الله عنه - حليفهم فقالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((قضيت بحكم الله)).
وبذلك تبرأ سعد من اليهود ومن موالاتهم خلاف المنافق عبد الله بن أبي بن سلول الذي شفع لهم ولم يرض بقتلهم موالاة لهم وحباً فيهم، فإنه منهم والعياذ بالله.(29/303)
ثم نفذ القتل في كل رجل منهم، وأخذ المسلمون النساء والذرية والأموال غنيمة لهم جزاءً لخيانتهم وغدرهم حيث نقضوا العهد وتحالفوا مع المشركين، مع الأحزاب، بقصد قتل المسلمين وأخذ أموالهم وذرياتهم ونسائهم، وتبعهم بعد ذلك اليهود الذين تجمعوا في خيبر وخاصة بنو النضير الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإسلام وأن في كتبهم ذكره وذكر بعثته وهم قد جحدوا رسالته ونقضوا العهود معه، ووقفوا مع الأحزاب ضده، ولكنهم لم يستجيبوا ولم يعتذروا عما فعلوه، فعمد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قتل زعمائهم ثم حاصرهم في حصونهم، وأعطى اللواء لعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنه -، ففتح الله على المسلمين وتهاوت الحصون أمام المسلمين فمنهم من قُتل، ومنهم من أُسر وسُبَي، ومنهم من استسلم دون قتال، فأبقاهم النبي صلى الله عليه وسلم في أرضهم لزراعتها ولهم نصف الثمار.. وبعد ما قاموا بزراعتها. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة لتقدير الثمار.. فأرادوا أن يرشوه أو يفعلوا شيئاً معه ليأثّروا على تقديره، فقال لهم: يا أحفاد القردة والخنازير، تعلمون أنكم والله أبغض الناس إلي، وأن رسول الله أحب الناس إليّ، ولكن لا يجعلني حبي له وبغضي لكم أن لا أعدل.. فحكم فيهم بالعدل، فتعجبوا منه ومن عدالته - رضي الله عنه -، وقالوا: رضينا بما قلت.
أيها الإخوة: هؤلاء هم اليهود وهذه أخلاقهم وطبائعهم وسيبقون كذلك، ولكن المصيبة هي فينا نحن المسلمين، وخاصة ممن هو مسؤول وتحمل الأمانة وأصبح من ولاة أمر المسلمين.
يقول أحدهم: إن السلام مع اليهود خيار استراتيجي أي أنه لا يمكن أن يحيد عنه أبداً، لأن السلام بزعمه يعتبر أهم مصلحة له ولأمته، وهذا والله عين النفاق والموالاة للكفار.
لقد تهافت هؤلاء على الصلح مع اليهود وحاولوا ذر الرماد في العيون حينما قرءوا على الناس وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وترقبت الأمة وأخذت تنظر إلى أي مدى سيكون السلام، فإذا هو استسلام وتبعية وذل وهوان وانحدار في إثر انحدار.
لقد سمعتم أيها الإخوة وشاهدتم ما عرضته وسائل الإعلام هذه الأيام من صور ومشاهد فيها استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، واستهزاء بالقرآن الكريم، فعلها اليهود، والمسلمون دون حراك، إلا من أصوات لا تكاد تبين، وكنت أتمنى كما هو حال كثير من الناس، أن يعلن الجهاد، وتستنفر الجيوش لحرب اليهود، هذه الجيوش التي تنفق عليها المليارات من الدولارات ونراها في الاستعراضات العسكرية بمناسبات مختلفة، ولا أدري هل هي تبنى فقط للاستعراضات، بينما يقوم فتية من الصغار بحمل الحجارة يلقون بها في وجه اليهود على قدر استطاعتهم، ونحن ليس لدينا إلا الاستنكار والشجب والصراخ والعويل والاستنجاد بهيئة الأمم وما يسمى بمجلس الأمن.
إن قضية فلسطين هي قضية إسلامية جهادية.. فهي ليست قضية قومية ولا قضية أرض أو حدود أو شرق أوسطية بل هي قضية تهم كل مسلم على وجه الأرض، وقريباً بإذن الله ستتحد أمة الإسلام تحت خلافة راشدة وترفع راية الجهاد في وجه اليهود... نحن شرقي نهر الأردن وهم غربيه ((حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال واقتله إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود)) هذا هو الوعد الحق، هذا وعد الصادق المصدوق. أما المنافقون ومن سار في ركابهم من الذين يرون أن السلام خيار استراتيجي، يعدون بالسلام الدائم، وهو وعد كاذب.
أيها الإخوة: إن الذي وضع السم للنبي صلى الله عليه وسلم هم اليهود الذين قتلوا الأنبياء من قبل.. وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السم حينما مرض قبل وفاته، وحينما توفى النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من ربيع أول، فرح اليهود بموته واعتبروا أنفسهم ممن شارك في قتله. فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
==============(29/304)
(29/305)
لماذا نرفض السلام مع يهود (دراسة)
السلام عليكم
يشعر المسلم بالألم يعتصر قلبه وهو يناقش قضية السلام مع اليهود .. ويسعى لبيان حقيقة حكمها وآثارها .. يشعر بذلك لنه يفترض في كل مسلم أن يكون هذا الأمر بالنسبة له من البديهيات التي لا مناص من معرفتها ولا عذر لنا في الجهل بها.
لقد كان للأنظمة والمنظمات التي ابتعدت عن منهج الله سبحانه وتعالى دستوراً وحكماً ومنهجاً وفكراً وسلوكاً - أثرها البالغ وعبر وسائلها التأثيرية المختلفة - من إعلام وتعليم وضغط وإرهاب .. في الوصول إلى ما وصلنا إليه من مطالب البعض بالسلام مع اليهود والاعتراف بهم وبحق اقتطاعهم واغتصابهم لأرضنا المقدسة .. ويطرحون في ذلك العديد من الحجج الواهية والزائفة حتى لقد بقي الرافض الوحيد لكافة الحلول السلمية والاستسلامية هم الإسلاميون الذين يطالبون بأرض فلسطين .. وكل أرض إسلامية محتلة لا من منطلق سياسي أو مصلحي أو تكتيكي .. وإنما من منطلق عقائدي شرعي يجب الالتزام به.
ونحن عندما نبرز كمسلمين موقفنا - تجاه أية قضية - فإنا منطلقنا هو الإسلام عبر الفهم الصحيح السليم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ودون ليّ لاعناق الآيات.. ودون أية أهواء أو رغائب.
إننا منذ أن التزمنا به .. فإننا أسلمنا أنفسنا لله سبحانه وتعالى وارتضينا النزول على حكمه في أمورنا .. قال تعالى: ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( [سورة الأحزاب: 36] ) وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك( [سورة المائدة: 49] واعتقدنا أننا نجد في منهج الله الخير والعدل والكمال .. لأنه منهج الله، لا منهج البشر بضعفه وعجزه وقصوره، قال تعالى: )وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( [سورة الأنعام: 153].
لقد وجدنا أنفسنا مضطرين لتأكيد هذه الحقيقة بعد أن وجدنا من يعرف الإسلام نسكاً وعبادات محصورة بين جدران المساجد، بينما هو عقيدة وجهاد .. وحكم ودولة .. ودنيا وآخرة، شامل لجوانب الحياة كلها من سياسة واقتصاد واجتماع وتعليم وجهاد وكل شيء، قال سبحانه: )ما فرطنا في الكتاب من شيء( [سورة الأنعام: 38].
وفي النقاط التالية نتحدث عن موقفنا السلام مع اليهود (كما يريده الداعون إليه) من منظور شرعي ثم من منظور عقلي واقعي:
السلام كما يريده الداعون إليه
تطرح مشاريع السلام مع اليهود في ظل أوضاع عربية وصلت إلى الحضيض، فالبلاد العربية تعيش جواً من الانهزام النفسي، وغياب المنهج الجاد السليم للتحرير، وفي ظل قيادات تفتقد عناصر الأمانة والجرأة، وترتبط بالولاء إلى بلاد الكفر، وفي أجواء تنخر فيها عناصر الإفساد بأمتنا، وتكمم فيها الأفواه والحريات، وتشغل الناس بلقمة العيش.
إنها ظروف لا معنى لها سوى العجز والانهزام، وعندما يحدث في ظلها سلام مع اليهود فلا يمكن أن يكون متكافئاً أو عادلاً، لأن الطرف المنهزم يجب أن يدفع الثمن في أية صفقة تعقد.
لا تختلف الدعوات المطروحة للسلام مع اليهود في جوهرها وإن كانت اختلفت في معرض التصورات التفصيلية. وأكثر الحلول السلمية "ثورية" وأبعدها مطالباً هو عودة الأراضي المحتلة عام 1967م من فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية على ترابها وبالتالي بقاء الأراضي المحتلة عام 1948م في أيدي اليهود وهي أكثر من 77% من أراضي فلسطين وذلك مقابل (سلام دائم وعادل) في المنطقة والاعتراف بدولة اليهود وتطبيع العلاقات معها. ولا تخرج العبارات التي تطرحها الحلول السلمية عن هذا المفهوم وإن كانت تطرحها أحياناً بطريقة أكثر حياءاً .. أو في مجال اللف والدوران على أبناء شعبنا الفلسطيني المسلم وكل المسلمين في الأرض، يقولون: "حق جميع دول المنطقة في العيش بسلام" ويضيفون "وذلك ضمن حدود آمنة معترف بها" وتارة "إقامة الشعب الفلسطيني لدولته المستقلة على ترابه الوطني" طبعاً الأرض المحتلة عام 1967 لأنهم لو أرادوا أرض 1948م لما كانت هناك مشاريع سلام أو حدود آمنة أو اعتراف .. وتارة يطالبون "بالسلام الدائم في المنطقة" وغيرها من الجمل الخادعة التي لا تخرج عما ذكرنا..
إن السلام الحقيقي - في فهمنا- لا يحقق إلا بعودة كل أراضينا المغتصبة تحت حكم الإسلام، وعودة المسلمين إلى أرضهم. وإنهاء الكيان اليهودي على أرض فلسطين.
أولاً: حكم الإسلام في الصلح مع اليهود
أصدر الكثير من علماء الإسلام فتاوى تؤكد عدم الصلح مع اليهود وأنه خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين وكان كلامهم واضحاً لا يحتمل تفسيراً آخراً ومقروناً بأدلته الشرعية والمستوعبة للواقع ..
1- قبل عام 1948م: لم يكن لليهود دولة وكانت القضية الأساسية في تلك الفترة هي إمكانية أن يبيع البعض أراضيهم لليهود حتى يستوطنوا فيها، وكانت الدولة اليهودية في تلك الفترة حلماً صعب المنال لشدة مراس الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه ودفاعه عنها. ولقد أصدر علماء المسلمين فتاوى بشأن بيع الأرض شديدة القوة واضحة بينة.(29/306)
ففي فتوى الحاج أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين في تلك الفترة، أكد تحريمه بيع الأرض لليهود وتحريم السمسرة على هذا البيع والتوسط فيه وتسهيل أمره بأي شكل وصورة. وإن من يفعل ذلك وهو عالم بضرره ونتيجته وراض عنه فإنه يستلزم لكفر والارتداد عن دين باعتقاد حله ..
ولقد انعقد في القدس في 26/1/1935م اجتماع كبير لعلماء فلسطين من المفتين وقضاة ومدرسين وخطباء وأئمة ووعاظ وسائر علماء فلسطين وأصدر هذه الفتوى بالإجماع ونحن نثبتها هنا لأهميتها وقيمتها الكبيرة، ولقد نشرت هذه فتوى في كتاب وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية (1919 - 1939) من أكرم زعيتر والذي نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية (ص374 -387) هذا نصها:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإننا نحن المفتين والقضاة والمدرسين والخطباء والأئمة والوعاظ وسائر علماء المسلمين ورجال الدين في فلسطين، المجتمعين اليوم في الاجتماع الديني المنعقد في بيت المقدس بالمسجد الأقصى المبارك حوله بعد البحث والنظر فيما ينشأ عن بيع الأراضي في فلسطين لليهود من تحقيق المقاصد الصهيونية في تهويد هذه البلاد الإسلامية المقدسة وإخراجها من أيدي أهلها واجلائهم عنها وتعفية أثر الإسلام منها بخراب المسجد والمعابد والمقدسات الإسلامية كما وقع في القرى التي تم بيعها لليهود وأخرج أهلها متشردين في الأرض وكما يخشى أن يقع لا سمح الله في أولى القبلتين وثالث المسجدين الأقصى المبارك.
وبعد النظر في الفتاوى التي أصدرها المفتون وعلماء المسلمين في العراق ومصر والهند والمغرب وسوريا وفلسطين والأقطار الإسلامية الأخرى والتي أجمعت على تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود، وتحريم السمسرة على هذا البيع والتوسط فيه وتسهيل أمره بأي شكل وصورة، وتحريم الرضا بذلك كله والسكوت عنه، وأن ذلك كله أصبح بالنسبة لكل فلسطيني صادراً من عالم بنتيجته راض بها ولذلك فهو يستلزم الكفر والارتداد عن دين الإسلام باعتقاد حله كما جاء في فتوى سماحة السيد أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى.
بعد النظر والبحث في ذلك كله وتأييد ما جاء في تلك الفتاوي الشريفة والاتفاق على أن البائع والسمسار والتوسط في الأراضي بفلسطين لليهود والمسهل له هو:
أولاً:
عامل ومظاهر على إخراج المسلمين من ديارهم.
ثانياً:
مانع لمساجد الله أن يذكر فيها اسمه وساع في خرابها.
ثالثاً:
متخذ اليهود أولياء لأن عمله يعد مساعدة نصراً لهم على المسلمين.
رابعاً:
مؤذ لله ولرسوله وللمؤمنين.
خامساً:
خائن لله ولرسوله وللأمانة.
وبالرجوع إلى الأدلة المبينة للأحكام في مثل هذه الحالات من أيات كتاب الله كقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسولل وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجراً عظيم( وقوله تعالى: )والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً(. وقوله تعالى )ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم( وقوله تعالى ) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون( وقوله تعالى -في آية أخرى- )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء( وقوله تعالى ) ومن يتولهم منكم فإنه منهم( وقد ذكر الأئمة المفسرون أن معنى قوله تعالى )فإنه منهم( أي من جملتهم وحكمه حكمهم.
فيعلم من جميع ما قدمناه من الأسباب والنتائج والأقوال والأحكام والفتاوى أن بائع الأرض لليهود سواء كان ذلك مباشرة أو بالواسطة وأن السمسار في هذا البيع والمسهل له والمساعد عليه بأي شكل مع علمهم بالنتائج المذكورة، كل أولئك ينبغي أن لا يصلى عليهم ولا يدفنوا في مقابر المسلمين ويجب نبذهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم وعدم التودد إليهم والقرب منهم، ولو كانوا أباء أو أبناء أو إخوان أو أزواجاً ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون( ) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومشاكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين(.
هذا وإن السكوت عن أعمال هؤلاء والرضا به مما يحرم قطعاً ) يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون. واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب(.(29/307)
جعلنا الله من الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه فإنه مولانا وهو نعم المولى ونعم النصير.
ثم ثبتت الفتوى أسماء العلماء الذين وقعوا عليها.
وبالطبع وكما هو مثبت في الفتوى فإنها لم تكن الفتوى الأولى بهذا الشأن وإنما سبقتها فتاوي بنفس المعنى -لعلماء الإسلام في العراق ومصر والهند والمغرب وسوريا وفلسطين..
إن هذا الإجماع الرائع لدلالة كبرى على اتفاق علماء المسلمين في تحريم بيع الأرض لليهود ليتمكنوا من إقامة دولتهم عليها.
1- وإذا كانت بيع قطعة أرض مهما كان حجمها لليهود ليستفيدوا منها في إقامة دولتهم مع فلسطين حراماً .. ويستلزم كفر البائع الراضي والعالم نتيجة ما يفعل فكيف بمن يبيعون أوطاناً كاملة ويقرون الغاصب اليهودي على ما اغتصبه ويعترفون له بدولة لها حدودها الآمنة على أرضنا ومقدساتنا .. ويصدون عن الجهاد الجهاد في سبيل الله، فمن تاب أولى أن الأمر في هذه الحالة أشد خطورة وأشد إثماً .. فلا يمكن السكوت عنه أو الرضا به.
2- أصدر علماء الإسلام في نجد في يوليو 1937م فتوى تقول إن ولاية اليهود في بلاد باطلة ومحرمة.
3- كما أصدر علماء الإسلام في العراق في يوليو 1937 فتوى بواجب كل مسلم في مقاومة إنشاء دولة يهودية في فلسطين.
4- وأصدر الشيخ محمد رشيد رضا هذه الفتوى:
إن من يبيع شيئاً من أرض فلسطين وما حولها ليهود أو للانكليز فهو كمن يبيعهم المسجد الأقصى وكمن يبيع الوطن كله لأن ما يشترونه وسيلة إلى ذلك وإلى جعل الحجاز على خطر فرتبة الأرض من هذه البلاد هي كرقبة الإنسان من جسده وهي بهذا تعد شرعاً من المنافع الإسلامية العامة لا من الأملاك الشخصية الخاصة وتمليك الحربي لدار الإسلام باطل وخيانة لله ولرسوله ولأمانة الإسلام ولا أذكر هنا كل ما يستحقه مرتكب هذه الخيانة وإنما أقترح على كل من يؤمن بالله وبكتابه وبرسوله خاتم النبيين أن يبث هذا لاحكم الشرعي في البلاد مع الدعوة إلى مقاطعة هؤلاء الخونة الذي يصرون على خيانتهم في كل شيء، المعاشرة والمعاملة والزواج والكلام حتى رد السلام.
ورد في صحيح مسلم أن الله تعالى وعد رسول صلى الله عليه وسلم لأمته أن لا يسلط عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطرها الخ .. وقد بينت في شرحه من جزء التفسير السابع (ص495 و 496 طبعة ثانية) أنه ما زال ملك الإسلام عن قطر إلا بخيانة من المسلمين: فتوبوا إلى الله أيها الخائنون )يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسولل وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم(.
(المصدر بيان نويهض: القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948م، ص ص 740-743).
• ملاحظة: نشرت هذه الفتوى في جريدة الجامعة العربية الصادرة في فلسطين بتاريخ 11 فبراير 1935، عدد 1541.
5- كما أصدر رئيس جمعية العلماء المركزية في الهند هذه الفتوى:
إن المسلمين الذين يبيعون أراضي فلسطين المقدسة لليهود في أيامنا هذه أو يتوسطون بهذا الفعل القبيح مع أنهم علموا بأن اليهود لا يشترونها إلا لجلاء المسلمين عن تلك الأرض المقدسة وتبديل الهيكل مكان المسجد الأقصى وتشكيل دولة يهودية فإنهم عند الله ممن حاربوا الإسلام وسالموا الكفر وظاهروا أعداء الإسلام: )أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما رحبت تجارتهم وما كانوا مهتدين( ولا يكون جزاؤهم إلا نار جهنم وأظن العلماء الذي افتوا بكفرهم منعوا المسلمين من الصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين زجراً عليهم وعبرة لغيرهم قد أصابوا في فتياهم ولهم أجران.
محمد سليمان القادري الحشتي
رئيس جمعية العلماء المركزية للهند بكانفور
6- بعد قيام دولة اليهود في فلسطين سنة 1948م بين علماء المسلمين حكم الصلح مع دولة اليهود، ففي الفتوى الصادرة من لجنة الفتوى في الأزهر سنة 1956م إجابة على حكم الصلح والسلام مع دولة اليهود في فلسطين أعلنت اللجنة:
"إن الصلح مع (إسرائيل) لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار للغاصب على الاستمرار في غصبه والأعراف بحقية يده على ما تصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه .. فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين اعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم بل يجب على المسلمين أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لرد هذه البلاد إلى أهلها .." "ومن قصر في ذلك أو فرط فيه أو خذل المسلمين عن الجهاد أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة تشتيت الشمل والتمكين لدول الاستعمار من تنفيذ مخططهم ضد العرب والإسلام وضد فلسطين فهو -في حكم الإسلام- فارق جماعة المسلمين ومقترف أعظم الآثام"..
7- وعندما زار السادات القدس في نوفمبر 1977م في رحلته الخيانية والتي انتهت بعقد معاهدة "كامب ديفيد" استسلامية .. وبعد أن رجع من زيارته حاول بعض علماء السوء ممن شغلتهم الدنيا عن الحق، والمتملقين للسلطان، والساعين للمناصب والمكاسب الزائلة .. حاولا أن يبرروا زيارة السادات وعملية السلام، وشبهوا في وثيقة صدرت عن الأزهر معاهدة الذل لاستسلام بصلح الحديبية الذي شرع الله به المؤمنين.(29/308)
غير أن لجنة الفتوى في الأزهر الشريف قد اجتمعت بعد ذلك وأصدرت فتوى أكدت فيها على فتوى لجنة الفتوى بالأزهر صادرة سنة 1956م -والتي سبق ذكرها- وذكرت في فتواها (إن اللجنة تفيد أن الصلح مع إسرائيل كما يريده "الداعون إليه" يجوز شرعاً لما فيه من إقرار للغاصب على الاستمرار على غصبه والاعتراف بحقية يده على ما اغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه...
"... ومن مبادئ الإسلام محاربة كل منكر يضر العباد والبلاد، وإذا كانت إزالته واجبه في كل حال فهي في حالة هذا العدوان أوجب وألزم، فإن هؤلاء المعتدين لم يقف اعتناؤهم عند إخراج المسلمين من ديارهم وسلب أموالهم وتشريدهم في البلاد بل تجاوز ذلك إلى أمور تقدسها الأديان السماوية كلها وهي احترام المساجد وأماكن العبادة".
8- وفي الدراسة التي قام بها فضيلة الدكتور محمد عثمان شبير من أسرة كلية الشرعية بجامعة الكويت حول حكم الصلح لليهود وذلك إجابة لسؤال تقدمت به إليه الرابطة الإسلامية لطلبة فلسطين حول هذا الأمر ذكر أن شروط عقد الصلح مع الأعداء (ويدخل ضمنهم اليهود طبعاً) في حكم الشرع أربعة شروط:
1- أن يتولى عقد الصلح إمام المسلمين أو نائبه فإن لم يكن فأهل الحل والعقد ممن تنطبق عليه المواصفات الشرعية وإلا اعتبر الصلح غير صحيح عند جمهور العلماء الفقهاء.
وعقب على هذه النقطة بأن قرار الصلح مع اليهود -إذا ادعى الحاكم أن فيه مصلحة المسلمين- يحتاج إلى مراجعة العلماء المخلصين ولا يتمثل هؤلاء الآن فيمن وصلوا إلى المناصب الرسمية الحكومية عن طريق التعيين الحكومي وإنما في العلماء العاملين الذين نذروا حياتهم لله سبحانه وتعالى ولمصلحة الأمة الإسلامية وقاموا بواجب الدعوة إلى الله. وأي قرار يصدر عن غير هذه الفئة باطل ..
2- أن يتحقق في الصلح مصلحة مشروعة، كتقوية المسلمين والرجاء في دخول الأعداء الإسلام أو في الذمة.
وبتطبيقنا هذا الشرط على الصلح مع اليهود نجد أن اليهود سوف يحققون العديد من المكاسب كتحقيق الاعتراف الدولي بهم، وتشجيع يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين المحتلة والاستقرار فيها وتثبيت حكمهم فيها، والتغلغل الاقتصادي في المنطقة، ونشر الفساد والانحلال الذي عرف اليهود بنشره وقيامهم بدور الشرطي في المنطقة لضرب أي توجه عربي وإسلامي صادق ..
3-أما المصالح التي يجنيها المسلمون -فيذكر د. شبير أن اليهود لن يعطوا للمسلمين دولة على دزء من فلسطين وإذا أعطوهم شيئاً فسوف يكون ضئيلاً وسيكون تحت هيمنة اليهود والأنظمة المتآمرة بحيث لا يصلح أبداً كمنطلق للجهاد "وهذا ما يحدث الآن".
وعلى هذا فإن الصلح مع اليهود لا يحقق هذا الشرط أيضاً.
ومثال ذلك إظهار الخمور والخنازير في دار الإسلام.. أو اقتطاع جزء من دار الإسلام (وهذا ما يترتب على السلام مع اليهود).
فإذا كان الشرط فاسداً فلا يجوز الوفاء به باتفاق الفقهاء.
وكذلك نرى في هذه النقطة (الشرط الثالث) أنه غير متحقق في الصلح مع اليهود.
4- أن يكون عقد الصلح مقدراً بمدة معينة.
فلا يصح الصلح المؤبد لأن في ذلك تعطيل وإيقاف لفريضة الجهاد الماضية إلى يوم القيامة.
والداعون إلى السلام والصلح مع اليهود يدعون إلى سلام دائم في المنطقة حسب تعبيرهم في اتفاقيات كامب ديفيد.. وبالطبع فإن هذا الشرط غير متحقق أيضاً.
انتهى الدكتور/ شبير من دراسته بخلاصة هي:
1- أن الصلح مع اليهود لا يجوز شرعاً لعدم وجود مسوغ شرعي له ولعدم توفر أي شرط من شروط عقد الصلح فيه.
2- إذا كان عقد الصلح مع اليهود غير صحيح فإن معاملة المسلمين لهم تكون على أساس الجهاد واعتبارهم محاربين ومعتدين وغاصبين.
3- إذا ثبت ذلك فغن من واجب كل مسلم إنكار الصلح مع اليهود ومحاربته.
ومما سبق يتبين لنا بوضوح أن السلام مع اليهود -حسبما يريد الداعون إليه- حرام شرعاً بل هو كبيرة من الكبائر وخيانة الله ولرسوله وللمؤمنين .. ونود أن نسأل كل مسلم رضي بالله رباً والإسلام ديناً وبمحمداً r نبياً وهو يرد في نفس الوقت أن يسالم اليهود .. نسأله: كيف ترضى بالله رباً وأنت تخالفه، وكيف ترضى بالإسلام ديناً ولا ترضى بمنهجه حكماً، وكيف ترضى بمحمداً r نبياً وأنت تخالف دعوته وتخون منهجه ورسالته .. لابد أن ترضى بحكم الله تعالى: ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم( [سورة الأحزاب: 36].
ثانياً: طبيعة اليهود وأخلاقهم وأهدافهم ومخططاتهم
لا شك أن أولئك الذين يدعون بالسلام مع اليهود والتعايش المشترك وعلاقات حسن الجوار.. وغيرها .. لو أنهم قرأوا القرآن الكريم، كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لترددوا كثيراً في دعواهم هذا بافتراض حسن النية عندهم !!.. ولو أنهم قلبوا صفحات التاريخ لتأكدوا بأنفسهم من حقيقة اليهود..
ولكن لماذا يفعلون هذا وهاهم يرون بأعينهم ما يفعله اليهود كل يوم من احتلال ومصادرة ونسف وقتل وتدمير وعربدة ..(29/309)
كيف يطمئن هؤلاء للسلام مع اليهود، وكيف ينادون بنداء محبتهم وكسر الحاجز النفسي .. والله سبحانه وتعالى قد حسم أمر عدائهم الأبدي لنا في كتابه .. )لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا( [سورة المائدة: 82] )ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم( [سورة البقرة: 130] )ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا( [سورة البقرة: 217] إنه صراع أبدي دائم بين الحق والباطل بين الإسلام والكفر.. وعلى راس الأعداء .. اليهود .. أم أن دعاة السلام لا يصدقون كلام الله؟!
كيف يكون هناك سلام وبناء وازدهار، الله سبحانه وتعالى يقول فيهم: )كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً( [سورة المائدة: 64].. هؤلاء الذي )قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر( [سورة آل عمران: 118] هؤلاء الذي )إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ( [سورة آل عمران: 119] والذي )إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصيبكم سيئة يفرحوا بها( [سورة آل عمران: 130].
ثم كيف يطمئن هؤلاء إلى قتلة الأنبياء .. )كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون( [سورة المائدة: 700] )ويقتلون النبيين بغير حق( [سورة آل عمران: 21] لقد قتلوا من أنبيائهم (عليهم السلام) حزقيال، وأشعيا، وآرميا (رجماً بالحجارة) وقدموا رأس يحيى هدية لفاجرة، ونشر زكريا بالمنشار.
وكيف يشقون بمن لا يقيمون للعهود وزناً ولا قيما )أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون( [البقرة: 100].
هؤلاء الذين رفع الله سبحانه جبل الطور فوقهم حتى يلتزموا بعهد الله فنبذوه .. هؤلاء الذين خانوا عهودهم مع رسول ا صلى الله عليه وسلم وتآمروا عليه طيلة وجودهم معه في المدينة.
وكيف يصدقون من خُلقه وصفته الكذب والافتراء .. حتى على كلام الله سبحانه: )يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون( [سورة البقرة: 75].
هؤلاء الذين )يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون( [سورة آل عمران: 78] .. )من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا ..( [سورة النساء: 46].
وكيف نحب ونصادق معشر يهود وقلوبهم أقسى من الحجارة )ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة( سورة البقرة: 74] .. هؤلاء )الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه( [سورة المائدة: 79] أساطين الربا )وأخذهم الربا وقد نهو عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل( [سورة النساء: 161]..
وبعد فإننا نقول لكم أدعياء السلام )ومن أصدق من الله قيلا( [سورة النساء: 123] إنه هو العظيم الخبير، وهو السميع البصير.. ونقول لهم )قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين( [سورة البقرة: 111].
ومما يعرفه الجميع أن اليهود يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار فهم يقولون "نحن أبناء الله وأحباؤه".. وجاء في التلمود "تتميز أرواح اليهود عن باقي أرواح البشر بأنها جزء من الله تعالى كما أن الابن جزء من أبيه،.. فإذا ضرب أمي إسرائيلياً كأنما ضرب العزة الإلهية والفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق بين اليهود وغيرهم..".
ويجوز عندهم أن يفعلوا بغيرهم ما شاؤوا .. وفي كتبهم: سأل إسرائيل إله: لماذا خلقت خلقاً سوى شعبك المختار فأجابه الله لتركبوا ظهورهم، وتمتصوا دماءهم وتحرقوا أخضرهم وتلوثوا طاهرهم وتهدموا عامرهم"، فهم يقولون كما ذكر القرآن على لسانهم )ليس علينا في الأميين سبيل( [سورة آل عمران: 75].
ورد في التلمود: "اقتلوا من الأجانب أفضلهم هشموا الرأس بين أحسن الأفاعي".
إنهم يحقدون على رسول ا صلى الله عليه وسلم حقداً تضيق به الأرض فلقد ورد في سفر حاز وحار (المطبوع بالفرنسية في باريس) سنة 1957م الجزء الثاني ص88: "يا أبناء إسرائيل اعلموا أننا لن نوفي محمداً حقه من العقوبة التي يستحقها حتى لو سلقناه في قدر طافحة الأقذار وألقينا عظامه النخرة للكلاب المسعورة ... ) لذلك فإن أخشى ما يخشون الإسلام ودعاته -من ذلك قول بن غوريون "إني أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد".
ثالثاً: أطماع اليهود التوسعية
ونحن نرفض الصلح مع اليهود -حسبما يريد الداعون إليه- لأننا نعرف أطماعهم التوسعية التي يستقونها من التوراة المحرفة ومما أملته شياطينهم في التلمود .. أنهم لم يكتفوا بفلسطين وحدها .. فهي - من ناحية منطقية على الأقل - لا تسع 16 مليوناً!!
ومما جاء فيا لتوراة المحرفة في سفر التكوين فصل 15 "قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.
وسجل هرتزل في مذكراته أن "المساحة من نهر مصر إلى نهر الفرات".
وفي التلمود "أن حدود فلسطين سوف تمتد وتتسع كلما ازدادت إمتلاء وكثافة" (كتوبوت 111، ص717). وفيه أيضاً أن أبواب القدس في عهدهم سوف تصل إلى دمشق!!
وفي سفر حزقيال (في العهد القديم) "كل شريعة غير شريعة موسى فاسدة وكل سلطة غير سلطة إسرائيل مغتصبة".(29/310)
وقبل فترة تناقلت الأنباء قيام حركة "أرض إسرائيل" التي تنادي بإسرائيل الكبرى وتقوم بتوزيع بطاقات بمناسبة الأعياد اليهودية تحمل خريطة الوطن العربي كله وتغطي الوطن العربي عبارة "إسرائيل المحتلة"!! كما تناقلت الأخبار قرب صدور صحيفة جديدة في الكيان الإسرائيلي اسمها "خيبر"..
وفي الجرائد الكويتية نشر تصريح لشارون يذكر فيه إن الأردن لا تعدو أكثر من ربع مساحة إسرائيل!! وبعملية حسابية بسيطة -نعلم أن الأردن أربعة أضعاف مساحة فلسطين أي أن الأرض التي يطالب بها شارون (في هذه المرحلة) ضعف مساحة فلسطين !!.
وفي خزائن روتشلد الذي أرسل إليه وعد بلفور خريطة لأرض إسرايل المرقبة تشمل بلاد الشام والعراق وبعض من تركيا وشمال الكويت السعودية بحيث يدخل ضمنها خبير والمدينة المنورة وشرقي مصر حتى النيل..
وعندما قدم اليهود سنة 1919م تصورهم عن الحد الأدنى الذي يرغبونه لحدود الوطن القومي اليهودي وضعوا فيه بالإضافة إلى فلسطين أجزاء من لبنان وسوريا وشرق الأردن.
فإذا كان هذا هو الحد الأدنى لمطالبهم قبل أن يقيموا دولتهم بحوالي 30 عاماً فكيف بعد أن تمكنوا وأتموا وسيطروا .. وفي ظل ضعف وتمزق عربي وإسلامي.
وعندما حصل قرار التقسيم لفلسطين في الأمم المتحدة سنة 1947م لم يكتف اليهود بالنصيب الذي فرضته دول الكفر لليهود وهو 56% حيث أضاف لذلك مساحات أخرى فأصبحت المساحة المحتلة المغتصبة من فلسطين 78%.
ولدعاة السلام أن يقرأوا عشرات التصريحات من "بيغن" مثلاً (الذي وقع لنفسه "اتفاقية السلام" - كامب ديفيد- مع مصر) والتي يطالب فيها بالأردن. وتكفيك نظرة واحدة إلى كتاب "حقيقة بيغن وشركائه" لإسرائيل شاحاك لتتأكد من ذلك بنفسك .. مثلاً في 2/1/1956م قال بيغن "اريد أن أدين امتناع الحكومة عن الإدلاء بصوتها حول قبول "الأردن في الأمم المتحدة، إذ يدل هذا العمل ضمنا على تنازلها عن الأراضي المحتلة، بينما يرى شعب إسرائيل في "رانس جورادان" - الأردن- المحتلة طرفاً مقطوعاً من قلب الأمة النابض، لتتجرأون على القبول بالأمر الواقع فتسمحون بقيام دولة غير دولتنا ووطننا التاريخ .. أرجو أن أكون بكلامي هذا قد عبرت عن آراء أغلبية اليهود في العالم.
ومن ذلك قوله في نيسان 1946م "... لكن بريطانيا لن تستطيع أن تمنع تدخلنا" نحن في "ملكنا" (أي الأردن) فنحن سنؤلف قوة عسكرية بناؤها الحقد على سارقي الأرض. وهذا الحقد سوف ينضم إلى حبنا للأرض فتنهض القوى المتراصة حتى نرفع علمنا فوق عمان".
وعلى الذين يدفنون رؤوسهم في الرمال .. ولا تزال تراودهم الآمال في عودة الضفة والقطاع بالسلام والصلح .. عليهم أن يصحوا ليروا الواقع المرير الذي يمارسه اليهود هناك .. وليتعرفوا على سياسة الضم التي تمارسها يوماً بعد يوم .. وليعلموا أن الأرض التي صادرها اليهود حتى نهاية 1985م من الضفة الغربية -وحسب اعترافهم- تزيد عن 52% من مساحة الأراضي .. وأن عدد مستعمراتهم في الضفة 150 مستعمرة، كما صادروا أكثر من 30% من مساحة قطاع غزة.
إن اليهود يقومون عملياً بتغيير جغرافية الأرض المحتلة ويجعلون منها بيئة طاردة لأبناء شعبنا الفلسطيني المسلم، ويضيقون عليهم كل سبل الحياة والرزق، ليفرغوا الأرض من شعبها، ويأتوا بالمهاجرين اليهود الجدد.
ألم يسمع دعاة السلام بالمطالب اليهود المتزايدة بطرد كل أبناء فلسطين خارج أرضهم -حتى لو كانوا مسالمين- لأنهم فقط ليسوا يهوداً ... ولا نظن الناس يجهلون مطالب كهانا .. وغيره.
ولهذا فإننا نرفض السلام مع اليهود ..
رابعاً: هل تريد "إسرائيل" حقاً السلام:
لا .. إنها لا تريد ذلك!!
إذن، لماذا أقامت السلام مع مصر؟! إنها سياسة بعد النظر فمصر تمثل بلا شك الثقل الأساسي في العالم العربي. ولها مع اليهود جبهة قتال بمئات الكيلومترات .. وإن تحييد مصر عن الصراع مع اليهود يمثل أكبر كارثة يمكن أن تواجه العرب والمسلمين .. فلا يستطيعون وجموعهم ممزقة، وصفوفهم مشتتة وطاقاتهم مفرقة أن يفعلوا شيئاً .. وبهذا الصلح يضمن اليهود الهدوء على إحدى جبهاتهم ويجعلونها سوقاً لمنتجاتهم. ويستجمعون طاقاتهم في هذه المرحلة ليقووا اقتصادهم وليوجهوا أسلحتهم ويركزوها في جبهات محددة ليحققوا اهتماماً عسكرية مرحلية أخرى..
ونسأل متى تفرغت "إسرائيل" للجبهة اللبنانية؟!
الاجتياح "الإسرائيلي" الكبير الأول للبنان حدث سنة 1978م بعد زيارة السادات للقدس وأثناء محادثات السلام ..
الاجتياح الثاني الكبير الذي استهدف القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان والذي انتهى بتشتيت المقاومة الفلسطينية في البلاد العربية وبمذابح صبرا وشاتيلا .. حدث في صيف 1983م.
ومتى ضم اليهود الجولان رسمياً إلى كيانهم اليهودي؟ والإجابة بالطبع اتفاقيات كامب ديفيد ..
وهل قل أو ضعف النشاط الاستيطاني اليهودي للضفة والقطاع .. كلا بل تزايد وتضاعف بأرقام مذهلة أكبر بكثير مما سبق معاهدة الصلح مع مصر ..
وهل خفف اليهود من ميزانية الأسلحة والقتال - رغم وضعهم الاقتصادي الصعب ورغم عجز العرب- ؟(29/311)
لا، بل ونشط التصنيع اليهودي للسلاح وتطوير الأسلحة وتصدير ما قيمته ألف مليون دولار أسلحة للخارج خلال سنة واحدة.
وهل انتشرت الرغبة في السلام بعد عقد الصلح مع مصر؟ لا، بل أن الذي تزايد بشكل رهيب هو ما يسمونه بالتطرف العنصري اليهودي والذي يشجعه الحكم في "إسرائيل" بطرق مباشرة وغير مباشرة، ويعلم القارئ، المطالبة بضم الضفة والقطاع واستعادة سيناء وطرد الفلسطينيين من فلسطين.. ومحاولات تدمير المسجد الأقصى واستفزاز المسؤولين للعرب وقتلهم وإيذائهم بمباركة حكام اليهود وعمل النقود المزورة لشراء الأراضي لطرد العرب، فمثلاً نشرت "الرأي العام الكويتية" في 9/9/85 أن 17 مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية قد أقيمت على أرض سرقت بالتزوير!!.
ومهماجمة المساجد وتدميرها .. وتسميم المياه التي يشرب منها العرب .. كل هذا زاد حدته في الفترة التالية لصلح مصر مع اليهود..
ولنسأل سؤالاً بسيطاً آخر: هل حددت إسرائيل لنفسها حدوداً؟!
إن دولة الكيان اليهودي هي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تحدد لنفسها حتى الآن حدوداً ثابتة !! لماذا؟؟ نترك الإجابة لدعاة السلام (الاستسلام).
والسذج من أصحاب النوايا الحسنة وبالإضافة إلى أصحاب النوايا الخبيثة، وأصحاب الأفكار السطحية .. يقولون أنه يكفي الرضا بالرجوع إلى الضفة والقطاع وعمل دولة فلسطينية .. ويمكن بعد ذلك القتال لتحقيق تحرير كامل فلسطين..
والطيبون منهم يتعاملون مع المسألة بسذاجة كبيرة، وأصحاب النوايا الخبيثة يشجعون هذا الطرح ويتبنونه بحجة الأمر الواقع، والتكتيك، وسياسة "خذ وطالب"..
ويطرحون هذا الأمر وكأن اليهود مجموعة من الأغبياء والمتخلفين عقلياً الذين ستفوت عليه هذه الحيلة الكبرى وذلك الدهاء السياسي .. وهو في حقيقته شرك كبير ومصيدة عظيمة لأبناء شعبنا وأمتنا .. تهدف إلى القبول بالأمر الواقع والرضا بالوجود الإسرائيلي وقتل روح الجهاد في النفوس ونشر اليأس فيها..
لقد هاجم اليهود لبنان سنة 1982م للقضاء على الوجود العسكري الفلسطيني فيها وبذلوا في سبيل ذلك آلاف الملايين من الدولارات وآلاف القتلى والجرحى .. واحتلوا أكثر من نصف لبنان وحاصروا بيروت .. وكانت تصل القذائف في اليوم الواحد على بيروت الغربية إلى حوالي مليون قذيفة يومياً وقطعوا الماء والكهرباء .. حتى انتهت المأساة بالخروج العسكري الفلسطيني وقيادته من بيروت .. وكان ختام المسك بالنسبة لليهود وعملائهم مذابح صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء شعبنا المسلم الفلسطيني - اللبناني ... وكانت النتيجة أكثر من 150 ألف قتيل وجريح في عملية الاجتياح اليهودي وحرب لبنان سنة 1982م.
لقد بذل اليهود كل هذا الجهد لإنهاء الوجود العسكري الفلسطيني في دولة مجاورة، فكيف يرضى اليهود ويوافقون على إعطاء الضفة والقطاع للفلسطينيين لإقامة دولتهم عليها لتحرير باقي فلسطين؟!!!
ويقول بيغن: "لن تكون هناك في أي ظرف من الظروف وبأي حال من الأحوال دولة فلسطينية".
لقد ضرب اليهود المفاعل النووي في العراق، ومكاتب منظمة التحرير في تونس.. وحتى الباكستان يهددون بقصف مفاعلها النووي، ويعمل الموساد الإسرائيلي في كل مكان، فكيف يوفرون لنا دولة مستقلة تقاتلهم.
إن لليهود تصوراً خاصاً عن "السلام" غير تصور البسطاء من الناس تماماً وكما أن للبعض أفكاراً سطحية وآمال معقودة على عملية "السلام" فإن لليهود أهدافاً بعيدة وخططاً مرحلية من خلف هذه العملية.
إن اليهود يريدون سلاماً من نوع خاص .. سلاماً لا يمكن تسميته في قاموس لغتنا إلا استسلاماً وركوعاً وإعلاناً للهزيمة .. ولسنا بصدد مشاريع السلام اليهودية ولكننا نقول باختصار أن السلام الإسرائيلي لا يتعدى كونه حكماً ذاتياً ممسوخاً على جزء من أرض الضفة والقطاع بحيث تعتبر ملكية الأرض ومصادر المياه لليهود، ولا تتعدى صلاحياته مجموعة الخدمات العامة التي يمكن أن تقدم للسكان بحيث تظل الهيمنة العسكرية لليهود الذين من حقهم تسيير دورياتهم وتنفيذ ما يريدون بحدة حماية أمنهم في منطقة الحكم الذاتي الممسوخ، وليس هذا لحكم تمثيل خارجي أو جيش أو استقلال سياسي طبعاً .. وشروط أخرى من الهيمنة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية إن السلام بالنسبة لليهود لا يعدو كونه مرحلة يقتلون بها نفسية الجهاد في أمة الإسلام .. لمضوا في مخططاتهم بعد ذلك..
هذا هو السلام الذي يريده اليهود .. وانظر إلى اتفاقية كامب ديفيد إن شئتم، ترى هل هذا ما يطلبه شعبنا المسكين، الذي بذل طوال السنين من الشهداء ما بذل وصبر على المر وتجرع الآلام راضياً محتسباً ..
وحتى منظمة التحرير الفلسطينية التي سارت في طريق السلام وتنازلت يوماً بعد يوم حتى هذه المنظمة يرفض اليهود الاعتراف بها والتعامل معها ..(29/312)
وها هي المنظمة وهي في أسوا مراحلها السلمية بعد أن ارتضت الحل السلمي ورضيت بقرارات قمة فاس ثم تنازلت ورضيت بالوفد الأردني -الفلسطيني المشترك يأبى اليهود إلا وأن يذلوا ما بقي لها من كبرياء فيضربونها في تونس أكتوبر 1985م وعلى بعد آلاف الكيلومترات من دولة الكيان اليهودي ويستهدفون رأس المنظمة نفسه وكوادر وقيادات المنظمة ويقتلون العشرات منهم ..
لو كان لليهود نوايا سليمة حقيقية لما فعلوا ذلك، لقد كانت رسالة موجهة منهم إلى المنظمة وكل اللاهثين خلف السلام ألا تتعبوا أنفسكم في هذا الطريق فلا سلام إلا السلام الذي يريدونه هم وعلى طريقتهم وإلا فلا ... وكلما تنازل العرب كلما قدموا شروطاً تعجيزية جديدة، وشعروا أنهم يستطيعون أن يفرضوا ما يريدون، لأنه لا توجد قوة تردعهم وتجبرهم على ما تريد .. وإن انتشار المطالبة بين اليهود بالأردن وشمال لبنان، ومحاولات هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل والمطالبة بطرد أبناء فلسطين من أرضهم كحل جذري لمشكلة العمليات الفدائية .. وغير ذلك لمؤشرات واضحة على ما تقول.
إن اليهود ليسوا من البراءة والرحمة وحسن النية وحب الخير حتى يستجيبوا لنداءات السلام، والذين يظنون ذلك سيصحون يروماً ما على اليهود وهم ينشبون أظافرهم في أجسادهم ويهتكون أعراضهم ويسفكون دماءهم .. فهذا بالنسبة لليهود إحدى قرباتهم إلى "رب الشعب المختار".
خامساً: خطورة السلام مع اليهود
إن الذين يدعون للسلام والصلح مع اليهود لا يدركون، أو لا يريدون أن يدركوا - خطورة السلام مع اليهود، وذلك الثمن العظيم الذي يدفعه العرب والمسلمين مقابل ذلك السلام الاستسلامي .. والنتائج المترتبة على ذلك.
ومن أهم الآثار المترتبة على السلام مع اليهود:
1- آثار سياسية:
الحرص على تدمير وإيقاف أية محاولة لإقامة شرع الله سبحانه وهذه المرة بتآمر أكثر قوة ومضاعفة لما له من خطر كبير عليهم في قتل المفاهيم حول الإسلام وإعلان الجهاد.
• الاعتراف بحق اليهود في الوجود ضمن دول مستقلة وحدود آمنة على جزء من أقدس بقاع المسلمين.
- منع أية مطالبة جادة بتحرير الأرض المحتلة وضرب أية محاولة جادة لاسترجاعها واتهامها بأنها عشرة في طريق السلام أنها تعطي اليهود المبرر للتخلي عن السلام والهجوم على البلاد العربية والتخلي عن حق الأجيال القادمة في التحرير - لأنه سلام دائم!!
إبقاء المنطقة العربية تحت النفوذ الأجنبي وبقاء الوطن العربي ممزقاً (حيث يفصل اليهود آسيا عن إفريقيا) وأداء إسرائيل لدورها كرأس حربة للمصالح والنفوذ اليهودي والصليبية والشيوعية في المنطقة.
- إشغال العرب عن "إسرائيل" في حرب إقليمية وطائفية وقومية.
- فتح المجال لليهود في البلاد العربية لأداء الأدوار التجسسية وبذر الفتنة وإثارة النعرات.
- اكتساب اليهود فعلياً لشرعية الوجود وشرعية الكيان المستقل -عربياً ودولياً- وبالتالي:
• الانفتاح الدولي عليهم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ...
• تيسير سبل الحياة والبقاء والازدهار لهذا الكيان الغصب.
• أية محاولة قادمة لتحرير الأرض والجهاد سوف تقابل باعتراض واستهجان دولي شديد .. بحيث نصبح المتهمين والمغتصبين والطامعين .. الإرهابيين.
• ضرب الحركة الإسلامية ورموزها لما تلعبه من دور جاد وصادق في نوعية الجماهير بخطورة الصالح الاستسلامي مع اليهود، وضرورة التصدي لليهود، وبث روح الجهاد في النفس.
2- آثار اقتصادية:
- إلغاء المقاطعة الاقتصادية العربية، وجعل البلاد العربية سوقاً للمنتجات "الإسرائيلية".
- توفير سبل الاستقراء والحياة والنماء والازدهار للاقتصاد اليهودي، وتثبيتهم في الأرض المحتلة بعد زوال شبح الخطر العسكري منهم.
- تقوية الوضع الاقتصادي "الإسرائيلي" بتعامل جميع شركات العالم معه، وحصوله على المواد الخام من البلدان العربية القريبة، وإعادة تصديرها مصنعة إليهم.
- استثمار الطاقة النفطية العربية.
- ترويج الأسلحة "الإسرائيلية" في البلدان العربية.
- استثمار الثروة المائية العربية من قبل إسرائيل.
- استغلال الأيدي العربية العاملة الرخيصة من قبل إسرائيل.
- التغلغل الاقتصادي في العالم العربي، وما يستتبعه من إنشاء شركات وبنوك ومؤسسات تمسك بعصب الاقتصاد، وتنشر الربا، وتربط البلاد العربية بعجلتها، وتضعها تحت رحمتها، مستغلين ما لديهم من خبرات ونفوذ عالمي في الاقتصاد، وما لجيهم من رؤوس أموال هائلة.
3- آثار ثقافية:
هل يتصور العرب والمسلمون أن القرآن سوف يحارب فتمنع تلاوة آياته الخاصة بالجهاد والخاصة باليهود حتى لا يوجد أي جو عدائي لليهود لأن آيات القرآن الكريم تعلم ذلك ويمنع تدريسها وشرحها!! وتمنع الكتب التي تفضح اليهود وحقائقهم وتوجهاتهم ولا يعود هناك ذكر للقضية الفلسطينية وتعليمها لأنه أصبحت هناك "إسرائيل" الصديقة الشقيقة!!
وسوف تكون هناك جغرافية اسمها جغرافية إسرائيل وتاريخ اسمه إسرائيل وأبناء عم مسالمون هم الشعب اليهودي الطيب المسكين ؟!!
ألم تقرأوا عن ذلك .. ألم توزع مصر منهجاً دراسياً على المدرس يتضمن الحديث عن "جغرافية إسرائيل".(29/313)
سيصبح كل مفكري العرب والمسلمين الصادقين دعاة إرهاب ومجرمي حرب ومثيري فتنة، وسيحارب الفكر الإسلامي ودعاته وتصادر كتبهم ومقالاتهم، .. وسيعاد كتابة التاريخ وستعلم كتب التراث بما يتناسب مع الوضع الجديد..
وتقام حملة لتجهيل الشعوب العربية المسلمة حقيقة قضاياها وجذورها وأعدائها، مع السعي لطمس هويتها لتناسب المرحلة الجديدة.
وسيشجع الكتاب والمؤلفون الخونة ليظهروا على الساحة، ويفسدوا عقول الناس بكل غث وتافه ومزور، ويبرّوا الخيانة.
سوف نكون في نظر أبنائنا وأحفادنا - إذا تعلموا ذلك وسار الأمر على ما يشتهي دعاة الإستسلام "ولن يسير بإذن الله" - سوف نكون مجرمين وقتلة وإرهابيين لأننا اعتدينا على شعب مسكين عاد إلى أرضه وأخذ حقه .. سوف يكون جهادنا وشرفنا سبة وعار، أما الاستسلام ودعاته فسوف يكونون دعاة الواقع وبعد النظر وحسن التعامل والتفاهم..
والخلاصة لكم أن تتصوروا أمة منسلخة عن دينها وثقافتها وأصالتها وتراثها وكرامتها .. ولا أريد أن أسترسل في هذه الصورة القائمة التي تثير القرف والتي لن تكون بإذن الله ..
4- آثار اجتماعية:
ومن ذلك فتح الهجرة بشكلها الواسع لليهود للقدوم إلى أرضنا المحتلة للاستقرار والإقامة والتغيير الجذري لطابعها الإسلامي والعربي .. وقلب المعادلة السكنية في الأرض المحتلة وذلك نظراً للاستقرار الأمني والاقتصادي المترتب على السلام مع اليهود.
وستفتح المجالات في البلاد العربية لينشر اليهود ما عرفوا به من فساد وفسوق وفاحشة في بلاد العرب والمسلمين.
وسينغمس الناس بشكل أكبر وأعمق في مجالات اللهو الفساد لتتحطم القيم والأخلاق والمشاعر الخيرة في النفوس .. وسيحرصون بالطبع على محاربة دعاة الإسلام ودعوة الإسلام.
وللقارئ أن يتصور إذا نجحوا لا سمحا لله بذلك - أن يتكون في أرضنا مجتمع غربي جديد- بأمراضه واخلاقه وفجوره وتحطم مبادئه السليمة - لبعيد اليهود في مجتمعنا تجربتهم التي نجحوا فيها في الغرب الأوروبي والشرق الشيوعي وسينبني على ذلك ظهور الكثير من المشاكل الاجتماعية وانتشارها كالتفكك الأسري وحوادث السرقة والقتل والاغتصاب، وأبناء الزنا، وانتشار أمراض الحضارة الغربية من قلق وانتحار وعبادة المصلحة، والمادة والأمراض الصحية كالإيدز والزهري والسيلان.
إن جهود الإفساد اليهودي ليست بعيدة عنا، وكان منها ما تداولته الأخبار من قدوم عشرات الفتيات اليهوديات لنشر مرض الإيدز فيها بتوجيه من الموساد الإسرائيلي.
ومن ذلك توطين الشعب الفلسطيني وطمس معالم وجوده وإذابته في محيطات المجتمعات التي يعيش بينها ..
ترى إذا حصل السلام المزعوم .. إلى أين سيعود أبناء فلسطين .. اين يذهب أبناء يافا وحيفا والناصرة وعكا وصفد وبيسان وطبريا من سكان فلسطين المحتلة سنة 1948م أم أن وجود هؤلاء في فلسطين كان خطأ تاريخياً من أجدادهم عليهم أن يدفعوا ثمنه !!! هذا إذا كان هناك إمكانية أصلاً لعودة أبناء فلسطين المحتلة 1967م.
وهذا إحدى المعاني الأساسية لمفهوم "تطبيع العلاقات" التي يطالب بها اليهود...
5- آثار عسكرية:
يقول أول رئيس وزراء إسرائيلي "بن غوريون" إذا أرادت إسرائيل .. والوجود، فإن عليها أن تتابع القتال دوماً".
ومن أهمها قتل روح الجهاد في أمة الإسلام وتدمير الروح المعنوية في النفوس، وتحطيم الأمل بإمكانية النصر على اليهود، والرضا بالأمر الواقع.
ومحاربة كافة التوجهات الجهادية والعسكرية في الدول بحجة الأمن والطمأنينة والسلام .. وإفراغ منظمة التحرير الفلسطينية من مضمونها القتالي.
وتوجيه عملية الصراع إلى صراع إقليمي بين الدول العربية أو الصراع طائفي داخلها .. أو صراع قومي بين القوميات الموجودة في العالم العربي والإسلامي..
وستكون فرصة ذهبية لليهود للإعداد لجولات قادمة من الاحتلال العسكري والمهني والتوسع.
إن آثار السلام مع اليهود - التي ذكرتها بشكل عام - خطيرة جداً جداً وهي على خطورتها وعلى ذلك الثمن الرهيب الذي يدفعه العرب ودعاة السلام ليس لها مقابل سوى حكم ذاتي ممسوخ أو (على الأكثر) دولة مستقلة ضمن شروط مهينة على جزء من أرضنا..
إن على الطيبين السذج الذين يسيرون خلف أدعياء السلام والمتآمرين على ديننا وكرامتنا وأمتنا .. إن عليهم أني صحوا من غفلتهم فليس الأمر كما يتصورون .. إنه إعداد للرقاب لتمر عليها سكين الجزار وهي راضية مطمئنة دون شكوى أو أنين!!
ولهذا نرفض السلام مع اليهود
سادساً: ضرورة الحل الإسلامي للقضية الفلسطينية
ونحن نرفض السلام مع اليهود لأننا ندرك تماماً أن الإسلام والحل الإسلامي لم يدخل المعركة بعد مع اليهود..
ونؤمن إيماناً لا ذرة للشك فيه أن الحل الإسلامي هو الحل الوحيد والصحيح للقضية الفلسطينية وكل قضايا المسلمين..
طبيعة المنهج الإسلامي:
إننا ندرك ذلك لأن المنهج الإسلامي منهج رباني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه شريعة الله العليم الخبير التي وضعها لعباده فإذا ساروا عليها سعدوا وفازوا وإذا تركوها ذلوا وضعفوا.(29/314)
والمنهج الإسلامي يعبئ طاقات الأمة كاملة فيعني بالفرد والأسرة والمجتمع ويحض على الإعداد في كافة المستويات، ويهيئ الروح الجهادية ويرفع الروح المعنوية وحب الاستشهاد بين أبناء المسلمين ويصبح الجهاد طريقاً ومنهجاً وشرفاً وكرامة، والموت في سبيل الله أمنية سامية تهفو إليها النفوس، وتتكون أمة جبارة تبذل ولا تطلب الثمن الدنيوي الرخيص، تصبر وتحتسب وتجاهد وتبذل الأسباب سعياً إلى إحدى الحسنيين إما النصر أو الجنة والتي يهيئها لها الاستشهاد في سبيل الله. إن لا بد من التمسك بمنهاج الله فالنصر من عنده )وما النصر إلا من عند الله( [سورة آل عمران: 126] والأمر بيده وإليه.
بشائر النصر:
يخرج المنهج أمة عاملة نشيطة تؤمن ببشائر النصر على اليهود وتسعى لتحقيقها .. )فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا( [سورة الإسراء: 7] وما نعيشه الآن هو الظهور الثاني لليهود .. وعلى أيدي المسلمين انتهاؤه بإذن الله.
ونؤمن بحديث: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
رصيد التجربة:
إن المنهج الإسلامي يملك رصيد تجربة عريق كلما تمسك به المسلمون انتصروا وعزوا وغلبوا عدوهم، مصداقاً لقوله تعالى: )إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم( [سورة محمد: 7] وكلما تركوه خسروا وذلوا )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( [سورة الرعد: 11] وفي الحديث: "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا".
عندما عاد المسلمون لدينهم وتوحدوا تحت رايته انتصروا في حروبهم ضد الصليبيين واستعادوا أرض فلسطين وبلاد الشام وعندما التزموا دينهم وتمسكوا به انتصروا على التتار واستعادوا أرض فلسطين بل وأسلم التتار على أيديهم.
أبعاد إسلامية المعركة:
إن إعلان إسلامية المعركة لا يعبئ طاقات الفلسطينيين وحدهم ولا العرب وحدهم وإنما المسلمين كلهم .. أنه يضاعف القدرة البشرية الجهادية من أربعة أو خمسة ملايين إلى ألف مليون .. ويضاعف ساحة الصراع مع اليهود من رقعة محدودة إلى أقطار المعمورة..
ويضاعف الإمكانات المادية لما للعالم الإسلامي من ثروات مختلفة هائلة في كافة المواد، ويضاعف القدرات البشرية العلمية المبدعة الموجودة في عالمنا الإسلامي.
إن توحيد طاقات المسلمين في معركتهم مع اليهود حسم المعركة مع اليهود بشكل أسرع وأضمن.
وذلك فإن أخشى ما يخشاه اليهود أن تستيقظ روح الإسلام في النفوس وتنتشر روح الجهاد وحب الاستشهاد .. وللقارئ أن يطلع على عشرات التصريحات اليهودية في هذا الشأن.
يقول بن غوريون: "نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديموقراطيات في المنطقة نحن فقط نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً وبدء يتململ من جديد.
• ويقول أيضاً: إن أخشى ما أخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد.
• ويقول شمعون بيريز في مهرجان انتخابي سنة 1978م: إنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة في ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه.
• ويقول إسحاق رابين في تصريح نشرته مجلة المجتمع سنة 1967م: "إن مشكلة الشعب اليهودي في أن الدين الإسلامي ما زال في دور العدوان والتوسع وليس مستعداً لقبول حلول مع إسرائيل إنه عدونا اللدود الذي يهدد مستقبل إسرائيل وشعوبها".
• ويقول المعلق السياسي لراديو إسرائيل في يوم 5/9/1978م الساعة العاشرة والنصف مساءاً "إن على اليهود وأصدقائهم أن يدركوا أن الخطر الحقيقي الذي تواجهه إسرائيل هو خطر عودة الروح الإسلامية إلى الاستيقاظ من جديد، إن على المحبين لإسرائيل أن يبذلوا كل جهدهم لإبقاء الروح الإسلامية خامدة لأنها إذا اشتعلت من جديد فلن تكون إسرائيل وحدها في خطر ولكن الحضارة الغربية كلها ستكون في خطر".
والعشرات من الأمثلة التي تقرأها في كتاب "عداء اليهود للحركة الإسلامية" وغيره..
فشل التجارب والأطروحات غير الإسلامية:
إن جميع الحلول التي طرحت لاسترداد فلسطين لم تكن حلولاً إسلامية وأن جميع الرايات المرفوعة التي قاتل تحت لوائها العرب لم تكن رايات إسلامية. وإن جميعا لمناهج التي تبناها العرب لم تكن مناهج إسلامية، ونستثني من ذلك الصفحات الناصعة التي سجلها المجاهدون بدمائهم الزكية على أرض فلسطين وكذلك الحلول الإسلامية الجهادية التي تبناها الإسلاميون والتي كانت ولا زالت تواجه بحملات شرسة من أصحاب الأفكار المستوردة.
إن الفشل في استرداد أرضنا المقدسة يتحمل وزره هؤلاء الذين أبعدوا الإسلام عن المعركة مع اليهود والذين قاتلوا تحت رايات بشرية منحرفة ضالة عاجزة..
وإن عدم نجاحهم في تحرير أرضنا المقدسة أمر طبيعي بالنظر إلى المناهج والسبل التي تبنوها وابتعادهم عنا لله سبحانه ومنهجه وعدائهم لشريعة الله ولدعاة الإسلام وقتلهم وسجنهم وتشريدهم..(29/315)
ولا شك أن فشل هؤلاء ليس مبرراً للسلام مع اليهود وإنما مبرر أكيد على وجوب فتح الطريق للمنهج الإسلامي ليأخذ دوره في الحكم والقيادة، ومبرراً أكيد ليتقدم دعاة الإسلام الصادقون فيمسكوا بزمام الأمر ويقودوا الدفة في الاتجاه الصحيح ويعدوا ذلك الجيل الرباني الذي يكون على يديه الفتح المبين واسترجاع المقدسات وكل أرض يذكر فيها اسم الله سبحانه..
حقيقة اليهود:
لقد انتعش اليهود في غياب تطبيق منهج الله وأصابهم الغرور وأخذوا يعربدون في أرض الإسلام .. ولا دواء لاجتثاث هذا السرطان إلا الإسلام ودعاته الصادقون الذين يعرفون حجم اليهود الطبيعي ويدركون صفاتهم ولا يرهبون جعجعتهم ولا نفوذهم فالله من ورائهم محيط، وهم نعم الموالي ونعم النصير ..
يجب أن يدرك المسلمون حين اليهود وذلتهم وضعفهم وأن قوتهم الظاهرة كانت في غياب جند الإسلام..
فجند الإسلام أحرص الناس على الشهادة في سبيل الله ..
أما اليهود فكما قال الله فيهم: )ولتجدنهم أحرص الناس على حياة( [سورة البقرة: 196] وجند الإسلام أعز من على الأرض لا يسددون إلا لله .. أما اليهود )ضربت لعيهم الذلة أينما ثقفوا إلا بجبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة( [سورة آل عمران: 112].
وجند الإسلام شجعان بعون الله متجمعين على أساس الأخوة الإسلامية العظيمة والغايات النبيلة الكريمة..
واليهود .. )لا يقاتلوكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى( [سورة الحشر: 14].
)وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة(..
ولعل البعض يقول أن النصر على اليهود الآن مستحيل ولكن ألم يحقق اليهود أنفسهم "مستحيلاً" بالنسبة لغيرهم وهو حلم ظل يراودهم لألفي عام .. بل أن كل محاولاتهم كانت مستحيلة التحقيق حتى عندما أعلنوا قيام دولتهم سنة 1948م كان أبناء فلسطين يتوقعون سحقها في أيام ..
لقد حقق اليهود وهم أجبن شعب وأذله وأحقره هذا "المستحيل" فلماذا لا نسعى لتحقيق أمر هو واقع لا محالة لأنه وعد الله سبحانه ..
وفي الختام إن علينا أن غرس الأمل ونحني النفوس على حب الجهادوالاستشهاد ونقوم بإعداد الجيل المقاتل والمجاهد سبيل الله، بدلاً من إضاعة الوقت على أعتاب (إسرائيل) وواشنطن الغربية، وبذل عملية التيئيس التي يعيشها شعبنا وجميع المسلمين، وبدل حياة الذل والمهانة التي يريدها الحكام لأبناء شعبنا وجميع المسلمين..
وإن تجربة المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني قد أثبتت جدواها واندحر اليهود جنوباً وانسحبوا إذا ذاقوا مرار الهزيمة على أيدي أبطال الإسلام، وما زالت العمليات تتوالى واليهود يتراجعون ..
وهذه حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين بالنسبة للفلسطينيين تتحقق بتوحيد الشعب الفلسطيني تحت راية الجهاد في سبيل الله وليس من خلال التحركات السياسية فلقد تحرك قبلها كثيرون وفشلوا ولم ينالوا شيئاً وعلى المنظمة أن تدرك أن هذه الشرعية تزول بترك الحل الإسلامي والبديل الجهادي العسكري، أو التنازل عن أي شبر من أرضنا المقدسة، .. وأن تنازلتها السياسية لا تعني ولا تلزم أي مسلم يقول لا إله إلا الله صادقاً بها قلبه، فتلك هي أصالة كل المسلمين وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني المسلم .. الأصالة التي تسعى لطمسها الشعارات المستوردة من شرق أو غرب ..
===================(29/316)
(29/317)
مواقف مضيئة للشيخ عبد الرحمن الدوسري في الصلح مع اليهود
أحمد المختار
في وقت اشتداد الهجمة الداعية إلى الصلح مع أعداء هذه الأمة من اليهود يلتفت الشباب إلى من يرشدهم إلى الموقف الحق من هذا الصلح الذي يضفي الشرعية والقبول على احتلال فلسطين وقدسنا العزيزة.
ولقد كان لصوت الشيخ المجاهد عبد الرحمن الدوسري وقع عظيم في قلوب معاصريه حيث كان من أوائل الذين تصدوا لخطورة المخطط اليهودي في المنطقة والذي يرنو إلى انتزاع الاعتراف به كحقيقة واقعة وجار شرعي… لقد وقف الشيخ في وجه هذا المخطط ولم يترك مناسبة إلا نبه فيها على خطر اليهودية العالمية وفروعها الماسونية المبثوثة في أرضنا الإسلامية، كما لم يغفل أثر المستعمر الأسمر الذي خلف المستعمر الأبيض، وحذر من فساد هؤلاء الباطنيين والمرتدين وبين أن كفر الردة أشد وأفسد من الكفر الأصلي.
عاش الشيخ هموم أمته لا سيما هموم القضية الفلسطينية ولم تكن تغيب عن طرحه ومناقشاته وخطبه التي كانت تبث وعياً تجاه الأخطار المحدقة بالأمة.
وللشيخ رسائل وكتب كثيرة أهمها تفسير: صفوة الآثار والمفاهيم والذي توفي ولم يكمله، أما مادة كثير من مقالاته ومقولاته فهو الذي نحن بصدده وكم هي حاجة الأمة له اليوم ألا وهو الصراع بين اليهود وأدعياء الإسلام وإن شئت العروبة وقد توفي - رحمه الله - في لندن في شهر ذي القعدة عام 1399 هـ وشيعته الأمة إلى مثواه الأخير في الرياض.
مواقف الشيخ - رحمه الله - من صراع الأمة مع اليهود:
لم يكن الشيخ عبد الرحمن في ساحة واحدة من ساحات الصراع مع أعداء الإسلام فلم تكن الماسونية واليهودية وحدها ولكن هناك مذاهب وأقوام أخرى كانوا في خندق المواجهة مع الشيخ، كان أبرزها بعد الماسونية القومية العلمانية والوطنية.
ومن خلال هذه الشيع كان الشيخ يدخل للحديث عن فلسطين أحياناً، وكان يأتي عليها أحياناً إذا مر ذكر فلسطين. ولما كان الحديث هنا عن هذه القضية وتحدث عن المصالح مع إسرائيل كان جديراً أن تذكر بعض مواقفه ومقالاته في هذا الباب وسنقسم مواقفه في هذه القضية كما يلي:
أولاً اليهود:
يؤكد الشيخ - رحمه الله - في كثير من مقالاته وخطبه ومحاضراته عداء اليهود لسائر الأمم عامة ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة منطلقاً من قوله - تعالى -: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا). يقول - رحمه الله - في محاضرة له بعنوان الماسونية عند حديثه عن الغزو الفكري: (إن الغزو الفكري فيه قتل معنوي وفيه سكر معنوي فصاحبه لا يفيق، وفيه عبودية صاحبها لا يتحرر أبداً، وذلك لفساد تصوراته، يتبجح بالحرية والاستقلال ويشتم الاستعمار صباح مساء، ويشتم ما سمى إسرائيل في كل لحظة، ولكن هو سائر في طريقها وفي نصرتها، وسائر على خطى الإستعمار، إن الذي يحمل البضائع الأرضية الملتقطة من المزابل اليهودية مهما شتم الاستعمار فهو أنجس منه وأقذر، وأضر على شعبه من كل مستعمر ومن كل صهيوني، وحقاً ثم حقاً ومليون حقاً إن الذين حملوا البضائع الأرضية الملتقطة من المزابل اليهودية قد خدموا ما يسمى إسرائيل، ومهدوا لما يسمى إسرائيل، وهم الذين عملوا على تأمينها وعلى تقوية الانطلاقة لها).
ثم ذكر - رحمه الله - بعض قرارات المحافل الماسونية لاستغلال وركوب الأمميين وكيف تحققت، ثم قال بعد ذلك: (انظروا كيف تحققت هذه التعاليم ونفذت هذه القرارات وأصبح ما يسمى إسرائيل محوطاً بدولة نصرانية في لبنان، ودولة نصيرية في سورية).
وما مر ذكر اليهود في ثنايا تفسيره إلا ووقف على مكرهم وخداعهم وضلالهم عن علم ومعرفة بالحق ولكن(حسداً من عند أنفسهم). فها هو يقول عن اليهود عند قوله - تعالى - (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون): (فكان طمع أسلافنا في إيمان اليهود مبنياً على وجه نظري معقول، ولكن الله العليم بالسرائر يعلم أن لا وجه لهذا الطمع، وليس فيه جدوى، لأنهم انحرفوا بحقيقة الدين الذي هو رابطة روحية قوية بين الأمم، وهداية للقلوب الفطرية، فجعلوه رابطة جنسية عصيبة يريدون به الانفصال عن غيرهم والاستعلاء عليهم، ويتصرفون بالنصوص على حسب أهوائهم ومصالحهم الشخصية، ويريدون أن يجعلوا من دينهم أداة تسلط على الأمم والشعوب في النواحي السياسية والاقتصادية بضروب من أنواع الافتراء على الله) [1].
ويقول أيضاً عند تفسيره لقوله - تعالى -: (إياك نعبد وإياك نستعين): (تالله إن الكفر بجميع أنواعه لم يهزم من الإسلام إلا صورته، أما الحقيقة فلو اصطدم بها لتحطم في الآخرين، كما تحطم في الأولين، واليهودية العالمية منذ عصور لم تسقط إلا الصور التي عملت على إبرازها، ذلك أن أكبر صورة يعبث بها الطفل يقدر على إسقاطها، أما الحقيقة فعملاقة)[2].
ثانياً مواقفه من احتلال من إسرائيل لفلسطين:
قد لا تجد خطبة أو محاضرة للشيخ تخلو من هذا الموضوع وإن تقسيم هذا الباب إلى قسمين أوضح وأبين:(29/318)
أ - حديثه عن القيادات العربية المحاربة لإسرائيل: لما كانت القيادات العربية هي عماد كثير من هزائم الأمة في العصر الحديث كان لها النصيب الأوفر من نظر الشيخ وحديثه وهو ممن عاصر وصولهم لسدة الحكم في كثير من بلاد الإسلام. لذا فلما وصل القذافي إلى الحكم اغتر به كثير من أصحاب النوايا الحسنة حين أوصد أبواب الحانات ومنع بيع الخمور وكان جواب الشيخ عنه في تلك الحالة انه من أعداء الإسلام وسيكشف عن وجهه الكالح عن قريب، فلم تمض فترة قصيرة حتى صدق حدس الشيخ وتبين صدق مقولته.
ويحسن بنا أن نقف على بعض من كتاباته وخطبه ومحاضراته عن هؤلاء النكرات في حساب تاريخ الأمة، يقول - رحمه الله - في خطبته التي هي بعنوان: حقيقة الهجرة النبوية وحكمها:
وما أكذب القوميين وأفجرهم إذ يقولون: الدين لله والوطن للجميع، الدين لله: صلوا واركعوا وتدروشوا في المسجد. أما الوطن فللجميع: لليهودي والنصراني والدرزي والمجوسي والنصيري. من يحكم حكماً علمانياً بقوانين وضعية (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) (الدين لله والوطن لله) رغماً عن أنوف القوميين أذناب إسرائيل والذين اتضحت خيانتهم في الصلح مع إسرائيل ودقوا آخر مسمار في نعش فلسطين ولعبوا على المسلمين ثلاثين سنة بأخذ التبرعات وإظهار الصيحات الفارغة: الدين لله والوطن لله، لا لأحد غير الله… يجب أن يحكم فيه بحكم الله وأن تقام فيه شريعة الله وتنفذ فيه حدود الله، ويجب أن يكون منطلقاً للدعوة والجهاد، ولإعلاء كلمة الله وقمع المفترى عليه، هكذا دين الإسلام وما سواه فهو وثنية صبغه اليهود بصبغة وطنية قومية).
وفي خطبة بعنوان (الدين النصيحة) يقول الشيخ - رحمه الله -:
(الناصح لله المحب الصادق في محبته لله لا يحب أحداً من الطواغيت المتنفذين الحاكمين بلادهم حكماً علمانياً كافراً، يبيحون فيه الخمور والفواحش والزنا حالة الرضا، والمراقص والربا والبلاجات العارية والقمار، ويحلون كل ما حرم الله ويحكمون بغير شريعة الله، هؤلاء لا يجوز للمسلم محبة أي رئيس من رؤسائهم، ولا التبرع في سبيلهم حتى ولو ادعوا حرب إسرائيل، وهم لو حاربوها فهم كاذبون، لا يحاربونها إلا على مخطط وعند حد مدروس أياماً معدودات وسنوات معروفة خططها لهم أسيادهم من الروس والأمريكان ولكنهم يلعبون على أذقان الشعوب.
وهذه النظرية كانت غير واضحة عند كثير من أهل الصلاح في الزمن والمكان الذي تكلم فيه الشيخ - رحمه الله -، ولقد ألمح الشيخ إلى لمحات لطيفة عند وقوفه مع حديث (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار… الحديث) حيث قال في صفوة الآثار والمفاهيم:
ومن شواهد هذا التصوير وظهور صحته للعيان أنهم في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور ويتبجحون فيه بدعوى التقدمية والتحرر، ويخادعون الناس بدعوى طردهم للاستعمار، قد عجزوا عن اقتلاع وانتقاش شوكة في جسمهم، قد اتفق الاستعمار الغربي والشرقي على غرزها فيه، وهي ما يسمى بدولة إسرائيل التي انتزعت منهم قطعة عظيمة عزيزة على المسلمين، ولو نجح أحد طرفي الاستعمار معهم وصدق في معونته لهم باقتلاعها، لاتنفخوا انتفاخة الهر على العالم بشتى أنواع الغرور والتهريج، ولكنهم مع حالتهم المشؤومة التي صاروا بها ألعوبة للغرب والشرق لم يخجلوا من دعاويهم التي يريدون أن يحمدوا فيها بما لم يفعلوا ولم يحفزهم النكبات على توحيد صفوفهم والرجوع إلى ربهم للاستعانة على حرب عدوهم؛ لأن الأنانية تمنعهم من ذلك وتبعدهم عنه)[3].
ولما تحدث عن الإسراء والمعراج في محاضرة له بهذا العنوان ألقاها في المسجد الجامع الكبير بالرياض قال:
إن الإسراء يذكرنا بعظم المسجد الأقصى وإسلاميته، الذي أضاعه القوميون بصراخهم وعروبتهم المزيفة، وما إضاعتهم له إلا بسبب خيانتهم لله، حيث رفع الله عنهم يده وسلط عليهم جرذان الخليقة من أراذل اليهود، هذا المسجد الذي يتباكون عليه وبعضهم يزعم عروبة الأقصى، ويطالب بعروبة الأقصى؛ لأن ذكر الإسلام يزكم أنفه لا يقول إسلامية الأقصى.
وفي نهاية هذا الفصل يحسن بيان أن الشيخ كثيراً ما يؤكد التفريق بين الحكام والشعوب فالحكم على الحكام لا ينسحب على الشعوب.
ثانياً حديثه عن الصلح مع اليهود:
كانت مؤامرة الاستسلام التي خان فيها السادات أمته فاجعة ومفاجئة لكثير من أبناء الإسلام. أما من تابع كتابات الشيخ وحديثه فسيعلم أنه كان يتحدث عن هذه الخيانات قبل وقوعها لمعرفته بأحوال العساكر والإمعات التي تحيط بإسرائيل. فحين كان الناس مبتهجين بحرب أكتوبر كان الشيخ يتحدث عن الخيانات التي حاكها المستعمر الأسمر فيها. ويُغني عن الإسهاب في هذا إيراد بعض من مقالات الشيخ ومقولاته، يقول - رحمه الله - في محاضرته نظرات في سورة (ق). عند حديثه عن حكام المسلمين:
جعلوا من فلسطين قميص عثمان، لو استرجعوا فلسطين فبماذا سيحكمونها، مع أن استرجاعهم فلسطين بدون حمل الرسالة لا يمكن، فلسطين انتزعها اليهود بعقيدة ولا تنتزع منهم إلا بعقيدة أصح منها.(29/319)
ثم يعرج على عروبة القدس: (يقولون عروبة القدس، عروبة القدس، ولا يقولون إسلامية القدس لأنهم لا ينوون أن يحكموها بالإسلام). ولا ينسى أن يبين أثر خيانة الأمة مع اليهود فيقول:
واليهود الجبناء يستيقنون تمام اليقين أن لا قرار لهم ولا يمكن أن تقوم لهم دولة بين أسود التوحيد ذلك خططوا مسخ أسود التوحيد إلى هررة، إلى سنانير لا تملك سوى الانتفاخة:
… كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
لكن انتفاخة لا يتبعها إلا الشر وجاء الشر… (الصلح مع إسرائيل) وستكون إسرائيل مصيفاً. يا ليتهم اقتصروا على الصلح وعلى علاقات دبلوماسية، لا. بل فتحوا أبواب الثقافة والتجارة والسياحة جواً وبراً، لتكون لفساق العرب ويجدون في إسرائيل ما لا يجدون في بلدان العرب الأخرى. (بتصرف).
يجدون فتيات على غاية من الحسن والجمال، وعلى غاية من المكر ودغدغة الغرائز وكسب القلوب وأخذ الأسرار وابتزاز الأموال. هكذا نتيجة الصلح المشؤوم.
وإذا استمعنا إلى الشيخ في محاضرة له بعنوان (العقيدة والهجرة) تجده محتداً عند ذكر بعض ألفاظ الحكام حيث يقول:
وجعلت أدمغة الشباب ومن هم أكبر من الشباب متبلورة بدعاوى الطواغيت: ما فيش [4] سلاح، العدو أقوى، العدو وراءه أمريكا. هذه الكلمات الملعونة التي يجب أن يلعن قائلها: هذه الكلمات تأثر بها العرب خاصة، تأثراً مشيناً، بحيث تكونت فيهم هزيمة نفسية واعتذارات للطواغيت المصطلحين مع إسرائيل. بحدة عدم وفرة السلاح، أو بأن أمريكا تمد إسرائيل بأقوى السلاح. أنتم مددكم من لا تعجزه قوة في السموات ولا في الأرض. أحسنوا علاقتكم بالله وتنالوا من الله كل نصر وتأييد).
ولما ظن عامة الناس أن عبد الناصر سيدك إسرائيل قبل حرب حزيران البائسة سأله أحد أصحابه عن الحرب فقال بملء فيه: (لا، لا تخف الأمر بسيط. الحرب خمسة أيام أو ستة، تدك فيها قوات جمال عبد الناصر وطائراته التي حصل عليها من روسيا، ثم تكون هناك هدنة يلجأ بعدها عبد الناصر صاغراً فيسقط في أحضان أمريكا، ثم يكون بعد ذلك صلح ومعاهدة استسلام تبدأ بها مصر، ويتبعها معظم العرب)[5].
يقول الشيخ هذا قبل 24 سنة وها هم حكام العرب يركضون في مضمار الاستسلام. ولقد كان نظر الشيخ في موضعه فلقد كان يحاك في الخفاء مشروع روجرز، الذي لا يقل شراً عن كامب ديفيد.
وأخيراً من هذه الوقفات السابقة مع الشيخ - رحمه الله - التي نرى فيها صدق اللهجة ومعرفة قدر المتمكنين في رقاب الأمة. كما نرى فيها اعتصار قلب مكلوم على مسرى الحبيب صلى الله عليه وسلم وأرض فلسطين التي فتحها عمر واستعادها صلاح الدين ورويت أرضها بدماء الشهداء من الصحابة والتابعين والمجاهدين الأولين. الأرض التي أضاعها من لم يعرفوا ثمنها من أذناب الاستعمار وأفراخ الغرب والشرق.
----------------------------------------
[1] - صفوة الآثار والمفاهيم في تفسير القرآن العظيم، ج 2، ص 189.
[2] - المصدر السابق، ج 1، ص 188.
[3] - المصدر السابق ج 1، ص 233.
[4] - حرصاً على نقل النص كما ذكره الشيخ جعلناه كما هي.
[5] - رسالة الماجستير آنفة الذكر، ص 101.
http: //www. alsunnah. o r g
================(29/320)
(29/321)
وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار
القسم : أملاءات > مراسلات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد فقد نشرت بعض الصحف المحلية تصريحا لبعض الناس قال فيه ما نصه: (إننا لا نكن العداء لليهود واليهودية وإننا نحترم جميع الأديان السماوية)، وذلك في معرض حديثه عن الوضع في الشرق الأوسط بعد العدوان اليهودي على العرب. ولما كان هذا الكلام في شأن اليهود واليهودية يخالف صريح الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ويخالف العقيدة الإسلامية وهو تصريح يخشى أن يغتر به بعض الناس، رأيت التنبيه على ما جاء فيه من الخطأ نصحا لله ولعباده.. فأقول:
قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين، وأن يحذروا مودتهم واتخاذهم أولياء، كما أخبر الله سبحانه في كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ}[1] إلى قوله سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[2] وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[3] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[4] وقال عز وجل في شأن اليهود: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}[5] الآية. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[6] الآية.(29/322)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على وجوب بغض الكفار من اليهود والنصارى وسائر المشركين وعلى وجوب معاداتهم حتى يؤمنوا بالله وحده، وتدل أيضا على تحريم مودتهم وموالاتهم وذلك يعني بغضهم والحذر من مكائدهم وما ذاك إلا لكفرهم بالله وعدائهم لدينه ومعاداتهم لأوليائه وكيدهم للإسلام وأهله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بما يعملون محيط}[7] ففي هذه الآيات الكريمات حث المؤمنين على بغض الكافرين، ومعاداتهم في الله سبحانه من وجوه كثيرة، والتحذير من اتخاذهم بطانة، والتصريح بأنهم لا يقصرون في إيصال الشر إلينا، وهذا هو معنى قوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}[8] والخبال هو: الفساد والتخريب. وصرح سبحانه أنهم يودون عنتنا، والعنت: المشقة، وأوضح سبحانه أن البغضاء قد بدت من أفواههم وذلك فيما ينطقون به من الكلام لمن تأمله وتعقله وما تخفي صدورهم أكبر من الحقد والبغضاء ونية السوء لنا أكبر مما يظهرونه، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار قد يتظاهرون بالإسلام نفاقا ليدركوا مقاصدهم الخبيثة وإذا خلوا إلى شياطينهم عضوا على المسلمين الأنامل من الغيظ، ثم ذكر عز وجل أن الحسنات التي تحصل لنا من العز والتمكين والنصر على الأعداء ونحو ذلك تسوءهم وأن ما يحصل لنا من السوء كالهزيمة والأمراض ونحو ذلك يسرهم وما ذلك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لنا ولديننا.
ومواقف اليهود من الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام كلها تشهد لما دلت عليه الآيات الكريمات من شدة عداوتهم للمسلمين، والواقع من اليهود في عصرنا هذا وفي عصر النبوة وفيما بينهما من أكبر الشواهد على ذلك، وهكذا ما وقع من النصارى وغيرهم من سائر الكفرة من الكيد للإسلام ومحاربة أهله، وبذل الجهود المتواصلة في التشكيك فيه والتنفير منه والتلبيس على متبعيه وإنفاق الأموال الضخمة على المبشرين بالنصرانية والدعاة إليها، كل ذلك يدل على ما دلت عليه الآيات الكريمات من وجوب بغض الكفار جميعا والحذر منهم ومن مكائدهم ومن اتخاذهم بطانة.
فالواجب على أهل الإسلام أن ينتبهوا لهذه الأمور العظيمة وأن يعادوا ويبغضوا من أمرهم الله بمعاداته وبغضه من اليهود والنصارى وسائر المشركين حتى يؤمنوا بالله وحده، ويلتزموا بدينه الذي بعث به نبيه محمدا r. وبذلك يحققون اتباعهم ملة أبيهم إبراهيم ودين نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي أوضحه الله في الآية السابقة، وهي قوله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[9] وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَءاؤا مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}[10] وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[11] والآيات في هذا المعنى كثيرة.(29/323)
وفي قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}[12] دلالة ظاهرة على أن جميع الكفار كلهم أعداء للمؤمنين بالله سبحانه وبرسولهمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن اليهود والمشركين عباد الأوثان أشدهم عداوة للمؤمنين، وفي ذلك إغراء من الله سبحانه للمؤمنين على معاداة الكفار والمشركين عموما وعلى تخصيص اليهود والمشركين بمزيد من العداوة في مقابل شدة عداوتهم لنا، وذلك يوجب مزيد الحذر من كيدهم وعداوتهم.ثم إن الله سبحانه مع أمره للمؤمنين بمعاداة الكافرين أوجب على المسلمين العدل في أعدائهم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[13] فأمر سبحانه المؤمنين أن يقوموا بالعدل مع جميع خصومهم، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم وأخبر عز وجل أن العدل مع العدو والصديق هو أقرب للتقوى. والمعنى: أن العدل في جميع الناس من الأولياء والأعداء هو أقرب إلى اتقاء غضب الله وعذابه. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[14] وهذه الآية الكريمة من أجمع الآيات في الأمر بكل خير والنهي عن كل شر، ولهذا روي أن صلى الله عليه وسلم لما بعث عبد الله بن رواحة الأنصاري إلى خيبر ليخرص على اليهود ثمرة
النخل، وكان صلى الله عليه وسلم قد عاملهم على نخيلها وأرضها بنصف ثمرة النخل والزرع، فخرص عليهم عبد الله ثمرة النخل، فقالوا له إن هذا الخرص فيه ظلم، فقال لهم عبد الله رضي الله عنه: ((والذي نفسي بيده إنكم لأبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، وإنه لن يحملني بغضي لكم وحبي لرسول ا صلى الله عليه وسلم على أن أظلمكم)) فقال اليهود: بهذا قامت السموات والأرض. فالعدل واجب في حق القريب والبعيد والصديق والبغيض، ولكن ذلك لا يمنع من بغض أعداء الله ومعاداتهم ومحبة أولياء الله المؤمنين وموالاتهم، عملا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، والله المستعان. أما قول الكاتب: (وإننا نحترم جميع الأديان السماوية) فهذا حق ولكن ينبغي أن يعلم القارئ أن الأديان السماوية قد دخلها من التحريف والتغيير ما لا يحصيه إلا الله سبحانه ما عدا دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه وخليله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد ا صلى الله عليه وسلم فقد حمله الله وحفظه من التغيير والتبديل، وذلك بحفظه لكتابه العزيز وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، حيث قال الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[15] فقد حفظ الله الدين وصانه من مكايد الأعداء بجهابذة نقاد أمناء، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وكذب المفترين وتأويل الجاهلين، فلا يقدم أحد على تغيير أو تبديل إلا فضحه الله وأبطل كيده. أما الأديان الأخرى فلم يضمن حفظها سبحانه، بل استحفظ عليها بعض عباده فلم يستطيعوا حفظها، فدخلها من التغيير والتحريف ما الله به عليم كما قال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}[16] وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}[17] الآية.
وقال عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}[18] وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[19].الآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما ما كان من الأديان السماوية السابقة سليم من التغيير والتبديل فقد نسخه الله ببعث رسول ا صلى الله عليه وسلم وإنزاله القرآن الكريم، فإن الله سبحانه أرسل رسوله محمدا r إلى الناس كافة ونسخ بشريعته سائر الشرائع، وجعل كتابه الكريم مهيمنا على سائر الكتب السماوية.(29/324)
فالواجب على جميع أهل الأرض من الجن والإنس سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم من سائر أجناس بني آدم، ومن سائر أجناس الجن أن يدخلوا في دين الله الذي بعث به خاتم الرسل إلى الناس عامة وأن يلتزموا به ويستقيموا عليه، لأنه هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[20] وقال عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[21] وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[22] وقال تعالى في سورة المائدة بعد ما ذكر التوراة والإنجيل يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[23] ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة الظاهرة والبرهان القاطع على وجوب الحكم بين اليهود والنصارى وسائر الناس بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى أنه لا إسلام لأحد ولا هداية إلا باتباع ما جاء به، وأن ما يخالف ذلك فهو في حكم الجاهلية وأنه لا حكم أحسن من حكم الله، وقال تعالى في سورة الأعراف: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[24] ففي هذه الآية الكريمة الدليل القاطع والحجة الدامغة على عموم بعثة صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى وأنه بعث بالتخفيف عنهم، وأنه لا يحصل الفلاح لكل من كان في زمانه من الأمم وهكذا ما بعد ذلك إلى قيام الساعة إلا بالإيمان به ونصره وتعزيره واتباع النور الذي أنزل معه. ثم قال سبحانه بعد ذلك تأكيدا للمقام وبيانا لعموم الرسالة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[25] ومن هذه الآية وما قبلها من الآيات يتضح لكل عاقل أن الهداية والنجاة والسعادة إنما تحصل لمن آمن ب صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الهدى، ومن حاد عن ذلك فهو في شقاق(29/325)
وضلال وبعد عن الهدى، بل هو الكافر حقا وله النار يوم القيامة، كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}[26] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[27] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[28] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[29].
وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار)).
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه دلالة ومقنع للقارئ على وجوب معاداة الكفرة من اليهود وغيرهم وبغضهم في الله وتحريم مودتهم واتخاذهم أولياء، وعلى نسخ جميع الشرائع السماوية ما عدا شريعة الإسلام التي بعث الله بها خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد ابن عبد ا صلى الله عليه وسلم ، وعلى سائر النبيين والمرسلين، وجعلنا من اتباعهم بإحسان إلى يوم الدين إنه على كل شيء قدير، وليس معنى نسخ الشرائع السابقة أنها لا تحترم، أو أنه يجوز التنقص منها، ليس هذا المعنى هو المراد، وإنما المراد رفع ما قد يتوهمه بعض الناس أنه يسوغ اتباع شيء منها، أو أن من انتسب إليها من اليهود أو غيرهم يكون على هدى، بل هي شرائع منسوخة لا يجوز اتباع شيء منها لو علمت على التحقيق وسلمت من التغيير والتبديل، فكيف وقد جهل الكثير منها، لما أدخل فيها من تحريف أعداء الله الذين يكتمون الحق وهم يعلمون. ويكذبون على الله وعلى دينه ما تقتضيه أهواؤهم ويكتبون الكتب من عندهم وبأيديهم ويقولون: إنها من عند الله، وبذلك يعلم كل من له أدنى علم وبصيرة أن الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يدخلوا في دين الله الذي هو الإسلام وأن يلتزموه، وأنه لا يسوغ لأحد الخروج عن ذلك لا إلى يهودية ولا إلى نصرانية ولا إلى غيرهما، بل المفروض على جميع المكلفين من حين بعث الله نبيه ورسوله محمدا r إلى قيام الساعة هو الدخول في الإسلام والتمسك به، ومن اعتقد أنه يسوغ له الخروج عن شريعة صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كليم الرحمن عليه الصلاة والسلام فهو كافر بإجماع أهل العلم، يستتاب وتبين له الأدلة فإن تاب وإلا قتل، عملا بما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على عموم رسالة صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونسأله عز وجل أن يثبتنا على دينه وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمن على عباده بالدخول في دينه، والكفر بما خالفه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى سائر النبيين والمرسلين وسائر الصالحين، والحمد لله رب العالمين.
[1] سورة الممتحنة من الآية 1.
[2] سورة الممتحنة الآية 4.
[3] سورة المائدة الآية 51.
[4] سورة التوبة الآية 23.
[5] سورة المائدة الآية 80-82.
[6] سورة المجادلة الآية 22.
[7] سورة آل عمران الآيتان 118-120.
[8] سورة آل عمران الآية 118.
[9] سورة الممتحنة الآية 4.
[10] سورة الزخرف الآية 26-27.
[11] سورة المائدة الآية 57.
[12] سورة المائدة الآية 82.
[13] سورة المائدة الآية 8.
[14] سورة النحل الآية 90.
[15] سورة الحجر الآية 9.
[16] سورة المائدة الآية 44.
[17] سورة المائدة الآية 41.
[18] سورة البقرة الآية 79.
[19] سورة آل عمران الآية 78.
[20] سورة آل عمران الآيتان 19-20.
[21] سورة البقرة الآيتان 136-137.
[22] سورة آل عمران الآية 85.
[23] سورة المائدة الآيتان 48-50.
[24] سورة الأعراف الآيات 156-157.
[25] سورة الأعراف الآية 158.
[26] سورة هود الآية 17.
[27] سورة سبأ الآية 28.
[28] سورة الأنبياء الآية 107.
[29] سورة الفرقان الآية 1.
================(29/326)
(29/327)
الحوار الذي أجراه رئيس تحرير جريدة " المسلمون "مع سماحته حول الصلح مع اليهود
مجموع فتاوى و مقالات ابن باز - (ج 8 / ص 195)
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان رضي الله عنه وأنكروا على عثمان علنا عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم ، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية ، وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك ، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني ، وذكر العيوب علنا ، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه ، وقد روى عياض ابن غنم الأشعري ، أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال : من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه
نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا المسلمين من كل شر ، إنه سميع مجيب .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ، وآله وصحبه .
الحوار الذي أجراه رئيس تحرير جريدة " المسلمون " مع سماحته حول الصلح مع اليهود
جواز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك
س1 : سماحة الوالد : المنطقة تعيش اليوم مرحلة السلام واتفاقياته ، الأمر الذي آذى كثيرا من المسلمين مما حدا ببعضهم معارضته والسعي لمواجهة الحكومات التي تدعمه عن طريق الاغتيالات أو ضرب الأهداف المدنية للأعداء ، ومنطقهم يقوم على الآتي :
أ- أن الإسلام يرفض مبدأ المهادنة .
ب- أن الإسلام يدعو لمواجهة الأعداء بغض النظر عن حال الأمة والمسلمين من ضعف أو قوة
نرجو بيان الحق ، وكيف نتعامل مع هذا الواقع بما يكفل سلامة الدين وأهله؟
ج1 : تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة ، إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك؛ لقول الله سبحانه : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ولأن صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا ، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وصالح كثيرا من قبائل العرب صلحا مطلقا ، فلما فتح الله عليه مكة نبذ إليهم عهودهم ، وأجل من لا عهد له أربعة أشهر ، كما في قول الله سبحانه : بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ الآية .
وبعث r المنادين بذلك عام تسع من الهجرة بعد الفتح مع الصديق لما حج رضي الله عنه ، ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة ثم قطعها عند زوال الحاجة ، كما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ، وقد بسط العلامة ابن القيم - رحمه الله - القول في ذلك في كتابه ( أحكام أهل الذمة ) ، واختار ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم . والله ولي التوفيق .
حوار أجراه الدكتور عبد الله الرفاعي رئيس تحرير جريرة " المسلمون " مع سماحة الشيخ حفظه الله ، ونشر نص الحوار في العدد ( 516 ) بتاريخ 21 / 7 / 1415 هـ .
السمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف
س2 : يرى البعض : أن حال الفساد وصل في الأمة لدرجة لا يمكن تغييره إلا بالقوة وتهييج الناس على الحكام ، وإبراز معايبهم؛ لينفروا عنهم ، وللأسف فإن هؤلاء لا يتورعون عن دعوة الناس لهذا المنهج والحث عليه ، ماذا يقول سماحتكم؟
ج2 : هذا مذهب لا تقره الشريعة؛ لما فيه من مخالفة للنصوص الآمرة بالسمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف ، ولما فيه من الفساد العظيم والفوضى والإخلال بالأمن .
والواجب عند ظهور المنكرات إنكارها بالأسلوب الشرعي ، وبيان الأدلة الشرعية من غير عنف ، ولا إنكار باليد إلا لمن تخوله الدولة ذلك؛ حرصا على استتباب الأمن وعدم الفوضى ، وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ومنها : قول صلى الله عليه وسلم : من رأى من أميره شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة وقول صلى الله عليه وسلم : على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره في المنشط والمكره ما لم يؤمر بمعصية الله
وقد بايع الصحابة رضي الله عنهم صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، والعسر واليسر ، وعلى ألا ينزعوا يدا من طاعة ، إلا أن يروا كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
والمشروع في مثل هذه الحال : مناصحة ولاة الأمور ، والتعاون معهم على البر والتقوى ، والدعاء لهم بالتوفيق والإعانة على الخير ، حتى يقل الشر ويكثر الخير .
نسأل الله أن يصلح جميع ولاة أمر المسلمين ، وأن يمنحهم البطانة الصالحة ، وأن يكثر أعوانهم في الخير ، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده ، إنه جواد كريم .
زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه سنة إذا تيسر ذلك
س3 : في ظل التفاهم بين العرب واليهود ، هل يجوز زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه ، خصوصا في حال الموافقة من الدول العربية؟(29/328)
ج3 : زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه سنة إذا تيسر ذلك؛ لقول صلى الله عليه وسلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى متفق على صحته . والله الموفق .
نصيحة مهمة
س4 : يختلف الفلسطينيون في مواقفهم من عملية السلام : فحماس تعارض وتدعو للمقاومة ، والسلطة الفلسطينية موافقة ، وأغلب الشارع كما يبدو مع السلطة ، فمن تلزم الناس طاعته؟ وما هو موقفنا نحن في الخارج؟ . . نرجو بيان الحق؛ لأن هناك أخطارا بأن ينشب القتال بين الفلسطينيين أنفسهم؟
وفي ختام الحديث مع سماحتكم وبما جعل الله لكم من محبة وقبول في قلوب الناس ، أرجو أن يوجه سماحتكم كلمة لأبناء هذه الأمة يكون فيها ما يكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ويكفل رفعة الدين وأهله . وفقنا الله وإياكم لكل خير أمين .
ج4 : ننصح الفلسطينيين جميعا بأن يتفقوا على الصلح ، ويتعاونوا على البر والتقوى . حقنا للدماء ، وجمعا للكلمة على الحق ، وإرغاما للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة والاختلاف .
وعلى الرئيس وجميع المسئولين أن يحكموا شريعة الله ، وأن يلزموا بها الشعب الفلسطيني . لما في ذلك من السعادة والمصلحة العظيمة للجميع ، ولأن ذلك هو الواجب الذي أوجبه الله على المسلمين عند القدرة ، كما في قوله سبحانه في سورة المائدة : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ إلى أن قال سبحانه : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقال سبحانه في سورة النساء : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وقوله سبحانه في سورة المائدة : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
ومن هذه الآيات وغيرها يعلم أن الواجب على جميع الدول الإسلامية هو تحكيم شريعة الله فيما بينهم ، والحذر مما يخالفها ، وفي ذلك سعادتهم ونصرهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة .
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحهم التوفيق ، وأن يصلح لهم البطانة ، وأن يعينهم على تحكيم شريعته في كل شئونهم ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وبهذه المناسبة فإني أنصح جميع المسلمين في كل مكان بأن يتفقهوا في الدين ، وأن يعرفوا معنى العبادة التي خلقوا لها ، كما في قوله سبحانه : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ وقد أمرهم الله بها سبحانه في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وقد فسرها سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه العظيم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ، وحقيقتها : توحيده سبحانه ، وتخصيصه بالعبادة من الخوف والرجاء والتوكل والصلاة والصوم والذبح والنذر ، وغير ذلك من أنواع العبادة ، مع طاعة أوامره وترك نواهيه .
وبذلك يعلم أنها هي الإسلام ، والإيمان ، والتقوى ، والبر ، والهدى ، وطاعة الله ورسوله ، سمى الله ذلك كله : عبادة؛ لأنها تؤدى بالخضوع والذل لله سبحانه .
فالواجب على المكلفين جميعا أن يعبدوه وحده ، وأن يتقوا غضبه وعقابه بالإخلاص له في العمل ، وتخصيصه بالعبادة وحده ، وطاعة أوامره وترك نواهيه ، والحكم بشريعته ، والتناصح بينهم ، والتواصي بالحق والصبر عليه ، كما قال الله عز وجل : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وقال سبحانه : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فأوضح سبحانه في هذه السورة العظيمة أن جميع بني الإنسان في خسران إلا الذين آمنو وعملوا الصالحات ، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، فهؤلاء هم الرابحون والسعداء والمنصورون في الدنيا والآخرة .
ومعنى قوله سبحانه : إِلا الَّذِينَ آمَنُوا يعني : آمنوا بالله ربا وإلها ومعبودا بحق ، وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، وبجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وبكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك ، ثم عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فأدوا فرائض الله ، وتركوا محارم الله عن إخلاص لله وصدق ، ثم تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ فيما بينهم ، وتناصحوا ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وصبروا على ذلك . يرجون ثواب الله ويخشون عقابه ، فهؤلاء هم المنصورون ، وهم الرابحون ، وهم السعداء في الدنيا والآخرة .(29/329)
فنسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم ، وأن يوفق جميع المسلمين في كل مكان للاستقامة على هذه الأخلاق ، والصبر عليها ، والتواصي بها ، إنه سميع قريب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
أجوبة على أسئلة تتعلق بالحوار السابق حول الصلح مع اليهود
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
فهذه أجوبة على أسئلة تتعلق بما أفتينا به من جواز الصلح مع اليهود وغيرهم من الكفرة صلحا مؤقتا أو مطلقا على حسب ما يراه ولي الأمر - أعني : ولي أمر المسلمين الذي تجري المصالحة على يديه - من المصلحة في ذلك؛ للأدلة التي أوضحناها في الفتوى المذكورة في صحيفة المسلمون في العدد الصادر يوم الجمعة 21 رجب 1415 هـ .
وهذا نص الأسئلة :
الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم
س1 : فهم بعض الناس من إجابتكم على سؤال الصلح مع اليهود - وهو السؤال الأول في المقابلة - أن الصلح أو الهدنة مع اليهود المغتصبين للأرض ، والمعتدين جائز على إطلاقه ، وأنه يجوز مودة اليهود ومحبتهم ، ويجب عدم إثارة ما يؤكد البغضاء والبراءة منهم في المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية ، وفي أجهزة إعلامها ، زاعمين أن السلام معهم يقتضي هذا ، وأنهم ليسوا بعد معاهدات السلام أعداء يجب اعتقاد عداوتهم ، ولأن العالم الآن يعيش حالة الوفاق الدولي والتعايش السلمي ، فلا يجوز إثارة العداوة الدينية بين الشعوب . فنرجو من سماحتكم التوضيح .
ج1 : الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم ، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين ، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر ، وغير ذلك ، كالبيع والشراء ، وتبادل السفراء . . وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم .
وقد صالح صلى الله عليه وسلم أهل مكة ، ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم ، بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم ، حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وهكذا صالح صلى الله عليه وسلم يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجرا صلحا مطلقا ، ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم ، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم ، ودعوتهم إلى الله ، وترغيبهم في الإسلام . ومات r ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله .
ولما حصل من بني النضير من اليهود الخيانة أجلاهم من المدينة عليه الصلاة والسلام ، ولما نقضت قريظة العهد ومالئوا كفار مكة يوم الأحزاب على حرب صلى الله عليه وسلم قاتلهم صلى الله عليه وسلم فقتل مقاتلتهم ، وسبى ذريتهم ونساءهم ، بعدما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم فحكم بذلك ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن حكمه قد وافق حكم الله من فوق سبع سماوات .
وهكذا المسلمون من الصحابة ومن بعدهم ، وقعت الهدنة بينهم - في أوقات كثيرة - وبين الكفرة من النصارى وغيرهم فلم يوجب ذلك مودة ، ولا موالاة ، وقد قال الله سبحانه : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وقال سبحانه : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال سبحانه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقال عز وجل : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة ، ولا محبة ، ولا موالاة : أن صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي للمسلمين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين ، ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد ، ولم يحدد مدة معينة ، بل قا صلى الله عليه وسلم : نقركم على ذلك ما شئنا وفي لفظ : نقركم ما أقركم الله فلم يزالوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه ، وروي عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما خرص عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا : إنك قد جرت في الخرص ، فقال رضي الله عنه : والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم ، فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم ، وإن شئتم أخذناه بذلك .(29/330)
وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة ، ولا موالاة ، ولا مودة لأعداء الله ، كما يظن ذلك بعض من قل علمه بأحكام الشريعة المطهرة .
وبذلك يتضح للسائل وغيره أن الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يقتضي تغيير المناهج التعليمية ، ولا غيرها من المعاملات المتعلقة بالمحبة والموالاة . والله ولي التوفيق .
هذه الأجوبة نشرت في جريدة " المسلمون " في العدد ( 520 ) بتاريخ 19 / 8 / 1415 هـ .
الصلح مع اليهود لا يقتضي التمليك أبديا
س2 : هل تعني الهدنة المطلقة مع العدو إقراره على ما اقتطعه من أرض المسلمين في فلسطين ، وأنها قد أصبحت حقا أبديا لليهود بموجب معاهدات تصدق عليها الأمم المتحدة التي تمثل جميع أمم الأرض ، وتخول الأمم المتحدة عقوبة أي دولة تطالب مرة أخرى باسترداد هذه الأرض أو قتال اليهود فيها؟
ج2 : الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا ، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة .
وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في دين الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
وهكذا النصارى والمجوس؛ لقول الله سبحانه في سورة التوبة : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وقد ثبت في الصحيح عن صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الجزية من المجوس .
وبذلك صار لهم حكم أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط إذا لم يسلموا . أما حل الطعام والنساء للمسلمين فمختص بأهل الكتاب ، كما نص عليه كتاب الله سبحانه في سورة المائدة . وقد صرح الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة الأنفال : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا الآية ، بمعنى ما ذكرنا في شأن الصلح .
ما تقتضيه المصلحة يعمل به من الصلح وعدمه
س3 : هل يجوز بناء على الهدنة مع العدو اليهودي تمكينه بما يسمى بمعاهدات التطبيع ، من الاستفادة من الدول الإسلامية اقتصاديا وغير ذلك من المجالات ، بما يعود عليه بالمنافع العظيمة ، ويزيد من قوته وتفوقه ، وتمكينه في البلاد الإسلامية المغتصبة ، وأن على المسلمين أن يفتحوا أسواقهم لبيع بضائعه ، وأنه يجب عليهم تأسيس مؤسسات اقتصادية ، كالبنوك والشركات يشترك اليهود فيها مع المسلمين ، وأنه يجب أن يشتركوا كذلك في مصادر المياه؛ كالنيل والفرات ، وإن لم يكن جاريا في أرض فلسطين؟
ج3 : لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول ، بل كل دولة تنظر في مصلحتها ، فإذا رأت أن من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء ، وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر ، فلا بأس في ذلك .
وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة اليهود فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية ، وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك .
والواجب على كل من تولى أمر المسلمين ، سواء كان ملكا أو أميرا أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر ، ويمنع ما سوى ذلك مع أي دولة من دول الكفر؛ عملا بقول الله عز وجل : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وقوله سبحانه : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا الآية .
وتأسيا ب صلى الله عليه وسلم في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ثم قا صلى الله عليه وسلم : ألا فكلكم راع ومسئول عن رعيته وقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(29/331)
وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين ، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس ، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية - إن كانوا من أهلها - فلا تجوز المصالحة معهم ، وترك القتال وترك الجزية ، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها . لما تقدم من قوله سبحانه وتعالى : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وقوله عز وجل : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ إلى غير ذلك من الآيات المعلومة في ذلك .
وعمل صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية ويوم الفتح ، ومع اليهود حين قدم المدينة يدل على ما ذكرنا .
والله المسئول أن يوفق المسلمين لكل خير ، وأن يصلح أحوالهم ، ويمنحهم الفقه في الدين ، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم ، وأن يعينهم على جهاد أعداء الله على الوجه الذي يرضيه ، إنه ولي ذلك والقدر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حول الصلح مع اليهود
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد الصادق الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا إيضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ : يوسف القرضاوي المنشور في مجلة ( المجتمع ) العدد 1133 الصادرة يوم 9 شعبان 1415 هـ . الموافق 10/1/1995 م . حول الصلح مع اليهود ، وما صدر مني في ذلك من المقال المنشور في صحيفة ( المسلمون ) الصادرة في يوم 21 رجب 1415 هـ جوابا لأسئلة موجهة إلي من بعض أبناء فلسطين . وقد أوضحت أنه لا مانع من الصلح معهم إذا اقتضت المصلحة ذلك؛ ليأمن الفلسطينيون في بلادهم ، ويتمكنوا من إقامة دينهم .
وقد رأى فضيلة الشيخ يوسف أن ما قلته في ذلك مخالف للصواب؛ لأن اليهود غاصبون فلا يجوز الصلح معهم . . . إلى آخر ما ذكره فضيلته . وإنني أشكر فضيلته على اهتمامه بهذا الموضوع ورغبته في إيضاح الحق الذي يعتدقه ، ولا شك أن الأمر في هذا الموضوع وأشباهه هو كما قال فضيلته : يرجع فيه للدليل ، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق في جميع مسائل الخلاف؛ لقول الله عز وجل : فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وقال سبحانه : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ وهذه قاعدة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة .
ولكن ما ذكرناه في الصلح مع اليهود قد أوضحنا أدلته ، وأجبنا عن أسئلة وردت إلينا في ذلك من بعض الطلبة بكلية الشريعة في جامعة الكويت ، وقد نشرت هذه الأجوبة في صحيفة ( المسلمون ) الصادرة في يوم الجمعة 19/8/1415 هـ الموافق 20/1/1995 م ، وفيها إيضاح لبعض ما أشكل على بعض الإخوان في ذلك .
ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم : إن قريشا قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم ، كما قال الله سبحانه في سورة الحشر : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ومع ذلك صالح صلى الله عليه وسلم قريشا يوم الحديبية سنة ست من الهجرة ، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم؛ مراعاة للمصلحة العامة التي رآها صلى الله عليه وسلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم ، ولمن يرغب الدخول في الإسلام .
ونقول أيضا : جوابا لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو : لو أن إنسانا غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها . . أجاب الشيخ يوسف : أن هذا الصلح لا يصح . وهذا غريب جدا ، بل هو خطأ محض ، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه ، واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج؛ لعجزه عن أخذ حقه كله ، وما لا يدرك كله لا يترك كله ، وقد قال الله عز وجل : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وقال سبحانه : وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله ، خير من بقائه في العراء .(29/332)
أما قوله عز وجل : فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه ، فإنه لا يجوز له الضعف ، والدعوة إلى السلم ، وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه ، أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم ، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية ، وقد دعا صلى الله عليه وسلم إلى السلم يوم الحديبية؛ لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم ، وأنه أولى من القتال ، وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر؛ لقول الله عز وجل : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الآية .
ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم ، وفتح الله عليه البلاد ، ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم ، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة .
فأرجو من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية ، لا على العاطفة والاستحسان ، مع الاطلاع على ما كتبته أخيرا من الأجوبة الصادرة في صحيفة ( المسلمون ) في 19/8/1415 هـ ، الموافق 20/1/1995 م ، وقد أوضحت فيها : أن الواجب جهاد المشركين من اليهود وغيرهم مع القدرة حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية ، إن كانوا من أهلها ، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وعند العجز عن ذلك لا حرج في الصلح على وجه ينفع المسلمين ولا يضرهم؛ تأسيا ب صلى الله عليه وسلم في حربه وصلحه ، وتمسكا بالأدلة الشرعية العامة والخاصة ، ووقوفا عندها ، فهذا هو طريق النجاة وطريق السعادة والسلامة في الدنيا والآخرة .
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين - قادة وشعوبا - لكل ما فيه رضاه ، وأن يمنحهم الفقه في دينه ، والاستقامة عليه ، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ، وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها ، والحذر مما يخالفها ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وأصحابه ، وأتباعه بإحسان .
نشر في مجلة المجتمع في العدد ( 1140 ) بتاريخ 6 / 10 / 1415 هـ .
=============(29/333)
(29/334)
حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود
وموقف المسلم منها
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين* اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين، والصلاة والسلام على المبعوث بالدين القويم، والصراط المستقيم، والجهاد بالسيف إلى يوم الدين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعه إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الأمة الإسلامية قد ابتليت في هذه السنوات بكارثة عظيمة لم تكن قبل وقوعها في الحسبان، ولم يكن أحد من أهل الإسلام يحسب أو يظن أن يقع هذا في أمة الإسلام ألا وهو انتصار اليهود - وهم شرذمة قليلة - على أمة الإسلام، وذلك في أربعة حروب متتابعة، قاتل اليهود فيها وهم صف واحد أمة الإسلام وهم صفوف مختلفة، قد حملوا شعارات تخالف الإسلام من القومية والوطنية والإقليمية أو مجرد الدفاع عن الأرض، وقد هزم العرب المسلمون أمام أعدائهم اليهود هزائم لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، ثم إن العرب المسلمين الذين نالتهم هذه الهزائم تنادوا إلى وجوب الصلح والسلام مع اليهود، وأنه لا حيلة أمامهم إلا ذلك، متعللين أن اليهود تساندهم أمم الغرب وأمريكا، والعرب المسلمون لا حول لهم ولا سلطان.
وبعد أن مدوا أيديهم للصلح مع اليهود عقد بعضهم معهم معاهدات سموها معاهدات سلام، ولما كانت هذه المعاهدات - بما انطوت عليه من شروط باطلة - أشد خطراً وأكبر من الهزيمة في الحرب، وكان الناس يسألون ما موقف المسلم اليوم من اليهود؟ وما موقفه من هذه المعاهدات التي أبرمت؟ وكان الله - سبحانه وتعالى- قد أخذ الميثاق على من أوتي علماً أن يبينه ولا يكتمه؛ فإنني أحببت أن أكتب مختصراً في الموقف الشرعي الواجب على أبناء الأمة الإسلامية من هذه المعاهدات التي سموها معاهدات السلام.
أولاً: المقدمات:
فأقول والله المستعان:
1) اليهود أعداء دائمون لهذه الأمة منذ بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته وإلى أن يخرج الدجال:
وستظل عدواتهم لهذه الأمة إلى قيام الساعة، ولقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الحرب معهم مبكراً، فحارب بني قينقاع لغدرهم، وانتصر عليهم، وأخرجهم من المدينة، ثم بني قريظة لغدرهم وخيانتهم، ثم فتح خيبر وكانت منطلقاً لدسائسهم، ثم أجلاهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن الجزيرة العربية كلها، وانتقل عداؤهم بعد هزائمهم إلى الكيد الخفي، فكانوا وراء جميع الفرق الباطنية، ومعظم الفتن الداخلية في أمة الإسلام، ثم كانوا وراء إنهاء آخر خلافة للمسلمين وهي خلافة بني عثمان، وهم الذين حولوا وجهة دول الغرب النصرانية لحرب الإسلام، ومكرهم بالإسلام وأهله لا تحويه المجلدات!!
ولا يزال عداؤهم بالمسلمين إلى أن يستصرخ الحجر والشجر المسلم قائلاً: [يا مسلم هذا يهودي ورائي فأقتله](متفق عليه)، وحتى يخرج آخرهم في ركاب الدجال.
وعداء اليهود لأهل الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما كان حسداً وبغياً، حسداً أن تنتقل الرسالة والنبوة من فرع إسحاق إلى فرع إسماعيل، وأن يكون العرب الأميون هم سادة الدنيا بكتاب الله ودينه وشرعه قال - تعالى-: (( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ))(البقرة: 90).
وهم بدءوا العداوة واستمروا عليها، ولا يزالون عليها كما قال - تعالى-: (( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين ))(المائدة: 64).
ومن ظن أن الحرب والعداوة توضع بين المسلمين واليهود فهو مكذب بوعد الله ودينه، ومن عمل لإزالة هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود فهو كافر بالله - سبحانه وتعالى-، فإن أصل الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ولا يجوز لمسلم أن يجمع في قلبه بين حب الله والمؤمنين وموالاة أعدائه (( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ))(الممتحنة: 4).
فلا مودة بين المسلم والكافر إلا أن يصبحا كافرين أو مسلمين، فإما أن يدخل الكافر في الإسلام فيكون أخاً لنا نحبه ونواليه، وإما أن يخرج المسلم من الإسلام فيكون محباً وأخاً للكافر (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ))(المائدة: 51).
2) لا دعوة للسلم إلا إذا ذل الكافر واستسلم، أو كان دفعاً لمفسدة أكبر بارتكاب مفسدة أقل:(29/335)
الأصل في العلاقة بين المسلمين والكفار هي العداوة والحرب وذلك لقوله - تعالى -: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ))(الأنفال: 39)، وقوله - تعالى -: (( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ))(التوبة: 29) والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً، وكلها تأمر أن يباشر المؤمنون القتال حتى يكون خضوع الجميع لدين الله وشرعه إما طوعاً وإما ذلاً وقهراً.
ولم يسمح الله - سبحانه وتعالى- لأمة الإسلام أن تدعوا إلى السلم مع الكفار إلا في إحدى حالتين:
أ- أن يذل الكفار ويضعفوا، وتخور قواهم، ويجنحوا إلى السلم، فعند ذلك يكون السلم في صالح المسلمين؛ لأن عقيدتهم أقوى، وفعلهم أكبر، وبذلك يفتح المجال لدخول الناس في الدين كما كان الشأن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ حربهم في بدر، ثم أحد، ثم الخندق، ثم الحديبية، وقد بايع أصحابه على الموت في الحديبية لما أخبر بأن قريش قد قتلت سفيره عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، ولم يجنح الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السلم مع قريش إلا بعد أن جنحوا له، وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي، وهذا لقوله - تعالى -: (( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ))(الأنفال: 61)، وكان هذا الصلح والسلام في صالح المؤمنين تماماً فقد دخل أكابر الناس في الإسلام في مدة الصلح.
ب- أن يكون الصلح من باب ارتكاب أخف الضررين، فيلجأ المسلمون إليه دفعاً لمصيبة أعظم كما هم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على نصف ثمار المدينة حتى يفك تحالفهم مع قريش، وينفرد النبي صلى الله عليه وسلم بقتال قريش بعد ذلك.
أما في غير هاتين الحالتين فإنه لا يجوز للمسلمين الدعوة إلى السلام كأن يكون ركوناً للدنيا وكراهة للجهاد، أو خوفاً من كثرة الكفار، وذلك أن أهل الإيمان ينصرون مع قلتهم على الكفار على كثرتهم، وهذه سنة الله الجارية أبداً في عباده (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ))(البقرة: 249)، (( ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً * سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً ))(الفتح: 22-23).
وأما الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائياً، ومصالحة الكفار أبداً، ونبذ الحرب والقتال مطلقاً؛ فهذا كفر بالله - تعالى - مخرج من ملة الإسلام، وإلغاء لفريضة الجهاد التي جعلها الله فرضاً على كل مسلم إلى يوم القيامة كما قال - تعالى -: (( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ))(البقرة: 216)، وكتب بمعنى فرض، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية )(رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي).
فالجهاد ماض بعد فتح مكة إلى يوم القيامة، وهو إما خروج بالنفس وهذا الفرض العيني، وإما نية دائمة لكل مسلم يجب أن يصحبها دائماً، ويموت عليها، فيكون مستعداً لمزاولة القتال في كل حال، قائماً به في حالة الوجوب العيني، وإلا أثم إذا ترك الفرض العيني.
3) لا يجوز للإمام المسلم أن يشترط في صلحه مع الكفار شرطاً يخالف الكتاب والسنة ودين الإسلام:
معلوم من الإسلام ضرورة أنه لا يجوز للإمام والقائد المسلم في صلحه الجائز مع الكفار أن يشارطهم على شيء يخالف القرآن والسنة، وكل شرط يخالف هذه الأصول فإنه يقع باطلاً.
فالشروط التي يجوز اشتراطها مع الكفار هي الشروط الجائزة فقط، كعقد هدنة للحرب سواء كانت محددة بوقت محدد كما صالح الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً على وضع الحرب عشر سنين، أو كانت غير مؤقتة بوقت محدد كما صالح الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة ووادعهم دون تحديد هذا بزمن معين.
فالهدنة والصلح شرط جائز يجوز للإمام المسلم إبرامه مع الكفار، وكذلك مصالحتهم علي شيء يدفعونه للمسلمين أو شيء من المال يدفعه المسلمون اضطراراً أو نحو ذلك من الشروط الجائزة.
وأما الشروط الباطلة فمثالها أن يشارطهم على أن يتنازل المسلمون عن شيء من دينهم كالصلاة أو الصوم أو الجهاد، أو الحكم بما أنزل الله، فإن هذا ومثله كفر بالله - تعالى -، وتبديل لشرعه ودينه، وترك من المسلمين لدينهم وعقيدتهم من أجل إرضاء الكفار وهذا كفر بالله - تعالى -.
وكل معاهدة وصلح بين المسلمين والكفار تتضمن شروطاً باطلة فهي باطلة، وإن كان مئة شرط، بل إن أي شرط في أي عهد أو عقد بين مسلم ومسلم إذا تضمن شرطاً باطلاً ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يبطل هذا العقد أو الشرط، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما كان من شرط ليس في كتاب الله - عز وجل - فهو باطل، وإن كان مئة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق )(متفق عليه).(29/336)
ولذلك فإن عقود الربا والزنا، وقتل المسلم والقمار، والعقد على كل ما حرم الله - سبحانه وتعالى- يقع باطلاً، ولا يجوز للمسلم أن يعقد مثل هذا العقد، ولا أن يفي به - وإن عقده - لأنه يقع باطلاً، ولا يجوز الوفاء به.
ثانياً: الاتفاقيات التي عقدت بين بعض الساسة العرب واليهود باطلة للحيثيات والمبررات الآتية:
بعد المقدمات الضرورية السابقة نقول بأن الاتفاقيات الثلاث التي عقدت بين اليهود وبعض الساسة العرب هي اتفاقيات ومعاهدات باطلة شرعاً لا يجوز للمسلم اعتقاد صحتها، ولا تنفيذ شيء منها إلا مكرهاً مجبراً فيما يجوز فيه الإجبار والإكراه، وأما ما لا يجوز فيه الإجبار والإكراه فلا يجوز الالتزام به، كقتل المسلم فإنه لا إجبار فيه، لأن نفس القاتل الذي يدعي الإجبار ليست بأنفس من نفس المقتول.
الأدلة على هذا الحكم ما يلي:
1) في هذه المعاهدات وضع الحرب إلى الأبد بين المسلمين واليهود وهذا شرط باطل:
لا يجوز للمسلم أن يشارط الكفار يهوداً كانوا أو غيرهم على وضع الحرب إلى الأبد بين المسلمين وبينهم، فإن القتال فريضة قائمة إلى يوم القيامة، ولا يجوز إلغاءه من التشريع، ومن اعتقد عدم وجود الجهاد، أو سعى إلى إلغاءه أو إبطاله فهو كافر بالله - سبحانه وتعالى- كفراً مخرجاً من ملة الإسلام، ومكذباً بمعلوم من الدين ضرورة. فالقتال فريضة ماضية إلى يوم القيامة، وقد قامت أدلة القرآن والسنة وإجماع الأمة على ذلك في كل عصورها، ولكن يجوز وضع الحرب فقط دون تحديد سنوات.
أما النص على أن الحرب انتهت بين المسلمين والكفار، وأن هذا عهد للسلام الدائم والشامل؛ فهو إبطال لفريضة الجهاد، وإقرار للكافر على كفره، ولا يجوز هذا لمسلم أبداً، إلا أن يكفر بالله ورسالاته.
2) المعاهدات نصت على إزالة أسباب العداوة والبغضاء، وإزالة كل نصوص التشريع التي تبقي هذه العداوة..
وهذا الشرط باطل لأنه يخالف أصل الإيمان الذي يقوم على التفريق بين المسلم والكافر، وأن الكافر عدو لله أبداً حتى يسلم ويتخلى عن كفره، وقد حرم الله على المؤمنين موالاة الكفار ومودتهم حتى لو كانوا آباء أو أبناء أو أخوة أو عشيرة أو أزواجاً قال - تعالى -: (( لا تجد قوماً يؤمنون بالله و باليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ))(المجادلة: 22).
وهذه المعاهدات نصت على وجوب إزالة العداوة وأسبابها مطلقاً، بل حرمت الاستشهاد بآيات القرآن وأحاديث السنة التي تؤصل هذه العداوة، وأمرت يحذف أحداث التاريخ التي تذكر تاريخ العداوة بين اليهود والمسلمين، وذلك لسلخ المسلمين عن دينهم وتاريخهم وتراثهم.
3) هذه المعاهدات أقرت اليهود على ما أخذوه من أرض الإسلام عنوة وغدراً، وهذا لا يجوز:
هذه المعاهدات أقرت اليهود على ما اقتطعوه من أرض الإسلام في فلسطين، وهي أرض فتحها المسلمون، ودخل أهلها في الإسلام، وأصبحت بذلك من أرض الإسلام التي لا يجوز للمسلمين التخلي عنها، بل يجب عليهم القتال لاستردادها من اليهود، ولا شك أن إقرار اليهود عليها وإعطائهم عهداً وصكاً بملكيتها، وأنهم قد أصبحوا أصحابها وملاكها والمتصرفين عليها، وهذا خيانة لله ورسوله ولهذه الأمة، وتفريط فيما ملك الله المسلمين إياه، وما بوأهم من ملك الأرض، وأكبر من ذلك التفريط في المسجد الأقصى الذي رده الله إلى أمة الإسلام أعلاناً بانتقال إمامة الدين، وقيادة الناس إلى أمة الإسلام.
وإقرار اليهود على ملك أرض فلسطين باطل، لأن الكافر لا يجوز إقراره على ملكه الذي نشأ فيه إلا إقراراً مؤقتاً، فكيف يعطى ما كان بأيدي المسلمين ملكاً مؤبداً؟!
إن هذا قرين الكفر والخروج من دين الله، ومثل هذا لا يجوز لمسلم اعتقاده قط، بل يجب الاعتقاد أن اليهود مغتصبون ما ليس لهم، وأن ما تحت أيديهم من أرض فلسطين ليس ملكاً لهم، بل أخذوه بطريق الغصب والغفلة من المسلمين، ويجب رفع أيديهم القذرة عن هذه الأرض إلى الأيدي الطاهرة: (( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون* إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ))(الأنبياء: 105- 106).
4) هذه المعاهدات أبرمت عن غير مشورة من المسلمين، وكل عقد يهم المسلمين إذا أبرم عن غير رضا ومشورة فهو عقد باطل:(29/337)
الصلح بين اليهود والمسلمين، وإعطاء اليهود أرض فلسطين أو بعضها ملكاً لهم؛ هذه قضية تهم كل مسلم، لأنها ترتبط بعقيدته وإيمانه، وبالتشريع الذي أنزل الله وأكرم كل مسلم به، وهذه المعاهدات عقدت بواسطة حكام متفرقين كل يزعم أنه يمثل بعضاً من المسلمين في إقليم من أقاليم البلدان الإسلامية (مصر، الأردن، فلسطين..)، ولا شك أن هذه المعاهدات لا تلزم أي مسلم في الأرض، لأنها عقدت بمسميات وطنية إقليمية، وهذه المسميات في أساسها باطلة لأنها تفرق بين أبناء الأمة الواحدة، والملة الواحدة، وبالتالي فما يعقده أي رئيس من رؤساء المسلمين منفرداً لا يلزم جميع المسلمين في العالم، لأنه لم يفوض نيابة عنهم، ولا يجوز له التحدث باسم جميعهم، وبالتالي فإن هذه الاتفاقيات لا تلزم عموم المسلمين، بل ولا تلزم أي فريق منهم، لأن الشعوب الإسلامية لم تستشر في شيء من ذلك، وإنما فاجأهم الساسة بما وقعوه وأبرموه، ومثل هذه العقود التي عقدت عن غير مشورة لا تلزم المسلمين.
5) هذه المعاهدات من عقود الإكراه، وعقد الإكراه لا يجوز في الإسلام:
السبب الخامس في بطلان هذه المعاهدات أنها من معاهدات الإكراه، فالشعوب الإسلامية التي وقع ساستها على هذه المعاهدات فرضوها عليهم بالقوة والبطش والإكراه والإلزام، ولم يستشر فيها أهل الدين من العلماء، وأهل الرأي والخبرة والنجدة والنظر من المسلمين، وإنما أبرمها من لا يقيم وزناً للدين، ولا يميز بين المشروع والممنوع، وبين ما يجوز أن يصالح عليه الكفار وما لا يجوز، ثم فرضها بقوة ما معه من السلاح والقهر، والمسلم المقهور والمجبور الذي قد يظهر أنه راض - وهو مجبور ومقهور - لا أثر لرضاه هنا، ولا لإقراره؛ لأن إقرار المقهور والمجبور لا أثر له في العقود، بل العقد لا بد وأن يكون عن رضا، فشرط صحة العقود في الإسلام هو التراضي بين المسلم والمسلم، فمن باب أولى بين المسلم والكافر، وإذا أجبر المسلم على عقد من العقود فإنه لا يجوز أن يقبل به إلا مجبراً، وعليه رفضه عند بدء القدرة على رفضه ولو كان ذلك في قول كلمة الكفر: (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ))(النحل: 106).
ومن أجل الأسباب السابقة قلنا بأن هذه المعاهدات معاهدات باطلة وقعت يوم وقعت باطلة، والعقد الباطل كأن لم يكن وهي كعقود الربا و الزنا والسرقة وقطع الطريق وقتل المسلم، لا يجوز الوفاء بها ولا اعتقاد صحتها.
ومعلوم أنه لا يجوز للمسلم أن يعقد عقداً باطلاً، ولو كان فيه بعض المنافع الدنيوية، فعقد الربا فيه نفع دنيوي لكل من المقرض والمقترض، ولكن منافعه ملقاة لأن الله حرمه، وكذلك عقد الزنا هو منفعة متبادلة بين الزاني والزانية، فالزاني يستمتع ويقضي شهوته، وهي تستمتع وتأخذ أجرتها، وكذلك في عقود الميسر، وبيع الخمر حيث فيها ولاشك بعض المنافع الدنيوية، ولكن لما كان الله قد حرمها فإن منافعها الدنيوية تلغى ولا ينظر إليها.
وهذه المعاهدات التي أبرمت مع اليهود إذا احتج محتج بمنافعها الدنيوية قلنا: أن العقد المحرم يقع باطلاً وإن كان فيه بعض المنافع الدنيوية، وجدال من يجادل في منافع الصلح مع اليهود كجدال من يجادل في منافع الزنا والربا والقمار وبيع الخمر … الخ.
والعقود المبرمة مع اليهود أشد بطلاناً من هذه العقود المحرمة، لأنها عقد على إسقاط الجهاد، وإسقاط العداوة للكفار، وإخراج المسلم من الإسلام، وسلخه عن أمته ودينه بل وتاريخه وحضارته، ولاشك أن هذا أكبر إثماً من التعاقد على الربا والزنا والقمار وبيع الخمر.
6) هذه المعاهدات ستفسد دنيا المسلمين وليس دينهم فقط:
قد يجادل في صحة هذه المعاهدات وجواز الأخذ بها من يظنون أنها ستحقق خيراً للمسلمين في الدنيا، وأنها يمكن أن تجعل عند المسلمين فسحة من الوقت ليستعدوا لعدوهم، وقد يقول من يقول ممن باع آخرته بدنياه: بأن ثمرات السلام كبيرة جداً، وأن هذا السلام المزعوم سيأتي بالخير والرخاء على شعوب المنطقة كما يقولون. والصحيح أن الفساد الدنيوي والمادي، والآثار الضارة لهذه المعاهدات كثيرة جداً، يربو أضعافاً مضاعفة على ما يلوح ويظن من المنافع.
ومعلوم شرعاً أنه لا يجوز للمسلمين أن يعقدوا صلحاً مع عدوهم تربو فيه سيئاته على حسناته - وهذا في الشروط الجائزة -، لأن مثل هذا يكون تفريطاً في حق المسلمين، وضياعاً لأموالهم ودنياهم ومصلحتهم.
وهذا أحد مبطلات العقد مع الكفار كما نص الأئمة على ذلك من حيث أنه لا يجوز إبرام عقد ليس في صالح المسلمين، فكل عقد تزيد خسائر المسلمين فيه على منافعه لا يجوز لهم أن يعقدوه لأنه يكون تفريطاً في حق الأمة، وإعطاء للأعداء بغير سبب للإعطاء، وتقويتهم على المسلمين.
وهذه بعض الخسائر التي تحققت للمسلمين من وراء هذه المعاهدات:(29/338)
1) أنها تطلق يد اليهود في أموال المسلمين، وتفتح أسواق المسلمين لهم، وترفع الحصار الاقتصادي عنهم، وبذلك تنمو تجارتهم، ويستقوون بمال المسلمين على المسلمين، كما فعلوا ذلك في أمريكا وأوروبا، فمع أن اليهود قلة في أمريكا بالنسبة لمجموع الشعب الأمريكي إلا أن الدورة الاقتصادية تكاد تكون جمعيها بأيدي اليهود، وبالتالي ملكوا ناصية الحياة في أمريكا، واستعبدوا شعبها، وهذا المصير المؤلم سيكون مصيراً للعرب لو فتح لهم باب الدول العربية ليسيطروا على اقتصادها، ويعبثوا بهذه الأمة كما عبثوا بالشعوب النصرانية، وجعلوها في خدمتهم وتحت أقدامهم.
ومما يؤسف له أن الشعوب العربية الإسلامية قد تخلى كثير منهم عن آداب الإسلام وأحكامه، وأصبحوا من الشعوب المسرفة التي تنفق أكثر مما تكسب، ولا تكاد تنتج عشر مقدار ما تأكل وتركب وتلبس وتستعمل، واليهود عكس ذلك، فهم أمة مدخرة منتجة عاملة وهذا سيجعلهم في النهاية سادة المسلمين وقادة العرب لأنه ستحول بالضرورة أموال المسلمين لتكون بأيدي اليهود، ويصبح أبناء العرب غداً خداماً لليهود، عمالاً في مصانعهم، وفلاحين في مزارعهم، وموظفين صغاراً في مكاتبهم، وتجاراً بالمفرق لكبار تجارهم، ووكلاء صغاراً لشركاتهم، وخدماً لبيوتهم، وبنائين وعمالاً لعماراتهم.
2) دخول اليهود ليكونوا عضواً في جسم الدولة العربية والأمة الإسلامية بعد أن نزعوا عنها مسمى الإسلام والعروبة، فالمنطقة العربية الإسلامية قد نزع عنها الاسم وسميت باسم جديد (الشرق الأوسط) وهي تسمية تجعل دولة اليهود جزءاً من هذا (الشرق الأوسط) لأن موقعهم فيه، وهذا سيعطى اليهود صفة المواطنة في هذا الجزء من أرض الإسلام، بل والأخوة والصداقة، والجوار والوحدة في إطار هذا (الشرق الأوسط) الذي قد تقوم فيه وحدة سوق، ووحدة وسياسات وأهداف!! وبالتالي يصبح اليهود جزءاً من هذا النسيج، ودخول اليهود إلى الجسم العربي الإسلامي على هذا النحو سيعطيهم حرية الحركة في بث سموم الفرقة والبغضاء بين المسلمين، وينشرون العقائد الزائفة والنحل الكافرة، وكل ما امتازوا به عبر التاريخ في هدم أعدائهم.
إن اليهود هم الساعون في الأرض بالفساد منذ ضلوا عن دين الله المنزل على موسى، ولعنهم الله ولعنوا على ألسنة جميع أنبيائه ورسله بعد موسى (( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ))(المائدة: 78)، ولازال سعيهم بالفساد والإفساد إلى آخر الدنيا، وإلى أن يروجوا للدجال، ويمهدوا الأرض له على أنه الله ملك السموات والأرض، فكفار اليهود هم الذين قتلوا أنبيائهم، وسعوا في قتل عيسي بن مريم، ونجاه الله مكرهم، وسعوا في قتل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ونجاه الله مراراً من ذلك، ثم كان موته بأثر السم الذي دسته امرأة منهم، وسعوا في إبطال دين الإسلام، ولا يزال هذا الدين قائماً إلى آخر الدنيا رغم دسائسهم، وإلى أن يبيدهم الله بأيدي المسلمين في آخر الزمان.
وهؤلاء اليهود الذين أصبحوا بهذه المعاهدات جزءاً من الوطن الإسلامي العربي الذي سموه (الشرق الأوسط) ستتيح لهم هذه المعاهدات أن ينفثوا سمومهم في أمة الإسلام، وأن يشعلوا الحروب الداخلية بين المسلمين بهدف تدميرهم وإذهاب قوتهم، وسيفعلون ذلك آمنين مطمئنين لأنهم قد أصبحوا داخل البيت الإسلامي بعد أن كانوا - بنسبة ما - خارجه، وغداً لو طبقت هذه الاتفاقات فلا يوجد مكان يمكن أن يمنعوا منه إلا مكة والمدينة، وأما سائر بلاد الإسلام والعرب فستكون مسرحاً لمؤامراتهم وفسادهم.
فهل يقول عاقل إن هذه المعاهدات هي في صالح الإسلام والمسلمين في أمور دنياهم!!
3) إن حقيقة المنافع التي لوح بها اليهود للمسلمين من وراء هذه المعاهدات إما أنها مضار خالصة، أو شيء تافه لا يقوم بما أخذوه وحصلوا عليه، فالتخلي عن حرب اليهود وعداوتهم هو مضرة خالصة لأنه ترك للدين، وإبطال للشرائع، وهذا ضرر محض على المسلم، وأما أن السلام سيجلب المساعدات من الكفار للمسلمين فهذا ضرر كذلك لأن الكافر لا يساعد المسلم مجاناً، ولا من أجل وجه الله، ومساعدات الكفار للمسلمين مشروطة بشروط من الذل والعار وترك الدين، وهدم الإسلام، وحرب الصالحين لا يرضاها من يخاف الله ويتقيه، وإما أن تكون قروضاً يرتهن فيها المسلمون لأعدائهم، ويقع المسلمون بها في شباك الربا المركب الذي يرهن اقتصادهم وثروتهم بالكفار وهذا ما فعله الكفار في بلاد المسلمين.
وأما ما سموه بالحكم الذاتي للفلسطينيين فهو نوع من الذل والإهانة حيث تصبح الأرض لليهود، وللفلسطينيين حكم أنفسهم في بعض شئونهم على أرض اليهود، وليس أرضهم!!(29/339)
وقد كان أولى أن يعيش أهل فلسطين في أرض فلسطين، وهم يعتقدون أنها أرضهم المغتصبة خيراً من أن يعيشوا على أرض فلسطين وهم يعتقدون أنهم قد تنازلوا عنها لليهود، وقد أصبحت أرضاً لليهود!! ولأن يحكمهم اليهود بالقهر في جميع أمورهم، وهم كارهون معادون لهم خير من أن يحكموا أنفسهم في بعض الأمور الصغيرة ويتركوا كل الأمور الخطيرة بأيدي اليهود طوعاً وتنازلاً من الفلسطينيين لهم.
والخلاصة:
أن الخسائر الدنيوية والمفاسد العاجلة لهذه المعاهدات لا تحصى كثرة مع منافع إما أنها موهومة كالأمن والرخاء، وأما أنها قليلة عديمة المنافع، وفي المقابل تخلى المسلمون لليهود في هذه المعاهدات عن دينهم وعزتهم وكرامتهم وأرضهم ومقدساتهم، فأي كسب يعدل هذه الخسائر؟!!
ثالثاً: الواجب على المسلم تجاه هذه المعاهدات:
والآن نأتي إلى السؤال الأهم وهو: ما الواجب اليوم على المسلم تجاه هذه المعاهدات؟
والجواب:
1) الواجب الأول هو اعتقاد بطلانها، وأنها لما تضمنته من الشروط الباطلة وقعت باطلة، وولدت يوم ولدت ميتة، لأن المسلم لا يجوز أن يشارط الكفار على ترك الجهاد وإسقاط فرضه، ولا على ترك عداوة اليهود وإيجاب محبتهم ومودتهم، فإن هذا مخرج من الملة، وتضمنت كذلك وجوب حجب آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعلن هذه العداوة لليهود، وهذا تواطؤ مع الكفار على كتمان الدين والعلم، وتعطيل آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تبين حقيقة العلاقة الواجبة مع اليهود، وهذا في حقيقته إخراج للمسلمين من الإسلام، وسلخ للأمة عن عقيدتها وتاريخها.
ولما كانت هذه المعاهدات قد تضمنت هذه البنود، ونصت نصاً صريحاً عليها فإنها بذلك تعد باطلة ولا يجوز للمسلم الاعتقاد بها.
2) الواجب الثاني أن يعتقد المسلم أن هذه المعاهدات لا تلزمه، ولا يجوز له تنفيذ شيء من محتواها إلا إجباراً، وضرورة فيما يجوز فيه الاضطرار، وذلك لما سلف من تضمنها للشروط الباطلة، ولأنها عقدت عن غير رضا منه ومشورة من أهل الدين والعلم والرأي، ولأنها ستفسد دينه ودين أبنائه وذريته، وتفسد كذلك دنياه.
3) الواجب الثالث هو العمل على إسقاطها، وشأنها في ذلك شأن كل منكر وجد على أرض الإسلام يجب إنكاره وفق شروط وضوابط إنكار المنكر من الاستطاعة، وألا يترتب على ذلك منكر أكبر منه، وألا تنكر منكراً بمنكر.
4) والواجب الرابع اعتقاد أن اليهود ما داموا متمسكين بدينهم الباطل، ومحاربين للإسلام وأهله فهم أهل أمة قد غضب الله عليها، ويجب حربهم ومقاومتهم ما ظلوا على مسلكهم في حرب الإسلام والكفر به، والعدوان على المسلمين، إن بغضهم دين يجب على المسلم أن يدين الله به.
5) وجوب توحيد الأمة نحو هذا الهدف في القضاء على علو اليهود في الأرض، وبطشهم بالمسلمين، وأسرهم لمسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.
6) الاعتقاد بأن اليهود ما تمكنوا وعلوا في الأرض على هذا النحو إلا بعد أن ألغي الإسلام من دين الدول العربية ودساتيرها وتشريعها - إلا ما رحم الله -، وحلت الدعوات القومية واللادينية محل الإسلام، وتصدر لهذه القضية اللادينيون الذين حاربوا اليهود تحت شعارات غير الإسلام، وعزلوا الإسلام عن هذه القضية ثم لما فشلوا - وهذه سنة الله في خلقه - وأعلنوا سلمهم الذليل، وارتموا تحت أقدام اليهود، جعلوا هذا منتهى الحكمة والعقل، فخابوا في حربهم، وأذلهم الله وأخزاهم في الدنيا قبل الآخرة ببعدهم عن الدين، ونبذهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ومن أجل ذلك فلا انتصار في هذه القضية ولا إزاحة لليهود عن صدر الأمة وإنهاء علوهم في الأرض إلا بالإسلام عقيدة ومنهجاً وجهاداً.
7) دعاء الله - سبحانه وتعالى - ليلاً ونهاراً أن يجمع كلمة أهل الإسلام، وأن يوحد صفوفهم، وأن يردهم إلى دينهم، وأن يهيئ لهم الأسباب للنصر على عدو الله وعدوهم.
والحمد لله رب العالمين.
http://www.salafi.net المصدر:
====================(29/340)
(29/341)
التطبيع.. أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً!
إعداد: عادل الراجحي
اشتق لفظ التطبيع (No r malization) من الكلمة الإنكليزية (No r mal) بمعنى العادي أو المعتاد أو المتعارف عليه، وفي مختار الصحاح (الطبع هو السجية جبل عليها الإنسان)، وفي المعجم الوسيط (تطبع بكذا أي تخلّق به، وطبّعه على كذا أي عوّده إياه)، ولا توجد مادة تطبيع في المعاجم العربية لأنها محدثة، فالمعنى الحالي مأخوذ من ترجمة هذه الكلمة عن لفظة إنكليزية تم تداولها أخيراً خاصةً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، لكن يمكن تصور المعنى من كلمة التطبيع من حيث المبدأ أنه (هو العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها).
حقيقة التطبيع مع اليهود:
"أنه يشمل (كل اتفاق رسمي أو غير رسمي أو تبادل تجاري أو ثقافي أو تعاون اقتصادي مع إسرائيليين رسميين أو غير رسميين) ويهدف إلى (إعادة صياغة العقل والوعي العربي والإسلامي بحيث يتم تجريده من عقيدته وتاريخه ومحو ذاكرته خاصة فيما يتعلق باليهود، وإعادة صياغتها بشكل يقبل ويرضى بما يفرضه اليهود) ومآله: الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات شرعية، وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية وتحويل آليات الصراع إلى آليات تطبيع " (ورقة لحسين عبيدات ألقيت في المؤتمر العام العاشر للصحفيين العرب عام 2004 م).
وبذلك يتضح أن المقصود بالتطبيع هو سلام دائم وليس عبارة عن هدنة مؤقتة ومسالمة يركن إليها المسلمون لضعفهم في زمن معين - كما يعتقد بعض من يقولون بجواز التطبيع - باعتبار أنه صُلحٌ أو سِلمٌ جنح له العدو، ولا يخفى أن هناك فرقأً شاسعاً بين اتفاقيات التطبيع وبين أحكام الهدنة والصلح التي ذكرها العلماء، وأهون ما يمكن أن يقال عن هذه الاتفاقيات أنها صلح دائم مع عدو محتل لأرض المسلمين غاصب لمقدساتهم وهذا محرم باتفاق المسلمين، وقد قال جمع من علماء المسلمين أن الصلح الدائم مع اليهود لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بحقية يده على ما أغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه، وقد أكدت الفتوى الصادرة من رابطة علماء فلسطين عدم جواز التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، موضحة أنه 'إذا استوطن أحد من الأعداء أرض المسلمين، فلا يجوز أن يقره على هذا الاستيطان أحد من المسلمين، وأن التطبيع بمثابة إقرار من المسلم المطبع لعدوان العدو واحتلاله،وجاء في فتوى الرابطة أن 'الواجب الديني على كل مسلم نصرة إخوانه ومعاونتهم على إخراج الأعداء من أرضهم، وعدم التطبيع مع الأعداء أبداً؛ لأن التطبيع مع الغاصب خذلان لأصحاب الحقوق وضرر بالغ بهم، فأين التعاون بين المسلمين على الأعداء إذا طبع المسلم مع عدو أخيه ومغتصب أرضه وقاتل بنيه' (موقع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على شبكة الإنترنت).
وأخطر ما في التطبيع الذي يراد إقراره هو أنه في حقيقته صورة من صور الولاء، الذي يمكن أن ينتهي إلى التولي، والولاء والتولي لا يجوز إلا للمسلم، قال الله - تعالى ـ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" (الممتحنة: 1).
ولعلنا نتأمل أقوال بعض زعماء الصهاينة ونظرتهم إلى العلاقة التي يرغبون بإقامتها مع المسلمين، " يقول اليهودي هركابي (الأب الروحي لرابين): لابد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب؛ لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية " كتاب (لا للتطبيع د. عبدالله النفيسي)، ويقول شيمون بيريز: إن البقاء مستحيل لدينين لن يلتقيا ولن يتصالحا، وأنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد، وفي مؤتمر التسامح الذي عقد قبل عدة سنوات في المغرب العربي قال ديفيد ليفي وزير خارجية العدو حينها (إنه من أجل أن يقوم التسامح بيننا وبين العرب والمسلمين، فلا بد من استئصال جذور الإرهاب , وإن من جذور الإرهاب سورة البقرة من القران).
ثانياً: إستراتيجية اليهود وخططهم في التطبيع:
هناك بعض المعالم التي تبين سياسة الكيان الصهيوني للوصول إلى رحلة التطبيع:(29/342)
1- القضم ثم الهضم هي إستراتيجية الكيان الصهيوني، ففي السنين الماضية احتلت أجزاء من بلاد المسلمين فتحتاج إلى وقت لهضمها وخلال هذا الوقت يتم الاستعداد لجولة أخرى يتم فيها التهام جزء آخر من بلاد الإسلام.
2- أصبح من المعتاد أن تبدأ الاتصالات سرية أولا بين المندوبين والوسطاء، ثم تنتقل إلى المسئولين فالزعماء للترتيب لإعلان بداية المفاوضات العلنية للتضليل، وهي قد انتهت سراً قبل الإعلان، وما جرى قبل زيارة السادات لفلسطين من اتصالات سرية بدأت في 9/1977م، وما كشفه موشي ديان في كتابه " أيبقى السيف الحكم "، وكشفته العديد من الكتب والمذكرات لزعماء يهود ومنها كتاب (تواطؤ عبر الأردن: ليوسي ميلمان ودان رفيف) من حقائق كثيرة لهو دليل واضح على ذلك.
3- تكوين رابطة الشرق أوسطية التي تربط بين دول المنطقة أجمع باسم الشرق الأوسط وتنبذ الانتماء للإسلام أو العروبة، وهذا مشروع اليهودي (شيمون بيريز)الذي طرحه في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) عام 1993 م، ثم طور خطابه في عام 1995 م فذكر بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تبني مواقف ليندمج مع العالم الجديد، ونصح العرب بتطبيق سياسة اقتصاد السوق علماً بأن الكيان الصهيوني يقيد سياسة السوق، ومن المعلوم أن اقتصاد السوق الذي ينادي به بيريز هو الطريق اليسير لسيطرة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية ورؤؤس الأموال الأمريكية على الاقتصاديات العربية، ثم اسُتنسخ هذا الطرح مع بعض الإضافات والتعديلات في المشروع الأمريكي المسمى (الشرق الأوسط الكبير) الذي من أبرز عناصره:
- إقامة أمن إقليمي جديد بدلا من الأمن القومي العربي ويتضمن ذلك إقامة مناورات مشتركة عربية - غربية - إسرائيلية لضمان تطبيع العلاقات وكسر التعبئة النفسية وإضعاف روح الاستعداد المعنوي للمواجهة.
- طبيعة هذا المشروع سياسية في الأصل لكنه يعرض بقالب اقتصادي حيث يوصف بأنه مشروع اقتصادي أو كما يجري اختزاله أحياناً بـ " سوق شرق أوسطية ".
4- التطبيع وسيلة فاعلة لليهود تهيئ لهم الفرصة لدعم المنافقين والمفسدين لأداء دورهم داخل مجتمعاتهم بشكل يدفع كثيراً من المسلمين إلى الهزيمة النفسية والشعور باليأس من الإصلاح.
5- من أبرز أهداف اليهود سعيهم إلى عزل الدول العربية بعضها عن بعض وخاصة في المفاوضات ليحققوا أطماعهم الخاصة، فيخسر العرب الكثير من قوتهم بسبب فرقتهم وتفرقهم.
6- أن تصبح جامعات اليهود ومراكز أبحاثهم ودراساتهم مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسّس للمشروع الصهيوني، الموجّه لتدمير الثقافة والهويّة الحضارية الإسلامية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى في داخل كل بلد عربي.
ثالثاً: مراحل التطبيع:
المرحلة الأولى: قبل عام 1967 م (اللقاءات السرية):
كانت بدايات مراحل التطبيع الأولى تتمثل في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، كالاتصالات التي كانت قائمة بين المغرب والكيان الصهيوني وبينه والأردن، وبعضها قبل حرب 1967م، وما كشفه كتاب (تواطؤ عبر الأردن)، يكفي في بيان المقصود حيث فيه توثيق للعلاقات السرية التي كانت قائمة بين الكيان الصهيوني والأردن ومن ذلك التوقيع على مسودة اتفاق في عام 1950 م تضمن: عدم الاعتداء بين الجانبين لمدة خمس سنوات وتشكيل لجان مشتركة بهدف التوصل إلى تسوية شاملة بين الطرفين، وقد برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الكيان الصهيوني قد وجد ليبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالته، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974م، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الكيان الصهيوني من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي، وكان من أبرزها اللقاءات المتتابعة للملك حسين مع اليهود في عامي 75 - 1976 م حيث بلغت ستة لقاءات ، وذلك لشعور الملك بخسارته لجزء مما كان يملكه بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولخوفه من اتفاق وشيك بين مصر والكيان الصهيوني .
المرحلة الثانية: مرحلة توقيع معاهدة كامب ديفيد وتداعياتها عام1979م (كسر الحاجز النفسي):
زار فيها السادات فلسطين المحتلة عام 1977 م، والتقى بقادة اليهود فيها وألقى خطاباً في الكنيست الإسرائيلي، ثم ما لبثت المفاوضات أن تسارعت حتى تمخضت عن توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية أمريكية وذلك عام 1979 م، وتم عزل مصر عن بقية الدول العربية بهذه المعاهدة المنفردة، وسيأتي مزيد من التفاصيل عن هذه المرحلة لاحقاً.
المرحلة الثالثة: مرحلة أوسلو عام1993م...(الهرولة السريعة):(29/343)
جاءت مرحلة مدريد بعد حرب الخليج الثانية ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله خاصة مع الطرف المباشر وهم الفلسطينيون؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر يوليو 1994م، حتى وقع الأردن اتفاقية (وادي عربة), وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس وبقية الدول العربية.
المرحلة الرابعة: مرحلة ما بعد مؤتمر الإسكندرية عام 1995م (التهدئة التكتيكية):
أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها السعودية , ومصر، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية بلا ثمن, وأن إسرائيل تتجاهل النوايا العربية في التطبيع بالحد الأدنى من الحقوق، وفي هذه الأجواء جاء مؤتمر القمة الذي عقد في الإسكندرية مطلع عام 1995م لتهدئة الهرولة تجاه الكيان الصهيوني، وبدأت موجة من الضغوط التكتيكية على الدول العربية المطبعة والمتجهة للتطبيع كي تهدئ جماح التطبيع، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى غالب الأحيان، غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد كانت استراتيجية الدول الثلاث تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الكيان الصهيوني بالتسوية بعيدة جداً، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت صعوبة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.
المرحلة الخامسة: مرحلة تصاعد انتفاضة الأقصى واشتداد المقاومة المسلحة(تكافؤ القوى):
جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة كامب ديفيد ثم تصاعدت واستمرت وفي أجوائها تصاعدت المقاومة المسلحة لتحصر في زمن قياسي جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع أو تسع سنوات في أضيق نطاق، وبدأت مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي حيال الكيان الصهيوني تقوم على هذه الرؤية للتطبيع، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني ولهما علاقات دبلوماسية معها وهما مصر والأردن قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية والرسمية والتكتيك السياسي.
المرحلة السادسة: مرحلة ما بعد قتل عرفات واحتلال أمريكا للعراق (الهرولة الجماعية):
يمكن التأريخ لهذه المرحلة بمقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وموافقة حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، وهو المعروف بمناهضته لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس والجهاد وفصائل فلسطينية أخرى، أو يمكن التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جماعية جديدة، على رغم عدم توافر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وفي هذه الأجواء جاءت المبادرة العربية للتطبيع الجماعي.
رابعاً: نماذج من بنود اتفاقيات التطبيع السابقة بين العرب والكيان الصهيوني:
أ- كامب ديفيد الأولى (التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني 1979 م):
" نصّت المادة الثالثة من اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان العلاقات الثقافية على ما يلي:
1-يتفق الطرفان على إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء عقب الانسحاب المرحلي.
2-يتّفق الطرفان على أنّ التبادل الثقافي في كافّة الميادين أمر مرغوب فيه، وعلى أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن، وفي موعد لا يتجاوز ستّة أشهر بعد الانسحاب المرحلي، بغية عقد اتفاق ثقافي.
3- كما نصّت المادة الخامسة الفقرة الثانية على تعاون الطرفين على إنماء السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة ويوافق كل منهما على النظر في المقترحات التي قد يرى الطرف الآخر التقدم بها تحقيقا لهذا الغرض." (من كتاب مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية).(29/344)
ومع ذلك كله فإنه أثناء زيارة (بيغن) - رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك - لمصر في 25/8/ 1981م، أعرب عن استيائه البالغ من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن "اغتصاب إسرائيل لفلسطين" وكتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات من القرآن الكريم تندّد باليهود وتلعنهم ولعله يقصد مثل قوله _تعالى_: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (سورة المائدة: 82)، وقد أشارت الصحف إلى أنّ السادات استجاب على الفور لطلب "صديقه بيغن"، فأصدر أوامره للمختصين في وزارة التربية بإعادة النظر في المناهج الدراسية بما يتلاءم مع طلبات بيغن.
ب- وادي عربة (التطبيع بين الأردن والكيان الصهيوني 1994 م ):
لا يخفى اهتمام اليهود بالجانب الثقافي لما له من أثر كبير في مسيرة التطبيع، فهم في معاهدة كامب ديفيد قد طالبوا بأمور عديدة، ثم تطورت مطالباتهم في اتفاقية (وادي عربة) على النحو التالي:
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما».
- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.
ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
خامساً: من وسائل التطبيع:
من أخطر وسائل التطبيع، التطبيع الثقافي ومن أهم ما يرتكز عليه:
1- الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية واجتماعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة، أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام 1993م، إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني.
2 - إيجاد أنصار للتطبيع مع دعمهم وإبرازهم من خلال المنظمات الممولة أمريكياً وأوروبياً تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان داخل المجتمع العربي ليقوموا بالأدوار التالية:
أ - الطعن في الإسلام وادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، وضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية وتبديل أحكام الشريعة ومحاصرة دعاة الإسلام واتهامهم بالتطرف والإرهاب والظلامية...الخ.
ب - القول إن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي أو الهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص الآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو غيرها.
جـ - الدعوة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية بإثارة المسائل العرقية والطائفية والأقليات، وإبراز الحضارات السابقة للإسلام كالفرعونية والفينيقية ونحو ذلك.
3- الترويج لما يسمى بثقافة السلام، الذي وجد طريقه إلى العديد من الكتابات والأفكار التي طرحت في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية والعربية العامة، وكذلك الندوات والحوارات عبر القنوات الفضائية، والتي تدعو إلى نسيان التاريخ - تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي - وإلغاء ذاكرة الأمة.
4- التهوين من فتاوى العلماء حتى علماء المؤسسات الرسمية خاصة السنية، للتقليل من أهمية المرجعية العلمية في معظم البلاد العربية والإسلامية ، فترى اليوم كثيراً من الدول العربية والإسلامية، تفتقد المرجعية العلمية، بينما تنمى المرجعية العلمية المتميعة والمبتدعة.
5- ممارسة ضغوط على الدول التي لا تتجاوب مع التطبيع بالسرعة المطلوبة فقد حث أعضاء الكونغرس الأمريكي إدارة الرئيس جورج بوش على رفض التوقيع على اتفاق يسمح للسعودية بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية حتى تنسحب من المقاطعة العربية لإسرائيل وأكدوا أنه يتعين على الولايات المتحدة الإصرار على تحقيق تقدم في أربعة ميادين رئيسة قبل تقديم مساعدتها للرياض للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، ووضعوا على رأس هذه الميادين إنهاء المقاطعة السعودية للكيان الصهيوني.
6 - تشويه صورة الجهاد والمجاهدين المقاومين للاحتلال في نفوس الشعوب المسلمة والسعي لإيقاف الدعم عنهم ونبزهم بالإرهاب.(29/345)
7 - استخدام طوائف من عرب أراضي ثمانية وأربعين الذين هم داخل الخط الأخضر للترويج للتطبيع كما هي خطة (عزمي بشارة) التي عرضها على الكنيست الإسرائيلي والتي قدمها كمشروع لدولة المواطنين والتي يدعو فيها إلى المساواة بين الفلسطينيين والصهاينة وهو لا يعني سوى إضفاء شرعية نهائية على اغتصاب فلسطين بشرط الاعتراف بحقوق الفلسطيني في المواطنة.
فالمقصود من كل هذه الوسائل إيجاد تيار عريض يقوم أفراده بدور الطابور الخامس القابع خلف خطوط الدفاع في الأمة، حيث أنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هويتها على جميع الصعد، لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل، وقد كان تمويل أمثال هؤلاء يجري في مصر وفق أنماط من الرسمية أو وفق حالات مقننة، حيث كانت الأموال تصل إليهم عبر وزارة الشئون الاجتماعية وخصماً من المعونة الأمريكية المقدمة للحكومة المصرية، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال في الاحتفالات التي تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام، ليجري توزيع ما يزيد على 40 مليون دولار سنوياً.
سادساً: من فعاليات التطبيع:
ضمن إطار العمل المستمر لدعاة التطبيع من الصهاينة والأمريكيين والعرب من أجل استحداث مؤسّسات وهيئات وجماعات وملتقيات تصب في المشروع التطبيعي، تكوّنت "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" في سبتمبر 1991م، وهي تضمّ نخبة من الشخصيات الأمريكية والصهيونية والعربية, ويترأسها "جون ماركس" بصفته من الخبراء الأمريكييّن في شؤون المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية, ويعمل في إطار " مؤسّسة المبادرة" خمسة وعشرون شخصاً من الأمريكيين والعرب والإسرائيليين، وتعدّ أحد المطابخ الرئيسة في طرح الأفكار والتصوّرات الممّهدة لتأسيس "نظام الشرق أوسطي" على أنقاض النظام العربي، يقوم اليهود فيها بدور القيادة وتتمحور حول مصالحهم وإستراتيجيتهم شبكة التفاعلات الإقليمية الجديدة وقد برزت أخبار هذه "المؤسّسة" إثر خلوتهم السرّية السادسة التي عقدت في مراكش بالمغرب (في الفترة من 18-22 مارس 1994م)، حيث اعترف المجتمعون أن هدف اجتماعاتهم هو إعداد الجماهير العربية لقبول "السلام" بشروطه الحالية أي فرض هذا "السلام" طوعاً بإرادتها، أو رغماً عنها عن طريق تزييف وعي الناس وإرادتهم المقاومة للعدوان والاستيطان والعنصرية الصهيونية، ولتحقيق برنامجها، قررت المجموعة القيام بإجراءات وتحركات واسعة، تتمثّل خطوطُها العامة بما يلي:
- ينبغي إحداث تحولات في التوجهات والإدراك في الشرق الأوسط إذا أريد للمنطقة الانتقال من ثقافة المواجهة والحرب إلى ثقافة السلام.
- يمكن للإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في بناء السلام لتجاوز القيود الحكومية والثقافية السائدة، التي تضع عقبات مانعة أمام تقدم السلام.
ثم عُقدت في سبتمبر من عام 1994 م، "خلوة أنقرة" التي أشرفت عليها ونظمت أعمالها وأسماء المدعوّين إليها وموّلتها المؤسّسة الأمريكية الصهيونية المعروفة بـ "مشروع البحث عن أرضية مشتركة" وقد استمرت أعمالها لثلاثة أيام تحت شعار "نحو ثقافة سلام بالشرق الأوسط"، وقد بدأت بتنفيذ برنامج العمل المستقبلي، الذي كانت أقرته في الاجتماع السادس بمراكش (مارس 1994م)، مجموعة العمل الأساسية في إطار "المبادرة" من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط، وقد ساهم بدور واضح في "خلوة أنقرة"، "مركز تاتي ستينمتيز الإسرائيلي لأبحاث السلام" في تل أبيب، الذي يترأسه "شمعون شامير" (الذي كان مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة)، ومؤسّسة "وقف الأمل" التركيّة بأنقرة وجمعية إعلام العالم بباريس، إضافة إلى تسعة صحفيين عرب.
وقد أجمع المشاركون على ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:
- ينبغي على صحف المنطقة نشر مقالات وزوايا دائمة من دول أخرى، وقد قبل أكثر من صحفي عربي دعوة المساهمة في كتابة مقالات في الصحف (الإسرائيلية).
- أن يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة التي تصدر في الصحف (الإسرائيلية)، التي لا يسمح بدخولها إلى الدول العربية من قبل المشاركين، كما يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة، التي تصدر في الصحف الأخرى التي لا تتوافر (للإسرائيليين)، والهدف من ذلك هو رفع مستوى العلاقات وتقويتها بين الصحفيين العرب و(الإسرائيليين).
- ينبغي على الصحفيين المشاركين من دول مختلفة أن يكتبوا مقالات مشتركة، وهذا من شأنه أن يجعلهم يتبنّوا ذات الأفكار والمفاهيم، وقد وافقت (ر.د) مراسلة صحيفة "الحياة" مشاركة صحفي (إسرائيلي) في كتابة مقالات مشتركة.
- أعلن المشاركون عن تشكيل شبكة مهنية لصحافة الشرق الأوسط، ودعوا إلى ضرورة توسيعها والنشر عنها، لضمّ أكبر عدد ممكن من الصحفيين العرب و(الإسرائيليين) وغيرهم إليها، وتقديم إرشادات حول أية مقالات يريدون كتابتها.
من آثار التطبيع
أولاً: فلسطين:
1 - الجانب السياسي:(29/346)
من أبرز المبادئ اليهودية في إدارة الصراع مع الفلسطينيين العمل على عدم تمكينهم من إقامة دولة فلسطينية مستقلة؛ لأن إقامتها يعني وجود منافس حول الشرعية المرتبطة بالأرض التي يعيش عليها اليهود، وأخطر من ذلك سياسة استيعاب الشعب الفلسطيني عن طريق:
- استيعاب الفرد معنوياً وحضارياً سواء بإيجاد الاحترام والانتماء العربي أو بإيجاد الإعجاب بالحضارة اليهودية.
- تشجيع زواج العربي باليهودية وخاصة الشرقية مع مخالفة ذلك لمبادئ النقاء اليهودي ولكن ذلك قد يؤدي في الأمد البعيد إلى إضعاف العنصر الفلسطيني.
- الاستئصال العضوي وله وسائل متعددة كالقتل أو الطرد أو التشجيع على الهجرة الدائمة.
وإذا نظرنا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، فإنها تجد نفسها في مأزق، كلما وجدت الدول العربية تهرول باتجاه الكيان الصهيوني غير عابئة بما تجره هذه الهرولة من تنسيق أمني عالٍ مع الكيان الصهيوني في المجال الأمني والاستخباراتي خصوصاً، مما يضرها وهذا بدوره يقطع كثيراً من طرق الإمداد للمقاومة الفلسطينية، سواء العسكرية أو التموينية، كما تقلل مساحة الوجود للفصائل الفلسطينية على التراب العربي، ومن ثم يقطع سبيل التواصل بين الخارج والداخل لهذه الفصائل.
2 - الجانب الاجتماعي:
سعى اليهود للتقليل من تكاثر المسلمين في فلسطين (عام 1948م) خاصة وبقية الأراضي المحتلة بوسائل متعددة كنشر الأمراض الجنسية وترويج مواد استهلاكية وأدوية تؤدي إلى العقم، وقد صرح وزير الصحة الفلسطيني السابق عبد العزيز شاهين عن اكتشاف ما يقارب العشرين طناَ من علكة لبان تسبب العقم كانت توزع داخل فلسطين المحتلة.
3 - الجانب الاقتصادي:
منذ العام 1967م بدأ اليهود باستخدام العملة اليهودية في المناطق المحتلة وتحويل أفرع البنوك العربية إلى بنوك يهودية وفتح باب التبادل التجاري بين المناطق المحتلة و الكيان الصهيوني وتشجيع زراعة المحاصيل الزراعية التي يحتاجها الكيان الصهيوني للاستهلاك المحلي أو قيامه بتصديرها إلى أوربا وتنشيط إدماج العمالة العربية في قوة العمل اليهودية لتوثيق الامتزاج الاقتصادي ولكن بشروط قاسية حيث يعمل العربي ساعات أكثر من اليهودي ويأخذ أجراً يماثل نصف أجر العامل اليهودي الذي يؤدي العمل نفسه، إضافة إلى تعرض بعض العمال العرب إلى اعتداءات عنصرية من رجال الشرطة أو رجال سلاح الحدود اليهود بل وحتى من العمال اليهود.
ومع استمرار مسلسل الحصار والاجتياح اليهودي للمدن الفلسطينية تزايد عدد الأسر الفقيرة إما بسبب مقتل عائلها أو اعتقاله، وكان من نتيجة ذلك سيطرة اقتصادية يهودية شبه كاملة على الضفة وقطاع غزة، بلغ فيه حجم التعامل الاقتصادي مع اليهود 83% وحقق اليهود من ورائها سوقاً يفوق حجم سوقه مع مجموع الدول الأفريقية، وبعد بدء مسلسل المفاوضات بين السلطة والكيان الصهيوني ظهر منذ البداية الاهتمام الأميركي ـ الصهيوني بالمضمون الاقتصادي للعملية السلمية، حيث تم التركيز بشكل خاص على ضرورة البدء بإقامة تكتل اقتصادي يدمج اقتصاد الكيان الصهيوني واقتصاد الأردن والاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولقد بادرت مدرسة جون كيندي في جامعة هارفارد إلى دعوة اقتصاديين أكاديميين من فلسطين والأردن والكيان الصهيوني ليعملوا تحت أشراف اقتصاديين أميركيين على تحديد مستقبل التعاون الاقتصادي بين بلدانهم وعقد ذلك المؤتمر قبل توقيع اتفاق أوسلو، وتم بعد ذلك اعتماد الكثير من توصياته في الاتفاقية الاقتصادية بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير التي وقعت في باريس العام 1994 م.
وقد كان الفلسطينيون قد وعدوا عند توقيع اتفاقية أوسلو بتحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ولكن الواقع الحالي يشهد بما يعانيه ساكني مسرى الأنبياء من فقر وحاجة لا يعلمها إلا اللطيف الخبير.
ثانياً: مصر:
1 - الجانب السياسي:(29/347)
تم عزل مصر عن محيطها العربي فلم يكن لها دور في أحداث عظام وقعت بعد توقيعها لاتفاقية (كامب ديفيد) كتدمير المفاعل النووي العراقي وقمع اليهود للمقاومة الفلسطينية واللبنانية بشراسة ودعمهم لإثيوبيا ولحركة التمرد في جنوب السودان وغيرها من الأحداث، أما على الصعيد الداخلي فقد كشفت المخابرات المصرية عدداً من شبكات التجسّس (الإسرائيلية)، أغلبها على صلة مباشرة بسفارة "إسرائيل" منها -على سبيل المثال- الشبكة التي كانت برئاسة المستشار العسكري (الإسرائيلي) بالسفارة، والتي كشفت في أوائل أغسطس 1985م، وكانت تضم عدداً من أعضاء البعثة الدبلوماسية (الإسرائيلية)، وبعض الباحثين "بالمركز الأكاديمي الإسرائيلي"، وأمريكيين يعملان بهيئة المعونة الأمريكية، وسويدياً يعمل وسيطاً في صفقات الأسلحة، وثلاثة مصريين، وكانت هذه الشبكة تستخدم محطة لاسلكية متطورة داخل سفارة العدو، لتبليغ رسالة يومية عن أحوال مصر، بينما يتم نقل التقارير والأفلام والصور والخرائط إلى (إسرائيل) عبر الحقيبة الدبلوماسية، وكذلك قام ضباط "الموساد" بالسفارة (الإسرائيلية) بالقاهرة، بتجنيد عدد من الطلاب عن طريق بعض أقاربهم العاملين بالسفارة، وتشجيعهم على السفر إلى (إسرائيل)، حصل مقابلها أقاربهم على مكافآت مجزية نظير تجنيدهم!!.
وهناك قضية (الإسرائيليين) الأربعة الذين كانوا يحملون جوازات سفر إنجليزية مزوّرة، وتم ضبطهم عند خروجهم من إحدى نقاط المراقبة الخاصة بقوة حفظ السلام في جنوب سيناء، وبحوزتهم حقيبة تضم 7 وثائق شفرية و19 شريطاً ميكرو فيلماَ للمنشآت المصرية في سيناء ونُظم تسليحها.(المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م).
2 -الجانب الثقافي:
نشر المركز الفلسطيني للإعلام على شبكة الانترنت يوم 30 مايو 2005م، بحثاً بعنوان مراكز الأبحاث والمؤسسات العاملة في خدمة التطبيع والإستراتيجية الصهيونية، وهذه مقاطع من البحث:
]ضمن الإطار التطبيعي أقيمت في مصر ستّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية "إسرائيلية"، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة، ومن ذلك -مثلاً- النشاط الذي يقوم به "مركز البحوث السياسية" في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة، الذي يجري كثيراً من الأبحاث بتمويل من "مؤسّسة فورد"، وكذلك نشاط "مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في الأهرام"، و"معهد التخطيط القومي" وغيرها من المؤسّسات العلمية، وبغية اختراق العقل العربي وعناصر المجتمع العربي أُنشئ في مصر عام 1982 م "المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة"، الذي لعب ويلعب دوراً خطيراً في مجال التمهيد للتطبيع، ونظراً لكونه الأخطر في ميدان إستراتيجية العدو على الأصعدة الأمنية والثقافية والعلمية، فقد توالى على إدارته عدد من أبرز المتخصصين في الدراسات الشرقية والعربية، الذين يرتبطون بعلاقات عضويّة مع أجهزة المخابرات (الإسرائيلية)، ومع مراكز التخطيط الاستراتيجي في الكيان الصهيوني حيث ركّز المركز جهوده خلال مدة ماضية للحصول على معلومات عن طلبة كليات العلوم والهندسة في جامعات مصر، لمعرفة آخر ما توصل إليه الطلبة النابغون من اختراعات جديدة، فاختير عشرة اختراعات وضعها "مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة" تحت المجهر، ووجّه بشأنها رسالة إلى السفير الإسرائيلي بالقاهرة كتب فيها:
بناء على تعليماتكم بإحضار ملفّات كاملة عن آخر اختراعات الشباب المصريين أرسلنا لكم عشرة ملفات عن اختراعات في مجال الزراعة وتحلية المياه والبلاستيك والكمبيوتر وإطارات العربات، ونودّ أن ننبهكم أنّ معظم هذه الاختراعات قمنا بتجربتها وفحصها جيداً، وهي تعد من أحدث ما توصل إليه العلم، فأرسل السفير الإسرائيلي بالموافقة على شراء أربعة اختراعات وبأسرع وقت، أحدها جهاز لتحلية مياه البحر لطالب في كلية الهندسة، و الثاني جهاز لإنتاج سماد يعيد خصوبة الأرض، ويحول الأرض المالحة إلى أرض صالحة للزراعة، لطالب في كلية الزراعة، وهو الوحيد الذي قابل السفير الإسرائيلي في اليوم التالي ليعرض اختراعه، فعرض عليه السفر، وتجربة الاختراع ذاته بطريقة عملية، شاملة تكاليف الإقامة ومكافأة لكل يوم يقضيه في الكيان الصهيوني، إضافة إلى حق شراء الاختراع نفسه ومدة الإقامة ثلاث سنوات، وسافر بالفعل بعدما وضع ثمن الاختراع في البنك الأمريكي المصري.
والمؤسّسات والهيئات الأمريكية، التي تمثّل بؤراً تطبيعية في جسد المجتمع المصري لا حصر لها، وسوف نقدّم هنا أكثر هذه المؤسّسات والهيئات شهرة وأكثرها خطراً وهي:
1- الجامعة الأمريكية في القاهرة.
2- المركز الثقافي الأمريكي في مصر.
3- مؤسسة فورد: يرى باحثون منصفون أنها من أخطر مؤسسات التغريب العالمي الأمريكية، وقد انفردت بتمويل (أبحاث ودراسات الشرق الأوسط) وعبر هذه المؤسسة تقوم وكالة التنمية الأمريكية: (aid ) بتخصيص حوالي مئة مليون دولار سنوياً لمركز البحث العلمي والجامعات المصرية منذ نهاية السبعينات وحتى اليوم.(29/348)
4- مؤسّسة راند الأمريكية، وهي مؤسسة دراسات وأبحاث تقدم توصياتها للحكومة الأمريكية.
5- معهد ماساشوستس وفروعه في القاهرة ومعهد "إم-إي-تي" (في مبنى جامعة القاهرة).
6- الأكاديمية الدولية لبحوث السلام.
7- مشروع ترابط الجامعات المصرية الأمريكية ومقره المجلس الأعلى للجامعات في القاهرة. (تبلغ ميزانيته السنوية 27 مليون دولار تقدّمها المخابرات الأمريكية).
8- "مركز البحوث الأمريكي" بالقاهرة، ويتركّز نشاطه في مجال الدراسات الاجتماعية، إلى جانب البحوث الاقتصادية والتاريخية والأثرية.. ويحظى بعضويته الشرفية "الزمالة" عدد من الأساتذة المصريين ومزدوجي الجنسية أمريكي/ مصري، وأمريكي/إسرائيلي , كما ينشط في مجال البحوث المشتركة والمموّلة، وفيما يلي بعض عناوين البحوث والدراسات التي أجراها هذا المركز:
-بحث فاليري هوفمان: "الحياة الدينية للمرأة المسلمة في مصر المعاصرة".
-دراسة ليوناردو بايندر حول "حرية الفكر الإسلامي في مصر المعاصرة".
-دراسة آرثر كريس عن: "الجهاد الإسلامي والاتجاهات الفكرية المختلفة".
ومنذ منتصف الثمانينات كثّف "مركز البحوث الأمريكي" نشاطه في مجال التطبيع والتجسّس العلمي على المجتمع المصري وتمثّل ذلك في عشرات الأبحاث المموّلة ومنها:
دراسة عن العادات والتقاليد المتوارثة للأسرة المصرية، الموالد الشعبية المصرية، تقصي ظاهرة التطرف في الحياة المصرية الحديثة، الإسلام والثورة... إلخ.
9- هيئة المعونة الأمريكية: استطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الاستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه (إسرائيل)، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعونة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين المصريين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعرفه علماؤنا» [
وقد أوردت صحيفة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993م تحت عنوان بارز «اليهود والأمريكان... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وبينت الصحيفة أيضا: أن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة»؛ بغية غرس محبة الحضارة الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية، كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية.
3 -الجانب الاجتماعي:
أ- ازدياد أعداد المصابين بمرض السرطان بسبب الكثير مما يتم استيراده من الكيان الصهيوني.
ب- انتشار المخدرات بشكل كبير بين فئات المجتمع كلها.
ج - السماح بدخول اليهوديات بأعداد كبيرة بزعم تنشيط السياحة فقمن بنشر الأمراض واقترنت الكثير منهن بشباب مصريين حتى بلغ عدد الزيجات أكثر من عشرين ألفا زواجاً مختلطاً.
د- ظهور جماعات منحرفة من الشباب تحمل عقائد باطلة كمن يتسمون بعبدة الشيطان.
4 - الجانب الاقتصادي:(29/349)
يعد هذا الجانب من أبرز الجوانب التي يحرص عليها اليهود لأهميته، وقد وقعوا مع مصر على اتفاقية الكويز:(QIZ: qualifying indust r ial zones) في 12/2004 م، لإقامة المناطق الصناعية (في طور التأهيل) ، وهذه الاتفاقية هي تطبيق للقسم التاسع من اتفاقية التجارة الحرة بين أمريكا والكيان الصهيوني المبرمة عام 1985 م، وهي ليست اتفاقية مستقلة بين حكومتين من الناحية الفعلية فقد وافق الكونجرس الأمريكي على إعطاء الرئيس الأمريكي الإذن بالسماح لمصر والأردن بتصدير منتجاتهما إلى أمريكا دون دفع رسوم جمركية بشرط احتوائها على مكون إسرائيلي بنسبة 7,11 % كحد أدنى، وهي تشمل كل الصناعات والسلع، وقد تم في مصر استبعاد أهم المناطق الصناعية التي تنتج الملابس الجاهزة كمدينة المحلة الكبرى (قلعة النسيج في مصر) ومدينة 6 أكتوبر والتي يوجد فيها أكثر من 200 مصنع وغيرها من الأماكن فلا تشملها الاتفاقية، ويتضح من هذا الاستبعاد مراعاة مصالح خاصة لبعض رجال الأعمال، واتفاقية الكويز تناقض اتفاقية التجارة الدولية (الجات) والتي تؤكد على عدم وضع شروط تفصيلية لبعض الدول دون البعض الآخر، وكذلك هي مخالفة للقانون والدستور المصري لأنها حفظت في مجلس الشعب دون عرضها للنقاش، بل لم تنشر إلى الآن؟
ومن أبرز الآثار السلبية لهذه الاتفاقية أنها لم تحدد الحد الأقصى للمكونات الإسرائيلية الداخلة في المنتجات، وهي ستساهم في زيادة الكساد للمصانع المصرية وستمكن اليهود من اختراق منظومة المعلومات الخاصة بالصناعة المصرية وستدخل غالب الأرباح الناتجة منها للخزينة اليهودية وستتسبب في هروب رؤؤس الأموال العربية وستقضي على حلم السوق العربية المشتركة، وكذلك فإنها ستمكن بقية الدول العربية من إظهار التطبيع بعد أن كانت تستخفي به، وما سيتبع ذلك من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر.
ومن أبرز المستجدات في الجانب الاقتصادي، قيام شركة (EMG) الصهيونية - المصرية المشتركة بالتوقيع على صفقة لشراء الغاز الطبيعي مع وزير البترول المصري (سامح فهمي) وشركتين حكوميتين تعملان في مجال الغاز في مصر حيث سيتم سنوياً شراء 7 ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي المصري ولمدة عشرين عاما بقيمة 5,2 مليار دولار تقريبا ثم بيعه بعد ذلك إلى شركة الكهرباء (الإسرائيلية)، وذكرت مصادر رسمية في مجال الطاقة بالكيان الصهيوني: إن كمية الغاز المتبقية سيتم بيعها لتركيا واليونان ودول أوربية أخرى، وقالت تلك المصادر: إن نسبة الغاز التي ستنقل لشركة الكهرباء الإسرائيلية تصل إلى1,7 مليون متر مكعب في العام الواحد وتقوم شركة(EMG) حالياً بإجراء مفاوضات مع شركات(إسرائيلية) أخرى لبيع كميات من الغاز المصري لها، والشركة يمتلك رجل الأعمال الإسرائيلي (يوسي ميمان) نسبة 25% ويمتلك رجل الأعمال المصري (حسين سالم) نسبة 65% أما الحكومة المصرية فتمتلك 10% فقط من أسهم الشركة.
وكذلك نقل موقع (مفكرة الإسلام) على شبكة الانترنت الخبر التالي: كشف موقع صهيوني أن الرئيس المصري (حسني مبارك) أبلغ (شيمون بيريز) نائب رئيس الحكومة (الإسرائيلية) بموافقته على إقامة منطقة زراعية مشتركة على الحدود المصرية- الصهيونية وذكر موقع (القناة السابعة) العبري الإخباري أن (بيريز) أجرى اتصالاً هاتفياً برئيس مجلس مدينة (رامات هناجف) بصحراء النقب وأبلغه موافقة الرئيس مبارك على مشروع مشترك لتطوير المنطقة الحدودية بين مصر و (إسرائيل) وإقامة مشروع زراعي على مستوى عالٍ يندرج ضمن مشاريع التعاون الإقليمي المشتركة، وقال (موشيه برائيل) مراسل الموقع: إن الرئيس مبارك وافق كذلك على مشروع تقدم به مجلس مدينة (رامات هناجف) يقضي بإقامة معبر سياحي لاستقبال السائحين بالقرب من معبر (نيتساناه) الحدودي بين مصر و(إسرائيل) .
وأخيراً لا يخفى ما يعيشه الناس في مصر من أزمات اقتصادية خانقة متتالية وصل فيها معدل البطالة إلى 5,10 % والدين الخارجي إلى أكثر من 30 مليار دولار وبلغ الدين الداخلي ما يزيد على 300 مليار جنيه.
ثالثاً: الأردن:
1- الجانب السياسي:(29/350)
"كانت اللقاءات بين الملك حسين واليهود مستمرة عن طريق الوسطاء منذ العام 1950 م، ثم تطورت حتى بدأ اليهود يبلغون الملك حسين بمحاولات اغتياله (1958 م) عن طريق بريطانيا، وفي عام 1960 م اغتيل رئيس الوزراء الأردني المجالي وكان المستهدف هو الملك حسين، وكانت أصابع الاتهام تتجه إلى سوريا فقام الملك حسين بنقل جزء من قواته المرابطة على حدوده مع فلسطين إلى حدوده مع سوريا وأكد على اليهود بعدم استغلال ذلك، ولكنه عدل عن الفكرة فيما بعد، ثم كان اللقاء الأول للملك حسين مع المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية في سبتمبر عام 1963 م، ثم تتابعت اللقاءات إلى أن التقى الملك حسين مع موشي ديان في لندن عام 1977 م " من كتاب (تواطؤ عبر الأردن)، ولا يخفي مقولة الملك حسين عندما أدخل اليهود في قائمة المؤمنين حيث قال في خطابه يوم 15\11\1994 م:" إن السلام المعقود مع إسرائيل سيكون سلاما تنعم به الأجيال من العباد المؤمنين من نسل إبراهيم, ويؤدي إلى علاقات الإخوة بين المؤمنين الذين جعل الله لهم القدس محج أنظارهم جميعا.
2- الجانب الاقتصادي:
بعد أن وقع الأردن على (اتفاقية الكويز) مع الكيان الصهيوني عام 2003 م، هبط الميزان التجاري الأردني مع الكيان الصهيوني من 24 مليون دولار عام 1999 م إلى عجز بقيمة 26 مليون دولار عام 2003 م وقد تسببت هذه الاتفاقية بخسارة كبيرة لكثير من مصانع المواد الكهربائية وزيادة نسبة البطالة أيضا، ويمكن رصد عينة من ممارسات التطبيع التجاري والصناعي بين الجانبين خلال الأعوام الماضية:
1 ـ يعمل الإسرائيليون على الاستفادة من رخص الأيدي العاملة الأردنية لزيادة إنتاجهم وخفض كلفة الإنتاج، وذلك عبر نقل مصانعهم إلى الأردن، أو اتخاذ مصانع وكيلة لهم في المناطق الصناعية.
2 ـ تهتم هذه المصانع بالاستفادة من الانفتاح الأردني الواسع على الدول العربية لترويج بعض منتجاتها في دول لا تقيم علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني بوصف هذه البضائع أردنية المنشأ والإنتاج.
3- من المشاريع الهامة التي نجح (الإسرائيليون) في إقامتها:
أ ـ تمكنت شركة " شتراوس " الإسرائيلية المتخصصة في صناعة منتجات الألبان من نقل جزء من صناعاتها إلى الأردن في منتصف عام 1998 م، وقد خطط لتصدير الكثير من الإنتاج إلى الدول العربية، غير أن الشركة تعاني من صعوبات كبيرة في تسويق منتجاتها حيث اكتشف عدد من التجار مصدر الألبان الذي تصلهم منه، مما جعل السوق الرئيسي لها هو الدول العربية بوصفها منتجات أردنية.
ب ـ خرّجت كلية " شنكر"الإسرائيلية لتعليم مهنة الحياكة وفنون الموضة وإنتاج الملابس الجاهزة خمسة عشر عاملا أردنيا على نفقة مؤسسات إسرائيلية بهدف إلحاقهم بالمصانع الإسرائيلية التي أقيمت في الأردن.
وقبل فترة وجيزة أعلن رسمياً عن تطوير الاتفاق التجاري الذي يربط بين الكيان الصهيوني والأردن، ما يعطي مزيداً من الفرص للتعاون فيما بينهما للتصدير المشترك لأوربا، فقد أجرت صحيفة (هارتس)العبرية حواراً مع مسؤول التجارة بالإتحاد الأوروبي (بيتر مندلسون) حيث أكد أن هذا الاتفاق الذي وقعه الاتحاد الأوربي مع الأردن و الكيان الصهيوني لم يكن رد فعل متأخر لاتفاق (الكويز) الموقع مع الولايات المتحدة، وقال:إن التعاون معهما بدأ قبل تنفيذ هذا الاتفاق، وعن إمكانية التوقيع على اتفاق مماثل بين مصر والكيان الصهيوني قال المسئول الأوربي: إنه يتمنى دخول مصر تلك المنظومة التجارية، كما أشار إلى أن الإتحاد الأوربي يبدي اهتماماً خاصاً باتفاق التجارة الحالي بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، وأنه معني باستمراره في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي منه حيث أن مسئولي الاتحاد الأوربي يرون أن هذا الاتفاق إذا تم وقفه سيؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية في القطاع، كما سيضر بمحادثات السلام بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين حسب رأيهم.
وأخيرا فالشعب الأردني المسلم والذي ظلت قيادته متمسكة بتعهداتها للعدو الصهيوني لا يزال يئن من شدة الحاجة والفاقة، وأرضه تحوي من الخيرات والثروات الشيء الكثير، حتى وصل الحال " بحاملي درجة الدكتوراه - العاطلين عن العمل - أن يسيروا في مظاهرات في شوارع عمان " (تقرير بثته فضائية الجزيرة).
رابعاً: موريتانيا:(29/351)
وضع موريتانيا الجغرافي وثقلها السياسي الهش جعلها دومًا بعيدة عن الصراع العربي والإسلامي مع الكيان الصهيوني , إلا أن نظام معاوية ولد الطايع (المخلوع) مد جسور العلاقة مع الكيان الصهيوني , وجعل من بلاده أول بلد عربي خارج دول الطوق يكسر حاجز التطبيع مع الصهاينة, ليكون ثالث نظام عربي بعد مصر والأردن يقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني، ولعلنا نقول: إن علاقات موريتانيا مع الكيان الصهيوني تفوقت واتسمت بدفء مستمر لم تشهده علاقات الكيان مع أية دولة عربية أخرى, ففي نوفمبر 1995 م وقعت موريتانيا اتفاقًا تعترف فيه بالكيان الصهيوني وتقيم علاقات معها، و في أكتوبر 1998م زار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الموريتاني الكيان الصهيوني؛ حيث عقد محادثات مع (رئيس الوزراء الصهيوني السابق) بنيامين نتانياهو، ثم أقامت موريتانيا علاقات دبلوماسية كاملة مع الكيان الصهيوني في أكتوبر 1999م, وفي ذات العام تواردت الأنباء عن سماح النظام الموريتاني بدفن نفايات نووية من الكيان الصهيوني في البلاد في صفقة لم يتم الكشف عن جميع أبعادها، وقد زار وزير الخارجية ولد عبدي الكيان الصهيوني في مايو 2001م اجتمع خلالها مع (رئيس الوزراء الصهيوني) أرييل شارون، و(وزير خارجيته) شيمون بيريز، و في أبريل 2002م قاومت الحكومة الموريتانية الضغوط لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني، بسبب حملته العسكرية الإجرامية على الفلسطينيين في الضفة الغربية, مع أن مصر قد اضطرت تحت الضغوط الشعبية إلى سحب سفيرها من الكيان الصهيوني وتبعتها في ذلك الأردن، و في مايو 2005 م أجرى (وزير الخارجية الصهيوني) سيلفان شالوم محادثات مع مسؤولين بارزين في الحكومة الموريتانية.
خامساً: المغرب:
يمثل النظام المغربي حالة فريدة في التطبيع من خلال أدواره التاريخية في تسهيل الاتصالات الإسرائيلية - العربية بالمنطقة،منذ بداية الستينات حيث كان يعمل على تهجير المغاربة اليهود إلى الكيان الصهيوني مقابل رسوم مالية بالدولار، ويشكل حجم الجالية اليهودية الكبير وسيلة تواصل دائم بين الجانبين، حيث يوجد حوالي مليون يهودي مغربي بالكيان الصهيوني و300 ألف يهودي مقيم بالمغرب، وهو أكبر عدد لطائفة يهودية في دولة عربية، كما يوجد في المغرب عدة جمعيات يهودية تعمل في مجال التطبيع مع الكيان الصهيوني كجمعية هوية وحوار التي تأسست عام 1974 م، والتجمع العالمي لليهودية الذي تأسس عام 1985م، والمركز العالمي للأبحاث حول اليهود المغاربة الذي تأسس عام 1995 م ، ثم الاتحاد العالمي لليهود المغاربة الذي تأسس في 3 مايو 1999م.
وقد قام النظام المغربي بدور كبير في اتفاقية (كامب ديفيد)، ففي اللقاء التمهيدي بين الحسن الثاني وموشي ديان - وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك - الذي سأل الملك متعجباَ عن كيفية عمله كمنسق بين الكيان الصهيوني والدول العربية، أجاب الملك بكل سهولة: (أتعرف أنه لو علم بوجودك هنا فلن يطيح هذا العمل بي عن العرش والسبب شعبيتي الكبيرة بين اليهود)، ثم تلا ذلك عدد من الاجتماعات بين (موشي ديان) و حسن التهامي (أحد ضباط ثورة يوليو وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي) مبعوث الرئيس السادات في مدينة (أفران) بالمغرب سنة 1977 م.
وأخيراً لا يخفى ما أعلنته غالب دول الجامعة العربية بما فيها بعض دول الخليج عدم التزامها بالمقاطعة الاقتصادية للكيان اليهودي وذلك عام 1994 م، إلا أن بعضها ما زال ملتزماً بشئ يسير منها، وهذه المقاطعة هي التي كبدت اليهود بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مئة مليار دولار، " وما وصفته الصحافة الأميركية بهدف (إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا The Inte r national r ehabilitating of "Is r ael") وهو هدف يتطلب تحقيق أمرين: الأول إنهاء المقاطعة العربية للكيان الصهيوني، والثاني إشاعة جو يطمئن الشركات العالمية إلى إن السلام في الشرق الأوسط أصبح حقيقة لا رجوع عنها حتى تقبل على الاستثمار في الكيان الصهيوني، ففي ثلاث سنوات تقريبا تم تحقيق هدف إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميا، على ثلاثة محاور: المحور الأول إقامة علاقات دبلوماسية مع بلدان كانت لا تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني بسبب الصراع العربي ـ الصهيوني، وخلال عام واحد بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أقام الكيان الصهيوني علاقات دبلوماسية مع 20 دولة، وبعد ذلك استمر يقيم علاقات مع بلدان أخرى، وكان واضحا أن الكيان الصهيوني يولي بلدان جنوب شرقي آسيا اهتماما خاصا.(29/352)
أما المحور الثاني فهو أن البلاد التي كانت تلتزم قوانين المقاطعة العربية للكيان الصهيوني أخذت تفتح أسواقها للبضائع الصهيونية، وتقيم مع الكيان الصهيوني مشاريع مشتركة، وعلى سبيل المثال زادت الصادرات من الكيان الصهيوني للبلدان الآسيوية بعد سنة واحدة من اتفاق أوسلو بمقدار 23 في المئة وأصبحت تعادل حوالي 13 في المئة من مجمل الصادرات الصهيونية بعدما كانت اقل من 8 في المئة ولقد ازداد حجم التبادل التجاري بين الكيان الصهيوني وكوريا الجنوبية حوالي 50 في المئة ما بين 1994 ـ 1996م، كما أصبحت الصين مستوردا رئيسيا للسلاح والتكنولوجيا الصهيونية، وكذلك فإن الشركات الآتية قامت ببناء مصانع أو مراكز لها في الكيان الصهيوني بعد العام 1994م: Intel Gene r al Moto r s, Westinghouse, Motto r ola, Salmon, Cablet Wi r eless, Daimle r B r ewze, Siemens, B r othe r s, ولقد أتت هذه الشركات إلى الكيان الصهيوني لأنها ترى في اقتصاد الكيان الصهيوني شريكا في التمويل والاستثمار والبحث العلمي، وهي لا تقيم مصانعها في الكيان الصهيوني من اجل سوقه المحلي، ولكن لأنها تستخدم سوق الكيان الصهيوني بوابة لأسواق الشرق الأقصى أولاً، وأسواق الشرق الأوسط ثانياً، وهكذا بينما كان حجم الاستثمارات الأجنبية في الكيان الصهيوني عام 1991م لا يتعدى 400 مليون دولار، أصبح عام 1996 م حوالي 2.9 بليون دولار، وهذا يعني أن حجم الاستثمار الأجنبي في الكيان الصهيوني في العام 1996م، كان حوالي أربعة أضعاف حجمه في مصر" (مجلة الوسط 1-5-2000م).
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب التاسع ... 2
التطبيع والصلح مع اليهود ... 2(29/353)
(29/354)
التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني ... 2(29/355)
(29/356)
أبواب التطبيع الساخن ... 5(29/357)
(29/358)
على خطى ولد الطايع التطبيعية ... 8(29/359)
(29/360)
باكستان تهرول نحو ( إسرائيل ) ... ... 9(29/361)
(29/362)
قمّة الجزائر والتطبيع مع الكيان الصهيوني ... 10(29/363)
(29/364)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3) ... 13(29/365)
(29/366)
موسى يصف دعوة أولمرت للقاء سلام بمحاولة تطبيع مجاني ... 29(29/367)
(29/368)
قمة الخرطوم ليست ساحة للتطبيع مع الاحتلال ... 31(29/369)
(29/370)
غالبية في إندونيسيا ترفض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي ... 32(29/371)
(29/372)
شالوم يستعين بمصر للتطبيع مع العرب وردع المقاومة ... 34(29/373)
(29/374)
قمة الجزائر تعرض التطبيع مقابل الانسحاب الإسرائيلي ... 36(29/375)
(29/376)
قمة جزائرية مغربية على هامش القمة العربية ولا توجه للتطبيع ... 39(29/377)
(29/378)
واشنطن تؤكد عزمها على التطبيع الشامل مع طرابلس ... 41(29/379)
(29/380)
التطبيع الاقتصادي المؤهل ... 42(29/381)
(29/382)
أبعد من التطبيع العراقي ـ الاسرائيلي ... 44(29/383)
(29/384)
الحكومة الأردنية تتوعد رئيس لجنة مقاومة التطبيع ... 46(29/385)
(29/386)
العراق ينفي التطبيع مع إسرائيل ويعتبر إيران العدو الأول ... 47(29/387)
(29/388)
الأردن يرفض مقاطعة حكومة شارون ووقف التطبيع ... 49(29/389)
(29/390)
حماس تطالب بوقف التطبيع بعد إرجاء القمة ... 50(29/391)
(29/392)
واشنطن وطرابلس تستعدان لبحث تطبيع العلاقات ... 51(29/393)
(29/394)
فرنسا تؤيد تطبيع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وليبيا ... 53(29/395)
(29/396)
إسلاميو الأردن يشترطون وقف التطبيع لدعم الحكومة ... 54(29/397)
(29/398)
مؤتمر مقاومة التطبيع يعقد بالبحرين ... 55(29/399)
(29/400)
اللجان المصرية لمقاومة التطبيع تحتفل بالانتفاضة ... 55(29/401)
(29/402)
ندين استهتار بعض المتصهينين بإجماع المغاربة على رفض التطبيع ... 59(29/403)
(29/404)
سوريا والعراق تناقشان التطبيع ... 61(29/405)
(29/406)
اتحاد الصحفيين العرب يطالب الفضائيات بوقف التطبيع مع إسرائيل ... 62
الصحفيون العرب يعلنون دعمهم للانتفاضة ورفضهم للتطبيع ... 62(29/407)
(29/408)
بعد شهرين من أمر اعتقالهم :السلطات الأردنية تفرج عن آخر نقابي متهم بمناهضة التطبيع ... 64(29/409)
(29/410)
سلمان العودة للقادة العرب: التفتوا لشعوبكم أولاً ... 65(29/411)
(29/412)
قلق أمريكي والنروج تكسر الحصار عن الحكومة الفلسطينية ... 67(29/413)
(29/414)
الطريق إلى خلاص المسجد الأقصى ... 69(29/415)
(29/416)
علماء المملكة يتهمون واشنطن بالإرهاب الدولي والحكومة الانتقالية الصومالية تبعث وفدا لمقديشو ... 71(29/417)
(29/418)
حرب الأمس واليوم ... 72(29/419)
(29/420)
التهديدات الأمريكية لسوريا ... 75(29/421)
(29/422)
ذهب معاوية وجاء ولد الطايع! ... 80(29/423)
(29/424)
قواعد إدارة الاجتماعات ... 84(29/425)
(29/426)
(خارطة الطريق) ..أمن لإسرائيل ... 94(29/427)
(29/428)
اعتقالات الإسلاميين في موريتانيا( الخلفية والأسباب) ... 97(29/429)
(29/430)
الاختراق الإسرائيلي للاقتصاد العربي! ... 100(29/431)
(29/432)
هل السودان في طريقها نحو المحور الإيراني؟ ... 106(29/433)
(29/434)
تقرير (راند).. معايير أمريكية للإسلام المعتدل ... 110(29/435)
(29/436)
منظمة التجارة العالمية ... 113(29/437)
(29/438)
الجامعة العربية في مهب ريح عاتية..فمن تقتلع؟! ... 147(29/439)
(29/440)
الشيخ محمد الحسن: لا علاقة لنا بالانقلابيين وبالصور ... 150(29/441)
(29/442)
حمى التطبيع والحالة الاستباقيّة العربيّة ... 159(29/443)
(29/444)
قناة البحرين.. تجديد المياه أم تطبيع العلاقات؟ ... 163(29/445)
(29/446)
اتحاد المغرب العربي أمام اختبار المستقبل ... 172(29/447)
(29/448)
تغيّر الفتوى ..لماذا ؟ ... 177(29/449)
(29/450)
القمّة العربيّة بين الإصلاح ودعم القضايا الساخنة ... 183(29/451)
(29/452)
الجامعة العربيّة وظاهرة القِمم ... 188(29/453)
(29/454)
التطبيع مع اليهود ... 192(29/455)
(29/456)
انتظار التسوية وتشجيع الإسرائيليين ... 192(29/457)
(29/458)
الجامعة العربية ستون عاماً من الفشل والتعثّر ... 195(29/459)
(29/460)
قمة الجزائر:بين الفعل وردّ الفعل ... 199(29/461)
(29/462)
من لشارون ... 202(29/463)
(29/464)
آخر أوراق الهيمنة الأمريكية ... 212(29/465)
(29/466)
المحاولة الإنقلابية في موريتانيا .. ... 216
ومستقبل الأوضاع العربية/ الإسلامية! ... 216(29/467)
(29/468)
انقلاب شنقيط (موريتانيا) خفايا وأسرار ... 217(29/469)
(29/470)
الإعلام الأمريكي الموجه .. وتكريس الهيمنة ... 227(29/471)
(29/472)
التطبيع .. عبر البوابة الفرانكفونية ... 235(29/473)
(29/474)
وقفات مع قضية فلسطين ... 237(29/475)
(29/476)
رؤيةاستراتيجية في القضية الفلسطينية ... 249(29/477)
(29/478)
دمشق..الانحناء أمام العاصفة ... 268(29/479)
(29/480)
المغاربيون والتطبيع العسكري في الناتو! ... 271(29/481)
(29/482)
التّنين الصيني يتغلغل في القارّة السمراء ... 273(29/483)
(29/484)
حم لا ينصرون ... 278(29/485)
(29/486)
قمة الجزائر.. نتائج لا تتناسب مع التحدّيات ... 285(29/487)
(29/488)
دعوات الإصلاح السياسي في السعودية متعثرة ... 290(29/489)
(29/490)
أجندة الأردن الداخليّة.. وأدواره الخارجيّة! ... 306(29/491)
(29/492)
إسرائيل وتنشيط التطبيع مع العالم الإسلامي ... 310(29/493)
(29/494)
بعد عشر سنوات..ماذا حقق مشروع برشلونة؟ ... 314(29/495)
(29/496)
التسامح الإسلامي ... 321(29/497)
(29/498)
الموتى لا يتكلمون ... 324(29/499)
(29/500)
القمة العربية ونتائجها .. ... 326
وهجوم وترحيب لزيارة شيراك ... 326(30/1)
(30/2)
حرب من أجل الهيمنة ... 346(30/3)
(30/4)
سياط المستضعفين (1/2) ... 351(30/5)
(30/6)
الترجمة إلى العبرية.. ... 363
بين رغبة المقاومة وشبح التطبيع * ... 363(30/7)
(30/8)
تطبيع ترجمة أم تطبيع سياسة ... 366(30/9)
(30/10)
أولويات واشنطن الأربع في العالم العربي..حقيقة أم تزييف ؟ ... 370(30/11)
(30/12)
التطبيع كلمة مغلوطة.. ... 378(30/13)
(30/14)
الصحافة المغاربية في أسبوع ... 383(30/15)
(30/16)
التطبيع (ثعلبُ شوقي) ... 395(30/17)
(30/18)
حوار خاص مع سفير السودان بالقاهرة ... 396(30/19)
(30/20)
قراءة في الصحافة الأردنية ... 403(30/21)
(30/22)
جولة رايس.. "تطويع" المبادرة العربية لـ"تطبيع مسبق" ... 410(30/23)
(30/24)
تطبيع الحالة اللبنانية.. توافق عبر الأطلنطي ... 414(30/25)
(30/26)
التطبيع مع إسرائيل تفرضه حسابات "مشرف" ... 419(30/27)
(30/28)
قراءة في هموم العمل الدعوي (1/3) ... 428(30/29)
(30/30)
"الخليج".. الحلقة الأضعف في مقاومة التطبيع تتعافى ... 449(30/31)
(30/32)
كوريا الشمالية .. صفعه على وجه أمريكا ... 452(30/33)
(30/34)
قمة أغنياء العالم (دافوس) تقرر مصير العراق والحوار مع الإسلام !؟ ... 456(30/35)
(30/36)
لجنة إماراتية لمقاومة التطبيع ... 463(30/37)
(30/38)
حُمَّى التطبيع تجتاح المنطقة المغاربية ... 464(30/39)
(30/40)
مكاسب التطبيع من وجهة نظر موريتانية ... 470(30/41)
(30/42)
تطبيع يمني بحريني مع إسرائيل .. والمنامة تنفي ... 473(30/43)
(30/44)
مراجعات في خطاب الحركة السلفية ... 474(30/45)
(30/46)
الإسرائيليون كلهم شارون !! ... 482(30/47)
(30/48)
القرضاوي يحذر من التطبيع المسبق مع إسرائيل ... 488(30/49)
(30/50)
الحرب الفضائية بين اليهود والعرب ... 489(30/51)
(30/52)
وصفة أمريكية لتطبيع إسرائيلي خليجي ... 492(30/53)
(30/54)
كراهية الغرب للمسلمين .. متى تنتهي ؟ ... 495(30/55)
(30/56)
تطبيع إلكتروني.. تهنئة إسرائيلية برمضان ... 500(30/57)
(30/58)
الإسلام اليوم: ... 501
في حوار مع الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي الأردنية ... 501(30/59)
(30/60)
التطبيع عبر "الجودو" يثير جدلا بمصر ... 506(30/61)
(30/62)
وحدة الصف لا وحدة الرأي (1/4 ) ... 508(30/63)
(30/64)
(قسمة ثلاثية) ... 528(30/65)
(30/66)
تكتيك دبلوماسي" إسرائيلي لتشجيع التطبيع ... 534(30/67)
(30/68)
قريبون من التطبيع مع 7 دول عربية ... 537(30/69)
(30/70)
"التطبيع" ثمن انسحاب إسرائيل من غزة ... 539(30/71)
(30/72)
ارتباك شديد.. في الكيان الصهيوني ... 543(30/73)
(30/74)
لجنة لتطبيع العلاقات بين السودان وأمريكا ... 548(30/75)
(30/76)
المقاطعة الاقتصادية سلاح الشعوب المسلمة .. ... 550
في مواجهة أمريكا وإسرائيل ... 550(30/77)
(30/78)
تطبيع سوداني مع المخابرات الأمريكية ... 555(30/79)
(30/80)
على هامش انتفاضة الأقصى ... 558(30/81)
(30/82)
أوهام الرخاء الاقتصادي للعرب . ... 562
.في ظل التطبيع مع الصهاينة ... 562(30/83)
(30/84)
استقبال عربي فاتر لاقتراح التطبيع الأردني ... 566(30/85)
(30/86)
مقاطعة إسرائيل اقتصاديا ..مطلب عاجل ... 569(30/87)
(30/88)
لا تطبيع حاليا مع إسرائيل ... 571(30/89)
(30/90)
تحية لمجاهدي فلسطين وبيان للمسلمين ... 573(30/91)
(30/92)
"التطبيع" بالـ"يخوت" بعد السفراء والاقتصاد ... 579(30/93)
(30/94)
نداء لنصرة الاخوة الفلسطينيين ... 581(30/95)
(30/96)
تقدم التطبيع المغربي الإسرائيلي بـ2003 ... 586(30/97)
(30/98)
قراءة في الأزمة ... 588(30/99)
(30/100)
الأردن.. المطبعون فشلوا ومقاومو التطبيع تصدروا ... 593(30/101)
(30/102)
مؤتمر قادة الاديان .. إسرائيل تكسب ؟! ... 596(30/103)
(30/104)
التحالف المشبوه بين الهند و إسرائيل ... 603(30/105)
(30/106)
إسرائيل تسعى لإحياء التطبيع مع العرب ... 608(30/107)
(30/108)
المسيري:الحضارة الغربية حضارة وثنية ... 611(30/109)
(30/110)
التطبيع بين العراقيين والاحتلال يبدأ بالكرة ... 617(30/111)
(30/112)
فقه الموقف (الحلقة الأولى) ... 619(30/113)
(30/114)
انتفاضة الأقصى … بين رؤيتين! ... 638(30/115)
(30/116)
يا شرفاء الأمة : حاكموهم ... 641(30/117)
(30/118)
علانية.. تطبيع فلسطيني إسرائيلي ... 648(30/119)
(30/120)
فلنتحالف ضد إرهاب أمريكا (1/2) ... 651(30/121)
(30/122)
هيكل صهيون … بداية أم نهاية ؟! ... 661(30/123)
(30/124)
الخرساء.. ... 663(30/125)
(30/126)
لجان التطبيع: الخليج ليس بعيدا عن مخططات إسرائيل ... 666(30/127)
(30/128)
سلاح المقاومة .. مطلوب بأي ثمن !! ... 669(30/129)
(30/130)
الحرب الأمريكية على مناهج التعليم ... 672(30/131)
(30/132)
عودة التطبيع بين دول مغاربية والإسرائيليين ... 678(30/133)
(30/134)
الاحتلال الأمريكي والاستعانة بالعرب! ... 681(30/135)
(30/136)
مقاومة التطبيع.. تبدأ من التعليم ... 693(30/137)
(30/138)
النظام العالمي والعدالة الاجتماعيّة "المساواة" (1/2) ... 694(30/139)
(30/140)
الصحافيون المصريون .. استفتاء حول التطبيع * ... 703(30/141)
(30/142)
إندونيسيا تدفع ثمن تقاربها مع واشنطن ... 708(30/143)
(30/144)
الأردن يعتقل مناهضي التطبيع ... 713(30/145)
(30/146)
الحصاد المرُّ لكامب ديفيد ... 714(30/147)
(30/148)
الوثائق السرية لكامب ديفد ... 718(30/149)
(30/150)
إسرائيل وإندونيسيا.. تطبيع تجاري لا سياسي! ... 722(30/151)
(30/152)
الاختراق "الإسرائيلي" لمنطقة الخليج ... 725(30/153)
(30/154)
أولمرت في انتظار المعجزة!! ... 738(30/155)
(30/156)
جامعاتنا والتصنيف .. ربّ ضارة نافعة ... 740(30/157)
(30/158)
السلام السري الإسرائيلي مع سوريا ... 745(30/159)
(30/160)
الولايات المتحدة وديمقراطية الأنابيب من المغرب إلى باكستان! ... 750(30/161)
(30/162)
العقلية الإسرائيلية.. كيف تفكر! ... 756(30/163)
(30/164)
إنه كان منصورًا ... 761(30/165)
(30/166)
حامد البيتاوي: خيار المقاومة هو الوحيد ... 765(30/167)
(30/168)
العملُ الخيريّ بين التّشريع والتّطبيع ... 770(30/169)
(30/170)
قمة رايس للعرب المعتدلين ... 773(30/171)
(30/172)
الاختلاط المنهى عنه ... 775
هو الاختلاط المقصود منه تطبيع العلاقة بين الشاب والفتاة ... 775(30/173)
(30/174)
هل يُصبح الخليج بوابة للمشروع الصهيوني؟! ... 778(30/175)
(30/176)
"كوندي" تبشر بشرق أوسط جديد! ... 780(30/177)
(30/178)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ ... 783(30/179)
(30/180)
(...) في إسرائيل! ... 792(30/181)
(30/182)
إلى التطبيع أيها الدعاة! ... 795(30/183)
(30/184)
اختراق الاقتصاديات العربية ... 798(30/185)
(30/186)
اختراق الاقتصاديات العربية بِ(الكويز) ... 799(30/187)
(30/188)
تطبيع أردني إسرائيلي ساخن ... 806(30/189)
(30/190)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة! ... 810(30/191)
(30/192)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة! ... 819(30/193)
(30/194)
شرم الشيخ والتطبيع القادم..!! ... 827(30/195)
(30/196)
شرم الشيخ .. والتطبيع على حساب فلسطين ... 828(30/197)
(30/198)
الانتخابات العراقيّة بعيون صهيونيّة ... 831(30/199)
(30/200)
العلاقات الأردنيّة الإسرائيليّة تنتعش من جديد! ... 834(30/201)
(30/202)
لعبة المصالح في علاقات أمريكا بالهند وباكستان ... 839(30/203)
(30/204)
بلاد شنقيط تستقبل شالوم .. الخلفيات والدواعي!! ... 843(30/205)
(30/206)
بوشارون: المخلوط السياسي الذي يحاصر المنطقة العربية ... 848(30/207)
(30/208)
الدكتاتوريات تحاول تبسيط الظاهرة الإسلامية ! ... 852(30/209)
(30/210)
الإسلاميون في موريتانيا .. والدفاع عن الثوابت! ... 855(30/211)
(30/212)
أحداث موريتانيا والأهداف الأمريكية ... 861(30/213)
(30/214)
أوهام الاستقلال...!! ... 864(30/215)
(30/216)
الاندفاع نحو التطبيع..كما تفسّره إسرائيل ... 868(30/217)
(30/218)
مشروع قناة البحرين.. مكاسب مجانية لإسرائيل! ... 872(30/219)
(30/220)
.دلالات اصطفاء مهندس عمليات التصفية ! ... 876(30/221)
(30/222)
فوز نجاد .. وتحديات إيران القادمة ... 879(30/223)
(30/224)
لتكن الأقليات المسلمة في الغرب مبشرة بالإسلام ... 884(30/225)
(30/226)
لا للحجاب .. ولا حوار مع الإسلاميين!! ... 891(30/227)
(30/228)
معاهدة وادي عربة ... 894(30/229)
(30/230)
الإخلاء والتطبيع .. رهانات إسرائيليّة ... 896(30/231)
(30/232)
لماذا تخشى إسرائيل تحوّل العرب إلى الديموقراطيّة؟ ... 900(30/233)
(30/234)
"ترويض الوحش" ... 909(30/235)
(30/236)
لا عصمة للدعوة من الانحراف إلا بالقبول بالتنوع ... 913(30/237)
(30/238)
إذا آمن الإسلاميون بالديموقراطية فإن أمامهم مستقبل واعد ... 914(30/239)
(30/240)
القرآن وسر الاهتمام باليهود ... 923(30/241)
(30/242)
هذا ما يريده اليهود فاحذروه! ... 930(30/243)
(30/244)
حكم عقد الهدنة مع العدو لمصلحة راجحة ... 933(30/245)
(30/246)
الصهيونية بإيجاز ... 962(30/247)
(30/248)
حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود وموقف المسلم منها ... 982(30/249)
(30/250)
هل يجوز عقد الصلح مع اليهود إن كان المسلمين وضعهم ضعيف ؟ ... 996(30/251)
(30/252)
الصلح مع اليهود . والمعاهدات مع الدول المعادية ... 1000(30/253)
(30/254)
الصلح مع اليهود ... 1005(30/255)
(30/256)
المعركة الفاصلة مع اليهود ... 1007(30/257)
(30/258)
موقف الإسلام من الصلح مع اليهود… ... 1033(30/259)
(30/260)
ضوابط التصالح مع اليهود الغاصبين لأرض فلسطين… ... 1043(30/261)
(30/262)
حكم دعم اليهود والتصالح معهم… ... 1046(30/263)
(30/264)
معاهدة عمر لأهل بيت المقدس… ... 1049(30/265)
(30/266)
موقف الإسلام من الصلح مع اليهود… ... 1051(30/267)
(30/268)
هل يجوز التنازل عن القدس من أجل السلام؟… ... 1060(30/269)
(30/270)
السلام في الإسلام ..رؤية فقهية… ... 1063(30/271)
(30/272)
الاستدلال بتعامل الرسول _ r_ مع اليهود على التطبيع ... 1065(30/273)
(30/274)
مجالات السياسة الشرعية وتطبيقاتها (6) ... 1070(30/275)
(30/276)
التأصيل الشرعي لجهاد حركة حماس ... 1074(30/277)
(30/278)
الصلح مع اليهود استسلام ... 1088(30/279)
(30/280)
الرد على فتوى ابن باز بجواز الصلح مع اليهود ... 1108(30/281)
(30/282)
ابن باز يجيز الصلح مع (( إسرائيل )) ... 1116(30/283)
(30/284)
مبادئ الصلح مع اليهود في فلسطين ... 1124(30/285)
(30/286)
قضية فلسطين بين العروبة والإسلام ... 1128(30/287)
(30/288)
الإرهاب والعنف في الإسلام ... 1135(30/289)
(30/290)
معاملة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم .. 1153(30/291)
(30/292)
لماذا نرفض السلام مع يهود (دراسة) ... 1159(30/293)
(30/294)
مواقف مضيئة للشيخ عبد الرحمن الدوسري في الصلح مع اليهود ... 1187(30/295)
(30/296)
وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار ... 1193(30/297)
(30/298)
الحوار الذي أجراه رئيس تحرير جريدة " المسلمون " ... 1202
مع سماحته حول الصلح مع اليهود ... 1202(30/299)
(30/300)
حكم معاهدات الصلح والسلام مع اليهود ... 1215
وموقف المسلم منها ... 1215(30/301)
(30/302)
التطبيع.. أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً! ... 1228(30/303)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (10) الليبرالية
الباب العاشر
الليبرالية
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب العاشر
الليبرالية(31/1)
(31/2)
لماذا .... نكره ... اللبرالية ... ؟
موسى بن ذاكر
nbsp; Mossa25@livislam.com
ربما سمع البعض مثل هذه العبارة (لماذا أنتم ضد اللبرالية) البعض يقولها بخبث طوية فهو يعلم حقيقة اللبرالية وما تنطوي عليه من الكفريات واحتقار تعاليم الدين الحنيف الذي أكرمنا الله به. والبعض الآخر يقولها بحسن نية ظانا ألا تعارض بين اللبرالية والإسلام!! وقائل هذه العبارة أحد رجلين. إما إنه لا يعرف من اللبرالية إلا اسمها!! فهو جاهل بحقيقتها وما تستره من وجهها القبيح! وإما جاهل بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف وقيمه النبيلة التي تحكم حياة الفرد والمجتمع! أما من عرف الإسلام بعقيدته الخالدة وأحكامه العادلة كما طبقها المصطفى صلى الله عليه وسلم وعرف اللبرالية وما تخفيه من محاربة لعقيدة التوحيد والسلوك السوي والحشمة والفضيلة؛ فلا يشك أن بينهما تضاد كما بين الأرض والسماء والنار والماء. ولست هنا لأكتب تعريفا باللبرالية فقد ألف فيها الفضلاء مؤلفات كثيرة تبين قبحها وخروجها عن المنهج الرباني الذي جعله الله للعبد في السير إليه؛ فجزاهم الله خير الجزاء. لكن ما أريده هو الإجابة عن أسئلة اللبراليين وبعض من لا يعرف اللبرالية (لماذا نحن ضد اللبرالية) وحتى تتضح الإجابة أنقل للقارئ الكريم نموذجين فقط - مما سطرته أقلام اللبراليين في مواقعهم ومنتدياتهم على الانترنيت وتركت أضعفا مضاعفة مما تنوء بحمله الجبال من سوء الأدب مع الله - سبحانه وتعالى - وصدق الله ومن أصدق من الله حديثا {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (مريم: 90) وإليكم هذين النموذجين تبرز وقاحة هؤلاء القوم أولا - الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول أحد اللبراليين (من أهم سمات المعجزة في الأديان أن يكون عليها شهود. جميع معجزات محمد، سواء في القرآن أو الحديث، "حدثت" دون إن يراها احد. بمعنى يأتي محمد إلى أصحابه و يقول أمس ركبت حصان له رأس إنسان و حلقت في الفضاء الخارجي و دردشت مع الله و من ثم عدت! فيردون عليه سبحان لله.. الخ و لم يتعب أحدهم نفسه و يسأل: "لماذا بالليل و لماذا لم يراك أحد؟ لماذا لم تفعلها أمامنا في وضح النهار لكي نكون شهود؟ مع كل احترامنا لك القصة خارقة للطبيعة و غير معقولة حتى لعربي أمي من الصحراء فرجاء زودنا بدليل"
أحدهم لم يفعل ذلك بالطبع خوفا من إن يطير رأسه قبل إن يكمل سؤاله. طبعا أورد محمد ما اسماه دليلا لاحقا إنه رأى قافلة كذا و كذا. كيف يثبت ذلك انك طرت على حصان له رأس إنسان؟ ليس مهم، المهم هو تصديق القصة بسبب الخوف و السحر و هذا ما يجعلها معجزة.
ثانيا - التجني على الإسلام والمسلمين ويقول ألآخر (هل يؤدي الإسلام إلى لإصابة بالأمراض النفسية؟ الجواب القصير هو نعم سبق و أن بينت أن المسلمون يتسمون بالغوغائية و العنف و الفوضى و التدمير و الإيمان بالخزعبلات و هذا واضح مما نراه في وسائل الإعلام من سلوكيات تبرز ذلك. اليوم حببت أن أتطرق إلى فكرة انتشار الأمراض النفسية بين المسلمين بشكل كبير لدرجة انك لا تستطيع أن تميز بين العاقل و المريض فيهم لأن كلاهما يتصرفان بنفس الطريقة. فالمسلمون يبدون للعالم المتحضر و كأنهم بشر خرجوا للتو من مستشفى للمجانين و ذلك لأن الكثير من سلوكياتهم لا يمكن تفسيرها إلا إنها ضرب من الجنون) انتهى قد يقول قائل إن هؤلاء الذين نقلت عنهم ليسوا من اللبراليين المسلمين والجواب أن المنهج واحد والمبدأ واحد حرية النقد والتعبير وقد قال كبيرهم تركي في روايته الممقوتة واعترف بهذا في (إضاءت على قناة العربية) إن الله والشيطان وجهان لعملة واحدة - تعالى -الله عما يقولون علوا كبيرا هل عرف اللبراليون لماذا نحن نكره اللبرالية؟! ولماذا نحن نقف ضدها؟!! أم مازال هناك غموض أم إنهم لا يرون هذه الطوام التي يتفوهون بها!!
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا
06-02-2007
http://islamselect.com المصدر:
============(31/3)
(31/4)
العمائم الليبرالية وحصان طروادة ..
الأسطورة والحقيقة !
صخرة الخلاص:
يُروى في الأسطورة اليونانية الشهيرة " الإلياذة" لكاتبها الشاعر الشهير " هوميروس" أنَّ امرأة جميلة وفاتنة وخائنة في نفس الوقت- كانت محلَّ صراع الملوك والأباطرة!
فقد تقاتل من أجلها أباطرة العالم، وسفك على عتبات جمالها الدماء، لمدة عشر سنوات طاحنة وحمراء، حيث كان الفارس الوسيم "باريس" ابن ملك طروادة "بريان" كان واقعاً في حب الملكة " آيلينا " زوجة ملك إسبارطة "مينالاس"، وكان زوجها يغار عليها ويعلم أن جمالها هذا محل طمع الفرسان، فرصد لها كل عين تحرسها وترقبها، لكن الفارس الوسيم "باريس" ظهر لملكة الجمال في صورة جميلة مع وسامة ابتسامته السحرية، في اجتماع عام بين وفد مملكة إسبارطة ومملكة طروادة، فوقعت في حبه "آيلينا" الملكة الحسناء، وقد شغفها حباً وشغفته حباً من أول نظرة!
هربت "آيلينا" مع عشيقها الجديد "باريس" نحو جزيرة الأحلام، وقضيا شهر عسلٍ كامل في حب وغرام وشغف، ثم توجه بها إلى دولة أبيه في طروادة.
علم ملك إسبارطة "مينالاس" بهروب زوجته مع ابن ملك طروادة، فغضب غضباً شديداً لانتقال زوجته الجميلة في يد رجلٍ آخر، وأخذ ملك إسبارطة يشحن نفوس شعبه الغاضب من فعلة ابن ملك طروادة، للانتقام من الخائن!
حشد أهل إسبارطة الجيوش الجرارة، والسفن العديدة، ولبسوا لأمة الحرب ودروع القتال، وهم يكادون يتفجرون غضباً على أهل طروادة، وفي قلوبهم العزم الأكيد لدك طروادة وتخريبها وسحق ملكها وذبح "باريس" واستنقاذ الزوجة الفاتنة من بين أحضانه وإرجاعها للملك، وتحالف مع ملك إسبارطة أكثر ملوك اليونان، فزحفوا كأمواج البحر الهائجة نحو طروادة!
في (1193 ق.م) نزلت جيوش التحالف مع إسبارطة على شواطئ طروادة، ونشبت معركة هائلة وخيالية لم يسبق أن نشب مثلها، وقتل الآلاف، وسالت الدماء كالأنهار، وحاصر جيش إسبارطة دولة طروادة لمدة عشر سنين، دون فائدة، حيث كانت طروادة تتمتع بأسوار منيعة وعظيمة، وكادت جيوش إسبارطة تنسحب أمام عجزها عن اقتحام هذه المدينة!
وفي 1184 ق. م تمكن أحد قادة جيوش إسبارطة وهو " يوليسوس" والذي كان يتمتع بذكاءٍ خارق، ومكر ودهاءٍ بارع، من اقتحام حصن طروادة، وإلحاق الهزيمة بملكها واسترداد زوجة ملك إسبارطة!
حيث علم أنَّ أهل طروادة - بعد تحقيق ومعرفة عادات والتقاليد أهل طروادة- يقدسون الحصان ويجعلون له مرتبة خاصة في الاحترام والتقديس، فأشار على جيش إسبارطة بصنع حصانٍ خشبيٍ يتسع لمجموعة من المقاتلين الأشداء من جيش إسبارطة، وتم جر الحصان بالقرب من أبواب مدينة طروادة، وتم التظاهر بالانسحاب، فظن أهل طروادة أنه نصروا على دونهم وأنه هرب وانسحب مهزوماً، وأنهم تركوا لهم هذا الحصان غنيمة!
لقد انطلقت الحيلة عليهم وتمريرها بمكر ودهاء، فجروا الحصان وهم لا يعلمون ما بداخله- إلى داخل المدينة، ثم أطلقوا احتفالاتهم معلنين النصر الساحق، وأحييت تلك الليلة بالمجون والسكر!
وانتهى الاحتفال بتسلل جنود إسبارطة من الحصان الخشبي، والتوجه إلى البوابة وكسرها، إطلاق إشارة نارية للجيش المختبئ خلف الهضاب للانقضاض على طروادة، فمزقوها شر ممزق، ودمورها تدميرا، وأصبحت خاوية على عروشها، وقتل ملكها وأكثر شعبها، وتم استعادة الملكة الفاتنة "آيلينا" إلى أحضان زوجها الملك "مينالاس" واعتذرت منه، وعاشا معاً مجدداً!!
هذه الأسطورة.. تود أن تقول لنا أن جيش إسبارطة عجز كجيشٍ أجنبيٍ عن اختراق مدينة طروادة ذات الحصون المدنية، لكن هذا الجيش أدرك أنه لن يهزم طروادة إلا بالحيلة المتمثلة في اختراقها من الداخل، واستغل أقدس ما تقدسه تلك المدينة، وهو "الحصان" وبواسطته استطاع اختراقها ثم تدميرها بشكل مبرم.
كانت تلك أسطورة.. لكن في القرون الوسطى في تاريخ "الكنيسة" كانت الكنيسة تمثل السلطة الدينية في الغرب، وكان الغرب يموج بتياراتٍ إلحادية "ATHEISM" أو موقف جحودي "A disbelieve r "، كذلك كان هناك تيار قوي وهو تيار جماعات اللأدرية "A hesitant" الذي يرى الأشياء بلا حقائق ثابتة، ويعيش حالة صراع متكافئ الفرص!
كانت الكنيسة تعيش حرباً ضروساً في مواجهة هذا العدو الخارجي الذي ظل ضعيفاً أمام الكنيسة مع ضعفها هي وخرافاتها وبطشها- إلا أنه كان يحارب الكنيسة من خارج الأسوار، فمهما كان فهو عدو مكشوف وخارجي بشكله ومظهره ولونه!
إلا أن الصراع أخذ شكلاً جديداً وخطيراً، حيث كانت الكنيسة تمر بأزمات داخلية وصراعات جوانيَّة، بين طائفة الإصلاحيين الجدد، والحرس القديم للكنيسة!
ففي القرن الحادي عشر من تاريخ "الكنيسة" ظهرت جماعة دينية مسيحية اسمها " الباترينيون" اعترضت على بيع وشراء ترقيات الكنيسة ومناصبها وبقية المخازي، والتي كان البابا يستخدمها لأغراضه الخاصة، وبعد قرن من ظهور هذه الحركة التصحيحية ظهر مصلح جديد وهو " بيتر والدو" وقد ُحرم من حقوق الكنيسة لأنه تعرض لمخازيها بالنقد.(31/5)
لم تكن الكنيسة راغبة في قبول دعوة التصحيح والإصلاح والتجديد. كان "بيتر والدو" تاجراً غنياً تبرع بجميع أمواله للفقراء، وطفق يتجول ويعظ الناس ويصحح عقائدهم، وكانت أولى محاولاته منصبَّة على جعل الإنجيل سهلاً بالنسبة لمدارك عامة الناس.
لكن هذا أثار عليه سخط الكنيسة لأنها شعرت بأن سلطتها ستتقوض، فمنعت "بيتر والدو" من إلقاء المواعظ، ولما رفض؛ حرمته من حقوق الكنيسة.
لكن الكنسية قامت بخطوة حمقاء لما هاجمت بيتر والدو، وكان أجدى لها أن تحاول اجتذابه، لقد دفعته هجماتها عليه إلى أبعد مما كان يريد أن يذهب إليه، حيث انتهى إلى إعلان أن الكنيسة غير ضرورية ألبتة، وزاد عدد أتباعه وسموا أنفسهم "الوالديين" وهكذا بدأت حركة قوية ضد الكنيسة في فرنسا، ومن داخل الكنيسة.
وظهرت على أثرها حركات أخرى مثل: الألبيجنسيين، الكاثاريين، واعتقدوا جميعاً بوجوب منع القسم، وبأن الحكومة لا تستطيع أن تعاقب، وأن كل إنسان هو قسيس وأن الكنيسة الكاثوليكية ليست الكنيسة الحقيقية وإنما هي كنيسة الشيطان، و بغيّ بابل.
حاولت الكنيسة أن تقضي على الهرطقة بتعيين المفتشين الذين اندفعوا اندفاعاً أهوج في إحراق وتعذيب وسلب أموال الهراطقة، وانسحب أتباع "بيتر والدو" إلى وديان سويسرا حتى لا تصلهم يد أتباع الكنيسة، وهنالك أسسوا علاقات مع مصلحي سويسرا وألمانيا، وتضاعفت الحركة وشكلت ضغطاً كبيراً على الكنيسة.
وهكذا صار المصلح والمجدد عاصياً متمرداً، وبدأ الإصلاح بمعزل عن الكنيسة، وانصرمت ثلاثة قرون أخرى قبل أن تتلقى الكنيسة الضربة الكبرى على يد "مارتن لوثر".
لكن الكنيسة لم تتعلم من دروس التاريخ واستمرت في سياسة الاضطهاد، فتكاثر عليها الأعداء، وخرج عليها كثير من أبنائها.
فهذا "جون ويكليف" يهاجم الكنيسة، ورفض طاعتها، بعد اضطهاد الكنيسة له، ودفعته الكنيسة إلى مدى بعيد من العداء، وبدأ بكتابة كراس أكد فيه على أن الكنيسة يجب أن لا تتدخل في القضايا الوقتية، وأن القساوسة يجب ألا يملكوا أموالاً.
واستمرت الكنيسة في اضطهادها إياه حتى ذهب إلى أبعد من ذلك وأعلن أن البابا هو عدو المسيح، وأن تحويل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه مجرد هراء.
وهذا "جون هاس" مصلح بوهيميا، دعا إلى إصلاح وتطهير الكنيسة من المخالفات الأخلاقية التي كان يرتكبها القساوسة، لكن الكنيسة هاجمته وحرمته من حقوق الكنيسة، فتعاظمت مكانته بين الناس، فزادت الكنيسة اضطهادها له فقبضت عليه وحوكم واحرق، وقد أثار قتله عداءً شديداً للكنيسة الكاثوليكية في بوهيميا.
لقد دفعت الكنيسة غالياً ثمن اضطهادها للهرطقة، إذ لم يمض قرن على إحراق وقتل "هاس" حتى ظهر قسيس ألماني شاب اسمه "مارتن لوثر" وهاجم فساد الكنيسة وبدأ بمهاجمة قبول المال مقابل غفران الخطايا وعلق خمساً وتسعين موعظة ضد ذلك على باب كنيسته، فأمره البابا بأن يرجع عن هذا إلا أنه رفض وكتب كراساً اسماه (تثقيف الناس) هاجم فيه مختلف مخازي الكنيسة.
وأصدر البابا ضده وثيقة استهجن أعماله فيها ودعاه مرة أخرى إلى الرجوع عن أفكاره، ولكن "مارتن لوثر" كان عنيداً فذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أحرق وثيقة الاستهجان علناً.
فلم يكن من البابا إلا أن استخدم آخر أسلحته وهو الحرمان من حقوق الكنيسة، ثم عقد البابا اجتماعاً وطلب من لوثر أن يرجع ويتوب من هرطقته، إلا أن لوثر أجاب بأنه لن يفعل ذلك إلا بعد أن تثبت له الكنيسة بموجب نص الإنجيل أنه كان مخطئاً، فصاح أنصار البابا والجنود، وقالوا: ألقوه في النار.. أحرقوه!
لكن لوثر نجا، واستمر خصامه مع روما أربع سنوات، وتبع لوثر الكثيرون من أبناء بلده، وكان الإمبراطور شارل قد وقع قراراً استهجن فيه تجاوزات "مارتن لوثر"، بيد أن الشعور العام كان مع لوثر إلى درجة أنه صار من المستحيل تنفيذ ذلك القرار.
وظهر في جنيف "جون كالفن" فأسس الكنيسة البروتستانتية، وصارت معارضة الكنيسة يوماً بعد يوم تزداد حتى أصبحت أقوى من أن تستطيع الكنيسة مقاومتها، وبدأت سلطة الكنيسة تتدهور في جميع أنحاء أوروبا.
في هذا الجو المليء بصراح داخلي كنسي، كانت هناك مجموعة من طلاب العلم الأذكياء الذين كانوا يراقبون بقلق هذا الصراع، بين القديم والجديد، فحاولوا التدخل للإصلاح، وصنع منهجٍ وسطي يصلح أن يكون جسراً يردم الهوة بين هؤلاء جميعاً، لقد كانوا متأثرين بمناهج الملحدين والعقلانيين، وفي نفس الوقت لم يردوا أن يفقدوا الإيمان كله!
فظهر "رينيه ديكارت" و "ليبتز" و " إيمانويل كانط " وغيرهم من الذين يقدرون المواقف الإيمانية لكن كانوا يغلفونها بأساليب عقلانية ترضي الطرفين، أرادوا أن يفلسفوا الإيمان، أرادوا أن يعقلنوا الدين، كي يصلح للجيل الجديد العقلاني!
لقد أستطاع هؤلاء بكل جدارة أن يسددوا الضربة الأخيرة للكنيسة، حيث أدخلوا العقائد المخالفة والمضادة باسم الدين أو الدفاع عنه، فسرت تلك الجراثيم في الدين نفسه.(31/6)
بحق نستطيع أن نقول بكل تأكيد: إن ضربات التغيير والتجديد.. أتت من داخل الكنيسة لا من خارجها، إن الإصلاحيين الكنسيين أو الدينيين أو المسيحيين قد مهدوا بهذه الضربات التغيرية والتجديدية لأكبر قاصمة قصمت ظهر الكنيسة، حيث كانوا الجسر الذي سيعبر عليه لاحقاً ملاحدة أروربا لضرب الدين والتدين نفسه، ولم يكن يدر في عقل "مارتن لوثر" و"كالفن" أو "رينيه ديكارت" و "ليبتز" و "إيمانويل كانط" وغيرهم أنهما بما قاما به من احتجاج ضد رجال الكنيسة قد حطموا (سلطان الدين) حينما حطموا سلطان رجاله!
ثم مرت السنوات وأصبحت الحركة الإصلاحية البروتستانتية، من أهم الأسباب التي نشرت ومكنت الإلحاد في أوروبا!
هذا هو تاريخ الأمم السابقة، ولو تأملت مثلاً- تاريخ المعتزلة في الإسلام، لوجدت أوائلهم من أشد الناس غيرة وحرصاً على الدفاع عن الدين والاستماتة في سبيله، وكانت لهم مواقف مشرفة في الوقوف في وجه الملاحدة والزنادقة من الدهريين والبراهمة وغيرهم، لكنهم ومن حيث لم يشعروا أخذوا في التأثر بمناهج هؤلاء بحجة استخدام نفس سلاحهم، حتى اعتنق كثير من رجالات المعتزلة عقائد خصومهم!
وها نحن في هذا العصر نجد أن أعداء الإسلام تحطموا أمام أسواره في كل مرة، وأيقنوا أنه لا حل إلا كما جرى على الأمم السابقة حذوا القذة بالقذة، فكان الخيار الإستراتيجي لهؤلاء هو:
(العمائم الليبرالية هي حصان طروادة الفعَّال)
ولعل هذا ما دفع الشيوعي "رفعت السعيد" إلى تأليف كتابه «عمائم ليبرالية» كأحياء وشكرٍ وعرفانٍ لرموز يزعم أنها متنورة ساهمت في تقويض داخلي خطير، ومن الذين ذكرهم: جمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وأمين الخولي، وعلي عبد الرازق وغيرهم.
وكلها عمائم دينية عملت بشكل فعال من داخل أسوار الدين، ولذلك أخبر محمد عبده أن أستاذه جمال الدين الإيراني الأفغاني- قال له: أنه لن يقطع عنق الدين إلا بسيف الدين نفسه!
وهذا ما أكده المفكر المسيحي "جورج طرابيشي" حيث قال في ربطٍ -ذا مغزى خطير- بين التاريخ الكنسي والتاريخ الإسلامي ما نصه: (ليس لنا أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم)!
وقال "رفعت السعيد" مؤكداً ذلك أيضاً وهو السبب الذي جعله يخلد ذكرى هؤلاء في كتابه الجديد، وأنه ألفه ليساهم: (في المعركة الدائرة لم تزل، والتي من فرط الظلام لفكري الذي فرضه المتأسلمون فرضت علينا أن نخوضها متراجعين ومتحصنين بآراء عمائم هي بالضرورة أعمق مرجعية وأكثر دراية بالشأن الديني).
(دروس وعبر من السياق التاريخي السابق)
(1) من خلال هذا الاستعراض التاريخي الموجز ندرك أن كثيراً من الذين نقضوا الكنيسة هم من رجالاتها وأبنائها، وهم في الحقيقة أشد خطراً من غيرهم، فهم أعرف بخفاياها ونقاط الضعف فيها، ثم هم يمتلكون نفس آليات الصراع والمواجهة التي تملكها الكنيسة، فهم أعرف الناس بتفكيك منظومة الكنيسة الفكرية، وأقدر على تطوير آلياتها المحاربة، ومن ثم القضاء عليها بنفس أساليبها.
ومن يستعرض التاريخ المعاصر يجد أن أبلغ الحركات تأثيراً في المجتمعات الإسلامية والعربية، هي الحركات التي قادها رجال يحسبون على التيار الديني، من أمثال: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، قاسم أمين، رفاعة الطهطاوي.. وغيرهم.
إن العلمانية والحداثة.. أضعف من أن تشكل خطراً حقيقياً على الدين، لأن الناس دائماً ينظرون لهؤلاء على أنهم من خارج الأسوار، وعملاء، ومن المتنكرين للأمة، لكن من ينتمي للمدرسة الدينية "الجماعة المؤمنة" سيكون لديه قدرة على أشياء كثيرة، أقلها المتاجرة بهذا الانتماء.
(2) إن التيار الليبرالي والعلماني فشل فشلاً ذريعاً في استقطاب العلماء الكبار، كما فشل في استقطاب الشريحة العامة، لكنه نجح نجاحاً نسبياً في استقطاب قلة من الطبقة الوسطى وخاصة من طبقة الأذكياء الذين يعيشون مرحلة اضطراب وصراع غير محسوم، فكانت كتابات التيار الليبرالي مغرية له، ومؤثرة عليه، ككتابات عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وجورج طرابيشي.. غيرهم.
(3) ما كان يقدمه الفيلسوف المشهور "رينيه ديكارت" من خدمات جليلة للكنيسة والبابا، وكان ديكارت يوصف بأنه متدين ومؤمن جداً بتعاليم رجال الدين، لكنه في الوقت نفسه كان يستظل تحت ظل الكنيسة ليمرر بعض أفكاره، مثل "الكوجيتو" أي الشك المنهجي، الذي استغله فيما بعد الملاحدة لتعميم الشك في كل شيء، ولم يكن ديكارت نفسه يريد أن يصل هذا الأمر إلى هذا الحد.
لقد استغل الملاحدة فكرة ديكارت في الشك، وأصبح ديكارت رمزاً للإلحاد، ويوصف بأنه رجل الكنيسة الذي ثبت جذور الإلحاد بالشك، وهدم صرح الإيمان.
ولعل ما تفطن له الدكتور "سلمان العودة" في حواره الهادئ مع الشيخ "محمد الغزالي" كان وجيهاً، حيث قال: (فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين، أو غيرهم، فطاروا بها كل مطار، وصوروها ونشروها، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة).(31/7)
(4) كما يتضح لنا أيضاً دور العلماء في تخفيف أو تأجيج التمرد الديني، فنحن نلاحظ كيف كانت الكنيسة تستخدم أساليب اللعن والطرد والإحراق مع مخالفيها، ظناً منها أن ذلك سيحول دون تسرب الأفكار المخالفة، وكان هذا حقيقة خطأ استراتيجياً دفعت الكنيسة الثمن باهظاً عليه، الاضطهاد لا يزيد المتمرد إلا تعنت وبعداً بل وإيغالاً في الضلال، وماذا عليها لو أنها احتوت هؤلاء؟!
(5) مما هو معلوم في السياق التاريخي للكنيسة وحركة التجديد أو التنوير؛ أنَّ نزاعات علماء الدين ورجالات الكنيسة فيما بينهم، كيف كان لها دور كبير في تمرد الكثير من الشباب المتدين، فالخلافات بين رموز الكنيسة، وغالباً ما كان خلافاً مصلحياً دنيوياً، كان هذا الخلاف يمثل الضربة القاضية للصورة المثالية لرموز الدين.
(6) أثبتت التجربة التاريخية أن القهر لا يولد إلا مزيداً من التعنت، وأن الضغط لا يولد إلا انفجاراً، ولذلك أفلست الكنيسة لما ظنت أنها بالاضطهاد ستحول دون تسرب الأفكار.
إن الحوار هو أفضل وسيلة لاحتواء المخالف، بل ولتضميد جراح المتمرد، فالمتمرد الذي يظن أنه مصلح أو مجدد، عادة ما يبدأ فوضوياً، ويزداد تضخماً بالمخالفة والتأجيج الأحمق ضده، كتكفيره أو لعنه أو سك الفتاوى في حقه، لكنه يتمزق ويتقزم أو يرجع للحق أو ينكشف حاله وضعفه حينما يحاور، ويناقش، ويكاشف.
الكنيسة لم تقبل الحوار، لأنها تعلم أنها هشة وضعيفة، ولذا لجأت للقهر والاضطهاد كسبيل وحيد للتخلص من تمرد الأفكار.
(7) أن الأمور الصحيحة يجب الاعتراف بها ولو خرجت من فم ضال مبتدع مخالف، لقد كابرت الكنيسة وتعنتت في رفض الإصلاحات الأولى البسيطة التي بدأها "بيتر والدو" حول أخلاقيات الكنيسة وانحرافها، وسرقاتها، وفسادها.
لقد رفضت الكنيسة قبول الحق عند أول قطرة نقد، ورفضت وأصرت، حتى تكاثرت القطرات، وأصبحت طوفاناً أجتثها من فوق الأرض.
إن قبول الحق من المخالف يدل على تعظيم الحق لا المخالف، وفي ذلك تكريس للأمانة والمصداقية، كما أن فيه قطع الطريق على المهرج الذي يريد أن يجعل من هذا الخطأ مسمار جحا.
(8) أن العمائم الليبرالية كانت عبر التاريخ خير معبر عن "حصان طروادة" الذي تم اختراق الدين بواسطته، والتاريخ عبرة وعظة، ومن لم يتعظ فهو مفلس!
http://www.saaid.net المصدر:
============(31/8)
(31/9)
الليبرالية من دلالة المعجم إلى شرط الواقع
الطيب بوعزة *
يتبدى مفهوم الليبرالية - سواء في طرحه الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي - مفهوماً زئبقياً ينفلت من التحديد والتعريف، مفهوماً مخاتلاً غارقاً في الالتباس.
والواقع أن إشكال التعريف ليس خاصاً بمفهوم الليبرالية تحديداً، بل هو المشكل الدلالي المزمن الذي تعاني منه جميع المفاهيم السياسية, وذلك راجع إلى أنها ليست مجرد دوال لفظية حتى يمكن الاكتفاء فيها بالمقاربة المعجمية، بل هي أفكار مجسدة في الواقع، وموصولة بالتاريخ، وما يعتمل فيه من تدافع وصراع، وما يختزنه من اختلاف وائتلاف.
والتحليل التداولي لهذا النوع من المفاهيم يكشف أنه من السذاجة الحديث عن إمكان إنجاز تحديدات موضوعية، هذا فضلاً عن أن مفهوم الموضوعية ذاته يبقى نسبياً جداً في حقل العلوم الإنسانية.
ومن ثم فالخطاب المثقل بنغم الشعارات، الذي أخذ صيته يتعالى في الفكر العربي المعاصر حول الليبرالية، والذي يتحدث عنها وكأنها نمط محدد الدلالة والملامح، وعلى نحو من اليقين والقطع والجزم؛ يخفي أو يجهل إشكالات الدلالة والرؤية في الفلسفة والمذهب الليبرالي.
كما أن الحديث عن الليبرالية بوصفها نمطاً جاهزاً في إدارة الشأن السياسي والاقتصادي يتجاهل أنها ليبراليات عديدة وليست واحدة، وأن تناولها على ذلك النحو من التعميم سواء رفضاً أو قبولاً هو تناول يسقط في مزلق التعميم، فضلاً عن الخلط والالتباس، وتأسيساً على ما سبق تغدو معاودة التفكير في النظرية الليبرالية، ومعاينة دلالاتها، وتعدد أنماطها؛ مقدمة ضرورية لبلورة حوار معرفي جاد.
ومن الملاحظ في لحظتنا هذه أن الجدل لم يقتصر على واقعنا العربي، بل يسود أقطاراً ووقائع مجتمعية أخرى، فالكل يتحدث اليوم عن الليبرالية، وقد تصاعد الجدل واشتد في مختلف المنتديات السياسية والفكرية، وانفصل الأطراف المتجادلون إلى مواقف حدية جد متطرفة في تقويم النموذج الاقتصادي والسياسي الليبرالي، وتحديد الموقف منه.
وإذا رجعنا إلى النصوص التي أرجعت الفكرة الليبرالية وفلسفتها إلى واجهة النقاش السياسي المعاصر سنلاحظ أن هذه النصوص ترجع إلى لحظة بداية التسعينيات من القرن العشرين، وهي اللحظة التي تُزَامِن انهيار المعسكر الشرقي الذي سيشكل سقوطه مناسبة لإعلان الأيديولوجية الليبرالية بوصفها النموذج الفكري والسياسي الأقدر على تنظيم الاجتماع، وإدارة مشكلاته السياسية والاقتصادية.
بل لم يعد الحديث عنها بوصفها نظاماً مجتمعياً من بين أنظمة أخرى منافسة، بل أصبحت تُقدم بوصفها النظام الواحد والوحيد!! فالمفكر الأمريكي فوكوياما مثلاً سيسعى مرتكزاً على رؤية هيجيلية للتاريخ إلى القول بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأفضل ما كان وما سيكون في نظره هو الأيديولوجية الليبرالية التي تؤشر على نهاية التاريخ.
بمعنى أن صيرورة تطور البشرية آخذة حتماً في نقل أنظمتها المجتمعية نحو الانتظام بالنظام الليبرالي، وقبل فوكوياما كان المفكر الإيطالي جيدو دو روغييرو قد بلور تقريباً ذات الموقف من الليبرالية في بداية القرن العشرين في كتابه "تاريخ الليبرالية الأوروبية" (1925).
في مقابل هذا الاحتفاء والتبجيل اللذين حظيت بهما النظرية والفلسفة الليبرالية عند البعض، ثمة أيضاً توجه مناهض لها على أساس أنها مجرد قناع لإخفاء تغول الرأسمال، وتفتيت أنساق القيم، وتدمير المقومات الأخلاقية للحياة، بل إنها - حسب نقادها - غير قادرة على تحقيق حتى شعاراتها الاقتصادية الأساسية، فالرفاه الذي يعد به المشروع الليبرالي يتحول واقعياً إلى مجرد وهم جميل، وذلك بفعل تضاد المقاصد المثالية لليبرالية مع الواقع المحكوم بجشع الرأسمال، حيث يستحيل المجتمع المنتظم وفق النسق القيمي لليبرالية، القائم على الحرية والفردانية، إلى واقع تصارعي متوحش لا يحتكم لأي قيمة إنسانية، بل يسوده قانون الغاب.
بين هذا الاحتفاء والتبجيل، وذاك النقد والتحذير؛ لابد أن يبرز السؤال: ما هي دلالة المشروع الليبرالي؟
يرجع لفظ الليبرالية من حيث الاشتقاق اللغوي إلى اللفظ اللاتيني "ليبراليس" الذي يعني "الشخص الكريم، النبيل، الحر"، ومن بين هذه الدلالات الاشتقاقية التي يحملها اللفظ نجد أن المعنى الأخير (أي "الشخص الحر") هو المعنى الذي سيكون مرتكز البناء الدلالي للمفهوم لاحقاً.
حيث نلاحظ أنه حتى نهاية القرن الثامن عشر لم يكن لفظ الليبرالية متداولاً، بل كانت الكلمة الشائعة هي "ليبرال" (libé r al) التي قصد بها وقتئذ "الشخص المتحرر فكرياً"، لكن في نهاية القرن التاسع عشر نجد أن لفظ الليبرالية سيظهر كدال على رؤية مذهبية لها أساسها الفكري، ونظريتها السياسية والاقتصادية.(31/10)