18- العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م.
19- العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م.
20- فخ العولمة، هانس بيتر مارتن، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1419هـ - 1998م.
21- القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، د. محمد بن عبدالله السلومي، كتاب البيان، الرياض، الطبعة الأولى، 1242هـ
22- ماضي المستقبل صراع الهوية والوطنية في عالم يتعولم، د. رجب بو دبوس، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001م.
23- مجلة البيان، العدد 136، مقالة: العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة، للأستاذ خالد أبو الفتوح.
24- مجلة حصاد الفكر، العدد 135، جماد الأول 1424هـ - 2003م، عرض لكتاب بدائل العولمة للدكتور سعيد اللاوندي، عرض عبدالباقي حمدي.
25- مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236)، ربيع الأول 1423هـ/ مايو 2002م. دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي.
26- مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م.
27- المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، الدمام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1399هـ - 1979م.
28- مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، نشر المجلة العربية، د. ط. ت.
29- المسلمون والعولمة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1421هـ، 2000م.
30- مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، د. ت.
31- الهوية العربية عبر حقب التاريخ، ندوة علمية للمجمع العلمي ببغداد، 25-26/6/1997م.
The Cultu r al Globalization and its
Impact on the Islamic Identity
D صلى الله عليه وسلم Khalid Ibn Abdullah al-qassim
Associate P r of. Dept. of Islamic Cultu r e
College of Education, King Saud Unive r sity
r iyadh, Saudi A r abia.
Abst r act: The r esea r ch t r ies to answe r the following questions:
What is Globalization in gene r al and the cultu r al Globalization in pa r ticula r ? Is it an inevitable issue? What is identity? What a r e the impacts of Globalization on it? How to deal with Globalization in a way that p r otects the islamic identity? Is it possible to make use of Globalization fo r boosting the identity?
The study is divided into an int r oduction and five chapt r es, as follows:
Chapte r one: Definition of Globalization.
Chapte r two: Definition of Identity.
Chapte r th r ee: The Negative Impacts of Globalization on the Muslim Identity.
Chapte r fou صلى الله عليه وسلم The Most Impo r tant Meansof r esisting the Negative Influences of Globalization on the Identity.
Chapte r five: How to Make Use of Globalization to P r otect the Identity.
|1|2|
(1) المسلمون والعولمة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1421هـ، 2000م، ص: 49.
(2) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 318.
(3) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م، ص: 263.
(4) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(5) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور حسين علوان حسين بعنوان العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 125.
(6) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253-254.
(7) مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، المجلة العربية، د. ط. ت ص: 30.
(8) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور حسين علوان حسين بعنوان العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 126.
(9) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(10) العولمة، دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، ماجد بن علي الزميع، رسالة ماجستير، قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1422هـ لم تطبع، ص 444 - 458.
(11) انظر: كتاب القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب على المؤسسات الإسلامية، د. محمد بن عبدالله السلومي، كتاب البيان، الرياض، الطبعة الأولى، 1424هـ.(24/276)
(12) القائل: تركي الحمد، انظر: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 38، نقلاً عن تركي الحمد هوية لا هوية، نحن والعولمة، بحث في مؤتمر القاهرة إبريل سنة 1998م عن العولمة وقضايا الهوية الثقافية، انظر: صحيفة المدينة السعودية، ملحق الأربعاء في 15 إبريل سنة 1998.
(13) انظر: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، د. برهان غليون ود. سمير أمين، دار الفكر المعاصر بيروت، دار الفكر المعاصر دمشق، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م، ص: 187.
(14) انظر: العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، كلمة عميد كلية الآداب أ. د. صالح أبو ضلع، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 11.
(15) انظر: مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 15.
(16) العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ مايو 2002م، ص: 10.
(17) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 161.
(18) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم/ د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 210.
(19) حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م، ص: 178.
============(24/277)
(24/278)
صورة المسلمين والعرب في العالم1/2
إعداد: خلود العيدان * منيرة الدهش 11/3/1426
20/04/2005
لماذا (صورة المسلمين والعرب في العالم) كانت قضيتنا الأولى؟!
إن حماسنا للبحث في هذه القضية..
كان للإجابة عن تساؤلات تشغل فكر الفرد المسلم العربي تجاه..
صورته، حقيقته، هويته، ولماذا هو مشوه في عيني الآخر؟
وتساؤلات شتى تملأ سماء الفكر العربي (الغض) في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه.
كما أن حقيقة أن (لا دخان بلا نار) تلح بشدة للبحث عن الحقيقة أياً كان مذاقها.
فإن كان بهتاناً فلم الاستمرار..ولم لم نوقفه؟
وإن كان حقيقة فإلى متى؟ ولماذا لا نشرع بالتغيير.
ورغم هذه المقدمة المشحونة بعلامات الاستفهام..
إلا أن عذوبة الفهم القرآني لأبجديات البحث في هذا الكون تمنحنا هدوءً ونفساً عميقاً لنشرع في قضيتنا..
فلنتأمل الآية الـ(16) من سورة (لقمان):
(يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير)
ولك أن تعلو وتسمو بجمالية المعنى و(تتأمل) لـ(ـتفهم) ما الذي يجري في زمن اختلطت فيه (الحقائق)؟!
لنشرع الأبواب المغلقة:
لقد وضعنا بين أعيننا الهدف الأسمى الذي يحركنا كشباب مسلم عربي والمسؤولية التي أوجدتنا على هذه الأرض..فوجدنا أن..
(معرفتنا للآخر تمنحنا أفقاً أوسع لإمكانية (فهمه) فـ(تفهيمه)، ولمعرفة واقعنا لـ(ـتغييره)..)
كان اختيارنا لهذه القضية من واقع (الأزمة) التي يمر بها عالمنا الإسلامي والعربي لعلنا نكون إحدى المفاتيح لأبواب مستقبل إسلامي عربي مختلف.
ما سبب التأخير؟ وهل عقارب الساعة في حساباتنا!
لاشك أننا نصحو ونغفو ونحن نرى صورنا مجسدة في شاشات التلفزة أو تشبعها أراء المحللين (التلفزيونيين) ركلاً وضرباً إن صح التعبير..إن رد الفعل الذي (أضحى) طبيعياً! هو المسارعة في (إلقاء القبض) على جهاز التحكم و(اتخاذ القرار) بتغيير القناة لـ(ـيسجل) التاريخ الإنجاز الأعظم لتلك (اليد الناعمة)!
إن التأخير في إنقاذ صورتنا الإسلامية والعربية في عيني الآخر لاشك تحمل أسباب عدة قد يكون أهمها:
القناعة بمبدأ (أن ما باليد حيلة)! ويصاحبها أن (هم) من فعلوا وأخطئوا و،،،
بغض النظر إن كان (هم) عائدة على الآخر أو المسؤول.
نحن هنا لا نغفل الطرف الثاني أياً كان ولكن أنحمله كل العبء؟!!
* تحت المجهر و بعدسة الآخر كيف نبدو!
نظر الأوروبيون إلى حياة المسلمين الأخلاقية نظرة مزدوجة، إذ نظروا إلى حجاب المرأة المسلمة كتعبير عن "السرية والقهر" والفصل بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت نظروا إليه على أنه مصدر "فجور واستباحة أخلاقية مستترة" خلف الحواجز والأسوار.
وقد انتقلت هذه الصورة المشوهة كما يرى (جون إسبوزيتو) أستاذ دراسات الأديان والعلاقات الدولية بجامعة جورج تاون الأميركية في كتاب "التهديد الإسلامي.. حقيقة أم أسطورة؟" الصادر عام 1992.. انتقلت إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوروبا وعلى رأسهم زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر الذي نظر إلى الإسلام على أنه:
"حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح لا يمكن جلبها للمسيحية لأنها مغلقة أمام المنطق، ولكن يمكن فقط مقاومتها بالسيف".
كما يقول المستعرب الياباني (نوبوآكي نوتوهارا) في كتابه (العرب وجهة نظر يابانية):
"سافرت إلى البلدان العربية وكنت قد تجاوزت الثلاثين من عمري ورأيت وقرأت وتحدثت إلى الناس في كل مكان نزلت فيه.لقد عاينت بنفسي غياب العدالة الاجتماعية وتهميش المواطن واذلاله وانتشار القمع بشكل لايليق بالإنسان.وغياب كل أنواع الحرية كحرية الرأي السلوك والمعتقد وغيرها.
كما عرفت عن قرب كيف يضحي المجتمع بالأفراد الموهوبين والأفراد المخلصين،ورأيت كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن".
المفاهيم الإسلامية عالمياً:
اعتمد البناء المفاهيمي للإسلام عالمياً على وجود مكثف في الخطاب الإعلامي لـ(ـتصنيفات) على شاكلة "الإرهاب الإسلامي"، "المحاربين الإسلاميين"، "الإرهابيين الإسلاميين"، "الديكتاتور الإسلامي"، "الهجمات الإسلامية"، و"الإرهاب الإسلامي المتشدد"،"الظاهرة الإسلامية".
كما جاء في تعريف العربي أبان المرحلة الستينيات والسبعينيات في القاموس الأمريكي المسمى روجيت ثيساورس r oget Thesau r us بكونه "جلف، نذل، أخرق، مخادع، ساذج". ولم تحذف هذه النعوت القبيحة إلا بعد جهود وضغوط بذلتها المنظمات العربية في أمريكا.
***
الصورة ، الألوان، الظلال ،،، (نحن والآخر) وما الذي قيل؟!
* على المسلمين أن يتوصلوا إلى حل لإشكاليات كثيرة داخلية قبل أن يطالبوننا بصورة أكثر توازنا.
( ناثان كاردلس رئيس تحرير خدمة لوس انجلوس تايمز الأمريكية)
* إنه لم تشوه سمعة جماعة دينية أو ثقافية أو قومية ويحط من قدرها بشكل مركز ومنظم كما حدث للعرب.
(نيكولاس فون هوفمان الصحفي بجريدة "واشنطن بوست")(24/279)
*: إن المنطقة العربية ليست راكدة، إنها مكان حيوي. وأمر آخر عن هذه المنطقة إذا نسينا، لقد اجتزنا ثورات، لقد مررنا بثورة الكومنولث والثورة الصناعية لقد اجتاز الغرب صدمات هائلة قبل أن يصل لما هو عليه اليوم، فهل من المتوقع أن يصبح المسلمون بعصا سحرية مستنيرين في غضون سنوات قلائل؟
(حمزة يوسف عمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، وهو أمريكي المولد واعتنق الإسلام)
*من المستحيل أن نتوقع أي تقدم أخلاقي وفكري ومادي أينما يسود المحمديون.
(الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت)
*إذا كان الإسلام قد عانى من جاهلية العرب ربع قرن ، فقد ظل يعاني من جاهلية الغرب قروناً طوالاَ !
وقد تأثر الإعلاميون الغربيون بشكل فاضح بالروح العدائية التي نفخها المستشرقون ومعظمهم من اليهود.
( كتاب " ربحت محمّداً ولم أخسر المسيح")
* هناك من يريد تشويه صورة الإسلام ونحن، رجال الدين، علينا مسؤولية تصحيح ذلك...إن المثقفين المسلمين أخفقوا في المساهمة بشكل ملحوظ في العلوم وغيرها من الميادين في القرنين الماضيين.
( جورج كيري كبير أساقفة الكنيسة الأنجليكانية )
* أنه لابد أن نعمل في الداخل الإسلامي، كما لابد علينا أيضا أن نعمل في الخارج لأنه لم يعد هناك حواجز وفواصل بين الداخل والخارج.
(د/علي جمعة مفتي الديار المصرية)
* المسلمون القدامى كانوا يتعاملون مع الغرب من منطلق الندية والقدرة على الانتقاد والانتقاء، بعكس الفنانين والمثقفين قبل الثورة الذين تعاملوا مع الغرب من منطلق الإحساس بالدونية.
(تقول ذيبا مير حسيني/مخرجة إيرانية)
* أكد ( ناثان كاردلس رئيس تحرير خدمة لوس انجلوس تايمز الأمريكية):
أنه كصحفي أمريكي لايملك من معلومات عن الإسلام إلا ما ينقله الصحفيون والساسة المسلمون أنفسهم!
* إن الصحفي الغربي اعتاد علي التفكير بمنطق السياسة والاجتماع و ليس التفكير بمنطق الدين و العقيدة كما اعتاد الإعلامي العربي والمسلم .
( خوسيه لويس برسبال من راديو كووب الاسباني)
* توجد مساحة ضخمة في وسائل الإعلام الغربية تهاجم الإسلام والمسلمين وتسخر منهم، وتصف "الإرهاب" بأنه إسلامي، في حين أنها لا تصفه بأنه مسيحي أو يهودي أو بوذي.
(د/علي جمعة مفتي الديار المصرية)
* لقد كانت هناك عنصرية ضد المسلمين هنا(فرنسا) من قبل غير أنها زادت سوءا بسبب الخلط اليوم بين الإسلام والمسلمين والإرهاب. إن الجدل الدائر حول حظر الحجاب في المدارس يتذرع بعلمانية المجتمع، بينما في الواقع هو يتشكك بالإسلام.
(يوسف معمري من المجلس الإسلامي لمارسيليا (بفرنسا)
* لدينا بلهاء في الغرب يزعمون أن المسلمين شياطين وبالمثل لدينا بلهاء بين المسلمين يزعمون أن الغرب شيطان.أنا آسف.
البشر كلنا فينا الخير والشر. هناك أشخاص طيبون في الغرب وهناك أشخاص طيبون في العالم الإسلامي - وهناك أشرار في الغرب وهناك أشرار في العالم الإسلامي، ومعظم الناس فيهم خليط من الخير والشر يعتمل داخلهم. إننا لا نعيش في القرون الوسطى. حينما يخرج مليون بريطاني في مظاهرات ويقولون لا تخوضوا الحرب باسمنا ويعتصمون وقوفا وجلوسا في البرد القارس لخمس ساعات، رأيت ذلك في هايد بارك، لا يمكنك أن تقول هؤلاء صليبيون ولا يمكنك أيضا أن تبرر تفجير منازلهم، إنهم أشخاص خيرون يعبأون فعلاَ.
(حمزة يوسف عمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، وهو أمريكي المولد واعتنق الإسلام)
*إن العقل المسلم قد أغفل السنن الإلهية الكونية والأسباب الطبيعية المباشرة لحدوث الأشياء والتوصل للنتائج وقد أعفى نفسه من التدقيق في اتباع كل سبب بعينه لما يريد أن يتوصل إليه (متوهماً) أن الله سبحانه وتعالى سيحقق له كل شئ بإرادته وهو متقاعس لا لشئ إلا لكونه مسلماً وهذا فهم خاطئ لحقيقة الدين.
(د/محمد جابر الأنصاري)
*أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام ولدت في فترة كانت علاقة أوروبا بالإسلام فيها علاقة خوف وقلق، مما دفع الأوروبيين لتعريف الإسلام تعريفا "ضيقا كاريكاتوريا" كدين يملؤه "العنف والشهوة" يقوم على "الجهاد العنيف" في الحياة الدنيا و"الملذات الحسية الموعودة" في الآخرة.
( دانيال فيتكس -وهو أستاذ آداب بجامعة ولاية فلوريدا الأميركية)
* أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
( إدوارد سعيد)
*أن "فهم مواجهات أميركا مع الشرق الأوسط بعد عام 1945 يتطلب فهم الخلفية الثقافية والصور النمطية العنصرية التي يعتقد بها غالبية الأميركيين" تجاه الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
(دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" الصادر عام 2002)(24/280)
* وبعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست خفت موجة العداء للسامية إلى حد ما -في أميركا- بعدما بدأ الأميركيون في النظر إلى اليهود على أنهم "غربيون" بينما استمروا في النظر إلى المسلمين على أنهم "شياطين" و"إرهابيون معادون للغرب".
(دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" الصادر عام 2002)
* هناك جرائم لا نتحمل مسؤوليتها مباشرة ، أي لم نشارك فيها، ولكن لا بد أن نتحمل مسؤوليتها...لذلك فالعالم مسؤول عن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني)
(المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا)
* إننا نجني اليوم الثمار المرة للإهمال العربي و الإسلامي.
(د/ عبد القادر طاش رئيس تحرير صحيفة البلاد السعودية سابقاً)
سجل التاريخ عربياً كان أم غربي فهل نقرأ:
- نيغاتيف الصورة:
وضح ديفد بلانكس ومايكل فراستو في مقدمة كتاب لهما صدر عام 1999 عن "رؤية الغرب للإسلام في العصور الوسطى"،
فيقول الكاتبان:
( إن الأوروبيين في تلك الفترة كانوا محاصرين بحضارة أكثر قوة وتقدما وهي حضارة الإسلام، وأنهم فشلوا في هزيمة هذه الحضارة خلال الحروب الصليبية كما رفضوا فهمها، لكنهم شعروا دائما بتهديدها الحضاري والديني لهم، لذا لعب الإسلام دورا أساسيا في تشكيل الهوية الأوروبية ومن ثم الغربية الحديثة.)
ويرى المؤلفان (أن الإسلام لعب دورا شبهاه "بنيغاتيف الصورة" في تشكيل رؤية الأوروبي المسيحي المثالية لنفسه، إذ عمد الأوروبيون إلى تشويه صورة منافسيهم (المسلمين) كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية عن أنفسهم وبناء ثقتهم في مواجهة عدو أكثر قوة وتحضرا).
- لم يكن لفهمه!:
يرى إدوارد سعيد في سلسلة من مؤلفاته على رأسها "الاستشراق" الصادر عام 1978 أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
وخلال هذه المرحلة نظر الغرب إلى الشرق -بما في ذلك العالم الإسلامي- بأسلوب أصبح الآن نموذجا يدرس عن التشويه المتعمد الذي يمكن أن تقوم به حضارة ما لصورة حضارة أخرى. ومن أهم عناصر هذا الأسلوب ما يلي:
1. النظر إلى الشرقي أو إلى المسلم على أنه الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية.
2. تنظيم علاقة الأوروبي مع الآخر عبر سلسلة من الثنائيات الفكرية يضع كل منها الآخر الشرقي أو المسلم في مقابل الأنا الأوروبي على طرفي نقيض في مختلف جوانب الحياة، فمثلا تم النظر إلى الشرقي على أنه متخلف وحشي في مقابل الغربي المتقدم المتحضر، أو على أنه جاهل فقير في مواجهة الغربي المتعلم الثري، أو على أنه داكن ضعيف في مقابل الغربي الأبيض القوي.
3. وقفت المؤسسات الاستعمارية خلف التقسيم الثنائي السابق لدعمه سياسيا واقتصاديا وثقافيا على أرض الواقع من خلال مساعيها لربط الشرق -بما في ذلك العالم الإسلامي- بأوروبا من خلال روابط مؤسساتية استعمارية تضمن بقاء الشرق الطرف الأضعف على طول الخط في علاقته بالإمبراطوريات الأوروبية. ولذا سعى الاستعمار لتكريس استغلاله واستنزافه الاقتصادي للشرق، وإضعاف اللغات والأديان والثقافات الشرقية الأصلية، ومحاربة ظهور الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية في الشرق والعالم الإسلامي على مدار عقود الاستعمار.
4. وقف الغرب موقفا منزعجا ومتشددا وأحيانا انتقاميا تجاه الجماعات الشرقية أو المسلمة التي خرجت عن التقسيم الثنائي السابق وحاولت امتلاك أدوات القوة الغربية مثل اللغة وقوة الاقتصاد وفهم السياسة والقانون وأساليب العمل الإعلامي للتقريب بين مواقف المجتمعات الشرقية المستضعفة والغرب المستعمر.
5. النظرة السابقة لعبت دورا مزدوجا خطيرا في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب: الأول تشويه هذه الصورة، والثاني تبرير الاستعمار الأوروبي واستنزاف أوروبا المنظم لثروات الشرق والعالم الإسلامي تحت عنوان تحريره ومساعدته على الرقي والتحضر.(وهل يذكرنا هذا بعراقنا الحالي!)
- هل شاركنا في التشويه؟!
إن وضعنا كفتي ميزان معتدلة بين أعيننا فسنرى في مقابل كل تقدم من طرفهم تراجع من طرفنا لا مواجهة سريعة ونبذ لتلك الأخطاء التي أودت بصورتنا عالمياً..
وكما قال الأستاذ علاء بيومي مدير الشؤون العربية بمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير):
(إن الخلفية الثقافية والحضارية لصورة الإسلام في الولايات المتحدة ليست السبب الوحيد لما يشوب علاقة أميركا بالعالم الإسلامي في الفترة الحالية من توتر، فهناك عوامل أخرى عديدة تساهم في ذلك من بينها التصرفات المشينة التي تقوم بها بعض الأطراف المسلمة أو الأميركية ضد الطرف الآخر، وتراث الأفكار النمطية السلبية التي يمتلكها كل طرف عن الآخر، ودور المصالح المادية في إشعال الخلاف بين الطرفين.)
***
الجاليات الإسلامية والعربية (هناك) ما الذي يجري؟!
الجاليات المسلمة في العالم ما بين السلب والإيجاب:(24/281)
- يبدو أن هناك حالياً عوامل تتحكم في التعامل السلبي للغرب مع الجاليات الإسلامية وأبنائها ـ رغم تفاوت ذلك من دولة إلى أخرى ـ ويمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي :
*من يدفع الثمن؟
إن الحكم المسبق على الإسلام؛ والاعتماد على الروايات الشاذة لدعم الأفكار الخاطئة التي تجعل الإسلام في موضع الإدانة كل ذلك عمل على تكريس تلك الصورة القاتمة التي نراها اليوم.
والتي يدفع ثمنها الجاليات المسلمة خارج نطاق العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية قد خطت خطوات مهمة باعترافها بالإسلام، وتم بالفعل في بعض الدول الأخرى إعطاء حقوق مدنية للمهاجرين.
فإنه لا تزال هناك عراقيل ومعوقات كثيرة لتطبيق ذلك في باقي دول العالم.
كما أن هناك استمراراً في اعتبار بعض المظاهر الإسلامية، كالحجاب مثلاً، رمزاً للتعصب والتحجر الفكري، وهناك من يرفض السماح بدراسة المحجبات بدعوى الحفاظ على مبادئ علمانية المدرسة الأوروبية.
كما أن نظرات الآخر تحاصره في كل مكان، وفي بعض الأحيان تقترن بالإذلال والكراهية والعنصرية المكشوفة.
* أشقائنا في مواجهة الآخر..في أي الاتجاهات يسيرون؟!
- الآثار المترتبة على التوجه الإعلامي الشديد اللهجة تجاه المسلمين:
إن طريقة نقل وسائل الإعلام العالمية للأحداث التي تجري في العالم الإسلامي وخصوصاً متابعتها لبعض الخلافات والحروب، تخلف آثاراً واضحة على تعامل الآخر مع المسلمين هناك.
فغالباً ما يعيش العالم اليوم تحت تأثير كابوس الخوف الذي يثيره اهتمام الإعلام الغربي بظاهرة التشدد والتطرف المرتبط بـ(ـالإسلام) ووصفها بأنها أخطر ما يتهدد قيم الغرب المعاصر.
- الآثار المترتبة على صورة العربي المسلم في المناهج الدراسية في العالم:
العربي المسلم خارج حدود أرضه مغترب شاء أم أبى..فالغربة حقيقة لا مفر منها..
إلا أن هذا الإحساس الذي يصاحبها لا يمنع من أن ذلك الفرد يمارس حياته بكافة مناشطها..ينجح ويخفق..
ينتمي للمكان،يألف الصحبة، يحسن السباحة في محيطه الجديد،يجلس بجانب الآخر على ذات المقعد ويتلقى التعليم نفسه. ويسمع ويقرأ صورته بأعينهم..
فالنظرة له من قبل مجتمعه المدرسي لاشك تترك أثراً عميقاً يتدخل في انتمائه ومغالطات في تكوين هويته الإسلامية والعربية بل ربما تجاوزت ذلك في تذبذب قناعته تجاه دينه وهويته.
* دور الجالية الإسلامية في الإساءة إلى صورة الإسلام في العالم :
وهنا لا بد من التأكيد على أنه تحت تأثير الغربة والتهميش ساهم بعض أفراد الجالية المسلمة أنفسهم في الإساءة إلى صورة الإسلام بالغرب.
ويمكن الإشارة إلى أهم السلبيات في هذا الباب :
ـ استغلال العاطفة الدينية القوية لدى الشباب الذين يبحثون عن انتمائهم، لإثارة مشاعر التعصب والتطرف لديهم.
ـ تعدد المرجعيات الدينية التي تتجاذب بعض القيادات الإسلامية وتؤدي إلى صراعات وقلاقل لا تخدم في شيء صورة الإسلام بالغرب.
ـ استغلال المناخ الملائم للعمل السياسي بالغرب، وتسخير الإسلام لخدمة أهداف سياسية ومصلحية زائلة.
*ماذا عن الصورة الإيجابية التي رسموها هناك؟!
قطعاً هناك نماذج يفخر لصداها كل نبض مسلم عربي..
وهي السند الذي مازالت صورتنا في العالم تحاول الاستناد عليه..
ولكن علينا تدعيم ذلك (السند) لكيلا يحترق (الغصن) الذي سنزرع بفضله إن شاء خالقنا..
مروجاً إسلامية وعربية يتغنى بمرآها العالم أجمع..
إن دعمنا لأشقائنا وتواصلنا معهم لاشك يمهد الطرق للوصول للهدف.
***
(نحن) في مناهجهم!
(المصـ)ـدر،(المصـ)ـداقية..
كلمتان اجتماعهما مطلب في توثيق المعلومات التي تقدم في المناهج الدراسية أياً كانت الأرض ولكنهما أضحيا مجرد كلمتين تربطهما بدايات الحروف فحسب.!
أين؟!
هذا ما يتضح في بعض المناهج لدول مختلفة حول العالم..
ولنكن أكثر وضوحاً فالإسلام،المسلمين والمجتمعات العربية مادة تفتقد للمصدر (الموثوق) في تلك المناهج..
لماذا؟!
(من جانبهم):
تشكل كتب المستشرقين رغم إغفالها للحياد العلمي المصدر الرئيسي إن لم يكن الرسمي في إعداد المناهج خارج نطاق العالم الإسلامي والعربي على أفضل تقدير!
ويمتد بنا إدوارد سعيد إلى جذور الاستشراق قائلاً في كتابه "الاستشراق":
( أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.)
(من جانبنا):
أين هي المراجع الإسلامية التي تحاور الطرف الآخر؟!
وأين المسلمين أصحاب (القلم،الفكر،التأريخ والحقيقة) ليمنحوا العالم مصدراً (أصيلاً).
وليضيفوا بلون التوثيق بريق الحقيقة في صورة الإسلام بين دفتي كتاب.
ولن نغفل عن أن المناهج العربية تحظى بنصيب الأسد بالقصور الشديد في إعداد الفرد لفهم الآخر.
وللحقيقة أيضاً جانب:(24/282)
إن صورة الإسلام في المناهج حول العالم تتفاوت بين اعتدال وبين تشويه بين حقيقة وبين افتراء تبعا لعوامل شتى منها ضعف الجالية الإسلامية ومدى قوة اللوبي الصهيوني داخلها ولا شك مصالح الدولة أولاً وأخيراً!
جولة مع (صورتنا) في المناهج الدراسية حول العالم :
*البرازيل:
يوجد في المناهج الدراسية ما يقارب من أربع إلى خمس صفحات تقدم معلومات خاصة عن الإسلام .
يركزون فيها على قضايا المرأة وإجبارها على الزواج من قبل ولي أمرها و تحكمه في مهرها.
حتى إن بعض الكتب تتحدث عن أن المرأة في الإسلام ليست بشرا!
و لا يوجد لها روح وبعضها يتحدث عن مكة وأن الذي بناها هو صلى الله عليه وسلم وبعض من صناديد العرب!
وخصص كتاب الأدب البرازيلي للصف السادس درسا كاملا عن الإسلام بعنوان " الإسلام اليوم" "ص132" ومن أهم ما قالوه عن الإسلام في هذا الدرس:
"إن الإسلام دين مهم على الأرض العربية ...وإن المسلمين ليسوا من العرب فقط فهناك مسلمون في آسيا وأوروبا وأفريقيا ومصر وباكستان وتركيا. والإسلام الذي أسسه محمد هو الأكثر انتشارا في العالم اليوم".
وهنا تتضح الرؤية لأساسيات الفهم للإسلام في المناهج البرازيلية ولكن لابد من أخطاء تيكمها المصدر الغير موثوق كما يحكمها الفهم الخاطئ لحيثيات المعلومة وإن كانت صحيحة.
فمن أهم المسائل التي يحتج عليها الغرب -كما يقول الكتاب-:
التعصب والمعاملة السيئة للمرأة مثل: إجبارها على الحجاب.
منعها من المشاركة مع أي نشاط مع الأجانب من الرجال.
في حالة السفر يحتجن إلى الإذن من الأب أو الزوج.
يستعملن مداخل مخصصة لهن في البيوت.
عند المرض يجب عليهن الذهاب إلى طبيبة.
معرضات للرجم في حالة الزنا.
وهذه المعاملة التي تعامل بها المرأة - كما يقول الكتاب- تستحق الثورة لأنها تجرح الحقوق الأساسية للإنسان ولا نستطيع أن نقول أن هذه المعاملة موجودة في كل البلاد الإسلامية.
*كوريا:
تتسم المناهج الكورية باعتدال الصورة إلى حد كبير..وتعرض المناهج الدراسية أصل الإسلام وكيف بدأت الدعوة الإسلامية على يد صلى الله عليه وسلم "محمد".
وتعرض الأحداث بعد وفاة صلى الله عليه وسلم حيث اختار العرب خليفة لهم من أتباعه ويتمتع الخليفة بسلطات سياسية ودينيه قويه ومدد واسع من النفوذ الإسلامي من خلال قتال غير المسلمين ومن خلال الفتوحات السلمية .
ولم يجبر المسلمون أي خاضع لهم (ضحية) على تغيير ديانته مادام التزم بدفع الجزية ( الضرائب).
بشكل عام معظم الكوريين لا يعرفون الإسلام على النحو الصحيح..
يعرفون أن المسلمين يؤمنون بالله وإن لم يعرفوا معنى كلمة " الله" ويعتقد الكوريون أن "الله" إله مختلف.. والمسيحيون منهم يعتقدون أن محمد مؤسس دين الإسلام!ولا يعرفون حتى كلمة"رسول الله". ويعتقدون أن المسيح هو الرب وممثل الرب باعتباره في رأيهم ابن الله..
والبعض يفهم الإسلام على أنه: " يد ترفع القرآن وأخرى تمسك السيف"..(!)
ألمانيا:
Ku r sbuch r eligion,Neuausgabe 7/8, Ve r lag Mo r itz Dieste r weg Ve r lag, F r ankfu r t ammain, 1991 أحد كتب مادة التربية الدينية المقررة على الصفين السابع والثامن في إحدى الولايات الألمانية..
يعرض الإسلام على أن " كل مسلم مكلف بمقاتلة أعداء الإسلام، الذين لا ينصاعون للقرآن، تبعا لمبدأ الجهاد ، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى يمكن تحقيق الهدف السياسي المتمثل في جمع المسلمين العرب في دولة واحدة"
ومن المعلومات الساذجة اعتبار أن "أهداف الحج هي تقبيل الحجر الأسود والحق في ارتداء عمامة خضراء أو حمل لقب حاج كما أن موسم الحج ينتهي بوجبة فاخرة في مكان تدعى ( ميكا)"!
وفي كتاب آخر اسمه: Lesehefie Ethik, We r tc und No r men, Philossophie Islam; P r of. D صلى الله عليه وسلم D صلى الله عليه وسلم Pete r Antes und Manf r ed Poppe r l, E r nst Klett Ve r lag, Stuttga r t, 1.Aufl., 1990.
نرى الكاتب يسوق في ص10 حوارا في منتهى السخف بين ألماني وبين شابة تركية عفيفة ترتدي الحجاب وتلتزم بخلق الإسلام، يحاول فيه الألماني إقناعها بأن الحجاب دليل على التخلف، وقمع الرجل للمرأة، وأنه يحرمها من الذهاب إلى السينما وحياة الشباب.
والكتاب ينسب إلى طائفة الأحمدية التي يعتبرها إحدى طوائف الإسلام،كما يتوجب الإيمان " برسل الله كلهم، نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى وبوذا وكريشنا ومحمد"؟!
وأخيرا نجد في كتاب: Ku r sbuch r eligion 7/8, Leh r eband Cawe r Ve r lag, Stuttga r t, Dicste r weg Ve r lag, F r ankfu r t a. M., 1999.
وهو يختلف عن غيره، لأنه كتاب المعلم، بحيث نتعرف على ما يجب على المعلم تحقيقه في الدرس، لنجد تأكيد فكرة انتشرت أخيرا في ألمانيا، وهي " لا وجود لإسلام واحد، بل هناك أنماط كثيرة لهذا الدين، تختلف عن بعضها البعض بشدة". وتحذير المعلم من تأكيد أن "إلهنا وإلهكم واحد" لان المسلمين لا يقبلون بذلك، ويعتبرون هذا القول إهانة للذات الإلهية؟
وزعم -الكتاب- أن للشيخ في المسجد مكانة لا تسمح لأحد أن يعترض على تفسيره للآيات القرآنية!(24/283)
وأشار إلى أهميه الصلاة بالقول" إن محمدا طالما شدد على ذلك بقوله أقيموا الصلاة في القرآن"
وهنا يتضح لنا الخلط إن لم يكن التجاهل بأن القرآن ليس من عند الله (سبحانه وتعالى)!
روسيا:
كان العرض السوفيتي للتاريخ وللمسلمين قريب من الموضوعية خاصة في تناوله للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن حين انتهى العهد السوفيتي أصبح الإعلام روسيا تحت سيطرة شبه كاملة للوبي الصهيوني ونجد هذه الصورة جلية في المناهج الدراسية والتربوية في المدارس الروسية، وخصوصا في كتب التاريخ، وبالرغم من وجود مؤرخين و مربيين حافظوا على قدر من الموضوعية إلا أن الغلبة كانت للتيار المنحاز الذي غدت كلمة "عربي" أو "مسلم" صنوا للتخلف والتزمت وممارسة العنف والإرهاب.
ويقر مكسيم براندت مؤلف كتاب " تاريخ القرون الوسطى" للصف السادس بأهمية رسالة التوحيد ودورها في نقل العرب من حال الجاهلية ودركها إلى حال زاهرة لاحقا. إلا أن كتاب يكاترينا اغيبالوفا وغريغوري دونسكوي عن المرحلة ذاتها يحفل بالمغالطات وإخفاء الحقائق . إذ أن المؤلفين يحاولان ( ص72-73) اعتماد مبدأ "التبسيط الافتراضي" إن صح التعبير فيقولان: إن الإسلام " يعد المؤمنين بالشبع والمرح" في الجنة ويتوعد الكفار بـ " نار جهنم" ، وفي مكان آخر يزعمان " أن الإسلام يدعو إلى محاربة أبناء الديانات الأخرى" من دون كلمة واحدة كما ورد في القرآن عن احترام أهل الكتاب. ويزعم الكاتبان أن أهل السنة يختلفون عن الشيعة في كونهم" يعتقدون بوجود كتابين مقدسين هما القرآن والسنة".
ويحمل المؤلف العرب مسؤولية " السعي لتدمير دولة إسرائيل" ويرى أن ذلك سببا لاندلاع حرب 1948م التي قال : إن إسرائيل في أثرها " وسّعت بعض الشيء أراضيها!!" فالتلميذ سيعتقد أن الحديث يدور عن بضعة دونمات تم "غنمها" عقابا للعرب " المعتدين" ويظل جاهلا بان إسرائيل كادت تضاعف مساحة الأرض التي تحتلها.
وهكذا تتكون ملامح صورة العربي: الثري المتخلف والجاهل البعيد عن المدينة والطارئ على الحضارة، وتزداد الصورة قتامة عند مقارنتها بخصوم العرب من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين الذين سعوا إلى "تمدين" المنطقة ولكنهم جوبهوا بـ" الجحود".
الهند:
أصدرت منظمة صلى الله عليه وسلم S.S (منظمة الخدمات القومية الهندوسية المتطرفة) عدة مؤلفات منها:
"سيدات المغول"، "تراث الحكم المسلم" و "نظم الحكم الإسلامي". وكانت عامرة بالمغالطات!
وأضحت هذه المؤلفات مصدرا أساسيا لواضعي المناهج الدراسية للمدارس الحكومية من قبل الوزارة أو المجلس القومي للبحث والتربية.
ومن النماذج التي تعكس صورة العرب والمسلمين في تلك الكتب :
- كتاب باللغة الهندية ذكر أن الرسول -محمد r- حينما بعث كان عمره 48 سنة، والكلمات والنصائح التي كان يوجهها الرسول إلى أتباعه سجلوها ثم جعلوها صحيفة سموها "القرآن"
- وفي كتاب التاريخ لتعليم الثانوية، جاء فيه أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - فر من مكة إلى المدينة
خوفا، فجعله (فرارا) وليس هجرة، وتلك إهانة وخسة.
- وورد في كتاب آخر في التاريخ لتعليم المتوسط: أن السلطان أورنك زيب (الذي عده الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله خامس الخلفاء الراشدين) جاء بأعمال معادية للهنادك. واتهموه بأنه قطع جسم أحد البراهمة "كوكل" إربا إربا، و أجبر أسرته لاعتناق الإسلام!
وكذلك أمر بقتل زعيم السيخ "كو بند سنكه" لأنه رفض أن يدخل الإسلام!
وأصدر أمره بأن يبلط ابناه بالجدران لعدم اعتناقهما الإسلام.
وبسبب هذه الإساءة إلى الشعب الهندي عامة والمسلمين خاصة، اجتمع المفكرون وأعضاء هيئة التدريس في المدارس والكليات والجامعات وأيدهم رجال الدين والمحركات الثقافية والتعليمية من المسلمين والبوذيين والمسيحيين والسيخ وغيرهم، وقدموا احتجاجهم الشديد وأصدروا قرارات رفعوها إلى وزارة التعليم والحكومة، ولم يعودوا إلا بالوعود بالتفكير!
إيطاليا:
تقول الدكتورة كورسيللي- والتي قضت فترة تقترب من عشرين عاما في تدريس المناهج المقررة على الطلاب الإيطاليين في المدرسة الإيطالية بالقاهرة- عن صورة الشخصية العربية: "إنها بصفة عامة تقدم بشكل سيء، وأن الانطباع العام الذي يمكن أن يخرج به الطالب من المناهج المدرسية هو أن العربي شخص متخلف حضاريا، وبعيد كل البعد عن أنماط التفكير الحديثة".
وتضيف أن المناهج الثابتة مثل التاريخ والجغرافيا، فهي تحتاج إلى تحديث، فلا تزال هذه الكتب تتحدث عن الصحراء وسكانها من البدو والحياة البدائية التي يعيشونها، متجاهلة ما طرأ على هذه الحياة من تقدم في جميع المجالات، وخصوصا في مجالات يعمل فيها الإيطاليون أنفسهم، مثل: البترول والكيماويات.(24/284)
وتقول: يمكن أن نلحظ تقدما في المعالجة الغربية للمجتمع العربي، فمن قبل كان ينظر إليه من المنظور الاقتصادي فقط، باعتباره رجل بترول ثريا ماليا متخلفا فكريا وحضاريا، أما الآن فهناك اتجاه لفهم التكوين الثقافي العربي ولدراسة اللغة العربية، وهناك أقسام للغة العربية في الجامعات الأوروبية حاليا، كما أن هناك جماعات من منظمات ومدارس وكليات تأتي لدراسة اللغة العربية في البلاد العربية. وكل هذا يصب في محاولة فهم العرب على نحو أفضل. ويمكن القول إن الثقافة أصبحت قبل الاقتصاد كمنظور للرؤية الأوروبية للعرب حاليا.
أسبانيا:
في مناهج التعليم الأساسي القديم في أسبانيا، كان يعرف الإسلام بما يلي: "هو الدين الذي ابتدعه محمد، يسمح بتعدد الأزواج ويأمر بقتل غير المسلمين، ويحرم الخمر والخنزير، لأن محمدا كان ثملا ذات يوم فعضه الخنزير، ولما استفاق حرم الخمر والخنزير معا"
من أكثر الأمثلة بشاعة حينها ما ورد في قاموس Tcso r o de la Lengua Castellana
يعرف القرآن بما يلي: "هو ذاك الكتاب اللعين المليء بالسخافات الذي ألفه محمد بمساعدة الأريسي الكافر يحيى الأنطاكي وعالم الرياضيات اليهودي أشكول! وهذا ما يجمع عليه المؤرخون الذين تناولوا حياة ذاك الشرير الفاسد المسمى (محمد)".
وحدث التغير والتصحيح الذي لم يصل بعد لبقية مناهج العالم..
حيث كانت المناهج المدرسية القديمة تذكر أن القرآن :"لاُ يعرف على وجه الدقة إن كان محمد مؤلفه أو ناقله"،وأن "النسخة المعتمدة هي من عمل سكرتيره زيد بن ثابت".
أما الآن فإن المناهج الحديثة تتحدث عن القرآن الكريم بموضوعية من حيث إنه كتاب المسلمين المقدس، وعن بدء الوحي، وجمع القرآن، وتقسيم نزوله....
لم تعد الأوصاف القذعية ترى في كتب المناهج الدراسية عن محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل: "المجنون، الذي ظن أنه تلقى وحيا من السماء، والذي ألف القرآن" بل حلت محلها أوصاف جديدة مثل: "الداعي إلى المثل الأخلاقية، الذي أوجد مدرسة متوافقة مع العقلية العربية".
- أما بالنسبة للجهاد، فقد قيل: "الحرب المقدسة هي أهم ما يأمر به الدين المحمدي"، فما زال التعريف للجهاد هو الأمر الوحيد الذي لم ينله تطوير المناهج الدراسية الإسبانية، وسبب ذلك هو أن العقلية الغربية تفرق بين الدين والدولة، فالدولة من حقها شن الحروب، أما الدين فلا.
فرنسا:
لا تفرق نصوص الكتب المدرسية في كتب القراءة الفرنسية في المرحلة الابتدائية بين مفردتي: "البدو" و"العرب" وتستخدمها بغير تمييز للدلالة على الشخصيات نفسها. وتتسم شخصيات "العرب"أو"البدو" في القصص بطابع الدونية إذا كانوا تابعين، أو بطابع عدائي إذا نجحوا في الهرب من نطاق نفوذ الشخصيات الفرنسية. ويبدو نقص الشخصيات العربية أو البدوية خلقيا وعقليا واقتصاديا ومهنيا حينما يتم مقارنتهم بصفات أو أدوار لشخصيات فرنسية في هذه القصص أو الكتب.
إن الصورة التي يمكن استخلاصها للعرب من تحليل كتب القراءة للمرحلة الابتدائية تولد لدى التلاميذ صورة مزيفة عن الآخرين وعن أنفسهم، فهي توحي للتلاميذ الفرنسيين اقتباسا من الماضي بإحساس التفوق الطبيعي، كما توحي للتلاميذ من ذوي الأصل العربي بإحساس سلبي ناشئ عن تحقير شأنهم وتشويه صورتهم.
وتصف كتب التاريخ الفرنسية أداء أوائل الأبطال الوطنيين الفرنسيين بالدفاعي البطولي المنتصر، بينما تميز العرب بمجموعة من الأفعال المعبرة عن التوسع أو العدوان.
أما كتب التاريخ الفرنسية للمرحلة الثانوية، فتتفق على تقديم مضمون الوحي الإسلامي والمبادئ الأساسية للإسلام، وتخصص لها مكانا مهما، ولكن لا يذهب أي كتاب إلى أبعد من هذا التقديم الشكلي للدين الإسلامي
ويجدر الإشارة إلى أن الكتب المدرسية للجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-1914 م) كانت تصف الإسلام بأنه "دين مسخ ابتكره محمد الذي ادعى أنه نبي", لكن الكتب المدرسية الحالية تبدي احتراما أكبر للإسلام وتقدمه على اعتبار أنه دين توحيدي عالمي.
أمريكا:
رصدت اللجنة العربية لمكافحة التمييز (ADC) مجموعة من الصور النمطية السلبية الموجودة داخل مناهج التعليم الأمريكية عن المسلمين والعرب.
وقد قسمت اللجنة صور المسلمين والعرب النمطية السلبية إلى سبع مجموعات رئيسة، وهي:
- أولا: الصور النمطية العامة، وتصف هذه المجموعة العرب جميعا بأنهم "راكبو جمال"، "يضعون نشافات على رؤوسهم"، "عبيد الرمال"، "كل العرب مسلمون وكل المسلمين عرب"، "القبيلة"، "البدو"، "الواحة"، "الجمال"، "الصحراء"، "الحريم"، "الشيخ".
- ثانيا: صور نمطية عن العالم العربي، وتصور هذه المجموعة العالم العربي على أنه "ساحة تنافس يعيش فيها الأبطال الغربيون مغامراتهم العاطفية"، "ألف ليلة وليلة"، "الجن"، "البساط السحري"، "الأميرات"، "وزير شرير ظالم".
- ثالثا: صورة نمطية عن المسلمين، وتصور هذه المجموعة المسلمين على أنهم "سفاحون"، "إرهابيون"، "محاربون"، "مضطهدون للمرأة"، "الجهاد"، "الحرب المقدسة".(24/285)
- رابعا: صور نمطية عن الفلسطينيين، وتصور هذه المجموعة الفلسطينيين على أنهم "يحاولون تدمير إسرائيل وإغراقها في البحر"، "مفجرو طائرات"، "إرهابيون".
- خامسا: صورة العرب الصالحين، وهؤلاء ينظر إليهم على أنهم "شخصيات ثانوية دونية"، "سلبيون"، "قلما يكونون أبطالا".
- سادسا: صورة الرجل العربي، وينظر له على أنه "شيخ بترول"، "ثري جدا"، "مسرف"، "يريد شراء أمريكا بماله"، "طماعون"، "غير متعلمين"، "غير أمناء"، "ديكتاتور"، "فاسد"، "عنيف"، "بربري"، "يكره اليهود والأمريكيين"، "غير عقلاني"، "عصبي المزاج"، "يخطف النساء والشقراوات الغربيات"!.
- سابعا: صورة المرأة العربية، وينظر لها على أنها "مضطهدة من الرجال العرب والمسلمين"، "حريم مترفات"، "راقصات عاريات"، "سيدات جميلات يقعن في حب الرجل الغربي الذي ينقذهن من شر الرجل العربي"!، "أسيرات منازل"، "سلبيات"، "غير متعلمات"، "بلا وجوه ولا شخصيات ولا أصوات"!.
ولكن تناول هذه الصورة النمطية لا يكفي وحده لتقديم صورة منصفة عن الجهود التي تبذلها المنظمات الأمريكية المختلفة، الخاصة منها والحكومية لمكافحة تحيز المناهج التعليمية الأمريكية ضد أبناء الجماعات العرقية والدينية المختلفة بما في ذلك المسلمون والعرب. فمن الواضح أن في الولايات المتحدة حركة كبيرة وناجحة لمكافحة التمييز ونشر التعددية الثقافية.
وقد اكتسبت هذه الحركة زخما جديدا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر خصوصا فيما يتعلق بتعاملها مع قضايا التحيز ضد المسلمين والعرب في مناهج التعليم الأمريكية. ويمكن رصد هذا الزخم على مستويين أساسيين،
أولهما: اهتمام بعض أكبر المنظمات التعليمية الأمريكية بتطوير أبحاث ومناهج وبرامج دراسية تعالج مشكلة التحيز ضد المسلمين والعرب في المناهج التعليمية الأمريكية بعد أحداث سبتمبر 2001 م.
وثانيهما: اهتمام المؤسسات التعليمية الأمريكية المختلفة على شتى المستويات اهتماما كبيرا بدراسة أحداث الحادي عشر من سبتمبر من حيث أسبابها وأبعادها وآثارها، إلى الحد الذي دفع جامعة مثل جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ((UCLA إلى وضع 49 مادة بحثية متعلقة بهجمات سبتمبر، الأمر الذي أدى إلى زيادة اهتمام هذه المؤسسات بتدريس المواد التعليمية التي تتناول المسلمين والعرب والإسلام والعالم الإسلامي.
تقول الباحثة مارفين وينجفيلد والباحث بشرى كارمان في دراسة لهما بعنوان "المعلمون الأمريكيون والصور النمطية عن العرب":
يتعلم الطلاب المسلمون والعرب في المدارس الأمريكية العديد من الأفكار الإيجابية عن تاريخ وثقافة جماعات أخرى عديدة، ولكنهم يفتقدون هذه الخبرة التعليمية الإيجابية عند الحديث عن الحضارتين العربية والمسلمة.
وقد وجه إدوارد سعيد نقدا واسعا للمؤسسات الأكاديمية الأميركية فيما يتعلق بأسلوب دراستها للإسلام في كتابه "تغطية الإسلام.. كيف يحدد الإعلام والخبراء رؤيتنا لبقية العالم؟" الصادر عام 1997، إذ يقول إن برامج دراسات الإسلام بالجامعات الأميركية تحددها في الغالب "الضغوط المعاصرة الملحة" المسيطرة على العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، كما يهيمن عليها عدد من الأفكار العامة المنعزلة عن الواقع وعما يدور في العلوم الاجتماعية الأميركية الأخرى.
ويرى سعيد أن الأوضاع السابقة جعلت من "المقبول أن يقال عن الإسلام (بالجامعات الأميركية) ما لا يقبل قوله عن اليهودية أو عن الآسيويين أو عن الأفارقة، وجعلت من الممكن أن تكتب دراسات (أميركية) عن التاريخ والمجتمعات الإسلامية تتجاهل جميع المبادرات الكبرى في نظريات التفسير الاجتماعي".
اسرائيل:
قبل أن نقوم بتقديم بعض من الكتب المقررة،أردنا أن نورد بعضا مما جاء في كتاب (المرتكزات والقيم التربوية الصهيونية):
- اعتبار فلسطين والهضبة السورية (الجولان) أرضا يهودية، والأقطار العربية المحيطة بها دولا أجنبية، لا علاقة لها بفلسطين قوميا، وعقائديا، وتاريخيا.
- اعتبار العرب -أصحاب الأرض الشرعيين- محتلين في قلب وطنهم فلسطين، واعتبار الفتح الإسلامي احتلالا، وغزوا تاريخيا للأرض التي تعتبر في نظر اليهود ملكا لهم.
- تعمد إغفال التاريخ العربي، والعربي الإسلامي في فلسطين في مختلف العصور.
- الادعاء المتواصل بوجود أرض وممتلكات لليهود خارج حدود فلسطين، في حوران وجنوب الجولان وفي الأردن.
- تحميل العالم بأسره مسؤولية ما جرى لليهود دون تمييز.
- اعتبار سائر المعابد والكنائس والمساجد أماكن أثرية يهودية، بنى المسلمون والمسيحيون دور عبادتهم ومؤسساتهم على أنقاضها، زاعمين أن الحرم المقدس الشريف أقيم على أنقاض هيكل سليمان.
وفي إطار هذه المرتكزات، والأهداف التي وضعها المؤلف -بتكليف من وزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية- قام عدد من المؤلفين الإسرائيليين بوضع الكتب الدراسية لمختلف المراحل. نورد بعضا منها، ومما جاء فيها:
كتاب: هذا موطني، تأليف/ ش. شكيد:
كل ما مر بالقدس ليس سوى غزوات عابرة حتى سعدت بعودتنا لتصبح عاصمة إسرائيل مرة أخرى.
شرق الأردن جزء من أرض إسرائيل.(24/286)
عن طريق استخدام القوة، يتعلم العرب بسرعة كيف يحترمون الحارس اليهودي.
وأيضا كتاب: وقائع شعب إسرائيل من ظهور الإسلام حتى استقلال الولايات المتحدة، تأليف/ ب.أحياه - و- م.هرفاز:
وهذا الكتاب مقرر للصف السابع ابتدائي. ويبرز فيه الحقد على الإسلام، وتزوير التاريخ العربي، وتنتشر فيه المغالطات الصارخة.
مثلا:
اعتبار الإسلام دين المحاربين، والزعم بأن اليهود قد أثروا في العرب، وأن الإيمان الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما كان استلهاما من اليهود. ويزعمون أن الرسول حاول اجتذاب اليهود إليه، فأمر أتباعه أن يتوجهوا في صلاتهم إلى القدس، وأن يصوموا يوم الغفران، وأن اليهود قابلوا ذلك بالسخرية، وعندما أدرك أنهم بعيدون عنه، غير موقفه تجاههم، وأخذ يقسو عليهم، وألغى صوم يوم الغفران، وعين صوما آخر يستمر شهرا يدعى رمضان، كما غير القبلة من القدس إلى مكة.!!!
وكتاب: علم التربية المدنية، تأليف/ شالوم أبخر، لطلاب المدارس الثانوية. والذي ورد فيه الكثير من الافتراءات على العرب، بهدف ترسيخ العداوة والحقد في نفوس الطلاب اليهود. ومن ذلك:
العرب يعدون لحرب إبادة ضد إسرائيل بحيث يقذفون بالسكان اليهود في البحر.
أغراض العرب الظاهرة والمعلن عنها ليس فقط احتلال المنطقة الإسرائيلية، بل أيضا الإبادة الشاملة للاستيطان اليهودي، لذلك فإن القتل الجماعي (المحتمل) الذي تتعرض له إسرائيل لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم.
كما تدخل قصص الأطفال للطلبة اليهود ضمن الحرب النفسية التي تقوم بها السلطات الصهيونية لتقوية نفوس أبنائها، وتعزيز موقفها وغرس روح العداء والتفوق والاستعلاء في نفوس الأطفال.
لذا فقد عمدت السلطات الإسرائيلية إلى إصدار سلاسل من القصص لتحقيق غايتها.
ومنها: سلسلة قصص "داني دين". وهو شخصية أسطورية، خارقة، متفوقة قادرة على هزيمة العرب مهما كانت قدرتهم العسكرية.
وقد سأل البروفيسور (اديركوهين -أستاذ آداب الأطفال بجامعة تل أبيب) بعض الأطفال الإسرائيليين عن نوايا العرب تجاههم، فجاءت غالبية العبارات كالتالي "العرب يريدون قتلنا واحتلال مدننا وإلقاءنا في البحر" وهي العبارات التي انعكست وظيفيا في سلوك الأطفال الإسرائيليين في تعبيرهم عن الرغبة في التخلص من وجود العرب في فلسطين باعتباره وجودا لأجانب خطيرين يجب التخلص منهم، أولا إثباتا للحق اليهودي في الأرض، وثانيا لتجنب الخطر العربي.
===============(24/287)
(24/288)
لقاء الشيخ سلمان العودة مع موقع الساخر الإلكتروني
الاسلام اليوم - خاص 3/1/1424
06/03/2003
أيها الأحبة !
الإسلام من أقوى الأديان حضوراً نعم! ففي كل ناحية من وسائل الإعلام نجد حديثاً عن الإسلام بغض النظر عن هويته وهدفه ـ سواء كان يهودياً أو مسيحياً ـ بالشتم تارة وبالتحذير أخرى أو بالتخطيط والتكتل؛ لكن هذا مؤشر قوي لفعالية هذا الدين وقوة حضوره.
ولا شك أن الكثيرين فقدوا حيادهم المزعوم أمام المدّ الإسلامي وأصبح عندهم قراءة ومناقشة انتقائية إقصائية كالحة الوجه .
ـ لكن الحقيقة المرّة - أيضاً - أننا نحتاج إلى يقظة نتغلب بها على حالة العجز الإسلامي عن استثمار التقنية الإعلامية لطرح بديل إسلامي في خضم سيل الأطروحات الزائفة التي يزعمها الآخرون.
ولعمري! إذا كنا غير قادرين على مخاطبة أنفسنا بشكل صحيح ـ وهذا واقع ـ فكيف سنخاطب الآخرين ؟! هل رأيتم فاقداً لشيء يعطيه لغيره !
بإمكاننا ـ أيها الأخوة ـ أن نصنع كثيراً لهذا الدين كلٌ بحسب إمكانياته وطاقاته. ونستفيد من رغبة العالم القوية في سماع أو معرفة أي شيء عن هذا الدين.
بإمكاننا توضيح أن هذا الدين جاء ليعزز جوانب الحق في الأديان الأخرى ويمحو ما بها من باطل )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ((المائدة: من الآية48)
بإمكاننا أن نثبت للعالم أن في ديننا جانباً إنسانياً يصنع الحضارة والتاريخ ويقوم بأكبر المنجزات ولا يضعها عائقاً أمام التحديث والإبداع.
بإمكاننا ـ أيها الإخوة ـ أن نعالج قضايانا المصيرية إذا حاولنا أن نفرغ من نزاعاتنا البينية .
ـ البعض منا لا يحسن الإبداع إلا في خلق مشكلات وهمية ما إن ينتهي من مناقشتها حتى يعيد تصنيعها ليعالجها مرة أخرى؛ مما يغيّبه عن مشكلاتنا الجادة التي تستحق منا المعالجة الحقيقية لا الوهمية.
ـ متى يأتي اليوم الذي نستطيع أن نقول فيه بصدق: هذا هو الإسلام.
سؤال:منهجية التغيير هل تبدأ بتغيير الواقع الذي يظهر على سلوكيات وتصرف الأفراد والمؤسسات؟؟ أم نحن بحاجة إلى تغيير الأفكار والرؤى والتي على ضوئها تتغير سلوكيات البشر.؟
لا شك أن الأمة تمر بأزمة... فهل ترى أن التركيز على بيان سلبيات المجتمع في الخطب والدروس والمحاضرات مع إغفال الجوانب الإيجابية وعدم تبصير الناس بها يؤدي إلى إضعاف الهمم وإحباط العاملين في حقل الدعوة..؟؟ وما الطريق الأمثل في نظركم هل هو البدء بتغيير السلبيات والاهتمام بها أم نشر الخير وزيادة العناصر الإيجابية باعتبار ذلك كفيلا بطمس السلبيات دون التركيز عليها مباشرة؟؟
جواب:ـ بلا شك؛ أن فكرة التغيير هي من الإشكالات عند البعض. ذلك لأننا نتخيل أن مستقبل هذا الدين لن يتحقق إلا بصعود قوى عظمى تمثل الإسلام وهبوط قوى تعاند الإسلام كأمريكا مثلاً. وكأن مستقبل الإسلام لن يتحقق إلا بهذه الصورة التي ربما تكون بعيدة والتي تحتاج إلى أمد بعيد يحتاج إلى: صبر ومجاهدة !
ـ كذلك الذي ينظر إلى حال العالم الإسلامي اليوم وتفوق الغرب عليه من الناحية التقنية وأنه أصبح هو الهدف للغرب ولا حليف أو نصير له - قد يصاب بحالة يأس أو قنوط أو إحباط .
عموما: علينا أن ندرك - تماماً - أن ثمة شروطاً وأسباباً إذا عملنا بها؛ حصلنا على المراد والله تعالى ( لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) .
ـ كما يجب أن نضع في أنفسنا: أن معطيات الواقع العالمي ليست كلها مسدودة بحيث يستحيل الدخول إليها؛ بل كل ما حولنا من واقع مليء بالمداخل والثغرات التي يمكن توظيفها بشكل جيد وإيجابي لمصالح الأمة والدعوة إليها.
ـ إن القدرات الذاتية للأمة والدعوة هي الفيصل الحازم في أي تغيير أو تطوير أو تحسين. وكما يقال:
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وإذا وضعنا في أنفسنا أننا قادرون على إنتاج أي شيء؛ فهذا في حد ذاته جيد فالقوى العظمى لا تهب فجأة ولا تمشي إلى الواقع أو إلى المنصة بسرعة الصاروخ !
ـ وأعتقد أنه لابد من تغيير الأفكار والرؤى دون مساس بثوابت الشريعة. إذ من الخطأ أن نعتقد: أن رؤيتنا هي الصواب وأنها هي التي يجب أن تكون مشروعاً سرمدياً نلاحق من خلالها الآخرين وننظر من خلالها نظرة انتقائية إقصائية .
ـ ومع تغيير الأفكار والرؤى يتزامن معها تغيير السلوكيات والمعاملات على مستوى الفرد والمؤسسات.
وكما قلت ينبغي أن ننهي معاركنا الداخلية، التي يظنها البعض نوعاً من البناء والمجاهدة والتأصيل ثم نلتفت إلى مشكلاتنا الحقيقية.
دعونا نتفاءل قليلاً ونقول: إن طاقة الأمة في الاستعصاء والمقاومة لا بأس بها. وقدرتها على تجاوز الأزمات الطارئة قائمة بحمد الله؛ لكن مشكلتنا في الأزمات المقيمة المستقرة المنبعثة من داخل الأمة والتي تحتاج معها إلى تغير الرؤى والأفكار والسلوكيات. وتحتاج - أيضاً - إلى ترك النظرة الفردية والرمزية وتحويل ذلك إلى مؤسسات أممية تعنى بالشمول والواقعية.(24/289)
- والاعتدال في معالجة الواقع مهم؛ فتناول السلبيات لا يجب أن يكون من حيث هي سلبيات؛ بل للتأمل فيها: أسباباً وعلاجاً. فالواقع مليء بفرص تدعو للتفاؤل ومعالجة الواقع بروح مرتفعة وعالية.
وكما قيل:
وللهِ أوس قادمون وخزرج
ومشروعنا هو مشروع الإسلام نفسه ندعو إليه غضاً طرياً بلا إفراط ولا تفريط منطلقاً من الواقع الذي نعيشه بإيجابياته وسلبياته مستوعباً لكل شرائحه التي استوعبها في زمنه الأول إيماناً أن الإسلام لكل زمان ومكان على وجه المعمورة.
سؤال:تمر الأمة بأحداث قوية بين الفترة والأخرى..، ومن المعروف سلفا أن التجارب التي تمر بها الأمة يجب أن توظفها في إحيائها من جديد.. ترى كيف يمكن لنا أن نستفيد من هذه الأحداث في بناء الوعي .؟ ماذا يجب علينا أن نفعل؟
جواب:ـ لا يخفى على أحد سقوط دعوى الغرب العريضة التي ادعى فيها: تحقيق الرفاهية للعالم . فالواقع والأحداث يكذب هذا.
وقد قيل :
ودعوى القوي كدعوى السباع … …
من الناب والظفر برهانها
إن الغرب يقتل ويدمر لكنه لا ينسى أن يضع على صدر الجثة لافتة بعنوان: لقد كنا في حالة دفاع عن النفس!!
ولا يخفى - أيضاً - أهداف الغرب التوسّعية التي يستثمرون فيها الأحداث ويوظفونها لصالحهم بجدارة.
أولاً: ديننا يعلمنا كيف نستفيد من كل حدث ونوظفه لخدمة هذا الدين ويعلمنا أيضاً أن الله لا يخلق شراً محضاً وأن النوازل التي تقع على هذه الأمة قد يكون فيها جوانب خير ومصلحة؛ تخفى على قوم وتبَين لآخرين وقد تظهر اليوم أو غداً.
ومن الخير أن تفتح الأحداث أبواباً من المقاومة على مستوى أفضل وعلى التوجه نحو الاهتمامات الفاضلة والمقاصد العليا بدلاً من الاسترسال وراء الجزئيات ومواطن الخلاف .
وقد كانت الآيات تنزل في مناسباتها حرباً وسلماً نصراً وهزيمة حادثة فردية أو جماعية أو أسرية أو شخصية وذلك لتربية المسلمين من خلال الحدث كما حدث في غزوة أحد وفي سورة الحشر مع اليهود.
وفي قوله تعالى: ( إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) تنبيه أن اليسر مع العسر وليس بعده كما يظن البعض!
ومن اليسر أن يعمل كلٌ على شاكلته في أعماله الصالحة وفي أعماله الدنيوية أيضاً وهذا لا يتنافى مع احترام الشعور بالحزن والغضب لما يجري من أحداث وهذه وصفة نبوية " إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة؛ فاستطاع أن يغرسها فليغرسها "؛ فالحياة مستمرة والدعوة قائمة والجهاد مستمر والعلم قائم والناس عاملون هذا في دنياه وهذا في أخراه وهذا في زرعه وهذا في بره وهذا في بحره وهكذا (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)(الإسراء: من الآية84) .
ثانياً : يجب علينا الاستفادة من الأحداث باتجاه بناء الوعي ويجب أن يثمر الحدث وعياً وإدراكاً سليماً وتصوراً جيداً.
ووسائل الإعلام سلاح ذو حدين في تنمية الوعي وفي قتله وتغييبه. وكم من تصورات وخيالات تبنى في العقول لأجل خبر متغير قد لا يكون له مصداقية؛ فالمعلومات الموثقة الكاملة غير المجتزأة مهمة في بناء التصورات.
ثالثاً : يجب - أيضاً - الاستفادة من الحدث في إحياء المفاهيم الشرعية لمفهوم الولاء والبراء الولاء للمسلمين وما يترتب عليه والبراءة من الكافرين وما يترتب عليه. ( إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(الممتحنة: من الآية4).
نحن في الشدائد نحتاج إلى قيم الصبر والحلم والتلاحم والتفاؤل والبِرّ.
رابعاً : يجب الاستفادة من الأحداث بتوظيفها باتجاه الفاعلية الإيجابية ونسأل أنفسنا ما هي واجباتنا؟ وما هو الممكن منها؟ وماذا نستطيع تقديمه من هذا الممكن؟
من الأخطاء أن نتحول إلى منظرين نوزع المسؤوليات والتبعات على الآخرين؛ بل واللائمة على هذا أو ذاك من حكام وأعداء وشيطان وعلماء ومفكرين؛ لكي نخرج أنفسنا من المسؤولية نفسها وكأننا لسنا من هذه الأمة والقرآن يقول: ( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )(آل عمران: من الآية165).
خامساً: الاستفادة من الأحداث في كسر الحواجز بيننا وبين جميع شرائح الأمة؛ فلا يكون تعاملنا مع شريحة واحدة فقط نظن أنها هي الأولى بالخطاب أو المشروع الذي نفرضه.
سادساً: من أفضل أنواع استغلال الأحداث هو التنبه للقضاء على معاركنا الداخلية نزاعاً وخصاماً وتقاطعاً في كل شيء حتى في أبسط المسائل الفروعية الفقهية والتي يبني عليها البعض قناعات يقصي بها الآخرين.
ـ يجب أن نعمم روح الشورى والقضاء على النمطية الفردية ومحورية الرمز في التعامل .
ـ أخيراً يجب أن نعرف أين نحن؟ وعلى من ستدور اللعبة القادمة ؟! ولنحذر أن نكون في شباكها ونحن لا ندري!(24/290)
سؤال:أرى أن الحركات الإسلامية تركز على فتح دورات لأعضائها حول الفقه والنحو .. وما إلى ذلك، وينسون المسائل الإدارية والقيادية والقرآن والحديث والفكر والاستشراق والاقتصاد الإسلامي.. فما رأيك في تشجيع الشباب على تعلم العلوم الاجتماعية بجانب العلوم الشرعية وحفظ كتب التراث؟
جواب:ذكرت أن العالم الإسلامي يملك مقومات تفوقه وإبداعه من: ثروات وعقول مفكرة وسهولة الحصول على التقنيات؛ ومع ذلك نعاني من خلل في الجانب التقني والإداري !! ولذا: من المهم تنمية هذه الجوانب الإدارية والقيادية والاجتماعية وفتح مجالاتها للشباب وتعميق الفهم فيها بالدورات والندوات ففي ذلك خير كثير.
وهناك جفوة لا مبرر لها تستوحش من هذه العلوم إما بسبب عدم الفهم لها أو بسبب ما هي عليه من الخلط!
والإسلام دين جامع تنمو في أحضان دولته كل المصالح والحقائق والعلوم ويكفي أن يكون أول خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
ولعل الأخ السائل يراجع المادة الصوتية المسجلة بعنوان ( القراءة أولاً ).
سؤال:في هذا الوقت وفي الظروف المعاصرة ما الأرجح؟ نظرية صدام الحضارات أم حوار الحضارات..وذلك وفق معطيات الأحداث التي تمر بها الأمة حاليا..؟؟
جواب:صدام الحضارات: هو عنوان الكتاب الذي ألفه المفكر الأمريكي (صموئيل هنتجتون ) وتوقع فيه الصدام الحضاري بين الغرب وقوى أخرى منها الإسلام. وقد ظلت هذه الدراسة محل بحث ومناقشة منذ سنوات عدة ومن الواضح أن هناك مؤيدين للصدام بين الحضارات في كل من الغرب والعالم الإسلامي.
وهناك من يرفع شعار ( صدام المصالح والسياسات ) ويحتج بالحروب التي دارت بين الأوروبيين أنفسهم ودامت قروناً عدة.
وكذلك الحروب التي اندلعت داخل الحضارات (الكونفوشية) كما حدث بين الصين وفيتنام أو بين اليابان وكوريا أو بين فيتنام وكمبوديا أو بين اليابان والصين .
كما أن هناك من يرفع شعار (صدام الجهالات) كما يفعل إدوارد سعيد وقد يكون الأمر في الواقع مزيجاً من ذلك كله.
إن الإدارة الأمريكية على وجه الخصوص تخضع لابتزاز يهودي ولتأثيرات دينية يمينية علماً أن السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي وقضاياه لم تكن يوماً من الأيام إلا نموذجاً للانحياز والظلم والاستعلاء؛ ولهذا فلا غرابة أن تتفاقم مشاعر الكراهية والعداء للأمريكان في الأرض الإسلامية وكيف لا يكرهونها وهم يرون صنع يديها في فلسطين وأفغانستان والعراق ؟!
وأمريكا إذا أمعنت ستفقد الكثير إن خسائر الشركات الأمريكية بسبب المقاطعة تقارب الـ50% !
سؤال:العولمة ... مصطلح رائج في الأوساط الثقافية والإعلامية... هل العولمة حتمية... وضرر ماحق لا مصرف عنه وكيف يمكن أن نفهمها في ظل ثوابت الإسلام ؟كيف نتصدى للعولمة ؟
جواب:إن العالم بدون شك يسير باتجاه إلغاء الحدود والفواصل القائمة بين الأفراد والمجتمعات والثقافات والدول.
والعولمة ليست بالضرورة إلغاء خصوصية شعب بعينه أو أمة بعينها وذاتها الداخلية ولكنها إلغاء للحدود بين الأشياء المحلية وبين الأشياء العالمية .
إن العولمة عبارة عن دخول في منافسة شديدة بين الأمور العالمية وبين القضايا المحلية سواء كانت اقتصاداً أو ثقافة أو إعلاماً أو غير ذلك فهل لدينا القدرة على المنافسة ؟!
الذي يكتب الحل لا يلزم أن يكون هو الذي يملك الحل؛ فكثير من الإسلاميين أو الدعاة والعلماء قد يطرحون حلولاً للعالم الإسلامي تجاه هذه العولمة؛ لكن يبقى السؤال المعلق: من الذي يستطيع أن ينفذ هذه الحلول ؟!
ومن يستطيع أن يقوم بها ؟
ومن يحولها من كتابه على ورق أو تنظير فكري إلى واقع ممكن ولو كان هذا الواقع صغيراً ومتواضعاً ؟!
إن ثمة حلولاً كثيرة والإسلام نفسه له عولمته الخاصة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (ص:87) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح : " بعثت إلى الناس كافّة " ولكي نحول هذا النمط الشرعي وهذا النظام العام الإسلامي إلى حلول واقعية يحمي المسلمين على الأقل وحتى نكون أكثر واقعية يحمي بعض مكاسب المسلمين ويقلل من خسائرهم لذلك يجب :
1 ـ المحافظة على الثوابت الشرعية والأخلاقية لهذه الأمة.
2 ـ بناء التكتلات الاقتصادية سواء تكتلات دول أو شركات ضخمة .
3 ـ الاستفادة من آليات التحديث المعاصرة .
4 ـ الاستجابة للتحديات المستقبلية واستخدام الأساليب الذكية؛ من أجل الاستفادة فإن كل أزمة هي في الوقت نفسه فرصة إذا أحسن الناس استخدامها.
5 ـ توفير مناخ الحريات واحترام حقوق الإنسان وحقوق المرأة ومراعاة المبادئ التي تتلاقى مع الثوابت الشرعية.
6 ـ تحديث أنماط التفكير والنظر التي تحكم الفرد والمجتمع والجماعة في العالم الإسلامي وتربية الناس على الرؤية الصادقة المعتدلة مع إتاحة الفرصة للتعددية في الرأي إذا كانت ضمن إطار الشريعة.
7 ـ إزالة الحدود الخاصة بين الأفراد والجماعات والشعوب الإسلامية .(24/291)
سؤال:ما نعانيه نحن رواد منتديات الشبكة من العلمانيين واليبراليين بل والملحدين أحياناً ومن أبناء جلدتنا ووطننا للأسف كيف نواجههم...؟
جواب:بل كيف السبيل للحوار معهم وهم كثيراً ما يتهكمون ويسخرون منا حتى أن البعض صار يتحرّج من مسمى سلفي أو مذهب السنة والجماعة ... هل نتركهم في افتراءاتهم وكذبهم يعمهون أم نستمر بالرد عليهم في كل شاردة وواردة ..وهي في غالبها أكاذيب وافتراءات..؟
العلمانية ليست بالضرورة: أحزاباً أو أشخاصاً؛ بل هي: نظم وأنماط سلوك واتجاهات تفكير . يعمل الغرب المنتصر على فرضها والتمكين لها .
ولا توجد منطقة دون أخرى تعتبر عصية على العلمانية خاصة إذا كانت تريد حصتها من الاقتصاد وتحاذر العزلة بأي ثمن .
ومن أخص المعارك في العصر الحديث هي معركة الإسلام والعلمانية .
والعلمانية في الأصل تقوم على: تنحية الدين عن السياسة ثم تنحية الدين عن الاقتصاد ثم عن العلم والتقنية ثم عن قيم المجتمع وأخلاقه. بل عن الحياة كلها؛ مفترضة أن هذه التنحية تطلق قوى الإبداع والعقل الحر كما يقولون!!
ـ ونحن نجد أن العلمانية - التي فرضت وجودها في معظم رقعة العالم الإسلامي وكان لها قوة سياسية وإعلامية وسلطوية وثقافية - أنها هي التي مارست طريقة التهميش والفكر الأحادي والنظرة الانتقائية وحجرت على كثير من أصحاب الأطروحات التي لا تتفق معها بحجة الجمود أو التخلف أو الرجعية أو أي شيء آخر. ولذلك أي دعوة انطوت جوانحها على ما سبق فهي تملك مقومات سقوطها وإن ازدهرت إلى حين. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى: لئن كان الغرب طرح مشروع العلمانية في زمن منصرم وأمكن إنجاحه في كثير من البلاد الإسلامية؛ فقد ظلت أكثر المجتمعات الإسلامية - بحمد الله - لا تعترف بالتطبيق العلماني في واقعها ولا يخفى على أحد أن كثيراً ممن طبقوا مشروع العلمانية عند الأزمات وخوف انصراف الناس عنهم يلوحون بنصوص الدين ويرفعون أعلامه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
ولا يخفى على أحد الإشكالات التي تواجهها العلمانية والتي منها:
ـ إخفاقها حينما تتعامل مع الإنسان بوصفه إنساناً.
ـ ومنها أنها تنظر للإنسان أنه جزء من كل هذا الكون ولابد أن يخضع لقوانينه وهذا يعني إلغاء الإنسان فالإنسان في النموذج العلماني يبدأ في المركز وينتهي بالإعدام.
والواقع أن تقوى الله هي مصدر الرزق ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
ومن التقوى إشاعة الفضيلة بين عبادة والأخلاق والحكم بالشريعة وحسن التخطيط وتنسيق الجهود واستثمار الطاقات.
ومن المهم أن ننمي عندنا الوعي بالأخطار المحدقة بنا من كل جانب وضرورة التكتل العلمي وتنظيم الصفوف والتخلي عن معاركنا الوهمية التي لا تثمر إلا نكداً ونشر العلم وتحكيم الشرع على أنفسنا قبل أن نطالب به الآخرين.
سؤال:الشيخ سلمان العودة أحد أهم الذين تبنوا فكر التغيير وترشيد الصحوة، في مواجهة التحديات ..!! هل مازال العودة بقناعاته القديمة أم أن هناك تجارب غيرت من نظرته وطريقته في التغيير خصوصاً بعد فترة تجربة السجن ...؟ هل تغير الشيخ سلمان ؟
جواب:من تأمل الشريعة علم أنها بفضل الله جاءت صالحة لكل زمان ومكان وهذا يمنحنا مزيداً من الوعي والتجديد مع الحفاظ على ثوابت الشريعة وأصولها التي لا جدال فيها ولا مساومة .
وليس من الصوابية أن يجتهد أحدنا فيما يسمح فيه الشرع بالاجتهاد ثم ينزل اجتهاده منزلة الأصول والمرجعية والعصمة الشخصية بينما مجتهدو الزمن الأول المبارك قصارى قولهم عن اجتهادهم: إنه صواب يحتمل الخطأ .
ومن تأمل الأحوال الأممية للدول الكبرى الراسخة وجدها تخضع سياستها وبرامجها للتجديد والتطوير والتغيير بحسب متطلبات الموقف .
والدعوة سبيلها العمل الاجتهادي يجتهد فيها فرد أو جماعة مقابلة لأوضاع متغيرة. ولكل موقف ومرحلة زمنية عبادتها. ألا ترون أن المسلم يدعو في كل صلواته أمام ربه " (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) والمسلم في ميزان الشرع مهتدٍ لكنه يطلب المزيد من هداية العلم والتوفيق فيما اختلف فيه من حوله من السائرين إلى ربهم " اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك " .
ومن المهمات نبذ التعصب والآراء الشخصية والتقليد خاصة تقليد الإنسان لنفسه " إني والله لا أقسم على شيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ".
إن التجارب الدعوية تُحفظ لتطور وتجدد والمراجعة والتصحيح ضرورة لكل عمل .
قال الخليفة الراشد عمر لأبي موسى: ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم بدا لك فيه أن تراجع الحق فإن الحق قديم .
وكما أسلفت: فإنه من الواجب علينا ألا نعتبر تجاربنا ـ خاصة التي هي محل اجتهاد ـ مشروعاً سرمدياً لا يقبل التجديد ولا التغيير على الأقل في طريقة طرحه وتسويقه وليس مضمونه ـ فإن الشيئين اللذين لا يقبلان التجديد ولا التغيير هما الوحيان .
سؤال:هل التغيير عبر الجهاد هو الحل الأمثل خلال الفترة القادمة..؟؟(24/292)
جواب:من يتقن صناعة الحياة فإنه يتقن صناعة الموت وليس محبوباً أن يموت الخيرون ليتركوا الحياة يعبث بها الأشرار! وعمر المسلم لا يزيده إلا خيرا فخيركم من طال عمره وحسن عمله لكن حين يترتب على موت الفرد حياة الجماعة ورفع الذل والمعاناة عن الأمة؛ تكون المصلحة أرجح. وهذه واحدة من مسائل تغليب المصالح على المفاسد لا غير .
أما مفهوم ( الجهاد ) فهو مفهوم حياتي واسع لا يختص بالمواجهة المسلحة مطلقاً .
وفي نصوص الكتاب الكريم نجد :
الجهاد بالقرآن (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52)، وهذا يعني: الدعوة والحجة والبيان والمجادلة بالحسنى .
جهاد النفس ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت:69) ؛ فيدخل في معنى الآية : مجاهدة النفس على الخير والتزكية والإيمان، وكفها عن الشر والشهوة والفتنة.
ومثله قوله تعالى : (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت:6) .
3- الجهاد بالمال، وهذا يعني: صرفه في مصارف الخير المتنوعة . ويشمل ذلك: صرفه للمقاتلين في سبيل الله، وهذا ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم .
4- الجهاد بالنفس، هذا يشمل: الأعمال الصالحة التي يقوم بها المؤمن، كالقتال المشروع في سبيل الله والتعليم والدعوة و غيرها.
ومن المدركات التاريخية المقررة: أن أكبر بلد إسلامي اليوم - من حيث عدد السكان - ( إندونيسيا ) دخلها الإسلام ليس عن طريق الحرب ، بل بالرسالة الأخلاقية .
وبالرغم من انحسار السلطة الإسلامية عن مناطق كثيرة حكمها الإسلام تاريخياً؛ إلا أن أهلها الأصليين ظلوا مسلمين، وحملوا رسالة الحق ودعوا إليها وتحملوا الأذى والتعذيب والظلم في سبيلها؛ كما نجده في:بلاد الشام ومصر والعراق والمغرب والقوقاز، والبلقان وأسبانيا التي أقيمت للمسلمين فيها محاكم التفتيش وهذا يدل على أن تأثير الإسلام فيهم كان أخلاقياً إقناعياً، بخلاف الاستعمار الغربي الذي أخرج بالقوة من البلاد الإسلامية ولا يتذكر الناس عنه إلا المآسي والآلام والقهر والتسلط.
إن من الخطأ الفادح أن يتصور البعض: أن كلمة الجهاد هي رديف لكلمة:( القتال ) أو ( الحرب ) والتي لا تعني إلا جزءاً خاصاً من مفهوم الجهاد .
إن الإسلام تحت اسم الجهاد يدعو إلى حماية المجتمعات من الظلم والتسلط والدكتاتورية التي تصادر الحقوق والحريات، وتلغي نظام العدل والأخلاق وتمنع الناس من سماع الحقيقة أو اعتناقها، أو تضطهدهم في دينهم.
كما أنه تحت الاسم ذاته يسعى إلي الإيمان بالله وعبادته وتوحيده ونشر قيم الخير والفضيلة والأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال سبحانه (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: من الآية125) .
كما يدعو إلى الإصلاح الاجتماعي في مقاومة الجهل والخرافة والفقر والمرض والتفرقة العنصرية .
ومن أهدافه الأساسية: حماية حقوق المستضعفين الخاصة والعامة من تسلط الأقوياء والمتنفذين .
وفي القرآن الكريم : (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75) .
قال الزجاج : أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء المستضعفين ؟
وهذا قول ابن عباس وغيره من أئمة التفسير .
وبهذا يكون من صور الجهاد في الإسلام: مقاومة الظلم ومقارعته ( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا )( النساء: من الآية75 ) فهو يضمن حق الأمم في مدافعة الظالمين المعتدين .
ويحرم الإسلام الظلم حتى للمخالف في الدين؛ كما قال سبحانه: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) (المائدة: من الآية8).
ويقول للمؤمنين في شأن قريش التي منعتهم من دخول المسجد الحرام بمكة:( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)(المائدة: من الآية2) والشنآن هو البغض والعداوة أي: لا تحملكم بغضاء وعداوة شعب أو أمة على أن تعتدوا عليهم أو تظلموهم وتصادروا حقوقهم .
وفي الحديث عن أنس - رضي الله عنه- عن صلى الله عليه وسلم (اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافراً فإنه ليس دونها حجاب ) رواه الإمام أحمد في مسنده وهو حديث صحيح الإسناد.
كما أن من صور الجهاد مقاومة الدكتاتوريات التي تريد المحافظة على الخرافة والجهل، وعدم إعطاء مساحة لقيم الإيمان بالله، والأخلاق في الحركة الاجتماعية .
الإسلام والقتال :(24/293)
وفي موضوع القتال يمكن أن نرسم بعض الحقائق المهمة في التصور الإسلامي، ومن بينها ما سبق: أن الجهاد وإن كان أوسع من مفهوم القتال، فإنه يبقى من الوضوح أن نقول: إن الإسلام يعترف بالقتال حين يكون خياراً لمعالجة المشكلات أو مواجهة الظلم والعدوان والدفاع عن الحريات والحقوق الخاصة، وحين نؤكد اعتراف الإسلام بالقتال والدفاع والحرب فهذا جزء من منظومة القيم في الإسلام كما نفهمها ويمكن لكل منصف أن يدرك معقولية مثل هذا القرار في الإسلام .
لقد دخل المسلمون في تاريخهم الطويل في معارك وحروب تحت هذا المبدأ .
ومع أننا ندرك تماماً أنه: ليس ضرورياً أن ما يصنعه مجموعة من المسلمين فهو إملاء إسلامي شرعي في نظر الآخرين، وأن التاريخ الإسلامي ليس دائماً سجلاً للفضائل المحضة، ولكن دعونا نتذكر:
كم قتل المسلمون من المدنيين في القرن المنصرم ؟!
وكم قتلت الشيوعية ؟!
وكم قتلت المجموعات والدول الغربية ؟!
ومن الذي أشعل أكبر حربين عالميتين خلال نصف قرن، وجرّ إليها القريب والبعيد ؟!
إن العالم يتذكر بمرارة ضرب المدنيين بالأسلحة النووية في هيروشيما وناجازاكي، ويتذكر المجازر الدموية في البوسنة والهرسك والتباطؤ الدولي عن إيقاف نزيف الدماء هناك ولقد قتل في إندونيسيا - عام 1965م في إثر انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة - مئات الألوف غالبهم من الفلاحين ولم تُخف الصحافة الوطنية في الولايات المتحدة اغتباطها بما يحدث كما قتل مئات الآلاف في العراق من الأطفال في ظل الحصار الدولي منذ عام 1991م.
ويشاهد العالم بعينيه ما تفعله القوة الغاشمة الإسرائيلية - المدعومة من الولايات المتحدة - بالعزّل في فلسطين الذين تحتل ديارهم وتعامل حتى مواطنيها منهم معاملة عنصرية سافرة.
وإذا كان هؤلاء - الذين رسموا في العصر الحديث مذابح جماعية - يشعرون بمبررات في داخلهم؛ فهذا يدل على عمق المشكلة الأخلاقية التي تواجه العالم.
إن الإسلام حين يدعو لاعتماد خيار القتال؛ فهذا يأتي ضمن نظام يتّسم بالدقة والعدالة، وإعطاء فرصة للسلام فهناك مجموعة من الشروط ترسم نظام القتال الذي يشرعه الإسلام للمسلمين وهو هنا إحدى صور الجهاد؛ لكن من الواضح أنه ليس عدوانياً على أحد بل يقوم لحماية الحقوق ونصر المستضعفين ومحاربة الظلم والتعسف ونشر قيم العدل أمام رفض مجموعات الدكتاتورية الانفتاح على الآخرين والسماح للفرد في المجتمع باختيار القيم الفاضلة .
وفي هذه الدائرة يمكن أن نفهم صورة القتال في الإسلام كنظام لنشر وحماية الحريات المدنية والحقوق. والمسلمون حين يشاركون في هذا القتال؛ فإنهم يتمتعون بعلاقة روحية في داخلهم تجعلهم الأكثر كفاءة من الناحية المعنوية .
وإذا كان المثل يقول: إن الأخلاق تُعرف حال القوة والقدرة - وهذا في نظرنا صحيح - فإن الإسلام حال قوته ونفوذه كان يرسم قيماً أخلاقية عالية حتى مع الذين يضطر إلى محاربتهم.
وفي أمثلة سريعة يرد أبو عبيدة إلى أهل حمص المال الذي أخذه منهم مقابل الحماية؛ خشية ألا يقدر على حمايتهم، وهو يقوم بها في الوقت ذاته.
ويأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتشكيل محكمة ميدانية للنظر في دعوى أهل سمرقند بعدم صحة إجراءات الحرب، فتأمر المحكمة الجيش الإسلامي بالانسحاب الفوري، وهكذا كان ينسحب الجيش وسط دهشة أهل المدينة وذهولهم.
وهذه الحرب العادلة محكومة وفق الشريعة الإسلامية بالنظام الأخلاقي الذي لا يسمح بالتجاوز حتى نجد في وصية الخليفة الأول الصديق - رضي الله عنه- ليزيد: لا تقتل امرأة ولا صبياً ولا هرماً .
وكذلك كان عمر - رضي الله عنه - يوصي جيشه ويقول: لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً هِمَّاً، يعني: كبيراً .
وكان أبو بكر يوصي بعدم قتل الرهبان في الصوامع .
وقال عمر: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب. وهذا باب تطول قراءته ويعرف في مواضعه من كتب الفقه الإسلامي.
لقد كان لفقدان المسؤولية في تصنيف الإرهاب أثر في رفع روح التوتر ضد الولايات المتحدة ليس بين المسلمين فحسب بل حتى لدى شعوب أخرى في العالم ..
قد يبدو للأقوياء أن من السهل والمناسب إسقاط المشكلات على الضعفاء تحت مجموعة من الذرائع وهذا ما نقرؤه في اتجاه بعض الدوائر في الغرب في جعل الطرف الرئيس في مشكلة الإرهاب المسلمين وليس غيرهم .
الدين في مفهوم المسلمين :
يبقى مفهوم الدين واضحاً في عقل المسلم البسيط أنه: عبارة عن عبادة الله وتحقيق قيم الخير والعدل التي شرعها الإسلام؛ لإقامة حياة أفضل في الدنيا، وسعادة أبدية في الآخرة.
إن الدين لم يكن يوماً ما مشكلة عند المسلمين؛ لأنه مفهوم واسع يمكن أن يستوعب في رسالة الإسلام كل شؤون الحياة، ويمثل الإسلام في هذا المقام انفتاحاً واسعاً لصناعة نظام أخلاقي يمكن أن يعيش تحته الآخرون في أمن واستقرار.(24/294)
الدين في الإسلام ليس قضية شخصية أو مجرد رمزية في دائرة محدودة من دوائر الحياة بل يعني: صناعة الحياة ليس للمسلمين فقط بل لكل من يكون مستعداً للسلام والعدل واحترام الحقوق، ويمكن أن نقول ببساطة إنه يعني: البحث عن السعادة والأمن والتكامل الأخلاقي.
وتحت هذا المفهوم يبقى أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى العلمانية لسبب بسيط: أنه لا توجد مشكلة لهم مع الدين. إن الفرد في الغرب قد يفهم الدين في دائرة معينة تتعلق بالجانب التعبدي المحض بين الإنسان وبين الله؛ بينما هو في الإسلام معنى شمولي ينظم سير الحياة كلها وفق قواعد عامة وأصول مرنة، تكفل إمكانية الإفادة من الجديد في العلوم والتقنيات والتسهيلات المادية وغيرها، وتحافظ في الوقت ذاته على تميز المسلم وأنموذجه الثقافي الخاص .
نتصور أن من مشاكلنا مع الغرب: أنهم لا يفهموننا كما يجب وكما هي الحقيقة.
ومن المؤسف أن تكون مجموعات من الأسوياء في العالم تقع تحت تصوير ساذج يفتقد الأمانة في رسم هوية المسلم أو تحديد مفهوم الدين عند المسلمين .
إن من أسس الدين في الإسلام: أنه يعطي مساحة لفهم الذات واحترام المبادئ والحريات الخاصة، كما يرفض الإسلام محاولة تحويل الدين إلى أداة لتبرير الأخطاء أو صناعة العدوان .
وربما كانت مشكلة فهم كلمة ( دين ) وكلمة ( جهاد ) والربط بينهما من إشكاليات الفهم لدى بعض الغربيين.
وإذا تحقق فهم الدين بهذا المعنى الواسع وفهم الجهاد بذاك المعنى الواسع أيضاً؛ زال كثير من الالتباس في الباب.
وهكذا تحدث الانتقائية - أحياناً - في التقاط جزئية خاصة ومعالجتها كما لو كانت هي الإسلام فقط مع عزلها عن المنظومة الثقافية التي تنتمي إليها. يحدث هذا في المجال السياسي والاجتماعي والثقافي على السواء.
نلاحظ أحياناً أن بعض الدوائر في الغرب تجامل في إعلان احترام الإسلام كديانة؛ لكن لا نجد مساحة لهذا الإعلان في التعامل مع المسلمين، وكأن بعض هذه الدوائر تريد أن تفهم الإسلام كما يحلو لها !
هناك فرق بسيط هو: أن المسلم العادي يشعر أن الإسلام نظام شامل للحياة، والفرد في المسيحية لا يجد هذا الشعور بل يبقي الدين دائرة ضيقة في نظر المسيحيين، وهنا قد لا يستوعب الفرد في الغرب العلاقة عند المسلمين بين الدين والدافع الذي يحرك الإنسان في أي اتجاه في الحياة .
إن الدين يبقى في نفوس المسلمين الملاذ الآمن والأكثر فعالية لمقاومة كل أشكال التحديات .
وهنا! يمكن أن نقول للعالم كله: إن تصعيد التحدي ضد المسلمين- من قبل أي قوة في العالم - سيجعل من الصعب في الأخير أن تتمتع هذه القوة بالهدوء والاستقرار؛ لأن المسلم العادي يمكن أن يستوعب المحرك الديني في داخله لمقاومة العدوان ومن المؤكد أن هذا المحرك سيجعل من الفرد أكثر مرارة، وسيكون أكثر فعالية في صناعة الأفراد من كل أنظمة التدريب النظامية، وفي الوقت نفسه فإن المحرك الديني سيجعل من الفرد العادي في الإسلام أنموذجاً لصناعة الخير والسلام واحترام الحقوق والحريات في ظل نظام العدالة.
والمسلمون يعلمون جميعاً أن نبيهممحمدا صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة أي: القتال. والأصل في دعوته ورسالته الرحمة لكنه يتحول إلى القتال حين تقف بعض القوى في صف رفض الرحمة والأخلاق وحرمان الآخرين منها أو محاولة سلب الحقوق ومصادرة الحريات الخاصة؛ فإن الإسلام يمكن أن يعبئ في أقل من أربع وعشرين ساعة الملايين من المسلمين المستعدين للتضحية في سبيل الدفاع عن الإسلام دون أي علاقة اتصال تجري بين هؤلاء، واليوم نعلم- ونحن على ثقة في قراءتنا للعقل المسلم العادي - أن عشرات الملايين من المسلمين سيبدون استعداداً للدفاع عن فلسطين والمسجد الأقصى لو افترضنا وضع استفتاء في العالم الإسلامي، وهذه النتيجة التي نعلمها ستكون تجاوباً عفوياً مع حالة الظلم الممارسة في الأرض الفلسطينية، وهذا أحد مبادئ الإسلام التي رسمها في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض مهما كان قدر الفوارق السياسية والاجتماعية والعرقية التي يمكن أن تختصر وتمحى بشكل مفاجئ أمام حركة الدين الروحية التي تضمن التجاوب بين المسلمين .
وحين نتحدث عن هويتنا الخاصة؛ فإن الدين يعد في الأساس عند المسلمين قيمة روحية عالية ونرى أن تعلقهم به هو الأقوى مقارنة بغيرهم لأسباب تتعلق بالإسلام ذاته، ومن السذاجة التفكير في تجريد المسلمين منها، وهذه القيمة تتجه في الأساس إلى السلام لكن يمكن أن تكون قوة مضادة لكل محاولات التعدي التي تواجه المسلمين أو مجموعات منهم .
إن المسلم الذي لا يُعطى مساحة كافية للتدين؛ معرض لردة الفعل القوية ضد من يشعر بعداوتهم له أكثر من المسلم المستقر في سلوكه أو المنتمي إلى مدرسة إسلامية أو معهد شرعي ولهذا فمن الطيش توجيه الاتهام إلى المدارس الإسلامية أو المناهج الشرعية في العالم الإسلامي وأقل ما يقال: إن العلم الشرعي يضبط العداوة وينظمها ويحافظ على أخلاقيتها وهدوئها.(24/295)
سؤال:قال لي شخص غير مسلم ذات مرة بأن البحث عن الحقيقة هو أهم ما يجب على الشخص فعله في حياته فافترض كوني غير مسلم - لا سمح الله - ولم يكن لدي أي اتصال بالمسلمين فهل يمكن لي أن أسلم في حالة وقوعي في أحد الديانات الأخرى؟ ..نقطة النقاش كانت تدور حول التلقين الذي يوجد في جميع المجتمعات مما يجعل الإسلام " دين آبائنا الأولين " أكثر من كونه الحقيقة التي يجب علينا إيجادها؟ إني أجد الحيرة في الرد على مثل هذا السؤال!؟؟
جواب:لو افترض أن إنساناً نشأ في بيئة إسلامية ووجد نفسه مسلماً ؛ فهو من فضل الله عليه. ولو نشأ في بيئة كافرة لم يصلها الإسلام ووجد نفسه كافراً فهذا من عدله سبحانه وتعالى فهو الحكم العدل: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الأنبياء:23) فكون الإنسان نشأ على الكفر ولم تبلغه شرائع الإسلام هذا عدل محض من خالقه سبحانه وتعالى إذ هو عالم بما كان عليه .
لكن اختلف أهل العلم في مآل ومصير هؤلاء في الآخرة وذكروا فيهم أقوالاً .
وممن فصل في هذه المسألة ابن القيم في ( أحكام أهل الذمة ) وإن كان بحثه في الأصل في أولاد المشركين . وقد ذكر - رحمه الله - في المسألة عشرة أقوال. آخرها : أنهم يمتحنون في الآخرة، ويرسل الله تعالى إليهم رسولاً، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار .
وهذا قول جميع أهل السنة والحديث، حكاه الأشعري عنهم في كتاب الإبانة؛ وذكره ابن فورك؛ وأبو قاسم ابن عساكر في تصانيفه؛ وحكاه محمد بن نصر المروزي في الرد على ابن قتيبة، وذكر حججه .. وقد سردها الإمام ابن القيم؛ ومال إلى تقويتها، وعززها بنحوٍ من عشرين وجهاً، قال في الوجه الثامن عشر، بعد كلامٍ: هؤلاء لا يحكم لهم بكفر ولا إيمان؛ فإن الكفر هو جحود ما جاء به الرسول، فشرط تحققه بلوغ الرسالة، والإيمان هو تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وهذا أيضاً مشروط ببلوغ الرسالة، ولا يلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر إلا بعد قيام سببه ، فلما لم يكن هؤلاء في الدنيا كفاراً ولا مؤمنين، كان لهم في الآخرة حكم آخر غير حكم الفريقين 0
فإن قيل: فأنتم تحكمون لهم في الدنيا بأحكام الكفار، من التوارث، والولاية، والمناكحة، قيل: إنما نحكم لهم بذلك في أحكام الدنيا، لا في الثواب والعقاب 0
ثم قال: الوجه الثاني: سلّمنا أنهم كفار، لكن انتفاء العذاب عنهم لانتفاء شرطه، وهو قيام الحجة عليهم، فإن الله تعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة .. إلى آخر كلامه رحمه الله 0
أما معنى قيام الحجة، فهو أن تبلغه رسالة الإسلام كما أنزلها الله، باللغة التي يفهمها، ويدرك معناها، ولا معنى لبلوغ حجة لم يفهمها، فإن ما لا يفهم لا ينتفع به، كما لو تكلم بلغةٍ غير لغته، أو تكلم مع ضعيف الفهم قليل الإدراك بلغةٍ راقيةٍ لا يستوعبها، أو لم يحسن عرض حجته، والله تعالى أعلم بالصواب .
ولو استعرضنا خارطة الأديان الوضعية والسماوية المحرفة كلها من: يهودية ونصرانية وهندوسية إلى غير ذلك واستعرضنا ما فيها من عقائد وقناعات وأصول وثوابت - لذي عقل وفطره سليمة؛ لحكم بأن الإسلام من بينها هو المنفرد بمخاطبة العقل والوجدان في آن واحد فلا توجد فيه إشكالات الأديان الأخرى التي يطول الكلام عليها وتقرأ في مظانها من كتب المِلل والنحل وسيجد أن الإسلام لا تناقض فيه ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء: من الآية82) .
ويا ليتنا بدلاً من الجدل المحتدم حول دقائق بعض المسائل نجتهد في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وتشجيعهم على اكتشاف الحق الذي جاء به، ورفع الشبهات والأباطيل التي ألصقها به الشانئون المغرضون، والجهالات التي ألحقها به الضالون والمبتدعون، حتى يجلى لهم دين الله تعالى واضحاً كالشمس ليس دونها سحاب، إذاً لا نجفلوا إليه مسرعين، وأقبلوا نحوه مهطعين، وتشربوا هدايته تشرب الظمآن للماء البارد ....
فكم من أسيرٍ رمته الحياة … …
رأى أنها قيده فانتحر
يريد السعادة في موته … …
ولم يدر ماذا وراء القدر
علينا إذاً إخوتي ذنبهم … …
سنسأل عنهم .. فهل نعتذر ؟
إن الإسلام اليوم محجوب بمساوئ أهله. وشعوبه صارت أمثولة يتسلى بها الإعلام في كل مكان، فإن أرادوا التمثيل على قلة الاهتمام، أو التبذير، أو الدموية، أو الشهوانية، أو التخلف، فأقرب وسيلة لذلك السحنة العربية الإسلامية، واللباس العربي، واللسان العربي 0
إن الإعلام الغربي - ربما - لا يبالغ أكثر وأكثر في هذه الصورة حتى لا يسبب الفزع أو القلق للأطفال، أو لعله يعرض ذلك في الأوقات التي ينصرفون فيها عن التلفاز0
فنسأل الله أن يعيد المسلمين إلى دينهم الحق، وأن يرزقهم صدق الاستمساك به، وأن يجعلهم لسان صدقٍ يعبر عنه، وأن يلهمهم تحقيقه في واقع حياتهم الفردية والاجتماعية، حتى يكون ذلك خير ردٍ على الصورة القاتمة التي يتلقاها الناس عنهم في كل مكان، والله المستعان
أهداف الحملة الأمريكية(24/296)
سؤال:لا تخفى عليكم الحملة الأمريكية الشعواء الآن على العراق وأنها لا تستهدفها فقط بل تستهدف المنطقة بأسرها. فهل توضحون لنا أهدافها الحقيقية وواجب المسلمين تجاه هذه الحملة وذلك لأن الأمة وشباب الصحوة خاصة يعيشون حالة من فقدان الوزن تجاه الموقف المفترض في اتخاذه ... وفقنا الله وإياكم .
جواب:الحمد لله ...
في اعتقادي ـ والله أعلم ـ أن الحملة العسكرية الداعمة للحملة السياسية ذات أهداف متعددة ولا شك أن أهم أهداف هذه الحملة هي:
1- إسقاط الحكم في العراق وإقامة حكومة بديلة عميلة .
2- السيطرة على منابع النفط لدعم الاقتصاد الأمريكي وتأمين مستقبله.
3- إقامة نموذج للدولة التي يريدونها في المنطقة لتكون قدوة لجيرانها :
أ- دولة مرفهة ( نسبيا ) .
ب- الحريات متاحة، خصوصاً التحرر من القيم والفضيلة، مع قدر من الحرية السياسية التي لا تخرج عن إطار المصالح الأمريكية .
جـ - النفوذ الاستخباراتي الذي يمكن من خلاله أن تكون دولة العرب والمسلمين في نطاق معلوماتها وتحرياتها.
4- حماية أمن إسرائيل ومصالحها وضمان سيطرتها وتفوقها وإقامة مشروع السلام وفق المعايير الشارونية المتطرفة.
5- تدشين ما يسمى بـ ( القرن الأمريكي الجديد ) الذي يشكل امتداداً لعصور الاستعمار بشكل أو بآخر ويكفي أنه يحكم العراق حاكم أمريكي ليكودي !
6- ممارسة نفوذ وضغط فاعل على دول الجوار خاصة في مجال ( التعليم ) و ( المرأة) و ( الإصلاح السياسي ) و ( الإصلاح الاقتصادي ) و ( حقوق الأقليات ) و ( الحرية الدينية )، كما في مصطلحات القوم وربما تشهد دول الخليج كالكويت وقطر والسعودية مزيداً من الضغوط لتغيرات هائلة خصوصاً بعد الحرب ومن ذلك تشريع حقوق المرأة السياسية في الترشيح والانتخاب والممارسة الاجتماعية ... الخ .
7- القرب من المنطقة يتيح لهم رعاية التغيير الذي قد يتم بشكل تلقائي .
8- ومن المهم جداً أن تتم هذه الأهداف دون تضحيات كبيرة، ويقوم بتقديم التضحيات الأطراف المحلية ( العميلة) أو ( الغبية ) .
التوصيات :
1- التوبة والرجوع إلى الله .
2- تحقيق معاني الأخوة الشرعية بصدق .
3- التسامح وإحسان الظن .
4- عدم السماح بالتناقضات الموجودة داخل المجتمع أن تطل برأسها مهما كان نوعها .
5- تقديم الأولويات، وعدم خلط الأمور .
6- مطالبة الدول بتحكيم الشريعة ونشر العدل بين الناس .
7- مطالبة الدول بالتجنيد الإجباري .
8- إقامة المؤسسات الإصلاحية الجادة التي تساهم في بناء المجتمع، وتوظف جهود الشباب في عمل خير فعال .
9- تفهم الظروف والوعي الحاذق بها مما يمهد الوصول إلى حالة ( التوازن ) التي تمنع من الاستسلام للضغوط، وتمنع من أن تتحول الضغوط إلى سبب للصدام بين أطراف المجتمع، وكلا الأمرين مفيد للخصم.
10 ـ وإن كان لي من نصيحة أزجيها لأحبتي من شباب الإسلام ممن يعلم أنني والله أحمل لهم خاصة وللمسلمين عامة الحب والإشفاق والرحمة والصدق والله حسيب الجميع فهو: التحذير بعد التحذير على حرمة الدماء وألا ننقل المعركة إلى أرضنا الإسلامية ولا نستحل دماء إخواننا المسلمين فهذا الباب لا يقبل فيه عذر ولا تأويل بعد وعيد الله ورسوله بنار جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً لمن قتل مؤمناً متعمداً وبعد قول صلى الله عليه وسلم في الحديث:( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ) ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) ، وعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ) وعند أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال المؤمن معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً فإذا أصاب دماً حراماً بلّح ) وعنه - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو مؤمن قتل مؤمناً متعمداً ) وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) قال خالد بن دهقان سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله : اعتبط بقتله قال : الذين يقاتلون في الفتنة ؛ فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله . يعني: من ذلك . قال أبو داود : فاعتبط يصب دمه صباً.
لا عذر أبداً لا عذر أبداً لا عذر أبداً بل الحرج والإثم وخسار الدنيا والآخرة لمن باء بقتل مسلم كائناً من كان.
ووالله لا يفلح من كان سبباً في قتل مسلم تحت أي تأويل أو شعار فالمسألة محكمة واضحة جلية ويعلم ربنا سبحانه أن الحامل على مثل هذا التأكيد هو استشعار شيء من المسؤولية والتخوف على حاضر هذه الأمة ومستقبلها وعلى أهل ملتنا وديننا .(24/297)
فالله الله أيها الأحبة! في الانضباط وعدم الانجرار إلى معارك يخسر فيها الجميع ألا هل بلغت اللهم فاشهد!
وهذا يصدق على حرمة دم المسلم في العراق أو في الكويت أو في السعودية أو في اليمن أو في أي زمان أو مكان فاللهم احفظ دماء المسلمين وأديانهم وحقق وحدتهم واهد قلوبهم.
سؤال:هل تعتبر المقاطعة بعد مضي هذه الفترة من تجربتها حلا ذا جدوى، وهل تتوقعون نجاحها..؟؟ وما مدى فاعليتها في التحدي الراهن..؟؟
جواب:سلاح المقاطعة الاقتصادية من أهم الأسلحة الفعالة خصوصا في العصر الحديث، حيث تتعاظم قيمة الاقتصاد.
ولذلك نلحظ أن ا لولايات المتحدة استماتت في تدمير المقاطعة العربية والإسلامية للبضائع اليهودية، وللشركات المتعاملة مع اليهود.
وبالفعل فقد تهتكت المقاطعة شيئاً ما، وصارت في بعض المناطق أثراً بعد عين، بسبب أن منظمة التجارة العالمية عملت على محو الحدود بين الدول، وفي هذا الإطار تأتي إزالة الحدود الجمركية، ورفع الدعم عن السلع المحلية.
لكن الشيء الذي يمكن أن يحدث هو المقاطعة الشعبية، بمعنى أن ترتفع وتيرة الوعي لدى الشعوب الإسلامية، بحيث يختار المشتري البضائع والسلع العربية والإسلامية، أو حتى أية بضاعة أخرى غير إسرائيلية ولا أمريكية.
إنه لا أحد يستطيع أن يجبر المواطن العادي على شراء سلعة بعينها، غير أنه من الناحية الواقعية لكي يكون هناك مقاطعة حقيقية وليس شعاراً يرفع لمجرد الاستهلاك، فلا بد من توفر الأسباب التالية :
أ - الوعي الشعبي الشامل، بحيث لا تكون هذه أفكار شريحة خاصة، أو نخبة معينة، ويكون الناس بمعزل عنها، هذه مسؤوليات يتحملها الإنسان العادي، وما لم يكن لديه الوعي والإدراك والقناعة، فلن يكون ثمة مقاطعة.
ب - وجود مؤسسة متخصصة لهذا الغرض، تتولى التذكير الدائم بهذا الموضوع، وتقدم للناس قوائم مستمرة بالسلع المطلوب مقاطعتها، والبدائل التي تقوم مقامها، وتتولى إقناع المشترين بالمميزات الموجودة في السلعة البديلة، وتربط ذلك بالهدف الكبير المتعلق برفع الدعم الشرائي عن السلع الأمريكية واليهودية .
جـ - المرحلية إذ إن الاستغناء عن جميع تلك السلع يعتبر أمراً غير واقعي بالنظر إلى جماهير الناس، وسرعة ركون الناس إلى الرخاء والرفاهية، وعدم جدية الدعوة إلى المقاطعة؛ لذا يمكن ترتيب المقاطعة في مرحليات، على سبيل المثال :
المرحلة الأولى: مقاطعة السلع والبضائع الإسرائيلية، خصوصا في الدول التي تتعامل اقتصادياً مع إسرائيل.
المرحلة الثانية: مقاطعة الشركات التي تتعاون وتدعم الكيان اليهودي، أيا كانت جنسيتها.
المرحلة الثالثة: مقاطعة الشركات الأمريكية المتعاطفة مع اليهود خصوصا الشركات الكبرى والشركات التي يوجد لها بدائل جدية، كشركات السيارات، وشركات الملابس والأغذية الأثاث ولي مقالة بعنوان " المقاومة السلبية هل تنجح " نرسلها إليكم.
سؤال:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
فضيلة الشيخ حفظك الله سؤالي هو: ما موقفنا تجاه الفتن الموجودة وما يحاك للإسلام والمسلمين..؟؟ على مستوى الأفراد والأسر ..؟؟
جواب:الواجب على المسلم في الفتنة إذا وقعت أن يدرأ عن نفسه ما استطاع .
والفتن إما أن يُعلم وجه الصواب فيها وإما أن تكون فتنة عمياء لا طاعة فيها ولا رجوع إلى رأي رشيد.
والأُولى يدرأ المسلم عن نفسه ويدعو إلى الحق ويعتصم بالكتاب والسنة .
والثانية هي التي يعتزل فيها المسلم وهي التي لا يدري وجه الصواب فيها.
والفتنة تتشابه وتتلاحق ويخفى كثير من خصائها وينبغي على المسلم التروي وعدم التسرع في إطلاق الإحكام والسماع لكل أحد .
وينبغي الرجوع إلى أهل العلم الثقات ) وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم)(النساء: من الآية83)
- عدم الانخداع بالخائضين في الفتنة )وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36) .
- أن يشغل المسلم نفسه بالأعمال الصالحة النافعة .
- أن يعلم المسلم أن النصر لأوليائه وتأخير النصر هو من حكم الله عز وجل في خلقه.
عدم الخوض في أعراض العلماء والطعن فيهم واستغلال المواقف للنيل منهم .
الدعاء والابتهال إلى الله عز وجل في كل حين أن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الإقبال على العبادة والشأن الخاص ( العبادة في الهرج كهجرة إلي ) وعليك بخاصة نفسك وأهل بيتك ومن يلزمك .
وفي خضم التحديات المعاصرة وتكاثر الفتن .. بدأت الأمة تنظر إلى المستقبل من زاوية أحاديث الفتن والملاحم وخروج المهدي والسفياني وقراءة أحداث العصر وفق الأحاديث الكثيرة في الفتن والملاحم وربطها بها!!
وكذلك كثر تأويل الأحلام والرؤى بشكل ملفت للنظر...!!بما يخدم القضية والواقع
ما جدوى مثل هذه الأعمال التي تلبس لباس العلمية والفقه في الدين ... وما توجيهك حيالها..؟؟
((وهل صحيح أن المهدي لا يوجد دليل ثابت لظهوره ...؟؟ ))(24/298)
ورد في شأن المهدي أحاديث، ربما تزيد على مائة، ما بين موضوع ، وضعيف، وحسن. وربما يكون فيها الصحيح، وهو قليل جداً .
منها : حديث علي بن أبي طالب ، مرفوعاً ( المهدي مِنّا - أهلَ البيت - يصلحه الله في ليلة ) رواه أحمد، وابن ماجه، وحسّنه بعضهم لكن سنده ضعيف .
وأحاديث أبي سعيد الخدري، جاء عنه ثلاثة أحاديث في هذا الباب ، خرَّجها الحاكم، وخرَّج بعضها أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وغيرهم .
منها حديث: "يخرج في آخر أمتي المهدي"؛ وهو عند الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، وفي سنده اختلاف.
ومنها حديث: "المهدي منّي أجلى الجبهة، أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يملك سبع سنين " رواه أبو داود.
ومنها حديث: ( الرايات السود ) عن ثوبان - رضي الله عنه - مرفوعًا "إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان فأْتوها ولو حبواً، فإن فيها خليفةَ الله المهدي"؛ رواه الحاكم وأحمد وهذا الحديث جاء من طرق كلها ضعيفة، ولا يصح فيه شيء، وإن كان بعضهم تسامح، وصححه بمجموع طرقه، وقد تمسك بهذا الحديث أقوامٌ في دعوى أن المهدي من ولد العباس، وأن الدولة العباسية كان فيها المهدي، وكان هناك من تسمَّى بهذا من خلفائهم ؛ ولذلك قال ابن حزم - وهو أُمويُّ الهوى-:
ومذ لاحت الراياتُ سوداً تبينت … …
جموع الهدى أن لا سبيل إلى الرشد
وكانت رايات بني العباس سوداً، وليس ببعيد أن يكون هذا الحديث الضعيف قد وضع بِرُمّته؛ أو حُرِّفَ لفظه بسبب التعصب لدولة بني العباس.
وحديث أم سلمة - رضي الله عنها - (المهدي من عترتي ، من ولد فاطمة) رواه أبو داود (4284)، وابن ماجه (4086)، وسنده ضعيف، ورجَّح المنذري أنه من كلام سعيد بن المسيَّب .
وهناك أحاديث كثيرة ثابتة في جملتها، وإن كان غالبها لا يصل إلى درجة الصحيح، بل ربما لا يصل إلى درجة الصحيح منها إلا حديث واحد، والحسن فيها قليل - أيضاًَ-، وغالبها ضعيف .
وقد كتب كثير من العلماء في موضوع المهدي، منهم نعيم بن حماد في كتاب: ( الفتن ) ونعيم - وإن كان إماماً في السنة - إلا أنه كثير الوهم، وقد ذكر هذا الدارقطني، والذهبي، وابن حجر، بل قال مسلمة بن القاسم: له أحاديث منكرة في الملاحم، تفرَّد بها .
وصنَّف أبو نعيم الأصفهاني كتاباً في المهدي، ويوسف بن يحيى السلمي كتابا مطبوعاً اسمه : " عقد الدرر " وصنف ابن كثير، والسيوطي، والسخاوي، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم، وخلق من المعاصرين في هذا.
وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة : أن المشهور بين الكافة من المسلمين إثبات المهدي، وهذا لا شك أنه هو الصحيح؛ فإن جماهير أهل العلم والأئمة قالوا بثبوت أحاديث المهدي، من حيث الجملة، وإن كان غالب الأحاديث فيها لا يخلو من مقال، وهناك من نصَّ على تواتر هذه الأحاديث - أيضاً-، خصوصاًَ من المتأخرين، كما أن هناك من نُقل عنه إنكار أحاديث المهدي كلها .
فقد نقل عن مجاهد إنكار هذا، وادعاء أن المهدي هو المسيح ابن مريم, وجاء في هذا حديث ( لا المهدي إلا عيسى ابن مريم) عند ابن ماجه، والحاكم وهو ضعيف، وكذلك نقل عن الحسن البصري، كما أن ابن خلدون ممن أنكر هذا ونفاه.
وأما من المتأخرين، فالشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود, ومحمد محي الدين عبد الحميد وغيرهم.
وخلاصة ما مضى: أنه جاء في السنة أحاديث كثيرة جداً، مترددة ما بين الموضوع والضعيف، والحسن، ويقلُّ فيها الصحيح، وأن الإيمان بخروج المهدي وظهوره أمر ثابت في الجملة .
وأهل السنة يؤمنون برجل من آل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرج في آخر الزمان خروجاً طبعياً، يولد كما يولد غيره، ويعيش كما يعيش غيره، وربما يقع منه الخطأ، ويحتاج إلى إصلاحٍ مثل غيره من الناس، ثم يكتب الله على يديه خيراً كثيراً، وبرًّا، وصلاحاً للأمة، وعدلاً، ويجمع الله به شمل المسلمين.
ليس هناك أكثر من هذا؛ كما هو وارد في الأحاديث .
ولم يرد في أيِّ نص من النصوص أننا متعبدون بانتظاره، أو ترقُبه، بل لا ينبغي لأي مسلم أن يقبل مثل هذا الادعاء بمجرد الاشتباه؛ حتى تقوم الأدلة الكافية فإن المدعين كثير، منذ فجر التاريخ.
والمسلم مطالب بالتثبت، والتحري، والأناة، وألا يستعجل الأمور بمجرد الرغبة أو الهوى النفسي.
ولا يتوقف على خروجه أي شعيرة شرعية نقول إنها غائبة حتى يأتي الإمام المهدي، فلا صلاة الجمعة ، ولا الجماعة ، ولا الجهاد ، ولا تطبيق الحدود ، ولا الأحكام ، ولا شيء من ذلك مرهون بوجوده ؛ بل المسلمون يعيشون حياتهم ، ويمارسون عباداتهم ، وأعمالهم ، ويجاهدون ، ويصلحون ، ويتعلمون ، ويُعلِّمون ، فإذا وُجد هذا الإنسان الصالح ، وظهرت أدلته القطعية - التي لا لَبْس فيها - اتّبعوه . وعلى هذا درج الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وتتابع على هذا أئمة العلم على تعاقب العصور . ففكرة سيطرة الترقب ، والانتظار ، والمبالغة بهذا أمر حادث .
وقد كتبت حول هذا الموضوع ثلاث حلقات , يمكن مراجعتها في موقعنا ( الإسلام اليوم ) (islamtoday.net) بعنوان (الانتظار عقدة أم عقيدة) .(24/299)
سؤال:وسائل الدعوة مهمة جدا في مرحلة التحدي التي نعيشها ... ما السبب في بقاء وسائل الدعوة الإسلامية على بدائتها القديمة وعدم وجود هيئات خاصة للتطوير والابتكار واقتحام تقنيات العصر الحديث بمهارة واقتدار وتخريج مخرجين ومذيعين ومنظرين وشعراء وخطباء ورسامين ...إلخ يحملون الهم الإسلامي ويقدمون الحلول..؟؟
جواب:لا شك أننا الآن في عصر المعلوماتية , أصبحت المجتمعات فيه مكشوفة بلا حدود . والعالم كله كأنه في حلبة سباق يبدو فيها العالم الإسلامي غير مؤهل للمنافسة .
ولذلك بالنسبة للدعوة ؛ فيجب العناية بتكريس الخصائص الإسلامية العقدية منها والسلوكية , ودعم هذه الخصائص من خلال العمل المؤسسي الاقتصادي , والإعلامي , والتربوي الموجه لجمهور الأمة , الواصل إلى عمقها , فلا يصح أن يكون خطابنا حديثاً مع النفس , ولا مهامسة من شريحة منتخبة .
ـ نحن ملزمون بقراءة الواقع قراءة صحيحة , وأن نتعامل معه تعاملاً شرعياً , يعتمد على الأصول والقواعد ومحكمات النصوص , لا على الذوق والعاطفة وحكم الطبع .
نحن ملزمون برعاية أدب الخلاف , وحفظ الحقوق , ومراعاة طبيعة الموقف الذي يتهيأ له المسلمون , والذي يطلب من الغيورين تقديم جوانب الجمع القائمة في المنهج الشرعي الواحد على جوانب التفريق والتخالف . وأن نحكم أصول الشريعة التي يجتمع عليها , ونفصلها عن ساحة الاجتهاد في التوعيات والوسائل والأساليب التي تقبل التنوع والتعددية .
ووسائل الاتصال , والإعلام والمعلومات , والتقنية يجب أن تكون طيعة في أيدي المؤمنين لو أرادوا وصمموا , لكن الملاحظ مع كون العالم الإسلامي يملك ثروات هائلة , ومع كون هذه التقنية سهلة التحصيل إلا أن توظيفها لا يزال ضعيفاً بالمقارنة بالأعمال الإغاثية أو بناء المساجد .
وفي تقديري: أن العمل الدعوي والتربوي والتعليمي هو الأساس الذي يتفرع عنه ما سواه .
وأدوات الدعوة خاضعة لقسمة العبادات في الشريعة , فكما أن العبادات منها ما هو قُرَبٌ محضة , يصلح لها دين الناس , وهذه توقيفية , كلاً وتفصيلاً كالصلاة مثلاً . ومنها ما هو عادات وعبادات تصلح بها الدنيا , وهذه عفوية بشرية , الأصل فيها الإذن والإباحة " ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس:59) ولهذا كانت دائرة المباح أوسع دوائر الشريعة .
والوسائل والأدوات جملة من هذا النوع , فلا حظر فيها إلا بدليل .
وكلما تفتقت الأذهان عن عبادة جديدة , فهو الابتداع , أو عن وسيلة جديدة فهو الإبداع . وقديماً قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز : يجدُّ للناس من الأقضية بقدر ما يجدّ لهم من الفجور .
سؤال:المؤامرة...!! إلى أي مدى لعبت دورها في تحريك مشاعر المسلمين ، وتعبئة طاقات الغضب والحذر، وهل كانت فكرة تعميمها صحية ، أم أنها أدت إلى غرس بذرة الخوف والعجز والخمول الفكري في رد كل ظاهرة إلى سببها الحقيقي...؟
وهل العداء بين الإسلام واليهود والنصارى أزلي وديمومي ، وهل هو شامل لكل من انتسب لهذه الديانات ..؟؟ كيف يمكن للعقل المسلم أن ينظر في مثل هذه القضية نظرة معتدلة ووسطية تمكنه من التصرف السديد والقويم.؟؟ بعيدا عن الغفلة القاتلة والاندفاع الأهوج؟؟
جواب:من الواجب علينا أن نفرق دائماً بين ( الوعي ) وبين (الإحساس بالمؤامرة ) . فالوعي موقف ذهني صادق , مبني على شواهد ويقينيات , ومعرفة الإنسان موقعه على خارطة الأحداث . والإحساس بالمؤامرة شعور نفسي يقصد فيه صاحبه تبرئة نفسه واتهام العدو .
وفي تقديري أننا لو ألفنا موسوعات , وأقمنا مؤسسات , هدفها اتهام العدو ؛ فإننا لم نصنع شيئاً أكثر من الإمعان في الخطأ والسلبية , لأننا لن نصحح , ما دمنا لم نعترف بخطئنا وتقصيرنا , وعدم مراجعتنا لا تراجعنا .
والقرآن كما هو معروف يثبت طرائق الأعداء وكيدهم ومكرهم , ولكنه يؤكد أنها تذهب هباء منثوراً , ولا تضر شيئاً عندما تواجه بمسلمين يصبرون ويتقون . وتقرر معنا سابقاً أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
الخطاب الإسلامي المعاصر ، هل يفتقر إلى الدقة في توصيف الظواهر ووضع الحلول الواقعية ..؟ ولماذا يقع في بعض الأحيان في شرك التصنيف والعمومية ..؟؟ وهل لدور ومحاضن التربية دور في تخريج جيل لايرى إلا فكر من تربى على أيديهم ، وأصبحت كلمات من مثل " علماني " و " حداثي " و " قومي " سهلة لوصف أي شخص يخالفهم بها..؟
وكيف لنا أن نعيد ترتيب أوراقنا التربوية للخروج من هذه الإشكالية التي بات يرددها كثيرون ممن لهم حوارات مع الصحوة..؟؟
بالنسبة للخطاب الإسلامي فكثيراً ما يتهم بالاختزالية والعاطفية والسطحية وغير ذلك .(24/300)
ومن البدهيات أن أصحاب الخطاب الإسلامي هم بشر من الناس , لم يحرمهم الله عز وجل من التفكير , ونعمة العقل وخص به غيرهم ؛ بل نحن على قناعة أن من تشبع بهذا الدين وثوابته وأصوله وحقائقه يملك مقدرة في تحليل ما حوله , بما عنده من هذه المعطيات الحقّة , بيد أن ثمت عوامل تؤثر في الاهتمامات وترتيب الأولويات منها :
حجم المتغيرات , ونضج التجربة العلمية والعملية , ومدى الشعور بالمسئولية , وقدر المصداقية مع الله ومع النفس ومع الناس . وهذه العوامل من شأنها أن تؤثر على أي تصور أو تعديل أو تصحيح لدى أي فرد أو جماعة أو حتى دولة .
والخطاب الإسلامي يعاني في بعض الأحيان من العمومية والإطلاقات والانتقائية بل والمثالية التي خرجت عن الواقع ولذلك فملاحظاتي حول الخطاب الإسلامي تتلخص فيما يلي :
1 ـ من المفترض أن يكون لدى أصحاب الخطاب الإسلامي وضوح في المنهج , ومعرفة المقاصد الكبرى للإسلام , والبعد عن الرمزية ومحدودية التفكير . والوعي بحقيقة الدعوة وتفهم السنن الشرعية والكونية في مناهج التغيير والإصلاح .
2 ـ من المتعين أن نكون على وعي بإدراك الإمكان الشرعي والواقعي الذي نعيش فيه , وأن يكون القدر الذي يريده أصحاب الخطاب الإسلامي متناسباًَ مع واقع من يخاطبون , وليس مثالياً متعالياً يولد أزمة عن محاولته .
3 ـ من الأساسيات: العناية ببناء الإيمان في القلوب , والتأسيس للعمل الصالح , ولغة الأمر بالمعروف ينبغي أن تكون هي الأصل في خطابنا مع العناية بأصول الإسلام , وعِصَمِه الكبار , هذا هو الأهم تحقيقه من عباد الله .
4 ـ في الحديث الذي رواه مسلم : "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " وهذا المعنى على مستوى التطبيق للأمر الشرعي أيضاً , لذلك من المهم أن ندرك أن الأمة وإن كان فيها نزّاع من الأخيار الأبرار , وطبقة من أهل العلم إلا أن جمهورها يغلب عليه الجهل والتقصير مع خير كثير , ولذا ينبغي وضع ذلك في الحسبان وألا يكون الخطاب لشريحة منتقاة دون غيرها .
5 ـ عندما يكون صاحب الخطاب الإسلامي مدركاً أنه لا يستعمل الأوراق الأخيرة والنفس النهائي عند إصلاحه للواقع ؛ فهو ـ هنا ـ يتخلص من كثير من الأخطاء التي تكتب النهاية للعمل قبل البدء فيه .
6 ـ أيضاً من الحكم الشرعية ـ فيما أرى ـ أن يتخلص الخطاب الإسلامي من اللغة الواحدة , فيختزل أزمات الأمة كلها في الواقع السياسي فقط , أو الاقتصادي فقط . ونمط آخر خص خطابه الإسلامي بأهل الخير والصلاح لأنهم متفاعلون , وهذا النوع قد يؤدي إلى فصل المجتمع الإسلامي إلى طبقات , تعيش العزلة والصراع الشعوري أحياناً ـ بين أهل الصحوة وباقي المجتمع المسلم الذي يتمتع بالخيرية أيضاً .
7 ـ إنه من المهم على محاضن التربية أن تربي الشباب وسواد المسلمين عموماً على قواعد الشرع الصحيحة .
وأصوله وكلياته ومقاصده العظام . وعلى توقير واحترام كل من جعل هذا الدين همه , وقصد هدي الرسو صلى الله عليه وسلم في دعوته حسب ما أمكنه .
ومن المهم أن يعلم شباب الصحوة أن أهل العلم ليس ممكناً ألا يقولوا إلا صواباً , فهم ليسوا معصومين . لكن لا يجمع الله الأمة على خطأ , ومن أكبر مقاصد الشريعة جمع القلوب على الدين والهدى .
8 ـ علماء الإسلام الكبار يعلم لهم قدرهم لكن الهدى هدى صلى الله عليه وسلم , فكل كلام سوى كلام المعصوم r يقبل النظر والمراجعة والخطأ , وما زال علماء الملة يتراجعون ويختلفون .
لكنهم كانوا أبعد شيء عن فساد العبارة , أو رداءة اللغة , أو التمرس على أسلوب المصادرة والتكفير والتخوين وهذه سيرهم وحياتهم وأقوالهم ... وفي عصرهم كان الكفر قائماً والنفاق موجوداً , بل في محكم التنزيل ( مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). وفيه قال (اعدل يا محمد ) وأستأذن أحد الصحابة في قتله فقال صلى الله عليه وسلم : لعله أن يكون يصلي ... فما بال بعض إخواننا اليوم أصبح التكفير لغة دارجة عندهم , وهو شر من القتل , ففي الصحيح : " لعن المؤمن كقتله "... فما بالك بتكفيره إذاً ؟
سؤال:ما رأي فضيلة لشيخ فيمن يرى أن الأحداث الأخيرة التي مرت بالمسلمين أدت إلى تغيير طريقة تعاملهم مع غير المسلمين إلى استخدام اللين والحوار، والانتقال في فنيات التعامل إلى الحوار بدلا من التكفير والهجوم المباشر.,؟؟ وهل هو الطريق الأمثل في التحديات المعاصرة.؟(24/301)
جواب:منذ بزوغ فجر الرسالة والمسلمون يتلون قوله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )(النحل: من الآية125) وقوله : " (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) , ويتلون قوله تعالى : " (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) (المائدة:78) وقوله تعالى : " (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120) فاللين والحوار موجود ويقدر بقدره , كذلك الحرب والدفاع عن النفس موجود وله تقديراته أيضاً .
لكن تستطيع أن تقول إن الأحداث وسعت دائرة سؤال الغرب عن الإسلام , ونهمهم إلى معرفة أي شيء عنه , وهذه فرصة كبرى للمسلمين لبيان هذا الدين الشامل المانع , وبيان محاسنه لا أن نظهر منه جانباً واحداً فقط .
سؤال:هناك من ينادي بالتقارب بين المذاهب الإسلامية عن طريق الحوار من أجل وحدة الكلمة ما رأي فضيلتكم بهذا وما هي الطرق التي يمكن أن يكون فيها تقارب بين المذاهب الإسلامية..؟؟وهل تفرقها سبب في ضعف الأمة..؟؟
جواب:لا أدري هل المقصود بالمذاهب الإسلامية : المذاهب الفقهية ؛ الحنابلة والشافعية والأحناف والمالكية أم تقصد الشيعة والإباضية وغيرها . إن كانت الأولى فالخلاف بين المذاهب الفقهية إنما هو خلاف في الفروع الذي يسعنا فيه ما وسعهم ولم يوجب ذلك بينهم تقاطعاً ولا تدابراً ولا إحناً . وإن كنت تقصد الثانية فقد سبقت إجابة سابقة عن الشيعة , ووجوب الدعوة والنصح لكل مسلم من أهل القبلة .
ومسائل الاعتقاد ليست قضايا تجارية يتخلى كل طرف عن جزء من المال ليتم اللقاء في منتصف الطريق , لكن المجادلة والمناظرة العلمية الهادفة هي أسلوب من أساليب الدعوة والبيان .
سؤال:لماذا هذا التأليب على الشيعة والدعوة إلى الطائفية من بعض المشايخ
أليسوا مسلمين والتعايش الأخوي معهم أفضل لأننا جميعا من وطن واحد ودين واحد
والتعايش الأخوي معهم فيه أمن لوطننا واستتباب لأمننا وبالتالي تفرغ لمشاكلنا
الأكبر؟ وهل الحوار مع الشيعة عبر المنتديات ، والرد عليهم طريقة سليمة..؟؟
جواب:هناك نقاط مهمة عن الشيعة يجب التنبيه لها :
ـ الشيعة من أسمائهم : الرافضة والإمامية , وغالب الشيعة اليوم هم من الإمامية .
ـ الاثنا عشرية أساس اعتقادهم القول بعصمة أئمتهم وهم على باطل لا ينضبط .
ومن أسس مذهبهم سب الصحابة وذمهم , وكثير منهم يكفرونهم , والسب له صور :
ـ سب هو كفر , كرمي الصحابة بالنفاق أو الردة .
ـ سب يستحق صاحبه التفسيق أو التعذير .
ـ ومنه صورة مترددة بين ذلك .
لكن تكفير جميع الصحابة كفر .
ومما ينبغي التنبيه له أن الحكم على المقالة ليس بالضرورة حكماً على المنتسبين إليها ـ ولا غرابة في ذلك لماذا ؟
ـ لأنه يوجد في كتبهم أقوال متناقضة متباينه كالقول بتحريف القرآن , ويوجد أيضاً القول بكفر من قال بتحريف القرآن .
والحكم على الطائفة والفرد المعين مبني على معرفة كونهم يقولون بهذا ويعتقدونه أم لا ؟
ـ كثير من أصحاب المذاهب قد يجهلون مذهبهم ولا يعرفون تفاصيله بل ولا جمله وقواعده أحياناً . وقد يندهشون عندما تخبره أن هذا المعتقد مثلاً من عقائدهم , فيندهش لذلك ويستبشعه . ومن هنا يأتي سؤال الكثير منهم لماذا تعادون وتجادلون الشيعة وهم إخوانكم ؟!
والحكم على المعين بالكفر يجب أن يتوفر فيه الشروط وتزول الموانع كما قرر ذلك ابن تيمية رحمه الله.
والدعوة إلى الله واجبة قدر الاستطاعة لقوله تعالى : )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125) .
وغيرها من الآيات هذه الآيات ) وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ)(الحج: من الآية67) )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ )(المائدة: من الآية67) .هذه الآيات تدل على دعوة الناس كافة مسلمين وكفار ولا يملك أحد أن يستثني من هذا العموم , أو يخصص فئة بأنها لا توجه إليهم الدعوة .
إذا تقرر هذا فالدعوة لا تجامع الهجر , وتستدعي المجالسة , والمحادثة والصبر , والمعاملة بالحسنى ؛ رجاء فتح القلب , ومن تأمل دعوة الرسول علم ذلك .
ويمكن القول بوجود ثلاثة أصناف في أهل البدع : ( مسلمون , ومنافقون, وكفار )
- فالمسلمون هم الملتزمون بأصول الإسلام , وإن كان عندهم مخالفات وبدع لكنها ليست مكفرة , كتفضيل عليّ على عثمان .
- والمنافقون هم الموافقون للمسلمين ظاهرا ً, ويبطنون الكفر , كمن يبطن تكفير الصحابة أجمعين , ويظهر عدم ذلك.(24/302)
- والفئة الثالثة هم: الكفار المعلنون بعقائد كفرية صريحة كألوهية على بن أبي طالب .
فهذه العقائد إن ثبتت على شخص ونطق بها , وجب استتابته , فإن أصرّ بعد بيان الحجة عليه , فهو خارج مرتد عن اسم الإسلام
==================(24/303)
(24/304)
السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام
عماد السيد الشربيني 5/9/1423
10/11/2002
اسم الكتاب : السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها
اسم المؤلف : عماد السيد الشربيني .
الناشر : دار اليقين /مصر .
عدد الصفحات : 506 في جزأين .
التعريف بالكتاب:
قسم الباحث هذا الموضوع إلى مقدمة ، وتمهيد ، وثلاثة أبواب ، وخاتمة .
المقدمة ضمنها سبب اختيار الموضوع ، وأهميته ، وخطة البحث ومنهج البحث فيه.
أما التمهيدفعرف فيه بالسنة في مصطلح علمائها ثم ذكر شبهة حول التسمية ورد عليها،وذكر أن الحديث النبوي بالسند المتصل من خصائص الأمة الإسلامية كما أن دراسة الحديث ضرورة لازمة لطالب العلم.
أما الأبواب ففي الأول منها عرف بأعداء السنة النبوية لغةً وشرعاً. ثم أتبعه بذكر أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع قديماً (الخوارج،والشيعة،والمعتزلة) ،ثم أعداء السنة النبوية من المستشرقين ، ثم أعداء السنة النبوية حديثاً ( العلمانية ، والبهائية ، والقاديانية )،وفي أخري هذا الباب ذكر أهداف أعداء الإسلام قديماً وحديثاً في الكيد للسنة النبوية المطهرة .
وفي الباب الثاني ذكر وسائل أعداء السنة قديماً وحديثاً في الكيد للسنة النبوية المطهرة من التشكيك في حجية خبر الآحاد،و الطعن في رواة السنة المطهرة،وفي الإسناد وعلوم الحديث ،و الطعن والتشكيك في كتب السنة المطهرة،وأخرها الاعتماد على مصادر غير معتبرة في التأريخ للسنة ورواتها .
وأما الباب الثالث فعنون له بنماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها والجواب عنها. بدأه بطبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها ،وطبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها ،ثم ذكر نماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها والجواب عنها كحديث ( إنما الأعمال بالنيات) ،وحديث ( أنزل القرآن على سبعة أحرف)،وأحاديث (رؤية الله ) و( محاجة آدم موسى عليها السلام ) و ( الشفاعة)،وأحاديث ( ظهور المهدي) و( خروج الدجال ) و( نزول المسيح عليه السلام ) ،وحديث عذاب القبر ونعيمه ،و أحاديث ( خلوة النبي بامرأة من الأنصار )،و( نوم النبي عند أم سليم، وأم حَرَام )،وحديث رضاعة الكبير ، وحديث وقوع الذباب في الإناء .
وفي أخري هذا الباب ذكر الباحث مضار رد الأحاديث النبوية الصحيحة .
وفي الخاتمة ذكر نتائج الدراسة ، والمقترحات ، والتوصيات التي خرج بها الباحث ،ومن هذه النتائج:
1- أن مؤامرة التشكيك في حجية السنة المطهرة ومكانتها التشريعية أخذت طريقها إلى عقول بعض الفرق في الماضي ، كما أخذت طريقها إلى عقول المستشرقين ، ومن استمالوهم من أبناء المسلمين في الحاضر .
2- أن معركة أعداء الإسلام مع السنة المطهرة تتسم من جهة أعدائها بالدقة ، والتنظيم ، والكيد المحكم ، كما تتسم من جهة المسلمين بالبراءة ، والغفلة ، والدفاع العفوي ، دون إعداد سابق أو هجوم مضاد .
3- أن القواعد التي ينطلق منها أعداء السنة قديماً وحديثاً في الكيد لها واحدة فشبهات القدماء هي نفسها شبهات المعاصرين .
4- تأثر الفرق الكلامية بالفلسفة اليونانية ، وأعطوها صبغة إسلامية ليستعينوا بها على نظرياتهم وجدلهم ، فكان ذلك ذا أثر بالغ في در النصوص بالعقل ، وفتح باب شر عظيم على أمة الإسلام ، دخل منه كثيرون من أعداء الإسلام ، وتأثر بذلك بعض أبناء المسلمين.
5- مخالفة الفرق الكلامية منهج السلف في فهم النصوص ، وعجز عقولهم عن الفهم الصحيح لها ، أدى بهم إلى الاضطراب ، وعدم الاستقرار المنهجي .
6- أن أهل السنة والجماعة هي الفرقة الوحيدة التي حالفها الصواب والسداد في فهم النصوص من الكتاب والسنة حيث لم يقدموا العقل على نصوص الوحي ، ولم يلغوا عمله ،بل وقفوا به عند حده الذي حده الله له، فاعملوه حيث جاز له أن يعمل ووقفوا به حيث حق له أن يقف .
7- فساد منهج المستشرقين في دراستهم للإسلام ، مهما حاولوا إدعاء المنهجية العلمية التي يزعمونها ، وسبب ذلك عدم تخلصهم من العصبية والعداء للإسلام وأهله .
8- نجاح الاستشراق في استقطاب كثير من أبناء الإسلام الذين انخدعوا بأفكاره وآرائه وتأثروا بثقافاته ومناهجه ، وكثير منهم يمثلون رموزاً بارزة في بلدانهم ، فكان لذلك أثر بالغ في نشر تلك الأفكار بين المسلمين ، وانخداع السذج منهم بها ، وتفلت كثير منهم بسببها من التمسك بالشرع ، فكان خدرهم أعظم وفسادهم أكبر ؛ لأنهم يهدمون السنة من داخلها .
9- أظهر البحث بما لا يدع مجالاً للشك ، أنه لو سلمنا جدلاً أنه يكفي الاستناد على القرآن وحده في تحليل ، الحلال وتحريم الحرام ... ولم نعبأ بالسنة أبداً ، وتركنا القرآن يخطئ فيه المخطئون ، ويعتمد فيه الكذابون ، ويتلاعب فيه الملحدون ، و يخوض فيه المنافقون بما تسوله لهم نفوسهم ، وتمليه عليهم رؤساءهم وشياطينهم ، فإن الخلاف بين الناس لا يزول كما هو معلوم بالضرورة ، وإنما سيزيد ويستفحل ، ويصل بهم إلى مدارك الهاوية ، ويتفرق بهم في دروب التيه .(24/305)
10- أكد البحث أن عدم الأخذ بالسنة دعوة إلحادية ، يريد أصحابها لنا الإعراض عن هدى النبوة ، ويسنون أنهم يتمسكون بتشريعات واهية ، لا أساس لها تقوم عليه ، ولو سلمنا لهم جدلاً أنه يجب إبطال السنة ، مع صحة نقلها بالإسناد المتصل ؛ الذي هو منّة عظيمة خص الله بها الأمة الإسلامية دون سائر الأمم ، لكان لزاماً علينا من باب أولى أن نبطل جميع التشريعات المتداولة في الدنيا مهما كان مصدرها سماوياً أو وضعياً لان من المسلَّم أن بالبقاء للأصح سنداً ، والأصدق رواية .
11- قرر البحث أن السنة ضرورة دينية ، وأن كثيراً من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة ، والتي أجمع عليها الفقهاء ؛ متوقفة على حجيتها .
12- إن الأدلة الشرعية جميعها متوافقة متآلفة متلائمة ، لا اختلاف ، ولا تنافر ، ولا تضارب بينها .
13- إن دعوى وجود عقليات مخالفة للشرع ، لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح ، بل هي أوهام وخيالات ، وشبه عارية عن الصواب ، إضافة إلى أنه لا ضابط عند من يرد النصوص بالقرآن والعقل يفرق به بين ما يرد ، وما لا يرد.
14- رد النصوص عقلاً أو جد أثراً بالغاً في زعزعة كثير من العقائد ، وعدم احترام نصوص الوحي الاحترام اللائق ، والتهوين من شأنها .
15- أن جميع ما يتناقله الشيعة الرافضة ، وأهل البدع في كتبهم من المطاعن العامة والخاصة في أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ، لا يعرج عليها ولا كرامة ، فهي أباطيل وأكاذيب مفتراة إذ دأب الرافضة ، وأهل البدعة رواية الأباطيل ، ورد ما صح عن السنة المطهرة ، والتاريخ.
16- وجدت من خلال صحبتي لبعض خصوم السنة ، أنهم جميعاً من أصحاب الترف والكبر ، الذين لزموا البيوت ، ولم يطلبوا العلم من مظانه ، ومن أهله ، فهم كما تنبأ بهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله" لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه
=================(24/306)
(24/307)
الاستشراق الجديد
سهيلة زين العابدين حمَّاد 23/11/1423
26/01/2003
لقد تعرَّف الغرب بالشرق عبر قرون طويلة عن طريق عدد كبير من الكتاب والرحالة والجغرافيين والمؤرخين، والشرق الذي عرفته أوروبا قديماً يمتد من سواحل البحر المتوسط غرباً إلى البحار الشرقية النائية، وقد اختلفت وسائل اتصال أوروبا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال .
وكانت بداية هذه العلاقات ترجع إلى أيام الكنعانيين، وكانت علاقات تجارية، ثُمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال، إذ قامت الحرب الفارسية اليونانية (499-449ق.م)، وكانت الغلبة في البداية للفرس ثُمَّ أخرجهم اليونان من بلادهم.
وفي أواخر القرن الرابع "قبل الميلاد" قام الإسكندر المقدوني باحتلال آسيا الصغرى، وبعض أواسط آسيا، واستمر في حربه حتى وصل أبواب الصين، وقد عاجلته المنية، ولم يتعد عمره ثلاثين عاماً، وتوفي عام 323ق.م .
وعندما اجتاح الإسكندر المقدوني الشرق فكَّر في احتلال الجزيرة العربية، بعدما تمَّت له الغلبة على مصر والهلال الخصيب ؛إذ كان وقتها في بابل، فأرسل بعثة استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة؛ تمهيداً للاستيلاء على هذه الأصقاع المليئة بالغموض والأسرار الصعبة الاختراق، فبنى أسطولاً قوياً، واتخذ مدينة بابل قاعدة للانطلاق، وأمَّر على أسطوله قائده "أرخياس "A r chias الذي عبر الخليج العربي، وصل إلى جزيرة البحرين الحالية، وكان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم "أيلوس" وقدَّمت البعثة البحرية وغيرها من البعثات الأخرى تقارير وافية عن المناطق التي وصلت إليها، تناولت السكان والإنتاج والمبادلات التجارية، والوصف "الطبوغرافي" للأرض، والطرق السهلة التي يمكن لجيش جرار المرور منها في صحراء قاحلة خالية من الماء، ومن كل الوسائل المريحة التي يحتاج إليها جيش مقبل على احتلال أصقاع لم يخترقها أحد قبل ذلك التاريخ .
فأخذ المهتمون بهذه الحملات تسجيل العديد من المعلومات عن الأرض الشرقية التي احتلوها، ودَّونوا كثيراً من الروايات الشفهية والسماعية عن أرض أخرى كان في نية الإسكندر ابتلاعها .
بداية الاستشراق:
من وجهة نظري فإن بداية الاستشراق كانت من عهد الإسكندر المقدوني، وكما رأينا فإنه قام لأهداف السيطرة والاحتلال، ومنذ هذا التاريخ كان المستشرقون المهتمون بالدراسات الشرقية مبعث اهتمامهم بهذه الدراسات يعود في المقام الأول إلى خدمة أهداف بلادهم في السيطرة على الشرق، وعند ظهور الإسلام أضيف إلى هذا الهدف هدف آخر هو محاربة الإسلام بتشويه صورته، وصورة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في الشرق والغرب، وتاريخ الاستشراق الطويل يشهد بهذا.
كشف حقيقة الاستشراق:
وقد كشف القناع عن حقيقة الاستشراق بعض الباحثين العرب مثل الأستاذ "أنور عبد الملك" الذي نشر مقالة له بعنوان " الاستشراق في أزمة" ونشر بالفرنسية في مجلة "ديوجين" سنة 1963م في العدد رقم 44ومن المستشرقين الذين ردَّوا عليه المستشرق الإيطالي "فرانسيسكو جابوبيلي" في مقالة نشرت له في مجلة "ديوجين" العدد "50" سنة 1965م كما رد عليه المؤرخ الفرنسي اليهودي "كلود كاهين" في نفس المجلة والعدد، وكذلك المستشرق الفرنسي اليهودي "مكسيم ردونسون" ،حيث رد عليه ضمنياً في كتابه "جاذبية الإسلام".
ثُمَّ أعقبه كتاب الاستشراق للدكتور "إدوارد سعيد" أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، وقد صدر بالإنجليزية عام 1978م ،وكانت له أصداء واسعة ،وقد ردَّ عليه كل من المستشرق اليهودي الفرنسي مكسيم ردونسون ،وكلود كاهين ،والمستشرق اليهودي البريطاني الأمريكي "برنارد لويس"، وكذلك " ألان ردسون"، كما كان لبحوث عبد النبي أصطيف، وهو يعمل بكلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد ،وممن عقَّب على كتاباته "ألان ردسون".
هذه البحوث والدراسات والمقالات قد زلزلت الأوساط الاستشراقية وجعلتهم يقررون في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس بمناسبة الذكرى المئوية لأول مؤتمر دولي للمستشرقين في صيف عام 1973م أن يقذفوا بمصطلح "مستشرق " في مزبلة التاريخ على حد تعبير " برنارد لويس"، ولكن في الوقت نفسه أعلنوا عن تمسكهم بمناهجهم التي اتبعوها في دراساتهم، وأنَّهم لن يتخلوا عنها لإرضاء العرب.
الاستشراق الأمريكي الجديد:
وهكذا نجد أنَّهم قد تخلوا عن المصطلح، ولكنهم لم يتخلوا عن المنهج والأهداف والأغراض، لذا نجدهم استبدلوا كلمة "استشراق" "بمراكز المعلومات"، أو "دراسات الشرق الأوسط".
وهذا هو الثوب الجديد للاستشراق الجديد، ولا سيما الاستشراق الأمريكي .(24/308)
ومن هنا نجد بعض الباحثين المسلمين قد انخدع بهذا المصطلح الجديد، وهو الأستاذ "مرسي سعد الدين" الذي يرى أنَّ هذا النوع من الاستشراق يدخل في إطار جمع المعلومات، وهو ناتج عن رغبة حقيقية في البحث نابعة من ذات المستشرق، وليس بإيعاز من أجهزة المخابرات، ويرى أنَّ هذا النوع من الاستشراق يمثله الاستشراق الأمريكي الجديد، ويضيف قائلاً : " وإن كانت هذه الدراسات تساعد أمريكا مثلاً على رسم سياستها تجاه دول المنطقة، ويؤكد على أنَّ دراسات المستشرقين الأمريكان الجدد عن مصر الفرعونية، ومصر الإسلامية، وعن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الظروف الحالية، وعن الحركة العمَّالية، والمجتمع الريفي، ووضع المرأة والطبقة الوسطى أنَّها لم تكتب لغرض استعماري ،وإنَّما هي بحوث نتيجة لتجارب كتابها.
وقد كتب هذا في مقال نشر في الأهرام في 24/8/1999م، بعنوان "الاستشراق الجديد" والأستاذ "مرسي سعد الدين" متفائل جداً، فهو يجزم أنَّ هذه الدراسات بإيعاز من أجهزة المخابرات، وليس لأغراض استعمارية، مع أنَّ ما ذكره من نوعية الدراسات يؤكد لنا أنَّ الغرض استعماري.
أهداف الاستشراق:
فالاهتمام بمصر الفرعونية هذا من أهداف الاستعمار؛ إذ يسعون لإحياء القوميات الجاهلية القديمة في العالم الإسلامي، فقد نبَّش المستشرقون خاصة في النصف الأول من القرن العشرين في الحضارات الجاهلية القديمة، وإحياء معارفها لسلخ المسلمين من دينهم، من ذلك بعث الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، والفارسية في إيران، والقومية الطورانية في تركيا، أمَّا الجزيرة العربية فلقد بحثوا في آثار السابقين، وأسموا دراساتهم "التاريخ الحضاري للعرب قبل الإسلام"، وذلك ليطفئوا نور الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس وحده هو الذي قدم الحضارة الإنسانية، وليقطعوا صلة الأمة الإسلامية بماضيها الحقيقي الذي بدأ بظهور الإسلام.
أمَّا دراساتهم عن العصور الإسلامية فهي لا تخلو من الدس والتشويه، وأمريكا تريد القضاء على الإسلام والسيطرة على البلاد الإسلامية، ففي شهر مايو سنة 1992م، صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية الأمريكية بولاية ماريلاند أنَّهم قد أخيفوا في هذا القرن بثلاثة تيارات هي : الشيوعية، والنازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنازية، ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية، وما حملتها الآن على ما تسميه إرهاباً ومحاربتها له إلاّ للقضاء على الإسلام، وبسط نفوذها وهيمنها على الشعوب والدول الإسلامية ولا سيما العربية .
أمَّا عن الدراسات المعاصرة للأحوال الاجتماعية والاقتصادية فمعروف أنَّ المستشرقين المعاصرين في الولايات المتحدة قد أولوا عناية فائقة بدراسة الأوضاع القائمة في المنطقة العربية منذ قيام إسرائيل وحتى الآن، وذلك في إطار تجنيد هؤلاء المستشرقين والعملية الاستشراقية الأمريكية إجمالاً لتلبية احتياجات وتطلعات السياسة الأمريكية في هذه المنطقة، واحتل الاهتمام بإسرائيل مكانة خاصة في الاستشراق الأمريكي المعاصر، انطلاقاً من الدور الوظيفي الذي تؤديه إسرائيل في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية، فانصبت غالبية نشاطات المستشرقين الأمريكان في مجالات الأبحاث الصراعية باتجاه تعزيز المواقع الإسرائيلية على جبهة المواجهة مع العرب، ومن المستشرقين الأمريكان الذين يسعون لخدمة الصهيونية "برنارد لويس" وهو يهودي بريطاني الأصل، ومنذ سنة 1973م انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ أصبح عضواً دائماً في معهد الدراسات المتقدمة، وفي الجمعية الفلسفية الأمريكية، وشغل منصب أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون، وانتقال "برنارد لويس" إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1973م يبين لنا أنَّ هذا المستشرق انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية لهدف يسعى إلى تحقيقه من خلال الدور الأمريكي في الدعم الصهيوني، خاصة بعد حرب أكتوبر عام 1973م التي قلبت موازين الاستراتيجية الصهيونية والأمريكية، إضافة إلى إدراكه أنَّ الدور البريطاني في الدعم الصهيوني قد ضعف أمام قوة الاستراتيجية الأمريكية وأنَّ الصهيونية قد حصلت من بريطانيا ما تريده منها ،فلقد أدت بريطانيا دورها ، والدور الآن على الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق بقية الحلم الصهيوني باعتبارها أكبر دولة في العالم،وإسرائيل هي الدولة المدللة لديها.(24/309)
ولم يتوقف الاستشراق الأمريكي على خدمة الأهداف الصهيونية، بل نجده قد تعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية لخدمة مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وذلك من خلال "مركز دراسات الشرق الأوسط " في جامعة هارفارد . ومن المستشرقين اليهود الأمريكان الذين تعاونوا مع جهاز المخابرات الأمريكية " ندَّاف سفران" الذي عمل مديراً لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة "هارفارد" حتى إقالته عام 1985م حيث تمَّ كشف النقاب عن تعاون "ندَّاف سفران" مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكان هذا الكشف فضيحة في الأوساط الأكاديمية حيث قبض سفران مبلغاً وقدره 45ألف دولار من المخابرات الأمريكية لتمويل ندوة في جامعة هارفارد حول " نمو المشاعر الإسلامية في الشرق الأوسط"، وتبين كذلك أنَّ المخابرات الأمريكية قد دفعت 107ألف دولار مقابل قيام سفران بتأليف كتاب عن المملكة العربية السعودية، ويتضمن هذا الكتاب الذي تعهد سفران بتنفيذه دراسة عن حجم القوى الإسلامية في هذا البلد بهدف الإجابة عن سؤال مهم هو : كيف يمكن السيطرة على هذه القوى ؟ وكيف يمكن أو هل يمكن لهذه القوى أن تسيطر على زمام الحكم هناك ؟.
وقد كلَّف سفران أحد أساتذة الجامعة العبرية في القدس "البروفسور آفير" بإجراء بحوث ميدانية بالتعاون مع الطلبة العرب، ودراسة الصحف الصادرة في البلد المعنية بالدراسة المتوفرة في معهد "ترومان" لأبحاث الشرق الأوسط التابع للجامعة العبرية، إلاَّ أنَّ الطلاب العرب في الجامعة المذكورة رفضوا التعاون مع البروفسور الإسرائيلي، وبعد افتضاح الأمر أجرت جامعة "هارفارد" تحقيقات مع سفران، وأقيل على إثرها، لكن سفران ادعى أنَّه هو الذي قدَّم استقالته بسبب الحساسية التي سببتها تحقيقات الجامعة معه، وأخذ يدافع عن ارتباطه بوكالة المخابرات المركزية مؤكداً أنَّ علماء كثيرين جداً يعملون في جامعة هارفارد، ويقيمون علاقات وطيدة مع الوكالة يتلقون منها المساعدات المالية، وأنَّ الجامعة لا تكتفي بإجازة هذه العلاقات،بل تشجعها، ولم تنف جامعة هارفارد هذا الأمر.
وهذه المؤشرات في قضية سفران تبرهن خلاف ما ذهب إليه الأستاذ "مرسي سعد الدين" بأنَّ دراسات الاستشراق الأمريكي الجديد بعيدة عن أجهزة المخابرات الأمريكية والأغراض الاستعمارية، وهذه وقائع حدثت لم آت بها، وإنَّما واردة مصادرها في الهوامش، وبالإمكان الرجوع إليها.
تعريف الاستشراق :
والذي أريد قوله : إنَّه علينا ألاَّ ننخدع بالمصطلحات الجديدة، فالاستشراق حديثه مثل قديمه لا يخرج عن كونه مؤسسة غربية بالغة القوة قائمة على دراسة الشرق بشتى جوانبه، مع التركيز على الجزء الإسلامي منه برؤية غربية قائمة على التفوق العرقي والثقافي بهدف سيطرة الغرب على الشرق، وتشويه الإسلام في الشرق والغرب
==========(24/310)
(24/311)
علماء الإسلام يطالبون الغرب بفض الاشتباك بين الإرهاب والمقاومة
الإسلام اليوم - خاص 12/4/1423
23/06/2002
فرضت القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي نفسها على مائدة مؤتمر الشؤون الإسلامية في دورته الرابعة عشرة الذي عقد بالقاهرة مؤخرًا تحت عنوان (حقيقة الإسلام في عالم متغير) واستمر أربعة أيام متتالية شارك فيه وفود من 64 دولة و 6 منظمات عالمية ، منها منظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي كما شارك فيه 22 وزيرًا للأوقاف والشؤون الإسلامية كما قُدّم للمؤتمر 60 بحثًا منها 46 باللغة العربية و 11 بالإنجليزية و 3 بحوث بالفرنسية وبحث واحد بالإسبانية .
وجاءت توصيات المؤتمر انعكاسًا للضرورة اللازمة اليوم لدعم الشعب الفلسطيني في مواجهة قوى الاحتلال الغاشمة، التي تمارس الإرهاب ضد شعب أعزل بانحياز أمريكي واضح وصمت دولي غير معلن ، وسلبية رسمية في العالم الإسلامي .
من هنا جاء تحذير علماء المسلمين من المخططات الغربية الصهيونية التي تستهدف تفتيت الأقطار العربية والإسلامية باستغلال ورقة الأقليات، والتدخل في شؤون المسلمين تحت شعار حماية الأقليات .
ولذلك كان تأكيد العلماء على أن الأقليات الدينية التي تعيش في المجتمعات الإسلامية تحصل على حقوقها وتمثل جزءًا من النسيج الاجتماعي مشيرين إلى أن هذه الأقليات لم تتعرض طوال التاريخ الإسلامي للظلم أو الاضطهاد ؛ لأن الإسلام هو الذي حررها من استعباد غير المسلمين .
وجاء تأكيد علماء المسلمين على النقطة السابقة للانطلاق منها إلى المحور الثاني الذي ركَّز عليه المؤتمر وهو ضرورة حماية الأقلَّيات المسلمة في دول العالم ، والتي تتعرض للظلم والاضطهاد ، وتعاني من التهميش وعدم الحصول على حقوقها . وفي هذا السياق جاءت مطالبة العلماء بضرورة حصول هذه الأقليات المسلمة على حقوقها وضرورة مساندتها من أجل الحياة الكريمة وممارستها للدعوة إلى الله - عز وجل- في البلاد التي تعيش فيها .
"مخطط غربي يستهدف الإسلام "
ومن هنا جاء تأكيد فضيلة الشيخ إبراهيم صالح الحسيني مفتي نيجيريا على أن الإسلام وأهله في جميع أنحاء العالم يتعرضون لمخطط ، وهذا المخطط أكبر بكثير مما يظنه الناس ، بدأت خططه الحديثة في أفغانستان ثم في فلسطين . وقال هذا المخطط يترافق مع المخططات السابقة للغرب بالعداء للإسلام ، وخاصة الساسة منه .
وقال الشيخ الحسيني إن أبعاد هذا المخطط واضحة حاليًا في فلسطين، والحصار الذي تشهده حاليًا على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي لم يشهد التاريخ له مثيل ، وأن الهدف من ذلك كله هو محاربة الإسلام بوجه عام والعرب بوجه خاص .
و يدعو الشيخ يحيى بالا فنستي مدير الطائفة الإسلامية بإيطاليا إلى ضرورة إيجاد قنوات اتصال جديدة لتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام التي يسعى الغرب إلى تشويهها ، والتأكيد على القيم النبيلة لهذا الدين العظيم ، وأنه يحترم التعددية الثقافية والدينية للآخرين ، في الوقت الذي لا يحترم فيه الآخرون القيم الإسلامية .
ويقول : إن الإسلام صاحب حقيقة روحية تدعو إلى توثيق العلاقات مع الآخرين، وإلى المعرفة ولا يدعو مطلقا إلى العنف في الوقت الذي يمارس فيه الآخرون العنف ضد المسلمين، وتشويه صورة الإسلام من خلال حملة إعلامية شرسة في محاولة لربطه بالإرهاب .
وعن جهود الأقلية الإسلامية في إيطاليا لمواجهة هذه الحملة يؤكد أن هناك جهود حثيثة لصد هذه الهجمة وشرح حقيقة الإسلام السمحة .
وأضاف الشيخ يحيى قائلاً: لقد قمنا بالاتصال بالمسؤولين الإيطاليين وبوسائل الإعلام لدحض كل الادعاءات الموجهة ضد الإسلام الذي يدعو إلى السلام والعدل والمعرفة، مشيرًا إلى أننا نبرز إدانة المحاولات التي تهدف إلى الإساءة للإسلام .
" ازدواجية الغرب "
ومن جانبه اعتبر الدكتور أحمد الطيب مفتي الديار المصرية أن أسباب هذه الحملة الغربية الموجهة إلى تشويه الإسلام هي الازدواجية التي يتعامل بها الغرب مع قضايا المسلمين في فلسطين والشيشان والبوسنة والعراق وغيرها لا تأتي عرضًا ، وإنما فلسفة يؤمن بها الغرب يطبقها ويقدم لها مبرراته .
وأضاف الدكتور الطيب قائلا إن تسامح الحضارة الإسلامية مع الآخر يقابله تسلط من الغرب ضد كل ما هو شرقي ، فالغرب اختلس الحضارة الإسلامية ونسبها إليه ثم أنكر ذلك ، في المقابل لم يأخذ المسلمون علما إلا ونسبوه إلى صاحبه واعترفوا بفضله .
وعرض الشيخ عبد الرشيد قارئ مفتي أوزبكستان وضع الإسلام في بلاده قائلا : إن عدد المساجد في أوزبكستان في تزايد مستمر ، ووصل إلى أكثر من ألفى مسجد ، وتم أخيرا افتتاح الجامعة الإسلامية في مدينة طشقند لتعليم أبناء البلاد فيها تعاليم الإسلام وتراثه ، كما أن أعداد الدعاة الذين يخدمون دينهم ومجتمعهم بالإضافة إلى وجود 10 مدارس إسلامية ومعهد تجاري يدرس فيها حوالي 2500 طالب وطالبة .(24/312)
وأشار إلى أن هذه الجهود تعمل من أجل تحسين صورة الإسلام ومواجهة الافتراءات التي تثار ضده ، وإبراز حقيقة الإسلام السمحة وأنه لا يخشى الحوار مع الآخر ، في الوقت الذي تسعى فيه القوى الغربية إلى دخول في حوار وفق ما ترغبه هي ، فضلاً عن أن حوار الولايات المتحدة دائما هو حوار القوة وفرض الهيمنة وتفويض إسرائيل للقيام بهذا الدور في داخل فلسطين المحتلة .
وقال الشيخ عبد الرشيد إن هذا الكيان الصهيوني الذي زرعه الغرب في بلاد المسلمين استهدف تفتيت الشرق العربي والإسلامي من خلال اللعب بورقة الأقليات الدينية والمذهبية والقومية ، وإغرائها باختيار الطريق الصهيوني وعض اليد العربية والإسلامية والارتباط بالهيمنة الاستعمارية الغربية ، والعمل على الميول الانعزالية لهذه الأقليات، وتوجيه الأقليات المسيحية إلى المطالبة بالاستقلال والتحرر من الاضطهاد الإسلامي المزعوم !
" توحيد الصف الإسلامي "
فيما أشار الشيخ شمس الدين الندوي مستشار الرئيس السنغالي إلى أن العالم الإسلامي يواجه ظروفًا قاسية ودعاية مضادة تصف المسلمين بأنهم أعداء للحضارة، موضحًا أن تشويه صورة الإسلام ظاهرة قديمة منذ الحرب الصليبية وبداية الاستشراق وانتهاءً بالإعلام في الوقت الحاضر .
وقال : إن الهجوم الإعلامي المعاصر على الإسلام هو أخطر المراحل التي نمر بها، حيث تقدم هذه الوسائل الأفكار الخاطئة والأحكام المسبقة ، وتعتمد المقولة الإعلامية الغربية على ما أرساه المستشرقون والصليبيون من شبهات ضد الإسلام .
وأضاف أن الدول الاستعمارية الجديدة أحكمت قبضتها على العالم الإسلامي ، وأدخلت بلادنا في ديون وهمية ، بالإضافة إلى ربط الإسلام بالإرهاب مشيرًا إلى ضرورة أن يواجه المسلمون هذه التحديات ، وأن يوحدوا صفوفهم ضد الغرب والصهيونية .
" توصيات تحتاج إلي تنفيذ "
ووفق الآراء السابقة جاءت توصيات المؤتمر لتؤكد على ضرورة حماية الأقليات الإسلامية من محاولات التشويش والتزييف التي تتعرض لها في الغرب، وتناشد الدول غير الإسلامية تمكين الأقليات الإسلامية من ممارسة مختلف الحقوق والحريات الواردة في المواثيق الدولية وتطبيق نظمهم الإسلامية في الأحوال الشخصية، فيما لا يتعارض مع النظام العام للدولة .
ودعا علماء الإسلام الغرب إلى فض الاشتباك بين الإرهاب والمقاومة المشروعة في مقاومة الاحتلال لدحره عن أراضيه ، والدفاع عن نفسه ومقدساته
===============(24/313)
(24/314)
رداً على ما جاء في بيان المثقفين الأمريكان :
على أي أساس نُقتل ونُحارب؟!
سهيلة زين العابدين حمَّاد 7/3/1423
19/05/2002
لقد ركَّز معهد القيم بالولايات المتحدة الأمريكية في بيانه الذي وقَّع عليه ستون مثقفاً أمريكياً ،والذي أعطاها هذا العنوان " على أي أساس نُقَاتل؟" تبرير حرب الإدارة الأمريكية على ما أسمته إرهاباً أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م بأنَّها حرب أخلاقية تستهدف الحفاظ على المبادئ والقيم الخمسة التي يؤمن بها الموقعون على البيان ،طالبين من المسلمين رجالاً ونساءً أن ينضموا معهم في تأييد هذه الحرب وتبني القيم الأمريكية .
هذا ولمّا كان البيان قد كشف مدى تضليل الإعلام الغربي الذي تسيره الصهيونية العالمية للمثقفين الأمريكان ممن وقَّعوا على هذا البيان الذي حوى على كثير من المغالطات والمتناقضات رأيتُ من واجبي كمثقفة مسلمة وصاحبة فكر وحاملة أمانة القلم أن أفتح باب الحوار مع موقعي هذا البيان ،ومع أي مثقف أمريكي أو أوربي يريد أن يتحاور معي حول مبادئ الإسلام وقيمه وعلاقة الغرب به ،لأصحح له الرؤى ،وأوضح له معالم صورة الإسلام التي عكف الاستشراق الغربي على مدى ثمانية قرون ،والصحافة الصهيونية على مدى قرن من الزمان على تشويهها وتضييع معالمها .
وأتمنى أن يكون ردي على بيان مثقفي أمريكا بمثابة بيان مثقفي العرب والمسلمين في كل مكان ،فمن يجد في هذا الرد من مثقفي الأمة يمثل رأيه فإنَّني أدعوه أن يضم توقيعه إلى توقيعي .
والنقاط التي سوف نناقشها في هذا البيان هي :
أولاً :المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها القيم التي نؤمن بها نحن المسلمين والمنبثقة من أسس العقيدة الإسلامية.
ثانياً : القيم الأمريكية والمبادئ الخمسة التي يدافعون عنها .
ثالثاً : أحداث سبتمبر ،وإعلان الغرب الحرب على كل ما هو إسلامي،والتي وصفها البيان الأمريكي بالحرب العادلة والحرب الأخلاقية،وأنَّها لصالحنا نحن المسلمين.
رابعاً : موقفنا من سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل ،وتجاه الدول الإسلامية بما فيها الدول العربية،وفي حربها على ما أسمته بالإرهاب.
خامساً : النظام الإسلامي في الحكم،ودعوة البيان إلى فصل الدين عن الدولة ،والحكم بالحكم العلماني الوضعي.
أولاً: المرتكزات الأساسية للقيم التي نؤمن بها والمنبثقة من العقيدة الإسلامية :
1- الإيمان بأنَّ الله هو الخالق الرازق المحيي والمميت ،وهو الحي الذي لا يموت،وهو الواحد (الأحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) فنحن هنا نختلف مع استناد مؤسسي الولايات المتحدة إلى دعوى دينية أساسية أنَّ جميع البشر خلقوا على صورة الله،فالإنسان خلق بنفحة من روح الله ،ولكنه لم يخلق على صورة الله.كما نؤمن بأنَّ الله هو القاهر فوق عباده ،وليس أية قوى بشرية ،فأية قوة بشرية مهما بلغت من قوة فلن تكون فوق قوة الله فتستبد معتقدة بأنَّها هي القوة الأوحد ( وهو القاهر فوق عباده ) ( فعَّال لما يُريد) فنحن نؤمن إيمانا كاملاً بأنَّ الحياة والموت والرزق ،وكل شئ بيد الله وحده ،ولا يستطيع أي كائن كان مهما بلغ من قوة وبطش أن ينزع الحياة والرزق منَّا بدون إرادة الله ،فالإسلام قد حرَّر الإنسان من عبودية الخلق الذي ظل عبداً لأسياده ألوف السنين ،ولم يذق طعم الحرية إلاَّ بالإسلام ،انظروا إلى أحوال شعوب الأرض قبل بزوغ فجر الإسلام كم عانت من اضطهاد وظلم واسترقاق البشر من حكام وإقطاعيين! فالعالم لم يعرف العدالة والحرية والمساواة إلاَّ من الإسلام، ولذا فنحن نحب خالقنا الذي حررنا من كل أنواع وصنوف العبودية للخلق، ولا نخشى ولا نخاف إلاَّ إيَّاه الذي جعل العزة للمؤمنين كما جعلها له ولرسوله ،إذ قال عزَّ وجل (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)) (المنافقون :8)،فالمسلم الحق لا يرضى بالذل والخنوع والخضوع ،إنَّه يرفضُ الضيم،فعلاقة الإنسان في الإسلام بربه علاقة جد وثيقة قائمة على العبادة له طاعةً ومحبةً ومراقبته في كل قول وعمل خوفاً من عقابه ،وطمعاً في رحمته وثوابه،ورغبة برؤيته يوم القيامة والفوز بالجنة.(24/315)
2- الإنسان كائن مكلف وصاحب رسالة ،يقول تعالى : (( وإذْ قَال رَبُّكَ للمَلاَئِكِةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوُا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِد فِيها وَيَسْفِكُ الدَّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّح بَحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَالاَ تَعْلَمُونَ )) ( البقرة 30)،ويقول تعالى : (( إنَّا عَرَضنَا الأَمانةَ عَلى السَّمَاوَاتِ والأْرْضِ والجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشَفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَها الإِنْسانُ إِنَّه كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) ( الأحزاب :72). والإنسان لا يكون ظلوماً جهولاً إلاّ إذا كان ذا عقل ،فيعرف به أعباء هذه الأمانة ،ومع هذا يتعدى حدودها ؛إذ ظلم نفسه بتحمل أعباء يعرفها ويتعدى حدودها ،وجهول لأنَّه يتعدى تلك الحدود لجهله بها. وهنا يتضح لنا سبب اختيار الله للإنسان لمسؤولية الاستخلاف . فالعقل والتفكير مناط التكليف ؛ لذا اشترط التكليف بالعقل ،فإن انعدم العقل سقط التكليف ،لذا نجده سقط عن الصغير والمجنون والمعتوه ،فالإنسان مكلف بعمارة الأرض ،وبأمانة الاستخلاف لأنَّه ذو عقل ،ووجود عقل يعني وجود فكر ،ودور العقل في هذه القضية جد عظيم ،وهو موضع اعتبار الإسلام وتعظيمه ليكون في الدرجة الأولى من الأهمية والفعالية والعطاء ،ومن الوصول بالإنسان إلى مداخل الحق والخير ،وتمكينه من استيعاب الحقائق التي تملأ أرجاء هذا الكون المعمور ،وفي طليعتها حقيقة الإيمان بالله الذي يملأ وجوده الكون وما فيه لتكون له الهيمنة المطلقة التي تحيط بأرجاء الوجود من أطرافه ،ومن أقصاه إلى أقصاه ،وقد ورد ذكر العقل في القرآن الكريم ومشتقاته ثمان وأربعين مرة ؛إذ يدعو فيها أن يتفكر العقل في ملكوت الله ،وفي خلائقه المنتشرة ،وفي تركيبة هذا الكون الزاخر المعمور حتى يصل العقل إلى التصديق المطمئن بوجود الإله الخالق المهيمن الأعظم.
3- عبادة الله هي المهمة العليا لهذا الإنسان ،وقد بيَّن هذا قوله تعالى : (( ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إلاَّ ليَعْبُدُون)). فالإنسان خلق لعبادة الله ،ولتحقيق أمانة الاستخلاف وعمارة الأرض ،فهذه الآية والآيتان السابقتان عن أمانة الاستخلاف تدحض العبثية الوجودية التي تقول بعبثية الخلق ،وأنَّ الإنسان مادام سيموت فلا هدف من حياته ،ولا قيمة لأي عمل يعمله.(24/316)
4- أنَّه مسيّر ومخيَّر ،ومميز أي لديه القدرة على التمييز بين الخير والشر ،فالنفس البشرية كما تعرف الله بالفطرة ،فهي تعرف الخير والشر بالفطرة .. مصداقاً لقوله تعالى : ((وَنفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاها )) ( الشمس : 8) ،ويقول تعالى : (( وّهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن))،وهنا يأتي الاختيار فمادام الإنسان قادراً على التمييز بين الخير والشر ،فهو حر الاختيار ؛إذ بيّن الله جلَّ شأنه له لخير والشر ،وطريق كل منهما ،وله أن يختار أيهما يسلك ثُمَّ يتحمَّل مسؤولية اختياره فيثاب ويجازى خيراً على الخير ،ويعاقب في الدنيا والآخرة إن سلك طريق الجريمة والشر ،وهنا يأتي دور المجتمع في معاقبة من أجرم في حق العباد وفي حق المجتمع.،فالإنسان في التصور الإسلامي مسيَّر ومخيَّر ،مُسيَّر في بعضِ جوانب حياته وفق طبيعته التي خلقه عليها ،فهو مسير بخضوعه لسنن الكون التي لا يستطيع الخروج عنها كقوانين الجاذبية ،والضغط الجوي ،وقوانين الجسم من الهضم والدورة الدموية ،وقوانين الحرارة ،وغيرها من السنن الكونية ،وهذا من رحمة الله بالإنسان ؛إذ لو لم يكن مسيراً في قوانين الجسم كيف يستطيع أن يُسيِّر أجهزة جسمه لتؤدي وظائفها وهو نائم؟،فالإنسان في بعض جوانب حياته مسيَّر ؛بخضوعه لسنن الكون ،ولكنه من جهة أخرى له قدرة وإرادة حرة تختار ما تريد من الأفعال والتصرفات ،ولكنها مسؤولة عن هذا الاختيار ،وهنا الفرق بين حرية الإرادة في التصور الإسلامي ،وحرية الإرادة في الوجودية الملحدة ،الفرق هو العقوبة على من يتجاوز حدود الاختيار فيظلم نفسه ،أو يظلم غيره ،وحدود الاختيار محددة في الحلال والحرام ،وعلى الإنسان أن يختار الحلال ،فإذا ارتكب محرماً عوقب على قدر جريمته فإن سرق أكثر من ثلاث مرات قطعت يده ، وإن شرب الخمر جلد ،وإن ارتكب فاحشة الزنا إن كان محصناً أي متزوجاً يُرجم حتى الموت ،وإن كان غير متزوج يجلد مائة جلدة ، ،ومن قتل يقتل ،بقول تعالى : (( يا أَيُّها الذين آمنوا كتبَ عليكمُ القِصَاصُ في القْتَلى)) ( البقرة : 178) .ومن ارتد عن الإسلام يستتاب ،فإن لم يُتب يقتل لقول صلى الله عليه وسلم (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه ،فإن عاد ،وإلاَّ فاضربه عنقه ،صحيح أنَّه(( لا إكراه في الدين)) كما قال تعالى،فالإنسان حر في اختيار دينه وعقيدته ،ولكنه مادام قد اختار الإسلام ديناً وهو خاتمة الأديان السماوية نولا دين سماوي بعده فعليه الالتزام به ،ويتحمل مسؤولية هذا الاختيار ،وإلاَّ فإنَّ ارتكب معصية أو جريمة يحرمها الإسلام ؛يدَّعي هرباً من العقوبة أنّه ارتد عن الإسلام فراراً من العقوبة ،فيصبح المجتمع في فوضى بكثرة الجرائم إن لم تكن هناك عقوبة رادعة للمرتد،وتروْن أنه لا توجد عقوبة في اليهودية لمن تركها ،لأنَّه سيأتي دين سماوي بعدها هو المسيحية ،فمن ترك اليهودية واعتنق المسيحية فلا عقوبة عليه في الديانة اليهودية ،ولا توجد عقوبة في الديانة المسيحية لمن تركها لأنه سيأتي دين سماوي بعدها هو الإسلام،فمن ترك اليهودية أو المسيحية واعتنق الإسلام فلا عقوبة عليه،بل عليه الدخول في الدين الإسلامي لأنَّه خاتمة الأديان ،ولم يجبر الإسلام يهودياً ولا نصرانياً الدخول في الإسلام فالذين أسلموا منهم أسلم من تلقاء نفسه بعد اقتناع بأنه الدين السماوي الخاتم وأنَّه الدين الحق ،فالإسلام دخل في شرق ووسط وغرب أفريقيا ،وفي شرق وجنوب شرق آسيا عن طريق التجَّار ،إذ أسلم أهالي تلك البلاد عندما وجدوا في التجار المسلمين الصدق والأمانة وعدم الغش،والوفاء بالعهد،وغيرها من الأخلاق الحميدة ،وهي صفات أوجبها عليهم الإسلام ،فالإسلام دين الأخلاق ،فالرسو صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّما بُعثتُ لأتمم الأخلاق ) ،وقد وصفه الله عزَّ وجل في قوله تعالى ((وَإَنَّك لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم))فالمستشرقون الذين زعموا أنَّ الإسلام انتشر بحد السيف زعمهم باطل ،يدحضه الوقائع والحقائق التاريخية .ويؤكد هذا قوله تعالى لنبيه الكريم : (( ادْعُ إلى سَبيلِ رَبَّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وَجَادِلهُمْ بالتي هي أحسنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِين)) (النحل: 125)،وقوله لرسوله الكريم أيضاً (( لو كُنْتَ فَظَّا غَلِيظَ القَلْبِ لا نفَضُّوا مِنً حَوْلِكَ))
فالإسلام هو خاتمة الأديان السماوية ،لذا كانت هناك عقوبة على المرتد عنه بعدما اختاره ديناً بلا إكراه، ألا تعلمون أنَّ الإدارة الأمريكية تتدخل في هذه الأمور الشرعية ،وتطالب بعض الدول الإسلامية بعدم تنفيذ عقوبة المرتد على المرتدين عن الإسلام تمهيداً لتنفيذ مخطط تنصير المسلمين ؟
كما حرَّم الإسلام الانتحار ،لأنَّ فيه اعتراضاً على قضاء الله وقدره ،وفيه قتل نفس التي حرَّم الله قتلها إلاَّ بالحق ،والإنسان مسؤول عن صيانة نفسه وحمايتها، يقول تعالى : (( ولاَ تَقْتُلُوا أَنْفَسَكُم إنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيما))(24/317)
هذه الجرائم الكبرى التي يعاقب عليها الإسلام حماية للأنفس والأعراض والأموال ،والمجتمعات الإباحية لا تعتبر الزنا جريمة لأنَّهم لا يؤمنون بالإنسانية المترفعة عن مستوى الحيوان.
ولقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل في الحدود والعقوبات ،كما ساوى بين جميع الناس في الحقوق المدنية ،وشؤون المسؤولية والجزاء والعقاب ،يقو صلى الله عليه وسلم ( لا تفلح أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي ) ،وقال ( إنَّما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ،وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد ،وأيم والله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها) ،ويقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه في أول خطبة له بعد مبايعته بالخلافة : ( ألا إنَّ أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له ،وأضعفكم عندي من القوي حتى آخذ الحق منه .) وحرص على تكرار هذا المعنى نفسه أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه في أول خطبة له بعد توليه الخلافة : ( أيها الناس ! إنَّه والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ،ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه ) ،وجاء في رسالة عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري ،وهي الرسالة التي جمع فيها معظم أحكام الإسلام في القضاء : ( آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك ـ أي سو بين المتقاضين في جميع هذه الأمور ـ حتى لا يطمع شريف في حيفك ،ولا ييأس ضعيف من عدلك) . ويقول في وصيته للخليفة من بعده : ( اجعل النَّاس عندك سواء ،لا تبال على من وجب الحق ،ثُمَّ لا تأخذك في الله لومة لائم ،وإياك والمحاباة فيما ولاَّك الله ) .
5- إنَّ الإنسان مسؤول عن اختياره ليثاب إن أحسن ويعاقب ويجازى إن أخطأ،والرجل والمرأة متساويان في الجزاء والثواب ،كماهما متساويان في الإنسانية وفي تحمل أمانة الاستخلاف، وفي القصاص والحدود والعقوبات،يوضح هذا قوله تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) وهو هنا يرد القرآن الكريم على ما أثير من تساؤلات في أحد المجامع الكنسية بروما التي منها :
هل المرأة إنسان ذو روح خالدة ؟ وهل هي أهل لأن تتلقى الدين ،وهل تصح منها العبادة ؟ وهل يتاح لها أن تدخل الجنة في الآخرة ؟؟
ثُمّ قرَّر المجتمعون ( أنَّ المرأة مجرد حيوان نجس لا روح له ولا خلود ،ولكن يجبُ عليها العبادة والخدمة ،كما يجب تكميم فمها كالبعير وكالكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام لأنَّها أحبولة الشيطان )
6- الإنسان في الإسلام مادة وروح معاً ،فهو قبضة من طين ونفخة من روح الله ،يقول تعالى : (( إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذ سوَّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (سورة ص :71-72)
وقد وازن الإسلام بين الروح والجسد فلم يبخس للجسد حقاً ليوفي حقوق الروح،فيحرم المباح ،ولم يبخس للروح حقاً ليوفي حقوق الجسد، فيبيح المحرمات ،ويتضح هذا التوازن في قوله تعالى : (( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)) ( القصص : 77) ،هذا التوازن عجزت عن تحقيقه سائر الأديان والفلسفات ،وهنا تتجلى معجزة الإسلام فالإنسان في التصور الإسلامي موحد من حيث طبيعته بين النواحي المادية والروحية والحاجات النفسية.فالإسلام لا يؤمن بحيوانية الإنسان أي ماديته "كالداروينية"التي نشأت عنها المذاهب المادية كالماركسية والفرويدية القائمة على التفسير الجنسي الحيواني للسلوك الإنساني ،وغير ذلك من المذاهب القائمة على مادية الإنسان وحيوانيته ،والتي شملت كل اتجاهات الفكر الغربي،كما لا يؤمن برهبانية الإنسان كالبوذية والهندوكية التي تمخَّضت عنها الفلسفة المثالية كفلسفة أفلاطون في العصور القديمة وفلسفة هيجل في القرن التاسع عشر،وإنَّما يؤمن الإسلام بأنَّ الإنسان مادة وروح لا يمكن فصل هذين العنصرين عن بعضهما البعض.
والإنسان مخلوق مكرَّم ((ولقد كرَّمنا بني آدم )) (المائدة : 33) ،ومن مظاهر هذا التكريم:(24/318)
- العلم : (( وعلَّم آدم الأسماء كلها ثُمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)) (البقرة:31) ،وقال جلّ شأنه ((علَّم الإنسان مالم يعلم ))(العلق:5) ،كما علَّمه البيان (( الرحمن .علَّم القرآن .خلق الإنسان. علَّمه البيان)) (الرحمن :1-4)،وقد زوَّد الخالق جلَّ شأنه الإنسان بأهم أدوات التعلم وهي العقل والسمع والبصر والفؤاد ،وعلى الإنسان أن يُحسن استخدامها ،وإلاَّ فهو والأنعام سواء يقول تعالى : (( ولقدْ ذّرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرَاً مِنَ الجِنِّ والإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُم أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُون بِها وَلَهُم أَذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمُ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُون))بل حثه على استخدام المنهج العلمي باستخدام أدوات البحث العلمي في قوله تعالى ((ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السمعَ والبصرَ والفؤاد كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عنْه مسؤولا)) ولقد تحدى القرآن الكريم العقائد الموروثة والأفكار الجاهلية بالمنهج العلمي فقال جلَّ شأنه (( قل هاتوا بُرهانكم إنْ كُنْتُم صادقين)) ( البقرة:170)وقوله تعالى : (( قُلْ هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلِمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتبِعُونَ إلاَّ الظَّن وإنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تخْرُصُون)) ( الأنعام : 148) فالمنهج العلمي أول ما جاء به الإسلام وطبَّقه الحسن بن الهيثم في بحوثه وكشوفه العلمية قبل فرنيسس بيكون الذي نُسب إليه المنهج العلمي . ولأهمية العلم فلقد جعله الإسلام فريضة على كل مسلم ومسلمة ،ألا تعلمون أنَّ أول كلمة في القرآن نزلت هي كلمة "إقرأ"التي جاء فيها قوله تعالى ((إقرأ باسم ربِّك الذي خلق .خَلَقَ الإنْسَان مِنْ عَلَقْ. أقرأ ورَبُّكَ الأَكْرَم. الَّذي عَلَّم بِالقَلَمِ.عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم)) (العلق:1_5)،وألا تعلمون أنَّ الرسولمحمدا صلى الله عليه وسلم قد جعل فداء كل أسير من أسرى المشركين في غزوة بدر ،وهي أول معركة بين المسلمين ومشركي قريش هو تعليم عشرة من الصبيان في المدينة المنورة ؟ إنَّه دين حضاري وإنساني قائم على العلم واحترام أهل العلم وتكريمهم ،فقلد جعل العلماء ورثة الأنبياء ،وهم أكثر خشية لله لأنَّهم على علم بقدرته عارفون به ،يقول تعالى (( إنَّمَا يخشى اللهَ منْ عِبَادِه العُلَمَاءُ)) وبين أنَّ أهل العلم لا يتساوون مع الذين لا يعلمون ،يقول تعالى : (( قُلْ هَلْ يسْتَوِي الذينَ يَعْلَمُون وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون)) ( الزمر : 9)،بل يرفع الله أهل العلم درجات ،يقول تعالى : (( يَرْفَعُ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلَم دَرَجَاتٍ))( المجادلة : 11) ،وقد حثَّ الإسلام على طلب العلم وجعله طريقاً إلى الجنة ،فلقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه ،أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة)،فهذا فضل العلم والعلماء في الإسلام ،والذي ينكرونه عليه متهمينه بأنَّه ضد العلم ،وأنَّه يدعو إلى التخلف والرجعية ،فليتبصروا ويتأملوا في هذه الآيات القرآنية ،وفي واقع الأمة الإسلامية عندما تمّسكت والتزمت بالإسلام أية حضارة شيّدتها ،وأي علم وصلت وارتفعت إليه؟فموقف الإسلام من العلم وتشجيعه عليه ،ورفع مكانة العلماء ،ومساواة البشر جميعاً في طلبه فجَّر في المسلمين طاقات الإبداع ،وأضاف مفهوماً جديداً إلى مفهوم العلم لم يكن يلقى اهتماماً عند اليونانيين ،وهو استخدام العلم في كشف أسرار العالم الطبيعي ،وقهر الإنسان للمادة ،والسيطرة عليها ، واستخدم المسلمون الرياضيات في حل المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان ،وبرعوا في استخدام الأرقام ووضع علم الحساب ،واكتشاف الصفر في كتابة الأرقام ،واخترعوا علم الجبر ،وتفوقوا في الهندسة التحليلية ،وابتكروا حساب المثلثات ،وكانت هذه أول مرة تستخدم فيها الرياضيات للتعبير عن قوانين العالم الطبيعي ،وفي علم الطبيعة ابتكر ابن الهيثم علم الضوء ،كما اكتشف ابن سيناء الجاذبية الأرضية قبل إسحاق نيوتن بسبعة قرون ،وللأسف الغرب نسب هذا الاكتشاف إلى إسحاق نيوتن ،وفي مجال الطب فلقد اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى ،كما عرف العرب التغذية عن طريق شق العلوم بالحقن ،وهم أول من عرف الخدمة السريرية ،والتعقيم وانتقال العدوى في بعض الأمراض ،وعرفوا الجراثيم وطرق وقايتهم من الأمراض شبيهة بطرق الوقاية المعروفة اليوم .وفي علم الصيدلة فلقد اجمع مؤرخو العلوم أنّ علماء العرب والمسلمين هم الذين وضعوا قواعد علم الصيدلة وفصلوها عن الطب ؛إذ كان الطب والصيدلة مهنة واحدة.ورجع تفوق للعلماء المسلمين في علم الصيدلة إلى تفوقهم في الكيمياء وعلم النبات. هذا ويعتبر جابر بن حيَّان هو مؤسس علم الكيمياء ،وحتى أصبح في أوربا في العصور الوسطى يطلق على علم الكيمياء " علم جابر"،أو "بصنعة جابر" وكتابه "الخالص" كان يدرس في أوربا لعدة قرون ،وممّا لاشك فيه فإن إنجازات(24/319)
العلماء المسلمين في علم الكيمياء كان لها أثر كبير في صناعة الأدوية ،وفي كثير من الصناعات منها صناعة الأسلحة.أمَّا إنجازات المسلمين في علمي الفلك والجغرافيا فقلد ساعد على تطور علوم لأرض والفضاء.
إنَّ إنجازات المسلمين في كل العلوم لا تعد ولا تحصى ،وما ذكرناه على سبيل المثال لا الحصر لنبين لكم أنّ الإسلام هو الذي دفع بالمسلمين إلى كل هذه الاكتشافات العلمية لأنّ هؤلاء العلماء أول شيء يتعلمونه هو العلوم الدينية من حفظ القرآن الكريم ،ودراسة تفسيره ،ومن حفظ الأحاديث النبوية ،ودراسة الأحكام الفقهية الشرعية ،ثُمَّ ينطلقون في دراساتهم للعلوم التي يرغبون في دراستها ،ومعهم الذخيرة النفيسة من العلم التي ترشدهم وتلهمهم وتؤهلهم لطرق كل العلوم ،والنبوغ فيها فأسهموا في إنشاء حضارة فريدة تميّزت على كل الحضارات ،وأصبح المسلمون يمثلون أكبر قوة في العالم ،فمثلاً : ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع وعلم العمران،وصاحب العديد من النظريات الاقتصادية التي سبق بها آدم سميث استقى نظرياته الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية من القرآن الكريم ،ومن السنة الشريفة ،وقد كان عالماً فقيهاً ،وقاضياً تولى القضاء في مصر .فالعالم لم يعرف الحضارة العلمية إلاَّ عن طريق الإسلام الذي دفع بالمسلمين إلى ذلك ،فالعلوم الدينية تخرج العلماء والمفكرين والمخترعين لمن يدرسها حق دراستها ،ولا تُفرِّغ الإرهاب ،كما تزعم الحملة على الإرهاب التي وصفها بيانكم بأنَّها حرب أخلاقية!
والذي يُفرِّغ العنف والإرهاب أفلام العنف والإرهاب التي تنتجها سينما هوليود التي يسيطر عليها اليهود الصهاينة،فلمَ لا يوجه الانتقاد إلى تلك الأفلام التي تعرض في محطات التلفاز الأمريكية؟أيضاً لماذا لم يقدَّم الانتقاد للمناهج الدراسية الدينية في إسرائيل التي تدعو إلى إباحة أعراض ودماء وأموال غير اليهود من الأميين ،والتي تغرس في نفوس صغارها على التمايز على سائر الأمم ،وأنَّهم شعب الله المختار ، وأنَّ دولة إسرائيل الكبرى تمتد من النيل إلى الفرات ،بل حتى مناهج الحساب يُحرِّضون فيها على قتل الفلسطينيين ،فمن المسائل الحسابية التي تدرس للطلبة في إسرائيل مثلا : يوجد ثمانية فلسطينيون فكم فلسطينياً ينبغي أن تقتلهم ليبقى ثلاثة أحياء؟
- من مظاهر التكريم الإلهي للإنسان أنَّه خلقه سوي الخلقة ،يقول تعالى : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم))
- من هذا التكريم أنَّه سخَّر له ما في الكون ،يقول تعالى : (( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جمِيعاً مِّنه إَّن فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكْرُون)) . فهذا التصور الذي يحمله الإسلام للإنسان من تسخير الكون له وليس العكس .فإنَّ الطبيعة هي المسخَّرة للإنسان ،وليس هو المسخَّر لها ،فالقول بأنَّ الإنسان سخر للوجود أدَّى إلى استعباد الإنسان ،فأصبح الكون بالنسبة للإنسان سيداً معبوداً . وإقرار هذه الحقيقة أنّ الكون مسخر للإنسان فيه تحرر الإنسان من عبودية الخلق.فالمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه العقيدة لإسلامية هو أنّ الله وحده هو المعبود ،وليس أحد سواه ،فلا الشمس ولا القمر ،ولا الليل ولا النهَّار ،ولا البحار ،ولا المال ولا الحيوان ولا النار ،ولا القوم ،ولا العشيرة ،ولا الوطن ،ولا الإنسان المعبود ،فليس في الكون شيء معبود ،بل الكل ،كل الكائنات الموجودة في هذا الكون عابد له يدين له بالتعظيم ،ويقر له بالألوهية والوحدانية والعبودية ،يقول تعالى : (( وَهُوَ اللهُ لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولى والآخِرِة ولَه الحُكُمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون)) ( القصص : 70). وهكذا كرَّم الله الإنسان ؛إذ حرَّره من عبودية الخلق ليكون عبداً للخالق جلَّ شأنه ،وهي عبودية تشريف وتكريم وإعزاز لأنَّه بهذه العبودية يرتفع ويسمو وتنبتُ في نفسه الطمأنينة ،ويتطهر جسده من أردان الرذائل والخبائث ،ويرتقي بآدميته إلى الفضائل والعفاف ،فلا يخشى إلاَّ الله ،ولا يذل نفسه إلاَّ لله ،ويجعل عمله خالصاً لله ،فيتحرر من الخديعة والكذب والنفاق والرياء ،ويراقب الله في أعماله وأقواله ،فلا يخون ،ولا يسرق ،ولا يزني ،ولا يقتل فيعيش سعيداً عزيزاً مكرماً مطمئن النفس قرير العين ،فيسلم من آفات وأمراض هذا الزمان ،وكل زمان ؛إذ يتخلص بإخلاص العبودية لله ممَّا تعاني منه البشرية أفراداً وجماعات من الويلات والنكبات التي تنصب على رأسها صباً كالقلق والخوف ،والهم ،والاكتئاب ، والانتحار ، والأنانية ،والجشع ، وسُعار الجنس ، والطلاق ، والاغتصاب ، والإرهاب ،وتفسخ الأسرة وتفككها ، وانحلال المجتمع ،كل هذه الأمراض والمفاسد تعاني منها البشرية الشاردة عن دين الله ،والتي تعلق العصيان على الله سبحانه وتعالى ،وذلك لتصورها المخبول القاصر أنَّها تستطيع أن تحظى بالسعادة والخير بانفرادها بالتشريع وانفصالها عن صراط الله في شرعه ودينه ،لهذا كانت الغاية العليا من خلق الإنسان عبادة الله جلَّ شأنه ، يقول تعالى : (( وما خلقتُ الجن والإنس إلاَّ ليعبدون))(24/320)
7- أنَّ الحياة الدنيا دار امتحان وابتلاء ،يمر بها الإنسان ليصل إلى الآخرة ،وأنَّ الحياة الآخرة هي الحياة الدائمة لا موت فيها ،ولقد وصف الحياة الدنيا : بأنّها حياة لهو ومملوءة بالزينة والزخرف والشهوات(( اعلموا أنَّما الحيَاةُ الدُّنَيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال والأَوْلادِ)) (0الحديد :20) ،وأنَّها متاع مؤقت ،ومكان عبور لا يجوز اتخاذها غاية ،يقول تعالى : (( إذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمَاً )) ( طه : 104)،وأنَّها دار تعب وكدح وجد ،يقول تعالى : (( يَا أُيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحَاً فَمُلاَقِيه)) ( الانشقاق : 6)
8- الإيمان أنَّ الكون ميدان للنشاط الإنساني ؛إذ يستخدم فيه الإنسان طاقاته وإمكاناته ويسخره لمنفعته ،وأنَّ إرادة الله وراء ما يحدث في هذا الكون ،وأنّ الكون مسير ومدبر دائماً بقدرة الله ،يقول تعالى : (( ومِنْ آياتِهِ أنْ تَقُومَ السَّمَاءُ والأرْضُ بِأمْرِهِ)) ،وأنَّ الكون كله قانت لله : (( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهنَّ وَإِنْ مِّنْ شَيءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)) (الإسراء : 44)،وأنَّ كثيراً مما في هذا الكون سخر للإنسان ،يقول تعالى : (( هو الذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعَاً ثُمَّ اسْتَوى إِلى السَّمَاءِ)) ( البقرة: 29)
هذه أهم المرتكزات التي تمثل عقيدتنا الإسلامية ،والتي تنبثق منها قيمنا ومبادئنا ولعلكم تجدون فيها إجابة إلى كثير من التساؤلات منها البحث عن الحقيقة في مقصد الحياة ومصيرها .
ثانياً:القيم الأمريكية والمبادئ الخمسة التي تدافعون عنها:
في البداية فنحن نتفق معكم في أنَّ الاستهلاكية كطريقة حياة ،وتصور الحرية على أنَّها تعني عدم وجود قيود ،والتصور السائد أنَّ الفرد مستقل قائمٌ بذاته ،فليس له مسؤولية كبيرة نحو الآخرين والمجتمع ،وضعف العلاقة الزوجية والحياة الأسرية ،من القيم الأمريكية المضرة وغير الجميلة ،وأنَّ وسائل هائلة للتسلية والإعلام تعظِّم هذه القيم ،وتنشرها بدون توقف في جميع أنحاء العالم سواءً لقيت هذه القيم الترحيب أم لا ،ولكن الذي نضيفه بهذا الصدد ،وقد فاتكم الإشارة إليه ،أنّ هذه القيم الضارة ،وغيرها كالعلاقات غير الشرعية ،وما ينجم عنها من حمل غير شرعي تقوم بفرضه مؤتمرات المرأة العالمية التي تنظمها الأمم المتحدة ،وما يتمخض عنها من اتفاقات دولية كاتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز بين الرجل والمرأة ،والتي يضغط على دول العالم الثالث ،الذي ندرج نحن ضمنه على التوقيع عليها وتنفيذها ،ومثل هذه الاتفاقية تلزم الدولة على جعل أنظمة العمل لديها تلزم المرأة العمل في المحاجر والمناجم ،وفي الأعمال الليلية ،ممَّا يعرض المرأة إلى الابتزاز الجنسي ،ويحرم أفراد أسرتها منها في وقت هي أمس الحاجة إليها ،وهذا يؤثر تأثيراً كبيراً على كيان الأسرة ،وقد يخلخله ويضعفه ،وقد يؤدي أيضاً إلى انهياره.
بل الأكثر من هذا فإنّ الممولين الأجانب للجمعيات الخيرية النسائية ذات التوجه العلماني ،وهم في أغلبهم يهود صهاينة يتسترون في جنسيات أمريكية وأوربية ،بل منهم من يتبع الحكومة الأمريكية مباشرة يدفعون بالقيادات النسائية في هذه الجمعيات المطالَبة بالخروج عن ثوابت الإسلام في العلاقات الأسرية كإلغاء قوامة الرجل ،وإلغاء العدة والاكتفاء بالكشف الطبي ،وإلغاء حد الزنا ،وعدم تطليق الزوج لزوجته عند اكتشافها غير بكر ،وغير ذلك من الأمور التي تشيع الفاحشة في المجتمعات ،وتدعو إلى الانفلات الجنسي.ومن هذه الهيئات الأمريكية الممولة : هيئة المعونة الأمريكية (A.I.D)،وأموال المعونة الأمريكية التي تأتي مرة باسم ( U.N.I )ومرة باسم (سيريا) ،ومرة باسم ((A.I.Dتتبع جميعها الحكومة الأمريكية مباشرة،وهناك مؤسسات أمريكية أخرى لا تندرج تحت اسم المعونة الأمريكية A.I.D))،ولكنها تتبع الحكومة الأمريكية مثل المنحة المحلية للديمقراطية في واشنطن التي تقول عنها مديرة قسم برامج الشرق الأوسط : " أنَّه تمَّ تكوينها بناءً على مبادرة من إحدى لجان الكونجرس ".(24/321)
وإن كان من مبادئكم الخمسة التي تدافعون عنها حرية الاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق غير القابلة للانتقاص جميع البشر ،فمن باب أولى أن يعطى لهذا الإنسان الحرية في العمل الذي يمتهنه ويحترفه ،ولكن ما رأيكم في أنَّ منظمة العمل الدولية رفضت إقرار نظام العمل في مصر الذي رفضت فيه النساء العمل في المحاجر والمناجم ،وفي الأعمال الليلية مبينات أسباب رفضهن هذه الأعمال بأنَّها تعرضهن للتحرش الجنسي ،وأنَّ أسرهن في أمس الحاجة إليهن في تلك الأوقات،كما لو اطلعتم على وثيقة بكين تجدون فيها فرض القيم التي قلتم عنها أنَّها قيم ضارة ،بل الأكثر منها ضرراً تقرها هذه الوثيقة لتعمل بها دول العالم الثالث ،كما تجد منظمو مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة في التسعينيات من القرن الماضي حاولوا أن يوصوا بإقرار الإجهاض ،لولا أن تصدى لهذه التوصية علماء الدين في الأزهر ،وفي عالمنا الإسلامي.
لقد نظَّم الإسلام العلاقات الأسرية ،وجعل الزوجية تقوم على أركان ثلاث هي : السكن والمودة والرحمة ،يقول تعالى (( ومِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُم أَزْوَاجَاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَل بَيْنَكُم مَوَدَةً وَرَحْمة إنَّ ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقوْمٍ يَتَفكَّرُون)) (الروم : 21)
وجعل للزوجة مثل ما للزوج من حقوق وما عليهما من واجبات تجاه الآخر ،يقول تعالى (( ولَهُنَّ مثل الذي عليهِنَّ بالمعروف))،وألزم الرجل بالنفقة على زوجه ولو كانت غنية ،ومقابل ذلك جعل له القوامة ،وهي تكليف عليه مسؤوليات وتبعات والتزامات ،ومن مسؤوليات القوامة تحقيق الأمن والأمان ،وتقديم النصح والإرشاد ،فهي لا تعني الاسترقاق والاستعباد ،كما فهمها البعض،وأثار بعض المستشرقين حولها الكثير من الشبهات ،فهي مبنية على والتفاهم على أمور البيت والأسرة،وليس منشؤها تفضيل عنصر الرجل على عنصر المرأة ،ثُمَّ أنَّ جميع الأديان والأعراف في جميع المجتمعات جعلت القوامة للرجل باستثناء مجتمع شاذ هو مجتمع التبت ،فلماذا كل هذا التحامل على القوامة في الإسلام ؟ ،يقول تعالى : (( الرِّجَال قَوَّامُون عَلى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهم )) (النساء : 34)
وأمر أن تكون العشرة الزوجية بالمعروف ،يقول تعالى : (( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيَئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً))( النساء: 19)،فإن استحالت الحياة الزوجية بين الزوجين يكون الطلاق بمعروف ،يقول تعالى : (( الطَّلاُقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحَسَان)) (البقرة 229)،والطلاق هو أبغض الحلال عند الله ،وقد شرِّع الطلاق في الإسلام لئلا يعيش الزوجان معاً بالإكراه،فتتحول حياتهما إلى شجار وخناق ،وينعكس ذلك على الأولاد ،ولئلاّ يدفع ذلك الزوج إلى خيانة زوجه ،ويرتكب الفواحش ،وقد يدفع ذلك بالزوجة إلى فعل ما حرَّمه الله .وتتضح هذه الحكمة أمامنا في المجتمعات الغربية التي تحرم الطلاق ؛إذ كثرت فيها الخيانات الزوجية ،فالزوجة تخون زوجها ،والزوج كذلك ،والنتيجة اختلاط الأنساب ،ووجود أطفال غير شرعيين ،وإباحة جنسية ،وانهيار الأخلاق والقيم والفضائل.
وهناك أيضاً حملات من بعض المستشرقين على الطلاق في الإسلام !
والروابط لأسرية والعائلية قوية في الإسلام ،فالإسلام يحث على الترابط الأسري ،وينهى عن قطع الأرحام ،وأوصى بالبر إلى الوالدين ،وقرنه بعبادته ،بل نهى عن التأفف منهما ،يقول تعالى : ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوُا إِلاَّ إِيَاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وّقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمَاً .وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً )) ( الإسراء : 23-24)،فهل يوجد سمو ورقة في المشاعر الإنسانية مثل هذه المشاعر؟
فلقد ألزم الأولاد بالبر بالوالدين والإحسان إليها ورعايتهما والإنفاق عليهما إن احتاجا إلى ذلك ،كما ألزم الأب بالإنفاق على أولاده وبناته ،إلى أن يعمل الأولاد بعدما يتمُّون تحصيلهم العلمي ،وينفق على البنات إلى أن يتزوجن،ولا يحق للأب إكراه ابنته على الزواج ،ولا يصح عقد الزواج إلاَّ بموافقة ورضا المتزوج بها ،بل يعد عقد الزواج باطلاً إذا أكرهت الفتاة على الزواج .
إنَّ النظام الأسري في الإسلام وضعه وشرَّعه الخالق ،ولا يرقى أي نظام إليه ،فلمَ يتدخل الآخر الغربي في نظامنا الأسري ؟ويريد أن يصدِّر إلينا قيمه الضارة وغير الجميلة كما وصفها بيانكم؟
في العقد الثاني من القرن العشرين أصدر " أسوالد اشبنغلر " كتاباً بعنوان " تدهور الحضارة الغربية" ،فإن كان حال الحضارة الغربية قبل ثمانين عاماً في طريها إلى الانهيار ،فما هي حالها الآن ؟(24/322)
ولماذا يحاول الغرب أن يفرض علينا انهيار حضارته،بكل ما فيها من قيم ضارة ،فنسير وفق ما يسير ،ونفكر مثل ما يفكر ،ونعتقد مثل ما يعتقد ،ونسلك ذات السلوك الذي يسلكه بفرض العولمة علينا ؟
نعود إلى ذات المبدأ ،وهو : "حرية الاعتقاد والحرية الدينية من الحقوق غبر القابلة للانتقاص لجميع البشر" هل تروْن أنّ هذا المبدأ ملتزمون به مع كل الأديان؟
نحن نرى أن هناك انتقاصاً من العالم الغربي لمعتقدي الديانة الإسلامية ، فدماؤنا تهدر ،وأعراضنا تنتهك ،وأراضينا تُغتصب، وأموالنا تصادر وتجمد ،وأسرانا لديكم يعاملون معاملة أدنى بكثير من الحيوانات ،ولا يحق لنا أن نقول "لا " لمغتصبينا ،بل لا يحق لنا أن ندافع عن أراضينا التي اغتصبت ،ولا عن أعراضنا التي انتهكت ،ولا عن دمائنا التي هدرت في مذابح دير ياسين وجنين والخليل ونابلس ،وبيت لحم ورام الله في فلسطين ، ومدرسة بحر البقر في مصر ،وفي مخيمات صبرا وشاتيلا ،وقانا في لبنان هذه المذابح التي قام بها اليهود الصهاينة،فلو قمنا بذلك أصبحنا إرهابيين ،لقد أصبح حق المقاومة المشروعة للدفاع عن الأرض المغتصبة في عرفكم إرهاباً في الوقت ذاته أعطيتم لأنفسكم حق إعلان الحرب على من أوهمتكم إدارتكم بأنهم هم الذين قاموا بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ،ووصفتم هذه الحرب بأنَّها حربٌ أخلاقية عادلة ،ولكن مقاومة الفلسطينيين للصهاينة الذين احتلوا أراضيهم ،وهدَّموا بيوتهم على سكانها ،وجرَّفوا أراضيهم ،وضربوهم بالصواريخ والقنابل ،وبالدبابات ،وكلها أسلحة أمريكية،وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ ،وحاصروهم في بيوتهم ،ومنعوهم من التجول إلا ساعات قلائل بعد عدة أيام ليشتروا حاجاتهم الضرورية من الطعام،وحالوا دون إنقاذ الجرحى وإسعافهم ،بل حالوا دون دفن الشهداء ،وحرقوا المساجد والكنائس ،وقتلوا الرهبان وقارع أجراس كنيسة المهد مهد المسيح عليه السلام ،وحاصروا كنيسة المهد أربعين يوماً ،ودمروا فيها ما دمَّروا ،وحرقوا فيها ما حرقوا ،ومع هذا يوصف قائدهم من قبل الرئيس "جورج بوش " بأنَّه رجل سلام ،ولم تطبق أية عقوبة على إسرائيل ،مع أنَّها نقضت الاتفاقيات التي وقعتها معها السلطة الفلسطينية ،ورغم عدم امتثالها لقرارات الأمم المتحدة ،ورفضها دخول لجنة تقصي الحقائق في جنين التي تكونت بقرار من الأمم المتحدة ،وما كان من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إلاَّ أن يعلن حل اللجنة دون أن تطبق أية عقوبة على إسرائيل في حين أنَّ العراق فقد مليون طفل من جراء الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليه الولايات المتحدة منذ أحد عشر عاماً بدعوى أنَّها تمتلك أسلحة الدمار الشامل ،وأنَّها لم تسمح للمفتشين الدوليين القيام بأعمالهم ،في حين نجد إسرائيل تملك سلاحاً نووياً ،وأسلحة الدمار الشامل ،وتضرب بالقوانين الدولية ،والاتفاقيات التي أبرمتها عرض الحائط،ولا تطبق عليها أية عقوبة ،بل يوصف شارون بأنّه رجل سلام ،ويوصف العراق بأنَّه محور شر !(24/323)
هل تروْن أنَّ المبدأ الأول الذي أعلنتموه في بيانكم ،وجميع القيم التي أعلنتموها تطبق على جميع الناس دون تمييز،أم أنَّ المسلمين بصورة خاصة مستثنون ،فهم محرومون منها ،بدليل أنَّ العقوبات الدولية مطبقة فقط على الدول العربية والإسلامية مثل العراق وليبيا والسودان ،والباكستان التي رفع عنها الحصار مقابل السماح للولايات المتحدة الأمريكية بجعل لها قواعد عسكرية في الباكستان ،وأن تتعاون الباكستان مع الولايات المتحدة في القضاء على طالبان ،في حين إسرائيل إلى الآن لم تطبق عليها أية عقوبة دولية ،وهي أكثر دول العالم انتهاكاً لحقوق الإنسان ،وأكبر دولة إرهابية ،وهي رأس الشر في العالم فهي محتلة أرضاً لاحق لها ولا في بوصة منها كما أعلن ذلك الحاخام " ديفيد وايس" الناطق الرسمي لحركة "ناطوري كارتا"،والذي صرَّح أنَّ قيام دولة إسرائيل غير شرعي لأنَّها ضد الله ،فالله حكم على اليهود بعدم إقامة دولة لهم عقاباً لهم على ما ارتكبوه من خطايا وذنوب ،وصرَّح أيضاً أنَّ أرض فلسطين بأكملها من حق الفلسطينيين ،وأنَّه لن يكون هناك سلام مع إسرائيل ،وأنَّ إسرائيل ينبغي أن تزول ليعم السلام في المنطقة ،وأنَّ اتفاقيات السلام لن تجدي مع إسرائيل لأنَّها دولة صهيونية ،والصهيونية قائمة على الدم ،وأنَّ ما تقوم به إسرائيل مع الفلسطينيين من قتل وتدمير وتخريب لأراضيهم وممتلكاتهم جرائم كبرى ،فهذه شهادة من حاخام يهودي ،وأدلتنا على وعروبة فلسطين والقدس ،وعدم شرعية قيام دولة إسرائيل ،وأنَّه لا حق لها ولا في شبر من الأراضي الفلسطينية أدلة كثيرة منها : أنَّ التوراة التي يزعمون أنَّ الله وعدهم فيها بفلسطين ،وأنَّها أرض الميعاد ،لقد حرَّفها اليهود ،فالتوراة المتداولة كتبها عزرا الوراق ،وكهنة اليهود على مدي 1100 عام ،وقد ثبت تحريفها بتناقضها عندما وضعها علماء الديان الغربيون تحت مجهر النقد التاريخي ،وأدلة تناقضها كثيرة لا حصر لها ،وقد بَّين الدكتور موريس بوكاي بعض هذه التناقضات عندما قارن بعض الأحداث في التوراة والإنجيل والقرآن ،ووجد أنَّ القرآن الكريم يخلو من المتناقضات فاعتنق الإسلام .
ولو فرضنا جدلاً أن هذا الوعد قد أُعطي لهم ،فقد كتب الله عليهم عدم إقامة دولة ،وهذا ورد في توراتهم ،وهو ما تستند عليه جماعة "ناطوري كارتا" بعدم شرعية قيام دولة إسرائيل ،وأنَّها دولة ضد الله ،ثُمَّ أين هم بنو إسرائيل ؟ فلقد أثبتت دراسات علم الإنسان
التي قام بها العالم الأنثربولوجي البريطاني "جيمس فنتون" عن يهود بني إسرائيل أنَّ95% من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة،وإنَّما هم أجانب أو مختلطون ،وقراءة منا في تأريخهم الأنثروبولوجي توضح لنا هذه الحقيقة ،،وتوضح لنا أنَّ ال 5% الباقية هي مختلطة بجنسيات أخرى بالتزاوج ! ثُمَّ أنَّ الحق التاريخي أسقطه القانون الدولي بالتقادم ،فلو فرضنا جدلاً أنَّ لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين ،فلماذا لم يسقطه القانون الدولي ،وقد مضى على ما يدعونه من حق ألوف السنين ؟
ألا ترون أنَّ المجتمع الدولي يُبيح لليهود ما يُحرَّمه على غيرهم؟
هذا ونحن إذا قرأنا تأريخ اليهود نجد أنَّهم أمة بلا أرض ولا وطن ،ولذا سمُّوا بالعبرانيين ،وهم لم يؤسسوا ولا مدينة في فلسطين و في غيرها ،واسم أورشليم،وتعني مدينة السلام ،وشكيم"نابلس"،وسبسطية "السامرة ،وغزة "حبرون" وصهيون،اسم تل كنعاني بنيت عليه القدس ،وغيرها من الأسماء ليست أسماء عبرية ،وإنَّما هي أسماء كنعانية عربية ،وإن وردت في التوراة فلا يعني هذا أنَّها عبرية ،واللغة العبرية ذاتها مأخوذة من الآرامية ،وهي من اللغات العربية ،فحتى اللغة العبرية ليست في أصولها يهودية ،فتاريخ اليهود يقول إنَّهم أخذوا كل شئ حتى اللغة التي يتكلمون بها ،والحروف التي يكتبونها بها ،فهم لم يسهموا بشيء سوى السطو على ما ليس لهم ،ومنهم.
إنَّ الحق التاريخي الذي يدَّعونه باطل، ،ويؤيد بطلانه شهادة الحاخام " وايس "بأنَّ ليس من حق اليهود ولا في بوصة من أرض فلسطين ،وأنَّ أرض فلسطين بأكملها من حق الفلسطينيين.(24/324)
هذا ونؤكد لكم بأنَّه لو قامت السلطة الفلسطينية بمحاصرة كنيسة المهد ـ وهي لن تفعل ذلك لأنَّ ديننا يحترم الديانات السَّماوية ـ لقام العالم المسيحي بأسره بإعلان حرب صليبية ثانية على العالم الإسلامي ،ولكن اليهود متميزون ،ولو قاموا بهدم كنيسة المهد ،فلن يعمل العالم المسيحي أي شيء ،وأحداث كنيسة المهد تؤكد هذا القول ،لذا فأنا أدعوكم أن تراجعوا مع إدارتكم مبادئكم قبل أن تعلنوا أنَّها مطبقة على جميع الناس بلا تمييز،كما أود أن أذكركم بسكان أمريكا الأصليين " الهنود الحمر " هل حفظ مؤسسو الولايات المتحدة حقوقهم في الحرية والمساواة ،وفي العيش بأمان في بلادهم ،أم قضي عليهم وصِّوروا في أفلام "رعاة البقر" بأنَّهم متوحشون وقطَّاع طريق ،وقتلة ولصوص،تماماً كما يحاول الإعلام الصهيوني لديكم أن يُصوِّر الفلسطينيين بذلك ،وهاهم يصورون المجاهدين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى كنيسة المهد ،وأُبعِدوا من بلادهم بناءً على طلب إسرائيل المدللة لدى الغرب بأسره يعاملون كإرهابيين ومجرمين شديدي الخطر ؟؟؟!
وهل مؤسسو الولايات المتحدة التزموا بمبدأ احترام حقوق جميع البشر في الحرية والمساواة عندما اختطفوا الرجال والنساء من الإخوة الأفارقة ،واستخدموهم كعبيد أرقاء وأذلوهم الإذلال كله حتى قامت في الجنوب ثورة الزنوج؟
فهنا نرجوكم للمرة الثانية أن تراجعوا هذه العبارة التي وردت في بيانكم " فمؤسسو الولايات المتحدة أكدوا أنَّ جميع الأفراد يستوون في الاحترام والحرمة ،وأنَّ هذا المعنى ثابت بعلم ضروري " .
لقد جاء من ضمن مبادئكم الخمسة قولكم "إنَّ القتل باسم الله مخالف للإيمان بالله ،وهو أعظم غدر لشمولية معنى الإيمان لدى البشر"
ونقول لكم: هناك فرق كبير بين قتل النفس بغير حق ،وبين قتال عدو يقاتلك وهو مغتصب لأرضك أو يريد اغتصابها منك ،وعليك أن تدافع عن نفسك ،فقتل النفس بغير حق محرم في كل الأديان ،وقد حرَّم الله قتل النفس بغير حق ،يقول تعالى : (( ولا تَقتلوا النفسَ التي حرَّم الله إلاَّ بالحق )) ( الأنعام :151)
وقتل المدنيين الأبرياء في أفغانستان والعراق والصومال والفلبين وفياتنام ،وأمريكا اللاتينية ،وشن حروب على تلك الدول بلا مبررات شرعية ،وإنَّما لفرض الهيمنة والسيطرة عليها،هو المخالف للإيمان بالله. ولكن في حالة الاعتداء على أراضي المسلمين وأوطانهم ومقدساتهم وجب على المسلمين الجهاد والقتال في سبيل الله دفاعاً عنها ،وباسم الله ،وعندئذ يكون القتال باسم الله مردداً "الله أكبر" من صميم الإيمان وليس مناهضاً للإيمان،يقول تعالى : (( وقاتلوا في سبيلِ اللهِ الذين يُقَاتِلونكم ولا تعتدوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المعْتَدِين)) (البقرة : 190)،وبيَّن الله عزَّ وجل أنَّ القتال فرض علينا وهو كره لنا ،ولكن لا بد من الدفاع عن ديننا وأنفسنا وممتلكاتنا وأعراضنا ،يقول تعالى : (( كُتبَ عليكمُ القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم )) ( البقرة :216)،كما نهانا عن عدم موالاة من قاتلنا وأخرجنا من ديارنا أو من يناصر على إخراجنا من ديارنا ،ووصف من يواليهم بالظالمين ،في حين جعل البر والإحسان إلى من لم يقاتلنا ويخرجنا من ديارنا أساس العلاقة بيننا وبينهم ،يقول تعالى : (( لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عنِ الذين لمْ يُقَاتِلوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبرُّوهُم وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسُطِين.إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِّينَ قَاتَلُوكُم فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلى إِخْرَاجِكُمَ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون.)) 0الممتحنة :8)
وما يقوم به الفلسطينيون اليوم من مقاومة للاعتداء الصهيوني هو جهاد في سبيل الله دفاعاً عن المسجد الأقصى ،وعن أراضيهم ووطنهم المغتصب ،وليس إرهاباً كما تصفه الإدارة الأمريكية والدولة الصهيونية،وإنَّ كل فلسطيني يقتله اليهود كأنهم بقتله قتلوا الناس جميعاً فقد كتب الله هذا عليهم ـ إن كانوا من بني إسرائيل كما يدَّعون ـ يقول تعالى : ((كّتَبْنا على بني إسرائيل أنَّه من قَتَلَ نَفْسَاً بغير نفس أو فسادٍ في الأرضِ فَكَأنَّما قتل النَّاسَ جميعاً ومن أحياها فكَأَنَّما أحيا النَّاسَ جَمِيعاً))( المائدة : 32)
أمَّا الذين يجاهدون في سيبل الله ويقتلون ،فهم شهداء أحياء عند ربهم مثواهم الجنة خالدين فيها،يقول تعالى : (( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَاً بَلْ أَحَيَاءٌ عِنْدَ رَبَّهِمْ يُرْزَقُون .فَرِحِينَ بِمَا أَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ )) ( آل عمران : 169_170) .(24/325)
إنَّ القتال في الإسلام يقوم على أسس أخلاقية عادلة ،فلا يأخذ العدو على غرة ،ونهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين ،فلقد روى رباح بن ربيعة أنَّه خرج مع رسول ا صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها ،فمر رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه بامرأة مقتولة فوقف أمامها ثمَّ قال : ( ما كانت هذه لتقاتل ! ثُمّ نظر في وجه أصحابه وقال لأحدهم (الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفاً ـ أي أجيراً ـ ولا امرأة) رواه مسلم.
ولقد أوصى رسول ا صلى الله عليه وسلم جيشه في غزوة مؤتة،وهو يتأهب للرحيل : ( ألا تقتلنَّ امرأة ولا صغيراً ضرعاً ـ أي ضعيفاً ـ ولا كبيراً فانياً ،ولا تحرقنَّ نخلاً ولا تقلعنَّ شجراً ولا تهدموا بيتاً ) ،وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه : أنَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه قال : (لا تقتلوا أصحاب الصوامع)
وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه ـ أول خليفة للمسلمين ـ قائده أسامة بقوله : ( لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ،ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ،ولا شيخاً كبيراً ،ولا امرأة ، ولا تقهروا نخلاً ولا تحرقوه ،ولا تقطعوا شجرة مثمرة ،ولا تذبحوا شاة ،ولا بقرة ،ولا بعيراً إلاَّ لمأكلة)
كما حرَّم الإسلام الإجهاز على الجرحى والتمثيل بجثث القتلى،وعدم إصابة المدنيين ،كما حثَّ على الإحسان في معاملة الأسرى ،وجعل الإحسان إليهم علامة الإيمان ،يقول تعالى : (( ويُطْعِمون الطَّعام على حبِّهِ مِسْكِينَا وَيَتِيمَاً وَأَسِيرَاً .إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُم جَزاءاً وَلاَ شُكُوراً )) ( الإنسان: 8-9)،ولا يجوز قتلهم ،ولا جرحهم ،ولا تعذيبهم ،وحثَّ على إطلاقهم بالمن عليهم أو فدائهم بينما نجد لم تظهر اتفاقيات أو معاهدات دولية لتنظيم معاملة الأسرى إلاَّ في أواخر القرن الثامن عشر ،وبالتحديد في سنة 1875م،وقد استقي معظمها من الإسلام.
ويرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذروة الإنسانية وأكرم آفاقها حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف ،وحمايته ،وإيصاله إلى بلده ومأمنه ،وفي ذلك يقول جلَّ شأنه : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِّنْ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُون ) ( التوبة : 6)
وقد أعطى الإسلام المرأة حق إجارة لمحارب مثلها مثل الرجل تماماً ، وقصة إجارة أم هانئ رضي الله عنها لاثنين من المحاربين يوم فتح مكة تبيِّن ذلك،فعندما أراد أخوها سيدنا علي كرَّم الله وجهه قتلهما ،ذهبت إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وشكت له ، فقال لها عليه الصلاة والسلام " ما كان له ذلك ،قد أجرنا من أجرت وأمنَّا من أمّنتِ"
هذه أحكام الإسلام في القتال، وهي أحكام ـ كما ترون ـ أخلاقية عادلة ،ولا توجد أية شريعة تضاهيها خلقاً وعدالة ،ومع هذا نجد هناك محاولات من الغرب إسقاط الجهاد وإلغاؤه ووصفه بالإرهاب ،وإلغاء حق المقاومة المشروع ليعم قانون الغاب ،فيعتدي القوي على الضعيف ،ولا يحق للضعيف الدفاع عن نفسه،لأنّه عندئذ سيصبح إرهابياً ،وبالتالي يعم العالم الظلم والغبن والقهر.
في حين يسكت العالم بأسره عن جرائم اليهود في فلسطين ،أتعلمون ما هي أخلاقيات الحرب لدى اليهود وفق التوراة الذي حرَّفوه وفق أهوائهم ،والتلمود الذي كتبه كهنتهم ،وقدسوه وعدَّوه جزءاً من التوراة؟
إنَّ فكرة الحروب عند اليهود فكرة أساسية تعبر عن علاقتهم بغيرهم من الأمم ،وهم يعتقدون أنَّهم أرقى الشعوب،وأنَّ هذه منحة ربَّانية ،أعطاهم الرب إيَّاها : ( أنتم أولاد الرب إلهكم ،لأنَّكم شعبٌ مقدس للرب إلهك،وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب على جميع الأرض ) "سفر التثنية :14"
ومن ثمَّ فإنَّ حروبهم تدميرية لم يحظرها دينهم الذي حرَّفوه عليهم ،بل أباحها ومجَّدها ،ولم يضع القيود عليها ،فإذا حاربوا استباحوا أعداءهم ،فقتلوا الرجال ،واستعبدوا النساء والأطفال وأحرقوا البيوت (فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف وتحُرِّمها،بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف .تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها ،وتُحرق بالنار المدينة ،وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك فتكون تلاً إلى الأبد لا تبنى بعد )"التثنية :إصحاح13: 16-17"
وجاء في الإصحاح العشرين من نفس السفر : ( حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ،فإن أجابتك إلى الصلح ،وفّتحت لك ،فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً ،فحاصرها ،وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ،وأمَّا النساء والأطفال والبهائم ،وكل ما في المدينة غنيمة تغنمها لنفسك ،وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك )(24/326)
هذه أخلاقيات الحرب عند اليهود،وشتَّان بين أخلاق القتال عند المسلمين وعند اليهود! ومع هذا لم توصف اليهودية قط بالإرهاب ، واليهود بالإرهابيين ،ولم يحارب التوراة والتلمود،كما يحارب القرآن الكريم والسنة النبوية ،ولم يحارب القتال عند اليهود ،بينما يحارب الجهاد في الإسلام ،ويعمل على إسقاطه ،وتغييبه حتى تدخل الغرب في توصيات أحد المؤتمرات الإسلامية وحذف كلمة جهاد منها.
فالحرب على الجهاد في الإسلام تستهدف قتل روح الجهاد لدى المسلمين ،ليستسلموا لمن يريد السيطرة عليهم ،وعلى ثرواتهم دون أدنى مقاومة ،وليحقق اليهود الصهاينة مخططهم في تكوين دولة إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات ومن لبنان إلى الجزيرة العربية ،تمهيداً لتحقيق سيطرتها على العالم ،كما جاء في بروتكولاتهم ؛ إذ جاء في البروتوكول الرابع عشر "حينما نمكن لأنفسنا سنكون سادة الأرض لن نبيح قيام أي دين غير ديننا، أي الدين المعترف بوحدانية الله الذي ارتبط باختياره إيانا كما ارتبط به مصير العالم، ولهذا السبب يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان، وإذ تكون النتيجة المؤقتة لهذا هي إننا ملحدون، فلن يدخل هذا في موضوعنا: ولكنه سيضرب مثلاً للأجيال القادمة التي ستصغي إلى تعاليمنا على دين موسى الذي وكل إلينا بعقيدته الصارمة ـ واجب إخضاع كل الأمم تحت أقدامنا"
وليتسنى لهم تقويض الأديان يسعون للسيطرة على المقدسات الدينية للإسلام والمسيحية. كما تبين لنا أن بروتوكولات صهيون هي امتداد لتعاليم التلمود والتوراة المحرفة، وكما جاء في بروتوكولات صهيون أنهم ليحكموا العالم لابد أن يعملوا على تقويض الأديان ومن هنا كانت بداية لمخططها التلمودي الماسوني الصهيوني لهدم الأديان.
عداء اليهود للمسيح والمسيحية:
ولنتأمل نظرة التلمود إلى المسيح عليه السلام، مما جاء في التلمود عن المسيح عليه السلام الآتي:
1ـ إن يسوع الناصري موجود في لجات العسكري بندرا بمباشرة الزنا .
ومما جاء فيه أيضاً "يسوع المسيح أرتد عن الدين اليهودي وعبد الأوثان وكل مسيحي يتهود فهو وثني عدو الله لليهودي"
ومع هذا فبنو إسرائيل الذين أرسل الله إليهم عيسى لم يؤمنوا به كما لم يؤمنوا بنبي قبله، وكادوا لعيسى وحاربوه وطاردوه ووشوا به وجاء في التلمود "قتل المسيحي من الأمور الواجب تنفيذها وان العهد مع المسيحي لا يكون عهداً صميماً يلتزم به اليهودي… إن الواجب أن يلمس اليهودي ثلاث مرات رؤساء المذهب النصراني وجميع الملوك الذين يظهرون العداوة ضد بني إسرائيل" وجاء في التلمود عن الكنائس "إن الكنائس النصرانية بمقام قاذورات وأن الواعظين فيعها أشبه بالكلاب النابحة."
ولهذا نجدهم لم يحترموا الكنائس ،فحاصروا كنيسة المهد،حيث ولد المسيح عليه السلام ،وقتلوا الراهب ،وقارع الأجراس بها ،وخمسة عشر شهيداً ،فإسرائيل لا تحترم المقدسات الدينية ؛لذا فهي ليست أهلاً أن تستولي على القدس ،بينما المسلمون يحترمون كل الأديان ،وكما رأينا كيف أنَّ الله جل شأنه بيَّن لنا في القرآن الكريم أنَّ لمعابد اليهود وكنائس وصوامع المسيحيين حرمة المساجد ،فالمسلمون هم أقدر على صيانة وحماية كل المقدسات ،وتاريخهم عبر العصور يشهد بذلك . ويكفي أنْ أذكر كيف أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى أهل بيت المقدس أماناً على معابدهم وكنائسهم وعقائدهم وأموالهم ،وممَّا جاء نصه في هذا العهد الآتي : ( بسم الله الرحمن الرحيم .هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان . أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها .إنَّه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ،ولا من خيرها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم ،ولا يسكن بإلياء معهم من اليهود )
هذا بعض ما جاء في عهد الأمان الذي أعطاه خليفة المسلمين الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لأهل القدس.
ثالثاً : أحداث سبتمبر ،وإعلان الحرب على كل ما هو إسلامي:
أحداث سبتمبر التي ورد ذكرها في بيانكم عشر مرات،وتبريركم بأن الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على ما أسمته بحرب الإرهاب ؛ بأنَّها حرب لابد منها ،وأنها حرب عادلة وأخلاقية ، مما حدا بأحد المثقفين العرب أن يصف بيانكم بأنَّه " بيان حرب"،ونحن نتفق معه في تسميته بهذه التسمية .
لقد سلَّمتم بأنَّ هذه الأحداث قد دبَّرها وخطط لها ونفذها تنظيم القاعدة ،رغم أنَّه إلى الآن لم توجد أدلة أكيدة تدينهم ،وأشرطة الفديو التي عُرضت لقائد التنظيم وبعض أعضائه أشرطة مزورة ،كما جاء في البيان الذي أعلنه الخبير الفني فؤاد علاَّم في القاهرة الذي أخضع تلك الأشرطة للتحليل المخبري الفني .(24/327)
هذا وكما يبدو فقد استخدمت وسائل التقنية الحديثة ،كاستخدام بصمات الصوت في عمل هذه الأشرطة ،وقد ألصقت تهمة هذه الأحداث بهذا التنظيم في الساعات الأولى من حدوث الحادث من قبل القيام بأية تحقيقات ،نحن هنا لا ندافع عن تنظيم القاعدة ،ولكن الذي نقوله إنَّ هذه الأحداث تفوق إمكانية التنظيم المتواضعة،بدليل أنَّه عندما هوجم من قبل الطائرات الأمريكية لم يبد أية مقاومة ،فلقد كانت الطائرات الأمريكية تصول وتجول في الأجواء الأفغانية ،مما ينفي عن القاعدة امتلاكها لأسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية كما ذكرتكم في بيانكم ،فإن كانت تلك الأسلحة بحوزتهم لمَ لم يستخدموها في معركة حاسمة بالنسبة لهم ،وهي معركة وجود؟
إنَّ الإدارة الأمريكية أعطت لهذا التنظيم حجماً أكبر من حجمه بكثير.
ونتيجة لهذا الحادث قد تعرض الملايين من المسلمين الذين يعيشون في أمريكا وأوربا أبَّان الأحداث إلى غضب العامة ومضايقتهم ،بل بعضهم تعرَّض للقتل ،والبعض إلى تخريب ممتلكاته ،فقد عاشوا في رعب وخوف وقلق ،وبات معظمهم ملازمين منازلهم ،ولا يخرجون منها إلاَّ للضرورة ،ولا يستطيعون استخدام وسائل المواصلات العامة،إضافة إلى تعرض أي عربي يسافر إلى بلد أوربي أو أمريكي ،أو حتى آسيوي إلى الاعتقال والاستجواب ،أي أصبح جميع العرب ولا سيما السعوديين عرضة إلى الاعتقال والاستجواب!
إنَّ أحداث الحادي عشر من سبتمبر متورطة فيها المخابرات الأمريكية مع الموساد ،وألصقوها بتنظيم القاعدة لينفذوا المخطط الذي وضع قبل أحداث سبتمبر ،وبالتحديد عام 1993م ، أي منذ إعلان بريماكوف وزير خارجية روسيا ؛إذ كشف أحد المحللين السياسيين العرب أبعاد المخطط الأمريكي للسيطرة على أفغانستان ،فقال: لقد أعلن "بريماكوف وزير خارجية روسيا أنَّه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لابد من إنشاء تحالف استراتيجي بين روسيا والصين والهند للقضاء على تغلغل الولايات المتحدة في آسيا،وكلها دول نووية ،فرأت الإدارة الأمريكية أنَّه لابد من السيطرة على أفغانستان قلب هذا المثلث هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنَّ الثروة النفطية التي ظهرت في بحر قزوين وآسيا الوسطى وأفغانستان،وقد صرَّح وزير الطاقة الأفغاني في حكومة طالبان السيد " أحمد جان" بأنَّه توجد في أفغانستان إمكانات نفطية وغاز طبيعي ،فدعته شركة النفط الأمريكية " يونوكال"،لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية ،واهتمت به لإقناعه بإعطائها حق التنقيب ، ومد خط أنابيب البترول ،ولكن الملاَّ عمر رفض إعطاء هذا الحق لشركة أمريكية ،فرأت الإدارة الأمريكية إزالة حكم طالبان ،والإتيان بحكومة عميلة لها ،فتنقب الشركات الأمريكية عن البترول وتمد خط أنابيب البترول،والأمر الثالث فإن أأمن الطرق وأقصرها لخط أنابيب بترول بحر قزوين يمر بأفغانستان وينتهي بشواطئ باكستان .
لهذه الأسباب جميعها إضافة إلى محاربة الإسلام والقضاء عليه ،كانت أحداث سبتمبر ،وكان إعلان الإدارة لأمريكية الحرب ضد الإرهاب والبدء بأفغانستان ،وأيضاً لتكون لها قواعد عسكرية في المنطقة التي بها دولاً تملك سلاحاً نووياً وهي الصين والهند والباكستان ،وأيضاً لتكون قريبة من إيران وكوريا الشمالية اللتين اعتبرتهما الإدارة الأمريكية من قوى الشر الثلاثة في العالم،ولتقضي تماماً على البقية الباقية في العراق بضربها بالطائرات والصواريخ إلى أن تضمن عدم وجود مقاومة فتنزل بربع مليون جندي لينتشروا داخل العراق لتفتيته إلى دويلات صغيرة على أساس عرقي ومذهبي لتتناحر فيما بينها،وهذا ما ذكره السيد "جورج جلاوي" G.Gallaway عضو البرلمان البريطاني في حديث له لقناة الجزيرة ،ولتقوم أمريكا بحملتها على الإسلام والقضاء على حزب الله في لبنان بدعوى أنَّه إرهابي،والقضاء على الجمعيات الخيرية الإسلامية ،وتجفيف مصادرها بتجميد أموالها في البنوك معلنة حرباً شرسة على الإسلام تنفيذاً لمخطط وضع في الستينيات من القرن الماضي عندما أعلن بابا الفاتيكان في المجمع المسكوني الذي عقد عام 1965م باستقبال الألفية الثالثة بلا إسلام ،وقد أعلن نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية بولاية ماريلاند عام 1992أنهم أخيفوا في هذا القرن من ثلاث تيارات،وهي النازية والشيوعية والأصولية الإسلامية ،وتمكنوا من الخلاص من النازية والشيوعية ،ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية،فما أعلنه الرئيس الأمريكي أعقاب الأحداث قيام حرب صليبية على الإسلام لم تكن زلة لسان ،وإنَّما هي بالفعل حرباً صليبية ثانية على الإسلام ،وكل الشواهد والأحداث تثبتُ ذلك ،هذا من جهة أهداف الولايات المتحدة الأمريكية من افتعال تلك الأحداث .(24/328)
أمَّا من جهة الموساد والصهيونية العالمية ،فاليهود والصهاينة يخططون لتقويض الأديان ليسيطروا على العالم وفق ما جاء في بروتوكولاتهم ،وما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من محاربة كل ما هو إسلامي ،حتى التدخل في المناهج الدينية في البلاد الإسلامية لإلغائها يحقق هذا الهدف الصهيوني ،وأيضاً ما حدث من اجتياح شارون لأراضي السلطة الفلسطينية في أواخر شهر مارس عقب قمة بيروت بحجة محاربة الإرهاب والقضاء عليه دليل كاف ،فما قام به أرائيل شارون في فلسطين من تنفيذ مخططه في تصفية جميع عناصر المقاومة في فلسطين بدعوى أنَّهم إرهابيون يجب القضاء عليهم ،ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات،ولا يُفك حصار الرئيس عرفات إلاَّ بأمر من الرئيس الأمريكي يؤكد أنَّ هناك مخططاً مرسوماً شارك فيه الصهاينة مع المخابرات الأمريكية،ولعلّ ما أثير مؤخراً في الولايات المتحدة حول علم الرئيس بوش بتعرض الولايات المتحدة الأمريكية لعمليات إرهابية يؤكد أنَّ هذه العملية مدبرة ،وممّا يؤكد ذلك أيضاً الآتي :
1- عدم مساءلة وزير الدفاع الأمريكي ورئيس المخابرات الأمريكية ،ورئيس الولايات المتحدة نفسه ؛إذ كيف يضرب مبنى وزارة الدفاع،وبعد ثلث ساعة من ضرب البرجين ،ولم تتخذ وزارة الدفاع أية إجراءات دفاعية تجاه الطائرة المتجهة إلى مبناها ،مع أنَّها منطقة محظور الطيران فيها ،ولم تتنبه أجهزة الرادار ،ولم تعلم بالعملية المخابرات الأمريكية ،معنى هذا أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية بكل ثقلها وهيمنتها وقوتها لا تملك القدرة على صد أي هجوم عليها ،فهي تقف على أرض هشة ! ألا يستدعي هذا مساءلة كل الأطراف المعنية ؟وإقالة وزير الدفاع الأمريكي ورئيس المخابرات الأمريكية ،بدلاً من أن يسند إلى الأخيرة التحقيق في هذه الأحداث ؟ هل فضيحة الرئيس الأمريكي جونسون في وتر جيت التي أدت إلى استقالته من الحكم أخطر على الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية من أحداث سبتمبر؟ وهل فضيحة الرئيس كلنتون مع مساعدته في البيت الأبيض " مونيكا" أخطر على أمن الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث الحادي عشر من سبتمبر حتى يقدم الرئيس كلنتون للمساءلة بشأنها ،في حين لم يُساءل الرئيس الأمريكي "جورج بوش" عن القصور الذي حدث نتيجة هذه الأحداث ؟
نحن في بلادنا عندما حدث حريق في أحد مدارس البنات المتوسطة بمكة المكرمة ،ومات على إثره ثلاثة عشر طالبة أحيل الرئيس العام لتعليم البنات إلى التقاعد ،وألغيت الرئاسة العامة لتعليم البنات ،ودمج تعليم البنات مع وزارة المعارف المسؤولة عن تعليم البنات !
وفي مصر عندما حدث حريق في بعض عربات قطار الصعيد وتوفي حوالي ثلاثمائة وخمسين راكباً ،أُقيل على إثره وزير المواصلات !بينما يتعرض أكبر برجين تجاريين في العالم مع مبنى وزارة دفاع أكبر قوة في العالم إلى مثل ذاك الهجوم ،ولا يقال وزير الدفاع الأمريكي من منصبه ،وكذلك رئيس المخابرات الأمريكية الذي لم يُحقق معه ،وإنَّما يسند إليه التحقيق في الحادث ؟؟
هذه تساؤلات ينبغي أن نتوقف عندها .
2- ما كشفه أحد المواقع الفرنسية في الإنترنت عن تورط 120 إسرائيلياً في عملية تجسس على الولايات المتحدة الأمريكية متخفين في هيئة رسَّامين تشكيليين ،وتبيَّن تورط بعضهم في أحداث سبتمبر ،ولم تتخذ السلطات الأمريكية حيالهم أية إجراءات قانونية ضدهم ،واكتفت بإخراجهم سراً من البلاد .
3- عدم حضور أكثر من أربعة آلاف يهودي يعملون في المركزين التجاريين يوم الحادث ،يؤكد أنَّ الحادث مدبراً من قبل الموساد.
4- ما أعلنه أحد المسؤولين الأمريكان في محاضرة حضرها ألف أمريكي أثبت فيها أنَّ الحادث مدبراً ،وأنَّ العرب والمسلمين لا دخل لهم فيما حدث.
5- السعوديون الذين نسب لهم المشاركة في عمليات التفجير ،وأنهم هم الذين قادوا تلك الطائرات ثبت ما أعلنته المخابرات الإيرانية من أن بيانات شركات الطيران بأسماء ركاب للطائرات المختطفة لم يكن بها أسماء لركاب سعوديين ،ثم أضيفت فيما بعد إلى قوائم الركاب أسماءٌ لسعوديين الذين وُجّهتُ لهم الاتهامات،وتبيَّن أنَّ من هؤلاء من توفاه الله قبل الحادث بسنوات ،ومنهم من يعيش في السعودية أثناء الحادث ،وأنَّ هؤلاء قد فقدوا جوازات سفرهم ،وهذا يؤكد أنَّ جوازات سفرهم سرقت منهم لإلصاق العملية بهم ،والهدف من جعل تسعة عشر سعودي يقومون بهذه العملية ،هو الادعاء أنَّهم ينتمون إلى تنظيم القاعدة الذي يديره ويرأسه "أسامة بن لادن" الذي كان يحمل الجنسية السعودية ليقضوا على هذا التنظيم هذا أولاً ، وليتمكنوا من أفغانستان هذا ثانياً ،وليبرروا هجومهم السافر على الإسلام هذا ثالثاً ،وليبرروا أيضاً الهجمة الشرسة التي شنتها الصحافة الأمريكية الصهيونية على المملكة العربية السعودية ،هذا رابعاً ،وليعطوا لأنفسهم الحق في التدخل في المناهج الدينية التي تدرس في المملكة بدعوى أنَّها تفرغ الإرهاب ،هذا خامساً.(24/329)
6- تبين من تقارير خبراء الطيران ،أنَّ الطيران في منطقة ناطحات السحاب بصورة خاصة تحتاج إلى مهارة خاصة في الطيران ،لكثرة التعريجات والمنحيات التي ينبغي على الطائرة تلافيها ،إضافة إلى ما أكَّده زعيم عربي ،وهو طيَّار حربي سابق ،أنَّ ضرب البنتاجون على هذا المستوى المنخفض يحتاج إلى طيَّار حربي ماهر وتدريب خاص على المنطقة ذاتها أو ما يشابهها ،والتقارير التي أعلنتها الإدارة الأمريكية عن السعوديين والعرب الذين اتهموا بتورطهم في الأحداث تبين أنهم لم يبلغوا العشرين ربيعاً ،كما تبين مدى تواضع التدريبات التي تلقوها على الطيران ،وكذلك تواضع نوعية الطائرات التي تدربوا عليها ،بل ذكرت في بعض التقارير أنَّ الواحد منهم كان يتلقى تدريبه ،ثمَّ يقوم هو بتدريب زملائه.
7- وجود في الطائرات المختطفة طيَّارين أمريكيين ممن شاركوا في الحرب الفياتنامية،فلم لم يوجه إلى هؤلاء تهمة التفجيرات ؟ ثُمَّ لماذا وجد هؤلاء الطيارون الأربع في الطائرات المختطفة ؟ هل كان وجودهم بمحض الصدفة ؟
8- اختفاء الصناديق السوداء للطائرات المختطفة ،أو القول بتلفها ـبعدما أعلن عن العثور عن بعض ما في تلك الصناديق ـ في حين لم تتلف جوازات سفر السعوديين الذين اتهموا بالتفجيرات ،وكذلك لم تتلف الأوراق المكتوب فيها بعض الأدعية .
9- لقد صدر مؤخراً كتاب في فرنسا جاء فيه أنَّ البرجين قد فجرا "بالرمونت كنترول ،وأنَّ المتفجرات كانت موجودة في أسفل البرجين لأنَّه لو تفجَّرت من أعلى لما تفجر الجزء السفلي،وهذه النظرية يؤيدها ما حدث للبرج الذي اخترقته الطائرة الإيطالية في نابولي ،فالمبنى لم يدمر فيه ولا طابق ،وكان الدَّمار الذي لحق به ،هو مجرد تحطيم واجهات جزء من المبنى ،وتحطيم زجاج ،نوافذ ذلك الجزء.
10- عجز الإدارة الأمريكية عن تقديم أدلة وبراهين تثبت أنّ من العرب والمسلمين متورطين في هذه الأحداث ،أمَّا عن الأشرطة المرئية التي نسبتها إلى بن لادن وتنظيمه، فهي أشرطة مزيفة كما قرر الخبراء المختصون،وقولها بوجود أدلة سرية قول مردود ،لا توجد أدلة سرية في أية قضية من القضايا ،وخاصة كقضية دولية مثل هذه القضية التي ترتب عليها إشعال فتيل الحرب على دول وشعوب مستضعفة لا حول لها ولا قوة ،ولا ذنب لها في كل ما تخططه الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها إسرائيل للقضاء على الإسلام والسيطرة على مدخرات الشعوب العربية والإسلامية ،ومساعدة اليهود في تحقيق مخطط دولتهم التي تمتد من النيل إلى يتبع>>>1- ينفي القرآن الكريم هذه الفرية: يقول تعالى (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين )
الفرات ،ومن الأرز إلى النخيل.وأمَّا الذين يتساءلون كيف تدمر الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مركزين تجاريين لديها ،وتقتل الآلاف ،وتضرب مبنى وزارة دفاعها؟ ،نقول هنا إنها ضحت بالقليل من أجل الكثير ،فهي تريد بترول الخليج وبحر قزوين ،ومناطق نفوذ في آسيا الوسطى ،وإيجاد حكومات عميلة لها ولإسرائيل في فلسطين والعراق ،وغيرهما من الدول العربية المخطط ضربها ،وفي سبيل القضاء على الإسلام ،ألم يقل الحاخام اليهودي رابي ديفيد وايس الناطق الرسمي لحركة ناطوري كارتا في برنامج "بلا حدود " في قناة الجزيرة أنّ الصهاينة يفجرون المعابد اليهودية بأنفسهم ،وينسبون ذلك إلى العرب والفلسطينيين ليقولوا لليهود وللعالم أنَّ العرب إرهابيون يكرهونهم وأنهم يدمرون معابدهم.
ولعلَّ تفجير المعبد اليهودي في تونس من تدبير الموساد،وإلصاق هذه العملية بالعرب ،وأنَّها عملية إرهابية لصرف الأنظار عن حصار وضرب شارون لكنيسة المهد وقتل الرهبان،ولتأليب الرأي العام العالمي ضد الفلسطينيين والعرب بعدما أبدى تعاطفه معهم؟فهذا دأبهم ،وهذا ديدنهم.
نحن هنا ندعوكم أن تتأملوا في هذه الأسباب ،وأن تفكروا فيها بجدية ،وأنَّكم قبل أن تعلنوا أنَّ الحرب المعلنة على الدول الإسلامية لمقاومة الإرهاب ـ وكأن العالم كله يخلو من الإرهاب ،ولا يوجد إرهاب إلاَّ في دول الإسلام ـ بأنَّها حرب أخلاقية عادلة ولابد منها أن تطالبوا بمساءلة هؤلاء المسؤولين ،فأين هم حتى تتعرض أكبر قوة في العالم إلى مثل هذا الهجوم ،وكأنَّها دولة نائمة ضعيفة لا تملك أية وسيلة لحماية نفسها من أي هجوم تتعرض له ،وهجوم من قبل أفراد وليس دول،وكأنِّي بها حكومة طالبان التي لم تقاوم الصواريخ والطائرات الأمريكية !!!
ونود هنا أن نصحح لكم معلومة ،وهي أن تنظيم القاعدة لم يؤسس منذ عشرات السنين كما ذكرتم في بيانكم،وإنَّما لم يمض علية عقدين من الزمان ،وكانت الولايات المتحدة وراء تكوين هذا التنظيم ودعمه لأنَّه كان يخدم أهدافها في القضاء على الاتحاد السوفيتي ،وبعدما نفذّ مهمته،وأصبح يشكل خطراً على مصالحها ،أصبح تنظيماً إرهابياً ،بل أصبح العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية.
كما ندعوكم مراجعة ما جاء في بيانكم عن وصف حرب الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب أنها حرب عادلة .(24/330)
فأين العدل في هذه الحرب ،وقد أعلنت على الشعب الفلسطيني الأعزل ،وهل مقاومة الاحتلال ،والجهاد في سبيل التحرر يعد إرهاباً ؟إن كان كذلك فهذا يعني أنَّ كفاح الشعوب ضد الاستعمار والاحتلال إرهاب أي أنَّ كفاح الشعب الأمريكي للتحرر من الاستعماريْن البريطاني والفرنسي إرهاب ،وكفاح الشعب الفرنسي ضد الاحتلال النازي إرهاب أيضاً،وبهذا المنطق الأمريكي يكون الأمريكان أنفسهم والفرنسيون في مقدمة الإرهابيين وبالتالي يعني أيضاً إباحة الاحتلال والاستعمار !!
وأين العدل في محاربة الإرهاب ،وهناك جماعات إرهابية مسيحية ،ويهودية في داخل الولايات المتحدة ،وفي بريطانيا ،وفي اليابان ،وفي إيطاليا،وفي أسبانيا ،وفي كثير من الدول الأوربية ،فلماذا الدول الإسلامية هي المستهدفة ؟ أليس هذا يؤكد أنَّ أحداث سبتمبر مفتعلة؟
وأين العدل في ترويع الملايين من الأفغان،وخروجهم من بلادهم في البرد القارص ليعيشوا في خيام كلاجئين وتقفل أمامهم كل الحدود،وقتل الألوف من المدنيين الأفغان من شيوخ وأطفال ونساء ،وهم لا يعلمون من هو بن لادن ،ومن هي أمريكا ؟ إنَّ 70% من الشعب الأفغاني أميون لا يقرأون ولا يكتبون ،وكفاهم معاناة من حروب على مدى 25 عاما ،وجاءت الحرب الأمريكية التي وصفتموها بالأخلاقية والعادلة لتقضي على البقية الباقية من هذا الشعب الفقير الذي بات لا يجد اللقمة التي يأكلها.
إنّ الدين الإسلامي المتهم بالإرهاب من قبل الصحافة الغربية التي تسيرها الصهيونية العالمية ،ومن قبل أحد موقعي هذا البيان ، يُحرِّم في حالة الحرب قتل المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ وهدم البيوت وقطع الأشجار ،ويحرَّم قتل أصحاب الصوامع ، كما سبق الإسلام القانون الدولي كثيراً في أحكام الحروب ،كعدم مباغتة العدو وأخذه على غرة فلقد ثبت أنَّ الرسو صلى الله عليه وسلم لم يقاتل قوماً قبل أن يدعوهم إلى الإسلام ،أو دفع الجزية ،فإن امتنعوا قاتلهم ،وكذلك عدم قتال المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال من أهالي المحاربين لهم ،وعدم تدمير منازلهم وحرق نخيلهم ،وقد سبق الإشارة إلى ما أوصى به الرسو صلى الله عليه وسلم جيشه في غزوة مؤتة ،وكيف حرَّم الإسلام الإجهاز على الجرحى والتمثيل بجثث القتلى،وعدم إصابة المدنيين ،كما حثَّ على الإحسان في معاملة الأسرى ،وجعل الإحسان إليهم علامة الإيمان ،فكيف تكون الحال في السلم؟
لقد أمرنا أن تكون مناظراتنا مع أهل الكتاب بالتي هي أحسن ،يقول تعالى : (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاَّ بالتي هي أحسن ))
ونهانا عن سب عقائد المخالفين لديننا ،يقول تعالى : ( ولاَ تَسُّبُّوا الَّذين يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُّبُّوا اللهَ عَدْوَاً بِغيْرِ عِلم )
وجعل لأماكن عبادات اليهود والمسيحيين حرمة كحرمة المساجد يجب حمايتها والدفاع عنها،وليس ضربها بالطائرات والصواريخ كما فعلت أمريكا بضربها المساجد في أفغانستان يقول تعالى : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدَّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللهِ كثيراً)
وقد حفظ الإسلام لأهل الذمة حقوق المواطنة والجنسية ،والذميون أولئك الذين كانوا من سكان البلاد التي فتحها المسلمون ،وفضَّلوا البقاء فيها فدخلوا في ذمة المسلمين ،وقد حفظ الإسلام لهم حريتهم في ممارسة عباداتهم وعقائدهم ،ولهم أن يتمتعوا بكل الحقوق في العلم والعمل والتجارة والكسب والتنقل مثلهم مثل المسلمين تماماً.
وأوجب الإسلام حماية الذِّمي ،فدمه وماله مصونان ،وحريته وكرامته محترمتان ،وقد أكَّد الرسو صلى الله عليه وسلم على هذا في أحاديث منها : ( من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة ،ومن خاصمته خصمته.)
كما أنَّ الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه كان يسأل عمال أوَّل من يسألهم عن أحوال أهل الذمة ،وكيف أنَّه أمر بضرب ابن والي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه لأنَّه أساء إلى ذمي ،ثُمَّ قال قولته الخالدة ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟)
فهذه أخلاق الإسلام وقيمه في تعامله مع أهل الكتاب في السلم والحرب الذي يُتهم بالإرهاب والعنف .
فأين العدل في ضرب القوات الأمريكية المساجد في أفغانستان ،وانتهاك حرمات بيوت الله ،وقتل المصلين بها ؟(24/331)
أين العدل في معاملة الأسرى ،فالمتهم الأمريكي يحاكم محاكمة عادلة في الولايات المتحدة الأمريكية بذات التهمة المتهم فيها الأسرى المسلمون في جوانتنامو ،الذين يعاملون معاملة أدنى من معاملة الحيوانات،بل الحيوانات المفترسة مكرَّمة لديكم أكثر منهم ،ويجعلونهم منكسي الرؤوس إذلالاً لهم ،ولم تطبق قوانين معاملة الأسرى عليهم ،نحن لسنا مع تنظيم القاعدة ،ولكن هؤلاء الأسرى بشر ومسلمون ،ومنهم أولاد لأسر عربية ومسلمة ،فهم مسلمون في النهاية ،كما نحن بصدد عدالة الحروب وأخلاقياتها ،فالرسو صلى الله عليه وسلم الذي وصفه السيد صموئيل هنتنتجتون ـ وهو أحد موقعي بيانكم ـ بالقسوة والعنف لقد أحسن معاملة أسرى بدر ،وهم من كفار قريش الذين اضطهدوا الرسو صلى الله عليه وسلم والمسلمين ،وعذَّبوهم ،وحاصروا الرسول عليه الصلاة والسلام وبني هاشم رجالهم ونساءهم وأطفالهم ثلاثة سنوات، وأخرجوهم من ديارهم وأجبروهم على الهجرة إلى الحبشة ،وحرَّضوا القبائل على الرسول ثم هاجر الرسول والمسلمون من مكة إلى المدينة بعدما تآمروا على قتل الرسول عليه الصلاة والسلام تاركين أموالهم وممتلكاتهم،وجعل فداء الأسرى أن يقوم كل أسير ممن يعرف الكتابة تعليم عشرة من فتيان المدينة الكتابة ،فلم يعذبهم ،ولم يضطهدهم ،مع أنَّهم وثنيون لا يؤمنون بالله .
وأين العدل والأخلاق عندما قتلت القوات الأمريكية مع القوات البريطانية في5 نوفمبر م العام المنصرم في قلعة "جانجي " في مزار شريف في أفغانستان 450أسيراً مكبلين من خلف ظهورهم ،وهؤلاء قد سلَّموا أنفسهم للأمم المتحدة وليس للولايات المتحدة وقد نقلت صورهم القناة الثانية الفرنسية ،وشهد هذه المذبحة بعض مراسلي الصحف منهم مراسل"سندي تايميز الذي وصفها بأنها كانت على قدر كبير من الوحشية ،وقد اعتبر هذه المذبحة السيد رمزي كلارك وزير العدل الأسبق الأمريكي بأنّها جريمة حرب،وذكر أنَّه لم يحقق في هذه الجريمة لأنّ الكل يخشى أن يوصف بالإرهاب إن دافع عن حقوق هؤلاء الأسرى؟
وأين العدل والأخلاق عندما قتلت الإدارة لأمريكية في حربها لأفغانستان في الفترة من 7أكتوبر إلى3 ديسمبر عام 2001م (3767 )قتيلاً من الأطفال والنساء والشيوخ والعزل من المدنيين ،هذا ما ذكره البروفسور الأمريكي "مارك دبليو هيرالود من جامعة نيوهامسشير "،إضافة إلى تدمير آلاف القرى ،وهدم المنازل ،وخروج الملايين من بلادهم بحثاً عن الأمان؟
لقد قلتم في بيانكم إنَّ المبرر الأخلاقي للحرب هو صيانة الأبرياء من الضرر الأكيد،وهنا نسأل ما ذنب الملايين من الأبرياء الذين سيذهبون ضحية لهذه الحرب التي لا يعلم مداها إلاَّ الله ،والتي كما يبدو من بيانكم أنَّها ستشمل الدول الإسلامية التي يوجد بها تنظيم القاعدة ؟
إنَّ الولايات المتحدة في حروبها السابقة قد قتلت أكثر من سبعة ملايين من البشر ، منهم ثلاثة مليون ونصف في كوريا الشمالية ، ومليون في الفلبين،وبقال أنها حرب مع أسبانيا ،ولكنَّها كانت مع الفلبينيين ،ومليون في فيتنام ومليون ونصف في العراق أكثرهم من الأطفال في سن الخامسة،،وأنَّ الولايات المتحدة كان لها أكثر من75 تدخلاً عسكريا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية منذ عام 1945إلى الآن ، هذا ما صرَّح به وزير العدل الأمريكي الأسبق السيد رمزي كلارك الذي أمضي 25 عاماً وهو يتنقل بين دول العالم التي كانت ضحية حروب أو حصار الولايات المتحدة الأمريكية ،وذلك في حديث له في قناة الجزيرة،وقال أيضاً :" لقد أعلنت الإدارة الأمريكية أنَّ القتلى في بنما أقل من مائة بينما كانوا 2500 ،كذلك القتلى في جراندا كان العدد أكبر مما ذكرتهم ،فما تقوم به الإدارة الأمريكية هو أعمال انتقامية ضد السكان ،وأصبح الآن لا يوجد بلد في العالم يشعر بالأمان، لأنّ الإدارة الأمريكية لا تحترم القوانين. "
فيا ترى كم من ملايين البشر سيكونون ضحية هذه الحرب من بني الإسلام ،وذلك في سبيل القضاء على عدو مبهم غير معروف؟وكم من المليارات من الدولارات التي سوف تخسرها الشعوب الإسلامية من الدمار الذي سوف تلحقه بها هذه الحروب ؟وكم من ملايين البشر الذين سوف يصابون بأمراض خطيرة كالسرطان من جراء ما ستحدثه هذه الحروب من تلوث بيئي نتيجة آلاف الأطنان من المتفجرات التي سوف تقذف في أراضيها ؟ وكم من ملايين البشر الذين سوف يصابون بأمراض نفسية من جراء ما ستخلفه هذه الحروب من مآسٍ ؟وكم من المليارات من الدولارات التي سيدفعها الشعب الأمريكي من قوت يومه في هذه الحرب، ولن تنجح في القضاء على هذا العدو المبهم ،فهي الآن لم تتمكن من زعيم التنظيم ،ومن رئيس طالبان ،كما سبق وأن فشلت في القضاء على صدام حسين ،وهي الآن تبرر ضربها للعراق لإسقاط نظام صدام ،مع أنَّ هذا الأمر يعد شأناً داخلياً ،ويخالف القوانين الدولية ،ولكن الإدارة الأمريكية هي وإسرائيل سواء يعتقدان أنَّهما فوق القانون.(24/332)
وبعد كل هذا هل تعتقدون أنَّ حرب الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية ،والتي تستهدف إعلان الحرب على الإسلام والدول الإسلامية هي حربٌ لصالحنا نحن المسلمين؟وأنَّها حرب عادلة ،وحرب أخلاقية ،وأنَّ مبرراتها ذات جدوى ومقنعة لذوي الفكر والرأي أمثالكم؟
ألا تعلمون أنَّ مائتين من أساتذة القانون الأمريكان من جامعة " ييل "قدَّموا مذكرة تعبر عن عدم رضاهم عما تقوم به الإدارة الأمريكية في حربها على الإرهاب ،مبينين أن في ذلك مخالفة للقوانين الدولية، في حين أنّكم تصفونها بأنها حرب أخلاقية عادلة؟
وهل تعتقدون أنَّ المثقفين المسلمين إلى هذه الدرجة من السذاجة والبلاهة والغباء حتى يقتنعوا من أنَّ الحرب الأمريكية على الإسلام والمسلمين لتحقيق مصالحها بدعوى محاربة الإرهاب لصالحنا،وكل هذه الحقائق مكشوفة أمامهم ؟؟
للأسف أنَّكم ضحية إعلام مضلل تسيره وتسيطر عليه الصهيونية العالمية ،لأنّ هذا يخدم مصالحها ،يقول السيد رمزي كلارك في حديثه لقناة الجزيرة حول هذا الموضوع : " إنَّ الشعب الأمريكي ضحية تلاعب وسائل الإعلام الأمريكية ،إنَّ المجتمع الأمريكي مجتمع مادي ،ويخشى كل واحد أن يفقد وظيفته ،فنخاف ونصدق ما تقوله الحكومة لنا من أنَّها ضد الشر والإرهاب ،والإعلام يدفع إلى الجنس والعنف ،والشعب الأمريكي لا يدرك ما هو حاصل ،وكثر هم الذين لا يريدوا أن يعرفوا لأنَّهم لو عرفوا فسوف يتألمون ،يقال إنَّنا دولة ديمقراطية ،ولكن الحقيقة ليست كذلك، فالفرد يشعر بالعجز والتحجيم بسبب تركز القوة الاقتصادية في يد فئة معينة".
رابعاً: موقفنا من سياسة الإدارة الأمريكية تجاه إسرائيل ،وتجاه الدول الإسلامية ما فيها الدول العربية ،وفي حربها على ما أسمته بالإرهاب:
" لقد جاء في بيانكم لا تشرع الحرب في مواجهة الخطر أو القليل المشكوك فيه ،ولا في مواجهة الخطر الذي يمكن إزالته بطريقة المفاوضة أو الدعوة إلى العقل أو الشفاعة أو غيرها من الطرق السلمية ،لكن عندما يكون الخطر على حياة الأبرياء خطراً حقيقياً يقينياً فحينئذ يكون اللجوء إلى استخدام القوة مبرراً أخلاقياً لا سيما عندما يكون الدافع للمعتدي هو العداوة المتصلبة حيث لا يستهدف الحوار ،ولا الامتثال لأمر ما ،وإنَّما يهدف الدمَّار"
وهذه حال الشعب الفلسطيني مع إسرائيل ففي اليوم التالي الذي أعلنت فيه قمة بيروت اعتماد المبادرة السعودية للسلام ،ردَّت إسرائيل باجتياح أراضي السلطة الفلسطينية ومحاصرة الشعب الفلسطيني ورئيسه ،وقتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ وهدم البيوت على سكانها ،ويعتبر الشعب الفلسطيني بأكمله من المدنيين ،فهو شعب أعزل لا يملك سلاحاً ،والذي يهرَّب له السلاح من إخوانهم العرب من الدول المجاورة يتعرضون للسجن ويحاكمون ،ويحكم عليهم بالسجن سنين طويلة ،ولكنكم للأسف الشديد في الوقت الذي تبيحون لدولتكم حربها ضد ما أسمته إرهاباً تُحرَّمون على الشعب الفلسطيني حق الدفاع عن نفسه ،وتصفون جهاده ومقاومته بالإرهاب ،وتمارس الإدارة الأمريكية ضغوطها على الحكومات العربية لتدين العمليات الاستشهادية في فلسطين ،وهي تكاد الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في مقاومته ،فهو لا يمتلك ولا دبابة واحدة أمام مئات الدبابات التي يجتاح بها أراضيه عدوه المغتصب أرضه ،ولا يمتلك طائرة مروحية واحدة أمام ألوف المروحيات التي يمتلكها عدوه ،والتي يقذف منها مئات القذائف،وهو لا يملك السلاح الذي يصدها به ،ولا يملك صاروخاً واحداً ،وإسرائيل،تملك ألوف الصواريخ ،وهي تحارب الفلسطينيين بأسلحة أمريكية،فلم يجد أطفالهم وسيلة للمقاومة إلاّ الحجارة ،ولم يجد شبابهم من النساء والرجال سوى جعل أجسادهم قنابل بشرية تفجر نفسها في العدو ،وقد أجمع علماء الإسلام وفقهاؤه أنَّ هذه العمليات هي أعلى مراتب الاستشهاد.(24/333)
إنَّ اليهود في إسرائيل جميعهم مغتصبي أراضي وديار الفلسطينيين ،وقد جاءوا من شتى بقاع العالم وهم يعلمون بأنَّ لا أرض لهم ولا دار ،وأنهم سيأخذون الأراضي والديار من فلسطينين يقتلون أو يطردون ويبعدون من أراضيهم وبيوتهم،فاليهودي أتى إلى فلسطين وهو يعلم بأنَّه لص ،جاء إلى فلسطين ليسرق بيت وأرض الفلسطيني ، وأيضاً جاء وهو يعلم أنَّه سوف يجند في الجيش الإسرائيلي ،وأنَّه سيكون في أية لحظة جندياً في هذا الجيش ،فلا يوجد مدنيون يهود في فلسطين كلهم عسكريون نساءً ورجالاً في ملابس مدنية وفي أية لحظة سوف يدعون للقتال ،سيخلعون الملابس المدنية ويرتدون الملابس العسكرية ،أقربها العشرون ألف احتياطي الذين دعاهم شارون للقتال عند اجتياحه الأخير لأراضي السلطة الفلسطينية ، هؤلاء الجنود قبل الاستدعاء كانوا يرتدون الملابس المدنية ،وبعدها بساعات تحولوا إلى عسكريين بارتدائهم الملابس العسكرية ،فهم لصوص يجوز قتلهم ،إنَّ أي واحد منكم لو داهم بيته لصاً ليسرقه ،ويستولي على بيته هل يقاتل هذا اللص ،أم يستسلم له ،ويقول له خذ داري وأرضي فانعم بها ،أما أنا فأعيش مشرداً ذليلاً ،لأنَّني لا أستطيع قتالك، فقتلي لك يعد إرهاباً ،وهذه جريمة كبرى في نظر الإدارة الأمريكية يعاقبني المجتمع الدولي عليها بأمر من تلك الإدارة !!
هل هذا منطق ؟
إنَّه منطق الغاب ،وهو الذي تريد إدارتكم أن تفرضه على العالم باعتبارها القوة الأوحد،وفاتها أنَّ الله عزَّ وجل ،وهو الأقوى منها ،وقادر في أقل من طرفة عين أن يذهب بكل قوتها،كما فعل بكل الطغاة المتجبرين.
إنَّ الإدارة الأمريكية تُدعم بالأموال والسلاح حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين وقتلهم من قيمة الضرائب التي يدفعها الشعب الأمريكي ليقدم له العلاج والتعليم ،وكل الخدمات التي يحتاجها والذي يوجد 35 مليون منه تحت خط الفقر،وتدفع أمواله لإسرائيل لتقتل بها الفلسطينيين الأبرياء!
إنَّ الإدارة الأمريكية في تدخلاتها العسكرية دائما تناصر الطغاة والديكتاتوريين على شعوبهم المستضعفة،وقد كشف عن هذه الحقائق السيد رمزي كلارك ،وزير العدل الأمريكي الأسبق في حديثة للجزيرة؛إذ قال "في عام 1953م أعدنا الشاه إلى الحكم ،وكانت مأساة عظيمة للشعب الإيراني ،،وفي الكونغو وجنوب وسط أفريقيا جعلنا موبوتو في الحكم الذي حرم الشعب من ثرواته 37 عاماً،،وفي شيلي أسهمنا في قتل سليفادور ،وأمسكنا الحكم للجنرال "بنشي" السلطة حكم البلاد بقبضة من حديد وأسميناه معجزة ،لأنَّه كان يخدم مصالحنا الاقتصادية،وفي الفلبين أعدنا ماركوس الدكتاتوري للحكم "
وهاهي الآن تناصر إسرائيل ،وتصف شارون الذي أحدث مذابح " صبرا وشاتيلا،في الثمانينات من القرن الماضي ،ومذابح نابلس والخليل وبيت لحم ورام الله وجنين في الأيام الماضية بأنَّه رجل سلام ؟؟
إنَّ انحياز الإدارة الأمريكية الدائم تجاه إسرائيل،هي والدول الأوربية واستخدامها حق الفيتو لصالح إسرائيل يعرقل عملية السلام في المنطقة ،ولن يجعل أمام الشعوب العربية في نهاية الأمر سوى استخدام القوة ،وحينئذ وفق ما جاء في بيانكم "سيكون استخدام القوة مبرراً أخلاقياً لاسيما عندما يكون الدافع للمعتدي هو العداوة المتصلبة حيث لا يستهدف الحوار ولا الامتثال لأمر ما ،وإنَّما يهدف إلى الدمار " وهاهي إسرائيل ترفض قيام دولة فلسطينية بعدما صفَّت المقاومة الفلسطينية وقتلت عناصرها النشطة ،ولم تستجب لاتفاقيات مدريد وأسلو التي وقعتها ،وكذلك لم تستجب لرغبة الإدارة الأمريكية في إقامة دولة فلسطينية !
فهل يا ترى ستوقع الولايات المتحدة عقوبة على إسرائيل لخرقها هذه الاتفاقيات ،ورفضها الإذعان لرغبة الإدارة الأمريكية ،كما تفعل مع أي دولة عربية أو إسلامية ؟
أشك في ذلك ،فالذي أراه أنَّ إسرائيل هي التي باتت القوة العظمى في العالم ،فلم تعمل للولايات المتحدة ،ولا للمنظمات الدولية ،و لا للاتحاد الأوربي أي حساب!!
ويرجع هذه في رأيي إلى الأسباب التالية :
1- سيطرة التراث اليهودي على العقلية المسيحية ،وعلى المسيحيين أن يتحرروا من سيطرة التراث اليهودي عليهم، هذه الحقيقة يدركها مفكرو الغرب وعلماؤه ومؤرخيه، وقد حلل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الشخصية اليهودية ومدى سيطرة الفكر اليهودي على الإنسان المسيحي، ويوضح هذا في كتابه "مشكلة اليهودية العالمية" فيقول: "وهم يعتبرون غيرهم أقل منهم منزلة، وأنهم الشعب المختار، أما شعوب العالم فهي في مركز منحط يطلقون علي أفرادها كلمة "الأمميين" وهم بتعبير الشاعر البريطاني كبلينج Kippling سلالات دنيا لا شريعة لها" ثم يقول:(24/334)
"وتقبلت الكنيسة المسيحية دون مناقشة تفسير اليهود لتاريخهم كما ورد في التوراة، بما تضمه بين طياتها من المطاعن ضد الشعوب التي احتكوا بها كالفينيقيين، والفلسطينيين، والآرمويين ، والموابين، والمعموريين، والدمشقيين، وانفرد اليهود في هذا الميدان بإقدامهم على رفع سجل تاريخهم إلى منزلة التقديس، ونجاحهم نجاحاً لا يبارى في إيهام مئات الملايين من البشر على مدى الأحقاب، أو يناقشه مناقشة علمية عقاب الله في الدنيا والآخرة، ومن الناحية الأخرى لا يوجد لأعداء اليهود القدامى من ينهض للدفاع عن قضيتهم إلا أصوات العلماء والباحثين الخافتة، وتعتبر المذاهب المسيحية على اختلافها التاريخ اليهودي تاريخاً مقدساً للمسيح، ومهما يكن نصيب الفرد المسيحي من الاستفادة الفكرية، ومقدار تحرره الذهني، فيصعب عليه بمكان أن يتخلص من التراث اليهودي في المسيحية، لأنه كامن في شعوره الباطني، ويوجه مسار تفكيره، وبالتالي فإذا كانت الكشوف الأثرية تهدم ادعاءات اليهود، وتلقي أضواء صادقة على المجتمعات الأخرى، فما برحت جمهرة المسيحيين تأخذ التاريخ اليهودي كما ورد في التوراة قضية مسلماً بها"
2-سيطرة اللوبي الصهيوني على اقتصاد وإعلام الدول الغربية ،ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وتغلغله في المنظمات والمؤسسات الحكومية والدولية،وبات المستقبل السياسي لأية شخصية أمريكية مرهوناً بمدى دعمها لإسرائيل ،بل بات من يريد أن يضحي بمستقبله السياسي ،بل وبعمره فليؤيد الفلسطينيين أو يبدي تعاطفاً معهم ،وإلاَّ ما تفسيركم لقتل الرئيس جون كنيدي في الستينيات ؟
وما تفسيركم أيضاً لإعلان السيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة حل لجنة تقصي الحقائق في جنين المكونة بموجب قرار من الأمم المتحدة لأنَّ شارون رفض التعاون مع هذه اللجنة ،دون أن يتخذ أي قرار ضد إسرائيل ،وأنا أدعوكم أن تقرأوا كتاب " اليهودي العالمي " للمليونير الأمريكي " هنري فورد " لتروا بأنفسكم مدى تغلغل اللوبي الصهيوني في بلادكم،ومدى سيطرته على القرار السياسي فيها ،وتوجيه دفته حيث يريد،ولتروا بأنفسكم دناءة الوسائل التي يستخدمها الصهاينة في سبيل تحقيق أهدافهم ،من تلك الوسائل ،القتل والاغتيال لكل من يرونه يشكل خطراً عليهم حتى العلماء المسلمين الذين لديهم اكتشافات أو بحوث علمية تهدد مصالحهم ،ولا سيما إن كانت في الذرة . ولعلكم تذكرون حادث اغتيال الوزير اللبناني السابق بعدما أعلن أنَّ لديه أدلة تدين شارون في مذابح صبرا وشاتيلا ،وأنَّه سوف يقدِّم تلك الأدلة للمحكمة في بلجيكا حيث رفعت قضية لمحاكمته ،فالصهاينة هم أكبر كيان إرهابي في العالم ،وإن كنتم جادون حقاً في مكافحة الإرهاب فابدأوا بمكافحة الصهيونية ،ونحن عندئذ سنكون معكم .
3- الاعتقاد أنَّ إسرائيل تحمي مصالح الغرب الأمريكي والأوربي في منطقة الشرق الأوسط،وهذا اعتقاد خاطئ ،فإسرائيل هي التي تستخدم الولايات المتحدة ،والدول الأوربية لخدمة مصالحها هي،ومصالح الغرب الأمريكي والأوربي مع الشعوب العربية والمسلمة ،وليس مع اسرائيل.
إنَّ مبادئ الحرية والعدل والمساواة التي تنادون بها لن تكون على أرض الواقع مالم تتحرروا من سيطرة الصهيونية ،والتراث الفكري اليهودي ،والمطامع في خيرات الآخرين ،والعداء للإسلام ومحاربته تحت مسميات أخرى كالإرهاب.
خامساً:النظام الإسلامي في الحكم ،ودعوة البيان إلى فصل الدين عن الدولة ،والحكم بالحكم العلماني الوضعي :
قلتم في بيانكم أنَّكم دولة علمانية ،وأشرتم إلى مقولة "إبراهام لنكولن"الرئيس العاشر للولايات المتحدة الأمريكية في خطاب التنصيب الثاني عام 1865م " لله شؤونه الخاصة "ولعلكم تهدفون من هذه الإشارة إلى إبعاد الدين الإسلامي عن الحكم .
هذا وإن كان أحد مؤسسي الولايات المتحدة اختار النظام العلماني ليكون نظام الحكم في دولته ،فنحن لا نتدخل في اختياره ،وإن كنا ندرك أنَّ وجود النظام العلماني ،هو الذي أحدث هذا الخلل في ميزان العدل في العالم ،وهو الذي قلب الموازين،فينصر الظالم على المظلوم ،وجعل الغاصب المحتل مرتكب المذابح البشرية في صبرا وشاتيلا ،وفي نابلس وجنين رجل سلام ،ووصف الذين يدافعون عن أراضيهم المغتصبة ويقاومون المحتل بحجارة صغيرة ،وبتفجير أنفسهم في عدوهم لعدم امتلاكهم سلاحاً يقاتلون به بالإرهابيين،ويُعاملون كإرهابيين.(24/335)
وكلنا يدرك أنَّ النظام العلماني جاء في الغرب المسيحي كردة فعل لتسلط الكنيسة ورجالها ،وهذه مسألة خاصة بالديانة المسيحية لا تنطبق على الإسلام ،زيادة إلى أنَّ الديانة المسيحية ديانة عبادية ،تقتصر تشريعاتها على تنظيم علاقة الإنسان بربه ،وليست بشمولية الإسلام،باعتبار الإسلام هو خاتمة الأديان السماوية ،فجاء تشريعاته كاملة ومتكاملة شاملة جميع شؤون الحياتين الدنيوية والأخروية للأفراد والجماعات ،والشعوب والحكومات ،كما نظَّم علاقة الأفراد والجماعات بمن لا يدين بدينهم ،ولم يترك هذا التشريع صغيرة ولا كبيرة في حياة الأفراد والجماعات إلاَّ ونظَّمها ،فلقد نظَّم علاقة الفرد بوالديه وبزوجه وبأولاده ذكور وإناث ،وبأقاربه وبجيرانه ،وبخدمه ،وبحكَّامه ،وبمن من لا يدين بدينهم لذا جاء قوله تعالى في آخر آية نزلت في القرآن الكريم (( اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً))
والمسلمون لا يستطيعون أن يتخلوا عن الإسلام كنظام حياة في جميع شؤونهم الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية والتعليمية والإعلامية والثقافية والفكرية ،إنَّ لسان الإنسان المسلم لا ينقطع عن ذكر الله منذ لحظة يقظته في الصباح إلى لحظة منامه ،في مأكله ومشربه ،في حله وترحاله ،بل حتى عندما يعطس يذكر الله ،فديننا علمنا ماذا نقول في كل خطوة نخطوها ،فكيف نستطيع أن نتخلى عن تنظيمه لمور حياتنا ،صحيح أنَّ الغرب قد صدَّر إلينا العلمانية والماركسية والاشتراكية والوجودية،وغيرها من المذاهب والفلسفات الفكرية القائمة على الإلحاد ،وإنكار وجود الله،كما صدَّر لنا الهامبرجر والجينز وأصبح من المسلمين من يؤمن بهذه المذاهب،ولكنه في النهاية كمسلم لا يخلو كلامه من ذكر الله .
ثُمَّ ما يضير الغرب تطبيق النظام الإسلامي في الحكم ؟
الغرب يوجه انتقاداً إلى الحكومات الإسلامية بأنها حكومات غير ديمقراطية ،ألا تعرفوا بأن الإسلام هو أول من نادي بالديمقراطية ،وطَّبقها في الحكم ؟
سأوضِّحُ لكم هذا من خلال توضيح الأسس التي يقوم عليها الحكم في الإسلام :
1- الحرية : ولقد حرَّر الإسلام الإنسانية من كل ألوان العبودية للخلق عندما أعلن أنَّ الله هو المعبود الوحيد ولا معبود سواه ،ولعل مقولة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لابن والي مصر عندما ضرب القبطي : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) كانت بمثابة ميثاق لأسس الحرية الإنسانية وتخليصها من كل أصناف العبودية للخلق ،وقد احترم لإسلام الحرية الدينية ،وحرية الملكية ،وحرية اختيار الحاكم ،وحرية مراقبته وإبداء الرأي .
2-الشورى :وهي من الدعائم الأساسية التي يرتكز عليها نظام الحكم في الإسلام ،وقد أوجب الشورى على أولي الأمر ،وذلك في الوحي المكي والمدني ،ففي القرآن الكريم سورة سميت باسم "سورة الشورى" ،وهي سورة مكية يقول تعالى فيها : (( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممَّا رزقناهم ينفقون )) ( آية 38) ففي هذه الآية قرن الله نظام الشورى بالصلاة ولصدقة ليدل على أنَّ الشورى بين ولاة الأمر من أسس الإسلام ،وأنَّ الاستبداد ليس من شأن المؤمنين.وفي الوحي المدني ركَّزَّ جلَّ شأنه على مبدأ الشورى وألزم رسوله الكريم بالالتزام به ،وفي هذا إشارة إلى أنَّه مهما بلغ قدر الحاكم وعلمه ومكانته فهو ملزم بالشورى مادام نبي الله قد ألزم بالشورى وهو يوحى إليه فيقول تعالى مخاطباً رسوله : (( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ))( آل عمران : 159)وقد ثبت أنَّ الرسو صلى الله عليه وسلم كان دائم التشاور مع أصحابه ،وكثيراً ما نزل عند رأيهم ،من ذلك : استشارته لهم في اختيار المكان الذي ينزل فيه المسلمون يوم بدر ،وأخذه برأي الحباب بن المنذر ،واستشارته لهم فيما يعمل بشأن الأسرى في الغزوة ذاتها ،فوافق على رأي أبي بكر رضي الله عنه الذي أشار عليه بالفداء ،ونزوله على رأي الشباب بالخروج في يوم أحد ،كما أخذ رأي زوجه أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في موقف الصحابة رضوان الله عليهم من صلح الحديبية ،وفي هذا تأكيد على أنّ الشورى من حق المرأة كما هي من حق الرجل ،والخطاب القرآني في الآيتين الكريمتين جاء في صيغة العموم شاملاً الذكور والإناث معاً ،كما هو معتاد في مجمل الأحكام والتشريعات،وأكد عليه أخذ الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه برأي المرأة عندما جمع المسلمين ليأخذ رأيهم في تحديد المهور ،فحاجته امرأة قرشية بالآية القرآنية رقم 20 في سورة النساء (( وإنْ أَردتمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَأَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارَاً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئَاً أَتَأخذُونَهُ بُهْتَانَاً وإِثْمَاً مُّبِينَا)) فاعتلى المنبر معلناً على الملأ قولته الشهيرة : ( أخطأ عمر وأصابت امرأة )(24/336)
3-البيعة:وهي من الأسس الأولية في نظام الحكم في الإسلام يقول تعالى : (( إنَّ الذين يُبَايعونك إنَّما يُبَايِعُون اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهم فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ على نَفْسِهِ وَمنْ أَوْفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله فَسَيُؤتِيهِ أَجْرَاً عَظِيمَاً)) ( الفتح : 10)،كما أعطى للمرأة حق البيعة وخصَّها بالبيعة تأكيداً على إعطائها هذا الحق الأساسي ، يقول تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّنَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المؤُمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شّيْئَاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِيِنَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسَتَغْفَرَ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )) ( الممتحنة: 12)،وهنا نرى أنَّ الإسلام أعطى للمرأة حقوقاً سياسية قبل جميع الأنظمة السياسية ،فلقد ساوى بين المرأة والرجل في هذا الحق السياسي الخطير الذي يعد من أهم ركائز نظامه السياسي ،وقد طبَّق هذا الرسو صلى الله عليه وسلم وقد بايعته الأنصاريات في العقبة ،كما بايعنه عندما قدم المدينة المنورة.
4- العدل: هو هدف وغاية الحكم الإسلامي ، يقول تعالى : (( إنَّ اللهَ يأمركم أنْ تُؤدَّوا الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِها وإذا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنَ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إَنَّ اللهَ نِعمَاً يَعِظَكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعَاً بَصِيراً )) ( النساء : 58)،ويقول تعالى : (( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِالقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِين )) ( المائدة : 42)،وأمثلة تطبيق العدل في الإسلام كثيرة لا حصر لها منها: كان رسول ا صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يمشي بين الصفوف لتعديلها ،وفي يده قدح ،فمرّض برجل خارج عن الصف فطعنه بالقدح في بطنه ليعتدل فقال الرجل ،وهو سواد بن زمعة ،لقد أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق والعدل فاستخلص لي حقي منك ،فقال له صلى الله عليه وسلم : هذا بطني فاقتص منه :فاعتنقه الرجل ،وقبَّل بطنه ،فقال له الرسو صلى الله عليه وسلم ما الذي دفعك إلى هذا يا سواد ؟ فقال : أحببت أن يكون آخر عهدي بالدنيا هو ملامسة جلدي لجلدك ،فدعا له رسول الله.والناس سواء في تطبيق العدل على اختلاف ألوانهم ودياناتهم من ذلك : حدث أنَّ ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه فاتح مصر وواليها من قبل الخليفة عمر بن الخطّاب قد نازع شاباً من دهماء المصريين الأقباط المسيحيين في ميدان سباق ،فأقبلت فرس المصري فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح : "فرسي ورب الكعبة" ،ثُمَّ اقتربت وعرفها صاحبها فغضب محمد بن عمرو ووثب على الرجل يضربه بالسوط ويقول له : خذها وأنا ابن الأكرمين ،وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوه المصري فحبسه زمناً ..ومازال محبوساً حتى أفلت وقدم إلى الخليفة لإبلاغه شكواه...
قال أنس بن مالك راوي القصة : فوالله ما زاد عمر على أن قال له أجلس ...ومضت فترة إذا به في خلالها قد استقدم عمراً وابنه من مصر فقدما ومثلا في مجلس القصاص ،فنادى عمر رضي الله عنه :" أين المصري ؟ …دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين"
فضربه حتى أثخنه ،ونحن نشتهي أن يضربه .فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه ،وعمر رضي الله عنه يقول : اضرب ابن الأكرمين ! ..ثُمَّ قال : " أجلها على صلعة عمرو ! فوالله ما ضربك ابنه إلاَّ بفضل سلطانه …قال عمرو رضي الله عنه فزعاً : يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت ، وقال المصري معتذراً : يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني ..فقال عمر رضي الله عنه :"أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى يكون أنت الذي تدعه .والتفت إلى عمرو مغضباً قائلاً له تلك القولة الخالدة :" أيا عمرو ! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً )
وهناك قصة سيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه مع اليهودي الذي وجد درعه عنده الذي فقده وهو متجهاً إلى صفين ،ولما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة وجده في يد يهودي ،فقال نصير إلى القاضي ،فتقدم علي رضي الله عنه فجلس إلى جنب القاضي شريح ،وقال : " لولا أنَّ خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس ،ولكني سمعتُ رسول الله صلى عليه وسلم يقول : "أصغروهم من حيث أصغرهم الله "فقال شُريح قل يا أمير المؤمنين ،فقال :" نعم هذه الدرع التي في يد هذا اليهودي درعي لم أبع ولم أهب ،فقال شُريح : إيش تقول يا يهودي ؟ قال: "درعي وفي يدي ،فقال شريح: ألك بينة يا أمير المؤمنين ؟ قال : "نعم ،قنبر والحسن يشهدان أنَّ الدرع درعي ،فقال شُريح: شهادة الابن لا تجوز للأب ،فقال علي رضي الله عنه : " رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعتُ رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول :"الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ،فقال اليهودي : " أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه ،وقاضيه قضى عليه ،أشهد أنَّ هذا هو الحق ،وأشهد أن لا لإله إلاَّ الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله ،وأنَّ الدرع درعك)(24/337)
ومن أعظم فضائل الإسلام أنّه أوجب العدل مع الأعداء ،وقال تعالى : (( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِين للهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمِنَّكُم شَنْآن قَوِمٍ على أَلاَّ تِعْدِلُوا اعدْلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقْوى وّاتَّقُوُا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون)) ( المائدة : 8).
5-المساواة : كان التمايز بين الناس ولا يزال سائداً في بعض جهات العالم،فاليهود زعموا أنَّهم وحدهم شعب الله المختار ،وفرَّقوا في تشريعاتهم بين اليهود وغيرهم ،فحرَّموا الربا بشدة بينهم ،وأباحوه مع غيرهم ،كما أباحوا دماء وأعراض غير اليهود ،وبعض الأديان تقر نظام الطبقات كالديانة البراهمية التي تقسم الأمة إلى أربع طوائف ،وفي فرنسا قبل الثورة الفرنسية كان يوجد عدم مساواة في توزيع المناصب العمومية ،وعدم وجود رقابة عليها،والثورة الفرنسية إن نادت بمبدأ المساواة فهي أخذته من الإسلام وجميع حركات الإصلاح الديني التي شهدتها أوربا كانت من تأثرها بالإسلام الذي عرفته عن طريق الأندلس والحروب الصليبية وصقلية.ولكن النزعة العنصرية لا تزال موجودة في أوربا وأمريكا ،فألمانيا النازية قبل الحرب العالمية الثانية أسرفت في الدعوة إلى العنصرية فقسمت الجنس البشري إلى طبقات ،وجعلت الجنس الآري في مقدمتها ،وأمريكا التي تزعم أنها دولة قامت على الديمقراطية قد اضطهدت الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا ،كما اضطهدت الزنوج الذين اختطفوا من بلادهم ليكونوا عبيداً وأرقاء للبيض حتى قامت ثورة الزنوج احتجاجاً على التمييز العنصري.
ونحن إذا نظرنا إلى ما شرَّعه الإسلام من مبدأ المساواة،رأينا أنَّه لم يصل أي تشريع سماوي أو وضعي في مبلغ الحرص على مبدأ المساواة إلى ما وصل إليه الإسلام ،فقد قرر الإسلام مساواة الناس أمام القانون ،ومساواتهم في الحقوق العامة المدنية والسياسية والاجتماعية ،فلا فضل لعربي على عجمي ،ولا أبيض على أسود ،ولا لغني على فقير ،ولا لوجيه على صعلوك ،وبذلك قضى الإسلام على نظام الطوائف ،وأساليب التفرقة بين الطبقات في الحقوق والواجبات ،ولذلك جعل الخالق جلّ شأنه " التقوى" أساس التفاضل: ((يا أيها النَّاس إنَّا خلَقْناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم )) ( الحجرات: 13)
وقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل في الإنسانية رداً على ما أثارته المجامع الكنسية من تساؤلات هل المرأة إنسان ،فقال تعالى : ((هو الذي خَلَقَكُم مِّنْ نفسٍ واحِدة وجعل منها زَوْجَها )) (الأعراف :189)،وجعلها شقيقة الرجل ،كما قال رسول ا صلى الله عليه وسلم ( إنَّما النساء شقائق الرجال )وكرَّمها كأم وزوجة ،وأخت وابنة ،وجعل الإحسان إلى بنتين أو ثلاث ،أو أختين أو ثلاث الجنة ،بل جعل من كانت له ابنة لم يهنها ولم يئدها ولم يؤثر ولده عليها دخل الجنَّة ،وألزم الرجل بالنفقة على المرأة ولو كانت غنية ،كما ساوى بينها وبين الرجل في والعبادات والحدود والعقوبات،وفي الجزاء والثواب ،وساوى بينها وبين الرجل في حق التعلم والعمل ،إذ لم يُحرِّم عليها العمل لأنَّها قد تحتاج إليه ،ولم يوجبه ،وفي نفس الوقت لم يستحسنه ويحبذه ،وذلك لأنَّه سيكون على حساب زوجيتها وأمومتها ،وتربية أولادها، واعترف بأهليتها الحقوقية المالية الكاملة مثلها مثل الرجل تماماً ،ولا يحق للزوج التدخل في تصرفاتها المالية،كما حافظ على شخصيتها ،فلا تفقد اسمها واسم عائلتها بالزواج ؛إذ تظل منتسبة لأبيها ،وأزال عنها تهمة الخطيئة الأزلية التي ألحقتها بها الأديان والتشريعات القديمة في قوله تعالى : (( وعصى آدم ربَّه فغوى))،كما ساوى بينها وبين الرجل في كثير من الحقوق السياسية كحق البيعة والشورى والولاية ،وإجارة المحارب ،والمشاركة في القتال أن دعت الحاجة ،والمشاركة أيضاً في الغنائم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وعمارة الكون ،وإن كانت المرأة المسلمة لم تحصل على بعض حقوقها ،فهذا يرجع إلى تحكم العادات والأعراف والتقاليد ،وليس إلى الإسلام.
وقد أكَّد رسول الله صلى الله علي وسلم على مبدأ المساواة بأقواله وأفعاله الكثيرة فمن أقواله ( الناس سواسية كأسنان المشط)،وقال في حجة الوداع : ( أيها الناس : إنَّ ربكم واحد ،وأباكم واحد ،ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ،ولا لأسود على أحمر ،ولا لأحمر على أسود إلاَّ بالتقوى)،فهنا ألغى التفاخر بالأنساب والتعاظم بالأباء والأجداد ،فأبوهم جميعاً واحد هو آدم عليه السلام ،وألغى التفرقة العنصرية والتمايز بالألوان ،فلم يفرق في الحقوق والمعاملات بين أبيض وأسود ،ولا بين حر ومولى ،فقد ولى بلالاً على المدينة،وفيها كبار الصحابة ،وبلال رضي الله عنه مملوك أسود سابق أشتراه أبو بكر رضي الله عنه وأعتقه ،كما أنّ صلى الله عليه وسلم ولى "باذان" الفارسي لى اليمن ،ولمَّا مات ولى ابنه مكانه .
ولقد سار على نهجه الخلفاء الراشدون من بعده ،وقد سبق وأن ذكرنا أمثلة لذلك.(24/338)
وهكذا نجد كيف وضع الإسلام حقوق الإنسان وطبَّقها واحترمها ،قبل أن ينادي بها فلاسفة الغرب الذين وضعوا ميثاق حقوق الإنسان بأربعة عشر قرناً ،والتي أصبحت هذه الحقوق تنهك من قبل القوى العظمى التي تَتخذها ذريعة للتدخل في شؤون الدول الصغرى والضعيفة لبسط السيطرة والنفوذ عليها ،وليس لحماية حقوق الإنسان.
6-الحرص على العمران وعدم الفساد: ولقد نهى الله المسلمين إذا تولوا الحكم عن الفساد في الأرض ،يقول تعالى : (( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم .أولئك الذين لعنهم الله فأصَّمهم وأعمى أبْصارهم )) ( محمد : 22-23)هذا والمتتبع لغزوات الرسول صلى الله عيه وسلم ،ثُمَّ للفتوحات الإسلامية لم يجد فيها تدميراً أو تخريباً للبلاد المفتوحة ،كما رأينا من قبل في جيوش الأمم الأخرى كاجتياح الجماعات الجرمانية في أوربا ،والقوط في الأندلس ،والتتار في المشرق الإسلامي،ولعل هذا من أهم أسباب إسلام أهالي البلاد المفتوحة.فالإسلام دين بناء وحضارة ،وليس دين هدم وتخريب وتدمير خلاف ما نراه اليوم مما يحدثه اليهود الصهاينة في الأراضي الفلسطينية من قتل وتدمير وحرق وتخريب وتجريف الأراضي ،واقتلاع لأشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان .
7-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : وهذا من الأسس والركائز الأساسية في الحكم ،يقول تعالى : (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ( آل عمران : 104)والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق للرجل والمرأة معاً ، يقول تعالى : (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر)) ولقد أوصى صلى الله عليه وسلم بذلك عدة وصايا منها قوله : ( الدين نصيحة ) فسأله الصحابة لمن : قال ( لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)
وقد سار الخلفاء الراشدون على هذا المنهج من ذلك قول أبي بكر في أول خطبة ألقاها يوم توليه الخلافة ؛إذ قال : ( قد وليت ولستُ بخيركم ،فإن رأيتموني على حق فأعينوني ،وإن رأيتموني على باطل فسددوني ،أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم ،فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم )،ويقول عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ( أيها الناس فمن رأى فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمه )وتقدم إليه رجل وقال : ( لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا )،فرد عليه عمر رضي الله عنه قائلاً ( الحمد لله أن كان في أمة عمر من يقوِّم اعوجاج عمر بالسيف)
هذه هي الديمقراطية في الإسلام ،وهذه الحرية في إبداء الرأي ،وفي مراقبة الحاكم ومحاسبته إن أخطأ.
وهذه هي الركائز الأساسية لنظام الحكم في الإسلام ،فهي قائمة على العدل والشورى والبيعة والمساواة والدعوة إلى احترام العمران والنهي عن الفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وهو كما يتضح من أسسه نظام واضح يجمع بين الدين وأمور الحياة الدنيا فالدين الإسلامي دين ودولة.
وكما تبيَّن لكم أنَّ الأقليات التي تعيش في كنف الإسلام ،وبين رعايا الدول الإسلامية لا يخشى على كافة حقوقها المدنية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ،وأكبر دليل عهد الأمان الذي أعطاه عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لأهل بيت المقدس ،كذلك ولو ذهبنا إلى مصر نجد أنَّ العرب المسلمين أعطوا الحرية الدينية للقبط ،يؤيد ذلك ما فعله عمرو بن العاص رضي الله عنه بعد استيلائه على حصن بابلبيون ،إذ كتب بيده عهداً للقبط بحماية كنيستهم ،ولعن كل من يجرؤ من المسلمين على إخراجهم منها ،وكتب أماناً للبطريق بنيامين ،وردَّه إلى كرسيه بعد أن تغيب عنه زهاء ثلاث عشرة سنة ،وأمر عمرو رضي الله عنه باستقبال بنيامين عندما قدم الإسكندرية أحسن استقبال ،وألقى على مسامعه خطاباً بليغاً ضمنه الاقتراحات التي رآها ضرورية لحفظ كيان الكنيسة ،فتقبلها عمرو رضي الله عنه ، ومنحه السلطة التامة على القبط والسلطان المطلق لإدارة شؤون الكنيسة .
ولم يفرق العرب في مصر بين الملكانية واليعاقبة من المصريين ،الذين كانوا متساوين أمام القانون ،والذين أظلهم العرب بعدلهم وحموهم بحسن تدبيرهم ،وقد ترك العرب للمصرين ،وأخذوا على عاتقهم حمايتهم ،وأمنوهم على أنفسهم ونسائهم وعيالهم ،فشعروا براحة كبيرة لم يعهدوها منذ زمن طويل ،بل كانوا يعانون من ظلم البيزنطيين الذين كانوا يضطهدون الياعقبة لأنهم يختلفون معهم في المذهب ،يوضح هذا قول المستشرق البريطاني سير توماس أرنولد في كتابه " الدعوة إلى الإسلام " : ( يرجع النجاح السريع الذي أحرزه غزاة العرب قبل كل شيء إلى ما لقوه من ترحيب الأهالي المسيحيين الذين كرهوا الحكم البيزنطي ،لما عرف به من الإدارة الظالمة ،وما أضمروه من حقد مرير على علماء اللاهوت ،فإنَّ الياعقبة الذين كانوا يكونون السواد الأعظم من السكان المسيحيين عوملوا معاملة مجحفة من أتباع المذهب الأرثوذكسي التابعين للبلاط ،الذين ألقوا في قلوبهم بذور السخط والحنق الذيْن لم ينسهما أعقابهم حتى اليوم )(24/339)
كما أنَّ السلطان محمد الفاتح أعطى ـ حين دخل القسطنطينية فاتحاً ـ لبطريرك المدينة السلطان الداخلي على رعيته من النصارى ،بحيث لا تتدخل الدولة في عقائدهم ولا عباداتهم.
كما يروي لنا التاريخ أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية طلب إلى أمير التتار إطلاق سراح الأسرى ،فأجابه الأمير التتاري إلى إطلاق سراح أسرى المسلمين وحدهم دون المسيحيين واليهود فأبى شيخ الإسلام رحمه الله ذلك وقال : " لا بد من إطلاق سراح الذميين من أهل الكتاب ، فإنَّهم أهل ذمتنا ،لهم ذمة الله ورسوله ،فأطلق الأمير سراحهم جميعاً .
وأيضاً اعتراف الحاخام اليهودي " ديفيد وايس " الناطق الرسمي لحركة "ناطوري كارتا "إنَّ الدول الإسلامية أحسنت استضافة اليهود،وأود أن أشير هنا إلى أنَّ اليهود وصلوا إلى منصب الوزارة في الدولة المرينية في المغرب ،فاليهود في المغرب كان لهم دور كبير في الحياة السياسية في الدولة المرينية ،فكان خليفة بن ميمون ابن زمامة حاجباً للسلطان في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ،وتولت أسرة بني وقَّاصة اليهودية قهرمة القصر السلطاني في عهد السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق ،وفي عهد آخر سلاطين بني مرين ،السلطان عبد الحق بن أبي سعيد المريني تولى منصب الوزارة اثنان من اليهود هما هارون وشاويل ،وقد أدى تحكم اليهود في الدولة عن طريق هذين الوزيرين إلى مقتل السلطان عبد الحق المريني وسقوط الدولة المرينية،وهذا يبن مدى غدر اليهود بمن يحسن إليهم .
وتصريح البابا "شنودة" أنَّه يفضل العيش في كنف الحكومة المسلمة في مصر على أن يكون تحت رعاية دولة مسيحية في مصر ،وذلك لأنَّ هناك مخطط لتجزئة مصر وتفتيتها إلى دولة نوبية في الجنوب ،ودولة مسيحية في صعيد مصر ،ودولة إسلامية في شمال الدلتا ،وهو مخطط كبير لتفتيت العالم الإسلامي ،وقد وضع هذا المخطط المستشرق اليهودي البريطاني الأمريكي " برنارد لويس "
فما الذي يضير من تطبيق الحكم الإسلامي الذي يحفظ حقوق كافة البشر؟
هذا النظام الذي وضعه الخالق ،وهو أعلم بما يصلح لهم ،فهو أدرى بشؤون خلقه،وبما يصلح لهم،يقول تعالى : (( إنَّا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)) (النساء : 105)
الخاتمة :
وكما تروْن فنحن أمة تدعو إلى الخير والبر والإحسان والتسامح ،وديننا دين سماوي حضاري يدعو إلى الحرية والعدل والمساواة ،وينبذ التمييز العنصري ،ويحترم الحرية الدينية للآخرين ،ونحن أمة تحترم الأديان السماوية وأنبياءها وكتبها ،ولم ينل مسلم من أي نبي من الأنبياء فأيماننا لا يكمل إلاَّ بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ، في حين نجد كثيراً من المستشرقين يهود ومسيحيين قد نالوا من نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ووصفوه بما لا يليق ،وقالوا عنه أنَّه كاهن وساحر،ومجنون ،وقاطع طريق ،وغير ذلك من الصفات ، بينما نحن ننزه أنبياء الله ورسله بمن فيهم النبي موسى عليه السلام ،والنبي عيسى عليه السلام مما وصفهم به اليهود في التوراة المحرفة بما لا يليق بهم .
ونحن أمة ليست لها مطامع في أراض الغير ،ولا في خيراتهم ،وتريد أن تعيش حرة كريمة وذات سيادة على أراضيها ،ولا سلطان للغير عليها ،وتريد أن تبني نفسها وتنمي مجتمعها وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية على قيم سامية تسمو بالنفس الإنسانية ،وترتقي بها إلى مراتب عليا من السلوك الإنساني القائم على احترام آدمية الإنسان وإنسانيته وحريته وكافة حقوقه مع مراعاة الجانب الروحي في النفس الإنسانية ،وتحقيق أمانة الاستخلاف في عمارة الأرض ،والغاية العليا من خلق الله للإنسان وهو عبادته ،وتريد أن تقيم علاقاتها بالأمم الأخرى على الأسس القويمة التي وضعها الإسلام ،ولكن لازال هناك من تلك الأمم الأخرى من يطمع في أراضينا وما فيها من خيرات ،ويريد أن يبسط نفوذه علينا تارة بالقوة العسكرية ،وتارة أخرى بالتهديد ،وبالضغوط الدولية ،وتارة ثالثة بإثارة الخلافات فيما بيننا اتباعاً لسياسة فرِّق تسد ،ونحن هنا نستساءل :(24/340)
لماذا نُحارب ؟ لماذا نُقتل ؟ لماذا أصبح قانون الغاب هو السائد في العالم في القرن الحادي والعشرين ،وكأنَّنا في بدء الخليقة ؟ لماذا أصبح القوي يأكل الضعيف ويذله ويمتهنه ،ويفرض هيمنته عليه بالقوة العسكرية أو بالتهديد بها ؟ لماذا أصبح المجتمع الدولي ينصر الظالم على المظلوم ؟ ينصر الغاصب المحتل على المسلوب أرضه وكرامته ؟ لماذا أصبح الضعيف محروماً من حق الدفاع عن نفسه ،عن بلده عن أرضه ووطنه ،وإن فعل بات مجرماً إرهابياً يُقتل أو يُحاكم ويُسجن أو يُبعد ويُطرد من بلده ؟ لماذا كل هذه الحرب على الإسلام ،وهو دين سماوي منزل من رب الكون وخالقه ،وهو دين شامل وكامل يهدف خير البشرية ،وأنزل للناس كافة رحمة للعالمين،وفيه حل لكل ما تعانيه البشرية من تيه وشتات وخوف وقلق وطمع وجشع،وقتل وسفك دماء،واغتصاب للأعراض ،وانتهاك للحرمات،وتدمير للعمران،وتشريد للنساء والشيوخ والأطفال ،ومن سيطرة المادة على كل ألوان الحياة ،والمبدأ الميكافلي " الغاية تبرر الوسيلة"؟
لماذا أصبح الإنسان المسلم منا الملتزم بالإسلام خلقاً وعملاً يعد إرهابيا ؟ولكي ينفي عن نفسه تهمة الإرهاب يعلن أنه ليبرالي ،أو علماني أو شيوعي ..الخ،المهم ألاَّ يكون إسلامياً؟
لماذا باتت كل الأبواب في عالمنا الإسلامي تفتح للعلمانيين وتغلق أمام الإسلاميين؟
وأخيراً لمَ لا يدعنا الآخر نعيش في أمن وأمان واطمئنان نعبد الله الواحد الأحد ونحكم في بلادنا بما أنزل الله و نعمر هذا الكون ،ونبني ونشيد لنؤدي رسالتنا في هذه الحياة ؟
ليتكم تجيبون عن هذه التساؤلات
===========(24/341)
(24/342)
ماذا قال فوكوياما آنفا؟
ادريس الكنبوري 11/1/1423
25/03/2002
في عصر هيمنة الاقتصاد الأمريكي ونمط الإنتاج الأمريكي،فإن الأفكارتتحول إلى سلعة تخضع لنفس قوانين البضائع، والقاعدة في هذا النمط الرأسمالي هي الإثارة وتحريك الغرائز، وهي نفسها مواصفات الاقتصاد الأمريكي الحديث، فعن طريق الإثارة وتحريك الغرائز يتم إقناع المستهلك بأهمية السّلعة وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، أصبحت أكثر الأفكار انتشارًا وقبولاً وسط الأمريكيين والأوربيين هي تلك التي تحترم هذه القاعدة،وتعمل على إثارة القارئ المتلقي وحفز غرائزه الحيوانية التي تقدس البقاء، لذلك لاغرابة أن نجد أكثرالكتابات انتشارًا كتابات أولئك الذين يقرعون جرس الإنذار من الخطر الإسلامي العالمي، ومن بين هذه الكتابات كتابات " صامويل هانتنغتون" و" فرانسيس فوكوياما" و " توماس فريدمان".
اندفع " فرانسيس فوكوياما"، الياباني الأصل الأمريكي الجنسية والموطن، إلى الواجهة في بداية التسعينيات, إثر طرح نظريته حول "نهاية التاريخ و الإنسان الأخير" في مقال طويل بإحدى المجلات الأمريكية، ومافتئ هذا المقال أن أصبح كتابًا وا سع الانتشار بسبب الأفكارالواردة فيه.
وبالرغم من أن هذه النظرية لم تكن جديدة حتى ذلك الوقت، إلا أن بعثها من جديد على يد "فوكوياما" في ظروف دولية دقيقة اتسمت بانهيار المعسكر الشيوعي بعد سبعة عقود من المواجهة الصامتة مع العالم الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة، منحها قوة التأثير وسحر المناسبة، فقد قال " بنهاية التاريخ" فيلسوف فرنسي من القرن الثامن عشر هو " الكسندر كوجيف " ، كما أن الفيلسوف الألماني "فريدريك هيجل" قال بها، غير أن هذين الرجلين أبقيا نظريتهما حبيسة كتاباتهما الفلسفية النظرية، بينما وظفها " فوكوياما" سياسيًا في مرحلة عالمية دقيقة، كما أن هذا الياباني وجد بين يديه آلة قوية لم تكن متوفرة للفرنسي " الكسندر كوجيف" والألماني "هيجل"، وهذه الآلة هي بكلمة واحدة: الإعلام.
ونظرية "نهاية التاريخ" كما صاغها "فوكوياما" قبل عشرسنوات شائعة ومعروفة، حتى ليبدو مملا ً التذكير بها في هذا المقال، ويمكن تلخيصها في جملتين: بعد انهيار الشيوعية فإن الليبرالية الرأسمالية هي التي ستهيمن على مقاليد الأمور في العالم، ولم يتحدث "فوكوياما" في كتابه مطولا عن الإسلام، ولكنه اكتفى بالقول إن الإسلام لايمتلك القدرات الذاتية ليكون نموذجًا منافسًا، وهذه هي النقطة التي انطلق منها "صامويل هانتنغتون" في نظريته حول "صدام الحضارات"، إذ قال بالعكس، ورأى أن الإسلام والكونفوشيوسية قادران على أن يشكلا نموذجًا منافسا للحضارة الغربية، ومن ثم فإن سيناريو "صدام الحضارات" يبدو غير ممكن تجنبه. وينبغي التذكير بأن نظرية "صدام الحضارات" أنهت نظرية نهاية التاريخ وأثبتت فشلها بالنسبة للثقافة الأمريكية، وهذه أيضًا قاعدة في منظومة التداول الاقتصادي, ذلك أن العملة الحقيقية تطرد العملة الزائفة، إلى أن يثبت زيف الأولى، وهكذا وفق مبدأ المنافسة الرأسمالية. لكن "فوكوياما" عاد قبل أسابيع بمقال نشره في"نيوزويك" الأمريكية، ليكتب عن الفاشية الإسلامية، والحركة الإسلامية في العالم الإسلامي، ويعيد التذكير بنظريته مع إدخال تعديل عليها يجعلها مقبولة اليوم بعد تجاوزها، وما أضافه إليها في حقيقة الأمر "قوضها" من الأساس، فقد بدأ بالقول: إن النموذج الحضاري الغربي أصبح هو النموذج الأوحد بغير منافس بسبب زوال الشيوعية، وانتهى إلى القول بأن هذا النموذج يواجه تحديًا جديدًا هو الإسلام بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إن هذا يؤكد أن النظرية لم تكن مؤسسة على قاعدة صلبة، وإنما كانت رد فعل سياسيًا وإيديولوجيا استجابة لشروط معينة، ولم يكن مفاجئًا أن تتلقى تلك النظرية ضربة قاضية أخرى بعد الحادي عشر من سبتمبر من طرف الكثير من المفكرين الأمريكيين أنفسهم، وكتب الأمريكي ذو الأصل العربي فريد زكريا في "نيوزيك" مقالاً تحت عنوان "نهاية نهاية التاريخ" The end of the end of Histo r y عدد 24سبتمبر2001.(24/343)
انطلق "فوكوياما" من أن فرضيته حول "نهاية التاريخ" ما زالت صحيحة رغم الأحداث التي تلت الحادي عشر من سبتمبر، فالحداثة التي تمثلها الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات المتطورة ستبقى القوة المسيطرة، ولكنه يقع في تناقض حاد وسط المقال حين يقول :"سيكون من السذاجة الشديدة الظن بأن الثقافة الأمريكية الشعبية مهما كانت درجة إغرائها ستسود العالم قريبا",ويستدرك قائلا:" إن هجمات الحادي عشر من سبتمبر تمثل حركة ارتجاعية عميقة يائسة ضد العالم الحديث الذي يبدو كأنه قطار شحن سريع لمن لا يريد ركوبه"، ويضيف: "لكننا بحاجة لأن ننظر بجدية إلى التحدي الذي نواجهه، وذلك لأن وجود حركة تملك القوة لإحداث خراب هائل في العالم الحديث حتى وإن مثلت عددًا قليلاً من الناس فحسب يطرح أسئلة حقيقية حول قدرة حضارتنا على البقاء"، ويعبر "فوكوياما" عن خشيته من أن تتحول التكنولوجيا ذاتها ضد الغرب بشكل لايستطيع هذا الأخير وقفها، وهو ما أصبح يشكو منه الكثيرون في الغرب، إلى درجة أن "توماس فريدمان" كتب قبل أيام يدعو إلى وضع نظام يقضي بأن يركب مسافرو الطائرات حفاة عراة حتى لا تتسرب الأسلحة والمتفجرات إلى الطائرات !!
إن اعتبار هجمات سبتمبر حركة ارتجاعية عنيفة ويائسة ضد العالم الحديث لايعبر عن الحقيقة كاملة، ولكنه يعكس وهمًا لدى "فوكوياما" عن أن خط التطور العالمي كان يسير بشكل مستقيم قبل وقوع الارتجاع، أي أن ما دعاه بـ"الحداثة" التي تمثلها الولايات المتحدة كانت ذات اتجاه عالمي واحد، وهو مالم يقل به أحد، فقد تعرضت هذه الحداثة المزعومة إلى عدة ضربات قاتلة حتى من داخل البيت الأوروبي المسيحي الحداثي نفسه، بسبب الغطرسة الأمريكية ونزعة الانفراد بالهيمنة، فقد تلقت أمريكا قبل الهجمات ضربات على يد أوروبا نفسها عندما لم تصوت عليها هذه الأخيرة في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وهي المرة الأولى التي تجد أمريكا نفسها خارج هذه اللجنة، وتعرضت لانتقادات واسعة بسبب إصرارها على مشروع "الدرع الصاروخي"، وبسبب التجسس على الدول الأوروبية، ثم بسبب عدم توقيعها على اتفاقية "كيوتو" الخاصة بالحد من الارتفاع الحراري الناتج عن تضخم الغازات الصناعية في الكون، رغم توقيع دول كاليابان وروسيا ممن رفضوا التوقيع قبلها. وقبل أسابيع قليلة فقط من الحادي عشر من سبتمبر كشفت الولايات المتحدة عن وجهها الحقيقي كدولة عنصرية بغيضة حين انسحبت تضامنا مع الكيان الصهيوني العنصري من مؤتمر "دوربان" حول العنصرية الذي انعقد في جنوب افريقيا، هذا علاوة على تأييدها المطلق للاحتلال الصهيوني لفلسطين وجرائمه ضد الشعب الفلسطيني إبان الانتفاضة، واستعمالها حق الفيتو ضد قرار إرسال قوات دولية لحماية الفلسطينيين مرتين متتاليتين في ظرف شهور قليلة، وتوجيه الأسلحة المتطورة إلى الجيش الصهيوني للقضاء على الانتفاضة، في ذات الوقت الذي تدعو فيه إلى التفاوض والسلام. فهذه المواقف الشاذة التي تجمعت في خلال سنة واحدة فقط كانت كفيلة بأن تضع الولايات المتحدة في قفص الاتهام أمام أعين العالم كله، وأن تعزلها تدريجيا، لولا أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويذهب الكثير من المحللين حتى الأمريكيين منهم إلى أن هذه الأحداث أنقذت الولايات المتحدة في لحظة دقيقة، حتى إنها لو لم تقع لصنعتها، ذلك أن الفوائد التي جنتها من وراء تلك الأحداث تفوق بكثير الأضرار التي ترتبت عنها، فقد أعادت التفاف أوروبا حول سياستها، وأحدثت تقاربًا روسيا معها، وأوصلت قواتها إلى منطقة بحر قزوين, وأدخلتها إلى دهاليز الأسرار النووية الباكستانية لقد حققت في شهر واحد ما عجزت عنه منذ الحرب العالمية الثانية خلال نصف قرن.
الحداثة
يتحدث "فوكوياما" عن الحداثة وكأنها قالب جامد وموحد، معتقدا أن الحداثة في صورتها الغربية والأمريكية هي الوحيدة السائدة, بينما ينسى ـ وهو ياباني - النموذج الياباني للحداثة الاقتصادية والسياسية والثقافية المغاير للنموذج المذكور, إن الحداثة الغربية عمومًا والأمريكية خصوصًا تأسست على العلمانية في الأصل، بل هناك من يقول من الغربيين إن انخراط أوروبا في العلمانية كان بداية الدخول في الحداثة، أي أن العلمانية والحداثة وجهان لعملة واحدة، بينما انطلقت الحداثة اليابانية من تفجير القيم الكونفوشيوسية، أي الدينية، لامن تجاوزها، أو من القطع معها، وحتى في داخل الحداثة الغربية فهناك حداثات لاحداثة واحدة، وهي تسير بسرعات متفاوتة من موقع لآخر، كما أن الصراع بينها قائم، ويمكن هنا أن نستشهد بمثال واحد فقط، وهوالرفض الأوروبي لتحرير الثقافة والاتصال ضمن الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة "الغات" بسبب الخشية من هيمنة النموذج الحداثي الأمريكي.(24/344)
ويرد " فوكوياما" على تصريحات "جورج بوش" الرئيس الأمريكي التي قال فيها بأن الحرب ضد الإرهاب التي أعلنتها واشنطن ضد أفغانستان ليست حربًا ضد الإسلام، ويقول إن الصراع ضد الإرهاب فيه مسائل حضارية واضحة تلعب دورًا فيه . وفي حقيقة الأمر، فإن "فوكوياما" يلتقي مع "بوش"، حتى وإن كان هذا الأخير لا يقول نفس الكلام،لأنه يفعله، فقد رسمت الإدارة الأمريكية خطة واسعة ضد التعليم الديني في البلدان العربية والإسلامية، وضغطت وتضغط على باكستان وتركيا واليمن ومصر والسعودية وغيرها لتغيير المناهج التعليمية الإسلامية ومحاربة المدارس الدينية وكتاتيب تحفيظ القرآن، معتبرة أن ما تسميه "بالتطرف والإرهاب" يأتي من هذه المؤسسات والمدارس، أي من الأفكار والقناعات التي تغذيها، وهذا بالتحديد مايقوله "فوكوياما". إن هذا الأخير لا يعبر سوى عن قناعات ومواقف الإدارة الأمريكية منذ أن طرح نظريته حول " نهاية التاريخ"، فهو واحد من المثقفين الأمريكيين الذين يحاولون إيجاد التبرير الايديولوجي والفكري لقرارات هذه الإدارة، وهو بالتالي نموذج مثقف السلطة والحكم في الولايات المتحدة ، إن " فوكوياما" يدعو بصريح العبارة إلى شن حرب شعواء ضد هذه العناصر الثابتة في الحضارة الإسلامية بهدف القضاء على بذور"الإرهاب"، وهي دعوة يسانده فيها الكثيرون في أوروبا وأمريكا، بل يطبقها كما سبق القول رئيس الإدارة الأمريكية "جورج بوش"، ولكن أليس هذا إرهابًا حضاريًا متطورًا؟ أليس هذا محاولة جديدة لإبادة ثقافة أمة بكاملها، بعد إبادة شعوب بكاملها مع ثقافاتها في أمريكا؟! وهل من حق المسلمين أن يطالبوا مثلا بتغيير المناهج الأمريكية والأوروبية لأنها مليئة بالأفكار الاستشراقية الخاطئة عن الإسلام والشرق؟ إن الكيان الصهيوني يحشو مناهجه التعليمية بدعوات عدوانية إلى إبادة "الأغيار" وذبْح الفلسطينيين وقتل العرب وإفراغ فلسطين، ماذا سيكون موقف الغرب كله لو قام العرب والمسلمون مطالبين بحذف هذه المناهج؟.
تنطلق أفكار "فوكوياما" وأمثاله من رؤية استعمارية خطيرة تعتبر الغرب " أعلى نموذج" وصلته الإنسانية، والآخرين " أدناها "، وهي رؤية ناتجة عن عقدة "التفوق الغربي" و"التمركز الحضاري"حول الذات، لكنها تؤشر إلى صراع حضاري كبير يدفع ثمنه الغرب نفسه، يقال: " إن الامبراطوريات عندما تتسع ولا تجد أمامها ما تتوسع إليه تلتف حول نفسها لتأكل أطرافها"، وقال ابن خلدون قبل أكثر من عشرة قرون" إن الحضارة عندما تصل درجة أكبر من المدنية والرفاه تنقلب إلى التوحش والإغارة، فيكون في ذلك نهايتها، فهل يكون "فوكوياما" وغيره أداة هدم الحضارة الأمريكية بدفعها إلى هذا الحد غير المقبول من التوحش والسطوعلىالشعوب الأخرى؟.
خراب الحداثة الغربية
تعني عبارة "العالم الحديث" في مقال "فرانسيس فوكوياما" عالم الغرب الحديث منذ بروزه على المسرح العالمي في القرن الخامس عشر الميلادي. هذا هو التاريخ "الرسمي" لنشأة الحداثة الغربية في عرف المؤرخين والمثقفين الغربيين وغير الغربيين، و" فوكوياما" مقتنع بأن انخراط العالم غير الغربي وغير المسيحي في العصر يمر بالضرورة عبر اعتناق الحداثة وقيمها وقناعاتها. وهو يدافع عن فكرة مفادها أن استمرار الحداثة رهين بمحاربة "الإرهاب"، وبعبارة أخرى: يجب أن تبقى الحداثة ليبقى الغرب، أو أن يبقى الغرب لتبقى الحداثة. ومن أجل ذلك ينبغي أن تستمر سياسة الإبادة الغربية تجاه الشعوب الأخرى وثقافاتها. لكن لننظر أولا إلى جذور الحداثة الغربية في القرن الخامس عشر لنعرف جيدا الثمن الذي يجب دفعه من طرف شعوب العالم كي تستمر? .(24/345)
عندما هبط كولومبوس على شواطئ أمريكا سنة 1492 ? لنتذكر أن هذا هو تاريخ خروج المسلمين من الأندلس ? كان يوجد حوالي أربعمائة مليون نسمة على وجه الأرض، عشرون منهم يعيشون في الأمريكتين (خمسة وعشرون مليون في المكسيك وجميعهم من الهنود الحمر)، وبعد ومائة وخمسين سنة لم يبق من هؤلاء سوى عشرة ملايين ?مليون فقط في المكسيك?، لقد قضى القتل الجماعي على أزيد من 90 إلى 100 ألف في جامايكا ?، في إبادة جماعية ضخمة من طرف الأوروبيين الغزاة حاملي "الحداثة" إلى الشعوب الأصلية "البدائية"، حتى إن الناس كانوا ينتحرون لكي لا تصل إليهم أيدي الأوروبيين، وكانت الأمهات يقتلن أطفالهن قبل أن يقتلهم الغزاة البيض. وفي إفريقيا قضى الأوروبيون على نحو ستين مليون نسمة من ثمانين مليون نسمة هم عدد سكان افريقيا في ذلك الوقت، وتحول الباقون إلى عبيد في خدمة الأوروبيين المتحضرين. لكن الأوروبيين (الذين سيصبح جزء منهم أمريكيين فيما بعد) لم يقضوا على البشر والحجر فقط، بل دكوا الحضارات والثقافات. في القرن الخامس عشر كان هناك حوالي أربعة آلاف ثقافة مختلفة، ألف منها موجودة في الأمريكتين قبل غزو البيض، وبعد مرور خمسة قرون لم تعد هناك سوى خمسمائة ثقافة إنسانية منها مائة فقط في الأمريكتين، وهذا يعني القضاء على 88 في المائة تقريبًا من التنوع الثقافي في العالم. المبرر الذي يسوقه الأوروبيون دائما هو أن هؤلاء كانوا من الشعوب المتوحشة التي تعيش على القتل والغصب وسفك الدماء، وأن ثقافاتهم غير صالحة لإنتاج حضارات ؟!
لنقارن هذه الأرقام المرعبة بالرقم الصغير جدًا الذي يدعيه اليهود حينما يروجون أطروحة (الهولوكوست) والإبادة الجماعية، والذي يصل بالكاد إلى رقم خمسة ملايين، ومع ذلك يتحرك الغرب كله، ضد هذه الإبادة "اللاإنسانية"، كأن الإبادات الأخرى إنسانية. هذه هي الحداثة الغربية اليهودية المسيحية!!. كلمة "متوحشة" اختفت اليوم لتحل محلها كلمة "إرهابيون"، وتحت هذه الكلمة الأخيرة تمت إبادة ملايين البشر من أمريكا اللاتينية إلى أمريكا الوسطى وآسيا والعراق وأفغانستان ؟!
وفي حقيقة الأمر، فقد آمن الغرب بصراع الحضارات، ومارسها منذ مئات السنين، حتى لا نعتقد بأن صراع الحضارات لم يبدأ سوى مع "صامويل هانغتغتون"، فهذا الأخير لم يبتكر شيئا، ولكن ابتكر "المقولة" فقط، إن إبادة ملايين السكان في القرون الأخيرة كان الهدف منه اجتثات الحضارات غير الغربية، وقتل الملونين، حتى تبقى الطريق سالكة أمام الغرب شعبًا وثقافة وحضارة دون غيره?
العلمانية والديمقراطية والمسيحية
يقول "فوكوياما" في مقاله:" إن الديمقراطية الحديثة نسخة علمانية للمبدأ المسيحي في المساواة الإنسانية عالميًا، إلا أن المؤسسات الغربية كالأساليب العلمية، التي وإن كانت قد اكتشفت في أوروبا فإن لها تطبيقات عالمية" هذه الكلمات الخطيرة تعري حقيقة نظرة الغرب إلى العالم وإلى نفسه. إن أطروحة المركزية الغربية أو التمركز الغربي حول الذات واضحة في هذه الفقرة، ومن الخطر تصديق هذه المقولات التي تسعى إلى تنميط العالم وقولبته وفق قالب الغرب المسيحي- واليهودي (والاثنان مترابطان في اللاوعي الغربي حول الحضارة الغربية والحداثة).
إن أطروحة المركزية الغربية غارقة في العنصرية، لأنها تركز على أن الغرب هو السيد الوصي الذي بإمكانه إصدار الوصفات الطبية للعلاج، ولقد ترسخت هذه الأطروحة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع فلاسفة الغرب والمستشرقين والمؤرخين الغربيين، وراج في فترة معينة أن شعوب المناطق الساخنة المسلمون في الجزيرة العربية لا يستطيعون إنشاء حضارة بسبب المعطيات المناخية والصحراء، كما هو الحال مع شعوب المناطق الباردة في أوروبا?، دون أن يتساءل هؤلاء كيف انبعث الإسلام من هناك وبنى الحضارة.وتغيرت هذه المقولة الطبيعية لتترك مكانها للمقولة العرقية، فجاء الفيلسوف الألماني "هيجل" وقال بأن خط التطور الكوني يسير نحو الكمال في النموذج البروسي الألماني?، ومهد بذلك لأطروحة التفوق "الآري" والنازية، ثم جاء "كارل ماركس"، ودافع عن الاستعمار في الهند الصينية والجزائر لأنه سيخرج هذه الشعوب في اعتقاده من البدائية والتوحش إلى الرأسمالية المتطورة التي هي الحلقة الأخيرة ما قبل الشيوعية، وجاء آخرون ووضعوا العالم الإسلامي والعالم الثالث عمومًا خارج الغرب الرأسمالي تحت "نمط الإنتاج الآسيوي" أو الشرقي المتخلف، والذي يقابل "نمط الإنتاج الرأسمالي" أو الغربي. ولم تتوقف هذه الأطروحات المركزية في الغرب، وظلت تغذي الثقافة الغربية وتحاول إجراء "غسيل مخ" لمثقفي الشعوب غير الغربية، ونجحت في ذلك إلى أبعد الحدود للأسف?!(24/346)
أما أطروحة "فوكوياما" الحالية حول الترابط العضوي بين الديمقراطية والرأسمالية والمسيحية، من جهة، وبين المسيحية والعلمانية من جهة ثانية، فهي ليست جديدة. ففي بداية القرن العشرين نشر "ماكس فيبر" كتابه المعروف"الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"، ومفاد أطروحة "فيبر" أن البلدان الأكثر تقدما منذ القرن الثامن عشر هي البلدان التي اعتنقت المسيحية البروتستانتية، وبخاصة الفرقة الكالفينية ضمن الديانة البروتستانتية، وسبب ذلك عنده ميل هذه الديانة نحو العقلانية في السياسة والاقتصاد، وذهب "فيبر" أبعد من ذلك ليقول بأن نشأة الرأسمالية لم تكن بسبب الثروات الضخمة التي حصلت عليها أوروبا عبر نهب الشعوب الفقيرة، بل بسبب الأخلاق البروتستانتية التي تقدس العمل والكسب والاجتهاد، والسؤال هو: هل من الضروري أن تؤدي قيم العمل والكسب والاجتهاد إلى الرأسمالية المتوحشة؟
وحين يشير " فوكوياما" إلى الارتباط بين المسيحية والديمقراطية والرأسمالية ينسى لماذا فشلت المسيحية في عشرين قرنًا مضت في إبداع الديمقراطية والرأسمالية?، ولماذا تأخر ذلك إلى القرن الثامن عشر؟
ثم إن الفكر الغربي الحديث يؤسس لمرجعية الديمقراطية في أثينا اليونانية، والكلمة ذاتها لها جذور في اللغة الإغريقية وتعني "حكم الشعب نفسه بنفسه"، فلماذا نشأت الديمقراطية في أثينا الوثنية، وهي غير مسيحية؟!
يتبين إذن أن أفكار "فوكوياما" هذه مهزوزة منذ البداية، وهي أقرب إلى الكليشيهات الجاهزة للتسويق أكثر من كونها أطروحات متماسكة لها ما يسندها، لكن "فوكوياما" يبني على هذه المغالطات مغالطة أخرى، وهي أن المؤسسات والمبادئ الغربية مثلها مثل الأساليب العلمية صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذه أطروحة واضح عوارها ولا تستحق الرد، لأنها ترد على نفسها؟!
ديمقراطية خارج الدين، أو ديمقراطية اللادين
إن الفكرة الرئيسية التي تدور حولها أطروحة "فوكوياما" هذه هي أن الديمقراطية الغربية ذات قيم كونية تستعصي على الخصوصيات، لأنها تتجاوزها، ومرجع هذه الأطروحة يوجد في فلسفة التمركز الغربي حول الذات التي تقول بأن ما هو صالح للغرب صالح لغير الغرب. إن الديمقراطية ليست شرا كلها، ولم يقل المسلمون بذلك، سوى فئات معزولة عزلها جمودها عن التطور ومسايرة السنن، لكن حتى هؤلاء كان لمواقفهم تلك ما يبررها، فقد نشر الغرب حول مفهوم الديمقراطية ظلالا من الايديولوجية والعلمانية بحيث إن الكلمة لم تعد تعني الآليات السياسية والمسطرية لتنظيم الحياة السياسية، بل صارت محشوة بقيم ومضامين جعلت الكثيرين يعتقدون أن الديمقراطية تؤدي أوتوماتيكيا إلى السقوط في الغربنة وتحولت ٌإلى "دين"، ودليل ذلك أن الغرب لم يقبل بأي تطبيق للديمقراطية في آسيا وإفريقيا والعالم الثالث عمومًا خارج ما هو مطبق لديه، وهو ما يعني أن الغرب يرفض باستمرار أن يكون الدين جزءاً من الحياة الديمقراطية، أو الناظم للممارسات الديمقراطية في هذه البلدان، فالغرب ينظر إلى الديمقراطية على اعتبار أنها لا تتم إلا في مجتمع حقق درجة نوعية من العلمانية، وطرد الدين من السياسة.
غير أن هذا الكلام هو مجرد كلام نظري فقط، لأن الواقع هو أن الغرب يرفض الديمقراطية في العالم الثالث، سواء عبر أو من دون علمانية، فهو لا يرفض أن تتدين هذه الشعوب أو أن لا تتدين، ولكن يرفض أن تأخذ بزمام الحياة السياسية السليمة وأن يكون لها حضور فاعل في الحضارة المعاصرة، لأن ذلك يمس بمصالحه، ويفتح أعين هذه الشعوب على حقيقة النهب الغربي المستمر لها، وهذا ما يدعو إليه الرئيس الأمريكي الأسبق "ريتشارد نيكسون" في كتابه "الفرصة السانحة" الذي صدر في أوائل التسعينيات علانية، فهو يقول إن الديمقراطية في العالم الإسلامي إذا تم ترك الحبل على الغارب ستكون لمصلحة المتطرفين?، وينادي صراحة بالحفاظ على الوضع القائم في العالم الإسلامي، أي وضع عدم الاستقرار السياسي، ويجب التذكير بأن نيكسون كان ينظر إلى سقوط الاتحاد السوفياتي كفرصة سانحة للولايات المتحدة لبسط سيطرتها على العالم الإسلامي.إن وجود العدوالصهيوني في قلب العالم الإسلامي وحده كفيل بدفع الغرب إلى منع الديمقراطية فيه، فمن يضمن ألاّ يصل إلى السلطة أعداء إسرائيل؟ ومن يضمن ألاّ يصل إلى السلطة أعداء الغرب ليتحكموا في منابع النفط؟ إن هذه هي الأسباب الحقيقية لامتناع الديمقراطية في العالم الإسلامي، وليس تلك الآراء السخيفة التي ترد هذه الموانع إلى الدين أو الثقافة أو التقاليد، فهذه الآراء مجرد تبرير لتظل الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي ذلك المستحيل غيرالممكن، وغيرالممكن المستحيل ، لسبب بسيط هو أن الغرب يعرف جيدا أن اقتلاع الإسلام مستحيل، وهكذا يرتبط مستحيل بآخر، لا يذهب الإسلام ، ولا تأتي الديموقراطية، وتبقى الخصومات بين المسلمين لتشل قوتهم وتفتح للغرب المنافذ وتعطل السير: هذا"علماني"، وهذا "طالباني".(24/347)
إن العدو الأول والأخير للديمقراطية في العالم الثالث هو الغرب نفسه، إن تاريخ إفريقيا وأمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية وآسيا والعالم الإسلامي مليء بالأدلة التي تثبت تورط الغرب في قتل أي بروز للديمقراطية في هذه البلدا، ويورد " ناعوم تشومسكي" في كتابه "ردع الديمقراطية" عشرات الأدلة التي تبين أن أيادي واشنطن ملطخة بالدماء لمنع الشعوب من حق تقرير مصيرها، حتى وإنه يكتب ساخرا بأن الذي خرج فائزًا في انتخابات نيكاراغو في 1987 هما "جورج بوش" و "رونالد ريغان"؟!، لأن الأول كان مدير الاستخبارات الأمريكية، وكان الثاني رئيسًا في البيت الأبيض، ويضيف تشومسكي بأن الناخبين ذهبوا إلى صناديق ااقتراع "وفوهات المسدسات موجهة إلى رؤوسهم" وإجهاض الديمقراطية في الجزائر وتركيا شاهدان على ذلك أيضا.
============(24/348)
(24/349)
صورة الإسلام في الغرب
د. عبدالقادر طاش(*) 26/11/1423
09/02/2002
أثارت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م التي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية وما نتج عنها من تداعيات خطيرة مسألة الصورة المشوهة للإسلام في المجتمع الغربي على نحو صارخ وغير مسبوق في تاريخ العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب.
وعززت الحملات المنكرة على الإسلام في بعض وسائل الإعلام الغربية من الشكوك المستترة في نفوس قطاع عريض من العرب والمسلمين بأن الحرب التي تتزعمها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الغرب ضد ما يسمى الإرهاب" إنما تستهدف النيل من الإسلام عقيدة وحضارة و تسعى إلى إعادة ترتيب خريطة النظام الدولي الجديد وتحجيم موقع الدول الإسلامية فيها.
ولذلك يحسن بنا أن ننظر إلى مسألة الصورة المشوهة للإسلام في الإعلام الغربي بجدية تامة وأن لا نعدها قضية هامشية لا قيمة لها، وقد نبه كثير من الباحثين والمختصين من الطرف الإسلامي ومن الطرف الغربي على حد سواء إلى خطورة هذه المسألة وتأثيراتها السلبية على العقل الغربي والسلوك الغربي منذ سنوات عديدة.
ويشير الباحث الإعلامي الأستاذ/مصطفى المصمودي - الذي تولى وزارة الإعلام في تونس لعدة سنوات - إلى دراسة أصدرتها لجنة من الخبراء والإعلاميين العرب في سنة 1980م حول مظاهر التشويه في الصورة العربية بأوروبا وأمريكا، وخلصت تلك الدراسة التي أعدت تنفيذاً لتوصية من وزراء الإعلام لدول الخليج العربية إلى القول :"إن تلك الصورة تعاني في أذهان الشعوب الغربية من تشويه شديد، وإن علاقات الأمة العربية مع هذه الشعوب تعاني من ضبابية محزنة تحول دون إقامة علاقات من التفاهم والصداقة بين المجموعتين، وإن الأجهزة الإعلامية العربية، بصورة عامة، لم تكن حاضرة على الساحة الدولية بالمستوى المطلوب لتصحيح الأوضاع".
وسجلت تلك الدراسة في خاتمتها أن لدى السفراء العرب والأصدقاء الغربيين شعورا بالأسى لعجز المال والذكاء العربيين عن اقتحام حواجز الكراهية والتعريف بالجوانب الحضارية والثقافية للأمة العربية لدى شعوب الغرب، وان التحركات على الساحة الدولية لم تكن فعالة بالقدر الكافي.
واستنتجت الدراسة أن هناك حاجة ماسة إلى القيام بعمل سريع لسد الثغرة القائمة بين العرب وشعوب أوربا وأمريكا لأن من شأن هذه الثغرة إذا ما استمرت أن تؤدي إلى أخطار جسيمة لا تهدد العلاقات بين هذه الشعوب فحسب ولكنها قد تهدد استقلال البلاد العربية وأمنها ومقومات وجودها.
والآن، وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على ذلك الاستنتاج الخطير الذي توصلت إليه دراسة الخبراء العرب. حق لنا أن نتساءل بكل حرقة وألم : ألسنا نجني اليوم الثمار المرة للإهمال العربي والإسلامي لتصحيح صورتنا في الغرب وتقاعسنا الكبير وتقصيرنا الفادح في استغلال العديد من الفرص التي أتيحت لنا للسعي الجاد نحو تجسير الفجوة الاتصالية بيننا وبين شعوب الغرب ؟ إن من المؤكد أن الغرب نفسه يتحمل قسطا وافرا من مسؤولية صنع تلك الصورة الكريهة عن الإسلام والمسلمين في مجتمعاته، ومن المؤكد أيضا أن وسائل الإعلام الغربية أسهمت إسهاماً كبيراً في إعادة إنتاج تلك الصورة والعمل على الترويج لها وترسيخها بشتى الطرق في العقل الجمعي للشعوب الغربية.
إن صنع الصور النمطية المسيئة للإسلام والعرب وترسيخها في العقل الغربي ظاهرة قديمة متجددة، ويمكننا القول - دون مبالغة أو تجن : إن الإسلام كان - ولا يزال - أكثر الأديان تعرضا للإساءة في الغرب، كما أن العرب المسلمين هم أكثر شعوب الأرض حظا من التشويه والتجريح في المجتمعات الغربية كما أشار إلى ذلك الرئيس الأمريكي السابق نيكسون فهذه الصورة في الوجدان الأمريكي أشد سوءاً وقبحاً من صورة العينيين في أذهان الأمريكيين!!
ويدلنا الرصد التاريخي لتطور تلك الظاهرة على أن ساسة الغرب وقادة الرأي فيه كانوا ينظرون دائما إلى الإسلام باعتباره يمثل تهديدا لهم، فاللاهوتيون في العصور الوسطى كانوا قلقين مما أسموه ب"تأثير القيم الإسلامية على القيم المسيحية تأثيرا تدميريا" ولذلك رأى هؤلاء فيما بعد أن حماية المسيحية من الإسلام لا تكون إلا بضربه عسكريا والاستيلاء على أرضه وٌإقناع معتنقيه باتخاذ المسيحية ديناً !!
وكان هدف الحملات العسكرية الصليبية في المرحلة التالية مواجهة ما أسموه "التهديد الإسلامي " قبل أن يغزو ديار الغرب. ولذلك عمل الصليبيون على تسميم العقل الغربي ضد العالم الإسلامي عن طريق تفسير التعاليم والمثل العليا الإسلامية تفسيرا خاطئا ومتعمدا.
ولم يختلف موقف الغربيين في حقبة الاستعمار من الإسلام عن موقفهم منه في الحقبتين اللتين سبقتهما، لقد كانت حركة الاستشراق - في مجملها - أداة من أدوات مواجهة التهديد الإسلامي المزعوم. فقد كان المطلوب من هذه الحركة أن تستكشف معالم العقلية الإسلامية وفهمها فهما جيداً لتسهيل الإدارة الاستعمارية للشعوب الإسلامية.(24/350)
وتتسق نظرة الغربيين المعاصرين للإسلام مع تلك المنظومة من الرؤى المعادية التي ورثها العقل الغربي من التراكمات التاريخية التي حفل بها تاريخه الكنسي الصليبي والاستشراقي الاستعماري. فالإسلام يمثل تهديداً للغرب كما هو واضح من نظرية (زبجنيو برجنسكي) عن "هلال الأزمات " مروراً بنظرية (برنارد لويس) عن " عودة الإسلام" وانتهاء بنظرية (صامويل هانتجنتون) عن "صدام الحضارات". فنهضة الإسلام - بالنسبة إلى هؤلاء جميعا - تعني : نهاية الحضارة الغربية لا باعتبار الإسلام مجرد منافس إيديولوجي فحسب، بل لأنه أيضا بمثابة تحد حضاري بالغ الخطر ولأنه البديل الإنساني للحضارة الغربية التي لاتقيم وزناً للقيم الإنسانية الرفيعة التى يعلي من شأنها الإسلام فتحقق له السعادة ويشعر في ظلالها بالأمان والأطمئنان.
ونحن اليوم لسنا إزاء حالة عداء غربي محدود النطاق والتأثير، عن الواقع المعاصر يشهد ما أسماه الباحث البريطاني (فريد هاليداي) ظاهرة " معاداة الإسلامية "، إذ يرى أن هذا الاتجاه المعادي للإسلام والمسلمين أخذ يتسع في العالم - وليس في الغرب وحده - مع أواخر الثمانينيات كنتيجة لعدد من العوامل منها : انتهاء الحرب الباردة، وذيوع فكرة حلول الإسلام عدوا للغرب عوضا عن الشيوعية، وصعود التيار اليميني المتطرف في أوربا وأمريكا.
إن من الواضح أن صناعة الصورة الكريهة للإسلام والمسلمين والترويج لها عبر وسائل الإعلام تعد سلاحا من الأسلحة الفعالة التي يستخدمها ساسة الغرب وقادة الرأي فيه لتكريس ظاهرة "معاداة الإسلامية " ليحققوا من خلال ذلك أهدافهم العسكرية والسياسية والاقتصادية ويحكموا سيطرتهم وهيمنتهم على العالم تحت دعاوى الانفتاح والعولمة.
وهنا يثور السؤال الملح : إذا كان الأمر كذلك، لماذا - إذا - نهتم بصورتنا لدى الغرب، وما الذي يدعونا إلى البحث في مكونات تلك الصورة وتفكيكها، وما الذي سنجنيه من وراء محاولاتنا لتغييرها أو تصحيحها ما دمنا نعرف النتيجة سلفا؟.
ومع اعترافنا بأن تغيير صورتنا في الغرب مهمة بالغة الصعوبة بسبب ذلك التراث الغربي المتراكم عبر القرون من العداء الديني والسياسي لنا إلا أننا لا نستطيع التسليم بعدم جدوى المحاولة فنحن - أولاً - أمة ذات رسالة عالمية لا يمكن لنا تبليغها للناس كافة طالما بقيت تلك الصورة المشوهة عن ديننا وثقافتنا تصدهم عن الإسلام. ونحن - ثانياً - ليس بمقدورنا أن نعيش بمعزل عن العالم فقد تداخلت المصالح بين أممه وزالت الحدود بين أجزائه.
وينطبق هذا الأمر على علاقة المسلمين بالغرب أكثر مما ينطبق على علاقتهم بأي أمة أخرى، فالإسلام موجود في الغرب، كما أن الغرب موجود في الإسلام، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي (جيل كيبل) فالتدفق الإعلامي والمعلوماتي الغربي يغزونا في بيوتنا ويشكل كثيراً من تصوراتنا. كما أن الإسلام حاضر في المجتمعات الغربية وينتشر فيها بسرعة مذهلة حتى أصبح جزءاً معتبراً من نسيجه الفكري وتكوينه الديمغرافي وحراكه السياسي، لذلك لا يمكن لنا أبدا تجاهل هذه العلاقة المتداخلة بين الغرب والإسلام، ولا يمكن لأحد التهوين من الأثر الذي تحدثه الصورة المشوهة للإسلام في العلاقة بينهما سلبا وإيجاباً.
إذا، ماذا علينا أن نفعل ؟ وهل نملك الآن فرصة حقيقية لاستدراك تقصيرنا السابق وتحقيق المكاسب ؟ وما هي ميادين العمل التي لابد من التركيز عليها ؟ وما الإمكانات التي نحتاج إليها لكي تثمر جهودنا لتصحيح صورتنا في المجتمعات الغربية ؟ ومن المسؤول عن أداء هذه المهمة ؟ وهل سنتنج فعلا ؟
إن نجاح جهودنا في السعي نحو تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في المجتمعات الغربية مرهون بعاملين اثنين، أولهما : وجود الاقتناع التام من المسلمين بضرورة العمل الجاد من أجل تغيير تلك الصورة، ومن المؤكد أن هذا الاقتناع موجود قبل الأحداث الأخيرة ولكنها تعززت أكثر بعد الأحداث، ولذلك تنادى الكثيرون على مختلف المستويات الرسمية والفكرية والشعبية على بذل الجهود في هذا الميدان، وبدأت بعض المؤسسات الإسلامية الناشطة في المجتمعات الغربية، وبخاصة في الولايات المتحدة، تنظيم برامج ونشاطات تستهدف الرد على الحملات المعادية للإسلام وتوضيح الصورة الصحيحة عنه.
ونشير هنا، على سبيل المثال، إلى ما يقوم به مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (Cai r ) من دور ملحوظ في مواجهة محاولات تشويه صورة الإسلام والمسلمين من قبل الوسائل الإعلامية والدوائر السياسية في أمريكا، وفي توعية الرأي العام الأمريكي بقضايا الإسلام والمسلمين وتحسين صورته، وينشط المجلس الآن في صنع الأخبار اليومية للمسلمين وتوزيعها على وسائل الإعلام الأمريكية والغربية عن طريق شبكة (Islam-info.net) وهي من أكبر شبكات الاتصال المسلمة في الغرب، كما يساهم المجلس في الرد على ما كتب ضد الإسلام والمسلمين في الصحف الغربية، وبخاصة الأمريكية.(24/351)
وبالإضافة إلى ذلك ينظم المجلس حملات تعريفية بالإسلام والمسلمين وقضاياهم لفئات مخصصة كالصحفيين والمعلمين ورجال الأمن، كما يقوم بإعداد بحوث ودراسات ميدانية وتوجيه رسائل للشعب الأمريكي على هيئة كتب ونشرات. ولا يهمل المجلس الاتصال المباشر بصناع القرار السياسي: مثل أعضاء الكونجرس ، ومسؤولي الإدارة الأمريكية والقادة المحليين في الولايات ؛ لإيصال أصوات المسلمين إليهم وتفعيل قنوات التواصل معهم.
واستأثر موضوع الرد على حملات الإساءة للإسلام وتشويه صورة المسلمين باهتمام الاجتماع الوزاري الثالث لوزراء الثقافة في الدول الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي عقد مؤخراً في الدوحة ، واتخذ الاجتماع عدداً من التوصيات في هذا الصدد. كما صادق على مشروع إنشاء قناة فضائية إسلامية تبث برامجها بأربع لغات. وحدد مشروع هذه القناة عددا من الأهداف المراد تحقيقها في البث الموجه لغير المسلمين من برامجها وتتمثل في الرد على المغالطات ودحض الاتهامات والافتراءات التي توجه للإسلام والمسلمين وتصحيح الكثير من المعلومات الخاطئة التي تروج حول الإسلام والمسلمين.
أما العامل الآخر من العوامل التي يعتمد عليها نجاح جهودنا في تصحيح الصورة في وجود بيئة قابلة للتغيير في الغرب، وتدل بعض المؤشرات الجديدة على أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر فتحت أعين الكثيرين في المجتمع الأمريكي على حقيقة جهلهم وعدم معرفتهم بالإسلام فبدؤوا يتساءلون عنه إما بدافع الرغبة الحقيقية في المعرفة أو بدافع الفضول أو بدافع التعرف على العدو.
وتفيد تقارير متعددة أن هناك رواجاً كبيرا للكتب التي تتحدث عن الإسلام في السوق الأمريكية. وتقول شركات أمريكية أنها تسعى لتلبية الطلبات المتزايدة بعدما نفد ما لديها من نسخ القرآن الكريم وترجمات معانيه. ويقول مسؤول في إحدى المكتبات بمقاطعة أر وانج كانوتي بولاية كاليفورنيا أن مكتبته باعت أكثر من ثلاثة آلاف نسخة خلال ثلاثة أسابيع من كتاب "اكتشاف الإسلام" مقارنة بمائتي نسخة فقط خلال العام الماضي بأكمله.
وسجلت الجامعات الأمريكية زيادة ملموسة في عدد الطلاب الذين يسجلون لحضور دروس حول الإسلام والعالم العربي منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويقول (راستي روك) مساعد مدير مركز الدراسات حول الشرق الأوسط بجامعة شيكاغو : عن عدد الطلاب في السنة الأولى لتعليم العربية زاد مرتين أو ثلاث مرات وأن الجامعة اضطرت إلى توظيف أساتذة جدد. وفي جامعة (هارفارد) زاد عدد الطلاب الملتحقين بالدروس الخاصة بمجتمع الشرق الأوسط بنسبة تزيد عن الضعف.
وتخصص وسائل الإعلام الغربية الرئيسية مساحة معتبرة للحديث عن الإسلام والمسلمين. وقدمت شبكات تلفزيونية مرموقة مثل (السي إن إن CNN )و(البي بي سي BBC ) وبعض المحطات الأمريكية برامج تعريفية بالإسلام وحضارته اتسمت بكثير من الإيجابية والموضوعية. كما استثمرت شركة نشر وإعلام ضخمة للأطفال فرصة الإقبال الأمريكي للتعرف على الإسلام فقامت بتضمين مجلاتها الأسبوعية التي توزع على نحو خمسة وعشرون مليون طفل في كل مدارس أمريكيا بمعلومات كثيرة عن المسلمين وحثت قراءها من الأطفال على التسامح ويقول (ديفيد جودي). رئيس تحرير مجلات "سكولاستيك" :"تلقينا آلافا مؤلفة من الطلبات من مدرسين وطلبة يريدون كميات ضخمة من المواد ولبينا الطلب".
وتدل إحصاءات نشرت حديثا على أن المواطنين الأمريكيين أبدوا اهتماماً ملحوظاً بدعوة الرئيس الأمريكي (جورج بوش) للتسامح تجاه المسلمين، وأنه نتيجة لذلك فان وجهات النظر المؤيدة للمسلمين الأمريكيين في داخل أمريكا قد ارتفعت من 45 % في شهر مارس الماضي إلى 59 % بعد أحداث سبتمبر. وأوضحت الدراسة التي أجراها مركز "بيو" لدراسات اتجاهات الرأي العام تحت عنوان "اتجاهات بعد 11 سبتمبر : الدين أكثر بروزاً والمسلمون الأمريكيون أكثر قبولا "، أنه على الرغم من التحسن في صورة المسلمين الأمريكيين فإن القليل من الأمريكيين فقط هم الذين يعرفون الكثير عن العقيدة الإسلامية. وقالت الدراسة إن 38 % فقط قالوا إنهم يعرفون بعض المعلومات عن الدين الإسلامي وشعائره في حين قال 31 % إنهم يرون وجود أرضية مشتركة بين عقيدتهم وبين الدين الإسلامي.(24/352)
إن عدم المعرفة بالإسلام، بسبب نقص المعلومات عنه أو عدم الاهتمام المسبق به يعد عنصراً مساعدا على التغيير ويسهل مهمتنا كثيراً. ويعترف القس والأستاذ الجامعي الإسبانى (إميليو غاليندر) أن أول ما يتعين على الغربيين فمهه كي يفهموا الإسلام هو تأهيل أنفسهم لكي يكونوا قادرين على تحقيق مثل هذا الفهم. وقد أدلى (غاليندر) - الذي يدير مركز الدراسات الإسلامية المسيحية في مدريد - بهذا التصريح بعد أن اكتشف أن الغالبية الكبرى من قساوسة وراهبات الكنيسة الكاثوليكية يجهلون الإسلام تماما. وقد أفادت نتائج استقصاء للرأي أجراه المركز الذي يديره أن 53 % من الكنسيين رجالا ونساء لم يقرؤوا في حياتهم أي دراسة عن الإسلام كما أن نسبة الذين قرؤوا القرآن منهم لم تتجاوز الـ5% فقط. ولذلك دعا القس غاليندر رجال الكنيسة ولعاملين في وسائل الإعلام إلى قراءة القرآن الكريم ودراسته قبل إصدار آراء عن الإسلام والمسلمين مليئة بالأخطاء والتهكم والطعن.
لم يكن لنا عذر في السابق ، وليس لنا عذر الآن في إيلاء مسألة تغيير الصورة عنا في المجتمعات الغربية ما تستحقه من عناية قصوى. وهاهي الفرصة الذهبية باتت سانحة الآن، ولابد من اهتبالها قبل أن تضيع كما ضاعت فرص أخرى من قبل، وعلينا أن ننظر إلى المستقبل أكثر من عيشنا في الماضي.
إن الأحداث الأخيرة وتداعياتها وفرت بيئة ملائمة للعمل من خلال هذا الاستعداد والقابلية للتعرف على الإسلام وتفهم قضايا المسلمين لدى الشعوب الغربية وبخاصة في أمريكا. كما أن رياح الانفتاح العالمي التي نتجت عن التطور المذهل في تقنيات الاتصالات الحديثة بشتى أشكالها، بالإضافة إلى مقتضيات العولمة الإعلامية والاقتصادية والثقافية، تساعدنا على الوصول إلى الجماهير الغربية بيسر وسهولة.
إن علينا الآن أن نتحرك ونصل إلى وسائل التأثير المتعددة في المجتمعات الغربية لنتحدث إلى الناس ونصحح ما لديهم من معلومات خاطئة ومموهة عن الإسلام وقد شكا الصحفي الأمريكي (ديفيد لامب) من صحيفة "لوس انجلس تايمز" قبل سنوات من أن العرب والمسلمين يضيعون جهودهم في الحديث اليومي مع بعضهم بعضاً، وفي التذمر من دور وسائل الإعلام الأمريكية في تشويه صورتهم، عوضاً عن نقل هذا التذمر والامتعاض بشكل دقيق ومعلوماتي للإعلام الأمريكي. وهو محق فيما قاله ؛ فليس المهم ما يفعله الغرب لتشويه صورتنا، ولكن المهم هو ما سنفعله نحن لتغيير تلك الصورة، علينا أن نتحرك وفق رؤية مستقبلية واضحة المعالم تنبثق عنها خطط ونشاطات عملية منظمة.
إن تلك الرؤية المستقبلية لابد أن تراعي الأسس التالية :
أولا : أن تعتمد نظرتنا الاستراتيجية للتغيير على ما يمكن تسميته "صناعة الصورة البديلة" عوضا عن الانشغال بردود الأفعال ومحاولات الترقيع. فبدلاً من الإغراق في تفنيد المغالطات وملاحقة مروجيها علينا أن نقدم المعلومات الصحيحة وفق منظومة متكاملة ومستمرة غير منقطعة. وعلينا أن نسلك سياسة النفس الطويل ولا نرتهن للعمل الوقتي الذي قد ينجح في تسجيل هدف في مرمى الخصم ولكنه لن يحقق الفوز النهائي في المباراة!!
ثانيا : أن تتوجه جهود صناعة الصورة البديلة إلى القاعدة الشعبية العريضة في المجتمعات الغربية ولا تقتصر أو تركز على الساسة وصناع القرار. فإن الشعوب الغربية تبدي - كما رأينا - استعداداً وقابلية للتغيير. ولم يعد من الصعوبة اليوم الوصول إلى الجماهير عبر العديد من وسائل الإعلام وشبكات المعلومات وقنوات الاتصال الشخصي. كما أن العديد من المؤسسات المدنية في المجتمعات الغربية توفر لنا ساحة ملائمة لإيصال رسائلنا إلى قطاعات متنوعة من الأفراد والجماعات.
ثالثا : أن يستند النشاط الفعال لصناعة الصورة البديلة إلى مزيج من العمل الإعلامي والعمل الثقافي والعمل الدبلوماسي والاتصال الشخصي، فتغيير الصورة المشوهة وإحلال صورة بديلة مكانها لا يكفي لتحقيقه الاعتماد على نوع واحد من هذه النشاطات. بل نحتاج إلى الحركة في جميع هذه الجبهات. علينا أن نصل إلى وسائل الإعلام المؤثرة في الغرب وننشط علاقتنا مع الإعلاميين المميزين ونوثق صلتنا بالمؤسسات الإعلامية ذات النفوذ. ولاشك أن هذه العلاقات والصلات متى ما نمت ونضجت فستساهم في تثقيف أولئك الإعلاميين وتصحيح مفاهيمهم وتصوراتهم عن الإسلام وذلك عن طريق تزويدهم بالمعلومات والتعبير لهم عن الآراء حول القضايا والموضوعات التي تتعلق بالدين الإسلامي او تتناول شؤون العالم الإسلامي وهموم المسلمين.
وعلينا أن نمارس ألوانا متعددة من النشاط الثقافي عبر وسائل متنوعة مثل: توزيع الكتب والنشرات وإقامة المعارض والمهرجانات، وتقوية برامج التبادل الثقافي بين الدول الإسلامية والمؤسسات الغربية. وينبغي التركيز على المؤسسات التعليمية والجامعية بالعمل على تصحيح المناهج الدراسية وتكثيف الصلات العلمية مع مراكز البحوث والدراسات وهيئات التدريس في الجامعات الغربية.(24/353)
ولابد من استثمار وجود الهيئات الدبلوماسية الرسمية للدول العربية والإسلامية في المجتمعات الغربية للإسهام في برامج صناعة الصورة البديلة وذلك من خلال توجيه هذه الهيئات على ما يمكن تسميته "الدبلوماسية الشعبية " التي تكثف صلتها وتواصلها مع شرائح ومؤسسات المجتمع المدني بدلاً من الاكتفاء بالصلات الرسمية مع الدوائر الحكومية فحسب.
كما أن نشاط الأفراد والمؤسسات الخاصة في مجال الاتصال الشخصي له دور فعال في تكوين الصور الذهنية وتغييرها. وتوافرت اليوم لنا وسائل وقنوات لم نكن نحلم بها من قبل مثل شبكات المعلومات وأنظمة البريد الإلكتروني وغيرها بالإضافة إلى رحلات العمل التجاري والحركة السياحية التي تضاعفت مرات عديدة خلال سنوات الأخيرة.
رابعا : أن يكون العرب والمسلمون المقيمون في البلدان الغربية في مقدمة الصفوف لرسم سياسات صناعة الصورة البديلة وتنفيذ خططها في الواقع العملي. فهم أكثر دراية ومعرفة بواقع المجتمعات التي يعيشون فيها. وهم أكثر مصداقية منا في التعامل مع مواطنيهم الغربيين ، ولربما كان عملهم أكثر قبولا لدى الغربيين. ويمتلك العرب والمسلمون في الغرب اليوم عدداً من المؤسسات الفاعلة التي تحتاج إلى دعم ومساندة لتؤدي دوراً أكبر وأكثر تأثيراً وهناك طاقات وإمكانات إسلامية متناثرة في عدد من المجتمعات الغربية تحتاج إلى إن تراجع نفسها وتعيد حساباتها لتكون أفضل أداء ونشاطا مما هي عليه الآن.
إن علينا في العالم الإسلامي، حكومات ومؤسسات وأفراداً أن نشجع المجتمعات الإسلامية الموجودة في الغرب على مزيد من الاندماج الإيجابي في المجتمعات التي يعيشون فيها ليكونوا جزءا فاعلا من النسيج الفكري والاجتماعي والسياسي لتلك المجتمعات. وعلينا في العالم الإسلامي أن نساعدهم على ذلك ونبذل لهم ما نستطيعه من دعم وتأييد، وأن نسعى دوماً لحمايتهم وكف الأذى عنهم سواء أكان من الغرب أم من العالم الإسلامي. إن هؤلاء المسلمين هم طليعة التغيير في تلك المجتمعات وعليهم يقع العبء الأكبر من المسؤولية فعلينا أن نعمل على تقويتهم ؛ لأن في تلك قوة لنا. وعلينا أن نساندهم لتعزيز وجودهم لأن في ذلك عزة لنا.
خامسا : أن نصوغ لنا خطابا إسلاميا جديدا لمخاطبة الغرب يحل محل الخطاب القديم. فلم يعد مستساغاً ولا مقبولا أن نخاطب الغرب بخطاب استعدائي يوغر الصدور بدلا من أن يقربها. إن خطابنا الإسلامي الجديد عليه أن يراعي خصائص الجماهير المستهدفة وظروفهم الفكرية والاجتماعية والسياسية وان يتشبع بروح إيجابية فيقدم الإسلام للغرب بوصفه خياراً حضارياً يمكن أن يسهم في إثراء القيم الإنسانية التي يؤمن بها الغرب نفسه، وبوصفه تحدياً فكرياً جديراً بالدراسة والتأمل العقلي. وعلينا ألا نقدم الإسلام للغرب بوصفه منازعاً ومناطحاً إيديولوجيا له بل بوصفه رسالة هادية ورحمة للناس ومستودع علاج لكثير من مشكلات العالم.
إننا إذا ما قدمنا الإسلام بهذه الصورة المضيئة، وهي صورته الحقيقية التي أرادها الله تعالى له، فإننا سنكسب كثيراً حاضراً ومستقبلا، فلماذا لا نجرب ذلك ؟
(*)رئيس تحرير صحيفة البلاد السعودية
والمقال ورقة عمل مقدمة لندوة "صورة العالم الإسلامي في الإعلام الغربي بين الإنصاف والإجحاف"التي نظمتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو)في الرباط (9-10 يناير 2002 م)
============(24/354)
(24/355)
بعد الحادي عشر من سبتمبر:هل دخل العالم عهد الاستعمار الجديد؟
إدريس الكنبوري 8/11/1423
22/01/2002
برزت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية والحرب الهمجية ضد أفغانستان معالم مرحلة جديدة دخلها العالم ، تتميز في الكثير من عناصرها ومكوناتها عن المراحل السابقة، وهي مرحلة يمكن نعتها بمرحلة "ما بعد الاستعمار" أو "الاستعمار الجديد"، الأكثر تطورا من الاستعمار التقليدي القديم الذي عانت منه الشعوب العربية والإسلامية ودول العالم الثالث المستضعفة، ويمكن نعت المرحلة المتطورة من الاستعمار بأنها "العصر الأمريكي" أو "عصر الصهيونية" كما وصفه محمد حسنين هيكل، عصر يبرز فيه التحالف الأمريكي- الصهيوني والتحالف المسيحي- اليهودي والتقارب الأوروبي- الأمريكي، والروسي- الغربي، بشكل أقوى من السنوات الماضية، وبشكل يتجاوز الجغرافيات السياسية التي اعتادها العالم حتى اليوم، لصالح الاستراتيجية الجديدة التي تحاول الولايات المتحدة كزعيمة للعالم وضعها.
لقد حدد الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر التصور الأمريكي للمرحلة الجديدة، من خلال حديثه عن قيم غربية عرضة للخطر، وعن الإرهاب الذي يستهدف العالم الحر كما قال، وعن قيم الليبرالية الاقتصادية والديمقراطية والحرية بالمفاهيم الغربية التي ينبغي على التحالف الدولي العريض الدفاع عنها، وذهب بعيدا للحديث عن "حرب صليبية" ، رغم كونه تراجع عنها في اللحظة الأخيرة، وقسم العالم إلى قسمين بالطريقة المانوية: القسم الخير الذي يقف في صف أمريكا، والقسم الشرير الذي يقف في الصف الآخر الذي وضعه تحت كلمة واحدة هي صف الإرهاب، كما تحدث عن "الشر" الذي ينبغي اجتثاته حتى ينتصر الخير !!
ويذكرنا هذا الخطاب الأمريكي الجديد الذي نشأ عقب الحادي عشر من سبتمبر بالخطاب الاستعماري التقليدي السابق للقوى الغربية العظمى، مثل الدفاع عن حقوق الأقليات وتمدُّن الشعوب المتخلفة وإدخال الحضارة إلى أدغال إفريقيا البائسة، وإخراجها من القرون الوسطى والبدائية إلى الحضارة والتمدن، ونعرف المصير الذي دخلته هذه الشعوب بعد المد الاستعماري في ذلك الوقت، والنتائج الوخيمة التي لا تزال تجرها خلفها بسبب الإرث الاستعماري المظلم الذي كبل حركة سيرها، أما الفارق بين العهد الاستعماري القديم والعهد الجديد فهو في غياب تنافس القوى الكبرى على بقية العالم، واعتراف أوروبي وروسي بالهيمنة الأمريكية كل من زاوية مصالحه السياسية والاستراتيجية الخاصة، وحضور نوع من الترابط المتقدم بسبب العولمة السياسية قبل الاقتصادية، وجنوح هذه العولمة نحو عولمة عسكرية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وتحول مفهوم القانون الدولي إلى "قانون أمريكي"، واختفاء دور الأمم المتحدة بشكل أكبر، وبعد هذا كله ومعه، ظهور منظومات فكرية عنصرية جديدة تحاول إقناع الغرب بوجود "صدام بين الحضارات" و"نهاية التاريخ" التي تتضمن في طياتها القول بنهاية تاريخ الشعوب غير الغربية، وانتصار النموذج التاريخي الغربي والرأسمالية الليبرالية المتوحشة.
أمريكا و"الفرصة السانحة"
قبل سنوات كتب الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) كتابه "الفرصة السانحة"، ليبشر الولايات المتحدة بزعامة العالم بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي والشيوعية, وقد كان نصيب العالم العربي والإسلامي الأوفر حظاً في هذا الكتاب، لحاجة واشنطن إلى اختراقه بشكل أكبر بعد زوال القطبية الثنائية الدولية التي كانت تقضي بالمحافظة على بعض التوازنات. حدد (نيكسون) في مؤلفه ما يشبه برنامجا شاملا لكيفية التعامل الأمريكي مستقبلا مع المنطقة العربية والإسلامية، ووضع "الإرهاب" الإسلامي على رأس قائمة الأولويات التي على واشنطن التعاطي معها.
ولاشك أن (نيكسون) لم يكن يعبر عن أفكار شخصية، بقدر ما كان يعكس آراء تيار عريض من صناع القرار الأمريكي، ونجد أن جزءاً كبيرا من أفكار كتابه تم تطويره في نظريات "نهاية التاريخ لفوكوياما", و"صراع الحضارات لهنتنغتون" فيما بعد.(24/356)
إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعتبر من هذه الناحية "الفرصة السانحة" للولايات المتحدة الأمريكية من أجل "استكمال" ما بدأته في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، و"إتمام" صرح النظام الدولي الجديد و"عولمة" النموذج الأمريكي. فزوال الاتحاد السوفياتي لم يكن كافيا ليطلق حرية واشنطن في تسيير شؤون العالم بالكيفية التي ترغب فيها، لأن زواله كشف عن طموح روسي للتوسع والهيمنة على شؤون المنطقة في آسيا الوسطى ومغالبة النفوذ الأمريكي، ومالت أوروبا الشرقية سابقا نحو أوروبا الأم الرأسمالية لتبرز هذه الأخيرة قطبا جديدا يبحث عن موقع في ساحة التنافس الدولي مع الولايات المتحدة الأمريكية، أما اليابان، فلا تبرز كخطر جدي بالنسبة لواشنطن أكثر من أنها منافس اقتصادي ضخم، لا يطرح تحديا عسكريا معقولا. ويبقى التنين الصيني، إد تحاول واشنطن التغلب على تململه بإدراجه ضمن مسار العولمة الغربية، وتشجيع نهج الإصلاح الليبرالي الاقتصادي والسياسي فيه، وفتح الطريق أمامه لدخول حيز منظمة "التجارة العالمية"، بهذه الطريقة تكون الصين تحت المراقبة، ولكن إلى حين.
لقد رأينا السرعة الكبيرة التي حدث بها التحول الأوروبي والروسي إلى جانب الرغبة الأمريكية في تشكيل تحالف دولي تحت مظلة واشنطن، حين التحقت أوروبا سريعا بأمريكا وقدم "حلف الناتو" جميع المساعدات المطلوبة، وتخلت روسيا عن مواقفها العدائية السابقة تجاه واشنطن لتنضم إلى التحالف راغبة في الحصول على تأييد أمريكي وغربي لسياستها في الشيشان وداغستان، وجميع النقاط الساخنة في القوقاز وآسيا الوسطى، وأصبح أمام واشنطن مجال واسع للتحرك دون رادع من قوة أو قطب دولي. وجاء التحول الأكبر مع القرار الذي تبناه مجلس الأمن الدولي بشأن مكافحة الإرهاب، والذي غلب الرؤية الأمريكية للإرهاب، ومنح صلاحيات واسعة للدول الخمس الدائمة العضوية ، والمالكة لحق "الفيتو" في مجلس الأمن لتطبيق ما تراه مناسبا من أجل القضاء على الإرهاب كما تفهمه وتحدد معاييره.
حقبة جديدة
هكذا بات العالم أمام تحول جديد يعطي للولايات المتحدة المبادرة الأولى والأخيرة في القضاء على "الإرهاب"، ويضع في يدها المبرر القانوني الدولي والشرعية الدولية والوسائل العسكرية الغربية للسير في نهجها الاستعماري الجديد، ويعلن (بوش) والمسؤولون الأمريكيون في البيت الأبيض والبنتاغون أن الحرب ضد الإرهاب لن تتوقف بعد أفغانستان، وأن هناك محطات أخرى ستلي هذا البلد، مما يعني أن المغامرة العسكرية الأمريكية لن تتوقف، وأن الجيش الأمريكي سيجوب العالم لضرب كل ما تراه أمريكا مرادفا للإرهاب، سواء بالضرب المباشر أو بتحريك جماعات من المرتزقة لنفس الغايات والأهداف. إن الأهداف المعلنة هي مكافحة الإرهاب، ولكن الهدف غير المعلن هو استئصال كل من يقف في طريق الهيمنة الأمريكية وزعامتها المطلقة على العالم، وما يضر بمصالحها ويشكل خطرا عليها حاضرا أو مستقبلا، أي أن الهدف الأخير هو "إرغام الآخرين" على دخول "بيت الطاعة الأمريكي" بتعبير المفكر واللساني الأمريكي (ناعوم تشومسكي)، فالذين يعادون القيم الأمريكية، ويستهدفون مصالحها، وحتى أولئك الذين يريدون البحث عن استقرارهم الداخلي الوطني والحفاظ على المصالح العامة لمواطنيها، ولكن يمس ذلك بالمصالح الأمريكية بطريق غير مباشر، هؤلاء ستجري ملاحقتهم عسكريا وفرض الحلول الأمريكية عليهم من الأعلى، حتى لو كانت تلك الحلول ستجر الخراب والفوضى على بلدانهم!!
وهذا هو التصور الجديد للاستعمار الجديد أو حقبة ما بعد الاستعمار. لقد كان الاستعمار القديم يروج شعار "الحضارة" في مقابل "التخلف والبداوة"، لتبرير سياسات النهب والقتل والتدمير، أما الاستعمار الجديد فهو يرفع شعار "السلام الأمريكي" والقيم الغربية في مقابل "الإرهاب والعنف"، لتبرير نفس السياسات القديمة المتجددة. وسوف لن تكون هناك قوى دولية متعددة، ولكن قوة عالمية واحدة يحقق الآخرون مصالحهم بمقدار الإقتراب منها، لأن العالم سيكون أمامه خياران اثنان لا ثالث لهما، كما صرح بذلك (جورج بوش) أمام الكونغريس الأمريكي، وهما : خيار الاصطفاف وراء الولايات المتحدة، أو خيار الوقوف في الصف المقابل.
إن عنوان الحقبة الجديدة هو "الفوضى المتوحشة ، وقانون الغاب ، وسلطة الأقوى، والمزيد من التفتيت للكيانات الوطنية واصطناع التجزئة وضرب الدول الضعيفة ببعضها, وفرض قيم الغرب ، وعولمة الخيار العسكري الأمريكي"!!
العالم الإسلامي... محور الاستعمار الجديد(24/357)
أما موقع العالم الإسلامي، ومنه العالم العربي، فسيكون في قلب هذا التحول العالمي الخطير. إن تصريح (بوش) الذي حدد فيه طبيعة الحرب ضد الإرهاب بأنها "حرب صليبية" لم يكن مجرد "زلة لسان" كما قيل، كما أن تصريحات الرئيس الإيطالي (بيرلوسكوني) حول الإسلام وحضارته لم تكن سهواً أو خطأ ديبلوماسياً. مثل هذه التصريحات ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد, وأن ينظر إليها كتعبير عن النوايا الدفينة لأصحابها. وتصريحات (بوش) المتكررة التي قال فيها بأن الإرهاب مصدره "الشر" الكامن في النفوس (لافي السياسات الدولية والعوامل الخارجية) هي تصريحات تشير إلى المضمون والأبعاد التي تعطى لمفهوم "الإرهاب" لدى الولايات المتحدة الأمريكية!!
إن هذا التحديد لمصدر الإرهاب يعني أن الإرهاب ليس نتاجا للظلم العالمي ، والاحتلال والعدوان العسكري ، والسياسات الأمريكية والغربية تجاه الدول والشعوب، بل نتاج الثقافات والعقليات والأفكار والقوالب الحضارية والهوية، لقد أصبح "الشر" يتجه إلى نفسيات الشعوب وأساليب التربية والتنشئة الاجتماعية والسلوك، في مقابل "الخير" الذي تعبر عنه الحضارة الغربية بثقافتها وأساليبها التربوية والعقليات والأفكار الغربية والأمريكية.
يلتقي هذا المفهوم العنصري البغيض تماما مع مضمون نظرية "صدام الحضارات"، وفي جذور هذه النظرية وغيرها من نظريات الاستشراق الغربي ينبغي إيجاد تفسير ل "زلة لسان" الرئيس الأمريكي وتصريحات الرئيس الإيطالي، لا في شيء آخر خارجها. أما ذلك التمييز التكتيكي الذي حاول الزعماء الأوروبيون والأمريكيون وضعه بين الإسلام والإرهاب فليس سوى طريقة للخداع، وما يؤكد ذلك هذه الحملات "المسعورة" ضد الجمعيات والمنظمات الإسلامية الخيرية والفكرية والثقافية عبر مجموع دول العالم الغربي، والدعوات والمطالب الموجهة إلى الدول العربية والإسلامية بمحاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية والدعوية وتجفيف منابعها، فهذا يؤكد أن الغرب لا يضع فرقا بين ما يسمى إرهابا، وبين الإسلام في تعبيراته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة، وأن الإسلام هو المستهدف أولا وآخراً. وأن اللوائح التي وضعتها واشنطن بأسماء المنظمات والجمعيات المتهمة بالإرهاب لا تترك مجالا للشك حول النوايا "الصليبية" والاستعمارية للولايات المتحدة والغرب من ورائها، فما يجمع بين أسماء هذه المنظمات كونها لا تحظى برضا واشنطن، ولا نستغرب بعد هذا إذا وضعت أمريكا حركة حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في إحدى هذه اللوائح، لأن منطق الاستعمار الجديد لا يفرق بين "الإرهاب" وبين "المقاومة المشروعة" ، ولأنه أيضا منطق مقلوب، يتعامل مع الاحتلال باعتباره واقعاً تاريخياً وسياسياً وجغرافياً ثابتاً ، ومع المقاومة ضده باعتبارها خرقاً للاستقرار !
===========(24/358)
(24/359)
الإسلام وأسطورة المجابهة
الدين والسياسة في الشرق الأوسط
أحمد عبدالله 18/9/1423
03/12/2001
اسم الكتاب: الإسلام وأسطورة المجابهة
الدين والسياسة في الشرق الأوسط
المؤلف: فراد هاليدي
سنة النشر: 2000
عرض:أحمد عبدالله
يعالج المؤلف في الفصل الأول قضية اعتقاد الكثيرين بأن الشرق الأوسط ينفرد ببعض السمات عن سواه من المناطق في العالم، فالبعض يذهب إلى القول بأن منطقة الشرق الأوسط شهدت أكبر عدد من الصراعات بين الدول بعد عام 1945م، تتمثل في الحروب العربية الإسرائيلية، وحربي الخليج الأولى والثانية.
ولا يعتقد (هاليداي) أن هذه خاصية تنفرد بها دول الشرق الأوسط، بل يرى أن منطقة الشرق الأقصى عرفت عدداً من النزاعات الأكثر دموية واستنزافاً للاقتصاد والموارد الطبيعية، فحربا كوريا وفيتنام مثالان ناطقان على ذلك.
الشرق الأقصى وليس الأوسط هو الذي عرف بعد 1950م أكبر الانتفاضات السياسية (خاصة في الصين)، وأعظم التحولات الاقتصادية.
ويرى المؤلف أن فهم أحداث منطقة الشرق الأوسط يتطلب الجمع بين منظورين: الأول يدرس مجتمعات الشرق الأوسط باعتبارها مجتمعات تتميز ببعض الخصائص.
والثاني يحاول فهم هذه المجتمعات كجزء من مجتمعات العالم الثالث. ويعترف المؤلف بالوحدة الثقافية بين شعوب الشرق الأوسط، ويقر بأنها أقوى من الوحدة الثقافية بين كل شعوب آسيا وأفريقيا.
وينتقد (هاليداي) هؤلاء الذين يقولون إن ظاهرة الإرهاب تتميز بها شعوب الشرق الأوسط، فالروس الفوضويون والجمهوريون الإيرلنديون والهندوس المتطرفون واليهود الصهيونيون والقبارصة واليونانيون… كلهم مارسوا الإرهاب. ويخلص في هذا الفصل إلى التأكيد على انه لا يمكن تفسير أحداث المنطقة وسياستها بإرجاعها فقط إلى معطيات إسلامية.
أما الفصل الثاني فيخصصه الكاتب لتحليل أحداث الثورة الإيرانية.
ويرى أنها لا تتشابه مع الثورات التي وقعت منذ القرن الثامن عشر في عدة أمور، منها: أنها لم تناد بتحسين الجوانب المادية لبني البشر، ولا هي أكدت على أهمية الديمقراطية، ولا هي أعطت أهمية للهاجس القومي عند الشعب الإيراني، وإنما هي أول ثورة معاصرة يكون الدين هو العامل الرئيسي الموجِّه لها.
ويستعرض الكاتب في الفصل الثالث أحداث حرب الخليج 1991م، التي تلت غزو العراق للكويت، فيعتبر أزمة هذه الحرب أخطر أزمة دولية لما بعد الحرب العالمية الثانية.
ويختلف المؤلف مع الغربيين الذين يدعون أن الإسلام تهديد للغرب، بل يعتقد (هاليداي أن التهديد يأتي من الدول الصناعية الجديدة في كل من الشرق الأقصى وأمريكا اللاتينية.
ويستهل المؤلف الفصل الرابع من كتابه بالتأكيد على أن صورة الإسلام كعامل مجابهة وتهديد للغرب صورة يعتقد بها كل من العالم الغربي والعالم الإسلامي.
ولكن (هاليداي) يرى أن واقع الأمور أكثر تعقيداً من ذلك، فمن جهة لا تمثل الشعوب الإسلامية خطراً حقاً على العالم الغربي، إذ إنها لا تملك القوة النووية الهدامة، ولا يتفق الكاتب مع القائلين في الغرب بأن الإسلام والديمقراطية لا يلتقيان، فمثل هذا الإدعاء هو من قبيل الأسطورة، إذ إن التعامل مع الديمقراطية في العالم الإسلامي لم يكن تعاملاً متجانساً، بل إن للعوامل الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإسلامية تأثيرها القوي في طبيعة التعامل مع الديمقراطية.
وينعى هاليداي على الذين يتهمون البلاد الإسلامية بسبب مزجها بين السياسة والدين، مشيراً إلى أن هذا ليس خاصية تنفرد بها العقيدة الإسلامية، فالمجتمع الأمريكي له باعه من التطرف المسيحي، كما أن للهند نصيبها من التطرف الهندوسي الذي له آثاره في الأحداث السياسية في المجتمع الهندي المعاصر.
وبرغم موقف المؤلف المتفتح إزاء فهم مشاغل العالم الإسلامي فإنه لا يتردد في التنديد بالحركات الإسلامية في المجتمعات الإسلامية وخارجها، فيدعو الغرب إلى اتخاذ موقف صارم ومتشدد من الإسلاميين، لأنهم في نظره خطر على حقوق الإنسان.
وفي الفصل الخامس يعالج المؤلف مسألة حقوق الإنسان في الإسلام، فيختصرها في الأمور التالية:
حقوق المرأة، حقوق غير المسلمين، حقوق المرتدين، ومسألة العقوبات التي تدعو إليها الشريعة الإسلامية في بعض القضايا والسلوكيات. ويرى أن المسلمين اتخذوا خمسة مواقف في تعاملهم مع موضوع حقوق الإنسان:
-لا خلاف بين الإسلام والتصور العالمي لحقوق الإنسان.
-للدولة الإسلامية ملف أفضل من غيرها في التعامل مع حقوق الإنسان.
-تدعي الدول الإسلامية أن ظروفها التاريخية والحضارية تعطيها خصوصية ذاتية، ومن ثم فهي لا تقبل انتقادات الآخرين لملفها في حقوق الإنسان.
-يرفض المسلمون الثقافة الغربية لحقوق الإنسان وينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية مكانها.
-تتعارض المعايير العالمية لحقوق الإنسان مع الرؤية الإسلامية.(24/360)
وفي الفصل السادس يعالج الكاتب ظاهرة العداء للمسلمين قديماً وحديثاً، فيبدأ بذكر العداء للأتراك المسلمين من طرف الغرب والإغريق الذين ينتسبون إلى المسيحية الأرثوذكسية. أما كره الهندوس في الهند للمسلمين فيلخصه المؤلف في موقف الحركة اليمينية للهندوس القائلة بأن هناك مكانين للمسلمين هما (باكستان) أو (القبر).
أما العداء للمسلمين في الغرب فالحروب المتواصلة بينهما امتدت من القرن الثامن إلى القرن السابع عشر الميلاديين. وبتقدم الأتراك في غزو الأراضي الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ازداد العداء ضد المسلمين، ولكن هذا الشعور العدائي للمسلمين يختلف في الغرب من بلد إلى بلد آخر، فبارتفاع ثمن البترول في السبعينيات ازداد شعور العداء ضد العرب والمسلمين.
ويختم صاحب الكتاب تحليله لظاهرة العداء ضد المسلمين بالتعرض إلى هذه الظاهرة بين الإسرائيليين أنفسهم، فهو يرى أن العداء بين اليهود والعرب المسلمين ذو جذور تاريخية بعيدة. وبرغم ذلك، يعترف (هاليداي) أن علاقات الدول الإسلامية باليهود كانت أفضل من نظيراتها بالمسيحية.
وفي الفصل السابع يتناول الكاتب موضوع الاستشراق، الذي يعرفه بأنه مجموعة الكتابات الغربية حول منطقة الشرق الأوسط خلال القرنين الماضيين.
ويعتبر المؤلف أن انتقادات ردونسون للمؤلفات الأوروبية حول الشرق الأوسط هي الأكثر متانة وتعمقاً على المستوى الأوروبي، أما نقد إدوارد سعيد للاستشراق فقد ساعده على ذلك استعماله المنهجية الأدبية النقدية ونظريات الخطاب والقوة للفيلسوف الفرنسي (ميشال فوكو).
وينهي هاليداي آخر فصل من كتابه بالتشديد على مقولته الرئيسة في هذا الكتاب، القائلة إن مجتمعات الشرق الأوسط ليست بالمجتمعات ذات السمات الفريدة المتجانسة بين مجتمعات المعمورة، بل هي في نظره مجتمعات متنوعة مثلها مثل بقية المجتمعات البشرية الأخرى. ويستشهد المؤلف في آخر هذا الفصل بالآية القرآنية التي تبرز واقع التنوع والاختلاف بين التجمعات البشرية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وللمؤلف تصوره للظروف والعوامل التي تشجع على قيام ظاهرة المواجهة بين الشعوب والأمم. ويمكن صياغة هذا التصور كالتالي:
تقوم المواجهة بين الأمم والشعوب إذا توافر أحد شرطين أو هما معاً: أحدهما يهدد وجود وسلامة كينونة الآخر، والثاني أن يهدد أحدهما مصالح الآخر اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ومن هذا المنطلق فإن استعمال هذين الشريطين لا يسمحان بالحديث عن وجود مواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي ككل، فهذا الأخير لا يمثل تهديداً لوجود وسلامة المجتمعات الغربية؛ إذ إن الدول الإسلامية لا تملك السلاح النووي الذي هو في حوزة دول أخرى غير مسلمة وغير مسيحية، مثل إسرائيل والصين، ومن ثم فإن حالة المواجهة تنتفي في رأي هاليداي، معتبراً أن الحديث عنها إنما هو من قبل الأسطورة.
أما تهديد العالم الإسلامي لمصالح المجتمعات الغربية، فإن نظرة واقعية تفيد بأن مصالح الغرب في المجتمعات الغربية والإسلامية تتمتع بنصيب قوي، خاصة منذ التسعينيات وسقوط الاتحاد السوفيتي والشيوعية في شرق أوروبا، فالمصالح البترولية للغرب في الشرق الأوسط عززت صيانتها حرب الخليج الثانية. وباستثناء ليبيا وإيران - لسوء علاقتهما مع الولايات المتحدة - فإنه لا يجوز الحديث عن مواجهة بين الغرب والإسلام، تهدد مصالح المجتمعات الغربية في المجتمعات العربية والإسلامية.
لكن عند فحص طبيعة العلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، على مستوى الانتساب الحضاري الثقافي لهاتين المجموعتين من الشعوب والأمم، فإننا سنجد شيئاً من عدم التناغم بينهما: فمن جهة يرى الغرب أن المسيحية واليهودية هما الأساسان الرئيسان المكونان لهويته الحضارية الثقافية، ولا تقتصر معالم هذه الهوية على الجانب الديني المسيحي اليهودي، بل تضم أيضاً رصيد الثقافة اليونانية ورصيد ما يسمى بالثقافة النيرة لعصر النهضة؛ فمن خلال هذه الهوية الحضارية الثقافية ينظر الغرب ويتعامل مع الشعوب والأمم الأخرى (كآخرين)، فالشعب الصيني والشعب الهندي والشعب العربي تعتبر من طرف العالم الغربي شعوباً ذات هوية جماعية تختلف عن الهوية الغربية الجماعية المنتسبة إلى الحضارة الثقافة المسيحية اليهودية.(24/361)
وهكذا يمكن القول إن العالم الغربي ينظر إلى الهوية الجماعية الإسلامية لشعوب الشرق الأوسط على أنها هوية تختلف عن الهوية الجماعية المسيحية اليهودية للشعوب الغربية. ونظراً لتقدم العالم الغربي وهيمنته في العصر الحديث، فقد نشأت عنده النظرة الدونية لبقية الشعوب المختلفة. وما الفكر الاستشراقي، في رأي الكثيرين، إلا محاولة غربية لإرساء تصور معرفي أكاديمي لرمي الشعوب الإسلامية في الشرق الأوسط بالدونية، ونشر عقلية غربية تحقيرية لأهل هذه المنطقة. وبالإضافة إلى هذه الرؤية الاستشراقية فإن أحداث التاريخ القديمة بين الغرب والعالم الإسلامي تجعل الغرب متخوفاً من المسلمين؛ إذ إن احتلال المسلمين الأوائل لشبه الجزيرة الإيبيرية لمدة سبعة قرون، واحتلال الأتراك المسلمين في مرحلة ثانية لعدد من الأراضي الأوروبية، كلاهما يذكر الأوروبيين - على مستوى الشعور واللاشعور- بأن خطر المسلمين ينبغي ألا يُنسى ويُمحى من الذاكرة، إذ إنه لا الصين ولا الهند ولا اليابان- حيث تدين أغلبية السكان بغير المسيحية - قد هددت الغرب في عقر داره، فالعرب المسلمون انفردوا بتهديد الأقطار الغربية في أوروبا.
فالموقف الغربي من المسلمين ليس بالموقف الذي يُكن لهم الكثير من الاحترام، بل هو موقف يتصف بتحقيرهم والتخوف منهم وعدم الاطمئنان لهم في نفس الوقت. ويمكن القول إن العلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي المعاصرين هي علاقة يتخللها الكثير من ملامح التوتر والتخوف وعدم الاطمئنان
===============(24/362)
(24/363)
موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية
الأمين الصادق الأمين 28/3/1423
09/06/2002
اسم الكتاب:موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية
المؤلف :الأمين الصادق الأمين
الناشر :مكتبة الرشد / شركة الرياض
عدد الصفحات: 1096 في جزأين
التعريف بالكتاب :
قسم الباحث هذا الموضوع إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب وخاتمة .
التمهيد تناول فيه الحديث عن السنة النبوية من حيث تعريفها ، وحجيتها ومنزلتها من القرآن الكريم. ثم تناول العلاقة بين الشرع الإسلامي والعقل ، وبين فيه أهمية العقل في الإسلام كما تناول الصلة التي يجب أن تكون بين الشرع والعقل ، وأوضح أن العقل لا يمكن أن ينافي نصاً صحيحاً .
وأما الباب الأول :
فهو عن موقف المدرسة العقلية القديمة(المعتزلة) من السنة النبوية ، تناول فيه موقفها من العقل وعلاقة ذلك بالأصول الخمسة عندهم ، و أثر ذلك الموقف في رد الأحاديث الصحيحة ، و مثل لذلك بعدة أمور: صفات الله تعالى ، رؤية الله سبحانه وتعالى ، أفعال العباد، صاحب الكبيرة ، الشفاعة ، عذاب القبر .
وأما الباب الثاني :
فهو عن موقف المستشرقين من السنة النبوية ، مهد له بالحديث عن صلة المستشرقين بالفكر الإسلامي وأثر تلك الصلة في إثارة الشبهات حول السنة النبوية .
وضمن ذلك الحديث عن مفهوم الاستشراق ، وتاريخه وأهدافه ، ومنهجه . ثم عرض شبهاتهم حول الوحي النبوي ، مع الإجابة عنها ، ثم تعرض لموقف المستشرقين من صحةِ الحديث النبوي .
وأما البابُ الثالث :
فهو عن موقف المدرسةِ العقليةِ الحديثةِ من السنة النبوية.
فذكر علاقة المدرسة العقلية الحديثة بالمدرسة العقلية القديمة ، وأثرُ تلك العلاقة في ردِّ الأحاديث النبوية ، وتناول ذلك من خلال مجموعةٍ من الأحاديث التي ردها هؤلاء بعقولهم مع اختيار ثلاثةٍ منها للدراسة حتى يتبين منهجُ هذه المدرسة وتنكشف حقيقته .
ثم ذكر تأثر المدرسة العقلية الحديثة بالمستشرقين ، وأثر ذلك في إثارة الشبه حول السنة ، و أورد تلك الشبهات و ذكر الجواب عنها .
وأما الخاتمة :
فذكر فيها أهمَّ النتائج التي توصل إليها من خلال البحث
=============(24/364)
(24/365)
فلسفة التاريخ في خدمة الحرب
تركي الزميلي 22/8/1423
07/11/2001
"ما من مجتمع آخر، أنتج مجموعة من الشعراء، والفلاسفة،
والدبلوماسيين، المؤمنين بالعنصرية، كتلك التي أنتجتها الطبقة الحاكمة الأوروبية والأمريكية. وما من مجتمع آخر شابَههُ، في الربط بين قيمه الدينية والخلقية والاجتماعية والشخصية، وبين العنصرية، بهذا الرباط الوثيق" كافين رايلي، "الغرب والعالم".
"الاولوية للأرباح والقوة، أما الديموقراطية التي تتعدى الشكل فهي خطر يجب تجنبه، وأما حقوق الإنسان فهي ذات قيمة ذرائعية، في خدمة الأهداف الدعائية لا أكثر" تشومسكي، "الغزو مستمر"
عاد فوكوياما مرة أخرى على صفحات الجارديان والوول ستريت جورنال بالتزامن في الثلاثاء الماضي إلى تأكيد فكرة نهاية التاريخ، تحت عنوان: "الغرب ينتصر"، مع عنوان فرعي يقول: "الإسلام الراديكالي لا يستطيع هزيمة الديموقراطية والرأسمالية. إننا لم نزل عند نهاية التاريخ." وإذا كان الذي دفع فوكوياما إلى الكتابة هو الرواج الذي حظيت به مقولة "صراع الحضارات"على حساب فكرة "نهاية التاريخ"، بعد أحداث ثلاثاء أمريكا الأسود، فإن المسار الذي اتخذه المقال لا يمكن أن يقرأ خارج إطار التمركز الغربي العنصري على الذات. غير أن الأسوأ هنا هو الانحياز، والنقص البارز في المعلومات والتحليل، عن قصد، أو عن جهل بالعالم الاسلامي وشؤونه. فالممانعة ضد الغرب، ممثلةً هذه المرة في العداء لأمريكا ليس سببُها سياسات أمريكا العدائية، والداعمة للاحتلال، والقاتلة لمليون طفل عراقي في عقد واحد، ونهب ثروات المنطقة بكل الوسائل الضاغطة، وترهيب الشعوب والحكومات معا، وتشجيع الطبقة السياسية على قمع شعوبها، وبخاصة كلما ظهر فيها نزعة رفض للهيمنة الغربية، وجعل ذلك بطاقة النجاة الوحيدة لها ولبقائها، لا يستحق كل هذا بالنسبة لفوكوياما أن يكون سبباً مقنعاً لتفسير مظاهر المعاداة لأمريكا.
يقول فوكوياما: "هذا البغض العريض والكراهيه ربما يمثلان شيئا أكثر عمقا من مجرد مقاومة السياسات الامريكية، من مثل دعم اسرائيل او الحصار على العراق..." وحين يقدم ما يراه المسبب الأرجح لهذا الكره الشعبي فإنه يقول: " ربما يكون هذا الكره مولودا من رحم الاستياء من النجاح الغربي وإخفاق العالم الاسلامي".
وبالتالي فإن كل هذه الشعوب قد اختصرت في لافتة واحدة مبسطة وقابلة للرواج ومريحة للضمير الغربي "الحر" صاحب "العدالة المطلقة"، فالأمر كله مواجهة مع "الحسد". هذه هي الحقيقة كما توصل إليها فوكوياما الباحث العميق في فلسفة التاريخ، والناطق باسم "الإنسان الأخير".
ثم إن العالم الاسلامي كله غير مؤهل لدخول نهاية التاريخ، ماعدا النموذج التركي الذي منحه فوكوياما إمكانية شغل إحدى شقق نهاية التاريخ، لأن حكومته الديموقراطية وهي النموذج التركي الوحيد. وطبعا الدليل على ذلك حكومة العسكر التي تحرم وتسجن آلاف الطالبات وأساتذة الجامعات لمجرد إصرارهن على حقهن في تغطية شعر الرأس داخل الجامعة وخارجها. لقد كان الظن بأن هذا النوع الخاص من الديموقراطية التي تحمل أقسى أنواع الديكتاتورية والقمع إنما هي نموذج يروجه الخط السياسي الرسمي من السياسة الأمريكية والغربية، لكن يبدو أن فوكوياما لا يخرج عن إطار الامتداد المعاصر لخبراء الاستشراق الذين قدموا النظريات المعرفية والتبريرات الأخلاقية للمستعمر على مدى قرون متتابعة.(24/366)
لقد قدمت نظرية نهاية التاريخ من عقد مضى، غطاء دعائيا، قادما من فلسفة التاريخ، عبر إعادة قراءة لهيجل، تجعل من النصر الرأسمالي على الشيوعية عبورا نهائيا إلى سيادة الشق الرأسمالي الليبرالي الديموقراطي، على حركة التاريخ البشري، في يقين ديني مطلق، يغلق "الباب الدميقراطي" فلسفياً في وجه كل خيار حضاري آخر. وبالطبع فإن هذا لا يدخل في الانغلاق، ورفض الآخر، ومصادرة التنوعات الحضارية في هذا العالم، لأن العالم ببساطة هو العالم الغربي ومن يواليه، والإنسان هو فقط الانسان الغربي، ومن يخدمه ويسالمه ويقلده ويخضع له، والأرض بسكانها كلهم لا تظهر ففي الخطابات الرائجة في العالم الغربي، وفي الخطاب الأكثر انتشارا فيما يكتبه الغربيون عن أننفسهم وعن الاخرين؛ إلا من خلال ثنائية المركز الغربي، المتحضر، الإنساني، الغني، والهامش غير الغربي من المتوحشين المتخلفين المعوزين، ويأتي العالم الاسلامي كله في القلب من هذا الهامش، حيث ينشط الارهاب ومنابعه. والسياسيون الرسميون لا يألون جهدا في تجسيد هذه الرؤية، فلا مكان لهذا الهامش في عصر نهاية التاريخ إن لم يقبل بوظيفة التابع التي حددها له "الانسان الاخير" صانعُ نهاية التاريخ. وليس لساكنيه أن يشغلوا أي مكان أو مكانة، خارج الوظيفتين المحددتين، اللتين التي يمكن أن نستعير لتسميتهما ووصفهما مصطلحي مالكولم إكس : " عبيد الحقل" و "عبيد المطبخ" وبالطبع مع التنويعات اللازمة داخل إطاريهما، والتي تفرضها طبيعة الأعداد الهائلة لأناس الهوامش غير الغربية، والمساحة الجغرافية التي تغطي أكثر الكوكب، والتنوعات الثقافية والاجتماعية التي تستقي من جذورها الضاربة في عمق التاريخ، ولكن كل هذا لا معنى له، فالجميع يجري توزيعهم في ذهنية التعامل الغربي على الوظيفتين:
"عبيد الحقل"، وهم السواد الاعظم من الشعوب والأوطان، التي تشغل في التفكير الغربي دوراً خدمياً فحسب، فهي تقدم الموارد الأولية، والعمل الرخيص، والأسواق الاستهلاكية، وفرص الاستثمار، ومؤخرا استقبال التلوث، ويؤمّن سكانُها فيما يؤمِّنون الوظائفَ منخفضة الأجور لهوامير الشركات الغربية، وقد كان المطلوب دائما أن تعيش الغالبية من هذه الشعوب، على العوز والذل والاحتلال المباشر، أو المقنَّع تحت الدكتاتوريات المحمية، مع هامش من الاقتصادات الضعيفة هنا وهناك، لتمنع الثورة، وبشرط ألا تجمع الثروة المنافسة، أو تزرع المعرفة التقنية القادرة على توطين التقنيات المعاصرة، ومن ثم تحدي بقاء العالم الغربي مهيمنا حقيقيا على النمط المتقدم منها دائما. والمجموعة الثانية "عبيد المطبخ" الذين يتم دعمهم وحراستهم وترهيبهم معا على يد السيد، كما يجري تذكيرُهم دائما بأن استمرارهم مرهون بقدر إخلاصهم في ضبط التطورات عند عبيد الحقل، وحصرها في الصراخ الذي لا يؤذي، بشرط أن يكون متقطعا ومقموعا، ومن غير آمال في تحقيق أي تطور عملي، في الخروج من هيمنة السيد الغربي ومخططاته. وسيكون من نصيبهم أن يتمتعوا بأوضاع تشبه أوضاع عبيد المطبخ في مزارع المستعمرات الأمريكية في القرن الماضي، الذين كان السيد يمن عليهم بالسماح لهم بفتات الأكل في مطبخ السيد ومشاركته طاولة الطعام، وهي شكليات يتكرم بها السيد الغربي ما دامت تعود عليه باعظم كسب وأقل جهد. وتطبيقاته متعددة وذاكرة تاريخ العلاقة بين الغرب والعالم متخمة بها وقد غزت بريطانيا الصين اواسط القرن التاسع عشر بـ90% من المحليين عبيد المطبخ، و10% فقط من القوات البريطانية، وحتى معركة اليوم نرى فيها كيف يتبنى قتل المئات من الافغان ودك المدن الفقيرة على ساكنيها بمختلف أنواع الاسلحة بما فيها المحرمة دوليا كالقنابل العنقودية مرتزقةُ تحالف الشمال، وبقايا عملاء الروس من الأفغان الشيوعيين السابقين أمثال دوستم، الذين سيكون الغزو البري من مهامهم الأساسية، في المرحلة التالية للقصف الجوي، وبهدف التقليل ما أمكن من سفح قطرات الدم الأزرق النبيل على يد المتوحشين البرابرة من عبيد الحقل، وإذن فليقم عبيد المطبخ بالمهمة.
ورغم ان هذا النموذج المثالي للهيمنة لم يعد ممكنا استمرار تحققه في صورته الفجة، وبكل الحرفية المطلوبة، ومع كل الأمم غير الغربية، الا أن الرغبة والعمل يستمران جاريين على تحقيق أكبر نسبة منه، وبقدر ما تسمح به ظروف القوة وأخطار اشتعال الوعي بين الشعوب من إمكان، ولا مانع من وجود "بيض شرف" أحيانا حينما يصبح السماح لهم أو عدم السماح خارجا عن إطار الخيارات الغربية، فلا أقل من حفظ ماء الوجه، وإعطاء الوهم بأن الذي سمح لهم هو تسامح "الإنسان الاخير" إنسان نهاية التاريخ، وهو ما انطبق على اليابان اقتصاديا، ثم على الصين التي هي في طريقها الى فرض تأثيرها عسكريا وسياسيا واقتصاديا معا.(24/367)
تبقى الاشارة الى أن هذا هو الخطاب المهيمن على مسار الفكر والفعل في تعامل الغربيين مع الحضارات الأخرى، وأن الخطاب المتبني للعدل، والناقد لوحشية الهيمنة وعدم أخلاقيتها خطاب هامشي هكذا كان الحال حينما دخل الفيلسوف الشهير برتراند رسل السجن البريطاني وجُرد من شهادة كيمبرج التي يحملها بسبب نزعته السلمية في 1918 ودخل السجن الأمريكي في 1961 لمشاركته في "الحملة من أجل نزع السلاح النووي" ، وهكذا هو الحال نفسه اليوم حين يحرم تشومسكي أشهر عالم لسانيات في العالم من الظهور والكتابة في كبريات شبكات التلفزة وكبريات مطبوعات الصحافة الأمريكية "الحرة".
وبالطبع فإن هذه مجرد قراءة لبعض المنطوق به، أما ما يتوارى تحته من مسكوت عنه في خطاب نهاية التاريخ، فإن القابعين تحت القصف الإسرائيلي ودك المنازل , المستمرَّين في فلسطين المحتلة، والمتساقطين تحت القصف الأمريكي في أفغانستان، ما بين قتلى أو جرحى بلا أدوية، وقافلة الموت المستمرة من عشر سنوات في العراق... الخ، هي التي تنطق بالمسكوت عنه، وتهزأ من كل خطباء "الاستقامة السياسية" من رعاة الأوهام، ومثقفي القمع بالوكالة، ممن يتسابقون على حجز المقاعد في مطبخ السيد العظيم.
============(24/368)
(24/369)
رؤى وسياسات في الإعلام يحتاجها اليوم كل إنسان
إبراهيم غرايبة 12/4/1428
29/04/2007
ترجح الأزمات والأحداث، الكبرى منها واليومية تقديراً عاماً متكرراً بإخفاق الإعلام العربي في استيعاب التحولات الجارية والتعامل مع الأحداث والقضايا في التأثير في الرأي العام العالمي وخدمة المواطنين العرب والمسلمين في إدارة قضاياهم وأولوياتهم، ويظل سؤال دائم ملح عندما تنتهي كل أزمة، ما هي أزمة الإعلام العربي؟ بل إننا نتحول في كثير من الأحيان في التفكير والاهتمام إلى وسائل الإعلام وإدارتها ومواقفها بدلاً من قضايا الساعة وتطوراتها، بدءاً من فلسطين والعراق والرسولم المسيئة للرسول في الإعلام الدنمركي والانتفاضة والمقاومة ومؤتمرات القمة والقضايا العامة الوطنية والإقليمية من الاستثمار والتنمية والعمل والبطالة والبيئة والجريمة والتعليم والادخار وحقوق الإنسان والحريات والثقافة إلى حياتنا اليومية ومشكلاتنا وقضايانا الاجتماعية والثقافية.
هذا الإخفاق المرجح وحتى في حالة النجاح يتكون لدينا شعور عام بالفشل والحيرة والارتباك يدعو إلى البحث والتفكير في التعامل مع الإعلام الذي يغرق الفضاء وشبكات الإنترنت والاتصال؛ فالإعلام اليوم يغوي ويستدرج الناس، العامة والمثقفين والمفكرين والقادة والمسؤولين إلى مواقع من التضليل والغيبوبة وغياب الرؤية والفهم الصحيح.
فهذا التدفق المعلوماتي الهائل من الفضائيات والإنترنت والصحف وأدوات الاتصال يحتاج في الوقت نفسه إلى مؤهلات وأدوات منهجية جديدة يجب امتلاكها للخروج من الحصار الذي تفرضه على الأفراد والمجتمعات بل والدول والمؤسسات، إلى درجة لا تكاد تختلف عن الحصار بالتكتم والحظر، وكما يقول المفكر نعوم تشو مسكي: "نحتاج إلى سلوك طريق الدفاع الفكري عن النفس لحماية أنفسنا من الخداع والسيطرة، فالحكم سواء كان ديموقراطياً أو استبدادياً يقوم على الرأي، وكذلك الإنتاج والاستهلاك".
ونحتاج إلى قدر كبير من التمحيص والذكاء في التعامل مع الطوفان الإعلامي والمعلوماتي الذي تغرقنا به وسائل الإعلام المتنوعة، ليس فقط من أجل تمييز الصواب من الخطأ والكذب من الصدق فيها، ولكن لتجنب حالة خطرة تُستدرج إليها المجتمعات والحكومات والمؤسسات العاملة في الإصلاح والتنمية وحتى الأفراد أيضاً، وهي أن تخضع الاهتمامات والبرامج والاتجاهات والفتاوى والمواقف والأفكار على مستوى الأمم والأفراد والمجتمعات والحكومات في العمل والتفكير والترويج والإنتاج والاستهلاك والتجارة والرأي وأنماط الحياة والتفكير والطعام واللباس والسكن حتى في الدواء والعلاج لاتجاهات إعلامية ذات دوافع هي ابتداءً سياسية أو احتلالية أو ترويجية، فيتحول الإعلام إلى مصدر أساس للسياسات واشتقاق البرامج والخطط، وتغيب حينها القضايا والأولويات الكبرى والمهمة؛ لأنها لا تملك الاهتمام الإعلامي أو لأنها تخضع لحرب من التجاهل والصمت.
ولعل أسوأ أنواع الحروب الإعلامية على القضايا والأولويات المهمة التي تتطلع إليها الأمم والمجتمعات هي تجاهلها بالصمت وعدم النشر حولها، فذلك يقلل أهميتها ويبعدها عن الاهتمام، ويحولها إلى قضية ثانوية أو مجهولة، ويشغل الناس بغير أولوياتهم واحتياجاتهم.
ويحتاج الناس لمواجهة هذا الطوفان الدعائي إلى استخدام ذكائهم العادي، وتفحّص الطوفان الإعلامي بالحس السليم العادي والذكاء المتشكك، وربما لا يلزمنا أكثر من دقيقة، ونحن نراقب محطات التلفاز ونتصفح وسائل الإعلام للتفكير ببساطة وبداهة: ماذا يجب أن نعرف؟ وماذا يريدون لنا أن نعرف أو لا نعرف؟
إن المعرفة هي جوهر السلطة، والاحتلال بوصفه سلطة هو في الأساس عملية ثقافية ومعرفية أكثر مما هي عسكرية، وقد ارتبطت بالاحتلال والاستعمار الحديث علوم ومعارف وتطورات مصاحبة له، فالاستشراق وفق المفكر العربي الأميركي إدوارد سعيد هو "أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستطاعت الحضارة الغربية عن طريقه أن تعيد إنتاج الشرق سياسياً واجتماعياً وعسكرياً وعقائدياً وتخيلياً". وكان للاحتلال بأشكاله وصيغه المختلفة المباشرة وغير المباشرة أدواته المعرفية والثقافية وأهمها بالطبع المناهج التعليمية وأوعية البث الإعلامية المختلفة التي تصوغ وتنظم الأمم والدول والنخب والرأي العام، وتحدد مواقفه وذوقه وسلوكه.
ورافق الاحتلال في الواقع عمليات إعمار وتنمية، فقد فتحت مدارس وجامعات وطرق ومطارات، وبُنيت مؤسسات إدارية وبيروقراطية وجيوش وأجهزة شرطة، ولكنها على الرغم مما قدمته من خدمات وتطوير، أعادت بناء وصياغة المجتمعات والدول على نحو يكاد يظن المحلل أنه لا فكاك معه من الاحتلال.(24/370)
صحيح أن الفضائيات العربية أظهرت قدرة غير متوقعة لمنافسة الإعلام الغربي الذي كان في العادة يجول في الميدان وحده ويحتكر المعلومة والصورة، ولكنها فضائيات مازالت أسيرة عقل باطن بعيد عن وعي الذات، ويشغله وعي آخر مزيف، وكانت القدرات التقنية الهائلة على المتابعة ونقل الأحداث وتصويرها في نفس اللحظة وبثها إلى العالم كله مصدراً للتضليل والإغراق وافتعال التفاؤل، ولا بأس بالتراجع بعد أيام قليلة، فالناس تنتظر دائماً ما تعتقد أو تأمل أنه جديد، ولا بأس من الاستجابة لهذا التطلع ولو بالوهم والحيل والتضليل.
يقول جيمي كولينغ الباحث في معهد أبحاث السياسة العامة في لندن: "هناك حاجة ماسة كي تبقى مبتهجاً ومتفائلاً باستمرار". ويقول روجر مورتيمور المحلل السياسي في مؤسسة (موري) بلندن: إن المسؤولين البريطانيين والأمريكيين يتعرضون للضغط لإصدار بيانات، وهم غالباً ما يفعلون ذلك دون أدلة كافية.
"إنهم غدوا مثلنا" جملة رُددت بفخر واعتزاز في معظم الصحف والمحطات الإذاعية والتلفازية العربية، فهم أي الإعلام الغربي وبخاصة الأمريكي يكذبون ويلفّقون ويبالغون مثل الإعلام العربي، وعلى الرغم من طرافة التعليق فإنه يوضح أن المتلقي العربي مازال غير مكترث أساساً بالاحتراف والنوعية والتنافس وكسر الاحتكار.
انظر مثلاً الاقتراح الذي صوّت عليه الكونغرس الأمريكي بغالبية ساحقة (90%) أي بجمهورييه وديموقراطييه ليوم صيام وصلاة في الولايات المتحدة لنصرة الجندي الأميركي!
ويتساءل إعلامي عربي (مارك صايغ) معلقاً على المشهد: هل هذه الحرب ستعيد الحضارة عقوداً إلى الوراء؟
الأحداث تقدم مناسبة لاستذكار كتب ودراسات سابقة تساعد على الفهم والتحليل، وتذكر الناس بمقولات وآراء عما يجري لم تجد فيها مفاجأة، وعلى الرغم من أن منهجية البحث عن أدلة وشواهد لفكرة جاهزة ومعدة يضلل الفهم، ويستدرج الناس إلى غير الحقيقة، وبخاصة عندما تحشد إمكانات معرفية كبيرة ومتقدمة لحشر هذه الفكرة في أذهان الناس وتأكيدها في عقولهم، فإن بعضاً من هذه التقاليد تساعد على الفهم وتنبه على "التلاعب بالعقول" الذي يمارس بدهاء وتحت غطاء من الديموقراطية والحياد والموضوعية والحرية الإعلامية والسياسية.
وربما يساعد على فهم فلسفة الإعلام والحرب استحضار كتابين في الموضوع هما "قصف العقول"، تأليف فيليب تايلور، وقد صدر الكتاب مترجماً في سلسلة عالم المعرفة الكويتية، وكتاب "المتلاعبون بالعقول" من تأليف هربرت شيللر أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا والذي نشره أيضاً المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت الذي يبدو اليوم أكثر أهمية على الرغم من التطور الإعلامي الكبير، ولكنها تطورات تؤكد مقولة الكتاب وفكرته عن التلاعب بالعقول الذي تمارسه وسائل الإعلام الأمريكية.
وقد يساعد هذا العرض على فهم كثير مما يجري الآن من أداء صحفي وإستراتيجيات إعلامية، مع الأخذ بالاعتبار أن الصحافة مصطلح يُستخدم كثيراً، ويُقصد به كل وسائل الإعلام وبخاصة الأخبار والتحليلات.
كانت أحداث 11 سبتمبر/ أيلول فرصة لتيار التفرد بالهيمنة العالمية وشركات التصنيع لحشد الرأي العام والتأييد الشعبي للمساعي الأمريكية نحو الهيمنة وعدم السماح حتى للقوى الصديقة والمؤيدة مثل أوروبا بالمنافسة أو المشاركة في القيادة العالمية، ومرّرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) صفقة قيمتها مائتا بليون دولار مع شركة لوكهيد لتصنيع ثلاثة آلاف طائرة مقاتلة من طراز إكس 35.
وتبدو مقولة إنه ينبغي السماح للرأي بأن يتطور بشكل طبيعي دون أي تدخل خارجي وهما في الدول الديموقراطية كما في الدكتاتورية، فالرأي العام ظل دائماً توجهه وتتدخل فيه آلة الحرب والعسكريون، وما نعرفه عن الدول في كثير من الأحيان سواء ما تبثه وسائل الإعلام أو الدراسات أو المناهج المدرسية هو تعبير عن التوجهات الدفاعية.
وفي كثير من الأحيان كانت الحرب الإعلامية بديلاً للحرب العسكرية، وهذا ما حدث تماماً في الحرب الباردة بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي، فقد انتصرت الولايات المتحدة بالضربة القاضية، وانهار الاتحاد السوفييتي بدون حرب عسكرية ولكن بفعل الدعاية والتأثير الإعلامي.
ويكاد التاريخ يكون دعاية، فقد أثبتت دراسة حديثة عن الكتب المدرسية في ألمانيا واليابان أن كتب التاريخ في هذين البلدين تقول عن الزمن الذي كُتبت فيه أكثر مما تقوله عن الماضي، ولن يساور أحداً الشك بهذا الشأن فيما يتعلق بنظام كالنظام النازي الألماني أو النظام الستاليني، ولكن أيضاً درجة الاختلاف في إعادة كتابة تاريخ روسيا الحديثة بعد انهيار الشيوعية أبقت على التلاعب بالحقيقة التاريخية، وإن نظرة على كتب التاريخ الأمريكي التي تتناول الخمسينيات أو على الكتب المؤلفة في بريطانيا في ذروة عصر الإمبراطورية تؤكد على الجانب الدعائي والتعبئة المستخدمة في صياغة الرأي العام والمناهج التدريسية.(24/371)
والدعاية صارت علماً قائماً بذاته من العلوم الإعلامية وهي فن الإقناع، الذي تقوم قواعده على كسب مظهر الصدق (ليس بالضروة أن تكون الرسالة صادقة) لكسب ثقة الجمهور المتلقي المراد إقناعه، والبساطة والتكرار للوصول إلى أذهان الناس بسرعة، والنفاذ إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلاّ ما استوعبته بسهولة وكثرة، واستخدام الرموز وضرب الأمثلة؛ فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن وأن تستدعي الصور ذات الدلالة المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروثة أو المكتسبة، ويكاد لا يكون ثمة فرق يُذكر في وسائل العمل الدعائي بين الدول الديموقراطية والدكتاتورية، فقد لجأت جميعها إلى أساليب التأثير والعواطف وتحريك الحماس والحقد والكراهية والتمجيد، لا فرق في ذلك بين النازيين في الحرب العالمية الثانية أو الشيوعيين البلاشفة في مخاطبة العمال والمثقفين والفقراء أو الرأسماليين الأمريكيين الذي يدعون إلى الليبرالية والحرية، أو الثوار الفرنسيين، إنها دائماً عند أصحابها وسيلة لتحقيق هدف والعبرة بالمحصلة، ولا بأس بإخفاء الحقائق أو التدخل في تفسيرها أو حتى قلبها.
لقد تحولت الحرب الإعلامية في العصر الحديث من استهداف الجنود والمقاتلين سلباً أو إيجاباً للتوجه إلى المجتمعات والأمم، ويمكن ملاحظة ذلك في الغزو الفكري والثقافي وتعميم أنماط الحياة والاستهلاك والطعام والأزياء وقصات الشعر، وصار الإعلام حرباً شاملة على ثقافات الأمم وحضاراتها وتاريخها وتراثها، بل لقد اختفت ثقافات ولغات كثيرة ولم تعد موجودة ولا يعرفها حتى أصحابها، وباتت لغات وثقافات أخرى مهددة بالانقراض.
وبذلك يمكن القول بحق إن الدعاية صارت أهم الاستعدادات الحربية، وتُعدّ جزءاً رئيساً من المجهود الحربي، فهي كما يقول تايلور: قذائف من الكلمات التي تُختار بعناية، وتُصاغ بحساب دقيق مستهدفة تشكيك شعب دولة العدو وجنوده في قضيتهم، وهدم ثقتهم بقيادتهم، وفي حكومتهم وفي قدرتهم على تحقيق النصر، أو هي كما يعبر عنها عنوان الكتاب "قصف العقول"
وقد يبدو انتشار القنوات الفضائية العربية وجعلها جزءاً من السياسة ومن حياة الناس، و يبدو تشكيل آرائهم وأفكارهم ومواقفهم أمراً جيداً، وأنها أوقفت الوصاية الرسمية على ما يشاهده العرب، فقد كانوا قبل ذلك ملزمين بمتابعة ومشاهدة التلفاز الرسمي في بلدهم، الذي كان يختار لهم الأخبار والمعلومات والأفلام والمسلسلات والأغاني والثقافة، أو ما يعتبره كذلك، مستغلاً حالة الاستسلام اللذيذ لدى الناس للصورة؛ ليصوغهم في مسار واحد من التفكير والرؤية، أو ليمنع عنهم ما لا يريده من الدنيا المحيطة بهم.
فيبلغ عدد القنوات الفضائية العربية اليوم بالمئات، ولكن ذلك لم يكن المشهد كله؛ فما زالت الحكومات العربية تسيطر على الفضائيات حتى التجارية منها، أو التي تبدو مستقلة وتعمل في الخارج، بل إنها أتاحت للحكومات وسائل جديدة في الهيمنة والاحتكار في مجال الصورة والإعلام أكثر ذكاء ودهاء وأقل التزاماً بالمعايير الرسمية الثقافية والأخلاقية والسياسية، ولم يكن رجال الأعمال والمستثمرون الإعلاميون سوى واجهات لغسيل السياسات الرسمية، ولم يكونوا سوى وكلاء لحكام أكثر قسوة منهم، وأكثر التزاماً بالتعليمات والسياسات الرسمية.
ولم تكن العولمة وتسهيلاتها الجديدة في الاتصالات والمعلومات وشبكيتها سوى فرصة إضافية للحكومات لتحقق مزيداً من الإرهاب والهيمنة، واكتشفنا نحن الإعلاميين والمشتغلين في العمل العام خارج الإطار الرسمي أننا لا نملك في العمل سوى الحيلة والتسلل والتملق الذي نقاوم به الخوف من الجوع، أو نشبع تطلعاتنا إلى حياة زاهية مليئة بمتعة الاستهلاك، والتغابي الذي نحسبه ذكاء.
وبصراحة مخزية كنا مثل قنافذ محاصرة في حديقة حيوان صغيرة لا تملك من أمرها شيئاً، فتحولنا إلى حديقة شاسعة مفتوحة، قد تكون في سعتها أكبر من الغابة، وقد لا نستطيع الإحاطة بها، ولكنا بقينا في المسار المصمم لنا، ولا تبدو شراستنا ومعارضتنا سوى لعبة مسلية لأصحاب الحديقة وزوارها، وديكوراً مدهشاً يجلب التذاكر والمتعة والترفيه، ويرضي ضمائرنا على نحو مزيف صنعناه لأنفسنا وصدّقناه.
=============(24/372)
(24/373)
الانبعاث الحضاري الإسلامي ومستقبل العالم
أ. د. عماد الدين خليل 21/10/1427
12/11/2006
إن الانبعاث الحضاري المرجو للأمة يقودنا بالضرورة إلى قضية مستقبل العالم، والمشاركات الإسلامية المحتملة في المصير.
لا ريب في أن انعكاس المبادئ والقيم الإسلامية على مساحات واسعة من النشاط الحضاري عبر التاريخ، منحه خصائصه النوعية المتميزة التي يمكن أن تمثل ليس مسوّغ استمراره في العالم فحسب، بل قدرته على اقتحام وإغناء شبكة النشاط المعرفي للحضارة الراهنة، والقدرة الفعالة على الإسهام المستقبلي فيه.
وإذا كان هدف العقيدة تكوين الإنسان المؤمن المتبصر المتوازن السعيد، فإن النشاط الحضاري المنضبط بالرؤية الإيمانية يجيء إعانة على تحقيق هذا الهدف. ونحن نستطيع أن نتصور القيمة الحقيقية لنشاط كهذا بمجرد أن نتذكر ما الذي فعلته الحضارات اللادينية بالإنسان والجماعة البشرية.
ليس هذا مجال الحديث عن هذه المسألة وإنما التأشير عليها فحسب، فإن ما يعانيه الإنسان في البيئات التي رفضت الإيمان، أو عزلته عن مجرى الحياة الواقعة، من تعاسة وازدواج وتمزق وشقاء نفسي وروحي وعاطفي واجتماعي، على الرغم من ارتفاع منحنيات الإنجاز المادي، أمر ملحوظ ينطق به واقع الحال هناك، وتؤكده شهادات المفكرين وإعلامهم، الذي يمكن للمرء أن يلتقي به صباح مساء في عصر التواصل السريع.
ثم إن هذا النشاط المنشق عن مطالب الإيمان اندفع باتجاه إغراءات القوة والتسلط ونداء الأنانيات العرقية والدولية والمذهبية، ومضى أبعد من هذا باتجاه كل ما هو لا أخلاقي في السلوك البشري لكي يحوّل المنجزات والكشوف المعرفية إلى سلاح يُشهر بوجه الإنسان وليس لصالح الإنسان.
إن إنتاج القنابل الذرية والهيدروجينية والنيوترونية والأسلحة الجرثومية .. الخ واستعمالها في اللحظات الصعبة ـ كما حدث في هيروشيما وناغازاكي ـ ليؤشر بشكل واضح على الكارثة التي يمكن أن يُساق إليها الإنسان والبشرية إذا أُتيح للمعرفة أن تظل على جموحها، على خروجها عن مطالب الإيمان العليا، على عدم انضباطها بالقيم والموازين الإلهية العادلة التي تجعل القوة والحكمة ـ دوماً ـ في كفتي ميزان.
هذا إلى أن المعرفة المؤمنة، على خلاف المعرفة اللادينية أو الملحدة، تسعى لأن تمنح أكلها للناس كافة، لا تحكمها أنانية الحفاظ على السر، وحجب الاكتشاف ـ بدافع براغماتي ـ عن الآخرين. إن الإنسان، مطلق إنسان، هو المستفيد في نهاية الأمر من المعرفة المؤمنة، وبالمقابل فإن عشرات من الأمم والشعوب لم تحرم بالمعرفة اللادينية من حقها المشروع في الإفادة من ثمار هذه المعرفة فحسب، وإنما وُجّهت نتائجها وكشوفها إلى أسلحة فتاكة لتدمير هذه الجماعات واستعبادها والهيمنة على مقدراتها.
إن الدلالة المعاصرة والمستقبلية لمغزى الحضارة الإسلامية، كما تحققت في التاريخ، تتكشف أكثر فأكثر بالمضي في متابعة الخصائص التي أشرنا عليها في مقالين سابقين، والتي تُعدّ بوضعها في حالة تقابل مع خصائص الحضارات الأخرى، والغربية الراهنة منها على وجه الخصوص، إضافة، أو بعبارة أدق، تعديلاً ضرورياً لمسير هذه الحضارة؛ لأنها قديرة على تقديم البدائل المناسبة لحالات الخطأ والجنوح التي تعاني منها.
إن الخصوصية الإيمانية للحضارة الإسلامية ـ مثلاً ـ تقف بمواجهة التوجه المادي المتزايد للحضارات الأخرى، والتزامها يلجم تفلّتها الآخذ بالاتساع من منظومة القيم الخلقية، وواقعيتها تحد من شطط تنظيراتها الفكرية باتجاه طوباويات الحلم والخيال، وأصالتها تمنح المسار البشري طعماً جديداً متميزاً،وشموليتها، وقدرتها على موازنة الثنائيات ولمّها،
توقف اندفاع المعارف والثقافات الأخرى، وميلها إلى هذا الجانب أو ذاك على حساب الجوانب الأخرى التي قد لا تقل أهمية وإلحاحاً .. وإنسانيتها تتجاوز بها حواجز العرق واللون والجغرافيا والمذهب.. وميزتها التحريرية ستنقذ الإنسان في نهاية الأمر من كافة الضغوط والصنميّات التي أذلت عنقه وهبطت به درجات عن مستوى بشريته كمخلوق متفرد في هذا العالم وسيد على مخلوقاته وموجوداته.
وهكذا، ومن أجل توخي الإيجاز يمكن إحالة القارئ إلى منظومة الخصائص التي أشرنا عليها في مقالين سابقين لكي يتولى بنفسه مهمة المقارنة بين النمط الإسلامي والأنماط الأخرى للنشاط الحضاري؛ لكي يصل إلى ما تتضمنه نتائج المقارنة من مغزى يؤكد قيمة الدلالة المعاصرة والمستقبلية للحضارة الإسلامية في شبكة النشاط الحضاري للبشرية جميعاً.
والباحثون الغربيون أنفسهم انتبهوا إلى هذا، وقدموا شهاداتهم بهذا الخصوص، والتي تجيء كاعتراف حر مدعم بالقناعات العقلية، وموثّق بالرؤية المقارنة لما تتضمنه حضارة الإسلام من قيم وخصائص متميزة، وفعّالة، يمكن أن تمارس دورها في صياغة حاضر الإنسان ومستقبله.(24/374)
إن هذا الدين، كما يقول (بوازار)، رجل القانون الفرنسي المعاصر: "يعود إلى الظهور في العالم المعاصر بوصفه أحد الحلول للمشكلات التي يطرحها مصير الإنسان والمجتمع"(1)، ولطالما أعرب عن اقتناعه "بأن في وسع العالم الإسلامي ـ من بين عوالم أخرى ـ أن يقدم مشاركة أساسية في تكوين المجتمع الدولي المرتقب"(2) وأنه "يبدو أحد العوامل الممكنة الهامة في الإنسانية العالمية الحديثة .. وهو مستمر في البحث عن الأشكال الكفيلة بالتعبير بصورة ملائمة عن تطلعاته"(3). والمسلمون، كما يؤكد الرجل "لا يشكون على الإطلاق في أن التعاليم المنزلة والقيم المتراكمة عبر العصور كفيلة بتقديم حل لمعضلات العالم المعاصر"(4).
ولم يفت (بوازار) أن يشير إلى أن التقدم العلمي المادي لا يكفي وحده ما لم تضبطه القيم الخلقية، فتوجهه بالتالي لصالح الإنسان. ومن خلال هذه الرؤية الأخلاقية للنشاط المعرفي المادي يمكن للإسلام "أن يؤدي دوراً حقيقياً في تنظيم العالم المعاصر" عندما يتقدم إليه "بمفهومه السامي للقيم الخلقية"(5).
وأهمية المشاركة الإسلامية تبدو أيضاً في نظر (بوازار) في التوازن الذي يمنحه
الإسلام، بما أنه تعبير عن روح ديني، لمسيرة المجتمع البشري، بين التقدم المادي (التقني) وبين المطامح الروحية والإنسانية عامة .. لا سيما وأن "الانخراط في المجتمع التكنولوجي، والمواجهة بين الإسلام والثورة التقنية لا تدفع المسلم إلى إنكار موقفه الديني بل إلى تعميقه
أمام العالم وأمام الله، متوجباً عليه .. محاولة إدراك الإمكانيات بشكل أفضل في إطار إسلامي شامل.."(6).
إن (بوازار) يضع يده ها هنا على واحدة من أهم خصائص المنظور الإسلامي للنشاط الحضاري.. إنها معادلة التوازن الملح والمطلوب بين الديني والدنيوي، بين السماء والأرض، وبين الروح والجسد، فليس ثمة إيمان متحقق في واقع الحياة إن لم يعبر عن نفسه في إطار نشاط تتداخل فيه وتتوحد وتتناغم كافة الثنائيات. والمواجهة بين الإسلام والثورة التقنية بالتالي، ليست مواجهة أضداد متقابلة بل هي مقاربة واحتواء وتوظيف للقدرات والإمكانات التقنية من أجل تكوين حياة إسلامية أكثر أصالة وتقدماً. إن القناعة الدينية كما يستنتج (بوازار) "تفرض نفسها حكماً مطلقاً على كل المستويات، ولا يمكن بدونها، أو بالحري على النقيض منها، مواجهة أي تغيير اجتماعي ولا أي تجديد مادي"(7).
وهذا الارتباط المحتوم بين الدين والتكنولوجيا في المنظور الإسلامي لا يعني البتة أن الحضارة الإسلامية ستقود "تطورها داخل أنبيق" ، وبمعزل عن العالم، بل على العكس تماماً، فإن هذه الحضارة " المتسامحة والمنفتحة بشكل طبيعي .. تتطلع إلى العمل بصفة شريك فعّال في الحياة الدولية .."(8) ويكفي أن نتذكر الجنوح المادي الذي تعانيه حضارة الغرب، يكفي أن نفكر في احتمالاته المنذرة بالخطر، المتوعدة لأماني الإنسانية، وللإنسان ذاته، لكي نعرف أن دخول الإسلام إلى الساحة وإعادته الأمر إلى نصابه بتحقيق التوازن المطلوب، ليس مجرد مشاركة فعّالة، وإنما هو عملية إنقاذ للوضع البشري المنحرف عن الصراط.
وإذ يؤكد (بوازار) ما يقدمه القرآن الكريم في هذا السياق من "ثقة مطمئنة وحافز قوي في وقت معاً" فإنه يحذر من "أن إسلام المستقبل ودوره في العلاقات الدولية" لا تجيء به الأماني والأحلام وإنما هو "رهن بما يصنعه المسلمون أنفسهم"(9).
وما قاله (بوازار) عن احتمالات الدور التوازني للحضارة الإسلامية في مستقبل العالم، وما يمكن أن تفعله القاعدة الدينية لهذه الحضارة والتزاماتها القيمية في ضبط وتوجيه النشاط المعرفي لصالح الإنسان، يمكن أن نلحظه ـ كذلك ـ لدى ليوبولد فايس (محمد أسد) وبمزيد من التفاصيل والمقارنات؛ فهو يشير إلى أننا "قد نكون، نحن المحدثين، بحاجة إلى تلك الرسالة بأكثر مما احتاج إليها الناس في أيام محمد(. إنهم كانوا يعيشون في بيئة أبسط كثيراً من بيئتنا نحن، وكانت مشاكلهم ومصاعبهم أسهل حلاً وأيسر إلى حد كبير. لقد كان العالم الذي كنت أعيش أنا فيه ـ كل ذلك العالمـ يترنح بسبب من فقدان أي اتفاق على ما هو خير وما هو شر روحياً، وبالتالي اجتماعياً واقتصادياً أيضاً. إنني لم أكن أؤمن بأن الإنسان الفرد كان بحاجة إلى (الخلاص)، ولكنني كنت أؤمن فعلاً بأن المجتمع الحديث كان بحاجة إلى الخلاص. لقد شعرت أكثر من أي وقت مضى، بأن عصرنا هذا كان بحاجة إلى أساس أيديولوجي لمستوى اجتماعي جديد: بحاجة إلى إيمان يجعلنا نفهم بطلان الرقي المادي من أجل الرقي نفسه، ومع ذلك يعطي الحياة الدنيا حقها. إيمان يبين لنا كيف نقيم توازناً بين حاجاتنا الروحية والجسدية، وبذلك ينقذنا من الهلاك الذي نندفع إليه برعونة وتهور"(10).
إن القضية بإيجاز هي أن يكون للحياة البشرية معنى أكبر وأعمق من مجرد التكاثر(24/375)
بالأشياء، وأن على المسلمين إذا أرادوا ـ بحق ـ أن يقوموا بدور في المستقبل، ألاّ يسمحوا للأشياء بأن تجرهم بعيداً عن جذورهم الروحية وقيمهم الأخلاقية التي منحهم الإسلام إياها "فلو أنهم احتفظوا برباطة جأشهم وارتضوا الرقي وسيلة لا غاية في ذاتها، إذن لما استطاعوا أن يحتفظوا بحريتهم الباطنية فحسب، بل ربما استطاعوا أيضاً أن يعطوا إنسان الغرب سرّ طلاوة الحياة الضائع"(11).
لقد اندفعت الحضارة الغربية بعين واحدة، وبمرور الوقت أخذت تفقد قدرتها على إبصار كل ما هو روحي وأخلاقي، وبما أن هاتين القيمتين ترتبطان بالوجود البشري ارتباطاً صميماً وتميزانه عن بقية الخلائق والموجودات، فإن التقدم المادي الذي يمضي بعيداً عنهما لن يخدم الإنسان في نهاية الأمر، ولن يأمن من عواقب الاندفاع الذي لا تضبطه قيم ولا توجهه معايير ولسوف تكون النتائج في المستقبل أشد خطراً لأن التراكم المادي يتزايد بحسابات مذهلة لمتوالية هندسية ويبعد أكثر فأكثر عن أي كابح أخلاقي أو استبصار روحي لمغزى الحركة ومعناها الأخير. من ثم فإن أحداً لا يمكن أن يتهم مفكرا كـ (جورج سارتون)، غرق في دراسة تاريخ العلوم حتى شحمة أذنيه بالمبالغة وهو يحكم على "التقدم المادي الخالص" بأنه أمر "مدمر" وأنه "ليس تقدماً على الإطلاق بل تأخر أساسي" ذلك "أن التقدم الصحيح ـ ومعناه تحسين صحيح لأحوال الحياة ـ لا يمكن أن يُبنى على وثنية الآلات ولا على العتلات، ولكن يجب أن يقوم على الدين وعلى الفن، وفوق ذلك كله على العلم، على العلم الخالص، على محبة الله، على محبة الحقيقة، وعلى حب الجمال وحب العدل. وهذا يبدو لنا جلياً حينما نلقي نظرة واحدة إلى الوراء .. إن ما نراه واضحاً هناك يجب أن يكون واضحاً أيضاً حينما نمد نظرنا إلى الأمام فيهدي خطانا إلى المستقبل"(12).
والمدنية، كما يؤكد ( سارتون) "ليست مرضاً، ولكن من الممكن أن تنقلب شراً وفساداً"(13) وذلك بمجرد أن تفقد بطانتها الروحية وتتنازل عن ضوابطها الأخلاقية، فتغدو مجرد محاولة للتكاثر المحض لا هدف لها ولا مغزى. ثم إن المدنية ليست حكراً على بيئة دون أخرى، إنها بتعبير (سارتون) "ليست شرقية ولا غربية، وليس مكانها في واشنطن أكثر مما هو في بغداد، إنها يمكن أن تكون في كل مكان يكون فيه رجال صالحون ونساء صالحات يفهمونها، ويعرفون كيف يستفيدون منها من غير أن يسيئوا استعمالها. والشرق الأوسط كان مهد الثقافة، ومنه جاءت أسباب إنقاذ العالم في أثناء العصور الوسطى حينما بدأ الستار الحديدي في أوروبا يشطر العالم شطرين: الأرثوذكسي والكاثوليكي. وها نحن اليوم ننظر إلى ماضي الشرق الأوسط بعين من عرفان الجميل، ثم نرنو إلى مستقبله بعين من الأمل الحلو"(14) وليس ذلك بالأمر المستحيل كما قد يخيل للبعض فإن "شعوب الشرق الأوسط قد سبق لها أن قادت العالم في حقبتين طويلتين.. وليس ثمة ما يمنع تلك الشعوب من أن تقود العالم ثانية في المستقبل القريب أو البعيد"(15).
ولن تكون ممارسة الدور من خلال قدرات يتفوق فيها الغير بطبيعة الحال، إنما بالتحقق بشيء كبير لا يملكه (الآخر) أو يعرف عنه شيئاً، فإن الحضارة المادية لن تجعل الغرب يخلي الزمام لمن هم أقل شأناً في ميادينها كافة، ولكنها العقيدة التي تحتوي النشاط الحضاري وتمنح المسيرة البشرية المغزى والهدف .. تعيد إلى الغربيين أنفسهم ما فقدوه: "سر طلاوة الحياة الضائع" إذا استعملنا عبارة (ليوبولد فايس).
وتؤكد (جميلة قرار)، النمساوية التي اعتنقت الإسلام أن هذا الدين "هو في الحقيقة حركي" وأنه يستطيع "بفضل جهود المسلمين أن يشكل قوة ثورية تحرر الإنسان من العبودية للقوة، وخاصة القوة المدمرة المهلكة، وأن تقوده إلى التقدم البنّاء، وتمكّنه من تطوير قدراته وإمكاناته الإيجابية المختلفة"(16). وهي تدعو "المسلمين المستنيرين" إلى أن يبينوا لغير المسلمين "أولئك الذين يبحثون عن غايات جديدة وقيم لحياتهم، إن الإسلام هو نقطة البدء الجديدة أمام الإنسانية جمعاء"(17). وهذا لا يعني بالتأكيد أيما قدر من التنازل عن المكتسبات المادية، والمدنية عموماً، ذلك "أن الإسلام بصفته ديناً عالمياً وعقيدة كونية يعتبر مناسباً لكافة مراحل تطور الحياة الإنسانية في المستقبل. فهو ينسجم مع منجزات الإنسان الحديثة في كافة مجالات النشاط الإنساني"(18).
ويشير (كويلر يونغ) إلى الإسهام الفعال للثقافة الإسلامية "في الحضارة العالمية المعاصرة .. فليس من المعقول لثقافة حية كثقافة الإسلام.. ألاّ يكون لها تأثير بالفعل أو بالقوة "(19) في معطيات المعرفة الراهنة وتشكلها في المستقبل. هذه المشاركة التي يؤكدها (در منغم) بصيغة تحقيق للتواصل بين الغرب والشرق، وإرفاد لعالم المستقبل "بادخار العالم القديم"(20) ، ويراها (اتيين دينيه) تبشر "بمستقبل حافل بأعظم الآمال وأعلاها شأناً" وبإسهام حضاري فعّال، وبتكشف متزايد لنا الإسلام الحقيقي ..(21)(24/376)
أما المؤرخ البريطاني المعاصر (مونتغمري وات) فيؤمل بأن المسلمين سوف ينجحون، على الرغم من المصاعب "في جهدهم للتأثير على الرأي العام العالمي، على الأقل فيما يتعلق بالمبادئ الأخلاقية. وربما أمكنهم في ميدان الأفكار الدينية الأوسع أن يساعدوا على إغناء العالم؛ لأنهم احتفظوا بقوة كبرى في التعبير عن بعض الأفكار كحقيقة الله (سبحانه)، تلك الأفكار التي أُهملت ونُسيت في كثير من الطوائف والأديان الأخرى الموحدة "(22).
ونصل في نهاية المطاف إلى (غارودي)، فإن كتابه (وعود الإسلام) يُعدّ بملاحظات خصبة عن المشاركة العالمية للحضارة التي شكلها هذا الدين. إن عنوان الكتاب يحمل بعداً مستقبلياً، وبالتالي فإن مادته القيمة ستصب هناك لكي ترسم للإنسان المعاصر، الحائر،
الممزق، ما يمكن أن تقدمه له الخبرة الإسلامية.
تتحرك ملاحظات (غارودي) حول المشاركة الإسلامية على عدد من المحاور أهمها، ولا ريب: توازن الإسلام ووسطيته، قيمه الأخلاقية، ثم رؤيته الشمولية وقدرته الفذة على منح المغزى لمسيرة الحياة البشرية في هذا العالم.. "إن الإسلام يجد من جديد فرصة تاريخية لإظهار أن عقيدته وقصدياته هي إجابة على قلق عالم قاده النموذج الغربي للنمو إلى التفكك الاقتصادي والسياسي والأخلاقي، كما في أيام نشوئه ثم زمن انتشاره، إن الإسلام قدم جواباً على تفتت الإمبراطوريات"(23).
هناك البطانة أو القاعدة الأخلاقية ما يتيح للحضارة الإسلامية مشاركة أشد فعالية في مستقبل العالم الذي أفلتت من بين يديه مؤشرات وضوابط القيم، فاندفع، بما يشبه الجنون، مشدوداً إلى هدف واحد: المزيد من التكاثر بالأشياء، والمزيد من القوة، بغض النظر عن أي قدر من التساوق أو الانسجام بين هذين الهدفين وبين التزامات القيم الخلقية من أجل صالح الإنسان. إن هذه المشاركة الأخلاقية كما يلحظ (غارودي) ضرورية جداً لوقف الاندفاع المجنون وتجنيب البشرية "الهلاك المحتوم" الذي يسوق إليه "الضلال الغربي"(24).
ونحن نعرف جميعاً، انطلاقاً من هذه الرؤية، ما الذي فعله ويمكن أن يفعله العِلم الغربي المنفصل عن ضوابط القيم وذلك بتعبده للتكاثر والقوة، وما الذي فعله، ويمكن أن يفعله العلم الإسلامي المنضبط بالأخلاق وبالغايات الدينية في نهاية الأمر" لم نشدد على الوجوه التي لعب بها العلم الإسلامي باكتشافاته دور (الرائد) للعلم الغربي الحالي، وإنما على صفاته الخاصة في تبعيته وخضوعه للوسائل الإنسانية ذات الغايات الإلهية. في هذا المنظور، على القرن العشرين، والقرن الحادي والعشرين، أن يتعلما كثيراً من الإسلام "(25).
أيضا فإن الحضارة الإسلامية بتقديمها فكرة التسامي (الأخلاقي) للإنسان كواحدة من
أهم مرتكزات الإسلام العقدية، التسامي الذي يكون المؤمن فيه في حالة صيرورة متواصلة
نحو الأحسن والأعلى.. هذه الفكرة لهي واحدة من أهم ما يمكن أن يقدمه المسلمون "لخلق مستقبل إنساني في عالم جعل استبعاد السمو منه، وسيطرة نموذج جنوني من النمو.. لا يمكن أن يُعاش"(26).
أما الرؤية الشمولية للحضارة الإسلامية، والمغزى الذي تضفيه على الحياة البشرية، فتكاد تكون أهم إسهاماتها المقبلة، إذا ما تذكرنا كيف يتزايد الإحساس العالمي بالعبث واللا جدوى وكيف تفقد الحياة البشرية يوماً بعد يوم طعمها ومعناها، وكيف يتحوّل السعي المعرفي إلى نشاط تجريدي منفصل عن الإنسان، نقيض ـ أحياناً ـ لمطالبه ومطامحه.. وكيف تتفكك الوشائج بين أقطاب الكون وموجوداته، فيعيش الإنسان في عزلة مخيفة قد يكفي لتذكر مراراتها وأحزانها أن نلقي مجرد نظرة سريعة على آداب العصر وفنونه وفلسفاته "لقد فقد الإنسان الغربي كل وحدة في علاقاته مع الطبيعة والمجتمع والله. انفصل عن الطبيعة التي اعتقد أنه سيدها ومالكها.. ولم تساعد المسيحية الإنسان مع حذرها الأول بإزاء الطبيعة ومع تراجعاتها المتتالية، منذ عصر النهضة، أمام (علموية) تدعي الإجابة على جميع مشاكل الحياة، على الحفاظ على هذا البعد الكون ، على هذا الاتحاد الحميم لجميع الكائنات .. والإسلام عندما لا يكون قد أفسدته الرؤية الغربية المباشرة التي فرضها عليه الاستعمار، يستطيع أن يساعدنا على أن نعي هذه الوحدة التي هي عقيدته المركزية الأولى"(27).
وبإيجاز شديد فإن "عقيدة الإسلام وقصدياته" لهي الإجابة على قلق العالم الحديث الذي يصنعه ويقوده النموذج الغربي(28)، هذا النموذج الذي إن كان له أن يتباهى بما صنعته يداه فليس
له أن يشير إلاّ إلى العلم والتقنية اللتين بلغ بهماـ والحق يُقال ـ مرتقى صعباً.. ولكن حتى ها هنا، حيث لا يمكن للعلم أو التقنية أن تنفردا بمصير الإنسان بعيداً عن ارتباطاتها بفكرة ما، بفلسفة أو عقيدة تؤطر حركتهما، وتربطها بالإنسان نفسه، وتمنحها المعنى والهدف والمغزى،(24/377)
حتى ها هنا فإن الإسلام وحده يمكن أن يمنحنا الجواب.. إن غارودي يتساءل: "ماذا يستطيع الإسلام أن يقدم لنا ليعدنا للإجابة على المسؤوليات التي تفرضها قدرة العلم والتقنية على جميع البشر اليوم؟" وما يلبث أن يجيب: "إن المشكلة كونية، ولا يمكن للجواب إلاّ أن يكون على المستوى الكوني"(29).
إنها إذن "قضية مستقبلنا، قضية مستقبل جميع البشر" ومن ثم فإن (وعود الإسلام) ليس كتاباً في التاريخ، كما يؤكد صاحبه "لكنه اقتراب جديد من الإسلام، ومن وراء الإسلام كقوة حية ليس فحسب في ماضيه، وإنما في كل ما يستطيع أن يسهم به في ابتكار المستقبل"(30).
حقا إن (الإسلام) والحضارة التي تعبر عنه بالضرورة، ليحملان "بذور تغيير جذري على مستوى الإنسانية "(31).
(1) إنسانية الإسلام، ترجمة د. عفيف دمشقية، دار الآداب، بيروت ـ 1980 م، ص 431.
(2) المرجع نفسه، ص 439.
(3) المرجع نفسه، ص 387.
(4) المرجع نفسه، ص 330 ـ 331.
(5) المرجع نفسه، ص 369.
(6) المرجع نفسه، ص 387 ـ 388.
(7) المرجع نفسه، ص 388.
(8) المرجع نفسه، ص 388.
(9) المرجع نفسه، ص 389.
(10) المرجع نفسه، ص 323 ـ 324.
(11) المرجع نفسه، ص 376.
(12) الثقافة الغربية في رعاية الشرق الأوسط، تعريب د. عمر فروخ، مكتبة المعارف، بيروت ـ 1952 م، ص 72 ـ 73.
(13) المرجع نفسه، ص 74.
(14) المرجع نفسه، ص 74 ـ 75.
(15) المرجع نفسه، ص 79.
(16) عرفات كامل العشي، رجال ونساء أسلموا، دار القلم، الكويت ـ 1973 ـ 1983 م، الطبعة الثالثة، 4/ 108 ـ 109.
(17) المرجع نفسه، 4/ 109.
(18) المرجع نفسه، 4/ 108.
(19) الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة، تأليف جماعة من الباحثين، جمع وتقديم محمد خلف الله ، القاهرة ـ 1962 م، الطبعة الثانية، ص 255.
(20) حياة محمد، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب، القاهرة ـ 1949 م، الطبعة الثانية، ص 371 ـ 372.
(21) محمد رسول الله، بالاشتراك مع سليمان الجزائري، ترجمة د. عبد الحليم محمود ومحمد عبد الحليم محمود، الشركة العربية ، القاهرة ـ 1959 م، الطبعة الثالثة، ص 345 ـ 346.
(22) محمد في المدينة، تعريب شعبان بركات، المكتبة العربية، صيدا ـ بيروت ـ بدون تاريخ، ص 509.
(23) وعود الإسلام، ترجمة ذوقان قرقوط، الوطن العربي، القاهرة ـ بيروت ـ 1984 م، ص 208 ـ 209.
(24) د. محمود حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، سلسلة كتاب الأمة، الدوحة ـ 1404 هـ ، ص 144 ـ 145 (عن محاضرة ألقاها غارودي في جامعة قطر في كانون الثاني ـ 1983 م، بعنوان: الإسلام وأزمة الغرب).
(25) وعود الإسلام، ص 111.
(26) المرجع نفسه، ص 36.
(27) المرجع نفسه، ص 64.
(28) المرجع نفسه، ص 208 ـ 209.
(29) المرجع نفسه، ص 67.
(30) المرجع نفسه، ص 187.
(31) المرجع نفسه، ص 156.
=============(24/378)
(24/379)
جامعاتنا والتصنيف .. ربّ ضارة نافعة
سارة الراجحي 27/10/1427
18/11/2006
عرفت أوروبا الجامعات في القرون الوسطى، وكان ذلك نتيجة لعدة عوامل مهدت لها، منها الحاجة الملحة لتلبية متطلبات الحياة، والاحتكاك بالمسلمين والعرب، و ظهور المدن، والحركة المدرسية التي سبقتها.. وعلى الرغم من كون هذه الجامعات قد تولّدت عن مدارس تابعة للكاتدرائيات والأديرة، إلاّ أنّها استطاعت استيعاب العلوم الشائعة آنذاك، و نشر الثقافة والفكر والندوات والمحاضرات، و اقتحام السياسة واللاهوت، والتدخل في مهاجمة البابوية...
بل ويُرجع إليها كرأي علمي في الاختلافات.. ليس هذا فحسب بل إنها قد منحت طلابها امتيازات رجال الدين فأُعفوا من الخدمة العسكرية، وأُعفي أيضاَ الطلاب والأساتذة من الضرائب، وأغدقت عليها المنح، وخصت بعضها بأعضاء يمثلونها في المجالس النيابية للدولة.. منها جامعة اكسفورد و كامبردج وباريس.. فإذا كان ماسبق حالها في القرون الوسطى.. فلا غرابة فيما هي عليه الآن.. بل الغرابة تكمن في وجود جامعات دولة نفطية في آخر ركب جامعات العالم..!
إن نصيب الجامعات السعودية في التصنيف الأخير ( Webomet r ics r anking ofWo r ld (Unive r sities الذي كانت تتذيله مع دولتين - لديهما المسوّغات الكافية لذلك - مع التصنيفات السابقة كتصنيف(Shanghai Jiao Tong Unive r sity) ، ولأفضل (500) جامعة في العالم، و تقريرT Times Highe r Education Supplement) ) حول أفضل (200) جامعة لم يكن مفاجأة لدى الكثيرين؛ فمستوى جامعاتنا التي تئن من الهزال ومن القيود كان مصدر امتعاض لكثير ممن بين أروقتها بغض النظر عن هذه التصنيفات التي مهما شُكك في موضوعيتها ومصداقيتها إلاّ أنها تبقى قائمة على معايير ذات أهمية بمكان؛ بحيث لا يبقى مجال واسع للتشكيك، أو لنظرية المؤامرة.. كمعيار تقييم زملاء التخصص، و الجهات الموظفة لخريجي الجامعات، والطلبة الدوليين، و الإسهام البحثي للجامعة وقدرتها على استقطاب نخب الباحثين.. فأين جامعاتنا من هذه المعايير مثلاً..؟ قد نتفهم صعوبة بعض المعايير كأحد معايير (شانغهاي جياو تونغ) الذي يرصد 30% من الدرجات للجامعة التي ينال أحد منسوبيها أو خريجيها على جائزة نوبل.. لكننا نتساءل عن المعايير التي من المفترض أن تكون عفوية في أي بناء يُطلق عليه "جامعة.."!
وبعيداً عن تلك التصنيفات ومعاييرها.. فإن الجامعات بشكل عام تُناط بها مسؤوليات أبرزها: نشر العلم عن طريق إعداد الكوادر، وتنمية العلم وتطويره عن طريق البحث العلمي، وتوظيف العلم عن طريق الفاعلية في المجتمع وخدمته.. وإذا ما نظرنا إلى جامعاتنا فسنجد أن هناك خللاً كبيراً في كل ما سبق.. فمثلاً نشر العلم يُعدّ الهدف الأساسي لدينا عادة، في حين تعد الكثير من الجامعات الغربية أن تطوير العلم وتغييره هو الهدف الأساسي.. وإذا ما تأملنا هذه العلاقة فسنجد أن البحث وإن كان يستند إلى العلم، إلاّ أنه في ذات الوقت سيؤدي إلى علم، أما الاكتفاء بالعلم السابق فمعرض للوهن والجمود واجترار إنتاج الماضي، و بالتالي الحاجة إلى التطفل على موائد الآخرين بسبب "أنيميا" الإنتاج والإبداع..!
إن الثروة العلمية التي توصّل لها العالم الآن جاءت عن طريق البحث العلمي، و هو أهم مقياس لدور الجامعة الحيوي، كما أنه مرتبط كثيراً بسمعتها، وقد تنامى الاهتمام به إلى درجة أن بعض الجامعات الأمريكية اتجهت إلى تفضيله على النشاط التعليمي التقليدي.. بينما البحث العلمي في جامعاتنا يعاني من ضعف الدعم اللوجستي المتمثل في قواعد البيانات، ودعم البيانات، مع قبضة البيروقراطية المحكمة، و قلة الإمكانيات والاعتمادات المالية المخصصة له، وضعف القناعة بأهميته من قبل الجامعات ذاتها قبل قطاعات المجتمع الأخرى، حتى غدا غالباً وسيلة لنيل الدرجات العلمية، مما أدى إلى التشابه والتكرار و الاجترار.. وهذا الواقع المأزوم يفسر لنا سبب ضعف إنتاجية مراكز البحث العلمي في جامعاتنا كماً وكيفاً، و المقدرة بـ(75) مركزاً بحثياً كان إنتاجها خلال أربعة أعوام من 1999-2003 ما يقارب (1650) بحثاً فقط - بحسب موقع مشروع آفاق- و بحسبة بسيطة جداً فإن عدد البحوث في العام الواحد (412) بحثاً فقط لأكثر من (17465) عضو تدريس، وبحسبة بسيطة أيضاً فإن هذا يعني أن من بين كل (42) عضواً من هيئة التدريس عضو واحد فقط هو من يقدم بحثا.. !
ثم نتساءل: أين جامعاتنا ..؟!(24/380)
جامعاتنا التي تعاني أيضاً من الغياب الاجتماعي، والقدرة على التأثير.. على الرغم من وجود النخبة فيها، فلا أثر رسمياً أو حتى شعبياً يُذكر لأي جامعة على المستوى المحلي، فضلاً عن مستوى المجتمع العربي المسلم.. بينما في دول أخرى نجد أن الجامعات لها ثقلها في بعض القضايا.. بل ولها مساهمات خيرية في المجتمع تمثل توظيف العلم.. وقد نُصاب بشيء من الخيبة إذا عرفنا أن الجامعات الإسرائيلية الحديثة النشأة، و التي احتلت مراكز متقدمة، لها جهود ثقافية واضحة كالتي تهدف إلى التطبيع الثقافي مع العرب، وقبلها الجامعات الأوروبية التي خصصت برامج لدراسة مجتمعاتنا، وترجمة تراثنا، و تبنت "الاستشراق" الذي كان كثير منه بهدف التشويه وشن الحملات المعادية لثقافتنا.. .. فأين دور جامعاتنا التي لا تقبل إلا النسب المئوية المرتفعة، والتي رفضت بعضها حتى التسعينية منها.. وما هي جهودها الواضحة ومشاركاتها الواعية تجاه المستجدات و القضايا المعاصرة؟!
نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الثقافة العلمية السائدة لدينا، فإن من شأنها تحديد مسار وطبيعة أي عملية تعليمية وتربوية، فالثقافة العلمية السليمة الإيجابية تستحث البحث العلمي، وتشجع الابتكار والإبداع، و تعزز توظيف العلم في المجتمع، بينما الثقافة العلمية المشوّهة تحيد بجامعاتنا عن طريقها المأمول، وتمنعها من إنجاز مسؤولياتها ومهماتها على الوجه اللائق، وتحرمها من دورها الاجتماعي.. ومن أبرز الأمثلة على هذا الثقافة السلبية: فكرة متجذّرة لدى كثير من الطلبة والطالبات، وهي أن الجامعات ليست إلا أداة لشهادة يهشون بها حوائج الزمن، وبالتالي لا قيمة لإتقان فهم العلم وتوظيفه أو البحث العلمي، فما يهم حقيقة هو المسجل رسمياً نهاية الفصل من علامات.. وحتى أولئك الطلبة أو الطالبات الذي تمكنوا من تجذير الثقافة العلمية المحكمة بدواخلهم، يعانون من عدم توفر المعطيات التي تعينهم على المضي قدماً نحو الإبداع، كالمختبرات اللازمة، و مراكز البحث، وتوفر المراجع العلمية اللازمة.. لا سيما وأن بعض فروع الجامعات، وجل الكليات تكون مكتباتها مفتوحة في أوقات معينة، تتزامن كثيراً مع أوقات المحاضرات.. وهنا لا يفوتني أن أُذكّر بمعاناة طلبة وطالبات المدن الصغيرة والمحافظات، التي ربما توضع في قائمة خاصة بجامعات وكليات كوكب المريخ.. !
إن على جامعاتنا أن تقود حركات تغيير وتصحيح للثقافة العلمية، وأن تقوم بدور ثقافي جدّي عن طريق تعزيز العلاقات بين الثقافة والعلم بمختلف مجالاته، والإنماء الثقافي الذي يتخلص من المفاهيم السلبية، ويشكل المفاهيم الإيجابية على الأقل على مستوى حرم الجامعة، حتى يكون مركز إشعاع لما حوله.. فإذا كان الضعف ظاهرة عامة لدينا، والتخلّف ملمح في كثير من مناحي حياتنا، نتيجة عوامل متراكمة ومتداخلة، إلاّ أن الجامعات ليست معفية من مسؤولية معالجة ذلك، وقبله الإسهام فيه، ذلك بصفتها معاقل العلم، و مخرجة حامليه، ومحضن الشباب عماد أي مجتمع و أمة.. و أيضاً عادة ما تكون مناصب القيادة تحت من تخرّج من نفس الجامعات، وهذا يعني أن هناك حلقة مفرغة تحتاج إلى الكسر.. والتي من أسبابها الميل إلى إبقاء كل شيء على حاله والتهيب من التجديد من أولئك الذين رضوا بالتأخر، وباتوا جزءاً منه.. وقبل ذلك ضعف إدراك أهمية دور الجامعات الحقيقي والاهتمام بمسألة الكم لا الكيف.. نعم هناك مخلصون، ومبدعون، فضلهم على الجامعة أكبر من فضلها عليهم، وهناك عطاءات جميلة، ولكنها تبقى غالباً جهوداً فردية أو محصورة تحتاج إلى برامج متكاملة تقوم بتنظيمها وإشاعتها وتنويعها ..
فإذا لم تستطع الجامعات التخلص من العوائق الخارجية فليس أقل من مشاريع الإصلاح الداخلية، وإلاّ فليس من المنطقي أن تتحمل وزارة الخدمة المدنية أو وزارة المالية تلك الممارسات الخاطئة المنتشرة كالتي - مثلاً - تحرم الطلاب من ممارسة حقهم في حرية النقاش والتعبير عن الرأي، وتنظر إلى المحاور منهم ككائن ينشط هوامات القلق والإزعاج.. خاصة أن هذه المرحلة يُفترض أن يُشكل فيها الشخص آراءه من منبع ذاته لا من سُقيا غيره.. مما أدى إلى أن تحولت كثير من العقليات إلى نسق من قوالب ذات نمط واحد تتسم أحياناً بالخواء أو التصلب الفكري.. لاسيما وأن القدرات العقلية تركد وتأسن وتفقد القدرة على التطور، ما لم تكن في وضعيات مخالفة و مواجهة مع مستويات معرفية وفكرية مختلفة، تشكل مجالاً خصباً للاحتكاك والتكامل، وتعلّمهم مبدأ الحوار في الحياة عامة، بدلاً من تراكمات أجيال لا تحسن التعامل مع رأيها و الرأي الآخر..(24/381)
كما أنه ليس من المنطقي أن تُعزى أسباب التخلف إلى ضعف التمويل، بينما هناك دول أضعف اقتصاداً بمراحل، لكنها سبقتنا في التعليم العالي بمراحل.. نعم الإمكانيات المادية جزء مهم لا ينبغي إغفاله، لكن حسن الإدارة والتخطيط هو القاعدة التي لو لم تُحكم لكان ما يُبذل هدراً ليس إلاّ.. مع ضرورة الالتفات إلى مطالب أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، وتفهم معاناتهم والتخفيف من مثبطات إبداعاتهم كانخفاض الأجور، وتدني فرص المشاركة في المؤتمرات، وعدم وجود تأمينات صحية وسكنية، وعدم جزل مكافآت الأبحاث العلمية في حين أن زملاءهم في الجامعات المتقدمة ينالون مردوداً اقتصادياً جيداً، وتبحث عنهم الشركات وتتنافس في احتضانهم.. مما جعل الجامعات بيئة غير خصبة للطموح والروح الإبداعية، فعزف الكثير منهم عن البحوث والمشاريع إلى كتابة المقالات في الجرائد، و منتديات الإنترنت بأسماء مستعارة ..
أخيراً نقول: رب ضارة نافعة، فلربما كانت التصنيفات سبب وقفة صارمة لتحسين الأوضاع، ووضع الخطط اللازمة للّحاق بركب العالم، وحجز مقاعد معقولة بدلاً من (2998) .. فعلى وزارة التعليم العالي والجامعات إعادة النظر في كل ما سبق- وغيره بالتأكيد- ومواجهة الواقع المُخجل بدلاً من إضاعة الوقت في محاولات التبرير التي لن تصنع مجداً.
==========(24/382)
(24/383)
الإسلام الفرنسي المُتخيّل
الرباط ـ إدريس الكنبوري 11/4/1428
28/04/2007
المؤلف: توماس ديلتامب
الناشر: منشورات لا ديكوفيرت. باريس.
الطبعة الأولى: ديسمبر 2005
عدد الصفحات: 381 من القطع الكبير.
ـ الإعلام الفرنسي أطلق على الخميني لقب"بابا الإسلام".
ـ كاتب فرنسي مخوفاً من المهاجرين المسلمين: هل سنبقى فرنسيين بعد(30)عاماً؟
ـ دخول فرنسيين في الإسلام أثار مخاوف من"غزو" إسلامي لفرنسا في الثمانينيات.
ـ صحافي جزائري يلفق التحقيقات عن الإسلاميين في فرنسا دفاعاً عن الجيش.
ـ التغطية الإعلامية للإسلام وقضايا المسلمين في فرنسا لا تزال تهيمن عليها العقلية الاستعمارية.
ـ لا فرق بين اليسار واليمين في فرنسا عندما يتعلق الأمر بالإسلام.
يُعدّ هذا الكتاب الذي ألفه الكاتب والصحافي الفرنسي (توماس ديلتامب) الأول من نوعه في المكتبة الفرنسية حول صورة الإسلام في الميديا (وسائل الإعلام) الفرنسية طيلة ثلاثين عاماً، تتبع خلالها المؤلف أهم المحطات التي طبعت نسج وتطور وبناء هذه الصورة في وسائل الإعلام الفرنسية المرئية والمسموعة والمكتوبة، ومن تم ثم في المتخيل الفرنسي، ليخلص إلى نتيجة ـ يسجلها منذ المقدمة ـ تقول بأن الصورة التي رسخت في العقل الفرنسي عن الإسلام والمسلمين ليست هي الصورة الحقيقية، وإنما الصورة التي أراد الإعلام أن يرسخها في أذهان الجمهور الفرنسي.
الكتاب استُقبل استقبالاً جيداً في أوساط المهاجرين العرب والمسلمين في فرنسا، وحظي باهتمام كبير في المغرب والجزائر اللتين تتوفران على نسبة هجرة كبيرة ينتمي إليهما معظم المهاجرين في المجتمع الفرنسي. ولا شك أن صدوره في هذا التوقيت الذي يُثار فيه موضوع المشاركة السياسية للمهاجرين في الانتخابات الفرنسية المقبلة، وفي سياق الجدل الدائر حالياً في فرنسا حول الهجرة القادمة من العالم العربي ومن المغرب العربي بالتحديد، ومضاعفات وذيول انتفاضة الضواحي الباريسية في العام الماضي، سوف يزيد من أهمية الكتاب في التعرف على كيفية صناعة صورة الإسلام في فرنسا، والطرق الخفية التي تتم بها.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام كبرى، يرى الكاتب أنها المحطات الثلاث الرئيسة التي مرت منها بها صناعة صورة الإسلام في الإعلام الفرنسي: الفصل الأول بعنوان"أسلمة الرؤى"، ويمتد من نهاية السبعينيات من القرن الماضي مع وقيام الثورة الإيرانية إلى 1989. وقضية "التشادور" أي اللباس الشرعي للمرأة، والفصل الثاني بعنوان"ضبط الأقلية المسلمة"، ويمتد من عام 1990 مع أحداث الجزائر، وغزو العراق للكويت إلى عام 2000، أما الفصل الثالث الذي حمل عنوان "تطويق العدو غير المرئي" فيمتد من تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 إلى العام 2005، وجاءت الخاتمة تحت عنوان "الإسلام المتخيّل والقطيعة الاستعمارية".
في المقدمة التي حملت عنوان "الجمهورية والتلفاز و(مسلموهما)" يتساءل المؤلف: عن أي إسلام نتحدث؟ ويبين أن صورة الإسلام في فرنسا لم تكن معروفة جيدا قبل نشأة التلفاز، لكن هذا الأخير لم يصبح جزءاً من الحياة العائلية في المجتمع الفرنسي إلاّ في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ففي العام 1960 كان هناك 13% من الفرنسيين فقط يملكون جهاز تلفاز، وفي العام 1975 ارتفعت هذه النسبة إلى 84%. لكن في هذه الفترة لم يتم التعرف على صورة المسلمين والإسلام وإنما بدرجة أولى على الهجرة والمهاجرين بشكل أساسي، وإن ظلت صورة الجزائريين شائعة بين الفرنسيين وترتبط لديهم بالعرب والمسلمين، لكن بفضل التلفاز بات الفرنسيون يعرفون أن المهاجرين هم"الآخرون"، وأن الفرنسيين يختلفون عنهم.
ويقول الكاتب: إنه "لكي ندرس العلاقة بين المسلمين والتلفاز يجب أن نتحرر من النظرة التي يريد الإعلام أن ينقلها إلينا عن الإسلام"، داعياً إلى اتخاذ مسافة ضرورية بين ما يقدمه هذا الإعلام وبين الصورة الحقيقية التي نريد التعرف إليها. ويشير الكاتب أيضاً إلى أن الإعلام الفرنسي كان دائماً يستعمل مفردات وكلمات عن الإسلام والمسلمين توجد التشوش والارتباك لدى الجمهور أكثر مما تعمل على توضيح الصورة لديه، مثال ذلك إطلاق كلمة"مسلم" على الشخص الذي ينضبط بضوابط الإسلام السلوكية والتعبدية، وعلى الشخص المنحدر من بلد إسلامي، حتى وإن لم يكن ينضبط بتلك الضوابط، مما يؤدي بالمواطن الفرنسي ـ حسب المؤلف ـ إلى التساؤل: ما هو الإسلام بالفعل؟ ومن هو المسلم حقا؟
إن الإسلام الفرنسي، بوصفه"مادة إعلامية"، قد كان دائماً ينظر إليه من خلال أحداث غبر مرتبطة بفرنسا نفسها، أي بقضايا لا تهم المواطن الفرنسي، ولا تتعلق بالمسلم الذي يعيش في فرنسا، مثل الثورة الإيرانية أو حرب العراق أو تفجيرات نيويورك وواشنطن أو غيرها من الأحداث والوقائع الدولية خارج المسرح الفرنسي، ومن وجهة نظر المؤلف فإن هذه الإستراتيجية الإعلامية معروفة الأهداف؛ إذ تحاول ترويج مقولة: إن"المسلمين كلهم سواء"، سواء في فرنسا أو خارجها، وبالتالي فإن ما حصل بعيداً عن فرنسا يمكن أن يحدث فيها.
أسلمة الرؤى(1978- 1989)(24/384)
حتى بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي كان الإسلام بالنسبة لفرنسا"ديناً غريباً"، لكن الثورة الإيرانية التي حصلت العام 1979 غيرت كل شيء فأصبح الإسلام منذ تلك اللحظة في قلب الأحداث المهمة بالنسبة للإعلام الفرنسي، بل دخل موضوع الإسلام إلى النقاشات العائلية في البيوت، حيث سمحت تلك الثورة ـ كما يوضح المؤلف ـ ببروز مصطلحات كانت مجهولة من قبل لدى الفرنسيين مثل:
"السنة" و"الشيعة" والحجاب" و"التشادور"و"الشريعة" و"آية الله" و"الفقيه".
ويرى المؤلف أن تلك المرحلة كانت فاصلاً عما قبلها في تصور الفرنسيين للإسلام، إذ من قبل كان الإسلام مرتبطاً بمجموعة من"الكليشيهات" أو التصورات الجاهزة والمعلبة التي كرسها المستشرقون عن العالم الشرقي "الغارق في التخلف والجهل والمطبوع بالحريم" وتعدد الزوجات والجهاد ضد المسيحيين الكفار وغرائب كتاب"ألف ليلة وليلة"، لتبدأ صورة أخرى جديدة أقرب إلى الواقع. وعلى الرغم من حصول الثورة الإيرانية ظل الإعلام الفرنسي طيلة تلك الفترة يدير ظهره لها خلال ذلك العام إلى أن غادر الشاه إيران، فانكب الإعلام الفرنسي على تقديم تحاليل وتعليقات حول الإسلام والمسلمين, وظهرت أسماء كانت مغمورة من قبل أمثال المستشرقين الفرنسيين (ماكسيم رودنسون) و(جاك بيرك).
ويشير المؤلف إلى أن الإعلام الفرنسي والخبراء الذين كانوا يقومون بالتعليق على الثورة الإيرانية والدين الإسلامي لم يكونوا يفهمون جيداً حقيقة الإسلام، فبسبب تزامن ثورة الخميني مع انتخاب البابا جان بول الثاني في سبتمبر 1978، أطلق هؤلاء لقب"بابا الإسلام"على الخميني؛ إذ حاولوا أن يعكسوا ما يحصل في المسيحية على ما حصل في إيران، وزاد من ذلك أن عودة الخميني إلى إيران واستقباله بالهتافات تزامنت مع زيارة البابا في نفس العام إلى المكسيك واستقباله من طرف الجماهير، مما كرس تلك الصورة.
وقد دفع حادث السفارة الأمريكية في طهران المحللين الفرنسيين إلى ربط الإسلام بالحرب ضد الغربيين، حيث خصصت مجلة(لونوفيل أوبسرفاتور) عدداً خاصاً في تلك السنة للحادث عنونته بـ"الإسلام:أمريكا محاصرة"، أما (الإكسبريس) فخصصت غلافها للموضوع بعنوان"الإسلام:الحرب"، ويعلق الكاتب على ذلك قائلاً :"من دون أن يأخذوا بعين الاعتبار أن الإسلام ليس سوى ما يريدون تصويره وما يراد إبرازه، كان هؤلاء المحللون والمعلقون يبدون وكأنهم مقتنعون بأنه يمكنهم معرفة حقيقة الإسلام".
لقد تزامنت هذه المرحلة في فرنسا مع بروز ظاهرة الهجرة من بلدان المغرب العربي بالخصوص التي كانت محتلة سابقاً من قبل باريس، ومع ظهور موضوع الإسلام كواحدة من القضايا المهمة في الإعلام، صارت قضية الهجرة لا تنفصل في أذهان الفرنسيين عنه، وسرعان ما أصبح التركيز يجري على المهاجيرين القادمين من المنطقة المغاربية فقط وليس على المهاجرين الآخرين القادمين من إسبانيا وإيطاليا وبولونيا وغيرها من البلدان الأوروبية، وبات يُنظر إليهم كتهديد للمجتمع الفرنسي بسبب ديانتهم الإسلامية. وقد احتل الجزائريون الصدارة بسبب هذا الاهتمام، نظراً للارتباط الطويل بين فرنسا والجزائر طيلة مرحلة الاستعمار الذي دام أزيد من قرن، فانبعث موضوع الحرب الجزائرية الذي كان حتى ذلك الوقت موضوعاً منسياً أو مسكوتاً عنه، وأنشأ الإعلام الفرنسي نوعاً من الترابط بين موضوع الهجرة وحرب الجزائر.
ويثير المؤلف نقطة مهمة في هذا الفصل، وهي أن الفرنسيين اكتشفوا هويتهم الخاصة والمتميزة ليس بالنظر إلى تاريخهم بل بالنظر إلى المهاجرين الآخرين القادمين من بلدان العام العربي، فقضية الهجرة جعلت الجميع يفتح نقاشاً عمومياً حول"الهوية"الفرنسية والطابع المسيحي لها، خاصة بعدما ظهرت قضية "الإدماج" للمهاجرين في المجتمع الفرنسي، حيث بدأ البعض يدق ناقوس الخطر من خطورة إذابة الهوية الفرنسية في هويات المهاجرين الأجانب، وتساءل أحد الكتاب ما إن كان الفرنسيون سيظلون فرنسيين خلال الثلاثين عاما المقبلة.
ركز الإعلام الفرنسي في هذه المراحل على عدة قضايا تتعلق بالإسلام والمسلمين والغرب، من بينها مواضيع الحرية الغربية مقابل الاستبداد في العالم العربي والإسلامي، وحرية المرأة في فرنسا مقابل خضوعها للزوج في العالم العربي، والحداثة مقابل التخلف، والديموقراطية مقابل سيطرة التقاليد الدينية، لكن المؤلف الذي ينتقد تلك الصور النمطية عن الإسلام يقول بأنه"يمكننا أن نستغرب من الحماسة الكبيرة التي كان يثير بها الصحافيون الفرنسيون قضايا أكثر حساسية مثل هذه، وميلهم إلى التقليل من أهمية أي شيء لا يساير رغبتهم في وضعه أمام مرآة الغرب، والمقابلة بين إسلام يُقال عنه إنه مختلف وظلامي وغريب هو بالضرورة حداثي ومتحرر".(24/385)
لقد قاد الانفتاح على الإسلام نسبياً في المجتمع الفرنسي ورواج الحديث عنه في الإعلام والأوساط العائلية عدداً من الفرنسيين إلى اختيار الدخول في الإسلام خلال مرحلة الثمانينات، مثل الفيلسوف المعروف روجيه غارودي والكاتبة (إيفا دي فيتراي) والفنانين (موريس بيجات) و(كات استيفنس) وهو يوسف إسلام، وقد أكدت تلك الحالات للجميع أن الإسلام لم يعد موضوعاً غريباًً عن المجتمع الفرنسي بل دخل في عمقه وأصبح جزءاً منه؛ إذ دخل في الإسلام حتى العام 1986 أزيد من مائة ألف فرنسي من جميع الأوساط والفئات الاجتماعية، بينما ضاعفت القناة التلفازية الفرنسية الثانية هذا الرقم عام 1988. إثر ذلك أخذ الإعلام الفرنسي يثير المخاوف من "غزو" فرنسا من طرف المسلمين الوافدين والمسلمين الجدد، وظهر نقاش جديد موضوعه:هل الإسلام جيد أم لا؟ هل الإسلام أفضل من المسيحية؟
ويعتبر المؤلف أن قضية الكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي صاحب"آيات شيطانية" كانت حادثاً فاصلاً في حياة مسلمي فرنسا، وفي طريقة معالجة الإعلام الفرنسي لموضوع الإسلام، فعندما أثيرت القضية عام 1989 بعد فتوى الخميني ضد الكاتب البريطاني خرج مسلمو فرنسا في تظاهرات في الشارع منددة برواية رشدي، وقد اختلفت معالجة الإعلام الفرنسي لتلك التظاهرات، بعضهم اعتبرها "تظاهرة إسلامية"، وبعضهم وصفها بـ"التظاهرة المتطرفة"، والبعض وصفها بالإرهابية، كما اختفلت طريقة تغطية صور التظاهرات من قناة لأخرى، حيث ركز بعضها على مشاهد النساء والفتيات اللواتي تضعن الحجاب، بينما ركز بعضها الآخر على جلابيب الرجال ولحاهم، دون النفاذ إلى عمق المشكلة.
وقبل أن ينهي الكاتب هذا الفصل يتطرق لقضية الحجاب في فرنسا التي برزت عام 1989 هي الأخرى لتشكل بداية الاحتكاك المباشر للفرنسيين بالإسلام في الشارع والمدرسة والجامعة. يوضح الكاتب هنا أن الإعلام الفرنسي كان لديه خلط بين كلمة"التشادور"الإيرانية بسبب التركيز على الثورة الإيرانية، وبين"الحجاب" في المجتمعات السنية، كما أن البعض كان يطلق عليه اسم"اللباس الإسلامي"، والبعض اسم"اللباس القرآني". وقد أثيرت هذه القضية في أكتوبر 1989 عندما منعت ثلاث فتيات مسلمات من دخول إحدى المدارس، في سابقة أولى، فانتقل النقاش إلى البرلمان الفرنسي ووسائل الإعلام.
ضبط الأقلية المسلمة(1990-2000)
خلال هذه المرحلة ـ يقول المؤلف ـ تراجعت صورة إيران كممثل للإسلام لتحل محلها عراق صدام حسين أثناء غزوه للعراق للكويت ، والجزائر التي ظهرت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأصبح الإسلام يجسد في الذهنية الفرنسية ووسائل الإعلام"العدو" المضاد للغرب. لقد كانت الحالة الجزائرية أكثر تأثيراً في فرنسا من إيران التي لم تكن العلاقات معها قوية بما يكفي، ذلك أن الجزائر ذات ارتباط كبير بماضي فرنسا الاستعماري في شمال إفريقية، وهناك علاقات سياسية واقتصادية ولغوية متشابكة معها، جعلت التركيز يتم بشكل أكبر عليها، وقد حاول الإعلام الفرنسي أن يصور ما حصل في الكويت وفي الجزائر بأنه انعطاف تاريخي كبير في العالم العربي، وبداية بروز الإسلام على المسرح الدولي، على الرغم من أن صدام حسين كان دائماً في نظر الفرنسيين يمثل الحاكم العربي العلماني المعادي للإسلاميين، و"صديق فرنسا"الدائم. ويصف الكاتب التناول الإعلامي للإسلام في هذه المرحلة بكونه كان تناولاً قاصراً ومتحيزاً، ويقول بأن تلك المرحلة"كانت مرحة التوظيف الإعلامي والخلط المتعمد على جميع المستويات".
ويروي المؤلف أن الإعلام الفرنسي، ومن أجل محاولة تفسير الجبهة الإسلامية للإنقاذ للفرنسيين، رجع إلى التصورات الاستشراقية الأولى عن الإسلام والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وقضية المرأة"المحجبة"و"المقموعة" و" المضطهدة " في العالم الإسلامي، وفي هذه المرحلة عادت بعض الأسماء المهتمة بالإسلام في الغرب للظهور على الواجهة الإعلامية، أبرزهم (برنارد لويس) الأمريكي؛ إذ تم بعث بعض كتاباته الخاصة بالموضوع، خصوصاً ما كتبه عام 1964 عندما وضع مصطلح"صدام الحضارات"لأول مرة، وراج في الإعلام الفرنسي أن الفجوة بين الغرب والإسلام ماضية في الاتساع أكثر فأكثر بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.(24/386)
في بداية التسعينيات أيضاً عادت قضية الهجرة لتحتل الواجهة الإعلامية، لكن بشكل مختلف عن المرحلة السابقة، حيث ظهرت عبارة"انتفاضة الضواحي" لتوصيف حالة المهاجرين القادمين من شمال إفريقية الذين يقيمون في أحياء شعبية تنعدم فيها شروط الحياة الكريمة، وصار الإعلام الفرنسي يسلط الضوء أكثر على هذه الأحياء واصفاً إياها بـ"الغيتوهات" و"المناطق الخارجة عن القانون"، وصار يطلق على ساكنيها كلمات مثل"المسلمون"، "الأجانب"، "المؤمنون"، "المغاربيون" و"البور"(المهاجرون المغاربيون المولودون في فرنسا)، وقد تعبأت وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة لمتابعة هذه القضية، ونظمت في القنوات التلفازية جلسات حوارية بعضها كان موضوعه: هل ينبغي على المسلمين الفرنسيين التخلي عن الإسلام من أجل اندماج أفضل وضبط أحسن للإسلام في فرنسا؟ ويقول الكاتب: إن المسلمين في فرنسا وجدوا أنفسهم مضيقاً عليهم الخناق بسبب هذه المعالجة الإعلامية التي حاصرتهم.
لكن القضية الجزائرية تطورت بشكل مثير خلال العام 1992 بعدما انقلب الجيش الجزائري على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في البلديات، حيث أصبح هناك تخوف من الانعكاسات السلبية لذلك التحول على فرنسا والمهاجرين المسلمين فيها. ويرى الكاتب هنا أن ما تحكم في الصحافيين والإعلاميين الفرنسيين هو تلك الصور النمطية القديمة الموروثة عن الاستعمار الفرنسي لشمال إفريقية، بعيداً عن الموضوعية والعقلانية، حيث في الغالب كان يتم التركيز على بعض الحوادث العرضية والصور والمشاهد المعزولة لتقديمها وكأنها تمثل الإسلام أو المسلمين، مثل العراك بين جزائريين في الشارع، أو ارتداء سيدة جزائرية أو عربية للحجاب، أو مشهد شخص ملتحٍ يحمل بندقية، ولكي تكتمل الصورة في الذهنية الفرنسية، أطلق الإعلاميون والصحافيون على ما يحصل في الجزائر اسم"حرب الجزائر الثانية"، لمقارنتها بالحرب الجزائرية الأولى في الخمسينات من القرن الماضي ضد الوجود الفرنسي.
وقد شهد شه غشت شهر أغسطس من العام 1994 حادثاً بارزاً تمثل في اغتيال ثلاثة دركيين فرنسيين واثنين من مستخدمي القنصلية الفرنسية في الجزائر، ونُسب الحادث إلى عناصر من"الجيش الإسلامي للإنقاذ"، لكن فرنسا لم تتحرك لإجراء تحقيق في القضية؛ إذ حسب كاتبين فرنسيين في كتاب مشترك لهما عن العلاقات الجزائرية ـ الفرنسية فإن تلك الجريمة قام بها الجيش الجزائري بهدف توريط فرنسا مباشرة في الحرب ضد الجبهة الإسلامية وضمان مساندتها. لكن إثر ذلك الحادث شرع وزير الداخلية آنذاك (شارل باسكوا) في شن حرب على الجمعيات الإسلامية التي يشرف عليها مسلمون وجزائريون، بدعوى أنها تعتبر"طابوراً خامسا" للإسلاميين الجزائريين الراديكاليين، وفتح الإعلام صفحاته وبرامجه (لباسكوا) وأصحاب هذا الرأي، وصار هناك تطابق تام بين الإسلام كدين والإسلاميين، فكل مسلم أصبح مشكوكاً في ولائه للإسلاميين الحركيين.
لكن تفجيرات صيف 1995 باريس واختطاف طائرة "الإيرباس" أحدثت تحولاً جديداً في التصورات عن الإسلام والمسلمين والجزائر خاصة، بعدها بأسبوعين تم اغتيال الشيخ الصحراوي الجزائري في قلب باريس، أحد الوجوه البارزة في تلك الفترة في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ويقول المؤلف: إن اغتيال الصحراوي شكل موضوعا رئيسياً لوسائل الإعلام الفرنسية التي اكتشفت فجأة أن هناك تيارين داخل الإسلاميين، التيار المعتدل والتيار المتشدد، ونتيجة لذلك أخذت وسائل الإعلام تميز بين الجبهة الإسلامية وبين الجيش الإسلامي للإنقاذ بعد سنوات من الخلط بينهما.
بعد وصول حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان عام 1996، وبروز الإسلاميين في تركيا، بدأ الإعلام الفرنسي يتجه بعيداً عن المسلمين الفرنسيين ليركز على قضايا أخرى مرتبطة بالإسلام بعيداً عن الجزائر ومنطقة المغرب العربي، ليخف الضغط الإعلامي عليهم لفترة معينة. غير أن هذه المرحلة شهدت نوعاً من الاتجاه نحو الموضوعية والصراحة في انتقاد طريقة تناول الإعلام الفرنسي للإسلام وقضايا المسلمين، فبدأ بعض الصحافيين والباحثين يستعملون عبارات"شيطنة الإسلام" و"المتخيل المعادي للمسلمين"، ووصل البعض إلى حد استعمال عبارة"الإسلاموفوبيا" أو نزعة معاداة الإسلام.
تطويق العدو غير المرئي(2001-2005)(24/387)
كانت تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر حدثاً فاصلاً ـ كما يقول المؤلف ـ في تعاطي الفرنسيين مع الإسلام، "لقد دخلنا بعد الحادي عشر من سبتمبر في عصر جديد وغير مسبوق، أصبح الغرب فيها مستهدفاً في كيانه". وبعد ظهور أسماء زكريا الموساوي والفرنسي (جيروم كورتايلي) الذي اعتقل في هولندا بتهمة علاقته بتنظيم القاعدة، والبريطاني (رتشارد ريد)، أصبح الحديث الرائج في فرنسا هو عن"المؤامرة"التي تستهدف الجاليات المسلمة في فرنسا، وخاصة أبناء الضواحي، من أجل تجنيدهم وإرسالهم إلى الحرب في أفغانستان مع تنظيم القاعدة، وهذا أدى إلى سيطرة"العقلية الأمنية"داخل الدولة في التعاطي مع المسلمين، فأصبحت المساجد والخطب ولقاءات المسلمين وجمعياتهم تخضع للرقابة الشديدة من طرف وزارة الداخلية ورجال المخابرات.
ويقول المؤلف إن هذه المرحلة كانت أخطر المراحل في المعاجلة الإعلامية للإسلام وشؤون المسلمين في فرنسا، فأصبح الشك هو الأصل في المسلمين، ويُطلق على تلك المعالجة تسمية"المعالجة الافتراضية" التي تنحرف عن الواقع باسم تدارك الخطر قبل وقوعه، مما أدى إلى حصول"انزلاقات"، كما حصل في حادث انفجار أحد المعامل في مدينة تولوز بعد أسابيع من تفجيرات نيويورك وواشنطن، حيث اتجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى"إسلاميين"، وكانت أول قصاصة إخبارية لوكالة الأنباء الفرنسية فور الحادث تشير إلى وجود متطرفين إسلاميين وراء الحادث، قبل أن تلحق بها كافة وسائل الإعلام والصحف الأخرى، ليتأكد في الأخير أن ذلك كان مجرد شائعات لا أساس لها من الصحة، وتكررت نفس العملية مع حادث مطار(رواسي) عام 2003.
أهم ما طبع هذه المرحلة ـ حسب المؤلف ـ هو انتشار تحقيقات و(روبورتاجات) "ملفقة" في وسائل الإعلام الفرنسية التي كانت تقدمها البرامج الأكثر مشاهدة على القنوات، وقد برز اسم صحافي جزائري يدعى محمد سيفاوي الذي كان مرتبطاً بالجنرال خالد نزار وتيار في الجيش الجزائري، جاء إلى فرنسا قبل سنوات للعمل مع مجلة فرنسية هي(ماريان)، وبعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر بدأ يقدم نفسه كمتخصص في الإسلام مما جعل وسائل الإعلام تفتح له أبوابها، ثم أخذ يعد تحقيقات مصورة ملفقة يصور فيها نفسه وكأنه نجح في اختراق بعض الإسلاميين المتشددين، وتمكن من تصويرهم بكاميرا خفية والتقاط بعض تصريحاتهم المثيرة، مثل ذلك الشاب الذي صرح له أن فرنسا ستكون الهدف التالي بعد أمريكا، وعلى الرغم من كل تلك التلفيقات ـ يقول الكاتب ـ أكل الصحافيون والإعلاميون الفرنسيون الطعم؛ لأن سيفاوي كان يهدف إلى تشويه صورة الإسلاميين الجزائريين ودفع الفرنسيين إلى الحقد عليهم لتقديم خدمة للتيار الاستئصالي في المؤسسة العسكرية الجزائرية.
وخلال الفترة ما بين 2003 و2004 عادت قضية الحجاب مجدداً إلى الساحة الإعلامية، خاصة بعد التظاهرات المعارضة لطرد محجبات من المدارس، وقد نتج عن ذلك أن النقاشات حول الإسلام والحجاب في وسائل الإعلام أصبحت "أكثر تطرفاً وتشدداً"، إلى درجة أن أحد البرامج التلفازية في قناة (تي إف 1) في أكتوبر 2003 صُوّر مشهد لطالبات مسيحيات محجبات بلباسهم الكنسي في مدرسة كاثوليكية بمارساي ومشهد صليب معلق على جدار مدرسة أخرى ليؤكد أن"العلمانية موجودة في فرنسا"، دون أن يسأل نفسه لماذا ترفض هذه العلمانية حق مسلمات في ارتداء الحجاب.
في ختام الكتاب يؤكد المؤلف أن التغطية الإعلامية للإسلام وقضايا المسلمين في فرنسا لا تزال تهيمن عليها العقلية الاستعمارية، ويشير بنوع من المرارة إلى ظاهرة لافتة في الحياة السياسية الفرنسية: لقد كان اليمين واليسار الفرنسيان دائماً في صراع وتطاحن خلال الحرب الجزائرية، حيث كان الأول مؤيداً للاستعمار الفرنسي والثاني معارضاً له، لكن هذين التيارين التقيا فيما بينهما عندما تعلق الأمر بالإسلام، ويُطلق على هذه الحالة تسمية"مأزق الجمهورية الفرنسية".
==============(24/388)
(24/389)
الهلع الفرنسي من الحجاب... لماذا ؟
د. ليلى بيومي 9/11/1424
01/01/2004
إن ضعف الوازع الديني، وانتشار التحلل الأخلاقي، وتآكل دور الكنيسة في الغرب عموماً غير خاف على أحد، فلم يعد الوازع الديني يحرك أوروبا، بقدر ما أصبحت تحركها خريطة الجغرافيا السياسية والاستراتيجيات المتوسطة والبعيدة المدى، في ظل احتكار الولايات المتحدة لقيادة الحلف الأطلسي.
والرأي العام الغربي حيل بينه وبين المعرفة الكاملة بالعالم الإسلامي، وتولي الإعلام المغرض صناعة صور مشوهة مقلوبة لتحولات الإحياء الإسلامي، بالتمييز المصطنع بين مسلمين علمانيين ومسلمين متشددين.
هذه نقاط هامة نحتاجها ونحن نتحدث عن أزمة الحجاب في فرنسا هذه الأيام.
والحضور الإسلامي في ديار العلمانية لم يتجاوز قرابة خمسين عامًا من الزمان، فقد توجه إلى البلدان الغربية أفواج من المهاجرين منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بحثًا عن عمل يرفع مستواهم المادي والاجتماعي، أو سلوكًا لطريق علم تجريبي أو إنساني ينفع النفوس والمجتمعات، أو هروبًا من استبداد سياسي واحتماءً بالديمقراطية والحرية.
لكن الإسلام تحول من الجيل الثاني والثالث، من مهاجر غريب، إلى مواطن أوروبي يسعى إلى التخلص من جذوره الثقافية والسياسية الأولى، ليندمج في الثقافة الغربية والحياة السياسية العامة، وبذلك أصبح هذا الإسلام الأوروبي رقمًا صعبًا داخل المعادلات الداخلية والدولية، بالنظر إلى الصحوة الدينية المتزايدة للعالم الإسلامي، والنزعات التوسعية للولايات المتحدة، والصراع العربي الصهيوني حول فلسطين المحتلة والشرق العربي الإسلامي.
صورة الإسلام في الضمير الفرنسي:
استقبل الغرب بعامة، وفرنسا بخاصة، هجرة الإسلام إلى أوروبا بذاكرة مشحونة بالمعارك الحربية والمواجهات السياسية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني في حوض البحر الأبيض المتوسط.
وبالإضافة إلى الذاكرة المشحونة تزاحمت في المنطقة الدماغية البصرية صور ذهنية سيئة للإسلام والمسلمين، ومرة أخرى كان الإعلام المهيمن والاستشراق المتحيز وراء صناعة التحريف والتخويف.
الحالة الفرنسية لها علة أخرى في مواجهة الإسلام تتعلق بماضيها الاستعماري وما عانته مع المقاومة وجيوش التحرير، وبخاصة في الجزائر، وذلك ما سماه بعض المتخصصين بعقدة "ما بعد الاستعمار"، وتفسيرها أن فرنسا تحتضن مسلمين ذوي أصول جزائرية يذكرونها وهم على ترابها بهزيمتها وانهيار إمبراطوريتها الاستعمارية.
فالهزيمة الفرنسية في الجزائر كانت سياسية أكثر من كونها عسكرية، وتركت جرحًا غائرًا في الشخصية الفرنسية الوطنية (سيزاري: التمثلات الفرنسية للإسلام، في كتابها: "هل يجب الخوف من الإسلام؟").
ويكفي استقراء البرامج التلفزيونية الفرنسية خلال السنوات العشر السابقة لإدراك صعوبة تجاوز الذاكرة الفرنسية للهاجس الجزائري، ومن الطبيعي أن تتحفز النفس الفرنسية، وهي تستقبل الجزائريين والمغاربة القادمين إليها من المستعمرات السابقة، وتلجأ إلى الرفض بطرق ملتوية، منها الحذر الشديد من الإسلام، ولو كان فرنسيا!، وتخشى فقدان الهوية الأصلية والانتماء، وترى في القادمين الجدد والدين الجديد تهديدًا للجوهر والأصل.
محطات فرنسية بارزة في قضية الحجاب:
قضية الحجاب التي تختزل قضية الحضور والمستقبل الإسلامي في فرنسا والغرب، شهدت شوطين كبيرين وساخنين، الأول عام 1989 والثاني عام2003.
وقد اعتبر بعض الكتاب الفرنسيين سنة 1989م سنة إسلامية لكثرة قضايا الحجاب في فرنسا وأوروبا وتركيا، ففي تلك السنة التهبت فرنسا وأوروبا بصدى الثورة الإيرانية، وظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر وانفجار "الآيات الشيطانية" لسلمان رشدي، وتحول كثير من شباب ضواحي المدن الفرنسية نحو الإسلام.
وفي خريف تلك السنة تفجرت قضية الحجاب بفرنسا واحتلت كل شاشات التلفزيون الفرنسي رغم انشغال أكثر من 53% من الفرنسيين بانهيار حائط برلين وسقوط المعسكر الشيوعي وإسقاط الطاغية الشيوعي الروماني "تشاوشسكو".
وبدأ الانفجار في جريدة "لوكورييه بيكاريو" في الثالث من أكتوبر، بعد أن أقدمت إدارة ثانوية "دوكرييه" على طرد ثلاث تلميذات محجبات, لتتوالى الأحداث من بعد ذلك؛ ابتداء من احتجاج أسر التلميذات، وانتهاء بالموقف الذي اتخذته يومذاك "دانييل ميتيران" زوجة الرئيس الفرنسي المتوفى "فرانسوا ميتران"، مرورًا بمواقف جمعيات مناهضة للتمييز العنصري وجمعيات مسلمي فرنسا مثل "الدعوة والتبليغ" و"اتحاد المنظمات الإسلامية" و"الفيدرالية الوطنية لمسلمي فرنسا".
ومنذ ذلك التاريخ وقضية الحجاب تسخن وتبرد حسب درجة حرارة الأحداث, إلى أن جاءت قضية تمثيلية المسلمين وتنظيم أنفسهم لتعيين مخاطب للحكومة.(24/390)
أما سنة 2003 فهي سنة الاعتراف الرسمي بالإسلام في فرنسا، إذ تأسس فيها المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، المجلس الذي يعد المخاطب الرئيس في قضايا المسلمين بفرنسا؛ اجتهد وزراء سابقون في تأسيسه، إلى أن كللت جهود وزير الداخلية الحالي "نيكولا ساركوزي" بالنجاح بعد أن استطاع جمع جميع المسلمين في هيئة واحدة تنطق باسمهم وتنظم أمورهم وتدافع عنهم وتحظى بالاعتراف الرسمي من لدن الحكومة الفرنسية.
وبالموازاة مع مداولات التأسيس هبت حملة إعلامية جديدة حول هذا الأمر، وحول الحجاب الإسلامي من جديد. في هذا السياق الساخن شكّل الرئيس الفرنسي لجنة ستازي، وإلى جانبها تشكلت اللجنة البرلمانية برئاسة رئيس البرلمان دوبري. اللجنة الأولى تشكلت من 20 من "الحكماء" وعملت لمدة 6 أشهر عقدت فيه 120 جلسة اجتماع. ويوم 11 ديسمبر الأخير قدمت تقريرها للرئيس مقترحة فيه مجموعة من المقترحات حول الحجاب وحماية العلمانية وإدماج المسلمين، وكان الرئيس الفرنسي قد صرح في تونس يوم الجمعة 6 ديسمبر بأن الحجاب يشكل عدوانًا على العلمانية.
تناقضات الحرية الفرنسية:
العجيب أن فرنسا بلد الحرية تخاف وترتعد من غطاء رأس نساء المسلمين، الحرية الفرنسية يتمكن منها العراة والشواذ وتستميت الهيئات السياسية والحقوقية الأممية والقطرية في الدفاع عنهم بجميع المحافل والمنتديات، والضغط بكل وسيلة ممكنة لضمان حرية التعري والشذوذ، في حين أن المتدينين لا حرية ولا حقوق لهم، وليس لهم من يحميهم ويدافع عنهم إلا الله وأهل الإنصاف والتعقل والضمير الحي، وقليل ما هم.
ففي الغرب عمومًا، الشاذ جنسيًّا لا حرج عليه، ويجد من يدافعون عنه، بل هناك رجال دين يلقون الخطب والمواعظ "البليغة" ويرشدون الناس إلى الأعمال الصالحة والمعاملات الحسنة، ومع ذلك هم شواذ وفضائحهم تملأ الآفاق.
وما دامت الحرية مصونة مضمونة للشذوذ الجنسي، فلماذا لا يصبح رجال التربية والتعليم من الشاذين جنسيا؟ وما المانع؟ ليس هناك أي مانع! فليعلنوا إذًا عن شذوذهم وتجمعاتهم، وليناشدوا رجال الحق والقانون أن يدافعوا عنهم، ورجال الصحافة والإعلام أن يسلطوا الأضواء على "محنتهم واضطهادهم".
وهكذا فمن عجائب الدهر أن للشذوذ الجنسي مشروعية الوجود، وقانونية الحماية والدفاع، وإمكانية الانخراط في كل مجال وقطاع، أما الحجاب الإسلامي فلا شيء له من ذلك، ويخشى أن يصبح جريمة ومخالفة يعاقب عليها القانون! ولم العجب وقد قال رئيس الجمهورية الفرنسية في قلب العاصمة التونسية وفي يوم جمعة "إن الحجاب الإسلامي بمثابة عدوان على العلمانية"؟!.
تحالف بين الغرب والعلمانيين المسلمين:
عندما بدأت مظاهر الصحوة الإسلامية تدب في العديد من بلدان العالم وانتشر الحجاب في بلاد المسلمين ووسط بناتهم في الدول الغربية ارتعد الغرب ومعه العلمانيون العرب والمسلمون، وبدؤوا في محاربة الحجاب الإسلامي حرباً لا هوادة فيها، ووصفوا الحجاب بأنه يغطي على عقل المرأة وأنه جزء من اضطهاد الإسلام لها ونعتوا المحجبات بنعوت لا تليق، ورموهن بالتخلف والرجعية والاستسلام لسطوة الرجل وغيرها مما ينعق به الناعقون.
اتخذت هذه الحملة أشكالاً عديدة فمرة نسمع من يقول إن الحجاب يعزل المرأة عن بقية شرائح المجتمع ويحرمها من دورها وظهر من يدعو إلى (تحرير) المرأة وغيرها من الدعاوى المتهافتة، ونسي هؤلاء الذين لا هم لهم إلا تحرير المرأة من قيمها واحترامها لنفسها أن الإسلام ما شرع الحجاب إلا صوناً للمرأة المسلمة وتكريما لها وإعلاءً لقدرها وتقديراً لدورها في المجتمع إذ أن المرأة المحجبة تكون بمنأى عن مشاكسات الذئاب البشرية ومصانة ممن لا يريدون لها إلا أن تكون متاعاً ومكاناً لتفريغ الشهوات.
وعندما يشعر هؤلاء أن ما ساقوه من حجج يتساقط من تلقاء نفسه نسبة لضعفه وعدم موضوعيته نجدهم يلجؤون إلى الاستشهاد برأي بعض علماء الدين، الذين باعوا دينهم بدنياهم، فيلوون لهم أعناق الحقائق ويستشهدون بأدلة ليست في مكانها ويفسرون الأحكام الإسلامية حسب هواهم متوهمين أن هذه الافتراءات سوف تنطلي على الأمة الإسلامية، وما دروا أن علماء الأمة الأمناء على دينها واقفون لهم بالمرصاد مفندين حججهم ودعاواهم.
عجز العلمانية الفرنسية:(24/391)
لا ينبغي النظر إلى دلالات التوجه الفرنسي إلى منع الحجاب وباقي المظاهر الدينية خارج سياق عجز العلمانية الفرنسية عن التكيف مع المتغيرات الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تطرحها العولمة كتحد على المجتمع الفرنسي في وقت لا تزال تشهد البلاد فيه دعوات إلى الانفصال على أسس إقليمية أو قومية كما هو الحال في كورسيكا، الأمر الذي يعني أن المركزية في الدولة الفرنسية باتت تتحول تدريجيا إلى الحد من الفيدرالية وفي الوقت نفسه فإن العلمانية كمصلحة عليا للدولة - تتحول إلى ضد الدين وليس الفصل عنه، وبالتالي تعجز الدولة عن استيعاب تعبيرات الهوية الاجتماعية للجماعات الدينية على اختلافها، وهو الأمر الذي أشارت إليه وزيرة التنمية الفرنسية تقيه صيفي «مسلمة من أصل جزائري» عندما قالت عقب خطاب شيراك الذي دعا فيه إلى منع المظاهر الدينية:
«إن خطاب الرئيس شيراك يساعد على النهوض بسياسة إدماج المهاجرين العرب والمسلمين في النسيج الوطني الفرنسي» الأمر الذي يعني أن المسألة لا تشير إلى خلل في العلمانية الفرنسية فقط؛ بل إلى وجود إشكالية اجتماعية سياسية تتعلق أساسًا بالجالية الإسلامية في البلاد دون التقليل من تأثير الجماعات الدينية ونفوذها وتهديدها للعلمانية في الوقت نفسه.
لعل ما يهم العالم العربي والإسلامي هنا هو ما يتعلق بالجالية العربية والإسلامية في فرنسا أولاً، وثانيا: علاقة التشريع المنتظر صدوره في فرنسا بالتجارب العلمانية الجارية في بعض الدول العربية والإسلامية مثل تركيا وتونس وغيرهما من الدول التي تعاني من أوضاع اجتماعية ودينية مشابهة لجهة علاقة النظام بالمجتمع وهويته الإسلام
============(24/392)
(24/393)
أمريكا والإصلاح السياسي العربي
عمان / محمد أبو رمان 24/6/1427
20/07/2006
لم تكن الدعوة الأمريكية للإصلاح في العالم العربي، عقب أحداث أيلول، وما رافقها من خطاب تحريضي في الدفع باتجاه الديموقراطية سوى لحظة خاطفة في السياسة الخارجية الأمريكية، التي وضعت دوما (فيتو) على وصول إسلاميين إلى الحكم، وعملت باستمرار على مساعدة النظم العربية في التصدي للحركات الإسلامية سواء المعتدل والسياسي منها أم المتطرف.
ما يدلل على خطورة العامل الخارجي، على مسار الإصلاح السياسي العربي، أنه في اللحظة التي رُفع فيها الغطاء الأمريكي عن النظم العربية، ومُنحت الفرصة للحركات الإسلامية والمعارضة بالتحرك تحرك المشهد السياسي العربي بأسره وظهرت النظم العربية بلا حول ولا قوة أمام قوة الدفع الشعبي باتجاه الإصلاح السياسي، إلى أن أعادت الإدارة الأمريكية تجديد الصفقة مع النظم على حساب المعارضة وعمودها الفقري الحركات الإسلامية - بفعل أزمتها في العراق، مع نتائج الانتخابات في مصر وفلسطين، والبرنامج النووي الإيراني- .
أقدّم بهذه الملاحظة في سياق مناقشة مقال "الإسلاميون واختطاف الديموقراطية في الشرق الأوسط" لـ(توماس فريدمان) - الكاتب الأمريكي الصهيوني المعروف - الذي يحيل فيه مسؤولية تعطل التحول الديموقراطي العربي إلى سيطرة الحركات الإسلامية، المعادية للولايات المتحدة، على الشارع. يقول (فريدمان):
"بالنظر إلى ضحالة جذور شجرة الديموقراطية في هذه المنطقة، مصحوبة بإضعاف الأكثريات المعتدلة وترهيبها، فقد أفرز لنا العالم العربي الإسلامي أسوأ ما في التجارب الديمقراطية على الإطلاق". ويصل (فريدمان)، في خاتمة المقال، إلى أنّ الديمقراطية "لا تصلح للتطبيق في كل مكان".
بعيداً عن مساءلة مشروع الإسلام السياسي، في المشرق العربي تحديداً، فإن مقال (فريدمان) هو تأكيد للاتجاه الغالب في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية التي تدعو إلى وقف الدعوة الأمريكية للإصلاح بدعوى أن الشروط الثقافية والاقتصادية- السياسية في المنطقة لم تنضج بعد لتطبيق الديموقراطية، فتقدم تياراً ليبرالياً عقلانياً بديلاً عن الحالة القائمة، بحيث تمثل العقلانية، في هذا السياق، الموالاة المطلقة للسياسة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي والتنكر لمختلف مشاريع "المقاومة".
(فريدمان) لا يكتفي بالاعتراف أنّ نتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع تأتي بما لا يتوافق مع مصالح العم سام ومشروعه في الهيمنة على المنطقة، لكنه يريد أن يتذرع بأنّ هذه الأحزاب تتخذ الديموقراطية كحصان للوصول إلى أهدافها المتمثلة بأسلمة المجتمعات العربية، بينما الأكثرية العربية، كما يصورها (فريدمان)، تخشى مواجهة "الأصوليين"؛ إذ إنّ من يعارض حزب الله وحماس يجري النظر إليه وكأنّه دمية في يد الأمريكيين.
من الواضح أنّ رؤية (فريدمان) تخلط الحابل بالنابل، لكنها في الوقت نفسه تبين حجم الوهم الذي يقع فيه المنظور الاستشراقي الجديد عند قراءته للواقع العربي، والإصرار على تجاهل دور السياسة الأمريكية والاحتلال الصهيوني في منح الإسلام السياسي، الذي يشكو منه (فريدمان)، الذرائع الفكرية والسياسية والقاعدة الاجتماعية الساخطة على الظلم الذي تراه ليل نهار، بحيث أوجدت الولايات المتحدة داخل كل منا إنساناً "متطرفاً" تحت طائلة همجية سياساتها والظلم التاريخي الذي تضعه على كاهل المجتمعات والشعوب العربية والمسلمة.
لن أُتعِب (فريدمان) في استقراء الواقع العربي ليجد أيدي أميركا وإسرائيل مغموسة في كل طامة كبرى تعيشها المنطقة، بما في ذلك صناعة العداء لها، وبما في ذلك أيضاً المنظمات المعادية بقوة للسياسة الأمريكية، وإلاّ فما هو سر نفوذ القاعدة وقوة تأييدها في الأوساط الشعبية والشبابية العربية. بالتأكيد ليس فكرها السياسي والديني بالدرجة الأولى، الذي تختلف معه شرائح سياسية وفكرية بل وإسلامية واسعة، إنّما لأنها الجماعات الوحيدة التي تقف-عسكرياً- في وجه الجيوش الأمريكية، فأصبحت "القاعدة" ماركة مسجلة عالمياً بفضل العم سام وسياساته.
كما وعدْتُ (فريدمان)، لن أجهده في قراءة الواقع العربي، لكنني أود التوقف عند المشهد العراقي؛ فقد بشّرنا (فريدمان) نفسه قبيل احتلال العراق بأنّ الولايات المتحدة ستحوله إلى نموذج للديموقراطية في المنطقة العربية، فماذا فعلت به السياسة الأمريكية؟! أحيل (فريدمان) هنا إلى كتاب "العراق.. منطق الانسحاب" للكاتب الأمريكي (أنتوني أرنوف)، فقط لنقرأ معاً الوحشية والهمجية التي مارسها الأمريكيون بالعراق، على حد تعبير (أرنوف). عن ماذا نتحدث: عن الفساد المالي والشركات الخاصة الأمريكية التي نهبت العراق! عن الفوضى والقتل لمجرد الاشتباه! عن اغتصاب الفتيات وتعذيب همجي في السجون بمعرفة وتغطية من بوش ورامسفيلد! عن التعبئة النفسية للجندي الأمريكي التي تقدم له العربي كحيوان يمكن تعذيبه بل قتله بدم بارد! عن ذبح وحدة العراق على مسلخ مصالح وأوهام المحافظين الجدد! عن المجازر اليومية بحق أبناء العراق...!(24/394)
لا ننكر أنّ لدينا أزمة ثقافية في العالم العربي، ولا نوافق بعض الحركات الإسلامية على أجندتها السياسية والفكرية كاملةً، ولسنا بحاجة إلى معرفة أثر داء الاستبداد والاستعباد الذي تمارسه علينا حكوماتنا، لكننا نعرف قبل هذا وذاك أنّ السياسة الأمريكية والاحتلال الصهيوني يمثلان، دوماً أحد أبرز كوابح الديموقراطية في العالم العربي، فما عليك يا (فريدمان) - لتتأكد من ذلك - إلاّ أن تسأل أي طفل في الشارع العربي عن موقفه من السياسة الأمريكية
============(24/395)
(24/396)
نحو تأصيل التخطيط العمراني
قراءة: عبد الحق بوقلقول 19/9/1427
12/10/2006
عنوان الكتاب جوهر التمدن الإسلامي: دراسات في فقه العمران
المؤلف د. مصطفى بن حموش
حجم الكتاب 207 صفحة مقاس '4A'
الناشر دار قابس للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، ثم دار البصائر بالجزائر
صدر قبل فترة قليلة عن دار قابس للطباعة و النشر والتوزيع ببيروت، كتاب جديد بعنوان "جوهر التمدن الإسلامي: دراسات في فقه العمران" للمؤلف الدكتور مصطفى بن حموش الذي يعمل حالياً أستاذاً مشاركاً بكلية الهندسة في جامعة البحرين.
الكتاب في عمومه، عبارة عن مجموعة مقالات علمية محكمة نُشرت في مختلف المجلات العربية خلال السنوات العشر الأخيرة، و هي تتعرض بصفة عامة إلى أهم الركائز النظرية التي قام عليها التمدن الإسلامي، و لقد عززها المؤلف بعدد معتبر من الصور البديعة عن فن العمارة و فلسفة العمران عبر التاريخ الإسلامي.
من خلال هذا الكتاب، يهدف المؤلف بالدرجة الأولى إلى عرض جوهر التمدن الإسلامي عبر استقراء ثنائي: بين النص الإسلامي و البيئة الحضرية القديمة، و يردّ في ذات الوقت على بعض التهم الموجهة إلى المدن الإسلامية التي يقول عنها المؤلف إن الفوضى و العشوائية تغلبتا عليها.
ينطلق الكاتب من مصطلح التمدن، و هو ما يرادف العمران أو اجتماع الناس و تكوّن المستوطنات البشرية. و قد آثر الباحث عدم استعمال كلمة المدينة لأسباب كثيرة منها: أن هذا المفهوم أصبح في يومنا يقتصر على نوع معين من المستوطنات، و يمنع غيرها من الدخول في المفهوم العام للتمدن، و كذلك لشيوع هذه الكلمة في الكتب و اختلاف المفاهيم فيها مما جعلها مائعة و غامضة التعريف.
يعتقد الدكتور بن حموش أن للتمدن الإسلامي جوهراً و مظهراً؛ فقد حاول كثير من الباحثين الغوص في ماهية التمدن الإسلامي قصد استخراج خصوصياته. و الحقيقة أن كثيرين من بينهم، انتهى المطاف إلى بعض الخصوصيات الشكلية مثل استعمال الأقواس و الزخارف و القبب و الواجهات الصماء أو المشربيات و استعمال الأحواش للمباني و الشوارع المتعرجة و التكاثف في المباني ... إلى غيرها من الأوصاف التي تشترك فيها المدن الإسلامية العتيقة. هذه العناصر و إن كانت صحيحة وثابتة، مثلما يقول المؤلف، إلاّ أن التوقف عندها يجعل من التمدن الإسلامي شكلاً محدداً و طرازاً عمرانياً يقتصر على الجانب المادي، و تراثاً تاريخياً مرتبطاً بالزمان و المكان الذي تطور فيه.
لأجل ذلك فإن الكاتب ارتأى تجاوز ذلك المظهر في سبيل أن نستشف جوهر هذا التمدن الذي يتمثل في المقاصد و الغايات المستمدة من الشريعة و العقيدة و الأخلاق التي يقوم عليها هذا التمدن و التي هي من صلب الإٍسلام. و من هذه المقاصد مسألة القرابة و النسب، و حفظ الأعراض، و حدود استعمال السلطة العامة بعيداً عن الاستبداد أو الإهمال، و مبدأ الحرية الفردية أو الولاية الخاصة، و مبدأ عدم الضرر، و عدم الفساد في الأرض أو المحافظة على البيئة.
فالاعتقاد بديمومة الإسلام يدفع إلى ضبط هذه المقاصد لتكون مرجعاً ثابتاً لكل معنيٍّ بميدان التمدن و العمران. فكونها تتجاوز حدود الزمان و المكان، يتطلب أن يُعاد صياغة تمدننا المعاصر وفقها حتى لا يكون في تناقض مع تحدّيات العصر المتميز بهيمنة السيارة و تكنولوجيا التحكم في البيئة و ثورة الاتصالات.
هنا يصل الكاتب إلى طرح هذا التساؤل المحوري: ما هو الموقف من التراث العمراني المتمثل في المدن القديمة و المباني العتيقة؟ إنه ببساطة يمثل كيفية استجابة المسلمين لمقاصد الإسلام و غاياته العامة في فضاءات زمانية و مكانية محددة. و لذلك وجب حفظه كشاهد لتلك الرابطة بين الإسلام و البيئة الحضرية و مدى نجاح عقل المسلم في إقامة تلك الرابطة.
و لذلك فإن الاهتمام بجوهر التمدن الإسلامي لا يعني الدعوة إلى نسف التراث الحضري أو الحط من قيمته، إنما هو توظيفه للغايات الأسمى للبشرية -في عمارة الأرض- وفق ما جاء بها الإسلام.
و هنا نلحظ أن هذه النظرة، تلتقي مع أفكار المدارس العمرانية التي تدعو إلى إعادة الاعتبار للتاريخ الحضري كمصدر استنباط بدل المدارس 'العصرانية' التي تقوم على نكران الماضي و الهروب دوماً إلى المستقبل. فقد اكتسبت البشرية خبرات متراكمة في كيفية إنشاء المدن و تطويرها و إدارتها على مر القرون الطويلة بطول عمر الظاهرة العمرانية، و هي خبرات يجب عدم التفريط فيها بأي حال. و نحن كمسلمين- كما يقول الباحث- اشتركنا في هذا الإرث البشري لعدة قرون من خلال إضافتنا إلى نحو (450) مدينة إلى رصيده. و بالتالي فإن مساهمتنا المستقبلية، تكون بقدر اجتهادنا في صياغة جوهر التمدن الإسلامي في الميدان المعاصر وفق معطياته الحضارية الحالية. فليست هناك -وفق فلسفة كارل بوبر- حتمية تاريخية تشفع لنا، و تضمن لنا العودة إلى دورة الحضارة و لعب دور رئيس فيها، و إنما هو إعادة الاعتبار لهذا الجوهر بتحدينا للظروف المحيطة بنا، و اجتهادنا المستمر في تطبيقه و تقديمه في صورة لائقة للعصر.(24/397)
من ناحية عرض الكتاب فإن محتواه ينقسم إلى ثلاث مجموعات. فالمجموعة الأولى تتمحور حول بعض القيم السلوكية التي كان لها الأثر المباشر في تشكيل المدن. و يدور الفصل الأول منها حول مسألة القرابة و أثرها على هندسة المدن الإٍسلامية و تركيبها الفضائي؛ إذ قد أخذت القرابة صوراً مادية في المدن الإٍسلامية تمثلت في تكوّن الأحياء السكنية و الطوائف الحرفية، و في التدرج الفضائي الحضري، و في تداخل المباني فيما بينها.
أما الفصلان الثاني و الثالث فيطرحان مشكلة الاطلاع و التكشف في مدننا المعاصرة التي نتجت بسبب تبني نماذج المباني العصرية المفتوحة، و التي تأسست على قيم سلوكية غربية انتشرت في البلدان الإسلامية ابتداء، بفعل الاحتلال، ثم تكرّست بفعل قوانين التخطيط و العمارة و اللوائح التنظيمية المعمول بها حالياً. و لذلك يقدم لنا تراثنا سواء المادي عبر بقايا مدننا العتيقة، أو الفكري من خلال كتب التاريخ و الفقه والقضاء، مادة صالحة لدراسة المسألة المطروحة و معرفة كيفية الاستجابة لهذا المطلب الاجتماعي و الثقافي.
أما الفصل الرابع فيُعنى بمجموعة القيم الروحية التي يحملها العمران الإسلامي، و التي تنتظم في ثلاث كليات هي الكلية الربانية و الكلية الإنسانية و الكلية البيئية. و يكشف الباحث فيه عن أسس هذه الكليات المبثوثة في العقيدة و الأخلاق و التشريع، ثم يتتبع أثرها المادي في تشكيل المدن.
أما المجموعة الثانية فهي تستعرض أطروحات حول مسألة السلطة و الإدارة في المدن الإسلامية التي تندر المراجع فيها، و التي ظلت تعاني من النظرة الاستشراقية الأولى إلى المدن الإسلامية بكونها تفتقد إلى النظام الهندسي و بالتالي إلى الإدارة. فالفصل الخامس يلقي الضوء على العلاقة الثنائية الموجودة بين مفهوم السلطة و المدينة، و ذلك من خلال مصطلح الولاية. فقد أقرّت الشريعة الإسلامية مبدأ حرية التصرف في المال بما في ذلك العقارات للأفراد و الجماعات في إطار مبادئ معيّنة، كما أصّل الفقهاء لمبدأ الولاية العامة التي تتكفل بالمصلحة العامة. و لذلك فإن كلا الطرفين من معادلة الولاية كان له دوره في تشكيل المدن الإسلامية و صياغة هندستها الحضرية.
و يعود الفصل السادس إلى مناقشة مفهوم السلطة من المنظور العصري؛ إذ يرتكز على إسقاط نظرية ابن خلدون التي تقرر أن: "الظلم مؤذن بخراب العمران" على واقعنا المعاصر. فالكثير من المشكلات التي تعانيها مدننا المعاصرة التي تظهر من خلال رداءة المحيط الحضري يعود سببها إلى فقدان التوازن الموجود بين مختلف أوجه السلطة. و لذلك فإن تحسين البيئة الحضرية يكون عبر إعادة هذا التوازن في الهياكل الإدارية التي تسيّر المدن.
أما المجموعة الثالثة فتتعلق بمستوى التشريع العمراني الذي وصلت إليه الإدارة في المدن الإسلامية القديمة؛ إذ في وسعنا أن نقرأ في الفصل السابع ما يمكننا القول إنه عرض تاريخي لأهم مراحل التشريع العمراني الإسلامي و تنوعه بحسب الاجتهاد المذهبي. في حين أن الفصل الثامن فيه عرض لأهم المعايير التخطيطية و الهندسية التي طوّرها المسلمون من خلال تجاربهم في إنشاء المدن و إدارتها اليومية أو من خلال اقتباسها من الحضارات السابقة أو باستقائها مباشرة من نصوص الشريعة.
============(24/398)
(24/399)
الزنداني: هذه وصاية على سكان الأرض
حوار: عبدالفتاح الشهاري 10/1/1425
01/03/2004
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتتابع الهجومي الشرس ملحوظ من الإدارة الأمريكية على العمل الإسلامي وقياداته في كل مكان، متخذة في سبيل ذلك أوهى الحجج وأوهنها، ومتكئة على قائمة مزعومة تسمى قائمة الإرهاب، والتي لا يُعرف مصدرها القانوني، أو مدى شرعيتها الدولية، وقد نالت هذه القائمة عددًا من الجمعيات والمؤسسات والقيادات الإسلامية في كل مكان، فأُقفل بسببها عدد من المؤسسات، وصودر كثير من الممتلكات، وأوقف من أجلها الكثير من الدعاة والعلماء، وكان آخرهم، فضيلة العلامة اليمني الشيخ (عبد المجيد الزنداني) مؤسس وصاحب جامعة الإيمان، التي تم إنشاؤها في عام 1414هـ بموجب قرار حكومي معتمد من وزارة التربية والتعليم، عضو اتحاد الجامعات العربية، تهدف - كما جاء في أدبياتها - إلي تخريج العلماء الأتقياء الربانيين من الجنسين، القادرين على الاجتهاد المؤهلين لحمل رسالة الإيمان في مختلف التخصصات قولاً وعملاً، وتضم (26) قسمًا علميًّا في أربع كليات. كما تمتاز الجامعة بأقسام لم يسبقها إليها كثير من الجامعات مثل أقسام (التزكية)، (الإيمان)، (العلوم الكونية والإعجاز العلمي)، (الحسبة)، (الإعلام الإسلامي)، (الاستشراق)، (السياسة والسياسة الشرعية)، وتمتاز الدراسة في الجامعة بأنها عشر سنوات بعد الثانوية تشترط التفرغ التام للعلم الشرعي وتوفر الجامعة للدارس السكن والكتب الدراسية والمختبرات والتغذية، والرعاية الطبية، والمواصلات، والوسائل التعليمية، وتقوم الجامعة على مبدأ فصل الطالبات عن الطلاب وتنقل المحاضرات المشتركة عبر دوائر تلفزيونية مغلقة، وتعتمد الجامعة في تمويلها على التبرعات والأوقاف والزكوات، وقد منحت الحكومة اليمنية الجامعة أرضًا تقدر مساحتها (577.200)م2
ورغم حرص الشيخ الزنداني على عدم إجراء أي لقاء إعلامي إلا أنه خصَّ موقع (الإسلام اليوم) وقراءه بهذا الحوار المقتضب، والذي كنا نأمل أن يطول كثيرًا ويكون شاملاً لولا الوضع الحرج الذي يمر به الشيخ مما اضطره إلى اختصار الكثير من الأسئلة.. فنسأل الله لشيخنا التوفيق والسداد، ولقراء (الإسلام اليوم) الفائدة..
في بداية هذا اللقاء نرحب بفضيلة الشيخ عبدالمجيد الزنداني، وننقل له باسم جميع إخوانه المسلمين أسفهم على ما تناقلته وكالات الأنباء من ضمكم إلى قائمة ممولي الإرهاب، فنسأل الله لنا ولكم الثبات..
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، ففي هذه الظروف الملبدة بغيوم الهجوم على الإسلام والمسلمين؛ فإني أحسست بدفء الأخوة ومؤانسة الرفيق في الطريق المستقيم الموصل إلى مرضاة ربنا جل وعلا وأشكركم على اهتمامكم ويسرني أن أجيب عن أسئلتكم..
فلنبدأ من الأخير ونتساءل عن وقع ما تناقلته وسائل الإعلام من ضمكم إلى قائمة ممولي الإرهاب.. تساؤلات عديدة تتضارب تجاه هذا الخبر. ولكن بداية ما وقع هذا الخبر عليكم؟ وهل كنتم تنتظرون مثل هذا الإجراء الأمريكي؟
لا أقول إلا أني استغرب واستنكر هذه الدعاوى التي لا أساس لها من الصحة.
هل ينتظر منكم تحرّكًا تجاه هذا القرار؟
هذا العدوان الموجه إليّ من دولة كبرى، والرد عليه يجب أن يكون من الدولة التي أنا مواطن فيها، والاستنكار يجب أن يكون من أمة مسلمة أنتمي إليها طلب منها رسولها -عليه الصلاة والسلام- أن تكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ما موقف الإصلاح واللقاء المشترك والحكومة اليمنية مما يدور الآن حول مسألة إدراجكم التعسفي ضمن هذه القائمة المزعومة؟
لقد اهتز جميع أبناء الشعب اليمني لهذا الخبر حكومة وشعبًا، وتنادت قيادات الإصلاح لدراسة الموقف من هذه الادعاءات الكاذبة وطالبوا الحكومة بالقيام بواجبها في دحض تلك الافتراءات ونأمل من أحزاب اللقاء المشترك وسائر الأحزاب اليمنية والقوى السياسية أن تتخذ نفس الموقف وأن تستنكر هذا الابتزاز، كما نأمل أن تتصدى الحكومة اليمنية لهذا الهجوم الأمريكي على مواطنيها.
فضيلة الشيخ السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ما هي شرعية تلك القائمة التي تحتفظ الإدارة الأمريكية بإضافة من شاءت فيها وشطب من شاءت منها؟
هذه وصاية على سكان الأرض تتجاوز حقوق الإنسان التي يطبلون لها بأفواههم ويخالفونها بأعمالهم وتتجاوز استقلال البلدان ومواثيق الأمم المتحدة وتعتمد على ما يسمى بالأدلة السرية التي لم يعرف لها مثيل في التاريخ. والظلم لا يتحمله الإنسان وقد حرمه الله على نفسه وهو الملك لكل شيء وجعله بين عباده حرام وعواقبه سيئة.
فضيلة الشيخ يبدو واضحًا الآن تصيُّد وتربُّص أمريكي واضح لكل الرموز الإسلامية التي لها تأثيرها على الشباب والدعوة، فما الذي تتوقعونه حيال هذا الأمر؟
أتوقع منهم الثبات على الحق وعدم الاستسلام لهذا الابتزاز. والحق ما وافق الكتاب والسنة والباطل هو ما خالفهما.(24/400)
إلى أي مدى يمكن أي يؤثر هذا القرار الأمريكي في مسار جامعة الإيمان؟ وهل من المتوقع أن تستغل الحكومة اليمنية هذا الأمر لكي يكون مبررًا لها لإلغاء الجامعة؟
لقد أشار القرار إلى جامعة الإيمان واتهمها اتهامات باطلة، وأن الذي قتل الثلاثة المبشرين في جبلة طالب جامعة الإيمان، وهذا كذب وافتراء؛ فالذي قام بهذا الأمر لا صلة له بجامعة الإيمان البتة وليس من طلابها؛ ولكنها الادعاءات بغير برهان، وجامعة الإيمان جامعة يمنية تخضع لدستور اليمن وقوانينها وقد وضع حجر الأساس لها رئيس الجمهورية وأثنى عليها ودافع عنها عدة مرات.
ما موقف فضيلتكم من قضية الشيخ المؤيد؟
قضية الشيخ المؤيد - فرج الله عنه - وعن أسرى المسلمين هي صورة للدعاوى الكاذبة والتواطؤ الظالم بين دول على الباطل ضد أفراد أبرياء، وحتى الآن لم تتمكن الحكومة الأمريكية من تقديم أي دليل أمام القضاء.
أخيراً فضيلة الشيخ عبدالمجيد الزنداني ربما لن نستطيع المرور في هذا الحوار السريع دون أن نعرج بدافع الفضول إلى أن تخصوا قراء موقع الإسلام اليوم بما أثير عن دعوتكم لزواج فريند؟
بارك الله فيكم وأشكركم على اهتمامكم بنا وجزاكم الله خيرًا، وبما أنه قد كثر الحديث عن هذا الزواج وأثيرت عليه ضجة أخرجته عن مساره الذي أردناه.. فأنا لم أناد إلى صيغة جديدة للزواج، بل هي الصيغة المقرة عند علماء الإسلام بأركانها وشروطها المعتبرة، كما أن الزواج الميسر الذي اقترحته لا يتفق مع زواج المتعة الذي يقوم على التوقيت، ولا يترتب عليه استحقاق الإرث بين الرجل والمرأة ولا ينهى بالطلاق المشروع إلى غير ذلك من أوجه اختلاف بين الزواج الشرعي وزواج المتعة.
وأما الاسم الذي أطلق على الفكرة فكان من باب المشاكلة عند المناقشة (بوي فريند، وزوج فريند) وتعرض الاسم "زوج فريند" للتحريف الإعلامي إلى "زواج فريند" مما أوهم أنه صيغة جديدة للزواج، وأنا لا أدعو إلى مصطلحات غير شرعية، وأرى أن يكون مسمى هذه الصورة (الزواج الميسر للمسلمين في الغرب) بدلاً عن مصطلح "زواج فريند".
==========(24/401)
(24/402)
البديل الإسلامي في مجال الإعلام
د. عبد القادر طاش 15/2/1425
05/04/2004
تتميز رسالة الإسلام بأنها منهج شامل للحياة بامتدادها الدنيوي والأخروي: (قُل إنَّ صَلاَتي ونُسُكِي ومَحْياي ومماتي للهِ ربِّ العالمين، لا شَريكَ له وبذلك أمِرتُ وأنا أوَّل المُسلمين) (سورة الأنعام : 162 - 163). ولقد اعتورت المسلمين في حياتهم الحاضرة أسباب الضعف والتفكك، وعوامل الانحراف والتفلت حتى ذبل في نفوسهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي ذلك التصور الشمولي للإسلام باعتباره منهجاً للحياة، ودستوراً لحركة الإنسان والمجتمع في هذا الكون.
ولعل من نعمة الله علينا - نحن المسلمين - أن تشهد الساحة الإسلامية في الآونة الأخيرة صحوة إسلامية مباركة، تنطلق من الإحساس بالحاجة إلى تطوير مناهج الإصلاح في حياة المسلمين، بما يتوافق مع أصالة المنهج الإسلامي باعتباره صالحاً لكل زمان ومكان أولاً، وبما يستوعب متغيرات المرحلة الراهنة التي يعيشها المسلمون ثانياً، وبما يتواءم مع الاستجابة الواقعية المبصرة للتحديات التي تواجه التطبيق العملي المتكامل للمنهج الإسلامي في واقع الحياة المعاصرة أخيراً.
وإن من المنطق - ونحن نشهد هذه الصحوة المباركة - أن ننادي بتحويل الإحساس بالحاجة إلى شمولية الإصلاح، وتكامل التطبيق للمنهج الإسلامي، إلى برنامج عمل واضح المعالم، مفصل الجوانب، يقدم البدائل الإسلامية في مختلف مجالات الحياة.
وتكتسب المطالبة بإيجاد البديل الإسلامي في ميدان الإعلام - بجانبيه النظري والتطبيقي - أهمية بالغة لما تتمتع به وسائل الاتصال الجماهيرية اليوم من مكانة خطيرة في توجيه عقليات الجماهير، وتشكيل سلوكياتها في الحياة، في عالم تحول إلى (قرية كونية)، قصرت وسائل الاتصال الالكترونية المسافات بين أجزائه، وربطت شبكةً معقدة من الاتصالات بين دوله وشعوبه، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية كله.
إن وسائل الاتصال الجماهيرية تعد اليوم الجهاز المركزي الذي يوجه الفرد والمجتمع، ولذلك فإنَّ صياغة منهج للإعلام الإسلامي يعمل على سد الفراغ الهائل في منظومات المنهج الإسلامي ليعتبر ضرورة ملحّة، حتىّ يمكن بلورة أنموذج جديد للإصلاح الإسلامي يقوم على الشمول والتكامل والواقعية.
وهذه الإضاءات المتواضعة محاولة لطرح بعض التساؤلات الحيوية حول الإعلام الإسلامي، ومفهومه، ودوره ومسؤوليته، في وقتٍ نحن في مسيس الحاجة فيه إلى جلاء صورته، وتحديد معالمه، والكشف عن كنوزه وذخائره، والتخطيط من أجل تحويله إلى واقع حيّ، يتعانق فيه القولُ مع العمل، وتتلاحم فيه النظرية بالتطبيق. وتتركز الإضاءات التي أحاول تسليطها حول ثلاثة تساؤلات هي:
- لماذا نحتاج إلى الإعلام الإسلامي؟
- وما الإعلام الإسلامي الذي نريد؟
- وكيف نصل إلى الإعلام الإسلامي؟
لماذا الإعلام الإسلامي؟
إنَّ المطلب القّيم لا بد أن تتوافر له مبرّرات قوية ومقنعة، تسّوغ تبنيه بإخلاص، وتدفع إلى الدعوة إليه بإلحاح، وتقوي العزائم في سبيل تحقيقه في الواقع بلا توانٍ أو هبوط. وتستند المطالبة بأسلمة الإعلام وصياغته صياغة إسلامية إلى مبررات ثلاثة هي:
1- المبرّر المنطقّي:
لقد جاء الإسلام - كما ذكرنا سابقاً - ليكون منهجاً شاملاً للحياة كلها بجميع جوانبها ومجالاتها. وقد رسم الإسلام للإنسان معالم لنظمه الاجتماعية المختلفة، لتتوافق هذه النظم مع الغاية الرئيسة لوجوده، وهي استخلاف الله له في الأرض لعمارة الكون وفق منهج الله وتحقيق عبادته وحده.
وارتباط المسلم بإسلامه ليس ارتباطاً عاطفياً روحياً فحسب، بل هو - إلى جانب ذلك - ارتباط واقعي عملي من خلال تطبيق شرائع الإسلام وهديه وتعاليمه السامية وتوجيهاته الربانية في مجموعة من النظم الإسلامية التي حكمت حياة المسلمين في شؤونهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية والعسكرية.
وعندما ضعف التزام المسلمين بمبادئ دينهم، وتكالبت عليهم القوى الاستعمارية التي استهدفت خلخلة التصور الشمولي للإسلام وتطبيقه في حياتهم، تحوّل ارتباط معظم المسلمين بالإسلام في العصر الحاضر إلى مجرد ارتباط عاطفي محدود، يكتفي فيه المسلم بإقامة شعائره والتعبديّة، وتزكية نفسه بالرياضيات الروحية والأخلاقية الفردية. وقد نتج عن هذا المفهوم المغلوط لحقيقة الالتزام الإسلامي أن حفلت حياة المسلمين بصور الازدواجية والتناقض بين الارتباط العاطفي بالإسلام في ميدان العباد والأخلاق الفردية، وبين الارتباط العلمي الواقعي بالمذهب المناقضة للإسلام في ميدان النظم والتشريعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
إنّ حياة المسلمين المعاصرة لن تتحقق لها الصبغة الإسلامية إلا عندما ينسجم ارتباطها العاطفي بالإسلام في الجانب العقدي والروحي والفردي مع ارتباطها العلمي والواقعي بالإسلام في الجانب التشريعي والتنظيمي. ومن هنا تكتسب الدعوة إلى صياغة المعارف والنظم في حياة المسلمين صياغة إسلامية أهمية بالغة. بل إنَّ تحقيق هذا الهدف يعتبر التحدي الحقيقي الذي ينبغي على الأمة الإسلامية أن تواجهه في وقتها الراهن.(24/403)
ويعتبر الإعلام فرعاً مهماً من فروع المعرفة العلمية والتطبيقية، التي تحتاج إلى العناية بتأصيل مفاهيمها ومناهجها وتهذيب أساليب وطرق ممارستها الواقعية وفقاً لهدي الإسلام وتوجيهاته. وتتعاظم أهمية صياغة النظام الإعلامي: فلسفة وغاية ومنهجاً وممارسة، صياغة إسلامية في ضوء إدراكنا لأهمية الإعلام في حياة المجتمعات، وخطورة ما يقوم به في التأثير على الأفراد والجماعات سلباً كان هذا التأثير أو إيجاباً.
إنَّ المبرر المنطقي للمطالبة بصياغة الإعلام صياغة إسلامية، يؤكد على أن هذه الصياغة نتيجة منطقية لشمول المنهج الإسلامي وتكامله.
2- المبرّر الواقعي:
يواجه المسلمون اليوم في مختلف أقطارهم ومواطنهم غزواً فكرياً وثقافياً وحضارياً رهيباً. ولم يَعُد هذا الغزو الحضاري الشامل مقصوراً على الوسائل التقليدية للغزو من كتب استشراقية، أو مذاهب هدّامة، أو مؤامرات استعمارية مكشوفة. لقد انتهى عصر الغزو الاستعماري الاستشراقي المباشر. إن الغزو الحضاري الذي تواجهه الأمة الإسلامية يستخدم وسائل جديدة، وأساليب جديدة. إن الرسالة الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة، بل إلى العقول المثقفة، عن طريق الخبر الذي تبثه وكالة الأنباء، والتحليل السياسي، أو الاقتصادي الذي تكتبه الصحيفة والصورة التي ترسلها الوكالات المصورة. والرسالة الغازية تعبر إلى العقول المثقفة عن طريق الفيلم التلفازي المدهش، وعن طريق شريط الفيديو، وعن طريق البرنامج الإذاعي المشوق. والرسالة الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة عن طريق فيلم الكرتون المتقن. والرسالة الغازية تعبر إلى العقول المثقفة والأجيال الصاعدة عبر النظريات المدسوسة في مناهج التربية والتعليم، معللة بدعاوى العلم والتقدم والاكتشافات الحديثة !!
ولقد أعجبتني كلمة معّبرة لأحد المثقفين يقول فيها: ( إن الغزو الثقافي الخطر اليوم لم يَعُد يأخذ صورة مبشَّر في كنيسة يُقنع ( المحلّيين الهمج ) باعتناق ( ديانة متحضرة) وإن كانت النشاطات التبشرية في بعض أنحاء العالم الثالث لا تزال مصدر تهديد ثقافي لا يستهان به، والغزو الثقافي الخطر اليوم يَعُد يتخذ شكل مؤامرة استعمارية تستهدف تشكيك شعب ما في تاريخه وأخلاقه وديانته، وإن كان الحديث لا ينقطع عن مؤامرات كهذه، حقيقية أو وهمية. إن أخطر ما في الغزو الثقافي المعاصر أنه أصبح ذا دافع ذاتي تلقائي، يتم دون مجهود من الجهات الغازية، ويتم دون أن يدرك ضحية الغزو أنه معرض لأي خطر، فيقدم، في حماسةٍ وبلاهة، لا على قبول الغزو فحسب، بل إلى اعتناقه واحتضانه. هنا مكمن الخطر).
إن هذا الغزو الحضاري الرهيب يعمل على زعزعة مبادئ الإسلام وقيمه وهدم أخلاقياته ومثله في نفوس أبناء المسلمين لينشأوا في غُربةٍ عن دينهم وحضارتهم وتراثهم، ويصبحوا فريسة سائغة للأفكار الغربية ونمط الحياة الغربية بكل ما فيها من انحرافات ومفاسد وأوبئة. ولقد وصل هذا الغزو إلى منازلنا ولم يعد أمامنا مفر من مواجهته، المواجهة الصحيحة التي لا تكتفي بالتنديد والصراخ والدعاء بالويل والثبور، بل بتطوير استراتيجية مُحكمة تعتمد على هدفين :
الأول: توجيه الإعلام في الدول الإسلامية نحو الأصالة والذاتية النابعة من قيم الإسلام ومبادئه، وتوفير الجو الملائم والدعم المناسب لصنع البدائل الإسلامية التي تقف في مواجهة ما يقدمه الغرب.
والثاني: تنقية الإعلام - إلى جانب التعليم - من المؤثرات الغربية العلمانية والإلحادية، وتفنيد ما تقدمه وسائل الإعلام الغربية من مفاسد وانحرافات وبيان عوارها وتهافتها بمنطق مقنع وبوسائل مكافئة.
وهذه المواجهة الواقعية للغزو الفكري والثقافي في صورتها الشاملة المتكاملة المتكافئة لن تتحقق إلاَّ عندما تتبلور في أذهان المسلمين الصورة الحقيقية للإعلام الإسلامي، وتتوالى معطياته الواقعية وثمراته العملية في واقعهم المعاصر، إذ لا يمكن أن يهزم الباطل الزائف إلا الحقُّ الأصيل: ( بَل نَقذفُ بالحَقِّ الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإذا هُوَ زاهِقٌ ) ( الأنبياء: 18).
3- المبّرر الإنساني:
وسائل الإعلام، لسان هذا العصر. وقد أدرك أصحاب الديانات والمذاهب والأفكار أهمية استغلال هذه الوسائل في سبيل إيصال أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم إلى الناس. وكان النصارى الصليبيون أكثر الناس إدراكاً لهذه الأهمية، وأسبقهم إلى استخدامها في مجال التنصير.
وفي الوقت الذي ينشط فيه أصحاب الديانات المحرّفة والمذاهب الفاسدة لاستغلال وسائل الإعلام لخدمة أغراضهم، نجد المسلمين غائبين عن الساحة الإعلامية إلاّ بعض جهود محدودة لا أثر لها.
والبشرية اليوم قد سئمت من الدين المحرّف، وانصرفت عن المذهب الفاسد، وهي تعيش ضياعاً وقلقاً واضطراباً. وقد أثقل كاهل الإنسانية في وقتها الراهن كابوس الإلحاد والعلمانية، والفساد الخلقي، والظلم والاستبداد السياسي، والاستغلال الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي، وتعالت الصيحات تبحث عن مصدر للأمان والعدالة والحياة الكريمة، فأين سيجدون كل ذلك إلاّ في الإسلام ؟!!(24/404)
إن البشرية اليوم بحاجة إلى الإسلام أكثر من أي وقت مضى. والمسلمون مطالبون - وفقاً للتوجيه الإسلامي بمخاطبة الناس بلغتهم ووسائلهم- بأن يستخدمون وسائل الاتصال والإعلام في سبيل الدعوة إلى الإسلام، وتوضيح صورته الناصعة، وإبراز محاسنه وثمراته للناس في كل مكان. إنَّ تبليغ رسالة الإسلام العالمية، وإيصال دعوته إلى البشرية كلها مبّررً إنساني عظيم للدعوة إلى صياغة الإعلام صياغة إسلامية حتى يمكن أن يؤدي هذا الإعلام دوره في الحياة الإنسانية.
ما هو الإعلام الإسلامي الذي نريد ؟
تختلف نظرات الناس حول الإعلام الإسلامي ما بين النظرة الجغرافية، والنظرة التاريخية، والنظرة الواقعية التجزيئية. فالنظرة الجغرافية تفهم الإعلام الإسلامي على اعتبار أنه الإعلام الصادر من دول العالم الإسلامي، أو الجهات التي تنتسب إلى الإسلام. وتكاد هذه النظرة أن تكون النظرة السائدة في الدراسات الأجنبية عن الإعلام الإسلامي. ولذل تصنف هذه الدراسات إعلام الدول التي تقع في إطار العالم الإسلامي ضمن الإعلام الإسلامي بمفهومه الجغرافي الرسمي، دون تمييز في المنهج أو الغاية أو الممارسة.
والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي تكاد تحصر الإعلام الإسلامي في إطار زمني ضيق، فتوحي بأن الإعلام الإسلامي مفهوم تراثي، وممارسة محدودة في فترة زمنية معينة، مثل تلك الدراسات التي تتناول الإعلام ووسائله في عهد النبوة أو الخلفاء الراشدين.
أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فتستند إلى صورِ الممارسة الواقعية لبعض جوانب الإعلام الإسلامي المحدودة، وتفهم هذا الإعلام باعتباره إعلاماً ( دينياً متخصصاً ). ولذلك يغلب على من ينحو هذا المنحى أن يفهم الإعلام الإسلامي في حدود الصفحات الدينية، وركن الفتاوى، والخطب المنبرية، في الصحافة اليومية، أو في حدود تلك الصحف والمجلات التي تسمّى نفسها بالإسلامية، أو في حدود البرامج والأحاديث الدينية في الراديو، أو في حدود البرامج والأفلام والمسلسلات التاريخية والدينية، التي يشاهدونها عبر الشاشة التلفازية أو السينمائية !!
ورغم أن هنالك بعض جوانب الصحة في هذه النظرات المختلفة للإعلام الإسلامي، إلاً أنها لا تعبر عن حقيقة الإعلام الإسلامي بشموله وتكامله، ولا تمثل جوهره الأصيل، وخصائصه النظرية والتطبيقية. فالنظرة الجغرافية توهم الإعلام الصادر من دولة مسلمة يكتسب الشرعية الإسلامية بمجرد انتسابه إلى الدولة المسلمة، دون اعتبار لغاية ذلك الإعلام ومنهجه، ودون اعتبار لمضمونه وأساليب ممارسته. والمؤسف أن واقع الإعلام المعاصر في كثير من دول العالم الإسلامي لا يصور أبداً حقيقة الإعلام الإسلامي. والتحليل العلمي الموضوعي يكشف لنا أن كثيرا من منطلقات الإعلام، ومضامينه، وأساليب، ممارسته، وقواعد تنظيمه في كثير من الدول المسلمة يسير في ركب التقليد والتبعية للأنماط الغربية أو الشرقية في الإعلام، ويفتقد الهوية الإسلامية الواضحة !!
والنظرة التاريخية للإعلام الإسلامي، نظرة قاصرة، إذ تحجّم هذا الإعلام وتصوّره على أنه إعلام تراثي عتيق، ينفصل عن الواقع، ويبتعد عن معالجة قضايا العصر والاستفادة من معطياته ومنجزاته. والحقُّ أن الإعلام الإسلامي ليس مرتبطاً بفترة زمنية، وليس محدوداً ببقعة مكانية محدودة، بل هو منهج يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويحمل في طياته بذور الملائمة لكل زمان ومكان.
أما النظرة الواقعية التجزيئية للإعلام الإسلامي، فهي نظرة مجحفة، غير منطقية، وهي مثل سابقتيها تحجم هذا الإعلام، وتفصله عن الواقع، وتخصّص له جزءاً محدودا من النشاط الإعلامي الحافل. وهذه النظرة ذات أثر خطير في حياة المسلمين، لأنها تفصل الإعلام بنشاطاته الواسعة وممارساته المتنوعة، عن الهدى الإسلامي،ن وتكتفي بتحكيم الإسلام في جزءٍ من النشاط الإعلامي، ثم لا تبالي أن يناقض الإعلام مبادئ الإسلام وأخلاقه ويتعدى حدوده وضوابطه في الأجزاء الأخرى التي يطلق عليها ( الإعلام العام ) !! وكأن هذا المفهوم يقترب من المفهوم الغربي العلماني في فصل الدين عن الحياة، واعتبار الدين شأناً فردياً وعقيدة مكنونة، يخصص له جزء من النشاط الإنساني، ولا سلطان له على الواقع، ولا هيمنة له على الحياة الاجتماعية ونشاطاتها العامة.
إنَّ المفهوم البديل، بل المفهوم الحقّ للإعلام الإسلامي هو المفهوم المنهجي، الذي لا يجعل مقاييس إسلامية الإعلام مبنية على أساس الحدود الجغرافية والمكانية، أو الوضعية التاريخية المحدودة، أو الممارسة الواقعية الخاطئة للإعلام في الحياة، بل يبني تلك المقاييس والمعايير على أساس المنطلقات الرئيسة والأطر الفكرية والاجتماعية والإنسانية المنبثقة من روح الإسلام وتصوراته الكلية وقيمه السامية، وعلى أساس الضوابط الشرعية التي ينبغي أن يسير الإعلام على هدي منها، ويلتزم بها في نشاطاته المختلفة وممارساته الواقعية.(24/405)
إن الإعلام الإسلامي - بهذا المفهوم المنهجي - روح تسري في النشاط الإعلامي كله، تصوغه، وتحركه وتوجهه منذ أن يكون فكرةً إلى أن يغدو عملاً منتجاً متكاملاً، مقروءاً كان أو مسموعاً أو مرئياً. وبذلك يصبح الإعلام الإسلامي منهجاً قويماً تسير وفقه جميع النشاطات الإعلامية في كافة الوسائل والقنوات دون أن يحيد نشاط واحد منها عن الطريق، أو يتناقض مع النشاطات الأخرى سواء في الوسيلة الواحدة أو الوسائل المتعددة. وبذلك - أيضاً - يصبح الإعلام الإسلامي حكماً موضوعياً تتحاكم إليه جميع هذه النشاطات الإعلامية ثم لا يجد نشاط منها حرجاً في التسليم لحكمه والإذعان لتوجيهه.
وفهم الإعلام الإسلامي بهذه الصورة الشاملة، ينسجم مع الحقيقة الأصلية لهذا الدين، وهي أنه منهج شامل للحياة، وليس منهجاً جزئياً يعالج جانباً من جوانب الواقع الإنساني، ويهمل الجوانب الأخرى. وهذا المفهوم للإعلام الإسلامي، يحقق في حياة الأمة الإسلامية على الدوام الاستقرار والتوازن، ويخلصها من آثار الازدواجية والتناقض والصراع التي تعاني منها الأمة، كلما ابتعدت عن منهج الله. والنشاط الإعلامي المعاصر يعاني من هذه الأمراض الخطيرة، حيث تجد الازدواجية والتناقض في الوسيلة الواحدة فضلا عن وجودهما في الوسائل المتعددة، حيث تستمع إلى برنامج ( ديني ) يحث على الفضلة، فيعقبه مباشرة برنامج آخر يغري بالرزيلة، أو أغنية ماجنة تزين السقوط بصورة مشوقة !! وتشاهد في التلفاز برنامج ( دينيا ) يبنى في نفوس المشاهدين معاني الرجولة والصلاح والخير، ثم لا تلبث أن تصدم في الوسيلة نفسها بفيلم مثير، ينقض كل ما بناه البرنامج (الديني ) ويهدمه!! والأنكى من ذلك أن يقدم البرنامج (الديني ) في أسلوب جاف وإخراج رتيب، فلا يجذب المشاهد ولا يجوز على رضاه، بينما يخدم الفيلم غير الديني خدمة فائقة، فيقبل عليه الصغار والكبار، ويتحلق حوله الشباب والشابات في رغبةٍ وحماس!!
ولو نظرنا إلى واقع النشاط الإعلامي والنظم الإعلامية في المجتمعات المختلفة التي لا تدين بالإسلام لوجدنا ذلك النشاط في مجتمع ينبع أصلاً من التصورات العقدية والأيديولوجية للمجتمع، وينطبع بالقيم والتقاليد والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة فيه، ولوجدنا أن النظام الإعلامي يخدم أساساً الغايات والأهداف البعيدة والقريبة التي يسعى المجتمع إلى تحقيقها. فالإعلام في الدول الغربية ( اللبرالية ) العلمانية ينطلق من غايات المذهب ( اللبرالي ) العلماني، وفلسفته، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط العلماني الغربي للحياة الذي يفصل الدين عن واقع الحياة، ويجمد الحرية الفردية، ويعلي من قيمة الأنانية، والإنجاز الشخصي، ويعمق روح المادية والاستهلاكية. والإعلام في الدول الشيوعية يصطبغ بفلسفة الأيديولوجية الماركسية، وينطلق من غاياتها، ويروج بطرق مباشرة وغير مباشرة للنمط الإلحادي الماركسي للحياة الذي يصور هذه الحياة بأنها صراع بين الطبقات، ويجعل الحزب ( ديكتاتورا ً) متسلطاً ومهيمناً على الناس، ويوظف الإعلام ليكون خادماً للسلطة ومجرد أداة لتحقيق رغبات الحزب وشهواته !!
وللإسلام - دون شك - فلسفته الإعلامية الخاصة به. وفي ضوء هذه الفلسفة المستقاة من المصادر الأصلية للمنهج الإسلامي، تتحدّد معالم النشاط الإعلامي داخل المجتمع الإسلامي وخارجه. ولقد وضع الإسلام أصولاً عامة وقواعد كلية لكافة جوانب العملية الإعلامية. ولكن هذه الأصول والقواعد مبثوثة في المصادر الإسلامية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وفي اجتهاد فقهاء المسلمين وعلمائهم عبر العصور المتعاقبة. والإعلام اليوم غداً علماً منظماً. ولذلك فإن المسلمين بحاجة ماسة إلى صياغة منظومة إعلامية ذاتية لهم، تحدّد معالم الهدى الإسلامي في النشاط الإعلامي من حيث :
أ - فلسفته الأساسية، وإطاره الفكري العام المبني على التصوّر الإسلامي للكون والحياة والإنسان وغاية الوجود الإنساني.
ب - غايته الكبرى، ومنهجه الأصيل في تحقيق تلك الغاية.
ج - وظائفه العامة والخاصة، ومدى ارتباط هذه الوظائف بالحاجات الواقعية لأفراد المجتمع، ومقدار استجابته للظروف المحيطة بهم.
د - أساليبهُ وطرقه في تقديم المضمون إلى الناس، ومدى مراعاة هذه.
الأساليب لخصائص الجمهور المتلقي للرسالة الإعلامية، وكيفية تفاعله معه.
هـ- وسائله وقنواته المتنوعة سواء التقليدية منها والحديثة، وخصائص
الوسائل الخاصة بالإعلام الإسلامي والتي ينفرد بها عن غيره من المذاهب الإعلامية الوضعية كقنوات الاتصال الشخصي المنظم، وألوان الاتصال الجمعي والدولي المتميزة، وكيفية استثمارها وتوظيفها لخدمة أهداف المجتمع المسلم وغاياته.
و- نظمه وسياساته العامة والخاصة والأسس والضوابط التي يضعها الإسلام لتقنين تلك النظم وصياغتها، وترشيد السياسات الإعلامية التي يتبناها.(24/406)
وهذا العمل الذي يستهدف صياغة منظومة إعلامية إسلامية للمجتمع الإسلامي لن يتحقق إلا خلال اجتهاد عصري يقوم به علماء يمتلكون زاداً متيناً من العلم الشرعي، ويمتلكون أيضاً زاداً متيناً من العلم الإعلامي في جانبيه النظري والتطبيقي. ولا بد من أن يعتمد هذا الاجتهاد العصري على تلاحم عنصرين هامين هما:
أولاً: دراسة المصادر الأساسية للإسلام دارسة إعلامية علمية لاستنباط الأسس والقواعد التي تنظم العملية الإعلامية أو ترشد إليها. ويردف هذه الدراسة محاولة الكشف عن ذخائر التراث الإسلامي عبر العصور مما له صلة بالممارسة الإعلامية.
ثانيا: دراسة نتاج البحوث والدراسات والممارسات الإعلامية المعاصرة واستيعابها، ثم استلهام روح التشريع الإسلامي ونتائج الدراسة الإعلامية العلمية لمصادر الإسلام وتراث المسلمين للوصول إلى رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون عليه الإعلام الإسلامي في الجوانب النظرية والتطبيقية التي ذكرتها آنفاً.
كيف نصل إلى الإعلام الإسلامي ؟
إنَّ تحقيق ثمرة هذا التصور النظري للإعلام الإسلامي، بشموله وتكامله، لن يكون إلاّ بمحاولة الإجابة على هذا التساؤل الملحّ: كيف نصلُ إلى الإعلام الإسلامي؟.
وفي تصوّري أنَّ الوصول إلى الإعلام الإسلامي يحتاج منّا العمل الدؤوب في أربعة ميادين رئيسة هي:
1- ميدان الإعداد والتأهيل البشري:
إنَّ أّهم الوسائل للوصول إلى تحقيق الإعلام الإسلامي في واقع الحياة وأنجعها هو إعداد الكفايات البشرية المتخصصة في الإعلام، وتأهيلها فكرياً، وخُلُقياً، وعملياً، ومهنياً. إن الإنسان هو العنصر الأول في إحداث أيّ تغيير مقصود. والعناية بإعداد الإعلاميين الإسلاميين، وتأهيلهم حتى يكونوا قادرين على تحمل هذه المسؤولية الضخمة، ليس أمراً سهلاً قليل التكاليف، بل هو عمل كبير، يتطلب منا جهوداً عظيمة وطاقات عديدة. إن الطبيب - وهو يطّبب الأبدان- يمر بفترة صعبة ومكثفة وطويلة من إعداد والتأهيل، فما بالك بالإعلامي، وهو المعلم، والمربي، والقائد، والموجه، وصانع الرأي في المجتمع ؟! إن مهمّته- ولا شك - أعظم، ومسؤوليته أكبر، فهو يطّبب النفوس، ويؤثر في العقول، ويسهم في صياغة مواقف الناس وسلوكهم. ومن ثم، وَجَبَ أن يكون تأهيلُه موازياً لهذه المسؤولية المنوطة به ولابدّ لإعداد الإعلامي الإسلامي وتأهيله من أن يتكامل المنهج العلمي والعملي في الجوانب التالية:-
أ - الإعداد الأصولي والفكري، حيث يتعرّف الطالب على الأصول العقدية والفكرية والتشريعية للإسلام من خلال مجموعة مختارة من المقررات الشرعية والفكرية في القرآن الكريم، والتوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والثقافة الإسلامية.
ب - الإعداد اللغوي والتذوقي، فاللغة وسيلة الإعلامي، بل هي وعاء الفكر والثقافة، ولذلك لا بد له من أن يدرس بعض المقررات في اللغة العربية نحواً وصرفياً وفقهاً، وأن يسعى إلى التمكّن في فنون القول، والبيان والأسلوب، والتعبير، والتذوق الأدبي.
ج - الإعداد التخصصي والمهني، وهذا الإعداد لا بد أن يتكامل فيه الجانب النظري والجانب العملي التطبيقي حتى لا تصبح دراسة الإعلام دراسة نظرية بحتة. ولا بد من اكتساب الطالب للمهارات العملية والمهنية المطلوبة منه في واقع الممارسات الميدانية.
د - الإعداد الثقافي العام، وهذا يتطلب الإلمام بالواقع الذي يعيش فيه، من حيث قضاياه ومشكلاته، وأحداثه، وتياراته، كما يتطلب الإلمام ببعض المعارف والعلوم المُعنية له على فهم هذا الواقع وتحليله، وهي علوم وثيقة الصلة بالإعلام كعلم النفس والاجتماع، والعلوم السياسية والاقتصادية، واللغة الأجنبية.
ولا بد من التأكد هنا على أن من مستلزمات هذا الإعداد الصارم للإعلاميين الإسلاميين، أن يخضع الطلاب الذين يقبلون في أقسام الإعلام لشروطٍ موزونة سواء في المجال العلمي أو الأخلاقي. ولا بدّ أن يتوافر فيهم الحدّ الأدنى من الموهبة، والاستعداد النفسي. كذلك لا بد من التأكيد على أن يتوافر لهؤلاء الطلاب في المحيط الأكاديمي جوّ من العلاقة الحميمة بينهم وبين أساتذتهم، المبنية على الثقة والاحترام والتهذيب التربوي والتوجيه الأخلاقي عبر القدوة الصالحة التي يجدها الطلاب في أساتذتهم وموجهيهم. ويعد الجانب التربوي والأخلاقي ذا أهمية بالغة في مجال إعداد الإعلامي الإسلامي نظراً للصعوبات الجمّة والتحديات العديدة والمغريات المتنوعة التي تصادف الإعلامي الإسلامي في حياته العملية.
2- ميدان التأصيل والتنظير العلمي:
ما يزال الاهتمام بتأصيل قواعد الإعلام وأصوله وممارساته من وجهة النظر الإسلامية، محدوداً ومتناثراً. والمطلوب أن يتصاعد الاهتمام العلمي بالإعلام الإسلامي تأصيلاً وتنظيراً، وأن يركز على النوعية. وينطلقُ هذا الاهتمام من خلال إنشاء ودعم معاهد ومراكز البحوث الإعلامية، التي تهتم بالإعلام الإسلامي، واستقطاب الباحثين والدارسين الذين يتميزون بالإخلاص والوعي الإسلامي، والخلفيَّة الشرعية، والاستيعاب العلمي للتخصص الإعلامي، إلى جانب تمتعهم بالمنهجية في التفكير، والتمكن من أساليب البحث العلمي ووسائله.(24/407)
ولعل من الأهمية بمكان أن تسير هذه الجهود العلمية التأصيلية وفق خطة مدروسة وتصّور سليم للأولويات، وأن تعتمد على أسلوب فرق العمل الجماعية بدلاً من الأعمال والاجتهادات الفردية المحدودة. ولا بد من أن تتوافر لهذا العمل التأصيلي العلمي إمكانية بشرية ومادية ملائمة، كما لا بد من توافر قنوات علمية تُسهم في تحريكه وبلورته وانضباطه كالندوات العلمية، والحلقات الدراسية، والمشايع البحثية، والمؤتمرات واللقاءات، التي تتلاقح فيها الأفكار، ويتبادل فيها الباحثون والدارسون الآراء، ويتناقشون فيها حول نتائج بحوثهم ومؤلفاتهم.
3- ميدان الإصلاح الواقعي :
والمقصود بهذا: الإسهام الإيجابي في إصلاح أوضاع المؤسسات الإعلامية القائمة في العالم الإسلامي، الرسمية منها وغير الرسمية، وتنقيتها من الشوائب وترشيد مسارها الإعلامي، سواء ببذل النصح والمشورة، أو دعم الأعمال التي تخدم الإعلام الإسلامي، أو المشاركة العلمية في تلك المؤسسات والهيئات في ميادينها القيادية والإنتاجية والتقويمية.
ويبدأ الإصلاح الواقعي بمحاولة إيجاد قنوات تواصل وتعاونٍ بين المهتمين بشؤون الدعوة والإرشاد والإعلام الإسلامي من جهة، وبين العاملين في المجال الإعلامي من جهةٍ أخرى، وذلك من أجل تضييق الفجوة بينهم. ولقد عانت الأمة من جرّاء انعزال العلماء وذوي الاتجاهات الإسلامية عن الوسائل الإعلامية، وعدم توثيق صلاتهم وعلاقاتهم بالعاملين في هذه الوسائل. وإنَّ السعي من أجل تنظيف الإعلام من الانحرافات والتشوّهات هدف نبيل ويحتاج إلى تحمل وصبر واقعي للظروف التي يعيش فيها الإعلام. وإنَّ انتهاج أسلوب التدرج في الإصلاح ضرورة لازمة في ضوء معرفتنا أنَّ كثيرًا من المفاسد والانحرافات التي تحيط بوسائل الإعلام قد استغرق نشرُها وتكريسها زمناً ممتداً، وإصلاحها أو تخليص الإعلام منها يحتاج إلى زمن ممتد أيضاً، وما أسهل الهدم وما أصعب البناء !!
ولا أعتقد أنَّ من الإيجابية في شيء أن ننساق وراء الدعوة إلى عدم الاستجابة لضغط الواقع في المطالبة بإنتاج البدائل الإسلامية، والغياب عن الساحة الإعلامية، بدعوى انتظار نضوج الرؤية النظرية للإعلام الإسلامي، أو بدعوى أن الإنتاج الإعلامي الإسلامي والمشاركة المحدودة في وسائل الإعلام القائمة لن تجد نفعاً خضم التيار الجارف، وأنها ستكون صرخة هائمة في وادٍ سحيق. إن هذا الاتجاه السلبي- في نظري- لن يحقق ما يصبو إليه المخلصون للإعلام الإسلامي. والجهود الصغيرة المتواضعة عندما تجتمع وتتراكم وتتواصل، لا شك أنها ستثمر -بإذن الله تعالى- ثمرات يانعة تفيد الناس وتبقى في المجتمع: ( ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. ومثل كلمة خبيثة كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرارٍ ) ( إبراهيم : 24-25).
4- ميدان الإنتاج العملي المتميز:
إنّ صناعة البدائل الإسلامية في مجال الإعلام بمختلف فنونه وضروبه وألوانه، تحتاج إلى المبادرة إلى إنشاء مؤسسات وشركات إسلامية للإنتاج والتوزيع الإعلامي في مختلف المجالات، من طباعة، وصحافة، ونشر، وتلفاز، وفيديو، وتسجيلات صوتية، وشرائح مصورة، وأفلام سينمائية وغيرها. وإنشاء مثل هذه المؤسسات يتطلب طاقات بشرية عديدة، ويتطلب تكاليف مادية ومالية باهظة. ولكن الاستثمار في هذا النوع من الإنتاج سيحقق مكاسب معنوية ومادية لا نظير لها.
ولكن ينبغي التنبيه إلى أهمية أن يتولّى مثل هذا الإنتاج العملي الإسلامي المميّز طاقات ذات إخلاص وتقوى، وأن يستعان فيه بأهل الخبرة والمعرفة وان تكون الأعمال المنتجة، متقنةً من حيث جوانبها الفكرية والفنية، حتى لا تشوّه الإنتاج الإسلامي البديل وتعطي صورةً سيئة عنه. ولذلك لا ينبغي الاستعجال في هذا الجانب إلاّ بعد استكمال العدّة : تصوراً ومضموناً، وتوافر العناصر البشرية: إخلاصاً وتمثلاً، وإتقان العمل فنياً وحرفياً.
إن صياغة الإعلام- نظرياً وتطبيقياً- صياغة إسلامية، ليست مشروعاً سهلاً سريع التنفيذ. بل هو مشروع عملاق يمثل صورة من صورة التحدي الحضاري الشامل الذي تواجهه الأمة الإسلامية في حاضرها ومستقبلها. وإن توافر الجو السياسي والاجتماعي الملائم، والدعم المعنوي والمادي المناسب لتنفيذ مثل هذا المشروع العملاق، يُعدُّ ركيزةً أساسية للانطلاق نحو تحقيقه في واقع الأمة الإسلامية.. فالنشاط الإعلامي مرتبط دائماً بالبيئة السياسية والاجتماعية التي يعيش فيها، ويتأثر بها، سلباً وإيجاباً.(24/408)
ولكن لا ينبغي أن يصيبنا اليأس أو الإحباط بسبب ضخامة التكاليف المعنوية والمادية، بل ينبغي أن يكون ذلك دافعاً قوياً لنا لنروّي الأمل المتفتح في قلوبنا وواقعنا بماء الإخلاص، والعزيمة الصادقة، والتخطيط المدروس، والعمل الجادّ، والسعي الدؤوب المتواصل حتى يثمر الأمل ويتحقق الحلم. وقد يكون من المناسب أن نلقي نظرة على واقع الإعلام العالمي والإعلام العربي المعاصر، والمأمول الذي نتطلع إليه حتى يؤدي الإعلام العربي الإسلامي دوره ويبلغ رسالته إلى الإنسانية
============(24/409)
(24/410)
الأمة بين سنتي الابتلاء والعمل (1/5)
د. علي بن عمر با دحدح عضو هيئةالتدريس بجامعة الملك عبد العزيز بجدة 8/4/1425
27/05/2004
لماذا يتحمس الشباب؟
وهل الحماس في الشباب عيب؟ أو شيء طارئ أو أمر غريب؟
نقول: إن الحماسة في الشباب أمر طبيعي لعناصر كثيرة منها:
1. الحيوية والقوة
أن الشباب فيه حيوية وقوة والله سبحانه وتعالى كما جاء في التقديم قال:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}(الروم: 54).
فالشباب قوة بين ضعفين وانطلاقة بين هدوءين أو سكونين وحركة واندفاع بين جانبين فيهما من الهدوء والسكينة ما فيهما وحتى من الناحية الطبية نعلم أن الفئة العمرية في فترة البلوغ ما يزال الخلايا والأعضاء تزيد وتنمو وتعظم وتتكاثر وهذا أمر بين وإذا رجعنا حتى إلى اللغة تسعفنا هذه المعاني بشكل واضح لأن الاشتقاق اللغوي لأصل شب وهو أصل الشين والباء في اللغة يدل على نماء الشيء وقوته في حرارة تعتريه وهذا يدلنا على طبيعة الامتزاج بين الحيوية والحرارة والقوة وطيعة الشباب ومن ذلك قولهم: شبت النار أو شببت الحرب ثم كما يقول ابن فارس ثم اشتق الشباب منه وهو النماء والزيادة في قوة جسمه وحرارته ولذلك نرى هذا الأمر واضحا وأن من طبيعة الشباب الفطرية بل والخلقية البدنية أو ما يسمى بالبيولوجية أي الطبيعية الفيزيائية أنه بطبيعة خلقته في هذه الفترة العمرية فيه نمو وزيادة وشيء مما يزداد قوة ويزداد ..
ومن هنا فالحماسة قرينة الشباب بدون أن يكون هناك افتعال لها أو تكلف فيها أو تطلب لأسبابها بل هي قرينة الشباب من هذا الوجه.
2- الإرادة والتحدي :
جانب آخر في طبيعة الشباب في مقتبل العمر وهو قضيةالإرادة والتحدي: من طبيعة هذه الفترة العمرية أن فيها عزيمة صلبة وإرادة قوية من خصائص الشباب قبول التحدي بل والتعرض له والبحث عنه والثبات عليه ولو أننا أردنا أن نأخذ أمثلة والأمثلة اعذروني ستكون دائما محدودة لأننا لو تشعبنا فيها يضيق المقام عن ذكر ما وراء ذلك.
قصة لابن مسعود وأنتم تعرفون ابن مسعود كان من صغار الصحابة وشبابهم وكان إلى ذلك نحيل الجسم دقيق الساقين كان الصحابة يضحكون من دقة ساقيه في الفترة المكية العصيبة التي كانت فيها المواجهة قاسية وشديدة وشاملة من قريش ضد المسلمين وفي جلسة بين بعض المسلمين كانوا يتداولون فيما بينهم من يمكن أن يقرأ القرآن ويصدع به في نوادي قريش وهي عملية تحد كبيرة وعملية تحتاج إلى قوة إرادة وصلابة عزيمة فانتدب لذلك ابن مسعود الشاب النحيل وذهب إلى منتدى قريش في البيت الحرام وصدع بآيات القرآن يقرؤها بين ظهرانيهم وإذا به كما هو متوقع ولم يكن هو يظن أن ذلك سيعجبهم بل كان يعرف ما يترتب على ذلك عمدوا إليه وضربوه وأثخنوه بالجراح ولعلنا نقول بعد هذا الحدث أنه قد أخذ درسا كافيا لكن ما الذي حصل؟ في اليوم الذي يليه عندما تداول المسلمون تلك الحادثة قال: (أما لو شئتم لأعاودنهم بها) فهي طبيعة الإرادة القوية والتحدي لأن نفس الشاب دائما فيها هذه الحيوية التي تأبى في الجملة أن تلين أو أن تهادن أو أن تتراجع بل تريد دائما أن تثبت نفسها وأن تظهر قوتها وأن تصر على رأيها وأن تثبت على مبدئها وأن تكون نموذجا ينسجم مع طبيعة التفاعلات والمشاعر النفسية والعواطف الجياشة التي تمور بها النفس وكذلك:
3-الأمل والطموح:(24/411)
لأن الشباب في مقتبل العمر فما زالت الصورة ممتدة والأفق واسعا قد يرسم طريقا في تخيله في آماله وطموحاته في مجال العلم وأنه سيحصل فيه وأن سيكون له كذا وكذا وكذا وقد يرسم طريقا في مجال حياته الاجتماعية أو في حياته العملية لكن لو أننا تصورنا المرأة في الخمسين أو في الستين لا شك أن الأمل موجود لكنه قطعا سيكون محدودا ولن يكون له مثل طبيعة هذا الأمل الممتد العريض كالشباب في حياتهم وطموحاتهم ولو أردنا أن نأخذ أمثلة لوجدنا كذلك هذه الأمثلة في فتى الرابعة عشر الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام في جملة تربيته لأصحابه يعرف كيف يصقل هذه النفوس وكيف يذكي تلك الآمال وكيف يشحذ تلك الهمم ربيعة بن كعب الذي مان يبيت إلى جوار بيوت صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام من الليل قام يصب له وضوءه عليه الصلاة والسلام فأراد النبي أن يكرمه كما هو معروف في قصته فقال: (يا ربيعة سلني ما شئت؟) والقائل هو رسول ا صلى الله عليه وسلم المجاب الدعوة فقال: انظرني يا رسول الله، وعندما نقول الآن للشباب ماذا تريد؟ ما هو أملك؟ ما هو رجاؤك؟ اطلب ما سنحققه لك ويطون رهن إشارتك وبين يديك؟ فربما نعرف اليوم أنه ربما يطمح إلى هذا أو ذاك من أمور الدنيا وشؤونها لكن ربيعة بعد أن تريث وتأنى قال مقالة عظيمة رائعة فريدة لو اجتمعت لها عقول الشيوخ الكبار والعلماء العظام لربما قصروا عن أن يصيبوا مثل ما قال فأوجز وأبلغ في أمله وطموحه فقال: أسألك مرافقتك في الجنة، فلم يسأل الله الجنة بل سأل مرافقة الرسول في الجنة ليكون سؤاله في أعلى وأعظم مطلب فماذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهذه هي التربية لكي يبقى الأمل ممتدا والطموح متواصلا (أعني على نفسك بكثرة السجود) ونعلم قوله لعبد الله بن عمر يوم أول رؤياه قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) والأمر في هذا واضح وجلي وكثير.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعطي لكل ما كان يناسبه حتى يمتد في مجاله وميدانه الذي تتعلق به نفسه وأمله كما هو معروف في الحديث لذي رواه الترمذي عندما عدد النبي عليه الصلاة والسلام الصحابة وذكر في كل منهم خصيصة يتميز بها قال: (أقرؤهم أبي وأفرضهم زيد وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ) إلى آخر ما ذكره عليه الصلاة والسلام.
4- تنوع الخيارات:
مازال في مقتبل العمر هل يتزوج الآن؟ هل يكمل دراسته؟ هل يدخل ميدان العمل؟ أما من قد طويت صفحات عمره فإن الخيارات في غالب الأحوال تكون محدودة وربما نرى نحن أننا نضيق الآن المجال فلا يبقى مساحة إلا لكم معاشر الشباب الذين تدخلون في جميع التعريفات أما من له تعريف واحد يتيح له أن يدخل في الشباب وتعريفات أخرى تخرجه منه يبدأ تضييق الدائرة عليه كما قلنا فلذلك لما كانت هذه الحماسة من طبيعة الشباب فنحن نرحب بها ولا نعارضها ولا نقول إنها شيء شاذ أو أمر غريب ولكننا نوصل أيضا في مدح هذه الحماسة وبيان ثمراتها وبعض فوائدها ليكمل لنا حينئذ الصورة الإيجابية في هذه الحماسة بإذن الله عز وجل.
ثمرات الحماسة :
الحماسة تورث خلالا كثيرة وسمات عديدة:
1- الهمة والعزة:
فهذه الحماسة تجعل الهمة عالية والعزيمة ماضية والعزة أبية والروح فتية بحيث أن هذه المشاعر تترجم إلى مواقف وإلى سمات شخصية تعد من مظاهر القوة الإيجابية ليس في الشباب رخاوة وليس في الشباب ضعف وإن كان حالنا اليوم أو حال بعض شبابنا قد جعلت لهم صورة أخرى في الشباب هي صورة الدعة والترف والرخاء ولكننا نقول إن الأصل في طبيعة الشباب في التربية الصحيحة في الأجواء النقية أن يكون لهم همتهم القوية وعزتهم الأبية التي تجعلهم دائما في قصب السبق والتقدم كما سيأتي في المراحل التالية ولعلنا نريد أن نصور بعض هذه الهمم في سير الشباب من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والأمثلة محدودة كما قلت بحكم الوقت هذا نموذج رده النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال لكننا نرى كيف كانت القوة في أصل هذا النموذج عند البخاري في الصحيح من حديث النبي عليه الصلاة والسلام مع عبد الله بن عمرو بن العاص قال له عليه الصلاة والسلام: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر وتصلي فلا تنام وتقرأ القرآن في كل ليلة) فقال: بلى يا رسول الله، هذا الخبر بلغه عن عبد الله بن عمرو انظروا إلى همته وطاقته المتدفقة كيف كان على حال لا يفطر ولا ينام ليله ويختم في كل ليلة نعم رده النبي النبي عليه الصلاة والسلام إلى الاعتدال المعروف في الحديث لكن الشاهد عندنا هو هذه الهمة العالية القوية التي كانت عنده ورسول ا صلى الله عليه وسلم في مقتبل عمره وفي بداية دعوته كانت له المواقف العظيمة في مثل هذا.
2- العمل والإنتاج:(24/412)
الهمة والعزة تتحول إلى عمل مثمر وإلى تواصل في الإنجاز وحرق المراحل لكي يكون هناك ثمرة ظاهرة ونتيجة باهرة من خلال هذه الهمة لأن صاحب الهمة لا يرضى بالقعود ولا يرضى بالكسل والخمول ولا يرضى إلا أن تكون كل ثانية من ثواني حياته مملوءة بما يتناسب مع طبيعة هذه المشاعر المتدفقة والعواطف المتأججة في نفسه ولذلك نرى كيف كان شباب الصحابة والشباب في مراحل التاريخ الإسلامي كلها في الأجواء الصحيحة والتربية الجادة كيف كانوا دائما يأتون بالعجائب والإنجازات الباهرة حتى في مجالات مختلفة لعلي أذكر مثالا في قصة زيد بن ثابت رضي الله عنه وهو الذي كان غلاما صغيرا في نحو السادسة عشر من عمره فقال له النبي النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند عند الإمام أحمد: (اقرأ حرف يهود) يعني حتى يقرأ له أراد صلى الله عليه وسلم أن يتعلم اللغة حتى يقرأ للنبي r ما يأتيه عفوا فتعلم السريانية في بعض الروايات أنه تعلمها في خمسة عشر يوما فكان يقرأ للرسول وكان يكتب له وفي بعضها في سبعة عشر يوما وبالمناسبة أيضا زيد بن ثابت كانت له المهمة الفريدة التي جعل من مؤهلاتها الشباب في صحيح البخاري الحديث المشهور في جمع القرآن (قال أبو بكر عندما استدعى زيد بن ثابت: إنك شاب عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم ) وأول هذه الخصائص أنه شاب مهمة ثقيلة تحتاج إلى قوة تحتاج إلى عمل متواصل أسندت إلى هذا الشاب الفتي مع ما عنده من الأمانة والعلم والخبرات السابقة كما يقال ثم كلفه بجمع القرآن وكتابته ومع أن الذي كان يحدثه أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره وهما أفضل الصحابة وأكبرهما سنا إلى غير ذلك مع ذلك كله قال بكل رباطة جأش وهمة تناسب الشباب قال: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟) وهذا يدل على قوة هذه الشخصية لكن بعد أن جاءت المراجعة وانشرح صدره لذلك قال: فوالله لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون علي ثم انطلق وبدأ في هذه المهمة وأعانه عمر ووضع الشروط والضوابط والشهادة المطلوبة على كل وهو مكتوب أنه ثبتت كتابته بأمر النبي عليه الصلاة والسلام أو بحضرته وأتم هذه المهمة على أدق وأحكم وأمتن صوة ما كانت لتكون لولا هذه الفتوة والحيوية والحماسة والقوة في حياة الشباب والأمر في هذا كما قلنا يطول الحديث عنه.
3- الثبات والإصرار:
كثير من الأعمال لا تعطي ثمرتها إلا مع طول الزمن ومع استمرارية العمل وذو النفس التي ليست فيها هذه الحماسة غالبا ما ينقطع نفسه وينقطع عمله وينقطع بعد ذلك أثره ويطوى خبره لأن المسألة تحتاج إلى مثل هذا كما سنشير من مزايا الشباب في الحماسة: أنها تعطيهم قوة وثباتا بشكل منقطع النظير أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو أمير على الكوفة ظل يقرئ القرآن في مسجدها أربعين عاما كل يوم وهو أمير وهو يتولى الحكم لكنه كان في صفته وسمته يدل على هذا العطاء المستمر والثبات على العمل ليست قضية ردود أفعال ولا سحابة صيف تنقشع ولا أمرا أثارته بعض العواطف المهيجة ثم جاء غيرها ونرى بعض الشباب وهو يتموج ويذهب يمنة ويسرة مع بعض هذه التقلبات لعاطفية وخاصة نحن في عصر عولمة وإعلام وكوكبة وموجات متدفقة هنا وهناك تعبث بالعقول والعواطف عبثا كبيرا وحبيب بن زيد رضي الله عنه وهو من أمثلة الشباب كيف ثبت لما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة الكذاب فكان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يقول مسيلمة: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن مسيلمة رسول الله يقول: لا أسمع لا أسمع وإذا بمسيلمة بعد ذلك يبدأ في تقطيعه يقطع أذنه يجدع أنفه ويقطع إربا إربا وهو ثابت على هذا النهج الذي كان عليه مصعب بن عمير الشاب المدلل المترف المعطر الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت فتى أحسن لمة في أهل مكة من مصعب بن عمير) لما دخل الإيمان في قلبه وتمكن وأعطى عاطفته كلها لهذا المعتقد والمبدأ ووجه بكل أنواع الحصار والتضييق وشظف العيش لم تلن له قناة ولم يتغير له موقف ولم يتراجع في أي صورة من الصور التي أخذ بها رضي الله عنه وأرضاه حتى كانت بعد ذلك قصة استشهاده مضرب مثل بل موضع عبرة لكبار الصحابة أبكتهم سنواتا طوالا بعد مصعب بن عمير رضي الله عنه كما ورد في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف عند البخاري أنه كان صائما في يوم خميس وأتي له بطعام الإفطار وكان فيه صنفين من الطعام نوعين من الطعام فقط نوعين فبكى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فتعجب الناس قالوا: ما يبكيك؟ قال: ذكرت مصعب بن عمير مات يوم أحد يوم مات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه بدا قدماه وإن غطينا قدماه بدا رأسه وأخشى أن نكون قد عجلت لنا طيباتنا، بقي موقف مصعب في ثباته الفريد يوم قطعت يده اليمنى فرفع الراية بيسراه فقطعت فضمها بعضديه حتى خر واستشهد رضي الله عنه على هذه الصورة من الثبات الرائع في قوة الحماسة والثبات على المنهج والمبدأ .
4- نجدة وإعانة :(24/413)
وينتج عن هذه الحماسة في الجلة أيضا نجدة وإعانة لأن المتحمس يأبى أن يرى الضيم ويسكت يأبى أن يرى المحتاج وهو واقف لا تستجيشه تلك العاطفة إلى أن يمد يد العون وإلى أن يسابق وإلى أن يكون في الصفوف الأول في كل هيعة وفي كل ميدان من ميادين العطاء والنجدة ولعل قصة حنظلة بن أبي عامر غيل الملائكة الذي دخل على زوجه وعروسه في ليلة عرسه ثم أصبح على ظهر الخيل مجاهدا في سبيل الله ناسيا أن يغتسل من جنابته حتى غسلته الملائكة فيما بين السماء والأرض كما أخبر صلى الله عليه وسلم تلك هي روح الحماسة المتدفقة في ميدانها الصحيح وفي عطائها الإيجابي.
5- امتنان وانتفاع :
وبعد ذلك لا شك أن هذا كله تتسع به دائرة الامتنان في الأوساط التي يعيش فيها الشباب بهذه الروح وبهذا العطاء وانتفاع من حولهم بهم بدلا من أن يكون ما قد يكون من عكس ذلك مما قد نعرج عليه في حديثنا هذا.
حسرات الحماسة :
هنا انعطافة لننظر إلى الصورة الأخرى وإلى الشق الآخر حتى تكتمل الرؤية من جوانبها المخلفة لأنه ليس من مصلحتنا في شيء دائما أن نسمع من الناس ما نرغبه وما نحبه بالعكس الإنسان يستفيد أكثر ممن قد يكون له وجهة نظر أخرى وممن قد يكون له من بيئته ومن تنشئته ومن معرفته ما قد لا يتفق معك فحينئذ يحصل نوع من التبادل والتكامل والامتزاج النافع والمفيد نحن لا نريد ولا ينبغي أن نفرح عنما نجد من يطبطب على ظهورنا ويؤيد مواقفنا في كل شيء وربما نجد أن طبيعة العاطفة تدعو إلى ذلك من هو الذي نحبه ونأنس به؟ هو ذلك الذي يوافقنا في كل ما نقول ويسايرنا في كل ما نعمل ويعطينا الدعم المعنوي والإيجابي في كل مبدأ أو رأي أو موقف نتخذه دون أن يكون عنده أدنى تحفظ حتى ولو أخطأنا أو حتى توقع في مستقبل الأمر أن تكون هناك احتمالات لوجود عواقب أو مخاطر أو نحو ذلك لا لابد أن نأخذ هذا الجانب مرة أخرى في صورة مغايرة عما سبق أول هذه الحسرات.
1- الفتور والإحباط :
عندما تكون الاندفاعة قوية أكثر من اللازم وغير مستوعبة للواقع ولا مدركة للإمكانيات ولا متهيئة في الأخذ بالأسباب فإن هذه الإندفاعة تمضي فلا تحقق نتيجتها فيرتد حينئذ بعد تجربة وثانية وثالثة إلى فتور يترك معه كل عمل وكل حيوية وكل نشاط وكل إيجابية بل يرتد حينئذ إلى نفسية محطمة مهزومة لم تعد عندها أدنى درجات الثقة بالنفس التي يمكن أن تكون أساسا للإنطلاق أو العمل ولعلي أضرب مثالا يدور أو يفع في صفوف الشباب كثيرا في بعض الجوانب الحياتية على سبيل المثال ربما يسمع كثير من الشباب الحث على العلم وطلب العلم وفضيلة العلم وتأتي هذه النصوص وتلك المحاضرات فتلهب في نفسه الحماسة وإذا به ولم تكن له سابق تجرة ولم يأخذ خبرة من صاحب تجربة يندفع اندفاعة من الناحية المنهجية غير صحيحة ومن الناحية التي تناسب طبيعته وقدرته غير متطابقة معها فإذا به لا يلوي على شيء ذكر البغوي في كتاب العلم شرح السنة عن الزهري رحمه الله قال: من رام العلم جملة فقده جملة، وهذه طبيعة ونحن نرى كيف يقبل كثير وهذه ظاهرة موجودة الشباب يقبلون ويريد أن يدرس هذا العلم وذاك العلم ويحفظ هذا المتن اندفاعة ليست متكاملة فكثيرا ما يؤول به الأمر إلى أن يترك ذلك كله أو حتى في جانب الالتزام الشخصي والأخذ بأمور الفرائض والعبادات والتطوعات يندفع فيها بغير ما يتناسب مع طاقته أو ظرفه ويكون فقط تحت تأثير عاطفي مؤقت ثم يرجع إلى ما وراء ذلك ونجد في هذا كما قلت من الناحية الواقعية أمثلة كثيرة والتجربة فيه واضحة حتى نستطيع إنشاء الله أن نواصل هذه المعاني.
2- تعطيل إعاقة :
كثيرا ما تدفع الحماسة إلى عمل متهور تفسد به كل تلك الرؤى التي كانت تبنى عليها الآمال وتقام عليها الأحلام لمواصلة في عمل ما لأن الإندفاع الشديد والخروج عن المسار الصحيح لا شك أنه سوف يفعل ردود أفعال كثيرة وهذه ردود الأفعال سوف تكون تعطيل ومنع وإعاقة وواقع الشباب المسلم في المجتمعات الإسلامية أيضا فيه أمثلة كثيرة من ذلك ونحن نعرف في كثير من بلاد المسلمين كيف كانت ثورات من الإندفاع في بلاد كثيرة أدت إلى منع خير كثير وإلى سد أبواب من الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل إلى تغييرات أعمق وأشد تأثيرا بدلا من ذلك الخير الذي كان ينشده بنسبة محدودة وإذا به ينقلب إلى كثير من العوائق والموانع والسدود التي تمنع كثيرا وكثيرا من الخير عليه وعلى آلاف مؤلفة من ورائه ولعلنا أيضا لا يخفى علينا مثل هذا فيما جرى في كثير من البلاد التي انفرط فيها عقد أمنها واختلت فيها الموازين وكثر فيها الهرج والمرج مما سيأتي أيضا ذكر بعضه فيما نأتي به في هذه النقاط:
3- موت وإتلاف:
يعني قد يبلغ الأمر إلى هذا المبلغ ونحن نعرف أن الحماسة المتمكنة في النفس أحيانا قد تصل إلى شيء من تغييب العقل وعدم النظر حتى في الضوابط والأحكام الشرعية ونحن نحب أن نؤكد هنا على أمر مهم وهو أن المنطلقات التي تحكم المسلم ليست منطلقات العاطفة ولا الشعور ولا ردود الأفعال ولا الانتصار للذات الذي يحكمنا أمران هما الأساسيان في تصرفاتنا كلها:(24/414)
الأول: هو حكم الشرع من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم فما كان واجبا أمضيناه وما كان محرما تركناه ويلحق به ويكمله
الثاني : مراعاة المصلحة الشرعية في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع المعاصر فإن من الأمور ما قد يكون واجبا أو قد يكون مباحا لكن إيقاعه في هذا الوقت أو في هذا المكان قد تترتب عليه مفاسد أعظم وقد يكون فعله في هذا الموطن محرما وإن كان في أصله واجبا وهذه موازنات معروفة في مقاصد الشريعة الكلية التي ينبغي مراعاتها وفي القواعد الفقهية المستقاة والمستنبطة من الأدلة الكلية والفرعية في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم مثل: (لا ضرر ولا ضرار) وغير ذلك من القواعد المعروفة فهناك ما قد يصل إلى هذا مما يقع به إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وإفساد كثير من الأصول الثابتة التي لابد من معرفتها ولعلي هنا أيضا أركز في هذا المعنى لأن بعض الأفهام تتجاذبها عواطف ولا تكاد تفهم حقائق النصوص وإذا تأملنا في هذا الجانب ثمة أمر مهم نحن نذكره لأنه من دين الله ولابد أن نفقه ديننا وأن نعرف أن الأصل أننا متعبدون بشرع الله عز وجل وأنه لابد لنا أن نتأمل في حكمة الشارع لأن الشارع معصوم سواء كان ذلك في كتاب الله أو ما ثبت من سنة رسول صلى الله عليه وسلم ولعلي أخص هنا موضعا محددا من هذه المواضع التي أصبحت فيها الفتنة عامة في كثير من مجتمعات وبلاد المسلمين.
طائفة كبيرة كثيرة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صحيحة في النقل وصريحة في النص في قضية ما يتعلق بالانحراف أو الفساد في ولي الأمر أو الحاكم المسلم وكيف يكون التعامل في هذا الشأن ولعلي وأنا أستطرد هنا قليلا لا أقول إن هذا الحديث وهذه المحاضرة قد أعدت من قبل وإن كانت متطابقة ربما مع أحداث مؤسفة ومحزنة وقعت البارحة وفي الفترات الماضية، نقول الذي يتحدث بهذا هو سيد الخلق r ليست القضية كما قلت عاطفية يذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الأحاديث لو ذكرتها لطال بنا المقام هذه الأحاديث فيها ضبط شديد وفيها تحوط كبير وفيها ربما في صورتها الظاهرة كأنما تأتي معاكسة لما ينبغي أن يكون فيقول على سبيل المثال عليه الصلاة والسلام في بعض ما صح من هذه الأحاديث قال: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر) وفي رواية أخرى من حديث حذيفة قال: (وإن جلد ظهره وأخذ ماله) وفي رواية ثالثة عند مسلم في تفصيلات لهذا الحديث لما ذكر صلى الله عليه وسلم عن الفتنة قال حذيفة رضي الله عنه في هذا الحديث يعني قال لرسول الله: أرأيت إن أتي به إلى الصفين قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (فليدق سيفه) يعني فليتلف سيفه حتى لا يخوض في هذه الفتنة أو في ذلك القتال ونجد بعض هذه الأحاديث يفهمها ربما بعض الناس على أنها سلبية مطلقة وعلى أنها لا تتفق مع ما يظنه من عوميات أخرى في دين الإسلام ولو أننا تأملنا هذه النصوص لعرفنا حكمة عظيمة للشارع نقل ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة وفيه أحاديث عظيمة من مثل هذا قال يعني في مثل هذه الأوامر قال: فيه تسكين الدهماء وحقن الدماء لأن الأمر إذا انفرط عقده عظمت الفتنة وكبرت البلية وصار من الفساد على أمور الدين كلها ما لم يكن موجودا بمثل هذا الأمر ولا يعني ذلك بالطبع والقطع أن أي انحراف يقر وتصبغ عليه الشرعية كلا دين الله عز وجل واضح لا يضيعه أحد في كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم لا يملك أحد تغييره ولا تبديله وذلك من فضل الله ونعمته علينا فينبغي أن نعرف أننا متعبدون بالشرع وانظروا إلى هذه الأمثلة:
حذيفة بن اليمان في قصته المشهورة في يوم الأحزاب لما طلب منه النبي أن يذهب ليرى خبر القوم الأحزاب أبو سفيان ومن معهم من قريش والقبائل فتسلل حذيفة في حادثة مشهورة ويصف هو يقول: وكان أبو سفيان في مرمى سهمي إلا أني ذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحدث شيئا حتى ترجع) أبو سفيان رأس الكفر وهو قائد الأحزاب وكان في مرمى سهمه ونباله لكنه امتثل ذلك الأمر والأمر قطعا كانت فيه حكمة وهو إرشاد ووحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (النجم:3،4).
ومجزأة بن ثور السدوسي رضي الله عنه في معركة أخرى مع الروم عندما كلفه قائد المسلمين سعد وأتته رسالة بعد أن طال الحصار ولم يستطيعوا أن يقتحموا رسالة من بعض الروم تدلهم على منفذ تحت الأرض نفقي فيه ماء فانتدب قال سعد لمجزأة: انظر لي رجلا من قومك خفيفا جريئا شجاعا، قال: اجعلني أنا ذلك الرجل أيها الأمير ، وقال له: لا تحدث شيئا، قال: وخلصت حتى رأيت الهرمزان ونازعتني نفسي في قتله إلا أني ذكرت قول سعد فرجع وأخذ ثلاثمائة وكلهم خاضوا ودخلوا وفتحوا من الداخل، ليست القضية اندفاعات عاطفية وإنما هي انضباطات شرعية ومراعاة مصلحية ومنهجية في الأولوية ينبغي أن نعرفها.
4- الضياع والخسارة:(24/415)
كم من الشباب يندفعون في جوانب مختلفة ثم لا يرمون على شيء لأنهم لم يرشدوا تلك الحماسة ولم يجعلوها في برامج عملية وتدرج فيمضي الوقت ولا تحصل الثمرة، وتنفق الجهود أو الأموال ولا تحصل النتيجة وذلك أيضا كما قلت حتى لا نطيل يزيد في الأمر ولعلي أضرب مثالا في قضية العلم مرة أخرى:
بعض الشباب في هذه الحماسة العلمية يتتبعون مسائل الخلاف وتجد الواحد بعد يوم أو يومين من بداية عنايته بالعلم أو بعنايته بالالتزام إذا به يسمع هذه المسائل الخلافية ويتحدث بها، فلان مخطئ فلان كذا ويبدد الجهود في تتبع الأخطاء وفي حفظ الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهو لم يعرف الصحيحة بعد ولم يحفظها ولم يكون من ذلك نظرة علمية واضحة يستطيع بها أن يميز بعد ذلك الخطأ الذي قد يكون في هذه المنهجيات المختلفة.
وقد قال ابن القيم رحمه الله كما ورد في الفوائد قال: من تتبع شواذ المسائل يعهني التي فيها الخلافات فقط يتتبعها، يقول: منهج أهل السنة والجماعة أخذ أصول العلم قال: وغيرهم يتتبع شواذ المسائل وهو يقول عن تجربة: وقل من رأيته يفلح في هؤلاء، ما يصل إلى ثمرة لأنه إذا صح التعبير يأخذ من كل بحر قطرة وينتهي بعد ذلك إلى ولا قطرة، ليست هناك يعني هذه الصورة الإيجابية التاي بتجميع هذه الجهود نصل إلى ثمرة هناك ضياع وخسارة.
5- التضخيم والاختلال:
هناك نقاط صغيرة يمكن بالمكبرات أن ترى وهي مئات أضعاف حجمها من حماسة الناس أحيانا إذا تحمس لأمر جعله هو كل شيء هو مبتدأ الأمر ونهايته وهو أوله وغايته وهو الذي لايمكن أن ينشغل أحد بسواه وإذا انشغل أحد بغيره فهو ضائع وتافه ومضيع للأمور وهكذا تندفع العاطفة تماما هي العاطفة بطبيعتها حتى لو اندفعت العاطفة كما نعرف عند العشاق والمحبين تختصر الدنيا كلها في المعشوق والمحبوب كما قال المجنون ولا بأس أن يكون هذا التفريع للشباب، يقول:
إذا قيل للمجنون: ليلى تريد *** أم الدنيا وما في طواياها
لقال غبار من تراب نعالها *** أحب لنفسي وأشفى لبلواها
يقول ابن الجوزي معلقا: وهذا مذهب المحبين بلا خلاف فمن أحب الله ورسوله كان أدنى شيء منهما أحب إليه من كل هذه الدنيا وما فيها.
فالمسألة الاندفاعية في العاطفة هذه قضية عظيمة ومن أمثلتها: التقديس والتبخيس والتهوين والتهويل: من أحببناه جعلناه ذلك الرجل الذي كأنما هو ملك مبرأ من كل عيب أما علمه فغزير وأما رأيه فسديد وأما منطقه ففصيح وأما تصرفه فحكيم، كأنما لم يكن فيه عيب مطلق ونحن حينئذ نقول: هو الأول وهو الآخر وهو الذي ينبغي أن يكون … أين هذا من ذلك الاتزان حتى النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) ويقول: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) يعني يجعل هذا الاعتدال في شخصه عليه الصلاة والسلام وهو من هو في عظمته ومكانته عند ربه سبحانه وتعالى ولذلك مما رواه أبو هريرة وهو من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان الرسو صلى الله عليه وسلم أحب شيء إلينا رؤيته فإذا أقبل علينا لم نقم له لأنا نعرف كراهيته لذلك.
وأحيانا إذا انتقصنا إنسانا وكان غير مقنع لنا فلا نكاد نرى له حسنة من الحسنات:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وهذه قضية واضحة ونعرف الأمثلة في هذا قصة سلمان رضي الله عنه ولا أريد أن أطيل.
إذن هل نحن الآن مع الحماسة؟ وإلا فترت حماستنا للحماسة والمتحمسين لكننا نقول: لا للتهور، الحماسة التي قلناها باقين على عهدنا بها وعلى تأييدنا لها.
الحماسة المتهورة :
ثم نمضي مرة أخرى إلى الحماسة المتهورة: ما أسباب هذا الذي رأيناه من قبل؟ لابد أن نعرف العلل من خلال أسبابها وبداياتها حتى نجتنبها وحتى نتقيها فالوقاية خير من العلاج أول هذه الأسباب:
1- قصور في العلم:
مشكلة الجهل هي آفة الآفات ومن الجهل: جهل بسيط وجهل مركب كما تعلمون، الجهل الذي نقصده هناك غياب كثير من الأصول العلمية المهمة:
معرفة النصوص الشرعية في كثير من الميادين الحياتية والمسائل الآنية المستجدة، معرفة القواعد الشرعية كما قلت التي هي خلاصة إستقراء للأدلة النصية ، معرفة المقاصد الشرعية التي هي خلاصة غايت هذا الدين وأهدافه، معرفة السنن الربانية في طبيعة هذه الحياة وطبيعة قيام الدول وسقوطها وطبيعة مآل المتقين وعاقبة المكذبين والكافرين قضايا كثيرة لابد أن ندركها ونعرف أنها سنن ماضية لا تتبدل:
{ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } (فاطر: من الآية43).
لابد أن يكون عندنا يقين ومعرفة وتشرب لهذه المعاني حتى لا نندفع مع العاطفة بعيدا عن هذه الأصول العلمية المهمة وكما قلت الأمثلة قد تطول ولكنني أذكر عندما نتلو قول الله سبحانه وتعالى:
{ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } (محمد: من الآية7).
عندما نقول:
{ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود: من الآية49).
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون َ} (الروم:60).(24/416)
هذه معاني مهمة النبي عليه الصلاة والسلام طبقها والصحابة على سبيل المثال بعض الأمثلة.
في سنن أبي داود نفر من الصحابة كانوا في سفر شج أحدهم أصابته الجنابة استفتى أصحابه، قالوا: لا لابد أن تغتسل الجو بارد والرجل مشجوج، قالوا: لابد أن تغتسل، فاغتسل فمات، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قتلوه قتلهم الله، أ فلا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال) كم من القضايا الضخمة الهائلة والمسائل الكبيرة التي من المفترض أن لا يتكلم فيها إلا أكابر العلماء مجتمعين وإذا بك تجد ذلك الشاب في مقتبل العمر يتناول الحديث فيها ويفتي فيها ويعطي القول الحاسم والجازم ويرفض كل ما يخالف رأيه وقوله وهذا في غالب الأحوال ليس عن أساس علمي وإنما هي عن اندفاعات عاطفية وخليط ومزيج من هذه التجاذبات التي تجتمع لدى هذا أو ذاك وكما قلت المسائل كثيرة.
2- النقص في الوعي:
والوعي هو: إدراك المسائل من جميع جوانبها ومعرفتها من كل وجوهها، كثيرا ما تكون النظرة إلى جانب واحد تذكرنا بالقصة المشهورة للعميان الثلاثة الذين اتفقوا هل رأوا الفيل؟ فأحدهم وقعت يده على خرطومه، والآخر وقعت يده على أذنه، والثالث فكل عندما وصف إنما وصف الجزئية التي رآها وكان الوصف أبعد ما يكون عن الحقيقة لأنه لم تكتمل الأجزاء حتى تتكامل الصورة بشكل واضح معرفة الواقع أصل مهم في تنزيل الحكم الشرعي على هذه المسائل وهذه مسألة طويلة وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد فصولا نفيسة في هذه المسألة وقال: إن كل عالم ينبغي أن يكون عالما بالشرع وبصيرا بالواقع حتى يستطيع أن ينزل هذا على ذاك نقص لوعي لما وراء هذه الأمور وم يترتب عليها من المفاسد والمصالح والرؤية التكاملية إذا غابت فإنها في غالب الأحوال يقع لها يعني بها مثل ذلك الذي أشرنا إليه.
3- الضعف في التربية:
كثيرة أجيال الشباب الذين لم يتلقوا تربية متكاملة منهجية على الأصول الإسلامية كثيرون منا كنا في أوقات ليس عندنا أحد يرشدنا أو ربما لقد كنا سرنا في طرق من التسيب أو التفلت أو تجاوز المحارم أو نحو ذلك ثم بعد ذلك عدنا أو كانت لنا ثقافات خليطة ثم بعد ذلك حاولنا أن تكون لنا ثقافة أصيلة هذا الخليط فيه ضعف في التربية ليس فيه تعود على منهجية متكاملة على سير واضح على تخطيط بين على صبر وانضباط كثيرا ما يكون عبارة عن هذه الردود الانفعالية وكثيرا ما نرى الجوانب المتضادة فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بغير أن تمر أو بغير أن يكون هناك مرور على منطقة الوسط وهذا مشاهد في كثير من الجوانب.
4- إحباط في الشعور:
وهو لعله من أخطرها وأكثرها تأثيرا في الشباب الذين يتهورون وهو: الإحباط في مشاعرهم من نواح عدة أول هذه النواحي:
تسلط الأعداء وهيمنتهم على أحوال وأوضاع بل وبلاد الأمة الإسلامية في عجز فاضح وتخاذل واضح وسلبية مؤلمة ومحزنة:
هذه عند الشباب المتحمس يرى ذلك فتغلبه عاطفته وتتقد حماسته وربما عند غياب ما سبق تضيع الرؤية وطيش العقل وينعدم الرأي السديد المبني على العلم الصحيح وهذا نحن نعرف واقعه ونعرف كم هي بلاد الإسلام التي احتلها الأعداء وتسلطوا عليها ليس لسنة ولا سنتين ولا لعقد ولا عقدين بل لما هو أكثر من ذلك ولعل فترات الزمن الأخيرة كان فيها كثير مما يعد هزائم وتراجعات المسلمين على مستويات عدة بل على المستويات الحضارية والعلمية وهذا عند من تتقد نفسه غيرة وحمية لابد أن يكون لها أثر فإذا زاد حجم هذه القوة حجم هذا العدوان وحجم هذه الهزائم أصبحت أكبر من أن تحتملها نفسه فيخرج إلى غير حد اعتدال وإلى غير تصرف الاتزان وهذا أمره أيضا واضح.
الأثر الثاني في إحباط الشعور: أيضا كثرة الانحراف والخلل والتجاوز في مجتمعات المسلمين نفسها في حدود الله عز وجل:
نحن نعرف كم في بلاد المسلمين من هذه التجاوزات كم في بلاد المسلمين من إقرار المنكرات والقيام بها وإعلانها وتبنيها، كم فيها مما هو مخالف لشرع الله ويمنع شرع الله ويبيح ما يخالف شرع الله وهذ قضية لا شك أن كل ذي غيرة وإيمان يضيق صدره بها وتغلي نفسه ويشتعل قلبه حزنا وألما ورغبة في أن لا يكون مثل ذلك لكن عندما تفقد بعض هذه الصور يكون أيضا ما ذكرناه.
وجانب ثالث: وهو سوء المعاملة والظلم في التعامل مع هؤلاء الشباب:
سواء كان في بيئة التعليم من أساتذتهم أو من قد يكونون في موقع التربية ولا يجدون منهم إلا تخطئتهم وإتهامهم بالنزق والطيش أو كذا أو حتى في الدائرة الأسرية وعجز الآباء عن تفهم ما قد يكون عند الشباب من عواطف فيها أخطاء لكنها تحتاج إلى توجيه وربما كذلك أحيانا في المعالجات والمعاملات الأمنية عل مستوى الدول كثيرا ما كانت هذه هي بذور لتلك الانحرافات بشكل أو بآخر ونحن في عصر تتجدد أحداثه وتتفاقم بشكل كبير وهذه قضية مهمة.
5- رداءة في الاستيعاب:(24/417)
هذه الطاقة المتدفقة والحماسة المتألقة أين تصرف؟ أين مجالها الصحيح؟ كيف نضعها على خط القطار ليمشي إلى الوجهة التي ينتهي إليها ليصل إلى غاية محددة ومعروفة عندنا أمران: إما أنها مسنفذة في أمور تافهة وضائعة فكم مستنفذ من حماس الشباب في الرياضة على سبيل المثال، كم من حماسة وقوة وربما صراع وربما أعصاب ويعني قدرات تتفجر في هذا الجانب بهذه الضخامة أو في جوانب أخرى أيضا ليست في الاستثمار الصحيح الرياضة جيدة ربما حتى التشنيع في أصله ليس على هذا ليس شيئا مذموما لكن هذه المبالغات تجعل في آخر الأمر أنها لا تقنع وأنها في الأخير ترتد إلى فراغ يرجع إلى بحث عن بديل آخر ، وإما أيضا: أنه هناك غياب وقلة وندرة في المحاضر الاستيعابية لطاقة هؤلاء الشباب وحماستهم.
حماسة الأكياس:
لعلي أصل إلى نقطة أخيرة وإنها نقطة مهمة وكما قلنا لا للتهور نقول: لا للمتهورين وتسألون الآن: ما الذي تريد؟ وأين سنصل؟ ما بين حماسة مدحتها ثم عدت ونقضت أصولها وهنا نكمل بالشق الثاني لعنواننا ونقف هذه الوقفة الأخيرة في: حماسة الأكياس:
1- التعقل والاتزان :
وطبعا ليست الأكياس الأكياس إنما الأكياس من ذوي العقول، هنا جمعنا بين الأمرين نريد هذه الحماسة والحقيقة أن الإنسان بدون الحماسة والحيوية النفسية في الحقيقة هو أقرب إلى الجماد وإلى الموات منه إلى الإنسان الذي بطبيعته هو حيوي والتفاعلات الحيوية في جسم الإنسان في الثانية الواحدة تقوم عمليات ضخمة وهائلة في جسم الإنسان ثم هو بعد ذلك يكون خاملا وقاعدا وكسولا هذا لا يتطابق لذلك نقول: صفة الحماسة إذا أضفنا إليها هذا الخليط والمزيج من الكياسة أصبحت الحماسة الإيجابية هي التي نمدحها ونريدها وترشدها تلك النظرة العقلية المتزنة فتأتينا هذه الصورة التي نريد أن نعطي فيها وصف لهذه الحماسة الكيسة أو الكياسة المتحمسة أو كما ذكر في كلمات جميلة الأستاذ البنا يقولا: ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهيب الحماسة.
وهي كلمات جميلة تبين أننا نحتاج لمزج ذلك العقل الذي دائما يتحفظ يتحفظ ولا يريد أن ينطلق يحتاج إلى بعض الحماسة حتى تفك عنه بعض تلك القيود التي يبالغ فيها وربما تلك الحماسة المندفعة تحتاج إلى بعض القيود العقلي حتى يرشدها فلذلك التعقل والاتزان مهم جدا الاتزان لا يجعل هناك طغيان جانب على جانب كما قلنا ونستحضر كما قلنا في قصة سلمان وأبي الدرداء: لما جاء سلمان إلى أبي الدرداء شكت أم الدرداء، قالت: أخوك أبو الدرداء لا حظ له في الدنيا وكذا وإنما هو صائم نهاره أو قائم ليله فنزل ضيفا عليه أراد أن يصلي قال: لا، كان صائما وقدم لسلمان الطعام قال: كل معي، قال أنا صائم قال: أفطر وجعله يفطر ثم أراد لما جاء الليل أن يصلي قال: نم ، ثم قام يريد أن يصلي، قال: نم، حتى انتصف الليل قال: قم فصلي، ثم جادله في ذلك فلما بلغ الأمر الرسو صلى الله عليه وسلم قال له: (إن لأهلك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا "لضيوفك يعني " وإن لنفسك عليك حقا فأعطي كل ذي حق حقه).
موقف أيضا لعثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان في فترة خلافته تعرفون ما بدأ بعض المرجفين يشيعونه من انتقادات على عثمان رضي الله عنه فلما جاء موسم الحج كان عثمان رضي الله عنه من أخيار الصحابة يريد أن يبين للناس خطأ ما يقولونه ويفند فقال: لأقومن في الناس مقاما لا أدع شاردة وواردة إلا أتيت عليها يريد أن يبين للناس، قال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ورب كلمة يطيرها عنك مطير، عقول لا تستوعب عامة الناس تذكر قضايا وإذا بها بعد ذلك تتطيش وهذا يأخذها يمينا وذاك يأخذها يسارا وهذا يفهمها على وجه وذاك يفهمها على وجه آخر الكلام في موضعه جعله الشاطبي رحمه الله من السنة وجعل الكلام في غير موضعه جعله من البدع كما ذكر ذلك في الاعتصام استدلالا بحديث النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي عند البخاري: حدثوا الناس بما يعرفون أ تحبون أن يكذب الله ورسوله؟ وحديث ابن مسعود في مسلم قال: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ، وهذا أمره واضح.(24/418)
في الحديبية موقف جميل للنبي عليه الصلاة والسلام لما أرادوا أن يكتبوا قال: (اكتب محمد رسول الله) قال: سهل بن عمرو لو كنا نعلم أنك رسول الله ما جادلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، ولما قال: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) قال: لا، لا نعرف ما الرحمن ولا الرحيم، اكتب باسمك اللهم، الرسول يقول لعلي بن أبي طالب: (اكتب) وعلي غير قابل لهذا يعني لا يرى ذلك المسألة أن الرسو صلى الله عليه وسلم كان أوسع نظرا وعقلا دع هذه الصغيرة من الأمور فقال: (اكتب) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (أرينيها؟) فمسحها الرسو صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات بنفسه، قال لعلي: (اكتب) دعك من هذه القضية الصغيرة فإن هناك ما هو أكبر منها لا تجعل هذه المسألة أكبر من حجمها وبالتالي تجعل كل توجهك ومواجهتك وقوتك وطاقتك واعتراضك لهذه القضية فتستنفذ أو تقيم فيها معركة ضخمة هائلة كما نرى من بعض الشباب الآن عندما يذكرون أمرا من الشرع وسنة من السنن لكن يجعلون النفير عليها كأنها أصل الدين كله وربما جعلوا من ذلك كما يخرجون به إلى تفسيق أو تبديع أو تكفير من غير مثل هذا الذي ننبه الناس إليه.
2- الضبط والإحكام :
وقد ذكرت في هذا ما هو مهم جدا ولعلنا نستحضر مثالا واحدا:
في بيعة العقبة بعد أن بايع الصحابة رضوان الله عليهم بل قبل أن يبايعوا انظروا كيف كانت روح الحماس جاء أبو التيهان وفي رواية غيره قال: اعلموا أنكم إنما تبايعون الرجل على حرب الأحمر والأسود فإن رأيتم أنكم تسلمونه فمن الآن، أراد أن يفاصلهم وينبههم وأن يستشعر حميتهم، فبايعوه فقال العباس بن عبيد بن نضلة رضي الله عنه: قال: يا رسول الله لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا في منى هذا الكلام في الفترة المكية، قال: لو تريد غدا أن نناجز القوم ونقاتلهم انتهى قال صلى الله عليه وسلم (إنا لم نؤمر بذلك) ولما جاءه الخباب في الفترة المكية وقد اشتد الأذى: يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟ قال: (إنه كان في من كان قبلكم من يحفر في الأرض ثم يوضع فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فينشر حتى ينفلق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه وإنه كان يؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه) ثم قال: (والله ليبلغن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون).
3- التدرج والاستثمار:
لهذه العاطفة: لو أننا تدرجنا لوجدنا أننا نحصل أكثر مما نحصل بالسرعة التي ليس فيها مراعاة للواقع ولطبيعة الإنسان وإمكانياته من أحسن الأمثلة في هذا:
عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما تولى أبوه الخلافة ونعرف عمر كيف كان عندما تولى الخلافة ورعا وزاهدا وكان يعني يأخذ بالجد في الأمور، جاءه ابنه عبد الملك ينكر عليه ويقول: كيف تلقى الله عز وجل وفي هذا كذا وكذا، فقال له: ألا ترضى أن لا يمر على أبيك يوم إلا وهو يميت بدعة ويحيي سنة، ذاك الشاب يريد أن يغيرها كلها في يوم واحد، وهذا لحكمته وأيضا قوة إيمانه وحماسته يريد أن يجعلها في منهجية تحصل بها النتيجة ويقع بها الأثر المطلوب.
ونعرف ما كان من شأن النبي عليه الصلاة والسلام: في عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة طاف صلى الله عليه وسلم حول الكعبة والأصنام حولها ستون وثلاثمائة صنم، والرسولل يطوف بها بعد صلح الحديبية، ولم يشتمها ولم يتعرض لها أبدا لأن له مجال آخر بعد عام واحد فقط في العام الثامن فتح مكة جاء ومعه محجنه عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأصنام وهي تتهاوى ويقول:
{ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } (الإسراء:81).
كل شيء بأوانه الإنسان يجتهد ويعد عدته ويفكر ويدبر ويستشير ويستعين بالله عز وجل ويستخير ولكن هذا التعجل لا ينبغي أن يكون .
4- الدوام والاستمرار :
هو طبيعة ذلك التدرج (خير الأعمال أدومها وإن قل) (أحب الأعمال إلى الله ما كان ديمة) وحتى النية لكي نحافظ على هذه الحماسة تأتينا ثمرتها نحن الآن لانريد العواطف التي تصل بنا إلى العواصف القاصمة وإنما نريد العمل الذي يدوم ويستمر.
ابن عباس يذكر قصة له مع صاحب من الأنصار في سنه، قال: لما مات الرسو صلى الله عليه وسلم قلت لصاحبي من الأنصار: اغد بنا إلى أصحاب الرسو صلى الله عليه وسلم نطلب العلم، قال له: ومن ينظر إليك يابن عباس وفي القوم أبو بكر وعمر وفلان، قال: فانطلقت وتركته وضللت أتتبع أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم وآخذ عنهم وتدرج وتدرج حتى أصبح ابن عباس بعد فترة قصيرة من الزمن بهذه المواظبة والاستمرارية هو حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه.
والنبي عليه الصلاة والسلام رأى حبلا متدليا كما في الصحيح، قال: (ما هذا؟ ) قالوا: حبل لزينب، تصلي فإذا تعبت تعلقت به، قال: (مه، عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا، ليصل أحدكم نشاطه فإذا تعب فليرقد) خذ أمرا تستطيع أن تواصل فيه .
5- التنامي والانتشار :(24/419)
وهذا أيضا من الأمور المهمة وينتج عن هذا لو أننا أخذنا بذلك سوف تنمو هذه الحماسة وتنتشر وتعم هذه الإيجابية بشكل مهم وأساسي ولعلنا وقد تجاوزنا الوقت نقول:
إن الذي نريده حماسة ولكنها مشوبة بهذه الكياسة نحن نقول: لا للتهجين والترويض ولكننا أيضا نقول: لا للإثارة والتهييج، نحن نريد أن يكون لنا طريق إلى هذه الحماسة الراشدة من خلال ما قلناه في تلك الجوانب السلبية بعكسه إيجابيا:
علم بالشرع وبصر بالواقع وصبر في المعالجة وعدالة في المواقف وأناة في الممارسة والله سبحانه وتعالى قال:
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } (الكهف:58).
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
===================(24/420)
(24/421)
لأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [2/5]
عمر بن عبد الله المقبل (*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن مثل هذه التساؤلات، والآهات التي تنفثها صدور كثير من شباب الأمة، لهي والله بشير خير، كيف لا؟ وقد أتى على أكثر شباب قبل ثلاثة عقود من الزمان تقريباً، ولا هم لهم إلا الحديث عن الفن والكرة ونحوها من الأمور التي شغلوا بها ردحاً من الزمن!
لقد مرّت فترة على أكثر الشباب ،وأحدهم ربما بكى لأن فريقه الكروي انهزم ، أو مطربه المفضل مات، واليوم نرى كثيراً من شبابنا -ولله الحمد-ترتقي همهم ،ليكون بكاؤها على ما يستحق البكاء.. ألا وهو البكاء على ما يحل بالمسلمين من ظلم وقتل واغتصاب من قبل أعدائهم.
وفرحتنا بهذا التحول في الاهتمامات ،وبهذه التساؤلات والآهات -لكي تكتمل -يجب أن نستثمرها استثماراً إيجابياً حتى لا تفتر هذه العزمات المتطلعة لنصر الأمة.
أما النواح والبكاء دون عمل، فليس هذا من هديه صلى الله عليه وسلم ، ولك أن تعلم مقدار حزنه العظيم الذي كاد يفلق كبده على شهداء أحد، ومع ذلك لم يمنعه ذلك المشهد - الذي بقي معه إلى أن مات- من الاستمرار في الجهاد لهذا الدين، وتبليغه.
وإذا تحدثنا عن أهمية استثمارها ، فإننا نؤكد على أهمية ترشيد هذه التساؤلات حتى لا يساء استخدامها في أمور قد يُظَن أنها نافعةٌ وليست كذلك، والسبيل إلى ذلك إنما يكون بترشيدها، وهذا يمكن تحقيقه بعدة أمور:
1- يجب أن لا نغفل ـ في زحمة الأحداث، وشدة وطأتها على قلوبنا ـ عن السنن الإلهية في ابتلاء أهل الإيمان، فلقد ابتلي من هومنا، وكم في الإبتلاءات من الألطاف الخفية لربنا تعالى ،والتي قد تعجز عقولنا عن تصورها،فضلاً عن الإحاطة بها.
أين أنت أخي عن قوله تعالى لخير جند مشوا على وجه الأرض : محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته؟ الذين قيل في حقهم -لما ابتلوا بما ابتلوا به يوم أحد -: "وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ" قال غير واحد من السلف: أي: ليختبر الذين آمنوا، حتى يخلصهم بالبلاء الذي نزل بهم، وكيف صبرهم ويقينهم.
وقيل لهم أيضاً: "وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ"، أي : يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال .
أخي: كم في الأمة من العلل؟ وكم فيها من الدخلاء ؟ وكم فيها ممن يدعي الحرقة والأمر ليس كذلك؟!
هل نسيت أيها المبارك ما وقع لنبيك - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد ؟ أو يوم الأحزاب؟!.
إن هذه الأحداث التي أقلقتك وأزعجتك ، إنها تحت سمع الله وبصره، والله -تعالى- أغير من خلقه أن تنتهك حرمات عباده ،وتغتصب نساء أوليائه ،ويُعرض عن دينه ،ويحارب حزبه ،ولكنها السنن - أيها الأخ الكريم - التي ربّى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها أصحابه حين اشتكوا إليه شدة ما يلقون من المشركين ، ومنهم خباب - كما في البخاري - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
وهذه الجملة الأخيرة، يجب ألا تغيب عن الأذهان، ونحن نبحث ونتلمس النصر لهذا الدين..
ويجب ألا تغيب ونحن نسمع أو نعلم عن إخوان لنا في السجون قد يموت أحدهم في سبيل الله ، ويجب أن ندرك أن الأمر كما قال الشاعر:
فتلك سبيلٌ ، لست فيها بأوحد
2 ـ ومع استحضار سنة الابتلاء، فإننا يجب أن نتذكر أن هذا الطغيان والاستبداد الذي تراه من أمم الكفر، هو أيضاً لا يخرج عن سنة أخرى من سنن الله تعالى في الأمم، وهي أن هذا في الحقيقة تمهيد لمضي سنة أخرى من سنن الله تعالى، ألا وهي محق الكفار.
يقول ابن القيم -رحمه الله - وهو يتحدث عن العبر من غزوة أحد في (زاد المعاد)(24/422)
(3/222): ومنها ـ أي من دروس غزوة أحد ـ أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها - بعد كفرهم - : بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين"، فجمع لهم في هذا الخطاب بين تشجيعهم، وتقوية نفوسهم، وإحياءِ عزائمهم وهممهم، وبين حسن التسلية، وذكر الحكم الباهرة التي اقتضت إدالة الكفار عليهم، فقال: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" فقد استويتم في القرح والألم، وتباينتم في الرجاء والثواب، كما قال: "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم؟! فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان وأنتم أصبتم في سبيلي وابتغاء مرضاتي.
ثم أخبر أنه يداول أيام هذه الحياة الدنيا بين الناس، وأنها عرض حاضر يقسمها دولاً بين أوليائه وأعدائه، بخلاف الآخرة فإن عزها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا.
ثم ذكر حكمةً أخرى، وهي: أن يتميز المؤمنون من المنافقين ، فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة ، بعد أن كانوا معلومين في غيبه.
ثم ذكر حكمة أخرى، وهي: اتخاذه سبحانه منهم شهداء، فإنه يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة " انتهى.
وكان قال قبل ذلك ـ رحمه الله ـ مقرراً هذا الأصل (3/18): والمقصود أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها ، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له، ويخلصها بكير الامتحان، كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفسُ في الأصل جاهلةٌ ظالمةٌ، وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية" اهـ .
3- علينا -أيضاً- أن ندفع هذه السنة بسنة أخرى، وهي سنة العمل للدين، فإن الله تعالى قادرٌ أن ينصر دينه بأيسر الأسباب ،ولكن اقتضت حكمته أن لا يتم النصر إلا على أيدي رجالٍ ينذرون أنفسهم لنصرة دينهم بالغالي والنفيس، وبكل ما يقدرون عليه.
ألم تر -أخي الكريم- كيف ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم، بل أخرجوا منها رغماً عنهم، وقبلوا بذلك، وما أرخصه إذا كان الثمن رضوان الله والجنة، فأعقبهم الله تعالى- بعد سنوات من الدعوة والجهاد- بأن عادوا إليها فاتحين، وقبل ذلك وبعده أن الله تعالى رضي عنهم، وعن إخوانهم من الأنصار.
إذن، نحن بحاجة إلى أن نخرج من دائرة النواح والبكاء، لننزل إلى ميادين العمل، وما أكثرها في هذا الزمن!
ومن المهم -أيضاً- في هذا المقام أن لا نختصر مجالات النصرة، وسبل رفع الذلة عن هذه الأمة في عملٍ واحد، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء بالتوحيد، هو الذي أمر بإماطة الأذى عن الطريق، وهو الذي أمر بالإحسان إلى الحيوان ويجب أن لا نستهين بأي عملٍ فاضل، وأن لا يعيب المشتغل بالعلم تعلماً وتعليماً من نذر نفسه في ميادين الدعوة إلى الله، أو في ساحات الجهاد ، والعكس صحيح، فإن الجميع يكمل بعضهم بعضاً، ولا غنى للأمة عن أي عملٍ صالح.
نعم! ليست الميادين في تأثيرها وقوتها بدرجة واحدة، لكن مقصودي هو التحذير من اختزال أسباب النصر في سبب واحدٍ أو سببين، فإن الله تعالى قال: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".
فلنسع إلى نصرة ديننا جهدنا، ولنكن ممن لبى نداء ربه الذي قال:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ".
وقد سألت أيها الفاضل عن كيفية السعي لنصرة هذا الدين؟ وسأل آخر عن كيفية القيام بواجبه الدعوي؟ ومن الصعب في مثل هذه العجالة أن أفصل لك ماذا تعمل، لكن يمكنك الانطلاق من خلال الخطوات التالية:
1- قم بحصر للمنكرات في محيطك الذي حولك.
2-ابدأ بعلاج المنكر الأكبر ، فإن لم تستطع فانتقل للذي بعده.
3- تواصل وتشاور مع أهل العلم والدعاة ـ إن وجدوا في بلدك ـ لبحث كيفية علاج هذه المنكرات أو التخفيف منها، وإلا فانتقل للذين بعدهم وهكذا، وأرجح ألا تبتعد في السؤال عن أهل بلدك، لأنهم أعلم بحال بلدك من غيرهم، فإن عدموا ـ ولا أظن ذلك ـ فبإمكانك أن تتواصل مع غيرهم.(24/423)
4- ديننا قائم على: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمع ممارسة النهي عن المنكر، يجب أن نقدم للمجتمع المعروف، بل البدء به هو الأصل، فليس صحيحاً ألا يسمع المجتمع منا إلا نبرة الإنكار فقط، بل من نشر المعروف، بالدروس والمواعظ، أو على الأقل عن طريق خطب الجمعة، كل ذلك بحسب الطاقة.
فإن منعنا من ذلك كله، فلن نعجز أن نري المجتمع منا صدقاً في الالتزام بهذا الدين، نتمثله بالصدق في أقوالنا وأفعالنا ، فتلك -وربي- ليست بهينة ، فقد كسب بها النبي ج أنصاراً لدينه بسبب صدقه وأمانته، وشمائله الطيبة التي جعلت الناس يقولون: ما كان هذا ليكذب على ربه وهو لا يكذب في حديث الناس.
4- ونحن نرى ما نرى من الإبتلاءات والشدائد، يجب أن نفتح أعيينا على الجوانب المشرقة التي تحققت للأمة في العقدين الأخيرين، على مستوى الشعوب على الأقل؟!
فمن ذا الذي ينكر هذا الخير العميم الذي انتشر في بلاد الإسلام؟
ومن الذي يكابر في هذه الأفواج الكبيرة العائدة إلى الله، أو الداخلة في دين الله تعالى؟!
كم هم حفظة القرآن؟ كم هم المشتغلون بحفظ السنة؟.
ألم تر عينك أفواج الشباب التي تعتكف في الحرمين في العشر الأواخر من رمضان؟
ألم تسمع عن أخبار المجاهدين الذين رووا أرض الجهاد بدمائهم في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والعراق؟!
متى كان الشباب يعلنون أن أغلى أمانيهم أن يموت أحدهم شهيداً؟!
كم هن النساء اللاتي عدن إلى الحجاب، وهن في وسط الفتن، رغم قوة الصوارف والمغريات؟!
إن هذه -أخي الفاضل- مكاسب كبرى، يجب أن تكون رافعةً لهمتنا، ومبشرةً لنا بأن عمل من سبقنا من المصلحين - رغم ضعف إمكانياتهم، وقلة اتصالاتهم- آتى ثماراً يانعة.
إن بشائر النصر تلوح في الأفق، وهي -بمقياس الزمن الطويل- ليست ببعيدة بإذن الله، ولكننا -أحياناً - نستعجل، وربنا لا يعجل لعجلتنا.
يقال هذا، وتذكر هذه البشائر، ونحن جميعاً نعلم أن في الأمة جوانب كثيرة، تحتاج إلى إصلاح، نعم ..لكن لماذا نستمر في جلد ذواتنا ،وتحطيمِ ما شُيِّد من جهود كبيرة، وكأننا لا نملك أي بصيص من الأمل ؟!
5- قلب نظرك -أخي - في صفحات التاريخ ، فستجد أن الأمة مر بها أنواع من الفتن والإبتلاءات، أضعفتها، وأنهكتها فترة من الزمن، ولكنها عادت بعد ذلك قويةً.
وحسبي هنا أن أشير إلى إحدى الإبتلاءات الكبار التي تعرضت لها الأمة، وهي غزو التتار، وسأسوق لك كلام عالمين أرّخا ورصدا مشاعر الأمة في تلك الفتنة العمياء الصماء، أحدهما أدرك أولها، والآخر أدرك آخرها.
أما الذي أدرك أولها فهو العلامة ابن الأثير ـ في كتابه "الكامل" 10/399 -حيث يقول -في أحداث سنة 617هـ: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها،كارهاً لذكرها، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن،لم يبتلوا بمثلها ،لكان صادقاً ،فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب البيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"
وهذا الوصف من ابن الأثير وهو بعد لم يدرك تلك الفاجعة العظمى والنكبة الكبرى لسقوط بغداد، ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى.(24/424)
يقول ذلك وهو لم يعلم بتجاوز التتر بلاد العراق إلى بلاد الشام، وما تبع ذلك من مآس ومصائب، والتي وصفها إمام آخر وقف على أحداثها، يصفها ويشخص فيها أحوال الناس، ويصور مشاعرهم ومواقفهم بدقه وخبرة، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين يقول: " فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع وينصرم، ودارُ المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أنْ ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقواماً إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواماً إلى المنازل الهاوية، وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامه مختصرة من القيامة الكبرى... وفرّ الرجل فيها من أخيه، وأمه وأبيه، إذْ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه، لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسِه... وبليت فيها السرائر، وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل "انتهى كلامه رحمه الله.
6 ـ لا بد أن نعلم أن من حكم الابتلاء: تمحيص الصفوف، تكفير الذنوب، وهذا أمرٌ بين، فكم هم الدخلاء على الصف الإسلامي، الذين لا يعرفهم إلا الندرة من الناس، فإذا جاءت مثل هذه المحن والابتلاءات ميّزت الطيب من الخبيث، وشرح ذلك يطول جداً.
7 ـ هذا دين الله الذي تكفّل بنصره، وأمرنا بأن نسعى لذلك، ولم يكلفنا أن نحصد ثمرة النصر، بل هذه لم تطلب من النبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام..
تأمل أخي.. لقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يفتتح من بلاد الإسلام القائمة اليوم إلا ما يشكل الربع تقريباً أو أقل، ولكن تابع أصحابه والتابعون لهم بإحسان الفتوحات، فوصلوا إلى حدود الصين شرقاً، وإلى جنوب فرنسا غرباً، وكل ذلك محسوب ومضاف إلى رصيده.
فالواجب علينا أن نتبنى مشروعات دعوية، تقوم على العمل المؤسسي ـ إن أمكن ـ لأن ذلك أدعى لاستمرارها وبقائها، إذ لن يؤثر عليها موت شخص أو سجنه، بل هي تسير وفق خطة وسياسة واضحة، يتلقها اللاحق عن السابق، وما منظمة حماس إلا نموذج حي للعمل المؤسسي الذي لا يتوقف بموت قائد أو مؤسس.
7- إني لأعجب من مسلم يقرأ قوله تعالى:"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ *وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ" كيف يدب اليأس إلى قلبه؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ـ فيما نقله عنه ابن عبدالهادي في "اختيارت ابن تيمية ص(70-71) ـ: ((وهذا يشكل على بعض الناس، فيقول: الرسل قد قتل بعضهم، فكيف يكونون منصورين؟
فيقال: القتل إذا كان على وجهٍ فيه عزة الدين وأهله كان هذا من كمال النصر، فإن الموت لا بد منه، فإذا مات ميتةً يكون بها سعيداً في الآخرة، فهذا غاية النصر، كما كان حال نبينا ج، فإنه استشهد طائفة من أصحابه فصاروا إلى أعظم كرامة، ومن بقي كان عزيزاً منصوراً، وكذلك كان الصحابة يقولون للكفار: أخبرنا نبينا أنّ من قتل منا دخل الجنة، ومن عاش منّا ملك رقابكم.
فالمقتول إذا قتل على هذا الوجه كان ذلك من تمام نصره، ونَصْرِ أصحابه.
ومن هذا الباب حديث الغلام ـ الذي رواه مسلمٌ ـ لما اتبع دين الراهب، وترك دين الساحر، وأرادوا قتله مرة بعد مرة، فلم يستطيعوا حتى أعلمهم بأنه يقتل إذا قال الملك: باسم الله رب الغلام، ثم يرميه، ولما قتل آمن الناس كلهم، فكان هذا نصراً لدينه)) انتهى كلامه:.
8- في ظل هذه الفتن، وتتابع هذه المصائب، يجب ألا تشغلنا هذه الفتن عن عباداتنا الخاصة بيننا وبين ربنا، فالضرورة تتأكد بوجوب العناية بإصلاح القلب، وهذا يتحقق بأمور:
أ ـ التعلق بالله -عز وجل- دائماً، واللجأ إليه، وكثرة الإلحاح عليه بالدعاء، فإن الله تعالى نعى على قومٍ أصيبوا بالضراء، فلم يكن ذلك سبباً في تضرعهم، قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ".(24/425)
فما أحوجنا إلى اللجأ، والتضرع إلى ربنا في كشف ضرنا، وإصلاح أحوالنا، والاستغاثة به في طلب النصر، وكبت العدو وخذلانه.
ب- لا بد لكل واحدٍ منا من عبادة يلازمها، ويكثر منها، مع العناية ببقية العبادات، فإن للعبادة أثراً عظيماً في سكون القلب، واستقرار النفس.
ولئن كان هذا مطلوباً في كل حين، فهو في أوقات الفتن آكد وأعظم، فإن النبي ج يقول -كما روى ذلك مسلمٌ في صحيحه من حديث معقل بن يسار س -: "العبادة في الهرج، كهجرةٍ إليَّ".
وسبب ذلك -والله أعلم - أنه في زمن الفتن يخف أمر الدين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه، ومعاشه، ونفسه وما يتعلق به.
فمن فتح عليه في نوافل الصلوات، أو في الصيام، أو في الصدقة، أو في قراءة القرآن، أو في غيرها من العبادات، فليلزمها، وليكثر منها، فإنها من وسائل الثبات بإذن الله تعالى.
ج - الإقبال على قراءة القرآن بتدبر، وقراءته قراءة المستشفي به، الطالب للهدى منه، المحرك لقلبه به، فإن ذلك من أعظم الأدوية وأنفعها للقلب خصوصاً في هذه الأزمنة التي انفرط عقد الفتن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا ما تيسر تحريره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
============(24/426)
(24/427)
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [3/5]
د. رياض بن محمد المسيميري(7) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
فلا ريب أنّ الأمة تمر بظروف عصيبة مؤلمة، وتعاني ويلات فتن خطيرة في دينها وعقيدتها وأخلاقها، وتواجه تحدياً حضارياً عالمياً بل حرباً صليبية صهيونية تستهدف في كيانها ووجودها.
ومن الخطأ الجسيم أن نتغافل أحصل الصراع بين المسلمين وأعدائهم من يهود ونصارى، وأنه في أصله صراع عقدي ديني سيما وقد صرّح العدو نفسه بدوافع الصراع ومنطلقات الحرب في أكثر من مناسبة.
ومن الخطأ البيِّن كذلك أن يتناول هذه القضية الخطيرة بشيء من الارتجالية والاستعجال أو بدوافع من العاطفة والحماس غير المنضبط.
لا بد أن نعترف أن ما يمارس اليهود والصليبيون كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها هو استفزاز خطير لمشاعر الأمة المسلمة بعامة ولشبابها الغيور على وجه الخصوص.
ولا يمكن أن نتصور بقاء الشباب المسلم مكتوفي الأيدي إلى الأبد أمام تلك الممارسات الدموية الظالمة وتلك الحرب "الصهيوصليبية" فمن حقه أن يغار، بل من واجبه أن يغار لدينه ودماء إخوانه، بل من وأحق أن يهتم لنصرة دينه، وإعلاء كلمة لله بكل وسيلة مشروعة أسُّها ورأسها الجهاد في سبيل... بيد أن الجهاد في سبيل الله قد لا يتيسر لكل أحد سيما والأبواب مؤصدة والموانع كثيرة.
فما العمل إذاً والحالة هذه؟ هل نكتفي بسبّ اليهود وشتم النصارى؟ أم يكون الحل ببث الأحزان، وسكب العبرات، وندب الزمان؟!.
إنَّ الحلَّ العملي الواقعي لمشكلاتنا وصراعاتنا مع أعدائنا يجب أن يتضمن في نظري الأمور التالية:
(1) العودة الجماعية الجادة إلى الدين عودة صادقة، وتحكيم شريعته تعالى تحيكماً فعلياً في سائر الأقطار الإسلامية بلا مساومة أو مزايدة، فالدساتير الوضعية وإقصاء الوحيين الشريفين هي أعظم النوازل وأكبر المصائب التي آلت بالمسلمين إلى ما ترى وهي التي جرأت العدو على استباحة أرضهم والعبث بقيمهم وإملاء مشروعه الحضاري عليهم.
(2) لا بد أن نعترف بوجود مظاهر كثيرة تصادم الإسلام في جوهره وروحه، وفي أخلاقه وقيمه في معظم ديار المسلمين، فبنوك الربا وحانات الخمور وملاهي الليل، ودور الفاحشة تعمر كثيراً من بلاد الإسلام، وهذه المظاهر الآثمة لا بد أن تظهر منها بلاد المسلمين وإلا من أين سينزل النصر؟ قال سبحانه: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
(3) إنَّ على علماء الأمة الصادقين كسر حاجز النفرة بينهم وبين شباب الأمة على وجه الخصوص واسترجاع ثقتهم المفقودة من خلال ممارسة دور إيجابي فاعل في قيادة الصحوة وترشيدها، ومن خلال صدعهم بكلمة الحق وتحذير أمتهم من الويلات المحدقة بها وتنفير مجتمعاتهم من كل المظاهر المنافية والمصادمة لشريعة الله - سبحانه-.
إن على العلماء دوراً، وأي دور، في احتضان الشباب والرفق بهم، وتهدئة روعهم، وتلمس احتياجاتهم العلمية والتربوية وإشباعها بالعلم الصحيح والتربية الجادة مصطحبين تقوى الله فيما يأتون ويذرون ويفتون ويوجهون، وبغير هذا سيبحث الشباب عمن يستقل حماسهم، ويستوعب قدراتهم في غير إطارها المشروع.
(4) إن على الجميع أن يدركوا أن الجماهير المسلمة لا ترضى أن تُمَسَّ ثوابتها أو تهمش أصولها، فالجهاد في سبيل ذِروة سنام الإسلام، والبراءة من الكفار أصل عظيم من أصول الملة الإبراهيمية والمحمدية، فلا مجال لتمييع هذه الأصول وإلا كانت ردة الفعل كافية في تشتيت جهود الأمة وبعثرة أوراقها وإغراقها في دوامة جديدة من الصراع الذاتي، يعيقها عن مسيرة بناء نفسها، إعداد كوادرها للبناء الحضاري بكافة مجالاته.
(5) علينا جميعاً أن نسعى جاهدين لوحدة الصف وتأجيل خلافاتنا الهامشية والفرعية التي لا تمس الأصول والثوابت، لنتأهب لمواجهة العدو بكل قوة متاحة، وعلينا ألا ننشغل عن إعداد العُدة الجادة لمواجهة أي أخطار محدقة، وأن نستوعب أن أقوياء العالم لا يرحمون الضعفاء، وأن المراهنة على جمعيات حقوق الإنسان والهيئات الدولية مجازفة ذات ثمرات مرة لا زلنا نتجرع غصصها في أفغانستان والشيشان وفلسطين والعراق.
أيها الشباب: إننا نثمن لكم غيرتكم ونخوتكم الإسلامية الشريفة، ونقدّر أنفتكم من تلك الأوضاع النشاز التي تعيشها مجتمعات المسلمين، كما نحيّ شجاعتكم ورغبتكم بالبذل والعطاء والثأر لدماء إخوانكم في البلاد الإسلامية المحتلة، بَيْدَ أنَّ ثمة موانع كثيرة قد تحول بينكم وبين الجهاد في سبيل الله لا ذنب لكم فيها.
فنصيحتي ألا نبقى أسرى الأحزان، وبث الأشجان؛ بل علينا أن نبذل الوسع والطاقة في تعلم العلم الشرعي حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وكيف نحددُّ مسارنا الصحيح وسط هذه البحار المائجة من الفتن.(24/428)
ثانياً: وبعد العلم الشرعي يأتي واجب الدعوة إلى الله، فإنَّ ثمة جموعاً هائلة من أبناء الأمة يعيشون حياة اللهو والعبث، وتتخطفهم الأهواء والسبل، فمن يستنفذ هؤلاء ويعيد لهم هويتهم الإسلامية؟ ومن يبصرهم بدينهم، ويعرفهم بالأخطار المحدقة بهم؟ إن لم تقوموا بالمهمة أنتم أيها الشباب على علم وبصيرة وبتوجيه من علماء الأمة العالمين؟
(3) علينا كذلك أخيراً أن نثق بوعد الله -تعالى- وأن هذه الأمة منصورة بحول الله وقوته مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما كادوا لها وبكروا بها شريطة أن تنصر ربها، وتعظم سنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - مع الأخذ بالأسباب المادية اللازمة والممكنة وعلى رأسها إعداد الجيوش المسلمة المجاهدة المتسلحة بسلاح الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه المتطلع للشهادة في سبيله تعالى فضلاً عن أخذ زمام المبادرة في النهضة الاقتصادية والعمرانية والثقافية وغيرها بعيداً عن تأثير الكفار واستغلالهم؛ قال الله جل ذكره: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، وقال سبحانه: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
============(24/429)
(24/430)
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [4/5]
د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي(*) 22/4/1425
10/06/2004
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله، وبعد:
سؤالك -أخي الكريم- يدل على قوة في إيمانك، وغيرة على دين الله وحرمات المسلمين، وإحساسك بوجوب العمل لنصرة هذا الدين، جعلنا الله وإياك من أنصار دينه:
أما ما ينصح به تجاه هذه الأزمة التي تمر بها الأمة:
1 - أن تدرك أن الله لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها، وهل تكون أغير من الله على دينه وعباده؟ فمادام أنه قد حيل بينك وبين نصرة إخوانك المسلمين بهذه الحدود والسدود، ومحاولة النصرة فحسب قد تدفع بالجهات المسؤولة في بلادك لتعذيبك وأذاك إلى حد القتل أو الجنون أحيانا، فإن الله لم يكلفك ما لا تطيق، فأربع على نفسك، وهدئ من روعك، وقم بما تستطيع من العمل الصالح، ولن يسألك الله إلاّ ما تستطيع من العمل، وأنت تعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يشاهد المؤمنين يعذبون بأنواع العذاب في مكة ويمر عليهم ولا يملك إلا أن يوصيهم بالصبر .
2- الارتباط بأهل العلم والدعوة في بلادك ممن عرف بالعلم بالدين والعمل به إذ يوجد في كل بلد من بلاد المسلمين عدد وافر من أهل العلم المتصفين بالعلم والغيرة والرغبة الصادقة في نصرة هذا الدين مع التزام الحكمة في القول والعمل، ويلتف حولهم عدد من الناس يستفيدون منهم ويحضرون دروسهم ويسترشدون بتوجيهاتهم، ومثل هؤلاء غالبا، لا يحصل لمن يتصل بهم أذى جسدي أو سجن وتعذيب؛ لكونهم معروفين لدى السلطات بعدم تبنيهم مبدأ العنف في التعامل مع الدولة، فمثل هؤلاء بإمكانك الاتصال بهم وحضور دروسهم و محاضراتهم، وعرض ما يمر بك من مشكلات عليهم، والحرص على طلب العلم الشرعي والاستمرار في ذلك .
3- المساهمة بما يمكنك في الإصلاح والدعوة في بلادك بما لا يترتب عليه أذى لا تستطيع احتماله، ومن ذلك أن تكون قدوة في الاستقامة على الخير محافظا على الصلوات، مجتنبا للكبائر، مستغفرا من الصغائر، صاحب أخلاق عالية، متحليا بالصبر، كاظما للغيظ، قدوة في علمك وعملك، داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ساعياً في صلاح من حولك من المسلمين.
4- ألا تحتقر الدعوة والإصلاح للأفراد والمجتمع، فإن ذلك من أعظم ما ترغم به أعداء الدين، فإن أعظم أهدافهم وأقصى أمانيهم رد المسلمين عن دينهم؛ كما قال تعالى عنهم: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق".
5 - إدراك أن ما يحدث بقدر الله وأنه نوع من الابتلاء يرفع به الله المؤمنين درجات ويعذب به الكافرين، وهذا الابتلاء سنة ماضية، فقد قتل عدد من الأنبياء على يد كفرة بني إسرائيل قال تعالى: "ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون"، وليس المجاهدون في فلسطين بأكرم على الله من أنبيائه - عليهم السلام- وقد قتلوا زكريا بنشر رأسه وقدم لبغي زانية من زواني بين إسرائيل، و أن أهل الكتاب من بني إسرائيل عاشوا تحت قهر فرعون وجنوده وهم مؤمنون بالله وفرعون ملحد يدعي الألوهية، ولهذا قال بنوا إسرائيل لموسى: "قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا".
و نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واجهوا أنواعا من الأذى والتعذيب على مدى عشر سنوات أو تزيد وهم مؤمنون، والمعذبون لهم مشركون، ومع ذلك لم يقدموا على عمل تكون مضرته أكثر من منفعته، وكان بإمكانهم أن يغتالوا أباجهل أو أبا سفيان أو غيرهما من زعماء المشركين في مكة، بل حين بايع الأنصار بيعة العقبة قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم : (إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "لم نؤمر بذلك").
فالحاصل أن القيام بأعمال غير مسؤولة من باب الغيرة والحماس ليست من منهج الأنبياء وأهل العلم والحكمة.
6 - ويمكنك أن تقدم ما تستطيع من الدعم المادي إخوانك في فلسطين والعراق عن طريق بعض المشايخ الموثوقين الذين يستقبلون التبرعات، أو الهيئات الموثوقة إن وجدت في بلادك.
7 - أكثر من الدعاء الصادق لإخوانك المسلمين المستضعفين بالنصر والتمكين وأن يكف الله عنهم بأس الذين كفروا .
8- إعداد نفسك وتحصينها بالعلم وكثرة العبادة، فقد قال صلى الله عليه وسلم "العبادة في الهرج كهجرة إلي".
9- الإكثار من الدعاء بالثبات فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الدعاء بقوله: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك".
10- إن استطعت الهجرة للعمل في بلد أقل مشكلات من بلدك كالسعودية أو بعض دول الخليج ففي ذلك عون لك في دينك ودنياك .
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
============(24/431)
(24/432)
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل [5/5]
د. خالد بن عبد الله القاسم 22/4/1425
10/06/2004
التحديات التي تواجهها الثقافة الإسلامية وسبل مواجهتها
أولاً: القوة العسكرية
عانت الأمة الإسلامية هجمات عسكرية ظالمة استهدفت الأمة بثقافتها الإسلامية ففي السابق الحروب الصليبية الشرسة التي استهدفت الشام ومصر وأدت إلى انشغال الأمة بها قرن من الزمان.
ثم الهجرة التتري على العراق والشام وإسقاط الخلافة العباسية وتدمير الكتب وقتل العلماء.
ثم الاستعمار الأوروبي للبلدان الإسلامية في القرن الماضي ومحاولته لمسخ الثقافة الإسلامية واستنزاف خيرات الأمة لمصلحته.
ثم الغزو الشيوعي على البلدان الإسلامية في القرن الماضي في آسيا الوسطى ونشر الإلحاد ثم غزو أفغانستان والشيشان واستباحة دماء المسلمين واستعمار بلدانهم ونهب خيراتهم.
وما نشهده الآن من هجمة صهيونية شرسة زرعها الغرب في قلب العالم الإسلامي شرذمة من اليهود اجتمعت من أ،حاء العالم باختلاف لغاتهم وعرقياتهم في هجرات متتابعة بمساعدة غربية مباشرة حيث سلمت لهم بريطانيا الأمر في فلسطين ثم دعمت الولايات المتحدة عدوانهم عسكرياً ومالياً وسياسياً في طرد الفلسطينيين من بلدهم ومصادرة أملاكهم ورفع الفيتو أمام العالم لعدم إدانة اعتداءاتهم المتكررة على المدنيين بل وتجاوز العدوان على البلدان العربية حتى غير المجاورة حيث دمر المفاعل النووي العراقي، وجرى الاعتداء على الفلسطينيين في تونس.
وكان هذا الجسم الصهيوني بالمساعدة الغربية عاملاً مهماً في تأخر الأمة وإشغالها.
وما جرى من احتلال لأكثر من بلد إسلامي بحجج وهمية ظاهرة فقد دمرت أفغانستان وألقي على المدن والقرى آلاف الأطنان من القنابل ومات آلاف الأبرياء ونفس الأمر في العراق بحجج أسلحة الدمار الشامل الذي تبين أنها كذبة لاحتلال بلد إسلامي والسيطرة على خيراته وتهديد سائر البلدان الإسلامية التي لا تخضع لهم وزامن ذلك إصدار الأوامر للدول الإسلامية بضرورة التغيير الثقافي والمقصود منه تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.
كما زامن ذلك محاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية ورميها هي أيضاً بالإرهاب (مع أنها أوضح وسائل المجتمع المدني الذي ينادون به في الدول الإسلامية)، وما ذاك إلا لمحاربة الإسلام فتلك الجمعيات تدعوا إلى الإسلام وتكفل الأيتام وتقيم المستشفيات وتحفر الآبار وتعين الفقراء وتقيم المدارس وتصب في خدمة الإسلام والمسلمين وخدمة الثقافة الإسلامية.
وهذه التحديات العسكرية لن تقضي على دين الله -تعالى- فقد أخبر المولى سبحانه "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" [التوبة:33].
وقال عليه السلام: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة".
وإن من حكم المولى سبحانه أن تقع هذه التحديات عقوبة للمعرضين ليعودوا " وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة:21].
كما أنها بلاء للمؤمنين لرفعة الدرجات وتكفير السيئات " ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ" [العنكبوت:1-2] إنها تنقي الصف وتكشف المافقين "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت:11].
ثانياً: الغزو الفكري:
وهو غزو مسلح غزو للأفكار والعقول، بعد أن أدرك الأعداء أن الغزو المسلح لا يكفي لإضعاف الثقافة الإسلامية، بل وأجدى منه غزو العقول والأفكار لتحقيق هدف عام وهو إضعاف الإسلام والمسلمين، ويتحقق ذلك بوسائل متعددة منها:
(1) تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة النبوية وعقيدة الإسلام وشريعته، وما يحدث الآن من محاولة لربط الإسلام بالإرهاب هو جزء من هذه الحملة.
(2) مهاجمة اللغة العربية تشجيع اللهجات المحلية في مسعى لإضعاف اللغة العربية التي اختارها الله لكتابه "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف:2].
(3) تفريق المسلمين وإزالة الوحدة الإسلامية والدعوة إلى القومية، وقد كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية، فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة، فنادى العرب بالقومية العربية، والأتراك بالتركية الطورانية، ونادى الأكراد بالكردية، وبذلك تفسخت عرا الرابطة الواحدة التي كانت تجمع هذه الأمة وتوحدها، وقد كان ظهور هذه الدعوات سبباً في إزالة الخلافة العثمانية وتحطمها.
وقد أغرق دعاة الضلال في دعوتهم عندما أحيوا الحضارات القديمة لإيجاد مزيد من الانقسام والفرقة، فرأينا الدعوة إلى الفرعونية، والدعوة إلى البابلية، والآشورية.. وغيرها(1).(24/433)
إن الإسلام يشجع الوطنية الحقة والقومية الهادفة القائمة على التعاون على البر والتقوى ويحارب العصبيات والنعرات الجاهلية المنافية للوحدة الإسلامية وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من دعا إلى عصبية) إن أي وطنية وقومية يجب ألا تتعارض مع الوحدة الإسلامية أو تكون بديلاً عنها بل يجب أن تسخر لجمع كلمة المسلمين ووحدتهم، والعرب لم يجتمعوا إلا بالإسلام وقد أعزهم الله بإنزال القرآن الكريم بلغتهم وجعل الحرمين في بلادهم، واختار صلى الله عليه وسلم منهم.
إن الرابطة الحقيقة بين المسلمين هي رابطة العقيدة وجميع الروابط الأخرى هي فرع منها كرابط الجوار والقرابة والقبيلة والوطن.
(4) إقصاء الإسلام من الحكم وتشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وهذا الأسلوب تذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر، وقد أقنعوا به كثيراً من الحكام في الديار الإسلامية، وقد تبنت دولة الخلافة في آخر عهدها كثيراً من القوانين الكافرة، وفرضت القوانين الفرنسية على الشعب المسلم في مصر في عام 1882م ولم ينتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى أقصيت الشريعة الإسلامية في أكثر الديار الإسلامية، باستثناء أحكام الزواج والطلاق والممات(2).
(5) منع الإسلام من الانتشار ومحاربة الجمعيات الخيرة الإسلامية ورميها بالإرهاب ومصادره ممتلكاتها في الوقت الذي تعثو فيه الجمعيات التنصرية في كثير من بلاد المسلمين.
(6) استخدام وسائل الإعلام حيث استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة لحرب الإسلام، حيث أصبح المدافع عن أرضه وبلده إرهابياً والمحتل مدافع عن نفسه ونظرة سريعة إلى وسائل الإعلام ترينا مدى البلاء الذي تصبه ليل نهار لتشويه الإسلام والمسلمين والإساءة إلى معتقداتنا وشعائرنا وسلفنا وعلمائنا، سيل من الشبهات التي تشكك في الدين وأحكامه، وسبل آخر من الأفلام والتمثيليات والمسرحيات التي تتهكم بالإسلام، وتقوم بعرض نماذج من أنماط الحياة تضاد الإسلام في كل شيء تمجد الجريمة ، وتدعو إلى الفسق والفجور، وتكره في الحياة المستقيمة الفاضلة، وتتهكم بالمسلمين والمسلمات، وتتخذ الدين هزواً، وتعرض ما حرّم الله : الرقص الفاضح، وشرب الخمر، والكذب والدجل، وقد قامت للتافهين أسواق ضخمة في كل مكان باسم الفن(3).
(7) إفساد التعليم حيث يهدف الأعداء من مستشرقين ومن مستغربين كلما سنحت لهم الفرصة إلى إضعاف التعليم الإسلامي ومدارس القرآن الكريم والمناداة بعلمنة لتعليم والدعوة إلى التعليم المختلط(4).
(8) الاستشراق، وهو دراسة للغربيين للشرق وعلومه وأديانه خاصة الإسلام لأهداف مختلفة شتى، ومن أهمها تشويه الإسلام وإضعاف المسلمين(5).
ومن أهم نتائج المستشرقين في القرن العشرين (دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بثلاث لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية وصدرت في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وقد اشترك في تأليفها أكثر من 400 مستشرق وبلغت أكثر من 3000 مادة في أكثر من 10.000 صفحة احتوت على معلومات مهمة عن الشرق والإسلام بالذات، كما أنها اشتملت على شبه ومطاعن متفرقة حول القرآن والعقيدة والشريعة الإسلامية وأعلام المسلمين بلغت أكثر من (300) مطعن وانتقاصاً للعقيدة الإسلامية (6).
وهو أمر ظاهر باعتراف كثير من المستشرقين ، يقول برنارد لويس: "لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات العديد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية (7).
بل إن المستشرقين كانوا أداة للاستعمار تخلو عن أمانتهم العلمية لتأييد المحتل، يقول مراد هوفمان سفير ألمانيا في الغرب وقد هداه الله للإسلام: "والحق أن معظم المستشرقون عن وعي أو غير وعي كانوا أداة لخدمة الاستعمار، وإن كان بعض أولئك كانوا جواسيس للغرب بالفعل"(8) وتتعاون المخابرات الغربية لاسيما الأمريكيين مع مراكز الدراسات الاستشراقية، لاسيما فيما يتعلق بالحركات الإسلامية. وبلغ أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط (9)الاستشراقية في أمريكا إلى قرابة 1600 عضو سنة 1986م ووصلت أعداد العناوين للموضوعات المنشورة عن الشرق الأوسط في الدوريات المتخصصة سنة 1987م إلى نحو 71 ألف مادة بل إن المستشرقين ينظرون إلى الشرق والإسلام نظرة استعلائية وقد ساق إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني رغم أنه نصراني ولكنه منصف الشواهد العديدة لذلك في كتابه الشهير الاستشراق.
(9) التنصير؛ على الرغم من أن الأمم النصرانية تبتعد عن النصرانية، وعلى الرغم من بيعهم للكنائس في ديارهم، إلا أنهم حريصون على تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في ديارنا، وقد رصدوا لذلك مئات الملاينن من الدولارات، وأرسلوا البعثات التبشيرية مجهزة بكل ما يمكن أن يحقق الهدف الذي قامت من أجله، وعلى الرغم من الصعاب التي تقف في طريقهم، إلا أنهم ماضون في هذا الطريق، وهم يصطادون المسلمين الجهلة، وينشبون أنيابهم في فقراء المسلمين، حيث يقدمون لهم بعض ما يحتاجون إليه مقابل تركهم لدينهم وعقيدتهم (10).(24/434)
(10) إفساد المرأة؛ وقد حرص الكفار على إفساد المرأة، لأن فسادها يفسد الأبناء والأزواج، فأخرجوها من بيتها، وهتكوا حجابها، وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب، وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا (11) وأفغانستان مثال حي حيث عندما احتلت لم ينقلوا لنا التقدم الصناعي والتقني وإنما بدأوا بإسقاط حجاب المرأة وإنشاء دور السينما.
(11) العولمة الثقافية والتغريب؛ وللعولمة وجوها مفيدة في التقنية والاتصال، ولكن له وجوهاً خطيرة في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية الثقافية.
ويهمنا هنا ما يؤثر على الثقافة الإسلامية بدرجة كبيرة وهو الهيمنة الثقافية وفرض القيم الغربية وتغريب المجتمعات المسلمة عن طريق استغلال التفوق التقني والسياسي والاقتصادي والعسكري لاختراق الثقافات الأخرى ومصادرة ثقافات الشعوب وفرض الأنماط الغربية .
نجد أن الغرب لا يسعى قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمرنيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث... الخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(12) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، ومراهقين ومراهقات، فادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(13) .
وها هو المستشرق الألماني هاملتون جب يجعل هدف كتابه "وجهة الإسلام" قضية التغريب، ويتساءل إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق؟، وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا الهدف؟(14).
إن هدف عدونا ذوبان الشخصية وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها واحتوائها بأخلاق الضعف والإنحلال والإباحية حتى لا تقوى على مواجهة التحديات وذلك أخطر أهداف العدو، فبناء أجيال ضعيفة لا تؤمن بحقها ولا تؤمن بربها ولا تستطيع أن تصمد أمام الخطر وأمام التحدي.
وقد أخبر المولى سبحانه بخطورة طاعة الكافرين والإنسياق معهم فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِين" [آل عمران:100]، وأنهم لن يرضوا منا بالتنازلات المحدودة وبعض الطاعة إنما باتباع ما مهم عليه "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة:120].
سبل مواجهة التحديات الثقافية
سبل مواجهة التحديات الثقافية تأخذ أبعاداً متنوعة:
أولها : تعزيز الهوية بأقوى سلاح، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" [المنافقون:8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران:173].
ثانيها: ثانيها: العناية بثقافتنا الإسلامية، وباللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.
ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.(24/435)
رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً، واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، وعلينا أن نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله -سبحانه وتعالى- " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " [سورة الرعد:11].
خامسها: مواجهة التحديات بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.
سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوباً وجماعات بالاعتصام بكتاب الله -عز وجل- "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران:103]، ثم التعامل معها إن وجدت إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.
سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المضبطة بضوابط الشرع(15).
ثامنها: أن نتعرف على الآخرين وثقافاتهم، والكشف على مواطن القوة والضعف في الثقافات المختلفة لا سيما الغربية، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(16).
وأن يواكب ذلك عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب، ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته(17).
تاسعها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.
عاشرها: أن يقوم بتعزيز الهوية وكشف العولمة والتغريب، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم، والمهارات، والمعارف، والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، وتقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(18).
حادي عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(19). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما تراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من عقيدة وقيم وتراث وتقاليد اجتماعية عريقة(20).
ثاني عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطاءها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله -تعالى- من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد التحديات الثقافية، لذا لا نستعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات الأعداء، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق ومحاربة أنشطتها وتشويه سمعتها وتجفيف مواردها.
(1) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(2) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:5.
(3) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان- الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ-1997م، ص:62-64.
(4) انظر: غزو غزو في الصميم، عبد الرحمن الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية،
1405هـ، ص: 200.
(5) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 25
(6) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبد الله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 30-50.
(7) العرب والتاريخ، برنارد لويس، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1954م، ص: 63.
(8) الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا للنشر ومجلة النور الكويتية، الطبعة الأولى، 1413هـ.
(9) مصطلح الشرق الأوسط مصطلح غربي لطمس الهوية العربية والإسلامية ولإدخال إسرائيل فيه.(24/436)
(10) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:63-64.
(11) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة السادسة 1418هـ - 1997م ، ص:62-63.
(12) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(13) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية ، الفصل الثامن الفقرات 31-35، نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27
(14) أنور الجندي، شبهات التغريب، المكتب الإسلامي، بيروت- لبنان، 1398هـ،
ص:12.
(15) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التيميم، الطبعة الأولى 1422هـ -2001م، ص: 263.
(16) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(17) العالم من منظور غربي، د. عبد الوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253.
(18) مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، المجلة العربية، د. ط. ت. ص: 30.
(19) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور/ حسين علوان حسين بعنوان: العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 126.
(20) انظر: صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
================(24/437)
(24/438)
متوالية السقوط الكبير للمحافظين الجدد
محمد سليمان أبو رمان 24/4/1425
12/06/2004
كانت سيطرة المحافظين الجدد على البيت الأبيض بمثابة العلامة الفارقة في التاريخ السياسي الأمريكي ، وعلى الرغم من البداية المتعثرة - نوعا ما - للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش ، إلا أن أحداث أيلول جاءت لتكون الفرصة المناسبة والمحفز الاستراتيجي الذي استثمره المحافظون الجدد لتمرير مشاريعهم الأيدلوجية وإعادة تشكيل وصوغ المجال السياسي الأمريكي ، بما في ذلك السياسة الخارجية ، بما يتوافق مع هذه الرؤى والمشاريع . وقد وصل حجم التغوّل الكبير الذي مارسه القادة الجدد إلى الدرجة التي وصف فيها بعض المفكرين والكتاب الأمريكان الأمر" بأن المحافظين الجدد قد اختطفوا البيت الأبيض" .
لم يعبأ هذا التيار - الذي سيطر على كثير من مراكز الدراسات والإعلام والسياسة الرئيسية في الولايات المتحدة - بكل الانتقادات وعلامات الاستفهام التي صدرت من هنا وهناك ضد تصوراتهم ورؤاهم المتطرفة ، بل تم تفسير " نزعة معاداة الأمريكية " ، التي اجتاحت كثيرا من دول العالم بما فيها دول حلفاء واشنطن الأوروبية ، ومظاهر العداء الشديد ، وكل المسيرات والاحتجاجات والحركات المعارضة لسياساتهم، بأنها نتيجة مشاعر الحقد والكراهية الناشئة عن الغيرة والحسد لما وصلت إليه القوة الأمريكية ، وهذا هو شأن الإمبراطوريات الكبرى ، كما كان الأمر بالنسبة للإمبراطورية الرومانية ، وقد عبر عن هذه الرؤية بوضوح فؤاد عجمي في مقاله " زيف العداء لأمريكا في العالم " في مجلة السياسة الخارجية .
لقد كانت منطقة الشرق الأوسط من المناطق التي اندفع المحافظون الجدد لإجراء تغييرات كبيرة فيها ، وإعادة صوغ المجال الجيو - استراتيجي لها بما يخدم مشاريع الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، ورؤى تيار الليكود الحليف الوثيق للمحافظين الجدد . ورأى عدد كبير من السياسيين والكتاب الأمريكان أن حرب العراق هي حرب إسرائيل التي شنتها الولايات المتحدة بالوكالة عنها ، وكانت هذه الحرب - وفقا لتصورات المحافظين الجدد - بمثابة " المفتاح الذهبي " الذي سيفتح الباب لرياح التغيير المطلوبة ، ليبدأ تحرير العالم العربي - على الطريقة الأمريكية - من بغداد ! .
إلاّ أن النصر العسكري السريع والحاسم الذي حققته الآلة العسكرية الأمريكية ضد النظام العراقي السابق لم يكن سوى بداية السقوط الذريع والكبير لرؤى المحافظين الجدد ، ليكون العراق - بحق - الفخ الكبير الذي سقط فيه هذا التيار ، وأظهر عقم وهشاشة كثير من تصوراته ورؤاه الأيدلوجية ، إلى الدرجة التي بات فيها كثير من الكتاب والباحثين يتحدثون عن نهاية المحافظين الجدد في العراق .
بدأت ملامح المأزق العراقي منذ نهاية الحرب العسكرية ، وقامت الإدارة الأمريكية بتعديل مخططاتها في العراق أكثر من مرة للتعامل مع تعقيدات الوضع العراقي ، ومع المتغيرات الخطيرة هناك، وخاصة المقاومة المسلحة ، وكانت الدعاية السياسية الأمريكية تتهاوى بشكل كبير وصارخ أمام حقائق الواقع العراقي ، وتم التخلي عن كثير من الأحلام السابقة ، ثم بدأت الإدارة الأمريكية تبحث عن مخرج - من المأزق - يحفظ ماء الوجه ، حتى لو كان من خلال الأمم المتحدة أو قوات عربية بديلة ، أو أي حل يُخرج القوات الأمريكية من العراق بعد أن أصبح العراق نقطة الضعف الرئيسية للرئيس بوش وهو يخوض الانتخابات القادمة .
بيد أن فظائع سجن " أبو غريب" كانت هي الباب الذي دخلت منه الشرور على مصراعيها على القادة الأمريكان ، وأصبح العراق بمثابة الكابوس الذي يلاحق قادة البيت الأبيض في كل مكان . فمنذ انكشاف فظائع أبو غريب وهناك حالة من التهافت الكبير بادية على المحافظين الجدد وصقور الإدارة الأمريكية ، الذين بدؤوا بإلقاء اللوم على بعضهم ، وبالتنصل من المسؤوليات عن كثير من السياسات في العراق ، وكشفت أحداث أبو غريب عن وجود تيار أمريكي عريض يعارض رؤى المحافظين الجدد ويرفض كثيرا من مواقفهم وسياساتهم على المستويين الداخلي والخارجي ، بل وكان واضحا من كثير من الدراسات والتحقيقات الصحفية أنّ التيار المعارض للإدارة الحالية بدأ بالتحرك داخل المؤسسات الأمريكية من الداخل والخارج ، بما في ذلك البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية ، وتحول حمائم الإدارة وفي مقدمتهم كولن باول من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم والقوة .
كما بدأت حملة واسعة من الانتقادات الداخلية ضد المحافظين الجدد ، والذين لم يعودوا يملكون الحجج ولا البراهين التي يدافعون بها عن أنفسهم ، فلا العراق المحرر الأمريكي الديمقراطي موجود ، ولا الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يبشرون بها لها قيمة بعد أحداث أبو غريب ، بل وكثير من التصورات الاستشراقية - التي قامت عليها رؤيتهم للعالم العربي المستمدة من أفكار أستاذهم برنارد لويس - ثبتت ضحالتها وسطحيتها في العراق ، وخاصة في التعامل مع الثورة المسلحة .(24/439)
لقد كشفت مصادر إعلامية أمريكية - مقربة من وزارة الخارجية - أنّ عملية اقتحام قوات أمريكية وعراقية لمكتب أحمد الجلبي تمت دون علم رامسفيلد وصقور البنتاغون ، بل إنهم فوجئوا بعملية الاقتحام ، وكان الجلبي من الشخصيات الأولى التي حاولت الإدارة الأمريكية تقديمها ككبش فداء ثمنا لخطاياها في العراق ، واتهم بالتضليل والكذب والخداع ، كما اتهم بعلاقاته مع إيران ، ثم جاءت استقالة مدير وكالة المخابرات جورج تينت وما أحاط بها من غموض لتعمق أزمة المحافظين الجدد قبيل الانتخابات ، وتضعف موقفهم ، وما تزال هناك دعوات كبيرة ومتصاعدة داخل الولايات المتحدة تطالب بمحاسبة رامسفيلد عن كثير من الأخطاء ، وتدعو إلى إقالته .
يبدو واضحا أن هناك ثورة مضادة متصاعدة داخليا تدفع باتجاه التخلي عن مشروع المحافظين الجدد واليمين الأمريكي المتطرف ، تنطلق هذه الحملة من مساحات متعددة ومختلفة في الحركة السياسية الأمريكية ، وتجتمع جهود المعارضين لترمي عن قوس واحدة صقور الإدارة الأمريكية : فهناك حمائم الإدارة ، وهناك المحافظون القدامى ، وهناك تيار من الخبراء العسكريين الحاليين والمتقاعدين معارض لسياسات رامسفيلد ، وهناك الحزب الديمقراطي ، ومؤسسات المجتمع المدني ، وينضم إلى هذه القوى عدد كبير من الخبراء والمنظرين الأمريكان الكبار - والذين لهم وزن معروف في صوغ التصورات الاستراتيجية الأمريكية - يرون بأنّ سياسات المحافظين الجدد قد أضرّت بالولايات المتحدة وقوتها داخليا وعالميا وفي مقدمة هؤلاء الخبراء بريجنسكي ، وكلارك ، وانتوني زيني ، ووصفت مجلة [ النيوزويك ] الإدارة الحالية بأنها " أخرق قيادة مدنية في تاريخ أمريكا الحديث " ، في حين عبر عن هذه الحالة باتريك سيل في مقالته " هل يتخلى بوش عن المحافظين الجدد " ( في صحيفة الحياة 4 حزيران 2004 ) :- " تواجه الولايات المتحدة ـ رغم تردد إدارة بوش بالاعتراف بذلك ـ أسوأ أزمة عرفتها البلاد منذ الحرب العالمية الثانية ، إنها أزمة قيادة وأزمة سمعة وأزمة قدرات عسكرية وهيبة معنوية " .
شتان شتان ما بين طموح المخططات الأمريكية قبل الحرب لـ " عراق ما بعد صدام " وما بين الواقع الحالي ، بل ما بين قوة وزخم المحافظين الجدد قبل الحرب وبين واقعهم اليوم ، قد يتمكن الرئيس بوش من الفوز بالانتخابات القادمة ، لكنه بالتأكيد لن يكون سعيدا في البقاء مع الفريق الحالي في إدارته ! .
=============(24/440)
(24/441)
د. مازن مطبقاني : هذه حقيقة الفاتيكان
حوار : عبد الله بن محمد الرشيد 10/5/1425
28/06/2004
(مثل هذه الحملة ليست مستغربة إطلاقاً ولا جديدة على الفاتيكان) هكذا يكشف ضيفنا حقيقة الفاتيكان الذي يقوم بحملة شعارها (مليون ضد محمد) ، مؤكّداً أنّ ذلك ينبع من الحقد المتأصّل في نفوس النّصارى ضد المسلمين ، مشيراً إلى ألاعيب السياسة وراء هذه الحملة التي تتعاون مع دول الإرهاب للحرب على الإرهاب ، ويرى الدكتور مازن مطبقاني أنّ هذه الحملة ليست موجّهة للنّصارى فقط ، بل هي لجميع شعوب العالم ومنها الشعوب الإسلاميّة ، مؤكّداً أنّ المدّ الاستشراقي يلعب دوراً مهماً في تحريك مثل هذه الهَجَمات .
ويقول الدكتور مازن في ختام حديثه: "إنّه لا ينبغي أنْ نعوّل كثيراً على دور الحكومات العربيّة؛ فهي مشغولة بتثبيت حكمها، وتحقيق أدنى قبول شعبي لها ، وكيف نعوّل عليها وهي التي تفتح أراضيها لإرساليّات التنصير؟!
ويعزو الدكتور "ضعف التفاعل الشعبيّ العامّ" مع هذه القضية إلى وسائل الإعلام العربيّة التي ما فتئت تحارب ما يسمّى " بالأصوليّة الإسلاميّة "، وتروّج لأفكار الانحلال والانحراف .
والدكتور مازن صلاح مطبقاني أستاذ مشارك بعمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حصل على درجة الدكتوراه في الدّراسات الإسلاميّة من قسم الاستشراق بكلية الدّعوة بالمدينة المنورة عام 1415هـ، وحصل قبلها على الماجستير في التاريخ الحديث من قسم التاريخ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة عام 1406هـ. ويشرف حالياً على موقع في الإنترنت حول الاستشراق هو مركز المدينة المنوّرة للدّراسات وبحوث الاستشراق وعنوانه هو: www.mazen-cente صلى الله عليه وسلم 8m.com
وله عدد من المؤلفات في دراسة الاستشراق والتنصير منها : الاستشراق المعاصر في منظور الإسلام ، و الاستشراق والاتجاهات الفكريّة في التاريخ الإسلامي ، و أصول التنصير في الخليج العربي( ترجمة عن الإنجليزية)
وحضر عدداً من المؤتمرات الدوليّة منها : المؤتمر الدولي حول الاستشراق والدراسات الإسلاميّة ، في تطوان بالمغرب عام 1997م ، و المؤتمر الدولي حول الاستشراق: الخطاب والقراءة بجامعة وهران عام 2001م وغيرها .
نشرت صحيفة "فليت إم زونتاج" الألمانيّة في عددها الصادر بتاريخ 30 مايو من عام 2004 م، مقالا بعنوان (مليون ضد محمد) ذكرت فيه أنّ للفاتيكان منظمةً اسمها "رابطة الرهبان لتنصير الشعوب" هي من أقدم منظمات الفاتيكان وأكثرها نفوذا وأقلّها شهرة، إنّها تعمل في كل مناطق العالم بما في ذلك المناطق التي يسمّونها مناطق "الصّمت"؛ كالسعوديّة واليمن والصين وفيتنام وكمبوديا . بداية نودّ أنْ نعرف مدى الامتداد التاريخي لهذا الهجوم العلنيّ ضد المصطفى صلى الله عليه وسلم من قبل رؤوس الدّيانة المسيحيّة؟ و بماذا تفسر تبني الفاتيكان لها وهي المرجعيّة الدينيّة الأولى لنصارى اليوم ؟وهل هذه العمليّة مستغربة وجديدة في تاريخ الفاتيكان كمؤسسة؟
يجب ألا يغيب عن بالنا لحظةً ما ورد في القرآن الكريم حول موقف النصارى من الإسلام والمسلمين، ومن ذلك قول الله عز وجل( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبعَ ملتهم) [البقرة:120] وقوله تعالى ( يُرضُونكم بأفواههم وتأبى قلوبُهم)[التوبة:8] (قد بدت البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورُهم أكبر) [آل عمران:118]
إنّ جهود التنصير في محاربة الإسلام وأهله قديمة، وقد اتخذت عدة أشكال منها: العسكري،و الفكري، والثقافي، والاجتماعي. أمّا الفكري والثقافي فقد بدأ منذ وقت مبكر حين ظهر" يوحنا الدمشقي" يناظر المسلمين ويطعن في الإسلام ومعتقداته. واستمر النصارى يكتبون الكثير حول الإسلام، حتى إنّ الإنتاج الفكريّ في العصور الوسطى(الأوروبية) كثرت فيها هذه الكتابات، وكانت على درجة من السوء والتحيّز والتعصّب حتى كتب في ذلك "ريتشارد سوذرن" كتابه المشهور عن صورة الإسلام في القرون الوسطى، ثم جاء بعده "نورمان دانيال" في كتابه (الإسلام والغرب) وفيه نقد قويّ لما كتبه النصارى حول الإسلام في تلك الفترة.
وظهرت ترجمات لمعاني القرآن الكريم قام بها قساوسة وباحثون أوروبيّون كانت نماذج للحقد والكراهيّة. وقد صرّح الكثيرون منهم أنّهم بحثوا عن أسوأ الأوصاف والنعوت وأطلقوها على الرّسو صلى الله عليه وسلم . ومن نماذجهم القريبة القس البلجيكي- الذي عاش في لبنان- "هنرى لامانس" الذي نعت الرّسو صلى الله عليه وسلم بشتى النّعوت البذيئة التي لا يليق بعالم أنْ يتلفظ بها لا أنْ يكتبها.(24/442)
واستمرّت الهجمة على الإسلام والمسلمين وعلى شخصيّة الرّسول الكريم صلى الله عليه وسلم حتى عصرنا الحاضر الذي تنشط فيه الكنائس الغربيّة ومؤسسات التنصير المختلفة، حتى إنّ بابا الفاتيكان الحالي قام بجولة في عدد من دول أفريقيا لتشجيع البعثات التنصيريّة على العمل وحدّد لهم الهدف بأنْ يعملوا على جعل أفريقيا قارة نصرانيّة بحلول العام 2000م، ولكن خاب ظنّه وتخطيطه. وقد مرّت ثلاث سنوات ونصف على هذا التاريخ ومازال الإسلام قوياً في أفريقيا، ويزداد الإقبال عليه. ولعلهم أدركوا استحالة تحقيق هذا الهدف، فغاظهم فقرروا خُطة جديدة لعلها تكون هذه الخُطّة التي نتحدث عنها الآن.
ومثل هذه الحملة ليست مستغربة إطلاقاً ولا جديدة على الفاتيكان الذي حرّض النصارى في القديم على القيام بالحَمَلات الصليبيّة، والذي تعاون مع قوى الاحتلال حديثاً، فلا يستغرب منه مطلقاً أن يشنّ الحملة تلو الحملة ضد الإسلام والمسلمين.
بحكم تخصصكم، ما هي دوافع هذه الحملة ضدّ النبيّ r ؟ وهل تنطلق من منطلق دينيٍّ بحت ؟ أم أنّ هناك دوافعَ سياسيةً في الموضوع؟
دوافع هذه الحملة وما قبلها من حملات هو الحقد المتأصل في نفوس النصارى ضد الإسلام ورسول صلى الله عليه وسلم . ومع الدّوافع العقديّة من حقد دفين على الإسلام فهناك الدوافع السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. فإن كان الأوروبيون يزعمون أن جذور الفكر الغربي هي الجذور اليهودية-النصرانية فإن ما يقف ويقاوم هذه الجذور الفكريّة وينال القبول في أنحاء العالم هو الإسلام؛ لذلك لا بد من الحَمَلات المحمومة التي نحن بصددها وما سيتلوها، والتي لا تخرج أهدافها عن السّعي إلى هدم الإسلام والقضاء عليه، وذلك من خلال تشويه هذا الدين ومعتقداته وشريعته، وتشويه صورة نبيّه عليه الصلاة والسلام. وهذه الحملات تتوجه بالخطاب ليس للنصارى فحسب، ولكن لكل شعوب العالم ومنها الشعوب الإسلاميّة.
أما عن الدوافع السياسيّة لهذه الحملة فأمر مؤكد ذلك؛ لأن الارتباط بين التنصير والاستعمار قديم في حملات الكنائس وارتباطها بالحكومات الغربية. فأوروبا تؤكد على علمانيّتها في الداخل ولكنها تدعم كل نشاط تنصيريّ بالخارج؛ وبخاصة في بلاد المسلمين. وما زلت أذكر الكتاب الذي وفقني الله عز وجل لترجمته حول البعثة "العربية" التنصيرية التي كانت بقيادة صموئيل زويمر وزملائه الأربعة التي وصلت إلى الجزيرة العربية عام 1317هـ (1889م) واستمرت حتى عام 1394هـ(1974). وكانت هذه البعثة تعمل تحت حماية بريطانيا وأمريكا، حتى إنّ أحد مسؤولي الخارجيّة الأمريكيّة خاطب أحد رؤساء الدول في الخليج العربيّ بفظاظة وقسوة لعدم السماح للبعثات التنصيريّة بالعمل في بلاده!!
وهل هذه الحملة تخدم وتدعم المخطط التنصيريّ ؟ أم أنها تسبب تخريباً له بسبب نفرة المسلمين ممن يتهجّم على نبيّهم ؟
لا بد أنّهم درسوا هذه الحملة دراسة عميقة ودقيقة قبل أن تنطلق، فلا شك أنها ستخدم أهدافهم وتحقّق لهم ما يريدونه؛ لأن الإعلام العربيّ الإسلاميّ منشغل باللهو والترفيه والتسلية في غالبه. ففي الوقت الذي تتعدّد القنوات الفضائيّة التنصيريّة ومحطات الإذاعة نجد أن الإعلام الإسلاميّ منحصر في عدد محدود من القنوات الفضائيّة وما يتبقى من خُطّة برامج المحطات الرسميّة العربيّة والإسلاميّة. فالقنوات الفضائيّة العربيّة التجاريّة تصبّ جامّ غضبها على الإسلام والدعاة المسلمين؛ لأنها تسير في رِكاب الإعلام الغربيّ في محاربته للإسلام، ولأنّ هذا الإعلام ارتبط الإسلام عنده بـ" التطرّف" و "العُنف" و "الأُصوليّة" مع أن الدّعاة المسلمين والحركات الإسلاميّة "في غالبيتها العظمى" تدعو إلى العودة الصحيحة إلى الإسلام وتطبيقه في شؤون الحياة كلها: العقديّة والتشريعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
أمّا أن الحملة سوف تسبّب تخريباً للمخطّط التنصيري لأن المسلمين ينفرون ممن يتهجّم على نبيهم فأمر يمكن أن يحدث لو كان المسلمون يدركون هذه الحملات ويعرفونها، ولو أنّ الإعلام الإسلاميّ يفضح ما يقولونه بالتفصيل. وإنْ حدث تخريب للمخطط التنصيري؛ فلأنّ هذا الدين محفوظ بحفظ الله له؛ ولأنّ الله عز وجل وعد بانتصاره (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون) [الصف:8]
توقيت هذه الحملة برأيك هل يحمل دِلالات معينة ؟ وهل لها علاقة بالحرب على ما يسمى "بالإرهاب" بحيث تكون هذه الحملة جانباً من جوانب هذه الحرب ؟(24/443)
يجب أن ندرك أنّ الغربيين -عموماً- لا ينطلقون في أي عمل من أعمالهم إلا بعد دراسة وتنسيق، والتنسيق موجود بين الفاتيكان وقادة الدول الغربيّة، ولعلّ من آخر رؤساء الدول الغربية لقاءً للبابا هو الرئيس الأمريكي (بوش). وربْط الإسلام بالإرهاب أمر اتفق الغربيّون وبعض المتغرّبين عليه. ولو عدنا إلى الحملة التي انطلقت بعد الحادي عشر من سبتمبر لتأكّد لنا هذا الأمر، ولكنّهم وجدوا أنّ الإقبال على معرفة الإسلام وحتى الدخول فيه قد ازداد بعد هذه الحَمَلات؛ لذلك فكّروا في حملة جديدة للهجوم على شخصيّة الرّسو صلى الله عليه وسلم . وقد بدأها قساوسة ورؤساء كنائس في الولايات المتحدة الأمريكيّة. وها هو الفاتيكان يشاركهم في هذه الحَمَلات.
هل يمكننا أنْ نقول: إنّ هذا التحامل على صلى الله عليه وسلم متركز أكثر في المذهب الكاثوليكيّ ؟ أم أنّه متأصل لدى المذاهب المسيحيّة الأخرى ؟
إنّ دارسي الاستشراق وبخاصة الفرنسي منه يؤكدون على أنّ الاستشراق الفرنسيّ الكاثوليكي هو أشد المدارس الاستشراقية قسوة وتطرّفاً وعنفاً في الهجوم على الإسلام وعلى نبي صلى الله عليه وسلم . ولو رجعنا إلى المواجهات بين العلماء المسلمين والمستشرقين الكاثوليك في الدول التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي لأدركنا حجم الخُبث الكاثوليكي الاستشراقي في هجمته على الإسلام. ويكفي مراجعة صحف ومجلات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر.
لقد وصل الأمر بالمحتلين الفرنسيين أو ما كان يُطلق عليهم (المعمّرين) أنّهم كانوا يطلقون على الخادمة اسم (فاطمة) فمن أراد أنْ يبحث عن خادمة يقول: إنّه يبحث عن (فاطمة).
والأمر لا يختلف بالنسبة للمذاهب النصرانيّة الأخرى فيكفي الرجوع إلى كتابات "مارتن لوثر" مؤسس البروتستانت لنعرف حجم الحقد والكراهيّة للإسلام والمسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم . وممّا يؤكد على العداء البروتستانتي هو ما نشاهده من بحوث ودراسات تقوم بها مؤسسات بروتستانتيّة ومراكز بحوث وأقسام علمية في هذه المؤسّسات لدراسة أوضاع المسلمين في أوروبا وأمريكا. فهناك دراسات واسعة قام بها مدير مركز العلاقات النّصرانيّة الإسلاميّة بجامعة "بيرمنجهام" ببريطانيا حول المسلمين في أوروبا. وكذلك ما قامت به جامعة نيويورك من عقد دورات لدراسة المسلمين في أوروبا. وقد عقد معهد دراسة الأديان بجامعة "ليدن" بهولندا مؤتمره السنويّ بعنوان (التغيرات الدينيّة في سياق متعدد) تركزت العديد من بحوثه حول المسلمين في أوروبا.
كيف ترى هذه المفارقة : منظمة يعمل تحت لوائها 85 ألف قسيس ، و 450 ألف جمعية دينية ، وأكثر من مليون مدرس يجوبون العالم كله، قرية قرية، ومدينة مدينة، وهي تملك 42 ألف مدرسة، و1600 مستشفى، و 6000 مؤسسة لمساعدة المحتاجين، و780 ملجأ لمرضى السرطان، و12 مؤسسة خيرية واجتماعية حول العالم . وتجيّش أكثر من مليون شخص لحسابها بحريّة مطلقة في حين أن المؤسسات الدعويّة و الإغاثيّة الإسلاميّة ، تحاسب حسابًا عسيراً ويضيّق عليها؟
نعم إنّها لمفارقة كبيرة ومحزنة ما نشاهده من ضخامة الجهد التنصيريّ وسكوت العالم عنه، بينما تقوم الدنيا ولا تقعد لقيام بضع مؤسسات إسلاميّة إغاثيّة. نعم الأرقام التنصيريّة ضخمة، ولا يمكن مقارنتها بما يقوم به المسلمون، ومع ذلك فإنّ الغربيين وبخاصة أمريكا -زعيمة من يزعم محاربة الإرهاب- لا تتوقف عن محاربة الجمعيّات والمؤسسات الإسلاميّة. ولكنْ يجب ألا يغيب عن بالنا الدّعم الذي تلقاه المنظمات التنصيريةّ من الحكومات الغربيّة بينما يندر هذا التأييد من الدول الإسلاميّة للمنظمات الإسلامية الإغاثية والدعويّة. ومع كل ذلك علينا أن نتذكر أنّهم ينفقون هذه الأموال التي ستكون عليهم حسرة، ثم يُغلبون كما جاء في الآية الكريمة ( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون..) [الأنفال:36]
هل للمد الاستشراقي دور في إذكاء هذه المحاولات لتشويه صورة صلى الله عليه وسلم ؟ وهل مازال الفاتيكان يستفيد من الاستشراق ؟ وما قولك فيمن يرى أن الاستشراق والحديث عنه أصبح جزءاً من فترة تاريخيّة ماضية ؟
نعم للمدّ الاستشراقي دور في هذه الحملات فالاستشراق -في الغالب- والتنصير وجهان لعمله واحدة؛ فالمُنَصِّر عندما يعمل في البلاد الإسلاميّة لا بد أن يكون مستشرقاً: عارفاً بالإسلام واللغات التي يتكلمها المسلمون، عارفاً بتاريخهم وعقيدتهم وثقافتهم. وقد انطلق الاستشراق في أصله ونشأته وجذوره من الكنيسة فمنها بدأ وإليها يعود.
ولا شك أنّ الاستشراق الإيطالي وعناية الفاتيكان به كبيرة. وهو مجال مازال بحاجة إلى دراسة عميقة لمعرفة ما يدور في الأوساط الاستشراقية الإيطاليّة. وحبذا لو قام المسلمون الإيطاليّون بمثل هذه الدراسات.(24/444)
أما القول بأن الاستشراق والحديث عنه أصبح جزءاً من فترة تاريخية ماضية فلا يقول ذلك إلاّ شخصٌ لا يعرف الاستشراق، ولا يدري ما الاستشراق. يكفي الاطّلاع على مواقع أقسام دراسات الشرق الأوسط، والمعاهد للدراسات الإسلاميّة في الغرب ليدرك عمق الارتباط بين الاستشراق القديم المتمثل في كبار المستشرقين" ك جولدزيهر" و"مارغليوث" و"شاخت" و"كولسون" ليدرك أنّ الاستشراق قائم ومستمر. ولو بحثنا في المراجع والكتب التي يستقي منها خبراء الشرق الأوسط المعاصرين لأدركنا أنّ الاستشراق لم يمت وإنْ تمّ إدخال بعض التعديلات على أشكال الاهتمام وطريقة تناول قضايا العالم الإسلامي.
ولقد وجد المستشرقون في بعض أبناء البلاد العربيّة الإسلاميّة من يقوم بالمهمة نيابة عنهم في الهجوم على الإسلام وتاريخه وقيمه وأخلاقه.
بعد هذه الحملة التي تزعّمها الفاتيكان ضد النبيّ r ، ما رسالتك إلى من يعتقد بجدوى حِوار الأديان ؟
حِوار الأديان أمر يتزعّمه الغرب في الوقت الحاضر، يزعمون به الرّغبة في التعرّف إلى العقائد الأخرى والتقريب بين الأديان، ولكنّ الأصل في الحِوار هو أنّنا أصحاب الدعوة الحقّ وعلينا أنْ ننطلق بدعوتنا إلى عُقر دارهم عملاً بقول الله تعالى (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)[يوسف:108] وقول الرسو صلى الله عليه وسلم ( بلّغوا عنّي ولو آية) وقول صلى الله عليه وسلم (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فبلّغها إلى مَن لم يسمعها، فربّ مبلّغٍ أوعى من سامع، أو رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
نحن نملك الهداية والرحمة والخير للبشرية؛ فعلينا ألا نترك فرصة للحوار وبخاصة أنّ الله عز وجل يعلم أنّهم سيطلبون الحِوار والجدال فأمرنا ألا نجادلهم إلاّ بالتي هي أحسن( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن) [العنكبوت:46] وقوله تعالى ( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل:125]
أما حِوار الأديان في شكله الحالي فلا يخدم أهداف المسلمين؛ لأنّه يُعقد في سريّة و نادراً ما يحضره علماء مسلمون أقوياء، وهو لا ينطلق من أسس ثابتة مثل اعتراف النصارى أو المتحاورين النصارى برسالة الرسو صلى الله عليه وسلم ؛ لأنّ الحِوار الحقيقيّ الذي ينطلق بين أنداد، فإذا كانوا لا يعترفون برسالة الرسو صلى الله عليه وسلم فأيّ حوار يمكن أن يكون معهم؟
ولذلك لا ينبغي أنْ يكون الحِوار إلاّ من قبل مسلمين أقوياء في عقيدتهم عارفين بعقائد النصارى، وأن يكون الحِوار علنياً، فقد علمت أنهم يحرصون على سِرّية هذه الحِوارات مما لا يتيح للمسلمين إظهار ما عندهم من الحقّ الذي يعرفه النصارى كما يعرفون أبناءهم كما جاء في قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)[البقرة:146] وأكدّه أحد الإخوة الذين أسلموا في أمريكا، وكان يدرس اللاهوت وهو "روبرت كرين" (عبد الحق الفاروق) الذي كان مستشاراً للرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" حيث عرف زملاؤه إقباله على الإسلام فاجتمعوا به ليستنكروا توجّهه إلى الإسلام، وليقولوا له: " إنّ لديك مشكلة ونحن نريد حلّها" فقال لهم :" أنتم تعرفون أنّه ليس لديّ مشكلة، وإنّما أنا أتّبع الحق الذي تعرفون.." فما كان منهم إلا أنْ رضخوا للحقّ، واعترفوا معه أنّه على الحق وأن الإسلام هو الدّين الحق.
كيف تقيّم موقف الحكومات الإسلاميّة من هذا الهجوم الذي تبناه الفاتيكان ؟ وهل تتفق من أنّه جزء من الحملة بسبب دعمه للإرساليّات التنصيريّة ؟ و ما رأيك في البلاد التي فتحت أراضيها لوفودهم ؟
يجب ألا نتوقع الكثير من الحكومات الإسلاميّة فهي منشغلة بتثبت أنظمتها، وتحقيق الحد الأدنى من القبول من شعوبها. فكيف تتوقع منها أن تقوم بعمل حقيقي لوقف الهجمات التنصيرية. ولو كان الهجوم التنصيري على شخصيّة أحد الزعماء العرب المسلمين لكان الأمر مختلفا،ً لجُنّدت الطاقات الإعلاميّة الممكنة وغير الممكنة للذب عن عِرض هذا الزعيم.
نعم كثير من الحكومات الإسلاميّة فتحت أبواب بلادها للتنصير وأساليبه الخبيثة الماكرة، وعرفت ارتباط هذه البعثات التنصيريّة بالدول الغربية، وغضّت الطّرف عن ذلك. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ما واجب الأمّة المسلمة أفراداً ومؤسساتٍ تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم ، وإلى ماذا تعزو الضّعف الشعبيّ العام تجاه هذه القضيّة وانحسار التفاعل معها في أوساط نُخَبٍ معينة؟
واجب الأمّة الإسلاميّة كبير أولاً على المستوى المؤسّساتي، فهذه المؤسّسات يجب أن تسعى إلى تحريك الأفراد للعمل ضدّ هذه الحَمَلات بكتابة الخطابات والعرائض إلى الفاتيكان نفسه، وإلى الحكومات الغربيّة تستنكر وتندّد بكل مَنْ يحاول تشويه صورة المصطفى صلى الله عليه وسلم . ولنذكّرهم بالصورة العظيمة التي يقدّمها القرآن الكريم والسنّة المطهّرة لعيسى المسيح عليه السلام ولأمّه.(24/445)
كما يجب على الإعلام العربيّ الإسلاميّ أن يتصدى لهذه الحملات فيوضّح تفاصيلها ومنطلقاتها والقائمين عليها، وأنْ يقدّم للمسلمين الحقائق عن الديانة النصرانيّة وما مرت به من تحريفات. لماذا يستخدم المنصّرون الإعلام بصورة قويّة؟ أمّا الدعوة الإسلاميّة فما زالت بحاجة إلى استخدام هذه الوسيلة أولاً في الدعوة إلى الخير وإلى الهداية والرّشاد، ثم الذبّ عن رسالة الإسلام وعن الرّسو صلى الله عليه وسلم .
أما على المستوى الفرديّ فإنّ على المسلم أنْ يتذكر قولة الصدّيق رضي الله عنه: "الله الله أنْ يُؤتى الإسلام وأنا حيّ" فجعل نفسه مسؤولاً عن الإسلام كله... فأين نحن من تحمّل المسؤولية؟! وإنّها لمسؤوليّة يجب أنْ يتحمّلها العلماء وبخاصة القادرين على الكتابة باللغات الأجنبيّة من فرنسيّة وإنجليزيّة وألمانيّة وإيطاليّة ليبعثوا إلى الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، وليرسلوا الرسائل إلى المواقع التنصيريّة التي تطعن في الإسلام وفي رسول صلى الله عليه وسلم .
أما الضّعف الشعبيّ العام تجاه هذه القضيّة فذلك لأن وسائل إعلامنا انشغلت بملء وقتنا بالتّفاهات والتّسلية والتّرفيه، فكيف بربك نهتم بالقضايا الكبرى ولا شغل للإعلام الفضائيّ سوى الفنانين والفنّانات والاهتمام بما يزعمونه "الإبداع في الغناء والرّقص والتّمثيل"؟! أين العناية بالإبداع في الكتابة والتأليف والدّفاع عن الإسلام وأهله؟!
==========(24/446)
(24/447)
الأسلمة في الغرب واختراق الخارطة الأوروبية بالقوة الذاتية..!!
برلين - صلاح الصيفي 20/4/1428
07/05/2007
على الرغم من الدعاوى وحملات التشهير ضد الإسلام ونبيه الكريم والتي كشف الغرب عنها في أبشع صورها بما يتناقض مع مزاعم الحرية والديموقراطية وعدم التمييز العنصري؛ إذ أخذت هذه الحملات عدة أشكال من بينها التصريحات العنصرية ضد المسلمين من قبل رجال دين مسيحيين أو سياسيين، والتهجم على القرآن الكريم وحجاب المرأة المسلمة، واستمرار وسائل الإعلام من صحافة وفضائيات ومراكز ثقافية فى التطاول على شخص النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رسالة الإسلام، إضافة إلى التضييق المستمر على المسلمين ومؤسساتهم الدينية والعلمية والثقافية وعلى حرياتهم الشخصية وتحركاتهم في الدول الغربية، وعلى الرغم من جدران برلين الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية والإستراتيجية المتعددة التي أقامها الغرب بينه وبين الإسلام منذ طرد المسلمين من الأندلس ومروراً بالحركات الاستعمارية، ووصولاً إلى الغارة الكبرى على عالمنا الإسلامي، إلاّ أن الإسلام استطاع أن يصل إلى جغرافيا الغرب تماماً، كما تمكن الغرب سابقاً وحالياً في الوصول إلى مواقعنا على متن البواخر الحربية والطائرات والدبابات، ولكن الفرق بين اختراق الغرب وقدومه لمواقعنا الجغرافية وذهاب الإسلام وانتشاره في مواقع الغرب الجغرافية تكمن في أن الغرب جاء إلى مواقعنا بقوة السلاح، أما الإسلام فقد اخترق الخارطة الغربية بقوته الذاتية وتعاليمه ومبادئه العظيمة وقيمه السامية وسط الشباب والشابات والأكاديميين الغربيين حتى أصبحت ظاهرة في حد ذاتها ما زال الغربيون يبحثون في أمرها حتى اليوم، فتفرغت مراكز الدراسات والمؤسسات الغربية لرصد هذه الظاهرة ومحاولة الوصول إلى الأسباب والدوافع وراء إقبال الآلاف من الشباب والفتيات وفئات مختلفة على الإسلام.
دراسات وتقارير
فقد أظهرت دراسة حديثة وضعتها مؤسسة (سويست) للأرشيف الإسلامي في ألمانيا أن أكثر من (4000) ألماني من ديانات وطوائف مختلفة تخلى عن دينه، واعتنق الإسلام ما بين شهر يوليو عام 2004 ويونيو عام 2005، أي أربعة أضعاف عدد عام 2003، وأشارت الدراسة نفسها إلى أن أهم أسباب اعتناق الإسلام في السابق كان محصوراً بالنساء الألمانيات اللواتي يتزوجن من مسلمين، إلاّ أن الوضع تغير الآن، وأصبح اعتناق الإسلام لدى الرجال والنساء لأسباب أخرى منها البحث عن الهدوء النفسي والراحة الداخلية حسب اعتقادهم والشعور بالقرب من الآخرين أو التقرب من الشرق الساحر.
وفي دراسة أخرى وضعتها نفس المؤسسة أشارت إلى أن عدد المسيحيين الألمان الذين اعتنقوا الاسلام عام 2005 وصل إلى (1.152) ليصل عددهم الإجمالي إلى (13) ألفاًً، و على الرغم من عدم وجود إحصائيات لعدد معتنقي الإسلام لعام 2006 إلاّ أن المؤسسة تتوقع وصوله إلى (5000) مسلم.
أما في فرنسا فقد أوردت صحيفة (لاكسبرس) الفرنسية تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين جاء فيه: "على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخرًا ضد الحجاب الإسلامي وضد كل رمز ديني في البلاد، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون في دين الله بلغت عشرات الآلاف مؤخرًا، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يوميًا من ذوي الأصول الفرنسية، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد".
كما ورد في التقرير إلى أن عدد المعتنقين الجدد للإسلام من الفرنسيين يصل إلى(60) ألفا مؤخراً، سواء أولئك الذين أسلموا بدافع حبهم وإعجابهم بهذا الدين، أو بدافع البحث عن الهوية والبحث عن الذات، والكثير منهم من شباب المدن ومن طبقات المجتمع المختلفة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية فقد نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً بـ (25) ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الله يومياًً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقديرات أوساط دينية، والمدهش أن أحد التقارير الأمريكية الذي نُشر قبل أربع سنوات ذكر أن عدد الداخلين في الإسلام بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر قد بلغ أكثر من ثلاثين ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما أكده رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكي؛ إذ قال: "إن أكثر من (24) ألف أمريكي قد اعتنقوا الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو أعلى مستوى تَحقق في الولايات المتحدة منذ أن دخلها الإسلام.
أعداد كبيرة وقلق أوروبي(24/448)
وقد أشارت التقديرات المبدئية المتوفرة حول عدد المسلمين في الغرب، والتي قامت بها المؤسسات الإسلامية والمؤسسات غير الرسمية، وأحياناً المؤسسات الكنسية والبحثية أن عدد المسلمين في الغرب وصل إلى (30) مليون مسلم من مجموع سكان أوروبا البالغ (705) ملايين نسمة، ففي فرنسا بلغ عدد المسلمين ستة ملايين مسلم الأمر الذي جعل الإسلام هو الديانة الرسمية الثانية بعد الكاثوليكية، وسبعون بالمئة منهم قدموا إلى فرنسا من المغرب العربي، وحسب دراسة للمجموعة الأوروبية صدرت في العاصمة البلجيكية بروكسل في سنة 2001 فإن المهاجرين يساهمون بنسبة 14.7% من الناتج المحلي الفرنسي، وفي ألمانيا فقد بلغ عدد المسلمين قرابة أربعة ملايين نسمة، وفي بريطانيا تجاوز عدد المسلمين فيها مليوناً و 700 ألف مسلم، وفي إيطاليا، تجاوز عدد المسلمين المليون، وفي هولندا بلغ عددهم (900) ألف مسلم، وفي بلجيكا (600) ألف مسلم، وفي السويد نصف مليون، وفي سويسرا (400) ألف مسلم، وفي إسبانيا (400) ألف مسلم، وفي النمسا قرابة النصف مليون، وفي اليونان (700) ألف مسلم، وفي الدانمارك قرابة (200) ألف مسلم، وفي فلندا (60) ألفاً، بالإضافة إلى وجود مئات الآلاف من المسلمين في الدول الأوروبية التي انضمت أخيراً إلى الاتحاد الأوروبي.
وقد كشفت هذه الأعداد الهائلة من المسلمين في مختلف الدول الأوروبية أن حركة الإنجاب بين المسلمين كبيرة للغاية، وحسب الخبراء الدارسين لهذه الظاهرة فإن ذلك يعود إلى التقاليد الإسلامية الحريصة على مفهوم العائلة الكبيرة المتضامنة، أو أن ذلك يعود إلى رغبة هذه العوائل المسلمة بالاستفادة من الامتيازات التي يوفرها الضمان الاجتماعي الأوروبي للعوائل الكبيرة من خلال ما يُعرف بنقدية الأطفال.
وقد بدأت هذه الأرقام والإحصائيات تثير القلق والرعب في الدوائر الغربية لا سيما وأن كماً هائلاً من الدراسات التي أنجزها خبراء في مجال قراءة المستقبل وتحليل الثقافة الرقمية المبنية على الإحصاء والاستطلاع الموسع يؤكد أن المسلمين قد يصبحون نصف سكان القارة الأوروبية بعد خمسين سنة، وبخاصة إذا استمر إنجابهم على الوتيرة التي هم عليها الآن، إضافة إلى المستوى التعليمي الكبير للأجيال المسلمة الجديدة وانتشار حركة الأسلمة بين الغربيين أنفسهم؛ إذ أصبح المواطن الغربي المسلم هو الذي ينقل الإسلام إلى بقية المواطنين الأوروبيين، بل إن بعضهم بات يعلن أنه صاحب الشرعية في تمثيل ونشر الإسلام في الغرب، وهو الاختراق الخطير الذي رُصدت له ميزانيات ضخمة وكُلفت جهات بحثية وأمنية لدراسة أبعاد هذه الظاهرة ورصد منحنياتها؛ إذ إن اتساعها قد يفضي إلى تقوية الوجود الإسلامي في الغرب وجعله محصناً.
مواجهه الأسلمة
أصبح انتشار الإسلام بين فئات كثيرة من المواطنين في الغرب مصدر هلع ورعب في الأوساط الرسمية والإعلامية، فأصبح هناك تمويل هائل لمئات المراكز الاستشراقية التي ترصد حركة مستقبل الإسلام في الغرب، كذلك بدأت الدوائر الغربية وضع خطط تقضي على شبح الأسلمة الذي قد يهدد مستقبل الغرب، ومن هذه الخطط فصل الجيل المسلم المولود في الغرب عن آبائه عبر بذل جهد مضاعف لجعل هذا النشأ الإسلامي ذائباً في الخارطة الغربية منسجماً مع ثقافتها وعقيدتها، وقد حقق في هذا المجال بعض النجاح حيث بات مألوفاً أن يصبح للشابة المسملة عشيق غربي يعاشرها ساعة تشاء، وقد يحدث أن تجلب عشيقها هذا إلى بيت أبيها كما حدث مع عشرات العوائل المسلمة، وعندما أراد الأب المسلم أن يسيطر على سلوك ابنته، تهرول البنت إلى سماعة الهاتف لتطلب الشرطة وبالطبع تجد تأييداً ودعماً لا محدود.
وهناك إستراتيجية أخرى يتم تنفيذها في الغرب وهي تسهيل و"الحث" أحياناً على الطلاق بين المرأة والرجل المسلمين، على أساس أن الأبناء تضمحل شخصيتهم وتضعف في ظل أسرة هزيلة ومشتتة، وقد يحتدم العراك بين الرجل وزوجته، وعندها تحكم المؤسسات الاجتماعية بعدم أهلية هذه الأسرة لرعاية الأطفال، على أساس أن الأطفال يحتاجون إلى دفء عاطفي وحنان واستقرار نفسي، وهذا الحكم كفيل بتوزيع الأبناء على العوائل الغربية.
وهناك أيضاً المدارس الغربية التي أصبحت تركز كثيراً على تدريس مادة الجنس، وهي مادة ضرورية في المناهج التعليمية الأوروبية، وأحياناً وعلى الرغم من أن الصف يكون معظمه من المهاجرين العرب والمسلمين فإن المعلمة تسترسل في توصيفات من شأنها أن تفجر الشهوات المكبوتة لدى الأطفال وخصوصاً في سن المراهقة، وهذا ما يجعل نسبة الفساد الخلقي بين الأطفال المراهقين مرتفعة بشكل كبير.(24/449)
... ولكن على الرغم من كل المؤامرات التي تُحاك ضد الإسلام والتي تزداد شراسة يوماً بعد يوم، إلاّ أن قطار الأسلمة إلى الغرب لن يتوقف وسوف يسير بقوته الذاتية ومعجزته القرآنية وليس بسواعد المسلمين، يقول الله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:8-9]. صدق الله العظيم... فهل سيكون الإسلام هو الدين الأول على مستوى العالم؟
================(24/450)
(24/451)
زنجبار .. وجع في قلب العالم الإسلامي
الفقر والتخلف العلمي... أبرز مشكلات مسلمي زنجبار
عمرو محمد 24/6/1425
10/08/2004
زنجبار .. كما يسميها العرب من أبنائها، أو زنزبار كما يسميها الأجانب، وهي التسمية التي اصطلح عليها سكان البلاد منذ سقوط الحكم العربي فيها عام 1964 ، هذه البلاد يعتبرها المؤرخون البوابة الشرقية لأفريقيا، في الوقت الذي يطلق عليها السائحون "بستان أفريقيا الشرقية".
يبلغ عدد سكان زنجبار -حسب آخر إحصاء- مليون نسمة، نسبة المسلمين منهم 98 % ، أغلبهم يقطنون جزيرتي "أنجوجا وبمبا" ، والنسبة الباقية هم من المسيحيين والهندوس .
يتحدث أهلها اللغة السواحلية، وهي اللغة الرسمية، بجانب الإنجليزية التي عمل الاحتلال البريطاني على زرعها بين أبناء البلاد، ويرجع أصل سكانها إلى عمان وفارس وأفريقيا وآسيا، وخاصة الهند وباكستان.
ورغم عدد السكان الهائل من المسلمين في زنزبار، فإنهم يعانون الكثير من الفقر والتخلف العلمي، وهو ما يجعلهم غنيمة لحركات التنصير و الاستشراق أمام صمت عربي وإسلامي لافت عن عدم علاج هذا القلب الجريح في جسد العالم الإسلامي.
وفي جولة لزنجبار، التقينا عددًا من الدعاة ومبعوثي الأزهر الشريف هناك؛ لرصد أوضاع المسلمين ومواجهة أبرز المشكلات التي يعانون منها..
بداية وحسبما يصف سكان البلاد المسلمين زنجبار؛ فإنها تتكون من عدد كبير من الجزر يبلغ عددها 52 جزيرة، أكبر جزيرتين هما "أنجوجا وبمبا" ، وتمثل زنزبار أحد طرفي الجمهورية الاتحادية لتنزانيا، وهو الاسم المشتق من كل من "تنجانيقا وزنزبار".
وبعد انهيار الحكم البرتغالي لساحل شمال أفريقيا دانت زنجبار للحكم العماني، وتعاقب على حكمها أحد عشر سلطانًا من أسرة البوسعيدي من أهمهم السلطان سعيد الأكبر، الذي أدخل زراعة القرنفل للجزيرة في أوائل عام 1800، مما أدى إلى ازدهار الحالة الاقتصادية في البلاد، حتى أصبحت أكبر مصدر للقرنفل في العالم.
خلفية تاريخية
كثير من الدراسات التاريخية ترى أن تاريخ العرب في زنجبار أو زنزبار شوه كثيرًا، فألصق بالحكم العربي تجارة الرقيق، واتهم بالتعاون مع الاستعمار، وتحمل العرب والمسلمون أكثر التهم سوءًا في تاريخ أوربا وأفريقيا، فألصق بهم الميراث التاريخي الأسود الذي اخترعه الأوروبيون، وهو بيع الآلاف من الرقيق الأفارقة لأوربا المسيحية.
إلا أن الغالب، كما تذكره كتب التاريخ، فإنه منذ أن بدأت الوصاية البريطانية، وتغلغل نفوذ حركات التنصير في الدولة، حتى صار جميع موظفي الدولة من المسيحيين، وصار اقتصاد البلد بأيديهم، وأقاموا عشرات الكنائس، حتى بلغت نسبتها كنيسة مقابل كل مائة مسيحي، رغم كثرة عدد السكان المسلمين في هذه البلاد، والذي يصل إلى نسبة 98% من سكان البلاد .
وكان الاعتماد الرئيس لحملات التنصير في زنجبار على عنصري السلاح والإغراء بالمال، وإجبار النساء المسلمات على الزواج من المسيحيين لكي تستطيع حملات التنصير الوصول إلى تنصير اجتماعي شامل، وكذلك فقد وزعت الكتب المسيحية باللغة المحلية السواحلية، والأجنبية (الإنجليزية) و(العربية) ، وتشكلت مكتبة ضخمة سميت باسم "مجمع الكتب المسيحية"، وصار كل من يريد الحصول على الإنجيل يجده بلغته، وصار المسلمون يقرؤون الإنجيل، ويفهمون معانيه قبل أن يسمعوا شيئًا من القرآن؛ لأنهم بعد المذابح الرهيبة، ومخططات التذويب التي قضت على كل ما هو عربي عقب الثورة في 5 يناير 1964؛ أصبح المسلمون لا يعرفون شيئًا عن اللغة العربية!
ويقال إنه من جراء الثورة العارمة التي انطلقت في عام 1964 قُتل على أثرها ثلاثة وعشرون ألفًا من العرب المسلمين والهنود، وفرّ الكثير من العرب والشيرازيين، وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم من المتاجر والمزارع، وأعلنت زنزبار الجمهورية عنوة عن السكان برئاسة عبيد كرومي الذي كان يتزعم -آنذاك- الحزب "الأفروشيرازي" ، واعترف بالجمهورية غداة استقلالها عدة دول من أبرزها مصر والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي 24 أبريل من العام نفسه، أعلن الاتحاد بين كل من زنزبار ونتجانيقا تحت اسم الجمهورية الاتحادية لتنزانيا بين الرئيسين "نيريري وعبيد كرومي".
وحسب اعتقادات البعض؛ فإن الدستور الاتحادي لم يسفر عن إذابة الشخصية الاعتبارية لزنزبار، وإن كان قد وضعها في إطار اتحادي، ولكنها تمتعت بمساحة كبيرة من الحكم الذاتي كدولة طرف في الاتحاد، لها رئيس ومجلس نواب ورئيس للوزراء وحكومة ودستور خاص بها، وإن كانت الحكومة الاتحادية قد احتفظت لنفسها بإدراة السياسة الخارجية والدفاع والأمن والتعليم والإقامة والحدود!
واقع المسلمين(24/452)
والآن وبعد مرور ما يزيد عن 40 عامًا على الوضع في البلاد ؛ فإن المسلمين في زنجبار يرون أن قضيتهم هي قضية منسية ، على نحو ما يعتقد الداعية الشيخ "سالم الريامي" -وهو من سكان البلد ومن أصل عماني- بأنه إذا لم يتحرك العالم الإسلامي لنصرة إخوانه في زنجبار ؛ فإن هذه البلاد التي امتد الحكم فيها من الصومال إلى موزمبيق ستكون مهددة في وجودها، بعد أن نجح أذناب الاستعمار في تسييد اللغة السواحلية، والتي ظهرت في القرن الثاني عشر الميلادي، مقابل محو تاريخ اللغة العربية.
وبلهجة يكسوها الحزن؛ يتحسر الريامي على التاريخ العربي الطويل في زنجبار الذي امتد نحو ألف عام، والذي وقف أمامه المستعمرون وأعوانهم ليفكروا كيف يمحونه من الذاكرة الوجدانية لأهالي زنجبار؛ فقاموا بإغراق أمهات الكتب العربية في المحيط الهندي، والذي تقع على ضفافه البلاد. إلا أنه يتساءل ومجيبًا في الوقت نفسه: إذا كان الاستعمار قد نجح في تشويه التاريخ العربي، فإنه فشل في إزالته من عقول وقلوب أهالي زنجبار!
دور المسلمين
وهنا يؤكد الشيخ عصام أحمد -مبعوث الأزهر الشريف لتدريس اللغة العربية في المعهد الإسلامي بزنجبار- أن هناك فهمًا واضحًا للمسلمين في البلاد، وهو ما يلمسه من خلال تدريسه اللغة العربية في المعهد الإسلامي؛ حيث يجد إقبالاً كبيرًا على تعلم لغة القرآن الكريم، فضلاً عن أن الكتب الإسلامية التي يرسلها الأزهر الشريف إلى زنجبار تحظى بإقبال كبير من مسلمي زنجبار، الأمر الذي يعكس -على حد قوله- الإقبال الكبير على تعلم الإسلام.
ويقول: إن مسلمي زنجبار حريصون للغاية على التمسك بالدين الإسلامي، رغم حالات الفقر الشديدة التي يواجهونها؛ إلا أنه لديهم رغبة في تعلم مفاهيم الدين، ودراسة اللغة العربية، خاصة وأن رسالته تقوم على تنوير المسلمين في زنجبار وتوعيتهم من خلال دروس العلم التي يلقيها، فضلاً عن دوره في تعليم طلاب المعهد الإسلامي للغة القرآن الكريم.
أما الشيخ عبد الفتاح بسطاوي -مدرس اللغة العربية بالمعهد التأسيسي للغة السواحلية واللغات الأجنبية-؛ فيؤكد أن دوره - كداعية- يهدف إلى الدعوة الإسلامية، وإبراز تعاليم الإسلام، وتعليم أبناء زنجبار اللغة العربية، حيث يجد فيهم إقبالاً كبيرًا على لغة القرآن الكريم، فيقبلون عليها بنهم شديد، إلا أن المشكلة التي تواجههم هي في قلة الكتب الإسلامية والدراسية للفقر الشديد، ولعدم حصولهم على قسط وافٍ من التعليم، وهو ما يلقي بالمسؤولية على دول العالم الإسلامي لإنقاذها هذا العضو العليل في الجسم الإسلامي.
ويقول: إن مسلمي زنجبار لو وجدوا دعمًا وإعانات من الدول العربية والإسلامية؛ فإن حالهم سوف يتغير كثيرًا، حيث يوجد وعي وصحوة إسلامية كبيرة، ورغبة في حب التعليم، وهو ما يظهر تكرار سؤالهم عن الأمور الدينية، في الوقت الذي يقوم فيه مبعوثو الأزهر بجهد كبير في تعليم مسلمي البلاد اللغة العربية، ونشر الدعوة الإسلامية؛ حيث هناك تقدير كبير لدور الدعاة الإسلاميين في هذه البلاد.
وعن دور الدعاة في توحيد الفرق والمذاهب المنتشرة في زنجبار كالأباضية والزيدية؛ يؤكد الشيخ بسطاوي أنه من خلال الاختلاط بهم في كثير من المناسبات الدينية والاجتماعية عرفنا أن هذه الفِرق موجودة منذ زمن طويل، ويستشهدون في ذلك بالآراء الفقهية، لكن الكثيرين من مسلمي زنجبار ليست لديهم بدعًا.
ومن جانبه يؤكد الشيخ علي إبراهيم - مبعوث الأزهر إلى مدرسة الوموبمبا الثانوية- أنه يقوم بتدريس اللغة العربية في هذه المدرسة التي يدرس طلابها أيضًا اللغتين الإنجليزية والفرنسية، إضافة إلى العلوم الطبيعية، وأن بها عددًا كبيرًا من المدرسين الذين تعلموا في الأزهر الشريف.
ويقول: إنه رغم حالات الفقر التي تظهر بين الدارسين من طلاب المدرسة، إلا أن لديهم رغبة في تعلم العربية تفوق رغبتهم في تعلم اللغات الأخرى وإنه يستغل وجوده في المدرسة لشرح تعاليم الإسلام، وتوضيحه للطل
============(24/453)
(24/454)
"تطويع الثقافة" العربية أم تثويرها!
محمد أبو رمان 1/7/1427
26/07/2006
أحد الأهداف الرئيسة التي تسعى إليها إسرائيل - بضرب البنية التحتية، وتشريد الملايينن وقتل الناس وترويعهم، وضرب كل معاني الحياة الإنسانية- في عدوانها الحالي على لبنان، يتمثل بترسيخ قاعدة جديدة في العلاقة بينها وبين المحيط العربي، مضمونها أنها قوة إقليمية كبرى مرهوبة الجانب، وأن كلفة أي عملية ضد مصالحها وأمنها ستكون كبيرة ليس على الجهة المنفّذة فحسب، بل على المجتمع الذي يحتضن هذه الجهة، ويوفر لها العمق الإستراتيجي أو الملاذ الآمن.
ما تريد إسرائيل، وأميركا، ترسيخه أنّ قواعد اللعبة الإقليمية قد تغيّرت، بعد الأحداث المفصلية التي شهدتها المنطقة منذ احتلال بغداد، وانهيار ما تبقّى من هياكل النظام الرسمي العربي- وعلى العرب أن يقتنعوا بذلك، وألاّ يقفوا في مواجهة أهداف إسرائيل الإستراتيجية.
هذه "القناعة الإستراتيجية"، التي تريد إسرائيل ترسيخها، لها بعد ثقافي ونفسي لا يمكن تجاهله، بل ثمة دراسات وتوصيات من بعض مراكز الدراسات الصهيونية، في واشنطن، تؤكد على أهمية تكييف الثقافة العربية مع المعطيات الإستراتيجية الجديدة وقمع ثقافة "التمرد" لدى الشعوب العربية. وفقاً لهذا المنطق؛ ليس مهماً أن يقتنع العرب أن الولايات المتحدة أو إسرائيل "قوة محبوبة"، وليس مطلوباً أن تعمل أمريكا على استرضاء الشعوب العربية، بل المهم ترسيخ قناعة عربيّة مجتمعية بأنّ أميركا "قوة مدمّرة" لا يمكن الوقوف في وجهها.
نظرية"تطويع الثقافة العربية" نخبوياً وشعبياً تتبناها بعض روافد مدرسة الاستشراق الجديد في الغرب، ذات الروابط الصهيونية، وقد نادوا بتطبيقها على العراق، ما انعكس على سلوك الجيش الأميركي، وعملية التعبئة النفسية لجنوده، وتعاملهم مع المجتمع العراقي، سواء في معتقل أبو غريب أو العمليات العسكرية والفظائع التي تستهدف المدنيين وانتهاك حرمات الناس و كرامتهم.
مشكلة نظرية "تطويع الثقافة" أنها تتصادم، بامتياز، مع طبيعة "النفسية العربية" وموقفها الحاسم من الاحتلال والهيمنة. فعلى النقيض من دعاوى أصحاب هذه النظرية فإنّ السياسات الأميركية والإسرائيلية تساهم، باطراد مستمر، بتنمية مناخ خيبة الأمل والسخط والغضب الشعبي العارم، الذي يمثل القوة الرئيسة الرافضة للهيمنة الأمريكية اليوم.
في المقابل فإنّ أحد المخرجات الرئيسة لسياسات الهيمنة والاحتلال، والحروب التي تُشنّ في هذا السياق، يتمثل بإضعاف النظم الحليفة للولايات المتحدة، واستنزاف ما تبقّى من مشروعيتها أمام مجتمعاتها، بل والتأكيد على قناعة شعبية أخرى وهي انتهاء صلاحية النظام الرسمي العربي، الذي لا يبدو أن له بديلاً اليوم إلا حركات الإسلام السياسي، سواء استطاعت هذه الحركات الوصول عن طريق العملية الديموقراطية أم العمل المسلح، أو حتى في حالات الفوضى والانقسام كما هو الحال اليوم في العراق.
الحضارات والثقافات تختلف. وإذا كان الصرب استسلموا لمخططات أمريكا وحلف الناتو، بعد ضربات جوية مكثفة(إذ يدعو أمريكيون وإسرائيليون إلى تطبيق سيناريو كوسوفا على الحرب الحالية في لبنان)، وإذا كانت اليابان استسلمت بعد الحرب العالمية الثانية، وحوّلت جهدها ونشاطها إلى الاقتصاد، وكذلك الحال في ألمانيا الغربية؛ فإنّ الميراث الثقافي والحضاري والتكوين النفسي للمجتمعات والشعوب العربية مختلف تماماَ، فهي عصية على التطويع السياسي والتاريخي، وترفض منطق الاحتلال والهيمنة، بل يتصاعد تمردها بتصاعد سياسات الإكراه الخارجي.
الأمثلة على ما نقوله كثيرة ومتعددة، ولعل العراق نموذج مثالي على ذلك. فبعد حرب أمريكا على أفغانستان كان تنظيم القاعدة يعاني من أحوال متردية في مصادر التأييد والدعم، ولم يكن له وجود فاعل وحقيقي يُذكر، وكان أبو مصعب الزرقاوي هارباً من نار أفغانستان مع عدد قليل من الأنصار. لكن الحرب العراقية الأخيرة منحت القاعدة "فرصة ذهبية" للتجنيد والتعبئة والحركة، ووفد آلاف الشباب العربي إلى بغداد، الذين شاغلوا المشروع الأمريكي إلى أن اكتسبت القاعدة جسداً عراقياً كاملاً. بل يجمع الباحثون والخبراء المتخصصون في تنظيمات القاعدة أنّها أصبحت بمثابة"الماركة المسجلة" لكل من يقاوم ويعارض السياسة الأمريكية، في الوقت الذي تصل فيه نزعة معاداة هذه السياسة في المجتمعات العربية أقصى درجاتها اليوم.
صحيح أنّ نفوذ الحركات الإسلامية الذي يتجذّر اليوم في المجتمعات العربية والإسلامية، لم يستطع إنجاز تغيير سياسي نوعي، ولم يتمكن من الوصول إلى الحكم في أيٍّ من الدول العربية المعتبرة، إلاّ أنّ مؤشرات المستقبل توحي بإمكانية حقيقية في إحداث هذه الحركات انقلاباً سياسياً تاريخياً، فهي الحركات الوحيدة الصاعدة شعبياً.(24/455)
في العراق لا يمكن قراءة العلاقة السلمية بين الأمريكيين والإسلام السياسي الشيعي والحزب الإسلامي السني إلاّ في سياق الهدنة الهشة المؤقتة، وفي أفغانستان عادت طالبان تسيطر على كثير من الأراضي الأفغانية بالتحالف مع حكمتيار وابن لادن، وفي الصومال تسيطر المحاكم الإسلامية. لكن ما هو أخطر من هذا وذاك أن تتراكم حالة الغضب والإحباط المتصاعد، التي ترفد الإسلاميين بالدعم المجتمعي، لتحدث تحوّلاً سياسياً نوعياً في بعض الدول، سواء من خلال انقلابات أو ثورات.
إذ يبدو أنّ الإنجاز الحقيقي لسياسات التدمير والإرهاب والقتل الأمريكية والإسرائيلية ليس تطويع الثقافة العربية وإخضاعها لمنطق القوة وسياساتها، كما يرى المستشرقون الجدد ومراكز الخبرة الصهيونية، بل على النقيض من ذلك فإن هذه السياسات تدفع إلى"تثوير الثقافة العربية" ودفعها إلى أقصى درجات المواجهة مع المشروع الأمريكي والإسرائيلي.
في المحصلة؛ لن تؤدي الحرب الإسرائيلية- الأمريكية اليوم على لبنان إلى عزل حزب الله وإسقاط حماس، وإن نجحت تكتيكياً في تحقيق أهدافها، فعلى المدى البعيد ستؤدي إلى تقوية هذه المنظمات. وإلاّ فإن البديل موجود لكنه ليس أمريكيا أو ليبرالياً إنما هو نموذج آخر من"الصدريين" و"جيش الإسلام" (في غزة).
بكلمة: ما يحدث اليوم هو سيادة وانتشار "الروح الكربلائية" في المجتمعات العربية!
=============(24/456)
(24/457)
"العلمانيّة الأدبيّة" ضرورة أم اختراق ثقافيّ؟
عباس المناصرة 20/7/1425
05/09/2004
مقدمة
نشأت الآداب الأوروبيّة متأثرة بالعقل الفلسفيّ الذي أبدعها وأفرزها، فهي تحمل نكهة البيئة التي خرجت منها، ولذلك فهي تمثل خصوصيّة البيئة والثقافة واللغة والعقل الذي أنتجها ضمن بيئات أوروبا المختلفة، التي يجمعها التراث المشترك للعقل الفلسفيّ، بالإضافة إلى النّكَهَات المحليّة لتلك البيئات.
وحركة التطوّر والتجديد فيها لا تستقر على حال، لأنّ التطور المستمر الذي تقلبه الأدواء والمصالح والأحوال، هو ديدن العقل الفلسفيّ الملول المتقلّب، الذي تحركه عقيدة الحرّية المطلقة، فما أنْ تظهر حركة فنيّة أو فلسفة أو مذهب أدبّي على يد فرد أو مجموعة من المبدعين، وقبل أن تستقر أحوالها، حتى تكون مجموعة أخرى قد استعدّت لها بالمرصاد، لتكشف لها نواقصها وعوراتها، إنها فلسفات ومذاهب تُطارد بعضها كالرّمال المتحرّكة.
أما الحركة النّقدية فلم تكن بعيدة ولا منفصلة عن مرجعيّتها الثقافيّة السابقة، بل شكلت هذه المرجعيات الرؤية الفكريّة للمذاهب الفنيّة والأدبيّة والنقديّة، ويمكن إعادة التنظير النقديّ في أصوله الفلسفيّة والفنيّة إلى مصدرين رئيسين هما:
1-مصدر فكري: يعود إلى مجموع فلسفات العقل الأوروبّي، التي شكلت مرجعيّة تراكميّة من هذه الفلسفات، اجتمعت خلاصتها في العلمانيّة الحديثة التي تدور حول ( نفي الثوابت والحرية المطلقة للإنسان في النواحي الفرديّة والإبداعيّة جمالياً وفنياً، والتقلّب ا لمستمر الذي لا يستقر على حال).
2-مصدر أدبي: وهي النصوص الأدبيّة والإبداعيّة من شعر ومسرح ورواية وغيره، حيث يتم استخراج المذاهب الأدبيّة والنقديّة من متابعة النص في تكوينه وتطوّره، ومن الموحِيات السابقة لفكر العقل الفلسفيّ.
2-هل النقد الأوروبي عالميٌّ ومُلزِم للأمم؟
مما سبق تبين لنا أنّ النقد الأوروبّي نشأ في بيئة ثقافية لها مرجعيّتها (الفكريّة والأدبيّة) ونظرياته تحمل رؤية النقاد الأوروبيين المستخلصة من (الفلسفة والنص الأدبيّ) وهي تحمل تجارب الأوروبي في واقعة اليومي الجغرافي واللّغوي والفكريّ والفني، ولذلك فهو نقد محلي يجمل نكْهة البيئة التي وُلد فيها، وهو نقد له خصوصيّة وتاريخ وظروف وتجارب، تجمعه ثقافة لها همومها وفروقها وقواسمها المشتركة المخالفة للبيئات العالميّة.
وهذا معناه أنّه ليس نقداً عالمياً، ولا مُلزماً للأمم الأخرى، لأنّ الأمم تتباين في مرجعيتها الفكريّة وفي نصوصها الإبداعيّة وأذواقها الفنيّة وتجاربها الحضاريّة.
إذن ما هو سبب هذا الوهم الذي أوجد في عقولنا أنّ التجرِبة الأوروبيّة في الآداب هي حالة دائمة وعالميّة، ولا مَناص من قبولها وغير ذلك من الذّيول؟!
مع أن ّهناك تجارب أدبيةً ونقديةً أخرى، لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لم ينظر لها بهذا المنظار، لماذا صوروا لنا النقد الأوروبي كأنه قدر محتوم، لا بد من قبوله؟ وأوقعونا في فخّ الانبهار به، والخضوع له، ووصفوا نظرياته بأنها عالمية، وقابلها على الجانب الآخر هجوم رُمِيت فيه ثقافتنا بالضّحالة والضّعف والانتحال، أو أثير في وجهها عاصفة من الأسئلة الماكرة، طمسًا للحقائق أو الترويج لأفكار معينة، أو تضخيما لأفكار أخرى أو إنكارا أو سخرية أو… .
ولقد زال العجب عندما عرفنا أنّ جيشاً من المستشرقين، وجيشاً من تلاميذهم من المغربين، كانوا يمهدون الطريق لثقافة المستعمر، جنباً إلى جنب مع جيوشه العسكريّة، نعم كان سبب ذلك أنّ الثقافة الأوروبيّة ومنها الثقافة النقديّة دخلت إلينا تحت حِراب الاستعمار وحمايته.
وإذا عرفنا أنّ العقل الفلسفيّ الأوروبّي لا يؤمن بنظرية (التعارف البشريّ) الإسلاميّة ومعارضها التي ذكرنا، ولكنّه يؤمن بتذويب الآخرين ويستعمل (القوّة والقسر والتخطيط والخديعة) في إذابة خصائص الأمم الأخرى وإخضاعها، إنّها ليست تبادلاً حضارياً، ولكنها عملية أشبه بعملية التذويب الكيميائي.
وهكذا وصل إلينا النقد الأوروبي عن طريق الترويض الثقافي؛ لأنه ثقافة إجباريّة أدخلت إلينا حين مارسنا الانفتاح مرغمين ومجبرين، استقبلناها بعمى المبهور ونفسية المغلوب على أمره.
هذا من جانب ( ومن جانب آخر لا ننسى أن العلوم التجريبية، لا يوجد فيها علم كيمياء أمريكي، وآخر ياباني، وآخر عربي، وكذلك الأمر في علم الفيزياء لا يوجد علم فيزياء إسلامي وآخر مسيحي وآخر يهودي؛ لأنّ حقائق المادة تلوي عنق المؤمن والكافر للإيمان بها، فحالات المادة: الصلابة والسيولة والغازيّة لا تجامل أحداً، ولذلك نخضع لحقائقها حتى تتعلم وتستفيد منها) فهي علوم عالميّة تصدر وتستورد ،وهي ميراث عالمي لجميع الأمم، رغم أنها لا تخلو خلال صياغتها من التأثير الفكري لمن صاغها.(24/458)
أما في علوم (الظاهرة الإنسانية المعقدة فالأمر مختلف تماماً، فهي علوم محليّة ذات خصوصيّة وتميّز بين الأمم، والخلاف والتمايز فيها هو الأصل، ومع وجود نسب من التماثل والاتفاق بحكم النواحي الإنسانيّة المشتركة بين أبناء الجنس البشري، لكنّ الاختلاف والتباين أوسع وأعمق بحكم اختلاف العقائد والأفكار والثقافات واللّغات والبيئات وغيرها، هذه العلوم: كعلوم التاريخ والسياسية والاقتصاد والاجتماع والنفس والتربية والفنون والآداب ومنها النظريات النقديّة، فكلها علوم محلية بيئيّة، تعبّر عن خصائص الأمم وأفكارها وشخصيّتها وتميزّها؛ لأنها علوم أو فنون تعالج الظاهرة الإنسانيّة في مجتمع معين ومحدد، والإنسانيّة ليست واحدة في عقائدها، ولا في أفكارها، ولا في أذواقها، ولا حتى في عقدها وأمراضها، لأنها ليست موحدة كالظاهرة الماديّة وسنن الكون.
تنظيف الرّكام:
ومن القضايا المهمة في تنظيف الرّكام عن هذا العقل المسلم أن تشير إلى الدور التخريبي الذي مارسه الاستعمار على هذا العقل، حيث وضع الاستعمار خططه المبكرة، للسيطرة على الوطن العربيّ منذ أواسط القرن الثامن عشر، وكان الاستعمار الثقافّي يسبق الاستعمار العسكريّ ويمهّد له، ضمن مراحل كل مرحلة تُفضي إلى الأخرى وضمن المسار التالي:
1-المرحلة الأولى: اختراق الدولة العثمانيّة وإنشاء المدارس التنصيريّة والمدارس والمعاهد والجامعات التابعة لها، بهدف نشر التعليم باللغة العربيّة وإحياء الثقافة العربية، ليس حباً في العرب ولغتهم، وإنما بهدف مساعدة العرب حتى تنمو لغتهم التي أماتها العثمانيّون، حتى يصلوا إلى مرحلة نمو اللغة ونمو الشخصيّة القوميّة والشعور القومي لإقناعهم بالانفصال عن الدولة العثمانيّة، فعلى سبيل المثال كانت الجامعة الأمريكية في بيروت تدرس العلوم والآداب جميعها باللغة العربية منذ تأسيسها ،حتى إذا تمّ لهم انفصال الوطن العربي عن العثمانيين عادت الجامعة الأمريكيّة إلى تدريس المواد جميعها باللغة الإنجليزيّة ثم عاد المستعمرون إلى محاربة اللغة العربيّة وفرض لغاتهم علينا.
2-المرحلة الثانية: قام جيش الاستشراق وتلاميذه من أبناء جِلدتنا بتوجيه عملية الإحياء اللغوي والثقافي للثقافة العربية، لإيجاد ثقافة عربية هشّة ضعيفة، تقوم على إحياء ثقافة التلوّث والضّعف خدمة لسياسات دولهم وحتى يضمنوا لدولهم عدم ميلاد ثقافة عربيّة إسلاميّة جادّة تقف في وجه ثقافتهم، وعمدوا إلى تضخيم بعض قضايا الثقافة العربيّة، بهدف التشكيك في مصادر هذه الثقافة مثل: قضايا الانتحال، والتحكم في الدراسات الأدبيّة وتاريخ الأدب، والتركيز على إحياء ثقافة العصر العباسي، المتأثّر بالثقافة اليونانيّة، وضخّموا ثقافة ذلك العصر ووصفوه "بأنه العصر الذهبي" للثقافة العربيّة الإسلاميّة لأهداف خبيثة، حيث قاموا بإحياء ثقافة الفِرق الباطنيّة والصوفيّة، وإحياء كتب الفلسفة الإسلاميّة اليونانيّة، وعلم الكلام، ثم التركيز على إحياء أدب اللهو والمجون والخمر والغناء، وتسليط الضوء على فِتن العصر العباسي ومَثَالبه، لزرع اليأس في قلوب أبناء الأمّة، ولإجاد مرجعية أصالة مزيّفة يُحتَجّ بها في خِداع العقل المسلم عن ذاته، عند التكلم عن الأصالة والمعاصرة، ثم تحقيق عدد من الأهداف البعيدة منها إبقاء المسلم المعاصر مشغولاً ومشدوداً خارج مرجعيّته الحقيقية مرجعيّة الوحي ( القرآن الكريم، السنة النبوية الشريفة) ثم الاكتفاء بثقافة التلوّث والتمزّق في العصر العباسي؛ لأن هذا العصر بما فيه من ثقافة فلسفيّة تعود جذورها إلى العقل الفلسفي اليوناني، تساعد نفسيّة هذا المسلم للقبول بالثقافة الأوروبيّة الحديثة لما بينهما من أواصر القربى في المرجعيّة.
3-المرحلة الثالثة: حيث تجمع أبناء الطوائف القديمة التي صنعت ثقافة التلوث والانشقاق الثقافي في العصر العباسي ( الفرق الباطنية، النصارى، واليهود) وقد سنحت لهم الفرصة من جديد للقيام بنفس الدور السابق الذي قام به أجدادهم المؤسسون، لتشكيل وجه الثقافة العربية بتلوث جديد يضاف إلى ما صنعته فرقهم في ذلك العصر، وبعد أنْ ضعف دور الاستشراق حيث جاء دورهم في تغريب الأمة ضمن الأدوار التالية:
1-الدّعوة إلى الانسلاخ عن تُراث الأمّة، والالتحام بالتراث الثقافي الأوروبي وتيارات الحداثة فيه، وإحياء ثقافة الحركات الصوفيّة والباطنيّة في العصر العباسي، واختراع نظريّات الفكر الإقليمي بإحياء الوثنيات القديمة ( الآشوريّة، والبابليّة، والفنيقيّة) لمحاربة الدّعوة للوحدة العربيّة، وكان لهذا الفكر دعاتُه من أبناء جميع الطوائف في بلاد الشام والعراق.
2-الدّعوة إلى فكر القومية العربيّة المنسلخة عن الإسلام، وتعبئة الفراغ الفكريّ الناجم عن هذا الانسلاخ باستيراد الفكر الرأسمالي، والحداثة والعلمانيّة والاشتراكيّة، وقد غلب على هذا التيار أبناء الطوائف النصرانيّة في بلاد الشام والعراق.
3-استيراد الفكر الاشتراكي وتأسيس الأحزاب الشيوعيّة في الوطن العربي، وقد غلب على هذا التيار أبناء الطائفة اليهوديّة.(24/459)
4-الدّعوة إلى الانسلاخ عن العروبة والإسلام، والالتحاق بالحضارة الغربيّة وقد غلب على هذا التيار أبناء النصرانية في مصر.
ورغم انضمام أعداد كبيرة من أبناء المسلمين إلى هذه التيارات، إلا أنّهم في أكثرهم كانوا تلاميذ وتابعين لأبناء تلك الطوائف، وقد لاحظ الناقد الكبير إحسان عباس الذي يمتاز "بالعلميّة الجادة" أنّ دوافع طائفيّة وراء الدّعوة إلى الانقطاع عن تُراث الأمّة وأشار إلى ذلك في كتابه ( اتجاهات الشعر العربي المعاصر) حيث يعزو سبب عزوف بعض الشعراء المعاصرين عن التراث إلى : (أن هناك من الشعراء أقلّيات عرقية ودينية ومذهبية في العالم العربي، وهذه الأقليات تتميز عادة بالقلق والديناميّة، ومحاولة تخطي الحواجز المعوّقة، والالتقاء على أصعدة (أيدلوجية) جديدة، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئاً والتخلص منه ضرورياً، أو يتم اختيار الأسطورة الثانية؛ لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ بإبراز دور تاريخيّ مناهض).
وتمكنت هذه الفئات من تضليل شرائح كبيرة من النّخب الثقافيّة من أبناء المجتمع الإسلاميّ في طول الوطن العربي وعرضه، وبذلك دخلت إلينا (العلمانيّة الأوروبيّة) التي تفصل الدّين عن الحياة، وترضى بسيطرة العقل الفلسفي عليها، ثم تمّ تفصيل هذه العلمانيّة ليشمل الحياة بكاملها، فصل الدين عن الدولة، فصل الدّين عن الأخلاق، فصل الدّين عن الاقتصاد، فصل الدين عن العلم، تحت مبرر أننا لن نتقدم إلا إذا طرحنا الدين من حياتنا كما فعل الأوروبيون، وقد نسيَ هؤلاء أنّ مرض العداء للدّين هو قضية محليّة، تخص المجتمع الأوروبي وعلاقته مع الكنيسة؛ لأنهم لا يعرفون خصائص العقل الفلسفي الذي يتعامل مع (المسيحية) من منطق الفلسفة البراغماتيّة، فهو ينفصل عنها عندما تقف في وجه تطوّره، ولكنه يعود فيستعملها لخدمة مصالحه عندما يحتاج إليها في "تنصير" الشعوب لأجل استعمارها!
ثم جاء دور (العلمانيّة الأدبيّة) التي تفصل الدين عن الأدب؛ لأنّ الدين كما يزعمون يتدخل في حرّية الأديب، ويقيّدها مع أنهم يرضون بسيطرة العقل الفلسفيّ على الأدب، ولا يرون ذلك عيباً.
ولئن سألتهم، لماذا هذا المكيال الجائر؟ أليس الأدب: رؤية، وموقفاً، وبناءً فيناً؟ فلماذا تسمحون للعقل الفلسفي الضّالّ أنْ يتحكّم به؟! ولماذا ترفضون أنْ يتدخّل الإسلام في الأدب؛ مع أنّ الإسلام يشكل الرُّؤية والموقف للأديب، ثم تأتي قضيّة البناء الفني كقدرة وموهبة وخبرة للتعبير عن هذه التجربة؟! يتهربون ويلوون رؤوسهم؛ لأنّ المضبوع لا يعي شيئاً سوى اللّحاق بضابعه يسير إلى حتفه بظلفه
=============(24/460)
(24/461)
الاستشراق ليس شراً كله على الإسلام
حوار: محمود بيومي 11/11/1425
23/12/2004
بلغاريا .. هي إحدى دول أوروبا الشرقية وإحدى دول البلقان .. التي فتحها المسلمون في نهاية القرن الثامن الهجري .. واستمر الحكم الإسلامي لها لمدة تزيد عن خمسة قرون ونصف .. تأصلت خلالها هوية المجتمع الإسلامي .. كما انتشرت المؤسسات الإسلامية في كافة أنحاء البلاد .. حتى بلغ عدد المساجد الكبرى أكثر من (1200) مسجد .. وعدد مماثل من المدارس الإسلامية والمكتبات .. وكان الكتاب الإسلامي من أكثر الكتب رواجاً وانتشاراً .. ونشطت مؤسسات الدعوة والتعليم في إبلاغ هدايات الدين الحنيف إلى كافة السكان في بلغاريا والمناطق المجاورة لها مثل رومانيا ويوغوسلافيا السابقة.
في بدء الحوار .. قلت للمستشرق البلغاري الدكتور توفيان تيوفا نوفا .. قام عدد من المستشرقين باعتناق الإسلام طواعية مثل جارودي وهوفمان وغيرهما.. ومنهم من بقي على ديانته ودافع عن الإسلام مثل المستشرق المجري روبرت سيمون والمستشرق الأسباني سيمون هايك وغيرهما .. فما هي الدوافع التي أدت إلى اعتناقكم للإسلام؟
في الحقيقة .. أنا أدرس الإسلام واللغة العربية منذ مدة طويلة .. حيث تخرجت في جامعة بغداد قسم اللغة العربية ثم التحقت بجامعة القاهرة لدراسة اللغة العربية وآدابها .. وحصلت على الدكتوراه في معهد الاستشراق في روسيا .. وأنا أعمل أستاذًا للدراسات الإسلامية في جامعة " صوفيا " ببلغاريا وأستاذًا بالمعهد الإسلامي هناك .. وعضو بجمعية المستشرقين الأمريكان، وعضو جمعية بحوث الشرق الأوسط البريطانية .. وعضو اتحاد المستشرقين الأوروبيين .. وقد أهّلني ذلك لإصدار مجموعة من الكتب حول الحضارة الإسلامية والعربية.
وأضاف: وقد لاحظت أن بعض المستشرقين - غير الموضوعيين يطعنون في الإسلام .. وتركّزت مطاعنهم في القرآن الكريم .. فقالوا: إنه كلام بشري لا رباني، كما طعنوا في الآيات المكيّة والآيات المدنيّة .. وأنكروا حقيقة الوحي وغير ذلك من الافتراءات التي تعوّدوا على ترديدها في الساحة العلمية .. وأنا - وكل مستشرق موضوعي - يرفض هذا المنهج الاستشراقي الذي يشوّه صورة الاستشراق الموضوعي ويطعن في الإسلام بلا مبرر.
وأنا أؤكد هنا .. أن الاستشراق ليس شراً كله على الإسلام والمسلمين .. صحيح أن هناك العديد من الأخطاء في ترجمات معاني القرآن الكريم .. التي أعدّها نفر من المستشرقين .. إلاّ أننا يجب أن نفرّق بين الأخطاء المتعمّدة والأخطاء غير المتعمدة؛ فالذين يُخطئون - بصورة عفوية - يكون ذلك دائمًا نتيجة عدم إلمامهم باللغة العربية - التي هي لغة القرآن الكريم - ونتيجة أيضًا لعدم فهمهم لمعاني الآيات القرآنية الكريمة .. وأنا شخصيًا قد أُخطئ في بعض دراساتي ولكنها أخطاء غير متعمّدة .. والذي أود أن أوضحه هنا أن لكل مستشرق إسهاماته في فهم الإسلام والحضارة الإسلامية .. وكل مستشرق في هذا المجال له خبرته .. وأنا أحمد الله -تعالى- أن وفقني لإنجاز الترجمة التي قمت بها لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة البلغارية .. حيث التزمت فيها بدقة المعنى.. مما جعل دار الإفتاء العامة في بلغاريا تعتمدها وتقوم بتوزيعها على عدد كبير من المؤسسات الإسلامية، وفي مقدمتها المساجد بالإضافة إلى عدد لا بأس به من المسلمين.
أود أن أؤكد هنا أن الإسلام ليس خطرًا على الآخرين .. ونحن أمام حقائق مهمة .. وفي مقدمتها أن أوروبا استفادت من عطاءات الحضارة الإسلامية ومُعطيات المسلمين الثقافية والعلمية والحضارية .. في مجالات الطب والصيدلة والرياضيات والفلك وغير ذلك من الإنجازات التي كان للمسلمين فضل السبق فيها .. والحقيقة التي لا يمكن أن تُنكر .. أن الحضارة الأوروبية المعاصرة قامت على ركائز الحضارة الإسلامية .. فحضارة الغرب أساسها حضارة الإسلام والمسلمين.
النظرة الاستشراقية
ما هي نظرة المؤسسات الاستشراقية لكم بعد اعتناقكم للإسلام؟ وما هي نظرتكم لهذه المؤسسات ومناهج المستشرقين بعد أن أصبحت مسلمًا؟
كما سبق أن ذكرت لكم أن هناك عددًا من المستشرقين يطعنون في الإسلام، وذلك بإثارة الشبهات حول ما جاء في القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبوية الشريفة، وفي صحة الوحي الرباني .. فيدّعون أن القرآن الكريم ليس وحيًا ربانيًا إنما هو كلام بشري وغير ذلك من الافتراءات والأباطيل .. ولا شك أن هذا المنهج الاستشراقي منهج خاطئ ونتيجة مباشرة للخصومة التاريخية التي نشأت في الغرب منذ مدة طويلة.(24/462)
وأضاف : وأنا كمستشرق أدّت بي الدراسات الموضوعية الصحيحة لاعتناق الإسلام .. فأتصدى لهذه المنهجية الاستشراقية المعادية للإسلام والمسلمين .. وأدافع عن الدين الإسلامي الذي درسته واعتنقته .. وأنا واحد من المستشرقين الذين التزموا بالمنهج الموضوعي في دراساتهم الإسلامية .. ولا شك أن المنهج الاستشراقي غير الموضوعي هو وليد الحركة الاستعمارية والمنهج التنصيري الذي يستهدف تشويه الإسلام وصورته وبث الأخطاء المُتعمّدة حول الإسلام .. وأنا أعتقد أن هذا هو الجزء الأكبر في الحركة الاستشراقية العالمية التي يجب التصدّي لها بكافة السبل المتاحة لدى المؤسسات الإسلامية العالمية.
وقال د . توفيان: أما المنهج الاستشراقي الموضوعي فيرتبط بغاية علمية واضحة المعالم .. وهو دراسة الإسلام والتعرّف على حقائقه ودراسة التراث الإسلامي والتأكد من دور الحضارة والثقافة الإسلامية في ترقية المجتمعات البشرية .. ولا شك أن نظرتي للمؤسسات الاستشراقية غير الموضوعية- هي نظرة الحذر الشديد لكل ما يصدر عنها من دراسات .. واعتناقي للإسلام جعلني في موقف المدافع عن الإسلام ضد كل هذه الدراسات الاستشراقية المعادية للإسلام والمسلمين .. أما نظرة هذه المؤسسات الاستشراقية لي بعد اعتناقي للإسلام .. فلم تتغير - حسبما لمسته - فلازلت عضوًا في عديد من الجمعيات الاستشراقية في الغرب.
الخريطة العقديّة
هل يمكن أن نتعرّف على أهم ملامح الخريطة العقديّة في بلغاريا وما هي أحوال المسلمين هناك؟
يقول المستشرق البلغاري المسلم د . توفيان نوفا: ونحن نتحدث عن الخريطة العقديّة في بلغاريا .. يجب أن نتوخى الدقة والصراحة معًا .. فعدد سكان بلغاريا الآن قد بلغ أكثر من ثمانية ملايين نسمة .. منهم أقلية مسلمة بلغت نسبتها 12.3% من إجمالي عدد السكان .. بينما بلغ عدد النصارى 83.7% من عدد السكان - وبالرغم من بعض الشكوك في دقة هذه الإحصائية - فإن المجتمع البلغاري يتكوّن من عدّة عناصر مختلفة حسب الجنسية والانتماء العقديّ.
وأضاف د . توفيان تيوفا نوفا: فالمسلمون البلغار هم الذين اعتنقوا الإسلام خلال فترة الحكم الإسلامي للدولة العثمانية - لكنهم لم ينتموا إلى الأتراك ولا يتحدثون اللغة التركية، فهم يجدون حتى الآن صعوبة في تحديد هُويّتهم .. فهم ينتمون إلى البلغار من حيث الجنسية واللغة.. وينتمون إلى الأتراك من حيث العقيدة .. كما أن السلطات البلغارية قد عاملتهم بشيء من القسوة في بعض الأحيان عبر المراحل التاريخية المختلفة .. مما دفع بعضهم إلى تغيير عقيدتهم من الإسلام إلى المسيحية في محاولة منهم للاندماج في المجتمع البلغاري.
وقال د . توفيان تيوفا نوفا: وقد أثبتت الدراسات العلمية .. أن المسلمين البلغار الذين يُعرفون باسم "البوماق" يفضلون الانتماء إلى الأتراك عندما يسكنون في بيئة بلغارية مسيحية.. كما يفضلون الانتماء إلى البلغار عندما يعيشون في بيئة تركية .. ويجوز لهم - في حالات استثنائية أن يغيّروا عقيدتهم من الإسلام إلى المسيحية ومن المسيحية إلى الإسلام في محاولة منهم للالتصاق بإحدى القوميتين التركية أو البلغارية .. بينما تُوجد جماعة أخرى من "البوماق" يعلنون بكل صراحة أنهم مسلمون بلغار - بصرف النظر عن كونهم من الأتراك أو البلغار - وكل محاولة من هؤلاء لتغيير انتماءاتهم العقدية أو العرقية تؤدي إلى القلق والتوتر في المجتمع البلغاري.
الصراع العقديّ والعرقيّ
وما هو السبب الكامن وراء هذا الخلل الذي يعاني منه المجتمع البلغاري بشأن العقيدة والانتماء العرقي؟
لا شك أن وراء ذلك - بصورة مباشرة - هو الصراع الذي دار بين المسيحية والإسلام في قارة أوروبا .. حيث أصبح هذا الصراع العقدي جزءًا لا يتجزأ من التاريخ البلغاري ومن كيان الشعب البلغاري أيضًا .. ولا شك أن الظروف الحالية في هذه المنطقة من العالم .. ترتبط ارتباطًا كبيرًا مع ما ورثه سكان بلغاريا من أحداث الماضي .. كما أن الاعتبارات السياسية قد تدخلت في الأمور العقديّة .. وبالرغم من كل ذلك فإن هناك نوعًا من التعايش بين فئات المجتمع البلغاري .. قائم على أساس الاعتراف المتبادل بينهم باستقلالية كل فئة من هذه الفئات في الدين واللغة والحضارة والتقاليد وغيرها - وذلك في نطاق وحدة المجتمع البلغاري - إلا أنه بصورة عامة في بلغاريا - فإن المسلم يعني التركي حتى الإسلام يُطلق عليه هناك اليوم اسم "الدين التركي" .. والبلغاري يعني المسيحي .. أما "البوماق" فهم جماعة خاصة تتغير عن بقية المجتمع البلغاري.
الشيوعيّة هي السبب
نعرف جميعًا .. أن المسلمين في بلغاريا قد عانوا من حماقة الممارسات الشيوعية .. التي أجبرتهم على تغيير عقيدتهم - حتى الأموات منهم - واضطرتهم للهجرة الإجبارية إلى الدول المجاورة خاصة إلى تركيا - فهل ترى أن جزءًا من هذه الممارسات لا زالت مستمرة تجاه المسلمين في بلغاريا ؟(24/463)
لا شك أن العامل الديني له أهمية بالغة في المجتمع البلغاري .. إلاّ أن الانتماء العرقي مُقدّم على الانتماء العقديّ في بلغاريا .. ونحن نلاحظ في الآونة الأخيرة ازدياد عدد المؤمنين - سواء أكانوا من المسلمين أو المسيحيين - إلاّ أن الواقع البلغاري يؤكد أن المؤمنين هناك لا يتعمقون في عقائدهم ولا يلتزمون بها إلاّ في إطار الاحتفالات الدينية .. وأنهم يكتفون بمعلومات قليلة عن عقائدهم .. ويُقبلون على أديانهم بصورة اختيارية وليست إجبارية .. وذلك كله بسبب النظام الشيوعي الذي ساد هناك فترة من الزمن .. ومنع الناس من القيام بممارسة شعائرهم الدينية بصورة صحيحة .. وما زالت الآثار الشيوعية في هذا المجال بادية في بلغاريا حتى بعد مرور (14) سنة على انهيار النظام الشيوعي.
===========(24/464)
(24/465)
هذه صورة للعولمة
د. محمد بن عبد الرحمن أبو سيف الجهني 2/12/1425
13/01/2005
الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
هذه صورة التقطها تصوري من مقروءاته ومسموعاته ومرئياته أعرضها للناظرين:
يراد للعولمة أن تكون ملّة عامة تجتمع عليها جميع شعوب الأرض، تعطيها ولاءها الملِّي العام، تجتمع عليه وتتعايش به.
وهذه مع كونها رغبة تبدو مغرقة في الخيال لاستحالة نزع ولاء مختلف الناس لمعتقداتهم، وجمعهم على ولاء لملّة واحدة، إذ قال خالقهم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [هود:118]. إلا أن ذلك استُدْرك بإظهار أخذ الملل المتباينة التي تعتنقها الشعوب بعين الاعتبار، ولكن مع إحالتها إلى ثقافات تظهر خصوصياتها من غير أن تمنع اندراجها في تعايش منضبط بضوابط العولمة، ويتأطر بأطرها ويستبقي الولاء العام لها.
واستُدْرك أيضًا بحركة عملٍ مغرقة في الجديّة والإتقان، تقوم على دراسات تفصيلية تجمع دقائق المعلومات وتستقرئ دلالالتها، وتستجلي أغوارها وتستظهر معالمها وتحلل أبعادها، وتؤلف بين متوافقها وتميز بين متباينها وتستنبط طرق التعامل معها وتستنبئ مختلف المتوقعات، ثم تضع الخطط المتعددة المناسبة لكل حالٍ متوقعةٍ، ثم تتتبع النتائج بدراسات تقريرية توضع عليها خطط عمل تتلافى الأخطاء، وتستدرك الإخفاقات وتستديم النجاحات.
وقد أنشئت لحركة العمل هذه مؤسسات، واستُغلت مؤسسات.
فمما أُنشئ: المؤسسات التبشيرية التي من أهم أعمالها المسح وجمع المعلومات وإعداد البيانات للعمل بعيد المدى، وإشاعة معتقدات التبشير للعمل قريب المدى.
والمؤسسات الإعلامية التي من أهم أعمالها تلقين المبادئ، وإشاعة الأفكار وتهيئة الساحة.
ومما استُغل: هيئة الأمم المتحدة؛ فاستخدمت مؤسساتها في عقد التعهدات والمواثيق وجمع التواقيع عليها ومتابعة الالتزام بها، وفي إقامة المؤتمرات للتمهيد لإقرار التحولات الثقافية والتشريعية.
والمراكز الاستخباراتية؛ فاستخدمت في عمليات المسح، وجمع التقارير وإجراء الدراسات واقتراح الخطط.
وفي الطريق إلى العولمة اتخذت وسائل وركزت دعائم.
أما الوسائل: فاستهدفت أمرين:
الأول: إنشاء روح قبول العولمة والإقبال عليها، وذلك بإشاعة قدر من العلاقات العامة، يجمع مختلف أهل الملل على روح إخاء ومودة متحررة من ضوابط مللهم.
واتُّخذت (الرياضة) وسيلة فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فالرياضة -بدوراتها المختلفة وأولمبياتها المتنقلة بين دول العالم، وما يرافقها من زخم إعلامي فاعل- أحدثت تعايشًا بين شعوب العالم متحررًا من التباين الملي والثقافي، بإشاعة الروح والأخلاق الرياضية التي تنتمي في ولائها لقوانين الفيفا تجتمع عليها وتصدر عنها.
فالمسلم والكافر المسيحي والكافر البوذي وغيرهم يجتمعون في حميمية رياضية، يتنافسون مجتهدين للوصول إلى الكؤوس وتحصيل الميداليات، لا تلحظ فرقًا يميِّز أحدهم عن الآخر أو خصوصية يبرزونها إلا ألوان الأعلام على أجسادهم، ولا شريعة يدينون لها إلا أحكام الفيفا.
وأحكام الفيفا هي الملة الرياضية التي تأخذ بتلابيب الحركة الرياضية في العالم، حتى إنه لا عبرة لأي حركة رياضية في أي مدينة في أي دولة من العالم ما لم تكن مسجلة في كشوفات الفيفا وتحمل تصريحها.
وفي الرياضة يتبلور نموذج حي للعولمة في هيئتها النهائية.
الثاني: نزع روح رفض العولمة والإعراض عنها، وذلك بالتركيز على الفرد، وربطه بشهواته، وتدريبه على التمرد على الروابط الثقافية التي ينتمي إليها وتربطه بأهل ملته خاصة، وإغرائه بروابط تدفعه إلى الانتماء إلى كل ما يشبع شهواته من أي ملَّة كان.
واتُّخذت (الإباحية) وسيلةً فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فأغرق العالم بإعلام إباحي ينشر ثقافة الحرية العاطفية والجنسية المتحررة من قيود الدين والتقليد والعادة إلا قيدًا واحدًا هو قيد التراضي بين طرفي العملية العاطفية والجنسية؛ فلا يُقبل التحرش والاغتصاب، وهو القيد الذي تحل طاقاته الإثارات الصارخة التي تجري مجرى الدم في الطرفين، التي يروجها الإعلام ويلقن الطرفين معها ثقافة الحرية الفردية في ملة العولمة، ويرفد ذلك توفير وسائل ممارسة تلك القاذورات:
- من وسائل اتصال عديدة كالمحادثات في الإنترنت.
- وأماكن ممارسة الرذائل، كالخمارات ودور الدعارة والملاهي الليلية.
- وسن القوانين التي تحتضن هذه الممارسات، وتحرسها بسلطة من سلطان العولمة، كقانون الإجهاض.
وأما الدعائم فاستهدفت أمورًا:
الأول: ربط العالم أجمع بمختلف ملله بمصالح مشتركة لا تقوم حياة الشعوب إلا بها، وتديرها جهة واحدة يبتدئ منها وينتهي إليها سائر شأن هذه المصالح.
واتُّخذ (الاقتصاد) دعامةً ليس ثمة أثبت منها لتحقيق هذا الهدف، إذ هو عصب الحياة.(24/466)
وهاهي دول العالم تلهث لهاثًا شاقًا للانضمام إلى (منظمة التجارة العالمية) التي تجمع أعضاءها على الولاء لملةٍ اقتصادية عولمية تلغي كثيرًا من خصائص الملل التي ينتمون إليها، وتلحق ما تتبناه بهوية العولمة، فلا تبقى له خصوصية يتميز بها.
وإنما يدفع دول العالم إلى هذا اللهاث أن المنظمة العولمية هذه أمسكت بزمام الاقتصاد العالمي، حتى بدا أن مصالح الشعوب لا تتم إلا بالانضمام إليها، والولاء لملّتها، وإلا فليصارع الرافض الممتنع البقاء.
الثاني: نشر الحرية الفكرية والدينية في كل مجتمع، ومنع غلبة دين أو فكر في أي مجتمع، ورد الشرائع التي يجري عليها عمل كل مجتمع إلى مجموع ما فيه من ديانات وأفكار.
واتخذت (الديمقراطية) دعامة تُثبت هذا الهدف.
فالديمقراطية نظام ثقافي يقوم على تمكين كل أصحاب دين أو فكر من ممارسة شعائره ونشر تعاليمه والدعوة إلى مبادئه، وتكوين قاعدة شعبية له من أفراد المجتمع، وذلك في ظل حزب يشكله ويتخذ مقرًا له، وهيئة تتولى إدارته وتأسيس مطبوعات دورية ونشرات دعائية، والقيام بسائر النشاطات الثقافية التي يمارس من خلالها عرض ثقافته والدعوة إليها، وفي الديمقراطية مجلس تشريعي يسمى (البرلمان) إليه يرد سنُّ القوانين وتشريع الأحكام التي تكون شريعة المجتمع، تفرض على أفراده يلتزمونها ويتحاكمون إليها. وهذا البرلمان يتكون من مقاعد يشغلها المنتخبون من مرشحي الأحزاب، تقسم بينهم بنسب تعادل النسب التي يشغلها كل حزب في المجتمع. يجتمع هؤلاء ويقترح من شاء ما شاء من قوانين للمجتمع، ويعرض اقتراحه بعد مداولات على التصويت، فإن فاز بأغلبية أصوات أعضاء البرلمان اعتمد قانونًا يخرج للمجتمع للعمل به والتحاكم إليه، يخرج تشريعًا يحمل هوية شعبية مشتركة، لا هوية أي دين أو فكر اقترحه أو أعطى صوتًا له.
وعليه فليس للمجتمع ملة إلا ملة العولمة في نظامها المسمى بالديمقراطية، وكل ملة تنتهي في هذا النظام عند اقتراح تشريعاتها في برلمانه، فإن فازت أو شيء منها بأغلبية الأصوات استحالت شريعة شعبية ديمقراطية.
وأي حزب أراد أن تغلب في المجتمع تشريعات ثقافته فعليه ممارسة أكبر جهد لتكوين أكبر قاعدة شعبية له، لعله يحظى بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، فيستطيع تمرير مقترحاته بأغلبية الأصوات، ثم هي بعد هذا لن تنسب إليه ولن تحمل اسمه.
الثالث: تعميم نظام دولة في كل مجتمع يحكم شؤونها بتمكين ثقافة الديمقراطية وممارستها عمليًا ورعايتها وحراستها وحماية حماها، فلا تتمكن أي ملة أو فكر من الإفلات من سلطة هذا النظام وتولي زمام الأمور.
واتخذت (العلمانية) دعامة تثبت هذا الهدف.
والعلمانية هي السلطة التي أقصت سلطة الكنيسة في المجتمع الغربي، وعزلتْ الدين عن الدولة وقيدته بالفرد، جعلته حريته التي لا تتجاوزه إلى غيره، فهي في أصلها حركة تمرد على التدين بدينٍ؛ إذ هي (اللادينية)، وما دام الأمر على هذا فليس خير منها للعولمة في سياسة المجتمعات، وقمع تسلط الديانات فيها، وهي السلطة التي تمنح التصريح لإنشاء الأحزاب أو تمنعه، وهي التي تراقب وتشرف على حركة الأحزاب وممارساتها، وتنظم انتخابات المجلس التشريعي، وتنفذ القوانين التي يصدرها.
الرابع: تمكين تمييع الأديان وإزالة خصوصياتها بضم شعائرها بعضها إلى بعض لتكوين شعائر موحدة للعالم، والتقريب بين شرائعها للخلوص إلى شريعة موحدة للعالم.
واتخذت (وحدة الأديان) دعامة تثبت هذا الهدف.
والدعوة إلى وحدة الأديان والتقريب بينها دعوة غير خافية ولا مجهولة، فهي قائمة على قدم وساق منذ زمن ليس بالقريب، ولا تسل عن كثرة المؤتمرات والندوات الدورية في الشرق والغرب تتوالى فيها الدراسات للتقريب بين المسيحية والإسلام.
وفي الفاتيكان مركز لأرشفة الدراسات في التقريب، وتسهيل الاطلاع عليها واستفادة الباحثين منها.
ولا تسلْ عن شعار (الإبراهيمية) الذي استحدثه دعاة الوحدة، والصلاة الإبراهيمية التي رعتها الأمم المتحدة، وهي خليط من صلاة المسلمين والنصارى اليهود،ولا عن الدعوة إلى طبع القرآن مع الكتاب المقدس في مطبوعة واحدة مجتمعة بين دفتين، ولا عن إنشاء المبنى الواحد المشتمل على المسجد والكنيسة ودار الأوبرا، وشعار "الإبراهيمية" ناشئ عن دعوى أن الأديان السماوية الثلاثة تجتمع في الانتساب إلى إبراهيم -عليه السلام- فلا وجه للتفريق بينها.
هذا، وتقف هذه الصورة للعولمة بوسائلها ودعائمها أمام خلفية تطل من ورائها على النحو التالي:
أصل فكر هذه الملة (العولمة)، ومنشأ منهجها وُلد من رحم معاناة النصارى من سلطان الكنيسة، ولم تكن صورتها في البدء إلا تنحية الدين عن القيادة في المجتمع الغربي في فكر سمي بالعلمانية، ثم أثمرتْ الدراسات الاستشراقية العمل على تعميم هذا الفكر والمنهج في العالم الإسلامي، وتمكين ذلك بخدمته بالوسائل والدعائم المذكورة، وبإدراج بقية العالم فيه ليخلص الكون لهذا المنهج فلا يند منه شيء عنه.(24/467)
والدراسات الاستشراقية إنما أنشئت لتخدم أمرين: أحدهما: حاجة الغرب وضرورته لثروات الشرق الإسلامي، ونزعة الغرب بتاريخ قيصريته وغاراته الصليبية للحصول على تلك الثروات بيد عليا عزيزة لا سفلى ذليلة، ولا يكون ذلك إلا بسيادة على تلك الثروات لا تكون بالاحتلال العسكري المباشر؛ لأنه يثير التمرد ويؤدي إلى الصراع، فتتكدر السيادة أو تزال، ولكن بسيادة مستقرة دائمة آمنة، ولا سيادة تحقق ذلك كالسيادة الفكرية الروحية التي تضمن تبعية عقول أصحاب الثروات وسلوكهم للغرب، والسيادة الاقتصادية التي تضمن تعلق أسباب حياتهم بالولاء للسياسات الغربية.
والأمر الثاني في مقاصد الدراسات الاستشراقية هو التوصل إلى وسائل المواجهة الفعّالة لخطر الإسلام على الغرب الصليبي الخطر الذي لا يعوق طموح السيادة الصليبية فحسب، بل ويؤذن بإزالة ثقافتها ووجودها.
وقد سبق في تجارب صراع الصليبية مع عدوها هذا ما أظهر -بجلاء لا ريب معه ولا شك وراءه- أن الجند والسلاح والاحتلال، وإن أزالت في حينٍ دولة الإسلام إلا أنها لم ولن تستأصل شأفته، فهو يبقى حيًا ظاهرًا يغالب ظروفه بقوةٍ ذاتيةٍ شامخةٍ لا يضره من خذله.
وقد تيقنت تلك الدراسات أن خطر الإسلام يكمن في ذاته عقيدة ومنهجًا، فهو حيث كان سليمًا من القوادح كانت قوته واستشرت خطورته، فالحرب معه ذاته، وكلما أمكن تحريفه بالشبهات والصد عنه بالشهوات كلما أمكنت السلامة من خطره، ثم إن من أسرار قوته عالميته، فهو يخاطب كل فرد في كل عصر على كل شبر، ويجد خطابه القبول التام الواثق المتيقن؛ لأنه حاجة كل فرد ومنهج كل عصر وعمارة كل شبر، فكلما أمكن تحييده وتمييعه ومنع تميزه عن أي منهج يضاده، وجعله فردًا في مجموعة له ما لها وعليه ما عليها كلما أمكنت السلامة من خطره.
وأثمرت تلك الدراسات أن معالجة خطر الإسلام إنما تكون بما عولج به سلطان الكنيسة، بالعلمانية اللا دينية، ولما كان الإسلام عالمي المنهج والخطاب جابهوه بعالمية الإقصاء والاحتواء حتى لا تبقى له كوة يطل منها، ولكن من غير إثارة تلفت النظر، ولا صراعٍ يذكي روح المقاومة والدفاع، بل بسحر بيان وكهانة شيطان، بمنهج يعد ويمنّي ويضل ويأتي من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال حتى يغيّر أمر الله ويغوي عن طريقه المستقيم، فكانت (العولمة) بوسائلها ودعائمها ذلك السحر وتلك الكهانة.
وابحث عن الإسلام في ظل العولمة ستجده حرية فردية، فإن ترقّى فحزب في جملة أحزاب، فإن ترقّى فمقعد وصوت في برلمان، ثم ليس له وراء ذلك جنس وجود.
وإذا علمت أن الإسلام دين الله وقد تكفل بحفظه، فاعلم أن (العولمة) حرب مع الله.
وإذا كنت مؤمنًا، وتصوَّرت عاقبة تلك الحرب استبشرت ولا بد.
ولينظر العاقل إلى أي الحزبين يركن.
والحمد لله في الأولى والآخرة لا شريك له
===============(24/468)
(24/469)
برنارد لويس ... وصهينة الدراسات الاستشراقيّة
د. بدران بن الحسن 25/1/1426
06/03/2005
ولد برنارد لويس سنة 1916 في لندن لأسرة يهودية، تخصص منذ التحاقه بالدراسات العليا في دراسة الشرق والإسلام بالتحديد وتاريخ الإسلام والمسلمين. وقد حصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1936، كما حصل على درجة الدكتوراه في تاريخ الإسلام من المدرسة نفسها عام 1939، وكان موضوع رسالته عن الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين.
وأثناء دراسته الجامعية عين مدرساً مساعداً بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، غير أنه ترك العمل بالجامعة خلال سنوات الحرب (1940 - 1945) ليلتحق بخدمة المخابرات البريطانية وبعد الحرب، عاد للعمل بالجامعة حتى عام 1974. واستمرت صلته بالمخابرات البريطانية بعد ذلك، وظل مرجعاً مهماً ومستشاراً يُرجع إليه في شؤون الشرق الأوسط، ولذلك فإنه بمجرد انتهاء الحرب العالمية الثانية غيّر اهتمامه من دراسة تاريخ الإسلام في العصور الماضية، إلى دراسة تاريخ الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة في العصر الحديث، ونشر في ذلك عدة كتب تصبّ كلها في تنميط صورة صهيونية عن الإسلام والمسلمين عموماً وعن العرب بشكل خاص، تصب كلها في خدمة المشروع الصهيوني في المنطقة، وتوجّه صانع القرار الغربي والأمريكي بوجه خاص وتزوده بأفكار وزاد معرفي للتعامل مع مختلف قضايا الشرق الأوسط، وتقوم أساساً على إستراتيجية التهويل من خطر الإسلام على الغرب، وتصوير الإسلام والعالم العربي كأنهما الخطر المحدق بالحرية الغربية وبالمصالح الغربية، وتدعو صراحة أو تلميحاً إلى ضرورة دعم دولة الصهاينة في فلسطين المحتلة.
وللعلم فإن برنارد لويس اليهودي البريطاني سرعان ما تخلّى عن الجنسية البريطانية، وتأمرك وصار أمريكياً لما صعد نجم الولايات المتحدة الأمريكية وتأثيرها في قضايا الشرق الأوسط، فالتحق بأمريكا سنة 1974 ليعمل في جامعة برنستون، وهناك صار نبياً من أنبياء الصهيونية المعاصرة، وعبّر في كثير من كتبه عن هذا التصهين في رؤيته للسياسة الخارجية الأمريكية وقضايا الشرق الأوسط.
ويُلاحظ على برنارد لويس وفاؤه لمنهج الاستشراف في بداياته، حيث كان آلة في خدمة الاستعمار، ولم يتأصر بالتطورات التي حدثت في هذا الحقل المعرفي، وظهور بعض المستشرقين الذين أبدوا موضوعية أكثر في دراسة الإسلام والعرب والشرق.
بل ظل برنارد لويس من طراز مارجليوث وجولدزيهر وغيرهما من المستشرقين شديدي التحيّز ضد الإسلام والعرب، وظل وفياً لمنهجهم في إصدار التعميمات غير العلمية وغير المبرهنة عن الإسلام والعرب وعن منهج دراستهما.
فراح يعمم مقولاته المتحيزة وغير العلمية، بل والكاذبة في منطق العلم والبحث العلمي، عن الإسلام والتخلف الحضاري في العالم الإسلامي، والتخلف العربي. وكان من أوائل من تكلم عن صراع أو صدام الحضارات، ثم تلقفها بعد ذلك تلميذه صموئيل هاتنجتون اليهودي الأمريكي صاحب فكرة "صدام الحضارات" و"الحدود الدموية للإسلام" وغيرها من التقوّلات المتخرصة.
لقد وجد برنارد لويس في أمريكا وفي جامعة برنستون مسرحاً آهلا بمن يتبنّون أفكاره الاستشراقية الظلامية، وأيديولوجيته الصهيونية، وراح يكيل التعميمات تلو التعميمات السوفسطائية، من أجل تنميط صورة المسلمين والعرب بطريقة سلبية تجعل من يستمع أو يقرأ له يشعر بالقرف من هؤلاء العرب ومن دينهم، ويتخذ موقفاً سلبياً منهم، ويشعر بتعاطف كبير مع "العالم الحر" ومع الصهاينة "المضطّهدين" بزعمه.
تولى برنارد لويس في جامعة برنستون خاصة وفي أمريكا عموماً قيادة حقل الدراسات الاستشراقية التي كان يهيمن عليها الصهاينة أو المتصهينين المتمركزين في أقسام ومراكز دراسات الشرق الأوسط، والدراسات الإسلامية، بالجامعات الأمريكية، أمثال ليونارد بايندر، وإيلى كيدورى، ودافيد برايس، و دانيال بايبس، ومارتن كريمر، وتوماس فريدمان، ومارتن بيرتز، ونورمان بودو رتز، وجوديت ميلر، وغيرهم.
والأخطر من ذلك أن ربنارد لويس وأشياعه لم يكونوا في حقيقة الأمر أكاديميين فقط، بل كان لهم دور استشاري من خلال عملهم خبراء لدى هيئات ودوائر اتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأمريكية.
وظل برنارد لويس أستاذاً للدراسات الشرقية بجامعة برنستون حتى تقاعده من العمل الأكاديمي في 1986؛ إذ أصبح أستاذاً فخرياً (P r ofesso r Eme r itus)، وهو مركز جعله يبقى مرجعاً فيما يتعلق بالإسلام والعرب والشرق الأوسط ليس للأكاديميين الغربيين فحسب، بل لدوائر صنع القرار الأمريكي خاصة.
يركز برنارد لويس في كتاباته عن الإسلام والمسلمين والعرب والعالم العربي على مجموعة من الآليات الخطيرة، مثل آليات (ميكانزمات) التهويل، والبتر والتقطيع، وآلية التهوين (الإهمال). فهو يهوّل ما كان هامشياً أو عفوياً أو قليل الحضور في التاريخ الإسلامي والثقافة والحضارة الإسلامية، ويهوّن (يهمل) ما كان غالباً مهيمناً في الحضارة والفكر الإسلامي وفي الثقافة الإسلامية.(24/470)
كما أنه يمارس بتراً وتقطيعاً لكثير من الحقائق، ويقوم بتغييبها ويعمل على تجاهل أو عزل الأحداث والأفكار عن سياقها الطبيعي. فالقارئ لما كتبه ويكتبه برنارد لويس يجد وكأن الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي لا يوجد به غير الحشاشين والإسماعيلية والقرامطة، وبعض الفرق المنحرفة الأخرى التي بادت أو انحصرت عن التيار العام للإسلام والثقافة والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي.
ومما يُلاحظ على كتاباته عن التاريخ الإسلامي أنه يبرز كل الفرق المنحرفة والانحرافات الفكرية التي لا يمكن بحال أن تطغى على الخط العام المعتدل في التاريخ الإسلامي.
وبرغم اعترافه في كتابه (تنبؤات برنارد لويس) بأن العالم العربي هو مهد الحضارات والأديان السماوية بقوله: "هذه المنطقة التي كانت مركزاً للحضارات، وحاضنة الأديان السماوية، وكانت موطن أول مجتمع عالمي ذي ثقافة بينيّة بكل ما للكلمتين من معنى، وكان مركز إنجازات عملاقة في كل حقل من حقول العلوم والتكنولوجيا والثقافة والفنون، وكان قاعدة لإمبراطوريات متتالية شاسعة وعظيمة".
فإنه يرى أن هذه المنطقة انتهى دورها الحضاري، وخاصة مع تنامي مد الصحوة الإسلامية، هذه الصحوة التي يراها برنارد لويس بالعين العوراء، حيث يؤكد افتراء أن دعوة الإسلاميين للديمقراطية دعوة خادعة وغير صحيحة، وأن دعوتهم إليها هي بهدف الوصول للحكم، وعندما يتحقق هدفهم ينقضون على الديمقراطية وكل من يخالفهم الرأي. ويرجع ذلك -بزعمه- إلى طبيعة الإسلام ذاته؛ إذ يرى أن الأديان لا تقبل الديمقراطية، وخاصة الأديان الأصولية -يقصد الإسلام طبعاً-.
ويزيد في تهويل الأمر من خلال توقعه بأن العالم العربي والدول العربية هي الأكثر تعرضاً لخطر التفكك، وأنها ليست الوحيدة، فالاتجاه نحو التفكك سيزداد بتشجيع من الشعور الاثني والشعور الطائفي المتناميين، وقد تسربت الفكرة المغرية بحق تقرير المصير إلى عدد من الأقليات الاثنية التي لم تعد تكتفي بوضعها السابق.
لكنه بتطبيقه لآلية التهويل هذه في تهويل أمر الأقليات في العالم العربي، فإنه يمارس آلية التهوين من خلال تغاضيه عن التصريح بمن يقوم بتغذية هذا الشعور العرقي والتفكك الاثني.
ويخرج علينا بمقولة آخرى غربية يدعي فيها نبي الصهيونية الجديد بأنه من اجل إنقاذ الشرق الأوسط ينبغي ان نعتمد على عوامل ثلاثة هي تركيا وإسرائيل والنساء. لأن تركيا اختارت العلمانية والالتحاق بأوربا؛ فهي لا تحمل أمراض الشرق الأوسط بزعمه، اما إسرائيل فهي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، في حين أن النساء تعرضن للقمع من قبل الثقافة التقليدية السائدة (الثقافة الإسلامية طبعاً). وخاصة النساء اللائي يركز على دورهن في تحويل الشرق الوسط إلى بحيرة ديمقراطية.
كما أن برنارد لويس أعلن تفكك وموت العالم العربي منذ حرب الخليج، واعتبر أن إسرائيل وتركيا هما الدولتان الوحيدتان الناجحتان في منطقة الشرق الاوسط. كما أكّد في مقال له في مجلة (Fo r eign Affai r s) في 1992 حيث قال: إن "غالبية دول الشرق الاوسط. مصطنعة وحديثة التكوين وهي مكشوفة لعملية كهذه. وإذا ما تم إضعاف السلطة المركزية إلى الحد الكافي، فليس هناك مجتمع مدني حقيقي يضمن تماسك الكيان السياسي للدولة، ولا شعور حقيقي بالهوية الوطنية المشتركة، أو ولاء للدولة الأمة. وفي هذه الحال تتفكك الدولة مثلما حصل في لبنان إلى فوضى من القبائل والطوائف والمناطق والأحزاب المتصارعة"
ولذلك فهو يرى أن على أمريكا ألاّ تخاف من غضب الشارع العربي، فإن غضب العرب والمسلمين من الغرب يفتقر في مجمله إلى أي أساس، كونه لا يتجاوز محاولة يائسة من مجتمعات فاشلة لتحميل قوى خارجية، خصوصاً الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل، مسؤولية الأزمة الخانقة والتخلف والتفكك الذي تعانيه.
والناظر في معظم توجهات الإدارة الأمريكية في العالم العربي خاصة والعالم الإسلامي ككل، يلاحظ أن مقولات وتوجيهات برنارد لويس قد تحوّلت إلى سياسات وبرامج تعمل الإدارة الأمريكية المتصهينة على تنفيذها، ولا يجد المرء كبير عناء في ربط مختلف تفاصيل هذه السياسات مع الأفكار التي وضعها برنارد لويس في كتاباته الأخيرة منذ أربع سنوات تقريباً إلى اليوم. وبهذا حوّل برنارد لويس الاستشراق من حقل أكاديمي إلى مكتب تحليلات يحرص على توجيه سياسات الإدارات المتصهينة في العالم والإدارة الأمريكية خاصة في الشرق الوسط، كما يعبّرون عنه أو العالم العربي كما هو ثابت تاريخياً.
=============(24/471)
(24/472)
الذاكرة التاريخية تحمي الأمة من الانهيار
حوار: رضا عبد الودود 8/3/1426
17/04/2005
- أزمة التاريخ الإسلامي سببها الاستشراف والموضوعية.
- تاريخنا مغيّب منذ ما يُسمّى «بعصر النهضة».. ومشكلته أنه يُكتب في إطار فكرة مسبقة.
- أخطر آثار تشويه التاريخ هو القضاء على النموذج العلمي الناجح لتطبيق الإسلام.
الأزمات التي تحيط بالأمة الإسلامية في العراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها كثير, حالت دون اضطلاع المسلمين بدورهم الحضاري الذي كلفهم به ربهم في كتابه (كنتم خير أمة أُخرجت للنَّاس...) [آل عمران: 110].. وشواهد التاريخ تقول: إن الاحتكام للعقيدة والشريعة الإسلامية كان أساس نهضة الأمة وريادتها, ولكن حقائق كثيرة تعرضت للتشويه وثوابت أصيلة نالها الطعن، وتجنى عليها الأبناء قبل الأعداء.. فماذا نحن فاعلون? للإجابة عن هذا السؤال كان لنا هذا الحوار مع الدكتور عبد العظيم محمود الديب, أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة جامعة قطر, أبرز المهتمين بتاريخ الأمة الإسلامية؛ إذ حقق جميع أعمال إمام الحرمين الجويني في نحو (21) مجلداً, علاوة علي كتاباته التاريخية والفقهية التي تحرر الكثير من المغالطات والشبهات التي تُثار حول الفكر الإسلامي.. فكتب (المستشرقون والتاريخ الإسلامي - المستشرقون والتراث - جنوب السودان وصناعة التآمر ضد ديار الإسلام - لغة القرآن ماذا يراد بها - التبعية الثقافية - الغزالي وأصول الفقه - العقل عند الأصوليين- علم اختلاف الفقهاء - القوميات.. ما وراءها - الحوار والتعددية في الفكر الإسلامي - جمع السنة وتصنيفها بواسطة الحاسب الآلي - الكمبيوتر حافظ عصرنا...)
فإلى تفاصيل الحوار:
في البداية ما رأيك في المطروح من الكتابة التاريخية الآن؟
أستطيع أن أقول: إن صورة التاريخ الإسلامي في أذهان الأمة الإسلامية عامتها ومثقفيها وعلمائها ودعاتها (ولا أستثني إلا من رحم ربك) صورة مشوهة بمعنى أنها ممزقة, وعبارة عن نتف ومزق, لا تكوّن صورة كاملة ذات معالم وملامح ناطقة بل هي مزق متنافرة تعطي إحساساً بالنفور من التاريخ, بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها تكوّن عاطفة كراهية لدى الكثيرين. ودلائل ذلك كثيرة عندي وتحت يدي, فكثير من العلماء والدعاة والمثقفين تصدر منهم عبارات وجمل تلقي باللوم والتقريع على تاريخنا وتحمله مسؤولية ما نحن فيه من انحدار وضياع وانبطاح.
فمثلا حينما يكتب أحد الأدباء مسرحية عن جميلة بوحريد المجاهدة الجزائرية يجعلها وهي تئن من تعذيب الفرنسيين لها في السجن تصرخ: «يا إلهي من كربلاء لم يحدث مثل هذا..», وحينما يكتب أستاذ جليل لا أتهمه في علم ولا دين ولا خلق كتاباً عن مناهج الفكر في الإسلام ويقول في مقدمته «وفي الأمويين جاهلية جهلاء, وضلالة عمياء..» الخ ما قال. ويكتب كاتب إسلامي عن معركة جوهر دوداييف المناضل الشيشاني مع يلتسين وما أصاب مدينة جروزني فيقول: «رأيت الجحيم ومظاهر القيامة في جروزني.. وقد تقمّص يلتسين قميص يزيد بن معاوية بامتياز» وعندي مئات الأمثلة والنماذج من هذه. فهذه الأمثلة تشهد بدورها على ألسنة المثقفين والعلماء والإسلاميين بأنهم يكادون - حيث لا يشعرون - يبرّرون هذه الجرائم التي نعيشها. فإذا كان هذا قد حدث في فجر تاريخنا في القرن الأول خير القرون. فما بالكم تشكون وتستنكرون أن يحصل لكم هذا الآن?
ومن مظاهر التشويه أيضاً أنك لا تجد داعية إسلاميًا يحاضر أو يخطب يستدعي من التاريخ أو يستظهر إلا بعهد عمر، وكأن الأمة المسلمة انقرضت بعد عهد عمر بن الخطاب وتبدلت خلقاً آخر. إلا القليل يعود إلى عهد عمر بن عبدالعزيز.
كيف بدأ تشويه التاريخ الإسلامي؟ ومتى؟
في الحقيقة إن استدعاء التاريخ دائما ظاهرة صحية؛ لأن النماذج الواقعية أكثر تأثيراً من النظريات والوصايا والعظات, ولكن غُيّب عنا تاريخنا منذ زمن ما سُمّي بعصر النهضة, أعتقد أنه لم يكن يوجد درس خاص في مناهج التعليم قبل ما يُسمّى عصر النهضة, ولم يكن يوجد ما يُسمّى درس التاريخ, فكان هناك التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلوم الحديث والفقه والأصول والأدب والشعر واللغة والنحو وعلوم البلاغة, بل وعلم اختراق الآفاق (الجغرافيا) وعلم الهيئة (الفلك) وعلم طبقات الأرض (الجيولوجيا) والكيمياء.. الخ. أما التاريخ فكان يُقرأ في كتب الإخباريين، وكانت أول محاولة لوضع فلسفة التاريخ وكتابته هي مقدمة ابن خلدون في القرن التاسع الهجري, لكن منذ بدء تأسيس المدارس على النمط الغربي وبدأت دروس خاصة بالتاريخ، وُضعت مناهج نُسّقت وبُوّبت بعناية بحيث تعطي نفوراً، وتعطي صورة ممزقة للتاريخ الإسلامي، ثم ساعد على ذلك أيضاً وسائل أخري من وسائل التثقيف مثل المقال والمسرحية والتمثيليات، ووسائل الإعلام كلها.
الاستشراق
من خلال قراءة كتب التاريخ, نلمح العديد من آثار كتابات المستشرقين الذين مثلوا المراجع الأساس لكثير من مفكرينا وكتابنا.. فماذا عن دور الاستشراق في هذه المسألة؟(24/473)
المشكلة الحقيقية في كتابة التاريخ أنه يُكتب في إطار فكرة, ويثار على أنه أحداث تنتهي إلى غاية, وفي البداية كان التاريخ يُكتب على أنه حوليّات أو خطط.. أي أن المعيار الذي يمسك وقائع التاريخ لم يكن متعلقاً بالفكرة نفسها, وإنما بذكر الأخبار والأحداث دون تحليل أو تفسير مثلما فعل الطبري, وكُتّاب الطبقات, وكان التاريخ مجرد تدوين للأحداث وتنشيط للذاكرة...
وعندما جئنا نكتب تاريخنا الحديث كان يمكن أن يتحول التاريخ إلى غائي, ولكننا استُعمرنا فكرياً وحدث أمران: سيطرة المنظور العلماني على التاريخ الحديث, وسيطرة الاستشراق على التاريخ الإسلامي. فالاستشراق حكم على التاريخ عند كتابته بروحين, بوصفه موضوعياً وليس علمانياً, فالمستشرق يحكّم عقله, وعقله إما عقل نصراني لا يفهم الإسلام, ومن ثم يفصل بين الدين والدنيا, ولا يستطيع أن يوصل بين الاثنين ليفهم الظاهرة الإسلامية في واقعها المعيش. كما أن العقل العلماني يحكم على الدين بوصفه بيئة للتخلف, فمن ثمّ الدين الإسلام - في نظره متخلف لا يعتد به, وبهاتين النظرتين لا نستطيع إيجاد صيغة منضبطة للتاريخ» هكذا صيغت الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة.
ومن هنا وجدنا مثلاً كل من قرأ وكتب وجلس على مقعد الدرس يعرف ويحفظ عن ظهر قلب موقعة الجمل وصفين والتحكيم وكربلاء ومقتل الحسين, على حين لو سألت خريجاً في كلية الآداب قسم التاريخ عن معركة (ملاذ كرد) أو عن (جلال الدين منكبرتي) أشك أن تجده يعرف حتى الاسم، وهذه من ضمن المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام, وبالمثل لو سألت حتى المتخصصين في التاريخ الإسلامي عن عدد الغزوات التي حاول الغرب فيها الوصول إلى مكة والمدينة والهجوم على الحرمين الشريفين لا تجد خبراً. فمن الذي وضع هذه الصفحة في بؤرة الشعور وطوى تلك الصفحة?!
القضاء على النجاح الإسلامي
وما هي أهم انعكاسات تشويه تاريخنا على واقعنا المعاصر؟
إن أخطر الآثار لهذا التشويه هو القضاء على النموذج العلمي الناجح لتطبيق الإسلام, فمعلوم أن المبادئ لا تظهر صلاحيتها وتثبت جدواها إلا بالتطبيق العمليّ, فكم من فلسفات ومشاريع حينما تُقرأ تجدها مُعجبة رائعة, لكن عند التطبيق تفشل فشلاً ذريعاً مثل الماركسية مثلاً. فحينما تشوّه صورة التاريخ الإسلامي فمعناها عجز الإسلام عن النجاح في التطبيق، وعدم قدرة المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية على النهوض بالأمم وصياغتها. وهذا هو الحادث في ثقافتنا الآن, فتجد الدعاة حينما يسألون كيف ستكون الدولة الإسلامية وإلام تدعوننا? ويواجهون بالصور الشوهاء من التاريخ الإسلامي, تجد الدعاة لا يجدون جواباً, بل يقولون: "ندعوكم إلى ما في كتاب الله, وإلى ما صحّ من سنة رسول ا صلى الله عليه وسلم , فالتاريخ لا يحكم على الإسلام, وتصرفات المسلمين لا تحكم على الإسلام, بل الإسلام هو الذي يحكم علينا".
فيجيب المعاندون قائلين: «إذا فشل وعجز الجيل الأول من الصحابة والتابعين عن تطبيق الإسلام فهل تنجحون أنتم». وهذه هي حجج فرج فودة وسعيد العشماوي ورفعت السعيد, وغيرهم من العلمانيين، ويظل الإسلام مشروعًا نظريًا غير مطبق, ولذلك حينما يدعو الرأسماليون إلى مناهجهم يقدّمون أمريكا نموذجاً, وحينما يدعو الليبراليون والعلمانيون إلى مناهجهم يقدمون أوروبا نموذجاً, وكان الشيوعيون يقدمون الاتحاد السوفيتي نموذجاً, أما الإسلاميون فيُقال لهم: إلى أي إسلام تدعون: إلى إسلام الأمويين الذين هُدمت الكعبة في عهدهم واستبيحت المدينة وقُتل الحسين, أم إلى إسلام العباسيين ومسرور السياف ومباذل هارون الرشيد وأبي نواس (بالرغم من أن أبو نواس لم يلتق بهارون الرشيد نهائياً), أم إلى إسلام الأتراك واستبدادهم وجهلهم, أم إلى إسلام المماليك وفظائعهم, أم إلى إسلام النميري, أم إلى إسلام الخميني?!
ومن مظاهر هذا التشويه أيضاً أننا أصبحنا نتحدث عن التقدم والتطور والتنمية وليس أمامنا إلا النموذج الغربي وأقصى ما يمكن للإسلاميين أنهم يريدونه لابسًا عمامة الإسلام, أما التقدم والتطور والتنمية بناءً على واقعنا وفلسفتنا، وبما لدينا انبعاثاً من واقعنا وماضينا فهذا غير وارد؛ إذ تحول صورة التاريخ الشوهاء دونه. فلولا المشاعر والعواطف السيئة نحو التاريخ الإسلامي لاستطعنا أن نطوّر نظم تعليمنا ومؤسساتنا الفكرية والثقافية والعلمية والسياسية والإدارية من داخل ثقافتنا وبناءً على واقعنا.
وكيف يقرأ جيلنا الحالي التاريخ الإسلامي؟(24/474)
أولاً يجب أن نعلم أن الذاكرة التاريخية للأمة هي التي تحميها من الانهيار وأمة بدون تاريخ مثل شخص فقد الذاكرة تماماً, ونحن للأسف ذاكرتنا التاريخية مشوّهة, ولذلك لا نحسن استدعاء التاريخ، ولا نحسن الاستفادة منه في حماية الحاضر وتحقيق الأمل في المستقبل؛ فالتاريخ في حقيقته هو علم الحاضر والمستقبل. ونحن نحاول أن نلجأ إلى التاريخ مع أننا في الواقع نهمل التاريخ, ولم نستطع حتى هذه اللحظة أن نخضع دورتنا الحضارية لدراسة علمية كاملة تتحفظ أولاً على أهواء المؤرخين, ثم تحقق الحدث وتسلكه في سياقه التاريخي وتستخلص منه العبرة والعظة. نحن لم نفعل هذا للآن، وهذا هو أحد الشروط الغائبة لنهضتنا.
في قراءتنا للتاريخ ينبغي أن نعلم أن التاريخ هو صورة للعهود والحقب الماضية, وهذه الصورة تكون صادقة كلما كانت واضحة القسمات بيّنة السّمات, ونستطيع أن نشبه هذا بالصورة الفوتوغرافية التي تُقدّم لجوازات السفر والبطاقة الشخصية, فهذه الصورة تكون صادقة حينما تقدم الملامح على حقيقتها بشكلها وبحجمها الطبيعي, وليس (الكاريكاتيري) وهذه الصورة هي التي تُستخدم وتدل على صاحبها وحقيقته والتحقّق من هويته غالباً. وهناك صورة أخرى تستخرجها أجهزة المخابرات للجواسيس وأعداء الأمة, فتدقّق في الملامح والأنف والجبهة والشعر محاولة البحث عن آثار تغيير وتزييف الشخصيات. وهناك صورة ثالثة تصوّر الأحشاء من الداخل حينما يحتاجها الطبيب.
فهكذا التاريخ نصوّر الحقب التاريخية صورة طبيعية تبين أبرز الملامح بحجمها الطبيعي ويكتفي بها عامة المثقفين والباحثين, أما الصورة الأخرى التي تصل إلى الدقائق والخبايا والزوايا والأحشاء, فهذه لا يحتاجها ولا يقرؤها إلا المختصون الذين يفلسفون التاريخ ويستخرجون منه العظات والعِبَر. وهكذا يجب أن نقرأ التاريخ, أما أن نأخذ في التدقيق في بحث الخبايا والزوايا بحجة الموضوعية وحجة أخذ العظة، ونجعل ذلك صورة للعامة فهذا مخالف لطبيعة الأشياء, فليس كل قارئ للتاريخ فيلسوفاً تاريخياً.
التاريخ الغربي انتقائي
ومن يقرأ التاريخ الأوروبي يجد به من الخزايا والرزايا والفظائع ما لو وقع نقطة منه في بحر تاريخنا لنجّسته وكدّرته ولوّنته بالسواد, ولكن الغرب استطاع أن يستخرج من هذا التاريخ صورة ذات ملامح ناصعة قدمها لأبنائه, فلم يوجد في تاريخنا مثلاً ما حدث في تاريخ إنجلترا حينما غُيّر مذهب الدولة ورجال الكنيسة ثلاث مرات في نحو عشر سنوات من أجل نزوات الملك هنري الرابع الذي غيّر دين الأمة من أجل أن يفوز بامرأة, وفي هذه الفترة سالت الدماء وأُزهقت الأرواح ونُهبت الكنائس وقُتل الكرادلة ومع ذلك يجد الشاب الإنجليزي والمثقف الإنجليزي في تاريخه ما يفخر به, وقس على ذلك تاريخ الغرب كله.
ولقراءة التاريخ بعين الحاضر والمستقبل علينا أولاً أن نعرف كيف نتعامل مع المصادر, فلا نستسلم لكل ما هو مكتوب, فالكثير مما هو مكتوب لا يثبت صدقه عند التمحيص والتدقيق (وأنا هنا لا أعيب الذين دوّنوا التاريخ, بل إن هذا يحسب لهم لا عليهم؛ لأنهم دونوا كل ما سمعوه، وأسندوا لنا الأخبار التي دونوها وحمّلونا نحن مسؤولية النظر في السند), ومن هنا كان القول المأثور «من أسند لك فقد حمّلك» أي ترك لك واجب التمحيص والتدقيق.
وقد جاء تشبيه هذه المدونات التاريخية على لسان العلامة محب الدين الخطيب - رحمه الله - تشبيهاً رائعاً حيث صورها بأنها تشبه تحقيقات الشرطة التي تدوّن كل ما تسمع عن الحادث وكل ما يأتيها به رجالها ومخبروها, أما التدقيق والحكم فهو بيد القضاء أو النيابة. فهذا معنى قولنا ألا نستسلم لكل ما هو مكتوب ومسطور في المدونات التاريخيّة.
وأن ندرك أن هذه المدونات التاريخية, في جملتها تشبه صفحات الحوادث والجرائم في الصفحات المعاصرة, فهذه الصفحات تصور جانباً من المجتمع, أو تصور الجانب المريض من المجتمع. دون الجوانب الحضارية من بناء وثروة وعمران وعلوم.
وأن التاريخ الإسلامي لا يوجد فيما يُسمّى كتب التاريخ كالطبري والبداية والنهاية والكامل وغيرها, وإنما يوجد أيضاً في كتب الطبقات مثل طبقات الفقهاء على المذاهب المختلفة، وطبقات المفسرين وطبقات الحفاظ وطبقات القُرّاء وطبقات الأطباء وطبقات الحكماء, وبالجملة الكتب التي تؤرخ لعلماء المجتمع ومؤسساته الحضارية المختلفة, فهذه مادة خصبة للتاريخ الإسلامي يغفل عنها كثير من الذين يبحثون عن التاريخ فلا يقعون إلا على سجلات الحوادث والجرائم.(24/475)
وعلينا أيضا أن نحسن تفسير الحدث وقراءته ونضعه في سياقه التاريخي؛ فهناك حوادث وقعت حقيقة ولكنها تُفسر تفسيراً خاطئاً. على سبيل المثال: فتح الأتراك مصر والشام في عهد السلطان سليم فهذه حقيقة تاريخية, ولكن الخلاف في تفسيرها. فقد علمونا أن هذا كان استعماراً تركياً واستبداداً عثمانياً لنهب ثروات مصر, مع أن التفسير الحقيقي الصادق هو أن السلطان سليم جاء إلى الشام ثم مصر حينما انهزم السلطان قنصوة الغوري أمام البرتغاليين في معركة كالكوت على السواحل الإسلامية بالهند, وحينما دخل فاسكو ديجاما بجنوده من باب المندب، ووصل إلى جدة محاولاً هدم الكعبة والقبة الخضراء في المدينة فوجد السلطان سليم أن من العبث أن يقاتل الأوروبيين في الشمال، ويتركهم يلتفون حول البلاد الإسلامية ويدخلونها من وراء ظهره.. هذه هي القراءة الصحيحة للحدث.
وحدث آخر تتضح فيه القراءة الخاطئة والقراءة الصحيحة تماماً» ذلك ما درسونا إياه باسم الكشوف الجغرافية, فهذه في الواقع لم تكن حركة كشوف علمية، وإنما اسمها الحقيقي عند أصحابها الغربيين «الالتفاف حول الشواطئ الإسلامية وتطويق العالم الإسلامي» كما سمّاها توينبي المؤرخ الإنجليزي نفسه, أما نحن فاستخفوا بعقولنا وضحكوا علينا وسمّوها الكشوف الجغرافية.
وعلينا عند كتابة التاريخ أو عرض التاريخ أن نلاحظ المستوى العمري والعقلي الذي ندرس له التاريخ؛ فهناك مستوى ينبغي الاقتصار فيه على الملامح العامة الرئيسة, ثم هناك مستوى بعد ذلك يدخل في شيء من التفصيل, ثم هناك مستوى أكثر تفصيلاً إلى أن نصل إلي فيلسوف التاريخ الذي يبحث عن العلل والأسباب وليستخلص القوانين والنظريات, فهذا توضع أمامه الصورة كاملة بكل دقائقها.
العدوان على التاريخ بسلاح الموضوعية
وهل هذه ملامح المنهج الذي تدعو إليه في كتابة أو عرض التاريخ؟
الحقيقة أنني أشكو إلى الله هؤلاء الذين أُسميهم أدعياء الموضوعية, فهؤلاء باسم الموضوعية يعيدون في أخطاء وعثرات في التاريخ الإسلامي، وهي موجودة، ولا شك فليس رجال التاريخ الإسلامي معصومين, ولكن باسم هذه الموضوعية نجد هؤلاء يعمون عن كل شيء إلا الأخطاء والعثرات, بل لا يدققون فيما يروون ويحكون، فكثيراً ما يذكرون الأباطيل على أنها حقائق، وإذا ناقشتهم يُقال لك: ولماذا نخفي الأخطاء ونكون كالنعام? نحن نريد (الموضوعية)..!! ومثال ذلك, نفي أبي ذر إلى الربذة, فقد أحصيت نحو مائتي كتاب عن أبي ذر وكلها تتحدث عن نفيه، وتدور حول عظمة أبي ذر كأنها لا تستطيع أن تثبت عظمة أبي ذر إلا إذا جعلت الآخرين غلاظاً قساة ظلمة ينفون هذا الزاهد العظيم, مع أن واقعة النفي هذه لم تحدث، وهي محض كذب واختلاق, وعندي دليل قاطع وهو حديث رواه البخاري عن أبي ذر نفسه, حينما سُئل عن واقعة النفي فقد نفاها أشد النفي، ولكن مازال هؤلاء (الموضوعيون) يرددونها.
ومن هنا أقول: لا يمكن أن نخفي الحقائق إطلاقاً, فنحن نعلم أننا لا نكتب تاريخاً لملائكة, وإنما نكتب تاريخاً لبشر, وكل بني آدم خطاؤون, فأبدًا لا أدعو إلى إخفاء الحقيقة, ولكن علينا أن نلتزم بضابطين: أن نتأكد أنها حقيقة بالأسلوب والمنهج العلمي. وأن نضعها في سياقها، ولا نقطعها عما قبلها، وما بعدها ونذكرها مجردة عن أسبابها ودوافعها وما يحطّ بها. ثم ينبغي أيضاً أن ننظر إلى المستوى العمري والعقلي الذي يقدم الموضوع.
ما تقييمكم للجوانب الفكرية للتيار الإسلامي المعاصر في ضوء خبرتكم التاريخية؟
ينبغي على جميع العاملين في الحقل الإسلامي أن يتأكدوا أن الخطوط متوازية وليست متقاطعة, فالجماعة التي تُعنى بالعمل الاجتماعي الخيري جهدها مقبول معروف غير منكور, والجماعة التي تُعنى بالعمل السياسي الإسلامي أو تُعنى بكل ذلك تصب في نفس المجال وجهدها مشكور مقدور. وعلى كل العاملين في الحقل الإسلامي أن يفسح بعضهم لبعض، ولا يعوق بعضهم عمل بعض، ولا ينتقص بعضهم عمل بعض» فالحقل الإسلامي يسع كل العاملين, بل إنني أدعو الإسلاميين جميعاً إلى التعاون الكامل مع كل التيارات المخلصة العاملة للأمة من قوميين, بل وعلمانيين ما داموا لا يسعون إلى إقصاء الآخر واستئصاله, وليعلم الجميع أنهم كلهم في خندق واحد, فليقبل الإسلاميون من بعضهم بعضاً، مادامت الوجهة كلها نحو إنقاذ الوطن والأمة
=============(24/476)
(24/477)
ما بعد الجماعات
د. محمد العبدة 18/4/1426
26/05/2005
مدخل:
ليس هذا المقال دعوة لإلغاء الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة اليوم، ولا لتجاوزها إنكاراً لجهودها، ولكن للمحافظة على مكتسباتها والتقدم بها نحو بنية تحقق المزيد من العمل والمزيد من الأمل، التقدم نحو مرحلة تستطيع هذه الجماعات أن تجترح الحلول للمشكلات القائمة، وأن تتجدد في الأهداف المرحلية ومعرفة الواقع (1).
القضية اليوم ليست قضية جماعات، وإنما قضية أمة لم يعد لها كلمة مسموعة، وليس لها ثقل سياسي تفرضه على الآخرين، ولا نتكلم هنا عن الغايات والنوايا(ونرجو أن تكون سليمة) ولكن نتكلم عن الوسائل والمراحل والنظر إلى المستجدات والتحديات، والتجديد في الفكر والهيكلية. إن وجود تجمعات وجمعيات داخل جسم الأمة الإسلامية ليس أمراً غريباً أومستحدثاً، بل قد يكون واجباً في بعض الظروف، وذلك عندما تحدث تحوّلات كبرى وتُقام دول وتسقط أخرى. وأصل وجود مثل هذه التجمعات شيء مطلوب داخل المجتمع، قال تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [آل عمران:104] وقال تعالى: ( وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف:159] والتعاون على البر والتقوى مأمورٌ به شرعاً.
وتكون التجمعات أحياناً من الأمور الفطرية، فكما أن في الإنسان غريزة حفظ الذات، فكذلك عنده غريزة حب التجمع وحب الانتماء والشعور الجماعي في حدود الأسرة أو القبيلة أو الحزب ... الخ. ومن هنا جاء تأسيس الجمعيات والجماعات بعد سقوط الدولة العثمانية، وبعد تقسيم العالم العربي وفقدان المرجعية السياسية، ومحاولات التشويه والتغريب الذي تعرّض لها المسلمون عن طريق الاستشراق والتبشير والمدارس الأجنبية، فكان رد الفعل تأسيس الجماعات دفعاً لهذا البلاء النازل، وفوائد الجمعيات كثيرة جداً، خاصةً عندما يتسنى لها الثبات على مشروعها مدة طويلة مما لايفي به عمر الفرد. وقد وُجد في المجتمع الإسلامي زمن الدولة العباسية والدولة العثمانية تجمعات كانت تساعد المستضعفين في المدن، وكانوا يسمون في بغداد بـ(الفتوة) وفي دمشق بـ(الأحداث)، هذا عدا عن وجود التجمعات المهنية؛ إذ يكون لكل مهنة رئيس يشرف على أفرادها ويفض الخصومات فيما بينهم ويعلم المنتسبين الجدد. يقول ابن تيمية -رحمه الله- عن التجمعات وشرعيتها (فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يُقال له: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محموداً على ذلك، وإن كان شراً كان مذموماً على ذلك، وإن كان أهل الحزب مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة أو نقصان فهم مؤمنون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمّن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أو الباطل فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم )(2) .
واقع الجماعات والاخطاء التي وقعت فيها :
لاشك أن الجماعات- وخاصةً الكبرى منها المعروفة- قد أدت دوراً إيجابياً قلَّ أو كثر، وأوجدت مناخاً إسلامياً عامَّاً، وأوجدت -بفضل الله- أجيالاً من الشباب المسلم يتفهمون الإسلام، ويعملون من أجله، ويستعدون للتضحية في سبيله، هذا مما لا خلاف فيه، وليس حديثنا اليوم عن الإيجابيات فهي معروفة.
سارت هذه الجماعات في طرق ودروبٍ طويلة وشائكة، أصابت وأخطات، ونشأت من خلال الأحداث محاولات للمعالجة ولكنها كانت جزئية ومحدودة الأثر، كان لكل جماعة من هذه الجماعات منهجه ورؤيته للأحداث، وتظهر مدى اقترابه أو ابتعاده عن الثوابت والأصول، وكان لكل جماعة أهداف مرحلية قد تكون حققت بعضها وأخفقت في البعض الآخر، ولكن عندما انتهت هذه الأهداف وجدت نفسها أمام جدار مسدود، ومع الزمن أُصيبت بالجمود والتكلّس والتصلّب وخاصة في الهيكلية التي هي من معوّقات الانتقال إلى مرحلة أفضل وأقوى. لقد تغيّرت الظروف، وسقطت إمبراطوريات ودول، وجاءت ثورة المعلومات، وجاءت (العولمة) سيئة الذكر وكبرت التحديات، ولكن طرائق وأساليب الجماعات في التربية والإعداد والنظرة إلى الحاضر والمستقبل لم تتغير كثيراً.
هناك مبررات تستدعي هذا الانتقال والتحوّل، مبررات من داخل الجماعات، هناك أخطاء وأمراض مزمنة لا فكاك منها إلا بالانتقال إلى حال أخرى، ومن هذه الأخطاء:
1-الحزبية:(24/478)
إنني أعتقد أن طريقة تأسيس الجماعات والهيكلية التي بُنيت عليها (وكانت في زمن وظروف معينة)، هذه الطريقة تحمل في داخلها جراثيم الحزبية، سواء قلّت أو كثرت؛ لأن الجماعة عندما انفصلت عن جسم الأمة، ولم تحاول بعدئذٍ تجديد نفسها والارتباط بجمهور الأمة مرة ثانية، وإقامة المؤسسات الفكرية والعلمية لاستيعاب القدرات والأذكياء، فلابد أن ينشأ مرض الحزبية، وهو مرض عضال، أضر كثيراً بالجماعات الإسلامية وفرقها وأضعفها؛ لأن الفرد عندما يكون داخل مجموعة صغيرة، ويُقال له: منهجنا هو الأصوب، فسيكون إنساناً منغلقاً متعصباً لجماعته، لا يقبل بسهولة ما عند الآخرين، والطريقة الحزبية تكون دائماً لاهثة وراء كسب الناس، فإن لم ينصتوا إليها تقوقعت على نفسها واتهمت الآخرين. وفي الطريقة الحزبية يقفز أنصاف المتعلمين ليبعدوا المؤسسين الأوائل، ويتظاهرون بالحماس الزائد للوصول إلى المناصب، وقد يكون خارج هذه الحلقات الضيقة من هو أكثر تقًى وعلماً، ولكن لأنه لم يلتزم بالجماعة فلا يُستفاد منه، ويضغط المتعالمون الذين يظنون أن بانتسابهم إلى الجماعة وتغنيهم بشعاراتها وقراءة كتبها يرتفعون إلى درجة الفكر والمفكرين (ومن ملاحظات علوم الإدارة في الشركات التي فقدت المرونة أن الابتكارات تأتي غالباً من أشخاص لا يعملون في الشركة أو من أولئك الذين تعدّهم الشركة غير منضبطين بأنظمتها) (3).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك، فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان، والذي يبني محبته وبغضه ومعاداته ونصرته على الانتساب لأسماء معينة أو مذهب معين أو جماعة أو حرفة فهذا من أمور الجاهلية المفرقة بين الأمة)(4) .
2- القيادة:
ربما لا يشك أحد بأن هناك مشكلة في القيادة، وربما يتذكر الدعاة والقراء شعار مجلة الفتح لصاحبها محب الدين الخطيب رحمه الله (المسلمون إلى خير ولكن المشكلة في القيادة) فما جذور هذه المشكلة التي تظهر خاصةً عندما يذهب المؤسس الأول أو عندما يغيب عالم كبير؟. إن غياب الممارسة الحقيقية للشورى، وغياب الممارسة العملية للإدارة والقيادة من قبل الصف الثاني، وعدم التأسيس لهذا الجيل هو أحد هذه الأسباب، فالقيادة ليست موهبة فقط، بل يمكن أن تأتي بالتعليم والممارسة مع وجود العناصر الأخرى الضرورية. ومن الأسباب أن المجتمعات الإسلامية -وبسبب تخلفها الحضاري- لا تزال تحلم بالرجل الأوحد والبطل الملهم الذي تتركز كل الأمور بيده، ويُطلب منه أن يحل كل المشاكل، فمثل هذا الشخص ـ إن وجد ـ وأرضى غرور الناس، ولكنه لا يستطيع في الواقع أن يقوم بشيء كبير.
إن القيادة عندما تتحمل الأعباء الكثيرة، ولا يتهيأ لها العوامل المساعدة من الأفكاروالأشياء، فربما تسير مرحلة وفترة معينة يكون فيها نشاط، وفيها عمل وإنتاج، ولكنها ستتوقف بعدئذ ثم ينكفئ العاملون على أنفسهم، وتتحول الاهتمامات إلى شؤون أكاديمية بحتة.
والملاحظ أنه لا يوجد في البرامج التربوية شيء من المقارنة والنقد، ولا توجد هذه الصلة العميقة بين القيادة والأجيال الجديدة، ومن المؤسف أن تجري الأمور على الشكل التالي:
الذي يتقرب من المسؤول أو على الأقل يسكت، فهو المرضي عنه ويصعد إلى أعلى المسؤوليات، وأما الذي يناقش ويسأل فهو(مشاغب) غير منضبط، ولا يفهم السرية والعمل الحركي ويجب أن يُفصل!!
ومن التأملات العميقة في طبيعة الاجتماع الإنساني لمؤرخنا الكبير ابن خلدون، أن بعض الدول بعد أن يستقر بها الحال تبدأ بإبعاد من شاركوا وساهموا في التأسيس حتى لا يكون لهم منَّة ودالَّة على الدولة، وتأتي بأناس بعيدين لا حول لهم ولا طول، ينفذون ما تريده الدولة، وبعض الجماعات تفعل مثل هذا.
إن بعض القيادات لا يحبون الظهور العلني، ولكنهم يريدون التحكم في الدعوة من وراء ستار، فيضعون واجهة ضعيفة هي القيادة في الظاهر وأمام أعين الناس، وهكذا تفعل بعض الطغم العسكرية في البلاد المتخلفة.
وفي كثير من الأحيان كان المعيار في تفوق فلان ليكون قائداً وزعيماً (مدى الحياة) هو تفوقه في الخطابة، وعندما تكون الأمة في حالة تخلّف فإنها تسحرها الكلمة الخلابة والصوت العالي.
3-المنهج:
لم تستطع الجماعات الإسلامية تطوير مدرسة تربوية واعية بتحديات العصر ومشكلات الواقع، قادرة على إنزال (آيات الكتاب) على الواقع القائم، ولم تبلور مشروعاً نهضوياً متكاملاً، وما قامت به من دروس علمية وتربية خاصة لإيجاد الشباب الصالح، فهذا شيء لا ينكر بل يشكر، وهو عمل جيد، ولكنه لا يكفي لمشروع كبير، وبعض الجماعات التزمت بالعموميات في المنهج العلمي والعقدي حرصاً على تجميع أكبر عدد من الأنصار، سواء كانت أفكارهم صحيحة أم فيها انحراف عن المنهج القويم.(24/479)
وبسبب الاضطراب وعدم الوضوح في المنهج، دخل البعض في معارك سياسية قبل أوانها، وكانت نتائجها وخيمة، وكانت ردة الفعل إما الابتعاد كلياً عن الشؤون العامة أو الدخول بفكر وعقل ذرائعي ليس له حدود ولا ضوابط. ومازال العمل الإسلامي ومؤسساته يسيرون على نظرية (إذا صلح الفرد صلحت الأمة) وهي مقولة تُذكر وكأنها بديهية من البديهيات، وظاهرها صحيح ولكن فيها تبسيط لقضية كبيرة. وكانت نتيجة هذه النظرية أن وجد عدد غير قليل من الأفراد الصالحين، ولكن ليس لديهم فقه (بناء الأمم) فالبناء المرصوص ليس حجارة، وإنما هو حجارة مصقولة مشدودة بالإسمنت والحديد، وحسب قوانين هندسية تتعلق بعمق الأساس وسمك الجدار... وهناك عوائق ومؤثرات ثقافية واجتماعية تعيق الفرد إذا لم يوضع ضمن مشروع متكامل.
ومن الاضطراب في المنهج رفع الشعارات الكبيرة التي يصعب تحقيقها في الواقع وتحول الوسائل إلى غايات، فالجماعة بنظمها ومؤسساتها هي وسيلة للعطاء، وخميرة للنهوض، ولكن هذه النظم تحوّلت إلى غاية يجب الحفاظ عليها ولو بالانغلاق عن الأمة، وعدم الاستفادة مما عند الآخرين، فكل شيء يجب أن يقبل باسم (التنظيم) والمصلحة. مع أن حفظ الدين والعقيدة أهم من حفظ الجماعة وحفظ النفس والمال، والدليل قصة موسى عليه السلام حين قال لأخيه هارون: (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) ولما رجع موسى عليه السلام وجد قومه يعبدون العجل، فقال مخاطباً هارون عليه السلام: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ؟ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) [طه: 92-94].
قال الشيخ الطاهر بن عاشور: (هذا اجتهاد من هارون في سياسة الأمة؛ إذ تعارضت عنده مصلحتان: مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجماعة من الهرج، وحفظ الأنفس والأموال فرجح الثانية، وكان اجتهاده مرجوحاً، لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة، لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع.....) (5).
ومن الاضطراب في المنهج أو النقص فيه، ما يُلاحظ من معالجة أعراض المرض وعدم معالجة جذوره، فالوعظ والإرشاد يتجه دائماً إلى مشاكل سطحية تظهر في تصرفات أفراد المجتمع، ولكن لا يُنظر إلى الأسباب العميقة التي أوصلت المجتمع إلى هذه المشاكل أوهذا التفلت الأخلاقي.
بعض التجمعات الإسلامية الصغيرة تمثل حالة اغتراب وانسحاب من الواقع ربما لأن المجتمعات الإسلامية مصابة بحالة (الشح) العلمي أو الخيري.
4-التجدد:
من أخطر الأمور التي تواجه المجتمعات أو الجماعات أن يسيطر الجمود الذهني عليها؛ فلا تعود هذه الجماعات عندها القابلية للتجدد والتحسين، عندها تسيطر مقولات وقوالب لا تناسب الواقع، أوتسيطر عادات وتقاليد يصعب تركها. والنهوض الحضاري لا بد له من قدرة على تحقيق التوازن بين الثوابت والمتغيرات، وإلا فقدت الجماعة المرونة والحيوية. أعرف أناساً يردّدون كلام مؤسسي الدعوة أو بعض المفكرين الذين عاشوا قبل عقود من الزمن، وكأن كلامهم منزل، ويبدو من حال هذا الذي يردّد كلامهم أنه لم يقرأ شيئاً جديداً منذ عشرين سنة، ولم يطلع على فكرٍ أوعلم، ولم يوسّع من ثقافته أو يمارس عملية الانفصال والاتصال، الانفصال عن مفاهيم وأشكال وأطر وتنظيمات عفا عليها الزمن، واتصال بالثوابت والعلم والمستجدات وكيفية بناء الأمم. فهناك تحديات كبيرة لا ينفع معها اللجوء إلى النظم والهياكل التي لا تصلح للعمل من خلالها. وهذا لا يعني أنه لم يقع تجديد أبداً، بل كانت محاولات ولكنها جزئية، ولم تستطع التجدد المتكامل، ولذلك نرى ونسمع بين كل فترةٍ وأخرى انسحاب مفكر أو مثقف من الجماعة الفلانية لأن طبيعة تكوينها ونظمها لا تساعد في ـ الغالب ـ على استيعاب أهل الفكر والعلم، ولا تساعد على تهيئة كل الأجواء المناسبة لأداء دورهم، وهكذا تخسر الجماعات صفوة المجتمع. ومن العجيب أن بعض هذه الجماعات تستمر في التعيّش على سمعة هؤلاء المفكرين أو العلماء، وفي الوقت نفسه تحذر أعضاءها من أفكارهم وقراءة كتبهم!
ربما كان استمرار بعض هذه الجماعات يعود إلى أنها تسير بالدفعة الأولى، فعندما يكون المؤسس قوياً ومخلصاً يعطي العمل دفعة قوية، ولكنها مع الأيام تضعف وتهرم بسبب عدم التجدد.
إن تطلعات المسلمين وحركة التاريخ لا تنتظر أمثال هؤلاء (المحنطين) الذين يعيشون على أمجاد فتراتٍ معينة من الزمن الماضي.
5-عندما تكون النتائج ضعيفة(24/480)
رغم الجهود الكبيرة التي بُذلت وتُبذل خلال عقود من الزمن، فلا بد أن في الأمر شيئاً، لابد من وجود خلل ما في الوسائل أو المراحل، وأما مقولة نحن عملنا وليس من الضروري أن تقع النتائج، فهذه حيلةٌ نفسية لإرضاء الذات، لأن الله سبحانه وتعالى وعد بالنصر والتمكين للذين ينصرونه، وربما يؤجل هذا النصر لأسباب، وربما تكون هزائم وانتصارات، أما ألاّ يكون هناك انتصارات، فهذا يحتاج إلى مراجعة شاملة وصريحة، للمنهج وطرق التربية، ومراجعة شاملة لصدق النوايا وأعمال القلوب والأخلاق المطلوبة.
ماذا نريد؟!
بعد هذا الجمود أو الفتور الذي نلحظه، وشعور الجميع بأنه لا أحد يستطيع وحده أن يقوم بالمهمة الكبرى، ألا يجب أن ننتقل إلى مرحلة أقوى وأكبر؟ مرحلة تُزال فيها هذه السدود التي صُنعت، وهذه الجدران العالية التي بُنيت، ويتحول العمل الإسلامي إلى تيار يعتمد على مؤسسات ذات خبرة فقهية وثقافية وسياسية واقتصادية. يشارك هذا التيار في صنع الأحداث، حتى لا يُنظر إلى المسلمين على أنهم من المستضعفين الذين تفكر كل جهة حاقدة في تحجيمهم وضربهم.
لماذا لا يتحول العمل الإسلامي إلى تيارشعبي، الكل يحمل هم الإسلام، حتى لا تبقى الدولة جسماً منفصلاً عن الأمة، جسماً يشعر الفرد ازاءها وكأنه ذرة رمل تطحنها آلة جبارة؟!
إن العلاقة بين الجماعة والأمة هي كالعلاقة بين الشجرة والتربة، وانقطاع الصلة بينهما سيكون من بعده اليبوسة، قلت لأحد الأخوة وكان يكلمني عن ضعف الموارد المالية عند الجماعات، قلت له: عندنا ثروة بشرية. لماذا لا نسخرها في سبيل الأهداف السامية التي نحملها؟ عندنا شباب ذكي متعلم، أينما توجهه يأت بخير. لماذا لا ندفع هؤلاء الشباب لخوض معركة الحياة ؟ معركة الحق والباطل، ففي هذا العصر الذي تطرح فيه مسالة (العولمة)، لا بد أن تكون المبادرات كبيرة وغير مبعثرة. يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي: "إن رجل الشعب يمارس الأفكار بقلبه وعقله معاً، بينما لا يقرأ (المثقف) عندنا إلا بعقله، فرجل الشعب يتمتع بالبداهة الصادقة" (6). ويلاحظ أحد المفكرين أن "الجماعات عاملت المجتمع الإسلامي على أنه متلقٍ للخطاب النهضوي، ولم يُعامل على أنه يمكن أن يكون فاعلاً في التعبئة لذلك الخطاب.."(7). ويرى الشيخ طاهر الجزائري "أنه لا بد من تثقيف (العامة)؛ لأنهم برأيه أطوع للحق من كثير من المنتفعين بالدين، خاصةً إذا تتبع المصلح الحكمة في دعوتهم وأعطاهم من العلم ما تطيقه عقولهم.
عندما يعطي تصرف الجماعة انطباعاً بأنها هي المسؤولة عن الإسلام، فهذا يجعل بقية المسلمين يركنون إلى شيءٍ من الراحة والكسل وعدم تحمل المسؤولية، ومن الأمور التي تساعد على تشكيل هذا التيار العريض:
1- الاهتمام بالجمعيات والمؤسسات المدنية بشتى أنواعها سواء أكانت خيرية أو علمية أو اجتماعية أو اقتصادية، فهذه كلها قوى للوطن وللأمة ومنابع حياة لها.
2- الاستفادة من الكيان القبلي كمؤسسة اجتماعية فطرية: والإسلام كما هو معلوم، لم يحطّم التنظيم القبلي، بل رشَّده ودمجه في نطاق الأمة، وطهّره من المفاهيم الجاهلية. (والجماعات الإسلامية لم تستفد من هذا الكيان، ربما للشعارات الكبيرة التي رفعتها (الوحدة الإسلامية..) أو كرد فعل على الدعوات القومية) (8).
3- جمعيات العلماء:
وهم أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين ويصدرون عن تشاور، وهم يجتهدون في النوازل المعاصرة، حتى لا تتحول الاجتهادات الفردية إلى فوضى علمية، فالخلافات بين أولي الألباب مهما اشتدت تظل محكومة بأخلاق أهل العلم وتسامحهم بينما نجد في العقلية الحزبية إذا ما حصل خلاف فإن الكبار يوجهون الصغار لممارسة أبشع ألوان الأذى والضرر للخصوم، مع تتبع العورات، وتفجر المؤامرات داخل الجماعة الواحدة. لا بد للمسلمين من هيئة تنظر في أمورهم، مع علمنا أنه ليس أحدٌ بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يدّعي له العصمة، ولكن في عمل المؤسسة يحصل النقاش وتبادل الآراء، وفي النظام الحزبي لا أحد يناقش أفكار الزعيم، والقرآن الكريم يوجه لهذه المكانة لهؤلاء: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ((122) . والأمة إذا فقدت قيادتها الربانية فإنها تتعرض لشياطين الإنس ليجتالوها عن عقيدتها وهويتها، وإذا كان لا بد من تكامل بين أهل العلم وأهل الثروة، فالقيادة يجب أن تكون لأهل العلم.(24/481)
4- الاهتمام بالثروة البشرية: وخاصة (أولي الألباب) والاذكياء من الشباب الذين يطورون النظريات التربوية، ويقودون المؤسسات، وهكذا كان جيل الصحابة، الذين أكرم الله بهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد كانوا أذكياء نابهين عقلاء، فلما جاء الاسلام كانوا كما قال تعالى: (نورٌ على نور) .1- حدثني أحد الأخوة الثقات أن أحد شيوخ هذه الجماعات طلب من القيادة اجتماعاً لبحث مشكلة كانت قد انتهت وانتهى أصحابها، فقال له شاب : يا شيخ كأنك لم تقرأ في القرآن قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع الجن ؟
2 - الرسائل والمسائل 1/161
3 - بشير شكيب الجابري : القيادة والتغيير /53
4 - الفتاوى، مجمل اعتقاد السلف 3/342.
5 -انظر: أحمد الريسوني (نظرية التقريب والتغليب) /381 .
6 - في مهب المعركة /187 .
7 - عبد المجيد النجار: عوامل الشهود الحضاري 2/287 .
8 - المصدر السابق 2/287.
=========(24/482)
(24/483)
صورة المسلمين والعرب في العالم2/2
إعداد: خلود العيدان * منيرة الدهش 11/3/1426
20/04/2005
(نحن) في إعلامهم حقيقة،،أم،،خدعة!
(الإعلام)..
القوة العظمى في هذا العصر..
هي العصا (الغير سحرية) التي تصل النقطة العليا بالسفلى من الكرة الأرضية..
وهي التي تدير دفة الحوار دون طاولة مستديرة..
هي حرب و سلم .. حقيقة وخدعة ..
هي فرصة العض عليها (واجب) لأنها لغة الزمن الذي نعيشه..
الصورة بلا ألوان بلا خلفية لابد ناقصة.
أضحى قتل المعلمين والكتّاب والصحفيين والفنانين أفعالاً إسلامية تكتسب شرعيتها من هذا الدين وتعبر عن الكراهية للقيم الغربية!..
هذا بالضبط ما يتصوره بعض محرروا الصحف العالمية..
وحينما يصف الصحفي الكتابة،الإبداع،التعليم أوالفن في المجتمعات الإسلامية فهو يصورها قيماً غربية
تنتمي للنظام الغربي الذي يحاربه الإسلاميون..ولا يمكن اعتبارها جزءً من الثقافة المحلية أو نظام القيم المحلي..
كما يمكن ملاحظة أن الإسلام من خلال تغطية أخباره في الإعلام العالمي قد تمَّ تحويله إلى (نظام من الرموز) Signs تتكرر بشكل مستمر من أشخاص ذوي لحى طويلة وكثَّة ونساء محجبات وأيدٍ مرفوعة غالبًا تمسك بشعارات الجهاد أو الشهادة أو الموت للشيطان وجماهير متعصبة جامحة.
مؤامرة العربي على نفسه.
حقيقة ترصدها الأستاذة غادة الخضير الكاتبة والمحاضرة في قسم علم النفس بجامعة الملك سعود في قولها:
(إن انشغال الإعلام العربي بقضايا "المؤامرة الغربية" وتركيزهم عليها في حين أن المؤامرة الحقيقية إن وجدت فهي مؤامرة العربي على نفسه بعدم دفاعه عن ذلك التشويه الذي يتعرض له ويخطط لتحسين صورته في الإعلام الغربي).
كما أضافت:
(إن الإعلام الغربي من وجهة نظري إعلام مفصول عن شعبه أي ليس بالضرورة أن ما ينقل يعبر عن الشارع الغربي والذي هو بدوره جاهل بالآخر العربي إلا في ضوء الوجبة الإعلامية التي تقدم له ؛ خاصة وانه قد نصل في تفكيرنا إلى أن الهجمة ضد العرب هي هجمة اتحادية بين وسائل الإعلام الغربي والشارع الغربي وهذا في رائي غير صحيح إذ أن العقل الغربي يستجيب للخدعة الإعلامية شأنه شأن غيره من العقول مما يجعله يستقبل الصورة المرئية أو المسموعة أو المقروءة عن العرب وفقا للطريقة التي تقدم بها أي أن الغرب مخدوع بأعلامه اكثر من انخداع العرب بتلك الصورة المتكاملة عن الشارع الغربي ووسائل إعلامه).
- نحن في عناوينهم:
الصحافة العالمية وإن أخذنا الصحافة البريطانية على وجه التمثيل لا التخصيص..
ساهمت في بناء صلة وثيقة بين كل ماهو (إسلامي) وبين (أفكار)و(أفعال) العنف والإرهاب واحتقار حياة الإنسان وحقوقه ولاسيما المرأة والأقليات..
ونظرة سريعة لعناوين بعض الصحف البريطانية كفيلة يتوضيح مدى ترسيخ هذه الصلة في ذهن القارئ..
"المسلمون البريطانيون يرسلون إلى معسكرات تدريب إسلامية".
"إيطاليا تشدد من إجراءات الأمن بعد تحذير بعمل إرهابي إسلامي".
"كلينتون يرأس قمة ضد الإرهاب الإسلامي".
"فرنسا تخشى من عملية إرهابية إسلامية طويلة".
"متعصبون إسلاميون يقتلون بريطانيًّا في إطار حملة إرهابية".
"المسلمون المتطرفون يتحدون الرؤية الأوروبية العلمانية للدولة".
جدلية الموضوعية والتحيز و (تأطير الإسلام):
هل الإعلام الغربي موضوعي في تصويره للإسلام!
إن الصحافة في الغرب غالبًا متهمة بتقديم صور ذهنية متحيزة عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية..
وغالباً من يرفع أيادي التظلم ويقف مستنكراً هو المسلم ذاته..
ولكن البعض يرفعها (تمتة) بينه وبين ذاته ولا يشرع في العمل لتصويب الصورة!
إن الصورة والحرف التي تعتمد عليها الصحافة الغربية بإمكانها تقريب العدسة تصغيرها،تعظيمها،وحتى التحكم بألوانها..
لذلك فالموضوعية دائمًا نسبية وترتبط بنظام مفاهيمي معين وقيم ثقافية، غير أنه مثلما تثير فكرة التحيز جدلاً شديدًا، فإن فكرة الموضوعية أيضًا لا تخلو من بعض المشكلات، حيث لا يستطيع أحد من العاملين بأجهزة الإعلام الغربية ادعاء الموضعية فيما يكتب عن الإسلام؛ لأن الموضوعية- كما أوضح كثير من الدارسين- تنتفي حينما يكون هناك صراع أو خلاف بين النظم والمفاهيم والقيم الثقافية السائدة في مجتمعين مختلفين. الموضوعية إذن وفق ذلك المنظور تصبح "فعلا سياسيا" لممارسة السلطة على الآخرين.
وإذا كانت الموضوعية برأيهم مثار خلاف فماذا عن التأطير!
إن الإطار الذي يحمل الإسلام والمسلمين بداخله يكاد يكون جامداً بل هو كذلك..
لا يحمل مرونة لتوضيح أن ذاك جانب وحتى هذا الجانب يملك مسببات وتبعات لا يظهرها الإطار.!
*يفهموننا من خلالهم..(24/484)
إن بدايات الظهور الإسلامي في الإعلام الغربي كان مركبًا أساسيًّا في البناء المفاهيمي للصورة النمطية للإسلام في أجهزة الإعلام البريطانية، حيث تم تصوير المسلمين وكأنهم يمثلون كل ما هو معاكس للغرب، وبالفعل فإن بعض الكتابات الغربية - وحتى الإسلامية في بعض الأحيان - أدت إلى التركيز المطلق على أبنية مفاهيمية وقيم ثقافية لكل من الجانبين حينما تبنت النسق الغربي على أنه الإطار المفاهيمي الوحيد الذي يمكن من خلاله فهم الوجود الإسلامي والإخبار عنه.
إذاً أضحى الإعلام الغربي هو المصدر الإعلامي لفهم الإسلام..
وهذا ما أوضحه (نوبوأكي نوتوهارا) في كتابه (العرب وجهة نظر يابانية) حيث قال:
(نحن فهمنا بالتدريج،الآن أصبحت الأمور واضحة،في البداية كررنا ماقاله الاستشراق الغربي لم يكن عندنا مصدر آخر للمعلومات.أحسسنا أنهم لا يقولون الحقيقة أحياناً.والقضية الفلسطينية مثال ممتاز على ذلك،لقد فهمنا متأخرين هذا صحيح ولكننا فهمنا.
حتى الصحافة عندنا كانت تقدم القضية الفلسطينية لليابانيين نقلاً عن الإعلام الأمريكي والأوروبي أما الآن تغيرت الصورة الصحفيون أنفسهم فهموا أن ذلك الإعلام لايقول الحقيقة .. .. لقد فهمنا أن علينا أن نستقبل الكتابات الغربية بحذر وتدقيق وحيطة.يوجد صحفي ياباني معروف درس في إسرائيل وعاد مؤيداً للقضية الفلسطينية لأنه رأى بنفسه التناقض بين ما تقوله وسائل الإعلام الإسرائيلي وبين الواقع.انتهى)
و الإعلام الغربي بذلك قدم الأرضية التي تم فوقها بناء صورة للإسلام أصبحت في حكم التقديس
أو موثوقاً بصحتها على حد قول (إدوارد سعيد).
ولا بد من الاعتراف بحقيقة أن الغرب قد احتل بالفعل مكانة سائدة في (الخطاب الإسلامي) غير أن بعض التقارير الصحافية الغربية - بل وبعض الكتابات الإسلامية - قدمت تصويرًا للوجود الإسلامي فقط من خلال علاقته بالغرب والهيمنة الغربية وكأنه مضاد للقيم الثقافية الغربية!
وقد أسقط تمامًا من حسابات هؤلاء الكُتَّاب أن فهم ودراسة المجتمعات الإسلامية لا بد وأن يتم في إطار منظومة من العلاقات وليس عنصر واحد مهما كانت قوته!
* الغرب واللا غرب..(ثنائية الإسلام والغرب):
إن الخطاب الإعلامي حول الإسلاميين كان يجنح لاستخدام ثنائيات الإسلام والغرب.
ويصور هاتين الفئتين على أنهما نقيضين!وكأن العالم تم تقسيمه إلى غرب و(لا) غرب.
وفي حال أن الـ(ـلا) مضافة لعالمنا الإسلامي فلابد أن (الأصل) مجرد من اللا.!
وبالتالي نجد أن هناك تناقضًا بين الحداثة التي يمثل الغرب خلاصتها بالحضارة والديمقراطية والعقلانية والحرية، وبين اللاحداثة التي تمثل البربرية واللاعقلانية والعبودية.
*الآراء تعبر عن كاتبها أم ماذا؟!
رأي الكاتب واتجاه القلم حق شرعي أياً كانت الديانة.
وفي المقابل فإن هذا الحق يحفظ للكاتب رأيه كما يحفظ للقضية حق المناعة ضد التحيز والمغالاة.
وهنا نأتي لـ اللب الذي لم نمنح فيه حتى حق القشور!
فالتقارير الصحافية التي تتناول الإسلام والمسلمين لا تقدم على أنها تقارير تحوي وجهات نظر سياسية تمثل كاتب المقال أو أنها قد تحوي - أحيانًا في طياتها - آراء متحيزة، إلا أنها تقدم وكأنها الحقيقة بذاتها لا تشوبها شائبة أو جهل بحقيقتها أو حتى عدم إلمام بحيثيات المجتمع الإسلامي.
وهنا ليس الدفاع منبرنا بل مطالبة فقط بمنبر منصف أياً كانت أخطاء الخطباء.
أياً كان الكاتب فرد أم جهة فرأيه نظرة لا قاعدة معممة..
وهنا يشير دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" عن دور الإعلام الأميركي في دعم رؤية أميركا الاستشراقية تجاه الإسلام والمسلمين.فيقول: أن من أبرز وجوه هذا الدعم حرص وسائل الإعلام الأميركي -كمجلة ناشيونال جيوغرافيك الأميركية العريقة- على تصوير مظاهر التقدم والازدهار في إسرائيل وما تتمتع به من طرق سريعة واسعة ومنشآت حديثة تشبه نظيرتها الأميركية، وفتيات صغيرات يزرعن الزهور في حدائق منازلهن، في الوقت الذي تم فيه التأكيد في صور العرب على سباقات الخيول وحياة الصحراء والطرق الفقيرة والمباني المتهدمة والعجائز الفقراء المستضعفين أو المسلحين المتهورين.
كما يقول يوسف معمري من المجلس الإسلامي لمارسيليا (بفرنسا):
أن التلفزيون والصحف الفرنسية غالبا ما تنقل رؤية من جانب واحد ولا تعطي للسياسيين وزعماء الدين المسلمين مساحة كافية للإعراب عن رأيهم.
*الفصل بين الخبر والنطاق الاجتماعي!
أصبح أحد معالم التغطية الإخبارية العالمية هو الجنوح لتحقيق الفصل بين الحقائق الإخبارية والنطاق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي وقعت فيه، والذي أدى لظهورها بالأساس والذي لا يمكن فهم تلك الظواهر فهما صحيحًا إلا من خلاله.(24/485)
حيث يحتوي التقرير الإخباري على أخبار غير متوازنة: فبينما يشير إلى حوادث عنف لا يتحدث عن الأسباب التي أدت لوقوع تلك الحوادث. وهذا الإجراء من شأنه أن يقدم خطابًا إعلاميًّا خارج سياقه التاريخي حينما ينظر إلى تلك الهجمات وهذا العنف على أنه جزء من الموروث الإسلامي لا يحتاج إلى تفسير أو أن يوضع في نسقه التاريخي والسياسي الذي أدى لظهوره، وبالتالي يصبح كون هذا العنف أو تلك الهجمات أو احتقار المرأة وحق الحياة إسلاميًّا أمرًا بديهيًّا. العنف إذن - كما تبرزه الصحف العالمية - يرتكب لأن هذه الجماعات مسلمة تعتنق الإسلام، وبالتالي يتم الإخبار عن العنف وكأنه أمر محتم لتحقيق النظام الإسلامي.
(إشكالية المصدر إلى متى):
في أعينهم: المرأة و (الإحياء) الإسلامي الذي توفاها!
هناك ميل واضح نحو تقديم تساؤلات حول نواحي معينة في الإسلام - ولا سيما فيما يتعلق بالمرأة - وهذه التساؤلات كانت ومازالت سائدة في كثير من التقارير الإخبارية والمقابلات..
وهذا مانريده..نريد الفهم الأعمق للإسلام بأبنائه ومجتمعاته ولكن يكمن لب المشكلة في (المصدر)..
الذي لطالما كان حائلاً دون الحقيقة.
وهذا ما يتجلى في إحدى التقارير التي تناولت موضوع وضع المرأة في مصر في ظل ما أسمته المحررة بـ الصعود المتنامي للمد الإسلامي.
تبدأ الجملة الافتتاحية بالمقال على هيئة اقتباسه على لسان إحدى ناشطات حقوق الإنسان في مصر والتي عرفت في المقال على أنها (قبطية)، وتقول بأنها "تألمت بشدة لما آل إليه حال النساء في مصر؛ فبينما كانت نساء مصر في وقت من الأوقات رائدات الحركة النسائية في العالم العربي أصبحن متخلفات بفضل موجات (الإحياء الإسلامي)". وتنتهي الاقتباسة على مدى التقرير، حيث تم تصوير الإسلام - من خلال كلمات هذه الناشطة وسيدتين أخرتين من المدافعات عن حقوق النسوة - على أنه السبب الرئيسي وراء إقصاء المرأة من العمل العام ومعاملتها كمخلوق من الدرجة الثانية.
وصُوِّر الإسلام على أنه دين النسوة ذوي الخلفية الريفية المحافظة، وليس النساء اللائى ينتمين إلى الأوساط المتحررة المثقفة؛ ومن خلال التركيز على (الإحياء الإسلامي) تم تصوير الإسلام وكأنه العامل الوحيد الذي أدى لاضطهاد الفتيات القبطيات وأزال حقوق المرأة وأن النساء اللائى يطالبن بتلك الحقوق يقعن دائمًا تحت طائلة التهديد!
هذه التقارير مثيرة للمخاوف؛ لأنها ورغم حرص المحرر أو المحررة على التحدث إلى عناصر ومصادر محلية، إلا أنها وعلى الرغم من ذلك لا تقدم تقارير محايدة حينما تقوم بإقصاء الرأي السائد.
وهو في مثل هذا التقرير الذي يتطلب رأي النساء المسلمات اللائى يدور حولهن المقال في المقام الأول.
ولك أن تلحظ أنه اختار ناشطة حقوق إنسان قبطية للتحدث عن الاضطهاد الذي تواجهه المرأة من جرَّاء الإحياء الإسلامي.
لا بد أن نلحظ إذن كيف أن هناك مشكلة متعلقة بالمصادر التي توجد في تلك القصص الإخبارية، حيث تجنح معظم هذه التقارير إلى التحدث إلى أولئك الذين (يشبهوننا) أي يشبهون الغرب Those who a r e like us..
وهذا يثير قضية المصادر التي تُستخدم عند الكتابة عن الإسلام، وهنا يمكن ملاحظة ميل العديد من الصحفيين للتحدث إما إلى أصوات متطرفة تدعم صورة الدين المعروفة كدين عنف وتطرف، أو مصادر محلية ولكنها "مُغرِّبَة" تقدم على أنها ضحية هذا التطرف والعنف وتعاني من غضبة الإسلاميين وغالبًا ما تكون هذه الفئات إما النساء أو الأقليات.
الفن السابع العالمي عدد فردي لا (ينصف):
(إن السينما الأمريكية لديها دائما صورة نمطية للعالم الإسلامي ولشخوصه، لم تحاول أن تغيرها بل سعت عبر تاريخها الطويل لتؤكد على الصفات السلبية في الشخصية العربية والإسلامية من حيث طبيعة التكوين النفسي لهذه الشخصيات.
فهي إما خبيثة، أو ماكرة، غير مؤتمنة، لا يمكن الوثوق بها، قذرة، حسية وغرائزية!)
تغيير مؤقت!لماذا؟!
(وقد تكون هناك بعض الأفلام التي حاولت أن تقدم صورة شخصية العربي بشكل مختلف، إلا أن هذا الاختلاف كان يرتبط بظروف وملابسات سياسية في هذه الفترة. مثل فيلم "المحارب 13" والذي قدم العربي بشخصية مساعدة فاعلة وهذا كان مرتبطا بفترة حرب الخليج الثانية "غزو الكويت" وفيلم آخر وهو "روبن هوت" والذي قدم العربي كعالم وكمحارب شريف. وأيضا كان يرتبط بتلك الفترة وذلك من أجل تمرير عملية المساندة ما بين القوات العربية والإسلامية للولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد العراق.
وهناك أيضا أفلام كثيرة ستظهر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر واحتلال أفغانستان واحتلال العراق، لتؤكد على الشر الكامن والمتأصل في الشخصية العربية والإسلامية. )
هذا ما قاله الأستاذ علاء عبدالعزيز المدرس المساعد بالمعهد العالي للسينما في مصر.
*هل الإسلام حقاً ظاهرة!
وإن يكن..فعلينا أن نعي..والوعي هنا ليس (فعلاً مضارعاً)..
بقدر ماهو مطلب لفهم (قواعد) الآخر و(نحوه)، و(صرفه) نحو الحقيقة.
فعلينا أن نعي أن الإسلام لم يعد في نظرهم أو لنقل البعض حضارة أو دين!(24/486)
بل هو ظاهرة تستحق استرعاء انتباه المراقب- وهو هنا الصحفي وصنَّاع السياسة الخارجية-
وبذلك أصبح الإسلام موضوعًا عالميًّا يحتل مرتبة ذات أولوية في الأجندة السياسية الغربية.
إذاً فالظاهرة حسبما هو معروف تبدأ، تنتشر،تصعد،تنحدر،،،تنتهي!
وهي يقيناً بإيماننا بضعفنا وبقوتنا لن تنتهي.
***
الإرهاب و الإسلام هل هما وجهان لعملة واحدة!
الجلي والواضح مدى الاختلاف بيننا وبينهم في التعريف بـ(ـالإرهاب) ومن ثم الاعتراف به ..
فمن النظرة الغربية المسوقة عالمياً عرف الإرهاب كونه كل تهديد للمدنية والمدنيين.
وما بين اتفاقنا الأولي مع رأيهم وبين رفضنا تطويع التعريف لأهدافهم فنحن اتفقنا في التعريف واختلفنا بالاعتراف. والمؤكد أن التفاوت في تطبيق طرفي المعتقد يخل بمصداقيته ومن ثم باعتناقه.
إن ردود الفعل في العالم الإسلامي والعربي تجاه هكذا (تهمة)..
لم تنتظر حتى (تثبت الإدانة) فهناك من اقتنع بأن الإرهاب إسلامي!
وهناك من لم يعد يملك القدرة على التمييز بين عمليات المقاومة وما بين العمليات العشوائية!
وهناك من يقرأ هذه الأسطر ويتساءل معنا ويبحث عن الإجابات بل ويضعها..
- في عيونهم:
الإرهاب أضحى أمراً فطرياً في الإسلام..!
كما أن التوصيفات التي تم إلصاقها بالنظام الإسلامي قد تمَّ تقديمها وكأنها من طبيعة هذا النظام أو كأنها أمور فطرية لا تحتاج إلى تفسير أعمق من كونها واقع!
إن أكثر الإطارات شيوعًا لتوصيف الإسلام هو إطار(الأزمة)، التي تم اختصارها في فئات العنف والإرهاب والتطرف وكراهية الغرب.
مثل هذا الإطار يعطي أهمية أكثر للضحايا الأبرياء للعنف الذي يرتكبه المسلمون العرب ضد الإسرائيليين- دون الإشارة إلى العكس!
- الإسلاموفوبيا:
يتعرض كتاب (الإسلام والمسلمون في الإعلام البريطاني-المؤلف: إليزابيث بوول)
في أكثر من موضع لمسألة الإسلاموفوبيا (أي الخوف من الإسلام) والإعلام, وكيف يتم تضخيمها والنفخ فيها. فالمشكلة هنا تكمن في أن الإعلام يبحث عن الإثارة ويتابعها, ويبحث في أدق تفاصيل القصص المتعلقة بها.
ويؤدي هذا عادة وفي خضم التنافس على الحصول على الخبر المثير إلى انحدار في المعايير المهنية ومستوى التحري والتدقيق مما يضخم من الأخبار الهامشية, ويعطي أهمية فائقة لأفراد وجهات غير ممثلة للتيار الأعرض من المسلمين.
لكن النتيجة هي أن أصوات أولئك الأفراد, نظرا لتطرفها وأحيانا غرائبيتها, تنتشر انتشارا كاسحا, وتكاد توحي بأنها التي تمثل الصوت الأكثر سماعا في أوساط المسلمين. لهذا فإن الإعلام والأصوات المتطرفة في أوساط الجالية المسلمة يتقاسمان المسؤولية في إثارة الخوف من الإسلام وتشويه صورته العامة ووصمه بـ(ـالارهاب).
- ماذا قاله قادة اليمين عن (الإسـ)ـلام وماذا عن ارتباطه بالإر( هاب):
فرفض فرانكلين غرام وصف الإسلام بأنه "دين مسالم"،
ووصف جيري فالويل الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه "إرهابي"،
وقال بات روبرتسون إن الإرهابيين لا "يحرفون الإسلام!! إنهم يطبقون ما في الإسلام".
- الكم والكيف:
كتب إدوارد سعيد يوم 2 أغسطس/آب 2003 في جريدة ذي غارديان البريطانية يقول "قد أتمنى أن أقول إن الفهم العام للشرق الأوسط وللعرب وللإسلام في أميركا قد تحسن (بعد 11/9)، ولكنه في الحقيقة لم يتحسن"، وأضاف أن رفوف المكتبات الأميركية بعد 11 سبتمبر/أيلول امتلأت بكتب عن الإسلام ولكنها كتب سيئة "مليئة بعناوين رئيسية صارخة عن الإسلام والإرهاب والتهديد العربي والخطر الإسلامي".
لكسر القالب وجبر الكسور لابد أن نعي :
أن اللجوء إلى التطرف أو العنف هو ظاهرة نفسية اجتماعية يمكن أن نجدها في كل المجتمعات شرقية كانت أو غربية، وقد تكون مرتبطة بالدين أو مستقلة عنه، وبالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال ربط الإسلام بالتطرف كما تتوهمه العقلية الغربية المتحاملة على الإسلام.
***
(نحن) ونبض الشارعين الغربي والعربي
ماذا يقول الشارع الغربي و العربي تجاه قضيتنا؟
وهل رؤيتهم للواقع تفوق رؤية أصحاب القرار؟!
هل العربي المغترب يحمل بين حناياه شوق لأرض أكثر خصوبة ونماء..
وألم لواقع يعلوه الجفاف..!
ومن منهم يرغب في الاقتراب من الآخر؟! أم كلاهما يفكر في دربه فحسب؟!
تساؤلات عدة اختزلناها في لقاءات هنا وهناك..
فما الذي قيل؟!!!
أجرت (أبجد حياة) لقاءات عدة..
وقد منحنا (جيراد خريت) رئيس وحدة التحكم بالأمراض المعدية (هولندي)..هذه الإجابات:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ بالحروب والمجاعات!
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ عدم قبول الآخر.
- هل تعتقد أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟أعتقد ذلك.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
لا أفهم الفرق بين الإسلام والمسلمين لكن العنف موجود بالدين الإسلامي .
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وما هي مصادرك؟ التلفزيون و الكتاب.(24/487)
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ نعم هناك الكثير من الأخبار شبه اليومية عن قصص من المسلمين داخل المجتمع الهولندي وأحياناً تصل لحد القتل..
أما (جون هيبي) باحث الوراثة الجزئية (بريطاني) فكان هذا نصيبنا من إجاباته:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ العراق
- هل تعتقد أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟ إذا قلت لي ما هو الإسلام الصحيح أستطيع أن أجيبك.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ الإسلام دين يعتمد على القسوة ولذا فإن من أفكار الإسلام قتل غير المسلمين..والإسلام لا يقبل الغير.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ من أعقد القضايا الموجودة على وجه الأرض وأعتقد أن كلا الطرفين محقين ولهم أخطائهم.
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وما هي مصادرك؟لا أسعى لها ولكن لا أتحاشاها.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ نعم الإسلام والمسيحية واليهودية وجميع الأديان ظلمت المرأة فهل تستطيع أن تذكر لي امرأة تمثل دين!
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ الله.(سبحانه وتعالى)
وأما (لاي) فني شبكات.. ( الأمريكي) فقد قال حينما سألناه:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ الإسلام يمثل التاريخ وجزء كبير من العالم.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ أعتقد أنهم المسلمين لأنهم يشعرون بالظلم.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ يبدو أنه يقيد حريتها.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ ابن لادن.
وكان لـ(دوبرا) أخصائية الأحياء الدقيقة (هولندية) رأي آخر:
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ لا توجد أخطاء معينة إنما الأخطاء توجد مع الإنسان.
- هل تعتقدين أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟نعم أعتقد ذلك.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ صراع فيه ظلم من الجانبين
- هل تسعين الى الحوار مع المسلمين ومناقشة القضايا العالمية معهم؟ ليس بالتحديد ولكن إذا أتت الفرصة أحب أن أطلع على الثقافات الأخرى.
- هل تسعين للبحث عن معلومات حول الاسلام؟ وماهي مصادرك؟ أغلب مصادري البرامج الدينية عن الأقليات.
- هل تعتقدين أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟ نعم تستطيع أن ترى شكل المرأة والحجاب والزواج.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ الله.(سبحانه وتعالى)
أما (دين مانس) الأمريكي فقد أجاب حينما سألناه:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟
أول ما يرد لذهني هو (الإرهاب).
ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟
أنهم متخلفين اقتصادياً وتعليمياً.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
أعتقد أنه الإسلام ، فالكتاب المقدس ذكر كثيراً من الآيات عن الجهاد.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟
أعتقد أن الفلسطينين غير جادين بشأن السلام.
- هل تؤمن بأن الصورة التي يظهر بها العرب والمسلمين في السينما الأمريكية هي الصورة الحقيقية؟
أنا لست من السذاجة بحيث يغسل دماغي إلا أنني أعتقد أن الأفلام لها أساس من الواقع.
وعن (جيمس) نيويورك - أمريكا فكانت هذه إجابته:
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟
دين عظيم.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
أعتقد أن المسلمين يناقشون مآسيهم بالطريقة الخطأ.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟
أعتقد أن على الجميع أن يكونوا شديدي الاهتمام بهذا الموضوع، فهذا مهم للسلام في وقتنا الحالي.
كما أرى أن الأمريكيين غير قادرين على الإمساك بزمام الأمور وغير فعالين في إيجاد الحلول لهذه القضية.
هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وماهي مصادرك؟
أرغب بمعرفة المزيد،حتى الآن فمعظم مصادري التلفاز والصحف.
ولكني أخشى ألا أحصل على الصورة الكاملة من خلالهما.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟
هذا ما يبدو من الخارج،، ولكن على المرء أن يعرف المزيد حول ذلك ليعلق عليه.
-من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟
هذا سؤال صعب ، فلا أعرف أحداً!
وأما د/(ألكس فان بلكم) رئيس وحدة الأمراض المعدية والبكتيريا (هولندي):
- ما هي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ التخلف العلمي و الدكتاتورية.
- هل تعتقد أن تصرفات المسلمين في هذا العصر تمثل الإسلام الصحيح؟ هل يوجد إسلام آخر لا نعرفه.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ لا أفهم الفرق بين الاثنين.
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الإسلام؟ وما هي مصادرك؟ الإنترنت-الكتاب-الإعلام-الأصدقاء.
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟أعتقد ذلك فإجبار المرأة على إخفاء الوجه فيه ظلم.
- هل تؤمن بأن الصورة التي يظهر بها العرب والمسلمين في السينما الأمريكية هي الصورة الحقيقية؟ لا.
وكان لـ(جم) مهندس (أمريكي) رأياً مختلفاً:(24/488)
- فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟ دين قوي.
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ التعلق بالتاريخ
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ الإسلام لديه آراء قوية حول الجهاد.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ الصراع طال أمده بسبب الحمق وغياب القيادة الرشيدة عند الجانبين.
- هل تسعى الى الحوار مع المسلمين ومناقشة القضايا العالمية معهم؟ أحب أن أتعرف على الإسلام أكثر.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ كريم عبدالجبار (لاعب كرة سلة أمريكي مسلم).
كما أجاب على أسئلتنا (آرد هوردس) أخصائي التحكم بالأمراض المعدية (هولندي)
- ماهي أبرز أخطاء العرب والمسلمين برأيك؟ عدم التسامح والحكومات الديكتاتورية.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟ في كل الأديان هناك من يفسر على أهوائه.
- ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ إحدى الصراعات الذي يأخذ طابع الدين والمقصود به الأرض.
- هل تؤمن بأن الصورة التي يظهر بها العرب والمسلمين في السينما الأمريكية هي الصورة الحقيقية؟
لا أؤمن بالسينما الأمريكية إطلاقاً.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟ محمد.
وأخيراً مع (ريموند هاموند) الأمريكي وإجابات مغايرة:
فيم تفكر حينما تسمع كلمة (إسلام)؟
مكة.
- من يلجأ للعنف هل هو الإسلام أم المسلمين ؟ ولماذا برأيك؟
لا أعتقد أنه الإسلام ، فبعض المسلمين يستغلون الإسلام لتعزيز قضيتهم.
ما رأيك بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟
أعتقد بأنه من المهم للعالم أجمع أن يجلس كلا الطرفين لتوطيد العلاقات والأخذ والعطاء فيما بينهم.
- هل تسعى الى الحوار مع المسلمين ومناقشة القضايا العالمية معهم؟
أنا تواق للفرصة الملائمة لذلك.
- هل تسعى للبحث عن معلومات حول الاسلام؟ وماهي مصادرك؟
نعم، مؤكداً أتمنى معرفة المزيد.والقليل الذي أعلمه مصدره نقا شاتي مع أصدقائي المسلمين
- هل تعتقد أن الإسلام ظلم المرأة؟ ما الذي دفعك لهذا الاعتقاد؟
كلا على الإطلاق، فأعتقد أن المرأة المسلمة لديها العديد من المميزات..وتبدو أكثر سعادة واقتناع من المرأة الغربية في كثير من المجالات.
- من هي أبرز شخصية يرتبط اسمها في ذاكرتك مع الإسلام؟
لويس فرخان.
وقد علق د/وليد عبدالله مغترب عربي مسلم واختصاصي وراثة جزئية بهولندا على هذه الإجابات قائلاً:
في البداية يجب التفريق بين الإجابات المستقاة من أوروبا والأخرى من أمريكا وإن كنا نميل في تعاملنا اليومي إلى تسميتهم بـ(الغرب).
فالنظرة الأوروبية تختلف عن النظرة الأمريكية لأسباب واضحة ولكن دعونا نعود إلى التاريخ لمحاولة فهم هذه الفروق.فعلاقات المسلمين واحتكاكهم مع الأوربيين بدأ مع بداية الإسلام وخاصة في الحروب مع الروم.
وكانت نقطة الالتقاء الثاني عبر الحملات الصليبية وما تلا ذلك من عمليات الاستشراق، ويضاف إلى البعد التاريخي القرب الجغرافي حيث لعب دوراً أساسياً في معرفة الأوربيين وتعرفهم على المسلمين والعرب.
أما على الجانب الآخر فإن الأمريكيين عرف عنهم العزلة والجهل بالآخر حتى أن جيرانهم المكسيكيين يشكون جهلهم بهم وبالطبع لا نستطيع التعميم بكل الأحوال وإلا بذلك كررنا خطأهم في رسم صورة المسلمين والعرب.
لذلك يجب ألا نستغرب إذا وجدنا فروقاً بين المجتمعين ويجب أن يكون التعامل معهما مختلف.
أما عن النقطة الثانية والجديرة بالاهتمام فهي ورود اسم (الله) كشخصية إسلامية وفي اعتقادي أن السبب يعود إلى تأثير الديانة المسيحية فإن عيسى في حياته الدنيوية كان إنساناً (إله) وقد يكون هذا ما أوجد لبساً لديهم وهنا تتضح أهمية المعرفة بالآخر لكيلا تختلط النوايا وتطلق التهم من الجانبين دون أن يعي كل منهم ماهو عليه الطرف الآخر.
أما عن اعتقادهم أن المسألة الفلسطينية مسألة تحل بتقسيم الأرض بين اليهود والمسلمين (العرب) فقد يكون هذا هو الحل الأمثل من وجهة نظر إنسان بعيد عن القضية وهذه أبسط الحلول لإرضاء الطرفين!
فلا نغفل أن الإنسان بطبعه يميل للصلح والإصلاح إذا كان طرفاً غير مشارك.
وإذا أردنا الحديث عن ورود أسماء أخرى كشخصية إسلامية فهو بلاشك تأثير مرحلي من أثر الإعلام الغربي القوي على الإنسان المعاصر وخاصة الأوروبي والأمريكي وكان هذا واضحاً في إجاباتهم عن مصدر معلوماتهم عن الإسلام.
وأخيراً هذه وجهة نظر أشخاص بعينهم دون أن تكون تمثل المجتمع كاملاً.
ولكن هذه محاولة لقراءة ومعرفة أسباب الاختلاف والبحث عن نقاط الالتقاء بين الطرفين.
كما علقت د/ حنان عطاالله الاختصاصية وأستاذة علم النفس في جامعة الملك سعود قائلة:
إن الأجوبة مؤسفة وإن كانت تعكس واقعنا المؤلم،وجميل جداً أن نرى رأي الآخر فينا لأننا كشعوب مازلنا نتغنى ونتفاخر بأننا أفضل الشعوب وحان الوقت لنعرف أين نحن من الأمم.
لقد فات علينا التقييم الذاتي ولابد من صحوة قد تأتي:
- إما من الذات.
- وإما من الآخر.
إن الصورة التي تتضح في الإجابات صورة غير صحيحة عن الدين الإسلامي.
كدين يدعو إلى (التسامح) وإلى (تقبل الآخر).(24/489)
إننا نملك الكثير من المشاكل في التعامل مع الآخر المختلف عنا لاشك.
كما أننا أضحينا أمة تعيش على الغير لا تملك حتى أحقية صنع سلاحها الذي تحارب به صانعها!
إن المحاربة الحقيقية تأتي عن طريق الإبداع والتقدم العلمي لا العنف والقتل.
إننا مجتمعات تعاني من (بارانويا الاضطهاد) إن صح التعبير وطالما أننا نعاني من هذا المرض الاجتماعي النفسي الخطير فإننا سنشير للغرب بأصابع الاتهام وبالتالي سنظل مشلولي الإرادة وسنقول كما قال إدوارد سعيد (الحسناء النائمة).
لقد حان الوقت أن ندرك أن هناك أديان أخرى متعددة وأن (الإسلام) وإن كان هو الأفضل فليس هو الوحيد.
وذاك المعنى تجسده الآية القرآنية (لكم دينكم ولي دين)
وأذكر مثالاً من واقعي يجسد الضعف لدينا في قبول الآخر حيث لي صديقة أمريكية قضت في المملكة العربية السعودية قرابة الـ 10 سنوات ولكنها ذكرت لي وبحسرة:
أنها لم تتعرف على الشعب السعودي وقالت أعتقد أنكم شعب (غير صدوق)...!
وقامت bbc)) بإجراء استطلاع يتصدره السؤال التالي:
(ماذا ينبغي برأيك على المسلمين القيام به لتحسين صورتهم في أوروبا؟) وإليكم مقتطفات من هذه الإجابات:
*عثمان(السعودية): سؤال بسيط: هل هذه النظرة السلبية كانت قبل 11 سبتمبر أم بعدها؟ النظرة النمطية للإنسان العربي والمسلم موجودة منذ أبعد الأزمان وتغيرت صعوداً وارتفاعا في دروبه، ولنا أن نقرأ في أدبيات العصور الوسطى ليظهر لنا كيف كان يتم حشد الأوربيين للجهاد المقدس ضد الكفار. أعتقد نحن بحاجة أن نحسن صورتنا أمام أنفسنا لا أمام غيرنا.
*أحمد سيد أبوعطية(مصر): من موقع عملي في القطاع السياحي في مصر لاحظت فعلا النظرة السطحية التي ينظر إليها الأوروبيون إلى الإسلام! إنهم ينظرون إلى الإسلام على أنه من صنع العرب! بمعنى أن العرب هم من وضعوا قواعد الإسلام ويمشون عليها منذ أكثر من 1400 عام!! بل وسألني أحدهم: لماذا لا تغيرون قواعد الإسلام ليصبح أكثر تحضرا؟! فكانت إجابتي له: كيف تغير ما تعتقد أنه ليس من صنعك ولا من صنع البشر!
*أحمد نوفل(مصر): الأوروبيون لا يعلمون الكثير عن عالمنا والسبب في ذلك هو أننا لا نسعى إلى الاتصال بهم وإيضاح الصورة لهم. والعقلية الأوروبية سلسة ويمكنها الاستماع والفهم بشرط مخاطبتهم بالطريقة التي تناسب تكوين عقليتهم، لكن للأسف ونتيجة للقصور الثقافي في مجتمعاتنا فإن القادرين على التعامل مع الأوروبيين قلة نادرة وغالبا هم مقهورون في أوطانهم.
*أحمد صليحة (نيويورك): ليس من المهم أن نحسن صورتنا أمام الغرب، بل المهم أن نتحول إلى طرف فاعل منتج للحضارة والعلم والمعرفة مثل أشقائنا في الصين والهند الآن ،وحينئذ سوف نكسب احترام العالم بأكمله دون أن نضيع مليما واحدا على الدعاية الفارغة.
* ريني موفق(بغداد): أنا مسيحي من العراق وما يحدث الآن من تشويه صورة الإسلام حدث قبل ألف عام تقريبا عندما كانت الحروب الصليبية (التي كانت عارا على المسيحيين) تقتل وتفتك وتغزو البلدان باسم الله. هذا يحدث الآن ولكن من قبل متطرفين إسلاميين يشوهون الدين الإسلامي. فإذا كنت أوروبيا وأرى على التلفاز خمسة مسلحين يمسكون القرآن بيد ويمسكون السيف بيد أخرى ويقطعون رأس إنسان، ماذا تتوقعون مني أن أقول ؟
* توفيق عباس(مصر) إن تخلف المسلمين في جميع المجالات جعل الغربيين لا يحفلون بحضارتهم أو معتقداتهم أو علومهم وخاصة الدينية منها،كما أن قلة الهجرة العكسية من أوروبا إلى بلاد المسلمين واقتصرت على المختصين والمهتمين فقط بعلوم المسلمين.
*سعود الذويخ(الكويت):إن تلك النظرة للمسلمين، تنم عن السطحية التي يتمتع بها نظر الأوروبيين إلى الإسلام، ويعذرون في ذلك لأن المسلمين لم يقوموا بواجبهم نحو إعطاء الصورة الحقيقية للإسلام.
*ليلى(دمشق): لغياب العرب إعلاميا بالإضافة إلى الصورة المشوهة التي يتلقاها الطفل الغربي في كتب التاريخ وأفلام الكرتون عن البربرية الإسلامية ووجود عدد من المسلمين في الغرب من الذين يكفرون بقيمهم و يتبارون في التبرؤ من تاريخهم كأسهل طريق للحصول على إقامة.
أما الإجابات على السؤال التالي فجاءت كما يلي:
هل ترى أن الدول الإسلامية تتحمل جزءا من المسؤولية عن توتر العلاقات مع الدول الغربية، أم أنك تحمل الغرب فقط مسؤولية هذا التوتر؟
*يحيى حسين(الكويت) هنالك عدة أسباب لهذه الفجوة:
أولاً:الجاليات الإسلامية المتمكنة هناك لم تنجح لا باحتواء الدوائر الحكومية الغربية كما فعل اللوبي الصهيوني ولا تحييدهم على الأقل ولا إيصال المفهوم الإسلامي الصحيح.
ثانيا: لا يوجد ارتباط أو أي تنسيق وثيق بين الحكومات العربية والجاليات الإسلامية بدول الغرب للتشاور بل بكل الأسف ربما يتم النظر إليهم كجهات معارضة .
*مالك أبومالك (لبنان):انه صراع بين من يريد أن يكتشف النجوم وبين من يريد أن يكتفي بعدّهاّ..(24/490)
*حارث الأعظمي(بغداد) عشت أنا شخصيا خلال السبعينات والثمانينات في بريطانيا كممثل للجالية العربية والإسلامية في اتحاد الطلبة البريطاني حيث كانت العلاقة بين الطلبة المسلمين وبقية الجاليات الأوربية المتنوعة في ذلك الاتحاد على أروع ما يكون. أما اليوم فنرى الصورة مختلفة تماما. فالطالب العربي ينظر إليه بعين الريبة والحذر، والزائر العربي والمسلم يعامل بأسلوب غير لائق في المطارات الأوربية ومنذ لحظة الوصول!
*صلاح الفضلي(الكويت): اعتقد آن المشكلة تكمن في الإعلام من الطرفين، يغذيها بعض المثقفين. فالغرب يصورون العرب على أنهم قتلة إرهابيين والمثقفين العرب يصورون الغرب علة أنه ارض فساد و مجون.
*أبوعلي(بغداد) علينا مواجهة أنفسنا بصراحة والبحث عن عيوبنا. أن محاولة إلقاء اللوم الأكبر على الجانب الأخر ليس بصحيح.
*أحمد سعودي في (بريطانيا) اعتقد أن أسباب هذا التوتر هي عدم فهم ثقافة البعض للآخر وعدم احترام خصوصيات الشعوب. طبعا الإعلام قد يساعد في توسيع الخلاف وقد يجمع بين أطراف الصراع.
*محمد عادل(القاهرة): لمن يريد أن يعرف كيف يتم ردم الهوة بين العالم الاسلامي والغرب يمكنه أن يجد الإجابة الشافية لدى الصينيين. فرغم كونهم العملاق القادم ورغم قوتهم، فقد احتلوا العالم وغزوا كل بيت فيه بمنتجاتهم عالية الكفاءة زهيدة الثمن.
*نصيرة سعودي جزائرية تقطن فرنسا:"نشعر وكأن أصابع الاتهام تسدد لنا، فالمسلمون الذين يعيشون هنا في فرنسا يشعرون وكأنهم يُحمّلون بشكل ما مسؤولية مناخ عدم الأمن الذي يسود أنحاء كثيرة من الغرب الآن".
وتقول "إذا سمعت ما يقوله الفرنسيون في مارسيليا حينما يختلون إلى بعضهم البعض عن العرب فستجد عبارات عنصرية،ومن الصعب جدا العثور على وظيفة إذا كان اسمك عربيا.."
ومن نبض الشارع إلى رؤية الدراسات والأبحاث..
فقد أجرى باحثون أستراليون دراسة تعتمد على استطلاع شمل خمسة آلاف أسترالي وكانت النتيجة تفيد بأن (هناك مشاعر قوية مضادة للمسلمين في أستراليا).
وتصف الدراسة المسلمين بأنهم أحد أكثر الجماعات الدينية والعرقية (تهميشا)، مع وجود الكثير من الأستراليين ممن يؤمنون بأن المسلمين وجميع القادمين من الشرق الأوسط لا يصلحون للعيش في أستراليا!
وقال أكثر من نصف الذين شملهم الاستطلاع إنهم لا يرغبون بزواج قريب أو قريبة لهم بمسلم أو مسلمة.
ويلقي الدكتور(كيفين دان) من جامعة ساوث ويلز الذي سيعرض نتائج البحث في مؤتمر حول الهجرة يعقد في سيدني باللائمة على طريقة وسائل الإعلام في تقديم المسلمين وكراهية الغرب للإسلام.
وقال إن المسلمين يواجهون آراء جامدة تتهمهم بالموقف السلبي من المرأة والتمييز بين الجنسين.
كما أوضحت دراسة قام بها معهد العلاقات الدولية الألماني ان الصورة التي يحملها أغلب الأوروبيين عن المجتمعات الإسلامية سلبية الى حد كبير.
وطرح المعهد سؤالا وهو "ماذا تفكر عندما تسمع كلمة اسلام؟" على عينة تمثل أفراداً ينتمون إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، وكانت إجابات نحو ثلاثة أرباع المشاركين أن الإسلام يعني النسبة لهم قمع المرأة والتطرف والإرهاب،ولم يقدم إلا نحو ربع المشاركين إجابات تعكس رؤية افضل للإسلام.
وأوضح باحثون أوروبيون وعرب في ندوة عقدت بمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب لبحث هذا الموضوع ان هناك نظرة سطحية شائعة عن الإسلام في أوروبا لا تشتمل على جوانب حضارية وإنسانية كثيرة في الإسلام.
كما قالت وفود نساء مسلمات في مؤتمر عالمي حول المرأة والإسلام في مدينة قرطبة الإسبانية إنهن تعبن من تصويرهن طوال الوقت في صورة الضعيفات مسلوبات الحق.
وقلن إن قرار ارتداء الحجاب أو غطاء الرأس يصور دائما على أنه مركز اهتمامهن في حين أن لديهن في الواقع عدة موضوعات أخرى هي التي تشغل بالهن.
،،،،،،
مشاهدات وجهود لتصحيح الصورة وبناء الجسور
إننا هنا نطل عبر نافذة صغيرة على (بعض) الجهود التي ساهمت وما تزال تقدم للصورة الإسلامية والعربية في العالم بصمات تعلن عن وجود حقيقي متزن وفعال في فكر الآخر عنا..
* جهود فردية في ألمانيا لتصحيح صورة الإسلام..
يقول (أحمد زايد) أستاذ بقسم الدعوة الإسلامية بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر الشريف: :
هناك جهود للتصحيح، لكنها فردية، فقد رأيت مثلا مسلمين فى (ألمانيا) يسعون للوصول إلى كل الأماكن لتصحيح صورة الإسلام -حتى فى الكنيسة- وهناك يقومون بعرض الإسلام والتعريف بحقيقته، وهذا هو محور تركيز المسلمين الآن.. هناك أيضا يتاح للمسلمين الذهاب إلى المدارس غير الإسلامية لعرض الإسلام، ويحدث هذا فى أمريكا بشكل كبير، ومن التجارب أيضا ما رأيته فى المركز الإسلامى فى ألمانيا الذى يقوم بإصدار نشرات توزع على الأفراد فى الأماكن الحكومية لعرض الإسلام.
* رحلة:
(رحلة) برنامج تلفزيوني قدمه الأستاذ (حمزة يوسف) الذي يعمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، كما أنه أمريكي المولد واعتنق الإسلام.
و يصاحبه مجموعة من الشباب المسلم العربي..(24/491)
يتضمن البرنامج جولات في أمريكاوكان خط سيرهم يمر نيوميكسيكو، فيلاديلفيا، بوسطن، نيويورك، واشنطن، شيكاغو، سان فرنسيسكو يلتقون فيها بالمسلم وغير المسلم مسيحياً كان أم يهودياً.
وكانت من أهم أهدافهم في البرنامج معرفة آراء الشعب الأمريكي عما يحدث في العراق، وعن رأيهم في الإسلام والمسلمين. وهنا تابعنا عن كثب رأي الآخر فينا ورأينا نماذج المسلمين الرائعة هناك..
كانت رحلة جسراً جديداً يمتد إلى هناك يحمل معه وإلينا (جهداً) يتسحق التقدير.
* مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير):
يعتبر اكبر منظمات الحقوق المسلمة الأمريكية ولـ(كير) 29 مكتبا وفرعا اقليميا وتهدف الى زيادة فهم المجتمع الأمريكي للإسلام وتشجيع الحوار وحماية الحريات المدنية وتقويه المسلمين الأمريكيين وبناء التحالفات المعنيه بنشر العدالة.
قامت المؤسسة بنشر معلومات تعزز قوى المسلمين الأمريكيين وتزيد من وعيهم السياسي والحقوقي والإعلامي، كما استخدمت كير قوة قواعدها الجماهيرية لمواجهة الأفكار التي تثير الخوف من الإسلام والمسلمين.
ولا نغفل أن جهودها تتركز في منطقة مهمة في خريطة العالم.
سنورد (قطرات) من بحرهم هنا ..
قامت (كير)بحملة علاقات عامة وجماهيرية واسعة لتوعية الرأي العام الأمريكي بأخطاء وأضرار فيلم (الحصار) الذي أنتجته شركة أفلام (20th Centu r y Fox) والذي يصور المسلمين والعرب كخطر حقيقي على المجتمع الأمريكي، فالفيلم الذي تم تصويره في " بروكلين" بمدينة " نيويورك" يحكي عن مؤامرة تفجيرية ينوي المسلمون القيام بها مما كان سببا لقيام الجيش الأمريكي بإعلان حالة طوارئ عسكرية وتنظيم معسكرات اعتقال جماعية ضد المسلمين والعرب الأمريكيين!
وبدلا من تنظيم حملات الاحتجاج التقى مسئولو كير بمنتجي الفيلم لمناقشة مخاوف كير من النتيجة السلبية المحتملة التي قد يتركها الفيلم على مسلمي أمريكا وعلى الرأي العام الأمريكي ورؤيته للإسلام وللمسلمين، واستجابة لتحليلات كير حول الفيلم وافقت شركة (20th Centu r y Fox) على إدخال بعض التعديلات الطفيفة على مشاهد معينة، ولكنها رفضت إعادة النظر في الحبكة الدرامية للفيلم، فقد ادعت الشركة أن الفيلم يناهض فكرة الخوف من الإسلام ويعارض مبدأ انتهاك الحكومة للحقوق الدستورية، لذا رفض مسئولو كير هذه المبررات. وطالبوا المسلمين الأمريكيين بتنظيم مظاهرات سليمة أمام دور العرض السينمائي التي عرضت الفيلم لتوزيع معلومات عن الإسلام ولتوزيع تحليلات للفيلم وأضراره، ونال هذا التحرك الإيجابي إعجاب المراقبين، كما سجلت العديد من وكالات الأخبار أن مبيعات الفيلم خسرت 20 مليون دولارا أمريكيا.
كما أننا لا نستطيع إغفال ما انتشر من مشاعر عداء ضد المسلمين على شبكة الإنترنت عام 1998، وبالتعاون مع شركة AOL ساعدت كير في إيقاف موقع إنترنت حاول تقليد القرآن، وقالت شركة AOL إن الموقع يخرق قواعد الخدمة التي توفرها لكونه صمم بشكل واضح للإيذاء والتشهير.
وفي حادثة هامة أعلنت كلا من كير وشركة Nike للمنتجات الرياضية قرارا بشأن قضية حازت على اهتمام شعبي وإعلامي واسع، إذ صممت الشركة خطئا شعارا على أحد أحذيتها الرياضية يشبه لفظ الجلالة " الله" باللغة العربية
وبعد مفاوضات استطاعت كير وشركة " نايكي" حل الخلاف بينهما بوضع شروط ثنائية وافق عليها الطرفان، وتضمن الاتفاق أن تقوم شركة " نايكي" بالاعتذار على التصميم المسيء وبسحبه من الأسواق العالمية، وكذلك قيام نايكي بإدخال التعديلات الإدارية المناسبة التي تضمن عدم وقوع إدارة التصميم بها في مشاكل مشابهة في المستقبل.
وقد أصبحت قضية Nike من القضايا الشهيرة في وسائل الإعلام الأمريكية حتى أنها باتت تدرس في كلية التجارة والأعمال بجامعة "جورج واشنطن"، كما ظهرت في العديد من الكتب الدراسية الأمريكية الخاصة بعلم التسويق.
إن هذه الأمثلة لم تكن إلا نماذج للعديد من النقاط المضيئة في طريقهم والمحاولات (العملية) لتصحيح صورة العرب والمسلمين في أمريكا..فهل نتابعهم؟ ندعمهم؟ نمد لهم يد العون في الغربة؟!
Http://www.cai r -net.o r g
* اهتمام الغرب بالسينما الإيرانية مؤشر مدخل للتصحيح!
تقول (ذيبا مير حسيني) التي حصل فيلمها الأول والوحيد، الطلاق على الطريقة الإيرانية، على عدد من الجوائز، أخذت مكانها بين نحو ثلاثمئة جائزة حصدتها إيران في السنوات العشر الأخيرة في حديث لها مع بي بي سي أونلاين.
( إن السبب يكمن في أن السينما الإيرانية تقدم صورة مناقضة ومخالفة للصورة التي يحملها الغرب في مخيلته للجمهورية الإسلامية وللإسلام بصورة عامة. فالأفلام الإيرانية تعكس مجتمعا إنسانيا لأبعد الحدود مليئا بالفلسفة والعمق والتناغم الشعري، كما أن بها بعض القيم التي يقدرها الغرب.)
سبب آخر كما تقول ذيبا هو أن السينما الإيرانية تقدم أفلاما مختلفة عن نوعية الأفلام التي تنتجها هوليود، أفلاما غنية بالمشاعر الإنسانية وتعطي لمحة عن مجتمع مختلف مغلق أمام الغرب منذ عشرين عاما..(24/492)
وهنا إن كان المجتمع الإيراني منغلقاً منذ عشرين عاماً فماذا عن مجتعاتنا الإسلامية ككل التي أغلقت في (إيطار)
يحتاج قوة إعلامية لكسره!
ومن أين تأتي قوة العمل إلا من قوة (الأفراد) بعد خالقهم...
وحينما تصطف النقاط تصبح خطاً...وإن شئنا فقد يكون مستقيماً أيضاً.
ومن الجانب الآخر كيتي زيجلمانز، وهي أستاذة بجامعة ليدن الهولندية ومن المهتمين بالسينما الإيرانية. تقول: السينما الإيرانية بها غموض غريب وإثارة، كما أنني كمشاهدة غربية لا أستطيع الإمساك بالمعنى الذي يريد المخرج التعبير عنه، صحيح أنني أدركه من الناحية المعنوية لكن لا يمكنني وضع يدي عليه أو لمسه ..
،،،،،
معاً لحلول (عملية)
إن تصحيح صورة الإسلام في العالم وتخليصها من كل ما يشوبها.
هو من المهام المستعجلة المطروحة بل (الملزم) بها المسلمون؛ لأنه لا يمكن لهذه الفجوة بين المجتمع المسلم العربي والآخر أن تستمر في التعمق لدرجة يصعب معها التحكم في الأوضاع العامة والاستقرار الاجتماعي والتعايش بين المسلمين وغيرهم في العالم، كما أن الدين الإسلامي (طهر) يتحتم علينا تبيان حقيقته رغم أنف أخطاء أبنائه..
إن الاستبصار بحقيقة المشكلة وأسبابها..
سواء كانت الأسباب من أحد الطرفين أو كلاهما هو البداية (الصحية) للعلاج الأمثل.
ويذكر المستعرب الياباني (نوبوآكي نوتوهارا) في كتابه (العرب وجهة نظر يابانية) أثناء رحلاته للعالم العربي أنه كانت ترافقه أسئلة بسيطة وصعبة على حد قوله هي:
" لماذا لايستفيد العرب من تجاربهم؟....نحن نعرف أن تصحيح الأخطاء يحتاج إلى وقت قصير أو طويل. فلكل شئ وقت ولكن السؤال هو:كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطائهم، ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟ "
هل بإمكاننا فقط أن نثير تساؤله في نفوسنا ومن ثم نشرع بخطى متفائلة نحو (بعض) الحلول:
*تجديد الخطاب الإعلامي الإسلامي والعربي:
اللغة إن لم تكن حاجز فهي ثغرة وإن لم تكن ثغرة فهي مطلب..
أياً كانت ماهيتها فهي (ضرورة)..
وهناك ضرورة للاعتراف بقصور(شديد) في الخطاب الإعلامي العربي والإسلامي الموجه نحو الآخر.
إن العالم الفضائي العربي مغمض العينين ليس بالضرورة أن يغمضها أحدهم فقد تكون هي لا تريد أن (ترى)!
وهنا علينا أن ندعم الوعي بضرورة (الإبصار) و(الاستبصار) بحقيقة برامجنا، حواراتنا وحتى مسلسلاتنا..
هل الترجمة المكتوبة لمادتنا الإعلامية وعرضها في القنوات العالمية (معضلة)..
وهل تنفيذ برامج بلغتهم وبمضموننا مهمة مستحيلة!
وهل أجبرنا على استخدام (مصطلحات) فرضت علينا.
وهل مازلنا نفكر هل (الساندوتش) شاطر ومشطور وبينهما طازج كما أراده مجمع اللغة العربية!
*الحوار:
إن الحوار وبناء جسور الثقة والتفاهم يمنح (الفهم) الذي نسعى له لتكتمل الصورة الناقصة في ذهن كل منهما. كما أنه يعزز التوجهات الإيجابية بين الطرفين.
في حين تكون القطيعة ومحاربة التوجهات الدينية، والخوف من الإسلام، والقناعة المعممة بأن الغربي فاسد ومتآمر غير مبررة وليست مقبولة ثقافياً ودينياً!
إن فتح حوار حضاري وثقافي وديني حقيقي بين الديانات والحضارات بين الإسلام والغرب، دون أي استعلاء، ومع الاعتراف المتبادل بالمساهمات المشرقة التي قدمها كل منهما في إطار بناء الحضارة الإنسانية؛ والاقتناع المتبادل بأن المشروع الحضاري المعاصر يحتاج للمساهمات الغربية، كما يحتاج أيضاً للمساهمات الرائدة للإسلام حضارياً وثقافياً وأخلاقياً.
ولا يمكن لهذا الحوار الحضاري أن يحقق أهدافه وطموحاته المتوقعة ما لم تراجع وسائل الإعلام والاتصال الغربية سياسة فرض إقتران وهمي بين الإسلام والإرهاب، كلما تعلق الأمر بحادث أو أزمة طارئة.
وحتى يفتح المسلمون ذهنهم للآخر دون الانسلاخ عن مبادئهم،كما أن عليهم أن يكونوا المصدر الفاعل لا المدافع فحسب.
*لماذا ننتظر من (يدافع) .. فيم نملك سلاحاً آخر لإظهار الحقائق؟!
إن تشكيل العرب والمسلمين في (العالم) - هيئات وأفراد - قوى ضاغطة ترفع صوتها مدافعة عن صورتها وهويتها بدلا من انتظار آن يبادر الآخر بالدفاع عنها أو بمهاجمتها ضرورة حتمية..
وضرورة عدم الانتظار لا تعني ألا نمد أيدينا مصافحة للآخر الذي يسعى للتصحيح والمبادرة لإظهار الحقيقة..
فهناك منهم من يدعم قضايانا ويشارك في محو التشويه الذي يعكر صفو ملامحنا الإسلامية.
*(الكتابـ)ـات:
دعا (د/ عبد القادر طاش رئيس تحرير صحيفة البلاد السعودية سابقاً) إلى "ضرورة صناعة صورة بديلة جديدة ربما كان الغرب بعد أحداث سبتمبر أيلول يبحث عنها. وهو ما يشهد عليه الإقبال الكبير على (الكتابات) التي تتحدث عن الإسلام في المرحلة الراهنة."
كتاب أم كتابات أياً كانت..
في صحفنا و صحفهم..لنسمعهم صوتاً مسلماً و عربي..
مضمونها،إقناعه،قوته وأولاً وأخيراً (صدقه) هو المفتاح الذي سيفك الكثير من الطلاسم التي تجهل حقيقة الإسلام والمسلمين.
* نملك (قيماً) يفتقدها كثر فلنبدع فيما لدينا:(24/493)
إننا نملك مجتمعاً يحوي قيماً شتى وأبعاداً مختلفة وثقافة إسلامية نراها في دقائق الأمور إن أردنا تصفية العدسة التي ننظر بها لمجتمعنا.
وعليه فإن التدقيق فيما حولنا يعطينا شارات ومداخل لمنح الآخر الأفضل بل لمنح أنفسنا فرصة تنفس الهواء النقي في مجتعاتنا الإسلامية والعربية.
كما أن كل ذا (تخصص) يملك الكثير والكثير في مجال تخصصه..
خيرات الأرض،خيرات الفكر،خيرات اليد الإنسانية معولاً أو قلماً جميعها عناصر نملكها فمتى التنفيذ؟
*الخلافات المذهبية ماذا تفعل هناك؟!
مشكلة الخلافات بين المسلمين خارج العالم الإسلامي تأتى نتيجة نقلهم أخطائهم الاجتماعية والفكرية من بلادهم إلى البلدان الجديدة التي نزحوا إليها، وذلك فضلا عن الخلافات المذهبية فى فهم الدين الإسلامى ومقاصده والتركيز على الخلافات الفقهية في الفروع!
إن (طريقة) الجدل المذهبي لدينا قضية بحد ذاتها..وما ويزيد الأمر صعوبة أن حرية التعبير التي تُمنح لهم هناك تُستغل لتمتد الخلافات..وتكن حينها أخطاء (المسلمين) طاغية على حقيقة (الإسلام)..
وبذلك نشارك في ظلم ديننا وأنفسنا ونظرة الآخر لنا الذي لا يملك إلا ما يرى وما يروى.
.إذا تجاوزنا عن إشكالية المصدر وأخطاء النقل المشوه.
]علينا أن نراعي أننا (نمثل) الإسلام وليس مذهب فحسب[.
* هل يتعلم المسلمون مما يجري شيئاً؟
تعلم المسلمون دروساً بعد الحادثة المفجعة في (أوكلاهوما)، وعرفوا أن سبب اضطهادهم هو شبهة تعميم تورط المسلمين في حوادث الإرهاب، وتنفسوا الصعداء حينما انكشفت هوية الفاعل، وبذلك تزعزعت الفرضيات الخاطئة والشائعة عند عامة الغربيين، عن تحميل المسلمين مسؤولية العنف في العالم.
وفي نفس الوقت كشفت حادثة أوكلاهوما، المخاطر الحقيقية التي يتعرض لها المسلمون بسبب هذه الشبهة. ولو لم يتم إلقاء القبض على الجاني بفترة زمنية قصيرة، لدفع المسلمون ثمنا فادحا لهذه الشبهة وبمرات مضاعفة، كما يدفعونها الآن بعد أحداث نيويورك وواشنطن.
إن ما جرى وما يجري مؤشر بل جرس (نداء) لا (إنذار) لضرورة العمل في إيجاد مخرج من الدائرة التي تحيط بالمسلمين.
إن (الجهد) لا يضيع..ولكن هل بدأنا ببذل الجهود حقاً..؟
إن كانت الإجابة بلا..فإلى متى..
وإن كانت الإجابة بنعم...فلنبحث عمن يعمل ولندعم (معنوياً، مادياً) بدل من أن نتسابق في التصويت على الفضائيات العربية!
* هل نحن ترجمة للآخر:
الإعلام ليس عبارة عن مجموعة واحدة متجانسة، فتغطية الإعلام البريطاني لحدث ما أو موضوع إسلامي، يختلف عن تغطية الإذاعات الفرنسية وكليهما يختلفان عن الأعلام الإيطالي أو النرويجي أو الأمريكي لنفس الحدث، كل حسب توجهاته وسياسة كل دولة.
فلماذا إعلامنا ترجمة للآخر وليس ترجمة لنا ليفهمنا الآخر.!
*الفهم لواقعنا (واجب شرعي):
(الصورة لن تتحسن طالما لازالت هناك رؤى خاطئة للنفس وبالتالي للمجتمع خاصة مع المسافة المتناقضة بين (الرؤية الذاتية) والتي تعتمد على القراءة الخاطئة للذات وبين (الرؤية المجتمعية) التي تعتمد على الرؤية النقدوية للمجتمع بمعنى أن الفرد الذي لا ينتقد ذاته أو سلوكه هو ذاته الذي قد يجتهد في نقد مجتمعه بتناقض ملحوظ،إن الوقوف على هذا التناقض بقراءة واعية كفيل بالمساهمة في تحسين الصورة) هذا ما ذكرته الأستاذة غادة الخضير الكاتبة والمحاضرة في قسم علم النفس بجامعة الملك سعود لـ(ـأبجد حياة) حول مدى إمكانية العقل العربي الإسلامي في فهم واقعه المعاصر.
وهنا نحن نبحث تلك الرؤية لدى الآخر علها (محفزاً) لإدراك الحقائق.
*الجاليات المسلمة سفراؤنا في العالم:
إن واجب الدفاع عن الإسلام وتحسين صورته في الغرب، يفرض على الجاليات المسلمة في أوربا العمل على:
- ترشيد الصحوة الإسلامية وتوجيه شبابها المؤمن نحو منهج الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمرتكزة على مبدأ الاعتدال والحوار والوئام دون مغالاة أو تشدد أو تعصب.
وذلك تحقيقاً لقوله تعالى:
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}.
- العمل لإيجاد مناخ اجتماعي تَسَاكُنِيّ خال من كل ما يمكنه أن يضرّ بالعلاقات الطيبة بين الجاليات المسلمة وغيرها، مناخ يعمّه الاستقرار والطمأنينة والتعاون. غير أن على الجالية المسلمة المدعوة لمراعاة قوانين البلاد التي تعمل فيها، وتستفيد في إطار أنظمتها التشريعية والقانونية وعوائدها وظروفها، أن تعمل على تحصين هويتها الإسلامية وعقيدتها الدينية ومقوماتها المتميزة وحقوقها الاجتماعية المشروعة.
- العمل أيضاً لتكثيف الجهود وتنسيقها بين كل العناصر المسلمة وقادة الرأي في العالم، وذلك في إطار العمل الإسلامي المشترك، ومحاولة التخلي عن أسباب الخلافات والصراعات التي لا تفيد الإسلام والمسلمين، وذلك عملاً بقول الله عز وجل { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }.
- التواصل (المستمر) مع المؤسسات الإسلامية والعربية داخل المجتمع الغربي لاستقاء الجديد و(الأصح) عن عالمهم ولدعم الجهود المبذولة والمشاركة في تغيير الصورة.(24/494)
*استطلاعات (الرأي) العامة أولى الخطى نحو التصحيح:
وذكر لـ(أبجد حياة) د/ وليد عبدالله اختصاصي وراثة جزئية:
(أن فهم الفرد العربي المسلم لصورته لدى الآخر لن يكون إلا بإجراء استطلاعات رأي عامة وشاملة من مصادر مختلفة لبدء مسيرة التغيير بنظرة الآخر عن الإسلام والمسلمين.)
وهنا يتضح مطلب علمي منظم وتغيير (حقيقي) حتى في أسلوب العلاج الذي يستخدمه المجتمع الإسلامي العربي لتصحيح صورته.
*الطفل .. لبنة الجيل الجديد:
نفتقد الرسوم المتحركة ذات الطابع الأخلاقي الناضج.
والتي ترسم للطفل العربي المسلم النموذج الذي يتطلع و(يعمل) لأجله..
الطاقات الشابة التي يتمتع بها العالم الإسلامي والعربي لابد تحمل بين حناياها..
حلماً يستحق التنفيذ..
*الرسائل الموجهة للصحف وماذا يقول (القصيبي):
ذكر د/غازي القصيبي في كتابه (حياة في الإدارة ):
(أن هناك مكتب متخصص في إعداد ]رسائل موجهة للصحف[ في لوس أنجلوس وفي كل مدينة أمريكية.
وبوسع كل متعاطف مع إسرائيل يرى مقالاً لا يعجبه عن اسرائيل أن يرسل المقال إلى المكتب،وفي خلال 48 ساعة يصله رد جاهز بالأرقام والتواريخ وماعليه إلا توقيعه وإرساله إلى الصحيفة المعنية.
هذا مايفسر لنا أنه يستحيل أن ينشر أي مقال ضد اسرائيل في أي صحيفة أمريكية دون أن تصل هذه الصحيفة عدة ردود (عقلانية) تعترض على المقال.
كثير من العرب يكتبون رسائل إلى الصحف ولكنهم يكتبونها بطريقة انفعالية تحول بينها وبين النشر، أو تسئ إلى القضية أكثر مما تخدمها إذا نشرت.
كتابة الرسائل إلى الصحف فن قائم بذاته،لاعلاقة له بالبلاغة، ولا بعدالة القضية).
هل نحتاج هكذا مكتب؟! أم هل نملك إنشاء مكتب مماثل؟!
وهل إنشاءه ضرب من المستحيل!
==========(24/495)
(24/496)
قراءة في كتاب (مقدمات الاستتباع) (2/2)
د. بدران بن الحسن 14/8/1426
18/09/2005
في الحلقة الأولى من هذا المقال تناولنا أهم المحاور التي ركّز عليها كتاب (مقدمات الاستتباع) من خلال التصدير والمقدمة، وفي هذه الحلقة نتناول أهم النقاط الواردة في بقية الفصول.
ففي الفصل الأول من الكتاب تناول الكاتب مظاهر نشوء النظام الغربي مركزاً على كيفية اشتغال القوانين الجديدة التي تحكمت في الحملات التبشيرية والمهام التي كُلّفت بها لغزو ما سُمّيَ بالشرق وتشويه صورته، ثم أبرز كيف انخرطت الدول الغربية، لحل مسائلها السياسية الداخلية، في الحملات التوسّعيّة ما قبل الاستعمارية فيما وراء البحار، ثم كيف أسهمت في إضعاف الإمبراطورية العثمانية -التي كانت تشكل تحدّياً سافراً للغرب آنذاك- وترسيخ الانشقاقات الطائفية والعرقية والقبلية والإقليمية بين الجماعات المتعايشة في ظلها.
وفي خمس نقاط يتناول النشوء والنماء الذي سار عليه النظام الغربي؛
ففي النقطة الأولى يتناول عملية التداخل بين السلطة الدينية للكنيسة مع الغزوات التجارية (المركنتيلية)؛ إذ ستتبلور (أيديولوجيا) تجعل من الربح قاعدة لـ"التقدم"، ومن المبادلة الحرة أداة أكثر فعّالية وضمانة لـ"الحضارة"، وذلك حين تحوّلت التجارة عند التجار وأصحاب المصارف إلى "فضيلة"، والمال إلى "صنم" بوصفهما شرطين أساسيين لضمان "النجاح" في الحياة العملية. (ص 28).
وفي مسار تشريع اللاهوت للناسوت "المركنتيلي" اضطرت كل الكنائس أن تتكيّف مع التنمية الخارجية للروح التجارية أو التشجيع لها، ثم الأخذ بالعقلية الصناعية... لقد أوجدت الرأسمالية روحها الخاصة، ووضعت الكنائس أمام ضرورة الاندماج بالقانون الطبيعي (للدولة-الأمة) (ص35-36).
وفي النقطتين الثانية والثالثة: تناول الصراع الذي حدث بين الكنائس على الشرق ودخول البروتستانت (p r otestant) حلبة المنافسة لما كان للمراسلين الكاثوليك من نشاط مكثف، وفي خِضَمّ هذا الصراع كان نشر "الإيمان المسيحي" يجري من خلال ثلاث قنوات: الصحافة والإرساليات ثم الطباعة لكونها وسيلة فعّالة لنشر الأفكار. (ص45).
أما النقطة الرابعة فيتناول فيها اشتداد الهيمنة الأوروبية على الشرق الأوسط في مختلف المجالات في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، بخاصة في عهد محمد علي باشا إثر الشروع في "التنظيمات" الإصلاحية عام 1839م.
وقد قدم المؤلف في هذا السياق حشداً من المعلومات عن الإرساليات الغربية وعن أنشطتها المتشعبة والفعالة بين أهل الشرق، مبيناً ارتباطاتها المباشرة بإستراتيجيات الدول الغربية.
وأما في النقطة الخامسة فقد تطرق الباحث إلى النتائج الضارة التي سبّبتها الإرساليات الأجنبية بمختلف أنشطتها سواء للمسلمين أو للمسيحيين الشرقيين أو غيرهم؛ إذ في إطار التوسع الاستعماري وترسيخ دعائم السيطرة الأوروبية في وعي الأهالي، خاصة باحتواء الأقليات الدينية والمذهبية والإثنية، ثم استقطابها، ثم عزلها وجعلها معادية لقيمها ومحيطها الديني الثقافي والحضاري.
وكانت أهم هذه النتائج الضارة تتمثل في: تأصيل الطائفية، وتفاقم الصراع بين الجماعات، وغرس المشروعين الانفصاليين الماروني، واليهودي.
فمن أجل تأصيل الطائفية، أنشأ النظام الغربي قاعدة للطائفية بزرعه لفكرة "الدولة - الأمة" (nation-state) المجسّد للطائفية نظاماً اجتماعياً، وقد رُبِطت هذه الدولة عمودياً بدول المركز وبعجلتها الاقتصادية، وقام بتلغيم القواسم المشتركة، ووسّع هوة الفوارق الاجتماعية، وأثار النزعات الطائفية بين الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية.
أما فيما يخص تفاقم الصراع بين الجماعات، فهو على ضربين: صراع بين الجماعات الدينية والمذهبية والعرقية، وصراع من مستوى آخر، وهو صراع النخبة المستغربة مع الأغلبية الشعبية.
لقد لاحظنا سابقاً ضمن إستراتيجية التغلغل التبشيري، أن كل القوى الاستعمارية حاولت أن تدعم بطريقة منفردة أو مشتركة، جماعة على حساب جماعة أو جماعات أخرى، متعايشة سابقاً في ظل الخلافة العثمانية، من أجل مد هيمنتها وتكريسها على الخلافة العثمانية وتفكيكها، ثم الوصول إلى اصطناع دويلات مبنية على قواعد عرقية وطائفية وقبلية وإقليمية وجهورية. لكن المشروعين الذين استأثرا أكثر من غيرهما باهتمام القنصليات الأجنبية، في القرن التاسع عشر، هما إنشاء كيانين لليهود الأوروبيين والآخر للمسيحيين المحليين، وبالتحديد الموارنة، ليكونا بمنزلة حصنين متقدّمين للمركزية الغربية في الشرق الأوسط، ومنطلقين للمرافعة عن "العالم الحر".
وفي الفصل الثاني المُعنون "من السيطرة على الطبيعة إلى السيطرة على البشر" قام الكاتب بتحليل الكيفية التي تمّت بها بلورة مفاهيم المركزية العرقية الغربية، وكيف تضافرت هذه المفاهيم مع حملات التبشير باسم "العقل" و"العقلانية" أو "الموضوعية العلمية".(24/497)
ولإبراز المعايير والقيم والعادات الذهنية التي تسكن الخطاب التاريخي المتعالي للنظام الغربي الصاعد، قام الباحث بمقاربة تلمس المقدمات والعناصر الإجرائية المنظمة و "المعقلنة" التي مكنت هذا النظام من تدعيم أسس الاستشراق، كعنصر مكتمل لهيمنته، وتبيان كيفية المحاججات "العقلانية" التي سمحت له بفرض ثقافته على الشعوب المهمشة وخاصة بعد "عصر الأنوار".
هذه المقاربة تناولها في عناصر أربعة: مصادر الخطاب الكوني في منعطف القرنين السادس عشر والسابع عشر، والعرقية المركزية الكامنة في الخطاب الكوني، والحروب بوصفها صمّام أمان "للدولة-الأمة"، ثم استغلال أسطورة "الإنسان المتوحش الطيب".
فالمثقفون في أوروبا في بداية عصر النهضة انكبوا على استنطاق أنفسهم حول الأسباب التي تم إنشاؤها عن طريق الملاحظة الحسية من أجل توسّع الحد الأقصى من فضاء السيطرة على الطبيعة. ومع توسّع التجارة، وظهور علم (الأنثروبولوجيا)، وُلدت شبكة مؤسّسية من المعارف السياسية و(الأيديولوجية)، فمكيافيلي عندما اكتشف التاريخ الروماني بحث فيه عن القوانين الأبدية لسيطرة البشر بعضهم على بعض، في كتابه "الأمير"، وظهرت نظرته في العصر التالي مع مذهب "المصلحة العليا للدولة" التي ما كان لها أن تقوم لولا تبرير وسائل السيطرة الوحشية...، فمكيافيلي بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" الذي كان خلاصة كتابه أسس للغزو الاستعماري وأخلاقه النفعية.
أما (هوبز) فقد دفع بهذا المفهوم إلى الحد الأقصى، واعتبر الحرية ليس شيئاً غير غياب كل ما يحول دون الحركة، كما أعلن أن على الدولة أن تضع الكنيسة والدين في خدمتها، ثم (كوندورسيه)، و(ديكارت) الذي قدم حججاً (للإيديولوجية) الكاثوليكية وشجّعها على تكييف لاهوتها مع التقدم والارتقاء الثقافي العقلاني بوجه كوني.
ومع (هيجل) كشف الخطاب الكوني للغرب عن عرقيته المركزية الكامنة، ذلك أن هيجل لكي يدعم خطابه ويتفادى تحديد نفسه فقط بخطاب كوني متعارف عليه في عصره لجأ إلى التاريخ اليوناني الذي يعده المنطلق العام للتاريخ الإنساني برمته، وهو في أطروحته ينطلق من شقين: في الشق الأول يشيد بالتاريخ الغربي مرجعاً واحداً جديراً بالاعتبار. أما الشق الثاني فيحط من شأن تاريخ الحضارات المسماة بالشرقية ويعدها مرحلة زائلة.
فالجدلية الفكرية عند (هيجل) لا تتجاوز حدود الغرب، وكل فكر خارج هذه الحدود موسوم بالظلامية والاستبداد وانعدام الحرية والتاريخ.
هذه التعميمات تحوّلت إلى بداهات تعزز خطاب المركزية الغربية عن طريق "العلوم الإنسانية"، في إطار التطوّرية الداروينية- السبنسرية، والوضعية الأوغيست-كونتية، والمادية التاريخية (ص 77-80).
ضمن هذا المنظور العام ستغدو كل المسوغات العقلانية ناجزة لشن الحملات والحروب على هذه الأمم الموسومة ب"غير المتحضرة" وقد أصبحت، لاحقاً، حقاً قانونياً ومطلباً حيوياً "للدولة-الأمة "الغربية.
ولإنقاذ المجتمع المدني الغربي من الركود والموت يقترح (هيجل) سلسلة من العلاجات تنطوي على القيام بالحرب والاستعمار. فالحرب لها الفضل في إعادة بناء التجانس الوطني تجاه التهديد المقبل من الخارج، والاستعمار سيسمح للدور الغنية بالتخلص من غير المرغوب فيهم.
أما أسطورة "الإنسان المتوحش الطيب" الموروثة عن العصور الوسطى وعصر النهضة فقد رسخت في الأذهان على شكل استيهامات غرائبية حتى بات الاستعمار يُعدّ عملاً إنسانياً يسوّغ غزو الشعوب "الوحشية" و "الكسولة"، أي: العاجزة عن الإنتاج واستغلال الثروات الطبيعية. الأمر الذي يثير شهوة التوسع والهيمنة عند الغزاة.
أما الفصل الثالث فقد تناول فيها الاستشراق و(أيديولوجية) الهيمنة: فلكي تضفي الدوائر الاستعمارية على (أيديولوجيتها) التوسعية صبغة قانونية وعقلانية كان عليها أن تقدم علومها في مجال الإنسان بصفة علوم حيادية عالمية شبيهة بالعلوم الطبيعية... ولم تتردّد "العلوم الإنسانية" في توظيف أسطورة الإنسان المتوحش" بما يخدم مصالح دولها. والقصد ليس تجريده من مزاياه الفكرية فحسب، إنما هو تأسيس خطاب علمي مخصص للآخرين يبرز للمركزية العرقية الغربية زعزعة ثقة الشعوب الشرقية بذاتها وبمعاييرها وتدمير مجتمعاتها وعوامل الاستمرارية عندها، ولعل هذا ما جعل العلماء -على الرغم من اختلاف مشاربهم (الأيديولوجية)- يجمعون على إسقاط أحكام معيارية مسبقة الصنع على الشرق وإلصاق كل النعوت السلبية به: من قبيل الاستبداد، والتأخر، والكسل، واللاعقلانية، واللاتاريخية.
من أجل "البحث عن آدم جديد" للأوروبي الأبيض والمتفوق والعنصري، عمل الاستشراق على خطين: الوعي اللغوي بمنظار أوروبا ومقاييسها، والميل إلى التجزئة والتفريع وإعادة التجزئة لمباحثه دون أن يغير من رأيه حول الشرق.(24/498)
أما الحتمية العرقية التي نهجها علماء اللسانيات والسلالات فقد أدّت إلى جعل العرق صنماً محركاً للتاريخ على يد (شارك كونت)، و(فيكتور دوليل)، و(غوبينو) الذي يرى أن العرق الأبيض يظهر فيه بوضوح الجمال والذكاء والقوة، ويمتلك عنصرين أساسيين لكل حضارة هما: دين وتاريخ، فضلاً عن اجتماعيته المتحضرة، وتفاوته وتوسّعه عن طريق الغزو (ص 95).
أما (أرنست رينان) فيرى أن العرق السامي يُعدّ شكلاً منحطاً ذا تركيب أدنى من الطبيعة الإنسانية بالمعنى الأخلاقي والبيولوجي (ص 96)، يستثنى اليهود بإدراجهم في دائرة المركزية العرقية الغربية بدعوى أن العرق "الإسرائيلي" قدم للعالم أكبر الخدمات العظيمة (ص 97).
والخط نفسه سار عليه (كوفييه)، و(سانت فانسان)، و(كاتروفاج)، و(دوبلاج) في فرنسا و(توما أرنولد)، و(كنوكس) و(داروين) و(سبنسر) في بريطانيا ثم في الولايات المتحدة على يد (ميرتون)، و(جيرون)، و(نوت) من دعاة الأشكال المتطرفة للنظرية العنصرية المعادية للسود، وبلغ الخطاب العرقي العنصري على يد علماء الأناسة الألمان ابتداء من القرن التاسع عشر حداً متطرفاً مع مبدأ تفوّق العرق الجرماني.
وتحت قيادة هذا الخطاب "العلمي" المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر تحالفت الدولة الممركزة الدستورية، والعلم، والجيش، والصناعة والكنيسة لتوزيع الأدوار وتقاسم المهمات ضمن إستراتيجية منظمة، تراوحت مهماتها حسب الظروف، بين مطاردة السكان المحليين وتهميشهم وبين تسخيرهم وتصفيتهم. كل ذلك باسم الحضارة والحرية وحقوق الإنسان، وتقدم الإنسانية.
هذا التقدم: (الاستعمار والتحضير) نظر له كل فلاسفة أوروبا من (أوغست كونت)، و(هيجل)، إلى المدرسة الماركسية التي لم تفلت من الأسطورة الخاصة بالتقدم الأحادي والحتمي للإنسانية، ولم ينقطعا معرفياً ولا إيديولوجياً مع ثوابتهما الداعية إلى رسالة حضارية في الشرق، وفي الحقيقة ما قامت به الماركسية في أدبياتها حول الشرق كان امتداداً للمدرسة الاستشراقية (الليبرالية).
وخلاصة الكلام حول الاستشراق و(أيديولوجية) الهيمنة التي أنتجتها أن ما يريده المنظرون والمستشرقون هو وضع شعوب الشرق أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الرضوخ النهائي لمنطق الغرب، وإما أنها ستظل تعتبر، من قبل الخارج، محكومة بعدم قدرتها على مواجهة الحياة.
وأما في الفصل الأخير فقد تناول المؤلف "حملة بونابرت على مصر" التي هي نموذج تطبيقي للأدوات والترميزات والتصوّرات الغرائبية التي يحملها الغرب نحو الشرق.
إذ الحملة على مصر -حسب رأي الكاتب- لم تكن ثمرة مشروع عرضي هدفه محاولة بث التفرقة العرقية بين المماليك والمصريين من جهة، وبين العرب والعثمانيين من جهة ثانية باسم الإسلام، ثم تعميق الشقاق والصراع الاجتماعي ما بين الأديان والمذاهب باسم تقديم حلول علمانية زمنية مستمدة من مبادئ عصر الأنوار، للأقليات الدينية والمذهبية.
استخدم نابليون مجموعات من النخب المحلية لضمان سريان أوامره، وعمل على تأييد المارونيين، واستعطف اليهود ودعاهم إلى النهوض لتحقيق مطالبهم واستغلال الفرصة للعودة إلى أرض الميعاد.
ورغم أن احتلال بونابرت لمصر باء بالفشل على الصعيد العسكري، إلا أن آثاره لا تزال حتى اليوم تسيطر على منظوراتنا الثقافية والسياسية، ولقد انقسمت غالبية النخب المحلية المحدثة إزاء هذه الحملة إلى اتجاهين:
الأول: رأى فيها منعطفاً حاسماً في تشكل تاريخهم الحديث، لكونها كانت مبعثاً على "النهضة العربية" بفعل آليات المثاقفة مع الآخر الغربي.
أما الثاني: فيتمثل في التوفيق ما بين العلوم الحديثة المستجلبة والتراث العربي الإسلامي، وذلك بتطويعه للنموذج الغربي.
ولا يزال الصراع يدور بشكل سحالي دون نقاط مضيئة حول الأسس المشتركة لتحقيق النهضة.
في الخاتمة يناقش الباحث فكرة تجاوز الغرب لمقولاته المعرفية، غير أن الباحث -وأظنه محقاً في ذلك- يرى ألاّ نستعجل ونعمم الحكم على غالبية (الأنثروبولوجيين) والمؤرخين والمستشرقين بأنهم قد قطعوا، من حيث المضمون، مع مركزية النظام الغربي لكونهم انتقدوه أو انتقدوا مظاهره.
ذلك لأن عملية القطيعة تستدعي إعادة نظر جذرية في العديد من المسلمات الغرائبية والاستيهامية الثاوية في النظام المعرفي الغربي المؤسسي، ولا يكفي أن تطلق صفة القطيعة حتى يسلم آلياً بكل أشكال التطبيقات المعرفية، وما تتضمنه من إسقاطات ماسخة على شعوب الشرق وثقافاته.
إن أي ترويج اعتباطي لمفهوم القطيعة -دون قيام نوع من علاقة المحاورة المتفاعلة بين الغربي والطرف الآخر- يُعدّ إضافة أيديولوجية إلى جملة ما هو سائد.
وفي الختام:(24/499)
هذا وإن الكتاب مليء بالأفكار يحتاج إليه كل مثقف يريد لنفسه أن يتفاعل إيجابياً مع الغرب المهيمن بخيله ورجله وأفكاره وإنتاجه، ذلك أنه يبحث في الجذور المعرفية التي أسست للخطاب الغربي المستعلي، ويقوم بالحفر في عمق مدلولات الخطاب ليبرزها، ويناقش "حقلاً معرفياً" يحتاج إلى ارتياد الكثير من ذوي البصائر وأولي الألباب، حتى يؤسس التعامل مع الغرب على علم، وتُختصر الكثير من المعارك الوهمية، وتُقتصد الجهود، والله أعلم.
قراءة في كتاب (مقدمات الاستتباع(
د. بدران بن الحسن 30/7/1426
04/09/2005
لماذا علم الاستغراب؟
من المسائل الشائكة في عالم أفكارنا كيفية التعرف على الغرب ومعرفة أنساقه الفكرية وتجربته الحضارية وخصائصه التي تميزه عن غيره من الكيانات الحضارية. ولذلك تواجهنا مجموعة من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات علمية دقيقة تساهم في فهم الغرب وتوفير آليات منهجية للتعامل معه.
وهنا يُثار تساؤل عن كيفية ضبط العلاقة مع الغرب؛ إذ إن الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي جعلنا في موقف ينبغي أن نحدد الصلة به، وخاصة أن ما يفيض علينا وعلى غيرنا من الأمم والشعوب من إنجازاته الحضارية ومن فوضاه الحالية جعل منه مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالعالم كله وبالعالم الإسلامي بوجه خاص.
وهنا يأتي ما يمكن أن نسميه علم الاستغراب كما ذهب إلى ذلك الأستاذ حسن حنفي وغيره من المهتمين بالتأسيس لعلم يقوم على دراسة الغرب. وهذا لا يجعل العالم الإسلامي تابعًا في حلوله للغرب -كما يعتقد كثير من التغريبيين أو غيرهم من دعاة الأصالة الإسلامية- وإنما يتطلب منا أن نعرف التجارب الحضارية المختلفة لنتحقق من مدى نسبيتها ومدى قابليتها للنقل والاستفادة.
فإذا ما أدرك العالم الإسلامي أن الظاهرة الحضارية الغربية مسألة نسبية، فسيكون من السهل عليه أن يعرف أوجه النقص فيها، كما سيعرف عظمتها الحقيقية، وبهذا تصبح الصلات مع العالم الغربي أكثر خصوبة، ويسمح ذلك للنخبة المسلمة أن تمتلك نموذجها الخاص، تنسج عليه فكرها ونشاطها. فالأمر يتعلق بكيفية تنظيم العلاقة، وعدم الوقوع في الاضطراب كلما تعلق الأمر بالغرب.
فالعالم الإسلامي منذ بداية الجهود التجديدية الحديثة يضطرب، كلما تعلق الأمر بالغرب، غير أنه لم يعد بذلك البريق الذي كان عليه منذ قرن تقريباً، ولم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية ظفر بها على عهد أتاتورك مثلاً، فالعالم الغربي صار حافلاً بالفوضى، ولم يعد المسلم الباحث عن تنظيم نفسه وإعادة بناء حضارته الإسلامية يجد في الغرب نموذجًا يحتذيه، بقدر ما يجد فيه نتائج تجربة هائلة ذات قيمة لا تقدر، على الرغم مما تحتوي من أخطاء.
فالغرب تجربة حضارية تُعدّ درسًا خطيرًا ومهماً لفهم مصائر الشعوب والحضارات، فهي تجربة مفيدة لإعادة دراسة حركة البناء الحضاري، وحركة التاريخ، ولبناء الفكر الإسلامي على أسسه الأصيلة، وتحقيق الوعي السنني، الذي ينسجم مع البعد الكوني لحركة التاريخ، ذلك البعد الذي يسبغ على حركة انتقال الحضارة قانونًا أزليًا أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)[آل عمران:140].
فالتأمل في هذه التجربة التي صادفت أعظم ما تصادفه عبقرية الإنسان من نجاح، وأخطر ما باءت به من إخفاق، وإدراك الأحداث من الوجهين كليهما، ضرورة ملحة للعالم الإسلامي في وقفته الحالية؛ إذ هو يحاول أن يفهم مشكلاته فهمًا واقعيًا، وأن يقوّم أسباب نهضته كما يقوّم أسباب فوضاه تقويمًا موضوعيًا.
وحتى تُنظّم هذه العلاقات، ويُستفاد من هذه التجربة البشرية، ويُدرك مغزى التاريخ، لا بد من فهم هذا الغرب في عمقه، وتحديد خصائصه، ومعرفة ما يتميز به من إيجابيات وسلبيات، حتى لا تكون معرفتنا به سطحية مبتسرة، وأفكارنا عنه عامة، وغير نابعة من اطلاع متأمل، وبالتالي يكون وعينا به مشوهًا أو جزئيًا.
ولقد أضاع المسلمون كثيراً من الوقت منبهرين بما حققه الغرب، دون أن يتأملوا ويدركوا سر حركة التاريخ في الغرب، فنرى كثيراً من الباحثين والمفكرين المسلمين بمختلف انتماءاتهم يجهلون حقيقة الحياة الغربية والحضارة الغربية بالرغم من أنهم يعرفونها نظرياً، كما أنهم ما زالوا يجهلون تاريخ حضارتها. وإنه بدون معرفة حركة تاريخ هذه الحضارة والمنطق الداخلي الذي يحكمها، فإننا لم ندرك سر قوتها ولا مكامن ضعفها، ولم نعرف كيف تكوّنت، وكيف أنها في طريق التحلّل والزوال لِما اشتملت عليه من ألوان التناقض، وضروب التعارض مع القوانين الإنسانية.
وإذا كانت المائة سنة الأخيرة قد تميزت بتقريب المسافات، واتجاه البشرية نحو التوحّد، في مصيرها، وفي علاقاتها، فإن المثقف المسلم نفسه ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة، ويرتقي إلى إطار الحضور العالمي، وعيًا وإنجازًا، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي؛ إذ لا يمكن أن نطرح مشاكلنا في زمن العولمة والكونية، دون أن نأخذ في الاعتبار كل المعطيات السياسية والجغرافية والإستراتيجية.(24/500)
وتحديد الصلة بالغرب وبغيره من الكيانات الحضارية، يعطينا تحديدين مهمين في إنجاز مشروعنا التجديدي:
التحديد الأول: هو التحديد السلبي، وذلك من خلال إدراك نسبية الظواهر الغربية، ومعرفة أوجه النقص فيها وأوجه العظمة الحقيقية.
أما التحديد الثاني: فهو التحديد الإيجابي، من خلال تحديد ما يمكن أن نساهم به في ترشيد الحضارة الإنسانية وهدايتها.
وهذا في حد ذاته ينضج ثقافتنا ويعطيها توجهًا عالميًا، فمن المفيد قطعًا أن ننظر إلى حركة التاريخ والواقع من زاوية عالمية لنكتسب بذلك وعياً عالمياً، فإذا أدركنا مشكلاتنا في هذا المستوى، فإننا سندرك -لا محالة- حقيقة الدور الذي يُناط بنا في حضارة القرن الحادي والعشرين.
ما هو منظور علم الاستغراب؟
إن مسألة تحديد النسق أو المنظور الذي من خلاله نتناول القضايا ومناقشة المشكلات المختلفة من الأهمية بمكان. ذلك أن تحديد المنظور يمكّن الباحث أو الدارس من الإحاطة بالمسألة، وامتلاك القدرة على إدراك مختلف أبعادها، وكذلك إمكانية صياغة حلول متناسقة قائمة على منهج واضح.
وبعبارة أخرى فإن منظور رؤية الأشياء هو الذي يحدد المنهج المقتضي للاتباع وتناول تفاصيل المسائل. وفي هذا السياق فإن النظر إلى مسألة ما من منظور فقهي -مثلاً- يؤدي إلى اعتماد منهج يختلف بالضرورة عن المنهج الذي يعتمد على منظور كلامي أو ثقافي أو حضاري أو سياسي.
وتحديد المنظور الذي من خلاله نعالج المسائل يسهل مهمتين للدارس؛ من حيث الاتساق في صياغة المنهج المراد اتباعه لعلاج المسألة موضوع البحث، ومن حيث القدرة على نقد مدى علمية المنهج المتبع في حل قضية ما ومدى اتساقه مع نفسه واتساقه مع الحقيقة الخارجية.
ويمكن القول: إنه بتحديدنا للمنظور، وبالتالي تحديدنا للمنهج المنبني عليه يمكن معرفة مدى شمولية ودقة واستيعاب هذا المنظور أو ذاك لمختلف الأبعاد، ومدى قدرة المنهج المنبني عليه على علاج المشكلات المختلفة للقضية أو الظاهرة أو المسألة موضوع البحث والدراسة.
والكتاب الذي بين أيدينا يُعدّ حلقة مهمة في بناء منظور ومنهجية للتعامل مع الآخر الغربي، ذلك أنه يبحث في جذور الغرب الثقافية والمعرفية التي شكّلت -ولا تزال- تعامُلَه مع غيره، كما يظهر الكتاب الاستعدادات الثقافية التي مكنت الغرب من أن يبلور، بوساطتها صورة عن ذاته، ويشكل صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، والتمركز المستعلي على غيره. ويتناول مصادر خطاب السيطرة على البشر بعد السيطرة على الطبيعة، ثم الاستشراق، وأيديولوجية الهيمنة.
محتوى الكتاب
يقع الكتاب في (160) صفحة من القطع المتوسط، متضمناً تصديراً للدكتور طه جابر العلواني، ومقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
في التصدير أشار الدكتور العلواني إلى أن عنوان الكتاب "الاستتباع" يستدعي إلى الذاكرة مجموعة من المفاهيم والمصطلحات سادت في أوساط مثقفي الأمة منذ منتصف القرن الماضي، مثل: الاستعمار، والاستشراق، والاستغراب، والاستكبار، ... النظام العالمي الجديد والإرهاب، والأصولية، والظلامية ونحوها.
والكتاب يستدعي هذه المفاهيم لأنه يعالج "حقلاً معرفياً" واسعاً يتصل بكل هذه المفاهيم. وهذا الكتاب يتناول الغرب بتحليل بنائه وأطره المنهجية، ومسلماته المعرفية (الإبستمولوجية) وفلسفته ونظرياته وقواعده المعرفية، وينقّب عن كيفية تحول الغرب إلى المركزية في رؤيته لذاته وتهميشه للآخرين، بل واستتباعهم.
ويشير إلى الطريقة التي تناول بها العقل المسلم ظاهرة الاستشراق، وأنها كانت دون مستوى الإحاطة بالظاهرة، وانعدام الاهتمام بتحليل البنى المعرفية والأطر المنهجية للاستشراق بوصفه حقلاً معرفياً نشأ في إطار العلم الغربي وفلسفته ونظرياته وأسسه المعرفية، وكان موضوعه الآخر غير الغربي، مستمراً في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات في الشرق المسلم، وأن هذا الحقل المعرفي قد أسس لنفسه علوماً لبناء شبكات المفاهيم الجديدة والمنظومات المعرفية المؤطرة في فلسفته (التصدير، 10).
في المقدمة يشير المؤلف إلى عدة أفكار مهمة في سياق معالجته للموضوع، أهمها:
- التناول الاجتزائي للاستشراق: فيرى الباحث أن الكتابات حول الاستشراق ونتائجه منذ عقدين من الزمن ونيف، وقع معظمها ضحية منظورات اجتزائية لم تضع الاستشراق ضمن النسق المعرفي المؤسسي العام للحضارة الغربية، فهو ليس ظاهرة موازية للنسق المعرفي المؤسسي الغربي المهيمن ولا منقطعة عنه أو عرضية فيه، إنما على العكس استمدت جذورها من هذا النسق بكل مكوناته المعرفية والمذهبية، نسجت خيوطها في كنفه، وتشكّل جزءاً أساسياً في إنشاء نموذج (الدولة-الأمة) في الغرب.(25/1)
- طرق الاستعمار في بسط الهيمنة: إذ لم يلجأ الاستعمار -في فرض هيمنته ونمط إنتاجه وإملاء شروطه، بوصفها حقيقة وحيدة لازدهار الحضارة- دائماً إلى سياسة النهب الخالص وسياسة المدفع السافرة، إنما اعتمد على أساليب أخرى أيضاً في مرحلة ما قبل الاستعمار المباشر، وذلك عن طريق الاتفاقيات التجارية والعسكرية والعلمية مع حكام دول الأطراف وتكوين أنصار وزبائن مفتونين بمبادئه وقيمه ومؤسساته في المجتمعات المحلية، والتسلل إلى الضمائر وتطويعها وتسخيرها لصالحه.
- عقدة التفوق الغربي التي تحكم الغرب؛ إذ لكي يستأثر بزمام المبادرة في معالجة التاريخ العالمي يرفض الاعتراف بالقيم والرموز الخاصة بالثقافات المغايرة، أو بفكرة تاريخ متعدد، ويلجأ إلى تقطيع مجتمعات الأطراف إلى شرائح وكيانات قبلية وطائفية، أو عرقية وإقليمية، ويحوّل تواريخ الشعوب إلى أصفار على هامش الحضارة، لا قيمة لها إلا بقدر اندماجها في دائرة السوق المتمم لحاجات إنتاجية المركز الأوروبي.
- الجذور الأيديولوجية والمعرفية للغرب: فالجذور الأيديولوجية للغرب ونظريته المعرفية تأسست ابتداءً من عصر النهضة، ومشروع الغرب يتجه نحو تطوير قيم أخلاقية جديدة متحررة شيئا فشيئاً من الدين لصالح نظرية جديدة عن المعرفة، ممثلة في أولوية المعرفة الموضوعية المستمدة من مجالي التجريب والرياضيات.
- ذهنية الصراع والسيطرة على الطبيعة والإنسان التي تحكم الغرب في تعامله مع الشرق، ضمن تراتبية تنطوي على إقامة فوارق جوهرية ثابتة بينه وبين سكان الشرق، وجعل نفسه وصياً وحيداً في تقرير مصائرهم تحت شعار تحرير الوثنيين والكفار "الوحوش" أو "الهمج" من "الظلامية" و"العبودية".
بمقتضى هذه الاستراتيجية راح الغرب يُساوي نفسه مع التاريخ، وله وحده الاستحواذ على مواقع النجاح، ولو على حساب ثقافات وتواريخ الشعوب الأخرى ومحوها.
- نشأة (الأنثروبولوجيا) الغربية: فالغرب أنشأ هذا العلم لدراسة إنسان ما وراء البحار بمناهج جديدة تهدف إلى عزله عن كل الظروف الاجتماعية التاريخية، ونكران ما يمثله من قيم ثقافية مغايرة. وحسب منظور (الأنثروبولوجيا) الغربية لم يعد ثمة شيء عقلاني، بالمعنى الحرفي سوى النظرية (الأنثروبولوجيا) "الإنسانية" عن ثقافة الشعوب التي اصطلح على تسميتها "بالبدائية" أو "الوحشية"، ولم يعد هناك من ثقافة سوى ثقافتهم من وجهة نظرهم هذه.
وإذا تم الاعتراف بعظمة حضارات (الغير) فبمقدار استجابتها لمصالح وترميزات المركزية الغربية. (ص 19 - 21).
- (إيديولوجيا) الفتح، والتسويغ لخطاب السيطرة: إن الخطاب المسيطر والمؤسس في القرن التاسع عشر، تحالف تحت قيادته الدولة المركزية الدستورية والعلم، والجيش والصناعة والكنيسة حاملة رسالة التبشير، لتوزيع المهام وتقاسم النفوذ ضمن إستراتيجية منظمة روّج لها رواد (أيديولوجيا) الفتح أمثال مونتسكيو وهيجيل وماركس ووايتفوغل...
=================(25/2)
(25/3)
واقع المسلمين هو أكبر 'حاجز' بين الإسلام والغرب !!
حوار: عبد الحق بوقلقول 10/10/1427
01/11/2006
لا تخطئ عين أي مراقب للواقع الغربي و نظرته تجاه الإسلام و المسلمين، أن هذا الأخير بات يجد صعوبة كبرى في فهم حقيقة هذا الدين بعد حملات التشويه 'المقصودة' التي صار يتعرض لها الدين الحنيف خصوصا منذ أحداث 9/11 التي سرعت عملية استخراج سرائر أغلب صناع السياسة و الإعلام على وجه خاص هناك تجاه الشرق الإسلامي و مقدساته بوجه عام.
من بين أوضح أمارات هذا الانكشاف الفجائي، قضية الرسوم المسيئة و تداعياتها التي ما تزال ماثلة حتى هذه الأيام و من بينها مثلا قيام إحدى الصحف النرويجية مؤخرا بإعادة نشر تلك الرسوم بكيفية يجمع المراقبون على أنها أضحت الطريق السهلة إلى الشهرة بدليل أن كاتبا مغمورا في فرنسا لا يعدو أن يكون مدرسا ثانويا، كتب في صحيفة لوفيغارو الباريسية مقالا تهجم فيه على الإسلام بطريقة شنيعة أثارت استغراب عدد غير قليل من المفكرين الفرنسيين أنفسهم.
و لكي نحاول تسليط الضوء على واقع و طرائق تحرك الجالية الإسلامية في الغرب تجاه هذه الموضة الفكرية التي لاحت في الأشهر الأخيرة، اتصلنا بالأستاذ المفكر الطيب برغوث الذي هو من أبرز رموز التيار الإسلامي في الجزائر و المقيم منذ سنوات طويلة في النرويج بسبب الوضعية التي كانت عليها بلاده. الأستاذ الطيب هو زيادة على هذا، عالم اجتماع و صاحب عدد كبير من المؤلفات الدعوية التي تعنى خصوصا بالجانب التنظيري في العمل النخبوي. و لقد رحب مشكورا بطلبنا فكان هذا الحوار الذي عرجنا فيه على مواضيع عديدة:
هل يمكن بداية أن تضعنا في الأجواء التي تعيشها الجالية الإسلامية بالنرويج مع هذه الحلقة الجديدة من مسلسل الإساءات الغربية في حق المسلمين و مقدساتهم في الفترة الأخيرة.
لا شك أن الجاليات أو الأقليات المسلمة في البلدان غير الإسلامية، تمثل جزءا حيويا وفاعلا من هذه الأمة الإسلامية الكبرى، والانفتاح عليها والاهتمام بها من مؤشرات الخيرية والنضج وبعد النظر فيها.
وعموما فإن الأقلية المسلمة في المجتمع النرويجي تعيش في حدود معقولة من الأمن والأمان، بالرغم من الأجواء العالمية المشحونة بالإسلاموفوبيا والتحريض ضد المسلمين بل والإسلام ذاته أحيانا ! من قوى يمينية عديدة، بل و حتى من بعض القوى المسلمة مع الأسف الشديد !؟ ولكن ذلك كله لم يؤثر على الحدود الدنيا المعقولة من الأمن والأمان الذي تعيشه. ولو عرفت هذه الأقليات كيف تستفيد من هذه الأجواء، واستثمرت ما يتاح لها من إمكانات قانونية ومادية واجتماعية وسياسية في هذا البلد، لانفتحت أمامها فرص حياة أكثر أمنا وأمانا وفاعلية وتأثيرا واندماجا في المجتمع، ومحافظة على هويتهم وإذكاء لفاعليتها الروحية والاجتماعية في حياة أفرادها، ونقلا لإشعاعاتها الحضارية إلى المحيط المتعطش للروحانية والأخلاقية الاجتماعية التي قتلتها المادية المتوحشة .
هل لنا أن نعرف منكم كيف بدأت القضية بما أن موقف الحكومة النرويجية خلال أزمة الرسوم الدنمركية، كان متوازنا إن صح التعبير؟
أود أن أشير إلى أن قضية الرسوم قضية جزئية من مسلسل طويل الحلقات يمتد بعيدا في تاريخ المواجهة بين الدين والحركة العلمانية في أوروبا ذاتها من ناحية، وفي تاريخ المواجهة بين الإسلام والغرب بكل اتجاهاته وواجهاته التبشيرية و الاستشراقية والاستعمارية من ناحية أخرى، وهو كم ممتد في الحاضر بصور شتى، وخاصة في ضوء اختلال التوازن الذاتي للمسلمين، وتراجع فاعليتهم الحضارية، ودخولهم في مراحل متقدمة جدا من الغثائية والتبعية الحضارية المحكمة، وحرص القوى المستكبرة على إبقاء الأمة في هذه الدائرة من التخلف والتبعية والاستضعاف.
فقضية الرسوم أو وغيرها من قضايا وضع الإسلام والمسلمين في دائرة الاتهام والحصار، وشل الإرادة الحضارية، واستنزاف الإمكانات الحضارية، وتعويق النهضة الحضارية الجادة للأمة.. أمر ليس بجديد، و لولا الاهتمام الإعلامي لما كان لذلك أي صدى، ولو أن وسائل الإعلام أرادت أن تتابع المواقف الفكرية والسياسية المتحسسة من الإسلام والمسلمين، والمحرضة ضدهما، لوجدت نفسها في وضع العاجز عن تغطية ما يحدث يوميا على هذا الصعيد.
فالرسوم السيئة الذكر فقرة أو مفردة بسيطة في حركية ثقافية واجتماعية وسياسية بل وحضارية ضخمة، متدفقة بقوة وغزارة في اتجاه تكريس الصور النمطية الخاطئة عن الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم خاصة وعن المسلمين وتاريخهم وحاضرهم عامة. وأنا لا أريد أن أتعاطى مع هذه الحركة الإعلامية الطوفانية من منطلق الاستغراق في مفرداتها الجزئية اليومية بل واللحظية التي لا نهاية لها، والتي قد يكون القصد منها، في كثير من الأحيان، شغل الأمة عن الأولويات المركزية في حركة نهضتها الحضارية، وجرها إلى أولويات لا تخدم هذه النهضة بل تعيقها وتعرقل مسيرتها، وتستنزف طاقاتها الثمينة في الجري وراء المعارك الوهمية !(25/4)
هل معنى ذلك أن تصرف الأمة نظرها عن هذه الحركية الفكرية والسياسية المضادة لها، وتتجه نحو بناء قدراتها الذاتية ؟
التركيز على بناء القدرات الذاتية هو الأساس. ولكني لا أقصد هنا أن تنكفئ الأمة على نفسها وتترك العالم يموج من حولها، لأن التعاطي مع التحديات جبلة بشرية، وضرورة حياتية، وقد تكون وجودية أحيانا. ولكن قصدي هو: الانتباه إلى ما في هذه الحركية المضادة أو المستفزة، من قصد منهجي إلى شغلنا عن الأوليات الحقيقية لنهضتنا الحضارية، بل وقصد إلى شغلنا بأولويات أخرى تصب في خدمة استراتيجيات مضادة لنهضتنا ومضرة بها . وهنا يكمن الإشكال ويتجلى الخطر. لقد نبهنا القرآن إلى هذه الأبعاد في التحديات والمثيرات الخارجية والداخلية، كما نرى ذلك في قوله تعالى: ( وإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ).
فالقرآن يعلمنا منهجية التعاطي مع التحديات والمثيرات، حتى نحافظ على توازننا الفكري والنفسي والسلوكي، ونتجنب تبديد فاعليتنا الاجتماعية، ولا نمكِّن خصومنا من خدمة استراتيجياتهم على حسابنا. ولا شك أن هذا يحتاج إلى رد الأمر إلى خبراء الدعوة والمجتمع والدولة في أمتنا، ليوازنوا الموقف ويسددوه بكفاءة وحكمة، ويدفعوا به في اتجاه خدمة مصالح الأمة، وتحقيق التواصل المتوازن بين البشر في الأرض.
هذا من الناحية النظرية، و لكن كيف تعاطت الجالية المسلمة عمليا، مع حركة الإساءات التي بلغت ذروتها في الرسوم المسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام؟
لقد تنوعت وتباينت أشكال التعاطي، وتراوحت بين الاحتجاجات المكتوبة والشفهية والتجمعات واللقاءات الفكرية والإعلامية والقانونية، وكان في ذلك فوائد كثيرة بالنسبة للجالية التي تكتشف مع كل تحدي أو استفزاز طرقا ووسائل جديدة للعمل والتواصل مع المجتمع، كما تكتشف كذلك نواقص و اختلالات كثيرة في وعيها ومناهج عملها، وفي ذلك خير لها و للمجتمع .
وأذكر كمثال على هذا التعاطي الفعال، أنني شخصيا شاركت في ندوة إعلامية كبيرة، دُعي لها ما يقرب من 300 إعلامي من مختلف وسائل الإعلام بالنرويج، بالإضافة إلى النقابات المرتبطة بالقطاع الإعلامي والمنظمات الحقوقية، واستغرق الحوار بيننا وبينهم أكثر من ثلاث ساعات بحضور المسئول عن نشر الرسوم المسيئة، وكانت النتيجة أن الكثير من الحاضرين كانوا ضد هذه الرسوم وغير مستسيغين لها، مع أنهم كانوا مجمعين كلهم على قداسة حرية الرأي والصحافة عندهم. وكانت فرصة كبيرة لنا نحن ممثلي الجالية في المدينة التي نظمت بها الندوة، لنقدم الرؤية الإسلامية المتوازنة لحرية الرأي وكيفية ارتباط ذلك بالمسؤولية، وبضرورة حماية حقوق الآخرين، انطلاقا من القاعدة الذهبية التي تقول : "حريتك تنتهي عندما تبدأ حريتي أو عندما تنتهك حريات وحقوق الآخرين" .
وكان من بين ما أكدنا عليه في هذا الإطار هو أن الإسلام تجاوز مرحلة إقرار حرية الرأي والنقد وتحبيذها، إلى مرحلة إيجابها عندما يتعلق الأمر بحماية حقوق الآخرين ورفع المظالم عنهم، والدفاع عن المصالح العامة للمجتمع والإنسان، واعتبر ذلك من أهداف المجتمع المسلم وخصائصه الطبيعية الذاتية التي لا تنفك عنه، ومن الشروط الأساسية لفاعلية أدائه الاجتماعي والحضاري.
ماذا عن رد فعل المسئول عن نشر الصور المسيئة؟
لقد أبدى بعض المجاملة لنا في حديثه عن الموقف، وأنه لم يكن يتصور كل هذه النقمة عليه. ومما لاحظته في هذه الندوة الهامة هو أن هذا الصحفي كان يحس بالعزلة لأن الغالبية استهجنت موقف الجريدة، بما في ذلك ممثل الكنيسة الذي كان معنا، وشاركنا في موقفنا على طول الخط، مع أن الخط الفكري لهذه الجريدة خط ديني كنسي بصفة عامة، وإن كان أكثر يمينية وتحسسا من الإسلام والمسلمين.
الغربيون يفسرون هذه التصرفات باعتبار أنهم يشعرون بأن قيمهم الديمقراطية "مهددة " من قبل ما يصفونها "الأصولية الإسلامية". ما رأيكم؟ كيف يمكن مواجهة هذا التشويه "الممنهج" للدين الحنيف؟
هذا صحيح، وهو جانب مهم جدا من خريطة التفسير الصحيح للموقف الغربي عامة من الإسلام والوجود الإسلامي بالغرب، بل وحركة الحضور الإسلامي على الصعيد العالمي. فالغرب خائف من تنامي الظاهرة الإسلامية في مجتمعاته، في ظل معطيات ديموغرافية واجتماعية وروحية تفسح المجال للظواهر الدينية عامة والظاهرة الإسلامية منها خاصة بالتأثير في هذه المجتمعات ! وإن كنت أرى بأن هناك مبالغات كثيرة في هذه المخاوف.(25/5)
ولكن اسمح لي أن أضع الجواب على هذا السؤال في إطاره السنني الكلي، من أجل وعي أكثر موضوعية وفعالية في تحليل الظواهر والتعاطي الإيجابي معها. وحتى لا تستغرقنا جزئيات المدافعة الاجتماعية المتسارعة فننسى القوانين الكلية التي تحكمها، ويضطرب موقفنا منها، ويتشتت تعاطينا معها، وننجرف وراء الأعراض والنتائج على حساب المقدمات والمؤثرات الفاعلة فيها كما أسلفت.
فالحياة تحكمها سنة الله في "التدافع والتجديد" التي لا تتغير ولا تتحول. فمن استطاع أن يحقق شروط التجديد الذاتي في نفسه، أمكنه أن يرفع مستوى فعالية مدافعته الاجتماعية، ويعزز فرص مواكبته أو منافسته أو ريادته ومداولته الحضارية.
فالغرب أو الشرق أو أي مجتمع أو أمة في الأرض محكومة بقانون المدافعة الاجتماعية، حتى تحافظ على وجودها أولا، وتوفر شروط التألق الحضاري لهذا الوجود كلما أمكنها ذلك ثانيا. تلك سنة الله في الاستخلاف البشري .
ونحن لا نلومه على ذلك، ولكن نلوم أنفسنا ابتداء، عندما لا نمتلك القدرة على التخفيف من مخاوفه، وعلى العجز عن إقناع المجتمع الغربي بأن الوجود الإسلامي فيه، يشكل إضافة نوعية لا يستهان بها، وعامل وقاية استراتيجية بالغة الأهمية للحضارة الإنسانية المعاصرة، لو استطاع الغرب أن يحقق انفتاحا حقيقيا على الروحية والأخلاقية والتكاملية الاجتماعية في الإسلام.
كيف لا يلام الغرب على مواقفه المتطرفة تجاه مقدسات الآخرين خاصة ومصالحهم عامة ؟
اللوم من منظور المثالية الأخلاقية لا بد منه، لأنه يدخل في أضعف الإيمان، وهو حاصل باستمرار، وخاصة من القوى المستضعَفة التي عادة ما لا تمتلك من مقومات الانتصاف سواه، ولكنه من منظور سنن المدافعة الاجتماعية أمر لا معنى له، وخاصة عندما يتعلق الأمر بلوم القوى المستبدة المستكبرة أو المعادية، التي لا تقيم أي وزن للبعد الأخلاقي في تصرفاتها ومواقفها، كما لا تقيم أي وزن إلا للقوى الندية القادرة على حماية مصالحها بنفسها. فالوضع هنا يشبه تماما من يستجيب لمغريات الشيطان ووساوسه ثم يلوم الشيطان على الإيقاع به وتدمير وجوده! في الوقت الذي كان عليه أن يلوم نفسه ويقوّم ضعفه وقصوره.
فنحن نلوم غيرنا وقد نندد به على ما يُلحقه بمقدساتنا ومصالحنا من أذى، ولكن ذلك لن يجدي نفعا على صعيد المدافعة والمداولة الاجتماعية الحضارية، إذا لم نجدد ولم نطور قدراتنا الذاتية التي تسمح لنا بالمنافسة والمناجزة الفاعلة عند اللزوم. فمنطق المدافعة لا يحفل بالضعفاء الذين لا يمتلكون القدرة على حماية أنفسهم ومقدساتهم ومصالحهم، مهما كان الحق معهم، لآن الحق بدون قدرة فعلية تجسده وتحميه، يظل أملا في النفوس، وكلمات صامتة في بطون الكتب.
ومع الأسف فإن وضع المسلمين؛ أفرادا ومجتمعات ودولا.. لا يسمح لهم بالانتقال من مرحلة اللوم والتنديد إلى مراحل فرض احترامهم على العالم، والحكمة تقول: ومن يهن يسهل الهوان عليه ! بالرغم من أن القرآن علم المسلمين منطق المدافعة الاجتماعية، وأرشدهم إلى شروط فعالية هذه المدافعة، من خلال تأكيده على سنة التجديد الذاتي الدائب، الذي يشحذ قدرات الوعي والبناء والوقاية لدى الفرد والمجتمع والدولة، كما جاء ذلك في قوله تعالى: " ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) .
ففعالية المدافعة الاجتماعية هي التي توفر شروط وقدرات تحقيق التوازن في حركة المدافعة والمداولة الحضارية بين المجتمعات والأمم، وتحمي المقدسات والمصالح، ومن عجز عن تجديد مستوى فاعلية مدافعته الاجتماعية، قذفت به حركة المدافعة في مستنقعات الغثائية والتبعية الحضارية الذليلة.
لكن ما أسباب هذا العجز عن إقناع الغرب بهذه الإضافة النوعية الإسلامية؟ وما أسباب فشل الغرب في الانفتاح الحقيقي على هذه الإضافة النوعية الضرورية بالنسبة له، في ظل ما تعانيه حضارته المعاصرة من ضمور في المعاني الروحية وتدهور في القيم الأخلاقية، وطغيان للمادية والفردية في نموذجه الاجتماعي والحضاري؟
أسباب عجزنا نحن المسلمين كثيرة، ولكن يمكن تلخيصها في ضعف الوعي السنني التكاملي لدى المسلم المعاصر عامة، وهو ما ينعكس بالضرورة على ضعف روحيته الداخلية، وعلى ضعف أخلاقيته السلوكية، وعلى ضعف بل وسلبية فعاليته الاجتماعية، وتقهقر مستمر في موقعه الحضاري . فالوعي السنني المتكامل هو المدخل المنهجي الصحيح لتفسير كل هذه الحلقات المترابطة من الضعف، ووضع اليد على مكامن العجز في الأمة من ناحية، كما أنه المدخل المنهجي الصحيح لإدراك الشروط الموضوعية الصحيحة لتحقيق الإقلاع الحضاري المطلوب .(25/6)
فنحن لا نمتلك القدرة على نقل إشعاع الإسلام للآخرين، لأن هذا الإشعاع غير موجود أو غير مكتمل فينا؛ عقيدة وإرادة وسلوكا وتواصلا مع العالم.. و فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال ! ولست في حاجة إلى التدليل لك عن مظاهر الضعف والعجز التي يعاني منها وعينا الفكري، وروحيتنا الداخلية، وأدائنا السلوكي والاجتماعي، لأن القصور في هذا المجال أكثر من أن يحتاج إلى تدليل !
لكن مع ذلك أحتاج منك إلى بعض الأمثلة إن أمكنك ذلك؟
أعطيك مثالا واقعيا واحدا قد يغني عن الكثير من الكلام. مع بداية أحداث 11 سبتمبر 2001 بأمريكا وما أحدثته من ضجة بل وخلخلة كبرى في العالم، وما نجم عنها من تعبئة فكرية ونفسية وسياسية غير مسبوقة ضد الإسلام والمسلمين في الغرب عامة، جاءني شخص محترم في بداية العقد الخامس من عمره، وطلب مني أن أعرِّفه بالإسلام، فمكثت أحدثه ما يقرب من أربعة أشهر، انتهت باعتناقه الإسلام عن قناعة. وكان مما لفت انتباهي بشدة سؤاله لي في نهاية الجلسات الأخيرة من لقاءاتنا الطويلة، بعد أن اتضحت له الكثير من معالم الخريطة العقدية والفكرية والاجتماعية والحضارية للإسلام: هل هذه الأمور التي ذكرتها لي عن الإسلام يدرسها المسلمون ؟ أو هل يعرفها المسلمون ؟
لقد فهمت من سؤاله أنه وقع في حيرة شديدة بين عظمة الإسلام وجاذبيته العقدية والفكرية والروحية والأخلاقية والاجتماعية من ناحية.. وبين ضعف واضطراب بل وتعاسة واقع المسلمين؛ أفرادا ومجتمعات ودولا، من ناحية أخرى، إلا من رحم الله ! فالمسلمون بضعفهم، واضطراب أحوالهم السلوكية والاجتماعية، وتفرق رابطتهم السياسية، يشكلون أكبر حاجز بين الإسلام والآخرين، ولولا القوة الذاتية في الإسلام لانتهى تأثيره ووجوده منذ زمن. ويوم يتطابق وعي المسلمين وأدائهم السلوكي والاجتماعي مع الإسلام، ويكفوا عن تحكيم أهوائهم وأعرافهم ومصالحهم الذاتية فيه، ستتغير معطيات كثيرة في الخريطة الفكرية والاجتماعية والحضارية العالمية.
وكأني بهذا السيد الكريم يقول بلسان حاله: "الحمد لله الذي أكرمني بعبور الحاجز الضخم الذي يضربه المسلمون بين الإسلام والعالم " ! مكررا بذلك ما قاله مسلم آخر أسلم قبله في النصف الأول من القرن الماضي، وهاله البون الشاسع بين واقع المسلمين وحقيقة الإسلام، فقال: " الحمد لله الذي عرَّفني بالإسلام وأكرمني باعتناقه قبل معرفة المسلمين ولو حدث لي العكس لكنت ربما من الهالكين" !
هذا عن أسباب عجزنا نحن عن نقل إشعاع الإسلام إلى الآخرين، ولكن أكرر لكم سؤالي هنا: ماذا عن أسباب فشل الغرب في الانفتاح الحقيقي على هذه الإضافة النوعية الضرورية بالنسبة له، في ظل ما تعانيه حضارته المعاصرة من ضمور؟
لاحظ أولا بأن الغرب التاريخي والغرب المعاصر استفادا من الخبرة الحضارية الإسلامية بشكل وظيفي برجماتي ذكي وفعال جدا. فقديما أخذوا منا الخبرة العلمية وأسسوا عليها نهضتهم الحضارية العالمية الكبرى، وحديثا يستفيدون جدا من كفاءاتنا العلمية الضخمة التي يتصيدونها ويوفرون لها شروط تفجير عبقريتها لاستثمارها في خدمة مصالحهم ودعم استراتيجياتهم في العالم. وهنا يبرز جانب مهم من عبقرية الغرب في التعاطي مع الخبرات البشرية السابقة أو المعاصرة دون أن يقع في الاستلاب لها، بعكس ما يحدث لنا نحن في علاقتنا بخبرته المعاصرة التي انقسمنا تجاهها إلى فريقين؛ فريق وقع في معضلة الاستلاب لها إلى حد العمالة أحيانا ! و فريق وقع في معضلة التزهيد فيها والمخاصمة لها باعتبارها خبرة حضارية جاهلية لا خير فيها ! وضاعت مصلحة الإسلام والأمة بين الاستلاب للغرب والاستلاب للتاريخ.
أما عن أسباب عدم استفادة الغرب من الأقليات المسلمة في مجتمعاته، فإنه يمكن إرجاع بعضها إلى ضعف أداء هذه الجاليات نفسها، فهي متشرذمة وغير قادرة على تعبئة نفسها، وتعاني من عزلة اجتماعية وسياسية، وعاجزة عن تحقيق اندماجها الفعال في المجتمع. كما ترجع بعض الأسباب إلى خوف الغرب من دمج الأقليات المسلمة وإصراره على منطق تذويبها أو تحويلها إلى مجرد سخرة خدمية عابرة، يطبق عليها قانون: "استعمل وارم" ! فلحد الآن لم يستطع المجتمع الغربي أن يحدد بوضوح ماذا يقصد بالاندماج؟ أضف إلى ذلك النزعة المركزية الاستعلائية التي ينظر بها الغرب بصفة عامة إلى غيره.
ما المطلوب من المسلمين في باقي العالم؟ وكيف يمكننا أن ندافع عن مقدساتنا من غير أن نمنح الآخرين فرصا إضافية في الانتقاص منا؟(25/7)
المطلوب منهم هو أن يستثمروا المزيد من الجهد والوقت والإمكانات، في بناء وعيهم بسنن الله في " المدافعة والتجديد "، وأن يبنوا واقعهم الفردي والاجتماعي على ضوء ذلك، وأن يتجاوزوا وضع الخرافة و التجزيئية و التنافرية والتشرذم والمظهرية الخاوية التي يعيشون فيها، إلى وضع العلمية المنهجية التكاملية المستنيرة، التي تغير ما بأنفسهم من ضعف و غثائية واستلاب وتبعية ابتداء، وتعيد بناء علاقاتهم بالعالم على أسس جديدة؛ قوامها الاعتزاز بذاتيتهم ورسالتهم الحضارية، والانخراط بكل جدية وثقة في تحقيق استراتيجية التكاملية الحضارية التي جاء بها الإسلام، وطرحها بديلا حضاريا إنسانيا عن استراتيجيات الصراع والاستعمار والاستضعاف التي حكمت وتحكم العلاقات الحضارية بين البشر قديما وحديثا.
وكما أشرتَ في سؤالك فإن قصور الوعي السنني الشمولي التكاملي، في التعاطي مع المثيرات والتحديات الداخلية والخارجية، كثيرا ما يعطي فرصا ثمينة لخصوم الإسلام وأمته، لتحقيق مقاصدهم بكل يسر! كما يتجلى ذلك على سبيل المثال في ردود الأفعال غير المنضبطة التي يحولها الخصوم عبر وسائل الإعلام والاتصال، ومخابر التحليل والابتزاز السياسي، وحركات الضغط الاجتماعي.. إلى شواهد إدانة للإسلام والمسلمين، وتحريض ضدهما، وتأليب للرأي العام عليهما، وتوسيع للهوة بينه وبينهما.
فنحن عادة ما نستجيب للاستفزاز الموجه، ونندفع بحماسة شديدة في سلسلة من الأفعال والمواقف القولية والعملية المتناثرة، ثم سرعان ما نبرد ونخلد إلى السكون، في الوقت الذي يكون غيرنا ممن يهمه تعويق نهضتنا الحضارية، قد احتفظ بشواهد الإدانة لنا، وعكف على تحليلها وإعادة بنائها، وضبط الخطوات المنهجية للمراحل التالية من حركة الاستفزاز لنا، و مراكمة شواهد الإدانة والتشويه والعزل لنا.
هل يمكن أن تعطينا بعض الأمثلة ذات الصلة بحادثة الصور المسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام؟
الأمثلة أكثر من أن تحصى، وسأذكر لك مثالا واحدا وهو عبارة عن شريط مطول عرضته قناة تلفزيزنية نرويجية حرة ( TV2 ( الأسبوع الماضي، استرجعت فيه قصة ردود الفعل على الرسوم، وقدمت معطيات تركيبية حية كثيرة، تعد شواهد إدانة لتعاطي المسلمين مع الحدث، من خلال إظهارهم بأنهم ضد حرية الرأي، وأنهم يريدون فرض وجهة نظرهم ونمط حياتهم على الآخرين في عقر دارهم، وأنهم لا يملكون وسيلة للتعاطي مع المخالفين لهم في الرأي غير القوة التي تسري في دمائهم.. إلى ما هنالك من الاستنتاجات الكثيرة التي يخرج بها من يرى هذا الشريط. مع أن منتجي الشريط أوضحوا منذ البداية بأن عملهم إعلامي محايد، يستهدف عرض الحقائق كما هي وترك الحرية للمشاهد ليستنتج ما يراه !!
ومن يتتبع الحركة الإعلامية و السينمائية و الفنية والثقافية و الاجتماعية و السياسية في الغرب .. يقف على نشاط يومي ضخم، يصب جزء كبير منه في اتجاه إدانة المسلمين والإسلام، وتشويه صورتهما، وتعميق عزلتهما في الساحة العالمية.
وأنبه أولا إلى أهمية ما أشرت إليه في سؤالك السابق، عن استثمار بعض وسائل الإعلام وبعض الأشخاص لبعض هذه الأحداث لتحقيق الشهرة والكسب المادي، وهذا أمر صحيح فعلا، فإن العديد من المؤسسات المغمورة، والأفراد المغمورين الذين يريدون الإثراء وتحقيق شهرة لهم، يعمدون إلى مغامرات فجة يصدمون بها الرأي العام، فتتلقف عنهم ذلك وسائل الإعلام وأجهزة الصراع الفكري، وتروج له، فيصبح هؤلاء أبطالا وشخصيات عالمية بين عشية وضحاها ! وقد كاد هذا الأسلوب يصبح صناعة كاملة لدى كثير من المغمورين وأصحاب العقد.
ولا شك أن هذا يقتضي منا يقظة كبيرة، وموازنة دقيقة بين المصالح والمفاسد، حتى لا نتيح لمثل هؤلاء المغمورين والمرضى، الظهور على حساب الحقيقة والمصلحة. وأرى بأن القاعدة العامة التي ينبغي أن تحكم موقفنا من هذه الفقاعات بل وحتى الظواهر منها، هي التجاهل والاستيعاب غير المباشر لها، كما علمنا ذلك القرآن حينما أكد على أهمية الإعراض عن الجاهلين: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ). أو في قوله جل و علا: ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ).
إن استراتيجية التجاهل أو الاستيعاب غير المباشر للأفعال والمواقف العدوانية المتشنجة، علاج فعال جدا في تفريغها من شحناتها التأثيرية السلبية، لأن ذلك لا يتيح لها فرصة التكرار والشيوع والتفاعل، بل يعمل على تجاوزها بل و محوها من الذاكرة بسرعة، وخاصة في عالم تزدحم فيه على الذاكرة أحداث متوالية ينسي بعضها بعضا.
ماذا تقصدون بالاستيعاب غير المباشر لمثل هذه الفقاعات والظواهر كما سميتموها؟(25/8)
أقصد به عدم الغفلة الكلية عما يلقى من الشبهات، وما يروج له من زيف فكري في حق الإسلام العظيم، أو في حق نبيه الكريم، أو في حق التجربة الحضارية الإسلامية الإنسانية، أو في حق نهضتنا الحضارية المعاصرة.. بل لا بد من انتهاج استراتيجية وقائية محكمة، لمواجهة هذا الزيف الفكري ولكن بشكل هادئ غير مثير، يصحح الموقف ويمتص ما فيه من شحنات سلبية دون إشعار الخصم أو الرأي العام المعني بأننا نقوم بعمل مضاد ومجابه. لأن الفعل المجابه عادة ما يثير حاسة التحفظ لدى الآخرين من غير المعنيين، فما بالك بالمعني بها مباشرة، فإن رد فعله يكون أكثر عدوانية وشراسة ! و لتكن لنا عبرة في الحكمة القائلة: اصبر على حسد الحسود فان صبرك قاتله. كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. دون أن نغفل طبعا عن قضية الاستثناءات التي قد لا يفيد فيها منطق التجاهل والاستيعاب غير المباشر، بل تنفع معها المجابهة وكشف أوراق المتطاولين، وهذا أمر متروك لتقدير خبراء الدعوة والمجتمع والدولة في المجتمع والأمة .
على ضوء تصريحات البابا بينيدكت السادس عشر مؤخرا ، جزم كثير من المتابعين أن بابا الفاتيكان من خلال هذا الموقف، قرر إطلاق رصاصة الرحمة على ما يعرف بحوار الأديان.. ما تعليقكم على ذلك ؟
لا بد أن نؤكد أولا على أن حوار الثقافات والحضارات في المنظور الإسلامي ليس خيارا ثانويا أو تكتيكيا، بل هو قيمة مبدئية كلية لا بديل عنها، وخيار محوري في بناء العلاقات الحضارية بين البشر، كما جاء تأكيد على ذلك في القرآن: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) . والبديل الطبيعي للحوار الحضاري هو المواجهة والصراع بكل ما فيه من انتهاك لحقوق الآدمية وشرفها، وهدر لمقدرات خلافتها في الأرض، وتصعيد لآلامها وعذاباتها. ولذلك كانت استراتيجية التكاملية الحضارية، التي تتجلى في الآية السابقة، هي خيار الإسلام في بناء العلاقات الحضارية بين البشر، ونحن لا بد أن نصر على ذلك، وأن نعمل بكل جدية على المساهمة في تجسيده .
ولما كان حوار الأديان والثقافات يحتل موقعا محوريا متقدما في حوار الحضارات، فإن الإصرار على قيامه و استمراريته ونجاحه، يجب أن يظل في مقدمة أولويات الأمة من ناحية، وأولويات المنظمات الدولية الثقافية والسياسية من ناحية أخرى. وأنا أتمنى أن تضطلع نخبتنا الفكرية ومؤسساتنا الثقافية بدورها الفعال في هذه المهمة الحضارية الإنسانية بل والكونية، وأن لا تقعدها أو تثبطها المعوقات والأخطاء التي تقع هنا أو هناك.
لذا فإنني مقتنع تماما بأن أي زهد في التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي والسياسي بين الأديان والثقافات والحضارات، من أجل التعارف المباشر، والتصارح المتبادل، وحتى التجادل العلمي البناء، هو ضيق في الأفق، وانحسار في الوعي بمقاصد الدين، وابتسار لشموليتها وعالميتها وإنسانيتها و كونيتها من جهة، وتبسيط واختزال وقفز على منطق السنن التي تحكم حركة الاستخلاف البشري في الأرض من جهة أخرى، ومؤشر على الخوف وعدم الثقة في قوة وقدرة الفكرة الدينية أو الثقافية المتبناة، على الانفتاح والمحاورة والإقناع والصمود، عندما توضع على محك النقد الفاحص، والمجادلة العلمية الجادة، والممارسة السلوكية والاجتماعية .
وعلى ضوء هذا، تبدو لي خرجة البابا خاطئة تماما، وكانت نتائجها معاكسة حتى في المجتمع الغربي العلماني منه والكنسي، كما نلمس ذلك من ردود أفعال مفكرين وكتاب كثيرين في الغرب. لأنها جاءت منافية لحقيقة الإسلام ومنطق تاريخه الثقافي والحضاري، الذي طبعته العلمية والعقلانية إلى حد كبير، كما شهد بذلك علماء غربيون كثيرون، بما فيهم بعض عتاة الماركسية، كما نرى ذلك على سبيل المثال في هذه الشهادة للمفكر اليهودي مكسيم رودنسون الذي اعترف بأن العقلانية تحتل مكانا بارزا في القرآن، وخلص في إحدى مقارناته بين القرآن والعهدين القديم والجديد إلى التأكيد على أن العقلانية القرآنية تبدو صلبة كالصخر !
هل من كلمة أخيرة، ترغبون في قولها عبر موقعنا؟
أود في الأخير أن أنبه أبناء الأقليات المسلمة في الغرب كله بصفة خاصة، وأبناء الأمة بصفة عامة إلى أهمية إتاحة الفرصة للنبتة الإسلامية في المجتمعات الغربية لتنمو بشكل طبيعي، وتأخذ مكانتها الطبيعية في هذه المجتمعات، وتساهم في خدمتها وصياغتها ووقايتها بشكل طبعي .(25/9)
فالوجود الإسلامي في هذه المجتمعات ظاهرة حضارية في غاية الأهمية، ليس للإسلام والأمة الإسلامية فحسب، بل للمجتمعات الغربية والحضارة الإنسانية المعاصرة كذلك. وأتصور لو أن الأقليات المسلمة والمجتمعات المسلمة من ناحية، والمجتمعات الغربية من ناحية أخرى، وعت الأهمية الحضارية البالغة للأقليات المسلمة، وعملت على رعايتها حتى تستوي على عودها، لساهمت بفعالية في تحقيق جزء هام من استراتيجية التكاملية الحضارية بين البشر، التي جاءت بها جميع الرسالات السماوية، ونادت بها المواثيق الدولية على ما فيها من فيروسات المركزية العنصرية والاستعمارية أو الاستكبارية.
فالأقليات المسلمة تشكل جسرا حضاريا هاما، تعبر عليه الخيرية والخبرة الإسلاميتين إلى المجتمعات الغربية المعاصرة، كما تعبر عليه الخبرة الغربية إلى المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وهو ما يجب أن تعيه المجتمعات الإسلامية بالخصوص، وأن تساعد هذه النبتة الطيبة على النماء والتأصل في بيئاتها الجديدة، بعدم التدخل في شئونها الخاصة، فالأقليات المسلمة لها من الوعي والخبرة والإمكانات والقيادات الناضجة ما يجعلها تقدر مصالح المجتمعين، وتعمل على خدمتهما. أشكر لكم بدوري، تواصلكم معي و أشد على أيديكم لخدمة الإعلام الإسلامي الرشيد والله ولي التوفيق.
============(25/10)
(25/11)
حول قداسة الحكّام في تاريخنا
أ. د. عماد الدين خليل 21/9/1426
24/10/2005
[ 1 ]
طالما ردّد الكثير من الباحثين في دوائر الاستشراق النصراني أو الماركسي، بأن هناك صعوبة كبيرة تقف في وجه الدارس للتاريخ الإسلامي، وهي أن الشخصيات الإسلامية أُحيطت بالقدسية ولاسيما الخلفاء، بل إنه حتى أولئك الخلفاء الذين بلغوا أقصى حدّ من الانهيار والانحراف، ظلّوا محاطين بالتقديس ما داموا يستمدون سلطتهم من الدين بصفتهم منفّذين للشريعة ومفسّرين لكلمة الله!
والحق أن هذه المقولة قد لا تعني شيئاً على الإطلاق إن لم تُضبط وتُحدّد تحديداً
دقيقاً، ومن ثم فإن إطلاقها على عواهنها قد يكون نوعاً من التعميم الذي هو نقيض البحث العلمي الجاد.
فإذا أُريد بالقدسية: العصمة أو التنزيه عن الخطأ والنقد والاعتراض ـ وهذا هو الراجح ـ فإن الشخصيات الإسلامية، بما فيها الخلفاء، كانت تجتهد رأيها فتصيب وتخطئ. وكلنا يذكر عبارة مالك بن أنس (رحمه الله): " كل بني آدم يُؤخذ منه ويردّ عليه إلاّ صاحب هذا القبر" ويعني النبيّ المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام. بل إن الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) قالوها مراراً وأعلنوها تكراراً: إنهم جاؤوا لكي ينفذوا أمر الله، ويلتزموا شريعته المتضمنة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلمفإن أصابوا فبها، وإن أخطؤوا فإن من حق الأمة التي ارتضتهم أن تقوّمهم وتردّهم إلى الطريق.
وكلّنا يذكر خطبة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) التي استهلّ بها خلافته "أيها الناس، إني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوّموني .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .." .. ويذكر خطبة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): "ولست أدع أحداً يظلم أحداً حتى أضع خدّه على الأرض، ثم أضع قدمي على الخدّ الآخر. ثم إني أضع خدّي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف".
ويذكر غير هذا وذاك الكثير من الوقائع في هذا الاتجاه. قال حذيفة بن اليمان: دخلت على عمر بن الخطاب ـ يوماً ـ فرأيته مهموماً حزيناً فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟ قال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً. فقلت: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك!! ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوّمونني إذا اعوججت!
ويوماً صعد على المنبر وقال: يا معشر المسلمين ماذا تقولون لو ملْتُ برأسي إلى الدنيا كذا؟ فقام إليه رجل فقال: أجل .. كنا نقول بالسيف كذا (وأشار بالقطع). فقال عمر: إياي تعني بقولك؟ أجاب الرجل : نعم إياك أعني بقولي. فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيّتي من إذا تعوّجت قوّمني!
وعن الحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: كان بين عمر بن الخطاب وبين رجل كلام في شيء، فقال له الرجل: اتّق الله. فقال رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ قال عمر: دعه، فليقلها لي، نِعْم ما قال. لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها!
ويوماً نادى: الصلاة جامعة .. فلما اجتمع المسلمون صعد المنبر وقال: أيها المسلمون، لقد تذكرتني وأنا أرعى لخالات لي من بني مخزوم فيقبّضنني القبضة من التمر أو الزبيب. ثم نزل. فقال له عبد الرحمن بن عوف: ماذا أردت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فأجاب: ويحك يا ابن عوف ، لقد خلوت إلى نفسي فقالت لي: أنت أمير المؤمنين، وليس بينك وبين الله أحد؛ فأنت أعلى الناس، فأردت أن أعرّفها قدرها!
وعثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) وقف ـ فيما يحدثنا الطبري في تاريخه ـ يدافع عن نفسه أمام جموع الثائرين، ويدلي بحججه واحدة تلو أخرى وهم يثنّون عليها، وأبى أن تُسفك من أجله قطرة دم واحدة ، فضلاً عن أن يحتمي ـ وحاشاه ـ بقدسية مزعومة تضع بين خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلموبين جماهير أمتّهم سدًّا ، وتدمّر حقهم في الاعتراض.
وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وقف متهماً جنباً إلى جنب مع المدّعي
عليه، وهو أمير المؤمنين، والمدّعي يهودي من غير أبناء الأمة المتفوّقة .. يقف قبالة القاضي لكي يدفع التهمة عن نفسه.
وعمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يعلن عن جائزة قدرها ثلاثمائة دينار لكل
من يقطع الطريق الطويل، ويجيء إلى دمشق ـ قاعدة الخلافة ـ لكي يقول هناك كلمة
(الحق) في مواجهة أمير المؤمنين!
[ 2 ]
تجاوز الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم) ما يسمى بالديمقراطية التي عرفها الغرب والتي كانت في كثير من الأحيان لا تعبّر سوى عن مصالح شرائح محدّدة من
المجتمع .. تجاوزوها إلى نوع مركّب من الديموقراطية (إذا استخدمنا تعبير مالك بن نبي رحمه الله) .. فكانوا يطلبون من جماهير أمتهم أن تنقدهم وتقوّمهم، ويحضّونها على ذلك، ويربّونها عليه.(25/12)
بل إن الراشدين يمضون إلى ما هو أبعد من هذا، فيقاتلون شبح الافتتان في أنفسهم وعند الآخرين .. والافتتان وجه من وجوه القداسة، ومقاتلته تعني إشهار الحرب ضد القداسة الموهومة التي لا تقوم على أساس، والتي تقترب بالناس ـ أحياناً ـ من حافات الصنمية التي جاء الإسلام ثورة حاسمة لاستئصالها من الضمائر والنفوس.
لقد عزل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قائده الفذّ خالد بن الوليد خشية افتتان الناس به بسبب من انتصاراته العجيبة فيما تذهب إليه أرجح الروايات.
وهو يلاحق جذور الافتتان في أعماق نفسه من أجل أن يستأصلها، وهو من أجل ذلك يمارس نوعاً من تعرية الذات في مواجهة (الآخر) كي يحقق هدفه بأكبر قدر من الدفع والتكشّف، فيما مرّ بنا قبل قليل.
والمواقف كثيرة مزدحمة، والراشدون يمنحون تاريخ البشرية غنى عجيباً في دائرة حرية التعبير، والنقد، والمعارضة. وغير الراشدين ممن ساروا على هديهم، واقتفوا خطواتهم حكاماً وخلفاء وأمراء، قدّموا مثلاً عملياً على إسقاط مفهوم القداسة بمعنى التنزّه عن النقد والمعارضة والإدانة .. وبمعنى الافتتان بالذات، والارتفاع فوق رؤوس الناس، وتدمير تحرّرهم الوجداني الذي هو قاعدة شهادة (لا إله إلا الله) كما يفهمها المسلمون بعفوية وصدق بالغين!
وإننا لنذكر ها هنا ـ فضلاً عما أوردناه ـ ما فعله السلطان المجاهد نور الدين محمود ( 541-569 هـ ) في أعقاب انتصار من انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين عند قلعة حارم في شمالي الشام عام 559 هـ؛ إذ يتقدّم منه قاضي قضاته الشيخ النيسابوري ويقول له: لولا بلاؤك ما تحقّق لنا النصر! فماذا يكون الجواب؟: " مَنْ نور الدين محمود الكلب
حتى تقول له هذا؟ قبلي من حفظ الإسلام وبعدي من سيحفظه، ذلك هو الله الذي لا إله إلاّ هو !!".
وفي فترات زمنية سابقة كان الخليفة العباسي قد اعتقل مالك بن أنس وأبا حنيفة النعمان (رحمهما الله) لأنهما أصدرا فتوى بشرعية إحدى الثورات ضده!! وضرب خليفة عباسي آخر الإمام أحمد بن حنبل بالسياط؛ لأنه رفض الاعتراف بالمذهب الاعتزالي
الذي أعلنته الدولة مذهباً رسمياً!! وهؤلاء هم فقهاء الأمة وممثلوها أمام الله .. والسلطان .. والحق .. فلو كان الخليفة العباسي "مقدّساً" أو "محاطاً بهالة من القدسية" -كما يدّعي العلمانيون والماركسيون ونصارى الاستشراق ويهوده - فكيف يبيح هؤلاء الفقهاء لأنفسهم خرق قدسية تستمدّ مقوّماتها من الدين الذي يعبّرون عنه ويذودون؟
وليس مهمّا أن يدّعي بعض خلفاء بني العباس قدسية ما أنزل الله بها من سلطان، يذودون بها عن سلطتهم .. وليس مهّما ـ أيضاً ـ ادّعاؤهم حق التفويض الإلهي بحكم المسلمين حكما مطلقاً .. ولكن المهم هو موقف الخلفاء الأكثر تمثيلاً لحقيقة هذا الدين إزاء هذه القضية، وقد أشرنا إلى نماذج منه .. كما أن من المهم موقف جماهير الأمة وقادتها من المسألة نفسها، وقد عرضنا لشاهد منه ..
وما لنا ألاّ نرجع إلى الرسول المعلّم نفسه (عليه أفضل الصلاة والسلام) وهو النبيّ المبعوث، لنعاين بعض مواقفه إزاء القدسية المزعومة هذه .. تلك المواقف التي تصفع مقولات كذَبَة العصر الحديث ودجّاليه من أعداء هذا الدين ..
رأى صلى الله عليه وسلم رجلاً يرتعد أمامه تعظيماً وخوفاً فقال له: هوّن عليك فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد وتمشي في الأسواق!
وكان يقول لأصحابه: لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لأكاسرتها! وعندما خرج لتشبيع ابنه الصغير إبراهيم .. حدث وأن تعرّضت الشمس لكسوف جزئي فقال بعض المشيعين: إنها كسفت لموت إبراهيم .. فردّ رسول الله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان، ولا تنخسفان لموت أحد من الناس ..
وعندما دخل مكة فاتحاً .. وهو حلمه الكبير الذي انتظره السنوات الطوال، دخلها وهو يطأطئ رأسه حتى مسّت لحيته الشريفة ظهر ناقته القصواء شكراً لله سبحانه، وعرفاناً بالنصر الذي منحه إياه ..
نقارن هذا بصورة نابليون بونابرت المعلّقة على جدران اللوفر في باريس، لحظة دخوله برلين فاتحاً بعد معركة (ينّا) ضد الألمان عام 1807م .. كان منتفخ الأوداج .. مصعّر الخدّ .. دافعاً بصدره إلى الأمام غروراً واستكباراً ..
فأين هو ادّعاء القدسية يا أدعياء البحث العلمي في التاريخ ؟!
[ 3 ]
فماذا عن موقف "مؤرّخينا" من مسألة القدسية المزعومة هذه؟(25/13)
مع اعترافنا المحتوم بحشود الأخطاء التي وقع فيها معظمهم، مبالغة أو تحزّباً أو تحريفاً أو قبولاً للأكاذيب، مما دفع مؤرّخاً كابن خلدون إلى وضع (مقدمته) المعروفة لصياغة معايير منهجية من أجل حصر وتجاوز هذه الأخطاء في التعامل مع المرويات التاريخية .. رغم هذا، فإن معظم هؤلاء المؤرخين حكوا عن الأسود والأبيض في سير الخلفاء وغير الخلفاء .. والتقديس الذي أحاط به بعض الخلفاء أنفسهم، لم يمنع العديد من المؤرخين من سرد الحقائق كما هي حتى وإن كشفت عن عيب أو نقيصة في هذا الخليفة أو ذاك .. بل إن مؤرخاً كبيراً كالطبري رفض قبول أي هدية من السلطة من أجل ألاّ يكون ذلك على حساب تحرّره من أي ضغط، وقدرته على سرد الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان.
وثمة فرق كبير بين اعتبار الخليفة محوراً أساسياً تتمحور عنده الرواية التاريخية بسبب من دوره الأساسي في صناعة الحدث التاريخي، وبين إحاطته بالقدسية التي تخرجه بالكلية عن دائرة النقد والتقويم، وتحيطه بالهالة التي يخدع بها عامة المسلمين، والتي تجعل المؤرخ أو دارس التاريخ الإسلامي لا يستطيع أن يتناسى هذه القدسية التي أُضفيت على الخلفاء وغير الخلفاء، ولا يستطيع أن يجرّدهم من الهالة الدينية التي زادها مرور الزمن شدة وقوة! كما يزعم خصوم هذه الأمة!
وبمقدور أي قارئ عادي، فضلاً عن الدارس المتخصّص، أن يرجع إلى أي من مصادرنا التاريخية: ( المسعودي في مروج الذهب، أو الطبري في تاريخ الرسل والملوك، أو الدينوري في الأخبار الطوال، أو ابن الأثير في الكامل، أو ابن كثير في البداية والنهاية .. وغيرهم) لكي يرى بأم عينيه حشوداً من الروايات التي تمدح هذا الخليفة أو ذاك، وحشوداً أخرى تقدح فيه، وتنشر مثالبه أمام الأجيال! وهو أمر قد لا يحتاج بأكثر من إلقاء نظرة عجلى على معطيات تلك المصادر.
وثمة ما يجب أن نقف عنده لحظات ها هنا، ذلك أن تراث الأجداد في ميدان البحث التاريخي لا يقتصر على نمط واحد فحسب هو التاريخ السياسي العام، كالذي أنجزه المؤرخون الذين أشرنا إليهم، لكي نبني عليه حكماً عاماً ينطوي على كونه تاريخاً للفئة الحاكمة أولاً، وعملاً يتجاوز النقد ويتحاشى الكشف عن العيوب والأخطاء بسبب من إحاطة أفرادها بالقدسية، من جهة ثانية .. فنحن ـ حتى على فرض التسليم بهاتين المقولتين اللتين قد ترتبطان بمصنّفات التاريخ السياسي العام ـ فإن علينا أن ننتبه إلى الأصناف الأخرى من التآليف في حقل التاريخ والحضارة الإسلامية. وأوّل ما يلفت النظر في هذا السياق، ذلك الصنف المعروف "بكتب التراجم"، والتي تمثل الصنف الأكثر كثافة وازدحاماً في المكتبة التاريخية الإسلامية؛ إذ تكاد تغطي نسبة سبعين إلى ثمانين بالمائة من رفوف هذه المكتبة.
وكتب التراجم هذه، بمساحتها الواسعة تلك، لا تتعامل -إلاّ في حالات محدودة- مع الفئة الحاكمة، وتقف عندها، ولكنها تمضي إلى قلب المجتمع، إلى كل أولئك الذين أغنوا الحياة الفكرية والثقافية في تاريخ الأمة المسلمة، علماء وفقهاء ونحاة وأطباء وقضاة ولغويين ومحدّثين وشعراء ومعماريين ومهندسين وفلاسفة وفلكيين ومفسّرين وجغرافيين ومؤرخين .. إلى آخره .. بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن السلطة .. وبالتالي بصرف النظر عن كل محاولات القداسة التي يدّعي الباحثون إياهم أن رجالات السلطة قد أحاطوا أنفسهم بها، فصدّوا البحث التاريخي بالتالي، عن أن يمضي قدماً للكشف عن الحقائق بشكل موضوعي غير متحيّز.
إننا، في دائرة كتب التراجم هذه، نلتقي بمئات، بل بألوف الناس الذين جاؤوا من قاع المجتمع حيناً، ومن طبقاته الوسطى حيناً آخر، والذين ما كانت لهم أيما علاقة مباشرة أو غير مباشرة بمراكز الحكم والسلطان، ومن ثم فإن بمقدور الباحث في العصر الحديث أن يجد أمامه واحدة من أوسع الشرائح في مجموعة المصادر التاريخية بعداً عن ادّعاءات التأثيرات الخاصة بقدسية الحكام!
فإذا أضفنا إلى كتب التراجم، الأنماط الأخرى التي تغذّي البحث التاريخي، والتي لا ترتبط هي الأخرى بمراكز الحكم والسلطان، من مثل كتب الجغرافيا والرحلات، والتاريخ المحلّي، وتواريخ المدن والأقاليم، وكتب الخطط، ومصادر التاريخ الأدبي، والمصنفات الموسوعية .. إلى آخره .. أدركنا كم أن القياس على مصادر التاريخ السياسي العام وحدها يتضمن قدراً من التعميم الخاطئ الذي هو نقيض المطالب المنهجية. هذا رغم أنه ـ مما يتناقض مع هذه المطالب كذلك ـ اعتبار مصادر التاريخ السياسي العام انعكاساً لحالة التقديس ـ المبالغ فيها ـ والتي قال الأدعياء بأن الخلفاء والحكام أحاطوا بها أنفسهم، فصدّوا المؤرخين عن إنجاز أعمال تتسم بالدقة والموضوعية كما خُيّل إليهم ..
[ 4 ]
ثمة ما يرتبط بما ذكرناه لدى قساوسة الاستشراق وحاخامات التفسير المادي للتاريخ وأنصاف الملاحدة من العلمانيين .. وكلهم من خصوم هذه الأمة وعقيدتها وتاريخها، رغم أن بعضهم من المحسوبين على الجغرافيا الإسلامية ويحملون في دفاتر نفوسهم أسماء إسلامية!!(25/14)
إنهم يخلطون بين الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان، وبين غيرهم من سلاطين المسلمين وخلفائهم وحكامهم .. ثم هم يخلطون هؤلاء جميعاً بأباطرة النصرانية وملوكها وباباواتها في القرون الوسطى؛ إذ لا اعتراض ولا نقد؛ لأن الاعتراض يعني الكفر،
والنقد يعني الهرطقة .. وصكوك الغفران تمضي بهؤلاء وهؤلاء إلى حافات الذّل والعذاب في الحياة الدنيا، وتدمغهم بالطرد من الجنة في الآخرة .. ثم هم يمضون خطوة أخرى فيعلنون أن أوروبا قدرت على فصل الدين عن السياسة في نهاية الأمر، فحرّرت السلطة هناك من القداسة، ومكنّت المؤرخين ـ بالتالي ـ من أن يكتبوا تاريخاً أشد دقة وإحكاماً، بينما عجز الشرق الإسلامي عن تحقيق هذا الفصل فامتلأ تاريخه بالتزوير والتحوير! وأصبح من ثم بحاجة-بعد إذ تحقق الفصل الموعود- إلى أن يُكتب من جديد!
لقد كان اقتران الديني بالدنيوي في أوروبا ـ ولأسباب تاريخية ليس هذا مجالها ـ نقيضاً لحرية التعبير الفكري أو المذهبي أو الذاتي، بل نقيضاً حتى لحرية التعبير العلمي، ومن ثم جاءت خطوة فك الارتباط بين الحلقتين -وبعد صراع مرير- لصالح الحرية الإنسانية في مجالاتها كافة، بما فيها البحث العلمي والتاريخي على وجه الخصوص؛ إذ لم يعد ثمة ما يصدّ الباحث عن المضي قدماً في التحقق بأكبر قدر من الموضوعية.
وعلى العكس تماماً، فإن اقتران الديني بالدنيوي في عالم الإسلام، كان تأسيساً للحرية وتأكيداً لها في سائر السياقات الفكرية والمذهبية والذاتية، ودفعة قوية في مجال حرية التفكير وإنشاء مؤسسات وتقاليد ومناهج البحث العلمي الذي يؤكد الغربيون اليوم كم أنهم في حضارتهم المتفوّقة الراهنة مدينون بصدده لعالم الإسلام وحضارته وتقاليده.
وهؤلاء الأدعياء يتوهمون، أو يتعمدون التوّهم، بأن هناك توازياً بين التجربتين النصرانية والإسلامية، ويصرّون على استخدام عبارة "العصور الوسطى" كإطار زمني للتجربتين من أجل تأكيد وهمهم هذا، وهو أسلوب في التعميم لا يستند إلى أساس سليم. فليس المهم أن تحدث التجارب في زمن واحد، وإنما المهم هو طبيعة التجربة ومكوّناتها الأساسية، وتوجّهاتها الرئيسة. فها هنا بصدد الطبيعة والمكونات والتوجهات، نجد التجربتين تفترقان ابتداء، وعلى زاوية مائة وثمانين درجة، فتذهب إحداهما في اتجاه وتمضي الأخرى في اتجاه معاكس تماماً، ومن ثم فإن أي مقارنة بين التجربتين تحترم العلم والمنهج، يجب أن تلحظ هذا، وإلاّ فإنه التعصّب الأعمى، أو الجهل، مما يجعل أدعياء العلمية هؤلاء يخلطون بين التجربتين، ويضعون البيض كلّه في سلة واحدة.
لقد كانت إحدى أهم نقاط الارتكاز في العقيدة والتصور الإسلاميين هو التحرّر العقلي والسلوكي والوجداني من أي شبهة قد تقود إلى القداسة والصمنية والافتتان، وإقامة الأسلاك الشائكة ضد النقد والتقويم. ولقد كان هذا أمراً طبيعياً؛ لأنه ينبثق عن قاعدة الإسلام الأساسية: التوحيد المطلق لله سبحانه، وضرب كل صور الشرك والعبودية لغيره. حتى إننا لنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبذل جهداً صعباً مع أصحابه الكرام (رضي الله عنهم) فيربّي فيهم هذا الحسّ بدءًا من التعامل معه كنبيّ، وأن عليهم أن يفرّقوا بشكل حاسم بينه كرسول ينقل إليهم تعاليم السماء، ويفسّرها، ويوضحها، وبينه كإنسان (بشر) فيما أكده القرآن الكريم أكثر من مرة: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...)[الكهف: من الآية110]، (...قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)[الإسراء: من الآية93].
بينما في التجربة النصرانية المحرّفة تصير القاعدة هي الشرك والتثليث، وتصبح قداسة الأشخاص وصنميات التسلسل الكهنوتي حاجزاً عالياً صعباً يصدّ المنتمين للنصرانية عن أي محاولة للتحاوز بالنقد والتقويم والاحتجاج؛ لأنهم ـ ابتداءً ـ انكسروا من الداخل .. اعتادوا الانحناء للرموز النصرانية وعدم مواجهتها بسبب من أنهم مُرّرت عليهم أسطورة التثليث والقداسة فتكيّفوا عقلياً وسلوكياً ووجدانياً وفق مطالبها الموهومة.
ولقد انعكست كل من التجربتين الإسلامية والنصرانية على التاريخ.. على معادلات الزمان والمكان، فتشكلت أولاهما وفق مبادئ ومنطلقات تختلف في جوهرها عما تشكلت به الأخرى
==========(25/15)
(25/16)
إهانة الإسلام في نمو مطرّد!
محمد عبد الله السمان 27/1/1427
26/02/2006
حين دخل اللورد البريطاني اللّنبي بيت المقدس في الحرب العالمية الأولى، قال: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، ربما كان يعني "العسكرية" لتظل الحرب النفسية والسياسية تعمل على الدوام؛ فهو واثق من أن العالم الإسلامي سيظل مهيض الجناح.
والجنرال الفرنسي (غورو) الذي ذهب بعد انتهاء موقعة عيساوي بسوريا إلى قبر صلاح الدين الأيوبي وركله بقدمه، وقال: قم يا صلاح الدين، ها نحن قد وصلنا". إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 م كشفت أن الحرب الصليبية لم تنته، بعد أن هدد أبرهة العصر الحديث بوش بأنه سيعلنها حرباً صليبية جديدة، وقد وفى بما هدد، فاحتل أفغانستان المسلمة ودمرها، ثم احتل العراق المسلم ودمره بمسوّغات صدق كذبها، وما زال الاحتلال ينفق مليارات من الدولارات شهرياً، وعلى الرغم من معارضة كثرة من الشعب الأمريكي، وبخاصة أسر القتلى الذين تصل توابيتهم في الظلام.
وما هو جدير بالذكر: أن الاستشراق والتنصير لون من ألوان الحرب الصليبية يتمتعان بأوفر قسط من رواسب الحرب الصليبية، وبعض دول الغرب الصليبي يعتمد جزءاً من الميزانية العامة للإنفاق على مهمة التنصير في العالم الإسلامي، وفي حماية أمريكا بمالها من نفوذ وأوروبا، بل إن مراكز التنصير من خلال مؤسساته: الجامعات والمعاهد والمدارس، تتمتع بحصانة وامتيازات لا حصر لها. بينما لا تتمتع به المؤسسات الوطنية التي أصبحت تحت هيمنة أجهزة الأمن السرية.
كان الهجوم على الإسلام فيما مضى يكاد يكون قاصراً على النشر، لكن بعد هذا التطور الإعلامي ووسائل الاتصال ازداد السّعار في الهجوم على الإسلام ونبي الإسلام، بحر لجّي من الوقاحة، نقابله نحن باستحياء، ولكن مما يدعو إلى الأسى المرير، هو أن هذا الهجوم ليس قاصراً على الأفراد، بل تجاوزه إلى هيئة لها مكانتها تتبع هيئة الأمم المتحدة، هيئة اليونسكو؛ ففي أحد مجلدات الحضارة الصادرة عنها، ست عشرة صفحة عن الإسلام، وفي البداية:"الإسلام دين ملفق من اليهودية والنصرانية والوثنية" أول القصيدة كفر. وقد لفت الأنظار إلى هذه الجريمة الدكتور عبد العزيز كامل وزير الأوقاف المصري الأسبق ـ رحمه الله.
كنت مع الأخ حسين عاشور ـ صاحب "دار المختار الإسلامي" في لقاء مع الشيخ خلف أمين عام مجمع البحوث الإسلامية يومئذ، قال لي: جئت في الوقت المناسب: وقص عليّ قصة ما جاء في مجلدات الحضارة. قال: ولقد عرضت الموضوع على كلية الشريعة منذ فترة. ولم تردّ، ويبدو أنها لن تردّ. وأنت لها لترد عليها في كتاب ما رأيك؟ قلت: على الرحب والسعة، قال أخي الأستاذ حسين: وأنا مستعد لنشر الكتاب للرد على اليونسكو، قال: على بركة الله.
ومما يؤسف له: أنني أهديت الكتاب إلى العديد من الصحف، ولم تشر إليه، حتى مجلة الأزهر، وكتب صديقي الكاتب الإسلامي الأستاذ عبد الرحمن علي البنقلاح في جريدة (أخبار الخليج) في الصفحة الدينية التي يشرف عليها مقالاً ثم قامت هيئة اليونسكو بالرد عليه.. اعتذرت: أنها أحالت ما نُشر عن الإسلام على بعض المتخصصين، واتضح فيما بعد أن الذين كتبوا البحث، لم يُوفّقوا، وأننا سوف نصحح هذا الخطأ في الطبعة القادمة.. وكفى، وفي الطبعة الثانية من كتابي سجلت ما تم، وبعد صدور الكتاب بأيام معدودة أخبرني جاري في المسكن الدكتور محمد يحيى الأستاذ بكلية آداب القاهرة أن إذاعة إسرائيل أذاعت عن الكتاب وهاجمتني؛ قلت: هذا شرف لم أسعَ إليه!
فمن المؤكد أن جريمة صحف الدنمرك لن تكون الأخيرة..أجل لن تكون هذه الجريمة البشعة الأخيرة، وستظل تحديات القوى المعادية للإسلام في عرض مستمر، دون أن تبالي بردود الفعل من العالم الإسلامي الباهتة، ولا ترقى هذه الردود إلى المستوى الرسمي (الحكومات) تكاد تكون قاصرة على بعض الأقلام والألسنة ـ وعلى استحياء. وفي دول عربية وإسلامية عديدة، لا تسمح بالرد على الهجوم حرصاً على مصالحها.. ومصالحها تتصل بالأباطرة.. وهي مصالح مادية وسياسية، ولو على حساب كرامة الدين والوطن والشعب.
إن أي مساس بالصهيونية ولو طفيفاً يقيم دنيا الغرب ولا يقعدها، وقد نجحت الصهيونية في نفوذها على العالم وبخاصة أمريكا والغرب. وأصبح التحرش بهذه الصهيونية معاداة للسامية يجرمه القانون الدولي. إن هناك مهازل مثيرة للسخرية، حسبي أن أذكر مهزلتين:
1 ـ تقدمت إلى الرقابة بكتاب لي "محمد الرسول البشر" عام 1958، صدّرته على الغلاف بحديث نبوي صحيح في مسلم وغيره:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله؟ وأصر الرقيب على رفع الحديث، وذكرت ذلك في لقاء مع العالم الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز ـ رحمه الله ـ فأشار عليّ أن أكتب: "لا تطروني ... إنما أنا عبد ... فقولوا: عبد الله ورسوله" وبعد إلحاح وافق الرقيب.(25/17)
2 ـ في برنامج إذاعي كان المذيع يجري حواراً مع طلبة الجامعة عن طريق أسئلة للإجابة عنها، سأل طالبة بكلية الآداب اسمها (فاطمة): ماذا تعرفين عن ساعة نحس يوم الجمعة؟ فأجابت: إنها الساعة التي صُلب فيها السيد المسيح. قال المذيع: برافوا: وإذا كان موجّه السؤال جاهلاً جهلاً مطبقاً، فإن الطالبة المسلمة التي أجابت قد نطقت كفراً.. وللمأساة ذيل.
كتبت كلمة موجزة تعقيبا، قلت: ليس في يوم الجمعة ساعة نحس ـ كما فهم المذيع، فضلّ وأضلّ، بل ساعة من رضا الله كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرةـ رضي الله عنه ـ قال: ذكر رسول ا صلى الله عليه وسلم ـ يوم الجمعة، فقال: فيها ساعة لا يوافقها عبد وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه".
أعطيت التعقيب للأستاذ صلاح عزام المحرر بالجمهورية ـ رحمه الله ـ ولما لم ينشر ذهبت إليه أعتب عليه ـ فابتسم وأخرج من درج مكتبه الورقة عليها توقيع الرقيب بعدم النشر، ولما سألته قال: إحنا مش ناقصين إثارة فتنة. وضحكت وشر البلاء ما يضحك.
ونعود من حيث بدأنا:
إن ظاهرة الإساءة إلى الإسلام ـ مردّها ـ رواسب الحروب الصليبية، هذه الرواسب جعلت الإساءة ممتزجة بالحقد الأسود، فانتشار ظاهرة الإساءة للإسلام في المجتمعات الغربية وأمريكا، هي رد فعل لفلول التعصب الباقية في هذه الدول التي أدهشها انتشار المد الإسلامي في دول الغرب وأمريكا قبل أحداث 11 سبتمبر، حيث كان الإسلام ينتشر بقوة وعمق، ليصبح في معظم دول أوروبا الديانة الثانية للدولة، وبدأت أغلبية من المثقفين في كوادر علمية كبيرة يقبلون على الإسلام، فأصبحت جحافل التعصب التي تمنع انتشار الإسلام فلولاً وبقايا ـ ظلت موجودة في مراكز السياسة وصنع القرار هناك لتجد من أحداث 11 سبتمبر ذريعة لمحاربة الإسلام، ثم إن هناك جامعات إسلامية في هذه الدول، تهتم بتدريس الأديان بموضوعية، وبخاصة في الدول الاسكندينافية؛ لأنها تنبهت لما يشكله الدين من قوة إيجابية، ولذلك تحاول قوى التعصب فيها محاربة الإسلام بشراسة وجرأة ..
ومما هو جدير بالذكر أن الجريمة لم تقف عند حد نشر الكاريكاتير الوقح في صحيفة (بولاندز بوستن) الدنمركية، بل إن هناك صحفاً أخرى أوروبية نشرت الكاريكاتير تضامناً مع الصحيفة الدانمركية الوقحة، ومنها صحف ألمانية وفرنسية على سبيل المثال ـ والكفر ملة واحدة .. والعجيب: أن الغرب الصليبي يمارس أبشع صور التعصب العفن، ويتهم الإسلام بالتعصب، ليعدّ الهجوم على الإسلام سماحة والدفاع عن العدوان تعصباً، وينطبق على الغرب مقولة:"رمتني بدائها وانسلت"!
============(25/18)
(25/19)
لماذا المنهج؟ (1 ـ 2)
أ. د. عماد الدين خليل 20/1/1427
19/02/2006
إن مسألة اعتماد منهج عمل دقيق، أو برنامج مرسوم، يجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، ليس فقط بالنسبة للنشاط التاريخي، ولكن بالنسبة للفكر الإسلامي المعاصر عموماً من أجل أن يمضي إلى أهدافه بأكبر قدر من التركيز، والاقتصاد في الجهد، وتجاوز التكرار، وتغطية المواضيع الملّحة وفق تسلسلها في الأهمية.
منهج، أو برنامج عمل، واضح الأبعاد، محدّد المفردات، بيّن الملامح، مثبّت الأهداف، من أجل حماية أنشطتنا الثقافية كافة من الارتجال والفوضى، وربما التناقض والارتطام.
إن القوم في عالم الغرب يغزوننا اليوم بأكثر من سلاح، وإن (المنهج) الذي يستهدي بمقولاته ونظمه معظم المفكرين، أفراداً ومؤسسات، لهو واحد من أشد هذه الأسلحة مضاءً في تمكينهم من التفوق علينا وفرض فكرهم في ساحاتنا الثقافية كافة.
هم منهجيون في كثير من أفعالهم وممارساتهم، بغض النظر عن مدى سلامة هذا المنهج وصدق مفرداته وصواب أهدافه التي يتوخاها.. منهجيون وهم يتحاورون ويتناقشون .. منهجيون وهم يكتبون ويبحثون ويؤلفون .. منهجيون وهم يدرسون ويقرؤون ويطالعون .. إن المنهج بالنسبة للمثقف الغربي يعني ضرورة من الضرورات الفكرية، بل بداهة من البداهات، وبدونه لن تكون الحركة الفكرية بأكثر من فوضى لا يضبطها نظام، وتخبّط لا يستهدي بهدف، ومسيرة عمياء لا تملك معالم الطريق ..
ونحن، إلاّ قلّة من المفكرين، على النقيض من هذا في الكثير من أفعالنا وممارساتنا.. بلا منهج في حوارنا ومناقشاتنا.. بلا منهج في كتاباتنا وأبحاثنا وتآليفنا.. بلا منهج في دراساتنا وقراءاتنا ومطالعاتنا .. وأنشطتنا الثقافية بعامة ..
لكأن الرؤية المنهجية التي منحنا إياها كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام( ) قد غابت عنا، وأفلتت مقولاتها من بين أيدينا، وتلقفها القوم كما تلقفوا الكثير من معطياتنا الثقافية فذكروها ونسيناها، والتزموا بها وتركناها، وتحققوا بحضورها الدائم، وغبنا نحن عنها، أو غابت هي عنا، فكان هذا الذي كان ..
ولكأن الخطط الخمسية التي قبسناها عنهم في أنشطتنا الاقتصادية هي الخطط الوحيدة التي يمكن أن تُؤخذ عنهم من أجل وضع مناهج عمل لممارساتنا الاقتصادية تتضمن المفردات، ووحدات الزمن المطلوبة، والأهداف، في سياق إستراتيجية بعيدة المدى، قد تتحقق بعد عشر من الخطط الخمسية أو عشرين ..
أليس ثمة مجالات أخرى، غير الاقتصاد، أو مع الاقتصاد، يجب أن يُبرمج لها، وأن تُوضع لها الخطط والمناهج الزمنية المحددة، الصارمة، لكي تصبّ ـ على هدى وبينة ـ في بحر الأهداف الإستراتيجية لمسارنا الثقافي؟
إن اعتماد المنهج في أنشطتنا الفكرية، ليس اقتباساً عن حضارة الغرب بقدر ما هو رجوع إلى الجذور والتقاليد الأصيلة التي صنعناها نحن على هدى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ومعطيات أتباع هذا الدين زمن تألقهم الحضاري..
وإن حيثيات الصراع الراهن مع الحضارة الغربية تتطلب ـ فيما تتطلب ـ أن يكون لنا منهج عمل فكري يمكننا- من خلال النظم الصارمة التي يلزمنا بها- من الأخذ بتلابيب القدرة على الفاعلية والتحقق بالريادة والكشف والابتكار والإضافة والإغناء..
أن نكون ـ باختصار ـ أنداداً للفكر الغربي، قديرين على أن ندخل معه في حوارٍ
يومي.. وأن نتفوق عليه ..
إن العقيدة التي نملكها، والمضامين الثقافية التي تخلّقت عبر تاريخنا الطويل في مناخ هذه العقيدة، تعلو، بمسافات لا يمكن قياسها، على عقائدهم وفلسفاتهم ورؤاهم ومضامينهم الثقافية.. هم يقولون هذا مراراً ويؤكدونه تكراراً، قبل أن نقوله نحن ونؤكده، وبعده ..
والذي يعوزنا هو المنهج.. هو طرائق العمل الإستراتيجي المبرمج المنظم المرسوم.. وحينذاك فقط يمكن أن نطمح، ليس فقط إلى تأصيل ذاتنا الثقافية وتحصينها ضد عوامل التفكك والغياب والدمار.. بل على التفوق على ثقافة الخصم واحتوائها، باطراح دمها الأزرق الفاسد والتمثل بدمها القاني النظيف ..
إن المنهج يعني-في نهاية التحلي- حشد الطاقات وتجميعها والتنسيق بين معطياتها لكي تصب في الهدف الواحد، فتكون أغنى فاعلية وأكثر قدرة على التجدد والإبداع والعطاء..
وغن غياب المنهج يعني ـ بالضرورة ـ بعثرة الطاقات وتفتيتها وإحداث التصادم بينها .. فلا تكون ـ بعد ـ جديرة بالإضافة والفاعلية والعطاء ..
لقد أكد القرآن الكريم والرسولل عليه السلام هذا المعنى أكثر من مرة.. وحذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا الشياه القاصية..
إن العدسة (المفرقة) تبعثر حزمة الضوء فتفقد قدرتها على الإحراق، أما العدسة
(اللامّة) فتعرف كيف تجمع الخيوط لكي تمضي بها إلى البؤرة التي تحرق وتضيء ..
إن (المنهج) هو هذه العدسة اللامّة.. وبدونه لن يكون بمقدور آلاف الكتب التي تطرحها مطابعنا سنة بعد سنة أن تمنحنا (النار) التي نحن بأمس الحاجة إليها في صراعنا الراهن..
تحرق الضلالات والخرافات والأوهام .. وتضيء الطريق للمدلجين..(25/20)
( ) أنظر الفصل الأول من كتاب (حول إعادة تشكيل العقل المسلم) للمؤلف للاطلاع على خصائص التصور المنهجي الذي طرحه القرآن الكريم.
هذا على مستوى الفكر الإسلامي عامة.. أما على مستوى الفكر التاريخي والكتابة
في حقل التاريخ الإسلامي، فإن المنهج يغدو ضربة لازب .. إذا ما أردنا بحق أن نستعيد معطيات هذا التاريخ ونجعلها أكثر قدرة على التكشف والوضوح، وأشد قرباً من البيئة التي تخلّقت فيها، وأعمق انسجاماً مع المناخ الذي تنفست فيه واستوت على سوقها.. ضربة لازب لأكثر من سبب:
أولاً: غياب الهدف وانعدام الرؤية للكثير من مؤلفاتنا التاريخية القديمة والحديثة.. أي على مستوى المصادر والمراجع على السواء، يقابل ذلك فوضى وارتجال وتخبط، كانت تعاني منها ـ ولا تزال ـ الكثير من هذه المؤلفات.
ثانياً: غياب الحسّ النقدي، أو عدم حضوره بشكل مؤكد، في معظم الأعمال التاريخية، على خلاف ما كان يحدث في ساحة المعارف الأخرى وبخاصة الحديث والمنطق والفلسفة .. إلى آخره.. يقابل ذلك استسلام عجيب وصل ببعض المؤرخين الكبار أنفسهم حدّ تقبل الكذب والخرافات والأضاليل والأوهام.
ثالثاً: طغيان النزعة (التجميعية) التي دفعت بعض المؤرخين القدماء وعدداً من
المؤرخين المحدثين إلى تحقيق نوع من التوسع الكمي الذي يُقبل، من أجل تحقيق تضخّمه المنشود، كل خبر أو رواية .. ويجيء ذلك على حساب نوعية الإنجاز التاريخي ومنهجيته وقدرته على التركيز والاختزال.
رابعاً: فقدان الأسلوب التركيبي الذي يعرف كيف يجمع الوقائع التاريخية ذات النسغ الواحد والمسار المتوحد، في نسيج تركيبي يمكن المؤرخ من إضاءة ملامحه وتعميق خطوطها وقسماتها، ومنحها المعنى والمغزى المستمد من خامة النسيج نفسه .. بدلاً من ذلك التداخل المهوّش بين الوقائع، والتقاطع بين أنماطها المتباينة، حيث يصعب على المرء أن يتبين الخطوط المميزة لهذا الحشد من التجارب التاريخية أو ذاك.
خامساً: تعرض المعطيات التاريخية لسيلٍ لا يرحم من التأثيرات (الذاتية) على حساب
(الموضوع)، أو من خلال الموضوع الذي اتخذ مركباً لعبور الأهواء والظنون والمصالح والتحزبات .. الأمر الذي غيّر من مكونات الواقعة التاريخية من جهة، وأضاف إليها ـ من جهة أخرى ـ الكثير الكثير مما لم يكن من صلب تكوينها.. فكان ذلك التزوير والتزييف الذي غطى على مجرى الرواية التاريخية في كثير من مساحاته.
سادساً: غياب المؤسسات التي تأخذ على عاتقها مهمة تعضيد التأليف التاريخي وتوجيهه ووضع أولوياته، على خلاف ما كان يحدث في بعض حقول المعارف الإنسانية الأخرى، وبخاصة الفلسفة والجغرافيا.
سابعاً: انطفاء آخر شمعات الفكر التاريخي في قرون الظلام الحضاري الذي لّف عالم الإسلام قبيل انبثاق الفجر الجديد.. وظهور ذلك الانقطاع المحزن في حقل الإنجاز التاريخي، وتلك الهوة العميقة بين معطيات الأجداد والأحفاد، والتي لعبت دوراً سلبياً ولا ريب في تمكين الفكر التاريخي من مواصلة مسيرة النضج والاكتمال.
ثامناً: السبق الزمني الذي مارسه الغربيون في أعقاب هذا الانقطاع، فأخذوا بذلك زمام المبادرة في التعامل مع تاريخنا الإسلامي كشفاً وإضاءة وتحقيقاً ونقداً وتركيباً .. ولكن بمناهجهم وأساليبهم وطرائقهم التي ألحقت بمعطياتنا التاريخية كسوراً وشروخاً وتناقضات ليس من السهولة إزالة آثارها المدمرة، دون اعتماد منهج أصيل قدير على حمل الأمانة والقيام بالمهمة الصعبة.
تاسعاً: غياب الرؤية الإسلامية الأصيلة لدى معظم أبناء الجيل الأول والثاني من المؤرخين المسلمين المحدثين أنفسهم .. فلم يكونوا في حقيقة الأمر سوى امتداد للمدرسة الاستشراقية الغربية، ولم يفعلوا سوى أن أضافوا إلى الكسور التي أحدثتها في مسار التاريخ الإسلامي كسوراً .. والرؤية الإسلامية هي المفتاح الذي لابدّ منه لدخول ساحة التاريخ الإسلامي، وبدونه لن يتحقق دخول مشروع.
عاشراً: ظهور المدرسة المادية التاريخية وانتشارها وكسبها الكثير من الأتباع والمعجبين، ومحاولة إقحام مقولاتها الصارمة، الفجة، في مجرى تاريخنا الإسلامي نقداً وتركيباً ..
وثمة أسباب أخرى كثيرة، أقل أهمية، تجعل من حضور منهج للفكر والنشاط التاريخيين ضرورة ملحة ..
والآن فإن محاولات عديدة، لحسن الحظ، شهدتها العقود الأخيرة من هذا القرن، استهدفت التحقق بالمنهجية المنشودة.. على مستوى الأفراد والمؤسسات، وهذا يدل على تزايد الوعي التاريخي الذي كان يعاني في الفترة السابقة من التسطح والضحالة والغياب.
إلا أن معظم تلك المحاولات لم تأت بطائل، فما أن مضت خطوات حتى توقفت(25/21)
وأعلنت، بلسان الحال أو بلسان المقال، عجزها عن مواصلة الطريق: مؤسسات حكومية، وقيادات فكرية، وجامعات عربية، ومنظمات ثقافية، وتجمعات تخصصية، وأفراد متفرقون هنا وهناك .. كلهم دعوا إلى (المنهج) .. وإلى ما أسموه إعادة كتابة التاريخ .. وقاموا ببعض المحاولات الأولية وطرحوا بعض الإضاءات.. وليس ثمة أكثر من هذا.. ومضت الدعوة إلى اعتماد المنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ تصدر من هنا أو هناك، ملحة في الطلب، مؤكدة القول .. وهي دعوة تؤكد ـ مهما كانت النيات التي تختبئ وراءها ـ حضور الوعي التاريخي، وتكشفه وانتشاره .. وتعزّز الوجهة العلمية القائلة بأن اكتشاف قدرات أمة من الأمم وتمكينها من (المعاصرة) و (الحركة) صوب المستقبل، والاستجابة للتحديات، والتفوق عليها، لا يتحقق إلا بالرجوع إلى التاريخ وكشف النقاب عن معطياته وملامحه ومؤشراته .. الأمر الذي لم يكن، في النصف الأول من القرن الماضي، على هذه الدرجة من الوضوح والتأكيد، يوم كان يُرى في الالتفات صوب الماضي، على أثر الصدمة الحضارية الغربية، نوع من الانتحار الزمني في عصر سباق الحضارات، وكان يُرى فيه نزوع رجعي ، وغياب عن العصر ، وعرقلة للتوجه المستقبلي..
ويوم أن كانت ذيول المدرسة المادية التاريخية تطرح بفجاجة وسخف مقولتها الخاطئة بضرورة تجاوز التوجه التاريخي، وقطع الجذور، وإلغاء مقولات المسيرة، والانطلاق من نقطة الصفر الزمنية صوب المستقبل!!
اليوم، غابت هذه الرؤى التي ينفيها العلم بحقائق الأشياء .. واليوم اختنقت تلك الأصوات التي لم تكن تملك سبباً للبقاء والاستمرار ..
واليوم تحل محل هذا وذاك تلك الدعوات الملحة التي تصدر ـ كما رأينا ـ عن العديد من مراكز الثقل والتوجيه والفاعلية: أكاديمياً وعقائدياً وسياسياً.. الأمر الذي يؤكد حضور
(التاريخ) في نسيج وجودنا الحاضر وحتمية اعتماد مكوناته في لحمة هذا النسيج وسداه، حيث لا يكف النول عن الذهاب والإياب ..
ترى ـ يتساءل المرء ـ: لماذا لم تستطع أية محاولة من هذه المحاولات أن تواصل الطريق وأن تحقق هدفها المنشود؟
إن الدعوة إلى التحقق بالمنهج وإلى إعادة كتابة التاريخ، أو ـ بعبارة أدق ـ إعادة عرضه وتحليله، ليست طريقاً مسدوداً.. فلماذا كان هذا الذي كان؟
ثمة أسباب عديدة وقفت ـ ولا تزال ـ في طريق هذا الهدف، ونحن إن عرفناها جيداً فكأننا نكون قد عرفنا مواطن الداء فسهل علينا انتقاء الدواء ..
فمن هذه الأسباب، على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: عدم وضوح الرؤية بالنسبة لطبيعة العمل. فمن قائل بضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، واعتماد بنية جديدة لوقائعه وصيرورته ترفض بالكلية ما قدمه مؤرخنا القديم، ومن قائل بضرورة اعتماد صيغة انتقائية تأخذ بهذا وترفض ذاك، ومن قائل بضرورة إعادة تفسير وتحليل معطيات هذا التاريخ بدلاً من إعادة تركيبه.. وآخرون لا يعرفون على وجه الدقة واليقين ما الذي يقصدونه بالعمل المنشود؛ لأن الضباب يلّف تصورهم فلا يتيح لهم الفرصة لاستبانة ملامح الطريق ..
ثانياً: ومما يرتبط بهذا، غياب المنهج وضعف القدرة على التخطيط.. فقد تتضح الرؤية أحياناً، وتتحدد طبيعة العمل، وتتكشف أبعاده .. لكن أسلوب العمل وطرائقه.. المنهج ـ بعبارة أخرى ـ غير متحقق.. ونحن قوم ـ ولنقلها بصراحة ـ نعاني ضعفاً في قدراتنا التخطيطية، ليس هنا مجال استعراض أسبابه، ولشد ما ينعكس هذا الضعف على عدم طرح برنامج عمل محدد الخطوات، مكتمل المفردات، مثبت الأهداف والغايات.
ثالثاً: ونحن قوم نعاني ـ كذلك ـ من فقدان الروح الجماعية التي علمنا إياها هذا الدين وربانا عليها وألزمنا بها، ولكنا تخلينا عن الكثير من مقولاتها ومواضعاتها، وتجمدت تقاليدنا على صيغ فردية قد تبلغ حد الأثرة والأنانية في كثير من الأحيان، فتمحو القدرة على التوجه الجماعي الذي تتكامل فيه الطاقات، وتتضافر القدرات، ويتدفق العطاء لكي يصب في الهدف الواحد ..
والمشاريع الكبيرة في ميادين العقيدة أو الفكر أو العمران والاقتصاد، لهي بأمس الحاجة إلى هذه الروح الجماعية التي يعرف الغربيون كيف يعتمدون عليها لتحقيق الأعاجيب والمعجزات في ميادين الإنجاز .. وإعادة عرض التاريخ الإسلامي، أو تحليله، عمل كبير .. ويوم نتحقق ثانية بروح الفريق، كما أراد لنا الإسلام أن نكون، يوم نتجاوز الفرديات والحساسيات والأنانيات صوب ما هو أكبر وأشمل .. حينذاك نستطيع أن نضع خطواتنا على الطريق ..
رابعاً: غياب التوحد في الرؤية .. فليس بمقدور فريق من المؤرخين يتجه بعضهم يميناً ويمضي بعضهم الآخر شمالاً، أن يحققوا الهدف المنشود.. وكيف سيكون العمل، الذي يفترض أن يتوحد نسيجه، كيف سيكون إذا كان بعض النسّاجين ليبرالياً، وكان بعضهم الآخر مادياً وكان بعضهم الثالث إثنّياً، وكان بعضهم الرابع إقليمياً، وكان بعضهم الخامس مصلحياً؟ كيف يتحقق مشروع يُراد منه تقديم تحليل متوحّد لمجرى التاريخ الإسلامي، إذا كانت بعض مساحاته منسوجة بالقطن وأخرى بالصوف وثالثة بالديولين ورابعة بالحرير؟(25/22)
إنه لأمر مستحيل .. بل هو مدعاة للسخرية يقيناً.
خامساً: وثمة ما يُراد أحياناً بمشروع كهذا: احتواؤه عقيدياً وتوظيفه من أجل هذه الأيديولوجية أو تلك .. وهذا نقيض الموضوعية .. والموضوعية شرط حاسم من شروط البحث العلمي الجاد .. ثم إن محاولات كهذه قد تملك المال والقدرة، ولكنها لا تملك النفس الطويل الذي يمكنها من المضي في الطريق حتى نهايته .. ذلك أنها رهينة بظروف مرحلية ومتغيرات زمنية.. وسرعان ما تتوقف بتحوّل صيغ معادلات الظروف المرحلية والمتغيرات الزمنية.
سادساً: وقد يرتبط بهذا انعدام النية الصادقة وتحويل الدعوة إلى عمل دعائي صرف .. والأعمال بالنيات ـ كما يقول رسولنا عليه السلام ـ ولكل امرى ما نوى .. وإذا طال الطريق بين النية والفعل، بسبب ضخامة العمل وانفساح المدى، فلا تُؤتمن العواقب، وربما يُكتفى بالمظاهر السريعة الخادعة بدلاً من الجوهر المخبوء، صعب المنال..
سابعاً: وقد تلعب الحواجز الجغرافية والسياسية بين مؤرخي عالم الإسلام، والتي يتزايد بمرور الأيام، دورها في إعاقة المهمة وعرقلة مضيّها إلى الهدف المرتجى .. فكلما تنادى حشد من المؤرخين.. هنا .. وهناك .. وهنالك، لتنفيذ هذا المطلب الملح، وجدوا
في طريقهم من الأسلاك الشائكة والعقابيل، ما يجعل تحركهم صعباً قاسياً ومهمتهم مستحيلة، فيكفون عن الإدلاج فيما لا بادرة ضوء فيه، ويعودون من حيث جاؤوا.
ثامناً: يرتبط بهذا ـ أحياناً ـ نقص ملحوظ في الاختصاصات وعدم تكاملها أحياناً .. فهي
قد تتزايد في جانب ما وتشح في جانب آخر.. تبرز وتطغى في هذه المرحلة
وتنزوي وتذوى في مرحلة أخرى.. والأعمال الجماعية، ما لم تتحقق بالتوازن
والتكامل والتغطية لكافة الجوانب والمساحات، فلن يُرجى تنفيذها.. وإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، أو عرضه وتحليله مشروع كبير، فما لم تتبنه وتدعمه مؤسسة قديرة على لمّ الطاقات وتوفير الاختصاصات المتكاملة وتوازنها .. باء بالفشل المحتوم .. ولهذا كان هذا الإخفاق المحتوم مصير عدد من المحاولات التي لا تملك دعماً يمكنها من التكامل .. وسيكون ..
تاسعاً: وما يُقال عن هذا يمكن أن يُقال عن قلة الامكانات المادية والفنية لكل مشروع يدّعي القدرة على العمل بعيداً عن الدعم والإسناد .. والإمكانات المادية والفنية ضرورة من ضرورات المشاريع الفكرية الكبيرة، وإلا كنا كمن يرجو من ماكنة ضخّ لا تتجاوز العشرين حصاناً أن تسقي مزرعة تمتد مسافاتها إلى مئات الأفدنة وألوفها ..
عاشراً: وثمة أخيراً ـ وليس آخراً ـ ذلك الإحساس المتزايد بالإحباط، والذي يتراكم إثر إخفاق كل محاولة، وإخفاق كل مشروع بعد أن يمضي خطوات فحسب في الطريق .. وهو إحساس ذو تأثير سيئ غاية السوء، يوحي فيما يوحي بخطأ الفكرة واستحالة تحققها، ويكبّل الإرادة المسلمة من الداخل بالغلّ الذي يشلّها عن التهيؤ، وشحن الطاقة، والانطلاق لتنفيذ الأعمال الكبيرة.
وما لم نتداع لإنقاذ الدعوة من مزيد من الورطات والمطّبات والإخفاق، فإن الإحساس بالاحباط سينتزع المبادرة من أيدينا وسيسلمنا إلى الشلل المحتوم.
وبالتحقق بالبدائل في مقابل هذا كله يمكن أن نضع خطواتنا على الطريق ونمضي بجدّ إلى هدفنا المنشود.
أن تكون رؤيتنا لطبيعة العمل على قدر كبير من النقاء والتكشف والوضوح، وأن نملك منهجاً سليماً للعمل، وقدرات ذكية على البرمجة والتخطيط .. وأن تنمو في سلوكنا وتتغلغل في دمنا وشراييننا روح الفريق كما أراد لنا ديننا أن نكون، هنالك حيث تذوب المصالح الخاصة والتوجهات الفردية والحساسيات الذاتية والأنانيات، وحيث تكون روح الجماعة وحدها هي المؤشر والدليل.
كذلك يتوجب أن تتوحد رؤيتنا، وأن يمسك بها قاسم عقديّ مشترك يمنعها من التفتت والتناقض والتصادم والارتطام، يمنعها من أن يضرب بعضها بعضاً، وينفي بعضها بعضاً.. منطلق واحد وتوجه واحد ونسيج واحد في العطاء تركيباً وتحليلاً ..
أن يمسك العمل بتلابيب الموضوعية من بدء المسيرة حتى منتهاها.. إن الموضوعية هنا تعني (العلمية) وبدونها لن تتأتى النتائج المرجوة منبثقة عن رحم التاريخ نفسه، كما تخلقت وقائعها في الزمن والمكان .. لا كما يُراد لها أن تكون.
والنية المخلصة الصادقة، من وراء العمل، أمر ضروري، بل هي ضربة لازب إذا ما أريد للمحاولة أن تكون شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين. وإلا فليس ثمة إلا الشجرة الخبيثة التي ما لها من قرار، تعصف بها ذات اليمين وذات الشمال رياح التشريق والتغريب، وتتقاذفها عواصف الأهواء والنزعات والميول.(25/23)
أما زوال الحواجز الجغرافية والسياسية فهو أمر يبدو للوهلة الأولى مستحيلاً، ولكننا إذا ما تذكرنا أننا في عصر السرعة، والاختزال، والاتصالات الخاطفة، والآلات الحاسبة، والمواصلات السريعة، والتيسيرات المدنية التي تتزايد طرداً بمرور الأيام.. وأننا في عصر الإنترنت والتواصل الثقافي والإعلامي اليومي، دقيقة بدقيقة وساعة بساعة، أدركنا أن المعادلة قد لا تكون في غير صالحنا، وأن هنالك من القدرات والإمكانات ما يمكن توظيفه لضرب الحواجز وقطع الأسلاك الشائكة وإزالة المتاريس .. هنالك حيث يمكن أن يلتقي بعضنا ببعض، وأن نعمل سوية كفريق واحد يتداعى لاعبوه المتمرسون من كل مكان من أجل تحقيق الفوز بأي ثمن كان!!
ومسألة تكامل الاختصاصات وتحقيق التغطية المتوازنة الشاملة لكافة مساحات المشروع، أمر ليس صعب المنال، ونحن في عصر (الأكاديمية) إذ يزداد الخريجون المتخصصون، سنة بعد سنة، ويوماً بعد يوم، بمعدل متواليات هندسية وليست حسابية على أية حال.. صحيح أن هذا التدفق الأكاديمي قد يطرح كميات لا تتضمن قدراً طيباً من التميز النوعي، إلا أنها ـ على أية حال ـ فرصة طيبة لتزايد العناصر الممتازة القديرة على الفعل الصادق والتنفيذ الذكي المرسوم.
أما قلة الإمكانات المادية والفنية فهي -ولا ريب- أقل الموانع شأناً؛ لأن إيجاد الشروط المادية الفنية وتوظيفها لخدمة المشروع، أمر سهل المنال يسير التحقيق في بلاد تملك الكثير وتقدر على استيراد الكثير ..
ويوم أن تتحقق هذه البدائل الإيجابية، وتوضع اللمسات الأولى، وتنطلق الخطوات على الطريق مغذّة السير صوب الهدف.. يومها لن يكون ثمة إحساس بالإحباط يشل الفاعلية ويكبل الخطا عن الانطلاق .. على العكس فإن الإنجاز الذي ستنفذه المحاولة سيحقق نوعاً من التسارع في القدرة على الفعل .. هنالك حيث تُختصر المسافات، وتُختزل حيثيات الزمان والمكان..
============(25/24)
(25/25)
التحديات التي تواجهها الثقافة الإسلامية
د. خالد بن عبد الله القاسم 4/3/1427
02/04/2006
واجهت الثقافة الإسلامية تحديات عديدة متنوعة ومن أهمها:
أولاً: الغزو العسكري:
عانت الأمة الإسلامية من هجمات عسكرية ظالمة استهدفت وجودها وثقافتها منذ القدم ومن ذلك:
الحروب الصليبية الشرسة (490هـ - 691هـ) التي استهدفت الشام ومصر وأدت إلى انشغال الأمة بها قرنين من الزمان.
ثم الهجوم التترى على العراق والشام وإسقاط الخلاقة العباسية وتدمير الكتب وقتل العلماء في القرن السابع الهجري.
ثم الاستعمار الأوروبي للبلدان الإسلامية في القرنين الماضيين (1798م - 1962م) ومحاولته مسخ الثقافة الإسلامية واستنزاف خيرات الأمة.
وزامن ذلك الغزو الشيوعي على البلدان الإسلامية في آسيا الوسطى ونشر الإلحاد ثم غزو أفغانستان والشيشان واستباحة دماء المسلمين واستعمار بلدانهم ونهب خيراتهم.
وما نشاهده الآن من هجمة صهيونية شرسة زرعها الغرب(1)
في قلب العالم الإسلامي لشرذمة من اليهود اجتمعت من أنحاء العالم باختلاف لغاتهم وعرقياتهم في هجرات متتابعة بمساعدة غربية مباشرة حيث سلمت لهم بريطانيا الأمر في فلسطين، ثم دعمت الولايات المتحدة عدوانهم عسكرياً ومالياً وسياسيًّا في طرد الفلسطينيين من بلدهم ومصادرة أملاكهم ورفع الفيتو أمام العالم حتى لا تتم إدانة اعتداءاتهم المتكررة على المدنيين بل تجاوز العدوان على البلدان العربية الأخرى غير المجاورة، فتمثل في تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1989م, وجرى الاعتداء على الفلسطينيين في تونس.
وكان هذا الجسم الصهيوني بالمساعدة الغربية عاملاً مهما في تأخر الأمة وإشغالها.
- وما جرى من احتلال لأكثر من بلد إسلامي بحجج وهمية فقد دمرت أفغانستان، وألقي على المدن والقرى آلاف الأطنان من القنابل، ومات آلاف الأبرياء، وحدث الأمر نفسه في العراق بحجج وجود أسلحة الدمار الشامل التي تبين أنها كذبة لاحتلال بلد إسلامي والسيطرة على خيراته وتهديد سائر البلدان الإسلامية التي لا تخضع لهم وزامن ذلك إصدار الأوامر للدول الإسلامية بضرورة التغيير الثقافي والمقصود منه تجفيف منابع الثقافة الإسلامية.
كما زامن ذلك محاربة الجمعيات الإسلامية الخيرية ورميها أيضًا بتهمة دعم الإرهاب (مع أنها أوضح وسائل ترابط المجتمع الأهلي الذي ينادون به في معظم الدول)، وما ذاك إلا لمحاربة الإسلام، فتلك الجمعيات تدعوا إلى الإسلام وتكفل الأيتام وتقيم المستشفيات وتحفر الآبار وتعين الفقراء وتقيم المدارس وتصب في خدمة الإسلام والمسلمين وخدمة الثقافة الإسلامية.
وهذه التحديات لن تقضي على دين الله تعالى فقد أخبر المولى سبحانه ببقاء دينه وظهوره "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ" [التوبة:33] وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) (2).
وإن من حكم المولى سبحانه أن تقع هذه التحديات عقوبة للمعرضين ليعودوا: "وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [السجدة:21]. كما أنها بلاء للمؤمنين لرفعة الدرجات وتكفير السيئات"الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ"[العنكبوت:1-2]. وفيها تنقية للصف المسلم قال تعالى: "وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ" [العنكبوت:11].
ثانياً: الغزو الفكري:
وهو غزو غير مسلح غزو للأفكار والعقول، بعد أن أدرك الأعداء أن الغزو المسلح لا يكفي لإضعاف الثقافة الإسلامية، فعمدوا إلى غزو العقول والأفكار لتحقيق هدف عام وهو إضعاف الإسلام والمسلمين.
أ- وسائل الغزو الفكري:
1- الإعلام: استغل الغربيون والمستغربون وسائل الإعلام المختلفة لحرب الإسلام, حيث أصبح المدافع عن أرضه وبلده إرهابيًّا والمحتل مدافع عن نفسه، ونظرة سريعة إلى بعض وسائل الإعلام ترينا مدى البلاء الذي تصبه ليل نهار لتشويه صورة الإسلام والمسلمين والإساءة إلى معتقداتنا وشعائرنا وسلفنا وعلمائنا, سيل من الشبهات التي تشكك في الدين وأحكامه, وسيل آخر من الأفلام والتمثيليات والمسرحيات التي تتهكم بالإسلام, وتقوم بعرض نماذج من أنماط الحياة تضاد الإسلام في كل شيء, تمجد الجريمة, وتدعو إلى الفسق والفجور, وتنفر من الحياة المستقيمة الفاضلة, وتتهكم بالمسلمين والمسلمات, وتتخذ الدين هزوًا, وتعرض ما حرَّم الله: الرقص الفاضح, وشرب الخمر, والكذب والدجل, وقد أقامت للتافهين أسواق ضخمة في كل مكان باسم الفن(3).
وقد ازداد خطر هذه الوسيلة مع انتشار الفضائيات، وتنامي الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) حيث نجد المواقع التي تثير الشبهات، وتشكك في العقائد، وتنشر المذاهب الباطلة.
2- الاستشراق: وهو دراسة الغربيين للشرق وعلومه وأديانه خاصة الإسلام لأهداف مختلفة(4)، ومن أهمها تشويه الإسلام وإضعاف المسلمين.(25/26)
ومن أهم نتاج المستشرقين في القرن العشرين دائرة المعارف الإسلامية التي صدرت بثلاث لغات: الإنجليزية والفرنسية والألمانية وصدرت في عدة طبعات وترجمت إلى عدة لغات وقد اشترك في تأليفها أكثر من 400 مستشرق وبلغت أكثر من 3000 مادة في أكثر من 10.000 صفحة احتوت على معلومات مهمة عن الشرق والإسلام بالذات، كما أنها اشتملت على شبه ومطاعن متفرقة حول القرآن والعقيدة والشريعة الإسلامية وأعلام المسلمين بلغت أكثر من (300) مطعن وانتقاص للعقيدة الإسلامية(5).
وقد ملئت كتابات المستشرقين بالتعصب الصليبي باعتراف كثير من المستشرقين، يقول برنارد لويس: "لا تزال آثار التعصب الديني الغربي ظاهرة في مؤلفات العديد من العلماء المعاصرين ومستترة في الغالب وراء الحواشي المرصوصة في الأبحاث العلمية(6).
إن كثيراً من المستشرقين كانوا أداة للاستعمار، حيث تخلوا عن أمانتهم العلمية لتأييد المحتل، يقول مراد هوفمان، سفير ألمانيا في المغرب - وقد هداه الله للإسلام -: "والحق أن معظم المستشرقين عن وعي أو غير وعي كانوا أداة لخدمة الاستعمار، وإن كان بعض أولئك كانوا جواسيس للغرب بالفعل(7) وتتعاون المخابرات الغربية لاسيما الأمريكية مع مراكز الدراسات الاستشراقية, لاسيما فيما يتعلق بالحركات الإسلامية. وبلغ أعضاء رابطة دراسات الشرق الأوسط(8) الاستشراقية في أمريكا إلى قرابة 1600 عضو سنة 1986م ووصلت أعداد العناوين للموضوعات المنشورة عن الشرق الأوسط في الدوريات المتخصصة سنة 1987م إلى نحو 71 ألف مادة. كما أن كثيرا من المستشرقين ينظرون إلى الشرق والإسلام نظرة استعلائية، وقد ساق إدوارد سعيد(9) الشواهد العديدة لذلك في كتابه الشهير الاستشراق.
3- التنصير: وعلى الرغم من أن الأمم النصرانية تبتعد عن النصرانية, وعلى الرغم من بيعهم للكنائس في ديارهم, إلا أنهم حريصون على تنصير المسلمين، وبناء الكنائس في ديارنا, وقد رصدوا لذلك مئات الملايين من الدولارات, وأرسلوا البعثات التنصيرية مجهزة بكل ما يمكن أن يحقق الهدف الذي قامت من أجله, وعلى الرغم من الصعاب التي تقف في طريقهم, إلا أنهم ماضون في هذا الطريق, وهم يصطادون المسلمين الجهلة, وينشبون أنيابهم في فقراء المسلمين, حيث يقدمون لهم بعض ما يحتاجون إليه مقابل تركهم لدينهم وعقيدتهم(10)، بينما نجد العكس فيمن يسلم من الغربيين، حيث يسلم المتعلمون والمفكرون.
وأهم وسائل التنصير: التعليم والصحة والإعلام واستغلال الكوارث والحروب والفقر.
4- تشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وذلك بإقصاء الإسلام من شتى شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية.
5- محاربة الدعوة الإسلامية: حيث استغل الأعداد أحداث الاعتداء على نيويورك لمحاربة الدعوة الإسلامية لا سيما الجمعيات الخيرية الإسلامية والزج بها في تلك الأحداث واتهامها بدعم الإرهاب ومصادرة ممتلكاتها.
6- التغريب والعولمة الثقافية: وهي باختصار فرض الثقافة الغربية عن طريق المنظمات والمؤتمرات الدولية ووسائل الإعلام المختلفة.
وإن كان للعولمة - بشكل عام - وجوه مفيدة في التقنية والاتصال، والتعارف والمعلومات؛ فإن لها جوانب خطيرة في الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية.
ويهمنا هنا ما يؤثر على الثقافة الإسلامية بدرجة كبيرة وهو الهيمنة الثقافية وفرض القيم الغربية وتغريب المجتمعات المسلمة عن طريق استغلال التفوق التقني والسياسي والاقتصادي والعسكري لاختراق الثقافات الأخرى ومصادرة ثقافات الشعوب وفرض الأنماط الغربية.
ونجد أن الغرب لا يسعى لنشر قيمه الاجتماعية فحسب على الرغم من عدم الاقتناع الواسع بها قيماً، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمر نيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث .. إلخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(11) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.(25/27)
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان جاء الحديث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، مراهقين ومراهقات، قادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء، حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م. أي أنه أكثر من مباح، فالسعي لتحقيقه بجميع البلدان في أسرع وقت ممكن، وقبل سنة 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز هذه الإباحية حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسؤول(12).
وها هو المستشرق الألماني "هاملتون جب" يجعل هدف كتابه "وجهة الإسلام" قضية التغريب، ويتساءل إلى أي حد وصلت حركة تغريب الشرق؟، وما هي العوامل التي تحول دون تحقيق هذا الهدف؟(13).
ب- آثار التحديات التي تواجه الثقافة الإسلامية:
1- تشويه الإسلام وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة النبوية وعقيدة الإسلام وشريعته، وما يحدث الآن من محاولة لربط الإسلام بالإرهاب هو جزء من هذه الحملة.
2- تفريق المسلمين وإزالة الوحدة الإسلامية والدعوة إلى القوميات المتنوعة، وقد كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية, فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة, فنادى العرب بالقومية العربية, والأتراك بالتركية الطورانية, ونادى الأكراد بالكردية, وبذلك تفسخت عرا الرابطة الواحدة التي كانت تجمع هذه الأمة وتوحدها, وقد كان ظهور هذه الدعوات سببًا في إضعاف الخلافة التركية العثمانية وتحطمها.
وقد أغرق دعاة الضلال في دعوتهم عندما أحيوا الحضارات القديمة لإيجاد مزيد من الانقسام والفرقة, فرأينا الدعوة إلى الفرعونية, والدعوة إلى البابلية, والآشورية.. وغيرها(14).
إن الإسلام يشجع الوطنية الحقة والقومية الهادفة القائمة على التعاون على البر والتقوى كما قال سبحانه: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" [المائدة: من الآية2] ويحارب العصبيات والنعرات الجاهلية المنافية للوحدة الإسلامية وقد قال صلى الله عليه وسلم : (من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية، فقتلة جاهلية) (15)إن أي وطنية وقومية يجب ألا تتعارض مع الوحدة الإسلامية أو تكون بديلاً عنها، بل يجب أن تسخر لجمع كلمة المسلمين ووحدتهم، والعرب لم يجتمعوا إلا بالإسلام، وقد أعزهم الله بإنزال القرآن الكريم بلغتهم وجعل الحرمين في بلادهم، واختار النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وقد قال عمر رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله) (16).
إن الرابطة الحقيقية بين المسلمين هي رابطة العقيدة وجميع الروابط الأخرى هي فرع منها مثل رابط الجوار والقرابة والقبيلة والوطن.
3- الجهل بالإسلام وعقائده وأحكامه في كثير من بلاد الإسلام وانتشار البدع والخرافات والمذاهب الباطلة كالقاديانية والبهائية وانتشار الأفكار العلمانية المتطرفة والتكفيرية الغالية.
4- الهزيمة النفسية لدى بعض المسلمين واهتزاز الثوابت لديهم ونشوء طبقة من المثقفين المستغربين المنبهرين بالغرب وثقافاته.
5- إضعاف اللغة العربية وانتشار اللهجات المحلية التي اختارها الله لكتابه كما قال تعالى:"إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً" [يوسف:2] . 6- إقصاء شريعة الإسلام من الحكم وتشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية وهذا الأثر بذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر, وقد أقنعوا به كثيرًا من الحكام في الديار الإسلامية, وقد تبنت دولة الخلافة في آخر عهدها كثيرًا من القوانين المخالفة للإسلام, وفرضت القوانين الفرنسية على الشعب المسلم في مصر في عام 1882م ولم ينتصف القرن الرابع عشر الهجري حتى أقصيت الشريعة الإسلامية في أكثر الديار الإسلامية, باستثناء أحكام الزواج والطلاق والممات(17).
7- إفساد التعليم وإضعاف التعليم الإسلامي ومدارس القرآن الكريم والمناداة بعلمنة التعليم والدعوة إلى التعليم المختلط(18).
8- إفساد المرأة: لقد حرص الكفار على هذا, لأن فسادها يفسد الأبناء والأزواج, فأخرجوها من بيتها, وهتكوا حجابها, وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب, وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا(19)؛ وأفغانستان مثال حي على هذا؛ فعندما احتلوها لم ينقلوا إليها التقدم الصناعي والتقني وإنما بدأوا بإسقاط حجاب المرأة وإنشاء دور السينما.(25/28)
إن هدف عدونا ذوبان شخصيتنا وذلك بالقضاء على مقومات كيانها وعلامات القوة فيها واحتوائها بأخلاق الضعف والانحلال والإباحية حتى لا تقوى على مواجهة التحديات وذلك أخطر أهداف العدو، حيث إخراج أجيال ضعيفة لا تؤمن بحقها ولا تؤمن بربها ولا تستطيع أن تصمد أمام الخطر وأمام التحدي(20).
وقد أخبر المولى سبحانه بخطورة طاعة الكافرين والانسياق معهم فقال سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ" [آل عمران:100]. وأخيراً .. إنهم لن يرضوا منا بالتنازلات المحدودة وبعض الطاعة: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة: من الآية120].
(1) الغرب ليس شيئاً واحداً بل يجب التفريق بين الجهات الصهيونية والصليبية المعادية، وبين المنصفين منهم، وبين الأغلبية التي تأثرت بوسائل الإعلام المعادية، ومن الممكن التأثير عليها وبيان الحق لها.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي ..) رقم (1920).
(3) انظر: نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 62-64.
(4) المستشرقون لهم أهداف متنوعة منها أهداف مادية، وأهداف علمية، وأهداف استعمارية، وأهداف دينية وصليبية، وربما أسلم بعضهم، ولكن الحكم بالغالب وبالمؤسسات الاستشراقية الكبرى التي تهدف إلى صراع حضاري لهدم الإسلام وتشويهه.
(5) العقيدة الإسلامية في دائرة المعارف الإسلامية، د. خالد بن عبدالله القاسم، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة أم القرى، كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ص: 25-50.
(6) العرب والتاريخ، برنارد لويس، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1954م، ص: 63.
(7) الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا للنشر ومجلة النور الكويتية، الطبعة الأولى 1413هـ - 1993م، ص: 212.
(8) مصطلح الشرق الأوسط مصطلح غربي لطمس الهوية العربية والإسلامية ولإدخال إسرائيل فيه.
(9) مفكر فلسطيني الأصل، أمريكي الجنسية، نصراني الديانة، فضح في كتاباته الاستعلاء الغربي، توفي سنة 1424هـ.
(10) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 63-64.
(11) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(12) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية، الفصل الثامن الفقرات 31-35. نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27.
(13) شبهات التغريب، أنور الجندي، المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، 1398هـ، ص: 12 .
(14) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان - الأردن، الطبعة السادسة، 1418هـ - 1997م، ص: 5.
(15) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن رقم (1850).
(16) فيض القدير شرح الجامع الصغير، الإمام عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، بيروت - الطبعة الثانية، 1391هـ، (2/290).
(17) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 5.
(18) انظر: غزو في الصميم، عبدالرحمن الميداني، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1405هـ، ص: 200.
(19) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص: 62-63.
(20) أنظر: شبهات التغريب، ص: 63 .
============(25/29)
(25/30)
صناعة الكراهية بين الثقافات أثر الاستشراق في افتعال الفجوة [1/2]
د. عَلِيُّ بِنِ إِبْرَاهِيْمَ النَّمْلَةِ 21/2/1428
11/03/2007
المنهج في نقد الاستشراق
الالتقاء بين الثقافات
وسائل الحوار بين الثقافات
المنهج في نقد الاستشراق
• الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله محَمَّد ابن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد:
• فهذه وقفات حول "محور العالم وثقافة الكراهية: حول التعصُّب والهيمنة وصراع الثقافات", الذي تقيمه رئاسة الحرس الوطني, المهرجان الوطني للتراث والثقافة, في دورته الثانية والعشرين, سنة 1428هـ/ 2007م. رأيت أنْ أسهمَ فيه بمحدِّد من محدِّدات العلاقات بين الثقافات في العالم المعاصر, لاسيَّما بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية, التي تتكِّئ على خلفية دينية. معتبرًا أنَّ الاستشراق القديم والمعاصر (أو ما يعبَّر عنه رضوان السيِّد وعبد النبي أصطيف بالاستشراق الجديد), (1) هو أحد أبرز هذه المحدِّدات؛ بما أسهم الاستشراق به من جهود إيجابية, وأخرى سلبية, في سبيل اقتلاع جذور الكراهية بين الثقافة الإسلامية والثقافات الغربية, أو ترسيخها.
• على أنَّ عبد النبي أصطيف يقصد بالمصطلح "الاستشراق الجديد" مقصدًا جديدًا, ينحصر في اهتمام الشرقيين (الداخليين) وتولِّيهم "المسؤولية كاملةً في إنتاج كلِّ ما يتَّصلُ بتاريخهم ومجتمعاتهم وثقافاتهم من معرفة, وألاَّ يعتمدوا كلَّ الاعتماد, أو جلَّه, على "الآخر" ـ الغربي بشكلٍ خاصٍّ ـ في إنتاج هذه المعرفة؛ لأنَّهم عند ذلك يغامرون, إنْ لم يكونوا يقامرون, بأمنهم واستقرارهم ومستقبلهم. والأمن الحقيقي هو الأمن المعرفي, الذي يكفُلُ المعرفة, التي يحتاجُها الشرقيُّون لفهم ماضيهم, واستيعاب حاضرهم, وبناء مستقبلهم"(2).
• لا بُدَّ من التوكيد أنَّ النبرةَ العامَّة حول الاستشراق, لدى كثير من الباحثين العرب, تتركَّز في أنَّه ظاهرةٌ لم تكُن إيجابيَّةً, في انطلاقتها مع التراث العربي الإسلامي. وأنَّ هذه النبرة التي توارثها رهطٌ من الكُتَّاب العرب والمسلمين المعنيين بالثقافة الإسلامية لم تكن, في مجملها, موضوعيةً في حكمها على الاستشراق, ممَّا ولَّد جدلاً حول مدى الخدمات الجليلة التي قدَّمها الاستشراق, في مقابل تلك التي خدم بها الاستشراقُ المصالحَ الغربية, الدينية منها والاستعمارية والسياسية, ثم الاجتماعية, وكون الاستشراق عونًا على بسط الهيمنة الغربية, بأشكالها المختلفة, على العالم الآخر, بما فيه العالم الإسلامي, فجاء معظم إنتاجه المعرفي متَّسمًا بالتعالي على المدروسين, وإشعار هؤلاء المدروسين بالرقي والتفوُّق الذهني عليهم, "لذلك حفلت الكتابات "العلمية" الاستشراقية بالصور النمطية عن الإنسان الشرقي, كما يتوقَّعه الغرب, أو كما يريده أنْ يكون. أراد الاستشراق, بكلِّ تيَّاراته وممثِّليه, أنْ يكون الدارسَ المترفِّعَ المتعالي المنكبَّ على دراسة الشرقي انكبابه على أيِّ موضوع بيولوجي أو فيزيائي. ولذلك لم يوجد "استغراب" يدرس من خلاله الشرقي دارسه الغربي. ولأنَّ الطرفين غير متكافئين لم يكن ذلك بالوارد على خاطر مجتمع غربي يعتبر كلَّ الوجود (بما فيه الإنسان الآخر) موضوعًا لمعرفته العلمية وبالتالي لسيطرته"(3).
• من السهل على المرء, حتَّى لا ُيتَّهم في انتمائه لثقافته, أنْ يركب موجة الهجاء التي يواجهها الاستشراق, فيسلم من الاتِّهامات السريعة. ولكنَّ هذه الموجة لا تخدم الثقافة الإسلامية, في مجال انتشارها في البيئة التي نشأ بها المستشرقون. وفي مجال نشر الثقافة الإسلامية, التي نعتقد أنَّ العالم, اليوم, بحاجة إليها. ولا يعني هذا الموقف الموصوف بالموضوعية, التغاضي عن المآخذ على الاستشراق؛ لأنَّها مآخذُ يصعب التغاضي عنها.
• إنَّما المراد هنا هو توخِّي الحذر في إطلاق الأحكام, والعزوف عن التعميم فيها, بحيث يضارُّ رهطٌ من المستشرقين, الذين كانت لهم أيادٍ تُذكر في سبيل خدمة التراث الإسلامي, وتقديم الثقافة الإسلامية للآخر, رغم وقوع بعضهم في أخطاء علمية, فرضها عليهم عدمُ انتمائهم إلى ثقافة يتحدَّثون عنها, وجهلُ بعضهم باللغة العربية التي جاءت بها هذه الثقافة.
• برغم هذه النظرة, التي تتوخَّى الموضوعية في الحكم, إلاَّ أنَّ عبد النبي أصطيف لا يملك أنْ يُغفلَ ما كان للاستشراق من آثار سلبية؛ لكونه "منتجًا ثقافيًّا إنسانيًّا محكومًا بظروف المواجهة بين منتجها (الغرب) وموضوعها (الشرق), وبمواقف طرفي هذه المواجهة, وأهوائهم, وأفكارهم المسبَّقة كلٍّ على الآخر, ومصالحهم الدنيوية في عالمٍ تحفِّزه المصالح أكثر ممَّا تحفِّزه القيم والمبادئ"(4). على أنَّه من المؤكَّد في ضوء الأحداث الأخيرة في المنطقة غلبة الأفكار والاعتقادات على المصالح الآنية, ممَّا يعني أنَّ المصالح ليست, بالضرورة, هي التي تسيِّر العلاقات دائمًا, كما هو الاعتقاد السائد.(25/31)
• يخضع نقد الاستشراق, اليوم, للمنهجية العلمية, التي تقتضي قدرًا من التخصُّص, أو على أقل مطلب علمي, تقتضي الشمولية في الاطلاع على مشارب الاستشراق وفئاته ومدارسه وأطواره, إذ إنَّه يعَدُّ, الآن, من أوسع الموضوعات الثقافية والفكرية التي تتعرَّض للنقد العام, كما أنَّه يكثر منتقدوه نقدًا عامًّا, بدوافع لا يُشكُّ في مقاصدها وإخلاصها, إلاَّ أنَّه, مع سلامة المقصد والإخلاص فيه, لا بُدَّ من الصواب في النقد.
• تأتي هذه الكثرة من المنتقدين للاستشراق لما يعيشه من حالة من ضعف الثقة بنقد بالاستشراق في أنْ يكون عاملاً من عوامل الاتِّصال الإيجابي مع الثقافات الأخرى, الذي يندرُ فيه المتخصِّصون في نقده تخصُّصًا مباشرًا, وتندر فيه مراكز الدراسات والبحث العلمي على المستويين العربي والإسلامي, في الوقت الذي تزداد فيه مراكز الدراسات الاستشراقية في الغرب والشرق الأقصى, وإن تسمَّت بأسماء أخرى غير الاستشراق, فالمفهوم واحدٌ.
• ندرة المتخصِّصين في نقد الاستشراق, وندرة وجود مراكز نقد الاستشراق والمستشرقين, على المستويين العربي والإسلامي, كان لهما أثرهما في أن يُتولَّى نقدُ الاستشراق من منطلقات عاطفية, هدفها نبيل, وهو الذود عن هذا الدين الحنيف والثقافة العربية/الإسلامية التي استمدَّت مقوِّماتها من هذا الدين, دون إغفال الإفادة من الثقافات الأخرى, السابقة والمعاصرة. لكنَّ هذه العاطفة التي طغت على هذا الطرح قد أوقعت بعض المنتقدين بمزالقَ علمية, من خلال الدخول فيما يسمِّيه رضوان السيِّد بإيديولوجيا العداء للاستشراق, الذي لا يمثِّل المنهج التخصُّصي في نقد الاستشراق.
• تُستحضر, هنا, العبارة المناسبة لهذا المقام, عن أحد المعنيِّين المباشرين بظاهرة الاستشراق, السيِّد الشاهد, حيث يقول: "كثُر الحديث في العقدين الأخيرين من هذا القرن العشرين عمَّا يسمَّى في بلادنا ظاهرة الاستشراق, شارك فيه المتخصِّص وغير المتخصِّص, من يعرف لغات الاستشراق ومن لا يعرفها, فجاء معظم الحديث نقولاً عن نقول أُخذت عن ترجمات فيها الصواب والخطأ, وأصبح ميدان الاستشراق أو كاد حلاًّ لمن أراد التأليف السريع لا يتطلَّب من طالبه سوى جمع بعض ما سبق, وتوليفه وتزيينه بعناوين جذَّابة ترضي ذوق متوسِّطي الثقافة»(5).
• لو سأل أحدٌ عن المقياس الذي يمكن تبنِّيه في نقد الاستشراق والحكم عليه لأجابت عنه الآية الكريمة في سورة المائدة قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة: 8]. ورغم أنَّ هناك صناعةً للعداء تجاه المسلمين(6), ورغم أنَّ العدل مع الآخر ليس متوخّىً من الآخر دائمًا, ورغم كلِّ المؤشِّرات التي لا تشجَّع على هذا الموقف العادل, إلاَّ أنَّ مطلب العدل يأتي توجيهًا من مصدر الثقافة الإسلامية الأوَّل, بحيث يكون توخِّي العدل في الحكم على الأشياء نمطًا من أنماط العبادة لله تعالى؛ لأنَّ فيها طاعةً لله تعالى.
• يؤكِّد محمد جلاء إدريس هذا التوجُّه, بعبارة هي أكثرُ وضوحًا, بقوله: "ينبغي أنْ لا يسيطر التطرُّف على معالجتنا للقضايا المهمَّة في عالمنا, فلا نقع في إفراط أو تفريط, ولا في تهويل أو تهوين. نحن بحاجة إلى عقول تربَّت ونمت على الموضوعية, تدرس الماضي, وتفسِّر الحاضر, وتخطِّط للمستقبل. ولسنا بحاجة إلى من يُهاجم فكرًا أو يدافع عن فكر آخر, دون أنْ يكلِّف نفسه عناء التفكير في البدائل الناجعة»(7). ولذلك فإنَّ عين الرضا أو عين السخط لا تُستحضران هنا, من قول الشاعر العربي:
وعين الرضا عن كلِّ عيبٍ كَلِيْلَةٌ*** ولََكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِيْ الْمَسَاوِيَا
الالتقاء بين الثقافات
• الأصل في الثقافات التي تقوم على وحي منزَّل من الله تعالى, والتي استمدَّت مقوِّماتها الثقافية من كتابٍ منزَّل, الأصل فيها التلاقي, ذلك أنَّها تؤمن بما اصطلحنا عليه نحن المسلمون بأركان الإيمان الستَّة, وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر, خيره وشرِّه(8). ومن ثمَّ فلا مجال لصناعة الكراهية بينها, لأنَّ منبعها واحد, وأهدافها, في أصلها, واحدة. وكونها تعرَّضت لتدخُّل البشر في الثقافات الأخرى فإنَّ هذا داخلٌ في سنن الله تعالى في هذه الرسالات السماوية, التي كانت فيها القابلية لهذا النوع من التدخُّل, الذي يُفترض فيه حسنُ المقصد, "إلا ما ورد من باب التجاوز والافتراءات"(9).(25/32)
• والأصل أنَّ من مقاصد خلق الأمم التعارُف, وعدم الالتفات إلى وجود فروقات إثنية/عرقية أو جنسية, وإنَّما يتفاضل الخلق بأعمالهم التي يكونون قريبين فيها من الخالق ـ جلَّ وعلا ـ. قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13]. والتعارُف بين الشعوب والقبائل "هو أحدُ أرقى المفاهيم وأكثرُها قيمةً وفاعلية, ومن أشدِّ وأهمِّ ما تحتاج إليه الأمم والحضارات. وهو دعوةٌ لأنْ تكتشف وتتعرَّف كلُّ أمَّةٍ وكلُّ حضارة على الأمم والحضارات الأخرى, بلا سيطرة ولا هيمنة, أو إقصاء أو تدمير. والتعارُف هو الذي يحقِّق وجود الآخر ولا يُلغيه, ويؤسِّس العلاقة والشراكة والتواصُل معه, لا أنْ يقطعها أو يمنعها أو يقاومها", كما يقول زكي الميلاد(10).
• والأصل أنَّ من مقاصد الخلق أنْ يكونوا أممًا, وليس أمَّة واحدة, وذلك تثبيتًا لمبدأ التسابُق إلى الخيرات. قال تعالى: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" [المائدة: 48].
• والأصلُ في هذا التسابُق أنْ يصحبَه تنافُسٌ وتدافُعٌ إلى الخيرات, للتغلُّب على الإفساد في الأرض, "فلو لم يكن هناك تدافُعٌ بين الناس لفسدت الأرض, ولهُدِّمت عمارتها, بما في ذلك أماكن العبادة, وهي أخصُّ ما يذود عنه الإنسان"(11). قال تعالى: "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40].
• والأصل في نظرة الإسلام للثقافات الأخرى أنْ تقومَ هذه النظرة على المنهج الوسطي, الذي سار عليه سلف هذه الأمَّة, في التعامُل الواضح مع الثقافات المعاصرة, من حيث إعطاؤها قيمتَها الفعلية, ومن ثمَّ الإفادة من معطياتها العلمية والمعرفية والحضارية, بما لا يتعارض مع تلك الثوابت التي جاء بها هذا الدين, فكانت هناك حركة ترجمة ونقل للعلوم والمعارف, على اعتبار ظاهرة النقل والترجمة تمثِّل شكلاً من أشكال الحوار والتواصُل بين أمَّة الإسلام والأمم المعاصرة الأخرى(12).
• والأصل في بناء الحضارات المشارَكةُ في جهود البناء, بالفكر والعلم والجسم. ويؤكِّد تاريخ الحضارات أنَّ مسألة الاستعانة بإمكانات الأمم المعاصرة كان ديدنًا في بناء الحضارات, بحيث يتعذَّر حصر الثقافة على أمَّة دون مساعدة, بشكل من الأشكال من أمم أخرى, معاصرة لها أو سابقة عليها(13). الحضارة الإسلامية في قرونها الأولى لم تُغفل هذا البُعد(14), والحضارة المعاصرة التي نشأت في الغرب لم تنشأ دون الاستعانة بالأمم الأخرى, ومنها الأمَّة الإسلامية. ولا تُعدم وجود مسلمين أسهموا في بناء هذه الحضارة, من الخبرات إلى الحرفيين.
• مع هذه الأصول, فإنَّه يدخل معها أصلٌ محفِّزٌ لها, وهو الاختلاف بين الأمم, ومن ثمَّ الاختلافُ بين الثقافات. ولا يعني هذا الاختلافُ, بالضرورة, الخلافَ والتضادَّ بينها. كما أنَّ الاختلاف, من حيث المفهوم, لا يعني التماثُل. لذا فإنَّ الاختلاف سنَّةٌ من سنن الله تعالى في هذا الكون. "وهو في حدِّ ذاته أحد موجبات التدافُع والتسابُق, الذي به يجابه الفساد, ويحقِّق في الكون الإصلاح, وتتمُّ به الخيرات"(15).
• هذا الاختلاف "الطبيعي", الذي تمليه النظرة الوسطية, يقوم على ركيزتين أساسيتين: "أولاهما: المشترك الإنساني العامّ, وهو ما يتمثَّل في حقائق وقوانين العلوم الموضوعية والطبيعية والمحايدة, التي لا تتبدَّل قوانينُها بتبدُّل العقائد والحضارات الخاصَّة بالباحثين فيها, المنتفعين بها. وثانيتهما: الخصوصيات الحضارية, المتمثِّلة في الهويَّات والثقافات والعقائد والفلسفات, وميادينها العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والفنون والعادات. وهي تلك المتغيِّرات, وفقًا للأنساق الفكرية"(16).(25/33)
• بين المشترك الإنساني العام والخصوصية الحضارية تبقى الثقافة مميِّزًا من مميِّزات الأمم. ولا يُتوقَّع أفول خصوصية الثقافة, في ضوء التوجُّه إلى عولمة الكون, مهما كان الضخُّ النظري المنبهر بالدعوة إلى عولمة كلِّ مناحي الحياة, بما فيها الأبعاد الثقافية. لا ينتظر أنْ تتنازل الأممُ عن مقوِّمات ثقافاتها, استجابةً للدعوة إلى العولمة الشاملة, التي يُشكُّ في فاعليتها بشموليَّتها على المدى البعيد(17).
?
وسائل الحوار بين الثقافات
• تتعدَّد وسائلُ الحوار والتعارُف بين الأمم. من هذه الوسائل ما هو إيجابي, ومنها ما هو سلبي. وكلُّ هذه الوسائل تتمحور حول مفهوم الحوار بين الثقافات. قد يكون هذا الحوار مباشرًا وظاهريًّا. وقد يكون خلاف ذلك, بحيث يأخذ أساليب غير تقليدية وربَّما غير إيجابية, كالحروب والإرهاب والاستعمار والتنصير(التبشير) والتغريب والتفرقة العنصرية, في الحوار.
• وقد سعى الباحث إلى رصد بعض هذه الوسائل على أنها محدِّدات, بعد بسط بعض المسلَّمات بين الثقافات, التي تأتي بوصفها فروقات طبيعية يمكن التعايُش معها, وتجاوُزها في سبيل التلاقي بين الثقافات. وأوصل الباحث هذه المحدِّدات إلى سبعة عشر محدِّدًا, هي على النحو الآتي:
1. الجهوية.
2. الإرهاب.
3. الحقوق.
4. العرقية.
5. الحروب.
6. اليهودية.
7. الاستعمار.
8. التنصير.
9. الاستشراق.
10. الاستغراب.
11. التغريب.
12. الاغتراب.
13. البعثات.
14. العلمنة.
15. العولمة.
16. الإعلام.
17. الحوار(18).
• ويأتي الاقتصاد والمصالح, محدِّدًا من محدِّدات العلاقة بين الشرق والغرب, ضمن المحدِّد الخامس عشر "العولمة", على اعتبار أنَّ انطلاقة العولمة بدأت من البُعد الاقتصادي.
• وجاء الحوار في ذيل القائمة؛ لأنَّه, عند الباحث, هو المحصِّلة النهائية لهذه المحدِّدات, ولم يأتِ متأخِّرًا للتقليل من أهميَّته, بل إنَّ هذه الأهمية هي مما تجاوزه المفكِّرون في العلاقات الدولية, ممَّن يميلون إلى ترسيخ مفهوم التلاقي, أخذًا في الحسبان وجود وجوه اختلافات, لا بُدَّ من التعايُش معها, وجعلها من محفِّزات التلاقي, لا من مقوِّمات التضادِّ, كما مرَّ ذكره في الوقفة السابقة.
|1|2|
(1) انظر: رضوان السيِّد. نقد الاستشراق.ـ الاجتهاد.ـ ع 50/51 (ربيع وصيف العام 2001/ 1422هـ).ـ ص 5 ـ 7. و35 ـ 63.
(2) انظر: عبد النبي أصطيف. نحو استشراق جديد.ـ الاجتهاد.ـ ع 50/51 (ربيع وصيف العام 2001م/1422هـ).ـ ص 35 ـ 63.ـ والنصُّ من ص 63.
(3) انظر: مصطفى النيفر. الأمير في دولة القراصنة: رحلة الأمير لودفيغ هيرمان فون بوكلير ـ موسكا إلى تونس (1835).ـ الاجتهاد.ـ ع 50/51 (ربيع وصيف العام 2001/ 1422هـ).ـ ص 65 ـ 116.ـ والنصُّ من ص 66 ـ 67.
(4) انظر: عبد النبي أصطيف. نحو استشراق جديد.ـ الاجتهاد.ـ المرجع السابق.ـ ص 35 ـ 63.ـ والنصُّ من ص 62.
(5) انظر: السيد مُحَمَّد الشاهد. الاستشراق ومنهجية النقد عند المسلمين المعاصرين.ـ الاجتهاد.ـ ع 22 (شتاء العام 1414هـ/ 1994م).ـ ص 191 ـ 211. والنصُّ من ص 191.
(6) انظر: رجب البنَّا. صناعة العداء للإسلام.ـ القاهرة: دار المعارف, 2003م.ـ 464 ص.
(7) انظر: محمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية.ـ دمشق: دار القلم, 1424هـ/ 2003م.ـ ص 121.
(8) انظر: جون إل. إسبوزيتو. الإسلام والغرب عقب 11 أيلول/سبتمبر: حوار أم صراع ثقافي حضاري؟.ـ دبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية, 2003م.ـ ص 28.ـ (سلسلة محاضرات الإمارات؛ 74).
(9) انظر: عبدالله التطاوي. الحوار الثقافي: مشروع التواصُل والانتماء.ـ القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب, 2006م.ـ ص 90.ـ (سلسلة مكتبة الأسرة).
(10) انظر: زكي الميلاد. المسألة الحضارية.ـ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي, 1999م.ـ ص 336.
(11) انظر: محمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية.ـ مرجع سابق.ـ ص 106.
(12) انظر: محمد عبدالحميد حمد. حوار الأمم: تاريخ الترجمة والإبداع عند العرب والسريان.ـ دمشق: دار المدى, 2001م.ـ 531 ص.
(13) انظر: عبدالرحمن بدوي. دور العرب في تكوين الفكر الأوروبِّي.ـ القاهرة: مهرجان القراءة للجميع, مكتبة الأسرة, 2004م.ـ 256 ص.
(14) انظر: علي بن إبراهيم النملة. النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية.ـ ط 3.ـ الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية, 1427هـ/2006م.ـ 204 ص.
(15) انظر: محمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية.ـ مرجع سابق.ـ ص 107.
(16) انظر: محمد جلاء إدريس. العلاقات الحضارية.ـ المرجع السابق.ـ ص 108 ـ 109.
(17) انظر: الثقافة الوطنية بين الخصوصية والعولمة.ـ ص 167 ـ 195.
في: إبراهيم بدران. أفول الثقافة.ـ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر, 2002م.ـ 296 ص.
(18) انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة. الشرق والغرب: منطلقات العلاقات ومحدِّداتها.ـ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي, 2005م.ـ 173 ص.
============(25/34)
(25/35)
صناعة الكراهية بين الثقافات أثر الاستشراق في افتعال الفجوة [2/2]
د. عَلِيُّ بِنِ إِبْرَاهِيْمَ النَّمْلَةِ 21/2/1428
11/03/2007
الاستشراق وصناعة الكراهية
الاستشراق ووسائل صناعة الكراهية
الخاتمة: الخلاصة والنتيجة:
الاستشراق وصناعة الكراهية
• إذا سلَّمنا بأنَّ الاستشراق هو أحد المحدِّدات المهمَّة في العلاقات بين الثقافات, فإنَّ هذا يعني إعطاء هذا المحدِّد القيمة الفعلية, التي يُنظر من خلالها إلى إسهاماته في التقريب بين الثقافات, أو في الإسهام, من جانب آخر, في تأصيل مفهوم الافتراق والتضادِّ والتناحُر بين الثقافات.
• الذين يدرسون الاستشراق بعمق, وبمتابعة مباشرة لإسهاماته الثقافية, لا يستعجلون التعميم في الحكم عليه كلِّه, على أنَّه كان طرَفًا مباشرًا في صناعة الكراهية. فالأمر, هنا, يقتضي قدرًا من التفصيل. فقد طال التنقيب عن المستشرقين المنصفين, وهم موجودون, ولا يسوْغ نسيان إسهاماتهم في توعية بني قومهم عن حقيقة الثقافة الإسلامية, وبُعدها عمَّا ألصقه بها إخوةٌ لهم من المستشرقين, من كون هذه الثقافة تمثِّل الخطر الأخضر الجديد(1), بعد تراجُع الشيوعية عن التأثير, ودعوتهم لهم إلى أنْ يخلعوا عنهم لباس التعصُّب, الذي يحجب النظرة الموضوعية لثقافة تنتشر بشكل ملحوظ, (آنا ماري شيمِّل 1922 ـ 2005م, وزيجريد هونكه, وفريتس شتيبات 1923م ـ ويوسف فان أس 1934م ـ, ولزلي ماكلوكلن, وجون إسبوزيتُّو, وفريد هاليداي, وديفيد كنج, وإدوارد كينيدي, وغيرهم كثير من المتأخِّرين, نماذجَ) (2), وأنَّ مسألة الخطر الإسلامي لا تتعدَّى كونَها وهمًا من الأوهام, التي يروِّج لها بعض المتنفِّذين السياسيين من المستشرقين وغيرهم(3). ذلك في ضوء التوجُّه إلى التوكيد على وجود مستشرقين مغرضين, كان لهم أثر واضح وملموس في صناعة الكراهية.
• هذه النظرة تقتضي تصنيف المستشرقين إلى فئات, من حيث الزمانُ, أوَّلاً, ثمَّ من حيث المدارسُ الاستشراقية, ومدى قُرب هذه الفئات والمدارس من الإنصاف, كالمدرسة الألمانية, وبُعدها عنه, كالمدرسة الفرنسية, أخذًا في الحسبان أنَّ المستشرق نفسه يظهر تارةً منصفًا, ويظهر تارةً أخرى, في تقويمنا له, غيرَ منصف (مونتمجمري وات نموذجًا) (4).
• واقع الحال أنَّ هناك فئةً معتبرة من المستشرقين كانت لهم جهود واضحة في صناعة الوئام بين الثقافات, وكانوا وسائط لتعريف الغرب بالثقافة الإسلامية تحديدًا, من خلال الدراسات والبحوث والترجمة والنقل, وحفظ التراث العربي الإسلامي, وفهرسته وتصنيفه, وترميم المعطوب منه. ولا ينبغي التغاضي عن هذه الجهود الواضحة, كما أنَّه لا ينبغي الالتفاف على هذه الجهود, والزعم بأنَّها لم تكن صادرة عن قصد نبيل, والزعم بأنَّ ما قام به المستشرقون من جهود موضوعية كان لخدمة أغراضهم الأخرى(5). وإنْ وجد هذا الهاجس فقد تمخَّض عنه نفع للتراث المخدوم.
• أمَّا من حيث الزمانُ فإنَّ طلائع المستشرقين لم يكونوا, في الإجمال, إيجابيين مع الثقافة الإسلامية, ذلك أنهم كانوا قد ولدوا في حقبة كانت فيها أوروبَّا تعيش حالة من الفوضى الحضارية, شاع فيها الإقطاع وسلطة النبلاء من ناحية, وشاعت فيها سيطرة مصالح الكنيسة, من ناحية أخرى, فكان أنْ شعروا بأنَّ الإسلام الذي بدأ ينتشر بقوَّة, لا بفعل السيف, كما زعموا, بل بفعل التأثير المباشر المتسامح في الأمم, مما هدَّد مصالحَ خاصَّةً, كان يتبوَّأها قسمٌ من رجال الدين, غير المتسامحين, الذين كانوا يدَّعون أنهم يمثِّلون الربَّ, ومارسوا دور الوسيط بين الربِّ والعباد, فحقَّقوا من وراء ذلك مصالحَ ذاتية, كانت بعيدة عن مفهوم التسامُح.
• بينما جاءت الثقافة الإسلامية لتلغي هذه الواسطة, وتجعل الصلة بين العبد وربِّه مباشرة, دون عون من أحد, سوى العلم القائم على كتاب الله تعالى وسنة نبيِّه محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -. وتجعل من التسامُح المحدَّد بضوابطه التي تقرِّبه من واقع الناس, وتتيح للأمم التعامُل بينها بموجبه, وليس ذلك التسامُح غير المحدود, الذي يدمِّر التسامُح, من حيثُ كونُه منطلقًا للعلاقة بين المسلمين أنفسهم, وبينهم وبين غيرالمسلمين (الآخر).
• يقول عصام عبدالله: «لم يكن معظم المنادين بالتسامُح مستعدِّين للسير بهذا المبدأ حتَّى نهاية الشوط, أو في كلِّ الاتِّجاهات, وعلى كافَّة الصًُعُد, ف"جون لوك", أكبر المؤيِّدين لمبدأ التسامُح وضع مجموعة من الضوابط, من يتعدَّاها لا يمكن التسامُح معه بأيِّ حال:
1ـ الترويج لمعتقدات وأصول تهدِّد بنسف المجتمع نفسه,
2ـ الترويج للإلحاد,
3ـ الأفعال التي تهدُف إلى تدمير الدولة, أو التعدِّي على أموال الآخرين,
4ـ الولاء للحكَّام الخارجين (الخيانة)» (6).
• جاء المستشرقون في هذه الحقبة ليقدِّموا المعلومة الخاطئة عن الثقافة الإسلامية لبني قومهم, «فقد أصبحت رؤى المستشرقين تتسلَّل إلى العقول الأوروبِّية؛ لأنَّهم خبراء في شؤون الدين والمجتمعات الإسلامية, واكتسبوا ثقة الإنسان الغربي؛ لما يمثِّلونه من علم وخبرة نادرة»(7).(25/36)
• مع تسلُّل هذه الرؤى الاستشراقية إلى العقول الأوروبِّية تسلَّلت, من خلال النقل والترجمة للآثار الاستشراقية الغربية, إلى بعض العقول الآسيوية, لاسيَّما في روسيا, حيثُ مرَّت المعرفة الإسلامية «في البداية عن طريق المصفاة الأوروبِّية الغربية, ولذلك جاء معظمها مشوَّهًا بعيدًا عن الموضوعية العلمية. هذا من جهة, ومن جهة ثانية لقد أرادت روسيا الاستعانة بوجهة النظر الأوروبية الغربية عن الإسلام؛ لكي ترتكز على مستندات فكرية توظِّفها الأرثوذوكسية المسيحية الفكرية ضدَّ الدوغمائية الإسلامية التترية», على حدِّ قول الأستاذ سهيل فرح(8).
• يقول خلف الجراد في كتابه: أبعاد الاستهداف الأميركي: «ومثلما كان هناك ارتباط عضوي بين الحروب المسماة "صليبية" والاستعمار الغربي المباشر للعرب والمسلمين, في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والشعارات الدينية المسيحية والمدرسة الاستشراقية التقليدية, فإن المدرسة الاستشراقية الجديدة بأدواتها المعرفية المتطوِّرة, وصلاتها الفكرية والأكاديمية والسياسية بالإستراتيجية الأميركية, تحوَّلت بالفعل إلى أبرز لاعب في توجُّهات النخب السياسية والعسكرية في الولايات المتحدة الأميركية»(9).
• يقرِّر نجيب العقيقي أنَّ طلائع المستشرقين قد انطلقت من الكنائس والأديرة, حيث يذكر صاحبُ أفضل موسوعة ضافية عن الاستشراق والمستشرقين, أنَّ الاستشراق قد بدأ «أكثر تنظيمًا وانتشارًا واستمرارًا بالفاتيكان, بابوات وأساقفة ورهبانًا, واصطناع نفوذهم في سبيله لدى الملوك والأمراء والبلديات, والإفادة منه في الردِّ على البروتستانتية بعد انفصالها عنهم مما جعله لغايات منوَّعة, بوسائل متعدِّدة, في أرجاء واسعة. كان رجال الدين ـ ومرجعهم الفاتيكان يومئذٍ ـ يؤلِّفون الطبقة المتعلِّمة في أوربا, ولا سبيل لهم إلى إرساء نهضتها إلا على أساس من التراث الإنساني الذي تمثِّله الثقافة العربية, فتعلَّموا العربية, ثمَّ اليونانية, ثمَّ اللغات الشرقية للنفوذ منها إليه»(10). وقصد قومٌ منهم المغرب لمجادلة المسلمين. واختصَّ آخرون بأن يكونوا أدلاَّء لقاصدي فلسطين, في رحلات لها قدسيَّتها, يطلقون عليها الحجّ إلى الديار المقدَّسة, القدس وبيت لحم والناصرة والخليل, وغيرها من حواضر فلسطين.
• جاء هذا الهدف الرئيسي حائلاً لرهط من هؤلاء المستشرقين بين إقامة جسور ثقافية بين أوروبَّا والشرق الإسلامي. إلا إنَّ الاستشراق يمتدُّ, بعد ذلك, ويتخلَّى عددٌ من المستشرقين عن هيمنة الهاجس الديني, القائم على صناعة الكراهية تجاه المسلمين, رغم تجدُّد العودة إلى الأصولية الدينية المسيحية/اليهودية, وسيطرتها على الخطاب السياسي؛ لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية, من قِبَل جماعات متشدِّدة, استطاعت التأثير على صناعة القرار في بعض الدول الغربية, كما يقول جورج قرم في كتابه الصادر أخيرًا بالفرنسية بعنوان: المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين(11).
• بدت على بعض هؤلاء المستشرقين بوادر الاستقلالية عن الهاجس الديني الأصولي, ووصف بعضهم بالعلمنة, وأنَّهم يرغبون في أنْ يكونوا أكثر موضوعية من أسلافهم, ومن ثمَّ رغبوا في عدم الخوض في الشأن الديني, الذي بدا أنَّه هو المحفِّز لصناعة الكراهية, فاشتغل رهطٌ منهم بالشأن الاجتماعي, من خلال تحليل المجتمع المسلم(12).
• ظهر ما يمكن أنْ يسمَّى بالرؤية الاستشراقية المعدَّلة, التي تنتقد المجتمع الغربي في موقفه من الثقافة الإسلامية, وتتفهَّم «مشاعر العالم الإسلامي في أنَّه يعيش تحت حصار فرضه عليه الغرب, في كثير من المجالات الحيوية, السياسية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ويمتدُّ هذا التفهُّم إلى إدراك الأسباب التاريخية التي أدَّت إلى ذلك, وإلى إشكالياتِ عمليةِ التحديث التي فرضها الغرب, وما اقترن بها من توتُّرات اجتماعية واقتصادية.
إلاَّ أنَّ أنصار الرؤية «المعدَّلة» يقاومون بكلِّ قوَّة الاستقلال التامَّ عن الغرب, بل ومنع ذلك, وضرورة اتِّباع النموذج الغربي الذي أثبت نجاحه», كما يقول سمير مرقس(13).
• مع هذا لم يتمكَّن المستشرقون, في دراساتهم الاجتماعية والأنثروبولوجية, من عزل الدين الإسلامي عن هذه الدراسات, إذ توجَّه بعضهم إلى دراسة المجتمع المسلم أنثروبولوجيًّا من خلال أوجه النشاط الديني, مثل القضايا التي يطرحها خُطباء صلاة الجمعة(14), ومثل الشأن النسائي في المجتمع المسلم, بما في ذلك ظاهرة تفشِّي الحجاب لدى المسلمات, وشيوع ذلك حتَّى في المجتمعات غير المسلمة, التي توجد بها أقلِّيات أو جاليات مسلمة.(25/37)
• تستهوي بعضَ المستشرقين السياسةُ, في وقتٍ كان العالم فيه يمرُّ بمرحلة اجتياح أوروبِّي للعالم, شرقه وجنوبه والقارَّة الأمريكية الوسطى والجنوبية, فيما اصطلح عليه بحقبة الاستعمار, فكانت هذه الفئة من المستشرقين (باستثناء الاستشراق الألماني الذي لم يزدهر نتيجةً للاستعمار) (15), جاهزةً لتقديم العون للجهات الاستعمارية, من خلال تقديم المعلومة عن البلاد المستهدَفة بالاستعمار. ورافق بعضُ المستشرقين الحملات الاستعمارية, سلفستر دي ساسي (1758 ـ 1838م) في الجزائر, وكريستيان سنوك هورخرونيه (1857 ـ 1936م) في إندونيسيا نموذجًا. فهم هنا يمارسون مهمَّة الأدلاَّء, ولكن مع اختلاف في المهمَّات عن أسلافهم أدلاَّء قاصدي فلسطين.
• ثمَّ يمتدُّ الاهتمام من لدن المستشرقين بالسياسة, حتَّى بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية, والاستعاضة عنها بحقبة الهيمنة, التي يعيشها العالم اليوم, في ضوء سيطرة القطب الواحد. وهي هيمنة آنية, لا يتوقَّع لها كلها «أنْ تصير دائمةً», في ضوء تضاؤل مقوِّمات الدوام, لاسيَّما الأخلاقية منها, على رأي جيمي كارتر رئيس الولايات المتَّحدة الأمريكية الأسبق(16).
• إذا جرى الحديث عن الهيمنة يتَّجه الذهن إلى انفراد الولايات المتَّحدة الأمريكية في الساحة العالمية, مع صنع حلفاء لها, في أوروبَّا, يحقِّقون لهم ولها مصالحهم ومصالحها, ربَّما على حساب مصالح الشعوب الأخرى, ممَّا يفاقم من صنع الكراهية, وممَّا أظهر أدبيَّات إعلامية وتحليلية سريعة, أضحى همُّها هجاء هذا النمط من العلاقة بين الغرب والشرق, دون توخِّي الموضوعية في التحليل, والعلمية في بسط الأمر, بل ربَّما لتحقيق حاجة في نفس يعقوب, كانت موجودة من قبلُ, إبَّان المدِّ الشيوعي والاشتراكي(17), بحيث يمكن أنْ تُعَدَّ هذه الأدبيَّات الإعلامية والتحليلية السريعة نفسُها إسهامةً من الإسهامات في مسيرة صناعة الكراهية.
• وتستهوي عددًا من المستشرقين الحملاتُ التنصيرية (التبشيرية), التي اجتاحت الشرق والجنوب والقارَّة الأمريكية الوسطى والجنوبية, فيكون هؤلاء عونًا للمنصِّرين, ويكوِّنون لهم قاعدة المعلومات, التي تمدُّ المنصِّرين بما يحتاجونه من معلومات عن المجتمعات المستهدفة بالتنصير, في سبيل تحقيق مهمَّاته الصعبة, لاسيَّما في المشرق الإسلامي, حيث يقفُ التوحيد حائلاً دون وصول التثليث, الذي هو أُسُّ التنصير, إلى عقول الناس وأفهامهم, فظهرت على الساحة الثقافية فئةٌ من المستشرقين المنصِّرين.
• عليه, يمكن أنْ ينظر للتنصير على أنَّه شكل من أشكال صناعة الكراهية بين الغرب والشرق, لاسيَّما الشرق الإسلامي, الذي لم يكن مرحِّبًا بالتنصير, ليكون بديلاً عن العقيدة الإسلامية الصحيحة(18).
• ثمَّ يستهوي فئةً من المستشرقين الإعلامُ, بمفهومه الحديث, الذي يعتمد على سرعة النشر, على حساب المعلومة الموثَّقة, وبالتالي يتَّكئ على المعلومة السريعة, التي قد تفتقر إلى التحليل العميق, فيقع بعض المستشرقين في فخِِّّ الإعلام, رغبةً لدى بعضهم في الشهرة والظهور والانتشار وسرعة التأثير, فيتخلُّون عن المفهوم التقليدي العميق للاستشراق, ويتبرَّأون منه, ويرميه بعضُهم في زبالة التاريخ, على رأي برنارد لويس(19), ويصبح المصطلح, عند هذه الفئة, مشؤومًا, ويلتفُّون عليه بألقاب علمية أخرى(20), ويعزفون عن الأبحاث في قضايا تراثية, وينصبون أنفسهم خبراء في قضايا المسلمين المعاصرة, (برنارد لويس, نموذجًا), فيغذُّون الإعلام بصناعة الكراهية للثقافات الأخرى, بما فيها الثقافة الإسلامية.
• يستفيد الإعلامُ المنحاز عن الخلفية العلمية لهذه الفئة من المستشرقين في تذكية صناعة الكراهية بين الثقافات, وإضفاء صورة نمطية غير حسنة عن الإسلام وحضارته وثقافته, وعن المسلمين. والنظرة السطحية للإعلام, في مقابل البحث التحليلي للاستشراق, لا تقلِّل من تأثير الإعلام في النفوس, ولا تُصادر الجهود التي تُبذل في سبيل تحقيق هذا التأثير.
• يُرجع محمد علي الخالدي من أسباب هذه الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين, والعرب داخلون بالضرورة ضمنًا, إلى «دور عملية الاستشراق وإشاعة تصوُّراتها, إذ احتلَّت الأولوية في المشهد الثقافي وخدمتها أهدافاً استعمارية, فخرقت ثقافات الشعوب المحلية وطمست هويتها الحضارية من خلال فرض التصورات الغربية لكل مناحي الحياة وتفسير أحداث التاريخ الإسلامي بموجب مقاسات تلك السياسة الاستعمارية»(21).
الاستشراق ووسائل صناعة الكراهية(25/38)
• ليس من السهل حصر الوسائل التي يمكن عدُّها مؤثِّرةً في صناعة الكراهية بين الثقافات. ويمكن أن تقسَّم "القائمة" إلى وسائل قديمة, وأخرى حديثة أو معاصرة. كانت إسهامات المستشرقين الأوائل في هذا المجال قد بدأت في الطعون المباشرة, وإثارة الشبهات في الثقافة الإسلامية, حيث شكَّك الاستشراق في الإسلام, ومن ثمَّ شكَّك في القرآن الكريم على أنَّه كتاب منزَّل من الله تعالى على عبده ورسوله محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -, وزعم أنَّه من تأليف محمد - صلى الله عليه وسلم -, (جورج سيل (1697 ـ 1736م) نموذجًا), ومن ثمَّ جاء التشكيك في سنَّة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسيرته, والتشكيك في الشريعة الإسلامية, وأنَّها, في جانبها الفقهي, مستمدَّة من القانون اليوناني/الإغريقي, ثمَّ لمز الصحابة والتابعين, والتاريخ الإسلامي, والفتوح الإسلامية, والقائمة تطول.
• يقول حاتم الطحاوي في عرضه لكتاب محمد خليفة حسن: آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية: «أثار الاستشراق الشكوك في العقيدة, عبر نظرته للقرآن الكريم والحديث النبوي ومصادر العقيدة الإسلامية على أنها خاضعة للنقد العقلي وحضّ المسلمين على ضرورة إخضاع تلك المصادر للرؤية النقدية العقلية. وبالتالي التخفيف من قدسيِّتها لدى المسلمين, والحضّ على تركها واستبدال القوانين الوضعية البشرية بها»(22).
• إلاَّ أنَّ هذه الطعون والشُّبُهات قد خدمت مرحلة من مراحل العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي/ النصراني, ولم تعُد ممَّا يسوَّق اليوم؛ لأنَّ المستشرقين أنفسَهم قد وقفوا منها موقف الناقد الفاحص, الذي تبيَّن له أنَّ الزمن قد تجاوز الطعون والشُّبُهات المباشرة, لاسيَّما مع الالتفات للاستشراق, ونشوء جدل بين الباحثين العرب والمسلمين حول الموقف من الاستشراق, ومدى خدمته للثقافة الإسلامية, ومن ثمَّ التصدِّي لهذه الأنواع من الطعون والشبهات والردود عليها من قبل الباحثين المسلمين, وعزوها إلى الأغراض التي قامت من أجله.
• ثمَّ تأتي المرحلة المعاصرة التي توهَّمت أنَّ الإسلام يمثِّل خطرًا يهدِّد الوجود الغربي بثقافته التي انبنى عليها, رغم تبنِّي المنهج العلماني في الممارسة السياسية. ونحَتَ الغرب مصطلح "الإسلام ـ فوبيا", أو الإسلاموفوبيا Islamophobia, لاسيَّما بعد انتهاء تأثير المعسكر الشرقي, وانتهاء الحرب الباردة, والبحث عن عدوِّ جديد يوحِّد الغرب, ويتحالف في التصدِّي له(23).
• يقول محمد علي الخالدي: إنَّ الإسلاموفوبيا «مصطلح أكثر شيوعًا من الاستشراقية. "الإسلامافوبيا", وقد عُرِّب مصطلح الإسلامافوبيا إلى "التخويف من الإسلام والمسلمين", الذي يُعرَّف بأنَّه "الفزع من الإسلام أو كرهه، والخوف من المسلمين أو كرههم", ويعتقد كثير من الخبراء أنَّ هذا المصطلح غير دقيق, ولا يعبِّر بصدق عن أنواع التمييز ضدَّ المسلمين. ووضعه الأوروبيون على غرار مصطلح "اللاسامية", وهي ظاهره تمييزية أوروبية تختلف تماماً, في أجواء انبثاقها، عن نوعية العلاقة بين الإسلام والغرب. وعرَّب بعض الباحثين الإسلامافوبيا اختصارًا بـ "رهاب الإسلام"، ضمن ما يعتقد أنَّها سياسة حكومية تستهدف إقناع المجتمع الغربي، بوجود تناقُض صارخ مع الإسلام، حسب مقولة أنَّ الإسلام هو الخطر الجديد القادم نحو البلدان الغربية من الشرق، بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، كما عبَّر عن ذاك الأمين العام السابق للحلف الأطلسي في بداية التسعينيات»(24).
• تصدَّى لهذه النبرة الجديدة رهطٌ من المفكِّرين الغربيين والمسلمين, ونظروا إليها على أنَّها وهمٌ من جملة من الأوهام التي يراد من ورائها استمرار حالة التأزُّم القائمة بين الشرق الإسلامي والغرب/المسيحي, ومن ثمَّ الاستمرار في حالة غير مستقرَّة, تفيد منها عناصر جعلت من هذه الحالة مجالاً لجلب مصالح ذاتية محدودة النفع, ممتدَّة الضرر(25).
• تساعد الظروفُ والأحداثُ في تعميق هذا الوهم, من خلال عدَّة مؤشِّرات, منها سيطرة المحافظين الجدد على الإدارة الأمريكية, والأحداث المؤسفة التي حصلت يوم الثلاثاء 11/9/2001م الموافق22/6/1422هـ, والتي اتُّهم بتنفيذها ثلَّة من الشباب المسلمين. ثمَّ تلا ذلك ملاحقة من اتُّهموا بالتخطيط لهذه الأحداث وغيرها قبلها, وربَّما ـ لا قدَّر الله ـ بعدها, في جبال أفغانستان وغيرها, واجتياح العراق يوم الخميس 16/1/1424هـ الموافق 20/3/2003م, بحجَّة تهديد الاستقرار في المنطقة, أي تهديد الوجود اليهودي في فلسطين المحتلَّة, مع الالتفاتة إلى غزو النظام البعثي السابق في العراق للكويت يوم الخميس 11/1/1411هـ الموافق 2/8/1990م.(25/39)
• لا يتحمَّل الاستشراق المعاصر/الجديد تأجيج هذا الوضع ابتداءً, إلاَّ أنَّه, في بعض جوانبه, وجدها فرصةً مواتية لتجديد صناعة الكراهية ضدَّ الإسلام والمسلمين, لاسيَّما بين المستشرقين المتصهينين (برنارد لويس, نموذجًا, ويتبعه دانييل بايبس, ومارتن كريمر, وإنْ لم يكن الأخيران مستشرقَين) (26), الذين يعنيهم هذا التأجيج؛ وذلك للإسهام في تثبيت وجود وطن قومي لليهود في فلسطين المحتلَّة, الأمر الذي يمكن أن يُعزى إليه الوضع السياسي والاجتماعي المتأزِّم بين الشرق الإسلامي والغرب. فمنطق الاستشراق المعاصر/الجديد, في بعض جوانبه, حول هذه الأحداث المتلاحقة هو تبنِّي مقولة: لم أُردْها ولم تسئُنِ.
الخاتمة: الخلاصة والنتيجة:
يمكن أنْ تُختم الوقفات الخمس السابقة, في النظر إلى الاستشراق كأحد العوامل التي ساعدت على صناعة الكراهية بين الثقافات, بخلاصة ونتيجة من خلال النقاط الآتية:
• للاستشراق أثرٌ بارزٌ في تحديد العلاقة, ثقافيًّا, بين الشرق والغرب, على المستويين الماضي والحاضر, وربَّما المستقبل. ويمتدُّ هذا الأثر في الأبعاد السياسية والإعلامية. ويسهم, بطريق مباشر أو غير مباشر, في رسم إستراتيجيات هذه العلاقة.
• لم يكن أثر الاستشراق في هذه العلاقة كلُّه سلبيًّا, بل كانت له آثاره الإيجابية في تقديم الثقافة الإسلامية في ماضيها/ التراث وحاضرها, والإفادة من معطياتها العلمية والفكرية على مرِّ الزمن. وكان هناك, ولا يزال, مستشرقون مخلصون لهذا التوجُّه, لم تستهوِهم تلك التقلُّبات التي تعصف بالعلاقة بين الثقافات. وبذا لا يسوَّغ التعميم في الحكم على الاستشراق سلبًا أو إيجابًا.
• عمل الاستشراق, مع هذا, وفي بعض جوانبه, على تعميق صناعة الكراهية بين الثقافة الإسلامية خاصَّة, وغيرها من الثقافات, لاسيَّما الثقافة الغربية, من خلال عمله, في بعض جوانبه, على تشويه الثقافة الإسلامية, في مصادرها وتراثها, وأوضاع المسلمين المعاصرة.
• تتفاوت مواقف المستشرقين من الثقافة الإسلامية, بحسب فئات المستشرقين ومدارسهم وأطوارهم, ومدى علاقة بلدانهم بالمنطقة العربية والبلاد الإسلامية, من خلال حقبة الاستعمار, إذ كان لبعض المستشرقين من الدول المستعمِرة أثرٌ في مسيرة الاستعمار.
• كانت لبعض المستشرقين جهود في مجال دعم الحملات التنصيرية في المجتمعات المسلمة, فظهر مستشرقون منصِّرون, وأمدَّ هذا النوعُ من الاستشراق التنصيرَ بالمعلومة عن المجتمعات المستهدَفة بالتنصير, وساعد ذلك على تعميق الفجوة بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية, وبالتالي أسهم هذا النوع من الاستشراق التنصيري في صناعة الكراهية.
• مال بعض المستشرقين المتأخِّرين, في محاولة للالتفاف على الاستشراق, إلى الطرح الإعلامي, وأكثروا من الظهور على القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية, وطُلبت آراؤهم "العلمية" في تحليل بعض المواقف التي تزيد من الفجوة بين الثقافات, فكان قولهم مقبولاً ومؤثِّرًا, لما يمثِّلونه من خبرة نادرة. بينما عزف مستشرقون آخرون عن هذا النوع من تسطيح القضايا, ورفضوا الإدلاء بآرائهم على العامَّة, وفضَّلوا الإفصاح عنها في الصروح العلمية, وبين المفكِّرين.
• تفاوتت مواقف المسلمين والعرب من هذا الجانب من جوانب الاستشراق, في طرفين متناقضين في أغلب هذه المواقف, كلاهما غير منصف لجهود المستشرقين الحسنة أو السيئة. وبقي ثلَّةٌ من المفكِّرين العرب والمسلمين متوازنين في حكمهم على الاستشراق, من منطلق أنَّه كلَّما تعمَّق الباحث في دراسة الاستشراق كان أقربَ إلى الحكم الصواب. وأحسب أنَّ هذه الفئة من المفكِّرين توخَّت العدلَ في ذلك الحكم, فكانت أقربَ من غيرها إليه.
• إذا كان هناك من توصية فإنَّها تتركَّز في تكثيف قنوات الحوار مع المستشرقين عمومًا, من خلال وجود المزيد من مراكز بحوث ودراسات للاستشراق في الصروح العلمية القائمة, والصروح العلمية المستقلَّة بذاتها, وبالتالي تكثيف عقد الندوات والمؤتمرات والحلقات التي يُشرَك بها المستشرقون؛ لتفعيل الحوار بين الثقافات, والسعي إلى تقليص الفجوة المفتعلة بينها, ومن ثمَّ العمل, من خلال هذه المراكز وغيرها, على التواصل مع المراكز الاستشراقية الأخرى في العالم, شرقه وغربه.
• سيؤدِّي هذا الأسلوب العملي إلى المزيد من التعرُّف على صانعي الكراهية من المستشرقين, ومن ثمَّ إيجاد قنوات الاتِّصال معهم, كما إيجاد قنوات الاتصال مع غيرهم من المعتدلين والمنصفين؛ لبيان الحقِّ وتجسير الفجوة الثقافية, والخروج إلى تقليص صناعة الكراهية بين الثقافات, من هذه الفئة من الباحثين الدائمين في الشأن العربي والإسلامي.
وكان الله في عون الجميع.
|1|2|
(1) انظر: هل يكمن بعد الخطر الأحمر «الخطر الأخضر»؟ .ـ ص 241 ـ 253.
في: بيير بيارنيس. القرن «الحادي والعشرون» لن يكون أمريكيًّا/ ترجمة مدني قصري.ـ بيروت: المؤسّسة العربية للدراسات والنشر, 2003م.ـ 346 ص.(25/40)
(2) انظر: فريتس شتيبات. الإسلام شريكًا: دراسات عن الإسلام والمسلمين/ ترجمة عبدالغفَّار مكَّاوي.ـ الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, 1425هـ/ 2004م.ـ 206 ص. ـ (سلسلة عالم المعرفة؛ 302).
(3) انظر: جون إسبوزيتو. الخطر الإسلامي بين الوهم والواقع/ ترجمة هيثم فرحت.ـ اللاذقية: دار الحوار, 2002م.ـ 333 ص.
(4) ما كان مونتُجمري وات منصفًا لسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما زعم أنَّ محمدًا ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو مؤلِّف القرآن الكريم, في كتابه محمد النبي والقائد, ثم عاد إلى الإنصاف في هذه المسألة, واعترف, في كتاب متأخِّر له بعنوان: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر, بأنَّ هذا القرآن وحيٌ من الله تعالى. انظر: محَمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء.ـ القاهرة: دار الشروق, 1425هـ/2005م.ـ ص 159 ـ 178.
(5) انظر: يحيى مراد. معجم أسماء المستشرقين.ـ بيروت: دار الكتب العلمية, 1425هـ/2004م.ـ ص 55 ـ 61.
(6) انظر: عصام عبدالله. التسامُح.ـ القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب, 2006م.ـ ص30 ـ 36.ـ (سلسلة مكتبة الأسرة).
(7) انظر: حاتم الطحاوي. الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية (محمد خليفة حسن).ـ الاجتهاد.ـ ع 50/51 (ربيع وصيف العام 2001/ 1422هـ).ـ ص 321 ـ 335.ـ والنصُّ من ص 324.
(8) انظر: سهيل فرح. الاستشراق الروسي: نشأته ومراحله التاريخية.ـ الفكر العربي.ـ ع 31 مج 5 (كانون الثاني/يناير 1983م).ـ ص 225 ـ 266.
(9) انظر: خلف الجراد. أبعاد الاستهداف الأمريكي.ـ دمشق: دار الفكر, 1424هـ/2004م.ـ 248 ص.
(10) انظر: نجيب العقيقي. المستشرقون: موسوعة في تراث العرب, مع تراجم المستشرقين ودراساتهم عنه منذ ألف عام حتَّى اليوم.ـ 3 مج.ـ ط 4.ـ القاهرة: دار المعارف, 1980م.ـ 1: 87 ـ 125. والنصُّ من ص 104.
(11) انظر: جورج قرم. المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين.ـ باريس: ديكوف, 2006م.ـ (بالفرنسية).ـ نقلاً عن عمر كوش. «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» قضية يعالجها كتاب جورج قرم.ـ الحياة.ـ ع 15989 (13/1/2007م ـ 24/12/1427هـ).ـ ص 24.
(12) انظر: أبو بكر باقادر. الأنثروبولوجيا والاستشراق.ـ الاجتهاد.ـ ع 47/48 (صيف وخريف العام 2000م/1421هـ).ـ ص 9 ـ 10.
(13) انظر: سمير مرقس. الآخر الحوار المواطنة.ـ القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب, 2006م.ـ ص 84 ـ 85.
(14) انظر: من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا (1 ـ 2): الدولة والمجتمع وصورة الإسلام.ـ في: الاجتهاد.ـ ع 47/48 (صيف وخريف العام 2000م/1421هـ).ـ و«من الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا (3): الصورة والرمز الآخر».ـ في: الاجتهاد ع 49 (شتاء العام 2001م/ 1421/ 1422هـ).ـ ومن الاستشراق إلى الأنثروبولوجيا (2): نقد الاستشراق.ـ في: الاجتهاد.ـ ع 50/51 (ربيع وصيف العام 2001م/ 1422هـ).
(15) انظر: ميشال جحا. الاستشراق الألماني في القرن العشرين.ـ الاجتهاد.ـ ع 50/51 (ربيع وصيف العام 2001م/1422هـ).ـ ص 257 ـ 267.
(16) انظر: جيمي كارتر. قيمنا المعرَّضة للخطر: أزمة أمريكا الأخلاقية/ ترجمة محمد محمود التوبة.ـ الرياض: مكتبة العبيكان, 1428هـ/ 2007م.ـ ص 17.
(17) انظر: بهجت قرني, وآخرين. صناعة الكراهية في العلاقات العربية ـ الأمريكية.ـ بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 2003م.ـ 406 ص.
(18) انظر: علي بن إبراهيم الحمد النملة. المستشرقون والتنصير: دراسة للعلاقة بين ظاهرتين, مع نماذج من المستشرقين.ـ الرياض: مكتبة التوبة, 1418هـ/1998م.ـ 178 ص.
(19) انظر: برنارد لويس. الإسلام والدولة.ـ التسامُح.ـ ع 8 (خريف 1424هـ/2004م).ـ ص 186 ـ 197. وانظر, أيضًا: برنارد لويس. مسألة الاستشراق.ـ ص 159 ـ 182.
في: هاشم صالح, معدٌّ ومترجم. الاستشراق بين دعاته ومعارضيه.ـ ط 2.ـ بيروت: دار الساقي, 2000م.ـ 261 ص.
(20) انظر: علي بن إبراهيم النملة. الالتفاف على الاستشراق: محاولة التنصُّل من المصطلح.ـ الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز العامَّة, 1428هـ/2007م.ـ 182 ص.
(21) انظر: محمد علي الخالدي. إنسان بأصوات متعدِّدة.ـ http://www.mafhoum.com/p r ess6/164C372.htm
(22) انظر: حاتم الطحاوي. الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية (محمد خليفة حسن).ـ الاجتهاد.ـ مرجع سابق.ـ ص 321 ـ 335.ـ والنصُّ من ص 322 ـ 323.
(23) انظر: مصطفى الدبَّاغ. الإسلام فوبيا ISLAMOPHOBIA: عقدة الخوف من الإسلام.ـ ط 2.ـ عمَّان: دار الفرقان, 2001م/ 1422هـ.ـ 149 ص. وانظر, أيضًا: ألان جريش. الإسلامفوبيا/ ترجمة وتعليق إدريس هاني.ـ الكلمة.ـ مج 10 ع 40 (صيف 2003م/1424هـ).ـ ص 104 ـ 120.
(24) انظر: محمد علي الخالدي. إنسان بأصوات متعدِّدة. ـ مرجع سابق.
(25) انظر: أحمد شاهين. صنَّاع الشرِّ.ـ القاهرة: دار المعارف, 2004م.ـ 108 ص.(25/41)
(26) لا يهدُف هذا البحث إلى التعرُّض إلى أولئك الرهط من صنَّاع الكراهية من غير المستشرقين, من أمثال دانييل بايبس صاحب مشروع مراقبة الجامعات لرصد ما يقال عن اليهودية والصهيونية, وصاحب فصلية الشرق الأوسط, التي يرأس تحريرها زميله في التوجُّه مارتن كريمر, وغيرهما ممَّن شاعت نظريَّاتهم في مجال صنع الكراهية؛ إذ إنَّ التركيز, هنا, ينصبُّ على أثر الاستشراق, في وجه من وجوهه, في صنع الكراهية بين الثقافات
==============(25/42)
(25/43)
لماذا يزهد العرب في معرفة إسرائيل؟
غزة/صالح النعامي 24/2/1428
14/03/2007
تعالت مؤخراً الدعوات داخل إسرائيل لتجنيد قدر أكبر من الموارد لتزويد المؤسسات الأمنية والاستخبارية والأكاديمية البحثية بالمستشرقين والباحثين اليهود في الشؤون العربية، على اعتبار أن التحديات التي تواجه الدولة العبرية تفرض عليها الحصول على أكبر قدر من المعلومات عن العالم العربي. وتأتي هذه الدعوات على الرغم من أن الدولة العبرية تولي أصلاً اهتماماً كبيراً بعلوم الاستشراق والمؤسسات البحثية التي تُعنى به. ومن يتتبع خارطة مراكز الأبحاث في إسرائيل، فإنه لا بد أن يشعر بالدهشة لكثرة عدد مراكز البحث والدراسات الإسرائيلية التي تتخصص في دراسة مختلف القضايا في العالم العربي، وهذه المراكز لا تترك شاردة ولا واردة في العالم العربي إلاّ وتشبعها بحثاً ودراسة حتى تخلص في النهاية إلى تقديم استنتاجات بشأنها. وأذكر أن أحد أصدقائي كان يعدّ رسالة الماجستير في الشريعة الإسلامية، واحتاج إلى بعض المراجع، وبحث عنها في مكتبات كل الجامعات الفلسطينية، فلم يعثر عليها، لكنه وجدها في مكتبة الجامعة العبرية في القدس المحتلة. وإلى جانب العديد من مراكز البحث المتخصصة في دراسات العالم العربي، فإن كل جامعة في إسرائيل تضم أكثر من مركز أبحاث متخصص في دراسة قضايا العالم العربي، ناهيك عن مراكز البحث التابعة للأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، فمثلاً جهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلية(الشاباك) له مركز أبحاث متخصص في دراسة التطورات التي تشهدها الأراضي الفلسطينية من مختلف النواحي، و(الشاباك) لا يستغل العملاء فقط في الحصول على المعلومات الاستخبارية المتعلقة بنشطاء الفصائل الفلسطينية الذين يساهمون في أنشطة المقاومة، بل أيضاً يوفر هؤلاء العملاء الكثير من المعلومات لمركز الأبحاث التابع لـ (الشاباك) الذي يطرح أسئلة محددة، ويطلب من العملاء الحصول على إجابات عنها. كما أن جهاز الموساد يملك مركز أبحاث ضخم يتولى دراسة التطورات في العالم العربي، وهذا المركز يقدم توصيات لدوائر صنع القرار السياسي بشأن مستقبل العلاقة مع العالم العربي. في نفس الوقت، فإن جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المعروف بـ (أمان) يضم بين أقسامه مركز أبحاث كبير متخصص بدراسة العالم العربي وقضاياه المختلفة. وتكمن أهمية مراكز البحث في إسرائيل المتخصصة في الشؤون العربية سواء المستقلة أو تلك التابعة للأجهزة الاستخبارية في أنها توفر المعلومات والرؤى التي تساعد دوائر صنع القرار السياسي في الدولة العبرية على اتخاذ القرارات المتعلقة بالصراع. إن المرء عندما يحاول أن يرصد الجهد الإسرائيلي في مجال تأمين أسباب التمكين للمشروع الصهيوني يفاجأ من ذلك الحرص الصهيوني الفائق على معرفة كل ما يدور في العالم العربي عبر رصد علمي موضوعي، ومحاولة تحليله وفق آليات تحليل منطقي تتولاه مراكز بحث ودراسات متخصصة في مجال رصد المعلومات وتحليلها واستقرائها، واستنباط نتائج تؤسس لتحقيق فهم أكبر لما يدور في العالم العربي من تطورات وأثر ذلك على إسرائيل. وفي نفس الوقت تقوم فرق بحث أخرى بوضع خطط لمواجهة هذه التطورات في العالم العربي بما يخدم مصالح الكيان الصهيوني. ومن المعروف أن رئيس الوزراء في إسرائيل يتلقى مرتين شهرياً خلاصة ما تعده المراكز البحثية في كل من الشاباك والموساد والاستخبارات العسكرية، كما أن أركان مكتبه يطلعونه على نتائج الأبحاث ذات العلاقة بالقضايا التي تبحثها الحكومة. وقد أقر بيريس عندما كان رئيساً للوزراء في العام 1984 بدور مراكز الأبحاث في مساعدة الحكومة الإسرائيلية في اتخاذ قراراتها تجاه العالم العربي. وفي المقابل فإن هناك قصوراً يثير الاستفزاز في مجرد محاولة العرب فهم ما يدور في إسرائيل، فأين هي المراكز البحثية العربية المتخصصة التي تُعنى بدراسة الشأن الإسرائيلي من مختلف جوانبه، فإذا كانت إسرائيل تملك أكثر من خمسة عشر مركز أبحاث متخصصة في شؤون العالم العربي، فإن العالم العربي الكبير المترامي الأطراف لا يملك أي مركز متخصص لدراسة الشأن الإسرائيلي بشكل جدي، وعندما نقول بشكل جدي، فإننا ندرك أن هناك مراكز أبحاث تدّعي أنها تُعنى بالشأن الإسرائيلي، في حين أنها لا تحتفظ حتى بالصحف الإسرائيلية، ولا تتابع الإصدارات باللغة العبرية، ناهيك عن عدم قيامها بأبحاث حول الشأن الإسرائيلي، ويقتصر عملها على توثيق ما يُنشر في الصحف الإسرائيلية، أو أنها تصوغ الأبحاث وفق ما يشتهيه نظام الحكم القائم. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا كل هذا التقصير العربي في مجال محاولة فهم ما يدور في إسرائيل من تطورات؟ فلماذا لا يتم إنشاء مراكز أبحاث متخصصة تُعنى بالشأن الإسرائيلي؟ ولماذا لا تُعنى مراكز الأبحاث القائمة بهذه القضية الهامة جداً؟ على الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى أن يسعى للتخلص من هذا الخلل القائم. عليه أن يعمل على إقامة مراكز أبحاث عربية متخصصة في الشأن الإسرائيلي، صحيح أنه لا يوجد قيادات سياسية تُعنى(25/44)
بنتائج هذه الدراسات التي ستعدها هذه المراكز، لكن مجرد وجود مثل هذه المراكز
هو متطلب سابق لكل جهد في مواجه دولة الاحتلال. ولعل أهم مقومات المواجهة التي يتوجب علينا تحقيقها، هي معرفة عدونا بشكل موضوعي ودقيق قائم على الدراسة والبحث والتمحيص وأعمال الفكر وليس عبر الركون إلى فيض العواطف والمواقف المسبقة التي تعكس في أحسن تقدير هيمنة الجهل والخضوع لمعايير اللعبة التي تفرضها إسرائيل. فهناك أسباب كثيرة وراء قدرة عدونا دوماً على إلحاق الهزائم بنا، وهذا لا يرجع إلى قدرات الصهاينة الفائقة التي لا يمكن الوقوف أمامها، بل لأننا -بكل بساطة -ننأى بأنفسنا عن أسباب النصر والتمكين والقدرة على المواجهة.
===========(25/45)
(25/46)
سلمان رشدي .. من صنع هذه الظاهرة ؟
سيار الجميل 12/6/1428
27/06/2007
عاد اسم سلمان رشدي ليلمع ثانية عندما منحته ملكة بريطانيا لقب (السير) تقديراً وتثميناً، وهو الكاتب البريطاني الذي عاش منذ قرابة عشرين سنة، يظهر ويختفي مع ما يحيط به من حراسات، إذ كان ولا يزال مهدداً بالقتل نتيجة تكفيره من قبل العالم الإسلامي بسبب ما ورد في روايته الشهيرة (آيات شيطانية) من تنديد ببعض آيات القرآن الكريم، نعم، عاد اسمه يشغل أجهزة الإعلام، بل ويثير من جديد أجزاء من العالم الإسلامي سياسيا! دعوني أقول إن اسمه لم يكن يصل إلى ما وصل إليه لولا هياج المسلمين أنفسهم في هذا العالم منذ قرابة عشرين سنة، وكانت تجديفاته في (آيات شيطانية) قد جعلت منه عدواً لدوداً للمسلمين الذين صنعوا منه ظاهرة في الغرب.
ولد سلمان رشدي في العام 1947 بمدينة بومباي في الهند من عائلة مسلمة وتخرج في كلية كنج كولدج بجامعة كامبردج ببريطانيا، وصدرت أولى رواياته عام 1975 تحت عنوان «جريموس» التي تمّ تجاهلها لسذاجتها، لكنه حصل على جائزة بوكر الانجليزية عام 1981 عن كتابه (أطفال منتصف الليل).
وجاءت روايته (آيات شيطانية) عام 1988 ليحوز عنها بجائزة وايت بريد، ولكنها الرواية التي جعلت منه أشهر كاتب في العالم في غضون أسابيع فقط بسبب أكبر ضجة يسببها كتاب يسيء للإسلام وللآيات القرآنية. لقد عمّت المظاهرات عواصم عدة وسقط قتلى في باكستان، وصدرت الفتاوى عن الخميني في إيران توصي بهدر دمه، ورصدت إيران جائزة قدرها مليون دولار لمن يقتل سلمان رشدي تنفيذا لتلك الفتاوى عام 1989.
وأصبح سلمان رشدي هدفا ثمينا لملايين المسلمين، وقد حرسته بريطانيا لسنوات طوال، ونتيجة لذلك، فقد غاب سلمان رشدي عن الحياة العامة لعشر سنوات كاملة، وبالرغم من صدور بعض الردود والكتب في نقد كتابه، إلا أنها جميعا اتسمت بالضعف والإنشائية والسذاجة، ولم نجد إلى حد اليوم من يقف أمام سلمان رشدي ليدحضه علميا وبنفس الأسلوب الماكر الذي استعمله رشدي !!
زار رشدي الهند بلاده الأصلية بعد 12 سنة على إصدار فتوى الخميني ضده، فاستقبل استقبالا سيئا جدا، إذ خرجت المظاهرات الساخطة والغاضبة ضده وأحرقت الدمى التي تمثله في شوارع دلهي، وكان قد تسلم جائزة كتاب الكومنولث بالهند على كتابه (الأرض تحت أقدامها).
وبالرغم من محاولة الرئيس الإيراني خاتمي دفن الموضوع قبل سنوات، أو المساومة عليه مع الاتحاد الأوروبي من قبل خرازي وزير الخارجية الإيراني الأسبق، إلا أن السيد الخامئني لم يزل يصر على تطبيق ما أراده الخميني، فبقي سلمان مطاردا مع بقاء اسمه في بريطانيا مثيرا للجدل، وبقي هو نفسه مصّرا على آرائه القديمة وكشف عن مواقفه السياسية، بل وتحّول إلى مفكّر وكاتب من الطراز الأول، وهو يصر على أن الحرب في أفغانستان وغيرها ليست حربا ضد الإرهاب، بل إنها حرب ضد الإسلام معتبرا إياه من مصادر الإرهاب ومن دون أي مراعاة لمشاعر ملايين المسلمين على وجه الأرض.
وعليه، استمر سلمان رشدي يلوذ بحراسّه حتى وهو يكتب مقالاته في صحيفة التايمز البريطانية، وفي واحدة من أشهر مقالاته قال : إن الإسلام بحاجة إلى الإصلاح ليتناسب مع العصر الحديث، وطالب بتفسير جريء وشمولي ومنفتح للقرآن الكريم سيؤدي بالضرورة للقضاء على العزلة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية من اجل إدماجها في العالم المعاصر!!
كنت أتمنى أن ينبري مفكرون وفلاسفة من العرب والمسلمين في الرد العلمي الهادئ على أفكار سلمان رشدي بالانجليزية من دون أية ضجة وضجيج ! كنت أتمنى أن يتجاوز العالم الإسلامي لغة التشهير والعواطف والصخب والفتاوى باستخدام أسلوب الحوار والنقد البناء الذي يعلن للعالم عن قوة الحجة وسمو الهدف من دون أي مشروع للقتل ينعكس ضد الإسلام والمسلمين.
إنني اعتقد أن المسلمين هم الذين صنعوا مجد سلمان رشدي وشهرته وكل ظاهرته، فلا يمكن أن يرتفع اسم الرجل بهذا القدر ويغدو مادة ثمينة للاستلاب الإسلامي أو التحدي الغربي لولا صدور «فتاوى» يغدو تأثيرها السياسي السيئ أكبر بكثير من تأثيرها الديني الرادع في العالم، ولا ادري لماذا تصدر الفتاوى بحق رشدي بالذات، ليسجل قفزة عالية في عالم اليوم وهناك العشرات بل المئات من مواقف مخزية أخرى لم تعالج أصلا.
وردت ولم تزل ترد في صلب حياتنا وعلاقاتنا وطبيعة تصرفاتنا في العالم الإسلامي، صحيح أن مواقف سلمان رشدي صارمة في هجومها وانتقاداتها للإسلام، لكنه ليس الوحيد في ذلك، فقد سبقته عشرات الكتابات ليست الغربية والاستشراقية، بل حتى العربية والإسلامية على امتداد القرن العشرين، تلك التي سجلت مواقف بالضد أقوى بكثير من طروحات سلمان رشدي من دون أي ضجة ولا أي تكفير ولا أي هياج إعلامي وسياسي أو أي فتوى ولا أي ردّة !!
وأخيرا أسأل : من ربح الجولة إذن؟ ومن ساهم بالإساءة إلى الإسلام في نهاية المطاف؟ وبسبب ملاحقته بالقتل صرفت الحكومة البريطانية عليه الآلاف المؤلفة من النفقات لحراسته.(25/47)
وكان سلمان رشدي ذكيا باستخدام عملية اختفائه من اجل تسويق كتاباته ونشرها في العالم كله على حساب خيبة المسلمين أجمعين. ومن المفيد القول، إن الغرب عموما لم يعد يراعي مشاعر الشعوب الأخرى الدينية والاجتماعية كما كان في السابق، ولم تعد الاحتجاجات والتظاهرات تجدي نفعا، والمطلوب أن لا تصبح مثل هكذا أمور سلعا سياسية مثيرة، بل يستوجب إهمالها والاهتمام بما هو أجدى بكثير من اجل المستقبل.
__________
* نقلاً عن صحيفة البيان الإمارات
============(25/48)
(25/49)
بواكير الاستشراق والنقل المعرفي الى الغرب
محمد ماهر حماده
الاستشراق, لغوياً, يعني الاتجاه الى الشرق0 والاستشراق لفظ اصطلاحي أطلق على عملية نقل التراث الشرقي إلى الغرب وعلى عملية درس لغاته وتحقيق نصوصه والحفاظ على تراثه , وبكلمة أوضح هو عملية أوجدت من أجل فهم أفضل للشرق بكل ما يحويه من أفكار ومثل وعادات وعلوم , وبالتالي تساعد هذه العملية في حكم الشرق وأستغلاله وإخضاعه للغرب0
وهناك تعريفات كثيرة للاستشراق ودواعي كثيرة أيضاً لها0 وقد مر الأستشراق في مراحل متعددة وتطور مع تطور معارف الغرب وقوته وزيادة سيطرته على الشرق0 وهناك من يقصر الاستشراق على فترة معينة هي العصور الحديثة, وهناك من يجعلها موغلة في القدم ومستمرة حتى الآن0
ونحنلا يهمنا هنا الاستشراق إلا بمقدار ما قام به من نقل للكتب العربية إلى الغرب وترجمتها والاستفادة منها , ومن ثم نشرها وتحقيقها وتأسيس المؤسسات التعليمية والتربوية التي تساعد في هذه الغاية0
هذا وأن الكنيسة الكاثوليكية كانت من أول المهتمين بالاستشراق وامره, فقد كانت الغالبية العظمى من اوائل النقلة للعلم العربي الى اللاتينية من رجال الدين , إن لم يكن كلهم, ثم بعد ذلك أخذت الكنيسة الكاثوليكية على عاتقها قضية تنظيم الأستشراق وإيجاد المؤسسات اللازمة له0 يقول لويس شيخو " والكنيسة الكاثوليكية كانت أعظم ساعية في إدراك هذه الغاية (غاية نقل العلوم الشرقية الى الغرب ) ويمكننا أعتبار تاريخ سنة 1311م البدء الرسمي لسيطرة الكنيسة الكاثوليكية على الاستشراق وحصرهاالاهتمام به في نفسها, ففي تلك السنة قرر مجمع فينا الكنسي برئاسة البابا اقليمنس الخامس ( 1305 - 1314 م ) أن يؤسس دروساً عربية وعبرية وسريانية في رومة على نفقة الحبر الأعظم وفي باريس على نفقة ملك فرنسا, أما في أكسفورد وبولون وسلمنكة فعلى نفقة الرهبان "
هذا وتقسم عهود الاستشراق الى قسمين متميزين القسم الأول ويمتد حتى مطالع عهود النهضة (القرن السادس عشر) والقسم الثاني الذي يبدأ من تلك الفترة ولا يزال مستمراً حتى الوقت الحاضر0
ففي بداية العهد الاول قام بالعمل علماء وبحاثة اوربيون ويهود ومسلمون بقصد نقل روائع العلم العربي الى اللاتينية0 ذلك إن القوم أنذاك كانوا عارفين معرفة تامة بقصورهم وعجزهم وتفوق المسلمين عليهم في هذه النواحي العقلية, ولاسيما العلمية منها والعملية كالطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء وما ماثل , فأرادوا الأستفادة من هذه المعارف بنقلها من العربية إلى اللاتينية , ثمبعد فترة أتت الكنيسة الكاثوليكية وألقت بثقلها في الموضوع ووجهت العمل إلى مناح أخرى , الى جانب الهدف العلمي , أغلبها تبشيري من أجل الدعاية للمذهب الكاثوليكي وهداية المسلمين واليهود إلى المسيحية, ومن أجل الاتصال بنصارى المشرق لإقامة الجسور بين الطرفين ولهداية هؤلاء المسيحيين الشرقيين إلى الكاثوليكية 0
ومع بداية النهضة فقد الشرق زمام المبادرة وأصبح ممزقاً غارقاً في الجهل ولم يعد عنده ما يقدمه للآخرين وفي نفس الوقت بدأت العلوم والآداب تتقدم وتترقى وتزدهر في أوربا بعد أن نقل أليها أفضل ما في الكتب العربية من معارف, وبدأت أوربا تتطلع الى الشرق لاستثمار خيراته والسيطرةعليه , لذلك نجد تحولاً جذرياً في أتجاه الاستشراق , فقد بدأ يخرج عن سيطرة الكنيسة ويخضع لسلطان الحكومات وبدأت الدول الكبرى تسخره لأهدافها في السيطرةوالاستعمار والتنصير وما ماثل ووزادت هذه الدوافع شدة ووضوحاً مع مضي الزمن ,وهذا هو بداية الاستشراق الحديث الذي تحالف مع الاستعمار ومع الكنيسة من أجل أخضاع الشرق كلياً لسيطرة الغرب0
هذا وسيكون لنا كلام أوفى عن الاستشراق الحديث فيمايلي من صفحات 0
ولقد وردت كلمة مستشرق أول ماوردت سنة 1683م إذ انها أطلقت على أحد رجال الكنيسة الشرقية أو اليونانية, ذلك إن هذا الاصطلاح حديث0 وفي سنة 1691م وصف أنتوني وود صمويل كلارك أنه " أستشراقي نابه " يعني بذلك أنه يعرف بعض لغات الشرق0 وتحدث لورد بايرون في تعليقاته على child Ha r old`s pilg r image عن المستر ثورنتون والماعاته الكثيرة الدالة على أستشراق عميق0 أما قاموس أكسفورد الجديد فيحدد المستشرق o r ientalist بأنه " من تبحر في لغات الشرق وأدابه "0
إن بدايات مدرسة الطب في العصور الوسطى في سالرنو كانت متأثرة بمؤثرات بيزنطية , ولكنهاما لبثت أن تأثرت خلال القرن العاشر فمابعده بالطب العربي الذي نقلهااليها يهودي من إيطاليا الجنوبية اسمه شاباثيا بن أبراهام بن جول0 shabbethai ibn Ab r aham ibn joel. أخذ المسلمون شاباثيا أسيراً سنة 925م ونقلوه الى بالمرو حيث تعلم العربية ودرس جميع علوم الإغريق والعرب والبابليين والهنود0 ولما كان شمال أيطاليا أنذاك تحت السيطرة البيزنطية , وكان المسلمون يحتلون صقلية فقد ألتقى في ذلك القرن في مدارس سالرنو وأوترانتو ومونت كاسينو العلم العربي مع العلم اليوناني0(25/50)
هذا وكان كثير من الرهبان يوفدون إلى أسبانيا للتعلم هناك, ويبدو أنهم لك يكونوا يعودون خاويي الوفاض أو بمجرد الأفكار الجديدة التي كانت تملأ رؤوسهم وتسيطر على أفكارهم, وإنما كانوا يعودون ومعهم مخطوطات علمية أما بلغتها العربية , أو بعد ترجمتهاالى اللاتينية ولعل قضية جونمن رهبان دير غورتز في ألمانيا تقدم دليلاً وشاهداً على ما نقول 0 فقد أحضر هذا الراهب سنة 950م الى ديره في المانيا من كلابريا قسماً من كتاب أرسطو catego r ie وكتاب الأيساغوجي لفرفوريوس وإن هذا الراهب كان أول اداة انتقل عن طريقها العلم العربي الى منطقة شمالي الألب , وأقد من نشر هذا العلم في اوربا 0 ففي سنة 953م أرسا الأمبراطور الألماني أوتو الكبير هذا الراهب سفيراً الى بلاط الخليفة الأندلسي العظيم عبد الرحم الناصر0 ويرى بعضهم أن هذا الاختيار كان بسبب معرفة هذا الراهب بشؤون البلاد التي يحتلها العرب إذ أنه قام سابقاً بزيارة مماثلة إلى جنوبي إيطاليا 0 ولقد أقام هذا الراهب, كسفير لدى الخليفة مدة ثلاثة سنوات , وقد عاشر أثناء أقامته في قرطبة رجلين من المتضلعينباللغتين العربية واللاتينية أحدهما اليهودي حسداي والثاني الأسقف ريساماندوس والأول كان دليله والثاني مترجم للمفاوضات مع الحكومة الاسلامية 0 وغالب الظن أنه تعلم العربية هناك 0 وقد تأثر جون غورتز أثناء أقامته بقرطبة أيضاً بالفيلسوف اليهودي ابن شبروط 0 وعندما رجع إلى المانيا أحضر معه حمل فرسكتباً عربية 0 ونحن, وإن كنا لا نعل معلى وجه اليقين محتويات هذه الكتب ,إلا أن هناك دلائل تشير الا ان بعض هذه الكتب كان ولابد كتباً طبية وعلمية وفلكية ورياضيات , لأننا نعلمأن جون هذا كان مهتماًُ بالفلك والرياضيات , ولأنه وجد في القرن التالي ازدياداً ملحوظاً بالأهتمام بالعلم وبشكل خاص بالرياضيات , وذل كفي مدارس منطقة الرين وبلاد الفلاندرز 0 كذلك هناك دلائل تشير ألى بعض الإزدهار العلمي والاهتمام بالعلم العربي في المدارس الفلمنكية 0 ذلك أنه عندما احتل الملك الدانمركي كنوت انكلترا (1000-1035م) أطرح الأساقفة الانكلوساكون الوطنيين وأحل محلهم أساقفة من بلاد الفلمنك (الاراضي الواطئة ) عند خمسة منهم بعض المعرفةبالعلم العربي ,وأهم هؤلاء الخمسة روبرت من لوزينيا r obe r t de losinga أسقف He r efo r d.
------------------------------------
المصدر: محمد ماهر حماده
====================(25/51)
(25/52)
حوار الحضارات... لماذا؟
د.يوسف حسن
العالم يتغير بعمق، وبتسارع أكبر، وشهد تحولات كمية غير مسبوقة. مما يدعونا لبذل جهد غير عادي لفهم عملية التغيير الجارية الآن والتعرف على اتجاه تطور المجتمعات الإنسانية وإدراك التحولات في نظمها السياسية وقيمها الروحية وكذلك فهم الثورة العميقة في مجالات المعرفة والتكنولوجيا.
إن هذا الجهد والفهم يتطلب متابعة دقيقة وناقدة لعالم يتسارع فيه التغيير وتتداخل فيه الظواهر الثقافية بالأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتشابك فيه العلاقات الدولية وتصبح الحاجة ماسة لخلق تفاهم وفهم مشترك واحترام متبادل بين ثقافات هذا العالم.
ومما لا شك فيه فأن تبادل وجهات النظر بين مثقفين وباحثين ودارسين عرب وغير عرب حول قضايا ثقافية وسياسية واجتماعية... وغير ذلك، يوفر قاعدة أساسية لفهم الحضارات وإيجاد التفاعل بينها، وهو تفاعل ضروري لعملية تشكيل مستقبل العالم، والحيلولة دون حدوث صدامات في العلاقات الثقافية والدولية.
إذن نحن نطرح حواراً بين الحضارات رداً على أطروحة صدام الحضارات أو صراع الحضارات. والحوار تقليد حضاري وفعل ثقافي رفيع، وقد مورس الحوار بين الحضارات في كل العصور، في أزمنة السلم وأزمنة الحرب، وبين المنتصرين والمهزومين. وكل حضارة لديها (القابلية للحوار) والرغبة في تنمية قيمها وخصوصياتها الثقافية في آن واحد. ولعل حضارتنا العربية والإسلامية هي (الأعلى) صوتاً وفعلاً في رسالتها (الحوارية) خاصة وهي تولي منزلة عليا للعقل والعلم والحرية، وتدعو البشرية للتعارف والتفاهم: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهذه هي رسالة الحضارة.
لكن لماذا تزداد الحاجة الآن لحوار بين الحضارات؟
والجواب على ذلك لا تخطئه العين ولا يغيب عن العقل فالبشرية تعاني أزمات سياسية وانفجارات اجتماعية وهجرات سكانية وفجوات عميقة اقتصادية وتناقصاً في الموارد الطبيعية، ودماراً متواصلاً للبيئة وارتفاعاً في وتيرة العنف والغلو. كما يشهد العالم تحولات كيفية غير مسبوقة خاصة في مجالات الثورة التكنولوجية الثالثة، والتي يصعب دون إعمال العقل والحوار، فهم تأثيرها في القيم والعلاقات والأفكار والثقافات.
كما تبرز صعوبة إدراك حقيقة القواعد والعلاقات والمشاعر والبناء الاجتماعي والحدود التي تقوم عليها الحضارات، ومدى تغير دلالاتها عبر الزمان والمكان. ومدى تأثر اتجاهاتها بالضغوط الخارجية والأزمات الداخلية... وغير ذلك. كما يخشى أن يؤدي استمرار وجود الصور (النمطية) لحضارة عند أخرى إلى تغذية ضروب الكراهية الجماعية خاص في المجتمعات التي تنتشر فيها الجهالة والتعصب والخرافات، فيتحول الاختلاف إلى نزاع، وإذا نشب النزاع، فقد يتحول إلى عنف إذا لم يكن هناك حوار و (ثقافة حوار)، والتي تعلي من قيمة التسامح، وتحترم مبدأ كرامة الإنسان وحريته في الاختيار، وتقبل مبدأ التنوع والتعددية الحضارية بدلاً من فرض (النموذج) والهيمنة.
إذن، الحوار الذي نريده بين الحضارات، حوار يحول دون استمرار الحضارات في النظر إلى بعضها البعض من خلال مرآة مكسورة.
حوار يقوم على الإيمان بوحدة الأصل البشري. وعلى مبدأ التعارف والتسامح الثقافي في مواجهة العنصرية ونفي الآخرين.
حوار يؤكد المشترك الإيجابي بين الحضارات، ويقر بأنه لا وجود (لحضارات زائفة) ويزيل ويمحو (ذهنية المحاصر) في عقل بعض الحضارات.
والحوار لابد أن ينطلق من استعداد كل حضارة لفهم الأخرى، وتجنب إصدار أحكام مسبقة عليها، والاتفاق على إعادة صياغة صورة الآخر في إطار من التسامح، والرغبة المشتركة في بلورة قيم إنسانية، لإحداث التفاعل الحضاري، وقد تساعد في ذلك معطيات المجتمع العالمي الجديد القائم على إنتاج المعلومات وتداولها بشكل سريع وميسور وواسع يتجاوز الحدود الجغرافية للحضارات وللثقافات.
والحوار يعني أيضاً وقف عمليات الاستيعاب والاستلحاق بين الحضارات، ويهدف إلى (عقلنة) سلوك الدول داخل هذه الحضارات، ومنع أو عرقلة استخدام الدول (للقوة) لأغراض الهيمنة.
وفي الوقت نفسه، فإن الحوار بين الحضارات يسهم في تثبيت السمة الرئيسية للثقافات الإنسانية وهي استجابتها للتطور والاغتناء بالتفاعل فيما بينها، كما يسهم الحوار في (عقلنة) النزاعات التي قد تنشأ أثناء تثبيت الهويات الثقافية لهذه الحضارات، أو التي تتولد في ظروف الأزمات الاقتصادية، نتيجة حدوث احتكاكات بين أبناء الحضارات المختلفة خلال موجات الهجرات السكانية عبر حدود دوائر هذه الحضارات، أو تلك النزاعات التي قد تسببها هجرات غير شرعية، وتغذيها فروق ومشكلات سياسية وعقيدية وتاريخية.
إن من فوائد الحوار وغاياته إبطال المناخات المفعمة بالمخاوف ومشاعر العنصرية والكراهية، وتوفير المناخ الملائم لتبادل الوافد النافع من الثقافة والعلم والخبرة.(25/53)
إن الحوار بين الحضارة يعني أن تتبادل العلوم والمخترعات، وليس مجرد الثقافة والإعلام والآداب والفنون، وإلا كان التبادل تبادلاً محدوداً، ويفتح المجال للهيمنة الثقافية واحتلال العقل ومسخ الثقافات الأخرى.
إن الحوار لا يعني نسيان أو تجاهل التميز بين الحضارات، لكن العزلة عن التأثيرات الحضارية الأخرى أمر صعب مثله مثل التبعية أو الذوبان.
وهكذا فإن الدعوة للحوار، هي دعوة للتسامح والتعايش مع الآخرين، وإنكار لنزعات التفوق والسيطرة، وهي نظرة لقضايا المستقبل، وتعبير عن إرادة الحضارات المعاصرة لمعالجة هذه القضايا، وعن قناعتها بضرورة التعاون للنجاح في ذلك.
والسؤال: كيف نقدم حضارتنا العربية الإسلامية إلى الحضارات الأخرى؟ كيف نقدمها من غير رتوش، بسلبياتها وإيجابياتها، بأزماتها وتراجعاتها وإبداعاتها وقيمها؟ كيف نقدم رؤيتها لقضايا المستقبل: من حقوق إنسانن وسلام وبيئة نظيفة وديمقراطية وشورى وتنمية وأخلاقيات في التعامل والاقتصاد... إلخ؟
في البدء لابد من مكاشفة الذات، ومعرفة جوانب قوتها ومكامن ضعفها، واكتشاف قدراتها الحقيقية وإمكاناتها الروحية والفكرية والبشرية والمادية. وإدراك صورة هذه الذات عند الحضارات الأخرى، ولا بد بعد ذلك من تقديم فهم عقلي لعالمنا المعاصر، كما يتطلب التقديم الإجابة الواضحة عما يسمى (بالتهديد الإسلامي) للحضارة الغربية المسيحية. وتوضيح الرؤى لما يطلق عليه (الغزو الثقافي والقيمي) الغربي لمجتمعات الحضارة الإسلامية، وما هي حدود هذه الأخطار التي تدق لاستثارتها الطبول؟ وكيف يمكن إعادة صياغة صورة الآخر في إطار من التسامح الثقافي؟
إن الحضارة العربية الإسلامية غير عاجزة عن التكيف مع العصر، وتملك خبرات وقيماً رفيعة من التسامح والقدرة على التفاعل والتعايش مع الآخرين. لقد منعت الحضارة العربية الإسلامية ـ بالقول والفعل ـ إهدار كرامة الإنسان والسيطرة عليه. وأكدت ـ مثلما أكدت حضارات أخرى ـ أن كرامة الإنسان أسبق من كان انتماء وهوية حضارية، وحصانة أولية للإنسان ثابتة له بوصفه إنساناً كرمه خالقه وجعله خليفة له في أرضه. إن الاختلاف والخلاف بين الحضارات لا ينبغي لهما أن يهدرا حقوق الشعوب، إن في التعامل أو في الوجود.
إن الحوار هنا لمنع (الطائفية الحضارية).. والمسؤولية تقع في هذا المجال على عاتق القوى الثقافية الفاعلة داخل مجتمعات هذه الحضارات، لأن هذه القوى هي الأكثر تأهيلاً وكفاءة في خلق الحوار والمحافظة على تواصله وإحداث التفاعل الإيجابي بين عناصره والبحث عما أسماه المؤرخ أرنولد توينبي (بالصفاء الروحي الإيجابي) ومعالجة الخلل في القيم والضمائر والعلاقات، ونبذ نزعات التفوق والسيطرة والهيمنة ونفي الآخر.
حوار الحضارات يمكن العالم من الاحتكام إلى العقل وإلى منطقه في كل أمور الحياة والثقافة والكون، ويدعو الإنسان لحب المعرفة وبذل الجهد من أجل العلم والعمل وعمران الكون وإحراز التقدم، فيصبح للحياة معنى حقيقي، حيث يمكن عندئذ صياغة القرن الواحد والعشرين صياغة إنقاذية، وبقيم إنسانية مشتركة.
-----------------------------
المصدر: الاسلام والغرب
==================(25/54)
(25/55)
حتى لا تفرض علينا التهم
د.سليمان إبراهيم العسكري
في الرواية الشهيرة (المحاكمة) التي كتبها الروائي التشيكي (فرانز كافكا)، يهاجم رجال مجهولون منزل المواطن (س) الذي لانعرف أي شيء عن أوصافه أو انتماءاته السياسية أو حتى اسمه كاملاً، يهاجمونه في منتصف الليل ويتولون التحقيق معه على الفور، يحاصرونه ويوجهون له تهماً غامضة لايعرف عنها شيئاً، ثم يطالبونه بعد ذلك بالذهاب للتحقيق معه في دار الهدالة ويتعرض للمحاكمة ورغم كل ذلك لاتتضح التهمة بل تزداد غموضاً، ومع أن المواطن (س) لايفهم شيئاً مما يدور حوله فإنه في كل مرة يحس أنه مدان وأنه لن يستطيع الإفلات من هذه التهمة الغامضة التي تلاحقه، وبالتدريج يتقبل كل الاتهامات الموجهة إليه رغم أنها لاتتضح له أو لنا مطلقاً، وتزداد درجة السخرية المريرة في نهاية الرواية عندما يأخذه الرجال المجهولون إلى مكان ما خارج المدينة وينفذون فيه ببساطة حكم الإعدام. لقد كانت (المحاكمة) بغموضها وعبثيتها رواية مثيرة وغريبة في ذلك المناخ القلق الذي كان يسود أوربا ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن هذا الكابوس تحول إلى رؤية شديدة الصدق لعالمنا المعاصر، وأصبح (كافكا) كاتباً واقعياً رغم كل الذين اتهموه بالتغريب ولعل التهم التي يوجهها الغرب للعرب بشكل خاص وللمسلمين بشكل عام بأنهم رعاة وممارسون للإرهاب هي من نفس فصيلة التهم التي وجهت إلى المواطن 0س) والتي لاقى حتفه بسببها، فالأمر لايتعلق بما حدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001 فقط وما ترتب عليه من تفجيرات نيويورك وواشنطن، ولكنها تهم قديمة الجذور لايني الغرب يلصقها بنا ويضعها على عاتقنا كعرب وكمسلمين في كل مرحلة من مراحل الصراع معه، وياله من تاريخ للصراع يمتد من الحروب الصليبية حتى لحظتنا الراهنة، وهو يقوم بذلك في محاولة دائمة منه لحصار الثقافة العربية الإسلامية ووصم الدين الإسلامي بالعدوانية والعنف، والغرب في ذلك لايرى العنف الفعلي الذي اقترفته حضارته في حق الملايين من سكان العالم، ولا يتذكر المذابح الاستعمارية التي قام بها في كل مكان وطأته أقدام الرجل الأبيض، بل إن مفكرين من أمثال (صمويل هنتنجتون) سعوا إلى تأصيل تلك النظرة العدائية عندما صاغ نظرية (صدام الحضارات) ووضع خطوطاً حول نقاط التماس الحضاري أشهرها وأكثرها التهاباً هو الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية، ويبدو أن الإلحاح على هذا الأمر قد جعلنا ـ مثل بطل كافكا ـ مذنبين بالفعل حتى قبل أن نعرف حيثيات التهم الموجهة إلينا، وأصبح همنا الوحيد هو تقديم الاتهامات والاعتذارات عن أشياء لاندري إن كنا قد قمنا بها أم لا.
وإذا كان القرن العشرون، هو قرن الحرب الباردة التي استمرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة حتى بدايات التسعينات، فيبدوا أن القرن الحادي والعشرين سوف يكون شعاره (محاربة الإرهاب) وإذا كان العدو واضحاً وجلياً في الحرب الأولى فإنه في الحرب الثانية خفي ومجهول، فهو يأتي من المنطقة المظلمة من العالم ليضرب ضربته ويعود إليها من جديد، والنتيجة أن الغرب يبحث عن عدو جاهز من السهل التربص به، ولأن الصراع بين العالم العربي والغرب له جذوره التاريخية البارزة منذ الحروب الصليبية فالعدو الحاضر هو نحن دائماً، والغرب لم ينس بعد هزيمته في الحروب الصليبية، ولعل سعيه لإقامة دولة إسرائيل ودعمه المتواصل لها هو ثأره من هزيمته القديمة على نفس هذه البقعة من الأرض.
ما نسعى لإيضاحه من خلال صفحات هذا الكتاب الذي جمعت العربي مادتته من خلال طروحات العشرات من المفكرين العرب امتدت على مدى سنوات. حتى قبل طروحات هنتنجتون وتفجيرات نيويورك ـ هو أننا أصحاب مشروع حضاري مختلف ـ وليس إرهابياً ـ هذا المشروع لايتصادم بالضرورة مع الغرب ولكنه يسعى للتعايش معه، دون هيمنة أو سيطرة طرف على آخر، لقد أفاق العالم العربي من كوابيس الظلام العثماني، ولم يلبث إلا قليلاً حتى وجد نفسه بسبب ما فيه من ضعف ووهن تحت سيطرة قوى الاستعمار الغربي، ولم يكد يتعافى من آثار هذه المرحلة ويجدد قوته الوطنية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حتى فوجئ بذلك الاستنزاف الصهيوني الذي طال أجله. إن ما نطلق عليه تعبير (العجز العربي) ما هو إلا محصلة سنوات طويلة من الإنهاك العثماني إلى الغربي المتواصل لقوانا الذاتية.
إن عالمنا العربي يريد أن يدخل في إطار النظام العالمي الجديد مشاركاً وليس تابعاً، عضواً فعالاً وليس متهماً، قادراً على اتخاذ القرار الذي يناسبه وليس خائفاً أو شاعراً بالذنب. والأمر في كل هذا لايخص الغرب بقدر ما يخص قوانا الذاتية وصورتنا عند أنفسنا.
لا نريد أن نكون مثل السيد (س) شاعرين بالذنب قابلين لحكم الإعدام عن تهم لم نقم بها، بل لم نفهمها أصلاً.
------------------------
المصدر: الاسلام والغرب
====================(25/56)
(25/57)
اشراقات الثقافة الاسلامية على نصارى الاندلس
محمد ماهر حماده
أطلق المسلمون أسم الأندلس على القسم الذي أحتلوه من شبه الجزيرة الايبرية0 وقد أرتقت الحضارة الاسلامية في تلك المنطقة من دنيا الإسلام ارتقاءً رائعاً ونافست الحضارة الإسلامية فيها حضارة الإسلام في المشرق, وبلغ من عظمة قرطبة وأزدهارها وخاصة إبان العهد الأموي في الأندلس إنها كانت أعظم مدينة في أوربا كلها وتأتي على قدم المساواة مع القسطنطينية وبغداد إبان عزهما0 وناهيك ببلدة بلغ عدد مساجدها 1600 مسجداً وحماماتها 600وفيها مائتا ألف دار وثمانون ألف قصر منها قصر دمشق شيده الأمويون حاكوا به قصورهم في بلاد الشام0 وقد بلغ عدد أرباض قرطبة ( ضواحيها ) تسعة أرباض كل ربض كالمدينة الكبيرة , ودور قرطبة ثلاثون ألف ذراع , وفي ضواحيها ثلاثة الآف قرية في كل واحدة منبر وفقيه0 وقد قدر بعض المؤرخين عدد سكان قرطبة في أيام مجدها وعزها بمليوني نسمة, وكان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون أمرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي. هذا في ضاحية من ضواحيها, فكيف ببقية الضواحي, وقد كانت شوارعها مبلطة وترفع قماماتها وتنار شوارعها ليلاً بالمصابيح ويستضئ الناس بسروجها ثلاثة فراسخ لا ينقطع عنهم الضوء. هذا شئ لم يحدث في أوربا إلا في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر . وطبعاً لم تكن قرطبة وحدها بهذا السمو فهناك طليطلة التي كانت لا تقل تألقاً وبهاءاً عن قرطبة, وهناك إشبيلية وغرناطة ومالقة والمرية0000وإنما ذكرنا قرطبة كنموذج لما كانت عليه بقية المدن الأندلسية, لذلك لا غرابة إن أنتشرت المكتبات والكتب في جميع أنحاء البلاد وكثر عشاقها وكثر التأليف والمؤلفون , ولاسيما أنه وجد حكام شجعوا العلم وهم أنفسهم كانوا مثلاً عالياً في حب الكتب وجمعها والاهتمام بها كالحكم الثاني وغيره0
ولقد أنتشرت الحلقات التعليمية في أغلب جوامع الأندلس وبشكل خاص في المدن الرئيسية كقرطبة وطليطلة وإشبيلية, ولقد وجد في كل جامع مكتبة غنية بمختلف فروع المعرفة الأنسانية, فقد كان للحلقات التي تعقد في جامع طليطلة شهرتها وأهميتها وجذبت أليها الطلاب المسلمين والنصارى على السواء حتى لقد كان يقصدها طلاب نصارى من جميع أنحاء أوربا بما فيها أنكلترا وأسكوتلندا 0
وقد أحتفظت طليطلة بمكانتها هذه بعد سقوطها بيد الأسبان سنة 1085م حيث وجد فيها هؤلاء مكتبة غنية عامرة حافلة بالكتب في أحد مساجدها وقد بلغت شهرة هذه المكتبة من حيث هي مركز للثقافة أقصى البلاد النصرانية في الشمال0
والواقع أن الثقافة العربية الإسلامية والتربية والتعليم أنتشرت في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين في إسبانيا المسلمة إلى درجة جعلت دوزي المؤرخ المشهور يقول إن أغلب الناس في الأندلس أصبحوا قادرين على القراءة والكتابة, بل يمكننا أن نقول إن كل فرد تقريباً كان يعرف القراءة والكتابة0 وقد أنتقلت الثقافة العربية إلى المستعربين الأسبان وهم الإسبان النصارى الذين أقاموا في البلاد الإسلامية وعاشوا تحت ظل الحكم الإسلامي , فقد سرت إليهم العادات الإسلامية وتعلموا اللغة العربية وكتبوا بها وألف بعضهم كتباً بها , بل واقتنوا مكتبات عربية0 يبدو ذلك واضحاً من نص يروي عن الكاتب النصراني المتعصب الفارو, ذلك أن هذا القس المهوس ببغض الإسلام وأهله كتب في القرن التاسع ميلادي يقول : " إن أخواتي المسيحيين يدرسون كتب فقهاء المسلمين وفلاسفتهم لا لتفنيدها , بل لتعلم أسلوب عربي بليغ0 واأسفاه, إنني لا أجد اليوم علمانياً يقبل على قراءة الكتب الدينية أو الأنجيل , بل إن الشباب المسيحي الذين يمتازون بمواهبهم الفائقة أصبحوا لا يعرفون علماً ولا أدباً ولا لغة إلا العربية , ذلك إنهم يقبلون على كتب العرب في نهم وشغف ويجمعون منها مكتبات ضخمة تكلفهم الأموال الطائلة في الوقتالذي يحتقرون الكتب المسيحية وينبذونها0000
بل أن كثيراً من رجال الدين في الأندلس تعلموا اللغة العربية وألفوا بها , فقد نقل يوحنا رئيس أساقفة أشبيليه التوراة من اللاتينية إلى العربية وذلك سنة 764م 0 كذلك نقل الأب فيسنتي ثمانية أجزاء من قوانين الكنيسة إلى اللسان العربي وأهداها إلى الأسقف عبد الملك في أبيات من الشعر العربي مطلعها0
كتاب لعبد الملك الأسقف الندب جواد نبيل الرفد في الزمن الجدب(25/58)
وصنف ربيع بن زياد الأسقف كتاباً في تفضيل الأزمان ومصالح الأبدان وآخر بعنوان الأنواء0 وألف بدرو الفونسو (1062 - 1110م ) كتاباً بالعربية عنوانه : تعليم رجال الدين0 ثم ترجمه إلى اللاتينية, ومنها نقل إلى لغات كثيرة وقد طواه على ثلاث وثلاثين قصيدة شرقية أقتبسها من حنين بن أسحق ومباشر ( لعل الاسم الصحيح المبشر بن فاتك ) وكليلة ودمنة0 لذلك إذا رغب الطالب الإسكتلندي أو الانكليزي الأستزادة من أرسطو والتعمق فيه أكثر مما يسنح له في الترجمات اللاتينية الميسورة فلا مندوحة له من الرحيل الى طليطلة ليتعلم هناك كيف يقرأ كتب اليونان باللغة العربية0 وقد تحدث هيستر باش Ceasa r of Heiste r Bach عن شباب قصدوا توليدو ( الصواب طليطلة ) ليتعلموا الفلك لذلك لا غرابة إن لعبت الأندلس الدور الرئيسي في نقل معارف المسلمين العقلية وكتبهم الى أوربا ولا سيما أن تذكرنا أنه كانت هناك فئة أخرى من السكان المقيمين تحت الحكم الأسلامي هم اليهود والذين تمتعوا بالحرية الدينية المطلقة تحت حكم الإسلام وتعلموا اللغة العربية وألفوا بها إلى جانب أتقانهم اللغة اللاتينية والعبرانية, ولقد أصبح هؤلاء اليهود إلى أجانب المستعربين وعدد من اللاتينيين الوسطاء في عملية النقل هذه0
-------------------------------
المصدر: روح التحرر في القرآن
=================(25/59)
(25/60)
تعريف الاستشراق >
التعريف اللغوي
لو أرجعنا هذه الكلمة إلى أصلها لوجدناها مأخوذة من كلمة إشراق ثم أضيف إليها ثلاثة حروف هي الألف والسين والتاء، ومعناها طلب النور والهداية والضياء، والإشراق من الشرق حيث نزلت الديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام. ولما كان الإسلام هو الدين الغالب فأصبح معنى الاستشراق البحث عن معرفة الإسلام والمسلمين وبلاد المسلمين عقيدة وشريعة وتاريخاً ومجتمعاً وتراثاً...الخ.
التعريف عند الغربيين
ومع أن مصطلح الاستشراق ظهر في الغرب منذ قرنين من الزمان على تفاوت بسيط بالنسبة للمعاجم الأوروبية المختلفة، لكن الأمر المتيقن أن البحث في لغات الشرق وأديانه وبخاصة الإسلام قد ظهر قبل ذلك بكثير، ولعل كلمة مستشرق قد ظهرت قبل مصطلح استشراق، فهذا آربري A r be r ry في بحث له في هذا الموضوع يقول "والمدلول الأصلي لاصطلاح (مستشرق) كان في سنة 1638 أحد أعضاء الكنيسة الشرقية أو اليونانية" وفي سنة 1691 وصف آنتوني وود Anthony Wood صمويل كلارك Samuel Cla r ke بأنه (استشراقي نابه) يعنى ذلك أنه عرف بعض اللغات الشرقية. وبيرون في تعليقاته على Childe Ha r old's Pilg r image يتحدث عن المستر ثورنتون وإلماعاته الكثيرة الدالة على استشراق عميق"([1]).
ويرى رودي بارت أن الاستشراق هو " علم يختص بفقه اللغة خاصة، وأقرب شي إليه إذن أن نفكر في الاسم الذي أطلق عليه كلمة استشراق مشتقة من كلمة 'شرق' وكلمة شرق تعني مشرق الشمس ، وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو علم العالم الشرقي"([2]). ويعتمد المستشرق الإنجليزي آربري تعريف قاموس أكسفورد الذي يعرف المستشرق بأنه "من تبحّر في لغات الشرق وآدابه"([3]).
ومن الغربيين الذين تناولوا ظهور الاستشراق وتعريفه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون Maxime r odinson الذي أشار إلى أن مصطلح الاستشراق ظهر في اللغة الفرنسية عام 1799بينما ظهر في اللغة الإنجليزية عام 1838، وأن الاستشراق إنما ظهر للحاجة إلى "إيجاد فرع متخصص من فروع المعرفة لدراسة الشرق" ويضيف بأن الحاجة كانت ماسة لوجود متخصصين للقيام على إنشاء المجلات والجمعيات والأقسام العلمية([4]).
ولو انتقلنا إلى العرب والمسلمين الذين تناولوا هذا المصطلح نجد أن إدوارد سعيد عدة تعريفات للاستشراق منها أنه "أسلوب في التفكير مبني على تميّز متعلق بوجود المعرفة بين 'الشرق' (معظم الوقت) وبين الغرب"([5]). ويضيف سعيد بأن الاستشراق ليس مجرد موضوع سياسي أو حقل بحثي ينعكس سلباً باختلاف الثقافات والدراسات أو المؤسسات وليس تكديساً لمجموعة كبيرة من النصوص حول المشرق … إنه بالتالي توزيع للوعي الجغرافي إلى نصوص جمالية وعلمية واقتصادية واجتماعية وفي فقه اللغة ([6]). وفي موضع آخر يعرف سعيد الاستشراق بأنه المجال المعرفي أو العلم الذي يُتوصل به إلى الشرق بصورة منظمّة كموضوع للتعلم والاكتشاف والتطبيق.([7]) .ويقول في موضع آخر إنّ الاستشراق: نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق"([8]).
لقد اختار الدكتور أحمد عبد الحميد غراب هذا التعريف "دراسات 'أكاديمية' يقوم بها غربيون كافرون -من أهل الكتاب بوجه خاص- للإسلام والمسلمين، من شتى الجوانب عقيدة، وشريعة، وثقافة، وحضارة، وتاريخاً، ونظماً، وثروات وإمكانات .. .بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي"([9]).
تعريفنا للاستشراق
هو كل ما يصدر عن الغربيين وأمريكيين من إنتاج فكري وإعلامي وتقارير سياسية واستخباراتية حول قضايا الإسلام والمسلمين في العقيدة، وفي الشريعة، وفي الاجتماع، وفي السياسة أو الفكر أو الفن، ويمكننا أن نلحق بالاستشراق ما يكتبه النصارى العرب من أقباط ومارونيين وغيرهم ممن ينظر إلى الإسلام من خلال المنظار الغربي، ويلحق به أيضاً ما ينشره الباحثون المسلمون الذين تتلمذوا على أيدي المستشرقين وتبنوا كثيراً من أفكار المستشرقين([10]).
وكان الاستشراق ومازال يهتم بالشعوب الشرقية عموماً التي تضم الهند وجنوب شرق آسيا والصين واليابان وكوريا. وعند مراجعة النشاطات الاستشراقية نجد أن هذه المناطق بدأت تخصص بدراسات خاصة بها مثل الدراسات الصينية أو الدراسات الهندية أو الدراسات اليابانية، أما الأصل فكانت كلها تضم تحت مصطلح واحد هو (الاستشراق).(25/61)
ولا بد من الوقوف عند تعريف آخر للاستشراق لا يرى أن كلمة استشراق ترتبط فقط بالمشرق الجغرافي وإنما تعني أن الشرق هو مشرق الشمس ولهذا دلالة معنوية بمعنى الشروق والضياء والنور والهداية بعكس الغروب بمعنى الأفول والانتهاء، وقد رجع أحد الباحثين المسلمين وهو السيد محمد الشاهد إلى المعاجم اللغوية الأوروبية (الألمانية والفرنسية والإنجليزية) ليبحث في كلمة شرقO r IENT فوجد أنه يشار إلى منطقة الشرق المقصودة بالدراسات الشرقية بكلمة "تتميز بطابع معنوي وهو Mo r genland وتعني بلاد الصباح، ومعروف أن الصباح تشرق فيه الشمس، وتدل هذه الكلمة على تحول من المدلول الجغرافي الفلكي إلى التركيز على معنى الصباح الذي يتضمن معنى النور واليقظة، وفي مقابل ذلك نستخدم في اللغة كلمة Abendlandوتعني بلاد المساء لتدل على الظلام والراحة"([11]).
وفي اللاتينية تعني كلمة O r ient: يتعلم أو يبحث عن شيء ما، وبالفرنسية تعنى كلمة O r iente r وجّه أو هدى أو أرشد، وبالإنجليزيةO r ientation , و o r ientate تعني "توجيه الحواس نحو اتجاه أو علاقة ما في مجال الأخلاق أو الاجتماع أو الفكر أو الأدب نحو اهتمامات شخصية في المجال الفكري أو الروحي"، ومن ذلك أن السنة الأولى في بعض الجامعات تسمّى السنة الإعدادية O r ientation . وفي الألمانية تعني كلمة Sich O r ientie r n " يجمع معلومات (معرفة) عن شيء ما ([12]).
إلغاء مصطلح الاستشراق
يجب أن نتوقف عند القرار الغربي بالتوقف عن استخدام مصطلح استشراق أو كما قال لويس إن هذا المصطلح قد ألقي به في مزابل التاريخ، فقد رأى الغرب أن هذا المصطلح ينطوي على حمولات تاريخية ودلالات سلبية وأن هذا المصطلح لم يعد يفي بوصف الباحثين المتخصصين في العالم الإسلامي، فكان من قرارات منظمة المؤتمرات العالمية في مؤتمرها الذي عقد في باريس عام 1973 بأن يتم الاستغناء عن هذا المصطلح، وأن يطلق على هذه المنظمة (المؤتمرات العالمية للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقياICHSANA) [13]. وعقدت المنظمة مؤتمرين تحت هذا العنوان إلى أن تم تغييره مرة ثانية إلى (المؤتمرات العالمية للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية ICANAS). وقد عارض هذا القرار دول الكتلة الشرقية (روسيا والدول التي كانت تدور في فلكها)([14])، ومع ذلك ففي المؤتمر الدولي الخامس والثلاثين للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية الذي عقد في بودابست بالمجر كان مصطلح استشراق ومستشرقين يستخدم دون أي تحفظات، مما يعني أن الأوروبيين الغربيين والأمريكيين هم الأكثر اعتراضاً على هذا المصطلح ولعل هذا ليفيد المغايرة بحيث يتحدثون عن المستشرقين ليثبتوا أنهم غير ذلك بل هم مستعربون A r abists أو إسلاميون Islamists أو باحثون في العلوم الإنسانية Humanistsأو متخصصون في الدراسات الإقليمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي تختص ببلد معين أو منطقة جغرافية معينة، أما موقفنا نحن من هذا التخصص أو التخصصات فإنه يسعنا ما وسع الغربيين فإن هم اختاروا أن يتركوا التسمية فلا بأس من ذلك شريطة أن لا نغفل عن استمرار اهتمامهم بدراستنا والكتابة حول قضايانا وعقد المؤتمرات والندوات ونشر الكتب والدوريات حول العالم الإسلامي واستمرار أهداف الاستشراق، وأن لا يصرفنا تغيير الاسم عن الوعي والانتباه لما يكتبونه وينشرونه.
- الحواشي :
[1]- ا. ج آربري. المستشرقون البريطانيون .تعريب محمد الدسوقي النويهي. ( لندن: وليم كولينز، 1946.)ص8.
[2]- رودي بارت.الدراسات العربية والإسلامبة في الجامعات الألمانية( المستشرقون الألمان منذ تيودور نولدكه). ترجمة مصطفى ماهر( القاهرة: دار الكتاب العربي) (بدون تاريخ) ص 11.
[3] -ا. ج. آربري. المستشرقون البريطانيون . تعريب محمد الدسوقي النويهي. (لندن: وليم كولينز ، 1946) ص8.
[4] -مكسيم رودنسون ." الصورة الغربية والدراسات الغربية الإسلامية." في تراث الإسلام (القسم الأول) تصنيف شاخت وبوزورث. ترجمة محمد زهير السمهوري ، ( الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، شعبان /رمضان1398هـ- أغسطس 1978م.)ص27-101.
[5] -Edwa r d Said. O r ientalism. ( New Yo r k: Vintage Books, 1979) p.2.
[6] -Ibid. p 12.
[7] -Ibid. p73..
[8] -المرجع نفسه ص 92.
[9] -أحمد عبد الحميد غراب . رؤية إسلامية للاستشراق.ط2 (بيرمنجهام: المنتدى الإسلامي ، 1411) ص 7.
[10] - من أمثال ذلك ما نشر لمحمد عبد الحي شعبان وعزيز العظمة ، ونوال السعداوي ، وفاطمة مرنيسي وفضل الرحمن ، وغيرهم كثير حيث قامت دور النشر الجامعية لكبريات الجامعات الغربية وبخاصة الأمريكية بنشر إنتاج هؤلاء وترويجه.
[11] -السيد محمد الشاهد. "الاستشراق ومنهجية النقد عند المسلمين المعاصرين" في الاجتهاد. عدد 22، السنة السادسة ، شتاء عام 1414هـ/1994م. ص191-211.
[12] - المرجع نفسه ، ص 197.
[13] -Be r na r d Lewis." The Question of O r ientalism. In New Yo r k Times r eview of Books. June 24,1982. Pp. 49-56.
[14] -Be r na r d Lewis. " The Question of O r ientalism." Op., Cit
=================(25/62)
(25/63)
نشأة الاستشراق >
اختلف الباحثون في نشأة الاستشراق في تحديد سنة معنية أو فترة معينة لنشأة الاستشراق فيرى البعض أن الاستشراق ظهر مع ظهور الإسلام وأول لقاء بين الرسو صلى الله عليه وسلم ونصارى نجران، أو قبل ذلك عندما بعث الرسو صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة العربية أو حتى في اللقاء الذي تم بين المسلمين والنجاشي في الحبشة. بينما هناك رأي بأن غزوة مؤتة التي كانت أول احتكاك عسكري تعد من البدايات للاستشراق ويرى آخرون أن أول اهتمام بالإسلام والرد عليه بدأ مع يوحنا الدمشقي وكتابه الذي حاول فيه أن يوضح للنصارى كيف يجادلون المسلمين. ويرى آخرون أن الحروب الصليبية هي بداية الاحتكاك الفعلي بين المسلمين والنصارى الأمر الذي دفع النصارى إلى محاولة التعرف على المسلمين.
ومن الآراء في بداية الاستشراق أنه بدأ بقرار من مجمع فيينا الكنسي الذي دعا إلى إنشاء كراسي لدراسة اللغات العربية والعبرية والسريانية في عدد من المدن الأوروبية مثل باريس وأكسفورد وغيرهما، ويرى الباحث الإنجليزي ب.إم هولت P.M. Holt أن القرارات الرسمية لا يتم تنفيذها بالطريقة التي أرادها صاحب القرار لذلك فإن القرار البابوي هنا لا يعد البداية الحقيقية للاستشراق.([1])
وثمة رأي له عدد من المؤيدين أن احتكاك النصارى بالمسلمين في الأندلس هو الانطلاقة الحقيقية لمعرفة النصارى بالمسلمين والاهتمام بالعلوم الإسلامية ويميل إلى هذا الرأي بعض رواد البحث في الاستشراق من المسلمين ومنهم الشيخ الدكتور مصطفى السباعي ([2]).
ولاشك أن هذه البدايات لا تعد البداية الحقيقية للاستشراق الذي أصبح ينتج ألوف الكتب سنوياً ومئات الدوريات ويعقد المؤتمرات، وإنما تعد هذه جميعا كما يقول الدكتور النملة "من قبيل الإرهاص لها وما أتى بعدها يعد من قبيل تعميق الفكرة، والتوسع فيها وشد الانتباه إليها"([3]) فالبداية الحقيقية للاستشراق الذي يوجد في العالم الغربي اليوم ولا سيما بعد أن بنت أوروبا نهضتها الصناعية والعلمية وأصبح فيها العديد من الجامعات ومراكز البحوث وأنفقت ولا تزال تنفق بسخاء على هذه البحوث قد انطلقت منذ القرن السادس عشر حيث "بدأت الطباعة العربية فيه بنشاط فتحركت الدوائر العلمية وأخذت تصدر كتاباً بعد الآخر .."([4])، ثم ازداد النشاط الاستشراقي بعد تأسيس كراس للغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية مثل كرسي أكسفورد عام 1638 وكامبريدج عام 1632، ويضيف سمايلوفيتش بأن تأسيس الجمعيات العلمية مثل الجمعية الأسيوية البنغالية والجمعية الاستشراقية الأمريكية والجمعية الملكية الآسيوية البريطانية وغيرها بمنزلة "الانطلاقة الكبرى للاستشراق حيث تجمعت فيها العناصر العلمية والإدارية والمالية فأسهمت جميعها إسهاماً فعّالاً في البحث والاكتشاف والتعرف على عالم الشرق وحضارته فضلاً عما كان لها من أهداف استغلالية واستعمارية"([5]) وكان من المشروعات الاستشراقية المهمة إنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية في فرنسا برئاسة المستشرق الفرنسي سلفستر دي ساسي Silveste r de Sacy التي كانت تعد قبلة المستشرقين الأوروبيين وساهمت في صبغ الاستشراق بالصبغة الفرنسية مدة من الزمن([6])، نشاء الجمعيات الاسشتراقية وأيضاً بداية منظمة المؤتمرات العالمية للمستشرقين عام 1873 في عقد مؤتمراته السنوية.
- الحواشي :
[1] -P. M. Holt. " The O r igin of Islam Studies." In AL- Kulliya. (Kha r toum) No.1, 1952,pp.20-27.
[2] علي النملة . الاستشراق في الأدبيات العربية :عرض للنظرات وحصر وراقي للمكتوب.( الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث الدراسات الإسلامية، 1414هـ/1993م.) الصفحات 23-31.وقد أورد الدكتور النملة معظم الآراء التي تتعلق بنشأة الاستشراق.
[3] - المرجع نفسه ص 30.
[4] -أحمد سمايلوفيتش. فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر."( القاهرة :بدون ناشر ، بدون تاريخ) ص 77.
[5] -المرجع نفسه ص 81.
[6] -نجيب العقيقي . المستشرقون. ج1(القاهرة: دار المعارف، بدون تاريخ9 ص
==================(25/64)
(25/65)
وسائل الاستشراق >
لقد سعى المستشرقون إلى تحقيق أهدافهم من خلال العديد من الوسائل والأساليب. وحيث أن المستشرقين جزء من مجتمعاتهم فإنهم سوف يستخدمون بلا شك الوسائل والأساليب الشائعة في مجتمعاتهم وإن كان مجال عملهم في الاستشراق سيتطلب في بعض الأحيان استخدام وسائل وأساليب تناسب مجال عملهم وتناسب أهدافهم ودوافعهم، وقد كتبت د. فاطمة أبو النجا عن وسائل المستشرقين تقول "لم يترك المستشرقون مجالا من مجالات الأنشطة المعرفية والتوجيهية العليا إلاً تخصصوا فيها، ومنها التعليم الجامعي، وإنشاء المؤسسات العالمية لتوجيه التعليم والتثقيف، وعقد المؤتمرات والندوات ولقاءات التحاور، وإصدار المجلات ونشر المقالات وجمع المخطوطات العربية، والتحقيق والنشر وتأليف الكتب ودس السموم الفكرية فيها بصورة خفية ومتدرجة، وإنشاء الموسوعات العلمية الإسلامية، والعناية العظمى لإفساد المرأة المسلمة وتزيين الكتابة باللغة العامية ..."([1])
هذه بصفة عامة الوسائل التي اتخذها المستشرقون لتحقيق أهدافهم وفيما يأتي توضيح هذه الوسائل والأساليب:
التعليم الجامعي والبحث العلمي
منذ أن استقر الاستشراق كفرع معرفي له أقسامه العلمية ومراكز البحوث الخاصة به، أخذت هذه الأقسام تستقبل الطلاب من جميع أنحاء العالم فالأوروبيون الذين يدرسون هذه المجالات يتخصصون فيها لأهداف تخصهم فقد جاء في تقرير سكاربورSca r b r ough وتقرير هايتر Hayte r البريطانيين الجهات التي تحتاج هذه التخصصات ابتداءً من وزارة المستعمرات(حين كانت موجودة) ووزارة الخارجية والاستخبارات والتجارة والاقتصاد والإذاعة البريطانية وغيرها من الجهات، أما الطلاب العرب والمسلمون فقد جاءوا في بعثات دراسية إما على حساب دولهم أو على حسابهم الخاص أو بمنح من الجامعات الغربية التي استهوتهم لأسباب منها السمعة العلمية العالية التي تتمتع بها هذه الجامعات في دول العالم الثالث( حتى وإن كان بعضها متواضع المستوى) وثانياً لرغبة الجامعات الغربية الإفادة من هؤلاء الطلاب في مجال البحث العلمي، بالإضافة إلى الهدف الاستشراقي القديم من التأثير في طبقة من أبناء الأمة المسلمة من المتوقع أن تتسم منابر التوجيه وقيادة الرأي في بلادها. وقد يكون أحد هذه الأسباب المرونة التي تتمتع بها هذه الجامعات في مجال الدراسات العليا وبعدها عن التعقيدات والمشكلات والقيود التي يواجهها الطلاب في الجامعات العربية والإسلامية.
وقد أصبحت هذه الأقسام العلمية تعد بالآلاف في أنحاء أوروبا وأمريكا، ولما تخلص الأوروبيون والأمريكيون من مصطلح الاستشراق أصبحت أقسام الدراسات الشرق أوسطية أقسام دراسات المناطق هي التي يدرس فيها هؤلاء الطلاب ولكن هذه الأقسام لم تعد كافية لدراسة كل ما يخص العالم الإسلامي والعربي فأضيف إليها الدراسة في أقسام الجامعة الأخرى مثل : علم الاجتماع، وعلم الإنسان، وعلم النفس، وقسم الاقتصاد والعلوم السياسية ومختلف العلوم التي يتم التنسيق بينها جميعاً من خلال معهد الشرق الأوسط كما في جامعة كولمبيا في نيويورك أو مركز دراسات الشرق الأوسط كما في جامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي.
وتسهم هذه الأقسام من خلال المواد الدراسية في تكوين عقلية الطالب وفهمه وإدراكه للقضايا التي تخص الإسلام والمسلمين حيث إن طريقة التدريس والمراجع المقررة وتوجهات الأساتذة لها دور كبير في الدراسة الجامعية أو الدراسات العليا( وبخاصة في أمريكا حيث إن طالب الماجستير أوالدكتوراه يكلف بدراسة عدد محدد من الساعات)([2])
ولا شك أن بعض أبناء العرب والمسلمين يتأثرون بأساتذتهم فكرياً وأخلاقياً وسلوكياً ، ولذلك نجد التركيز في التراجم الإسلامية السؤال عن الشيوخ، ولذلك من المهم معرفة شيوخ العلماء المعاصرين من أبناء الأمة الإسلامية الذين تتلمذوا على المستشرقين. ومهما كانت قوة العقيدة والإيمان لدى معظم الطلاب العرب والمسلمين فإن بعضهم يتأثر بشيوخه من المستشرقين وبخاصة أن بعض هؤلاء قد بلغوا درجة عالية من العلم والخبرة ومعرفة نفسية الطلاب العرب والمسلمين. كما أن بعض الأساتذة في الجامعات الغربية يكونون من القساوسة والرهبان وبعضهم من اليهود فيحرصون على التأثير في طلابهم بأسلوب غير مباشر، ولو أن يدخلوا أدنى درجة من الشك في قلوب هؤلاء التلاميذ.(25/66)
وبالإضافة إلى أقسام دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية ( أوروبا وأمريكا) فإن الغرب حرص على فتح جامعات أوروبية وأمريكية في البلاد العربية الإسلامية ومن أبرز هذه الجامعات الجامعة الأمريكية التي أصبح لها العديد من الفروع في القاهرة وفي بيروت وفي دبي وفي الشارقة وفي إسطنبول وغيرها، وقد قامت الجامعات الفرنسية بافتتاح معاهد لها في عدد من الدول العربية كما أن لهولندا معهداً في مصر وكذلك تقوم الحكومة الألمانية بافتتاح جامعة في مصر بعد أن كانت نواة هذه الجامعة قد أسست منذ سنوات. وقد ذكر خبر نشر في إحدى الصحف أن حجر الأساس لأول جامعة ألمانية سيوضع بتمويل من عدة جهات منها السفارة الألمانية في القاهرة ( يعني الخارجية الألمانية) وجامعتين ألمانيتين بالتعاون مع الغرفة التجارية العربية الألمانية للتجارة والصناعة([3])
وقد أعلنت وزارة الخارجية السويدية قبل عدة أعوام عن إنشاء مركز بحوث سويدي في الإسكندرية. وسيعقد هذا المعهد مؤتمراً عن الشباب العربي المسلم في مدينة الإسكندرية بمصر في شهر فبراير 2003م.
أما كيف تكون الجامعات والتعليم العالي وسيلة من وسائل الاستشراق فنحن لا نتحدث عن أقسام الهندسة والكيمياء والطب والرياضيات( وإن كان يحدث فيها تأثير استشراقي) ولكن الحديث عن أقسام الدراسات الإسلامية والعربية والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس وعلم الاجتماع والتربية وغيرها من الدراسات الأدبية والنظرية) فمن التأثر أولاً بالمجتمع الغربي( وهي قضية بدأت مع البعثات قبل أكثر من قرنين ) إلى التأثر بالأستاذ في طباعة وأخلاقه وسلوكه، ثم في اختيار موضوع البحث وبخاصة في مجال الدراسات العليا، فإن الأمة قد أوفدت أنبه أبنائها (بخاصة المبتعثين، الذين حصلوا على البعثات بجدارة) للدراسة في الخارج فحين يكون اختيار الموضوع سيئاً أو موجهاً فقد يجد الطالب نفسه أسير ذلك الموضوع حتى نهاية حياته العلمية وقل أن يتخلص من هذا الأسر، فيسهم الأستاذ المشرف في اختيار الموضوع وتوجيه الطالب للاهتمام بقضايا بعينها، ومن الأمثلة توجيه الطالب لاختيار كتاب الأغاني مثلاً ليكون مصدراً لدراسة التاريخ الإسلامي أو المجتمع الإسلامي. وهو أمر خطير فكيف يكون كتاب مجون وخلاعة مصدر لدراسة تاريخ أمة هي أعظم الأمم على وجه الأرض.
كما يوجه الأساتذة طلابهم للبحث في موضوعات يريد الغربيون معرفة تفاصيلها الدقيقة وهو لا يستطيعون الوصول إلى هذه المعلومات فيكلفون طلابهم الذين يريدون الحصول على الدرجات العليا، كما أن مثل هذه الدراسة تتيح لهم الفرصة للعودة إلى بلادهم في رحلات علمية لجمع المادة العلمية وتقديم الاستمارات والاستبيانات وغيرها من وسائل جمع المادة العلمية التي يصعب على الأستاذ أو الجهات الخارجية الوصول إليها.
وتسعى الجامعات ومراكز البحوث أن تستقطب بعض أبناء الأمة الإسلامية لقضاء سنوات التفرغ بالنسبة للأساتذة الجامعيين أو العمل باحثين في هذه المراكز، وإن كان الغالب أن الجامعات الغربية ومراكز البحوث هناك تستقطب نماذج معينة من الباحثين العرب والمسلمين المتأثرين بالفكر الغربي، لكن هذا لا يمنع أن يشارك في العمل في بعض الجامعات الغربية بعض الباحثين المعتزين بدينهم وبأمتهم وبتراثهم الحضاري وينافحون عن الإسلام بكل ما أوتوا من قوة ولكنهم يبقون الاستثناء الذي يثبت صحة القاعدة كما يقولون.
الكتب والمجلات والنشرات
حرص الاستشراق منذ بدايته على نشر الكتب التي تتناول الإسلام من جميع جوانبه عقيدة وشريعة وتاريخاً وسيرة، وتناولت هذه الكتب الأحوال الاجتماعية في العالم الإسلامي في مختلف العصور.
ففي مجال العقيدة كتبوا كثيراً ومن ذلك ما نشره المستشرق اليهودي المجري بعنوان دراسات إسلامية كما ألف في مذاهب التفسير الإسلامية، ونشر المستشرق دنكان بلاك ماكدونالد كتاباً بعنوان تطور العقيدة الإسلامية وقد انطلى على بعض المسلمين أنه كتاب علمي فقُرر تدريسه في أقسام الدراسات الإسلامية. وألف كولسون في التشريع الإسلامي ، وصدر لهم تآليف كثيرة في مجال التاريخ الإسلامي حتى عد بعضهم كتاب كارل بروكلمان تاريخ الشعوب الإسلامية من المراجع الأساسية في دراسة التاريخ الإسلامي. وهناك على سبيل المثال لا الحصر كتاب برنارد لويس تاريخ العرب عدّه بعض الأساتذة المتأثرين بالاستشراق من أهم الكتب في بابه.
وقد تميزت كتابات المستشرقين في العصور الوسطى أو بدايات الاستشراق بالتعصب والحقد الشديد والكراهية للإسلام وإظهار هذه العواطف والاتجاهات بصراحة متناهية حتى ظهر منهم من كتب منتقداً هذا الأسلوب ومن هؤلاء ما كتبه نورمان دانيال في كتابه ( الإسلام والغرب) وما كتبه ريشتارد سوذرن في كتابه (صورة الإسلام والمسلمين في كتابات العصور الوسطى).(25/67)
وظهرت في القرن العشرين كتابات عن الإسلام تظاهرت بأنها تجاوزت التعصب والحقد القديم ومنها ما كتبه توماس آرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) وقد يكون هذا الكتاب قدم بعض العبارات والجمل المادحة للإسلام والمسلمين ولكنه في حقيقته بعيد عن الموضوعية والمنهج العلمي(توجد رسالة ماجستير انتقدت هذا الكتاب في كلية الدعوة بالمدينة المنورة)([4]) كما ظهرت كتابات مونتجمري وات حول الرسو صلى الله عليه وسلم ( محمد في مكة) و( محمد في المدينة ) و( محمد رجل الدولة والسياسة) وغيرها من الكتب.
أما أبرز الجهات الاستشراقية التي تنشر الكتب فأود في البداية أن أشير إلى أن الجامعات الغربية لها دور نشر خاصة بها ، ولعل من أشهر دور النشر هذه على سبيل المثال جامعة أكسفورد التي تطبع مئات الكتب كل عام حول العالم الإسلامي وقضاياه المختلفة، كما أن الجامعات الأوروبية والأمريكية لها دور نشر نشطة، تقوم بجهد يوازي إن لم يتفوق على نشاط دور النشر التجارية البحتة( قارن بينها وبين دور النشر في الجامعات العربية والإسلامية- دور نشر للمجاملة وللتوزيع المحدود ولا تطبع دار النشر الجامعية أكثر من عشرة عناوين سنوياً)
ففي موقع دار جامعة أكسفورد للنشر مئات الكتب التي تهتم بالإسلام والعالم الإسلامي ومنها هذه الكتب- على سبيل المثال-:
- موسوعة أكسفورد للعالم الإسلامي الحديث ، وتتكون من أربعة مجلدات تتألف من 1840 صفحة وتهتم بموضوعات لم تكن لتهتم بها الكتب حول الإسلام ومن هذه الموضوعات: الإرهاب والتطرف وحقوق الإنسان ومكانة المرأة في العالم الإسلامي وفي الإسلام. وتزعم الموسوعة لنفسها أنها متخصصة وتقدم معلومات دقيقة وموثقة حول القضايا التي تتناولها .
ويمكن التعرف إلى مدى انتشار الكتب حول الإسلام والعالم العربي والشرق الأوسط من خلال شركة أمازون لتوزيع الكتب فيكفي أن تضع كلمة الإسلام أو العرب أو الشرق الأوسط لتمدك الشركة بسيل من الكتب فتحت عنوان إسلام وجدت أنه ثمة ثمانية آلاف وثمانمائة وإحدى عشر كتاباً([5])
أما المجلات والدوريات فتعد بالمئات من مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا فلا يكاد قسم من أقسام دراسات الشرق الأوسط الكبيرة في الجامعات الغربية إلاّ وله مجلة أو دورية كما أن الجمعيات الاستشراقية لها أيضاً إصداراتها من الدوريات والمجلات ونذكر على سبيل المثال الجامعات الآتية التي لها دوريات مشهورة.
- دورية مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن
- دورية جسور تصدر عن مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس.
- مجلة العالم الإسلامي ( بالألمانية ) من ألمانيا
- مجلة العالم الإسلامي من معهد هارتفورد اللاهوتي بالولايات المتحدة الأمريكية.
- مجلة العلاقات النصرانية الإسلامية عن معهد العلاقات النصرانية الإسلامية بجامعة بيرمنجهام ببريطانيا.
وهناك الكثير غيرها التي يبلغ تعدادها بالمئات في شتى مجالات المعرفة.
الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والدورات العلمية وحلقات البحث المتخصصة
دأب المستشرقون منذ بداية عهدهم بالدراسات العربية والإسلامية على الاتصال بعضهم ببعض عن طريق المراسلات والرحلة، ففي وقت من الأوقات قيل إن باريس كانت كعبة الاستشراق حينا كان سيلفيستر دو ساسي يترأس معهد اللغات الشرقية الحية في باريس (1795م وما بعدها). وكان الحال كذلك مع العواصم الأخرى حين يذيع صيت أحد المستشرقين فيسعون إليه للتلقي عنه أو يسعون إلى استضافته أستاذاً زائراً. ولكن كان لا بد من طريقة أخرى يتوصلون إلى التبادل العلمي والثقافي فكانت الندوات المحلية والإقليمية ثم الدولية وسيلة من وسائل الصلة بين المستشرقين.
وكانت مؤتمرات المستشرقين في غالبيتها عبارة عن لقاء مجموعة من الباحثين والعلماء لتقديم بحوث وأوراق عمل ونقاشات ومناسبات اجتماعية على هامش المؤتمرات ؟ولم تكن في يوم من الأيام للتسلية والوجاهة والحصول على الامتيازات المادية من انتدابات وبدلات وغيرها كما يحدث في دول العالم النامي، فهي بالتالي وسيلة عمل وتخطيط ودراسة؟
بدأ الأوروبيون بمبادرة فرنسية - مازال الفرنسيون يفخرون بها- منذ أكثر من قرن وربع في عقد مؤتمر دولي كل عدة سنوات - لا تتجاوز خمساً- للبحث في مجال الدراسات الاستشراقية التي تضم الهند والصين وجنوب شرق آسيا وكذلك تركيا ودول وسط آسيا (الجمهوريات التي كانت تتبع الاتحاد السوفيتي سابقاً ) وشمال أفريقيا، ولكن الدراسات الإسلامية كانت وما تزال المحور الأساس لهذه المؤتمرات. وقد عقد المؤتمر الأول عام 1873 في باريس وبلغت حتى الآن ستاً وثلاثين مؤتمراً ، وكان المؤتمر قبل الأخير قد عقد في بودابست بالمجر في الفترة من 3-8ربيع الأول الموافق 7-12يوليو 1997م. وقد قدم فيه ما يزيد على ألف بحث.(25/68)
وقد أصبحت المؤتمرات والندوات من الكثرة بحيث يصعب على الباحث أن يحصرها أو يتناولها جميعاً بالبحث والدراسة ولذلك سوف تقتصر هذه الدراسة على نماذج من هذه المؤتمرات والندوات التي أتيح لي الاطلاع على بعض المعلومات عنها، بحيث نقدم معلومات عن الموضوعات التي يتناولها المؤتمر أو الندوة ، وكذلك معلومات عن المشاركين وأهمية توجهات المشاركين في هذه المؤتمرات ونتائج وتوصيات المؤتمرات.([6])
أما المحاضرات العامة والدورات فهي أكثر من أن تحصى ويكفي لمعرفة مدى سعة وعمق هذه النشاطات الاطلاع على مواقع الإنترنت لمراكز البحوث وأقسام دراسات الشرق الأوسط( قبل الإنترنت مثلا كانت جامعة هارفرد تنشر نشرة نصف شهرية تزدحم فيها النشاطات) ومن الأمثلة على هذه النشاطات أن معظم أقسام دراسات الشرق الأوسط لها لقاء أسبوعي مع محاضرة موجزة بالإضافة إلى محاضرات الأساتذة الزائرين ومن يتابع ما يدور في هذه الجامعات ويقارن بينها وبين ما يدور في الجامعات العربية الإسلامية يصاب بالذهول فكأن هذه مدراس ابتدائية مقارنة مع تلك.
التقارير السياسية والأحاديث الإذاعية والتلفزيونية والمقالات الصحفية
لما كانت الحكومات الغربية تدرك أهمية العلم والمتعلمين فقد سعت إلى الباحثين المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط فطلبت إليهم تقديم نتائج بحوثهم ودراساتهم واستشارتهم في اتخاذ القرارات السياسية وهو ما يعرف في الفكر السياسي من تقارب بين العلماء والساسة. فلا تكاد قاعات وزارات الخارجية الغربية ومجالس النواب فيها واللجان المتخصصة تخلو من الباحثين المستشرقين يقدمون عصارة فكرهم لمصلحة بلادهم وأمتهم.
ومن الأمثلة على ذلك ما نشره مجلس النواب الأمريكي( الكونجرس) عام 1985 من تقرير وصل عدد صفحاته إلى اثنتين وأربعين وأربعمائة ضمت العديد من الدراسات والمعلومات القيمة حول ما أطلق عليه في الغرب ظاهرة الأصولية الإسلامية.
وقد كان من المشهور سابقاً أن لا يكون للحكومات تأثير في النشاط العلمي للجامعات حتى إن جامعة هارفرد قامت بإلغاء مؤتمر كان من المقرر عقده حول الحركات الإسلامية في العالم العربي عندما علمت بأن وكالة الاستخبارات المركزية ساهمت في تمويل المؤتمر، ثم أصبح من المعتاد أن تهتم الوكالة نفسها بهذه القضايا وتجند لها أساتذة الجامعات والمتخصصين في الدراسات الإسلامية والعربية والدراسات الشرق أوسطية.
وأدرك الإعلام أيضاً أهمية استضافة أساتذة الجامعات المتخصصين في العالم العربي والإسلامي فأتاح لهم المجال لتقديم آرائهم في القضايا السياسية المعاصرة ولا تكاد تخلو نشرة أخبار من استضافة أحد هؤلاء للحديث في مجال تخصصه. ولم تكتف وسائل الإعلام بهذا الأمر فقد طلبت إليهم أن يجيبوا عن أسئلة الجمهور أو استضافتهم في برامج حوارية طويلة ، ومن وسائل الإعلام التي تهتم بهذا الجانب،الإذاعات الموجهة مثل إذاعة لندن وصوت أمريكا وإذاعة مونت كارلو وغيرها.
- الحواشي :
[1] - فاطمة أبو النجا.نور الإسلام وأباطيل خصومه. ص 160
[2] - مازن مطبقاني . الاستشراق المعاصر في منظور الإٍسلام. ص 58 وما بعدها
[3] - الشرق الأوسط، العدد 8340، 11رجب 1422هـ28 سبتمبر 2001م)
[4] - محمود حمزة عزوني. دراسة نقدية لكتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف توماس ولكر آرنولد. .رسالة ماجستير من قسم الدعوة بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1404/1405هـ تحت إشراف الدكتور إبراهيم عكاشة.
[5] - كان هذا الأمر في شهر رجب عام 1422هـ ولا بد أن هذا العدد يزداد باستمرار
[6] - مطبقاني . الاستشراق المعاصر، مرجع سابق ص 172وما بعدها. وانظر رسالة الدكتوراه التي أعدها الدكتور محسن السويسي بعنوان مؤتمرات المستشرقين العالمية: نشأتها -تكوينها -أهدافها. قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة عام 1419/ 1998م تحت إشراف الدكتور حامد غنيم أبو سعيد
================(25/69)
(25/70)
أهداف الاستشراق >
الهدف الديني
إن كنّا أخذنا بالقول إن الاستشراق بدأ بتشجيع من الكنيسة ورجال الدين فإن الاهتمام الديني يعد أول أهداف الاستشراق وأهمها على الإطلاق. فعندما رأى النصارى وبخاصة رجال الدين فيهم أن الإسلام اكتسح المناطق التي كانت للنصرانية وأقبل كثير من النصارى على الدين الإسلامي ليس لسماحته فحسب ولكن لأنه بعيد عن التعقيدات وطلاسم العقيدة النصرانية ، ولأنه نظام كامل للحياة . كما أن رجال الدين النصارى خافوا على مكانتهم الاجتماعية والسياسية في العالم النصراني فكان لابد أن يقفوا في وجه الإسلام حيث إنه ليس في الإسلام طبقة رجال دين أو أكليروس كما في النصرانية.[1]
فغاية الهدف الديني هي معرفة الإسلام لمحاربته وتشويهه وإبعاد النصارى عنه، وقد اتخذ النصارى المعرفة بالإسلام وسيلة لحملات التنصير التي انطلقت إلى البلاد الإسلامية،وكان هدفها الأول تنفير النصارى من الإسلام. ولذلك فإن الكتابات النصرانية المبكرة كانت من النوع المتعصب والحاقد جداً حتى إن بعض الباحثين الغربيين في العصر الحاضر كتب نقداً عنيفاً لاستشراق العصور (الأوروبية ) الوسطى من أمثال نورمان دانيال No r man Daniel في كتابه الإسلام والغرب.[2] فقد كتب دانيال أن أسباب حقد النصارى وسوء فهمهم للإسلام مازال بعضه يؤثر في موقف الأوروبيين من الإسلام بالرغم من التحسن العظيم الحديث في الفهم والذي أشاد به بعض المسلمين.[3] وكتاب ريتشارد سوذرن صورة الإسلام في العصور الوسطى [4]
الهدف العلمي
ما كان لأوروبا أن تنهض نهضتها دون أن تأخذ بأسباب ذلك وهو دراسة منجزات الحضارة الإسلامية في جميع المجالات العلمية .فقد رأى زعماء أوروبا " أنه إذا كانت أوروبا تريد النهوض الحضاري والعلمي فعليها بالتوجه إلى بواطن العلم تدرس لغاته وآدابه وحضارته"([5]) وبالرجوع إلى قوائم الكتب التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية لعرفنا حقيقة أهمية هذا الهدف من أهداف الاستشراق فالغربيين لم يتركوا مجالاً كتب فيه العلماء المسلمون حتى درسوا هذه الكتابات وترجموا عنها، وأخذوا منها.وقد أشار رودي بارت r udi Pa r et -في كتابه عن الدراسات العربية الإسلامية -إلى إمكانية أن تقوم الأمة الإسلامية في العصر الحاضر بدراسة الغرب فيما يمكن أن يطلق عليه علم الاستغراب ([6])، فإن المسلمين في نهضتهم الحاضرة بحاجة إلى معرفة الإنجازات العلمية التي توصل إليها الغرب عبر قرون من البحث والدراسة والاكتشافات العلمية والاستقرار السياسي والاقتصادي.
الهدف الاقتصادي التجاري
عندما بدأت أوروبا نهضتها العلمية والصناعية والحضارية وكانت في حاجة إلى المواد الأولية الخام لتغذية مصانعها ، كما أنهم أصبحوا بحاجة إلى أسواق تجارية لتصريف بضائعهم كان لا بد لهم أن يتعرفوا إلى البلاد التي تمتلك الثروات الطبيعية ويمكن أن تكون أسواقاً مفتوحة لمنتجاتهم . فكان الشرق الإسلامي والدول الأفريقية والآسيوية هي هذه البلاد فنشطوا في استكشافاتهم الجغرافية ودراساتهم الاجتماعية واللغوية والثقافية وغيرها.
ولم يتوقف الهدف الاقتصادي عند بدايات الاستشراق فإن هذا الهدف ما زال أحد أهم الأهداف لاستمرار الدراسات الاستشراقية . فمصانعهم ما تزال تنتج أكثر من حاجة أسواقهم المحلية كما أنهم ما زالوا بحاجة إلى المواد الخام المتوفرة في العالم الإسلامي. ولذلك فإن بعض أشهر البنوك الغربية(لويد وبنك سويسرا) تصدر تقارير شهرية هي في ظاهرها تقارير اقتصادية ولكنها في حقيقتها دراسات استشراقية متكاملة حيث يقدم التقرير دراسة عن الأحوال الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد العربية الإسلامية ليتعرف أرباب الاقتصاد والسياسة على الكيفية التي يتعاملون بها مع العالم الإسلامي.
الهدف السياسي الاستعماري
لقد خدم الاستشراق الأهداف السياسية الاستعمارية للدول الغربية فقد سار المستشرقون في ركاب الاستعمار وهم كما أطلق عليهم الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله- " حملة هموم الشمال المسيحي- فقدموا معلومات موسعة ومفصلة عن الدول التي رغبت الدول الغربية في استعمارها والاستيلاء على ثرواتها وخيراتها. وقد اختلط الأمر في وقت من الأوقات بين المستعمر والمستشرق فقد كان كثير من الموظفين الاستعماريين على دراية بالشرق لغة وتاريخاً وسياسة واقتصاداً . وقد أصدر - على سبيل المثال- مستشرق بريطاني كتاباً من أربعة عشر مجلداً بعنوان: (دليل الخليج: الجغرافي والتاريخي) وكان الموظف الاستعماري لا يحصل على الوظيفة في الإدارة الاستعمارية ما لم يكن على دراية بالمنطقة التي سيعمل بها.(25/71)
واستمر الارتباط بين الدراسات العربية الإسلامية وبين الحكومات الغربية حتى يومنا هذا بالرغم من أنه قد يوجد عدد محدد جداً من الباحثين الغربيين دفعهم حب العلم لدراسة الشرق أو العالم الإسلامي. ومن الأدلة على هذا الارتباط أن تأسيس مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن قد أُسّسَت بناء على اقتراح من أحد النواب في البرلمان البريطاني.([7]) وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية رأت الحكومة البريطانية أن نفوذها في العالم الإسلامي بدأ ينحسر فكان لا بد من الاهتمام بالدراسات العربية الإسلامية فكلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية برئاسة الإيرل سكاربورو Sca r b r ough لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية. ووضعت اللجنة تقريرها حول هذه الدراسات وقدمت فيه مقترحاتها لتطوير هذه الدراسات واستمرارها([8]).
وفي عام 1961 كونت الحكومة البريطانية لجنة أخرى برئاسة السير وليام هايترSi r William Hayte r لدراسة هذا المجال المعرفي ، وقامت اللجنة باستجواب عدد كبير من المتخصصين في هذا المجال ، كما زارت أقسام الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات البريطانية وفي عشر جامعات أمريكية وجامعتين كنديتين . وكانت زيارتها للولايات المتحدة بقصد التعرف على التطورات التي أحدثها الأمريكيون في هذا المجال ، وكان ذلك بتموين من مؤسستي روكفللر و فورد .([9])
ومما يؤكد ارتباط الدراسات العربية الإسلامية بالأهداف السياسية الاستعمارية (رغم انحسار الاستعمار العسكري) أن الحكومة الأمريكية موّلت عدداً من المراكز للدراسات العربية الإسلامية في العديد من الجامعات الأمريكية ، وما زالت تمول بعضها إما تمويلاً كاملاً أو تمويلاً جزئياً وفقا لمدى ارتباط الدراسة بأهداف الحكومة الأمريكية وسياستها.([10])
كما يستضيف الكونجرس وبخاصة لجنة الشؤون الخارجية أساتذة الجامعات والباحثين المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية لتقديم نتائج بحوثهم وإلقاء محاضرات على أعضاء اللجنة ، كما ينشر الكونجرس هذه المحاضرات والاستجوابات نشراً محدوداً لفائدة رجال السياسة الأمريكيين.([11])
الهدف الثقافي
من أبرز أهداف الاستشراق نشر الثقافة الغربية انطلاقاً من النظرة الاستعلائية التي ينظر بها إلى الشعوب الأخرى . ومن أبرز المجالات الثقافية نشر اللغات الأوروبية ومحاربة اللغة العربية. وصبغ البلاد العربية والإسلامية بالطابع الثقافي الغربي. وقد نشط الاستشراق في هذا المجال أيما نشاط. فأسس المعاهد العلمية والتنصيرية في أنحاء العالم الإسلامي وسعى إلى نشر ثقافته وفكره من خلال هؤلاء التلاميذ. وقد فكّر نابليون في ذلك حينما طلب من خليفته على مصر أن يبعث إليه بخمسمائة من المشايخ ورؤساء القبائل ليعيشوا فترة من الزمن في فرنسا "يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة (الفرنسية) ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولمّا يعودون إلى مصر، يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم" ([12]) ولم يتم لنابليون ذلك ولكن لمّا جاء محمد علي أرسل بعثة من أبناء مصر النابهين يقودهم رفاعة رفعت الطهطاوي، وقد قال محمود شاكر إن هؤلاء " يكونون أشد استجابة على اعتياد لغة فرنسا وتقاليدها فإذا عادوا إلى مصر كانوا حزباً لفرنسا وعلى مر الأيام يكبرون ويتولون المناصب صغيرها وكبيرها، ويكون أثرهم أشد تأثيراً في بناء جماهير كثيرة تبث الأفكار التي يتلقونها في صميم شعب دار الإسلام في مصر.." ([13])
وقد حرص الغرب على الغزو الثقافي من خلال التغريب الفكري بعدة طرق ذكرها السيد محمد الشاهد فيما يأتي:
1- التعليم من حيث المنهج ومن حيث المادة العلمية …
2- وفي مجال الإعلام تُسْتَغل كل وسائل الإعلام المتاحة وخاصة أفلام السينما والتلفاز تأثير غير مباشر."([14])
وظهر الهدف الثقافي من خلال الدعوة إلى العامية وإلى محاربة الفصحى والحداثة في الأدب والفكر حيث نادى البعض بتحطيم السائد والموروث وتفجير اللغة وغير ذلك من الدعوات. وقد بلغ من ثقتهم بأنفسهم في هذا المجال أن كتب أحدهم يتوقع أن لا يمر وقت طويل حتى تستبدل مصر باللغة العربية اللغة الفرنسية كما فعلت دول شمال أفريقيا.([15])
- الحواشي :
[1] - آصف حسين." المسار الفكري للاستشراق " ترجمة مازن مطبقاني ، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . العدد السابع ربيع الثاني 1413، ص 566-592.
[2] -No r man Daniel. Islam and The West: The Making of An Image. r evised edition (Oxfo r d: Onewo r ld,1993)
[3] - المرجع نفسه ، صفحة 9 ( المقدمة)
[4] -ريتشارد سوذرن . صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى. ترجمة وتقديم رضوان السيد.( بيروت: معهد الإنماء العربي، 1984)
[5] - المرجع نفسه ص 36.
[6] -رودي بارت ، مرجع سابق.ص 15.
[7] -غراب ، مرجع سابق. ص48
[8] صلى الله عليه وسلمepo r t of The Inte r depa r tmental Commission of Inqui r y of O r iental , Slavonic , Eu r opean and Af r ican Studies (London, 1947)
[9] صلى الله عليه وسلمepo r t of the Sub-Committee on O r iental, Slavonic, East Eu r opean and Af r ican Studies (London,1961)(25/72)
[10] - Mo r oe Be r ge صلى الله عليه وسلم " Middle Easte r n And No r th Af r ican Studies : Development and Needs." In Middle East Studies Association Bulletin, Vol.1. No.2, Novembe r 15,1967.
وانظر الدراسات العربية الإسلامية في جامعات أمريكيا الشمالية ، إعداد اللجنة المنبثقة عن مؤتمر الشباب المسلم المنعقد في طرابلس عام 1973وتم تحديثها عام 1975 ونشرت في مدينة سيدر رابدزCeda r Rapids بولاية أيوا الأمريكية ، وقام بترجمتها مازن مطبقاني ، وراجع الترجمة الدكتور علي النملة ( تحت الطبع)
[11] -من الأمثلة على ذلك محاضر جلسات الكونجرس في صيف عام 1985 الذي بلغت صفحاتها اثنتين وأربعين وأربعمائة صفحة. وقد قام الدكتور أحمد خضر إبراهيم بترجمة أجزاء منها ونشرها في مجلة المجتمع الكويتية قبيل احتلال العراق الكويت.
[12] - محمود شاكر ، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.(جدة: دار المدني، 1407هـ، 1987م)ص108.
[13] -المرجع نفسه ،ص 141.
[14] -السيد محمد الشاهد. رحلة الفكر الإسلامي : من التأثر إلى التأزم. (بيروت: دار المنتخب العرب، 1414هـ/1994م)ص 181.
[15] -Saleh J. Altoma. " The r eception of Najib Mahfouz in Ame r ican Publication." In Compe r atine and Gene r al Lite r atu r e .( Bloomington: Indiana Unive r sity P r ess. 1993) p160-179 quoting Geo r ge Young .Egypt. London: E. Benn, 1927. P284-85.
==================(25/73)
(25/74)
مناهج الاستشراق >
مناهج المستشرقين
من الصعب أن نجمع المستشرقين كلهم في بوتقة واحدة ونزعم أن منهجهم كان واحداً في كل الأزمان والأوقات وفي كل الموضوعات التي تناولوها، ولكن تسهيلاً لهذا الأمر فيمكن إجمال هذه المناهج التي يشترك فيها عدد كبير من المستشرقين قديماً وحديثاً في تناول العلوم الإسلامية عموماً.
1- محاولة رد معطيات الدين الإسلامي إلى أصول يهودية ونصرانية
وهذا الأمر يتمثل في كثير من الكتابات حول الوحي وحول القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ويقول في ذلك عماد الدين خليل نقلاً عن جواد علي "إن معظم المستشرقين النصارى هم من طبقة رجال الدين أو من الخريجين من كليات اللاهوت، وهم عندما يتطرقون إلى الموضوعات الحساسة من الإسلام يحاولون جهد إمكانهم ردها إلى أصل نصراني..."([1]) وقد ذكر طيباوي في دراسة أن عدداً من المستشرقين الناطقين باللغة الإنجليزية يعتقدون بذلك ومنهم على سبيل المثال مونتجمري وات وبرنارد لويس وغيرهم.([2]) وانظر أيضاً البحث الذي كتبه التهامي نقرة بعنوان 'القرآن والمستشرقون'([3])
2- التشكيك في صحة الحديث النبوي الشريف
دأب المستشرقون عموماً على التشكيك في صحة الحديث النبوي الشريف من خلال الزعم بأن "الحديث لم يدون وقد نقل شفاهاً مما يستوجب في نظرهم عدم صحة الأحاديث"([4]) والأمر الثاني في نظرهم كثرة الوضع في الحديث، والأمر الثالث اتهام المستشرقين للفقهاء بوضع الأحاديث وتلفيقها "لترويج آرائهم واختلاق الأدلة التي تسند تلك الآراء.."([5])
3- البحث على الضعيف والشاذ من الروايات:
يقول جواد علي "لقد أخذ المستشرقون بالخبر الضعيف في بعض الأحيان وحكموا بموجبه، واستعانوا بالشاذ ولو كان متأخراً، أو كان من النوع الذي استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا ذلك لأن هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشك".([6])
وهذا الأمر مشهور إلى حد كبير فهم يذهبون إلى الكتب التي تجمع الأحاديث وبخاصة مثل كنز العمال وغيرها من الكتب التي لا يرد فيها تصحيح أو تخريج للأحاديث، وقد كتب باحث بريطاني عن فتح المسلمين قسطنطينية بأنه وردت أحاديث عن أن الذي سيفتحها سيكون اسمه اسم نبي ثم لما لم تفتح ادعى أن الأحاديث لا تصح لأن تكون مصدراً، أما أنه لم يعرف صحة الحديث من عدمه فأمر لا يهمه وهو الذي يدعي العلمية والنزاهة.
4-الاهتمام بالفرق والأقليات وأخبار الصراعات والبحث عن الوثنيات والتاريخ السابق لبعثة الرسو صلى الله عليه وسلم .
كثرت كتابات المستشرقين عن الفرق كالشيعة والإسماعيلية والزنج وغيرهم من الفرق التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وأعطوها من المكانة والاهتمام أكثر مما تستحق، بل إن هناك من كتب عن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلق عليهم لقب المعارضة لإعطاء ما قاموا به من عداوة لله ولرسوله شرعية. وحصل بعضهم على درجة الدكتوراه في بحوث حول هذه الفرق.
5- الخضوع للهوى والبعد عن التجرد العلمي:
يقول الدكتور عبد العظيم الديب "فالمستشرق يبدأ بحثه وأمامه غاية حددها، ونتيجة وصل إليها مقدماً، ثم يحاول أن يثبتها بعد ذلك، ومن هناك يكون دأبه واستقصاؤه الذي يأخذ بأبصار بعضهم..."([7]).
6- التفسير بالإسقاط
يشرح الدكتور الديب هذا الخطأ المنهجي بأنه "إسقاط الواقع المعاصر المعاش، على الوقائع التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ فيفسرونها في ضوء خبراتهم ومشاعرهم الخاصة وما يعرفونه من واقع حياتهم ومجتمعاتهم"([8]) فمثلاً واقع الغربيين يدل على تنازعهم على السلطة وإن كان الأمر يبدو في الحاضر انتخابات وحرية اختيار ولكن الحقيقة أن من يملك المال يستطيع أن يصل إلى الأصوات حتى صدر في أمريكا كتاباً بعنوان 'بيع الرئيس' وكتاباً آخر عن 'صناعة الرئيس' فجاء المستشرقون إلى بيعة الصديق رضي الله عنه فصوروها على أنها اغتصاب للسلطة أو تآمر بين ثلاثة من كبار الصحابة هم والله أنقى البشر بعد الأنبياء والرسل وهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين فزعموا أن هؤلاء الثلاثة تآمروا على أن يتولوا الخلافة الواحد تلو الآخر.
وذكرت كذلك أنهم سموا المنافقين بالمعارضة وغير ذلك من الإسقاطات التي تدل على سوء طوية وخبث وبعد عن المنهج العلمي.([9])
7- المنهج الانتقائي وإثارة الشكوك في معطيات السنة والتاريخ
عرف عن كثير من المستشرقين في كتاباتهم حول السيرة النبوية الشريفة وحول التاريخ الإسلامي أنهم ينتقون بعض الأحداث والقضايا ويكتبون عنها ويهملون غيرها كما أنهم يشككون في أمور من المسلمات لدينا في التاريخ الإسلامي فمن ذلك أنهم كما قال د. محمد فتحي عثمان "لقد غالوا في كتاباتهم في السيرة النبوية وأجهدوا أنفسهم في إثارة الشكوك وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول صلى الله عليه وسلم ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجوده..."([10])
8- التحريف والتزييف والادعاء(25/75)
قام بعض المستشرقين بتحريف كثير من الحقائق التي تخص الإسلام ورسالته وتاريخه فمن ذلك مثلاً أن بعضهم أنكر عالمية الإسلام وبخاصة فيما يتعلق برسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء خارج جزيرة العرب كرسائله إلى هرقل والمقوقس وكسرى ، وإنكار عالمية الرسالة الإسلامية يظهر فيما كتبه جوستاف لوبون في كتابه 'تاريخ العرب' حيث زعم أن الرسو صلى الله عليه وسلم رأى أنه كان لليهود أنبياء وكذلك للنصارى فأراد أن يكون للعرب كتاب ونبي، وكأن الرسالة والنبوة أمر يقرره الإنسان بنفسه.
أما التزييف فأنقل ما أورده الدكتور الديب عن رواية عن أموال الزبير بن العوام رضي الله عنه فقد أورد ديورانت هذا الخبر "وكان للزبير بيوت في عدة مدن، وكان يمتلك ألف جواد وعشرة آلاف عبد..." والخبر كما أوردته المصادر الإسلامية الموثقة هو كالآتي "كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه خراجهم كل يوم، فما يُدخل إلى بيته منها درهماً واحداً، يتصدق بذلك جميعه" وفي مناقشة الخبر أوضح الديب أن المستشرق أضاف ألف جواد أقحمها في الخبر وليس لها أساس ثم إن في الخبر أن الزبير رضي الله عنه يتصدق بكل دخلهم لا يدخل بيته منها شيء فلم يورده فهل هذا من الأمانة العلمية ؟([11])
9- اعتماد مصادر غير موثوقة لدى المسلمين
من العيوب المنهجية في الدراسات الاستشراقية أنهم يعمدون إلى المصادر غير الموثقة عند المسلمين فيجعلونها هي المصدر الأساس لدراساتهم وبحوثهم ومن ذلك أنهم يرجعون إلى كتاب مثل كتاب 'الأغاني' للأصفهاني فيجعلونه مرجعاً أساسياً في دراساتهم للتاريخ الإسلامي وللمجتمع الإسلامي، كما يعمدون إلى المراجع التي ضعفها العلماء المسلمون أو طعنوا في أمانة أصحابها فيجعلونها أساساً لبحوثهم أو كان أصحاب تلك المراجع منحازين إلى فئة معينة أو متعصبين.
- الحواشي :
[1] - عماد الدين خليل. دراسات تاريخية ص159
[2] -عبد اللطيف طيباوي. المستشرقون الناطقون باللغة الإنجليزية . ترجمة قاسم السامرائي. ص 10-13.
3-مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، ج1 ، ص 21-57.
[4] - عبد القهار دواد العاني، الاستشراق والدراسات الإسلامية عمّان:دار الفرقان، 1421هـ ص 121
[5] -المرجع نفسه ص 122.
[6] -جواد علي، تاريخ العرب في الإسلام، ص 8
[7] -عبد العظيم الديب. المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي قطر :كتاب الأمة، عدد 27 ص 71
[8] - المرجع نفسه ص 99-100
[9] - عماد الدين خليل، مرجع سابق ص 167
[10] - محمد فتحي عثمان، أضواء على التاريخ الإسلامي ص 69
[11]- الديب ، مرجع سابق ص 115-116.
=================(25/76)
(25/77)
أساليب الاستشراق >
أساليب المستشرقين
حرص المستشرقون على استخدام أفضل الأساليب التي تحقق أهدافهم ويمكننا أن نلخصها فيما يأتي:
v الدأب والإخلاص والعمل الجاد
من أبرز ما يلاحظه المرء في دراسة نشاطات المستشرقين أنهم يتميزون بالدأب والإصرار والعمل الجاد المخلص، ويتمثل هذا الأمر في مختلف نشاطاتهم كالتأليف وعقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والرحلة في طلب العلم.
v حب الاستطلاع والرغبة القوية في المعرفة
سعى المستشرقون من خلال ما تمتعوا به من هذه الخصال إلى معرفة ما لدى الشعوب الأخرى من مصادر علمية كالمخطوطات والآثار وتعرفوا إلى بلادنا في أدق تفاصيل حياتنا.
v الإنفاق السخي على البحث العلمي من قبل الحكومات الغربية وكذلك المؤسسات الخاصة 'الخيرية' حيث إن المستشرق لا يعاني من قلة الإمكانات في البحث العلمي فهو يجد المراجع وتوفر له الإمكانات للقيام بالرحلات العلمية، كما يتم توفير الفرص للباحثين لنشر إنتاجهم ومكافأتهم عليه بعكس ما يحدث في العالم العربي والإسلامي من التقتير في مجال البحث العلمي وهو ما ميّز هذه الأمة حين كانت الدولة الإسلامية صاحبة السيادة في العالم.
v التعاون فيما بينهم، يتمثل هذا التعاون في عدة أمور أولها استعانة بعضهم ببعض في مجال التدريس وإلقاء المحاضرات فنظام الأساتذة الزائرين من أبرز ما توفره الجامعات الغربية لتوفير الخبرات والمعرفة لطلابها وأساتذتها، كما أن التعاون يتمثل في المؤتمرات والندوات والمحاضرات العامة، ومن صور التعاون بينهم ما يتم في مجال النشر فكم أوروبي نشر في أمريكا وكم أمريكي استطاع نشر مؤلفاته في أوروبا، كما يتمثل التعاون في المنح الدراسية المتبادلة بينهم، ومن أوجه التعاون كذلك المنح التي تقدمها المؤسسات 'الخيرية' مثل فورد وكارينجي وروكوفللر، وكونراد إديناور الألمانية وغيرها لمختلف الجامعات الغربية أينما كانت.
v المرونة والتسامح فيما بينهم.
v المرونة والتسامح مع من يخالفهم الرأي إن وجدوا ذلك في مصلحتهم على المدى القصير أو البعيد.
v الخداع والكذب، في بعض الأحيان إذا احتاج المستشرق إلى استخدام مثل هذه الأساليب لتحقيق أهدافه فهو لا يتورع عن ذلك وبخاصة إذا كان في مقام المستشار لبعض المسؤولين العرب والمسلمين ،وكذلك في حالة الإشراف على الطلبة العرب والمسلمين في الجامعات الأوروبية والأمريكية
====================(25/78)
(25/79)
آثار الاستشراق >
أثر الاستشراق في العالم الإسلامي
قدّم الاستشراق خدمات كبيرة للغرب النصراني في خدمة أهدافه التي قام من أجلها من أهداف دينية وسياسية واقتصادية واستعمارية وثقافية. وحتى عندما استغنى الغرب عن مصطلح الاستشراق وأنشأ أقسام دراسات الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى أو مراكز البحوث المختلفة فما زالت الأهداف القديمة موجودة، ولكنه في الوقت نفسه أثّر تأثيرات سلبية في العالم الإسلامي في المجالات العقدية، والتشريعية، والسياسية، والاقتصادية والثقافية.
وفيما يأتي أبرز هذه الآثار:
الآثار العقدية
من أبرز الآثار العقدية للاستشراق في العالم الإسلامي ظهور تيار من المفكرين والعلماء والسياسيين وحتى الناس العاديين أو العامة الذين نادوا بفصل الدين عن الحياة أو ما يطلق عليه العلمانية. فالعقيدة الإسلامية تربط كل مجالات الحياة بالإيمان بالله عز وجل وبالتصور العام الذي جاء به الإسلام للخالق سبحانه وتعالى والكون والإنسان. فلمّا كانت أوروبا قد وجدت الديانة النصرانية المحرفة تعيق تقدمها ونهضتها ظهر فيها التيار الذي أطلق عليه التنوير منادياً بفصل الدين عن الحياة أو قصر الدين على الشعائر التعبدية والعلاقة بين الله والإنسان. أما شؤون الحياة الأخرى من سياسة واقتصاد واجتماع فلا علاقة للدين به. ونظراً لأن أوروبا لم تعرف النصرانية الحقيقية أو الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام بما أحدثه بولس وغيره فيها من تحريفات فإن ما ينطبق على أوروبا لا يمكن أن ينطبق على الإسلام.
ونهضت أوروبا نهضتها بمحاربة الدين والكنيسة، وبلغت الذروة في هذه الحرب في الثورة الفرنسية. وقد أثر الاستشراق في هذا المجال عن طريق البعثات العلمية التي انطلقت من العالم الإسلامي إلى فرنسا كما يقول الشيخ محمد الصبّاغ "إنّ إفساد الطلبة المبعوثين لم يكن ليتحقق في بلد من البلاد الأوروبية كما كان يمكن أن يتحقق في فرنسا التي خرجت من الثورة الفرنسية وهي تسبح في بحور من الفوضى الخلقية والفكرية والاجتماعية …من أجل ذلك كانت فرنسا محل البعثات"([1]). فانطلقت هذه البعثات من تركيا ومن مصر ومن إيران ومن المغرب. وكانت هذه البعثات تحت إشراف مستشرقين فرنسيين، فمثلاً كانت البعثة المصرية تحت إشراف جونار، ويقول أحد المستشرقين عن البعثات الأولى أنها كانت لدراسة الهندسة والفنون الحربية، ولكن المعلمين الفرنسيين كانوا حريصين على أن ينقلوا إلى الطلاب المسلمين الآداب الفرنسية والثقافة الفرنسية([2]).
ومن تأثير الاستشراق في المجال العقدي الاهتمام المبالغ فيه بالصوفية وبخاصة تلك التي ابتعدت عن الكتاب والسنّة فتجدهم يجعلون لابن عربي مكانة خاصة في النشاطات الاستشراقية، ويجذبون أبناء المسلمين لمثل هذه الاهتمامات، كما أن من اهتمامات الاستشراق التي تدعو إلى الريبة اهتمامهم بالفرق المنحرفة كالرافضة والإسماعيلية وغيرها من الفرق، فيعطونها من وقتهم ومن دراساتهم ما تجعل الغريب عن الإسلام يظن أن هذا هو الإسلام.
وقد حرص الاستشراق والتنصير على إنشاء المدارس والجامعات الغربية في العالم الإسلامي، فمن ذلك الكلية الإنجيلية التي تحولت إلى الجامعة الأمريكية التي لها فروع في كل من القاهرة وبيروت واسطنبول ودبي، بالإضافة إلى كلية فيكتوريا (مدرسة ثانوية) والكلية الأمريكية في بيروت (مدرسة ثانوية) وقد زعم كرومر C r ome r في احتفال بمدرسة فيكتوريا بأن الهدف من هذه المدرسة وشبيهاتها تنشئة أجيال من أبناء المسلمين يكونون جسراً بين الثقافة الغربية ومواطنيهم المسلمين، ولعلها عبارة ملطّفة لتكوين جيل ممسوخ لا يعرف ثقافته ولا عقيدته.([3]) وقد وصف الشيخ سعيد الزاهري التلاميذ الجزائريين الذين درسوا في المدارس الفرنسية في الجزائر، وأطلق عليها خداعاً المدارس العربية، بأنهم لا يصلون ولا يصومون ولا يتحدثون اللغة العربية فيما بينهم، ولا يؤمنون بأن القرآن الكريم وحي من الله …"([4]).
الآثار الاجتماعية
تعد الآثار الاجتماعية من أخطر الآثار التي ما زال الاستشراق حريصاً على تحقيقها في العالم الإسلامي، فقد اهتم المستشرقون بدراسة المجتمعات الإسلامية ومعرفتها معرفة وثيقة حتى يمكنهم أن يؤثروا فيها بنجاح. وإن دوافعهم لهذا تنطلق من النظرة الاستعلائية الغربية بأن المجتمعات الغربية وما ساد فيها من فلسفات ونظريات هي المجتمعات الأرقى في العالم. وقد تمكن الاستعمار بالتعاون مع الاستشراق في إحداث تغيرات اجتماعية كبيرة في البلاد التي وقعت تحت الاحتلال الغربي. ففي الجزائر مثلاً حطم الاستعمار الملكيات الجماعية أو المشاعة للأرض وذلك لتمزيق شمل القبائل التي كانت تعيش في جو من الانسجام والوئام.([5])(25/80)
وقد تعاون الاستشراق والاستعمار على إحداث النزاعات بين أبناء البلاد الإسلامية بتشجيع النزعات الانفصالية، كما حدث في المغرب العربي أيضاً بتقسيم الشعب المغربي إلى عرب وبربر، والتركيز على فرنسة البربر وتعليمهم اللغة الفرنسية ونشر الحملات التنصيرية في ديارهم. وقد أنشأت الحكومة الفرنسية الأكاديمية البربرية في فرنسا لتشجيع هذه النزعة.
ومن الجوانب الاجتماعية التي عمل فيها الاستشراق على التأثير في المجتمعات الإسلامية البنية الاجتماعية وبناء الأسرة والعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمعات الإسلامية. فقد اهتم الاستشراق بتشويه مكانة المرأة في الإسلام، ونشر المزاعم عن اضطهاد الإسلام للمرأة وشجع الدعوات إلى التحرير المزعوم للمرأة التي ظهرت في كتابات قاسم أمين والطاهر الحداد ونوال السعداوي وهدى الشعراوي وغيرهم.
ويرى الدكتور محمد خليفة أن موقف الاستشراق من المرأة المسلمة نابع من وقوعه "تحت تأثير وضع المرأة الغربية أنها نموذج يجب أن يحتذى به، وان ما حققته من مساواة وحقوق، في نظرهم، يجب أن يتسع ليشمل المرأة المسلمة والمرأة الشرقية العامة. …ويضيف خليفة بأن الاستشراق يسعى "إلى تقويض وضع المرأة المسلمة داخل الأسرة على التمرد على النظام والخروج باسم الحرية وتصوير وضع المرأة المسلمة تصويراً مزيفاً لا يعكس الحقيقة".([6])
وقد أنشئت رابطة دراسات المرأة في الشرق الأوسط ضمن تنظيم رابطة دراسات الشرق الأوسط الأمريكية وهي التي تهتم بأوضاع المرأة المسلمة وتشجع اتجاهات التغريب من خلال مجلتها ربع السنوية واجتماعاتها في إطار المؤتمر السنوي لرابطة دراسات الشرق الأوسط وذلك بدعوة الباحثات المسلمات اللاتي يتبنين الأفكار الغربية من أمثال نوال السعداوي، وفاطمة المرنيسي وحنان الشيخ وغيرهن، ومن خلال تنظيم الندوات حول وضع المرأة المسلمة في المجتمعات الإسلامية.
ويقوم الاستشراق الإعلامي بدور بارز في الترويج للفكر الغربي في مجال المرأة ومن ذلك الصحافة الغربية والإذاعات الموجهة، فمن الكتب التي قدمت هيئة الإذاعة البريطانية عروضاً لها كتاب (ثمن الشرف) للكاتبة البريطانية الأصل جان جودون Jan Goodwin التي تناولت فيه دراسة أوضاع المرأة في خمس دول إسلامية هي الباكستان وأفغانستان والكويت ومصر والمملكة العربية السعودية. وقد خلطت الكاتبة فيه بين موقف الإسلام من المرأة وبعض التطبيقات الخاطئة في هذه الدول، ومن المعروف أن الإسلام حَكَمٌ على أهله وليس سلوك المسلمين حجة على الإسلام.
وقد قدمت إذاعة لندن في شهر جمادى الأولى تقريراً عن ندوة تعقد في إحدى الدول العربية حول موضوع المرأة وقدمت تصريحاً لمسؤول في تلك الدولة يزعم فيه أن بلاده وتركيا هما الدولتان الوحيدتان اللتان أصدرتا قوانين تحرّم تعدد الزوجات وتعطي المرأة كثيراً من الحقوق لمساواتها بالرجل، وإن التوازن في عرض وجهات النظر يقتضي أن تقدم الإذاعة من يتناول وجهة النظر الأخرى لمثل هذه التصريحات. وكانت الإذاعة قد قدمت تقريراً عن مؤتمر عقد في قطر للمرأة المسلمة وعرضت أخبار هذه الندوة بكثير من السخرية ومن ذلك وصفها لانتقال النساء في حافلات ذات ستائر غامقة اللون حتى لا يراهن أحد، بالإضافة إلى عبارات أخرى مليئة بالاستهزاء من موقف الإسلام من المرأة.
الآثار السياسية والاقتصادية
يزعم الغربيون أن الديموقراطية الغربية هي أفضل نظام توصل إليه البشر حتى الآن، ولذلك فهم يسعون إلى أن يسود هذا النظام العالم أجمع، ومن بين الدول التي يريدون لنظامهم أن يسودها البلاد الإسلامية، وقد سعوا إلى هذا من خلال عدة سبل وأبرزها هو انتقاد النظام السياسي الإسلامي. وقد ظهرت كتب كثيرة عن نظام الخلافة الإسلامي وافتروا على الخلفاء الراشدين بزعمهم أن وصول الصديق وعمر بن الخطاب t إلى الخلافة كان نتيجة لمؤامرة بين الاثنين([7]). وكتب مستشرقون آخرون زاعمين أن النظام السياسي الإسلامي نظام قائم على الاستبداد وفرض الخضوع والمذلة على الشعوب الإسلامية([8]). بل بالغ لويس في جعل النظام السياسي الإسلامي يشبه النظام الشيوعي في استبداده وطغيانه([9]).
وقد تأثرت بعض الدول العربية التي خضعت للاستعمار الغربي بالفكر السياسي الغربي بأن قامت باستيراد النظام البرلماني دون أن يتم إعداد الشعوب العربية لمثل هذه الأنظمة فكانت كما قال أحد المستشرقين بأن العرب استوردوا برلمانات معلبّة دون ورقة التعليمات([10]). وما زالت هذه البرلمانات في البلاد العربية يتحكم فيها الحزب الحاكم الذي لا بد أن يفوز بأغلبية المقاعد بأية طريقة كانت. ومع ذلك فما زال الغرب حريص على نشر الديموقراطية وقد كانت تصريحات الساسة الغربيين بأن (حرب الخليج الثانية) ستكون مناسبة لفرض الديموقراطية في العالم العربي وستكون البداية في الكويت([11]).(25/81)
ومن الحقائق المثيرة للانتباه أن تركيا كانت من أقدم الدول الإسلامية تغرباً وتطبيقاً للنظام الديموقراطي ولكن عندما وصل الإسلاميون للحكم وانقلب السحر على الساحر -كما يقال- قلبت الدول الغربية لنظامهم الديموقراطي ظهر المجن وسعوا إلى تأييد العسكر في كبت الحريات ومصادرة الديموقراطية.
أما في المجال الاقتصادي فإن الغرب سعى إلى نشر الفكر الاقتصادي الغربي الاشتراكي والرأسمالي وذلك بمحاربة النظام الاقتصادي الإسلامي وكما يقول محمد خليفة "إنّ المستشرقين في سعيهم للترويج للفكر الاقتصادي الغربي قاموا ب 'إعادة تفسير التاريخ الاقتصادي الإسلامي من وجهة نظر الرأسمالية والشيوعية' كنوع من التأصيل للنظريتين وتقديمهما على أنهما لا يمثلان خروجاً عن النظام الاقتصادي الإسلامي".([12])
وكان من نتائج الترويج للاشتراكية والرأسمالية في العالم الإسلامي أن انقسم العالم الإسلامي على نفسه فأصبح قسم منه يدور في الفلك الشيوعي والقسم الآخر في الفلك الرأسمالي، ولعل من طرائف المواقف الاستشراقية أن تسعى الدول الغربية إلى بث النظام الاشتراكي في بعض الدول العربية كما أشار أحد الباحثين بتدريس الاقتصاد الاشتراكي والترويج بأن التنمية الحقيقية في العالم العربي تتطلب تأميم وسائل الإنتاج، وأن الحرية الاقتصادية الغربية لا تناسب مراحل التنمية الأولى([13]).
وكان من تأثير الاستشراق أيضاً تشجيع الصناعة في البلاد الإسلامية دون الاستعداد الكافي لها، وإهمال قطاع الزراعة فقد اقتنع العالم العربي بأن النهضة الحقيقية إنما تكون في الصناعة، ولذلك أهملت الزراعة إهمالاً شبه كلي، مع أن نهضة الغرب الصناعية بدأت بالاهتمام بالزراعة وما زال الغرب يسيطر على إنتاج الحبوب والمواد الغذائية الأساسية في العالم.
الآثار الثقافية والفكرية
حقق الاستشراق نجاحاً كبيراً في التأثير في الحياة الثقافية والفكرية في العالم الإسلامي فبعد أن كان القرآن الكريم والسنّة المطهرة وتراث علماء الأمة الذين فهموا هذين المصدرين فهماً جيداً وعاش المسلمون على هدي من هذه المصادر في جميع مجالات الحياة أصبحت المصادر الغربية تدخل في التكوين الفكري والثقافي لهذه الأمة سواء أكان في نظرتها لكتاب ربها سبحانه وتعالى ولسنة نبيها أو للفقه أو للعلوم الشرعية الأخرى.أو في منهجية فهم هذه المصادر ومنهجية التعامل معها كما أثر الفكر الغربي في المجالات الفكرية الأخرى كالتاريخ أو علم الاجتماع أو علم النفس أو علم الإنسان أو غيره من العلوم.
وقد استطاع الاستشراق تحقيق هذا النجاح بما توفر له من السيطرة على منابر الرأي في العالم الإسلامي فقد أنشأ الغرب العديد من المدارس كما أن العديد من أبناء الأمة الإسلامية تلقوا تعليمهم على أيدي المستشرقين في الجامعات الغربية (الأوروبية والأمريكية). ولمّا كانت بعض البلاد العربية والإسلامية خاضعة للاحتلال الأجنبي فقد مكّن لهؤلاء الذين تعلموا في مدارسه. فما زالت الصلة قوية فيما بين الطلبة الذين تخرجوا في كلية فيكتوريا بعد أن تسلم كثير منهم مناصب حساّسة في بلادهم.
ومن المنابر التي استطاع الغرب أن ينشر من خلالها الثقافة والفكر الغربيين وسائل الإعلام المختلفة من صحافة وإذاعة وتلفاز ونشر بأشكاله المتعددة. فقد أنشئت الصحف والمجلات التي تولى رئاسة تحريرها أو عملية الكتابة فيها كثير من الذين تشبعوا بالثقافة الغربية. وقد بذلوا جهوداً كبيرة للرفع من شأن تلاميذهم فهذا يطلق عليه 'عميد الأدب العربي' وآخر يطلق عليه 'أستاذ الجيل' وثالث يطلق عليه 'الزعيم الوطني'([14]) ومن هذه الصحف الأهرام ومجلات المقتطف وغيرهما من الصحف والمجلات. كما أنشؤوا المسارح والسينما، وأدخلوا إلى حياة الشعوب العربية الإسلامية فنون اللهو غير المباح من مراقص وغناء وغير ذلك.
وكان للاستشراق دوره في مجال الأدب شعراً ونثراً وقصة، فقد استغلت هذه الوسائل في نشر الفكر الغربي العلماني وبخاصة عن طريق ما سمي 'الحداثة' التي تدعو إلى تحطيم السائد والموروث، وتفجير اللغة وتجاوز المقدس ونقد النصوص المقدسة. وقد استولى هؤلاء على العديد من المنابر العامة ولم يتيحوا لأحد سواهم أن يقدم وجهة نظر تخالفهم و إلاّ نعتوه بالتخلف والرجعية والتقليدية وغير ذلك من النعوت الجاهزة.
وقد انتشرت في البلاد العربية الإسلامية المذاهب الفكرية الغربية في جميع مجالات الحياة في السياسة والاقتصاد، وفي الأدب وفي الاجتماع، ففي السياسة ظهر من ينادي بالديموقراطية ويحارب الإسلام وفي الاقتصاد ظهر من تبنى الفكر الشيوعي والاشتراكي وفي الأدب ظهر من نادى بالنظريات الغربية في دراسة اللغة وفي الأدب وفي النقد الأدبي؟ وأخذ كثيرون بالنظريات الغربية في علم الاجتماع وفي التاريخ وفي علم النفس وفي علم الإنسان وغير ذلك من العلوم.[15]
- الحواشي :
[1] -محمد الصباغ . الابتعاث ومخاطره. ( دمشق: المكتب الإسلامي ،1398هـ-1978م، ص 29-30.
[2] -Be r na r d Lewis. " The Middle East Ve r sus The West." In Encounte صلى الله عليه وسلم Vol. Xxi, no.4 Octobe r 1963.pp. 21-29.(25/82)
[3] - محمد محمد حسين . الإسلام والحضارة الغربية. ط5.(بيروت: مؤسسة الرسالة 1402-1982)ص 46.
[4] -محمد السعيد الزاهري. الإسلام في حاجة إلى دعاية وتبشير. (الجزائر:دار الكتب الجزائرية، بدون تاريخ)ص108
[5] -مازن مطبقاني . " الحياة الاجتماعية في المغرب العربي بين الاستعمار والاستشراق." في المنهل( جدة) عدد471، م 50 رمضان /شوال 1409، ص 352-362.
[6] -محمد خليفة حسن. آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية . (القاهرة: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 1997) ص 64.
[7] -Thomas A r nold. The Caliphate. (Laho r e: 1966)p.25
[8] -Be r na r d Lewis." On The Quietist and Activist T r adition in Islamic Political W r iting. In Bulletin of S. O. A. S Vol. XLIX Pa r t 1, 1986.p.141.
[9] - B. Lewis." Communism and Islam. " in Inte r national Affai r s. Vol. 30, 1954.pp 1-12.
[10] -برنارد لويس . الغرب والشرق الأوسط. ترجمة نبيل صبحي.(القاهرة : المختار) ص79.
[11] - Washington Times, Feb r ua r y 2,1991.And Washington Post. Feb r ua r y 19,1991.
[12] -حسن ،مرجع سابق ص 79.
[13] - محمد قطب. واقعنا المعاصر. (جدة:مؤسسة المدينة المنورة للنشر والتوزيع، 1407هـ/1987م ) ص.324وما بعدها.
[14] - ناقش الأستاذ محمد قطب في كتابه واقعنا المعاصر مسألة صناعة الزعيم حيث يتحول الكفاح ضد المستعمر الأجنبي قضية وطنية وتراب وتحرر وليس جهاداً إسلامياً كما أراده الله .وقد نجحوا في صناعة الزعيم في العديد من البلاد العربية الإسلامية. كم أسهموا فيما أطلق عليه سرقة الثورات .
[15] -حسن ،مرجع سابق ، الفصل الخامس بعنوان ( الآثار السلبية للفكر الاستشراقي في المجال الثقافي والفكري)ص 87إلى 100.
=================(25/83)
(25/84)
الظاهرة الاستشراقية([1])
المقدمة
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
أصدر الدكتور ساسي سالم الحاج عام 1990م كتاباً من مجلدين وأربعة أجزاء كتاباً بعنوان (الظاهرة الاستشراقية)([2]) وقد ضمنه الحديث عن الاستشراق في مختلف مجالات العلوم الإسلامية. وقد ناقش الحاج مسألة هل الاستشراق ظاهرة أو علم وأكد بأنه من الصعب أن نعد الاستشراق علماً ذلك أن كل علم له أصوله وقواعده ومناهجه بينما نجد أن الاستشراق اهتم بالعلوم الإسلامية المختلفة ابتداءً بالعلوم القرآنية من تفسير وتجويد وقراءات، وعلوم الفقه، وعلوم الحديث، وعلوم اللغة العربية، والعلوم الاجتماعية التي تتعلق بالعالم الإسلامي وبالمسلمين. ومع ذلك فإنه من الممكن أن يستخدم المستشرق المنهج العلمي في طرحه القضايا التي تتعلق بالعلوم الإسلامية وفقاً للعلم الذي يبحثه.([3]) ومع ذلك فمن الممكن أن نقول بأن الظاهرة مسألة لها بداية ونهاية فهل ظاهرة الاستشراق هذه طالت كثيراً جداً.
وإن كنت شخصياً لا أميل إلى التوسع في الجدال حول هل الاستشراق ظاهرة أو علم ذلك أن الذي يهمنا نحن المسلمين أن نعرف ونوقن تماماً أن الغرب يدرسنا في جميع المجالات حتى توصل إلى معرفة التفاصيل وتفاصيل التفاصيل أو كما قال الدكتور أبو بكر باقادر الجزئيات، وجزئيات الجزئيات.([4]) لذلك علينا أن نعمل ونعمل على أن نعرف أنفسنا أولاً ونمثل أنفسنا أمام نفسنا أولاً ثم ننتقل إلى تمثيل أنفسنا أمام الآخرين.([5]) وإن كان هذا الترتيب الذي رآه الدكتور العمري ليس ضرورياً فيمكننا أن نقوم بأكثر من عملية في وقت واحد؛ فيمكن لبعضنا ممن عرف اللغات الأوروبية أن يقوم بعملية عرض الإسلام القضايا الإسلامية أمام الآخرين سواءً كانوا في الشرق أو في الغرب شريطة أن يتميز عرضه بالفهم الجيد للإسلام أن يكون مقتنعاً بقضيته لا أن يكون من العلمانيين أو المتغربين مثل أولئك الذين تستضيفهم بعض الجامعات الأمريكية أو الأوروبية لتدريس الإسلام، فكيف لماركسي أو علماني أو متغرب أن يعرض الإسلام رضاً منصفاً. فنحن مأمورون أن نبلغ هذا الدين للعالم أجمع عملاً بقوله تعالى )قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن ابتعن(([6]) وقول صلى الله عليه وسلم (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلغها إلى من لم يسمعها فربّ مبلغ أوعى من سامع) وقوله تعالى )ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة) ([7])وقوله تعالى)قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا باناّ مسلمون(([8])
وأضيف هنا أننا يجب أن ننتقل من مجرد دارسين لما قاله الغرب عنّا إلى أن نعرف هذا الغرب وما دوافعه وما أهدافه وأن نعرف المبادئ والفلسفات التي تحكم حياة الغرب، كما علينا أيضاً أن نواصل دراسة الغرب لنعرفه تماماً كما يعرفنا. ولكن على الذين يتصدون لدراسة الغرب أن يتسلحوا أولا بمعرفة الإسلام حتى يكون في أيديهم الميزان والمعيار الذي يحكمون به على هذه المعرفة. فقد يتولى هذه الدراسات من لا يملك الرؤية الإسلامية فبدلاً من أن ندرس الغرب دراسة نفيد منها ونفيد الغرب نتحول إلى مرددين لما يقوله الغرب عن نفسه بل يصيب بعضنا الانبهار بالغرب فيمدح ما لا يستحق المدح ويذم ما يستحق المدح.
ومما يؤكد هذا أن البعثات السعودية إلى أمريكا في أواخر الستينيات من القرن الماضي عانت أمرين أولهما الصدمة الحضارية والاجتماعية والفكرية، وثانيهما لم تجد المرشد والدليل ليقودها إلى الحقيقة فيما رأت وعاشت. ولا بأس أن أذكر مثالاً شخصياً فقد قرأت رواية (زوربا اليوناني) للروائي اليوناني المشهور كازانتزاكي في أثناء دراستي الجامعية في أمريكا وكنت لم أتجاوز العشرين بكثير فأعجبت بشخصية زوربا الرجل العجوز الذي لا يأبه بسنِّه، ويستمتع بملذات الحياة حلالها وحرامها بينما كان الراوي شاباً في الثلاثينيات من عمره يلتزم بالأخلاق وبالقيم. فكان في نظر كاتب الرواية -وهو الانطباع الذي يتأثر به القارئ وبخاصة إذا لم يكن لديه معرفة بالإسلام- جامداً بليداً.
وفي الوقت الذي ظهرت فيه ترجمة كتاب زوربا اليوناني ظهرت كتابات الروائي والشاعر الألماني اليهودي الأصل هرمن هسه He r man Hesse وكانت من أكثر القراءات شيوعاً لدى الشباب في الجامعات الأمريكية. ولا بد أن انتشارها كان متوافقاً مع ظهور موجة الهبييز والتمرد على قيم المجتمع والفضيلة أو ما سمّيَ ب (الثورة الجنسية). حيث كانت هذه الروايات تروج للانحلال والتمرد على القيم والأخلاق واغتنام الفرصة(!) لاقتناص لذائذ الحياة .
ولما شاء الله أن أعود إلى المملكة وأقوم بدراسة الإسلام من جديد عرفت أن زوربا اليوناني رجل فاجر لا يأبه بالأخلاق الفاضلة، وكل ما يهمه في الحياة عبادة هواه. وهو الذي قال الله فيه {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم}([9])وكذلك كان الحال مع هرمن هسه وغيره من الكتاب.(25/85)
ونبدأ الحديث عن الظاهرة الاستشراقية بتحديد مظاهرها وميزاتها:
أولاً : أنها أطول ظاهرة فكرية.
فقد بدأت هذه الظاهرة لدى اليونان فهم أول من اهتم بدراسة الشعوب الشرقية حيث وجهوا علماءهم لدراسة البلاد المجاورة فقد كانت البعثات اليونانية تأتي إلى البلاد الشرقية (مصر والعراق والشام وغيرها) ذات الحضارة العريقة للتعلم منها لبناء الحضارة اليونانية. وقد اقتبس اليونان من حضارة الشرقيين وبخاصة في النواحي العملية وفي الأخلاق والسلوك.
ومنذ انطلاقة اليونان هذه والغرب ظل منطلقاً، ولكن الذي اختلف هو الهدف. فقد بدأ اليونان بهدف علمي معرفي سرعان ما تغير إلى هدف استعماري ثقافي حيث الحملات التي شنها اسكندر المقدوني في مطلع القرن الرابع قبل الميلاد على بلاد الشرق الأدنى(التسمية غربية) القديم (العراق والشام وحوض البحر المتوسط) حتى وصل إلى أطراف الهند. وأما السبب أن تأخرت الحملات الاستعمارية هو أن اليونان كان في الفترة الماضية في مرحلة بناء حضارته ولذلك كان حريصاً على التعرف على حضارات الأمم الأخرى فلما استوعبها وبنى حضارته التي ازدهرت في القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد بظهور علمائه وفلاسفته المشهورين، بدأ في حملاته الاستعمارية. وقد كان الشرق عموماً وثنياً عدا التوحيد الذي ظهر في بني إسرائيل في فلسطين.
ويرى الدكتور خليفة - وفقاً للمذكرة- أن دول الشرق رحّبت بهذا الغزو الثقافي فانتشرت المراكز الثقافية في الشام ومصر وشمال أفريقيا وجزر البحر المتوسط. ولا بد أن أضيف أن النزعة الاستعمارية والاستعلائية وفرض اللغة اليونانية والثقافة اليونانية كان هو السائد حتى عرف بما يسمى ب (الأغرقة) أي طبع البلاد المحتلة بالطابع اليوناني. وقد أخذ الفرنسيون هذا المسلك عندما احتلوا البلاد العربية الإسلامية وأطلقوا على ذلك الفرنسة. حتى أصبحت اللغة الفرنسية هي اللغة القومية في عدد من مستعمراتها السابقات رغم أن الغالبية في هذه الدول لا تعرف الفرنسية. ولكن إصرار فرنسا على ذلك إنما هو من أجل الهيمنة وفرض النظم والقيم والثقافة الفرنسية لا سيما أن النخب الحاكمة هي التي تتكلم اللغة الفرنسية.([10])
وكان من مظاهر الاحتلال اليوناني تأسيس مدن يونانية جديدة منها "مدينة الإسكندرية" التي أصبحت أكبر مركز ثقافي يوناني في التاريخ القديم. وقد نجحت الثقافة اليونانية في الانتشار في الشرق للأسباب الآتية:
1- ضعف الثقافة الوثنية السائدة شرقا، وعدم قدرتها على موجهة الثقافة اليونانية. (ولكن هل كانت الثقافة اليونانية إلاّ ثقافة وثنية أيضاً؟)
2- عقلانية الثقافة اليونانية في مقابل أسطورة الثقافة الشرقية آنذاك ومصدر هذه العقلانية الفلسفة المعتمدة على العقل والتي جعلت الفكر اليوناني فكراً عقلياً تحليلياً نقدياً سقطت أمامه الثقافة الوثنية بقاعدتها الخرافية.
3- حيازة اليونان للعلوم الحديثة التي لم يعرفها الشرق إلاّ في شكل عملي بسيط مرتبط بالدين، لأن المعرفة الشرقية طورت أصلاً لخدمة الوثنية.
إذن يعود الاستشراق بنوعيه العلمي والسياسي والفكري إلى اليونان باعتباره بلداً غربياً اتجه إلى الشرق للحصول على المعرفة، وبعد أن وضع القاعدة العلمية اليونانية -على العلوم الشرقية- انطلق إلى الشرق غازياً عسكرياً وفكرياً في أيام الإسكندر الذي جمع بين الهدف الاستعماري والهدف الثقافي الفكري، وفرض الثقافة اليونانية على الشرق القديم.
ويستمر هذا الغزو الثقافي اليوناني بعد انحسار اليونان كقوة عسكرية، وزوال هذه القوة على يد الإمبراطورية الرومانية. فقد تأثرت اليهودية والنصرانية بالفكر اليوناني-كانت اليهودية واليونانية ديانتين شرقيتين- وانقسم اليهود أولاً إلى فريق مرحب بالثقافة اليونانية وفضلها على اليهودية ذاتها، وفريق رافض للثقافة اليونانية واعتبرها مهددة للديانة اليهودية. وفريق ثالث رأى في الفكر اليوناني منهجاً عقلياً يمكن الإفادة منه في فهم اليهودية وتفسيرها.
وقد تأثرت اليهودية بالفلسفة اليونانية التي استخدمت لتفسير الوحي التوراتي، ودخلت في اليهودية عناصر من الفكر اليوناني أدت إلى دخول اليهودية في مرحلة من تاريخها تسمّى (اليهودية اليونانية)، ومن أشهر علماء اليهود في هذا الاتجاه هو الفيلسوف اليهودي "فيلوت" من القرن الأول الميلادي الذي أخضع اليهودية وكتابها للعقل اليوناني وسمح بالتأثيرات اليونانية على الفكر اليهودي.
أما النصرانية فهي أيضاً ديانة شرقية خضعت للفكر اليوناني ووجدت في الفلسفة أسلوباً للتفسير، وأدخلت على الألوهية -في النصرانية- أفكاراً فلسفية أدت إلى اختلاط الفكر الديني بالفكر الفلسفي مما أدى إلى تعقيد الديانة وزيادة غموضها، وعدم صلاحيتها للإنسان ذو الثقافة المتوسطة فضلاً عن اختلاف ذوي الثقافة العالية بسبب اختلاط مذاهبهم الفلسفية في تفسير النصرانية.(25/86)
وقد ازدادت النصرانية تعقيداً بأخذها عن الفلسفة من جهة وعن اليهودية من جهة أخرى وعن التصوف من جهة ثالثة. وأيضاً لمحاولتها التكيف مع وثنية العالم القديم. فأصبحت ديانة مركبة من عناصر يهودية يونانية وثنية صوفية (قبل الإسلام)
وبعد الإسلام اهتم العالم النصراني -الذي فتحه الإسلام- بدراسة الإسلام كظاهرة دينية سياسية لأن الإسلام ظهر كدين قوي مهدد لبقائهم، كما ظهر كقوة سياسية عسكرية فبدأوا في دراستهم سواء من داخل العالم الإسلامي أو من خارجه.
ثانياً: تنوع الاستشراق:
المقصود بالتنوع أن الاستشراق بصفته ظاهرة فكرية لا يقوم على أساس من التوجه الفكري الواحد، ولكن تتنوع التوجهات الفكرية للاستشراق، ويمكن تصنيف هذه التوجهات كما يأتي:
1- التوجه الديني، فالاستشراق ظاهرة فكرية دينية طورها المستشرقون اليهود والنصارى للتعبير عن وجهة نظر دينية يهودية أو نصرانية تجاه الإسلام.
فالمدرسة اليهودية والنصرانية في الاستشراق مدرسة دينية هدفها الدفاع عن اليهودية والنصرانية ضد الإسلام، والرد على النقد الإسلامي لهما، وهذا هدف ديني دفاعي بمعنى أن الذي يوجه المستشرق هنا هو الدين يهودياً كان أم نصرانياً.
ثم انتقلت المدرسة اليهودية والنصرانية فيما بعد من الدفاع عن ديانتهما إلى الهجوم على الإسلام ونقده من منطلق ديني خالص. وتعتبر هاتان المدرستان من أهم مدارس الاستشراق وتمثلان الاستشراق الديني فيما يتعلق بالنظر إلى الإسلام.
وهناك اهتمامات استشراقية بالديانات الأخرى-غير الإسلام- فالاستشراق مهتم بدراسة أديان الشرق عامة، ولكن يلاحظ أن الدراسات الاستشراقية التي تتناول الديانات الأخرى كالهندوسية والبوذية وغيرهما تخلو تقريباً من مسألة الهجوم والتحدي والصراع الذي يدفع المستشرق في دراسته للإسلام. بل نجد أحياناً بعض التعاطف مع ديانات الشرق الأقصى لغرابتها من ناحية ولعدم وجود صراع مباشر بينها وبين اليهودية والنصرانية ولغياب البعد الخاص بالتحدي، ولعدم وجود خطورة من هذه الديانات على اليهودية والنصرانية مقارنة بخطورة الإسلام عليهما.([11])
2- التوجه المذهبي أو الفكري: فبالإضافة إلى الاستشراق الديني الممثل في استشراق اليهود والنصارى يوجد استشراق مذهبي فكري ينطلق من مذهب معين أو أيديولوجية معينة ويدخل تحت هذا التصنيف المدرسة الشيوعية في الاستشراق، ولها نقطة انطلاق مختلفة -تماماً- عن المدرستين السابقتين.
فالأيديولوجية الشيوعية تمثل مذهباً رافضاً للدين ومعادياً له، ولا تعترف بالأديان سماوية كانت أم أرضية. ولا يوجد ما يسمى ب"الدين" فمن أبرز شعارات الشيوعية "لا إله والحياة مادة. وهذه نقطة انطلاق مغايرة عن نقطة انطلاق اليهودية أو النصرانية المعترفة بالدين- وإن صرحت بالعداء لبعض الأديان مثل الإسلام، ولكن ليس من منطلق رفض الدين أصلاً، ولكن من منطلق الخطورة التي يمثلها الإسلام عندهم والوازع التنصيري الذي يرغب في تنصير المسلمين.
وتقوم رؤية المدرسة الشيوعية في الاستشراق على أساس مادي بحت يعتبر العوامل الاقتصادية المحرك الأساس في حياة الإنسان، ولا يعترف بأية عوامل أخرى. وتتهم الشيوعية الأديان بأنها مستغلة للشعوب ومؤدية إلى سيادة المذاهب الاقتصادية المدمرة للحياة البشرية مثل الرأسمالية، والاعتراف بنظام الملكية الخاصة. وهو من وجهة نظرها نوع من الإقطاع الذي ينتج عنه تركيز الثروة في طبقة بعينها وحرمان بقية الطبقات.
وقد فسرت الأديان من هذا المنطلق وعملت الشيوعية على فرض رؤيتها المادية الاقتصادية على شعوبها أولاً والشعوب الخاضعة لها ثانياً وكانت ترغب في تحويل العالم كله إلى الشيوعية. وانعكست هذه الأيديولوجية على مدرسة الاستشراق الشيوعي، وأصبحت هي الوسيلة الدعائية لتوصيل الأفكار الشيوعية إلى الشعوب الأخرى. وتخصص عدد كبير من مستشرقي هذه المدرسة في الإسلام والشعوب الإسلامية كمجتمعات. وخرجت هذه المدرسة بتصور شيوعي للإسلام يري في الإسلام قوة مادية ظهرت لأسباب اقتصادي تخص مجتمع شبه الجزيرة وفسرت الفتوحات تفسيراً مادياً اقتصادياً بحتاً.
وصوٍّر الإسلام في صورة تتفق مع الاشتراكية وسمي بمسميات تعبر عن هذا الاتفاق مثل "الإسلام الاشتراكي" و"الإسلام الثوري" و"الإسلام اليساري" أو "اليسار الإسلامي" إلخ من المصطلحات الشائعة في المدرسة.(25/87)
والعجيب أن سقوط الشيوعية فضح فشل الأيديولوجية الشيوعية في جميع أنحاء العالم ماعدا شراذم في العالم العربي الإسلامي ما تزال متمسكة بهذا الفكر. وإن كان هؤلاء الشيوعيون السابقون أسرعوا في الانضمام إلى صفوف العلمانيين في تحذير الدول من انتشار الصحوة الإسلامية واتخذوها عدواً بعد أن كان عداؤهم موجهاً في السابق إلى الرأسمالية والإمبريالية والاستعمار وكانوا يربطون الإسلام مع الاستعمار. ومع ذلك فإن بعض هؤلاء ما زالوا يتمسكون بمصطلحات الشيوعية رغم سقوطها. ومن هؤلاء على سبيل المثال الدكتور عبد العظيم رمضان (من مصر) الذي يزعم أنه تقدمي. ومن تونس وجدت رفعت المحجوبي من أولئك الشيوعيين المتمسكين بأذيال الشيوعية رغم سقوطها. ومن الطريف أن الجامعات الغربية بدأت تخطب ود هؤلاء الشيوعيين السابقين وتفتح لهم الأبواب للمحاضرة وحضور الندوات والمؤتمرات في الغرب.
ومن المدارس الاستشراقية الأخرى القائمة على أساس فكري: المدرسة العلمانية في الاستشراق وهي مدرسة تخلط بين الاتجاه الإلحادي العلماني غير الديني في دراسة الأديان عامة والإسلام خاصة. والأساس في هذه المدرسة في شطرها الإلحادي إنكار الدين المبني أساساً على إنكار الألوهية، وهي قريبة من توجه المدرسة الشيوعية، إذ تشتبهان في رفض الدين وإنكار الألوهية ويختلفان في استقلال الإلحاد العلماني عن الفكرة الشيوعية.
أما المدرسة العلمانية فترى ضرورة الفصل بين الدين والدنيا، وبناء الحياة الإنسانية على أساس دنيوي خالص غير مرتبط بالدين، ولذلك طالبوا بفصل الدين عن الدولة ونجحوا في الغرب حيث انتهى الصراع بين البابوية والإمبراطورية إلى فصل السلطتين الديني والزمني عن بعضهما وسارت الحياة الأوروبية منذ عصر النهضة على أساس من هذا الفصل.
والمقصود بالمدرسة العلمانية في الاستشراق هذا الفريق من المستشرقين الذي رفض اليهودية والنصرانية وآمن بالفصل بين الدين والدولة واعتبر العقل ومنجزاته هي الأساس من المنطلق نفسه خاصة وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تمكن من ربط الدنيا بالدين ربطاً عضوياً ورفض الفصل بينهما وطور نظماً للحكم والسياسية والاجتماع والاقتصاد تعكس هذا الربط العضوي بين الدين والدنيا.
3- توجه عربي إسلامي متأثر بالاستشراق: بالإضافة إلى التوجه الديني الذي يمثله الاستشراق اليهودي والنصراني، والتوجه المذهبي المتمثل في المدرسة الشيوعية والتوجه الفكري المتمثل في المدرسة العلمانية، تطور التوجه الاستشراقي وتبناه عدد من العلماء المسلمين الذين تأثروا بالاستشراق وطبقوا مناهجه على دراساتهم للإسلام والمجتمع الإسلامي. وهو - في الحقيقة- توجه متنوع داخلياً فأتباعه ينتمون إلى عدة اتجاهات؛ فمنهم مسلمون منبهرون بالاستشراق وحضارة الغرب عامة ويعتبرون منهج الاستشراق هو المنهج المناسب في دراسة الإسلام ومجتمعاته وانبهارهم موزع بين الأخذ بمناهج المستشرقين دون توجهاتهم أو الأخذ بالمناهج والتوجهات معاً.
ومن بين الذين تأثروا بالاستشراق مجموعة علماء انتموا إما إلى المدرسة الشيوعية- محمود أمين عالم، ورفعت السعيد، وعبد العظيم رمضان في مصر ومحمود إسماعيل (مصر) ورفعت المحجوبي، وعبد القادر الزغل(تونس) - حينما انتشرت الشيوعية في بعض البلاد العربية الإسلامية، وبدأوا يطبقون المناهج الشيوعية والعلمانية في دراسة الإسلام ومجتمعاته.
وهناك فئة أخرى عربية وليست إسلامية -وفئة غير عربية عاشت في البلاد العربية وامتزجت بها أو أقليات في بلاد غير عربية مثل إيران. هؤلاء يكونون عدداً من العلماء المنتمين إلى العالم الإسلامي ولكنهم ليسوا مسلمين (يهود ونصارى)
وهؤلاء توجههم غربي-رغم حياتهم في المجتمع الإسلامي- وهم يعادون الإسلام، ولذلك يحتلون مكاناً وسطاً بين المستشرقين في الغرب والمسلمين المتأثرين بالاستشراق. ويمكن أن نضم إليهم هؤلاء اليهود والنصارى من العلماء الذين هاجروا إلى أوروبا وأمريكا واشتغلوا بالدارسات الإسلامية في جامعاتها ومؤسساتها التعليمية. ومن الأمثلة على هؤلاء فيليب حتّي وفؤاد عجمي، وصادق جلال العظم، وعبد القادر الزغل، ومحمد سعيد العشماوي، ونوال السعداوي، ونصر حامد أبو زيد، وسلمان رشدي، وعزيز العظمة، وبسام الطيبي وغيرهم كثير.(25/88)
وأضيف أن هذا التوجه وتطبيقاته هي الأخطر في العالم العربي الإسلامي في العصر الحاضر، ذلك أن الاستعمار حينما رحل عن البلاد العربية الإسلامية حرص على أن يترك الأمور في أيدي هؤلاء من أتباعه. كما أنه حاول بعد رحيله أن يكون لهم تأثير في السيطرة السياسية والفكرية والثقافية في العالم العربي الإسلامي. ومن مظاهر قوة نفوذهم في العالم الإسلامي أنهم يهيمنون على كثير من منابر الإعلام والتوجيه والرأي. كما أنهم يعقدون الندوات والمؤتمرات الخاصة بهم التي من الصعب أن يقتحمها أحد غيرهم. ومن الأمثلة على هؤلاء مؤسسة التميمي بتونس([12]) ومؤسسة الأهرام بمصر، ومؤسسة ابن خلدون الإنمائية التي أسسها سعد الدين إبراهيم الأستاذ بالجامعة الأمريكية في القاهرة.([13]) وهذه المؤسسات تتلقى دعماً سخياً من المؤسسات الغربية مثل مؤسسة فورد (الأمريكية) ومؤسسة اديناور كونراد (الألمانية) وغيرها من المؤسسات.
ومن مظاهر سطوة هذا التوجه الاستشراقي أن معظم الدول العربية الإسلامية جعلت الشريعة الإسلامية أحد المصادر الرئيسة في تشريعاتها وليس المصدر الرئيس. وقد صرحت عدة دول إسلامية بأنها علمانية ومن هذه الدول تركيا وإندونيسيا وتونس. والعجيب أنها علمانية تختلف عن علمانية الغرب؛ فالعلمانية في الغرب تفصل بين الدين والدنيا ولكن علمانية من تعلمن من المسلمين هي محاربة الدين الإسلامي بل وصل الأمر ببعضهم إلى المناداة بتجفيف منابع التدين. مع أنه في العلمانية الغربية يعد الدين مسألة شخصية لا يضار أحد بسبب تدينه. بل يشهد الغرب في السنوات الأخيرة دعوات جادة وقوية للعودة إلى الدين حتى إن التجمع البروتستانتي في الولايات المتحدة الأمريكية يعد من أقوى التجمعات السياسية هناك.
ومن الأمثلة المؤلمة في العصر الحاضر أنه بعد أن سقطت الشيوعية تنادى الشيوعيون السابقون إلى التمسك بالعلمانية والعقل وظهر مثل هذا في محاربة الحركات الإسلامية أو الدعوات الإسلامية التي تدعو أبناء الأمة الإسلامية العودة إلى الهوية الإسلامية ونبذ الانحرافات العقدية والسلوكية والاستقلال عن التشبه بالغرب والذوبان في الثقافات الأخرى. ويعد نموذج تركيا والجزائر ومصر من الأمثلة التي تواصل العلمانية فيها محاربة الاتجاه الإسلامي بشتى الوسائل ويتنادى المستشرقون بتأييد هذه الاتجاهات العلمانية فيهتمون بهؤلاء من أبناء العالم الإسلامي. فالجامعات الغربية والندوات والمؤتمرات الغربية مفتوحة لهؤلاء وكذلك الصحف ووسائل الإعلام الغربية. فمن المحاضرين الذين يترددون إلى الجامعات الغربية صادق جلال العظم -الذي يعلن بصراحة إلحاده - ومحمد سعيد العشماوي، ونصر حامد أبو زيد، ونوال السعداوي، وعزيز العظمة، ورفعت حسن (الباكستان) وفضل الرحمن (باكستان) وفؤاد عجمي ومسعود ضاهر (لبنان)
ثالثاُ: شمولية الظاهرة الاستشراقية
المقصود بالشمولية احتواء الظاهرة كظاهرة فكرية لكل مجالات المعرفة الشرقية، فهي ظاهرة علمية تحتوي الشرق عامة وليس الشرق الإسلامي فقط، فدراساتها تغطى الهند والصين واليابان وغيرها فضلاً عن تغطيتها للعالم الإسلامي. فهي إذن تحتوي معرفياً الشرق كله.
ومن مظاهر الشمولية أيضاً تغطيتها لكل مجالات المعرفية الإنسانية المرتبطة بالشرق. فهي تغطي المجالات الدينية والسياسية والتاريخية والاقتصادية والجغرافية والاجتماعية والأخلاقية والأدبي والعلمية والفنية للشرق وغيرها. ولم يُبْق الاستشراق شيئاً شرقياً إلا درسه.
وفي زيارة لي لعدد من أقسام الدراسات الشرق الأوسطية أو معاهد الدراسات الشرق أوسطية أو مراكز البحوث أو المعاهد في الجامعات الأمريكية في صيف عام 1416(1995) وجدت أن العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) يدرس في جامعة كاليفورنيا بفرعها في مدينة بيركلي من خلال ثمانية عشر قسماً يقوم بالتنسيق بينها مركز دراسات الشرق الأوسط وأذكر فيما يأتي بعض الأقسام التي تدرس العالم الإسلامي: علم الإنسان (الأنثروبولوجي)، والاقتصاد، والسياسة، ودراسات المرأة في الشرق الأوسط، والزراعة، والتعدين، والجيولوجيا، والعمارة، والأدب والتاريخ، ومقارنة الأديان ...ويمكن أن أضيف إلى ذلك الفولوكلور واللهجات العامية أو اللغات العامية، والغناء والرقص والطعام والشراب حتى الخرافات والأساطير وغيرها مما يمكن أن يوجد في العالم الإسلامي فإنه يُدْرس في الجامعات الغربية. وقد استحدثت جامعة نيويورك دراسة الصحافة والشرق الأوسط فيتخصص الباحث الغربي في الصحافة ويطبق ذلك على العالم العربي الإسلامي. وبعض هذه التخصصات قد استحدثت من أجل إيجاد وظائف للمتخرجين فيها؛ فهم قوم عمليون. ولا بد أن أضيف أن هذه الأقسام تعتمد في الحصول على مادتها العلمية ومصادرها التي يمكن أن يصعب على الغربيين الحصول عليها فإنهم يحصلون عليها من أبناء المسلمين الذين ذهبوا للدراسة في هذه الجامعات للحصول على الدرجات العلمية وبخاصة الدراسات العليا.
رابعاً: تعدد أهداف الظاهرة الاستشراقية(25/89)
تتصف الظاهرة الاستشراقية بأنها متعددة الأهداف، ولذلك يصنف الاستشراق وفقاً لأهدافه الموضوعة له. فهناك استشراق علمي هدفه تحصيل المعرفة العلمية عن الشرق بعامة والعالم الإسلامي بخاصة، من أجل العلم ذاته وبدون الخضوع لأية أهداف أخرى غير علمية، وكثيراً ما يكون الدافع للمعرفة الاستشراقية دافعاً ذاتياً معبراً عن رغبة شخصية لدى الدارس يتجه على أساسها إلى التخصص في بلد شرقي دينياً وحضارياً وفكرياً. فلا يخضع المستشرق هنا تحت تأثير أية حكومة أو مؤسسة، ويمثل هؤلاء عادة قله بين المستشرقين ومعظمهم في الوقت نفسه يتصف بحب الموضوع الشرقي الذي يدرسه والتعاطف مع الحضارات الشرقية، وبالتالي الاتصاف بالموضوعية العلمية في دراساته. ولكننا يجب أن ندرك أن هؤلاء يُستغلّون من قبل حكوماتهم بأن نتائج دراساتهم وبحوثهم تصل إلى دوائر صناعة القرار السياسي ويستفاد منها. كما أن دول الغرب تستفيد أيضاً من الدراسات التي يقوم بها العرب والمسلمون. فمكتبة الكونجرس مثلاً لديها مندوب في دول العالم العربي الإسلامي، كما أن لديها مندوبين إقليميين. فالقاهرة لديهم هي المركز الإقليمي بالنسبة للعالم العربي. وهم يتابعون كل ما يصدر عندنا في جميع التخصصات. فيحصل هذا المندوب على ثلاثة نسخ من كل عمل، ثم بعد دراسة هذه الكتب يمكن أن يطلب عشرة نسخ أو زيادة، وتقوم مكتبة الكونجرس بتبليغ الجامعات بالكتب الجديدة مع تقارير عن هذه الكتب وأهميتها فيمكن لهذه الجامعات أن تطلبها من مندوب الكونجرس الذي قد يطلبها من المؤلف نفسه إن لم يجد الكتاب في الأسواق ومع توفر شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) أصبح الإعلان عن صدور الكتب العربية أسرع.
وهناك استشراق سياسي هدفه خدمة المصالح السياسية لبلده وبخاصة إذا كان بلداً استعمارياً يتبنى محاولة فرض السيادة السياسية على البلد الشرقي من خلال معرفة علمية وافية عن هذا البلد على المستويات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهناك عدد كبير من المستشرقين عملوا في السياسة في خدمة أهداف بلدانهم بل خدم بعضهم في جيوش بلدانهم أو في استخباراتها([14]). وينتمي معظم هؤلاء إلى البلاد الاستعمارية المشهورة مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وهولندا ، وينتمي بعضهم إلى الاتحاد السوفيتي(سابقا) ومن النماذج الحديثة جداً عن هذا التوجه السياسي أن مؤسسة راند (مؤسسة غير ربحية في سانتا مونيكا بكاليفورنيا) قد كلّفت الباحث الأرمني الأصل الأمريكي الجنسية اللبناني المولد والنشأة جوزيف كيششيان للقيام بإعداد بحث عن الأوضاع الأمنية في المملكة العربية السعودية، وقد استضافته القنصلية الأمريكية في جدة، كما استضافته السفارة في الرياض و الظهران ودعت عدداً من أساتذة الجامعات السعوديين وبعض المثقفين للاجتماع مع هذا الباحث ليفيد من آرائهم حول أوضاع بلادهم وما يرونه. وقد زرته في مكتبه بكاليفورنيا فأشار إلى أدراج خلفه وقال بنبرة فيها بعض الكبرياء والافتخار: "إن في هذه الأدراج بحثاً يحمل معلومات سرية عن السعودية." وثمة نموذج ثان وهو الباحث الأرمني ريشارد هرير دكمجيان الذي أعد بحثاً بتمويل من بعض المؤسسات حول الأصولية في العالم العربي، فنشر الكتاب في طبعته الأولى عام 1985م يتضمن الحديث عن اثنتين وتسعين جماعة إسلامية وأعيد طبع الكتاب عام 1996م وتضمن الحديث عن ثمان ومئة جماعة إسلامية. وقد درسها من خلال منشوراتها العلنية والسرية ومن خلال المقابلات مع أعضاء في هذه الجماعات أو من معلومات استخباراتية. ولا شك أن الحكومات الغربية تفيد كثيراً من هذه الدراسات.([15])
وثمة استشراق ديني فهذا الاستشراق يهدف إلى الدفاع الديني عن اليهودية والنصرانية ضد الإسلامية والنقد الموجه لهاتين الديانتين، وقد بدأ هذا الاستشراق دفاعياً في هدفه ثم تحوّل إلى الهجوم على الإسلام من أجل تحريفه وتشويهه وتقديمه في صورة محرفة إلى الغرب وسعياً وراء إبعاد المسلمين عن دينهم من جهة، وتنمية عداوة الغرب للإسلام من جهة أخرى. ويتوزع الاستشراق الديني بين مدرستين كبيرتين: المدرسة اليهودية والمدرسة النصرانية. ولكل مدرسة أهدافها الخاصة ولكنهما يشتركان في هدفين أساسيين هما:
1- الدفاع عن اليهودية والنصرانية ، 2- الهجوم على الإسلام.(25/90)
وقد تطورت المدرسة النصرانية وجمعت بين هذين الهدفين وبين هدف آخر انفردت به عن المدرسة الأخرى وأدى إلى تطور نوع جديد من الاستشراق هو "الاستشراق التنصيري" . فمن المعروف أن النصرانية تدعي العالمية وتسعى إلى الانتشار في كل العالم، فاستغلت المعرفة الاستشراقية من أجل تيسير التنصير ومد المنصِّرين بالمعلومات الضرورية عن المجتمعات المستهدفة بالتنصير، وهي تغطي العالم كلِّه، فظهر فريق من المستشرقين النصارى المهتمين بانتشار النصرانية، واشتغل بالاستشراق من أجل الحصول على المعرفة الخاصة بالمجتمعات الشرقية، كما أن الحركة العلمية التنصيرية لا تتوقف عند معرفة الشرق فقط، ولكنها تدرس كل المجتمعات في الشرق والغرب من أجل تقديم النصرانية إليها. ويصح أن نطلق على هؤلاء النصارى الغربيين العاملين في مجال التنصير في البلاد الإسلامية وغيرها من الشرق اسم المستشرقون المنصرون لأن الهدف من استشراقهم هدف ديني تنصيري. وقد ارتبط الاستشراق التنصيري بالتعليم فقد أسست المؤسسات الكنسية المعاهد والجامعات في العالم العربي الإسلامي ومن هذه المؤسسات التي ما تزال قائمة حتى الآن الجامعة الأمريكية في القاهرة وفي بيروت وفي استنبول وفي دبي، بالإضافة إلى المعاهد الأخرى. وقد أسهمت هذه الجامعات في تخريج أعداد من الطلاب العرب المسلمين الذين تسنموا مناصب مهمة في بلادهم.
ونظراً لأن الاستشراق له أهداف فكرية يسعى إلى تحقيقها ومن أهمها نشر الفكر والثقافة الغربية في بلاد الشرق، وتحقيق تغريب الشرق وربطه بالحضارة الغربية نشأ استشراق يمكن أن تسميته "الاستشراق الفكري" وهو يخدم - في المقام الأول- الفكر الغربي ويسعى إلى نشر قيم الحضارة الغربية. ولم يقتصر هذا الاستشراق على البحوث الأكاديمية فقد انضم إلى الجامعات وسائل الإعلام المختلفة من صحافة وتلفاز وسينما. وأخيراً جاء البث المباشر الذي تولى كبره بعض المؤسسات العربية الإسلامية وأخذت تروج للثقافة الغربية وفي الغالب تروج لأسوأ ما في هذا الثقافة حيث تحرص على تسطيح الفكر وإشغال الناس بالتفاهات من الأمور. وقد ظهر هذا الاستشراق مع انتشار الاستعمار في الشرق .
وارتبط بالاستشراق السياسي نوع من الاستشراق يسعى إلى الحصول على المعلومات الاقتصادية عن البلاد المستعمَرة والمساعدة في فتح أسواق جيدة للمنتجات الغربية من خلال دراسة السوق الشرقي. فتطور الاهتمام بالموضوعات الاقتصادية ومع انحسار الاستعمار ظهرت وظيفة جديدة تمثل امتداداً لهذا الاهتمام الاقتصادي في الحقبة الاستعمارية وهي وظيفة الخبير الاقتصادي في العصر الحاضر، وهو يعمل لدى الحكومات الغربية وبخاصة في وزارات الخارجية والاقتصاد، ويتخصص الباحث منهم في بلد شرقي ليقدم المعلومات والدراسات اللازمة في الناحية الاقتصادية.
وتوجد هذه الوظيفة لدى الشركات الكبرى الغربية الاقتصادية التي تعتمد على السوق الشرقي، أو تعمل في مجالات اقتصادية مرتبطة ببعض الشعوب الشرقية مثل شركات البترول العالمية، وشركات السيارات، والأجهزة الإلكترونية ...الخ، حيث يتوفر لديها الخبراء الاقتصاديون المتخصصون. ومن الجهات التي تهتم باقتصاد العالم الإسلامي بعض البنوك العالمية مثل البنك السويسري، وبنك لويد وبنك تشيس مانهاتن وغيرها. ومن المعروف أن بنك سويسرا يصدر تقريراً شهرياً عن أوضاع الدول الإسلامية المختلفة ولا يهتم بالاقتصاد وحده بل يقدم معلومات عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية والاقتصادية.
بالإضافة إلى هذه الأنواع من الاستشراق المرتبطة بالأهداف المعروف: علمية وسياسية ودينية و اقتصادية فهناك نوعان من الاستشراق يعبران عن مناحي أدبية وفنية تبلور عنها ما يعرف ب"الاستشراق الأدبي والفني" حيث تخصص بعض المستشرقين في الآداب العربية والإسلامية كما تخصص بعضهم في الفنون الإسلامية، وقد تميزت هذه النوعية من المستشرقين باندماجها الشخصي ورغبتها الذاتية في تثقيف نفسها -أدبياً وفنياً- والرفع من درجة تذوقها للآداب والفنون الغربية من خلال إدخال موضوعات شرقية -أدبية وفنية- في الأدب والفنون الغربية.وقد تجاوز تأثيرهم الجانب الذاتي أو الشخصي إلى التأثير العام في الحركة الأدبية والفنية في الغرب، وكانت النتيجة ظهور أدباء وفنانون غربيون لا يعملون بالاستشراق أصلاً، ولكنهم تأثروا بالموضوع الشرقي من خلال الاستشراق الأدبي والفني فطوروا فناً غربياً يخلط بين الأذواق الشرقية والغربية، أو يستفيد من الموضوع الشرفي في ترقية الفنون الغربية .(25/91)
والحقيقة أن هذا المجال- الأدبي والفني- يعدّ أكبر مجال متأثر بالثقافة الإسلامية الأدبية والفنية، فقد دخلت الموضوعات الإسلامية بدون حساسية في بنية الأعمال الأدبية والفنية، وحدث توجه شامل للحركة الأدبية والفنية إلى الموضوع الشرقي بعامة، والإسلامي بخاصة. والسبب في حدوث هذا التأثير الشرقي على الفكر الغربي هو بعده عن أمور الدين والعقيدة، وكونه موضوعاً فنياً لا يحدث من خلاله تأثير عقدي أو ديني على الإنسان الغربي. وقد أطلق على هذا النوع من الاستشراق بالاستشراق الأدبي أو الفني، وهو مجال مهمل في الدراسات الاستشراقية عند المسلمين الذين انشغلوا بقراءة الأعمال الاستشراقية الدينية والعقدية للدفاع عن الإسلام والرد على الشبهات، ودفع التأثير الاستشراقي في مجال الدين.
أما الاستشراق الأدبي والفني فيمثل تأثيراً مضاداً أو عكسياً فالمؤثر هو الإسلام وموضوعاته بتراثه الفني والأدبي. والأمثلة على ذلك تتضح في التأثير الكبير لقصة " ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة"، والملاحم والسير العربية الإسلامية والشرقية، وعناصر أخرى من التراث الشعبي على الأدب الغربي، وكذلك تأثير الموضوعات والأشكال الفنية الشرقية على الفنون الغربية الذي سيطر على الحركة الفنية في الغرب لفترة من الزمن.([16])
ويمكن أن نضيف اهتمام الغرب بفن العمارة الإسلامي وأنهم بلا شك أفادوا كثيراً من فن العمارة الإسلامي، وما زال هناك اهتمام بالعمارة الإسلامية في الدراسات العربية والإسلامية في الغرب ضمن أقسام الهندسة المعمارية أو أقسام العمارة أو أقسام الفنون الجميلة. وسوف تكون إحدى ندوات مهرجان الجنادرية الذي يقيمه الحرس الوطني لعام 1417 ندوة حول تأثير فن العمارة الإسلامي في العمارة الغربية ويشارك فيها الأمير تشارلز ولي العهد البريطاني.
ولكن لهذا الاستشراق جانب سلبي ربما طغى على ما تقدم من الجوانب الإيجابية وهو أن الاهتمام بألف ليلة وليلة على ما فيها من قصص مجون وفجور ألصقت بالإسلام زوراً وبهتاناً فالإسلام دين العفة والطهر، ويحارب الرذيلة والفسق والفجور. ومن جناية هذه القصص أنها أقحمت اسم الخليفة العظيم هارون الرشيد في هذه القصص، مع أن هذا الخليفة كان من أبعد الناس عن المجون واللهو؛ فقد كان يحج سنة ويغزو سنة، كما كان يصلى كثيراً من النوافل وقد اهتم بالعلم والعلماء.
ويتركز الاهتمام المعاصر بالآداب العربية الإسلامية في الاهتمام بالكتاب والأدباء العرب المسلمين المتأثرين بالفكر الغربي. فها هو نجيب محفوظ ينال جائزة نوبل لأنه ثبت تبنيه للفكر الغربي، كما أنه كتب في بعض رواياته يتجنى على الحركات الإسلامية في مصر وعلى العقيدة الإسلامية. وانظر إلى المؤسسات والمعاهد الأدبية والغربية تهتم بمن يزعم أنه كاتب مثل محمد شكري صاحب كتاب (الخبز الحافي) وغيرهم. ومن الأمور الطريفة التي وجدتها في نشرات مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط بجامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) اهتمامهم بنوال السعداوي وعبد الرحمن منيف ومحمد شكري وفاطمة مرنيسي وغيرهم. ولدى مراجعة نشاطات رابطة دراسات المرأة في الشرق الأوسط التي تتخذ من الولايات المتحدة الأمريكية مقراً لها تهتم بالأدباء والكتاب المتغربين ،وتعلي من شأنهم وتفسح لهم المجال في المنتديات الأدبية في الغرب. ولو كان هذا الاهتمام إيجابياً كما أشار الدكتور خليفة فلماذا لا تتم ترجمة كتابات كتّاب مثل على أحمد باكثير أو محمد صادق الرافعي أو نجيب الكيلاني وغيرهم. فهم لا يهتمون الاهتمام إلاّ بمن كان متأثراً بهم. فقد جاء وفد مؤسسة مالوني وهم مجموعة من أساتذة الجامعات الأمريكية لزيارة المملكة العربية السعودي للتعرف على هذا البلد معرفة أولية فكان ممن اهتم بمقابلته الكاتبة رجاء عالم، ومحمد على قدس (أمين سر نادي جدة الأدبي) وغيرهما. وأتساءل لماذا لم يحرصوا على الالتقاء بأصحاب الاتجاه الإسلامي الرصين المعتدل وهم الغالبية في هذا البلد الطيب؟
خامساً : اتساع دائرة التأثير الاستشراقي.
من خصائص الظاهرة الاستشراقية أنها على الرغم من أنها ظاهرة فكرية غربية ، فقد اتسع مجال تأثرها لكي تصل إلى الشرق والغرب معاً. وعادة ما يظن أن التأثير الاستشراقي محصور في الشعوب الشرقية لكن الحقيقة أن الاستشراق له تأثيره الكبير في الفكر الغربي نفسه، وبهذا ينفرد الاستشراق كظاهرة في مسألة شمولية التأثير وتغطية العالم بأسره.
أما بالنسبة للتأثير الاستشراقي في الغرب فيتضح في الأمور الآتية:
1- إن الاستشراق مسؤول عن نقل المعرفة الإسلامية والشرقية -عامة- إلى الغرب الذي أفاد من هذه المعرفة حيث عكف المستشرقون على ترجمة النصوص الأساسية في الديانات وأيضاً ترجمة النصوص العلمية في العلوم عند المسلمين، وعند أهل الشرق وهي العلوم التي كانت أساساً في النهضة العلمية في الغرب. وهذا يعني أن الاستشراق مسؤول عن نهضة الغرب العلمية وله إسهاماته في تقدم العلم في الغرب من خلال النصوص الشرقية والإسلامية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية قبل عصر النهضة.(25/92)
2- هو أيضاً مسؤول عن تطور المنهج النقدي العقلي في الغرب وبخاصة في مجال الدين ، فقد أفاد المستشرقون وغيرهم من علماء الدين في الغرب من المادة والنصوص الدينية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية ومن أهمها ترجمات معاني القرآن الكريم، والكتابات الإسلامية في تاريخ الأديان، ونقد الكتب المقدسة، وبخاصة اليهودية والنصرانية، وترجمة النصوص الكلامية والفلسفية ولاسيما النصوص ذات الاتجاه العقلاني مثل النصوص الاعتزالية وأعمال الفلاسفة مثل الفارابي، والكندي وابن سينا.
وقد أثر بعض هؤلاء في الفكر الغربي تأثيراً مباشراً مثل ابن رشد الذي أصبحت له مدرسة غربية تسمي " المدرسة الرشدية" وينتمي أتباعها من الفلاسفة الغربيين إلى فلسفة ابن رشد ومنهجه.
3- يمتد تأثير الاستشراق في الغرب إلى صبغ الحركة الأدبية والفنية في الغرب بصبغة شرقية من حيث الموضوع في الأدب والفن ومن حيث الأشكال الفنية والأدبية.
4- أثر الأدب الشعبي الشرقي في الفكر الغربي:وهذا الأدب كان له دور في تطور الفن القصصي والروائي في الغرب، وفي الملاحم، وله تأثيره أيضاً في الحركة السينمائية في القرن الأخير بإدخال موضوعات شرقية في الأعمال الروائية.
5- من تأثير الاستشراق أيضاً ظهور حركة نقد الكتاب المقدس في الغرب منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن على أساس من النقد الإسلامي لكتب اليهود والنصارى ويشار بالذات إلى مدرسة المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن، وهو مستشرق كبير ومؤسس حركة نقد الكتاب المقدس.
سادسا: أنها ظاهرة مُستَغَلّة:
تتصف الظاهرة الاستشراقية في تاريخها الطويل بأنها "ظاهرة مُسْتَغَلَّة" باسم العلم بواسطة قوى دينية وسياسية واقتصادية وفكرية. فالاستشراق في ظاهره علم واسع يغطي مجالات من الحياة الشرقية ولكنه في حقيقة الأمر " علم موجه لخدمة أغراض وأهداف سياسية واقتصادية وفكرية." وقد تمّ استغلاله بواسطة الاستعمار، كما اعتمد الاستشراق أيضاً على الاستعمار في تحقيق ما يمكن تسميته ب "السيادة الاستشراقية" في مجال الفكر في الغرب والشرق" والاستعمار اعتمد على الاستشراق واستغله من أجل الحصول على المعرفة اللازمة عن شعوب الشرق حتى يتمكن من معرفة أوضاعها ويخطط لاستعمارها.
وظل الاستشراق مستغَلاً من قبل الاستعمار، ويظهر ذلك في صورة واضحة في المرحلة الاستعمارية الأخيرة منذ القرن الثامن عشر. حيث انطلقت جيوش الاستعمار بصحبة المستشرقين الذين عملوا أحياناً كضباط وجنود وموظفين في جيوش بلادهم، فأساءوا إلى العلم أو وظفوه لخدمة مصالحهم السياسية.
ووصل الأمر إلى حد قيام بعضهم بأعمال التجسس من خلال جمع المعلومات عن البلاد الشرقية، وتسليمها للمسؤولين لاستخدامها سياسياً وعسكرياً وفي التاريخ المعاصر -بعد انحسار الاستعمار- لا يزال الاستشراق مستغَلاً من جانب الحكومات الأوروبية والأمريكية، حيث خصصت في دوائر الخارجية وظائف " الخبراء السياسيين والدينيين والاقتصاديين" الذين يمدونها بالمعلومات ويشاركون في تخطيط السيطرة السياسية...الخ. ومن المعروف أن عدداً من الجامعات الأمريكية ومراكز البحوث تتلقى دعماً من الحكومة الفدرالية في البرنامج الذي بدأ منذ انتهاء الحرب الثانية (العالمية) فهذه الجامعات لا شك تقدم ما لديها من بحوث وندوات إلى الجهات الرسمية.
وقد قامت وكالة الاستخبارات المركزية قبل سنوات بتمويل عقد ندوة في جامعة هارفرد حول الحركات الإسلامية في العالم العربي بإشراف اليهودي ناداف سفران، فلما انكشف الأمر قبل انعقاد الندوة تم إلغاؤها. ولكن ما مرت سنوات حتى كانت الاستخبارات المركزية الأمريكية تعلن أنها ستعقد ندوة شهرية وإن كانت ستظل مفتوحة حول الحركات الإسلامية (الأصولية) حيث يشارك المتخصصون من الأمريكيين وغيرهم في تقديم معلومات وآراء حول هذه الحركات. وقد نشرت هذه الأخبار صحيفة ( الشرق الأوسط) في صفحتها الأولى([17]).
وكما تم استغلال الاستشراق بواسطة الاستعمار، تم استغلاله -أيضاً- بواسطة الدوائر الدينية في الغرب، فقد استخدمته الكنيسة كعلم يدرس أديان الشرق وبخاصة الإسلام. ويقدم لها المعرفة الدينية اللازمة لمحاربة الأديان الأخرى وتشويهها فضلاً عن استخدام الدوائر التنصيرية له لتيسير مهمتها في البلاد الإسلامية، من خلال دراسة الأوضاع الدينية للشعوب والبحث في أنجح السبل لتقديم النصرانية إليهم. وقد تطور قطاع استشراقي سمي باسم " الاستشراق التنصيري " ويديره عدد كبير من المستشرقين المنصرين.
ومن الجهات التي استغلت الاستشراق واستخدمته لتحقيق مصالحها: الدوائر اليهودية الصهيونية التي استخدمته من أجل الدفاع عن اليهودية ضد الإسلام بالذات، واستخدمته ...من اجل تحقيق هدف قومي وهو إنشاء "الوطن القومي لليهود في فلسطين." والدور الذي قام به هذا الاستشراق يتراوح ما بين "الدور النظري التأصيلي." و"الدور العملي التطبيقي."(25/93)
فمن الناحية النظرية ركزت المدرسة الاستشراقية الصهيونية على عملية "تأصيل الوجود اليهودي في فلسطين على المستوى التاريخي والديني." فصدرت آلاف البحوث المثبتة للحقوق التاريخية لليهود في فلسطين، وتؤكد على الوجود اليهودي المستمر في فلسطين عبر التاريخ، ولا تعترف بالسيادة النصرانية فيها في الفترة من بداية الميلاد حتى ظهور الإسلام، وبالتالي بالسيادة الإسلامية منذ فتحها حتى عام 1948م.
ويتجه هذا الاستشراق إلى تضخيم الوجود اليهودي في فلسطين ومحاولة إثبات " أن اليهود أغلبية فيها." واستخدموا في هذا المجال علمي التاريخ والآثار بتطوير نظريات تاريخية قديمة وحديثة تثبت ذلك، وتنقب عن الآثار المثبتة لذلك، أو تفسر الآثار الموجودة -فعلاً- تفسيراً صهيونياً، يثبت أصالة الوجود اليهودي واستمراريته، وتزيف أحداث التاريخ والآثار لإثبات هدفهم .
وسعى الاستشراق اليهودي على المستوى الديني إلى تأكيد الوجود الديني في فلسطين منذ القدم وحتى الآن، وذلك من خلال الدراسات التي تبرز اليهودية وتجعلها ديانة مستمرة في فلسطين عبر التاريخ وتضعها على المستوى نفسه مع النصرانية والإسلام. بل تظهرها أيضاً في شكل الدين السائد في فلسطين، وأن النصرانية والإسلام لم تكن لهما سيادة دينية بل سياسية.
ويستخدم التاريخ -أيضاً- لتزييف الحقائق الدينية وتأصيل الوجود الديني فيها، وتوظيف علم الآثار لتفسير الأثر الديني الموجود فيها من زاوية تخدم المصالح الصهيونية، والتركيز على أعمال التنقيب، وتطوير النظريات الأثرية التي يقصد منها " تشويه الآثار النصرانية والإسلامية الموجودة في فلسطين." إما باعتبارها منتمية إلى اليهودية أو عن طريق القيام بأعمال تنقيبية تحت وبجوار الأثر النصراني والإسلامي. ومن الأمثلة القريبة على ذلك النفق الذي فتحته دولة اليهود تحت المسجد الأقصى زاعمين أنه نفق قديم لهم وليثبتوا من خلاله حقهم في المنطقة.
ثامناً : ظاهرة فريدة من نوعها وليس لها مقابل في الحضارات الأخرى.
فهي فريدة في تكريس عدد من العلماء لجهودهم العملية في دراسة الشرق ، ولفترة طويلة دون أن تتوقف هذه الظاهرة، وفي الوقت لم تظهر حركة مضادة لها تتولى دراسة الغرب من جانب أهل الشرق.([18])
ويمكن تفسير هذا الأمر من خلال عدة أمور :
1- كان الشرق بالنسبة للغرب مصدراً للحكمة والفكر الديني، وذلك لأن معظم الأديان العالمية الهامة ظهرت في الشرق([19])، كما أن ديانات التوحيد ديانات شرقية (شرق أدنى)، فجمعت منطقة الشرق بين الحكمة العامة والتوحيد والفكر الديني الطبيعي، فلذلك كان الغرب معتمداً على الشرق في فكره الديني، ويلاحظ أن الغرب لم ينتج أدياناً كبرى وإنه في مسألة الأديان تابع للشرق منذ القدم.([20])
وقد عوّض الغرب هذا النقص بالتفوق في مجال الفلسفة، وإن كانت فلسفته هذه متأثرة بالفلسفة الهندية والصينية. فإذاً هناك توجه ديني غربي إلى الشرق دون مقابل معاكس فالشرق هو مصدر الأديان والحكمة.
2- إن الغرب محدود جغرافياً وبالتالي كان الشرق يمثل طموحاته السياسية والاقتصادية، ونحن نتحدث عن الغرب قبل أمريكا واستراليا ، فكان محصوراً في أوروبا، وهي قارة مزدحمة بالدول والقوميات والصراعات، ولذلك كان الشرق يمثل متنفساً للغرب ومحطاً لطموحاته وتوسعاته، فكان موضع طمعهم وغزواتهم. والجيوش الصليبية في العصور الوسطى(الأوروبية) التي سعت إلى فتح أسواق جديدة وتامين أسواق قديمة وحل مشكلات النظام الإقطاعي الغربي الذي ضاق بهم، فاتجهوا إلينا بحثاً عن إقطاعيات جديدة للنبلاء والأمراء. ويضاف إليه الأطماع الاستعمارية الحديثة تجاه الشرق، والتي نتج عنها -في الغرب - اكتشاف العالم الجديد، واستعمار معظم العالم الشرقي.
وهذا الأمر جعل معرفة الشرق مهمة للغرب عبر التاريخ، وأدت إلى الاحتكاك المستمر، وقامت منطقة الشرق الأدنى( الأوسط) بدور الوسيط الحضاري بين الغرب والشرق الأقصى (الهند)، وكان الشرق الأوسط يمثل منطقة وسطى يعبر منها الغرب إلى الشرق.
وفي مقابل هذا الاهتمام الاستعماري الغربي، لم يتوفر لدى أهل الشرق الهدف الاستعماري، وإن ظهر هذا الهدف لدى بعض القوى فعادة ما يقف اتساع الشرق حائلاً دون فرض السيطرة على الشرق بأكمله ثم العبور إلى الغرب، فمثلاً غزوات المغول التي أتت من أقصى الشرق، وقبل أن تكمل غزو الشرق كانت قد تحللت وسقطت.
3-تأثير ما يسمى بعض الكشوف الجغرافية، واكتشاف العالم الجديد على تقوية نزعة الغرب الاستعمارية وحب السيطرة فضلاً عن نمو الرغبة في معرفة الشعوب واكتشافها، وإن هذا الاكتشاف دفع الغرب إلى اكتشاف العالم القديم رغبة في استعماره ومعرفة شعوبه دينياً وحضارياً، وحباً في الرحلة إلى الأماكن المجهولة من العالم ودراسة شعوبها ومثل هذا التوجه لم يتوفر لدى الشرق.([21])(25/94)
ويمكن أن نشير إلى أن الإسلام بانتشاره بين شعوب الشرق أدى إلى تطور حركة هجرة داخلية من البلاد العربية إلى البلاد الآسيوية والإفريقية بهدف نشر الدين في مناطق جديدة، وبعيداً عن النزعة الاستعمارية التي طغت على غزوات الغرب للشرق. وقد تطور عند المسلمين بداية حركة علمية دراسة لشعوب الشرق، خاصة وأن العلم الإسلامي اعتمد منذ البداية على الرحلة في طلب العلم، ولذلك تفوق المسلمون في علوم الجغرافيا والفلك واكتشفوا بلاداً جديدة، ووضعوا جغرافية البلاد الشرقية وعاداتها ودوّنوها في مصادر أساسية في علم جغرافية ودراسة الشعوب إلى يومنا هذا. ولكن هذه الحركة العلمية الإسلامية المكتشفة للشعوب الأخرى ظلت محصورة في إطار الشرق، وبخاصة آسيا وأفريقيا، ولم تدرس من شعوب أوروبا سوى بعض البلاد الأوروبية الشرقية التي تمكن الإسلام من الوصول إليها.
وفي التاريخ الحديث للمسلمين ظهر اهتمام جديد بالغرب وشعوبه وبخاصة عندما أصبح الغرب مصدراً للعلم والمعرفة، فبدأت حركة علمية لا تهدف إلى أخذ المعرفة عن الغرب فحسب بل إلى معرفته ديناً وحضارة. ولذلك يوجد اهتمام إسلامي حديث بالحضارة الغربية ودياناتهم،وبالفكر الغربي والفلسفة، والعلوم، والتكنولوجيا الغربية.
ولكن يلاحظ على هذه الحركة العلمية الإسلامية أنها لا تمثل توجهاً إسلامياً عاماً لدراسة الغرب -كما هو حال الاستشراق - كما أن الدافع إلى دراسة الغرب يخلو من أهداف الاستشراق ومقاصده. كما يلاحظ أن الدراسات الشرقية للغرب دراسات عشوائية غير منظمة، وانتقائية وليس لها هدف واضح ولا تتصف بالشمولية، وضعيفة التأثير في الغرب ولا تستطيع مواجهة الاستشراق كفكر مؤثر في الشرق .
وقد نادى بعض الناقدين للاستشرق بتطوير علم (الاستغراب) ويقصد به (علم يدرس الغرب دراسة شاملة) كما يفعل الاستشراق مع الشرق. ولكن هذا العلم غير موجود ولا يمكن أن ينشأ عشوائياً بلا أهداف، ولا بد من توافر الأسباب المؤدية إلى ظهور الاستغراب حتى يظهر هذا العلم.([22])
- الحواشي :
[1]-أستفدت في إعداد هذه المادة من المحاضرات التي كان يلقيها الأستاذ محمد خليفة حسن أحمد في قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة عام 1416هـ
[2] - ساسي سالم الحاج. الظاهرة الاستشراقية. ( مالطا: مركز دراسات العالم الإسلامي ) 1990. مجلدان في أربعة أجزاء.
[3] -الحاج ، مرجع سابق م1 ،ص 19 وما بعدها.
[4] - أبو بكر باقادر. من حديثه في إحدى ندوات الجنادرية المهرجان الحادي عشر في الرياض عام 1416هـ. وكانت الندوة بعنوان الإسلام والغرب.
[5] -أكرم ضياء العمري. " الاستشراق هل استنفد أغراضه؟ في ملحق التراث- صحيفة المدينة المنورة. ع 9116، بتاريخ 15/11/1412هـ
[6] -سورة يوسف آية.108
[7] -سورة النحل آية 125
[8] - سورة آل عمران آية 64.
[9] - سورة الجاثية آية 23.
[10] -عبد العلي الودغيري. الفرنكفونية والسياسة اللغوية والتعليمية الفرنسية بالمغرب.(الرباط: سلسلة كتاب العلم) 1993 م، وهو عبارة عن عدد من النصوص المترجمة من اللغة الفرنسية تفضح خطط فرنسا في فرض لغتها على الشعوب التي كانت مستعمَرة مع تعليقات من الدكتور الودغيري.
[11] - مراد هوفمان، محاضرته في مهرجان الجنادرية لعام 1416 ، ذكر بأنها سوف تنشر بنصها في مجلة دراسات إسلامية التي تصدر من الهند. وقد قال ما نصه:" وفي الحقيقة فإن هذه التعددية المعاصرة وما تظهره من تسامح لا محدود يختفيان بشكل مفاجئ في وجه الإسلام. فالعادات والممارسات التي تقبل بسهولة من الآخرين تلاقي الشجب والاستنكار إذا صدرت من مسلمين ويتهم أصحابها بأنهم متعصبون بدائيون غير دستوريين ورجعيون.. كما أن مريم العذراء أم تصور البتة دون غطاء رأس بينما لو أرادت فتاة مسلمة أن تغطي رأسها وتذهب إلى مدرسة في فرنسا فقد تقابل بالرفض. ونشر هذا النص في كتاب صدر عن إدارة الإصدارات بالجنادرية، 1417هـ
1-تعقد هذه المؤسسة مؤتمرات بتمويل من مؤسسة كونراد إديناور الألمانية ،وهذه المؤسسة تدعم نشاطات مؤسسات أكاديمية في إسرائيل أيضاً ومنها مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
1- وجهت له الحكومة المصرية اتهاماً بالاتصال بدول أجنبية والحصول على تمويل أجنبي وحكم عليه بالسجن ولكنه أفرج عنه بعد فترة من الوقت، ويمكن أن نذكر أنه كان يعادي( وربما لا زال) الاتجاه الإسلامي ويحرض الحكومة المصرية والغرب ضد الحركات الإسلامية.
1 -أصدرت الحكومة الأمريكية قبل عدة سنوات مرسوماً لتمويل دراسات الشرق الأوسط في عدد من الجامعات واشترطت على من يلتحق بهذه البرامج أن ينتمي إلى الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) وقوبل هذا القرار بالاستهجان والاستنكار من العديد من المنتسبين لهذا المجال، ولكن لا أشك أنه التحق عدد من الباحثين بهذه البرامج وقبلت بعض الجامعات الأمريكية التي تعاني من نقص في التمويل أو أزمات مالية.(25/95)
2- ظهرت كتابات استشراقية كثيرة قبل الحملة الأمريكية على العراق تحث الحكومة الأمريكية والعالم الغربي على محاربة العالم الإسلامي وانضم هؤلاء المستشرقون إلى ما عرف في الدوائر السياسية الأمريكية بالصقور. وقد كانت أصواتهم أقوى فقد نجحوا في جر الحكومة الأمريكية لحرب العراق واحتلالها رغم أن هذا الأمر لم يحصل على تفويض من الأمم المتحدة.
[16] - زينات بيطار. الاستشراق الفني الرومانسي الفرنسي ، ( الكويت : سلسلة عالم المعرفة. 1992م)
[17] - الشرق الأوسط، ع 3888في 21يوليو 1989م (18/12/1409هـ) ،
[18] -كتب الدكتور السيد محمد الشاهد في مرآة الجامعة مقالة يقدم فيه اقتراحاً بإنشاء قسم للدراسات الغربية ، وظهر بعد ذلك كتاب للدكتور حسن حنفي بعنوان ( مقدمة في علم الاستغراب) كما تيسر لكاتب هذه السطور تقديم محاضرة في نادي أبها الأدبي بعنوان (المعرفة بالآخر بالآخر :ظواهر اجتماعية من الغرب) وقد كتبت داعياً لدراسة الغرب في كتابي الذي صدر عام 1409بعنوان :(الغرب في مواجهة الإسلام)
[19] -ترد كلمة ديانات في هذه المذكرة والذي يؤمن به المسلم هو أن الدين واحد كما جاء في قوله تعالى ( إن الدين عند الله الإسلام) وإنما هي شرائع ورسالات نزلت على الأنبياء والرسل في مختلف العصور والأزمان. ولكن هذا الأمر خطأ شائع .
[20] - عجيب مثل هذا الكلام فالبشر لا يصنعون ديناً ، والشرق لم يأت بالدين من عند نفسه ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته ، فلذلك ليس للشرق فضل في هذا الأمر، ثم لماذا نسميه شرق ، وهو قلب العالم وإنما هو شرق بالنسبة للأوروبيين. فسامح الله الدكتور خليفة على مثل هذه العبارات، وعفا عنّا وعنه.
[21] - هذا الكلام ليس صحيحاً على إطلاقه فقد كانت لدى شعوب الشرق فكرة مفادها أن أوروبا إنما هي مجموعة من الشعوب الهمجية البربرية التي لا طائل من التعرف إليها أو الذهاب إلى بلدانها وقد جاءت بعض هذه الأوصاف في كتب اليونان ، وبعض الرحالة المسلمين فيما بعد .أما رغبة المسلمين في الرحلة والسفر فكانت لدى العرب رحلتان إحداهما إلى الشام والأخرى إلى اليمن ، وكان العرب على معرفة بالفرس والروم ،
[22] - دعت ندوة أصيلة بالمغرب التي عقدت صيف العام الماضي 1996 إلى إنشاء معهد للدراسات الأمريكية في أصيلة ، وقد تناول هذا الموضوع عدد من كتّاب جريدة (الشرق الأوسط) ولكن ينبغي أن نعلم أن الذي يتصدى لدراسة الغرب يجب أن يكون أولا على معرفة بالإسلام حتى يكون لديه المعايير والميزان للحكم على الأمور من الوجهة الإسلامية. وقد كتبت مقالة أشيد بقسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة، وكان عنوان المقال:" جامعة الإمام سبقت ندوة أصيلة" ومن المهم أن أشير إلى أن جامعة لندن قد أنشأت معهداً باسم معهد دراسات الولايات المتحدة ، ويعطي درجة الماجستير في هذا الدراسات ، كما علمت أن في كنداً معهداً مماثلاً للمعهد البريطاني
==========(25/96)
(25/97)
حقيقة نهاية الاستشراق >
كثر الحديث عن نهاية الاستشراق ومن ذلك ما كتبه علي حرب في صحيفة محلية في المملكة زاعماً أن الاستشراق أضعف فروع المعرفة في الغرب وهو في طريقه إلى الانقراض[1]. وناقش الدكتور أكرم ضياء العمري هذه المسألة في محاضرة له بعنوان "الاستشراق هل استنفد أغراضه؟"[2] وقد خلص الدكتور العمري أن الاستشراق لم يستنفد أغراضه بعد فما زال قائماً ومازالت مئات الدوريات تصدر عنه ومازالت المطابع تدفع إلى الأسواق مئات أو ألوف الكتب كل عام من تأليف الباحثين الغربيين. وطالب في ختام محاضرته أو كتابه أن يتقدم المسلمون أولاً لتمثيل أنفسهم أمام أنفسهم ثم يمثلوا أنفسهم أمام العالم.
وتعود قضية نهاية الاستشراق إلى آخر مؤتمر للمستشرقين عقد تحت رعاية المنظمة الدولية للمستشرقين في مدينة باريس بفرنسا عام 1973م، وكان هذا المؤتمر الاستشراقي في مناسبة مرور مائة عام على بداية عقد المستشرقين. وفي هذا المؤتمر دار نقاش وتصويت بين المستشرقين على تغيير الاسم وتسمية الجمعية باسم جديد هو "المؤتمر العالمي للدراسات الإنسانية حول آسيا وشمال أفريقيا". وعقد تحت هذا الاسم مؤتمران ثم تغير الاسم إلى "المؤتمر العالمي للدراسات الآسيوية والشمال أفريقية". وقد عقد المؤتمر مؤخرا في مدينة بودابست بالمجر، وحضره أكثر من ألف باحث معظمهم من أوروبا وأمريكا وروسيا في شهر ربيع الأول 1418هـ (7-12يوليه 1998م) وحددوا موعد المؤتمر القادم في مونتريال بكندا عام 2000م.
وقد يقول بنهاية الاستشراق من ليس له إطلاع على أقسام الدراسات العربية وأقسام دراسات الشرق الأدنى والشرق الأوسط أو مراكز البحوث والمعاهد المتخصصة أو معاهد البحوث الاستراتيجية أو معاهد البحوث حول الشؤون الدولية. ذلك أن النشاط الاستشراقي في هذه المراكز والأقسام مستمر ومتواصل وأن القوم لم تنقطع صلتهم بالحركة الاستشراقية بل هناك من الدلائل على أنهم ينطلقون في دراساتهم للعالم الإسلامي عقيدة وشريعة وأخلاقاً واجتماعاً وغير ذلك من المجالات مستندين إلى الجهود الاستشراقية لجولدزيهر وشاخت وبيكر ونولدكه وتوماس آرنولد وغيرهم.
وقد يكون الاسم قد تغير ودخل إلى مجال الدراسات الشرق أوسطية باحثون لا يتصفون بالصفات أو المؤهلات التي كانت للمستشرقين ولكن العمل في البحث في كل قضايا المسلمين ما زال قائماً وإن تغيرت بعض مناهج الدراسات أو أساليبها أو طريقة عرضها. كما أن الدراسات العربية الإسلامية تستعين حالياً بعدد كبير من الباحثين المسلمين والعرب الذين يجدون كل التأييد والدعم والمساندة من المراكز الاستشراقية أو مراكز دراسات الشرق الأوسط.
نهاية الاستشراق كما يراها الغربيون
بعد أن أصدر إدوارد سعيد كتابه الاستشراق بأربعة أعوام كتب برنارد لويس مقالة طويلة بعنوان (مسألة الاستشراق) يتناول فيها ما توصل إليه المستشرقون في مؤتمرهم العالمي في باريس عام 1973 فكان مما قاله "لقد أصبحت كلمة "مستشرق" منذ الآن فصاعداً ملوثة هي الأخرى أيضاً، وليس هناك أمل في الخلاص، ولكن الضرر هنا أقل لأن الكلمة كانت قد فقدت قيمتها وحتى أولئك الذين تدل عليهم تخلوا عنها …". وكانت مناسبة جيدة لإعادة النظر في طبيعة المؤتمر ووظائفه، ثم سرعان ما تبين لهم أنهم متفقون جميعاً على ضرورة التخلي عن هذه التسمية (تسمية الاستشراق) [3]
ولنا أن نتساءل، ما الأسباب التي أدت إلى أن تصبح كلمة "مستشرق" ملوثة؟ هل أتي هذا التلوث من فراغ أو كان للمستشرقين يد في إحداث هذا التلوث بما ارتكبوه من أخطاء جسيمة في دراساتهم للإسلام ولتاريخ الأمة الإسلامية. فلو توقفنا عند الاستشراق في القرون الوسطى الأوروبية نجد أن الأوروبيين أنفسهم قد اكتشفوا ضخامة الأحقاد التي حملتها تلك الكتابات التي كانت مدفوعة بمحاربة الإسلام وتشويه صورته في أذهان الغربيين حتى لا يقبلوا على الإسلام أو حتى يستخدمها المنصرّون الذين بدؤوا ينطلقون إلى أنحاء العالم لنشر ديانتهم أو السيطرة على الشعوب الأخرى التي كانوا ومازالوا يرونها أقل منهم حضارة ومدنية.
والأسباب كثيرة التي أدت إلى تلوث مسمى الاستشراق ومن ذلك ارتباط بعض المستشرقين بالدوائر السياسية والمخابراتية لبلادهم حيث قدموا خدمة الأغراض السياسية على الإخلاص للبحث العلمي. كما أن بعضهم كان مدفوعاً بأحقاد الماضي التي لم يستطع التخلص منها.(*)
وهل انتهى التلوث بانتهاء هذا الاسم؟ بعد أن لم يعد في معظم الجامعات الأوروبية والأمريكية أقساماً يطلق عليها اسم (الاستشراق)؟ فالذي يبحث في إنتاج هذه الأقسام أو الأساتذة الذين يعملون فيها أو الاهتمام الذي يولونه لبعض العرب والمسلمين المتأثرين بالفكر الغربي في النظرة إلى الإسلام والمسلمين أو الذين ترفضهم المجتمعات الإسلامية فيجدون الملاذ الآمن في المجتمعات الغربية يعرف أن التلوث مازال قائماً حتى في الأقسام الجديدة فقد تغير الاسم وبقي المسمى.(25/98)
ويمكننا القول إن ظهور هذه الأسماء الجديدة أو الأقسام والتخصصات والتفرعات الجديدة لا يعني نهاية الاستشراق، وإنما ذلك تطور طبيعي لمجال معرفي كان محصوراً في عدد محدد من المتخصصين في الشرق وبخاصة العالم العربي الإسلامي. ولما أصبحت العلوم المختلفة ذات كيانات مستقلة كعلم الاجتماع وعلم الإنسان والعلوم الأخرى وأصبح لها معطيات ومناهج جديدة فلا بد أن يستفاد منها في دراسة الشعوب الأخرى للتمكن من المعرفة الدقيقة لهذه الشعوب.
ويرى رودنسون أنه بالرغم من ذلك فإن كثيراً من المستشرقين مازالوا مصرين على وجود هذا المجال وأنهم كما يقول "سجناء الاستشراق، منغلقون على أنفسهم داخل غيتو، وهم سعداء في ذلك غالباً! بل إن مفهوم الاستشراق نفسه ناتج عن ضرورات عملية عابرة التقى عندها العلماء الأوروبيون المتمرسون بدراسة الثقافات الأخرى، وشوّهت هذه الحالة بقوة رؤيتهم للأشياء."[4]
وليس الأمر صحيحاً في أن مفهوم الاستشراق نفسه ناتج عن ضرورات عملية وأن هذه الحالة شوهت بقوة رؤيتهم للأشياء فما زال الباحثون الغربيون ينهلون من الكتابات الاستشراقية وما زالت بعض كتاباتهم تحتوي على التشوهات نفسها التي ظهرت حتى في كتاباتهم في القرون الوسطى الأوروبية. وقد أصبحت كتابات المستشرقين مصادر لكثير من الإعلاميين فانتقلت التشوهات والأخطاء والمفتريات الاستشراقية من المجال الأكاديمي إلى المجال الإعلامي فازدادت انتشاراً وذلك لسيطرة وسائل الإعلام في مجال نشر الفكر والثقافة في العصر الحاضر. ويؤخذ على الإعلاميين أنهم يأخذون أبحاث المستشرقين الغربيين على أنها مسلمات ثابتة وليست أفكاراً قابلة للخطأ والصواب، وقابلة للتحيز والإنصاف.
أما المستشرق الإسباني فراسيسكو غابرييلي فيرى أن الاستشراق الذي كان يعد في البداية علماً واحداً متكاملاً "سرعان ما انقسم إلى فروع وتخصصات مستقلة بعضها عن بعض ومتعلقة بمختلف الحضارات الخاصة بالشرق الأفريقي -الأسيوي. "وأشار إلى الجمعيات الاستشراقية التي ما تزال قائمة مثل (الجمعية الاستشراقية الألمانية، والجمعية الآسيوية الملكية الإنجليزية والجمعية الآسيوية الفرنسية) وكذلك المؤتمرات الاستشراقية" قد أخذت تميل إلى عقد مؤتمرات أكثر تخصصاً بشؤون العالم العربي والإسلامي والهندي والصيني وغير ذلك من مجالات البحث والتخصص." [5]
ويرى غابرييلي أن الاستشراق "الذي كان في طريقه إلى الضياع أو بالأحرى إلى الانحلال والذوبان في تخصصات فرعية دقيقة أكثر فأكثر، وذلك من وجهة نظر علمية بحتة، أصبح الآن موحداً من جديد ومتحلياً بشخصية أيديولوجية وسوسيولوجية وسياسية. ولكن هذه الصورة المقدمة عنه غير مقبولة من وجهة نظرنا، وذلك لأنه من خلال هذه الصورة بالذات وضع في قفص الاتهام، وراحوا يحاكمونه على أصوله ومقاصده ومناهجه ونتائجه."[6]
ويؤكد غابرييلي على أن الاستشراق الذي درس الشعوب الأخرى بمناهجه ومفاهيمه الخاصة لا يمكنه التراجع عن ذلك بل يرى أن ذلك حقاً له "فالواقع أنه يحق للغرب أن يطبق على الشرق مفاهيمه ومناهجه وأدواته الخاصة التي كان قد بلورها في تاريخه الحديث، كما يحق له أن يطبق معاييره الخاصة على ما ندعوه بالتاريخ والحضارة والثقافة والفلسفة والشعر، بمعنى آخر فإنه إذا كان البعض يحلمون بإمكانية جعل الفكر الغربي يتراجع عن نتائج دراساته التاريخية الطويلة للبشرية وتفسيرها فإنهم واهمون."[7]
ومن الذين تناولوا نهاية الاستشراق المستشرق الفرنسي كلود كاهين في رده على مقالة أنور عبد الملك (أزمة الاستشراق) حيث بدأ بالحديث عن إنجازات الاستشراق وفضله على الباحثين العرب المسلمين فقال "ولكن ينبغي أن يعرفوا أيضاً أن الاستشراق الأوروبي هو الذي أخذ المبادرة في العصور الحديثة لدراسة تاريخهم الخاص، وأنه لولاه لكانوا عاجزين عن أن يقولوا عن ماضيهم نصف ما يستطيعون قوله اليوم بطريقتهم الخاص، فنحن لا نزال نمتلك حتى الآن الميزة المتفوقة التالية، إننا قادرون على الاهتمام بتاريخ كل شعوب العالم وليس بتاريخنا الخاص."[8]
ويرى كاهن أن التقدم العلمي الغربي الحاضر يفرض على الشعوب الأخرى حين تريد دراسة الحضارات الأخرى أن تأخذ بالنموذج الغربي وذلك في قوله "وفي يومنا هذا نلاحظ أن خط التقدم العلمي والنضج الثقافي اللازم لدراسة هذه الحضارات الشرقية أو الغربية لا يزل يمر من خلال الاستشراق الغربي، أي من خلال الفكر التاريخي والفيلولوجي والاجتماعي الأوروبي"[9] ويضيف كاهن قائلاً "ونلاحظ أن بعض الشرقيين الأذكياء والجريئين قد أخذوا يسلكون هذا الطريق واستطاعوا في بعض الحالات أن يصلوا إلى مستوى زملائهم الغربيين أنفسهم من حيث السيطرة على المنهجية العلمية."[10](25/99)
هذه هي نظرة الاستعلاء الغربية فالعلماء العرب لم ينكروا تقدم الغرب ومدنيتهم ولكن أن يسعى العالم فقط لأن يلحق بالغرب فقط وينتظر من علمائه شهادة التفوق والذكاء فهذا أمر لا تقبل به أي حضارة مهما كانت متخلفة فكيف بالحضارة الإسلامية؟ وحتى إن كانت البلاد الإسلامية تعاني من التخلف في المجالات العلمية والتقنية فإننا لا ننتظر الشهادة من الباحثين الغربيين. ويمكن أن نلاحظ أن الباحثين العرب الذين وصلوا إلى المستوى الذي يرضى عنه كاهن إنما هم طه حسين وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري وأنور عبد الملك وعزيز العظمة وأمثالهم ممن تأثروا بالفكر الغربي والمناهج الغربية.(*)
أما بالنسبة لمشاركة المسلمين في دراسة قضاياهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فإن معهد الدراسات الإسلامية في مونتريال بكندا قد بدأ منذ أكثر من خمسين سنة يشجع الطلاب العرب والمسلمين على دراسة أوضاع بلادهم تحت إشراف أساتذتهم من المستشرقين. وقد كان المبرر الذي ذكره تقرير هايتر لذلك أن الطالب العربي المسلم يكون بعيداً عن بلاده ومشكلاتها ويستطيع بالتالي أن يبحث بحرية وتجرد أكثر مما لو كان في بلاده. وقد أعجبت هذه الفكرة معدو تقرير هايتر فقرروا نقل الفكرة إلى الجامعات البريطانية.[11] ولكن لا بد أن نذكر أن هناك مبررات أخرى وهي أن الباحث العربي المسلم أقدر على جمع مادته العلمية من بلاده، وقد يكون في ذلك أحياناً توفير للنفقات المالية التي يمكن أن يتكلفها الباحث الغربي لو كان محتاجاً لجمع هذه المادة. وذكر أحمد غراب أن بعض البحوث التي يوجه الطلاب العرب للقيام بها ذات طبيعة استخباراتية وذكر من ذلك أنه طلب من أكثر من باحث مسلم أن يبحث في قضايا الحركات الإسلامية في بلاده وإذا ما رفض الطالب فإنه قد لا يسمح له بتسجيل موضوع آخر.[12]
ويرى برايان تيرنر B r yan S. Tu r ne r أن الاستشراق قد أظهر العديد من أعراض الأزمات الداخلية والانهيار منذ الحرب العالمية الثانية ، ولكن البديل لم يكن من السهل إيجاده وذلك لأن الاستشراق ما زال يحتفظ بدعم فكري ومؤسساتي، فالاستشراق يملك مقومات ذاتية تدعم وجوده. وقد جرت عدة محاولات لإعادة بناء هذا المجال العلمي ومن أمثلة ذلك ما قامت به مجلة دراسات الشرق الأوسط r eview of Middle East Studies ومشروع بحوث ومعلومات الشرق الأوسط Middle East r esea r ch and Info r mation P r oject.(ME r IP) [13]
- الحواشي :
[1] -علي حرب. " الأنا والآخر بين الاستشراق والاستغراب. في عكاظ. ع (11603)، 4صفر 1419 الموافق 29مايو 1998.
[2] -أكرم ضياء العمري . موقف الاستشراق من السيرة والسنّة النبوية. (الرياض :مركز الدراسات والإعلام:دار إشبيليا، 1417/1998. وكان هذا الكتاب قد نشر في ملحق التراث بجريدة المدينة المنورة بعد إلقاء المحاضرة بعدة أشهر من إعداد كاتب هذه السطور حيث استنسختها من الشريط.
[3] -برنارد لويس. "مسألة الاستشراق" في الاستشراق بين دعاته ومعارضيه. إعداد هاشم صالح (لندن: دار الساقي، 1994) ص 159-182. وقد نشرت المقالة أصلاً في New Yo r k r eview of Books وقد ناقشت هذه المقالة في كتابي ( الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي ( الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية ، 1416)
* -من المستشرقين الذين ارتبطوا بالدوائر الاستعمارية صراحة المستشرق الهولندي سنوك هورخرونيه ولكن كبار المسؤولين الهولنديين في جامعة ليدن بهولندا أصروا على الإشادة به في افتتاح المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام والقرن الواحد والعشرين الذي عقد في ليدن في يونيو 1996.
[4] -المرجع نفسه.
[5] -فرانسيسكو غابرييلي. "ثناء على الاستشراق" في المرجع السابق. ص 21-30 ونشر الأصل بالفرنسية بعنوان Apologie de l'O r ientalisme. In Diogene, No. (50) 1965.
[6] - المرجع نفسه .
[7] - المرجع نفسه.
[8] -كلود كاهن. "كلود كاهن يرد على أنور عبد الملك :رسالة إلى رئيس تحرير مجلة "ديوجين." في الاستشراق بين دعاته ، مرجع سابق ص 35-38.
[9] - المرجع نفسه.
[10] - المرجع نفسه.
* -تحدث أحد المستشرقين الكنديين في المؤتمر العالمي الأول حول الإسلام في القرن الواحد والعشرين الذي عقد في ليدن في الفترة من 3-7يونيو 1996 عن تجربته مع الباحثين الإندونيسيين بحكم تخصصه في الإسلام الإندونيسي وأثنى على تطورهم . فتعجبت من هذا الأسلوب الأبوي فيكف يضع المستشرق نفسه في موضع الحَكَم على الباحثين المسلمين ، وكأنه يشير إلى أن احتكاكهم بالغرب هو الذي أفادهم وجعلهم يتطورون.
[11] -Si r William Hayte صلى الله عليه وسلم Repo r t of The Sub-Committee on O r iental, Slavonic, East Eu r opean and Af r ican Studies. London, 1961.
[12] -أحمد عبد الحميد غراب. رؤية إسلامية للاستشراق.ط2 (بيرمنجهام : المنتدى الإسلامي، 1411)ص 145.
[13] -B r yan S. Tu r ne صلى الله عليه وسلم " Islam" and O r ientalism". In O r ientalism, Islam and Islamists.ed. Asaf Hussain et al.( B r attlebo r o: Ve r mont: 1984.) p.p. 23-43.
============(25/100)
(25/101)
أزمة الاستشراق >
لقد أطلق هذه العبارة أنور عبد الملك في مقالة له بعنوان " الاستشراق في أزمة " نشرها في مجلة الجدلية الاجتماعية La Sociale Dailiqtique باريس عام1971م. وأعيد نشرها في مجلة الفكر العربي المعاصر) (عدد 32في) تناول فيها نقد الاستشراق من حيث مسلماته ومناهجه وأدواته، وأكد على ضرورة نقد الاستشراق لاسيما وان الدول التي كانت خاضعة للاستعمار أصبحت دولاً ذات سيادة " أصبحوا "ذواتاً" أسياداً"([1]).
وختم عبد الملك مقالته بعدد من التوصيات حول إعداد الباحث الغربي في الدراسات الاستشراقية من حيث معرفة اللغة والتمكن من المعارف المختلفة الخاصة بالعالم العربي الإسلامي. وكان مما قاله :" لقد حان الوقت لاعتماد توجه جديد بالضرورة ، ويرى المرء من الناحية الموضوعية أن مختلف قطاعات الاستشراق المعاصر في السنوات الأخيرة قد بدأت تعي هذه الضرورة. "([2])
أما الدكتور محمد خليفة فقد تناول أزمة الاستشراق بمذكراته التي أثبت هنا نصها مع بعض الإضافات التي أشير إليها في حينه:
تعود أزمة الاستشراق المعاصر إلى عدد من الأسباب التي يعود معظمها إلى فترات تاريخية مختلفة منها أسباب واكبت الاستشراق منذ بدايته واستمرت معه حتى العصر الحديث، ومن بينها أسباب تعود إلى التاريخ الحديث والمعاصر. وقد أثرت هذه الأسباب على طبيعة الاستراق وأدت إلى نوع من الغموض في ماهية الاستشراق وطبيعته وفي شخصية المستشرقين عبر العصور وولدت هذه الأسباب مجموعة من الأزمات المتداخلة فيما بينها أزمة الهوية وهي تختص بغموض الاستشراق وعدم القدرة على تحديد طبيعته هل هو علم أو حركة فكرية أو مذهب أو غير ذلك.
وولدت أزمة منهجية من حيث أن الاستشراق ليس له منهج واضح يمكن مقارنته بالمناهج العلمية التي طورتها العلوم المختلفة نظرية أو تجريبية أو اجتماعية أو إنسانية الأمر هذا فظلاً عن الأزمة الأخلاقية التي نتجت عن الارتباطات السياسية والدينية للاستشراق الأمر الذي أدى إلى استغلال المعرفة الاستشراقية بواسطة القوى السياسية الاستعمارية والقوى الدينية التنصيرية والصهيونية وأخيراً هناك الأزمة التي أوجدها الاستشراق في العلاقة بين الشرق والغرب وبخاصة العلاقة بين المسلمين والغرب وما تولد عن هذه الأزمة في العلاقات من صراع ديني حضاري بين الإسلام من ناحية وديانات الغرب من ناحية أخرى .
وهذه الأزمة لها أسبابها ومظاهرها ولها أيضاً نتائجها وآثارها.
أولاً : أسباب الأزمة وهي :
1- التبعية الاستشراقية للاستعمار والتنصير والصهيونية.
2- تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغرب.
3- غياب المنهج في الاستشراق .
4- الصحوة الإسلامية ومواجهة الاستشراق والتنصير.
1- التبعية الاستشراقية للاستعمار والتنصير والصهيونية :
من المعروف تاريخيا أن الاستشراق ارتبط منذ بدايته بقوى مختلفة من أهمها القوى السياسية التي رأت في الإسلام والمسلمين عدواً للغرب وللنصرانية ولليهودية منذ ظهور الإسلام وانتشاره في بلاد كانت نصرانية الأصل، بل تمثل قلب العالم النصراني مثل منطقة الشرق الأدنى القديم وبخاصة فلسطين التي يعدها النصارى واليهود أرضاً مقدسة شهدت مولد الديانتين اليهودية والنصرانية. وشهدت أيضاً ظهور أنبياء بني إسرائيل ومن بينهم عيسى عليه السلام وبها الآثار الدينية والتاريخية المقدسة في هاتين الديانتين.
كما انتشر الإسلام فيما بعد في بلاد نصرانية خارج حدود الشرق الأدنى القديم في أوروبا وأفريقيا حيث حل الإسلام محل النصرانية في البلاد التي كانت خاضعة للدولة البيزنطية، ثم تمكن المسلمون من فتح الأندلس وجزر البحر المتوسط كما توغلت الفتوحات العثمانية في قلب القارة الأوروبية. وقد أدى هذا السقوط لمعظم بلاد النصرانية في يد المسلمين إلى اعتبار الإسلام والمسلمين العدو الأول للغرب، وبدأت استعدادات الغرب لاسترجاع الأرض النصرانية والهجوم على الإسلام في الوقت نفسه، فقام الغرب بحملاته الصليبية لاسترداد بيت المقدس وكل الأراضي النصرانية السابقة (بزعمه) كما استعد الغرب فكرياً ودينياً لمواجهة الإسلام بتشجيع الاستشراق وحض المستشرقين على الحصول على المعرفة الإسلامية وترجمة معاني القران الكريم والاستعداد لتكوين جبهة فكرية دينية لمهاجمة الإسلام.
وبعد فشل الحروب الصليبية استمر الهجوم الفكري الديني إلى مرحلة الاستعمار الحديث الذي جمع من جديد بين الهجوم العسكري والهجوم الفكري وهو الوضع الذي استمر إلى التاريخ المعاصر حيث انتهى الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين واستمر الهجوم الديني والفكري .(25/102)
وواضح من هذا العرض التاريخي السريع أن علاقة العرب بالإسلام والمسلمين مبنية على أساس من العداوة والكراهية واستخدام كل الوسائل الممكنة لمواجهة الإسلام والمسلمين. وخلال هذا الصراع الطويل أصبح الاستشراق علماً تابعاً للقوى الغربية السياسية والدينية ولم ينفصل عنها سوى في خلال مراحل انحسار المد الاستعماري أو فشل الجهود العسكرية، ولذلك فالمواجهة الفكرية والدينية أطول عمراً واستمرارية من المواجهة العسكرية. ولم يشعر المستشرقون بحرج من علاقاتهم بالقوى السياسية والدينية في بلادهم وفي الغرب بعامة فالإسلام عدو الجميع سواءً كانوا سياسيين أم مفكرين أم سياسيين . فالمستشرق مواطن ينتمي إلى بلده ويشعر بأنه يؤدي واجبه ويعمل على تحقيق مصالحها بصرف النظر عن كون معرفته أو علمه مستغلاً من جانب القوى السياسية والدينية. فهو مواطن لا يمكن عزله عن بلده ومصالحه ولم يشعر المستشرق بحرج من هذه العلاقة خاصة في الفترات الاستعمارية الطويلة مثل فترة الحروب الصليبية التي زادت عن قرنين وفترة الاستعمار الحديث التي غطت ثلاثة قرون تقريباً ".
وأود أن أضيف إلى هذا الارتباط بعض الحقائق التي أصبحت معروفة عن ارتباط الاستشراق أو الدراسات العربية الإسلامية بالدول الغربية التي من أهدافها استمرار الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي في المجالات المختلفة: السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وأبدأ ببريطانيا فهي التي احتلت أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي فقد اقترح أحد أعضاء البرلمان البريطاني عام 1916م إنشاء معهد للدراسات العربية والإسلامية في بريطانيا. فقد كلفت الحكومة البريطانية لجنة حكومية عام 1947م برئاسة الايرل سكاربرو لدراسة أوضاع الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية، وتقديم المقترحات اللازمة لاستمرار هذه الدراسات وتطويرها. وقد أعدت اللجنة تقريراً مؤلفاً من حوالي مائتي صفحة عدّه الدكتور خليق نظامي دستور الاستشراق الحديث. حيث أوضحت استمرار حاجة بريطانيا لمعرفة الشعوب العربية الإسلامية والحاجة إلى متخصصين في هذا المجال.
وقامت الحكومة البريطانية بتأليف لجنة أخرى عام 1961م برئاسة السير وليام هايتر لدراسة أوضاع الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات البريطانية وقامت اللجنة بتمويل من مؤسسة روكفللر بزيارة عدد من الجامعات الأمريكية والكندية للإفادة من التجربة الأمريكية والكندية في هذا المجال. وأصدرت تقريراً ضخماً ضمنته توصيات كثيرة منها ضرورة استمرار هذه الدراسات وتخصيص ميزانيات لدعم هذه الدراسات، واقتراح إنشاء أقسام علمية جديدة.
أما في الولايات المتحدة فإنها بعد الحرب العالمية الثانية وجدت أنها يجب أن تحل محل النفوذ البريطاني ولمّا لم تجد العدد الكافي من المتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية فقد عرضت على عدد من كبار المستشرقين الأوروبيين العمل في الجامعات الأمريكية ومن هؤلاء على سبيل المثال هاملتون جيب الذي أسس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد ، ونال جيب مكانة رفيعة في هذه الجامعة. كما استقدمت جوستاف فون جرونباوم بجامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس، وبرنارد لويس الذي عمل عدد من السنوات أستاذاً زائراً حتى انتقل كلياً إلى جامعة برنستون عام 1974.
وأصدرت الحكومة الأمريكية مرسوماً بتوفير مبالغ ضخمة لدعم مراكز دراسات الشرق الأوسط في عدد من الجامعات الأمريكية ( أربع وعشرين جامعة ) من بينها جامعة برنستون وجامعة نيويورك وجامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس وفي بيركلي وجامعة انديانا في بلومنجتون وغيرها. وما تزال هذه الجامعات منذ الخمسينيات وحتى هذا العام 1997 تتلقى الدعم الحكومي الأمريكي. ولم يقتصر الدعم الحكومي الأمريكي على هذه الجامعات فهناك معاهد ومراكز بحوث كثيرة تتلقى الدعم المباشر من الحكومة الأمريكية. وبالتالي فان الغالبية العظمى من الباحثين (المستشرقين) يعملون لدى الحكومة الأمريكية.([3])
وفي عام 1985 عقدت لجنة الشؤون الخارجية جلسات استماع لعدد كبير من الباحثين في مجال الدراسات العربية الإسلامية ونشرت محاضر الجلسات في كتاب بلغت عدد صفحاته أكثر من أربعمائة صفحة وشارك فيه عشرات الباحثين المتخصصين في هذا المجال. ( وقد قامت مجلة المجتمع الكويتية بنشر معظم هذا التقرير في أربع وخمسين حلقة.قبل احتلال العراق الكويت)([4])
وقد كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تمتنع ظاهراً الإفصاح عن صلتها بهذه الدراسات حتى إنها عندما اكتشف صلتها بمؤتمر علمي بجامعة هارفارد قبل عدة سنوات قام ناداف سافران الأستاذ بجامعة هارفارد والمسؤول عن تنظيم المؤتمر بتقديم استقالته وتم إلغاء المؤتمر. ولكن الأمر تغير مع ازدياد نفوذ الجماعات الإسلامية في الدول العربية الإسلامية فأصبحت هذه الوكالة تتبنى عقد ندوة شهرية للمتخصصين في الدراسات العربية الإسلامية (وبخاصة الأصولية) لمساعدة الحكومة الأمريكية في التعامل مع هذه الظاهرة.(25/103)
وأود أن أضيف أيضاً إلى مسألة ارتباط الدراسات العربية الإسلامية بنزعة الغرب إلى الهيمنة والسيطرة (الاستعمار سابقا) أن ما تقوم به المؤسسات غير الحكومية (ذات الهدف غير التجاري) مثل مؤسسة روكفللر ومؤسسة فورد ومؤسسة كارينجي في تمويل الدراسات العربية الإسلامية يعد تأكيداً للنزعة التي ذكرنا سابقاً. وقد انضمت بعض الدول العربية الإسلامي إلى دعم هذه الدراسات بهدف تحقيق أهداف معينة ففي نشرة مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط التابع لجامعة لندن (مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية) نجد أسماء مكاتب المعلومات التابع لعدة دول عربية وهذه المكاتب إنما هي فروع لاستخبارات تلك الدول. ويكفي المرء الرجوع إلى مقدمات بعض الكتب الاستشراقية ليجد الدعم السخي الذي يتلقاه هؤلاء الباحثون من هذه المؤسسات. ومن الأمثلة القريبة جداً قيام باحث من مؤسسة راند بكاليفورنيا-هو جوزيف كيششيان- بإعداد دراسة عن الأوضاع الأمنية في المملكة العربية السعودية . والمرء يتساءل وما علاقة هذه المؤسسة بمثل هذه الموضوعات؟ كما أن هذا الباحث وجد دعماً من وكالة استعلامات الولايات المتحدة في المملكة ليجتمع مع عدد من أساتذة الجامعات والباحثين والمثقفين السعوديين في رحابها.([5])
أما ارتباط الاستشراق بالتنصير فان المعاهد اللاهوتية والتنصيرية ما تزال تقوم بجهود كبيرة في القيام بنشر البحوث والدراسات حول العالم الإسلامي. ويمكن أن نشير إلى مؤتمر كولورادو التنصيري الذي ضم مئات المنصرين من كل أنحاء الولايات المتحدة ونشرت بحوثه في أكثر من ألف صفحة يتناول أدق التفاصيل عن الأوضاع الاعتقادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعالم الإسلامي. ويمكن أن نضيف بان الجامعات الأمريكية التي تتبنّى العلمانية تسمح للمنصرين الدراسة في أقسام الدراسات العربية والإسلامية فمن ذلك أن هـ. كونوي زيجلر قد أعد رسالته للماجستير حول التنصير في الخليج العربي من عام 1889حتى 1973م في جامعة برنستون، ولم يعدها في كلية لاهوتية.
والارتباط بالصهيونية أمر قد لا يكون واضحاً بسهولة ولكن المتمعن في العلاقات بين دولة يهود والجامعات الأمريكية ومراكز البحوث يجد أن هناك تعاوناً وثيقاً بالإضافة إلى العدد الكبير من الباحثين الأمريكيين الذين لا يفصحون عن انتمائهم اليهودي الصهيوني. كما أن مراكز بحوث ومعاهد الشرق الأوسط في الجامعات اليهودية في إسرائيل دائمة الاتصال بالجامعات الأمريكية. وقد اطلعت على نشرة مركز موشيه ديان لدراسة الشرق الأوسط وأفريقيا فوجدت أن هذا المركز يبعث بالعديد من باحثيه للاتصال بالجامعات الأمريكية وكذلك الاتصال بوزارات الخارجية ومراكز صناعة القرار السياسي الغربي. فهل نفطن نحن في العالم الإسلامي إلى أهمية مثل هذه الاتصالات لتعريف العالم بوجهات نظرنا؟
2- تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية وأثره في تعميق الأزمة:
ازدادت ظاهرة غياب المنهج في الدراسات الاستشراقية حدة في القرنين الأخيرين مع تطور العلوم الاجتماعية والإسلامية واعتمادها على مناهج علمية واضحة في دراسة الجوانب الاجتماعية والإنسانية. ومن المعروف أن نشأة العلوم الإنسانية والاجتماعية تعود إلى عصر النهضة الأوروبية وفيما بعد عصر التنوير الأوروبي الذي قامت فلسفته الفكرية على أسس عقلية نقدية تحليلية معتمدة -اعتماداً كلياً- على العلم الحديث الذي تطور منذ عصر النهضة. وتم إخضاع الآداب والفنون ونصوص الكتاب المقدس (في اليهودية والنصرانية) للتحليل العقلي والنقد القائم على أساس من البحث التاريخي النقدي والقائم -أيضاً- على أساس نقد النصوص. وقد تمت هذه العملية في حرية تامة في زمن انفصل فيه الدين عن العلم في الغرب، وأصبح العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، وتم إخضاع المعرفة الدينية لسلطة العقل. وخضعت الدراسات الإنسانية والاجتماعية للمناهج العقلية نفسها، وبدأت في التطور مجموعة جديدة من العلوم التي عرفت فيما بعد باسم العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ورغم البدايات القديمة لهذه العلوم، فإنها لم تأخذ شكل العلم إلاّ في القرون الثلاثة الأخيرة حيث أصبحت علماً مميزة بمنهج ومحتوى معروفين، ومالت إلى التخصصية بل تشعبت أيضاً- فيما بعد- إلى علوم متفرعة عن أصل علمي واحد. فمثلاً: تشعب علم الاجتماع إلى عدة علوم اجتماعية :
أ علم الاجتماع النفسي،
ب-علم الاجتماع الحضري
جـ- علم الاجتماع الريفي
د-علم الاجتماع الديني
هـ- علم الاجتماع الصناعي. واستقل علم الإنسان عن هذا العلم وتشعب بدوره إلى علوم عدة مثل: علم الانثروبلوجيا الثقافية، والدينية وعلم الأجناس .. وهكذا بالنسبة لبقية العلوم الاجتماعية التي تشتمل على ما سبق من المسميات، والعلوم الإنسانية المشتملة على علم التاريخ، والأدب واللغة، والفنون، والدين.(25/104)
وقد وضع تطور هذه العلوم ذات المحتوى والمنهج الواضحين الاستشراق في أزمة منهجية، وسبق القول ذكر غياب المنهج في الدراسات الاستشراقية، وقد كان ذلك مقبولاً في الماضي لان معظم العلوم لم يكن لها مناهج واضحة. كما أن العلاقات بين العوم المختلفة لم تكن قد حسمت بشكل يدع كل علم مستقلاً عن الآخر محتوى ومنهجاً.
والخاصية الأساسية في العلوم الإنسانية والاجتماعية هو ميلها الواضح إلى التخصص وهو ما يفتقد إليه الاستشراق الذي اتسم بالموسوعية والشمولية المعرفية. وبهذا وجد المستشرق نفسه مضطراً إلى تحديد موقفه العلمي من هذه العلوم ذات التخصص الواضح والمنهج المبين . وقد طرح هذا السؤال لان الاستشراق يعالج كل الموضوعات الإنسانية والاجتماعية المرتبطة بالشرق، وهو يفعل ذلك دون منهج واضح وبعيداً عن التخصصية التي تميزت بها العوالم الأخرى. ومن الأسئلة المطروحة مثلاً: كيف يدرس المستشرق المجتمع المسلم؟ هل يطبق عليه المنهج المستخدم في علم الاجتماع لدراسة المجتمعات.
ولكننا يجب أن نضيف هنا -مع التقدير والاحترام للدكتور خليفة- أن الاستشراق التقليدي الذي كان يهيمن على مجالات الدراسات العربية والإسلامية قد اختفى إلى حد كبير- ونقول ذلك بسبب وجود بعض الباحثين الغربيين المعاصرين الذين يخوضون في كل ما يخص الإسلام والمسلمين- وأصبحت دراسة العالم الإسلامي تتم بالتنسيق بين قسم دراسة الشرق الأدنى أو الأوسط وبين الأقسام المختلفة . بل أصبح دور هذه الأقسام أو المراكز كما يطلق عليها في بعض الجامعات هو دور المنسق بين مختلف التخصصات. وفي جامعة كاليفورنيا فرع بيركلي تتم دراسة العالم الإسلامي في ثمانية عشر قسماً. وقد لاحظت في جامعة برنستون رسائل علمية للماجستير والدكتوراه تتم بالتنسيق بين قسم الاستشراق وبين قسم الاجتماع أو قسم الأنثروبولوجي أو الاقتصاد وهكذا.
3- غياب المنهج في الاستشراق:
نظراً لان نشأة الاستشراق وتطوره كان رد فعل لظهور الإسلام وانتصاره على اليهودية والنصرانية وانتشاره في المناطق التي كانت تابعة لهاتين الديانتين أصبح الاستشراق يمثل اتجاهاً فكرياً معادياً للإسلام منذ البداية، ولهذا السبب افتقد الاستراق مقومات العلم والمعرفة الموضوعية التي تسعى إلى اكتساب المعرفة ذاتها، ومعرفة الأمور معرفة موضوعية.
وتطور الاستشراق وهو يساير حركة الإسلام كدين في انتشاره ومواكباً للمسلمين في قوتهم وضعفهم وهو يحاول جاهداً أن يضع العراقيل أما انتشار الإسلام ويجابه المسلمين كقوة سياسية ودينية وحضارية وعلى الرغم من تعدد مجالات الاستشراق ووجود مجال علمي محدد سعى فيه بعض المستشرقين إلى المعرفة الإسلامية كموضوع للقراءة والاطلاع والبحث لكن غلب على الاستشراق من موقف العداء والكراهية، وبالتالي لم يتمكن المستشرقون من تكوين رؤية موضوعية عن الإسلام كما لم يتمكنوا من تطوير منهج واضح يدرس الإسلام من خلاله وقد تراكمت المعرفة الاستشراقية عبر القرون وغطت كل مجالات الإسلام وأصبحت تمثل كماً معرفياً ضخماً غير قابل للتصنيف العلمي وغير متحد في منهجيته، وهناك عدة أسباب يمكن ان تفسر غياب المنهج في الدراسات الاستشراقية :
أ- عدم ظهور الاستشراق منذ البداية كعلم واضح له مجاله المحدود وله منهجيته المحدودة فالاستشراق كما ذكرنا تراث ضخم من المعرفة حول الإسلام تراكمت عبر القرون وأصبح من الصعب إخضاعها للوصف العلمي المنهجي خاصة وان المستشرقين الأوائل لم يهتموا بأمور المنهج قدر اهتمامهم بتشويه المضامين الإسلامية وتحريف الحقائق حول الإسلام ووضع الأساليب والوسائل التي توصل إلى تحقيق هذا الهدف غير العلمي بل إن هناك ما يمكن تسميته بسوء استخدام المنهج والمقصود بهذا إخضاع المنهج لتحقيق أهداف الاستشراق. أو استخدام العناصر المنهجية استخداماً خاطئاً من أجل تحقيق أهداف التشويه.
ب- تغطية الاستشراق كل مجالات الفكر الإسلامي جعل من الصعب تطوير منهج واحد يمكن تطبيقه على كل هذه المجالات، فالدراسات الاستشراقية حول الإسلام تغطي المجالات الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية واللغوية والأدبية والفنية والأخلاقية والفلسفية والعلمية التجريبية مثل مجالات العلوم عند المسلمين كالطب والكيمياء والصيدلة والرياضيات والفلك. ومن المعروف أن كل مجال من هذه المجالات يغطي علماً من العلوم أو فناً من الفنون له منهجه الخاص به وقيام المستشرق الواحد بدراسة الإسلام هذه الدراسة الشمولية معناه أن يعمل المستشرق بأكثر من منهج في الوقت الواحد فهو إذا اشتغل بالاقتصاد الإسلامي يستخدم المنهج المناسب لهذا المجال ، وإذا درس المجتمع الإسلامي فهو يستخدم المنهج الاجتماعي وإذا درس الدين والعقيدة الإسلامية فهو يستخدم المنهج الديني (اللاهوتي)، في الفلسفة يستخدم المنهج الفلسفي وهكذا.
4- الصحوة الإسلامية ودورها في تطوير النقد الإسلامي للاستشراق.(25/105)
تعود أزمة الاستشراق المعاصر إلى سبب إسلامي يضاف إلى الأسباب الأخرى التي نتجت بفعل الأسباب الخارجية التي تخص الاستشراق بصفتها حركة فكرية غربية، فقد أدت الصحوة الإسلامية إلى تطور وعي ديني قوي أدى إلى عودة إسلامية إلى مصادر الدين، وإلى حركة علمية إسلامية ضخمة تناولت جميع جوانب الفكر الإسلامي، كما أدت إلى معرفة إسلامية جيدة بالغرب وحضارته وثقافاته. وقد اصبح المسلمون - بفضل الله ثم بفضل هذه الصحوة- على وعي كامل بالاستشراق بصفته حركة من الحركات التي المناهضة للإسلام فترجمت بعض أعمال المستشرقين إلى اللغة العربية ولغات إسلامية أخرى، وكتبت مؤلفات إسلامية باللغات الأوروبية تقدم الإسلام إلى الغرب بصورة سليمة، ونتج عن هذا حركة إسلامية نقدية لأعمال المستشرقين، وبدأ المسلمون يتعاملون مع الاستشراق تعاملاً علمياً، ينقدون سلبياته ويعترفون بإيجابياته ويشتركون في مؤتمرات المستشرقين، وبدأ ظهور بعض الشخصيات العلمية المسلمة في الجامعات الغربية ومراكز بحوثها وهم بلا شك يسهمون في تغيير الصورة الاستشراقية التقليدية عن الإسلام والمسلمين. ومن أمثال هؤلاء الدكتور إسماعيل راجي فاروقي، والدكتور خالد يحي بلانكنشب، وجاكسون، وسليمان ناينج، وابراهيم العاني، وغيرهم- وان كانوا قلّة.
وقد أحس المستشرقون بهذا النقد الإسلامي لأعمالهم، وعرفوا انهم فقدوا ثقة المسلمين في الاستشراق، في الوقت الذي ازداد المستشرقون اتصالاً بالعالم الإسلامي فحصل بعضهم على الصور الحقيقية لهذا المجتمع، كما كان لبعض الأعمال الإسلامية الناقدة للاستشراق أثر كبير في تعميق أزمة الاستشراق وكشفه أمام أصحابه كقوة فكرية مناصرة للاستعمار والتنصير والصهيونية. ويمكن أن نعود بنقد الاستشراق إلى بداية القرن العشرين أو قبل ذلك بقليل فقد وردت بعض العبارات في كتابات جمال الدين الأفغاني (تحتفل به إيران هذه الأيام) تشير إلى تأثير أبناء الأمة الذين يقلدون الغرب. كما لابد من ذكر ردود الشيخ محمد عبده على رينان وهناتو وغيرهما من الفلاسفة الفرنسيين. وبعد ذلك عندما برزت الحركات الإسلامية الداعية إلى إخراج المستعمر من العالم الإسلامي نجد انه كان من بين اهتمامات هذه الحركات الرد على المستشرقين وعلى الإعلام الغربي في تعرضه للإسلام. ففي الجزائر مثلاً كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في صحفها المختلفة وكذلك مجلة " الشهاب " التي أصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس تهتم بالرد على الاستشراق. ويمكننا أن نجد ردوداً على الاستشراق في صحف الإخوان المسلمين في مصر ، وبعد ذلك في مجلة (الرسالة) المصرية وغيرها من المجلات . ولا بد من الإشارة إلى كتاب الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله (السنّة ومكانتها في التشريع الإسلامي) فهو من الكتب الرائعة في تفنيد كلام المستشرقين، وكذلك كتابه (المرأة بين الفقه والقانون). كما كان رحمه الله رائداً في القيام بجولات ميدانية لمعاقل الاستشراق والحوار مع المستشرقين.
ومن العرب المسلمين الذين كتبوا باللغة الإنجليزية الدكتور عبد اللطيف الطيباوي الذي نشر مقالتين في مجلة " دراسات إسلامية " التي يصدرها المركز الثقافي الإسلامي بعنوان (نقد المستشرقين الناطقين باللغة الإنجليزية) وقام الدكتور قاسم السامرائي بترجمتهما ونشرهما في كتاب عن إدارة النشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. ولا بد أن نذكر أن كتابات سيد قطب رحمه الله فيها ردود على الاستشراق، وكذلك كتب الأستاذ محمد قطب ومنها كتابه (شبهات حول الإسلام) و(المذاهب الفكرية المعاصرة) وكتابه (واقعنا المعاصر) وغيرها. وأضيف هنا كتابات الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله ومنها كتابه (حصوننا مهددة من داخلها) وكتابه (الإسلام والحضارة الغربية) بالإضافة إلى كتابه المهم (الاتجاهات الوطنية في الأدب العربي الحديث) ولم يكتف الدكتور حسين بنقد الاستشراق بل تناول من تأثر بهم من أبناء المسلمين. ومن الذين تناولوا الاستشراق بالنقد الأستاذ محمود شاكر (أبو فهر) في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) وهو مقدمة لكتابه عن المتنبي. ولا يمكن أن ننسى الأستاذ الكبير أنور الجندي -رحمه الله تعالى- فله كتابات كثيرة جداً حول نقد الاستشراق وان كان ينقصها التوثيق العلمي الدقيق، لكنها مهمة في تنوير عامة القراء من مخاطر الاستشراق والتنصير فله جهود كبيرة ورائدة في هذا المجال. وأختم بذكر الشيخ محمد الغزالي رحمه الله فقد كتب الكثير عن مطاعن المستشرقين.
كما كانت هناك أعمال غربية ناقدة للاستشراق ومطالبة لتغيير وجهة الاستشراق وتصحيح صورته عند المسلمين . ومن أهم هذه الكتب : الكتاب الذي حرره ليونارد بايندر Leona r d Binde r بعنوان: "دراسة الإسلام" الصادر عام 1976م، واشترك فيه عدد من كبار المستشرقين تناول كل منهم مجالاً من الدراسات الاستشراقية ونقده نقداً علمياً وطالبت الدراسة بمراجعة العمل الاستشراقي وتصحيح أخطاء منهجه ونقد الاتجاه التنصيري في دراسة الإسلام، وتقديم مقترحات علمية تخص تصحيح مسيرة الاستشراق.(25/106)
ومن الأعمال الغربية الأخرى المهمة في نقد الاستشراق وكشف صلته بالاستعمار والتنصير كتاب إدوارد سعيد( الاستشراق). ومن فضائل الصحوة أيضاً أنها نبهت المسلمين إلى الغزو الثقافي الغربي، وإلى عملية تغريب العالم الإسلامي التي يعتبر الاستشراق مسؤولاً عنها. وللصحوة الإسلامية أيضاً دور في مقاومة هذا الغزو وردّ المسلمين إلى أصولهم وتقوية وعيهم بدينهم وحضارتهم وبأفضلية الحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية.
ونتيجة لهذه الجهود تم كشف الاستشراق كقوة معادية للدين والحضارة الإسلامية. وقد أفادت هذه الجهود في اعتراف بعض المستشرقين بأخطاء الاستشراق ومحاولة تغيير الاستشراق بل الهروب من هذه التسمية إلى مسميات أخرى إما لتضليل المسلمين أو كاعتراف مباشر بأخطاء المرحلة السابقة من تاريخه والرغبة في دخول مرحلة جديدة يتخلص فيها الاستشراق من سلبيات الماضي.
ويضاف إلى ما سبق التقدم العلمي في مجال دراسات الاستشراق عند المسلمين، فقد بدأت هذه الدراسات تدخل مرحلة جديدة ابتعدت فيها عن العمومية في المعالجة والعاطفة في التعامل مع الاستشراق والمستشرقين، وتطورت نظرة علمية نقدية تحلل الأعمال الاستشراقية وتنقدها وتتعرف على إيجابياتها للإفادة منها، والتعرف على سلبياتها ومن بينها الشبهات المثارة لتفنيدها والرد عليها رداً علمياً مستنداً إلى المصادر الإسلامية الصحيحة وإلى المنهج العلمي السليم وإلى المصادر الاستشراقية ذاتها، وذلك بالعودة إلى آراء المستشرقين المختلفة حول الموضوع الواحد والرد على بعضهم بآراء البعض الآخر، وتوضيح التناقض الاستشراقي.
ومن بين علامات النهضة العلمية في دراسة الاستشراق إدخال مناهج دراسية عن الاستشراق والتنصير في بعض كليات المرحلة الجامعية وبخاصة في كليات الشريعة والدعوة والاهتمام بالرد على آراء المستشرقين في العديد من المناهج الأخرى مثل: مناهج التاريخ واللغة والأدب وغيرها. حيث أصبح المعلمون على وعي كاف بآراء المستشرقين في تخصصاتهم بعد دراستهم لها في مرحلتهم الجامعية أو في دراساتهم العليا فينتقدون آراءهم إجمالاً في المناهج التي يدرّسونها.
أما التقدم الحقيقي في مجال دراسة الاستشراق فيظهر في اهتمام الجامعات الإسلامية بإنشاء مراكز للدراسات الاستشراقية وتنفرد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بإنشاء قسم للدراسات الاستشراقية وهو قسم علمي مستقل وهو القسم الوحيد من نوعه في العالم الإسلامي.([6]) وفي هذا القسم يدرس الاستشراق موزعاً على عدة مجالات علمية، وعلى عدد من المناهج المحددة التي تغطي الدراسات الاستشراقية تغطية كاملة. وفي المراكز التي أنشئت في العالم الإسلامي مراكز بحوث الشرق الأوسط في مصر والأردن ، ومراكز الدراسات الشرقية في مصر، ومراكز البحوث الإسلامية المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية. وبعض المراكز المتخصصة مثل مركز الدراسات العثمانية في القاهرة، ومركز الدراسات الاستشراقية والحضارية بكلية الدعوة بالمدينة المنورة ووحدة بحوث الاستشراق والتنصير التابعة لعمادة البحث العلمي بجامعة الإمام بالرياض. وكل هذا يدل على نهضة إسلامية لمواجهة الاستشراق مواجهة علمية فكرية ودينية حضارية على أسس علمية وبعيداً عن التعميم والعواطف التي أثرت في الكتابات الإسلامية عن الاستشراق في العقود الماضية.
مظاهر الأزمة الاستشراقية:
من أبرز مظاهر الأزمة الاستشراقية ما يأتي:
1- غياب المستشرق التقليدي وظهور الخبير :
بدأت الدوائر الاستشراقية في أوروبا وفي أمريكا - على وجه الخصوص- تهتم بالواقع السياسي و الديني والاقتصادي والاجتماعي للشعوب الشرقية، وقد تم بهذا التحول من الدراسات الاستشراقية التقليدية - أو ما يسمى بالكلاسيكية- إلى دراسة الواقع الشرقي، وبدأ المستشرقون يهجرون المجالات الاستشراقية التقليدية مثل: مجالات القران، والحديث، والعقيدة الإسلامية، والفقه، والسيرة النبوية، والفرق الإسلامية، ومجالات التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ومجالات الأدب واللغة، وبدأوا يتجهون إلى دراسة الأوضاع الاجتماعية للمجتمعات المسلمة من النواحي السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية.([7])
ويشير هذا التحول الخطير إلى ندرة الموضوعات العلمية وغياب المستشرق المهتم بعلوم القران والحديث والفقه والشريعة وحل بدلاً منه الخبير- والكلمة تعني إنساناً غربياً أو غير غربي متخصص فيما يعرف بشؤون الشرق الأوسط- أي بالأمور المالية والأوضاع التي تمر بها شعوب الشرق الأوسط وغيرها من شعوب الشرق.(25/107)
والكلمة تشير -أيضاً- إلى وظيفة يقوم صاحبها بتوفير المعلومات الحديثة اللازمة للدوائر السياسية والاقتصادية في بلد أوروبي له اهتماماته ومصالحه السياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي وبقية بلاد الشرق. وهذا الخبير ليس لديه دراسة علمية بمجالات الاستشراق التقليدية، وتنقصه الخلفية العلمية في موضوعات الاستشراق التقليدية -إلاّ في حدود ما يحتاج إلى تفسيره من ظواهر حديثة أو أمور واقعة بربطه بشي من الماضي لشعوب الشرق. والمعلومات التي يقدمها للدوائر السياسية والاقتصادية معلومات حية بعيدة عن التوجه الاستشراقي أو الرؤية المذهبة الاستشراقية، فخدماته لا تنتمي إلى علوم الاستشراق، ولكنها خدمات في شكل تحليلات سياسية ودينية -أحياناً- تستفيد منها الدوائر المعنية.
2-ظهور مراكز الدراسات الإقليمية:
وقد نتج عن هذا غياب مراكز الاستشراق التقليدية، وظهور ما يسمى بمراكز بحوث الشرق الأوسط، أو مراكز بحوث ذات طابع إقليمي تهتم بمتابعة الشؤون السياسية والاقتصادية لبلد من بلدان الشرق أو لإقليم منه. فهناك مراكز لبحوث الشرق الأوسط، ومراكز لبحوث الشرق الأقصى، ومراكز مرتبطة ببلد معين مثل: مركز البحوث الإيرانية، أو مركز البحوث اليابانية أو التركية أو الصينية أو معهد الدراسات اليمنية، فهي مراكز متخصصة في بلد واحد، واضطر الغرب إلى غلق معظم المراكز التقليدية. واستبدالها بالمراكز الإقليمية أو القطرية. ووظيفة المركز ككل هي تقديم الخبرات في مجالات السياسة والاقتصاد للدوائر التي تحتاجها مثل وزارات الخارجية والاقتصاد والمنظمات الإقليمية، أو الدولية مثل هيئة الأمم المتحدة، ومنظمة اليونسكو وغيرها.([8])
ويلاحظ متابعة هذه المراكز وخبرائها للأحداث الجارية، ولذلك تتم الاستعانة بهم في التلفزيون والإذاعة والصحافة، فضلاً عن الدوائر الحكومية في تفسير الوقائع التي تحدث في كل بلد، وتوقعات الخبير بالنسبة لمستقبل الحدث سياسياً أو دينياً.
ويلاحظ أيضاً فقدان مراكز هذه البحوث استقلالها، وذلك بسبب ارتباطها المباشر وتمويل مشروعاتها من قبل جهات حكومية معينة أو شركات اقتصادية كبرى لها مصالح اقتصادية في الشرق.
وعلى الرغم من الارتباط القديم بين الاستشراق والتنصير والاستعمار، فهذا الارتباط كان مرتبطاً بالمصالح الاستعمارية والتنصيرية في بعض الفترات، وهو ارتباط لم يلغ شخصية المستشرق، ولم يقض على توجهه العلمي الخاص به. أما الخبير الحال والمركز الذي يتبعه فهو لا يتمتع بالاستقلالية، ولكنه رغم انحسار الاستعمار يرتبط ارتباطاً مباشراً بالدولة صاحبة المصلحة السياسية والاقتصادية أو الشركة صاحبة المصلحة الأخيرة. ويشبه الخبير هنا بجامع المعلومات ذات الطابع الحديث عن بلد شرقي معين، ليست له (الخبير) أهداف علمية، ولا يسعى إلى تحقيق معرفة ذاتية، أو تحصيل فكر ثابت ولكنه جمع المعلومات ويحللها ويقدمها للجهة الرسمية التي تطلبها.
وتعود نشأة الدراسات الإقليمية وتطورها الكبير في الفترة الحالية إلى توجه استشراقي أمريكي للتركيز على دراسة الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية لبلد واحد أو مجموعة بلدان داخل إقليم واحد، ولذلك أطلق عليها اسم "الدراسات القطرية" إذا درست قطراً و" الدراسات الإقليمية " إذا درست إقليماً كاملاً. وهو توجه أمريكي لان أمريكا ليس لها تراث استشراقي تقليدي كبير، كما أنها-لأسباب داخلية- لم تهتم بالعامل الخارجي إلاّ بعد الحرب العالمية الأولى حيث بدأ الاهتمام بالعالم. وقد اكتشف الأمريكان النقض الشديد في الكوادر العلمية المتخصصة في تاريخ شعوب الشرق وحضاراتها وجغرافيتها وآدابها ولغاتها وأديانها. صحيح أن بعض الجامعات الأمريكية قد استعانت ببعض المستشرقين المهاجرين إلى أمريكا ضمن حركة الهجرة الأوروبية العامة إلى ما يسمى بالعالم الجديد، وحصل هؤلاء على وظائف تعليمية في الجامعات الأمريكية ، ولكن لقلتهم ونقص تنظيمهم واتساع أمريكا لم يتمكنوا من تكوين ما يمكن تسميته ب "الاستشراق الأمريكي التقليدي" ولذا يمكن وصف الاستشراق الأمريكي بأنه "استشراق معاصر".
3-ضعف التكوين العلمي والأيدلوجي للمستشرق المعاصر.
نشأة المستشرق التقليدي في ظل مذاهب دينية وفكرية قوية مسيطرة على الفكر الغربيمن أهمها :أ- المدرسة اليهودية في الاستشراق ب- المدرسة النصرانية بصفتهما مدرستين دينيتين قويتين ، وأيضاً في ظل عدد من الأيدولوجيات القوية منها العلمانية ، والشيويعية.
وكل مستشرق تقليدي انتمى إلى واحدة من هذه المدارس والمذاهب يحقق لها أهدافها ويعمل من خلال منهجها، وقد تنوعت المدارس الاستشراقية بسبب تنوع المذاهب الفكرية الغربية -رغم الاتفاق في بعض المظاهر- إلاّ أن كل مدرسة تتميز عن الأخرى من خلال الأيديولوجية التي تمثلها.
وبدأ هذا الوضع الاستشراقي القديم في التغير في القرن العشرين ،وبدأ الضعف الأيدولوجي يدب في الاستشراق لأسباب مرتبطة بالفكر الغربي في هذا القرن ، فالمستشرق ابن بيئته الفكرية ويتأثر بما يطرأ عليها من متغيرات مختلفة ومن أهمها:(25/108)
أ- تدهور الأوضاع الدينية اليهودية والنصرانية.
ب- سيادة العقلانية في الفكر الغربي.
جـ- سيادة العقلانية في الفكر الغربي.
د- انتصار العلمانية
هـ- سقوط الشيوعية.
ز- ظهور المدرسة الإقليمية الأمريكية.
أ-تدهور الأوضاع اليهودية والنصرانية الدينية.
لا يمكن تحديد تاريخ معين لبداية هذا التدهور، ولكن من الممكن اعتبار تفتت اليهودية والنصرانية إلى عدة مذاهب هو العامل الأول في التدهور. فقد انقسمت اليهودية إلى عدة فرق، وكذا النصرانية مما أدى إلى تشتت عملية الدفاع الاستشراقية عن اليهودية والنصرانية، بل توزع المستشرقون أنفسهم إلى عدة مذاهب وأصبح كل منهم يدافع عن مذهبه الديني الخاص ضد الإسلام. فاختلفت حججهم، وتشتت جهودهم وذلك بانعكاس الاختلاف المذهبي على العمل الاستشراقي. ولعل هذا يلاحظ في التنصير كهدف استشراقي نصراني، فكل مستشرق ينصّر حسب مذهبه، ووفق معتقداته الدينية.
ب- سيادة العقلانية في الفكر الغربي:
فمنذ فصل الكنيسة عن الدولة في العصور الوسطى، ودخول الغرب في عصر النهضة ثم في عصر التنوير، أصبحت الحياة الغربية حياة لا علاقة لها بالدين، وتقوم على أساس من العقل المحض الذي طبق على الفكر الديني، وأُخضع الفكر اليهودي والنصراني للنقد العقلي، وأثبت هذا النقد الشغف العقلي للديانتين، وان المعتقدات لا يمكن للعقل تفسيرها فيهما بسبب زيادة الأساطير والخرافات والمتناقضات فيها. كما تم إخضاع الكتاب المقدس( بعهديه) للنقد العقلي، وأثبت علماء نقد الكتاب المقدس عدم إلهية هذه الكتب، وحددوا مصادرها الإنسانية، وفقدت بذلك مكانتها المقدسة واعتبرت من كتب الأدب العالي، بمعنى أنها تمثل أفضل ما استطاع الإنسان إنتاجه، وطبق عليها ما طبق على غيرها من الأعمال الكلاسيكية.
ويعد زيادة العقلانية من الأسباب الرئيسة لتدهور الديانتين في الغرب، وتدهور وضع الكتب المقدسة عندهما.
جـ- انتصار العلمانية
ونتيجة رئيسة لتطبيق المنهج العقلي على الديانتين وكتبهما وإثبات إنسانيتهما وسيطرة الحياة العقلية في الغرب هي أن بدأت العلمانية في الانتشار حيث تخلّى الغرب عن دينه، وأصبحوا بلا دين ملحدين أو علمانيين وان حاولت بعض مذاهب الديانتين التوفيق بين معتقداتها والعلمانية، حيث أنشأت ما يمكن تسميته "علمانية دينية" وقد أثرت العلمانية في المستشرقين تأثيراً كبيراً، فتحول كثير منهم من مستشرقين يهود ونصارى إلى مستشرقين ملحدين وعلمانيين فسقط هدف الدفاع عن اليهودية والنصرانية ليظهر هدف جديد هو نشر الفكر العلماني في الشرق من خلال إبعاد المسلمين عن دينهم من غير إدخالهم في دين آخر. وهناك صعوبة في تحديد المستشرق العلماني، لان هويته غير محددة وبخاصة لاتساع العلمانية وتغطيتها لكل الفكر الغربي اللاديني.
د- ظهور الاستشراق الأمريكي:
وهو استشراق غير تقليدي، لان أمريكا ليس لها تاريخ استشراقي باستثناء بعض المهاجرين من المستشرقين الأوروبيين الذين حملوا معهم أفكار الاستشراق التقليدي، ولكن نظراً لقلتهم لم يكن لهم تأثير كبير على مسيرة الدراسات الاستشراقية هناك،بل خضعوا في النهاية للتوجه الاستشراقي الأمريكي حيث إهمال الدراسات التقليدية لأسباب عملية منها صعوبتها وعدم وجود الاستعداد اللغوي والعلمي للدخول في الاستشراق التقليدي الذي يعود تراثه إلى مدرسة فقه اللغة.
هـ- سقوط الشيوعية:
مثّلت الشيوعية- قبل سقوطها- واحدة من اكبر الأيديولوجيات في العصر الحديث وتمكنت من الوقوف في وجه الغرب الرأسمالي كمنافس قوي، من النواحي الفكرية والسياسية والعسكرية.وتكونت مدرسة كبيرة شيوعية في الاستشراق سيطرت على الدراسات العربية والإسلامية في كل أوروبا الشرقية ، وتمكنت من التغلغل في العديد من البلاد العربية الإسلامية، وأثرت في توجهات بعض مفكريها الذين تبنوا هذه النظرية وفسروا من خلالها الإسلام والأحداث الجارية في الشرق الأوسط. كما أصبح لهذه النظرية أتباع في أوروبا الغربية حيث ظهرت بعض الأحزاب الشيوعية القوية في فرنسا وإيطاليا ..الخ.
وفجأة تبدأ الشيوعية في السقوط، ويتخلى أصحابها عن الأيديولوجية بكاملها وما يهمنا -في هذا الوقت- هو سقوط واحدة من أكبر المدارس الاستشراقية في العالم، وأصبح مصير هذه المدرسة مجهولاً. هل ستحدث فيها تغيرات جديدة فيما يتعلق بالدراسات العربية و الإسلامية؟ هل ستطور المدرسة القديمة من نفسها وتتكيف مع الأوضاع الجديدة؟ وإذا كان الاتحاد السوفيتي -السابق- يتجه الآن إلى النظام الغربي. فهل سينعكس هذا على الدراسات الاستشراقية فيها؟ أم سيكون هناك وجود لمدرستين فيها- مدرسة تقليدية يتولاها بقايا الشيوعيين، ومدرسة حديثة تأخذ بالفكر الرأسمالي أو الأيديولوجيات الأوروبية في دراسة الإسلام.
وما موقف المتخصصين في الدراسات الإسلامية من أبناء المسلمين الذين كانوا بالأمس شيوعيين؟ ودرسوا الإسلام-بالفعل - من وجهة نظر شيوعية؟ هل سيكونون مدرسة إسلامية جديدة؟ أو سيتبعون إحدى المدرستين السابقتين.([9])(25/109)
ولا يمكن التكهن -الآن- بما سيحدث للدراسات الإسلامية والعربية، ولا بد من الانتظار بعض الوقت حتى تتضح الرؤى وتتبلور أفكار هذه المدارس حتى يمكن الحكم على توجهها في دراسة الإسلام.
والعبرة التي نخرج بها من هذا السقوط المخجل للشيوعية ومدرستها الاستشراقية تكمن في: الضعف الأيدلوجي لمدارس الاستشراق -عامة- فقد بدأت معظم هذه الأيديولوجيات تدخل مرحلة من الضعف ستؤدي بها إلى السقوط الأيديولوجي وستؤدي بمدارسها الاستشراقي إلى الانهيار كذلك.
فبعد الشيوعية ستدخل المدرسة الإلحادية والعلمانية في مراحل من الضعف كما دخلت المدرستان الدينيتان اليهودية والنصرانية في مرحلة التدهور الفعلي ويبدو أن العصر الذي نعيشه يشهد -بالفعل- عصر الأزمة الحقيقية للمدارس الاستشراقية.([10])
- الحواشي :
[1] -أنور عبد الملك . " الاستشراق في أزمة" ترجمة حسن قبيسي ، في " الفكر العربي المعاصر" عدد 32 في ص 70.
[2] -المرجع نفسه ص 91.
[3] -أشرنا في الصفحات الماضية إلى مرسوم جديد لم يمض عليه سنوات لتقديم مساعدات وتمويل لهذه الدراسات مع اشتراط عمل المنتسبين لهذه الأقسام للاستخبارات المركزية الأمريكية.
[4]- انظر كتابنا الغرب في مواجهة الإسلام نشرت الطبعة الثانية عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي بالمدينة المنورة عام 1418هـ وفيه إشارة لهذه الترجمة.
[5] - وهل يمكن أن تقوم سفارات الدول العربية والإسلامية بدور شبيه بمساعدة الباحثين والأكاديميين العرب والمسلمين في إجراء بحوثهم في الدول الغربية وتوفر لهم الفرصة للقاء قادة الفكر في الغرب؟
[6] - توقفت الدراسة في هذا القسم منذ عدة سنوات، وهناك اتجاه إلى تحويل القسم إلى مركز بحوث أو معهد للدراسات الاستشراقية، ولكن أرجو أن لا يتحقق هذا الأمر حيث إن القسم ينبغي أن يستمر وأن يزدهر بل أن يتطور إلى كلية للدراسات الأوروبية والأمريكية.
[7] - إن المتابع للدراسات العربية الإسلامية في الجامعات الغربية يجد أن اهتمامهم بالموضوعات ( التقليدية) لم يتوقف فما زالت هناك دراسات حول القران الكريم والحديث الشريف ، والفقه واللغة والآداب، وما زالت الكتب الاستشراقية التقليدية تحتل مكاناً مرموقاً في مصادر الدراسات هناك. ومن ذلك أنني وجدت كتاب توماس آرنولد (الدعوة إلى الإسلام) مرجعاً لإحدى المواد الدراسية في جامعة جورجتاون بواشنطن. وكذلك الحال في جامعة أدنبرة ببريطانيا فقد أفاد الأستاذ طلال ملوش المبتعث من قسم الاستشراق إلى وجود تخصصات في العلوم الشرعية عندهم.
[8] - مع تقديري للدكتور خليفة فليس هذا صحيحاً تماماً ففي مراكز دراسات الشرق الأوسط أو أقسام دراسات الشرق الأوسط ما تزال بعض المواد تتناول دراسة القران الكريم والحديث وغيرها من العلوم الشرعية ، فان فهم العالم الإسلامي لا يمكن أن يتم دون الإلمام الحقيقي بهذه المصادر. قد تكون هذه الدراسات أقل من السابق لكنها لم تتوقف كلياً.(مازن)
[9] - ليس من الصعب معرفة أوضاع الشيوعيين السابقين فقد انضموا إلى صفوف الحكومات العلمانية القائمة في بعض البلاد العربية الإسلامية لمواجهة الحركات الإسلامية أو التيار الإسلامي ، وأخذوا ينادون بالديموقراطية بل إنهم يزايدون على العلمانيين السابقين . كما اهتمت الجامعات الغربية - تخرج كثير منهم فيها- بهؤلاء فوفرت لهم فرص العمل فيها واستضافتهم أساتذة زائرين أو مقيمين . ومن هؤلاء صادق جلال العظم ، وعبد القادر الزغل وغيرهما.
[10] -مع أن المسلم متفائل بطبيعته حيث أن الرسو صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل ويكره التطير، ولكنه واقعي أيضاً فلا بد أن أتحفظ على مثل هذه الأحكام فالجامعات الغربية وبخاصة في الولايات المتحدة- لاطلاعي على بعض نشاطاتها- ما تزال الدراسات العربية والإسلامية فيها مزدهرة جداً ، فهذه الجامعات تنفق مئات الملايين على هذه الدراسات ، ويقوم الباحثون في هذه الجامعات بعقد الندوات والمؤتمرات وينشرون الكتب والدوريات ويقومون بالرحلات العلمية إلى العالم الإسلامي، كما أن الدول الغربية أنشأت معاهد استشراقية في البلاد العربية الإسلامية وهذه تقوم بدور مهم في استمرار الدراسات العربية الإسلامية. وأضيف أيضاً أن البلاد العربية الإسلامية ما تزال ترسل أبناءها للدراسة في الجامعات الغربية في مجال الدراسات العربية الإسلامية وبالتالي فان هذه الجامعات أو المراكز ستبقى مزدهرة. ولكن المطلوب آن يكون لنا دور أكبر في نشاطات هذه الجامعات باشتراك باحثون متمسكون بالإسلام عقيدة وهوية في النشاطات الإسلامية ليسمع صوت الإسلام في هذه المحن
===========(25/110)
(25/111)
السعودية والاستشراق >
بسم الله الرحمن الرحيم
الاهتمام بالاستشراق في السعودية
في العصر الحاضر
مجلة عالم الكتب، مجلد 14، عدد 4، محرم-صفر 1414هـ، يوليو-أغسطس 1993م. الصفحات 422-431
بقلم :د. قاسم السامرائي
تقديم وترجمة د. مازن مطبقاني
عقدت جامعة ليدن الهولندية ندوة حول الدراسات الاستشراقية في الفترة من 2-5مارس 1991، وكانت الكلمة الافتتاحية من نصيب الدكتور إدوارد سعيد، وشارك الأستاذ الدكتور قاسم السامرائي بهذا البحث الذي قُدم باللغة الإنجليزية. وهاهي ترجمته.
لا شك أن السامرائي جدير بتناول هذا الموضوع فخبرته بالاستشراق تعود إلى سنوات دراسته في بريطانيا حيث حصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية على يد المستشرق الإنجليزي المشهور آربري، واستمرت صلة السامرائي بالاستشراق حينما أخذ يهتم بالمخطوطات وتحقيقها ثم انتقاله للعمل في جامعة ليدن بهولندا.
وعمل الدكتور السامرائي في السعودية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في عدة كليات، ثم التحق بمركز البحوث حيث أسس وحدة الاستشراق والتنصير، وكان من إسهاماته في هذه الوحدة ترجمته للعمل الجليل الذي كتبه عبد اللطيف الطيباوي بعنوان "المستشرقون الناطقون باللغة الإنجليزية."
وهاهو الدكتور السامرائي يسهم من جديد في تناول مسألة الاهتمام بالاستشراق في السعودية بمحاضرة أوجز فيها ملامح هذا الاهتمام، واضطر لطبيعة المحاضرة والوقت المخصص لها أن يوجز وأن يحذف الكثير. وكان من الممكن أن يتوقف قليلاً عند قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة فيتحدث بإيجاز عن تأسيس القسم والمناهج التي تدرّس فيه، والعلماء الذين عملوا في القسم والإنجازات العلمية لهذا القسم من رسائل علمية أو مشاركات في مؤتمرات عالمية أو إقليمية وغير ذلك. ولعل باحث آخر يهتم بالاستشراق في السعودية فيعرج على هذه الموضوعات ويوفيها حقها من البحث.
لم يكن عملي في الترجمة صعباً حيث إن معظم النصوص العربية التي استشهد بها المحاضر متوفرة لدي- والحمد لله-وقد عدت إليها، وما بقي من تعليقات وتحليلات للدكتور السامرائي فإن معرفتي الشخصية به وقراءاتي لكتاباته الأخرى أسهمتا في تسهيل المهمة إلى حد ما. ومع ذلك فلا أدعي الكمال لعملي فأشكر من يقدم إلى تصويباً أو نقداً. وأشكر الدكتور السامرائي على مراجعته للترجمة وموافقته على نشرها.
وثمة ملاحظة أخيرة في هذه المقدمة أن الدكتور السامرائي أعد محاضرة جديدة عام 1999م عن الاهتمام بالاستشراق في السعودية وألقيت في ليدن بهولندا وأرجو أن أتمكن من ترجمتها وعرض النص الإنجليزي في هذا الموقع بإذن الله.
النص المترجَم
لا تكاد توجد جهود أكاديمية (جامعية) في عالم الدراسات الإنسانية أسوأ حظاً في سوابقها من الدراسات الإسلامية في الغرب.([1])بهذه العبارة استهل عبد اللطيف طيباوي المقالة الأولى من مقالتيه في نقد المستشرقين الناطقين باللغة الإنجليزية. وبصفتي أول رئيس لوحدة أنشئت حديثاً (1401هـ/1991م) في مركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية باسم وحدة الاستشراق والتنصير، فقد طُلب منّي أن أترجم مقالتي طيباوي إلى العربية. وقد قال مدير الجامعة في تقديمه للترجمة محدداً دوافع إنشاء الوحدة لتصبح قسماً أكاديمياً في المدينة المنورة ضمن كلية الدعوة:" فقد عُنيت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالدراسات الاسشتراقية منطلقة في ذلك من رسالتها العلمية التي توجب عليها رصد البحوث والنشاطات العلمية التي تتخذ من الإسلام ولغته وحضارته وشعوبه مجالاً لبحوثها فكان أن أنشأت وحدة خاصة بتلك الدراسات في مركز البحوث بالرياض وقسماً دراسياً خاصاً بها في المعهد العالي للدعوة الإسلامية (كلية الدعوة حالياً) بالمدينة المنورة."([2])
وواصل معالي المدير حديثه قائلاً:" ولا أريد في هذه المقدمة القصيرة أن أدخل في تفاصيل قضية الاستراق وموقفنا من المستشرقين ،ولكني أشير إلى حقيقة مهمة وهي أن الخطوة الأولى لمقاومة أي فكر منحرف أو تيار معاد هي التعرف عليه وسبر أغواره،وجمع المعلومات الشاملة عنه ،وتحليل تلك المعلومات ونقدها بدقة وأمانة، ومعرفة الأطوار والمراحل التي مر بها والمنطلقات التي انطلق منها والأهداف التي يسعى إليها."([3])
وفي الحقيقة فإن كلمات المدير في العبارات المقتبسة أعلاه تعكس جزئياً الأجواء الحالية التي تسيطر على الاتجاهات الأكاديمية والصحافية كذلك في السعودية في الوقت الراهن، وموقف الغالبية العظمى من النخبة الفكرية الإسلامية.
وليست هذه هي الصورة كاملة ، فمن المؤكد أن الساحة الفكرية ليست خالية تماماً من أولئك الذين يدافعون عن نشاطات المستشرقين الإيجابية بحماسة وبدون تحفظ بينما يشيرون في الوقت نفسه إلى سلبياتهم. إن تأثير هؤلاء محدود بشكل يرثى له ، وصوتهم إنما هو صرخة في واد كما سنرى فيما بعد.(25/112)
وقد لاحظ دونالد ليتل Donald Little بحق عام 1979م أن " ثمة كمية كبيرة من الكتابات حول الاستشراق والمستشرقين كتبت باللغة العربية واللغات الإسلامية الأخرى أعدت خصيصاً للاستهلاك المحلي."([4]) ولكن ما عدّه ليتل كميّة كبيرة قد أصبح ضخماً جداً بعد ثلاث عشرة سنة من ظهور مقالته، وللدقة نقول بأن هذه الكتابات ليست معدة فقط -كما يقول- للاستهلاك المحلي، ذلك أن معظمها قد كتب أو ترجم إلى إحدى اللغات الغربية.
ولإعطاء فكرة حول أهمية موضوع الاستشراق والمستشرقين في الساحة السعودية المعاصرة فمن الكافي أن نذكر أنه وفقا للمادة الببليوغرافية التي بين يدي فقد صدر أكثر من مئتي كتاب ، وليس أقل من ألفي مقالة في السنوات الأخيرةإما بأقلام سعودية أو عرب آخرين يعملون في السعودية. وحتى إن بعض الدوريات المهمة قد خصصت أعداداً خاصة لهذا الموضوع مثل "عالم الكتب" و" الفيصل" و" المنهل" ضمت مقالات مؤيدة أو معارضة للاستشراق. ([5]) وقد أصدر مكتب التربية لدول الخليج العربي كتاباً من جزأين ضم مجموعة بحوث حول " مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية.([6]) وقد أسهم في هذا العمل عشرون متخصصاً تقريباً من جامعات ومؤسسات عليمة مختلفة في العالم العربي بتقديم بحوثهم حول النتائج التي تم التوصل إليها خلال القرنين الأخيرين من الاستشراق.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن معظم الجامعات السعودية السبع تنظم سلسة من المحاضرات من حين لآخر يدعى إليها علماء من هيئة التدريس من هذه الجامعات أو من الخارج ( بما في ذلك أوربيين) وبالطبع فمن موضوعات هذه المحاضرات الاستشراق والمستشرقون. وتسجل هذه المحاضرات عادة - على أشرطة كاسيت، وإما أن توزع مجاناً أو تباع لدى المحلات المتخصصة في بيع أشرطة الكاسيت ، وتوزع هذه التسجيلات على نطاق واسع. والنقطة التي يجب التأكيد عليها هنا أن كلاً من المثقف والعامي ينجذب بسرعة لدرجة أن عنوان مقالة أو عنوان كتاب يحتوي على مصطلح استشراق أو مستشرقين فإنه يثير حب المعرفة لدى القراء، وذلك ببساطة لأن هذه المصطلحات مرتبطة عادة بسوء تمثيل الإسلام وتشويهه حتى للعداء أو التعصب والتحيز ضده. ومع ذلك فإن تحليل كل العوامل التي ساعدت على إيجاد هذا التصور أو تطويره تقع خارج نطاق البحث. وقد ناقش باحث من السعودية هذا الأمر بقوله: "إن (أزمة) المستشرقين (الفكرية) و(الأخلاقية والمشكلات الناتجة عنهما قد أساء إليهم أيما إساءة ،فيكاد )تشويه) الحقيقة الفكرية دينية أو تاريخية أو لغوية أو عملية يصبح ظاهرة عامة في العمل الاستشراقي المبطن والسافر، المباشر وغير المباشر. والنتيجة بسيطة وواضحة شعور عميق بالنفور مما يخلق موقفاً متسماً بالشك إن لم يكن العداء السافر لأعمال المستشرقين، ونتيجة لذلك فإن ظاهرة الاستشراق كمجال علمي من السهل الشك فيها كما أن مكانة المستشرق تصبح موضع تساؤل."([7])
ويشرح أحمد عبد الحميد غراب (خريج جامعة أكسفورد) في كتابه (رؤية إسلامية للاستشراق) مصطلح استشراق كما يأتي: "إن الاستشراق دراسات" أكاديمية" يقوم بها غربيون كافرون من أهل الكتاب بوجه خاص -للإسلام والمسلمين عن شتى الجوانب: عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة وتاريخاً ونظماً، وثروات وإمكانيات… بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم ،ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدّعي العلمية والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي."([8])
إن الاهتمام الأساسي لدى المؤلف الذي يشترك فيه مع غيره من الكتاب السعوديين لا يكمن في الإنتاج الأكاديمي للمستشرقين ولكن في دورهم الحاسم في التأثير وتوجيه الموقف السياسي في دولهم. وهنا يتهم المؤلف المستشرقين بخيانة مبدأ الأخلاق الأكاديمية الذي يتطلب الحياد على الأقل. فالعالم الأمين يجب أن لا يسمح لتعصباته أن تكون عقبة في الطريقة التي يقدم بها الحقائق والمعرفة والاستنتاجات.([9])
ويبدي جميل المصري من جامعة أم القرى في مكة عدم رضاه عن الطريقة التي درس بها المستشرقون وحللوا التاريخ الإسلامي لأنهم- المستشرقون- في نظره يميلون إلى النظر إلى التاريخ الإسلامي من خلفية ثقافية غربية، ووفقاً لمناهج البحث عندهم ومعاييره التي لا تصلح للتطبيق إلاّ على ثقافتهم، وبدلاً من ذلك فهم يلجأون إلى الاقتراحات والتخمينات التي بتكرارها يؤكدون الحقائق المقررة ويطلقون عليها نظريات علمية" وينصبون أنفسهم للحكم على التاريخ الإسلامي."([10]) ويقتبس المؤلف عبارة رودي بارت لتأييد موقفه،وهذه العبارة:" ونحن في هذا نطبق على الإسلام وتاريخه وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها المعيار النقدي الذي نطبقه على تاريخ الفكر عندنا وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن."([11]) ولسوء الحظ يظهر أن المؤلف لم يفهم المعنى العميق لعبارة بارت التي أراد أن يؤكد بوضوح صدقية المعايير النقدية غير الملتزمة بأي ميول ثقافية أو دينية.(25/113)
وفقاً لبعض المؤلفين السعوديين فإن المناهج المطبقة من قبل المستشرقين أدت إلى تشويه التاريخ الإسلامي، وكانت هذه التشوهات هي الفكرة الرئيسية في كتاب نال انتشاراً واسعاً وكتبت حوله عدة عروض وهو كتاب عبد الكريم باز الذي طبع عام 1403هـ/1983م بعنوان (افتراءات فيليب حتّي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي)([12]) وقد حاول المؤلف في كتابه أن يوضح كيف أن المستشرقين غير المؤهلين في علم التاريخ يرتكبون أخطاء فادحة في تفسيراتهم للأحداث التاريخية، وينتقدهم بقسوة لتبنيهم بدون تفكير التشويهات نفسها، ومما يدعو للدهشة أن الإيجابية الوحيدة التي يراها الباز في الاستشراق تعليمه الممتاز للمنهجية ولا يعرف المؤلف سوى عدداً ضئيلاً من المستشرقين الذين قدموا إسهامات إيجابية في دراسة الحضارات القديمة وفي الفهرسة وتحقيق النصوص وتستحق الثناء.([13])
ويطرح باحث آخر من السعودية السؤال الآتي: "ما الباعث لكل هذا؟" وبدون التفكير بمعنى أو صفات الاستشراق ينقل الباحث بدون أو بوعي الرأي الذي قال به المؤلف المصري النصراني بأن "البواعث التجارية السياسية قادت المستشرقين بدراسة الإسلام والشعوب الإسلامية من أجل إخضاعهم للسيطرة الإمبريالية ويواصل المؤلف قوله" إنه الباعث الاستعماري المدروس دراسة دقيقة، فهم يقدمون لنا تراثنا محققاً مطبوعاً لقصور باعنا، وبذلك يبسطون نفوذهم الفكري علينا."([14])
وهذا هو الموضوع الذي تناوله العديد من الكتاب في عدد من الكتب والمقالات. ففي مقالة نشرت في مجلة "الفيصل" عام 1989م كتب محمد سعيد الفخرو متبنياً موقفاً دفاعياً مشيراً إلى عدد كبير من التشويهات من قبل مستشرقين مثل بروكلمان وكاتياني وجولدزيهر وفلهاوزن وميور وآخرين."([15])
وقد نشر أستاذ سعودي بارز في مجال المخطوطات هو الدكتور عباس صالح طاشكندي مقالة بعنوان " المستشرقون ودورهم في تحقيق النصوص العربية."([16]) كرر فيها عيوب الاستشراق الذي ذكرها إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" وربطها بالنقاش التبريري الذي قدّمه نجيب العقيقي في مجلداته الثلاث حول المستشرقين من الاتهامات في محاولة منه لتبرئة المستشرقين من الاتهامات غير المسنودة بالدليل. وبالإضافة إلى ذلك فإن الطاشكندي -المتدرب في مجال الببليوغرافيا- عدّد الفهارس التي يعرف للمخطوطات العربية التي أعدها المستشرقون ونشروها في ألمانيا ، والمملكة المتحدة، والنمسا، وفرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، وهولندا، والدول الإسكندنافية، وروسيا، والولايات المتحدة. وبالرغم من جهد الكاتب لتزيين الأفكار الشائعة حول الاستشراق وبالرغم من إعجابه العميق بعمل المستشرقين في مجالات فهرسة النصوص العربية وتحقيقها -والتي لو تناولناها في المجال الببيلوغرافي - فإن الطاشكندي يراها قد أنجزت لفائدة المستشرقين. ويستنتج الطاشكندي في نهاية مقالته الأفكار التي نقابلها عادة في عدة مطبوعات وحتى عكسها بأن أكثر الجهود الإيجابية للمستشرقين في عملهم النقدي لتحقيق ونشر المخطوطات العربية كانت من أكثر الخدمات المفيدة التي قدموها للدراسات العربية والإسلامية. وهذه الجهود الإيجابية ساهمت في الوقت نفسه في زيادة معرفتهم بتراثنا. وهذا يعني أن المعرفة التي حققوها من خلال دراسة الجوانب الفكرية والثقافية ونقدها المبنية على اختيارهم للمواد المتوفرة جعلت الاستشراق يقدم خدمة عظيمة في تحقيق أهداف الاستشراق الدينية والعسكرية وكذلك السياسية والأيديولوجية.([17])
ومن الواضح أن الطاشكندي وغيره من المؤلفين الذين ذكرنا لم يستطيعوا أن يخفوا إعجابهم المقنع بالمستشرقين في مجال أو آخر. ولا نستطيع مقاومة فكرة أن النقد الذي وجّه للاستشراق قد أسهم في نهاية المطاف في إشاعة كتابات المستشرقين. وقد أشار ناشر سعودي ووزير سابق بارز لهذا الشيوع في تقديمه لكتابي حول الاستشراق بهذه الطريقة: "إن العملية الاستشراقية عملية معقدة جداً…انعكست آثارها على السياسة والاجتماع والحركة الفكرية بل على الحياة العربية الإسلامية كافة….واختلفت فيها الآراء وتباينت حتى لقد اختلط الحق بالباطل …وكان من نتاج ذلك كله بلبلة فكرية واجتماعية لا تزال الأمة تعاني من آثارها.."([18])
وكتابي هذا الذي طبع في الرياض عام 1403هـ/1983م جذب انتباه اثنين من المستشرقين الأوروبيين ودون أن يربطا ما كتبته بالنقاش المعاصر للاستشراق في العالم العربي بعامة وفي السعودية بخاصة فقد وصف أحدهما وهو بروجمان بأنه:" واحد من أكثر الدراسات عداوة سطّره قلم كاتب عربي."([19]) وبالإضافة إلى ذلك فإن ما كتبه الزميل السابق كان مركزاً على ملاحظاتي النقدية للاستشراق فقط، ولكنه فشل في ملاحظة نقدي للدراسات العربية والإسلامية في الكتاب. وثمة تناول أكثر حيدة لما كتبته في رسالة دكتوراه قدمت لجامعة بون عام 1990م أعدها رودلف بالرغم من أنه فشل في فهم مكانة الاستشراق ضمن النقاش المعاصر في العالم العربي.([20])(25/114)
إن الأعمال التي تم اختيار هنا كان بلا ترتيب ولا يمكن أن يقال بأنها تمثل كل وجهات النظر حول الاستشراق في المملكة العربية السعودية. وقد كتب باحث سعودي قائلاً:" إنه من المستحيل على الجهد البشري حصر ،بله دراسة كل الكتب والمقالات التي كتبت لنقد جانب أو آخر في إنتاج المستشرقين."([21]) لقد كتب الدكتور النملة هذه الملاحظة ضمن المناظرة التي نشرتها جريدة الشرق الأوسط السعودية التي تتمتع بتوزيع واسع في السعودية وشمال أفريقيا ومصر وتحت عنوان "قضية الاستشراق " حيث قدمت الصحيفة خمسة أسئلة لعلماء من مختلف التخصصات والقدرات والجنسيات، وهذه الأسئلة هي : (1)هل الاستشراق نعمة أم نقمة ؟ (2)كيف نفرق بين الاستشراق الإيجابي الذي يتوخى الحقيقة والاستشراق السلبي الذي يتلاعب بالحق؟(3) لماذا لا يتصل الحوار بين المستشرقين والمسلمين ؟(4) هلي يمكن أن نستفيد من الاستشراق ولاسيما الإيجابي منه ويف؟(5) ما الذي يبج عمله إزاء التراكم الكمي الهائل عبر القرون لأخطاء الاستشراق ومغالطات المستشرقين ؟([22]) وقدمت الأسئلة إلى ستة عشر عالماً ثمانية منهم سعوديون ،وسبعة منهم يتسنمون مناصب جامعية بينما يعمل الأخير رئيساً للنادي الأدبي في الرياض. وحيث أن هذا البحث يتعلق بالاهتمام بالاستشراق في السعودية في الوقت الحاضر فسوف أقتصر على اختيار الآراء الممثلة للأشخاص الثمانية الذين عبروا عن آرائهم حول هذه القضية.
يقول عبد الله إدريس- رئيس النادي الأدبي في الرياض- " يكون الاستشراق نعمة إذا كان مدعماً بالحيادية التامة، والنظرة الشمولية المعمقة والإنصاف ونشدان الحق والحقيقة دون أن يكون مصحوباً بالبواعث النفسية والاحتقانات التاريخية والتضادات الدينية والاستعمارية أو نبرات الاستعلاء والاستكبار أو لتمهيد بسط النفوذ والهيمنة. ويكون الاستشراق نقمة إذا جاء عكس ذلك."([23]) ومع ذلك فإن آراء العلماء السعوديين الآخرين اختلفت اختلافاً واسعاً بخصوص هذه النقطة، فقد مال كل من محمد الربيع-المدير السابق لمركز البحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- ومصطفى عبد الواحد من جامعة أم القرى بمكة المكرمة لرؤية الاستشراق على أنه "في جوهره حركة استعمارية" كان نعمة على الغرب حيث مهد للغرب الطريق سياسياً للسيطرة على الأمم الأخرى، وبالتالي على الاستشراق نعمة على هذه الدول. ومع ذلك فقد أكدا أنه من الصعب إعطاء حكم عام على حركة الاستشراق بعامة دون الإشارة إلى جوانبها الإيجابية بما في ذلك الجهود التي بذلها المستشرقون الذين كرسوا كثيراً من وقتهم وطاقتهم ليقدموا لنا تلك الروائع من تراثنا وفقاً لمنهج جديد في نقد النصوص. وثانياً إن ريادتهم لنظام جديد في تطبيق منهجية علمية حازمة في بحوثهم قد أثرت بالفعل طريقتنا في البحث وبالتالي استمالت بالفعل علماءنا ليواجهوا التحديات في العالم الجيد المتغير.([24])
وفي الحقيقة فإن معظم العلماء السعوديين الذين شاركوا في النقاش مع أنهم مقتنعون بعيوب دراسة الإسلام كما طورت في أوروبا خلال القرن الماضي إلاّ أنهم مستعدون للاعتراف بالجوانب الإيجابية للاستشراق شريطة أن يلتزم المستشرقون بدرجة معينة من الموضوعية في بحوثهم/ ومع ذلك فإن شكوكهم العميقة لم تبدد تماماً حيث إن معظمهم مازال يعتقد بأن المستشرقين مقيدون بميراث من تعصبات القرون الوسطى التي تظهر في معظم أعمالهم التي تتناول العرب كأمة بصفة عامة والإسلام كدين بصفة خاصة. وتظهر الشكوك في خمس مقالات كتبها محمد أحمد مشهور الحداد ونشرت في صحيفة أخبار العالم الإسلامي عام 1988م.([25])(25/115)
وكتب الدكتور علي شلش ملخصاً النقاش الذي استمر عشر حلقات في "الشرق الأوسط" وبدأ بسرد مفصل لتاريخ الاستشراق معيداً إياه إلى أيام الإمبراطوريتين اليونانية والفارسية واستمر تطوره إلى يومنا هذا وقال:" ومع أن مناظرة " الشرق الأوسط" جاءت من طرف واحد هو طرفنا، ولم تتح للمستشرقين المناقشة والرد ، ففيهم من يهتم بها وينتفع بما طرح فيها. الجديد في هذه المناظرة أن المساهمين فيها اعترفوا بما للمستشرقين من فضل على الدراسات الإسلامية الحديثة، ولا سيما في مجالات نشر التراث وتصنيفه وفهرسته ومناهج دراسته.([26]) وبعد أن كرر شلش سلسلة الانتقادات التي عادة ما يقرأها الإنسان في هذه النقاشات حول المستشرقين انتقد الدكتور شلش المشاركين في النقاش بهذه الطريقة:" وبالرغم من تشوهات الصورة التي رسمها بعض المستشرقين للإسلام والمسلمين فقد أوضح المتناظرون وبينوا مواطن الخلل فيها، بل تمسك أحدهم بأن المستشرقين الذين قاموا بتشويه صورة الإسلام لم يضلونا نحن المسلمين بتلك الصورة المشوهة وإنما يضللون أنفسهم وأقوامهم، ومع ذلك تبقى الحقيقة أن الاستشراق كفرع معرفي يمارس أساساً على المستوى الأكاديمي يجب أن لا يحكم عليه وفقاً لطريقة تفكيرنا ، وكل ما نرجوه هو أن نضع المستشرقين في إطار الثقافة التي تشربوها والعلوم والناهج التي تبروا عليها والعقيدة الدينية التي يعتنقونها والولاء الوطني الذي يناديهم كمواطنين قبل أن يكونوا علماء ،وبعد هذا كله علينا أن نصلح ما أفسدوه بأيدينا ، فهم ليسوا مسلمين ولا يهمنا أن يكونوا معنا، أو علينا ، وإنما يهمنا -أولاً وأخيراً- أن يكونوا موضوعيين وفيهم الموضوعيون بالفعل- وأن نساعدهم على هذه الموضوعية."([27])
ونظراً لمحدودية الوقت المخصص لهذه المحاضرة فإنني مضطر لممارسة "عملية الحذف" كما يقول إدوارد سعيد، وذلك بحذف كمية كبيرة من المادة التي استطعت جمعها في السنوات القليلة الماضية من عملي في السعودية، وسأقول أولاً كلمات حول دور المقالات الصحافية في النقاش السعودي للاستشراق وفي النهاية حول تأثير أشرطة الكاسيت.
إن ظاهرة المقالات في الصحافة والدوريات السعودية قد حققت تغييراً ضخماً في اتجاه طريقة النظرة إلى الاستشراق وتحليله. ومن المؤكد أن معظم الكتاب المذكورين هنا علماء ذوو ثقافة عالية وصحافيين محترفين يكتبون أما من باريس أو نيويورك أو لندن أو جدة أو الرياض، وكثير منهم من جنسيات مختلفة بما فيهم السعوديين ، ومعتقدات متعددة يقدمون إسهامات يومية أو أسبوعية بمراجعة الكتب للمستشرقين أو يكتبون مقالات مستقلة مخصصة لموضوع أو عدة موضوعات محدده. وهكذا ففي عدد واحد اخترته بطريقة عفوية من جريدة "الحياة" التي تصدر في لندن ظهرت ثلاث مراجعات لها تأثير كبير على الاستشراق. وكان الأول مراجعة لكتاب سبق ذكره لأحمد غراب هو "رؤية إسلامية للاستشراق" وكتب العرض سيد حسان من جدة،والثاني مراجعة لكتاب يوجين يونج "اليقظة العربية الإسلامية" وكتبه مازن بلال، وجاء الثالث بقلم عمّار الجندي من لندن الذي حلل رسالة دكتوراه حديثة قدمت لجامعة وارويك Wa r wick أعدها جون دكسون John Dickson عنوانها " مصر في كتب الرحالة الإنجليز والفرنسيين بين عام 1789و 1882م" وكان العرض بعنوان : تمازج الشرق الغرب:هل أخطأ إدوارد سعيد في معالجة كتب الرحالة الإنجليز والفرنسيين؟" وقد بدأ الكاتب عرضه بتقويم لكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" بالعبارات التالية" لقد هز ظهور كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" في السبعينيات الأكاديميين الغربيين لدرجة أن القيود المفروضة على مجال أكاديمي قديم كان حتى ذلك الوقت غامضاً أو مشوشاً، وكان إلى درجة كبيرة خاضعاً للنسيان وكان بالتالي محدداً( أي معلوم التعريف ولكن لم يتم احتواؤه)([28]) واستمر الكاتب يقدم للقارئ عرضاً مشوباً بالإعجاب للموضوعات والأفكار التي عالجها دكسون دون إغفال أو إضافة تأييده أو رفضه لردود فعل المؤلف حول بعض النقاط التي تناولها سعيد. ووفقاً للكاتب فإن دكسون قد أساء فهم العلاقة المعقدة بين مسألتي الرحالة من جهة والفرع المعرفي للاستشراق من جهة أخرى الذي خصص له سعيد جزءاً كبيراً في كتابه. إن اتهام دكسون بأن سعيد قدّم تعميمات غير مقبولة وأحكاماً جزافية كان بالنسبة لكاتب العرض تكراراً للاتهامات القديمة التي شنها سابقاً جابرائيلي Gab r ieli في كتابه "اعتذار للاستشراق" وصادق جلال العظم في مقالته " الاستشراق معكوساً" وكذلك من قبل آخرين.([29])(25/116)
إن معظم الموضوعات التي تناولها كتّاب الأعمدة والمقالات موضوعات ذات طبيعة معاصرة وأهم هذه الموضوعات استمرار سوء تمثيل الإسلام كدين في الإعلام الغربي من قبل مستشرقين بسبب أن هؤلاء المستشرقين يقومون حقيقة بدور حاسم في استمرار هذا التشويه لأنهم يحتكرون المعلومات عن الإسلام حيث إن وسائل الإعلام لا تحصل على المعلومات إلاّ عن طريقهم. وقد كتب مازن مطبقاني الذي درس في الجامعات الأمريكية مقالة في صحيفة"المسلمون" بعنوان " لماذا يخوفون الغرب بالإسلام" ([30]) جاء فيها قوله:" نشر القس مارستون سبايت r ev. Ma r ston Speight من معهد هارتفورد اللاهوتي مقالة بعنوان " هل يصبح الإسلام الشبح الجديد؟"وفي هذا المقال يتعجب سبايت فيما إذا كان انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي (السابق) سيدعو أولئك الأمريكيين الذين عادة ما يسهبون في الحديث عن الخطر المفترض من الشيوعية إلى إبدال الإسلام بالشيوعية كشبح مخيف لأمريكا والعالم بتقديمه كذلك. ويؤكد كاتب المقال ( المطبقاني) بأن مثل هذا الخوف يمكن تبريره عند قراءة مقالة نشرها شارلز كروتهامر Cha r les K r uthamme r في صحيفة أمريكية بعنوان " الإسلام يشن حرباً عالمية" يصف فيها المسلمين في مطالبتهم بالاستقلال السياسي من الاتحاد السوفيتي سابقاً بأنها حركة مثيرة بقدر إثارة الاتحاد السوفيتي نفسه، ويطلق كروتهامر على هذه المطالبات بأنها "انتفاضة كونية" ويرى أن ما يجعل هذه الحركة مخيفة أن قوة الإسلام استبدادية وغير متسامحة. وينهي المطبقاني مقالته بقوله " وبعد أيام من اطلاعي على مقالة كروتهامر علمت أن الأستاذ الجامعي البروفيسور برنارد لويس قد قدّم محاضرة في مكتبة الكونجرس الأمريكي حول عداوة المسلمين (المزعومة( لأمريكا. وأعاد المحاضر قراءة محاضرته في معهد هوفر ومرة أخرى في جامعة ستانفورد. وأخيرا ًنشر المحاضرة نفسها بعنوان " جذور الغيظ الإسلامي" ([31])
ومن نفس المنطلق نجد عاصم حمدان -خريج جامعة مانشستر - الذي يكتب بصفة مستمرة في جريدة " المدينة المنورة" كتب نقداً عنيفاً ضد الصحافي البريطاني روبرت كيلوري سيلك r obe r t Kilo r y Silk من جريدة التايمز اللندنية حيث ظهرت مقالة سيلك في 13فبراير 1989م بعنوان " العقل الدولي سيادتنا" مما دفع عاصم حمدان لكتابة ثلاثة مقالات قوية لكنها كشفت عن فهم عميق ورائع للفكر الغربي. ففي المقالة الأولى ناقش حمدان ضمن موضوعات أخرى قائلاً" عن المتتبع للحركة الثقافية والعلمية في الغرب يجد أن هذا الموقف المضاد للإسلام والمسلمين إنما مرده لنوعية الثقافة التي يتلقاها الفرد الأوروبي من هذه المصادر الثقافية والوسائل الإعلامية التي لا تترك مناسبة سانحة إلاّ وتوجه من خلالها العديد من الاتهامات للدين الإسلامي، ولكن دون دليل يثبت ما تذهب إليه من تهم أو تبحث من قضايا إنما هو الحقد المتأصل، والمواقف المتوارثة عن المؤسسات الاستشراقية المتعصبة. وما الذي جعل روبرت سيلك في أثناء مناقشته للأمور التي سيواجهها العالم بعد انهيار الشيوعية " يذم الإسلام والمسلمين على أنهم أعظم دعاة لأعظم الشرور التي شاهدها العالم." ويميز الكاتب بين ثلاثة أسباب مسؤولة عن هذه الهجمة الثقافية الشرسة وهي: "الجهل بطبيعة الدين الإسلامي، والخلفية العنصرية والأعمال الصهيونية الناجحة وبخاصة من كتّاب يهود تفسح لهم الصحافة الغربية صفحاتها والتي تنسف كل المجادلات الجادة التي يبذلها المسلمون لشرح مواقفهم الحقيقية للمجتمعات المسيحية الغربية."([32]) وفي المقالة الثانية خص الكاتب برنارد لويس على أنه واحد من المنشغلين بتوسيع الفجوة بين المسلمين والغرب.([33])
ويشرح كاتب آخر من منظور مختلف كلياً موقف العداء الغربي ضد الإسلام بلفت الانتباه إلى الحقيقة التي مفادها أنه في الأشهر الستة الأولى من عام 1991 ظهر ما لا يقل عن واحد وثمانين وأربعمئة كتاب في اللغة الإنجليزية وحدها ، وأكثر من أربعمئة كتاب في الفرنسية حول الإسلام وجوانبه المختلفة والتي يكفي الملاحظ الأهمية الفريدة بالنسبة للعقل الغربي لفهم الإسلام. ولا يمكن أن يقال أن هذا من معظم الكتب التي قرأها ولكن الدافع لكثرة هذه الكتب في نظر الكاتب ليس لفهم الإسلام " وإنما من الخوف والتوتر والقلق من عدو غامض جديد ، فالعلمانيون الغربيون يبدون أنهم الأوغاد الذين يديرون حملة العداء لأن الإسلام يدعو إلى المبادئ الأخلاقية التي تدعو لها النصرانية والتي رفضت منذ زمن بعيد في الغرب."([34])(25/117)
كما تنعكس جدلية الاستشراق أيضاً في محاضرات تنتشر عن طريق أشرطة الكاسيت ومعظم المتحدثين يسهب في الحديث عن نماذج معروفة سابقاً وإن الشريط الذي اخترته للنقاش ليس استثناء ولكنه يصور الاستشراق وفقاً لرؤية جديدة فقد اشتكى الدكتور أكرم ضياء العمري أستاذ التاريخ الإسلامي بالجامعة الإسلامية في محاضرة عامة عام 1986م من سلبية المستشرقين البارزة في دراساتهم لأي أمر يتعلق بالإسلام بالعكس من دراساتهم لأي دين أو معتقد آخر سواءً كان ديناً توحيدياً أو غير ذلك. ومما أزعج العمري كثيراً أن كثيراً من كتابات المستشرقين قد تترجم وتُتَبنّى آراؤهم من قبل علماء عرب ومسلمين في الماضي والحاضر في أنحاء العالم الإسلامي. وقد حان الوقت أن يبذل العلماء المسلمون جهوداً كبيرة لتحدي سيطرة الهجمة الفكرية الغربية. وقال العمري في ختام محاضرته بأن الاستشراق حركة أكاديمية وقد حققت معظم أهدافها ،وإن لم تحقق جميع أهدافها بعد. ويستمر الاستشراق كحركة أكاديمية أساساً موجهة نحو الغرب. وسوف يستمر المستشرقون في الكتابة عنّا في دورياتهم التي بلغت ثلاثمئة دورية محللين أوضاعنا وبالتالي الحكم علينا وتمثيلنا بدلاً من أن نقوم نحن بتمثيل أنفسنا أما أنفسنا، وهذا بالفعل واجبنا نحن وليس واجبهم. وإنها بالتالي مسؤولية مؤسساتنا الأكاديمية لممارسة دورها الريادي لتمثيلنا كما نحن للآخرين وليس ثمة حاجة لمفهوم المستشرقين نحونا.([35])
وفي الختام أود أن أقتبس بعض الملاحظات التي أدلى بها إليّ شخصياً كاتب صحافي السعودية يكتب أساساً حول الاستشراق:" ليس خطؤنا أن نكون حريصين على إثبات تفوقنا وأننا عدائيون نحو الاستشراق كفرع أكاديمي لأننا كتلاميذ سابقين له تعلمنا من المستشرقين أنفسهم ومن خلال كتاباتهم وتدريسهم أن نكون موضوعيين. يجب أن نوجه اللوم إليهم لموقفنا العدائي نحوهم،وهو عداؤهم نحونا وفوق ذلك المعاملة الشخصية غير العادلة التي عومل بها بعضنا من قبل أحد الأساتذة أو أكثر."
وعلي أي حال فإن عمل المستشرقين وإنجازاتهم قد نوقشت وأنكرت وحتى إن هذا العمل يثير شعوراً بالتضارب والتناقض المستمر في كل مطبوعة تقريباً . يعترف كل كاتب بطريقته بأن المستشرقين قد قدموا إسهامات قيمة لمعرفة الإسلام ككل والتراث العربي بصفة خاصة، ومع ذلك فإن إدراك مصداقية أو عدم مصداقية النقد المتداول في السعودية حالياً والعالم العربي لا يبرر في النهاية إلغاءه كلياً في مواجهة الاتصالات المتنامية، والعلاقات المتبادلة في العالم الحديث. وسواءً وافقنا أو لم نوافق مع هؤلاء الكتاب فثمة أسباب جيدة للاعتقاد بأن الاستشراق كما هو الآن ليس جامداً كما يعتقد بعض منتقديه. ولا أحد يعترض أن الوقت مناسب الآن للتغيير.
إن اعتراضهم الأساس مركز على نقص الموضوعية لدى المستشرقين وسواءً كان هذا الاعتراض له ما يبرره أم لا فذلك خارج تماماً عن نطاق هذه المحاضرة،ويستحق دراسة منفصلة موسعة.
- الحواشي :
1- عبد اللطيف الطيباوي. المستشرقون الناطقون باللغة الإنجليزية .ترجمة قاسم السامرائي (الرياض:جامعة الإمام محمد بن سعود 1411هـ/1991م) ص 8.
2- المرجع نفسه . تقديم مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً ،ص 5.
3- المرجع نفسه والصفحة نفسها.
4-Donald Little." Istish r aq and Mustash r igun" in The Muslim Wo r lk.Vol.LXIX. No.2, 1979, P110.
5- عالم الكتب،مجلد 5، عدد 1 أبريل 1984م، والمنهل، مجلد 50، عدد 471، رمضان وشوال 1409ـأبريل ومايو 1989م
6- مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية( الرياض: مكتب التربية العربي 1405) مجلدان.
7-أحمد عبد الحميد غراب. رؤية إسلامية للاستشراق. ط2 ( بيرمنجهام: المنتدى الإسلامي، 1411هـ)ص 7.
8- المرجع نفسه والصفحة نفسها.
9- المرجع نفسه ص 181.
10- جميل عبد الله المصري. دواعي الفتوحات الإسلامية ودعاوى المستشرقين.(دمشق وبيروت: دار القلم والدار الشامية، 1411هـ/1991) ص 7و9.
11- رودي بارت. الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية. ترجمة مصطفى ماهر( القاهرة بدون تاريخ) ص 10.
12- عبد الكريم علي باز. افتراءات فيليب حتّى وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي(جدة: تهامة للنشر، 1403-1983م)
13- عبد العزيز محمد اللميلم. "افتراءات فيليب حتّي وكارل بروكلمان على التاريخ الإسلامي" لعبد الكريم باز عرض في مجلة عالم الكتب، عدد 1 مجلد 5،أبريل 1984م ص 208 وما بعدها.
14- محمد عبد الله مليباري .المستشرقون والدراسات الإسلامية. (الرياض :دار الرفاعي، 1410هـ)ص 47.
15- محمد سعيد فخرو. " الاستشراق والإسلام" في الفيصل، عدد 105، ذو الحجة 1409، يوليه 1989م ص 95-98.
16- عباس صالح طاشكندي. " المستشرقون ودورهم في تحقيق المخطوطات العربية " في عالم الكتب، مجلد 5 عدد 1 رجب 1404هـ/ أبريل 1984م ص 5-14.
17- المرجع نفسه.
18- قاسم السامرائي . الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية. (الرياض: دار الرفاعي 1403هـ/1983م) ص 6 من تقديم الناشر عبد العزيز الرفاعي رحمه الله.(25/118)
19- لم يذكر الباحث ( المحاضر) بقية المعلومات المكتبية حول الكتاب الذي هو B r ugman .Manusc r ipts of the Middle East وقد تعجب المحاضر أن يكون الكتاب حول المخطوطات ويتناول كتاباً موضوعاً لصاحب المحاضرة.
20 صلى الله عليه وسلمudolph, Westliche. " Islam wissenschaft in Speigal Muslimiche r Ki r tik, Be r lin 1991.
21- علي إبراهيم النملة. " قضية الاستشراق في مناظرة الشرق الأوسط. في الشرق الأوسط. عدد 4626في 29/7/ 1991.
22- الشرق الأوسط، عدد 4626في 27/7/1991م ص 22.
23-عبد الله بن إدريس /" مناظرة الشرق الأوسط حول الاستشراق عدد 4625 في 28/7/1991
24- محمد عبد الرحمن الربيّع ومصطفى عبد الواحد ، المرجع نفسه ، عدد 4633، 5/8/1991م.
25 - محمد أحمد مشهور حداد . " الاستشراق" في أخبار العالم الإسلامي.مكة المكرمة، الأعداد 1071-1075.
26 - علي شلش. " تعقيب على قضية الاستشراق " في الشرق الأوسط ، عدد 4636في 8/8/1991/
27 - المرجع نفسه.
28- عمّار الجندي " مصر في كتب الرحّالة الإنجليز والفرنسيين" في الحياة ، عدد 10612، 27/2/1992م، ص 19.
29- المرجع نفسه.
30- مازن مطبقاني. " لماذا يخوفون الغرب بالإسلام؟" في المسلمون. عدد 307، في 4/5 /1411هـ 21/12/1990.
31-Be r na r d Lewis " The r oots of Muslim r age" in The Atlantic Monthly. Septembe r 1992.
32- عاصم حمدان." الإسلام في الكتابات الغربية الحديثة1" في المدينة المنورة 11/1/1990 و18/1/1990.
33 - المرجع نفسه
34- أمير طاهري." الكتب الجديدة والعلاقة بين الغرب والإسلام" في الشرق الأوسط، عدد 4521، 15/4/1991م.
35- أكرم ضياء العمري. " الاستشراق هل استنفذ أغراضه؟" محاضرة عامة ألقيت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1406 ونشرت في جريدة المدينة المنورة ، أعدها للنشر مازن مطبقاني في العددين 9106 و 9116 في 28/10/1412و 5/11/1412هـ في ملحق التراث.
================(25/119)
(25/120)
مدارس الاستشراق > المدرسة الإيطالية >
لا بد من البدء في إيطاليا ذلك أنها مهد الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا، فقد كان البابوات هم الذين وجهوا إلى دراسة اللغة العربية، ومن هنا صدر القرار البابوي بإنشاء ستة كراسٍ لتعليم اللغة العربية في باريس ونابولي وسالونيكا وغيرها، وقد تعاون مجموعة من نصارى الشام مع الكنيسة الكاثوليكية لنشر الديانة الكاثوليكية في المشرق، وقد بدأ هذا التعاون باتحاد الكنيستين المارونية والكاثوليكية عام 1575م، وقام المارونيون بترجمة العديد من كتب اللاهوت إلى اللغة العربية.
واستمر اهتمام إيطاليا بالعالم الإسلامي وظهر مستشرقون في المجالات المختلفة ومن هؤلاء على سبيل المثال المستشرق الأمير كايتياني الذي أصدر مؤلفه الكبير(حوليات الإسلامي)، ومنهم أيضا المستشرق كارلو نيللو الذي درّس الفلك والأدب في جامعة القاهرة.[1] وفيما يأتي بعض أعلام المدرسة الاستشراقية الإيطالية:
1- ديفيد سانتيلاناDavid Santillanaا (1855-1931)
ولد في تونس، حصل على الدكتوراه في القانون من جامعة روما وتخصص في الفقه الإسلامي والفلسفة الإسلامية، أسهم في وضع القانونين المدني والتجاري بالاعتماد على الشريعة الإسلامية، عمل في الجامعة المصرية أستاذاً لتاريخ الفلسفة، ثم عمل في جامعة روما أستاذاً للقانون الإسلامي، له العديد من الآثار في مجال الفقه والقانون المقارن.
2- الأمير ليوني كايتاني Leone Caetaniي(1869-1926)
من أبزر المستشرقين الإيطاليين، فقد كان يتقن عدة لغات منها العربية والفارسية، عمل سفيراً لبلاده في الولايات المتحدة، زار الكثير من البلدان الشرقية منها الهند وإيران ومصر وسوريا ولبنان، من أبرز مؤلفاته حوليات الإسلام المكون من عشرة مجلدات تناولت تاريخ الإسلام حتى عام 35هـ. وأنفق كثيراً من أمواله على البعثات العلمية لدراسة المنطقة، يعد كتابه الحوليات مرجعاً مهماً لكثير من المستشرقين.
3 - كارلو نللينو"Ca r lo Alfoso Nallino"و ( (1872-1938
ولد في تورينو وتعلم العربية في جامعتها، عمل أستاذاً للغة العربية في المعهد العلمي الشرقي بنابولي ثم أستاذاً بجامعة بالرمو ثم جامعة روما، وعين أستاذاً للتاريخ والدراسات الإسلامية في جامعة روما، ودعي من قبل الجامعة المصرية محاضراً في الفلك ثم في الأدب العربي ثم في تاريخ جنوب الجزيرة العربية قبل الإسلام.
- الحواشي :
[1] - يراجع نجيب العقيقي في كتابه المستشرقون، الجزء الأول
==============(25/121)
(25/122)
مدارس الاستشراق > المدرسة الهولندية >
يعد كتاب الدكتور قاسم السامرائي (الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية) مرجعاً مهماً في دراسة الاستشراق الهولندي فقد ذكر أن الاستشراق الهولندي لا يختلف عن الاستشراق الأوروبي في أنه انطلق مدفوعاً بالروح التنصيرية، وأن هولندا كانت تدور في الفلك البابوي الكاثوليكي[1].
وقد اهتم المستشرقون الهولنديون باللغة العربية ومعاجمها كما اهتموا بتحقيق النصوص العربية، ومما يميز الاستشراق الهولندي وجود مؤسسة برل التي تولت طباعة الموسوعة الإسلامية ونشرها في طبعتيها الأولى والثانية، كما تقوم هذه المؤسسة بطباعة كثير من الكتب حول الإسلام والمسلمين.
ومن أبرز المستشرقين الهولنديين سنوك هورخرونيه الذي ادعى الإسلام وتسمى باسم الحاج عبد الغفار، وذهب إلى مكة المكرمة ومكث ستة أشهر حتى طردته السلطات من هناك، فرحل إلى إندونيسيا ليعمل مع السلطات الهولندية المحتلة لتدعيم الاحتلال في ذلك البلد الإسلامي، ومن أعلام الاستشراق الهولندي أيضا دي خويه (ت1909م) وفنسنك صاحب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، وله كتاب في العقيدة الإسلامية، وكذلك المستشرق منسنك والمستشرق دوزي.
وذكر الدكتور السامرائي أن الاستشراق الهولندي شهد في السنوات الماضية ظهور تيار من المستشرقين الشباب الذين يميلون إلى النظرة الموضوعية إلى الإسلام وقضاياه وهذا مما أثار حنق وغضب المستشرقين الأكبر سناً، ولهولندا مركز للبحوث والدراسات العربية والإسلامية في مصر. وقد تولّت جامعة ليدن تنظيم مؤتمر عالمي حول الإسلام في القرن الواحد والعشرين في الفترة من 3-7 يونيو 1996 بالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية الإندونيسية، وحضر المؤتمر مئة وعشرون باحثاً من أنحاء العالم، وقد بحث المؤتمرون أوضاع العالم الإسلامي في القرن القادم من خلال ثلاثة محاور:
q الإسلام والمجتمع الدولي
q والإسلام والتنمية
q والإسلام والتعليم.
وقد عقد المؤتمر الثاني في مصر وكان طابعه رسمياً أكثر منه علمياً. ولم يعقد المؤتمر الثالث حسب علمي حتى الآن.
من أعلام الاستشراق الهولندي
1- رانيهارت دوزي r ienha r t Dozy ء (1820م-1883م)
ولد في 21 فبراير 1920م في مدينة ليدن، بدأ دراسة العربية في المرحلة الثانوية وواصل هذه الدراسة في الجامعة، حصل على الدكتوراه عام 1881م عن بحثه (أخبار بني عيّاد عن الكتاب العرب) اهتم بالمخطوطات العربية وبخاصة كتاب الذخيرة لابن بسام وغيره من الكتب، اهتم بتاريخ المسلمين في الأندلس وأبرز كتبه تاريخ المسلمين في اسبانيا المكون من عدة مجلدات.
2- مايكال دي خويه Michael Jan De Gojeء (1836م-1909م).
ولد في 9 أغسطس 1836م، تخصص في جامعة ليدن بالدراسات الشرقية ومن أساتذته المستشرق دوزي وكانت رسالته للدكتوراه بعنوان (نموذج من الكتابات الشرقية في وصف المغرب مأخوذ من كتاب البلدان لليعقوبي، عمل في التدريس بجامعة ليدن، وكان أبرز اهتماماته الجغرافيا وكذلك التاريخ الإسلامي، ومن إنتاجه تحقيق كتاب فتوح البلدان للبلاذري، كما شارك وأشرف على تحقيق تاريخ الطبري، وهو غزير الإنتاج.
3- سنوك هورخرونيهCh r istiaan Snouk Hu r g r onje ء (1857م-1936م)
ولد في 8فبراير 1857م، درس اللاهوت ثم بدأ دراسة العربية والإسلام على يد المستشرق دي خويه، ودرس كذلك على يد مستشرقين آخرين منهم المستشرق الألماني نولدكه، كانت رسالته للدكتوراه حول الحج إلى مكة المكرمة عام 1880م. عمل مدرساً في معهد تكوين الموظفين في الهند الشرقية (إندونيسيا)، أعلن إسلامه وتسمى باسم عبد الغفار وسافر إلى مكة المكرمة وأمضى فيها ستة أشهر ونصف، تعرف خلال هذه الفترة على عدد من الشخصيات في مكة وبخاصة الذين تعود أصولهم إلى الجزر الإندونيسية، جمع مادة كتابه عن مكة المكرمة.
انتقل إلى العمل في إندونيسيا لخدمة الاستعمار الهولندي حيث عمل مستشاراً لإدارة المستعمرات في عام 1891م، يعد سنوك نموذجاً للمستشرق الذي خدم الاستعمار خدمات كبيرة وسخّر علمه لهذا الغرض.[2]
تعريف أوسع في الرابط الآتي
سنوك من كتاب تاريخ مكة
4- أرنت فنسنكA r net Jan Wensink ء (1882م-1939م)
تتلمذ على يد المستشرق هوتسمان ودي خويه وسنوك هورخرونيه وسخاو .حصل على الدكتوراه في بحثه (محمد واليهود في المدينة) عام 1908م. بدأ في عمل معجم مفهرس لألفاظ الحديث الشريف مستعيناً بعدد كبير من الباحثين وتمويل من أكاديمية العلوم في أمستردام ومؤسسات هولندية وأوروبية أخرى، وأصدر كتاباً في فهرسة الحديث ترجمه فؤاد عبد الباقي بعنوان (مفتاح كنوز السنة) أشرف على طباعة كتابات سنوك هورخرونيه في ستة مجلدات، له مؤلفات عديدة منها كتاب في العقيدة الإسلامية نشأتها وتطورها التاريخي.
5- جاك واردنبرجJacque Waa r denbu r g ء [3](25/123)
ولد في 15 مارس 1930م، درس القانون بجامعة أمستردام ودرس أيضاً علم اللاهوت بالجامعة نفسها.درس العربية في الفترة من 1953م إلى 1956م بجامعة أمستردام وفي ليدن وفي مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس، حصل على منحة من اليونسكو لزيارة بعض الدول العربية والإسلامية فزار إيران ولبنان ومصر والأردن كانت رسالته للدكتوراه بعنوان (الإسلام في مرآة الغرب) من جامعة أمستردام، عمل في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة ما قيل بكندا في الفترة من 1962م- 1963م، قام بزيارات علمية لأجراء بحوث حول الجامعات في العالم العربي في كل من تونس ولبنان وسوريا والعراق والأردن، عمل باحثاً زائراً في جامعة كليفورينا- لوس أنجلوس وعمل في مجال التدريس في جامعة أوترخت بهولندا (1968م-1987م) ثم انتقل إلى جامعة لوزان بسويسرا وبقي فيها حتى تقاعد عام 1995م.
له إنتاج غزير في مجال الدراسات الإسلامية منها (الإسلام في مرآة الغرب) و(واقع الجامعات العربية -مجلدان) والطرق الكلاسيكية لدراسة الدين، شارك في الكتابة في دائرة المعارف الإسلامية (الطبعة الثانية) وقد كتب مادة ( مستشرقون).
- الحواشي :
[1] - قاسم السامرائي .الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية ( الرياض: 1403) ص 103
[2] -انظر ترجمته بتوسع في كتاب السامرائي. السابق ذكره أعلاه، الصفحات 110-140.
[3] -هذه الترجمة مختصرة من ترجمة موسعه بقلم واردنبرج نفسه قدمها للباحث.
=================(25/124)
(25/125)
مدارس الاستشراق > المدرسة الفرنسية >
تعد المدرسة الفرنسية من أهم المدارس الاستشراقية وبخاصة منذ إنشاء مدرسة اللغات الشرقية الحية سنة 1795م 1والتي رأسها المستشرق المشهور سلفستر دي ساسي، وكان هذا المستشرق يعد عميد الاستشراق الأوروبي في النصف الأول من القرن التاسع عشر دون منافس.[1]
ويقول السامرائي عن كتاب ساسي في قواعد اللغة العربية إنّه "قد لوّن الاستشراق الأوروبي بصبغة فرنسية، "أما اهتمامات دي ساسي فقد تنوعت حيث شملت اللغة العربية وآدابها والتاريخ والفرق والجغرافيا، وهي فترة كما يقول السامرائي افتقدت إلى التخصص حيث كان المستشرق بمجرد دخوله هذا المجال يظن أنه يستطيع أن يكتب في كل ما يخص الإسلام والمسلمين، ولكن هذا النمط استمر كثيراً بعد هذه الفترة حتى يومنا هذا .[2]
ونشط الاستشراق الفرنسي قبل الحملة الفرنسية على مصر وبعدها، فقد اصطحب نابليون معه عدداً كبيراً من العلماء في المجالات المختلفة ليحدث هزة انبهار لدى المسلمين وعلمائهم بالحضارة الغربية، وليزيد في دراسة أوضاع المجتمعات الإسلامية، وقد صدر عن هذه الحملة كتاباً ضخما بعنوان (وصف مصر) كما إن نفوذ الاستشراق الفرنسي استمر بعد وصول محمد علي سرششمة إلى السلطة حيث بدأت البعثات العلمية في عهده وكانت تحت إشراف المستشرق الفرنسي جومار، وقد أرسلت تركيا وإيران والمغرب الأقصى بعثات مماثلة، ويقول الأستاذ محمد الصباغ في كتابه عن الابتعاث ومخاطره أن السبب في أن أولى البعثات العلمية قد توجهت إلى فرنسا أنها كانت أول الدول الأوروبية التي اتخذت العلمانية منهج حياة، وان الفساد الأخلاقي كان ينتشر فيها أكثر من غيرها من الدول الأوروبية.
ويذكر المنوني في كتابه المهم (يقظة المغرب العربي الحديث) أن المشرف على البعثة المغربية كتب إلى السلطات الفرنسية لتسمح للمبتعثين بالبقاء في فرنسا مدة من الزمن بعد انتهاء مهمتهم ليتشبعوا بالحضارة الفرنسية وعظمة فرنسا، ويقول المستشرق الإنجليزي برنارد لويس أن المعلمين الفرنسيين الذين بعثتهم فرنسا لتدريب الجيش التركي حملوا معهم كتبا مختارة في الأدب والفكر، كما إن الطلاب المبتعثين شُجّعوا على قراءة كتب الأدب والثقافة.
وأنشأ الفرنسيون في العصر الحاضر الكثير من مراكز الدراسات الاستشراقية والأقسام العلمية في جامعاتهم ومنها جامعة السوربون في باريس وجامعة ليون وجامعة مارسيليا وجامعة اكس ان بروفانس وغيرها، ومن المراكز المهمة معهد دراسات المجتمعات المتوسطية، ومركز دراسات وبحوث العالم العربي والإسلامي بإكس، وتستضيف فرنسا حالياً عدداً من الباحثين المسلمين الذي انحرفوا عقديا وفكرياً وتهيئ لهم الفرص لبث فكرهم، ولا تكاد تفتح إحدى الصحف المهاجرة إلّا وتقرأ أسماء هؤلاء كأن العالم الإسلامي لم ينجب إلاّ المنحرفين.
من أعلام المستشرقين الفرنسيين
1- سيلفستر دي ساسي Silveste r de Sacyء (1758م-1838م)
ولد في باريس عام 1758م، وتعلم اللاتينية واليونانية ثم درس على بعض القساوسة منهم القس مور والأب بارتارو، ثم درس العربية والفارسية والتركية. عمل في نشر المخطوطات الشرقية في مكتبة باريس الوطنية، وكتب العديد من البحوث حول العرب وآدابهم وحقق عدداً من المخطوطات.
عين أستاذا للغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية الحية عام 1795م وأعد كتاباً في النحو ترجم إلى الإنجليزية والألمانية والدنمركية، وأصبح مديراً لهذه المدرسة عام 1833م، وعندما تأسست الجمعية الآسيوية انتخب رئيساً لها عام 1822م. ومن أبرز اهتماماته "الدروز" حيث ألف كتاباً حولهم في جزأين، أصبحت فرنسا في عهده قبلة المستشرقين من جميع أنحاء القارة الأوروبية ويقول أحد الباحثين إنّ الاستشراق اصطبغ بالصبغة الفرنسية في عصره، عمل دي ساسي مع الحكومة الفرنسية وهو الذي ترجم البيانات التي نشرت عند احتلال الجزائر وكذلك عند احتلال مصر من قبل حملة نابليون عام 1797م.[3]
2- لوي ماسنيونLouis Massingon ء (1883م-1962م)
ولد في باريس وحصل على دبلوم الدراسات العليا في بحث عن المغرب، كما حصل على دبلوم اللغة العربية من مدرسة اللغات الشرقية الحية (فصحى وعامية) زار كلاً من الجزائر والمغرب وفي الجزائر انعقدت الصلة بينه وبين بعض كبار المستشرقين مثل جولدزيهر وآسين بلاثيوس وسنوك هورخرونيه ولي شاتيليه.
التحق بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة عدة أعوام (1907م-1908م) وفي عام 1909م عاد إلى مصر وهناك حضر بعض دروس الأزهر وكان مرتدياً الزي الأزهري، زار العديد من البلاد الإسلامية منها الحجاز والقاهرة والقدس ولبنان وتركيا، عمل معيداً في كرسي الاجتماع الإسلامي في معهد فرنسا (1919م-1924م) وأصبح أستاذ كرسي (1926م-1954م) ومديراً للدراسات في المدرسة العلمية العليا حتى تقاعده عام 1954م.(25/126)
لقد اشتهر ماسنيون باهتمامه بالتصوف الإسلامي وبخاصة بالحلاج حيث حقّق ديوان الحلاج (الطواسين) وكانت رسالته للدكتوراه بعنوان (آلام الحلاج شهيد التصوف) في جزأين وقد نشرت في كتاب تزيد صفحاته على ألف صفحة (ترجم الكتاب إلى اللغة الإنجليزية) وله اهتمام بالشيعة والتشيع، وعرف عن لويس صلته بالحكومة الفرنسية وتقديمه المشورة لها.
3- ريجيس بلاشير صلى الله عليه وسلم L. Blache r ء (1900م-1973م)
ولد في باريس وتلقى التعليم الثانوي في الدار البيضاء وتخرج باللغة العربية من كلية الآداب بالجزائر، تولى العديد من المناصب العلمية منها أستاذ اللغة العربية في معهد مولاي يوسف بالرباط، ومدير معهد الدراسات المغربية العليا (1924م-1935م)، وأستاذ كرسي الأدب العربي في مدرسة اللغات الشرقية الحية بباريس وأستاذاً محاضراً في السوريون ثم مدير مدرسة الدراسات العليا والعلمية، ثم أستاذ اللغة العربية وحضارتها في باريس.
من أبرز إنتاجه ترجمته لمعاني القرآن الكريم وكذلك كتابه (تاريخ الأدب العربي) في جزأين وترجمه إلى العربية إبراهيم الكيلاني، وله أيضاً كتاب (أبو الطيب المتنبي: دراسة في التاريخ الأدبي).
4- مكسيم رودنسونMaxim r odinson ء 1915م.
ولد في باريس في 26 يناير 1915م، وحصل على الدكتوراه في الآداب ثم على شهادة من المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية والمدرسة العلمية العليا، تولى العديد من المناصب العلمية في كل من سوريا ولبنان في المعاهد التابعة للحكومة الفرنسية هناك، تولى منصب مدير الدراسات في المدرسة العلمية للدراسات العليا قسم العلوم التاريخية واللغوية ثم محاضراً فيها قسم العلوم الاقتصادية والاجتماعية، نال العديد من الأوسمة والجوائز من الجهات العلمية الفرنسة والأوروبية.
له العديد من المؤلفات منها (الإسلام والرأسمالية) و(جاذبية الإسلام) و(محمد) r و(إسرائيل والرفض العربي)، وله العديد من الدراسات التاريخية والتاريخ الاقتصادي للعالم الإسلامي.
وهناك العديد من المستشرقين الفرنسيين البارزين مثل هنري لاوست وكلود كاهن وشارل بيلا وإميل درمنجهم والأب لويس جارديه والأب البلجيكي الأصل الفرنسي الجنسية الأب لامانس. وأندريه ريموند ، وروبير مانتران. وغيرهم.
- الحواشي :
[1] -السامرائي، الفهرس الوصفي للمنشورات الاستشراقية في جامعة الإمام ،1408 ،ص 15
[2] - المرجع نفسه س 9
[3] -Said. O r ientalism, p129.
==============(25/127)
(25/128)
مدارس الاستشراق > المدرسة الإنجليزية >
أنشئت أول أقسام اللغة العربية في الجامعات البريطانية في عامي 1632م و1636م في جامعتي كمبريدج وأكسفورد على التوالي، وكانت الدراسات العربية الإسلامية يغلب عليها الطابع الفردي، ولكن في هذه الأثناء كانت شركة الهند الشرقية تعمل جاهدة على إكمال احتلالها للهند ثم تسليمها للحكومة البريطانية، وقد قامت الشركة بإنشاء مراكز استشراقية في الهند لتدريب موظفين يستطيعون التعامل مع أهل البلاد. وأنشئت كذلك جمعيات استشراقية مثل الجمعية البنقالية في أواخر القرن التاسع عشر.
انتشرت المراكز الاستشراقية في بريطانيا وظلت العاصمة لندن خالية من مثل هذا المركز حتى صرح اللورد كيرزن في إحدى جلسات البرلمان الإنجليزي بضرورة إنشاء مثل هذا المركز وانه من المكونات الضرورية للإمبراطورية، وتأسست مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية عام 1916م، وانتقل إليه بعض المستشرقين الكبار من أمثال توماس آرنولد والفرد جيوم وغيرهما، واستمرت المدرسة في النمو والازدهار حتى أصبحت المركز الاستشراقي الأول في بريطانيا، بل تنافس أكبر المراكز الاستشراقية في العالم.
وكلفت الحكومة البريطانية لجنة لدراسة أوضاع الدراسات السلافية والأوروبية الشرقية والشرقية والأفريقية عام 1947م، ووضعت اللجنة تقريراً تضمن توصيات مهمة منها زيادة دعم مراكز الدراسات الاستشراقية، وتوفير الكثير من الوظائف والمنح للدارسين، وحددت اللجنة الجهات المستفيدة من هذه الدراسات وهي الحكومة البريطانية في المقام الأول، والبعثات التنصيرية، وهيئة الإذاعة البريطانية ووزارة التجارة والمؤسسات التجارية التي لها مصالح مع العالم الإسلامي.
واحتاجت الحكومة البريطانية إلى إعادة النظر في أوضاع الدراسات العربية والإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية فكلفت لجنة برئاسة سير وليام هايتر عام 1961م للقيام بهذا العمل، وقدمت مؤسسة روكفللر دعماً مالياً لهذه اللجنة لزيارة عشر جامعات أمريكية وجامعتين كنديتين للإفادة من التجربة الأمريكية في مجال الدراسات العربية الإسلامية، وقدمت اللجنة تقريرها الذي تضمن خلاصة الرحلة الأمريكية ومقابلات مع المسؤولين عن الدراسات العربية الإسلامية في الجامعات البريطانية، وجاءت التوصيات من جديد لدعم هذه الدراسات والإفادة من الخبرة الأمريكية.
من أعلام المستشرقين البريطانيين
نقدم فيما يأتي تعريفاً بعدد من المستشرقين البريطانيين من القديم والحديث على أمل أن يتم تحديث هذه المعلومات بصورة دورية بإذن الله.
1- وليام بدولWilliam Bedwell ء (1516م-1632م)
عمل راعياً لكنيسة إيلبيرج وجمع إلى عمله الكنسي دراساته وبحوثه في اللغة العربية. ظهر له كتابات امتلأت بالحقد على الإسلام وهما حول الرسو صلى الله عليه وسلم .[1]
1-جورج سيلGeo r ge Sale ء (1697م-1736م)
ولد في لندن التحق في البداية بالتعليم اللاهوتي تعلم العربية على يد معلم من سوريا وكان يتقن اللغة العبرية أيضاً، من أبرز أعماله ترجمته لمعاني القرآن الكريم التي قدم لها بمقدمة احتوت على كثير من الافتراءات والشبهات، ومن الغريب أن يقول عنها عبد الرحمن بدوي "ترجمة سيل واضحة ومحكمة معاً، ولهذا راجت رواجاً عظيماً طوال القرن الثامن عشر إذ عنها ترجم القرآن إلى الألمانية عام 1746م" ويقول في موضع آخر "وكان سيل منصفاً للإسلام برئياً رغم تدينه المسيحي من تعصب المبشرين المسيحيين وأحكامهم السابقة الزائفة."[2]
2-ديفيد صموئيل مرجليوثDavid Samuel Ma r goliouth ء (1858م-1940م)
بدأ حياته العلمية بدراسة اليونانية واللاتينية ثم اهتم بدراسة اللغات السامية فتعلم العربية ومن أشهر مؤلفاته ما كتبه في السيرة النبوية، وكتابه عن الإسلام، وكتابه عن العلاقات بين العرب واليهود. ولكن هذه الكتابات اتسمت بالتعصب والتحيز والبعد الشديد عن الموضوعية كما وصفها عبد الرحمن بدوي، ولكن يحسب له اهتمامه بالتراث العربي كنشره لكتاب معجم الأدباء لياقوت الحموي، ورسائل أبي العلاء المعري وغير ذلك من الأبحاث.[3]
3- توماس وولكر آرنولدSi r Thomas Walke r A r nold ء (1864م-1930م)
بدأ حياته العلمية في جامعة كامبردج حيث أظهر حبه للغات فتعلم العربية وانتقل للعمل باحثاً في جامعة على كرا (عليكرا) في الهند حيث أمضى هناك عشر سنوات ألف خلالها كتابه المشهور (الدعوة إلى الإسلام)، ثم عمل أستاذاً للفلسفة في جامعة لاهور، وفي عام 1904م عاد إلى لندن ليصبح أميناً مساعداً لمكتبة إدارة الحكومة الهندية التابعة لوزارة الخارجية البريطانية، وعمل في الوقت نفسه أستاذاً غير متفرغ في جامعة لندن، واختير عام 1909م ليكون مشرفاً عاماً على الطلاب الهنود في بريطانيا، ومن المهام العلمية التي شارك فيها عضوية هيئة تحرير الموسوعة الإسلامية التي صدرت في ليدن بهولندا في طبعتها الأولى والتحق بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن بعد تأسيسها عام 1916م، عمل أستاذاً زائراً في الجامعة المصرية عام 1930م.(25/129)
له عدة مؤلفات سوى كتابه الدعوة إلى الإسلام ومنها (الخلافة) وكتاب حول العقيدة الإسلامية وشارك في تحرير كتاب تراث الإسلام في طبعته الأولى، بالإضافة إلى العديد من البحوث في الفنون الإسلامية.
بالرغم من شهرة آرنولد بأنه من المستشرقين المعتدلين فإن البحث الدقيق في كتاباته تدل على أنه يشارك غيره من المستشرقين في الطعن في الإسلام بأسلوب هادئ وبخاصة في كتابه الخلافة وفي كتابه الدعوة إلى الإسلام كما أوضح ذلك أحد الباحثين في المعهد العالي للدعوة الإسلامية في المدينة المنورة.[4]
4- سير هاملتون جيب .Si r Hamilton صلى الله عليه وسلم A. Gibb
ولد هاملتون جيب في الإسكندرية في 2يناير 1895م، انتقل إلى اسكتلندا وهو في الخامسة من عمره للدراسة هناك، ولكنه كان يمضي الصيف مع والدته في الإسكندرية. التحق بجامعة أدنبرة لدارسة اللغات السامية، عمل محاضراً في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن عام 1921م وتدرج في المناصب الأكاديمية حتى أصبح أستاذً للغة العربية عام 1937م، وانتخب لشغل منصب كرسي اللغة العربية بجامعة أكسفورد، انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل مديراً لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد بعد أن عمل أستاذاً للغة العربية في الجامعة.
بالإضافة إلى اهتمامه اللغوي فقد أضاف إلى ذلك الاهتمام بتاريخ الإسلام وانتشاره وقد تأثر بمستشرقين كبار من أمثال تومارس آرنولد وغيره.
من أبزر إنتاج جب (الفتوحات الإسلامية في آسيا الوسطى) سنة 1933م ودراسات في الأدب العربي المعاصر وكتاب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) وشارك في تأليف (إلى أين يتجه الإسلام)، وقد انتقل جيب من دراسة اللغة والآداب والتاريخ إلى دراسة العالم الإسلامي المعاصر وهو ما التفت إليه الاستشراق الأمريكي حينما أنشأ الدراسات الإقليمية أو دراسات المناطق، وله كتاب بعنوان (المحمدية) ثم أعاد نشره بعنوان (الإسلام) وله كتاب عن الرسو صلى الله عليه وسلم .[5]
5- مونتجمري وات Montgome r y Watt.
ولد في كريس فايف في 14مارس 1909م، والده القسيس أندرو وات درس في كل من أكاديمية لارخ 1914-1919 وفي كلية جورج واتسون بإدنبرة وجامعة أدنبره 1927م-1930م وكلية باليول بأكسفورد 1930م-1933م وجامعة جينا بألمانيا 1933م وبجامعة أكسفورد وجامعة أدنبرة في الفترة من 1938م إلى1939م ومن 1940م إلى 1943م على التوالي، عمل راعياً لعدة كنائس في لندن وفي أدنبرة ومتخصص في الإسلام لدى القس الأنجليكاني في القدس، وبعد تقاعده عاد إلى العمل في المناصب الدينية.
عمل رئيساً لقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة أدنبره في الفترة من 1947-1979. نال درجة الأستاذية عام 1964. دعي للعمل أستاذاً زائراً في كل من الجامعات الآتية: جامعة تورنتو 1963و1978 وكلية فرنسا في باريس عام 1970وجامعة جورجتاون بواشنطن عام 1978-1979.
أصدر العديد من المؤلفات من أشهرها (محمد -e- في مكة) و(محمد في المدينة) و (محمد نبي ورجل دولة) و(الفلسفة الإسلامية والعقيدة) و(الفكر السياسي الإسلامي) و(تأثير الإسلام في أوروبا القرون الوسطى) و(الأصولية الإسلامية والتحديث) و(العلاقات الإسلامية النصرانية) ومن آخر كتبه (حقيقة الدين في عصرنا) سنة 1996م وكتاب (الفترة التكوينية للفكر الإسلامي) سنة 1998م و(موجز تاريخ الإسلام) سنة 1995م وغيرها كثير، وقد تقاعد قريباً ويعمل حالياً راعياً لإحدى الكنائس في منطقة إدنبرة.[6]
6- آرثر جون آربريA r thu r John A r be r ry ء (1905م-1969م)
ولد في 12مايو 1905م في مدينة بورتسموث بجنوب بريطانيا، التحق بجامعة كامبريدج لدراسة اللغات الكلاسيكية اللاتينية واليونانية، وشجعه أحد أساتذته منس على دراسة العربية والفارسية، ارتحل إلى مصر لمواصلة دراسته للغة العربية، عاد إلى مصر ليعمل في كلية الآداب رئيساً لقسم الدراسات القديمة (اليونانية واللاتينية) وزار فلسطين وسوريا ولبنان.
اهتم بالأدب العربي فترجم مسرحية مجنون ليلي لأحمد شوقي كما حقق كتاب (التعرف إلى أهل التصوف) واصل اهتمامه بالتصوف وذلك بنشره كتاب (المواقف والمخاطبات) للنفري وترجمه إلى الإنجليزية.
عمل آربري مع وزارة الحرب البريطانية في أثناء الحرب العالمية الثانية مهتماً بشؤون الإعلام والرقابة البريدية، وأصدر كتابه (المستشرقون البريطانيون) سنة 1943م تولى منصب أستاذ كرسي اللغة العربية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية، ثم انتقل لجامعة كمبردج ليحتل منصب أستاذ كرسي اللغة العربية في هذه الجامعة.
ولعل من أبرز جهود آربري ترجمته لمعاني القرآن الكريم حيث أصدر أولاً مختارات من بعض آيات القرآن الكريم مع مقدمة طويلة ثم أكمل الترجمة وأصدرها عام 1955م.[7]
7- برنارد لويس Be r na r d Lewisء 1916م(25/130)
ولد لويس في 31مايو 1916م وتلقى تعليمه الأول في كلية ولسون والمدرسة المهنية حيث أكمل دراسته الثانوية ولا تذكر المراجع أية معلومات عن تلقيه تعليماً دينياً يهودياً خاصاً. التحق بجامعة لندن لدراسة التاريخ ثم انتقل إلى فرسنا للحصول على دبلوم الدراسات السامية سنة1937م متتلمذا على المستشرق الفرنسي ماسنيون وغيره. ثم عاد إلى جامعة لندن، مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية وحصل على الدكتوراه عام 1939م عن رسالته القصيرة حول أصول الإسماعيلية.
استدعي في أثناء الحرب العالمية الثانية لأداء الخدمة العسكرية وأعيرت خدماته لوزارة الخارجية من سنة 1941م حتى 1945م، عاد بعد الحرب إلى مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية لتدريس التاريخ الإسلامي وأصبح أستاذ كرسي التاريخ الإسلامي عام 1949م ثم أصبح رئيساً لقسم التاريخ عام 1957م، وظل رئيساً لهذا القسم حتى انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1974م.
دُعِي للعمل أستاذً زائراً في العديد من الجامعات الأمريكية والأوربية منها جامعة كولمبيا وجامعة انديانا وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس وجامعة أكلاهوما وجامعة برنستون التي انتقل إليها والعمل فيها من 1974م حتى تقاعده عام 1986م. وهنا عيّن مديراً مشاركاً لمعهد أنانبرج اليهودي للدراسات اليهودية والشرق أوسطية في مدينة فيلاديلفيا بولاية بنسلفانيا.
يعد لويس من أغزر المستشرقين إنتاجاً (وإن كان له قدرة على إعادة نشر بعض ما سبق نشره بصور أخرى) وقد تنوعت اهتماماته من التاريخ الإسلامي حيث كتب عن الإسماعيلية وعن الحشاشين وعن الطوائف المختلفة في المجتمع الإسلامي، إلى الحديث عن المجتمع الإسلامي ولكنه في السنوات الأخيرة قبل تقاعده بقليل بدأ الاهتمام بقضايا العالم العربي والإسلامي المعاصرة فكتب عن الحركات الإسلامية (الأصولية) وعن الإسلام والديموقراطية.
قدم خدماته واستشاراته لكل من الحكومة البريطانية التي كلفته القيام برحلة إلى العديد من الجامعات الأمريكية وإلقاء الأحاديث الإذاعية والتلفازية عام 1954م، كما قدم استشارته للكونجرس الأمريكي أكثر من مرة. وفي إحدى المرات (8مارس 1974م) ألقى محاضرة في أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس الأمريكي حول قضية الشرق الأوسط ولأهمية هذه المحاضرة نشرتها وزارة الخارجية الإسرائيلية بعد أسبوعين من إلقائها.[8]
- الحواشي :
[1] -Alastai r Hamilton. William Bedwell The A r abist(1563-1632).(Leiden:1985)p. 69.
[2] - عبد الرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين .(بيروت :دار العلم للملايين) 1984.ص 252.
[3] -المرجع نفسه ص 379
[4] محمود حمزة عزوني .دراسة نقدية لكتاب الدعوة إلى الإسلام تأليف توماس ولكر آرنولد. بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في الدعوة من المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة والترجمة مستقاة من مقالة أوريل سراين في محاضر الأكاديمية البريطانية Au r el S r ien." P r oceedings of B r itish Academy." 1930
[5] -كتب ألبرت حوراني ترجمة موسعة لهاملتون جب في كتابه :Eu r ope And The Middle East (London: The Macmillan P r ess Ltd.)1980.p 104ff ونشر هذا الفصل مترجما في مجلة ( الفكر العربي المعاصر ، العدد 31 بقلم سلاّم فوزي الصفحات 373وما بعدها.وقد ذكر لي البروفسور كينيث مورقان أن جامعة هارفارد أعطت جب مكانة خاصة ومنصباً تشريفياً بعد تقاعده بحيث يستطيع أن يحاضر وقتما يشاء ويقابل من يشاء من الطلاب ويشرف على البحوث التي يرغبها، وهي معاملة لا يحصل عليها إلاّ ذوو الحظوة والمكانة.
[6] - هذه الترجمة بقلم وات نفسه أرسلها للباحث وهي نسخة من سيرة موجزة تنشر في دليل الباحثين البريطانيين، وأقوم حالياً بإعداد كتابه (حقيقة الدين في عصرنا) للترجمة والنشر
[7] -بدوي ، مرجع سابق ص 5-8.
[8] -C. E. Boswo r th, et al.(ed.) The Islamic Wo r ld F r om Classical To Mode r n Times. (P r inceton,1989)p. p. IX-X and Also Who's Who in the USA 1989. نقلاً عن رسالة الدكتوراه التي أعدها الباحث بعنوان منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، ونشرت لدي مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض عام 1416بعنون : الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي، ص 69 وما بعدها.
===============(25/131)
(25/132)
مدارس الاستشراق > المدرسة الأمريكية >
نشأ الاستشراق في أوائل القرن التاسع عشر يغلب عليه الطابع الديني، ولكن مع عدم إغفال الأطماع السياسية، فكيف يكون لبريطانيا إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس ولا يكون لأمريكا اهتمامات إمبريالية، واشترك الهدفان وتأسست الجمعية الشرقية عام 1840م وأرسلت باحثيها إلى العالم العربي الإسلامي، وحرصت بعض الجامعات الأمريكية أن تنال نصيبها من المخطوطات الإسلامية فاشترت جامعة برنستون P r inceton كمية من المخطوطات حتى أصبحت تضم ثاني أكبر مجموعة مخطوطات إسلامية.
ونشطت البعثات التنصيرية في بلاد الشام فأسست المدارس والمعاهد العلمية، وفي أواخر القرن التاسع عشر وفي عام 1889م (1307هـ) وصلت إلى البصرة طلائع البعثة العربية (سميت كذلك تمويها) وكانت برئاسة المنصّر المشهور صموئيل زويمر، واستمرت هذه البعثة حتى عام 1393م-1973م
وشهد الاستشراق الأمريكي نهضة شاملة بعد منتصف القرن العشرين حينما أخلت بريطانيا مواقعها للنفوذ الأمريكي كما ذكر ذلك مايلز كوبلاند في كتابه (لعبة الأمم)، ووجد الأمريكيون أنهم بحاجة إلى عدد كبير من المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط، فأصدرت الحكومة الأمريكية مرسوما عام 1952م خصص بموجبة مبالغ كبيرة لتشجيع الجامعات على افتتاح أقسام الدراسات العربية الإسلامية، واستقدم لذلك خبراء في هذا المجال من الجامعات الأوروبية، وحضر من بريطانيا كل من جوستاف فون جرونباوم وهاملتون جب وبرنارد لويس وغيرهم، فأسس هاملتون جب مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفارد وجرونباوم أسس مركزاً في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس.
وقد طوّرت الدراسات العربية الإسلامية في الولايات المتحدة لتأخذ مفهوماً جديداً وشكلاً جديداً فقد انتهى إلى حد كبير عهد المستشرق الذي يزعم لنفسه معرفة كل ما يخص العالم العربي الإسلامي في جميع المجالات، فأخذت الدراسات تصبح أكثر دقة وتخصصا في منطقة معينة وفي فرع من فروع المعرفة، وقد فتح هذا التجديد المجال أمام التخصصات المختلفة لتسهم في تطور الدراسات العربية الإسلامية بحيث تكون بعض الرسائل العلمية للماجستير والدكتوراه تحت إشراف أكثر من قسم علمي.
وكما ذكر عن الاستشراقين الهولندي والألماني بوجود أصوات معتدلة فإنه ظهر في الولايات المتحدة عدد من الباحثين ينادون بوقف التشويه المتعمد لصورة الإسلام والمسلمين في الإعلام الأمريكي أو في الكتابات الأكاديمية ومن هؤلاء مثلا اسبوزيتو، كما يلاحظ أن بعض من يتعاطف مع العالم الإسلامي أدرك خطل الإسراف الأمريكي في تأييد المصالح اليهودية وتقديمها حتى على مصالح الولايات المتحدة، ومع تقديرنا لكل من يتحدث عن الإسلام بإيجابية فينبغي أن نظل على حذر، كما إنه يتوجب على المسلمين أن يحرصوا على أن يكون لهم وجود في خارطة الإعلام الغربي.
ويضم هذا القسم تعريفاً ببعض أعلام المستشرقين الأمريكيين وبحثاً بعنوان "لمحات من الاستشراق الأمريكي المعاصر" وهو جزء من كتابي بحوث في الاستشراق الأمريكي المعاصر ، صدر في جدة عام 1420هـ/2000م
أولاً : من أعلام الاستشراق الأمريكي
1- كرنيليوس فانديك Co r nilius Van Dyke
درس العربية في لبنان، أسهم في إنشاء مدرسة كانت نواة الجامعة الأمريكية، شارك في تكملة ترجمة التوراة إلى اللغة العربية، وله كتابات في المجال العلمي.
2- دنكان بلاك ماكدونالدDunckan Black MacDonald ء (1863م-1943م)
أصله إنجليزي بدأ الدراسة في جلاسجو (اسكتلندا) وانتقل إلى برلين للدراسة مع المستشرق زاخاو، انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1893م لتعليم اللغات الساميّة، أسس في الولايات المتحدة مدرسة كندي للبعثات عام1911م وشارك مع زويمر في السنة نفسها في تأسيس مجلة العالم الإسلامي، تنوع إنتاجه بين الدراسات الشرعية والدراسات اللغوية.
3- جورج سارتون Geo r ge Sa r tonء (1884م-1956م).
بلجيكي الأصل متخصص في العلوم الطبيعية والرياضية درس العربية في الجامعة الأمريكية في بيروت 1931م-1932م، ألقى محاضرات حول فضل العرب على الفكر الإنساني، أشرف مع ماكدونالد على مجلة إيزيس 1913م-1946م وأبرز إنتاجه (المدخل إلى تاريخ العلم).
4- جوستاف فون جرونباوم Gustav Von G r unbaumء (1909م-1972م)
ولد في فينا في 1/9/1909م، درس في جامعة فينا وفي جامعة برلين، هاجر إلى الولايات المتحدة والتحق بجامعة نيويورك عام 1938م، ثم جامعة شيكاغو ثم استقر به المقام في جامعة كاليفورنيا حيث أسهم في تأسيس مركز دراسات الشرق الأوسط الذي أطلق عليه اسمه فيما بعد، من أهم كتبه الإسلام في العصر الوسيط، كما اهتم بدراسة الأدب العربي وله إنتاج غزير في هذا المجال.
5- جورج رنتز Geo r ge r entz(25/133)
درس في واشنطن وفي جامعة الفلبين وجامعة كاليفورنيا تخصص في اللغة العربية وآدابها، عمل في السفارة الأمريكية في القاهرة، أسس قسم البحوث والترجمة في شركة أرامكو، شارك في مشروع التاريخ الشفوي لمنطقة الخليج العربي، عمل أميناً لمجموعة الشرق الأوسط في جامعة ستانفورد، من أبرز اهتماماته حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث كانت موضوع رسالته للدكتوراه، وله كتابات كثيرة عن الجزيرة العربية من النواحي التاريخية والجغرافية، توفي منذ عدة سنوات.
6- ويلفرد كانتويل سميث .Wilf r ed Cantwell Smith
ولد في كندا عام 1916م، درس اللغات الشرقية في جامعة تورنتو، حصل على الماجستير والدكتوراه في مجال دراسات الشرق الأدنى من جامعة برنستون، متخصص في دراسة الإسلام وأوضاع العالم الإسلامي المعاصرة وأشهر كتبه في هذا المجال (الإسلام في العصر الحديث) عمل أستاذاً في جامعة هارفرد وفي معهد الدراسات الإسلامية بجامعة مقيل بكندا، قام بتدريس الدين الإسلامي بكلية نورمان المسيحية بمدينة لاهور بباكستان 1941م-1945م، دعي للعمل أستاذاً زائراً في العديد من الجامعات، صدر له حديثا (1998م) عدة كتب منها (نماذج الإيمان حول العالم) وكتاب (الإيمان نظرة تاريخية) وكتاب (الإيمان والاعتقاد والفرق بينهما)[1]
7- باربرا ريجينا فراير ستواسرBa r ba r a r egina F r ye r Stowasse r ء [2]
ولدت في ألمانيا حيث تلقت تعليمها الأولي ثم حصلت على الشهادة الجامعية من جامعة أنقرة في دراسة اللغة التركية العثمانية والحديثة واللغة الفارسية والعربية والتصوف، حصلت على الماجستير من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس في تاريخ الشرق الأوسط وحضارته، حصلت على الدكتوراه من جامعة منستر Munste r بألمانيا في الدراسات الإسلامية.
تولت العديد من المناصب منها أستاذة مساعدة بقسم اللغة العربية في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة. ثم عينت مديرة لمركز الدراسات العربية المعاصرة بالجامعة نفسها في الفترة من 1993حتى الآن، لها العديد من المؤلفات منها (النساء في القرآن وفي الحديث وفي التفسير) و(التطور الديني والسياسي، بعض الأفكار حول ابن خلدون وميكيافيللي) وعدد كبير من البحوث حول الدراسات الإسلامية وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة في الإسلام قديما وحديثاً.
عضو مؤسس في المجلس الأمريكي لجمعيات الدراسات الإسلامية، وعضو في الجمعية الاستشراقية الأمريكية وعضو الرابطة الأمريكية لمعلمي اللغة العربية.
8-ريتشارد بوليت r icha r d Bullietء [3]
درس في جامعة هارفرد حيث حصل على البكالوريوس في التاريخ 1962م والماجستير 1964م في دراسات الشرق الأوسط والدكتوراه 1967م في التاريخ ودراسات الشرق الأوسط، عمل في العديد من الجامعات منها هارفارد وجامعة بيركلي في كاليفورنيا وجامعة كولمبيا حيث ترأس معهد الشرق الأوسط في الفترة من 1984م إلى 1990م والفترة من 1993م حتى الآن، تولى مناصب علمية في عدد من المؤسسات منها رابطة دراسات الشرق الأوسط سكرتير تنفيذي 1977م-1981م، عضو مجلس إدارة جمعية الدراسات الإيرانية، وعضو مجلس أمناء المعهد الأمريكي للدراسات الإيرانية، قدّم خدمات استشارية للعديد من الجهات العلمية والسياسية منها وكالة إعلام الولايات المتحدة التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، ووزارة الخارجية الأمريكية ومجلة التايم وغيرها.
له العديد من المؤلفات منها دراسة في تاريخ الإسلام الاجتماعي في القرون الوسطى، والتحول إلى الإسلام في القرون الوسطى، وكتاب الإسلام نظرة من الخارج. له مشاركات إعلامية في الصحافة والإذاعة والتلفاز.
- الحواشي :
[1] - انظر كتاب الأستاذ محمد قطب المستشرقون والإسلام. (القاهرة :دار وهبة ، 1999م) ص 226 - ص 256
[2] -الترجمة بقلم البروفيسورة ستواسر نفسها قدمتها للباحث.
[3] -ترجمة ذاتية بقلم بوليت نفسه قدمها للباحث.
لمحات من الإستشراق الأمريكي المعاصر >
تمهيد
الاستشراق الأمريكي المعاصر أو الدراسات العربية الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية موضوع واسع ومتشعب وعميق، ومن المغامرة الحديث عنه في محاضرة واحدة، كما أن من الصعب الحديث عن هذا الاستشراق دون معايشته عن قرب لفترة من الوقت. ولكن ما يشفع لي في الحديث في هذا الموضوع أن بحثي لرسالة الدكتوراه كان بعنوان: "منهج المستشرق برنارد لويس في دراسة الجوانب الفكرية في التاريخ الإسلامي."و برنارد لويس Be r na r d Lewis إنجليزي الأصل يهودي الملة صهيوني النزعة والميول، عاش في بريطانيا حتى عام 1974م، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل في جامعة برنستون، وكان لهذا المستشرق علاقات وثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية منذ الخمسينيات من هذا القرن حيث عمل أستاذا زائراً في العديد من الجامعات الأمريكية، وانتدبته وزارة الخارجية البريطانية للقيام بجولة في عدد من الجامعات الأمريكية وإلقاء بعض المحاضرات العامة والتحدث في الإذاعة والتلفاز .(25/134)
وقد أتيحت الفرصة لي للقائه عام 1408هـ( أكتوبر 1988م) في جامعة برنستون، كما التقيت معظم زملائه في تلك الجامعة وحضرت عدداً من النشاطات في مركز دراسات الشرق الأوسط في تلك الفترة، وزرت معهد أنانبرج Annanbe r g للدراسات اليهودية ودراسة الشرق الأدنى الذي كان لويس حينذاك مديراً له. وتعرفت على الاستشراق الأمريكي من خلال دراسة كتابات برنارد لويس وما كتب عنه بالإضافة إلى دراسة كتابات غيره من الباحثين الأمريكيين حول الإسلام عموماً ولاسيما التاريخ الإسلامي. وأضيف إن الاطلاع على هذا الاستشراق من خلال الإنترنت يعطي معلومات غزيرة عن هذا النشاط. كما أن قيامي بإعداد بحث بعنوان "الاستشراق وصقور البيت الأبيض" قدمته محاضرة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية أفادني كثيراً في الاطلاع على هذا الاستشراق. وفوق ذلك أنني أعددت بحثاً موسعاً عن مراكز البحوث والمعاهد والأقسام العلمية المهتمة بالعالم الإسلامي في واشنطن العاصمة قبل عدة أعوام.
واستمرت صلتي بالاستشراق الأمريكي من خلال رحلة علمية قمت بها في صيف عام 1416هـ(1995م) حيث زرت تسع مدن أمريكية والتقيت كثيراً من الباحثين ورؤساء الأقسام ورؤساء المعاهد المتخصصة في دراسات الشرق الأوسط. ومن هذه الجامعات: جامعة جورجتاون، وجامعة انديانا، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وفي لوس أنجلوس، وجامعة فيلانوفا، وجامعة تمبل في فيلادلفيا، وجامعة برنستون وجامعة كولمبيا، وجامعة نيويورك. كما زرت معهد الشرق الأوسط، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، ومعهد بروكنجز، ومعهد الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز بواشنطن العاصمة. كما زرت مجلس الشؤون الخارجية بنيويورك، ومكتبة الكونجرس والمعهد العالمي للفكر الإسلامي .
وإنني أتابع الدراسات الاستشراقية الأمريكية من خلال بعض الدوريات والنشرات التي تصدر عن المعاهد ومؤسسات البحث العلمي، ومراكز دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة. وسوف أتناول في هذه الوريقات بعض ملامح الاستشراق الأمريكي المعاصر وهي كما يأتي:
أولاً : حقيقة المعرفة وأهدافها ووسائل الحصول عليها.
ثانياً : ظاهرة الاستشراق الإعلامي.
ثالثاً: الاهتمام بالحركات الإسلامية "الأصولية
=============
حقيقة المعرفة وأهدافها ووسائل الحصول عليها >
كان إدوارد سعيد قد حدد في تعريفه للاستشراق أبرز خصائصه وهي المعرفة من أجل الهيمنة والسيطرة [1]، وانبرى كثيرون لنقد كتاب إدوارد سعيد ومن أبرز هؤلاء برنارد لويس الذي زعم أن الاستشراق إنما هو من أجل المعرفة فقط أو العلم من أجل العلم، وقد أكد هذا في حواره مع الباحث، وأضاف لويس بأن الباحث الغربي في العلوم الإسلامية شأنه شأن التاجر فكما أن التاجر يريد أن يرفع رصيده من الأرباح فكذلك المستشرق يريد أن يزيد معرفته.([2])
ولكن رأي إدوارد سعيد له من يؤيده ومن هؤلاء الأمريكي المسلم خالد يحي بلانكنشب الذي كتب يقول بأن "الغرض من إنشاء هذا المجال هو خلق وسيلة تحكّم عن طريق المعرفة، ويتضح ذلك جلياً في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة حيث لا يكاد يسمح للمسلمين بالتحدث عن الإسلام، بل تتم دعوة "خبراء" غير مسلمين ذوي خلفيات يهودية أو مسيحية أو علمانية أو خلفيات عربية قومية للتحدث عن الإسلام، ويتم اختيار أفراد المجموعة الأخيرة بدقة مثل فؤاد عجمي وهو مسلم لبناني، يبدو أنه مأجور لكي يدافع عن إسرائيل."([3]) ولو كانت المعرفة من أجل المعرفة لما ظهر التحيز في الدراسات العربية الإسلامية في الولايات المتحدة؛ حيث يؤكد بلانكشب بأن وجهتي النظر الأمريكية والصهيونية تتفقان فيما يتعلق بالإسلام. ويقول: "ومما لاشك فيه أن المساق الأكاديمي المتحكم في مجال الدراسات الإسلامية متحيز بشدة ضد الإسلام الذي يتم وصفه -على الرغم من استخدام عبارات تلميحية ومهذبة- بأنه دين عنصري ومتحيز جنسياً ونظري وشمولي، ومعرقل، ومتخلف ...و وغير قادر على التفكير التحليلي."([4])
وتحدث الأستاذ يوشع صادق في ندوة عن الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الأمريكية فذكر بأن من أهداف هذه الدراسات ما يأتي:1- تحليل أسباب انتشار الإسلام في الولايات المتحدة وعدة أقطار أخرى ثم تزويد حكومة الولايات المتحدة بهذه المعلومات ليتسنى لها على ضوئها تحديد وصياغة سياستها الخارجية".
2- " توفير معلومات كافية عن الإسلام في معرفة ما يجري في العالم الإسلامي ولماذا يتصرف المسلمون على هذا النحو".
3- وهذا الهدف خاص بالهيئات التنصيرية وذلك لإعداد ممثليها " للعمل في الدول الإسلامية وفي أوساط المجتمعات والجاليات الإسلامية، وضرب المثل بمدينة دترويت التي تقطن فيها جالية عربية مسلمة كبيرة، وأضاف بأن الدورات التي تعقد لتدريس الإسلام وتعاليمه هدفها تدريب الكهنة على كيفية تحويل المسلمين إلى مسيحيين أي تنصيرهم."([5])(25/135)