صحيح أن عندهم رجالاً ونساءً نذروا أنفسهم لهذا الأمر، وهذا يجب أن نعترف به، هناك من نذروا أنفسهم لنشر الديانة المسيحية على ما بها، وقد حكى لنا في أحد مؤتمرات منظمة الدعوة الإسلامية في إفريقيا حكى لنا لواء في الجيش السوداني متقاعد، عضو مجلس أمناء المنظمة، حكى لنا قصة فيها عظة وعبرة، قال: حينما استقل السودان ذهبنا إلى قرية من قرى الجنوب، فدخلنا بسيارة جيب، حينما رأى الناس السيارة هربوا وهرولوا لبيوتهم، لم يروا سيارة في حياتهم، ما هذا الشيء الذي يتحرك ويمشي، وليس هو بقرة ولا جاموسة ولا حماراً أي شيء هذا؟، خاف منها الناس وهبوا، فقال: استعدناهم وكلمناهم، وقلنا لهم: نحن سودانيون مثلكم، وجئنا لمصلحتكم إلى آخره، قال: ونحن نكلمهم سمعنا جرساً يدق!! فقلنا لهم: ما هذا الجرس؟؟ أهنا مدرسة؟ قالوا: لنا لا، لا يوجد هنا مدرسة، ولا يوجد أحد يعرف القراءة ولا الكتابة، فقال: وما هذا الجرس؟ قالوا هذا أبونا، قال: ومن أبوكم؟ قالوا: هذا رجل يأتينا كل أسبوع مرتين!!
ذهبوا إلى هذا الرجل فوجدوه يركب دراجة، من أنت؟، قال: أنا فلان الفلاني، من أي بلد؟ قال: أنا من بروكسل من بلجيكا، ماذا تفعل؟ قال: أنا جئت هنا لأنشر هداية المسيح، كم لك هنا؟ قال: لي 30 سنة، كم مرة زرت فيها بلدك؟، قال: ولا مرة، قال: ومتى تنوي العودة إلى وطنك؟، قال وما كل هذه الأسئلة؟ أنا وطني هنا، وحياتي هنا، ورسالتي هنا، وقبري هنا، الرجل جاء متفرغاً لهذه الدعوة، ترك الأزرار الكهربائية والأوتوماتيكية، وجاء في هذه الغابات، وفي هذه القرى التي ليس فيها ماء ولا كهرباء، ولا مدرسة ولا شيء، ويذهب بدراجته إلى نحو 30 قرية يزور الواحدة مرتين كل أسبوع، ومعه حقيبتان حقيبة فيها حلوة للأطفال، وحقيبة فيها أدوية خفيفة، قطرة، مرهم، أسبرين أشياء من هذا القبيل، يوزع على الأطفال الحلوة، وعلى الناس هذه الأشياء، ويحكي لهم بعض قصص المسيح والعذراء إلى آخره، هذا ما يفعله القوم.
نحن إذن مطالبون أن نعمل لديننا، لماذا لا يجند للإسلام؟ وعندنا نحن المسلمين عشرات الآلاف ومئات الآلاف من الشباب الذين يستطيعون أن يذهبوا إلى آسيا وإفريقيا وغيرها في الإجازات الصيفية؟ وقد فعل ذلك بعض الأخوة " لجنة مسلمي إفريقيا في الكويت "، واستطاعوا أن يعيدوا الكثيرين إلى الإسلام، وأن يصححوا إسلامهم، ويدخلوا الكثيرين من الوثنيين إلى الإسلام، الإسلام دين الفطرة، وهو الدين الذي يخاطب الفطرة الإنسانية، ويخاطب العقل الإنساني، لم يأت بشيء يستحيل على العقل، ولذلك المسيحيون - لأنهم يأتون بما لا يعقل - يقولون: اعتقد وأنت أعمى، أغلق عينيك ثم اتبعني، أما نحن فلا، نحن عندنا ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))، الدين عندنا غريزة فطرية، وضرورة عقلية، هذا هو الإسلام أيها الأخوة، نحن مطالبون بأن نعمل لديننا، وإذا كان الآخرون يعملون لدينهم ونحن نعتقده باطلاً - حتى قال ابن حزم: لم توجد مقولة في الدنيا أشد فساداً وبطلاناً من مقولة النصارى " الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، الأب والابن والروح القدس، هما ثلاثة، ولكن هي واحد، والواحد هي ثلاثة"، قال هذه مقولة لا يوجد في الدنيا أكثر بطلاناً منها -، وهكذا نرى كيف ينشرون هذه الديانة، وينفقون عليها عشرات المليارات، ويبعثون من أجلها ملايين المبشرين والمبشرات، نحن أولى بأن نعمل لديننا، وديننا هو سفينة الإنقاذ للبشرية، وهو حبل النجاة للإنسانية، إنه الدين الذي يعطي الإنسان الآخرة ولا يحرمه من الدنيا، يعطيه الإيمان ولا يسلبه العلم، يصله بالسماء ولا ينتزعه من الأرض، يعطيه الروحانية ولا يحرمه من المادية، لأنه دين التوازن، دنيا وآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
المصدر : http://islamna.o r g/qadayatabshi r 1.htm
==========(22/306)
(22/307)
قوات الاحتلال الإثيوبية تشن هجوما على مسجد بمقديشيو أثناء الصلاة
شبكة نور الإسلام
أكد شهود عيان من العاصمة الصومالية مقديشيو أن قوات الاحتلال الإثيوبية تعاونها قوات الحكومة الصومالية شنت هجوماً علي مسجد أثناء الصلاة وأوقفت عدداً كبيراً من الشبان واعتقلتهم بعد أن اقتادتهم إلي مكان مجهول، وأكد السكان أن عدد المعتقلين فاق 25 شخصاً.
ميدانياً قتل جندي صومالي مساء الأربعاء بمقديشو في انفجار قنبلة يدوية ألقاها عنصر من المقاومة الصومالية التي تقودها المحاكم الصومالية عند مرور دورية للشرطة الإثيوبية، وذلك إثر قيام قوات الحكومة المدعومة من الاحتلال الإثيوبي بدهم مسجد في الحي واعتقال 25 شاباً.
ومن جهة أخرى أسر مسلحون من المقاومة في منطقة بونتلاند التي تتمتع بشبه حكم ذاتي شمال شرق الصومال عاملين في منظمة "كير إنترناشيونال" التنصيرية والتي تعمل تحت غطاء إنساني، أحدهما بريطاني والآخر كيني.
وكانت "كير إنترناشيونال" قد أكدت أن الرجلين اعتبرا في عداد المفقودين منذ الأربعاء، وقالت المتحدثة باسمها بياتريس سباداتشيني في نيروبي "إننا نعمل مع السلطات المحلية لضمان الإفراج عنهما سالمين".
===========(22/308)
(22/309)
نشاط تنصيري أخطبوطي كبير في بريطانيا والعالم الإسلامي
نشرت الصحف البريطانية مؤخراً أخبار منظمة تبشيرية جديدة تنشط في بريطانيا لإطلاق حملة لتنصير اليهود، وتتركز الحملة في مدينتي لندن ومانشستر، ورصدت ميزانية ضخمة تقدر بسبعة ملايين جنيه إسترليني، وقالت صحيفة " صنداي تلغراف " البريطانية الصادرة في يوم الأحد 6 / 4 أن هذه الحملة جزء من حملة لا تقتصر على بريطانيا فقط بل تتجاوزها إلى أكثر من 60 مدينة حول العالم. وتقود الحملة منظمة تطلق على نفسها اسم " يهود من أجل المسيح " وهي منظمة أمريكية قالت الصحيفة أن أساليبها تعرضت للنقد بوصفها عدوانية، ولا تراعي المشاعر، وأشارت الصحيفة أن الحملة ستشمل ملصقات دعائية مكتوبة بالعبرية والإنكليزية مثل: "قبل أن تنبذ معتقداتي يجدر بك أن تستمع إلى روايتي "، وقد حاول اليهود في بريطانيا وقف الحملة وأدانوها بشكل كبير، وطالبوا الحكومة بسن قانون يمنع تنصير اليهود في بريطانيا، وفي الوقت نفسه قال متحدث باسم الكنيسة البرتوستانتية جورج كاري أن هذا الأخير يعارض التبشير العلني، فيما قال جوناثان برند مدير منظمة يهود من أجل المسيح " : إن التبشير في رأينا واجب يمليه علينا الإنجيل".
ويبدو أن التبشير لم يقتصر على اليهود في بريطانيا بل امتد ليشمل المسلمين في بقاع الأرض المختلفة، فقد ذكرت وكالات الأنباء أن مؤتمر الجمعية العمومية الدولية الـ11 لمنظمة "الزمالة التنصيرية الدولية" اختتم أعماله يوم الخميس 10/5/2001 في العاصمة الماليزية "كوالالمبور" والتي تُعَد أقدم من مجلس الكنائس العالمي بأكثر من 100 عام، وذلك بعد 7 أيام من المناقشات والجلسات والمداولات.
فقد استضاف المؤتمر الفرع الماليزي وهو "زمالة التبشير النصراني لماليزيا"، وقبل ذلك كانت الجلسات التحضيرية في المنظمة قد عقدت اجتماعاتها لمدة 6 أيام من 28/4 إلى 4/5/2001؛ لمناقشة أعمال المنظمة من قِبَل اللجان المتخصصة حول الحريات الدينية، والشباب، وقضايا المرأة، والإعلام الدولي المسيحي، والعضوية، والإرساليات، والمكاتب الإقليمية.
ويشارك في اجتماعات المنظمة ممثلون عن 150 مليوناً من أتباع الكنيسة البروتستانتية (الإنجيلية) في 110 دول، والتي انتخبت رئيساً جديداً لها ينسق عمل 3 تحالفات إنجيلية في أمريكا الشمالية، تجمع 300 منظمة كنسية فيها، والرابطة الإنجيلية لدول البحر الكاريبي التي تأسست في عام 1977، والتحالف الإنجيلي الأوروبي لـ28 فرعاً في القارة الأوروبية، والرابطة الإنجيلية في إفريقيا التي يشكل حالياً أتباعها خُمس أتباع الكنيسة الإنجيلية في العالم، ولها نشاط نسائي من خلال "التحالف المسيحي لنساء إفريقيا".
كما شاركت زمالة التنصير في آسيا - التي تأسست في عام 1983- في سيول الكورية، وتوسع عملها لاحقاً؛ لتفعيل مكانة البروتستانت الآسيويين التي تقول إحصائية المنظمة التنصيرية إنهم يشكلون 4.5% من مجموع سكان القارة، والتي عُقد في ماليزيا - إحدى بلدانها المسلمة - المؤتمر الأخير.
ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ فلقد كانت هناك ورش عمل تجتمع يومياً بشكل متزامن في قاعات مختلفة تديرها سبعة لجان، وهي:
اللجنة اللاهوتية؛ ومما بحثته أثر العولمة على عمل الكنائس المحلية، والاستجابة الكنسية من وجهة نظر الإنجيل.
لجنة اهتمامات المرأة عن تحديات تواجه عمل المرأة في الكنيسة.
لجنة الإعلام الدولي المسيحي التي ناقشت كيفية رسم إستراتيجية إعلامية لكل كنيسة بروتستانتية محلية، وتقوية التواصل الإعلامي بين الأتباع، ثم النظر في تحريك الإعلام في تمويل آمال الزمالة البروتستانتية في العالم.
الورشة اليومية الرابعة كانت حول التطوير والتدريب القيادي لرجال الكنيسة.
لجنة الشباب التي ناقشت أزمة الشباب المسيحي، وأثر العولمة على ثقافتهم، وتدريب قادة شباب.
كما ناقشوا قضية الحريات الدينية، ومنها قضية الحواجز السياسية والدينية التي تقف أمام تنصيرهم للسكان في بلاد عديدة؛ حيث قُدّمت تقارير عن تطور محاولات توصيل "بشارة المسيح" إلى أماكن تضع حكوماتها موانع أمام المنصرين حماية لسكانها منهم، وكيفية الالتفاف على ذلك لإدخال النصرانية في قلوب سكانها، ومناقشة الآثار الإيجابية للعولمة على نشر النصرانية في مثل هذه الدول.
الورشة الأخيرة كانت حول الإرساليات عن النماذج الكنسية التي يصدرها المنطوين تحت راية "الزمالة البروتستانتية الدولية" إلى دول العالم، والتشكيل الروحي للمنصّرين، ومرة أخرى آثار العولمة السلبية والإيجابية.
وفي السياق نفسه يتصاعد نشاط فرق «التبشير» بين الشعوب المغربية، وما يسمى بـ«حوار الأديان» حيث يؤكد مقربون من رئيس أساقفة الجزائر المونسينيور هنري تيسييه أن حوالي 170 «مبشراً» قدموا إلى مختلف المدن الجزائرية خلال الربع الأول من العام الجاري، ويحدد راصدون صحفيون ثلاثة وسائل لـ«المبشرين» في جذب مئات المسلمين:(22/310)
الأولى: عرض وعود بتنظيم سفرات للمرتدين عن الإسلام نحو أوروبا، ويقول أحد المرتدين من منطقة الواد الصحراوية الجزائرية: إن ترك الإسلام يختصر جهوده للهجرة والإقامة في العالم الغربي.
الثانية: صرف مبالغ مالية مهمة لشرائح معينة من العاطلين عن العمل، وجمعيات اجتماعية موالية للثقافة الفرانكفونية.
الثالثة: افتتاح مكتبات جديدة، وإغراق سوق الكتب بالمراجع والمؤلفات «التبشيرية» باللغتين العربية والفرنسية.
ويكشف مشاهدون مغاربيون أن مدن تونس وبنزرت وسوسة والدار البيضاء وفاس ومكناس تشهد زيارات لافتة لـ«المبشرين» بنفس الأسلوب والتوقيت الذي يمارسه «مبشرون» في مدن تيزي أوزو وبجاية وشرشال والواد ووهران في الجزائر مستخدمين أدلاء من المغرب العربي ارتدوا عن الإسلام حديثاً، أو أنهم كانوا من المقيمين في بلدان أوروبية من أمد طويل.
وفي العاصمة التونسية فإن اللافت للنظر أن شركات السياحة الواسعة الانتشار أضحت تروج لتقارير إعلامية عن تنامي «التبشير» في البلاد، على اعتبار أن ذلك سيزيد من عدد السياح الأجانب، وسيرفع من عوائد سوق السياحة!
وينتقد إسلاميون جزائريون وزير الاتصال والثقافة محي الدين عميمور لأن وزارته تسمح بدخول آلاف المطبوعات «التبشيرية»، في وقت تطبق فيه سياسة متشددة في التعامل مع المؤلفات الإسلامية، وتسجيلات خطب الجمعة القادمة من مصر والسعودية!
عبد الله الشيباني «أحد قادة حركة العدل والإحسان الإسلامية المغربية» يربط بين تحرك «المبشرين» في مجتمعات المغرب العربي وبين تفاقم أعمال العنف سيما المجازر في الجزائر، وفي رأي الشيباني فإن فرق «التبشير» تستفيد من اجتواء الخوف، وارتباط المفاهيم، وإساءة الفهم التي صاغتها مواقف الصحافة الرسمية المغاربية من الحركات والأحزاب الأصولية في المنطقة.
ويثير مثقفون مغاربة تساؤلاً في ما إذا كان «المبشرون» لهم صلة بأجهزة مخابرات أجنبية، وإلى أي مدى يسهم ارتداد قلة قليلة من المغاربيين عن الإسلام في تسهيل مهمة هذه الأجهزة لتجنيد عملاء لها في المغرب العربي
وترمي بعض المعلومات في الجزائر إلى أن سفير بريطانيا فيها يأخذ على عاتقه الشخصي تأمين تأشيرات دخول لـ«مبشرين» بروتستانت في مواجهة ما ينفذه «مبشرون» قادمون من الكنيسة الكاثوليكية في روما، ومن جمعية ساند ايجيدو تحديداً.
واستناداً إلى مقربين من رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان عبد الرحمن بن عمر؛ ناقشت منظمته أكثر من أحد عشر ملفاً يتعلق بحرية الفرد في اختيار ديانته، وسط حوادث متكررة لمرتدين عن الإسلام.
ويتهم وطنيون في تونس والمغرب والجزائر تيارات البربر والفرانكفونية بتحولهم إلى جبهة خلفية لـ«المبشرين»، ويصرح بربريون متطرفون في مناطق القبائل الكبرى الجزائرية بفكرة أن التنصر هو عودة الشعب الأمازيغي إلى دينه الأول قبل أن تفتح الجيوش الإسلامية الوافدة من المشرق العربي هذه المناطق، وتنشر الإسلام فيها!!
ويشير استراتيجيون في المغرب العربي إلى أن جزءاً من أهداف اتحاد مغاربي موحد ومزدهر تسوده الاستثمارات المغربية واتفاقيات التعاون العسكري والأمني هو تقويض الهوية الإسلامية لشعوب المنطقة، وفي حسابات هذه المصدر فإن أوروبا ستكون في مأمن إذا ضعف أو انهار إسلام المغاربيين يحلول عام 2025، ويرى مغاربيون أن «إسرائيل» لها مصلحة جد هامة في تعزيز عمل فرق «المبشرين»، فهي غطاء لتغلغل سياسي وأمني وثقافي إسرائيلي في صميم مجتمعات المغرب العربي.
المصدر : http://tansee صلى الله عليه وسلم jee r an.com/b r itain.htm
===========(22/311)
(22/312)
مواجهة حملات التنصير بـ"استراتيجية" موحدة للدعوة
* إلى أي مدى وصلت مساحات التنصير في القارة السوداء?
* وما حدود إمكانيات المؤسسات الإسلامية في الوقوف أمام موجات التنصير?
* وكيف يمكن إيجاد حائط صد أمام الزحف التنصيري?
حول هذه المحاور كانت ندوة ( عكاظ ) التي عقدت بجوار المسجد الحرام لاستشراف ملامح المخطط التنصيري في قارة أفريقيا.
* عكاظ: كيف يمكن بداية رصد ملامح العمل التنصيري - وتحديداً في أفريقيا - وبالذات في هذه المرحلة؟
** فاضل:
ربما تكون القارة الأفريقية أكثر القارات التي تتركز فيها قوى التنصير، ولعل مما ساعد على نجاح الكنيسة في تنفيذ مخططاتها كون أن كثيراً من دول القارة استعمرت لسنين طويلة، واتساع مساحات الجهل والفقر، وضعف إمكانيات العمل الإسلامي بجميع مجالاته إذا ما قورن بحجم الإنفاق التنصيري، ولقد كشفت تقارير تنصيرية أن حجم الكتب التنصيرية تجاوز 44 مليون عنوان وزعت بـ(362) لغة، فيما يصدر نحو 900 ألف كتاب سنوياً، كما أن قوى التنصير تملك 11 ألف محطة إذاعة وتلفزيون، و7,5 ملايين منصر، و255 دورية وكتاباً، فيما رصد لمخططات التنصير حتى عام 2025م 870 مليار دولار، وقد وزعت 1,9 مليار نسخة من الإنجيل، وبلغ عدد الكتب التي تتحدث عن المسيح كمحور رئيسي في مكتبات العالم 65.571 كتاباً منها: 53.094 كتاباً يظهر اسم المسيح على العنوان.
وحسب تقارير موثوقة فإن حجم ما أنفق لأغراض الكنيسة عام 2000م 200 مليون دولار، وبلغ دخل الكنائس 100 بليون دولار، كما بلغ دخل المؤسسات الموازية للكنيسة والإرساليات الأجنبية 132 مليون دولار.
وقد بلغ إجمالي عدد المستمعين أو المشاهدين شهرياً 2,150,000,000 عبر 4,000 إذاعة وقناة تلفزيونية، وقدرت ساعات التنصير بـ(480) بليوناً، وقد استغلت الكنيسة أساليب متعددة للتنصير إضافة إلى استغلال الفقر والجهل والتعليم، وقامت حديثاً بالتنصير عبر المراسلة وهو من الأساليب التي تفوقت فيها الكنيسة للوصول إلى أهدافها.
** الشيخ أبوبكر:
تعبر الجمعيات التبشيرية عن آليات منبثقة عن الاسقفيات، والأجسام الكنسية العالمية، تقوم بنشر المسيحية والدفاع عنها، ومهمتها الأساسية نشر مبادئ المسيحية، وتدريب القسس، ومدهم بعلوم اللاهوت، والهجوم على الديانات المنافسة الذي قد يأخذ الطابع المباشر الذي يعني محاولات تغير معتقدات أتباعها من خلال تشويهها، وقد يأخذ الطابع غير المباشر، وكلا الطابعين تستخدمهما الجمعيات التبشيرية ضد الإسلام، ويتجسد الطابع المباشر في مشروع تنصير المسلمين في أفريقيا الذي طرحته الهيئات والمؤسسات الكنسية عام 1959م، وتأسست دعائم هذا المشروع رسمياً بواسطة ممثلين من جميع الكنائس العاملة في أفريقيا باعتبارها أكثر القارات التي تحتوي على نسبة عالية من المسلمين 40%، وقد تداعت هذه الجمعيات التبشيرية لمؤتمر جامع في ابادان بنيجيريا، وقد تلخصت وقائع الاجتماع في أن تتفهم كل كنيسة واقع المجتمع العاملة فيه، وأن تنشر كل كنيسة بشارة المسيح في هذا المجتمع عن طريق التأثير في المناهج والبحوث العلمية التي تنشر، ولتحقيق هذه الأهداف كونت لجنة تسمى بلجنة الارتباط الأوروبية، وقد ركزت على أهمية استخدام أصابع محلية في هذا المشروع من المسيحيين والعلمانيين في البلاد الإسلامية، ثم اتبعت ذلك بقيام مجلس مشروع الإسلام في أفريقيا ومقره نيروبي لتنسيق جهود هذه اللجان، ثم اتبع ذلك بمراكز بحوث لدراسة الإسلام، وقد وجهت اللجنة بتنظيم حلقات دراسية وسمنارات للمسيحيين عن كيفية التداخل مع المسلمين، وتعريف المسيحية لهم، وتشجيع كافة المسيحيين الذين يستوطنون المجتمعات الإسلامية، مع أهمية نشر الدراسات المسيحية عن الإسلام، وتوفير الاستشارات والفتاوى الخاصة بموضوع العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وتشجيع الحوار حول الأديان والتعايش السلمي بينها، ولعل أشهر القبائل الإسلامية التي وقعت تحت تهديد هذا المشروع هي قبائل الفولاني الأفريقية، والمساليت في جنوب تشاد.
وعموماً فإن هذه المنظمات التبشيرية تستخدم الكنائس في العالم الإسلامي نقاطاً لها وآليات تستخدمها في الهجمات التي تشنها على الإسلام، وتقصر هذه الجمعيات هجماتها على العقائد الدينية الإسلامية، وتصوب سهامها نحو جوهر المسألة الدينية والعقائد الفسلفية اللاهوتية، ويتركز عملها في المناهج المدرسية، ولكنها تترك مهمة إنشاء المدارس للجمعيات الطوعية، وتدعم المؤسسات والبرامج البحثية الموجهة، كما أنها تترك مهمة بناء المؤسسات البحثية لجهات أخرى حكومية.
* عكاظ: ولكن كيف يمكن إعداد صياغة كاملة للدعوة والحوار?
** الشيخ ليمو:(22/313)
يجب على الداعية المهتم بفتح حوار ديني مع أي مثقف نصراني أن يقيم علاقة تواصل ودية معه أولاً حول بعض القضايا غير الدينية، ومن المهم جداً أن يعي الداعية بصورة معقولة مبادئ الإسلام وتعاليمه وطريقة ممارستها، وبعبارة أخرى ليس كافياً أن يكون الإنسان خبيراً في كيفية أداء الشعائر الإسلامية دون أن يحسن التصرف في كل شيء يفعله في حياته، ودون أن يعي الغاية منها والمتمثلة في مخافة الله - تعالى -.
** الشيخ أبوبكر:
يجب أن يكون معلوماً لدى الدعاة طبيعة الإسلام، وحقيقة كونه ديناً عالمياً منزلاً من عند الله - تعالى - لكافة البشر في كل الأوقات، بجانب ضرورة أن تدعم تلك المعرفة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويمكن أن يشار إلى بعض حقائق الحياة في العالم المعاصر لدعم الحجيج التي تؤيد غايات الإسلام بما يجعل الداعية فاعلاً في حواره مع غير المسلمين، الأمر الذي يحتم على الداعية الإلمام بقدر واسع من المعلومات عن الإسلام وطرق الحياة في العالم المعاصر، ومن الأسس التي ينبغي للداعية الوقوف عليها أثناء الحوار هو إقرار وتسليم المؤرخين - مسلمين كانوا أم غير مسلمين - بصحة القرآن، وحفظ نصه، وتميز القرآن بجمال الألفاظ، والصحة والشمولية، وإشارته إلى بعض الحقائق العلمية التي لم تعرف أو تكشف للناس إلا مؤخراً، وأن الإسلام ليس ديناً جديداً لكنه دين أنبياء الله يوجب احترام كل الرسل والأنبياء، وانه لا رهبانية في الإسلام، وأن الناس سواسية، وأن الإسلام أقدر من الأديان الأخرى على حل مشكلات الأفراد والمجتمعات، وأنه لا يؤيد الاعتقاد الأعمى، وهو دين التوسط والإخاء.
* عكاظ: من خلال التجربة والمعايشة ماذا عن أفضل الطرق لدعوة النصارى بجميع طبقاتهم? وهل أساليب الدعوة الإسلامية المتبعة اليوم قادرة على التأثير أم أننا بحاجة إلى أساليب جديدة?
** الشيخ ليمو:
ينبغي التأكيد على أن هناك أساليب لدعوة النصارى المثقفين وغير المثقفين.
فبالنسبة للمثقفين ينبغي للداعية المسلم المؤهل والمعد أن يؤجل مناقشة القضايا الدينية إلى أن يرى أن الوقت أضحى مناسباً لفتح حوار ذي معنى، ويجب عليه أن يطرح عليهم بعض الأسئلة التي يرمي من خلالها إلى التعرف على ما لديهم من افتراضات.
كما يجب أن يتعرف على معتقد كل إنسان من خلال طرح الأسئلة التالية: ماذا تعني بذلك الأمر? من أين أتيت بهذه المعلومات? كيف عرفت أن هذا الأمر صحيح? ماذا سيحدث إذا عرفت أنك على موقف خاطئ? إن أهم تأثير لهذه الأسئلة هو دفع النصراني المثقف إلى فحص معتقداته، وبتلك الطريقة ربما ينجح الداعية على الأقل في زرع الشك في عقل من يخاطب من النصارى، ومن المفيد دعم الحجج بالاقتباسات أو الشواهد، ويفضل أن تكون محفوظة غيباً، وفيما يتعلق بطريقة دعوة النصارى غير المثقفين فإن نجاحه في المناقشات مع المثقفين ستقوده - بإذن الله - إلى كسب اهتمام غير المثقفين الذين عادة ما يكونون في النصرانية محبين لاستماع الحوارات، وإنه من المعلوم أن يتحاشى القساوسة ولا سيما الذين يعيشون وسط أتباع غير المثقفين في الريف، ومواصلة النقاش المفتوح مع الدعاة المسلمين إذا اتضح لهم أن الدعاة بدأوا يتغلبون عليهم في الحوار.
وفي بعض البلدان الأفريقية مثل نيجيريا فإن القساوسة لا يتحاشون المناقشة فحسب؛ بل يدبرون الخطط ضد الداعية الناجح لسحبه من ميدان الدعوة، أو الضغط عليه من قبل السلطات السياسية أو الإقليمية.
** فاضل:
على الداعية أن يتحاشى استخدام الألفاظ السيئة مع غير المسلمين عموماً وقادتهم، بجانب عدم الإساءة إلى ما يعبدونه، مع أهمية انضباط الداعية في سلوكه لأن مثاليته طريق مضيء، ولإقناع العامةـ وهذا يعتبر نوعاً من أنواع الدعوة إلى الله، وعليه الالتزام بمفهوم الحكمة الواسع الذي يشمل على المهارة والحلم وسعة الصدر، وأن يتحلى بالصبر على المكارة، والمثابرة على ضبط النفس، وعدم استعجال النتائج.
** أبوبكر:
من المهم جداً إيجاد مراكز مبسطة لتدريب الدعاة تكون داخل كل دولة لقطع دابر السفر والترحال، وزيادة النفقات، والاهتمام بالتنقية الحديثة، وتحسين رعاية حديثي العهد بالإسلام، وتوظيف شبكة المعلومات، وتوفير الكتب والرسائل التي ينبغي أن تكون بلغة سهلة ومفهومة، وطرق أبواب التمويل الفاعل للدعوة.
المصدر : http://tansee صلى الله عليه وسلم jee r an.com/defend.htm
==========(22/314)
(22/315)
مقارنة بين نشاط التنصير والدعوة الإسلامية
يقف المسلم عند التأمل في جهود التنصير الواسعة وجهود الدعوة الإسلامية المتواضعة موقف الأسى والألم.
فقد أجرت مجلة الأسرة العدد 104 مقابلة مع أحد القساوسة الذين منَّ الله عليهم بالإسلام؛ ذكر فيها مقارنة بين نشاط التنصير ونشاط الدعوة الإسلامية، وإليك المقارنة:
وجه المقارنة
…
التنصير
…
الدعوة الإسلامية
الدعم المادي
…
دعم الحكومات الغربية ودعم الشركات الكبيرة
…
دعم يسير يقوم به أهل الخير في ظل مضايقات كثيرة
الأوقاف
…
مباني ضخمة وإيرادات وبدائل الضرائب
…
أوقاف قليلة جداً
الإدارة
…
إدارات كبيرة وقوية ذات دراسات علمية
…
إدارة شخصية غير خاضعة لأي تقييم
تأهيل الداعية
…
* منذ طفولته يهيأ للدعوة
* يرضخ لدورات علمية عميقة
* يدرس طبيعة الشعب الذي يدعو فيه
* يتكلم ثلاث لغات على الأقل
* يستلم مرتبات ضخمة
…
* يرسل بطريقة عفوية
* بعضهم لا يعرف غير اللغة العربية
* لا يعرف كيف يخاطب الشعب
* مرتبات ضئيلة
شمولية الدعوة
…
* تنصير وتأهيل للعمل المكتسب وإقامة إذاعة ، وإغاثة وعلاج طبي وكليات علمية .
…
* الاكتفاء بإلقاء المواعظ وتوزيع الكتب وأحياناً إغاثة ونادراً علاج
العلاقات الداخلية
…
* علاقات مع سفراء الدول الغربية
* علاقات رسمية مع وزارة الداخلية
* علاقات بالإعلام والصحف
…
* لا توجد أي علاقات رسمية غالباً
* تعمل أحياناً في الخفاء مما يعرضها للإغلاق
الطاقم الدعوي
…
طبيب وممرض ومعلم وإدارة مالية وإدارة تموين وسيارات وطائرات .
…
داعية ومؤن إغاثية
المصدر : http://saaid.net/aldawah/43.htm
==========(22/316)
(22/317)
مرسوم بتنصير المسلمين!
(في ذكرى صدوره في 16 جمادى الأولى 931هـ)
سقطت غرناطة - آخر قلاع المسلمين في أسبانيا - سنة (897هـ - 1492م)، وكان ذلك نذيراً بسقوط صرح الأمة الأندلسية الديني والاجتماعي، وتبدد تراثها الفكري والأدبي، وكانت مأساة المسلمين هناك من أفظع مآسي التاريخ؛ حيث شهدت تلك الفترة أعمالاً بربرية وحشية ارتكبتها محاكم التحقيق (التفتيش)؛ لتطهير أسبانيا من آثار الإسلام والمسلمين، وإبادة تراثهم الذي ازدهر في هذه البلاد زهاء ثمانية قرون من الزمان.
وهاجر كثير من مسلمي الأندلس إلى الشمال الإفريقي بعد سقوط مملكتهم؛ فراراً بدينهم وحريتهم من اضطهاد النصارى الأسبان لهم، وعادت أسبانيا إلى دينها القديم، أما من بقي من المسلمين فقد أجبر على التنصر أو الرحيل، وأفضت هذه الروح النصرانية المتعصبة إلى مطاردة وظلم وترويع المسلمين العزل، انتهى بتنفيذ حكم الإعدام ضد أمة ودين على أرض أسبانيا.
ونشط ديوان التحقيق أو الديوان المقدس الذي يدعمه العرش والكنيسة في ارتكاب الفظائع ضد الموريسكيين (المسلمين المتنصرين)، وصدرت عشرات القرارات التي تحول بين هؤلاء المسلمين ودينهم ولغتهم وعاداتهم وثقافتهم، فقد أحرق الكردينال "خمينس" عشرات الآلاف من كتب الدين والشريعة الإسلامية، وصدر أمر ملكي يوم (22 ربيع أول 917هـ - 20 يونيو 1511) يلزم جميع السكان الذي تنصروا حديثاً أن يسلموا سائر الكتب العربية التي لديهم، ثم تتابعت المراسيم والأوامر الملكية التي منعت التخاطب باللغة العربية، وانتهت بفرض التنصير الإجباري على المسلمين، فحمل التعلق بالأرض وخوف الفقر كثيراً من المسلمين على قبول التنصر ملاذاً للنجاة، ورأى آخرون أن الموت خير ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهداً للكفر، وفر آخرون بدينهم، وكتبت نهايات متعددة لمأساة واحدة هي رحيل الإسلام عن الأندلس.
محاكم التحقيق:
توفي فرناندو الخامس ملك أسبانيا في (17 ذي الحجة 921هـ - 23 يناير 1516م) وأوصى حفيده شارل الخامس بحماية الكاثوليكية والكنيسة، واختيار المحققين ذوي الضمائر الذين يخشون الله لكي يعملوا في عدل وحزم لخدمة الله، وتوطيد الدين الكاثوليكي، كما يجب أن يسحقوا طائفة محمد!
وقد لبث "فرناندو" زهاء عشرين عاماً بعد سقوط الأندلس ينزل العذاب والاضطهاد بمن بقي من المسلمين في أسبانيا، وكانت أداته في ذلك محاكم التحقيق التي أنشئت بمرسوم بابوي صدر في (رمضان 888هـ - أكتوبر 1483م)، وعين القس "توماس دي تركيمادا" محققاً عاماً لها، ووضع دستوراً لهذه المحاكم الجديدة وعدداً من اللوائح والقرارات.
وقد مورست في هذه المحاكم معظم أنواع التعذيب المعروفة في العصور الوسطى، وأزهقت آلاف الأرواح تحت وطأة التعذيب، وقلما أصدرت هذه المحاكم حكماً بالبراءة، بل كان الموت والتعذيب الوحشي هو نصيب وقسمة ضحاياها، حتى إن بعض ضحاياها كان ينفذ فيه حكم الحرق في احتفال يشهده الملك والأحبار، وكانت احتفالات الحرق جماعية، تبلغ في بعض الأحيان عشرات الأفراد، وكان فرناندو الخامس من عشاق هذه الحفلات، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها.
وبث هذا الديوان منذ قيامه جواً من الرهبة والخوف في قلوب الناس، فعمد بعض هؤلاء الموريسكيين إلى الفرار، أما الباقي فأبت الكنيسة الكاثوليكية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الذي أجبروا على اعتناقه؛ لأنها لم تقتنع بتنصير المسلمين الظاهري، بل كانت ترمي إلى إبادتهم.
شارل الخامس والتنصير الإجباري:
تنفس الموريسكيون الصعداء بعد موت فرناندو، وهبت عليهم رياح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون عهد "شارل الخامس" خيراً من سابقه، وأبدى الملك الجديد - في البداية - شيئاً من اللين والتسامح نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال في مطاردتهم، وكفت عن التعرض لهم في أراجون بسعي النبلاء والسادة الذين يعمل المسلمون في ضياعهم، ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية المتعصبة في البلاط وفي الكنيسة، فغلبت كلمتها، وصدر مرسوم في (16 جمادى الأولى 931هـ - 12 مارس 1524م) يحتم تنصير كل مسلم بقي على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من أسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصر أو الخروج في المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تحول جميع المساجد الباقية إلى كنائس.
ولما رأى الموريسكيون هذا التطرف من الدولة الأسبانية استغاثوا بالإمبراطور شارل الخامس، وبعثوا وفداً منهم إلى مدريد ليشرح له مظالمهم، فندب شارل محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برئاسة المحقق العام لتنظر في شكوى المسلمين، ولتقرر ما إذا كان التنصير الذي وقع على المسلمين بالإكراه يعتبر صحيحاً ملزماً، بمعنى أنه يحتم عقاب المخالف بالموت.
وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة؛ بأن التنصير الذي وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين سارعوا بقبوله اتقاء لما هو شر منه، فكانوا بذلك أحراراً في قبوله.(22/318)
وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكي بأن يرغم سائر المسلمين الذين تنصروا كرهاً على البقاء في أسبانيا باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية قضى عليهم بالموت أو المصادرة، وقضى الأمر في الوقت نفسه بأن تحول جميع المساجد الباقية في الحال إلى كنائس.
وكان قدر هؤلاء المسلمين أن يعيشوا في تلك الأيام الرهيبة التي ساد فيها إرهاب محاكم التحقيق، وكانت لوائح الممنوعات ترد تباعاً، وحوت أوامر غريبة منها: حظر الختان، وحظر الوقوف تجاه القبلة، وحظر الاستحمام والاغتسال، وحظر ارتداء الملابس العربية.
ولما وجدت محكمة تفتيش غرناطة بعض المخالفات لهذه اللوائح عمدت إلى إثبات تهديدها بالفعل، وأحرقت اثنين من المخالفين في (شوال 936هـ - مايو 1529م) في احتفال ديني.
الموريسكيون وشارل الخامس:
كان لقرارات هذا الإمبراطور أسوأ وقع لدى المسلمين، وما لبثت أن نشبت الثورة في معظم الأنحاء التي يقطنونها في سرقسطة وبلنسية وغيرهما، واعتزم المسلمون على الموت في سبيل الدين والحرية، إلا أن الأسبان كانوا يملكون السلاح والعتاد، فاستطاعوا أن يخمدوا هذه الثورات المحلية باستثناء بلنسية التي كانت تضم حشداً كبيراً من المسلمين يبلغ زهاء (27) ألف أسرة، فإنها استعصت عليهم لوقوعها على البحر واتصالها بمسلمي المغرب.
وقد أبدى مسلمو بلنسية مقاومة عنيفة لقرارات التنصير، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بني وزير)، فجردت الحكومة عليهم قوة كبيرة مزودة بالمدافع، وأرغمت المسلمين في النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن يتنصروا، وعدلت عقوبة الرق إلى الغرامة، وافتدى الأندلسيون من الإمبراطور حق ارتداء ملابسهم القومية بمبلغ طائل.
وكانت سياسة التهدئة من شارل الخامس محاولة لتهدئة الأوضاع في جنوب الأندلس حتى يتفرغ للاضطرابات التي اندلعت في ألمانيا وهولندا بعد ظهور مارتن لوثر، وأطروحاته الدينية لإصلاح الكنيسة، وانتشار البروتستانتية؛ لذلك كان بحاجة إلى توجيه كل اهتمامه واهتمام محاكم التحقيق إلى "الهراطقة" في شمال أوروبا، كما أن قيام محاكم التحقيق بما يفترض أن تقوم به كان يعني إحراق جميع الأندلسيين؛ لأن الكنيسة تدرك أن تنصرهم شكلي لا قيمة له، يضاف إلى ذلك أن معظم المزارعين الأندلسيين كانوا يعملون لحساب النبلاء أو الكنيسة، وكان من مصلحة هؤلاء الإبقاء على هؤلاء المزارعين، وعدم إبادتهم.
وكان الإمبراطور شارل الخامس حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين، وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى في الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تتحقق قط، وشعر هؤلاء أنهم ما زالوا موضع الريب والاضطهاد، ففرضت عليهم ضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئاً فشيئاً، حتى أصبحوا أشبه بالرقيق والعبيد، ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، صدر قرار في سنة (948هـ - 1514م)، يحرم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرم عليهم النزوح إلى بلنسية التي كانت دائماً طريقهم المفضل إلى الهجرة، ثم صدر قرار بتحريم الهجرة من هذه الثغور إلا بترخيص ملكي نظير رسوم فادحة، وكان ديوان التحقيق يسهر على حركة الهجرة، ويعمل على قمعها بشدة.
ولم تمنع هذه الشدة من ظهور اعتدال من الإمبراطور في بعض الأوقات، ففي سنة (950هـ - 1543م) أصدر عفواً عن بعض المسلمين المتنصرين؛ تحقيقاً لرغبة مطران طليطلة، وأن يسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلص، ولا تصادر المهور التي دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التي ارتكبوها.
وهكذا لبثت السياسة الأسبانية أيام الإمبراطور شارل الخامس (922هـ - 1516م) حتى (963هـ - 1555م) إزاء الموريسكيين تتردد بين الشدة والقسوة، وبين بعض مظاهر اللين والعفو، إلا أن هؤلاء المسلمين تعرضوا للإرهاق والمطاردة والقتل، ووجدت فيهم محاكم التحقيق الكنسية مجالاً مفضلاً لتعصبها وإرهابها.
الألخمادو:(22/319)
وكانت الأمة الأندلسية خلال هذا الاستشهاد المحزن الذي فرض عليها؛ تحاول بكل وسيلة أن تستبقي دينها وتراثها، فكان الموريسيكيون بالرغم من دخولهم في النصرانية يتعلقون سراً بالإسلام، وكثير منهم يؤدون شعائر الإسلام خفية، وكانوا يحافظون على لغتهم العربية، إلا أن السياسة الأسبانية فطنت إلى أهمية اللغة في تدعيم الروح القومية؛ لذلك أصدر الإمبراطور شارل الخامس سنة ( 932 هـ - 1526م) أول قانون يحرم التخاطب بالعربية على الموريسكيين، ولكنه لم يطبق بشدة؛ لأن هؤلاء الموريسكيين دفعوا له (100) ألف دوقة حتى يسمح لهم بالتحدث بالعربية، ثم أصدر الإمبراطور فيليب الثاني سنة (964ه - 1566م) قانوناً جديداً يحرم التخاطب بالعربية، وطبق بمنتهى الشدة والصرامة، وفرضت القشتالية كلغة للتخاطب والتعامل، ومع ذلك وجد الموريسكيون في القشتالية متنفساً لتفكيرهم وأدبهم، فكانوا يكتبونها سراً بأحرف عربية، وأسفر ذلك بمضي الزمن عن خلق لغة جديدة هي "الألخميادو" وهي تحريف أسباني لكلمة "الأعجمية"، ولبثت هذه اللغة قرنين من الزمان سراً مطموراً، وبذلك استطاعوا أن يحتفظوا بعقيدتهم الإسلامية، وألف بها بعض الفقهاء والعلماء كتباً عما يجب أن يعتقد المسلم ويفعله حتى يحتفظ بإسلامه، وشرحوا آيات القرآن باللغة الإلخميادية، وكذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان من أشهر كتاب هذه اللغة الفقيه المسمى "فتى أبيرالو" وهو مؤلف لكتب التفسير، وتلخيص السنة، ومن الشعراء محمد ربدان الذي نظم كثيراً من القصائد والأغنيات الدينية؛ وبذلك تحصن الموريسيكيون بمبدأ "التقية" فصمدوا في وجه مساعي المنصرين الذين لم تنجح جهودهم التبشيرية والتعليمية والإرهابية في الوصول إلى تنصير كامل لهؤلاء الموريسيكيين، فجاء قرار الطرد بعد هذه الإخفاقات.
ولم تفلح مساعي الموريسيكيين في الحصول على دعم خارجي فعال من الدولة العثمانية أو المماليك في مصر، رغم حملات الإغارة والقرصنة التي قام بها العثمانيون والجزائريون والأندلسيون على السفن والشواطئ الأسبانية، ودعم الثوار الموريسيكيين.
واستمرت محاكم التحقيق في محاربة هؤلاء المسلمين طوال القرن السادس عشر الميلادي، وهو ما يدل على أن آثار الإسلام الراسخة في النفوس بقيت بالرغم من المحن الرهيبة وتعاقب السنين، ولعل من المفيد أن نذكر أن رجلاً أسبانياً يدعى "بدية" توجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج سنة (1222هـ - 1807م) أي بعد 329 سنة من قيام محاكم التحقيق.
مصادر الدراسة:
* محمد عبد الله عنان - نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين - مكتبة الخانجي - القاهرة الطبعة الرابعة 1408هـ- 1987م.
* عادل سعيد بشتاوي - الأندلسيون المواركة - القاهرة - الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م.
* ليونارد باتريك هارفي - تاريخ الموريسكيين السياسي والاجتماعي والثقافي. (دراسة في كتاب الحضارة العربية في الأندلس التي أشرفت على إعدادها الدكتور سلمى الخضراء الجيمي). مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت - الطبعة الأولى 1419- 1998.
* نبيل عبد الحي رضوان - جهود العثمانيين لإنقاذ الأندلس واسترداده - مكتبة الطالب الجامعي - مكة المكرمة - الطبعة الأولى 1408هـ- 1988.
المصدر : http://tansee صلى الله عليه وسلم jee r an.com/ma r som.htm
==========(22/320)
(22/321)
ماذا قدمت لدين الله؟
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاماً على عبده المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:
• أخي الحبيب! إن للباطل في هذا العصر صولة وجولة، وكلمة وموقفاً، وما انتفش الباطل، وارتفعت كلمته إلا لتخاذل أهل الحق، ونكوصهم عن المواجهة، وإظهار محاسن الحق الذي يحملونه وينتسبون إليه.
• إن أهل الباطل يدافعون عن باطلهم، ويبذلون في سبيل نشره وإقناع الناس به كل غالٍ ونفيس قال تعالى:{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ}[صّ:4- 7].
• إنها الدعوة إلى الشرك والكفر والضلال، والتواصي بالصبر على عبادة غير الله من الطواغيت والأحجار والأشجار والأفكار والمذاهب والمناهج.
وليس الأمر مقتصراً على الدعوة فقط، بل إنهم يبثون أتباعهم في صفوف الجماهير لتثبيتهم على الوفاء لهذا المبدأ الخبيث، والهدف القبيح، والغاية الخاسرة.
• أخي الحبيب! اقرأ معي هذه الإحصائيات والأرقام عن نشاط المنصرين لعام 1996م:
1. بلغ ما جمعته المنظمات التنصيرية مبلغاً قدره (193) مليار دولار أمريكي!!
2. بلغ عدد المنظمات التنصيرية (23300) منظمة عاملة.
3. بلغ عدد المنظمات التنصرية التي ترسل منصرين إلى الخارج (4500) منظمة.
4. بلغ عدد المنصرين الذين يعملون داخل أوطانهم (4,635,500) منصراً، أما الذين يعملون خارج أوطانهم فعددهم (398,000) منصراً.
5. بلغ عدد نسخ الإنجيل التي تم توزيعها خلال عام واحد فقط (178,317,000) كتاباً.
6. بلغ عدد المجلات والدوريات التنصيرية (30100) مجلة دورية.
7. بلغ عدد الإذاعات والمحطات التليفزيونية التنصيرية (3200) إذاعة ومحطة تلفزة مختصة بالتنصير.
8. بلغ عدد أجهزة الكمبيوتر في المؤسسات التنصيرية (20,696,100) جهازاً.
[من كتاب: ليس عليك وحشة].
• وماذا بعد أخي الحبيب؟ ماذا قدمت أنت لدين الله؟ ماذا بذلت للإسلام من جهد؟ ماذا أنفقت له من مال؟ ماذا قدمت له من وقت؟ كم مرة حزنت على ما يتعرض له المسلمون من ذبح وإبادة في كثير من بلدان العالم؟ كم مرة مسحت دمعة يتيم، أو أعدت فيها البسمة إلى شفاه أرملة، أو سترت فيها جسد مسلمة من التهتك والانحراف؟
• إن الإسلام - أخي الحبيب - هو شرفنا وعزتنا، وكرامتنا ومصدر قوتنا وهيبتنا بين الأمم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ}[الزخرف:44].
وإذا تخلينا عن الإسلام فقد مكنا عدونا من رقابنا، وأبحنا له حرماتنا، وخولناه في العبث بمقدساتنا.
وإذا انشغل كل واحداً منا بنفسه، وترك جراحات إخوانه؛ فسوف تأتي الدائرة عليه، وربما قتل أو مات قبل الذين هم في الميدان يلاقون العدو بصدورهم العارية، وإمكاناتهم البسيطة، قال النبي صلى الله عليه وسلم :"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
وقال صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [رواه مسلم]
وقال صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيباً، وإن وضعت وضعت طيباً، وإن وقعت على عود نخراً لم تكسره"[رواه البيهقي وحسنه الألباني].
• هكذا أنت أيها المؤمن تنفع نفسك وإخوانك في كل مكان، تشارك إخوانك أفراحهم وأتراحهم، وتعمل على إيصال الخير لهم إيما وجدوا.
قال الشاعر:
ليس لي أرض وطين *** موطني عز ودين
إنه نور مبين *** إنه بالله أكبر
وقال آخر:
فأينما ذكر اسم الله في بلد *** عددت ذاك الحمى من بعض أوطاني
• هل تعلم أن هناك قرى كاملة في كثير من بلدان أفريقيا لا يجدون مسجداً للصلاة! مع أن تكلفة بناء المسجد هناك لا يتجاوز خمسة آلاف ريال سعودي؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجدون مدرسة يتعلمون فيها أمور دينهم ودنياهم؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجدون طعاماً يقيمون بهم ضرورتهم، وإن وجد فثمنه باهظ جداً، وهو خروجهم من الإسلام ودخولهم في النصرانية؟!
• هل تعلم أن هناك أخوات لك في الإسلام تتمنى إحداهن أن تستر جسدها، ولكنها لا تستطيع لأنها لا تجد من يقدم لها الحجاب الشرعي؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجدون بئراً يشربون منه مع أن تكلفة حفر البئر عندهم يستطيعها كل واحد منا؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يملكون دواءً لما يصيبهم من أمراض وأدواء، ولا يجدون سوى أطباء التنصير الذين يعلقون في رقابهم الصلبان قبل إعطائهم الدواء؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام لا يجد أحدهم مصحفاً يقرأ فيه، مع أن الإنجيل المحرف يوجد بكثرة في بلاده؟!
• هل تعلم أن هناك إخوة لك في الإسلام يشهدون الشهادتين، ولكنهم لا يعرفون شيئاً عن الحلال والحرم، والأحكام والآداب الإسلامية، وأنهم ينتظرون من يعلمهم ويزيل عنهم غشاوة الجهل وظلمة التقليد؟!(22/322)
• هل تعلم أن الإسلام هو أوسع الأديان انتشاراً في أوربا وأمريكا، وأن المسلمين الجدد هناك يحتاجون إلى جهود ضخمة لترسيخ أقدامهم في الإسلام، وإزالة بقايا ما يحملونه من عقائد ضالة، وأخلاق سيئة؟!
• هل تعلم أن التنصير نجح في صد كثير من المسلمين عن دينهم، وإخراجهم من الإسلام وإدخالهم في النصرانية، حتى أن قرى بأكملها تحولت من الإسلام إلى النصرانية، وأصبحوا سلاحاً موجهاً ضد الإسلام والمسلمين؟ وصدق الله إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}[البقرة:120]، وقال تعالى: { وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217].
يمكنك أن تفعل شيئاً:
• أخي الحبيب: يمكنك أن تفعل شيئاً لخدمة دينك مهما كانت إمكاناتك محدودة، فإن مجالات خدمة الإسلام كثيرة جداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سبق درهم ألف درهم" فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: "رجل له مال كثير، أخذ من عرضه ألف درهم تصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به" [رواه النسائي وحسنه الألباني].
• واعلم ـ أخي الحبيب ـ أن القليل الذي تقدمه لدين الله خير من الكثير الذي يقدمه أعداء الإسلام في سبيل إضلال المسلمين، وإخراجهم من دينهم، فقد قال الله - تعالى -: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض}[الرعد:17]
• وهذه الأموال والأوقات والجهود سوف تكون عليهم لا لهم يوم القيامة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
• واعلم - أخي الحبيب - أن المستقبل لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين، وأن المتولي عن نصرة الإسلام والمسلمين هو الخاسر النادم المتحسر، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً *يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً}[الفرقان:27ـ29]، وقال تعالى: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمد:38].
• ومن مجالات خدمة الإسلام في هذا العصر:
1. شراء الكتب الإسلامية النافعة، وتوزيعها في الداخل والخارج، مع الاهتمام بتوزيع الكتب المترجمة باللغات المختلفة.
2. شراء المطويات النافعة وتوزيعها.
3. شراء الأشرطة النافعة وتوزيعها.
4. شراء المصاحف وبخاصة المترجمة إلى اللغات الأخرى وتوزيعها.
5. المساهمة في بناء المساجد في الدول الفقيرة.
6. المساهمة في حفر الآبار، وإنشاء المدارس، وحلقات تحفيظ القرآن.
7. المساهمة في إيجاد فرص عمل للمسلمين في البلدان الفقيرة حتى يقوموا بكفالة أنفسهم، ولا يحتاجوا إلى جهود المنصرين.
8. قيام الأطباء المسلمين بواجبهم في معالجة فقراء المسلمين في كل مكان.
9. قيام طلاب العلم بواجبهم في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذهاب إلى المسلمين في كل مكان لتعليمهم وإرشادهم.
10. التعاون مع المنظمات والهيئات الإغاثية الإسلامية في تقديم يد العون إلى إخوانهم في كل مكان.
11. المساهمة في إنشاء إذاعات ومحطات تلفزة إسلامية تعمل على نشر الفكر الإسلامي الصحيح.
12. المساهمة في إثراء المجلات والصحف والدوريات الإسلامية بكل مفيد.
13. دعم المسلمين الجدد مادياً ومعنوياً.
14. تكوين رأي عام إسلامي، وتعريف الناس بحقائق الإسلام ومحاسنه.
15. استغلال موسم الحج في ترسيخ مبادئ العقيدة الصحيحة، والأخوة الإسلامية لدى الحجاج الذين يأتون من كل بقاع الدنيا.
16. الاهتمام بدعوة غير المسلمين الذين يعملون في بلادنا، وتعريفهم بالوجه المشرق للإسلام والمسلمين.
نسأل الله - تعالى - أن يوفقنا لخدمة دينه، وأن يجعلنا من الدعاة الصادقين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصدر : http://tansee صلى الله عليه وسلم jee r an.com/help.html
==========(22/323)
(22/324)
فتوى مهمة في التحذير من وسائل التنصير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فغير خاف على كل من نور الله بصيرته من المسلمين شدة عداوة الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم للمسلمين، وتحالف قواهم واجتماعها ضد المسلمين؛ ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم الحق، دين الإسلام الذي بعث الله به خاتم أنبيائه ورسله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين.
وإن للكفار في الصد عن الإسلام، وتضليل المسلمين، واحتوائهم، واستعمار عقولهم، والكيد لهم؛ وسائل شتى، وقد نشطت دعواتهم وجمعياتهم وإرسالياتهم، وعظمت فتنتهم في زمننا هذا، فكان من وسائلهم ودعواتهم المضللة بعث نشرة باسم (معهد أهل الكتاب في دولة جنوب أفريقيا)، تبعث للأفراد والمؤسسات والجمعيات عبر صناديق البريد في جزيرة العرب - أصل الإسلام ومعقله الأخير - متضمنة هذه النشرة برامج دراسية عن طريق المراسلة، وبطاقة اشتراك بدون مقابل في كتب (التوراة، والزبور، والإنجيل)، وعلى ظهر هذه النشرة مقتطفات من هذه الكتب.
هذا وإن من عاجل البشرى للمسلمين استنكار هذا الغزو المنظم، والتحذير منه بجميع وسائله، وكان من هذه المواقف المحمودة وصول عدد من الكتابات والمكالمات إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، آملين صدور بيان يقف أمام هذه النشرات، ويحذر من هذه الدعوات الكفرية الخطيرة على المسلمين.
فنقول وبالله التوفيق:
منذ أشرقت شمس الإسلام على الأرض وأعداؤه - على اختلاف عقائدهم ومللهم - يكيدون له ليلاً ونهاراً، ويمكرون بأتباعه كلما سنحت لهم فرصة؛ ليخرجوا المسلمين من النور إلى الظلمات، ويقوضوا دولة الإسلام، ويضعفوا سلطانه على النفوس، ومصداق ذلك في كتاب الله - تعالى - إذ يقول: (( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ )) وقال سبحانه: (( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ))، وقال جل وعلا: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ )).
وكان من أبرز أعداء هذا الدين: النصارى الحاقدون، الذين كانوا ولا يزالون يبذلون قصارى جهدهم، وغاية وسعهم لمقاومة المد الإسلامي في أصقاع الدنيا، بل ومهاجمة الإسلام والمسلمين في عقر ديارهم، لا سيما في حالات الضعف التي تنتاب العالم الإسلامي كحالته الراهنة اليوم، ومن المعلوم بداهة أن الهدف من هذا الهجوم هو زعزعة عقيدة المسلمين، وتشكيكهم في دينهم؛ تمهيداً لإخراجهم من الإسلام، وإغرائهم باعتناق النصرانية عبر ما يعرف خطأ بـ (التبشير)، وما هو إلا دعوة إلى (الوثنية) في النصرانية المحرفة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبي الله عيسى - عليه السلام - منها براء.
وقد أنفق النصارى أموالاً طائلة، وجهوداً كبيرة في سبيل تحقيق أحلامهم في تنصير العالم عموماً، والمسلمين على وجه الخصوص، ولكن حالهم كما قال الله سبحانه: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ))، وقد عقدوا من أجل هذه الغاية مؤتمرات عدة: إقليمية، وعالمية، منذ قرن من الزمان، وإلى الآن توافد إليهم المنصرون العاملون من كل مكان لتبادل الآراء والمقترحات حول أنجع الوسائل، وأهم النتائج، ورسموا لذلك الخطط، ووضعوا البرامج، فكان من وسائلهم:
إرسال البعثات التنصيرية إلى بلدان العالم الإسلامي، والدعوة إلى النصرانية من خلال توزيع المطبوعات من كتب ونشرات تعرف بالنصرانية، وترجمات للإنجيل، ومطبوعات للتشكيك في الإسلام، والهجوم عليه، وتشويه صورته أمام العالم.
ثم اتجهوا أيضاً إلى التنصير بطرق مغلفة، وأساليب غير مباشرة.
ولعل من أخطر هذه الأساليب ما كان:
1- عبر التطبيب، وتقديم الرعاية الصحية للإنسان: وقد ساهم في تأثير هذا الأسلوب عامل الحاجة إلى العلاج، وكثرة انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة في البيئات الإسلامية، خصوصاً مع مرور زمن فيه ندرة الأطباء المسلمين، بل فقدانهم أصلاً في بعض البلاد الإسلامية.(22/325)
2- التنصير عن طريق التعليم: وذلك إما بإنشاء المدارس والجامعات النصرانية صراحة، أو بفتح مدارس ذات صبغة تعليمية بحتة في الظاهر، وكيد نصراني في الباطن، مما جعل فئاماً من المسلمين يلقون بأبنائهم في تلك المدارس؛ رغبة في تعلم لغة أجنبية، أو مواد خاصة أخرى، ولا تسل بعد ذلك عن حجم الفرصة التي يمنحها المسلمون للنصارى حين يهدونهم فلذات أكبادهم في سن الطفولة والمراهقة حيث الفراغ العقلي، والقابلية للتلقي، أياً كان الملقِي!! وأياً كان الملقَى!!
3- التنصير عبر وسائل الإعلام: وذلك من خلال الإذاعات الموجهة للعالم الإسلامي، إضافة إلى طوفان البث المرئي عبر القنوات الفضائية في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الصحف والمجلات والنشرات الصادرة بأعداد هائلة، وهذه الوسائل الإعلامية: المرئية، والمسموعة، والمقروءة كلها تشترك في دفع عجلة التنصير من خلال مسالك عدة:
(أ) الدعوة إلى النصرانية بإظهار مزاياها الموهومة، والرحمة والشفقة بالعالم أجمع.
(ب) إلقاء الشبهات على المسلمين في عقيدتهم، وشعائرهم، وعلاقاتهم الدينية.
(جـ) نشر العري والخلاعة، وتهييج الشهوات بغية الوصول إلى انحلال المشاهدين، وهدم أخلاقهم، ودك عفتهم، وذهاب حيائهم، وتحويل هؤلاء المنحلين إلى عباد شهوات، وطلاب متع رخيصة، فيسهل بعد ذلك دعوتهم إلى أي شيء، حتى لو كان إلى الردة والكفر بالله - والعياذ بالله - وذلك بعد أن خبت جذوة الإيمان في القلوب، وانهار حاجز الوازع الديني في النفوس.
وهناك وسائل أخرى للتنصير يدركها الناظر ببصيرة في أحوال العالم الإسلامي، نتركها اختصاراً، إذ المقصود هاهنا التنبيه لا الحصر، وإلا فالأمر كما قال الله - عز وجل -: (( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ))، وكما قال سبحانه: (( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )).
تلك مكائد المنصرين، وهذا مكرهم لإضلال المسلمين!!
فما واجب المسلمين تجاه ذلك؟ وكيف يكون التصدي لتلك الهجمات الشرسة على الإسلام والمسلمين؟ لا شك أن المسئولية كبيرة ومشتركة بين المسلمين؛ أفراداً وجماعات، حكومات وشعوباً؛ للوقوف أمام هذا الزحف المسموم الذي يستهدف كل فرد من أفراد هذه الأمة المسلمة؛ كبيراً كان أو صغيراً، ذكراً أو أنثى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ويمكننا القول فيما يجب أداؤه على سبيل الإجمال - مع التسليم بأن لكل حال وواقع ما يناسبه من الإجراءات والتدابير الشرعية - ما يلي:
1- تأصيل العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين من خلال مناهج التعليم، وبرامج التربية بصفة عامة، مع التركيز على ترسيخها في قلوب الناشئة خاصة، في المدارس ودور التعليم الرسمية والأهلية.
2- بث الوعي الديني الصحيح في طبقات الأمة جميعاً، وشحن النفوس بالغيرة على الدين وحرماته ومقدساته.
3- التأكيد على المنافذ التي يدخل منها النتاج التنصيري من أفلام ونشرات ومجلات وغيرها؛ بعدم السماح لها بالدخول، ومعاقبة كل من يخالف ذلك بالعقوبات الرادعة.
4- تبصير الناس وتوعيتهم بمخاطر التنصير، وأساليب المنصرين وطرائقهم؛ للحذر منها، وتجنب الوقوع في شباكها.
5- الاهتمام بجميع الجوانب الأساسية في حياة الإنسان المسلم، ومنها الجانب الصحي والتعليمي على وجه الخصوص، إذ دلت الأحداث أنهما أخطر منفذين عبر من خلالهما النصارى إلى قلوب الناس وعقولهم.
6- أن يتمسك كل مسلم في أي مكان على وجه الأرض بدينه وعقيدته مهما كانت الظروف والأحوال، وأن يقيم شعائر الإسلام في نفسه ومن تحت يده حسب قدرته واستطاعته، وأن يكون أهل بيته محصنين تحصيناً ذاتياً لمقاومة كل غزو ضدهم يستهدف عقيدتهم وأخلاقهم.
7- الحذر من قبل كل فرد وأسرة من السفر إلى بلاد الكفار إلا لحاجة شديدة؛ كعلاج، أو علم ضروري لا يوجد في البلاد الإسلامية، مع الاستعداد لدفع الشبهات والفتنة في الدين الموجهة للمسلمين.
تنشيط التكافل الاجتماعي بين المسلمين والتعاون بينهم، فيراعي الأثرياء حقوق الفقراء، ويبسطوا أيديهم بالخيرات والمشاريع النافعة لسد حاجات المسلمين، حتى لا تمتد إليهم أيدي النصارى الملوثة مستغلة حاجتهم وفاقتهم.
وختاماً: نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمع شمل المسلمين، وأن يؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويهديهم سبل السلام، وأن يحميهم من مكائد الأعداء، ويعيذهم من شرورهم، ويجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه أرحم الراحمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واردد كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء، إنك على كل شيء قدير!!.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
الرئيس عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
نائب الرئيس عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ.
عضو عبد الله بن عبد الرحمن الغديان.
عضو صالح بن فوزان الفوزان.
عضو بكر بن عبد الله أبو زيد.(22/326)
المصدر : http://www.binbaz.o r g.sa/Display.asp?f=ft00001
============(22/327)
(22/328)
خطة قديمة وحقد قديم
د. عبد الودود شلبي
قال وليم جيفورد: متى توارى القرآن، ومدينة مكة من بلاد العرب؛ يمكننا أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه.
وقد سبق للقسيس المبشر زويمر رئيس إرسالية التبشير في البحرين أن ألف كتاباً أسماه مهد الإسلام، وفي هذا الكتاب يقول زويمر: إنه يقوم بإحصاء الجمعيات التبشيرية في جزيرة العرب بعد أن وضع لها خطة تضمن لجهودها النجاح في تنصير المسلمين، وإخراجهم من دينهم.
وفي مناقشة زويمر لتقرير أحد المبشرين الذين يعتمدون في تبشيرهم على الطب: أنكر على هذا المبشر إغفاله ذكر المدارس، وما لها من تأثير قوى في هذا المجال، لأن المدارس هي من أحسن الوسائل لترويج أغراض المبشرين، ونشر دعوتهم بين أبناء وبنات المسلمين.
ويقول زويمر: إنه جمع تلاميذه المسلمين مرة ووضع بين أيديهم كرة تمثل الكرة الأرضية، ثم سلط عليها نوراً قوياً، وبرهن لهم بذلك على أن الأمر بصيام شهر رمضان ليس آتياً من عند الله لأنه يتعذر أداء الفريضة في بعض البلاد.
وقال أيضاً: إن المحاضرات التي يلقيها القساوسة والمبشرون تهدف إلى إظهار الممالك الإسلامية منحطة ومتأخرة بالنسبة إلى الأمم والممالك المسيحية، وفي هذا ما يشكك المسلم في دينه، ويسهل على المبشرين تنصيره.
ويقول زويمر عن نتائج أعمال التبشير في جزيرة العرب: إن من المتعذر تعيين نتائج هذه الأعمال الخيرية، إلا أنه مما يدعو إلى الاغتباط والسرور أننا اقتطفنا ثمرات أعمالنا في كل منطقة من مناطق التبشير.
تصوير المبشرين للإسلام والمسلمين:
وطريق التبشير لتوهين المسلمين لم يكن الدعوة إلى المسيحية، والعمل على ارتداد المسلمين إلى النصرانية مباشرة، وإنما كان طريقه تشويه الإسلام، ومحاولة إضعاف قيمه، ثم تصوير المسلمين في وضعهم الحالي بصورة مزرية بعيدة عن المستوى الحضاري في عصرنا الحاضر.
فالمونسينيرر كولى في كتابه البحث عن الدين الحق يصور الإسلام على هذا النحو: الإسلام في القرن السابع للميلاد، برز في الشرق عدو جديد، ذلك هو الإسلام الذي أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب.
لقد وضع محمد السيف في أيدي الذين اتبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب؟ ووعد الذين يهلكون - يستشهدون في سبيل الله - في القتال بالاستمتاع الدائم بالملذات - الجنة -.
وبعد قليل أصبحت آسيا الصغرى وإفريقيا وإسبانيا فريسة له، حتى إيطاليا هددها الخطر، وتناول الاجتياح نصف فرنسا، لقد أصيبت المدنية، ولكن هياج هؤلاء الأشياع المسلمين تناول في الأكثر كلاب النصارى.
ولكن انظر هاهي ذي النصرانية تضع بسيف شارل مارتل سدّاً في وجه سير الإسلام المنتصر عند بوانيه م، ثم تعمل الحروب الصليبية في مدى قرنين تقريباً في سبيل الدين، فتدجج أوروبا بالسلاح، وهكذا تقهقرت قوة الهلال أمام راية الصليب، وانتصر الإنجيل على القرآن، وعلى ما فيه من قوانين الأخلاق الساذجة.
ويقول و . س . نلسون: وأخضع سيف الإسلام شعوب إفريقيا وآسيا، شعباً بعد شعب.
هذا في وصف الإسلام ومبادئه، أما محمد رسوله فيقول عنه أديسون: محمد لم يستطع فهم النصرانية، ولذلك لم يكن في خياله منها إلا صورة مشوهة بنى عليها دينه الذي جاء به للعرب؟
وفي وصف المسلمين، يقول هنرى جيسب المبشر الأمريكي: المسلمون لا يفهمون الأديان، ولا يقدرونها قدرها، إنهم لصوص وقتلة ومتأخرون، وإن التبشير سيعمل على تمدينهم.
كما يقول في وصفهم جوليمين في كتاب تاريخ فرنسا: إن محمداً مؤسس دين المسلمين قد أمر أتباعه أن يخضعوا العالم وأن يستبدلوا بجميع الأديان دينه هو.
ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنيين المسلمين وبين النصارى، إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة، وقالوا للناس: أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح ربحوا النفوس ببرهم وإحسانهم.
ماذا كانت حال العالم لو أن العرب انتصروا علينا؟ إذن كنا مسلمين كالجزائريين، والمراكشيين.
وهكذا المسلمون متأخرون، ولصوص، وقتلة.
وهكذا رسولهم سارق، ومحرف فيما سرق.
وهكذا الإسلام دين السيف، وليس دين الإيمان، وهو دين مادى وليس ديناً روحيّاً، لأنه يسمح لأتباعه بالفجور والسلب والقتل، هذا ما يصور به التبشير الإسلام والمؤمنين به والتابعين لرسوله.
على أنه لم يفت المبشرين كذلك - بجانب تشويه الإسلام والمسلمين بغية توهينهم، وإضعاف وحدتهم - أن يثيروا للغاية نفسها النزعات الشعوبية؛ مثل الفرعونية في مصر، والفينيقية على ساحل فلسطين ولبنان، والآشورية في العراق، والبربرية في شمال إفريقيا وهكذا.
سبل المبشرين إلى بلوغ غاياتهم:
وتنوعت أساليب التبشير في توصيل هذا التصوير المشوه للإسلام ورسوله والمسلمين إلى أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل منذ أن استقر في الشرق العربي والإسلامي، فكانت:
- المدرسة ـ الكلية ـ الجامعة.
ـ الندوة ـ الرياضة.
ـ النزل ـ بيوت الشباب.
ـ الكتاب.
ـ الصحافة.
ـ المخيم.
ـ المستشفى.
ـ دار النشر والطباعة.(22/329)
وإن من أشهر المؤسسات التعليمية في الشرق العربي جامعة القديس يوسف في لبنان، وهى جامعة بابوية كاثوليكية وتعرف الآن بالجامعة اليسوعية.
والجامعة الأمريكية ببيروت التي كانت من قبل تسمى الكلية السورية الإنجيلية، ثم كلية بيروت وهى جامعة بروتستانتية.
والكلية الأمريكية بالقاهرة التي أصبحت فيما بعد الجامعة الأمريكية، وقد كان القصد من إنشائها أن تكون قريبة من المركز الإسلامي الكبير وهو الجامع الأزهر.
وكلية روبرت في استنبول التي أصبحت تسمى بالجامعة الأمريكية هناك.
والكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد يكون البلد الإسلامي في تكوينه في شبه القارة الهندية.
ومن المنشور الذي أصدرته الجامعة الأمريكية في بيروت في ردّاً على احتجاج الطلاب المسلمين لإجبارهم الدخول يومياً إلى الكنيسة:
يتضح من المادة الرابعة منه طابع هذه المؤسسة وأمثالها، ونص هذه المادة ما يلي:
إن هذه كلية مسيحية، أسست بأموال شعب مسيحى، هم اشتروا الأرض، وهم أقاموا الأبنية، وهم أنشأوا المستشفى وجهزوه، ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يساندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده، فتعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ، وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف مسبقاً ماذا يطلب منه؟
كما أعلن مجلس أمناء الكلية في هذه المناسبة إن الكلية لم تؤسس للتعليم العلمانى، ولا لبث الأخلاق الحميدة، ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة، وأن تكون مركزاً للنور المسيحي، وللتأثير المسيحي، وأن تخرج بذلك على الناس وتوصيهم به.
وكما يستخدم المبشرون دور التعليم - بعد أن يموهوا بأسمائهم على الرأى العام - للتبشير؛ يستخدمون كذلك الوسائل الأخرى التي أشرنا إليها هنا سابقاً للغاية نفسها، وبخاصة الصحافة، فكتاب التبشير والاستعمار يذكر نقلاً عن مصادر للتبشير ما يلي:
يعلن المبشرون أنهم استغلوا الصحافة المصرية على الأخص للتعبير عن الآراء المسيحية أكثر مما استطاعوا في أي بلد إسلامي آخر، لقد ظهرت مقالات كثيرة في عدد من الصحف المصرية - إما مأجورة في أكثر الأحيان، وإما بلا أجرة في أحوال نادرة -.
ومما يؤكد هذا الاتجاه التخريبي بين أبناء المسلمين وبناتهم في هذه الجامعات التبشيرية المشبوهة أن الجامعة الأمريكية في بيروت تقوم بتشجيع الطلبة المسلمين فيها على الانحرافات الدينية والعقدية، وليس من قبيل المصادفة أن أكثر المتخرجين في هذه الجامعة المشبوهة هم من دعاة القومية والإلحادية، بل ليس لدى هذه الجامعة مانع من أن يتحول طلبتها وطالباتها من المسلمين إلى الشيوعية، فالشيوعية مذهب أوروبى على أية حال، فهي - رغم العداوة الظاهرة - أقرب إليهم من الإسلام الذي يعتبرونه عدوهم الأول والأخير.
وأذكر لقاء مع المرحوم الملك فيصل كنت قد سافرت إليه في مهمة خاصة لحاكم إمارة الشارقة، وفي مدينة الطائف فتح الملك النبيل قلبه وبدأ يحدثني عن مأساة المسلمين في اليمن الجنوبية.
قال رحمه الله: في الوقت الذي كان فيه زعماء جبهة تحرير الجنوب العربي يفاوضون بريطانيا على الاستقلال في جنيف، كانت أسر هؤلاء المفاوضين تنقل في سيارات مغلقة إلى مطار عدن لتحملهم الطائرات إلى السعودية، ثم سلمت مرافق الحكومة، ومعسكرات الجيش - من وراء الشعب اليمنى الجنوبي وزعمائه - إلى صبيان الشيوعية.
وقد أكد لي ذلك كثير من زعماء اليمن الجنوبي ورجاله الذين هاجروا إلى إمارات الخليج والسعودية.
إن النزعة الصليبية كامنة وراء هذه الحركة الإجرامية؛ فالشيوعية إفراز صليبي أولاً وأخيراً، أو كما يقول المثل: أنا وأخي على ابن عمى، وأنا وابن عمى على الغريب، والغريب هنا هو الإسلام وحده.
بل إن طالباً سودانياً مسلماً كان يدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان هذا الطالب السوداني المسلم محافظاً على أداء فرائضه الدينية، وفي أحد الأيام لاحظه أحد المدرسين في هذه الجامعة يتوضأ للصلاة، فصاح فيه غاضباً: كيف تغسل قدميك في حوض نغسل فيه وجوهنا؟
إنها حيلة الذئب المعروفة مع الحمل، فقال له الطالب السوداني: كم مرة تغسل وجهك في اليوم؟
قال الأستاذ الأمريكي مرة واحدة، في كل صباح طبعاً.
فقال له الطالب السوداني: أما أنا فأغسل رجلي خمس مرات على الأقل في اليوم، ولك أن تحكم بعد ذلك أيهما أكثر نظافة رجلي أم وجهك؟
والشىء نفسه تكرر مع طالب باكستاني ذهب إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه، وكان المشرف على دراسته المستشرق المعروف جب، أو منتجومرى واط - لا أذكر أيهما بالضبط - ، لقد رأى هذا الطالب الباكستاني المسلم يصلى، فإذا به ينفجر غاضباً في وجهه قائلاً: إنني ما قبلت الإشراف على رسالتك إلا لأمنعك من مثل هذا العبث.
__________________________
الهوامش:
انظر كتاب الغارة على العالم الإسلامى الفصل الخاص بجزيرة العرب.
المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام ـ د. محمد البهى ص وما بعدها.
المبشرون والمستشرقون ومواقفهم من الإسلام.(22/330)
انظر في ذلك أيضاً المبشرون والمستشرقون، وكتاب الفكر الإسلامي المعاصر وصلته بالاستعمار الغربي للدكتور /محمد البهى.
المصدر : http://islamna.o r g/qadayatabshi r 2.htm
==========(22/331)
(22/332)
700 خطة لتنصير العالم
قال موشيه دايان في أعقاب حرب يونيو 1967: " إن العرب لا يقرأون "، وكان يعلق على سؤال حول كشفه عن خطة الحرب القادمة بين العرب وإسرائيل في كتاب له نشره بعد العدوان الثلاثي عام 1956، ولعل الأصح أن نقول: " إن المسلمين لا يقرؤون " وإلا فكل من نعتبرهم أعداء لنا هم صرحاء في أهدافهم، ويعلنونها عبر كتبهم ومجلاتهم ونشراتهم، وما علينا إلا مراقبتها بدقة لنصل إلى ما يرمونه قبل سنوات - بل وعقود - من تحققها.
وهذه الملاحظة تنطبق بشدة على مخططات المنصرين، فهم من خلال ما ينشرونه لا يخفون أهدافهم مطلقاً، ولكننا نجهلها إلا عندما تتحقق على أرض الواقع؛ لأنه لا توجد لدينا مؤسسة تدرس بعمق ما يرمون إليه من خطط ومشاريع، بل ونحن نستخف بالقادرين على إجراء دراسة كهذه، ثم نفاجأ بعد عقود بأن المناطق كذا وكذا قد أصبحت نصرانية..!!
واليوم يجري العمل التنصيري الصامت - والنشيط في آن واحد - عبر 3 آلاف منظمة تنصيرية على هامش العالم الإسلامي، حيث حدد المنصّرون - بدقة - القبائل الأمية الفقيرة المستهدفة باعتبارها مجموعات يمكن أن تقبل على التنصر.
وهناك جهود منظمة ضخمة للتنسيق والبرمجة لأجل إيصال صوت المسيحية إلى الشعوب التي لم يصلها، وقد عقدت لأجل هذه مؤتمرات ضخمة للمنصرين خلال ربع القرن الماضي، وكان أهم هذه المؤتمرات مؤتمر " لوزان " بسويسرا، الذي انعقد سنة 1974 لوضع استراتيجية عالمية لإيصال صوت المسيح إلى كل إنسان على وجه الأرض بمجيء سنة 2000 م.
وتم عقد مؤتمر ضخم آخر للغرض نفسه في يوليو 1989 " بمانيلا " عاصمة الفلبين، شارك فيه 4000 شخص من 190 دولة في أنحاء العالم.
والدراسة التي نتتبعها اليوم هي بعنوان " 700 خطة لتنصير العالم "، وهي دراسة في غاية الخطورة، ظهرت في الولايات المتحدة مؤخراً حول خطط المنصرين لتحويل الكرة الأرضية كلها إلى النصرانية، وقد ألفها كاتبان مسيحيان بارزان هما ( دافيد باريت ) محرر دائرة المعارف المسيحية، و( جيمز ريبسوم ) خبير شؤون التنصير.
وقد اشترك كلاهما - حسبما يقول الكاتب - في وضع 36 مشروعاً تنصيرياً من بين المشاريع التنصيرية الثلاثمائة والثمانية والخمسين " 358 " التي نفذت خلال الفترة 1953 - 1988.
ودافيد باريت اسم خطير في عالم التنصير العالمي، وهو يلعب دوراً رئيسياً في تخطيط برامج الكنائس الغربية، وهو في الوقت نفسه مستشار الفاتيكان لشئون التنصير العالمي.
788 مشروعاً:
ويجري هذا الكتاب مسحاً شاملاً لـ 788 مشروعاً تنصيرياً في تاريخ المسيحية، منذ ظهورها قبل 19 قرناً إلى اليوم، وهو مقسم إلى 4 أجزاء، و 28 فصلاً، ويحتوي على 10 ملاحق، و27 قائمة ورسم بياني وبيبليوغرافيا.
والكتاب - كما يقول المؤلفان - لا يتناول إلا نبذة من المشاريع التنصيرية في تاريخ المسيحية، وهما يصفان هذه النبذة التي يتناولونها ، بـ " الجزء البارز على السطح من جبل الجليد " ( المعروف أن جبال الجليد التي تمتد عبر أميال في المحيطات تكون غاطسة تحت الماء، ولا يظهر منها على السطح إلا جزء صغير جداً )، وهو بالتالي يتناول أكبر المشاريع وأضخمها، والتي تحتفظ بـ 5000 منصِّر أو أكثر خارج حدود بلادها.
الاستعمار الأوروبي:
يقول المؤلفان أن 66 جيلاً قد ظهرت على سطح الأرض منذ ظهور المسيحية، ولكن المسيحيين لم يشدوا الأزر لنشر دينهم إلا في الأجيال الأخيرة، فكان من نصيب كل جيل قبل القرن التاسع عشر 2.6 مشروعاً تنصيرياً، أما بمجيء القرن التاسع عشر فقد جاءت " الأجيال الواعية " - ولا ننسى أن زمن هذه الأجيال الواعية هو عين ذروة الاستعمار الأوربي -، وارتفع معدل المشاريع إلى 28 مشروعاً لكل جيل ابتداء من القرن التاسع عشر، وأكثر الأجيال المسيحية وعياً - في رأي المؤلفين - هي التي ظهرت في هذا القرن العشرين؛ إذ بلغ عدد المشاريع التنصيرية 69 مشروعاً للجيل الأول، وأخذ يتصاعد سنة بعد أخرى، إلى أن وصل إلى 321 مشروعاً لجيل السبعينات، أما معدل الجيل الحالي فهو 1200 مشروع تنصيري عالمي.!
وكانت المشاريع التنصيرية في الأجيال السابقة تنطلق من بلاد متاخمة للبحر الأبيض المتوسط، ثم انتقل مركزها إلى أوروبا وروسيا وأمريكا الشمالية، وقد انطلق من الولايات المتحدة الأمريكية وحدها 247 مشروعاً تنصيرياً منذ عام 1900.
فهرس البلايا:
ورافق كثرة هذه المشاريع كثرة فشلها أيضاً - حسب اعتراف المؤلفين، اللذين خصصا باباً لذلك بعنوان: " فهرس البلايا " ذكرا فيه 340 سبباً لفشل 534 مشروعاً تنصيرياً عالمياً، ومن هذه الأسباب الرئيسية التي ذكراها:
- الجريمة الكنسية.
- البلطجة الكنسية.
- تقديم الإغراءات للتنصير.
- استخدام أموال " مغسولة " أي أموال غير مشروعة تم تمريرها عبر مشاريع تنصيرية.
- الجاسوسية اللادينية على نظام واسع.
- الإمبريالية.
- الإرهاب.(22/333)
وقد تكون هذه الأساليب الإجرامية مسؤولة حقاً عن فشل بعض مشاريع التنصير، إلا أنها بعينها قد أدت إلى نجاح مشاريع أخرى، وإلى انتشار المسيحية في بلاد كثيرة، ومن شواهد هذا ما ذكره المؤلفان في سياق أهم الأيام والسنين في تاريخ التنصير:
فسنة 323 هي السنة التي بدأ فيها الإمبراطور قسطنطين نشر المسيحية بالسيف، مستخدما كل أجهزة الدولة، وسنة 1523 م هي السنة التي أمر فيها الملك الإسباني تنصير الهنود الحمر بالأمريكتين بالقوة، وهو ما مكن الرهبان الفرنسيسكان من تنصير مليون هندي أحمر في المكسيك خلال سبع سنوات فقط، وكانوا ينصرون أحياناً 14000 شخص في يوم واحد..!
قوة المال:
واستخدم المنصرون إلى جانب القهر والسلطة السياسية قوة المال، ووسائل الدعاية، ويخبرنا المؤلفان في صدد ذكر الأوضاع المالية للكنائس العالمية أن المسيحية العالمية المنظمة تنفق الآن أواخر الثمانينات 145بليون دولار سنوياً، ويعمل في أجهزتها 4.1 ملايين عامل متفرغ، وهي تدير 13000 مكتبة عامة كبرى، وتنشر 22000 مجلة بمختلف اللغات عبر العالم، كما تنشر 4 بلايين نسخة من الكتب في العام الواحد، وتدير 1800 محطة إذاعية وتلفزيونية في أنحاء العالم، وتستخدم المنظمات الكنسية 3 ملايين جهاز كمبيوتر، والكتاب يصف أخصائيي الكمبيوتر المسيحيين بأنهم جيش مسيحي من نوع جديد.
4000 وكالة تنصيرية:
والعمل التنصيري الخارجي هو أهم ما يشغل الكنائس المنظمة هذه الأيام.
ففي الوقت الحاضر هناك 4000 وكالة تنصيرية ( أي منظمات تعمل خصيصاً في حقل التنصير ) يعمل بها 262.300 داعية متفرغين، وهم يكلفون الكنائس 8 بلايين دولار سنوياً، وكل سنة يصدر 10000 كتاب وبحث جديد حول التنصير الخارجي.
ويقول المؤلفان في صدر ذكر الإحصائيات: أن الكنيسة قد وظفت 160 مليون سنة عمل للتنصير على وجه الأرض خلال القرون العشرين الماضية، بتكلفة إجمالية تبلغ 350 بليون دولار، بمعدل 2.200 دولار للداعية الواحد في السنة، أما المشاريع التنصيرية السبعمائة والثمانية والثمانون 788 التي تتناولها هذه الدراسة فقد استهلكت ملايين سنة عمل، و45 بليون دولار.
وطبقاً لهذه الدراسة ينشط في أنحاء العالم الآن 387 مشروعاً تنصيرياً عالمياً، و254 منها تحرز التقدم والنتائج المرجوة، والدراسة تصف 254 مشروعاً من هذه المشاريع بمشاريع واسعة النطاق، وهي التي ينفق كل واحد منها على العلم التنصيري عشرة آلاف ساعة عمل، أو أكثر من عشرة ملايين دولار سنوياً، على مدى عشر سنوات.
و33 مشروعاً من هذه المشاريع هي ما تطلق عليه الدارسة وصف " المشاريع الضخمة "، وهي التي ينفق كل واحد منها مئة ألف سنة عمل، أو مئة مليون دولار سنوياً، أو ألف مليون دولار عبر عمرها، وأكبر هذه المشاريع الضخمة ينفق الآن 550 مليون دولار سنوياً على أنشطتها التنصيرية في أنحاء العالم.
وتقول لنا الدارسة: إن الكنيسة تمتعت دائماً بمصادر ضخمة، ولكنها لم تحسن استخدامها دائماً، وتذكر الدارسة في هذا الصدد مشروعاً تنصيرياً معيناً جمع له 336 مليون دولار سنة 1918م، ولكنه انهار خلال أسبوع واحد من قيامه، وهي تذكر كذلك مشروعاً ضخماً للتنصير جمع له مبلغ 150 مليون دولار في الولايات المتحدة، ثم انهار فجأة سنة 1988 نتيجة فضيحة أخلاقية وإدارية تتعلق ببعض كبار المنصرين، والإشارة هنا إلى القسين الأمريكيين: باكير ، وجيمي سواغارت قائدي منظمة مجالس الله.
3000 وحدة:
وتعترف الدارسة بأنه رغم هذه الجهود الضخمة لا تزال هناك شعوب لم تصلها رسالة المسيحية، أو لم تنجح المسيحية في أوساطها، وقد قام الباحثون الكنسيون الآن بالتعرف الدقيق على هذه الشعوب التي لم تصلها المسيحية، وبالتالي تمكنوا من تقسيمها إلى 3000 وحدة متميزة، ويوجه 5000 منصر - ذو تدريب وكفاية - جهودهم المستمرة نحو تنصير هذه الشعوب، وهم يتحركون من مراكز يشعرون فيها بالأمان السياسي، وهم يتمتعون بأحدث وسائل الاتصال.
وأكبر عقبة يواجهها المنصرون هي أنه لا يسمح لهم بالتحرك القانوني في كثير من مناطق العالم، وأنهم يواجهون معارضة إيديولوجيات دينية أو قومية تمنع نشاطهم.
وسائل سرية:
ويقول المؤلفان: إن كل بلاد العالم تقريباً كانت مفتوحة للمنصرين الأجانب حتى سنة1900، أما اليوم فهناك نحو 65 دولة في العالم قد أغلقت أبوابها في وجوه المنصرين، وهناك معدل 3 دول تنضم إلى هذه القائمة سنوياً.
وقد تغلب المنصرون على هذه الصعاب وهم يديرون أجهزة سرية واسعة النطاق، بينما يعكف خبراؤهم على البحث عن وسائل سرية جديدة، وأساليب للدخول إلى مجتمعات مغلقة، والمنصرون لا يعبؤون بقضية أن أساليبهم هذه غير أخلاقية وغير قانونية.(22/334)
ويقول المؤلفان وهما يتناولان هذا الجانب السري من نشاط المنصرين: " إنهم لم يتورعوا عن العمل غير الشرعي أو السري، وهو أمر يشهد عليه تاريخ الحركة التنصيرية، وقد بررت مجلة "فصلية الإرساليين التبشيرية " هذا النشاط السري بقولها: " الرب لا يكذب، ولكنه يحافظ على أسراره "، ويمكن ترجمة هذه العبارة بالعربي الفصيح كالآتي: المنصرون يكذبون للمحافظة على أسرارهم.
والمنصرون المبعوثون إلى هذه المجتمعات المغلقة التي تمنع النشاط التبشيري هم أنواع شتى، حسب ظروفهم، وحسب ظروف المجمتع الذي يعملون فيه، ولكل نوع مصطلح خاص به، له مفهومه المعروف في الوسط التنصيري.
ومن أهم هذه المصطلحات:
ضارب الخيمة - المقيم - السري - العامل في الظلام - السائح - ناقل الرسائل - المهرب - غير المقيم.
وظائف علمانية:
ويعرف المنصرون من خلال بحوثهم وتجاربهم العملية أن أكثر البلاد انغلاقاً على نفسه يحافظ على بعض العلاقات مع الغرب كالعلاقات التجارية والدبلوماسية والفنية والسياحية، وبالتالي يتم ارسال المنصرين إلى هذه المجتمعات المنغلقة لكي يعملوا في وظائف علمانية كفنيين، ودبلوماسيين، وأطباء، وعمال اجتماعيين، بينما هم في الحقيقة يعملون لحساب منظمة تنصيرية، ولتحقيق أهدافها في ذلك المجتمع.
ويطلق على هؤلاء وصف "ضاربو الخيام "، وهذه القناة منظمة جداً.
وتوجد منظمة تنصيرية تسمى "ضاربو الخيام الدولية " ومركزها بمدينة سياتل الأمريكية، وهي وكالة تتخصص في توفير العناصر البشرية المناسبة لمختلف المنظمات التنصيرية.
ولديها سجل حافل بمختلف الوظائف الممكنة، وهي تنشر إعلانات في الجرائد لجذب المتطوعين، ومن أول النصائح التي يتلقاها المستجيبون لإعلاناتها: أن يتحلوا بالسرية في عملهم وحياتهم.
أما " السري " فهو منصر متفرغ يعمل بصورة غير قانونية في بلد ما يحظر النشاط التنصيري، ويقول المؤلفان: إن غالبية العمل التنصيري تتم في المجتمعات المنغلقة بهذا الأسلوب.
أما " العامل في الظلام " ( وهو أصلاً مصطلح تستخدمه الوكالات الاستخبارية لعناصرها المندسة في منظمة مستهدفة ) فهو في المصلطلح التنصيري عامل تنصيري أجنبي غير متفرغ يقيم في بلد ما بصورة غير قانونية.
أما " ناقل الرسائل " فهو زائر من الخارج ينقل الرسائل بين المتنصرين المحليين والمنصرين السريين النشيطين في بلد ما، والسائح أيضاً يقوم بهذه المهمات، ويدخل مئة مليون مسيحي إلى البلاد المحظورة عبر العالم سنوياً لأغراض مختلفة، ويتم إقناع آلاف منهم بأن يعملوا " كناقلي رسائل " للوكالات التنصيرية الغربية.
و" المهرب " هو خبير متفرغ يعمل كمتنقل بين مختلف المحطات التنصيرية لنقل المواد والمعلومات والأموال، وأشهر هذا النوع من العمال السريين هو المنصر المعروف بـ "الأخ اندرو" مؤلف كتاب مهرب الله ( أي المهرب في خدمة الله ).
هذه الأنواع السالفة هي كلها أوصاف للمنصرين الأجانب، ويقصد به عموماً المنصرون من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.
ويوجد إلى جانب هؤلاء نشطاء تنصيريون من المسيحيين المحليين في المجتمعات المنغلقة المستهدفة للتنصير.
ويقسم هؤلاء النشطاء المحليون إلى أقسام عديدة منها:
- غير مسجل.
- التحت السطحي.
- ناقل الرسائل.
- الفدائي.
والتحت السطحي على سبيل المثال هو عنصر محلي يماثل في عمله المنصر الأجنبي الذي ينعت بـ " العامل في الظلام "، وهو يحمل رسائل ناقلي الرسائل الأجانب، ويقوم بإيصالها إلى أهدافها المحلية.
شبكة تنصيرية ضخمة:
ويقول المؤلفان بشيء من الافتخار: "هناك شبكة تنصيرية ضخمة تحت السلطة تعتمد أساساً على الكلمات الشفهية، فلا توجد هنا رسائل مكتوبة، ولا مكالمات هاتفية".
وتعمل هذه العناصر الأجنبية والمحلية في وئام شديد، ويذكر المؤلفان كمثال على ذلك: "عملية اللؤلؤ "التي نفذت سنة 1981، وخلال هذه العملية قام المنصرون الأجانب بإنزال ( مليون ) نسخة من الإنجيل على الشواطىء الصينية بواسطة السفن والقوارب، وقام نحو 20 ألف مسيحي صيني بنقل هذه الكمية بأقصى سرعة إلى داخل البلاد، ويقول المؤلفان في هذا الصدد:
قام بتخطيط العملية وتنفيذها مهربون أجانب، وناقلوا الرسائل المحليون؛ معتمدين على شبكة معقدة لناقلي الرسائل الأجانب والمحليين، وعمال سريين من مختلف البلاد، وذلك لإخبار آلاف من المسيحيين الصينيين العاديين، وعدد كبير من القسيسين غير المسجلين وغيرهم من العاملين تحت السطح والعاملين في الظلام.
وأحياناً يتم القبض على هؤلاء العاملين، وتجري معاقبتهم في البلدان التي تحظر نشاطهم، وبالتالي ينضم هؤلاء إلى "لائحة الشهداء " في سبيل المسيحية، ويصل عدد المنصرين الذي يتم التعرض لهم بصورة أو أخرى نحو 230000 شخص عبر العامل سنوياً حسبما يقوله المؤلفان.(22/335)
وكمثال لما يحدث عندما يتعرض المنصرون لأخطار في البلاد التي يعملون بها بصورة غير شرعية يذكر لنا المؤلفان حادث اعتقال "عاملين في الظلام" في نبيال سنة 1988 وهما ميرفين بود الكندي البالغ من العمر آنذاك 22 سنة، وماكبرايد الأمريكي البالغ من العمر آنذاك 33 سنة، وكان كلاهما يعمل لمنظمة تنصيرية أمريكية تدعى عملية التعبئة.
ولم يكد الحدث يقع حتى بدأت علاقات المنصرين وصلاتهم تأتي بثمارها، فأخذت الصحف الغربية تنشر أخباراً مثيرة، وبدأت التعليقات الجارحة تتوالى، ولم يتساءل أحد: ماذا كان هذان الأجنبيان يعملان في دولة جبلية نائية، وهل لتلك الدولة الحق في القبض على من يخالف قوانينها أم لا؟.
بدلاً من هذا انصبت كل التعليقات على أن نيبال انتهكت الحقوق "المدنية " و"الإنسانية " لمواطنين من كندا والولايات المتحدة، وكان من أمثاله ما كتبه الصحفي الأمريكي جاك اندرسون في عموده الأسبوعي قائلاً:
تخيل أن يزج بك في السجن لمجرد بيع كتب دينية! وانبرى أعضاء الكونجرس من أمثال روبرت ووكر، وأعضاء مجلس الشيوخ مثل ريتشارد لوغار وكليربورن بيل يمارسون الضغوط المكشوفة على الحكومة النيبالية، ولم تتخلف منظمة العفو الدولية فاشتركت هي الأخرى في الحملة على الحكومة النيبالية.
رخصة مفتوحة:
وغنى عن البيان أن غالبية دول العالم الثالث لا تقوى على مجابهة حملات إعلامية وسياسية منظمة ومكثفة من هذا النوع الذي أتقنه المنصرون، وتقف معهم حتى منظمة الأمم المتحدة التي تعترف بحق رجال الدين في العمل بحرية، ولكن هذا يعطي رخصة مفتوحة للمنصرين المتمتعين بإمكانية مالية وتخريبية هائلة، بينما لا تتمتع الدول الضعيفة بشيء لمقاومة ضغوطهم.
ويتخطى المؤلفان حدود العقائد المسيحية المعروفة حول عمر العالم فيستغرقان في عمليات حسابية جزافية أشبه بالقصص العلمية الخرافية، فالمعتقد المسيحي هو أن عمر العالم يبلغ 4000 سنة تقع بعدها القيامة.
وكان السيد المسيح قد ظهر حسب المعتقد المسيحي بعد 4004 سنة من ظهور أول إنسان على وجه الأرض، وكان الحواريون والرسل خلفاء المسيح ينتظرون القيامة في زمنهم، ولا نزال نصطدم من وقت لآخر بتنبوءات جماعات مسيحية هنا وهناك في هذا العصر بأن القيامة ستقع في يوم كذا، إلا أن المؤلفين يعرضان عن هذا المعتقد المسيحي فيضعان خريطة للعالم ترجع 5.5 مليون سنة كانت قد مرت على ظهور أول إنسان على وجه الأرض حيث ظهر السيد المسيح، وأن 118 بليون إنسان كانوا قد عاشوا على ظهر الأرض حتى ذلك الوقت، وقد ذهب كل أولئك إلى الجحيم لأنه لم يؤمن أحد منهم بالمسيح!!
وبدأت حالة البشرية تتغير سنة 33 م حين أعلن عن قيام مملكة السماء بمجيء السيد المسيح، وكانت الجنة حتى ذلك الوقت خالية، فأخذ المؤمنون بالمسيح يسكنون أرجائها أول مرة منذئذ، وكان قد استوطنها 8 ملايين مسيحي حتى سنة 1990 وهم على كثرتهم لا يمثلون إلا5.70% من عدد سكان الأرض الذين سيكون الجحيم مصيرهم لعدم إيمانهم بالمسيح المخلص ( هذا ولكن المؤلفين متفائلان فهما يعتقدان أن 8.57% من سكان الأرض سيكونون قد دخلوا حظيرة المسيح بمجيء سنة 2100 م، أما في السنة 4 بليون فسيكون 99.90% من سكان الأرض مسيحيين، وتكون الجنة قد استوعبت حتى ذلك الوقت 9 ديسليون نسمة ( ديسليون واحد يساوي عشرة زائد 33 صفر )، وبالتالي ستتحق المهمة العظيمة: أي مهمة التنصير الملقاة على عاتق كل مسيحي، وعندها سيتحرر المنصرون من واجب نشر دعوة المسيح..!!
الهندسة الجينية:
ويطلق المؤلفان العنان لتفكيرهما، فيتخيلان أنه بعدت سنة 2500 سيمكن للمنصرين الاعتماد على الهندسة الجينية لخلق المسيحيين في المعامل الكنسية حسب المواصفات المطلوبة.
وهما لا يغفلان حتى المستوطنات البشرية في أرجاء أخرى من مجرات الكون في ذلك الزمن السحيق كلها ستخضغ آنذاك لمملكة المسيح..!!
ولا يمكننا ألا أن نسخر من هذين المؤلفين اللذين أطلقا عنان أفكارهما بدون أخذ القوى الأخرى في الاعتبار، فالمسيحية لن تعمل في فراغ، وبدون مواجهة مع قوى أخرى على وجه الأرض، ولكن لا يسعنا إلا أن نقول في الوقت نفسه: إن استعدادات المنصرين الحالية للعمل التنصيري المدروس في أرجاء العالم - وخصوصاً في المناطق المتخلفة الفقيرة - هي غاية في الخطورة من ناحية التمويل والتخطيط والتنظيم، ولا يكفي أن نطلق تصريحات وبيانات من وقت لآخر لتنبيه الناس على خطورة هذه الإمبراطورية السرية، بل يجب أن نقوم بأعمال إيجابية للنهوض بمستوى هذه المجتمعات التعليمية والصحية والاقتصادية لكي نقضي على الفجوات التي يتسلل منها المنصرون.
المصدر : http://tansee صلى الله عليه وسلم jee r an.com/plans.html
=========(22/336)
(22/337)
الصومال تتعرض لحملة تنصيرية مسعورة
حسن إبراهيم
كان الصومال - ولا يزال - عصياً على هيئات التنصير ومنظماته، منذ أن وطئت أقدامها أرض الصومال في عام 1889م، ولم يحصد المنصرون من الجهود التي بذلوها منذ ذلك الوقت وأنفقوا فيها كل غال وثمين سوى الشوك والعلقم، وكان قساوسة التنصير ورجالاته أول من نهشتهم سهام التصدي للتنصير، ففي عام 1961م بقر الشيخ ياسين عبد أحمد بطن مارلين جروف الكندي في الفصل الذي كان يلقي فيه الدرس، ومضى الشيخ ياسين - رحمه الله - لسبيله، وتوفي عام 1972م، وكان الأزهر قد أصدر فتوى في حينه ببراءة ذمة الشيخ وكذا كل من قتل منصراً، وكذلك هشم الرصاص رأس القس سلفتوى كلمبو الإيطالي في مقديشو عام 1989 بعد أن قضى في الصومال 41 عاماً تعاطى فيها كل حيلة، وجرب خلالها كل وسيلة أمكنته، ومن قبل كانت حركة الدراويش بقيادة السيد محمد عبد الله حسن قد ثارت في وجه الإنكليز، فاضطرت إدارة الاحتلال إلى طرد منظمات التنصير بقرار رسمي في عام 1912م بعد أن أيقنت بأنه لا جدوى من بقاءها، وأنها تشكل استفزازاً للمجتمع الصومالي المسلم لا يمكن احتماله.
وكان الدعاة والعلماء هم السد المنيع أمام هجمات التنصير وحملاته، ولم تكن جهودهم تقتصر على الرد بالقول واللسان بل كانت في كثير من الأحيان بالسيف والسنان، ولذلك لم يخل دستور صومالي على مدى الحكومات التي تعاقبت على السلطة من بند ينص على المنع من نشر أي دين غير الإسلام في الصومال، ثم لما انهار النظام وزالت الحكومة في عام 1991م تدفقت هيئات التنصير على الصومال بأسماء وواجهات مختلفة، وسبقت في ذلك الهيئات الإسلامية، وكان قدومها مبكراً ظناً منها بأن عقيدة أهل البلد باتت كلأ مباحاً كما سيادته وحدوده وأراضيه، فارتطمت بإرادات فولاذية لا ترضى بدينها بدلاً، ولا تبغي عنه حولاً، ولا يزعزعها فتات تستدرج به لتكفر بالله، فتعرض المنصرون لما تعرض له أوائلهم من ملاحقة وتصفية، فضلاً عن رد وكشف ما يبيتونه في الخفاء، ولما دخلت المنظمات الخيرية الإسلامية في البلد بدافع إسلامي وإنساني رحب بها أهل الصومال، وتقبلوا المعونة باليد، والدعوة والنصيحة بالقلب، فثارت بذلك ثائرة المنظمات التنصيرية، وعملت على التحريض ضد المنظمات الإسلامية، واستعدت عليها أمريكا وأعوانها من دول الغرب النصرانية، ليخلو لها الجو، ولتكون البديل الاضطراري الذي لا غنى عنه لشعب منكوب ظلت الفوضى تنخر كيانه منذ أكثر من 13 عاماً، فبدأت التصنيفات الجائرة للهيئات الإسلامية في لائحات الإرهاب الغربية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما منعت منظمات إسلامية من مزاولة أعمالها الدعوية والإغاثية في الصومال، وآخرها مؤسسة الحرمين الخيرية التي كانت تقوم بكفالة ما يزيد على 2600 يتيم أخليت منهم مراكزهم بعد أن توقف عنهم دعم المؤسسة، وفي الوقت الذي يضيق فيه على المنظمات الإسلامية، وتمنع من العمل في البلد صعدت المنظمات التنصيرية من أعمالها وأنشطتها مستغلة فراغ الساحة لتحل محل الهيئات الإسلامية التي منعت من أعمالها، ولتستولي على المدارس والمراكز التي توقف عنها الدعم، فعلى سبيل المثال فرضت إحدى المنظمات التنصيرية على أهل قرية دار السلام جنوب غرب مقديشو نزع النقاب من الفتيات الدارسات في مدرسة القرية لقاء دعم المدرسة مالياً.
وفي سابقة خطيرة ولأول مرة في تاريخ الصومال أفرغت منظمة كنسية هي (Swiss chu r ch) حمولة تزن الأطنان في مدينة مركا - جنوب غرب مقديشو على بعد 100 كم تقريباً - وهي عبارة عن علب كرتونية تحتوي على لعب أطفال وميداليات مفاتيح عليها صلبان، بالإضافة إلى نسخ من قصص الأناجيل المحرفة، وكذلك بطاقات تهاني تحمل أسماء العائلات المهدية وعناوينها، ودعوة صريحة إلى الارتداد والتنصر، ووزعت هذه المواد السامة على طلبة المدارس في مركا في 1/4/2004م على أنها هدايا قيمة، وهذا التوزيع العلني للأناجيل المحرفة، والصلبان هو ما لم يحلم به التنصير في الصومال قط من قبل.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيمر هذا الاعتداء السافر على عقيدة الأمة ودينها دون رد مناسب أو ردع ملائم؟ أم إنه لن يعدم قائماً لله بالحجة يحمل راية المقاومة، ويتقدم الجماهير التي لم يؤخذ عليها من قبل التخاذل عن داعية الإيمان والتصدي للتنصير وهجماته؟ هذا الأخير هو ما ننتظره من دعاة هذا العصر وعلمائه أسوة بمن سبقهم من دعاة الصومال وعلماءه.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك جهوداً أولية ينظمها بعض الدعاة الغيورين للرد على هذا العدوان، ومن المقرر أن يشهد هذا الأسبوع والذي يليه حملات واسعة النطاق لتعبئة الجماهير، وحشد طاقاتها لدحر التنصير ومنظماته من البلد انتصاراً لدين الله، واستجابة للتحدي.
المصدر : http://www.alsunnah.o r g/dcente r c.asp?cat_id=610&page_id=3513
============(22/338)
(22/339)
تنصير في دولة الخلافة !
طه عودة
في الوقت الذي كانت فيه الحكومة التركية منشغلة طيلة العام الماضي بالحرب الأمريكية على العراق والتفجيرات التي شهدتها مدينة إسطنبول مؤخراً، كثفت المنظمات المسيحية من عملها في تركيا، واستطاعت في فترة وجيزة الوصول إلى مناطق عديدة لتنشر المسيحية وتفتح الكنائس فيها بحيث تم افتتاح نحو 21 ألف كنيسة في مختلف أنحاء تركيا في غضون العام الماضي، حسبما ذكرت صحيفة ملي جازيت الإسلامية.
نعم... لم تخطئوا القراءة "21 ألف كنيسة" بالتمام والكمال ولكنها ليست على شكل الكنائس الكبرى الفاخرة التي ألفناها والتي تدق فيها الأجراس بل هي على شكل شقق في مبان عادية. لقد تحدث أحد المواطنين الأتراك من الذين تم تعميدهم في الكنيسة للصحيفة وكانت حالته في غاية السوء والخجل وهو يقول: "لقد كنت محطماً بالفعل، إذ كنت عاطلاً عن العمل ولا أجد حتى قوت يومي لي ولأولادي، وحالتنا كانت في ازدراء مستمر إلى أن وجدوا لي عملاً في الكنيسة".
في مثل هذه الحالة يمكن القول بأن هذا المواطن ليس مسيحياً بكامل الكلمة والمعنى، لأنه كان مضطراً ولكن الخطر الأعظم هو ما ينتظر أولاده الذين هم تحت وعد إيجاد منحة مجانية لهم للسفر إلى الخارج وإكمال دراستهم في مدارس رفيعة المستوى ليتعلموا فيها اللغة الأجنبية ويصبحوا قادرين على احتلال مناصب رفيعة ومقابل ذلك كله تغيير هويتهم الإسلامية إلى المسيحية.
وفي حادثة أخرى تؤكد محاولة استغلال المنصرين للمسلمين الفقراء والجاهلين و(جرجرتهم) إلى فخها، توفيت إحدى السيدات العجائز في مدينة ألانيا السياحية التركية، وفي وصيتها كتبت بأنها ترغب بأن يحضر "إمام مسلم" جنازتها ويقرأ الدعاء عليها، وهكذا حصل..
وفي جنازتها التي أشرف عليها قسيس كاثوليكي حضر الإمام، وبذلك فقد تم بتعبير العالم الحديث لعب المسرحية الهزلية التي تسمى "بالحوار بين الأديان من أجل تعزيز الصداقة والأخوة"!!.
وفي بعض المدن السياحية التركية مثل ألانيا وأنطاليا يتم بناء كنائس كبرى للأجانب الذين يشترون أراضي ومنازل يقيمون فيها إلى جانب ترميم المئات من الكنائس الرومية والأرمنية القديمة.
وطبقاً للأرقام الرسمية الحديثة فإنه تم طبع وتوزيع نحو ثمانية ملايين كتاب وصحف دعائية وإنجيل.
وقد ذكرت صحيفة "زمان" التركية الإسلامية في شهر نوفمبر الماضي نقلاً عن تقرير أمني أن منصرين بروتستانت يسعون إلى تنصير حوالي خمسين ألف تركي في السنتين المقبلتين. وقال تقرير جهاز الاستخبارات للأمن إن المنصرين يعتزمون أن يقوموا أولاً من أجل نشر ديانتهم في تركيا بإرساء أسس كنيسة جديدة في البلاد وإعطاء دروس في الدين لمواطنين، حالتهم الاقتصادية متواضعة ولا يعرفون الكثير عن الدين الإسلامي خاصة في المناطق التي دمرها زلزال 1999 بوسط تركيا. وأضافت الصحيفة أن المنصرين يأملون في تركيز نشاطهم التنصيري على العلويين في محافظات وسط وشرق الأناضول حيث يتراوح عدد العلويين الذي يؤيدون بشدة الفصل بين الدولة والدين بين عشرة ملايين و15 مليون نسمة في تركيا التي يبلغ عدد سكانها سبعين مليون نسمة، ويعيش معظمهم في ظروف متواضعة، وهم ممثَّلون خصوصاً في المنظمات اليسارية علما بأن المسلمين يشكلون في تركيا (الدولة العلمانية) حوالي 99% من السكان، ويتمركز عدد من الكنائس وخصوصاً البروتستانتية في عدد من المدن التركية الكبرى لكن نشاطاتها تخضع لمراقبة دقيقة من السلطات.
وبينما تتم ممارسة أقسى أنواع الضغوط وتضييق الخناق على المسلمين عامة والمحجبات خاصة في بلد مسلم مثل تركيا، نرى المسيحيين وهم يمارسون نشاطاتهم فيها بحرية مطلقة دون رقيب أو حسيب بل والأخطر من ذلك كله أنه يتم تسهيل مهمتهم بكل الوسائل المتاحة حديثاً، بحيث نرى رئيس هيئة الشؤون الدينية في تركيا يفتي بجواز الاستمتاع بليلة عيد رأس السنة بينما لا تنبث شفته بكلمة فيما يتعلق بمسألة منع الحجاب. من هذا نفهم أن إحياء رأس السنة بشرب الخمر وسماع الموسيقى التي تحرك الغرائز والاستمتاع بالرقص والاختلاط بين الرجال والنساء (بما ينبذه الإسلام والأخلاق الرفيعة نبذاً تاماً) جائزاً بينما ''يحرم ارتداء الحجاب.!!
المسيحية العالمية:
لا شك أنه لا مكان للصدف في الأحداث التي تجري في العالم، فكل حادثة يقبع خلفها العديد من التحركات والترتيبات الخاصة. فأمريكا التي تجمع قوة العالم الاقتصادية والعسكرية بين يديها والخاضعة تماماً للصهيونية المسيحية بدأت بتنفيذ الخطط التي كانت تعدها منذ سنين طويلة على أرض الواقع الواحدة تلو الأخرى. وقد دخل الأمن التركي بعد احتلال العراق في مرحلة الخطر الفعلي. ولهذا السبب نرى أن وجود تركيا في شمال العراق يزعج بعض الجهات التي تريد القضاء على تركيا.
وفي حال سقطت كل من إيران وسورية في يد الصهيونية المسيحية فإن تركيا ستجد نفسها ضمن أخطر حرب مسيحية إسلامية عرفتها في تاريخها. الصهيونية المسيحية ''تسخر حالياً كل الإمكانات المتاحة لإقامة (إسرائيل) الكبرى مع جعل العاصمة العالمية إسطنبول عاصمة للمسيحية من جديد!(22/340)
ومن إسطنبول إلى أنطاكية وإيفيس حتى إزنيك كل بقعة في تركيا لها معنى وأهمية خاصة لدى المسيحيين. باختصار، لقد بات العيش فوق هذه الجغرافية وحمايتها أمراً صعباً للغاية، ولا سيما أن بعض الدول الغربية حاولت إبان الحرب العالمية الأولى احتلال الأناضول وحاربت من أجل ذلك ولكن الله لم يكتب لهذه الدول التوفيق.
أما اليوم وفي مثل هذا الوقت العصيب، فقد بدأت أجراس خطر الحروب المسيحية تدق بالفعل، خصوصًا أن الأيدي الخفية ظلت كالسوسة تنخر في عظام تركيا حتى أوقعت بين المؤسسة العسكرية والإسلاميين. لهذا السبب يجب الاحتراس من أجل مواجهة خطر الذين يريدون تسليم الأناضول إلى الصهاينة وإسطنبول إلى المسيحية.
http://www.almujtamaamag.com المصدر:
==========(22/341)
(22/342)
دارفور .. صرخة نذير من خطر التنصير
نجاح شوشه
'إنني أحدثكم عن دارفور، تلك المنطقة التي تشهد [كارثة إنسانية]، وهي بحاجة إلى [صلواتكم]، هلم إليها، إنها بحاجة إلى [كلمة المسيح]...' هكذا قال يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان مخاطباً المسؤولين عن المنظمات التنصيرية العاملة في أفريقيا.
وكانت كلمات بولس توجيهاً للمنصرين في أفريقيا أن اتجِهوا فوراً إلى السودان فهناك صيد ثمين، لا سيما إذ اتفق ذلك مع تصريحات جورج بوش الذي قال لأعضاء اليمين المسيحي بالكونجرس الأمريكي، وبحضور صديقه المنصر الشهير فرانكلين جراهام:' لن أنسى السودان أبداً، وإن نسيت فأنتم من ورائي'.
تمهيد حول التنصير في أفريقيا والسودان عموماً:
هناك حيث الفقر والمجاعات، حيث الفيضانات والحروب الطاحنة، حيث انتشار الجهل والفوضى، هناك في القارة السوداء، حول المنصرون رحالهم بعد الإفلاس العقائدي للمسيحية في أوروبا، والزحف الإسلامي العالمي المتوالي.
واستطاعت أيدي المنصرين - مستغلة حاجة إنسان جاهل إلى لقمة تسد جوعه الملتهب، أو دواء يتجرعه، أو سقفاً يأوي إليه - استطاعت هذه الإرساليات التنصيرية أن تخرج الكثيرين من سكان أفريقيا من عبادة رب العباد إلى عبادة العباد.
أما في السودان فقد كان لها نصيب بشع من الهجمات التنصيرية التي لا تقنع بزيادة أعداد المنتسبين إلى الكنائس فحسب، بل تجعل من مبادئ عملها زرع عقيدة 'مقاومة الأديان'، وبناء روح التمرد الذي لا يعرف رحمة ولا هوادة، على الرغم من شعارات المحبة والإحسان التي درج عليها المنصرون وأتباعهم.
وبالإضافة إلى حرص زعماء الكاثوليك والبروتستانت في العالم على زيادة أعداد النصارى؛ فإن التنصير أيضاً يعد أداة ناجعة في تخريب الدول وتفكيكها مما يسهل الطريق على الغزاة العصريين أن يقتحموا تحت ستار الإنقاذ والإصلاح وحماية الحريات الدينية.
وإن رمنا التحقيق فإن خطط تنصير السودان بدأت قديماً، وبالتحديد في عام 1917 حينما بدأ الاحتلال البريطاني في بناء سياج سياسي وإداري بين شمال السودان وجنوبه، فقد شجع الاحتلال الإرساليات التنصيرية، وفتح لها الباب على مصراعيه، وحولت العطلة الرسمية في الجنوب من الجمعة إلى الأحد، واستبعدت قوات الأمن الإسلامية من المناطق الجنوبية.
وفي عام 1921 أصبح هناك فصل إداري بين الشمال والجنوب، بعد أن قرر الاحتلال أن يعتمد الجنوب على حكام جنوبيين.
وخطا الاحتلال البريطاني خطوات أوسع حينما أصدر قانون 'المناطق المقفلة' والذي بموجبه أصبحت كل من مديرية دارفور، والاستوائية، وأعالي النيل وبعض أجزاء من المديريات الشمالية، وكردفان، والجزيرة ، وكسلا، مناطق مغلقة.
وقانون المناطق المغلقة يحرم على غير المواطنين السودانيين دخول أو البقاء في هذه المناطق إلا بإذن خاص من السكرتير الإداري، أو من مدير المديرية التي يتبعها ذلك الجزء الممنوع دخوله، وكذلك من حق السكرتير الإداري أو مدير المديرية المختص منع أي مواطن سوداني من الدخول أو البقاء في تلك المناطق.
وهكذا فصل الاحتلال بين المسلمين في جنوب السودان وبين إخوانهم في الشمال، بل وبين كل ما يربطهم بالإسلام، حتى أولئك الذين كانوا يحملون أسماء عربية أجبروا على تغيير أسمائهم، ومنع أو حرم التخاطب باللغة العربية لتحل محلها اللغة الإنجليزية، وأطلقت يد إرساليات التنصير، ووضع التعليم تحت إدارتها، فأخذت تلك الإرساليات تنشر سمومها ودعاياتها المغرضة ضد الإسلام، وضد العرب في الجنوب.
ولم يكن بابا الفاتيكان 'يوحنا بولس الثاني' يعبث حينما زار السودان في أوائل التسعينيات، حيث نصب في الساحة الخضراء في السودان صليباً بطول اثني عشر متراً.
ذباب التنصير يتساقط على دارفور
وبعيداً عن حقيقة الصراع في دارفور، وعن موقف الحكومة منه.. فما يعنينا الآن هو إلقاء الضوء على خطر التنصير الذي يهدد هذه المنطقة من العالم الإسلامي، فكما يسقط الذباب على القاذورات ويتسابق إليها، لم يترك المنصرون مأساة الخوف والتطاحن والمجاعة في 'دارفور'، لا سيما مع هذا الزخم الإعلامي المصطنع، والاهتمام الأنجلو أمريكي المفاجئ بمآسي مسلمي دارفور عرباً وأفارقة، ولا عجب فقد قفزت 'دارفور' لتصبح جزءاً من الأجندة الانتخابية لكل من «بلير» و«بوش»، إذ يحاولان الصعود بها من المستنقع العراقي ولو قليلاً!.
ومما يجدر بالقارئ الكريم أن يعلمه أن إقليم'دارفور' الواقع غربي السودان لا يكاد يوجد بين سكانه نصراني واحد، واشتهر أهله بأنهم حفظة للقرآن، بل يحتلون المراكز العالمية الأولى في مسابقات حفظ القرآن، وهم من أكثر الأقاليم تديناً في السودان، وطالما نعم بالهدوء والتعايش بين القبائل المختلفة.
المنظمات التنصيرية العاملة في دارفور
لعل من أوائل المستفيدين من تضخيم أحداث دارفور ذباب التنصير الذي وجد بالفعل سبيله إليها وسط الضغوط الدولية على الحكومة السودانية للسماح لمنظمات'الإغاثة' بالتحرك في الإقليم.
فهذا بابا الفاتيكان أبدى انزعاجه وقلقه على ما يعانيه مسلمو دارفور!(22/343)
وأرسل مبعوثاً شخصياً له وهو رئيس الأساقفة الألماني 'بول كوردز' إلى السودان، أواخر شهر يوليو 2004، للضغط على الحكومة السودانية لتسرع في إدخال المنظمات الكاثوليكية، وتقدم لها التسهيلات، والأهم من هذا هو السماح للفاتيكان بتقديم 'تضامنه الروحي' للمنكوبين أي التنصير.
إن عدد المنظمات التنصيرية العاملة في دارفور يزيد عن خمسة وعشرين منظمة، فها هي منظمة كاريتاس الكاثوليكية فرع نيويلندة الجديدة التي لم تكتف بطاقمها الذي يربو على المائتين بل تنادي بـ [منصرين متطوعين] كاثوليك للمشاركة في أعمال التنصير تحت ستار [الإغاثة] المزعومة في السودان.
وقال راديو الفاتيكان إن منظمة جديدة أسست من أجل تقديم الخدمات الطبية في أفريقيا وخاصة السودان، وتدعى 'السامري الصالح'.
وليس البروتستانت بأقل حماساً من الكاثوليك في التنصير بدارفور، فهذه الكنيسة النرويجية الإنجيلية اللوثرية تقوم بحملة تبرعات لا تزال مستمرة لتنصير مسلمي دارفور تحت ستار المساعدات الإنسانية، وخاصة من نزح منهم إلى 'تشاد'.
ومن بين المنظمات التنصيرية التي كرست جهودها مؤخراً في دارفور: منظمة 'ميرسي كوربس' الأمريكية الإنجيلية والتي قضت 25 عاماً بالتنصير في جنوب السودان.
ويبدو أن ثمة تعاون وثيق بين نصارى الجنوب وبين المنظمات التنصيرية، فقد أرسل رئيس الأساقفة الإنجيليين بالسودان 'يوسف مارونا' إلى نظرائه في مناطق مختلفة بالعالم يحثهم فيها على التدخل في دارفور.
وأثناء اجتماع الأساقفة الإنجيليين بالمركز الكنسي التابع للأمم المتحدة بنيويورك في شهر إبريل الماضي، دعا رئيس الشماسين كل بروتستانتي إلى تقديم يد 'العون' لسكان دارفور والمشردين منها.
أما المنصِّر 'فرانكلين جراهام' الصديق الحميم لكل من [جورش بوش الأب والابن] فكان من أوائل من أرسل منصريه إلى دارفور، حيث تعد مؤسسة 'فرانكلين جراهام ساماريتانس بيرس' من أوسع المنظمات التنصيرية نشاطاً وإمكانيات في العالم، لا سيما بمستشفياتها المتنقلة.
ومن بين المنظمات العاملة في دارفور منظمة مساعدة الشعوب، ومنظمة الكنائس العالمية، ومنظمة الكنيسة الأسقفية الإنجيلية، وأخذت تلك المنظمات وغيرها توزع الغذاء والدواء مع الأناجيل والكتب التي تتناول حياة المسيح - عليه السلام - كما تراها الكنيسة، وقد رسمت عليها الصور المزعومة للمسيح وأمه لكن هذه المرة لمسيح أسود وأم سوداء تحمله!!.
كما يشككون المسلمين الجياع والمرضى في صحة القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم .
فماذا عساه أن يفعل الجائع المريض إذا قيل له [عندنا أحدث المستشفيات المتنقلة المكيفة التي تقدم فيها أشهى الأطعمة، فإن أنت آمنت بالمسيح فهلم فادخل].
جارانج من ثمار التنصير الخبيثة:
بعيداً عن مبالغات المنصرين الذين يعمدون إلى تضخيم أعداد المتنصرين بغية الحصول على مبالغ أكبر ممن يدعمونهم، فإن الفتى الوثني جون جارانج كان نتاج الحملات التنصيرية حيث تنصر في صباه، وتخلى عن دين قبيلته الدينكا، والتحق بالمدارس التنصيرية وأصبح بروتستانتياً، ثم عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية [سي. آي. أيه]، ليقود بعد ذلك أكبر حركات التمرد المؤدية إلى أطول الحروب في القارة الأفريقية؛ وليفرض أجندته بعد ذلك على حكومة الخرطوم بدعم من واشنطن وتل أبيب!!.
المنظمات الإسلامية... هل تقوى على المواجهة؟
إن تضخيم أحداث دارفور واستمرارها يروق لمن يروم الغزو العسكري أو العقائدي لأرض بها النيل انحدر، خاصة وأن الحكومة لم تفق بعد من أزمة الجنوب تقاسم فيها جارانج [الثروة والسلطة].
ووسط هذه المتاجرة الكنسية باحتياجات الفقراء المتعبين من إخواننا في دارفور، يتبادر سؤال ملح: أين العمل الخيري الإسلامي؟ وأين مواجهة المؤسسات الإسلامية؟
وللقارئ الكريم أن يعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بتجميد أموال العديد من المنظمات الإسلامية التي كان من المنتظر أن تقوم على ثغور التنصير، وكان ذلك في إطار حربها على [الإرهاب].
وكانت تلك خطوة أمريكية خبيثة وخدمة جليلة للمنصرين، ومع ذلك فإن هناك بعض المحاولات من قوافل الإغاثة الإسلامية بدأت تتوافد على دارفور للمشاركة في إعانة سكان الإقليم وتثبيتهم، وقامت نقابة أطباء مصر بالتعاون مع لجنة الإغاثة باتحاد الأطباء العرب بتسيير قوافل إغاثية إلى هناك.
كما تقوم [ جمعية العون المباشر ] الإسلامية الكويتية بمهام إغاثية ودعوية في دارفور لمواجهة النشاط التنصيري الشرس، كما أرسلت بعض الدول العربية طائرات محملة بالمواد الغذائية والملابس والخيام.
إلا أننا إزاء هذا الخطر الذي تواجهه دارفور يجب أن ندرك مواطن الخلل لتداركها سريعاً، فالطوائف النصرانية في الغالب تعمل مجتمعة أو بتنسيق بينها، وقد سلم الكاثوليك في البلدان المختلفة زمام التنصير إلى الفاتيكان، في الوقت الذي تعمل فيه الجمعيات الإسلامية متفرقة.(22/344)
وإذا كان المنصرون يرتكزون على دعم مالي هائل، فالمسلمون العرب لا ينقصهم المال إذ تقدر ثرواتهم المستثمرة بالخارج بـ1200 مليار دولار، لو أخرجت زكاة هذه الأموال سيكون عندنا ما قيمته 30 مليار دولار سنوياً.
كما أن على الحكومة السودانية أن تهتم بالتنمية والتعليم في هذا الإقليم المهمل لعشرات السنين، وألا يكون تناولها للأزمة أمنيَّا وآنيَّا، ولو تغلبت السودان على الفقر والجهل لضربت المنصرين في مقتل، وهي التي وصفت ذات يوم بأنها 'سلة غذاء' العالم العربي.
المصدر : http://www.islammemo.cc/taq r e r /one_news.asp?IDnews=216
=============(22/345)
(22/346)
التنصير يكتسح منطقة القبائل في الجزائر
قسم الترجمة
لقد شهد النشاط التنصيري في الجزائري وتحديداً في منطقة القبائل (الشمال الجزائري) انتشاراً مخيفاً في الآونة الأخيرة، فقد ارتفع عدد الكنائس الموجودة حالياً في مدينة تيزي وزو - عاصمة منطقة القبائل - إلى خمس عشرة كنيسة رغم أن السلطات الجزائرية رخصت لاثنتين فقط للبناء، ويبلغ عدد سكان هذه المنطقة التي تبعد بحوالي 100 كلم عن شرق العاصمة حوالي 6 ملايين نسمة ويعتقد أن 30.58% منهم من رواد هذه الكنائس.
ويقول عمار حولي طالب جامعي بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينية: أن النسبة أكبر بكثير إذ أن 74% من سكان هذه المناطق يحضرون يوم القداس للاستفادة من الإعانات المادية المسداة من طرف المنصرين، فقد استغل هؤلاء المنصرون الظروف الاجتماعية القاسية التي يعيشها سكان تلك المنطقة جراء العشرية الدموية الماضية، وبسبب تفشي الأمية كذلك، ليقوموا بتوزيع مساعدات مغرية مقابل نشر كتب ومنشورات عن المسيح.
ويحمل عمار حولي السلطات الجزائرية ما يحدث في تلك المنطقة، متهماً إياه بالتجاهل وغض الطرف عما تقوم به تلك الهيئات التنصيرية.
ويقول طالب جامعي آخر من مدينة تيزي وزو: أن ما يحدث ما هو إلا بداية إنطلاق نحو حملة تعم كل التراب الوطني.
وقد طبعت حوالي 10,000 نسخة من القرآن الكريم مترجمة إلى الأمازيغية، ووزعت في منطقة القبائل لمواجهة المد التنصيري، وهناك مشروع كذلك لشرح مبادئ الإسلام باللهجة الأمازيغية.
وحسب إحصاءات الأمم المتحدة لسنة 2003 فإن عدد سكان الجزائر يبلغ 30 مليون نسمة 99% منهم مسلمون وعدد النصارى 10,000 كاثوليك وبين 5,000 إلى 20,000 بروتستانت.
المقال عن وكالة الأنباء الجزائرية وصحيفة "لو جون اندبندنت"
http://www.alsunnah.o r g/dcente r c.asp?cat_id=743&page_id=3655
==========(22/347)
(22/348)
تاريخ الوجود التنصيري في إفريقيا
أبو إسلام أحمد عبد الله
لم تتعرف إفريقيا على عقيدة النصارى قبل السنوات الأخيرة التي شهدت نهاية الإمبراطورية الرومانية في شمال إفريقيا على يد المسلمين.
ومع أول عهد انتشار الإسلام في هذه المنطقة، لم يكن للنصارى غير مملكة قبطية في بلاد النوبة (شمال أم درمان بالسودان) كانت تسمى مملكة ميروي (Me r oe) رفضت دعوة التوحيد، وظلت على شركها في ظل الدولة الإسلامية، حتى عام 1405م نصرانية، عندما هاجمتها قبائل الفونج الوثنية فقضت عليها، لتعود إفريقيا مرة أخرى بين وثنية تجذرت بجهالاتها وبين عقيدة إسلامية تنتشر كنسمات الربيع التي يفوح عبقها مع موجات الهواء البارد لترطب من حرارة خط الاستواء في قلوب الأفارقة المهتدين، بدون إرساليات طبية أو بعثات تعليمية أو خطط تنصيرية أو احتلال أرض أو عبودية بشر، أو جيوش لا تعرف غير الظلم وسفك الدماء.
كانت إفريقيا بالنسبة للنصارى عندما هجموا عليها كقطعة لحم جافة تسابقت إليها الكلاب لتنهش منها ما يسد نهمها، لم تكن الغاية هي المسيح، ولا رب المسيح، ولا المسيح الرب (عندهم)، إنما كانت توسيع رقعة النفوذ في مواجهة الصراعات السياسية والعقدية التي سيطرت على كل أنحاء أوروبا، وممارسة حياة البلطجة وقطع الطرق والسرقة التي كانت تجتاح كل بلاد الغرب، إلى أن بدأت سياسة احتلال البلاد في إفريقيا و آسيا، ونهب ثرواتها واستعباد شعوبها، فيما يعرف بالحملات الاستكشافية أولاً، ثم الحملات الصليبية بعد ذلك.
وتحت ظل هذه الحملات تحركت الكنيسة الكاثوليكية من فرنسا ثم من بلجيكا و البرتغال و ألمانيا و إيطاليا و أسبانيا، كما تحركت الكنيسة البروتستانتية الإصلاحية من إنجلترا ثم فرنسا و سويسرا وألمانيا و إسكندناوا و أمريكا، جاعلة لنفسها مقراً دولياً في منطقة جنوب إفريقيا.
ومن أشهر طوائف البروتستانتية الذين نشطوا في قارة إفريقيا عموماً هم الإنجيليكان، والميثودست، والبرزبيتاريان ثم اللوثرية وجمعيات الباتست Baptistes والأدفنتست Adventistes وبرج المراقبة Watch Towe r المعروفة بجماعة شهود يَهْوَه وهي الجماعة الوحيدة التي حالت الكنائس البلجيكية وحكوماتها دون السماح لها بالدعوة في منطقة الكونغو حتى اليوم.
وقد أدت هذه التعددية اللامحدودة في مذاهب وملل واعتقادات النصارى التي هرعت إلى الأرض الجديدة، إلى إثارة الفتن والعصبية وإشعال الحروب الضارية بين القبائل الإفريقية على مستويين:
ففي الداخل بين من ترك الوثنية إلى النصرانية أو اعتنق مذهباً نصرانياً يخالف مذهب الآخر، لا داخل القبيلة فحسب، إنما داخل الأسرة الواحدة وداخل العشيرة الواحدة، بين الأب وأبنائه، وبين الأشقاء، وبين الزوج وأصهاره.
وفي الخارج: بين القبائل بعضها مع بعض لارتداد بعضها عن الوثنية، أو لاختلاف المذاهب والملل التي اعتنقوها مجدداً من النصرانية.
وهكذا سالت دماء المئات والألوف من أبناء إفريقيا بأيديهم ثمن هذه الفتنة، إلى أن لجأت كل الإرساليات النصرانية إلى أسلوب جديد، يحافظ على الطقوس والعبادات الوثنية التي تربط بين القبائل بعضها ببعض، والإبقاء عليها إلى جانب طقوس النصرانية وعباداتها، وإن اختلف ذلك عن أصولهم العقدية، وهو ما وصفوه بالنسبة للنصراني الزنجي الجديد بكلمتي « الموت الذاتي » أو « الاحتضار المعنوي » للدلالة على خطورة ذلك الانقلاب في حياة الرجل الإفريقي.
ولكن برغم الجهود الجبارة التي بُذِلَت، والأموال الطائلة التي أنفقت، وعشرات الأرواح التي أُزهقت بين المنصرين بسبب الأمراض التي كانت تنتشر في البلاد الإفريقية، فإن حصاد النصرانية كان شيئاً لا يذكر ولا يتناسب مع الجهود والأموال والتضحيات التي خسرتها الكنائس وإرسالياتها، حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
إذ مع الحرب العالمية الأولى على وجه الخصوص، ولأسباب سياسية وعسكرية واقتصادية متعددة، يمكن القول إن النصرانية بدأت تجني ثمار كل السنوات السابقة، وأن تعيد الحيوية إلى البذور التي تناثرت هنا وهناك وحافظت على بقايا طقوس تنتمي إلى عقيدة النصارى بشكل مباشر أو غير مباشر.
مع بداية القرن العشرين تنبهت الكنائس الغربية إلى أخطائها في أساليب الدعوة على سواحل إفريقيا، ففرضت على أعضاء البعثات والإرساليات اتباع خطط مرسومة تقضي بدراسة تلك البيئات دراسة شاملة، وتَفَهُّم نظمها الاجتماعية وعاداتها وتقاليدها ولغاتها.
كما فرضت على الأعضاء ضرورة الاختلاط بالسكان وقبول بعض طقوسهم الدينية الوثنية وتقديرها بما يرضي الوثنيين، بل ومحاولة إيجاد مساحة لذلك القبول في العقيدة النصرانية، وعدم العمل على محوها، إنما التغلغل فيها والاستفادة من أي بذور صالحة بها، وقبول بعض العادات الوثنية واعتبارها عادات نصرانية تحتفل بها الكنيسة.
كما تنبهت الكنيسة الغربية إلى ضرورة إعداد وتدريب وتعيين قسس من الإفريقيين، وإنشاء مدارس ومعاهد لهذا الهدف بدعم مباشر من بابا روما بيوس الحادي عشر، ثم بيوس الثاني عشر.(22/349)
لكن كلمات هوبير ديشان [1] ما زالت تحفر حروفها في عقل الكنيسة الغربية يوم أن قال: « لكن كسب الإسلام لأقوام جديدة ما زال يندفع كالسيل يكتسح ما أمامه، وامتداده في المناطق العريضة نحو الشمال وإلى الشرق رائع حقاً، أما مطاياه إليها فكانت اللغات الواسعة الانتشار في التفاهم، وهي لغات قبائل أولوف و بيل و ماندانج و هوزا و السواحلية.
ثم يقرر ديشان قائلاً: « وسوف تظل المواجهة بين الإسلام والنصرانية في إفريقيا، وسوف تظل أيضاً مصائر هذه القارة متوقفة على إجابة السؤال: ترى أيهما ينتصر؟ الإسلام الشرقي أو المسيحية الغربية » [2].
الإرساليات الأولى على سواحل إفريقيا:
في العام 1491م أعلن أول ملك من ملوك إفريقيا اعتناقه للعقيدة النصرانية وهو ملك الكونغو، الذي مات بعد تنصُّره مباشرة، وخلفه على العرش ابنه، فعمّدته إحدى الإرساليات التنصيرية باسم « ألفونسو » وزَّوجته واحدة من بناتها، فلما أنجب « ألفونسو » ولداً منحه منصب أسقف عام الكونغو، وأصدر قراراً بتغيير اسم العاصمة من بانزا كونغوا Mbanza Congo إلى اسم ساو سلفادور إحدى المناطق الشمالية بأنجولا الآن، وأعد مجموعة من أهالي البلاد للدعوة إلى دين النصرانية ومنحهم رتبة القساوسة.
في العام 1610م أسس البرتغاليون أسقفية نصرانية في مدينة لواندا Loanda على ساحل أنجولا الشمالي، لكنها لم تحرز أدنى نجاح في أداء مهمتها فأغلقت أبوابها على من فيها لعدة سنوات، ثم بيعت بعد ذلك.
في العام 1630م اعتنق زعيم مومباسا Mombaz (ممبسة) على الساحل الشرقي لكينيا عقيدة النصرانية، لكنه سرعان ما رجع عنها واعتنق دين الإسلام.
في العام 1651م أعلن مونوموتابا Monomotapa ملك موزمبيق تركه للوثنية واعتناقه للنصرانية، استجابة لدعوة إرساليتين إنجيليتين كانتا قد استقرتا في حوض نهر زامبيزي، إحداهما يسوعية والأخرى دومينيكانية، أغدقا عليه الأموال، وسارا معه في استخدام الأرواح التي كان يعتقد بها في وثنيته.
وفي العام 1665م أتت هجمة تنصيرية بروتستانتية من هولندا إلى سواحل جنوب إفريقيا، فقامت بتدمير جميع المؤسسات والكنائس والإرساليات التي كان قد أسسها البرتغاليون من قبل، ثم وضعوا أيديهم على منطقة رأس الرجاء الصالح؛ حيث نزل على أرضها أول قسيس بروتستانتي، لا ينافسه قسيس آخر من أي ملّة نصرانية أخرى.
وهكذا، منذ بداية القرن الحادي عشر حتى نهاية القرن السابع عشر النصراني وبداية القرن الثامن عشر، بقيت الدعوة السائدة بين وثنيات إفريقيا الجنوبية، هي دعوة الإسلام، لإخراج الناس من ظلمات الجهل والجاهلية وعبادة الأمطار والأنهار والجن والأحجار إلى عبادة الواحد القهار، وبقي الوجود النصراني محصوراً ومحاصراً في بقع محدودة للغاية.
ويعلن هوبير ديشان مؤلف كتاب الديانات في إفريقيا السوداء [3] قائلاً: « لكن تلك الجهود كلها، قضى عليها اضطراب الأحوال السياسية، والثورات، والجيوش التي كان يستعين بها تجار الرقيق، وارتداد الكثيرين إلى عقائدهم الوثنية القديمة، ولم يبق من كل ذلك إلا علامة الصليب التي اندمجت في المراسيم الوثنية ».
مائة عام بلا حصاد:
مع بداية القرن الثامن عشر دخل الأسبان ميدان التنصير، بعد ما سمي بثورة الإصلاح في فرنسا عام 1769م ثم في أوروبا كلها، ورحلت عدة بعثات تنصيرية كقوافل طبية وتجارية إلى عدة مناطق، ولاقت إقبالاً كبيراً من بعض الملوك الوثنيين، وبقايا من النصارى والمتنصرين.
فقد وجه الملك ألادا Allada ملك داهومي (بنين) الدعوة إلى إحدى هذه البعثات، لتنشيط حركة التجارة في بلاده؛ فلما استوضح غرض البعثة وهي التنصير طردها من بلاده وأوقف كل نشاط مع الهيئات الأوروبية.
فلجأت بعثة تنصيرية فرنسية إلى أسلوب آخر، وهو دعوة الملوك أو أبنائهم لزيارة فرنسا، فدعت أنيابا Aniaba ابن أمير ساحل العاج، لزيارة الكنيسة الفرنسية الكبرى، بمدينة سايل، حيث أعلن الابن نصرانيته وخضع للتعميد الذي قام به القس الشهير بوسيويه Bossuet، فكان لذلك الحدث رد فعل كبير لدى السلطة الكنسية الفرنسية، التي استضافته في قصر الملك لويس الرابع عشر، حيث أعلن الابن اتخاذ الملك أباً روحياً له، فلما عاد أنيابا إلى بلاده ساحل العاج، أعلن ارتداده عن النصرانية والعودة إلى الوثنية دين آبائه.
ومثلما فعل نصارى البرتغال وهولندا وفرنسا، حاولت الكنيسة الألمانية أن تحقق شيئاً في مواجهة المد الإسلامي بإفريقيا، فاختارت العمل بين قبائل تعرف بالهوتنتوت ولكنها لم تحقق أي نجاح.
ويقول هوبير ديشان: « حتى نهاية القرن الثامن عشر كان تعداد النصارى في كل أرجاء إفريقيا عشرين ألفاً من البيض، وبضع مئات من العبيد، ومع بداية القرن التاسع عشر لم يكن للنصرانية قدم ثابتة في مكان ما في إفريقيا السوداء، إذا استثنينا نقطاً ضئيلة على الساحل » [4].(22/350)
ثم يستشهد ديشان على صدق استنتاجه هذا بما كتبه المنصر الإنجليزي وليم شو W. show عام 1823م من مكتب إرساليته بمستعمرة رأس الرجاء الصالح قائلاً: « إنه لا يوجد أي بعثة تنصيرية فيما بين المكان الذي أعيش فيه وبين أبعد نقطة في شمال البحر الأحمر » [5].
التركيز الصليبي على الجنوب الإفريقي:
مع بداية القرن التاسع عشر توغلت حركة الكشف الأوروبية في قلب إفريقيا، وكثرت البعوث والإرساليات الدينية التنصيرية، ثم تبعتهما حركات الاحتلال الأجنبي الذي فتح الطرق المسدودة أمام التنصير، فكان هذا القرن حقاً هو العصر الذهبي للتنصير في إفريقيا، ولم يبدأ القرن العشرون إلا وكان للنصرانية تواجدها المحسوس والملموس والمرئي بشتى مذاهبها ومللها وكنائسها.
كان النشاط أكثر تركيزاً في إفريقيا الجنوبية؛ إذ بدأ برحلات الهجرة التي قام بها مئات من الهولنديين البروتستانت البيض، فاستوطنوا الأرض وتوغلوا فيها، لكن دون أن تتوفر أي دلائل على أن فكرة تنصير الزنوج مطروحة في عقولهم؛ إذ كان الهدف في هذه الفترة هو الهروب من أوروبا المتصارعة الفقيرة المتخلفة إلى حيث السيطرة على قبائل الزنوج واحتلال أراضيهم وثرواتها.
ولم تتوفر أي إشارة في الوثائق المتوفرة لدينا تدل على أن هناك إرسالية تنصيرية بالمفهوم الديني قد مارست الدعوة بين الأفارقة الجنوبيين قبل عام 1841م، عندما بدأ ذلك في مستعمرة الرأس المنصران الإسكوتلانديان روبرت موفات صلى الله عليه وسلم Moffat و دافيد ليفنجستون D. Livingstone وهما طبيبان اهتما برحلات الاستكشاف داخل مجاهل إفريقيا، لخدمة عملهما بالتنصير.
أسس الطبيبان مركزاً للتنصير بين قبائل بتشوانا، ومارسا مهنة الطب البدائي بين الناس، فاستخفوا بهذا المركز ولم يعيروا وجوده ودعوته اهتماماً أكثر من اهتمامهم بالذهاب إليه لمعالجة جروحهم وأمراض العيون المنتشرة بين أطفالهم، إلى أن أغارت إحدى القبائل المجاورة على سكان بتشوانا، فشارك موفات وصديقه في صد هذه الغارة وتنظيم صفوف المدافعين وتوجيههم مما كان سبباً في انتصارهم، خاصة أن الطبيبين كانا يؤكدان في كل أمر يصدرانه، بأنه آت باسم « المسيح الرب » الذي حمى قبيلتهم وهزم بقوته الروحية أعداءهم.
واستطاع موفات أن يستغل هذا الحدث الضخم في تاريخ القبيلة، من خلال التحامه المباشر بكبارها، حتى أعلنوا اعتناق النصرانية.
في بتشوانا، تزوج دافيد من ابنة موفات، واستطاع عن طريق زوجته العروس، أن يغزو قلب سيشيله Sechele أحد ملوك بتشوانا، ويملك هو زمام أمره، فعرض عليه النصرانية، ووعده بتزويجه واحدة مثل زوجته، فطلق سيشيله كل زوجاته وحظاياه، أملاً في الزوجة التي لم تأت؛ إذ طلب منه دافيد أن يتنازل أولاً عن دعوى قدرته الإلهية في إسقاط الأمطار؛ لأن هذا يتعارض مع قدرة « المسيح الرب » فاستجاب الرجل، لكن الله يشاء أن تشهد هذه القبيلة أربع سنوات عجاف لم ينزل خلالها مطر حتى أصابها الجفاف التام، مما اضطر دافيد إلى ترك هذا الموقع والذهاب شمالاً حيث استكشف الحياة في حوض نهر زامبيزي الذي يبدأ من الساحل الشرقي لإفريقيا وموزمبيق ويمتد إلى قلب زامبيا، وبدأ هناك دعوته مرة أخرى، ثم اعتاد التنقل والترحال في أدغال إفريقية الجنوبية على ضفاف حوض النهر، على مدى ثلاثين عاماً متواصلة، ترك خلالها آثاراً واضحة في نفوس المئات من أبناء القبائل الإفريقية، رافضاً أن يعود إلى أوروبا ثانية، حتى جاءه الموت فجر أول مايو سنة 1873 قرب منطقة بنجويلو Banguelo على الساحل الغربي لإفريقيا وأنجولا فدخل عليه أتباعه الزنوج الذين نجح في تنصيرهم، وتعبيراً عن حبهم له شقوا بطنه بسكين، ثم نزعوا قلبه من صدره، ودفنوه في أرضهم، ثم نقلوا جثته إلى مكان دفن الموتى.
وفي خط متوازٍ تدفقت عدة بعثات أخرى في مناطق الكاب و النالتال والترنسفال حتى مستعمرة روديسيا، فنزلت طائفة النصارى المنهجيين (الميثودست) Methodistes، وأسسوا كلية لوفديل Lovedale لتخريج المنصرين والمعلمين، كما أسس فرانسوا كولار F. Coilla r d مركزاً للدعوة في روديسيا الشمالية بين قبائل باروتسي.
أما الإنجيليكان Angeliccans فقد ركزوا جهودهم في المدن وفي الغابات، واتخذوا أساساً في استراتيجيتهم للدعوة ألا يخالفوا أو ينفوا أي نظام قائم لدى القبائل في سلوكياتهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى حد أن أعلن واحد منهم يدعى كولينسو Colenso إباحة تعدد الزوجات في قبيلة كافريه Caf r es فعنّفته كنيسته وحرمته من العمل بالتنصير لفترة زمنية.
وفي حين اتجهت البعثات الأمريكية إلى قبائل الزولو، اتجه الألمان الإصلاحيون إلى الجنوب الغربي لإفريقيا، وذهبت البعثات البرتغالية لممارسة نشاطها التنصيري في أنجولا وموزمبيق في الشمال الغربي.
وفي إحصاء غير موثق نشرته إحدى الإرساليات الأمريكية عن انتشار الكرازة (الدعوة) النصرانية في اتحاد جنوب إفريقيا عام 1953م جاء على الوجه الآتي:
الميثودست 000،100،2 نسمة.
الإنجيليكان 000،800 نسمة.
الكاثوليك 000،650 نسمة يتركز أغلبهم في ردويسيا الشمالية.(22/351)
البروتستانت الهولنديون 000،600 نسمة تميزوا بالنعرة العنصرية، وجعلوا من الكنائس التي أنشؤوها ما هو خاص بالبيض وما هو خاص بالزنوج والملونين.
التنصير في شرق إفريقيا:
يضم شرق إفريقيا عدة ممالك شهيرة، استأثر الجهد التنصيري من بينها بمنطقة تنجانيقا (تنزانيا حالياً) و كينيا و أوغندا و رواندا وشطراً من جنوب السودان.
وقد استطاع المسلمون أن يحققوا مكاسب ضخمة في هذه الممالك كلها خاصة بعد أن كانت الهجمات البرتغالية الأولى قد طردت المسلمين منها، ثم استردها المسلمون ثانية ونشطت دعوتهم وتثبتت أصولهم في السنوات الأولى من بداية القرن التاسع عشر.
واستطاعت إنجلترا أن تحط بقواتها في زنجبار عام 1840م بعد أن أخضعت مصر للنفوذ الأوروبي، وكان نفوذ مصر يمتد جنوباً حتى أوغندا، ثم توسع المحتلون في احتلال الأراضي وقهر ملوك القبائل وسرقة أراضيهم وحيواناتهم مما أفسح الطريق أمام بعض البعثات للعبور إلى كينيا، واستطاع أحد المبشرين الألمان يدعى كرابف K r apf بأن يؤسس أول مركز للتنصير في مدينة ممبسة، وقام هذا المركز بترجمة كتابهم المقدس إلى اللغة السواحلية، مما فتح أمامهم آفاقاً رحبة ومستحدثة للدعوة النصرانية، فأسس مركزاً آخر بمدينة بوجامايو Bogamayo على الساحل المواجه لجزيرة زنجبار، بالتعاون مع منصر آخر يدعى ربمان r ebmann.
فلما اكتشف أحد القبطان المسلمين ويدعى سليم في العام 1842م منطقة البحيرات العظمى، وتمكن لأول مرة من اختراق عقبة السودان النباتية مما جعل النيل منفذاً مفتوحاً إلى سكان البحيرات الاستوائية، هرعت قوات الاحتلال إلى المنطقة وبسطوا سلطانهم عليها، وما لبث أن أرسل جريجوري السادس بابا روما في العام 1846م بعثة تنصيرية ضخمة، أنشأت ما أطلق عليه: نيابة إفريقيا الوسطى الرسولية، يبدأ نشاطها من قلب القاهرة ويمتد إلى جنوب أوغندا، ثم أرسلت أول بعثة كاثوليكية معتمدة إلى جنوب السودان لاختراق قلب إفريقيا بقيادة الأب ريلو r ullo. فكان ذلك بمثابة الاختراق الأول لجدار الدعوة الإسلامية في منطقتي شرق إفريقيا، وإفريقيا الاستوائية.
وبرغم هذا الجهد النشط في حماية السلطات المحتلة، فإن دعوة النصرانية ظلت محصورة في المناطق الساحلية دون القدرة على اختراق المناطق الداخلية التي كانت تنتشر فيها دعوة الإسلام.
بل ويؤكد ز. هيل و تونوالو في كتاب لهما صدر عام 1974م، أن طوائف تنصيرية متعددة قد توقف نشاطها تماماً مثل الفرنسيسكان، وأُغلِقَت مراكز تنصيرية مثل مركز تنصير (كاكا) عام 1862م [6].
وفي العام 1880م تقريباً استطاعت مجموعة من قوافل التنصير النفاذ إلى داخل القارة مرة أخرى، فتمكن المنصرون الألمان على وجه التحديد من بناء عدة مراكز وكنائس في تنجانيقا (تنزانيا) وتمكن المنصرون الإنجليز من بناء عدة مراكز وكنائس في كينيا.
أما في أوغندا فكان النجاح حليفاً للكنيسة البروتستنتية التي نجحت في استمالة متيسا Mtesa ملك البلاد الذي كان متردداً في اعتناق الإسلام، لكنه لما رأى توافد البعثات الكاثوليكية إلى بلاده أيضاً، واقترب من الصراع الحاد الذي تبودل بين الكنيستين لكسبه، واستشعر تخلف دعاة المسلمين عن مساندته في ظل السلطات المحتلة، فآثر ألا يعتنق ديناً، مفضلاً الموت على وثنيته، وخلفه على الملك ابنه موانجا Mouanga الذي وقع تحت تهديد البعثات التنصرية لإعلان نصرانيته، فأعلن تحديه لهذه التهديدات وأمر بقتل كل نصراني في ديوان مملكته، وأصدر قراراته بقتل كل من يعتنق ديناً غير الوثنية التي مات عليها والده، فالتزمت البعثات النصرانية الصمت وأوقفت كل نشاط لها داخل البلاد، في حين أعلن بعض من المسلمين تمردهم على قرارات: القتل أو الوثنية التي أصدرها موانجا، فاضطر إلى الهروب خارج البلاد، لكن أحداً من المسلمين لم يتقدم للإمساك بزمام حكام المملكة، فتآمر النصارى مع موانجا ووقفوا معه في مواجهة المسلمين وأعادوه إلى عرشه الذي لم يسع إليه أحد من المسلمين، وسمح للبعثات النصرانية أن تمارس نشاطها في البلاد بحرية، فانضم شطر منها إلى الكاثوليكية وشطر آخر للبروتستانتية، تولد بينهما صراع مذهبي بين القبائل، خاصة في قبائل باجاندا التي اختارت مذهب البروتستانتية.
غرب إفريقيا:
تضم منطقة غرب إفريقيا خاصة الساحلية منها والتي أصابتها الدعوة النصرانية: الكونغو، و الجابون، و الكاميرون، و نيجيريا، ومنطقة المينا التابعة لجمهورية داهومي (بنين حالياً) وساحل العاج و ليبيريا، و سيراليون وكل قطاعات غينيا و السنغال.
وقد بدأت البعثات التنصيرية دورها الفعال في هذه المناطق مع بداية القرن التاسع عشر، حيث نزلت أول البعثات البروتستانتية إلى منطقة ليبريا وكانت تبشر بالمذهب الميثودستي، وتكونت هذه البعثة من خليط من المنصرين البيض وعدد من القساوسة الزنوج الذين يجيدون الإنجليزية.
أما البعثة الثانية فقد نزلت في سيراليون، وكانت تابعة لجمعية التنصير الكنسي، وبلغت من النشاط مستوى كبيراً جعل من سيراليون مركزاً لكل البعثات التنصيرية التي تعمل في غرب إفريقيا.(22/352)
وأتت البعثة الثالثة من مدينة بال السويسرية، ونزلت في ساحل الذهب؛ حيث ركزت دعوتها بين قبائل فانتي Fanti وحققت نجاحاً كبيراً بينها، عوضها الخسائر الكبيرة التي تكبدها أندريا رايس And r eas r iis رئيس البعثة، في محاولاته المخفقة المتكررة بين قبائل أشانتي التابعة لساحل العاج، والتي وصلت في عنادها ورفضها لأي وجود نصراني، إلى حد أن احتجزت قِسَّين رهينة حتى جلاء البعثة عن أراضي الأشانتي وتحقق لها ما أرادت.
فلما أتت قوات الاحتلال الفرنسي وسيطرت على أملاك الأشانتي وأراضيهم حوالي عام 1815م، كانت بعثة الميثودست هي أسبق البعثات التنصيرية إلى هذه البلاد، حيث تم إعداد عدد من القسس الزنوج من أبناء القبيلة لممارسة الدعوة بينهم، كما أسست كنيسة محلية مستقلة خاصة بالمتنصرين الزنوج تابعة لطائفة البريسبيتريان النصرانية.
في العام 1844م استطاع اثنان من المنصرين، أحدهما أبيض ويدعى تونزند Townsend والآخر زنجي ويدعى كروثر G r owlthe r استطاعا أن ينشئا فرعاً لجمعية التنصير الكنسي في أبيوكوتا Abeo Kouta بنيجيريا بين أفراد قبيلة اليوروبا التي ينتمي إليها المنصر الزنجي.
ونجح كروثر كثيراً في نشر الدعوة النصرانية في نيجيريا لمعرفته بلغة القبائل في المنطقة ولهجاتها، حتى منحته المنظمة عام 1854م منصب مطران نيجيريا، إلى أن مات عام 1891م.
ومن خلال إعداد منصرين من أبناء القبائل، ومنحهم الأموال والمناصب والوظائف والوجاهة الاجتماعية، حقق النصارى مكاسب ضخمة في شتى أرجاء نيجيريا، مهدت لكل البعثات الأخرى أن تمارس دعوتها في أرض جيدة الحرث وخصبة التربة ومهيأة لكل بذرة يمكن أن تؤتي حصاداً بأقل جهد ومال؛ إذ عملت إلى جانب البعثات البروتستانتية بكل مذاهبها ثلاث هيئات كاثوليكية هي: آباء روح القدس، وليون، والآباء البيض.
وكان للهيئة الأولى نشاطها السابق ومراكزها النشطة في السنغال منذ القرن الثاني عشر، وهي ذاتها التي بذلت جهوداً ضخمة في غينيا السفلى.
أما جمعية ليون التي أسسها القس الثري بريزيلك B r esillac عام 1856م، فكان أول نشاط تنصيري لها في غرب إفريقيا عام 1859م بمدينة فريتون على ساحل سيراليون، لكنه لم يبق على أرض هذه المدينة أكثر من ثلاثة أشهر، حيث أصابته الحمى الصفراء ومات ليخلفه القس بلانك Planque الذي حدد هدفه على مدى نصف قرن من الزمان على ساحل غينيا، فأغدق عليها باستدعاء البعثات التنصيرية من كل المذاهب والملل النصرانية، ولم يغادر هذه المنطقة يوماً بإطلاق.
فلما تمكنت البعثات والمراكز التنصيرية وتثبتت قواعدها في المنطقة الساحلية، بدأت تنطلق نحو العمق الإفريقي حيث كانت السيطرة كاملة للوجود الإسلامي الذي لم يكن له وجود ملموس في السواحل الإفريقية.
تأسست عام 1868م جمعية الآباء البيض للسيدة العذراء على يد القس الفرنسي لافيجري Lavige r ie الذي ابتعثته الكنيسة الجزائرية؛ حيث كان يشغل منصب أسقف عام الكنيسة الجزائرية، فأرسل عام 1875م ثلاثة منصرين إلى تمبكتو في قلب مالي جنوب الجزائر، غير أن قبائل الطوارق تصدوا لهم وقتلوهم.
وإلى رواندا بوروندي r ouanda Pu r oundi وشرقي الكونغو البلجيكية (حينذاك) امتدت جهود البعثات الفرنسية للآباء البيض، أما بقية الكونغو البلجيكية فكانت من نصيب البعثات البروتستانتية الآتية من إنجلترا وأمريكا.
وفي المنطقة التي سميت بالكونغو الفرنسية، كان لجماعة آباء الروح القدس النصيب الأكبر فيها، حيث عمل هناك القس أوجوار Augoua r d الذي اشتهر باسم مطران أكلة لحوم البشر.
وفي هذه المنطقة تشير بعض الصفحات القديمة في تاريخ الكنيسة الغربية في إفريقيا أن الحماس الذي كان لدى البعثات والأفراد الآتية من طاحونة الحرب المشتعلة في أوروبا وارتدت ثوب الكنيسة وتعلقت بالصليب، بلغ ذلك الحماس بأحدهم أن لجأ في محاربة الإيمان الذي ينتشر في هذه البلاد بأحقية الرجل في الزواج بأكثر من امرأة، أنه كان يتزوج هو الفتيات زواجاً صورياً، حتى لا يتزوجن من رجال سبق زواجهم، ثم يعيد تزويج هؤلاء الفتيات مرة ثانية إلى أتباعه الكاثوليك الذين يؤمنون مثله بحرمة تعدد الأزواج.
ولعل أشهر المنصرين الفرنسيين الإنجيليين في منطقة الجابون كان الدكتور شفايتزر Schweitze r الذي كرمته ملكة إنجلترا ونال جائزة نوبل للسلام عام 1954م لقاء جهوده التنصيرية في شرق إفريقيا ووقف المد الإسلامي هناك. أما في الكاميرون فقد تسابقت البعثات الكاثوليكية والبروتستانتية القادمة من ألمانيا، فسيطرت الأولى على جنوب البلاد وتركت للأخرى مناطق صراع مذهبي وقبلي، بينما تمكنت بعض البعثات البروتستانتية الإنجليزية والكاثوليكية الإيطالية أن تصل بنشاطها إلى سكان أعالي النيل في السودان.
بعثات التنصير النسوية:(22/353)
أدت البعثات النسوية دوراً كبيراً في خدمة الكنائس والمنظمات والجمعيات التنصيرية في إفريقيا منذ وقت مبكر للغاية، وتذكر الوثائق المتاحة أن من أشهر الإرساليات النسوية التي نشطت في هذه المنطقة كانت إرسالية الراهبات البيضاوات، وكلمة البيض أو البيضاوات تشير مباشرة إلى أن هذه البعثات بروتستانتية عنصرية.
ثم إرسالية سيدة الرسل، وإرسالية الراهبات الزرقاوات (كاثوليك في مواجهة البروتستانت البيض)، وإرسالية راهبات الروح القدس.
أما القوة المحركة التي أثارت كل همم الكنائس النصرانية الغربية للعمل النسوي في إفريقيا، فكانت لفتاة فرنسية ريفية تدعى جافوهي Javouhey لم تكمل عامها الثامن والعشرين عندما أسست عام 1806م جمعية سان جوزيف الكلوثي للدعوة النصرانية بين أبناء قريتها والقرى المجاورة.
وفي العام 1819م أبحرت بدعم من الكنيسة الأم على رأس أول إرسالية نسائية إلى منطقة السنغال، فأنشأت عدة مشاريع يدوية، ومستوصفات علاجية، وفصولاً تعليمية كنسية، استطاعت من خلالها أن تخترق جدار السلطات الإقليمية الحاكمة التي مهدت لها السبل لممارسة نشاطها، وكانت هي بدورها لا تألو جهداً لتمهيد كل السبل أمام الإرساليات النسائية التي تدفقت إلى إفريقيا، خاصة في منطقة السنغال وغينيا وساحل العاج، حتى أطلق عليها لويس فيليب ملك فرنسا حينذاك، لقب الرجل العظيم.
كلمة أخيرة:
وبعد هذه الإطلالة السريعة على تاريخ التنصير في إفريقيا نجد أن من موضوعية الطرح أن نستعيد السؤال الذي طرحه منذ نصف قرن من الزمان هوبير ديشان أحد حكام المستعمرات (المستعمرات مصطلح خاطئ وصوابه قوات الاحتلال) وهو: ترى أيهما ينتصر: الإسلام الشرقي، أو المسيحية الغربية؟ فالقضية بحق يشهد عليها الواقع، ويثير هذا الواقع عشرات المسائل والخطط التي يمكن أن يستدعيها خاطر المسلم الغيور على دينه، خاصة إذا ما تأكدنا أن ما كتبه أ. ل. شاتليه، ما زال متجسداً أمام عيوننا، حينما كتب يقول على لسان أحد القسس العاملين في إفريقيا: « إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في إفريقيا، لأن انتشار الإنجيل لا يجد معارضاً، لا من جهل السكان، ولا من وثنيتهم، ولا من مناضلة أمة من الأمم، غير أمة العرب، فليس خصمنا غير الشيخ الذي يملك نفوذاً أكثر مما هو للفرسان المحاربين » [7].
وهذا هو ما كرره بصياغة أكثر يأساً القس جاير ديز أحد كبار قساوسة أوروبا، أمام مؤتمر أدنبره الشهير، حينما قال عن دعاة الإسلام معبراً عن سخطه: « كيف يمكن التعامل مع هذه الأشياء؟ لقد وجدنا في رحلتنا الأخيرة عبر إفريقيا القبائل على نهر شاري، وجداول الكونغو وما بين الدرجات العاشرة والخامسة من خط العرض الشمالي، كلها تدين بالإسلام أما تلك الزوايا التي تنتشر في القرى والسهول والأدغال بشكلها غير الحضاري والمضاد للعصرية تماماً، فإنها رأس النبع للمد الإسلامي في أنحاء إفريقيا، الذي يحتاج من الكنائس أن تتوحد في مواجهتها وتوجيه ضربة قاسية لها [8].
ثم يستطرد قائلاً: « إن شمال نيجيريا يجب أن يكون النقطة الأكثر أهمية، مع إنشاء مركز كبير لمختلف الكنائس في أقصى الغرب، ومحاولة الدخول إلى مناطق المسلمين، أما أوغندا فإن كانت توجد بها كنائس فهي أشبه بجزر في بحر الإسلام، لا تستفيد من الوجود القوي لحكوماتنا الأوروبية في المنطقة، خاصة في شرق إفريقيا؛ حيث يجب أن نحتل كل قوة وكل مركز استراتيجي للمسلمين لنخضعه للمراقبة، وهذا يتطلب التعاون الوثيق في الساحل الشرقي الذي طالما اشتقنا إليه في بلادنا [9].
الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى إفريقيا [10]:
إن حجم الوسائل والتقنيات الحديثة المستخدمة في التنصير أصبح من الضخامة إلى حد ضرورة عمل دراسات متخصصة لمعرفة هذه الوسائل والتقنيات، ونوع الرسالة التي تقدمها، ومضمون هذه الرسالة والمساحة الجغرافية التي تغطيها ومدى تأثيرها، وهنا نشير فقط إلى أحد الوسائل المعاصرة وهو البث الإذاعي، من خلال عشرات المحطات المنتشرة في إفريقيا وخارجها، نذكر منها:
إذاعة حول العالم T r answo r ld r adio Tw r (تأسست عام 1954م) تملك محطات للبث واستديوهات لإنتاج وإعداد البرامج الدينية في أكثر من خمسين دولة في العالم، أما إرسالها فيوجه على الموجات المتوسطة والقصيرة بأكثر من خمس وثلاثين لغة من بينها العربية.
إذاعة راديو الفاتيكان r adio Vatcan (تأسست عام 1931م) تملك أكبر وأقوى أجهزة بث أرضية على مستوى العالم، وتقدم خدماتها بأكثر من سبع وأربعين لغة ولهجة من بينها العربية.
محطة KGEL التنصيرية: توجه بثها من كاليفورنيا بأمريكا، بأكثر من ثلاثين لغة.
راديو صوت الإنجي صلى الله عليه وسلم adio Vooice of the Gospel r VOG: يبث إرساله من أديس أبابا بثلاث عشرة لغة على الموجتين المتوسطة والقصيرة إلى غرب وجنوب إفريقيا.
المحطة الدينية النصرانية: ELWA: تبث برامجها من ليبيريا على مدى 40 ساعة يومياً.
المحطة الكنسية بأنجولا: تبث برامجها بست لهجات محلية.(22/354)
محطة الكنيسة البرتغالية في موزمبيق: تبث برامج بكل اللهجات المحلية إلى جانب اللغة البرتغالية.
_________________
(*) رئيس مركز التنوير الإسلامي القاهرة.
(1) هوبير ديشان: حاكم المستعمرات الفرنسية في إفريقيا (سابقاً) وأستاذ بمعهد الأجناس البشرية ومعهد الدراسات السياسية بجامعة باريس.
(2) هوبير ديشان: ترجمة أحمد صادق حمدي، راجعه الدكتور محمد عبد الله دراز: الديانات في إفريقيا السوداء، إشراف إدارة الثقافة العامة بوزارة التربية والتعليم بمصر، سلسلة 1000 كتاب، دار الكتاب المصري، القاهرة 18957، ص 156.
(3) هوبير ديشان: مصدر سابق، ص 190.
(4) هوبير ديشان: مصدر سابق، ص 157.
(5) G r oves، C P، The Planting of ch r istianity in Af r ica، London، 1952 P 196.
(6) أ ل شاتلين، ترجمة محب الدين الخطيب وآخر: الغارة على العالم الإسلامي، القاهرة، 1931م، ص 15 17.
(7) r Hill & Toniolo، The opening of the Nile Basin، 1842 1881، London 1974، V 1.
(8) و ت ه جاير دنر، ترجمة محمود الشاذلي: الوثيقة الإسلام الخطر، المختار الإسلامي، القاهرة، 1985، ص 30 36.
(9) و ت ه جاير دنر، ترجمة محمود الشاذلي: الوثيقة الإسلام الخطر، المختار الإسلامي، القاهرة، 1985، ص 30 36.
(10) كرم شلبي: الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى المسلمين العرب، مكتبة التراث الإسلامي، 1991م (المقدمة).
http://www.baladynet.net المصدر:
==============(22/355)
(22/356)
التنصير في المغرب على أشده.
شبكة نور الإسلام
حملة تنصيرية في المغرب من تحت الباب (!!)
إنتشر في العاصمة المغربية الدار اليبضاء توزيع كتيّبات بحجم صغير تُدس من تحت أبواب المنازل، وتضم بين طياتها عبارات صريحة بلغة تجمع بين العربية الفصحى والدارجة تدعو إلى اعتناق النصرانية والردة عن الإسلام.
يحمل الكتيب عنوان "عون من الأعالي"، وهو موقع باسم شخص يدعى "وطسن كودمان"، والذي أقرّ في افتتاحية الكتيب أنه يزاول هذا العمل "التنصير" منذ سنة 1937.
يتكون الكتيب من خمسين صفحة، تشمل بين طياتها 131 فقرة منسوبة إلى كتابهم "المقدس"، مكتوبة باللسان المغربي الدارج و بآلة كاتبة عادية، وتقوم الجهة المعنية بتوزيعها على المنازل خلسة وبالمجان.
تدس مع الكتيب أيضا بطاقة من نفس حجمه تحدد بدقة موقع قنوات التنصير الفضائية الثلاث الملتقط بثها في المغرب، والتي تبث شهادات باللهجة المحلية وموسيقى دينية نصرانية ومواعظ تنصيرية وهي "الحياة" و"المعجزة" و"سات7".
يذكر أن عدد المغاربة الذين تنصروا بلغ نحو ألف حسب تقرير أصدرته مؤخرا الوكالة الفرنسية، 60% منهم تحولوا إلى النصرانية نتيجة اتصالات شخصية و30% من خلال التليفزيون والانترنت و10% عن طريق المنصرين.
وتوجد في المغرب ثلاث عشرة كنيسة تعمل في مجال التنصير، إحداها في مراكش وست في الدار البيضاء وخمس في الرباط وواحدة في العيون، كبرى مدن الصحراء المغربية.
===================(22/357)
(22/358)
التنصير في العالم العربي خطط مستمرة
إن بعثات التنصير لا تزال تعمل بإصرار من أجل تحقيق أهدافها، وبخاصة في أنحاء العالم الإسلامي، والعالم العربي بشكل أخص، وهي تعتبر أن مجال العمل في صفوف المسلمين في العالم العربي من أشق المهام، وهي قلقة - كعادتها دائماً - من مزاحمة الإسلام لها، فإذا أحرزت بعض النجاح في البلاد التي تعتبر مهداً للإسلام فإنها تكسب كسباً مادياً ومعنوياً.
أما الكسب المادي فإنها تكون قد أوجدت القاعدة التي تتكئ عليها من أهل البلاد الأصليين.
وأما الكسب المعنوي فهو ظهورها أمام من يرعون نشاطات التنصير في العالم، وخاصة في العالم الغربي بأنها حققت شيئاً فتكسب تعاطفهم وحماستهم لتأييدها بما يستطيعون ولذلك فإن التنصير يلح على أن يعمق جذوره في العالم العربي، ويعد من أجل ذلك الدورات والمؤتمرات، ويشرف على النشاطات السرية والعلنية المرتبطة بمنظمات نشطة في أوربا وأمريكا. وقد أرسل إلى هذه المجلة أحد الدعاة من أمريكا عدداً من نشرة تبشيرية تصدر هناك تسمى ديت لاين (Date Line)، تخطط لأتباعها طرق التنصير، وتحضهم على الانضمام إلى دوراتها التدريبية التي تعقدها لتأهيلهم للقيام بهذه المهمة.
حول النشرة:
النشرة موجهة أصلاً إلى المسيحيين الذين يهتمون بتنصير المسلمين وبأوضاع العالم العربي، فهي من جهة تحضهم على التطوع للعمل في هذه البلاد، وتبث في نفوسهم العزيمة من أجل القيام بهذا العمل الشاق، ثم تلقنهم كيفية نشر أصول الدعوة المسيحية بين المسلمين عن طريق تقريب وجهات النظر فيما يخص مفهوم التوحيد والتثليث، ثم تركيز بشكل خاص على القسم الشمالي الغربي من إفريقية ودعوة (للصلاة) من أجل فتح (المغرب)، بالإضافة إلى إعلانات تتعلق بهذه الأنشطة.
تحت عنوان(لابد أن يفتح الباب إذا واصلت قرعه):
ورد في النشرة ما يلي:
(يا من لهم تمرس أكبر في العمل في ديار الإسلام - أنتم ولا شك تعلمون أنه لا يسمح للمسلم شرعاً أن يرتد عن دينه ويعتنق ديناً آخر، وقد تستنتجون من ذلك استحالة العمل بينهم، وكذلك لا مجال للبعثات التنصيرية للعمل هناك، إذ ليس مصترحاً لها بالنشاط، فقد أسدل الستار وبني الحصن بقوة قد تبدو غير قابلة للاختراق خاصة في نظر الذين يغفلون عما يصنعه الرب في العالم العربى. هناك إحساس لدى العاملين في البلاد الإسلامية أننا أمام فتح مبين، صحيح أن بعض الجهات في العالم الإسلامي أصبحت أكثر تعصباً، ولكنها تبقى أقلية شديدة البروز فقط، والذي يدفعنا إلى مضاعفة جهودنا الآن هو ما نراه من تغير في المواقف والمزاج لدى الأغلبية.
إن ما يربو على 65% من سكان العالم العربي الآن هم دون الثلاثين، وفي دائرة هذه السن تقوى نزعة البحث عن الحقيقة والاستقرار، والعثور على منارة هادية في خضم الاضطرابات التي تعترضهم وهم يواجهون مشكلات العصر، وفي الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة المتعلمين فإن نسبة البطالة ارتفعت كذلك. صحيح أن دعوات التزمت الديني قائمة، ولكن الذين يناصرون الغرب، ويحبذون اتباع سبله كُثر. ومما يزيد في تعقيد هذه المشكلة الأزمات الإسكانية وعدم الاستقرار الاقتصادي والاضطرابات الاجتماعية في وقت يسعى فيه الجميع إلى تحسين مستوى معيشتهم.
هناك بعثات تنصيرية فعالة تعمل حالياً بنجاح في هذه البلاد المنيعة ظاهرياً، ولكن هذه البعثات تتعرض يومياً لتوترات وضغوط لا يمكن تجاوزها إلا بوسائل روحانية (!!) فنحن شهود عيان لما تصنع يد الرب في أوضاع قد تبدو مستحيلة، نحن نشهد نتائج لا يمكن تفسيرها إلا بقبول صلواتنا، إن الصلاة هي جانب من أعظم جوانب الشعائر التي يجب على الكنيسة في الغرب الاهتمام بها، بإمكاننا الادعاء بالنجاح في فتح الأبواب على مصاريعها، بإمكاننا دخول أمصار جديدة، بإمكاننا بعون الله، وبفضل كل صلوات المبشرين وتضحياتهم - تسريب فرق همها الشاغل هو كسر قبضة الإسلام الحديدية، فقد عُرف العالم العربي بأنه أشد المناطق صعوبة على وجه الأرض لدخول الإنجيل، ولا يزال غير ملتفت إليه بشكل كافٍ
من قبل رجال الكنيسة نتيجة لجهلهم، إن العالم العربي لم يحصل على هذه السمعة إلا لقلة المتطوعين للتضحية في سبيل إعلاء كلمة الإنجيل.
نحن نعيش في مجتمع يقيس النجاح بالكم، وكلمتنا هذه نظرة للكيف عن طريق الطاعة، وعلينا أن ننظر إلى العالم العربي من منظار الرب، فلو أننا
استصعبنا هذه المهمة لكنا قد ظننا نقصاً في قوة الرب، فكأننا نزعم أن هذا المجال يعجز الرب عن العمل فيه. وقد وصلنا مؤخراً في اجتماعات مؤتمر الكنائس العالمي في فرنسا إلى اتخاذ قرارات حددنا فيها أهدافنا إلى عام 2000م، وبعد صلواتنا المكثفة (الحارة) شعرنا أن الرب يحثنا على الانفتاح وعدم التواني في فتح أبواب جديدة على العالم العربي، وسيركز العدد القادم من ديت لاين Date Line على الطرق الجريئة التي تدخل في باب المستحيل، صارخاً: افتحوا الأبواب!
دعاء من أجل فتح المغرب!(22/359)
تحت هذا العنوان تقدم هذه الفقرة لمحة تاريخية عن المغرب من وجهة نظر مسيحية، ولكنها تعترف - مرغمة - بأن الغالبية الساحقة من سكان المغرب مسلمون - ما عدا أقلية من اليهود، وأخرى من المسيحيين - من أصل أوربي. ويدعو كاتب هذه الفقرة أتباعه إلى الصلاة من أجل تحقق حرية أكثر للأديان في المغرب (يقصد حرية البعثات التنصيرية)، ويشير إلى جهود الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى الشعب المسلم في المغرب، وكذلك إلى جهود التنصير عن طريق المراسلة، ويذكر أن حوالي (150) ألف مغربي تُرسل إليهم الدروس التنصيرية عبر البريد من أوربا ومن مركز التنصير الخاص بالعالم العربي (A. W. M.) مع اعترافه بالصعوبات التي تلقاها هذه الجهود إلا أنه مستبشر بالنتائج إذا سبقها الإصرار والمتابعة.
إرشادات للمتطوعين:
الفقرة التالية فيها تحذير أن تقع نشرات خطط التنصير بأيدي المسلمين لأن في ذلك خطراً وتعطيلاً لبرامج نشر المسيحية بين المسلمين: مديرنا العام كثيراً ما ذكرنا بأننا لسنا في نزهة ترفيهية، وإنما نحن في حالة حرب (!!) لهذا فنحن نؤكد على أهمية الصلاة والدعاء وطلب العون من محبي ومؤيدي الصلاة، ولكي يكون لصلاتنا معنى، فنحن بحاجة إلى الوقت والجهد وتحمل أعباء العالم الإسلامي، وإلى المعلومات الصحيحة الوافية. إن كنت تريد الصلاة دورياً والحصول على نشرتنا الشهرية (آخر الأنباء) فالرجاء إعلامنا بذلك، إن هذه النشرة تحتوي على معلومات سرية حول الصلاة، ولأننا نعمل في بلاد معادية للمسيحية فهذه النشرة ترتدي طابعاً سرياً لا يجوز أن يطلع عليه العوام، فلو وقعت هذه المعلومات في أيدٍ غير موثوقة لربما أدى ذلك إلى عواقب وخيمة؛ لهذا السبب نطلب تزويدنا باسم كنيستك والقس الذي يديرها لأسباب أمنية فقط!.
طبيعة عمل بعثات التنصير:
تسعى بعثات تنصير العالم العربي أولاً إلى تأسيس كنيسة (يسوع المسيح) في العالمين البربري والعربي (!!) ولدينا فرق تعمل في صفوف المليوني مسلم من المغرب العربي في فرنسا، ونبث برامج مراسلة وإذاعية لنشر الإنجيل على أوسع نطاق ممكن انطلاقاً من مركزنا الإعلامي الموجه إلى العالم العربي.
التحدي:
نهدف - في هذه المرحلة تحديداً - إلى دخول 100 مدينة جديدة موزعة على 20 دولة حتى في عام 2000م، ونحن ننتظر بشوق وحماسة إمكانية نجاحنا في إيصال هذه البشارة إلى أمكنة لم يسبق أن وصلتها من قبل.
فرصة سانحة:
إن العالم الإسلامي هو أحد الأماكن التي تحظى بالقليل من الرعاية والكثير من الإهمال من قبل المنصرين حالياً، فخمس سكان العالم اليوم (كذا) مسلمون، وهو آخر الخطوط الدفاعية الأخيرة التي لابد للإنجيل من اختراقها، فإن كنت ترغب في مواجهة التحدي وتوسيع الأفق، والتعرف على حاجات العالم الإسلامي الحالية فهلُمّ للمشاركة في إحدى دوراتنا التدريبية الصيفية، اكتشف حقيقة الإسلام، تعرّف على ما يؤمن المسلم، وعش معنا تلك اللحظات التي يشترك فيها النصراني مع المسلم في الرسالة!.
دورات ومهام:
نحن نؤمن بأننا دخلنا في عهد ملىء بالانتصارات داخل العالم، لماذا لا تشارك في إحدى الدورات التالية، ولا تشهد بنفسك صنع الرب (!) داخل العالم الإسلامي؟
في مونتريال - تورنتو - فيلادلفيا:
دورات مكثفة حول المسائل الإسلامية والرد المسيحي عليها - تدريب على الانفتاح المركّز على التنصير عن طريق الصداقة (4 أسابيع).
في فرنسا: الخروج إلى مدينة فرنسية نسبة المغاربة فيها كبيرة (4 أسابيع). لندن: دراسات إسلامية والرد المسيحي (أسبوعان).
في تونس: برنامج توجيهي وخروج، تدريبات في لندن، طِر إلى تونس وتجول في أرجاء البلاد وزر مدناً كبيرة (4-6 أسابيع).
الشرق الأوسط: برنامج توجيهي ومخيم في عمَّان، جولة في سورية ومصر، برنامج الخروج في لندن (6-8 أسابيع).
المغرب: برنامج توجيهي وخروج في لندن، زيارة برية للمغرب عبر أوربا (4-6 أسابيع).
هذه دورات مكثفة تحتاج إلى صبر ومتابعة وينبغي أن يتصف راغبو الالتحاق بها بالوعي وبتزكية موثوقة.
يشتمل البرنامج على خروج واتصال بالمسلمين وباقي نشاطات بعثات التنصير في العالم العربي، السن المطلوبة: 18 فما فوق.
شبهات:
الفقرة التالية فقرة إرشادية لمن يقومون بالتنصير بين المسلمين وما يواجهونه من صعوبة في الرد على فكرة الشرك والتثليث عند النصارى:(22/360)
(لا إله إلا الله) يرددها المسلم العادي مراراً كل يوم في صلواته، وإعلاناً عن عقيدته الإسلامية. والقرآن يعتبر أن أعظم الذنوب وأكبر الكبائر هو الإشراك بالله. ومع أن القرآن يعترف في مواضع عدة منه بعبادة اليهود والنصارى لإله واحد؛ فإنه يشير أيضاً إلى أن النصارى يعبدون أكثر من إله، أو أنهم يعبدون عيسى المسيح من دون الله:] لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ ][المائدة: 73]،[ وإذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ] [المائدة: 116]،[ لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ][المائدة: 17]. يعتقد كثير من المسلمين أن النصارى مثلّثون يؤمنون بثلاثة آلهة، بدلاً من حقيقة كوْنهم موحدين (!) يؤمنون بوجوه ثلاثة للإله الواحد. والثالوث هو: الرب، مريم، عيسى أو: الرب، وعيسى، والروح القدس. وهكذا يعتقد المسلمون أن النصارى يناقضون في عقيدتهم الركن الأساسي في الإسلام وهو توحيد الله الذي ليس كمثله شيء، وهكذا يكونون قد سقطوا في وهدة الشرك وعبادة الأصنام. فعلى المسيحي أن يسارع بطمأنة صديقه المسلم منذ بداية النقاش أن الكتاب المقدس يشهد بأن الله واحد، وأنه الوحيد الجدير بالعبادة (سفر الخروج 20 /2-3) و (مرقس 12/29).
لابد لنا فعلاً من الاعتراف بأن الله واحد وأنه لا إله إلا هو حتى نكون عباداً صالحين له، ولكن علينا أن نفهم كنهه وطبيعته وما صنعه من أجلنا تكرماً منه، وما يطلب منا أن نكون، وأن نعمل على طاعته.
تعليق أخير:
بعد قراءة محتوى هذه النشرة هناك نقاط كثيرة يحسن الوقوف عندها، ونكتفي ببعضها، موجهين الكلام إلى الذين قد يقعون تحت تأثير هؤلاء المنصرين فيقفون أمامهم إما حيارى أو متعاطفين:
1 - يتهم هؤلاء المنصرون بعض المسلمين بالتعصب الديني وينسون أنفسهم، ونحن لا ندري بماذا نسمي عملهم هذا الذي يهدف إلى حث المسلمين على ترك دينهم واتباع الإنجيل، ولئن دل هذا على شيء فإنه يدل على قلة الحياء والتلاعب بالألفاظ، وهما من أهم صفات المنصرين في كل عصر.
2- أن دراسة هؤلاء لظروف المسلمين في العالم - وفي العالم العربي بشكل خاص - تدفعنا إلى أن نكون نحن أولى بذلك ليكون فهمنا للواقع وتحليلنا للظروف التي يمر بها المسلمون دافعاً للسيطرة على العقبات، وأساساً لمعالجة هذه الأزمات.
3 - أن أشد ما يثير حنق المنصرين وأتباعهم هو قبضة الإسلام الحديدية؛ لذلك هم يعملون جاهدين لانحلال هذه القبضة عن طريق تشكيك أجيال المسلمين بدينهم، وزرع المفاهيم الغريبة بينهم.
4- يصلي هؤلاء من أجل تحقيق حرية الأديان في المغرب، وهم يقصدون حرية النشاطات التنصيرية في المغرب أكثر مما هي عليه الآن، وهم لو كانوا منصفين لأقروا بأن المغرب من أكثر الدول تسامحاً مع اليهود والنصارى. ولأمرٍ ما تركز مراكز التنصير على المغرب العربي، فهو الجزء الأقرب إلى أوربا وهو جسر العبور إلى باقي العالم العربي وإفريقية، وهو المكان المحتمل منه الخطر على الحضارة الأوربية أكثر من غيره.
5 - ليس هناك أصدق ولا أبلغ من وصف حالة المنصرين مع المسلمين بأنها"حالة حرب"كما ورد في (إرشادات للمتطوعين) وهذا الوصف كلمة حق ينطق بها العدو من أجل أن يعرف كيده ويحتاط له الاحتياط كله.
أن من فضل الله على المسلمين أن جعل عقيدتهم سهلة واضحة، تتقبلها الفطرة، وتأبى على! لأساليب الملتوية، والمداورات التشكيكية ولا غرابة في ذلك فهي عقيدة الرسل جميعاً من لدن آدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . وأن عقيدة التوحيد هي الأساس الذي يتحطم عليه كل ادعاء، وأي مسلم يقرأ محاولة هؤلاء المنصرين إثبات أنهم يؤمنون بإله واحد - كإيمان المسلمين - يكتشف أنهم يتلاعبون بالحقائق، ويسخرون من العقول. وهم إذا أرادوا من المسلم أن يتجاوز عن وصف القرآن لهم بالكفر في أكثر من موضع فهم أمام أمرين:
أ- أن يشك المسلم بأن هذا القرآن - أو بعضه - كلام الله وهذا كفر صريح لا يقدم عليه مسلم وهم يطمحون إلى ذلك طبعاً.
ب - أو أن يقولوا له: إن القرآن حين وصف من وصف من النصارى بالكفر إنما وصف طائفة منهم انقضى أمرها ونحن لسنا منها في شيء، أما نحن فنرفض التثليث ونؤمن بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، وعند ذلك ينتفي عنهم الشرك، وهم لا يثبتون ذلك طبعاً بل يصرون على التثليث من حيث يوهمون أنهم يقولون بالتوحيد. والمسلم لا يرى فرقاً بين من يؤمن بثلاثة آلهة وبين من يؤمن بثلاثة وجوه للإله الواحد!! فكل ذلك كفر.
نعوذ بالله من همزات الشياطين ونفثات المبشرين.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
===================(22/361)
(22/362)
التنصير بالمراسلة أسفٌ مزدوجٌ
أبو بكر بن عبد القادر سيسي
من الأساليب التي اعتمدها المنصِّرون حديثاً في التنصير: الدروس بالمراسلة؛ فيوجد اليوم عدد كبير من المؤسسات التنصيرية متخصصة في هذا المجال.
نذكر منها على سبيل المثال: (التاريخ والحياة) مقرها مرسيليا بفرنسا، (نداء الرجاء) مقرها ستيغارت بألمانيا الغربية، (دار الهداية) مقرها ريكون بسويسرا، (نور الحياة) مقرها فيلاش بأستراليا.
وأما كيفية ممارسة هذه الوسيلة فهذه أضواء على نشاط المؤسستين الأوليين.
أولاً: مؤسسة: (التاريخ والحياة):
يوزَّع عنوان هذه المؤسسة في بعض الإذاعات والمجلات والمراكز الثقافية؛ وترسل سلسلة دروسهم النصرانية والأناجيل عن طريق البريد الجوي إلى الراغبين؛ حيث يمدّون دارسيهم بالظروف وبدل الطوابع البريدية، وللدارس جائزة كلما أنهى مرحلة من سلسلتهم التعليمية ونجح في اختبارها، ويحصل الدارس في نهاية كل ثلاثة أشهر على مجلة مجاناً تسمى: « مفتاح المعرفة » تحتوي على القصص ومشاكل الحياة وحلولهم لها، والتوعيات النصرانية، وتقارير إنجازاتهم المضللة في تنصير الأفراد والأسر في المجتمعات الإسلامية وغيرها وبخاصة في شمال إفريقيا، وللمؤسسة محطة إذاعية تشرح فيها دروسهم التعليمية صباحاً ومساءً.
وهذه إرشادات المؤسسة في أول بريدهم إلى الدارس:
1 - جميع دروسنا مجانية وهي بالمراسلة لا حضورياً.
2 - تعطى دروسنا بلغة واحدة: العربية أو الفرنسية، وننصحك أن تدرس
باللغة التي تتقنها أكثر، أما إذا اخترت لغة ووجدت ثقافتك بهذه اللغة غير كافية فيمكنك تبديلها.
3 - نحن مستعدون دائماً للجواب عن كل سؤال تطرحه بشرط أن يكون متعلقاً بالدرس.
4 - إن استحسنت هذه الدروس واستفدت منها، فلماذا لا تعرِّف بها أهلك وأصدقاءك، وتعطيهم عنواننا لنرسل إليهم بعض دروسنا.
ثانياً: مؤسسة: (نداء الرجاء):
وهذه المؤسسة بدورها أيضاً ترسل الأناجيل والكتب النصرانية مقسمة إلى حلقات تعليمية عن طريق البريد الجوي إضافة إلى الأشرطة والمفكرات والآيات الإنجيلية المزخرفة بالطراز الإسلامي التي تلصق على الجدران والأدوات، وتبث دروسها أيضاً مع تشجيع الدارسين في إذاعتها «صوت الرجاء»، ودراستها مجانية بالعربية أو الإنجليزية، ويحصل الدارس في نهاية كل حلقة على شهادة.
وهذه المؤسسة من أشد المنظمات التنصيرية هجوماً على الإسلام ونيلاً منه؛ إذ إن من نشاطاتها طباعة ونشر أي كتاب أو مطوي فيه الطعن في الإسلام، سواء كان له علاقة بالنصرانية أم لا، وسواء كان كاتبه نصرانياً أو غير نصراني.
وإليكم نموذجين عن كيفية إغرائهم الناس بالمشاركة في دروسهم:
النموذج الأول:
أ - أتحب تطهير ماضيك؟
إن أردت المصالحة مع الله وتنقية نفسك فنحن على استعداد لنرسل إليك مجاناً الإنجيل حسب البشير لوقا، بمقياس 20 * 30 سنتيمتراً بالصور الموضحة لحياة المسيح إن طلبت ذلك منا.
ب - هل لديك سؤال ما؟
إذا أقلقك سؤال ما حول الإيمان وخلاص نفسك، فاكتبه إلينا صريحاً نجاوبك بإخلاص ومحبة.
ج - أتريد مصالحة أصدقائك مع الله؟
إذا أعجبتك هذه النشرة وأردت تطبيقها في حياتك وحياة الآخرين فنحن على استعداد أن نرسلها إليك مجاناً بشرط أن لا تطلب عدداً أكثر مما توزعه عملياً، اكتب إلينا بخط وعنوان واضحين.
النموذج الثاني:
أ - اقرأ الكتاب المقدس يومياً.
إن قررت التعمق في كلمة الله فنحن مستعدون أن نرسل لك تفاسير الكتاب المقدس إن طلبتها منا.
ب - ارفع كلمة الله في بيتك.
إن أعجبتك الآية الذهبية التي على الصفحة الأولى من هذه النبذة فنحن على استعداد أن نرسلها لك مجاناً مطبوعة على كرتون ملون بمقياس أكبر إن طلبتها.
ج - استمع إلى البشارة.
إذا أحببت الاستماع إلى بشارة الإنجيل والكلمات التي تفتح لك أبواب السعادة بأجمل الأصوات وأحسن الترانيم، فاطلب ذلك منا نرسل أشرطتها لك مجاناً.
ج - وزع بشرى الخلاص في محيطك:
إن أثَّرت فيك هذه النبذة وأنت على استعداد لتوزيع مثلها فنرسل لك العدد الذي تطلبه منها مجاناً بشرط ألا تطلب منا أكثر مما توزعه عملياً.
أرسل طلباتك بخط واضح وعنوان كامل.
وبعد: فهذه الوسيلة التنصيرية تثير فينا أسفاً مزدوجاً، أو بعبارة أخرى تؤسفنا من ناحيتين:
الأولى: ما يحصل من جراء الدروس بالمراسلة من التضليل ومحاربة العقيدة الإسلامية.
الثانية: عدم استخدام المسلمين لهذا الأسلوب الدعوي الذي يتسابق ويتحمس المنصرون فيه اليوم ويستبشرون بثمراته؛ علماً أن مرده ومصدره السيرة النبوية ومنهج صدر هذه الأمة السلف الصالح.
فقد اهتم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالمراسلة في تعريف الناس بالإسلام وتصحيح معتقداتهم ودعوتهم إليه، وكان يتحرى في ذلك الأسلوب المناسب، وكمية المادة، المرسلة، وطبيعة المرسل إليه.(22/363)
ونماذج التعليم والدعوة بالمراسلة كثيرة جداً في كتب السنة والتاريخ الإسلامي؛ فهذه صورة درس نبوي بالمراسلة: «من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة. أسلم أنت؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح من الله وكلمته ألقاها إلى مريم الطهور الطيبة الحصينة، فخلقه الله - تعالى - من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده... وإني أدعوك وجنودك إلى الله - عز وجل -».
وهذه صورة رسالة جوابية من المقوقس عظيم القبط على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل إليه:
«فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد أكرمت رسولك، وقد بعثت إليك بجارية لها مكان في القبط عظيم» [1].
فإن طبيعة الحال تدعو المسلمين إلى انتهاج هذا الأسلوب الدعوي صداً للزحف التنصيري في العالم الإسلامي وإحياءً للتراث الإسلامي، مع وقفات علمية صادقة عند السيرة النبوية لفقه أساليبها الدعوية المتنوعة وتطبيقها بالوسائل الحديثة؛ ففيها ما يكفي ويشفي.
________________________
(1) البداية والنهاية، لابن كثير، 4/257، وتاريخ الطبري، 2/ 244 657.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
-===============(22/364)
(22/365)
التنصير في آسيا الوسطى
المستقبل الإسلامي 8/1422 هـ
كان من الأجدى بعد سقوط الشيوعية أن تعمل الدول الإسلامية على مد جسور التواصل مع أبناء هذه البلدان، وتفتح سفارات لها هناك ولا تتركهم مرة أخرى فريسة للصهيونية حيث سارعت (إسرائيل) بفتح سفارات لها في معظم الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى وشمال القوقاز وإقامة علاقات دبلوماسية معها.. أو تتركهم لجيوش المنصرين لتنصيرهم حيث أخذت الهيئات والمنظمات الكنسية تركز نشاطها على هذه البلدان خصوصًا فئات الشباب..
ولقد جاء البيان الذي أصدره بابا الكاثوليك يوم 3 مارس 1991 م والذي دعا فيه المنصرين إلى نشر النصرانية في البلاد الشيوعية ـ سابقاً ـ ليكون بمثابة إشارة البدء لهذه المنظمات بالعمل، واتخاذ موسكو قاعدة لها للانطلاق نحو الجمهوريات الإسلامية المستقلة أو التي تتمتع بالحكم الذاتي في روسيا الاتحادية.
وبدأ المنصرون عملهم بالتركيز على المناطق الناطقة باللغة التركية ولذلك جندوا أكبر حشد من المنصرين ممن يتحدثون التركية بطلاقة وبدأت الإذاعة التنصيرية في بث برامجها إلى دول آسيا الوسطى وشمال القوقاز بالتركية.
مرتكز آخر:
واعتمد المنصرون في تنصير شباب المسلمين في هذه الدول على عنصر آخر هام وهو صلة العرق في السابق، ففي قيرغيزستان مثلاً، أخذوا النصارى من أصل ألماني إلى ألمانيا بين عامي 1988 ـ 1990 م ودربوهم في مدارس البروتستانت، ثم أعادوهم إلى قيرغيزستان، وشبيه بهذا حدث بين أتراك الجيجاوس التابعين للكنيسة الأرثوذكسية، ومثل هذه النشاطات وإعداد المنظمات التنصيرية تقوم بها هيئة في كريلنجن يرأسها البروفيسور ترويجر الخبير في شؤون الشرق الأوسط، حيث تقام المؤتمرات والحلقات الدراسية والتطبيقات العملية، ومن اللافت للنظر أن قسماً من تمويل المنظمات التنصيرية للذين ترسلهم الكنائس العالمية للنشاطات التنصيرية يأتي من نصارى تركيا.
أما المنصرون الذين يتوجهون إلى مناطق التنصير عبر موسكو فهم يعملون تحت إشراف مركز لهم بمدينة طشقند ويتلقون التعليمات من ثلاثة مراكز في أوروبا ويختلف عدد الهيئات التنصيرية العاملة في آسيا الوسطى من بلد إلى بلد، فقد بلغ عدد الهيئات التنصيرية في أوزبكستان ثلاثاً وستين هيئة تابعة لسبع منظمات تنصيرية، ويبلغ عدد البروتستانت هناك حوالي عشرة آلاف وتتبع 35 هيئة من هذه الهيئات الكوريين.
15 هيئة تنصيرية:
ويعمل في قازاقستان 115 من المنصرين الأمريكيين يتبعون 15 هيئة تنصيرية، كما يعمل في هذه الجمهورية عدد كبير من المنصرين الألمان وخصوصاً المنظمة المعروفة بشهود يهوه.
وفي قيرغيزستان يعمل 40 من المنصرين الأمريكيين يتبعون 9 منظمات تنصيرية، وهناك وقف يعرف بـ (وقف الإيمان) تأسس بتعاون الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت.
وينشط هذا الوقف في أكثر الجمهوريات المستقلة حديثاً خصوصاً قازاقستان وقيرغيزستان.
واستغل المنصرون إقبال الناس على تعلم اللغة الإنجليزية لاجتذاب عدد كبير من أبناء وبنات المسؤولين في تلك البلدان للعمل على تنصيرهم. وتعتبر قازاقستان بسبب البنية العرقية والفوارق الدينية والمذهبية وإحساسها بالقرب من روسيا أكثر البلدان ضعفاً في الشعور الديني.
ولذلك فإن قازاقستان أكثر الدول اجتذابًا للمنصرين، والنشاطات التنصيرية في هذه الجمهورية تقوم بها بشكل منظم الكنائس العالمية وشهود يهوه ومتطوعو السلام، وتقوم قنوات التلفزيون الروسية التي تشاهد في قازاقستان ببث برامج في الدعوة إلى النصرانية، ومثل ذلك تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية وأكثر الدول الأوربية، وخاصة ألمانيا التي تقدم دعماً قوياً للمنظمات التنصيرية العاملة في قازاقستان.
هدفان أساسيان:
والنشاطات التنصيرية لها هدفان: أحدهما كسب ثقة الألمان الذين يعيشون في هذه المناطق للحيلولة دون هجرتهم إلى الغرب، أما الثاني فهو تنصير القازاق الذين يملكون قوة اقتصادية ويعيشون حياة بعيدة كل البعد عن الإسلام، وأكبر المنافسين لنشاطات التبشير في قازاقستان هم الأتراك. والواقع أن الأتراك هم العائق الأساسي أمام النشاطات التنصيرية في آسيا الوسطى كلها، فالمدارس التركية التي فتحت تلعب دوراً كبيراً في تعريف شعوب تلك المناطق بالدين الإسلامي الحنيف..
مؤسسة الخير .. والوهم:(22/366)
وهناك 25 هيئة تنصيرية عاملة في قازاقستان تعمل تحت اسم (مؤسسة الخير) تدفع لمن يستطيع جلب الشباب إلى المحاضرات والدروس مبلغاً معيناً من المال على شكل عمولة، أو تحت مسمى الراتب. ويراوح هذا الراتب بين 40 ـ 60 دولاراً ويطلبون منهم مقابل ذلك جلب الشباب إلى الدروس والمحاضرات وتوزيع الكتب التنصيرية بين الناس .. ويلاحظ النشاط التنصيري بصورة أكثر كثافة في شمال قيرغيزستان وعلى الأخص في جوي وإيصيق جول ونارين وتارس، وفي جنوب قيرغيزستان يتركز النشاط في أوش وجلال آباد، ويركز المنصرون في هذه المناطق على طلاب الجامعات والعمال الذين يشكلون الجيل الفاعل والنشط في تلك المجتمعات، وهناك قناة تلفزيونية خاصة تعرف بقناة الهرم يقوم من خلالها المنصر ميرلين هيكين بالدعوة على النصرانية بشكل سافر وعلني.
أبرز المنظمات:
أما المؤسسات التنصرية في قيرغيزستان فهي:
فاسكريزينسكي سابور: وهي من أنشط المؤسسات التنصرية منذ عام 1944.
البابتيست: بلغ عدد الشباب المنضمين إلى هذه المنظمة التنصيرية في عام 1992 حوالي ألفي شاب ووصل عددهم في عام 1993 إلى ثلاثة آلاف شاب، أما اليوم فهم فوق هذا العدد بكثير.
أدفانتيست اليوم السابع.
النصارى البرسبيتر: وهي إحدى المنظمات التنصيرية وأكثرها نشاطاً ويشكل الكوريون 70 % عناصر هذه المنظمة.
طريق المون (القمر).
كنيسة أبوستون العالمية الجديدة: وأكثر عناصرها من ذوي الأصول الألمانية.
وهناك العديد من المجموعات التنصيرية مثل نصارى الملقان، ومجموعة النصارى البرمورتسي، ومجموعة الليتيرانيو، والنصارى الأنجاليسكي، وجمعية بوتي بودو التي يشكل أكثريتها الكوريون.
أما أكثر هذه المجموعات نشاطاً خارج المنظمات التنصيرية فهي: البوذوين وعبدة النار وفي العاصمة بيشكيك ينشط الهبائيون القادمون من سنغافورة والفليبين والإكوادور وطاجيكستان وروسيا والرهبان التابعون لتعاليم كريشنا القادمون من الهند. ويعمل البوذوين والرهبان التابعون لتعاليم كريشنا على جذب الناس إليهم عن طريق الأحاسيس الصوفية في المناطق الشمالية التي يشتد فيها التحلل الديني والاجتماعي في البلاد، خاصة حول الفنادق الفخمة والمتاجر الكبيرة.
الأوزبك .. والمنصرون:
أما المجموعات التنصيرية العاملة في أوزبكستان فهي: جمعية اللوثريين، والمعموديون والنصارى الإيفانجيليون، وأدفانتيست الأيام السبعة، وكنيسة الروم الكاثوليك، وكنيسة الحواريين الجدد، وشهود يهوه، وكنيسة النصارى البرسبيتر، وكنيسة النصارى البروتستانت، وكنيسة نصارى الإنجيل التام.
بدأت عمليات التنصير في أوزبكستان على شكل توزيع الكتب والمساعدات المادية واستمر بعد ذلك طبع الإنجيل وكتب التعريف بالنصرانية وتوزيعها، ونتيجة لذلك لوحظ في الأعوام الأخيرة زيادة عدد المتنصرين من الأوزبك.
منظمات في تركمانستان:
وفي تركمانستان تنشط ثلاث منظمات تنصيرية تأتي على رأسها منظمة كنيسة البابتيست. وقدمت ترجمة الإنجيل إلى اللغة التركمانية في عام 1993 وبدأ توزيع الترجمة في جميع أنحاء البلاد. وإلى جانب ذلك أسفرت جهود أربعة من الرهبان إنجليزيين وأمريكيين عن افتتاح كنيسة علقت عليها لوحة (المسجد المسيحي) في حي غاجا الذي يوجد فيه جامع الأقصى بالعاصمة عشق آباد. كما اشترت هذه المجموعة أرضاً قرب مطار عشق آباد كي يبنوا عليها كنيسة جديدة، ويقوم المنصرون بنشاط مكثف في الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية التي يرتادها النصارى في وسط مدينة عشق آباد.
شهود يهوه:
وينشط شهود يهوه في آسيا الوسطى خصوصاً في جمهوريتي قازاقستان وقيرغيزستان كما يوجد نشاط ملحوظ لهم في تركمانستان، أما أكثر المناطق التي ينشط فيها شهود يهوه في قيرغيزستان فهي بيشكيك ونارن وطوقماق وقاراقول وباليقجي وقرا بلطه صوقولوق، وتقوم هذه المجموعة بطبع كتاب (نصوص مختارة من الإنجيل والتوراة والزبور) لدى شركة (الكتاب المقدس) التي أنشئت في إسطنبول باللغات القازاقية والقيرغيزية والتركمانية وتوزيعها على الناس مجاناً، بدأ توزيع نسخ مجانية من هذا الكتاب عام 1992 حيث يطرق عناصر هذه المنظمة بيوت المدينة بيتاً بيتاً ويقدمون نسخة مجانية من هذا الكتاب.
كما تجند المنظمة كثيراً من طلاب الجامعات والمدارس المتوسطة وتوزع عليها المكافآت والجوائز.
عجز القوانين:
وتقف القوانين الحالية في جمهوريات آسيا الوسطى عاجزة أمام النشاطات التنصيرية حيث تنص الدساتير التي أعدت إعلان استقلال هذه الدول عام 1990 م على أن الدولة تنظر إلى جميع الأديان بنفس المنظار، وتحمي حرية العقيدة وحرية التبليغ الديني، وتعمل المنظمات التنصيرية في هذه الدول استناداً على هذا الحق الذي تنص عليه الدساتير على قدم المساواة مع أتباع الدين التقليديين، وقد بدأ الشعب الطاجيكي في مقاومة هذه المنظمات بقوة.(22/367)
وفي قيرغيزستان أثار اعتناق أربعة من القيرغيز، من أصول أوزبكية النصرانية وبلوغ عدد المتنصرين مائة وثلاثين، ثائرة جماهير الشعب في قيرغيزستان وطلبت من المتنصرين ترك المدينة، وألقت السلطات التركمانستانية القبض على منصرين كانوا يمارسون نشاطاتهم بصورة غير رسمية واقتادتهم إلى المحكمة كما تطرقت لجنة الأمن القومي في قازاقستان في تقريرها السنوي من عام 2000 إلى المنصرين الأجانب الذين ثبتت نشاطاتهم التجسسية تحت ستار الدين وسعيهم إلى فرض أفكار تتعارض مع دستور البلاد وقرار الحكومة طردهم خارج البلاد.
وعلى غرار ما يحدث في آسيا الوسطى فإن هناك نشاطاً محموماً للمنظمات التنصيرية في هذه البقايا المهمة من العالم، ذلك أن معهد (ترجمة الإنجيل) أنجز ترجمة الكتاب المقدس إلى لغات الأديغة والقبرطاج والأوسيتين والقرة جاي مالشيان والنوغاي والأون واللزجي والقوموق واللاك والدارجين والطبرستان والصاخور والروتول الجول والأندي وعدد من اللغات الأخرى، ويواصل المعهد ترجمة الإنجيل إلى لغات الشعوب الأخرى في المنطقة، وقد اختار المنصرون بصورة خاصة المناطق الغربية والوسطى من القوقاز، كي يمارسوا نشاطهم المحموم بين فئات الشعب، فكان الوضع المادي والمعنوي السيئ للأذربيجانيين على وجه الخصوص المناخ الذي يبحثون عنه.
8 آلاف تنصروا:
ونتيجة لهذه النشاطات والدعم المادي المكثف من الخارج وصل عدد معتنقي النصرانية في أذربيجان وحدها إلى أكثر من ثمانية آلاف كما يواصل المنصرون جهودهم في منطقة ناخجيوان المستقلة ذاتياً على شكل مساعدات إنسانية يسعون من خلالها إلى إجراء تغيير في عقائدهم الدينية، وتختار منظمة (أردا للمساعدات الإنسانية) جيل الشباب كي تقوم بنشاطاتها التنصيرية عبر تنظيم دورات لتعليم اللغة الإنجليزية وتصدر المنظمة مجلة (الإدراك والتبشير).
وتشير المعلومات التي أعلن عنها مركز الأبحاث الدينية في أذربيجان إلى أن عدد المساجد في العاصمة باكو يبلغ 15 مسجداً فيما وصل عدد الكنائس في هذه المدينة إلى سبع ويبلغ عدد المنظمات العاملة بصورة رسمية في البلاد أكثر من ثلاثمائة منظمة منها مائتان وستون منظمة إسلامية، وما بقي منها منظمات نصرانية ويهودية وكريشنية وبهائية، أما عدد المنظمات غير الرسمية فيبلغ حوالي تسعمائة منظمة، ومن الغريب حقاً أن يواصل (معهد الإنجيل في باكو) التابع لجامعة باكو الرسمية نشاطه التنصيري على الرغم من قرار إغلاقه من قبل الدولة بصورة رسمية.
ويلاحظ أن المنظمات التنصيرية في أذربيجان توجه نشاطها المكثف إلى فئات الشباب والعوائل الموسرة ذات التأثير اللغوي واللاجئين الأذربيجانيين والأطفال الذين يتعلمون في دور الحضانة وبيوت الأطفال وطلاب الجامعات الذين يحصلون على منح دراسية.
http://www.almansiuon.comالمصدر : /
================(22/368)
(22/369)
التنصير هل أصاب الهدف
يقول( ثوم موناهان) البليونير الأمريكي الشهير صاحب إمبراطورية دومينو بيتزا: إنَّه كان يقرأ كتاباً للمؤلف الشهير (لويس) عن معنى الدين وسيئات الكبرياء وحب الذات، وأدرك آنذاك أنَّه مهتم أكثر مما يجب بحاجاته المادية وبقشور الحياة، وأنَّ الكبرياء والسلبية خيَّمتا على حياته، فكان اهتمامه الأول يدور حول ممتلكاته ويخوته وسياراته وشققه وابنتيه.. وفجأة اتصل بمهندس معماري كان قد كلفه ببناء قصر له، وطلب منه التوقف عن العمل فوراً؛ لأنه قرر أن يصبح فقيراً، واختار خدمة الفقراء! ثم أوعز إلى مساعديه ببيع يخوته وطائراته الخاصة وجزيرة يملكها.
ووضع البليونير (موناهان) الأموال التي جمعها من بيع ثروته في مشاريع مختلفة تديرها الكنيسة الكاثوليكية، وسمَّى مؤسسته الجديدة: (آفي ماريا فاونديشن) وحتى الآن أسس أربع مدارس في (آن ربور) (ولاية ميتشجان الأمريكية)، تشرف عليها الراهبات، وإذاعة تبث برامج دينية، وخدمة إنترنت لتسهيل التعارف بين الكاثوليكيين الذكور والإناث، ومهجعاً للفتيات على مقربة من جامعة ميتشجان.. كما أسس جمعيات مهنية لرجال الأعمال الكاثوليك، وقدَّم الدعم المالي لمشروع إنشاء كلية في نيكاراجوا..!! [1].
هذا البليونير مثال واحد من أمثلة كثيرة تدعم التنصير والإرساليات الكنسية، وصدق المولى - جل وعلا - إذ قال: [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] (الأنفال: 36).
ولكن! أين أغنياء المسلمين الذين يملؤون السهل والبحر؟! أتُراهم يجهلون حاجات الدعوة الإسلامية في المشرق والمغرب، أم أن سيئات التجاهل وحب الذات قد غلبت عليهم؟!
إننا لا نطالبهم بالتخلي عن أموالهم وإيقافها كلها للدعوة الإسلامية، ولكننا نطالبهم بإخراج الحق الشرعي الواجب في دين الإسلام، ونذكِّرهم بقول الحق تبارك و- تعالى -: [المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً] (الكهف: 46).
وها هي ذي الجهود التنصيرية بين أيديكم جمعناها لكم من المقالات المنشورة في مجلة البيان منذ صدورها مرتبة حسب الأعداد. ونؤكد على أن الهدف ليس هو تضخيم العدو، ولكنها دعوة صادقة لجميع المسلمين -رجالاً ونساءاً -، أغنياء وفقراء -، نقول لهم: قد ولى عهد النوم والكسل، وجاء وقت العمل والتضحية. قال الله - تعالى -:(انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) [التوبة: 41].
http://www.albayan-magazine. المصدر:
================(22/370)
(22/371)
الأغاني الشعبية أحدث طرق التنصير في المغرب
شبكة نور الإسلام
اتجهت المنظمات التنصيرية إلى أسلوب جديد يتمثل في استغلال أشهر الأغاني المغربية الشعبية التي تغلب عليها المسحة الصوفية، وتسمي بـ"الصينية" وتحويلها إلى أغنية تنصيرية تدعو للتحول إلى للنصرانية ، وانتشرت على مواقع تنصيرية على شبكة الإنترنت أغان مغربية يتم تحوير كلماتها لتصبح ذات مضمون تنصيري.
وقامت جهات تنصيرية مجهولة بتحريف أغنيات شعبية لتحولها إلى أغاني تدعو إلى "اتباع المسيح" في بلد تنشط فيه الحركات التنصيرية وتستهدف بشكل خاص شبابه المتلهف لتقليد الحياة الغربية.
ورأى المنصرون أن هذا هو الأسلوب الأمثل للاقتراب من فئات واسعة من المواطنين. وتعتمد الجهات التنصيرية التي تتوجه لفئة الشباب والمراهقين بوجه عام على الموسيقى والأغاني.
ويلاحظ أن تلك الأغاني التنصيرية تركز على الجانب الوجداني في الارتباط الديني، ولا تحاول الاقتراب من الجانب النصراني اللاهوتي المعقد، من منطلق أن تمرير بعض التعاليم والمبادئ والقيم عبر قرصنة أغاني شعبية شهيرة، يصبح سهلاً إذا اعتمد على الحس العاطفي الموجود في الأغاني الشعبية التي يتم تحريفها. وتتحدث تقارير إعلامية عربية وغربية من وقت لآخر عن تزايد ظاهرة التنصير في بلاد المغرب العربي.
كانت صحيفة "لوموند" الفرنسية قد نشرت تقريراً كاملاً عن الظاهرة قبل أكثر من عام، قدر حينها عدد الذين تحولوا للنصرانية في تونس بحوالي 500 فرد ينتمون إلى 3 كنائس.
جاء في التقرير أن ما بين 4000 - 6000 قد تحولوا للنصرانية في منطقة القبائل الجزائرية عام 1992، وهو ما يعني أن عددهم الآن يقدر بعشرات الآلاف.
وتشير تقارير أخرى إلى أن عدد المنصرين الأوروبيين بالمغرب يقدر بـ800، وأن قرابة ألف مغربي قد ارتدوا عن الإسلام عام 2004، بحسب إحصائيات غير رسمية.
=================(22/372)
(22/373)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3)
فإنّ هناك نماذج من التحديات التي تتعرض لها المجتمعات المسلمة في هذا العصر، وهناك أفكارٌ تُطرح وتمثّل تلوثاً فكرياً خطير الأثر على مجتمعات المسلمين، ذلك أن الإنسان مجهز لاستقبال المؤثرات من حوله والإنفعال بها والاستجابة لها، وكمّا أنّه مستعد بحسب تكوينه الذاتي للرقي والارتفاع، فإنه مستعد كذلك لأن ينحطّ إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم، يقول الله تعالى فيمن حادوا عن طريق الهدى وتنكبوا الصراط المستقيم: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ). الأعراف 179.
ومن العوامل المؤثرة في ارتفاع أو هبوط الإنسان ما يتلقى من تربية، وما تشيع البيئة حوله من مؤثرات، وما يشتغل به، ويوجه عبره غرائزه.
ومن أخطر ما يواجهنا في هذا العصر هذه الملوثات الفكرية التي تشكّك في الدين، وتهز الثوابت، وتفسد الأخلاق، وتنشر الرذيلة عبر وسائل الاتصال في وقتنا الحاضر، والتي أُسئ استخدامها أيما إساءة.
وما الحديث عن قضية المرأة التي تثار هنا وهناك، والمطالبة بحريتها المزعومة ونفيها عن أسباب الصيانة إلا أحد الأبواب الواسعة لإشاعة الرذيلة في المجتمع.
المرأة أمام التحديات:
إنّ المرأة تمثّل ثغراً من ثغور الفضيلة؛ ففي حفظها حفظٌ للفضيلة، وصيانة للنشء، وفي إفسادها إفسادٌ وتضييعٌ للمجتمع.
وإن مما يؤسف له أن كثيراً من هذه الدعوات صار يحمل لواءها بعضُ أبناء المسلمين، وهذا نتيجة للغزو المبكر لبلاد المسلمين، والذي سعى منذ البداية إلى تخريج جيل بعيد عن الدين، قد أُشربَ الولاء للغرب وقيمه وأنماط حياته، وذلك عن طريق المدارس الأجنبية (التنصيرية) التي تفتح في بلاد المسلمين.
جاء في تقرير إحدى اللجان التابعة للمؤتمر التبشيري الذي عقد عام 1910م:
"إن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثيراً على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها".
وفي هذه المدارس تخرجت أجيال من أبناء المسلمين أو بالأحرى من متعلميهم ومثقفيهم متأثرة بضرب هذا الغزو المنظم، متطلعة إلى الأفق الغربي تستلهمه الرشد وترى فيه النموذج والمثل الأعلى، وتتشرب في نهم أنماط حياته سلوكاً وفكراً، بلا فحص، ولا بصيرة، ولا رأي سديد" .
وإذا أضفنا إلى ذلك البعثات التي كانت تتقاطر على الدول الأوروبية من أبناء المسلمين الذين يستكملون تعليمهم العالي، كانت هذه نهاية المطاف في الإجهاز على بقايا الإسلام في نفوسهم وطباع الشرق وعاداته، حيث لا يرجعون في الغالب إلا وقد تأثروا بوجهة الغرب وفلسفته، وبذلك أصبحوا رصيداً في حساب أعداء الإسلام بالسلوك والتربية والعادات الجديدة.
وقاسم أمين يُعدُّ واحداً من رواد تحرير المرأة في مصر، وهو نموذج لهذا الغزو، يقول د. عبدالستار فتح الله: "قاسم أمين كان نموذجاً لما يمكن للغزو الفكري وللتعليم الأجنبي أن يفعلاه في النفوس من خلع ولائها لأصلها، وفصل مشاعرها عن ظروف أمتها".
والتعليم كان أحد أخطر ميادين الغزو الفكري وأعمقها أثراً، إلا أن ميادين الغزو الفكري تعددت بأسلحته المتنوعة: "الفكرة والكلمة، والرأي والحيلة، والشبهات والنظريات، وخلابة المنطق، وبراعة العرض، وشدة الجدل، ولدادة الخصومة، وتحريف الكلام عن مواضعه" والقصة والصورة والقيم.
ولقد كان لهذا الغزو من الآثار السيئة في زعزعة المسلمين عن دينهم ما لم يستطعه الغزو العسكري على مدى قرون عديدة. وقال سبحانه: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).البقرة 217 .
ومعنى الفتنة في الآية على ما نقل القرطبي عن الجمهور: "فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا". "وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب" .
ولهذا عقّب تعالى على هذا بقاعدة تمثل قانوناً من قوانين الصراع بين الإسلام والجاهلية على مر العصور فقال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).البقرة217.
والقتال المذكور هنا عام يراد به ما وقع فعلاً من أساليب المشركين في محاولة صد المسلمين عن دينهم بالتعذيب والإيذاء أو التضييق عليهم في أرزاقهم أو تشريدهم في البلاد أو ضربهم بالشبهات وأنواع التشكيك، وما هو محقّق الوقوع في الغد القريب من الحرب المسلحة التي شنها المشركون على المسلمين بعد نزول الآيات، ثم ما يشابه ذلك ويشاكله إلى يوم القيامة .
فهذه التحديات التي يُجابه بها المسلمون في هذا العصر طرف من المعركة التي تركت آثار في بلاد المسلمين.
بعض آثار التحديات التي تواجه المرأة المسلمة:
وسأقف هنا مع بعض الآثار البارزة لتلك التحديات:
1- فقدان الهوية:
لكل أمة شخصيتها المميزة التي تتفرد بها عن غيرها، وهذه الشخصية تنبع من العقيدة التي تدين بها الأمة وما يتبع ذلك من خلق ومنهج وسلوك. وكل أمة واعية تحرص على هذا التفرد، وتنأى بنفسها عن أن تكون عرضة لفقد عناصر تميزها، وأن تصير تابعاً ذليلاً لغيرها.(22/374)
والغزو الفكري وعملية التغريب هدفها أن تستسلم الأمة المسلمة للثقافة والحضارة الغربية، فتذوب الشخصية المسلمة وتقبل الفناء والتلاشي في بوتقة أعدائها "بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، ولا تعتنق من الأفكار والمناهج إلا ما هو مستورد من الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتتنق هذه الديانة الجديد التغريبية" .
والناظر إلى حال المجتمعات المسلمة يجد وللأسف أن عملية التغريب والغزو الفكري الموجه إلى المجتمعات المسلمة نجحت إلى حد بعيد في محو ملامح تلك الشخصية والعبث بمقوماتها.
والناظر في حال المرأة المسلمة - خاصة - مربية الأجيال وحصن الفضيلة يروعه "فقدان المرأة المسلمة لهويتها الإسلامية وتمييز شخصيتها، وسحب قدر كبير من انتمائها لدينها" . حتى ضمر الفارق في الاهتمامات والممارسات في كثير من بلاد المسلمين بين المرأة المسلمة والمرأة الغربية . ولو أردنا أن نعقد مقارنة بين الملامح البارزة لشخصية المرأة المسلمة في ضوء الضوابط الشرعية، وبين ما آل إليه حال المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين لهالنا الفرق وبعد الشقة بين المثال والواقع.
فشعار المرأة المسلمة الظاهر هو الحجاب بالصفة التي حددها الشرع، يقول الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). النور 31.
وهذا أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاءاً محكماً على المواضع المكشوفة؛ وهي الرأس والوجه والعنق والنحر والصدر، خلافاً لما كان عليه نساء الجاهلية من سدل الخمار من ورائها وتكشف ما هو قدامها.
ونهاها تعالى - لكمال الاستتار - عن الضرب بالارجل حتى لا يصوّت ما عليها من حلى فتعلم زينتاه بذلك فيكون سبباً للفتنة بها. قال تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ). النور: 31. ونهاها الله تعالى عن التبرج فقال سبحانه: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).الأحزاب 33.
والتبرج يكون بعدة أمور:
• يكون التبرج بخلع الحجاب، وإظهار المرأة شيئاً من بدنها أمام الرجال الأجانب عنها.
• ويكون التبرج بأن تبدي المرأة شيئاً من زينتها المكتسبة.
• ويكون التبرج بتثنّى المرأة في مشيتها وتبخترها وترفّلها وتكسّرها أمام الرجال.
• ويكون التبرج بالخضوع بالقول والملاينة بالكلام.
• ويكون التبرج بالاختلاط بالرجال وملامسة أبدانهن أبدان الرجال، بالمصافحة والتزاحم في المراكب والممرات الضيقة ونحوها .
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخلوة والسفر بغير محرم: "لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" . "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم لها" .
فما نصيب المرأة المسلمة من هذه الضوابط التي أوجبها الله تعالى عليها؟!.
إن أكثر النساء المسلمات بعيدات كل البعد عما شرع الله تعالى وأوجب عليهن.
لقد صارت المرأة تخرج في كثير من بلاد المسلمين حاسرة الرأس، مكشوفة الصدر والساقين، متزينة متعطرة متبرجة، تخالط الرجال، وتزاحمهم في كل مكان وميدان.
بل قد بلغ ببعضهن النأي عن أوامر الله سبحانه والإمعان في تقليد المرأة الغربية الكافرة إلى حدّ العري على الشواطئ بلا حياء، والأعتى من ذلك والأمرُّ أن بعض النساء تفخر بهذه التبعية والانسلاخ عن أوامر الله وتعدّه تقدماً ومدنية، تقول إحداهن - وهي فتاة تركية - في بعض الموانئ الإنجليزية: "إننا نعيش اليوم مثل نساءكم الإنجليزيات، نلبس أحدث الأزياء الأوروبية، ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا".
ومن لم تصل إلى هذه الدرجة ولا يزال المكر بها في أول الطريق فقد تدخلت الموضة في عباءتها وحجابها حتى أفقدتها غايتها من الستر والحشمة "وأصبحت العباءة رمز لإبداء الزينة وإظهار الفتنة وإبراز المفاتن والمحاسن. فهناك تفنن في إدخال بعض النقوش والزخارف والتطريزات، وهناك شفافية في نوع القماش وظهور ألوان متعددة على جوانب العباءة وأطرافها، وهكذا أصبحت العباءة رمزاً للموضة والفتنة" . وهذا التدرج في الإخلال بشروط الحجاب طريق إلى نزع الحجاب كما حدث في كثير من بلاد المسلمين، حتى انسلخت المرأة عن دينها وفقدت هويتها الإسلامية.
سئل حذيفة رضي اله عنه: "في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟! قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا عن دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه).
إن الحجاب جاء ستراً وشعاراً للمرأة المسلمة، وهو أوضح مظاهر الطاعة والتسليم لأمر الله تعالى وأمر رسول صلى الله عليه وسلم .(22/375)
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار؛ أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل؛ ولقد أنزلت سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته، وابنته، وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها(1) المرحل فاعتجرت(2) به، تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول ا صلى الله عليه وسلم متعجرات كأن على رؤسهن من الغربان"(3).
وعنها رضي الله عنها قالت: "يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن أكثف مروطهن فأختمرن به" (4).
هذا حال المسلمات الأُوَل، أمّا اليوم فقد وصلت كثير من المسلمات إلى حال يرثى لها في فقد الصلة بدينها، فلم يعد هو الموجه لما تمارسه، بل إنها تتلقف كل ما يأتيها من الغرب الكافر، وكأنه ليس لها مرجع ترد إليه أمورها، وإليك هذه الصورة المزرية من التقليد الأعمى وفقدان الهوية:
نشرت مجلة الأسرة (عدد 81 ذو الحجة 1420هـ) ما يلي: "لفيف من البنات دخلن قاعات المحاضرات يوم 14 فبراير وقد ارتدت كل واحدة منهن ثوباً أحمر، وألصقت على وجهها رسوماً لقلوب حمراء بعد أن وضعت مساحيق التجميل الحمراء على وجهها، وبدأن يتبادلن الهدايا ذات اللون الأحمر مع القبلات الحارة، هذا ما حدث في أكثر من جامعة في بلد إسلامي، بل وفي جامعة إسلامية احتفالاً بعيد الحب، أو بالأحرى عيد القديس فالنتاين" .أ.هـ.
إن التقليد وفي هذه الأمور - فضلاً عن تحريمه - فهو صورة للتبعية الذليلة التي ينبغي أن يرغب عنها.
وملامح التبعية في أقطار كثيرة من أقطار المسلمين واضحة جليّة سواءاً في ملايين المسلمات الكاسيات العاريات ومحترفات اللهو والمجون وفي الألوف المؤلفة الذين يعبون عبئاً من فكر الحضارة المادية الملحدة ويستقون من مستنقعات ثقافتها وتصوراتها، ثم يقذفون بها أمتهم في كل ميدان (5).
"وإذا كانت الأمم تحرص على استقلالها الفكري والاجتماعي بدافع من العزة القومية أو الكرامة الوطنية أو غيرهما فإن المسألة عندنا تختلف تماماً، لأن استقلالنا في هذه الأمور هو قضية عقيدة ودين، ومسألة وجود ومصير، ومسئولية رسالة ودعوة، وضرورة بعث وإنقاذ لأنفسنا وللعالمين، ثم هي مهمة قيادة وهداية، وتمكين لخط الوعي المشرق، وتمييز له عن المناهج والنماذج البشرية التي سيطرت على الأرض وملأتها ضلالاً وإلحاداً وعناداً.
وهذا كله يأبى علينا التبعية كل الإباء، بل إن التبعية هنا تصبح خيانة لرسالتنا وجناية على أمتنا، وشروداً بالقافلة عن طريق ربها الواحد القهار" (6).
2- الفراغ الفكري والروحي والإغراق في التوافه:
لقد اعتنى الإسلام بما يقود النفوس إلى الخير ويعمل على تزكيتها من العلم النافع والأدب الحسن، يقول الشيخ السعدي في تفسير قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً).] التحريم: 6 :"وقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتعليمهم وإجبارهم على أمر على أمر الله" (7).
وجعل صلى الله عليه وسلم العلم فريضة على كل مسلم(8). وأرشد إلى فضيلة تعليم المرأة: "أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم اعتقها وتزوجها فله أجران"(9).
وخصّ النساء بالحديث "جاءت امرأة إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، فقا صلى الله عليه وسلم : اجتمعن يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا. فاجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله" (10).
وفي هذا الجو حرصت النساء المسلمات على التفقه في الدين، فعن أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعن الحياء من التفقه في الدين" (11).
ولا شك أن تربية المرأة هو مجال إصلاح الأسرة وإنشاء جيل صالح، ولذا حرص الإسلام على تعليمها وتأديبها لما لها من دور عظيم في بناء الأسرة، إلا أن المرأة في ظل هذه الدعوات الفاسدة والإعلام الموجه للمرأة أبعدت كثيراً من أن تكون محضناً صالحاً للأجيال، حيث مارست هذه الوسائل تهميشاً واضحاً لفكر المرأة وتعاملت معها على أنها جسد وحسب، سيل من البرامج الترفيهية التافهة وصفحات تعج بالغث من الموضوعات التي تحصر اهتمامات المرأة بالشكل والجمال وكيفية جذب الأنظار إليها(12).
"وهذا كله جعل المرأة نفسها تعيش خواء فكرياً وفراغاً روحياً، وخلجاً عجيباً بين الغايات والوسائل" (13). "ففي الوقت الذي يتبلور المفهوم الإسلامي المعتدل للجمال على أنه وسيلة تأخذ من المرأة قدراً معيناً تحقق به أنوثتها، يزرع الإعلام في حسّ المرأة أن الجمال المظهري غاية تستحق أن تبدد المرأة جهدها ووقتها ومالها لأجله"(14).(22/376)
وفي حين نجد النماذج الحرية بالأسوة من أزواج رسول ا صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين كان لهن قصب السبق في العلم والعمل، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عالمة عاملة.
عن أبي موسى قال: "ما أشكل علينا أصحاب صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما"(15).
وعن عروة قال: "لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنّة، ولا بشِعر، ولا بقضاء، ولا طبّ منها" (16).
وتقول عائشة عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: "ولم أرَ امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي يتصدق به ويتقرب إلى الله عز وجل" (17).
إلا أن المرأة في وقتنا الحاضر قُدم لها نموذجٌ للأسوة من الفارغين والفارغات، بل في أحيان كثيرة من الساقطين والساقطات من أعلام الفن ورائدات السفور.
ولذا صار من المألوف في هذا الوقت أن تجد المرأة والفتاة - خاصة - تعرف من أسماء ماركات الأزياء العالمية وأسماء الفنانين والفنانات، بل تفاصيل حياتهم الخاصة الشيء الكثير، لكن لو سئلت عن بعض أحكام الطهارة والصلاة لوجدت جهلاً فاضحاً، فضلاً عن أن تعرف سير الصحابيات ومعالم نهجهن، ولا يقتصر هذا الفراغ والخواء على الفتيات بل يشمل الشباب من الجنسين.
وفي بحث قامت به مجلة الأسرة (العدد 83، صفر 1421هـ) عن طريق استبانة وزعت على (1000) شاب وفتاة من طلاب الجامعات في الرياض، والدمام، وجدة، حول ما هو معلوم بالضرورة من الدين والجغرافيا والتاريخ والأدب والفن والرياضة، كانت أعلى نسبة في معدل الإجابات الصحيحة هي:للفن 88%، ثم الرياضة 87%.
وفي أدنى القائمة كانت الثقافة الإسلامية، فالتاريخ، بنسبة 58% للثقافة الإسلامية، و57% للتاريخ!.
وأشارت المجلة في العدد نفسه إلى استطلاع قامت به صحيفة الرأي العام الكويتية على (100) طالب وطالبة من كليات مختلفة عُرضت عليهم قائمة تضم 32 اسماً لشخصيات وأحداث عامة، كانت الشخصية الوحيدة التي عرفها الجميع ولم يخطئ فيها أحد مطربةٌ إماراتية تُدعى (أحلام).
إنّ هذا الخواء وتفاهة الاهتمامات للأسرة دورٌ فيه، وهو يدل على مدى قصور المرأة علميا ودينياً عن الوفاء بتوجيه الأبناء إلى ما يدلهم على الخير ويرفعهم فكرياً وروحياً، حتى يكاد ينطبق على كثير من أبناء المسلمين اليوم قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ). ]الروم:7 [.
ولا شك أن كثيراً من انحرافات ومشكلات الشباب والفتيات تتصل بهذا الجانب وتنبع منه، فافتقاد العلم النافع، والموعظة التي توقظ القلوب والتوجيه إلى النماذج الحرية بالاقتداء يفرغ معه القلب عن ما يعين على الخير.
3- الجرأة على الدين:
أصل الدين يقوم على تعظيم الله وتعظيم رسول صلى الله عليه وسلم ، والتسليم لحكم الله وحكم رسوله، يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم). ]الأحزاب: 36[.
يقول ابن كثير: "فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفيه ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)" (18). ] النساء: 65 [.
... يُتبَع إن شاء الله تعالى،،،،،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرط: كساء.
(2) الاعتجار: أن يلف الكساء على الرأس ويرد طرفه على الوجه.
(3) رواه أرو داود.
(4) رواد أبو داود.
(5) انظر الغزو الفكري ص272.
(6) المرجع السابق ص270 باختصار وتيسير.
(7) تفسير السعدي ص809.
(8) في حديث رواه ابن ماجه.
(9) متفق عليه.
(10) رواه البخاري.
(11) رواه البخاري.
(12) انظر البيان ع149 ص79.
(13) المرجع السابق.
(14) المرجع السابق.
(15) الترمذي عن سير أعلام النبلاء (2/179).
(16) أبو نعيم في الحلية. عن سير أعلام النبلاء (2/183).
(17) رواه مسلم. ش
(18) تفسر ابن كثير (6/423).
=================(22/377)
(22/378)
التعدي على حرمات الدين
إنّ مما ابتلى به كثيرٌ من الناس في هذا العصر اقتحام كثير منهم لسياج الدين وحرماته، وتعدّيهم على قاعدة التسليم لكتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم .
فالسمة البارزة لكثير من الكتابات والأقوال التي تناولت موضوع المرأة مثلاً؛ السمة البارزة لها: الجرأة على النصوص، والتطاول على أحكام الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، والاستخفاف بالدين القيّم، هذه حال كثير ممن يسمون المتنورين (المستغربين) الذين تتلمذوا على مدارس الفكر الغربي وعبوا من مناهجه وأصوله.
ولو لا الحاجة من جهة لمعرفة الخطر الذي يتهدد المجتمعات المسلمة - وفئة الناشئة خاصة - من مثل هذا المنهج، ثم من جهة أخرى تلمس ما أحدثه التغريب في أبناء المسلمين لكنت أربأ عن نقل أقوالهم لما فيها من جرأة صارخة على الدين، واستهانة برموزه.
فهذا باحث مغربي يُدعى (عبد الصمد الديميالي) يقول في مؤتمر نسوي عقد في اليمن وأشارت لما ورد في هذا المؤتمر مجلة الأسرة (العدد 81 ذو الحجة 1420هـ): " إن الدين ظلمَ المرأة حينما لم يسوّ صراحة بينها وبين الرجل ". ويقول وبكل صفاقة ما نصه: " إذا لم تكن النصوص القرآنية صريحة وواضحة في المساواة بين الرجل والمرأة فلنلق بها في مزبلة الأيدلوجية ".
واختتم ورقته التي أثارت غضب المسلمين في اليمن بالدعوة صراحة إلى الحرية الجنسية بعيداً عن نظام الأسرة التي وصفها بأنها نظام برجوازي.أ.هـ.
وتتضح علة هذا الرجل عندما ننظر إلى الثقافة التي استقاها حيث يقول عن نفسه: " إنني شخصياً وحينما كنت في الثالثة والعشرين من عمري تأثرت بكتاب (الحرية الجنسية) لريشين الذي يهاجم نظام الأسرة ".أ.هـ.
وطالبت نوال السعداوي في مؤتمر صحفي عقدته ودعت إليه الوكالات الغربية العاملة في مصر وحدها مطلع هذا العام طالبت: " بتشريعات نسوية علمانية لا يكون فيها أي سلطان أو حق على حد تعبيرها " (1).
وسبحان الله ما أحلمه على خلقه!.
وينقل عبد السلام بسيوني في كتابه (ماذا يريدون من المرأة)، ينقل عن إحداهن مناقشتها ربها - عز وجل - وردّ أحكامه، ودفعها لأراء الفقهاء الذين عمقوا - كما تقول - دونية المرأة، منطلقين من تركيبها البيولوجي، وينقل عنها قولها: " لا أفهم - كامرأة - علاقة الحيض والإنجاب أو عدمه بتخصيص، أو عدم تخصيص جنس دون آخر بالرسالات والتنبؤات، وقيادة الحروب، ولا سبب نقصان الثواب ".(2).
وللمزيد من هذه الأقوال الفجة يُراجع ما نقله البسيوني عن أمثال هؤلاء، وكذلك ما نقله المقدم في (عودة الحجاب) وغيرهما.
إنّ هؤلاء المتطاولين الناقمين على الدين وأهله هم ثمرة من ثمار التغريب، وحملات التشكيك والهجوم على الدين وأحكامه، وهذه السموم والأقوال التي يبثونها في الصحف والندوات والمنابر الإعلامية المختلفة لها أثرها السيئ الظاهر في المجتمعات الإسلامية.
فها نرى أكثرهم يسلّم بكلام الطبيب والفيزيائي وغيرهم، أمّا أحكام الشرع وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم فتناقش وترد ويتطاول عليها.
4- ضعف عقيدة الولاء والبراء
إنّ الحب في الله والبغض في الله هو أوثق عرى الإيمان كما بين الرسو صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حيث قال: " يا أبا ذر، أيّ عرى الإيمان أوثق؟! قال: الله ورسوله أعلم: قال: الموالاة في الله والحب في الله والبغض في الله " (3).
إنّ هذه الشعيرة التي لها هذا القدر العظيم في ميزان الإيمان ذابت ملامحها في حس كثير من المسلمين في هذا الوقت، وسأعرض هنا لمظاهر بارزة من ذلك عبر النقاط التالية:
أ- هذا التمجيد للنموذج الغربي وعرضه عرضاً مغرياً عبر وسائل الإعلام المختلفة قربه إلى النفوس وكسر حاجز الشعور بفوارق العقيدة وعداوة الكفار.
تقول د. زينت حسن أستاذة الاجتماع بكلية البنات بجامعة عين شمس وهي تتحدث عن أثر السينما في مصر خلال فترة الاحتلال الإنجليزي:
" من ناحية فقد سعت إلى كسر حاجز الرفض الشعبي ضد الاحتلال الإنجليزي وضد الدول ذات الأطماع الاستعمارية الأخرى مثل فرنسا وأمريكا، وبناء علاقة أخرى تقوم على أساس القبول والإعجاب، وهي علاقة كانت تجد رفضاً من بعض المشتغلين بالسياسة باعتبار أن هذا القبول يعد نوعاً من التطبيع مع المستعمر، وبذلك أفادت السينما هذه الدول الاستعمارية، فيكفي أن يحب الجمهور ممثلة إنجليزية أو ممثلاً فرنسياً لتنكسر حدة العداء المستحكم بينه وبين هذه الدول "(4).
هذه وسيلة واحدة أثرت هذا التأثير في فترة احتلال، فما بالك بأنواع الوسائل المبثوثة في هذا الوقت؟!.
ب- من آثار هذا التمجيد والفرض للنموذج الغربي مع عقدة النقص التي يستشعرها المغلوب دائماً دفعاً للتقليد والمشابهة، فالمغلوب "مولع أبداً بالاقتداء بالغالب" كما يقول ابن خلدون.
ومعلوم أن المشابهة تورث التقارب والمودة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ( المشاركة في الهدى توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً بعد المكان والزمان)(5). ويقول أيضاً: ( المشابهة في الظاهر تورث نوع ومودة، ومحبة، وموالاة في الباطن ) (6).(22/379)
ت- ربط قضية المرأة بالمرأة، وهذا فيما يمكن أن يسمى قومية نسائية لا تفرق بين يهودية ولا نصرانية ولا وثنية، فلا عجب أن نجد امرأة مسلمة ممن تولين إدارة تحرير مجلة سيدتي في فترة مضت تجري مقابلة مع الهندوسية أنديراً غاندي في إجلال وإعظام، وتذكر أنها سعت لهذه المقابلة العظيمة شهوراً حتى قابلتها، وتقول هذه الدكتورة المسلمة: " بدأ اختيار مدخل الحديث عن السيدة إنديراً غاندي أمراً محيراً وليس سهلاً "(7).
وكل هذا الإعظام لهندوسية تعبد البقر وقتلت آلافاً مؤلفة من المسلمين!.
لكن ليست هذه قضيتهم! فجُل ما يعنيهم أنها رئيسة وزراء (امرأة)!.
5- الانحلال الأخلاقي
يقول الله تعالى: (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).
العفة وطهارة المجتمع يمزقهما الاختلاط والسفور، وهذا أمرٌ ظاهر في حياة المجتمعات، فمنهج الله تعالى سبيل حفظ المجتمع من الانحلال والفساد الأخلاقي، ومنهج دعاة التحرير هدم الأخلاق والأعراض.
يقول محمد فريد وجدي : " إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، أصبحت المحاكم غاصّة بقضايا الأعراض، وهربت الشابات من دور أهلهن " (8).
ولو نظرنا إلى حال المجتمعات الغربية - التي هي النموذج الأعلى للمستغربين، والتي يسعون سعياً حثيثاً إلى أن تحذو المرأة المسلمة حذو نسائها - لوجدنا فساداً أخلاقياً مريعاً، وهذه نظرة عجلى على بعض الشواهد من واقع تلك المجتمعات، وعبر بعض الإحصائيات والدراسات المنشورة عن أحوال تلك المجتمعات، والصادرة عن مؤسسات عالمية أو جهات محلية في تلك البلاد، وهي بهذا تكسب قيمة خاصة، لأنها تنبع من معاناة هؤلاء القوم أنفسهم، وليست انطباعات لدى من يخالفهم الاعتقاد والمنهج.
** هناك دراسة علمية أجراها باحثان أمريكيان حول المجتمع الأمريكي وشملت الدراسة عينة كبيرة من المواطنين الأمريكيين الذين شاركوا بآرائهم في القضايا المطروحة للدراسة ونشر الكتاب عام 1991م تحت عنوان: (يوم أن أعترفت أمريكا بالحقيقة).
وردت في هذا الكتاب حقائق خطيرة عن واقع هذا المجتمع، ومن ذلك مشكلة الاغتصاب المنتشرة هناك، فقد ذكر الكاتبان ما نصه: "20% من النساء اللاتي تحدثنا معهن أخبرتنا بأنهن قد اغتصبن في لقاء مع أحد أصدقائهن!، وعندما نتصور هذا الرقم على المستوى الوطني فإنّ هذه المسألة تعني ما يقارب من تسعة عشر مليونا من النساء في أنحاء الولايات المتحدة كن ضحايا الاغتصاب ".
ويشير الكاتبان إلى أن الإحصاء الرسمي لا يعبر عن حجم المشكلة، لأن 3% من ضحايا الاغتصاب يبلغن الشرطة ويسجل الحادث رسمياً وفق ما ورد في دراسة قامت بها إحدى الجامعات الأمريكية.
وفي إيطاليا ذكر تقرير حديث صدر هناك، وأشارت إليه مجلة الأسرة في (العدد 7، محرم 1420هـ) أن:" 40% من نساء إيطاليا من أعمار (14) إلى (59) من ضحايا الاغتصاب." .
وتوصل التقرير إلى: إن 14 مليون امرأة في إيطاليا يخشين السير بغير رفقة في الشوارع المظلمة، أو في الأماكن المهجورة، في أي وقت من أوقات النهار، وأن عمليات الاغتصاب تجري في المنازل وأماكن العمل بلا تمييز، وأن كثير من عمليات الاغتصاب تمر دون الإبلاغ عنها.
وفي جنوب أفريقيا ذكرت صحافية جنوب أفريقية أنه في كل نصف دقيقة تغتصب امرأة في ذلك البلد.
وتقدر الجهات الأمنية عدد حالات الاغتصاب التي يتم البلاغ عنها بأنه لا يتجاوز (2,8%) من إجمالي حالات الاغتصاب التي تحدث بالفعل في جنوب أفريقيا مما يرفع العدد الإجمالي للنساء المغتصبات كل سنة إلى مليون امرأة. وقد نشرت ذلك مجلة الأسرة (العدد 73، ربيع الآخر 1420هـ).
أما عن المضايقات غير الأخلاقية:
فقد ذكرت التقارير إن: " 42% من النساء الأمريكيات يتعرضن لتحرشات غير أخلاقية في أماكن العمل والدراسة، والمنتديات، وفي الشوارع.
أما في بريطانيا فالنسبة (4,7%) " .
وفي ألمانيا اضطرت 6% من النساء الألمانيات سنة 1990م إلى هجر وظائفهن بسبب تطاول زملائهن عليهن، والتحرش بهن جنسياً. نشر ذلك في مجلة الأسرة (العدد 80، ذو القعدة 1420هـ).
ونشرت جريدة الرياض في عدد الجمعة 29 صفر 1421هـ خبراً حول تفاقم مشكلة التحرش بالنساء في اليابان والذي بلغ درجة القتل، وأن القضية أثيرت بقوة بعد مقتل فتاتين من قبل صديقين سابقين أصرّا على ملاحقة الفتاتين. وقالت: هيرومي شيراهاما خبيرة القضايا القانونية في الحزب الديمقراطي: " إن حوادث التحرش تكاثرت جداً في السنوات الأخيرة، وبات من الضروري وضع قانون وطني لمكافحتها ". أ.هـ.
وجاء في الخبر أن التحرش في القطارات متفاقم إلى درجة أن المسئولين في شركة القطارات الأرضية يفكرون بتخصيص عربات خاصة بالنساء.أ.هـ.
وسبحان الله، صيانة المرأة وإبعادها عن أن تكون موطن فتنة أمرٌ شرعه الله العالم بطبيعة النفوس، وها هو الواقع يضطرهم إلى إبعادها عن مخالطة الرجال. هذا حال المجتمعات المتحللة. والعاقل يبدأ من حيث انتهى الآخرون.(22/380)
6- انقلاب قائمة الأولويات عند المرأة
إنّ هذه الدعوات التي لا تقيم وزناً لدور المرأة العظيم في المنزل - أمّا وزوجة ومربية أجيال - أثّرت في حس المرأة، وقلصت من اهتمامها بذلك ولم تعد رسالتها الأولى لها الأولوية في حياتها، وصارت تبحث عن نفسها - كما يقولون - خارج المنزل وتلقي بكثير من مسئوليات المنزل على عاملة مستقدمة غير مؤهلة لهذه المهمة، بل قد تكون سبباً لإفساد الأسرة والأولاد.
والتهاون بهذا الدور - دور المرأة داخل المنزل - يمثّل أثراً واضحاً لهذه الدعوات التي صورت البيت على أنه سجن ظلمت المرأة بقرارها وبقائها فيه، وأنّه تعطيل لنفعها، فهي عضو غير منتج ، وغاب عن شعور الكثيرات عظم هذا الدور في حياة المجتمعات، ثم عظم الأجر الذي تناله المرأة بالإحسان في هذا الجانب.
أتت أسماء بنت يزيد رضي اله عنها صلى الله عليه وسلم فقالت: " إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين، فهن يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي: إن الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك، واتبعناك، ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا أولادهم، أفنشاركهم الأجر يا رسول الله؟. فألتفت رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: " هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالاً عن دينها؟! فقالوا: بلى يا رسول الله. فقا صلى الله عليه وسلم : " انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال "(9).
هذا ما تيسّرت الإشارة إليه من آثار هذه الهجمة الشرسة على المرأة المسلمة والمجتمع المسلم في هذا الزمن.
وهذا الحديث محاولة لتلمس جوانب الداء، لندرك الأثر السيئ لمثل هذه الدعوات، فنسعى للنأي بمجتمعنا عن تلك المنزلقات.
والله أسأل أن يحفظ علينا - في بلدنا هذا خاصة وفي بلاد المسلمين عامة - ديننا وأمتنا وعفافنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تمّ بحمد الله تعالى،،،،،،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــ
(1) البيام العدد 149 ص60.
(2) ماذا يريدون ص21، والقاتلة هي سلوى حماش.
(3) حسن بشوهده كما نقل المقدم في عودة الحجاب من محقق شرح السنة للبغوي.
(4) الأسرة عدد 72 ربيع الأول 1420هـ.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم ص220.
(6) المرجع السابق ص221.
(7) عن المرأة المسلمة أما التحديات ص322-323.
(8) عن المرأة المسلمة أمام التحديات ص294.
(9) رواه أحمد وصحح الألباني إسناده
- - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب السادس ... 2
التنصير ... 2(22/381)
(22/382)
كيف نواجه هجمة التنصير ؟!! ... 2(22/383)
(22/384)
أمريكا : لن نمنع التبشير في العراق ... 5(22/385)
(22/386)
الغزو التنصيري لأرض العراق .. لقاء مع منصر أمريكي ... 6(22/387)
(22/388)
الجزائر تواجه محاولات تنصير البربر بترجمة القرآن إلى الأمازي ... 9(22/389)
(22/390)
التنصير والمنصرون إحصائيات عالمية ... 11(22/391)
(22/392)
التنصير والاستشراق ... 12(22/393)
(22/394)
التنصير في موريتانيا حقائق وأرقام ... 13(22/395)
(22/396)
التنصير في العصر الحديث ... 18(22/397)
(22/398)
التنصير في العالم العربي ... 20(22/399)
(22/400)
التنصير .. أهم المؤتمرات والمراكز التنصيرية ... 27(22/401)
(22/402)
التبشير و الصراع بين الإسلام و الغرب ... 30(22/403)
(22/404)
التنصير: تعريفه وأساليبه وأثره (2/2) ... 43(22/405)
(22/406)
اعتراض المسلمين على التنصير أثار غضب نصارى نيجيريا ... 44(22/407)
(22/408)
المنظمات الاجنبية وسيناريوهات التنصير في دارفور ... 45(22/409)
(22/410)
أصابع التنصير الخفية تقف وراء التدخل الدولي في دارفور ... 49(22/411)
(22/412)
العولمة من خلال رؤية إسلامية ... 54(22/413)
(22/414)
تمويل التنصير الفاتيكاني للمسلمين ... 73(22/415)
(22/416)
الدعم الغربي لمخططات التنصير حول العالم ... 78(22/417)
(22/418)
مسلمو السودان يواجهون التنصير ... 80(22/419)
(22/420)
«الحرية الدينية» . . . رأس الحربة الجديدة ... 84(22/421)
(22/422)
التنصير في تركيا بين الوهم والحقيقة ... 93(22/423)
(22/424)
دارفور..الغرب يدخل من بوابة التنصير قبل السلاح! ... 98(22/425)
(22/426)
مسلمو أوغندا بين التهميش والمد التنصيري ... 100(22/427)
(22/428)
التنصير في غرب إفريقيا.. إتحاد السيف والصليب!! ... 104(22/429)
(22/430)
الغزو الإنجيلي الأمريكي في العالم العربي وأفريقيا ... 109(22/431)
(22/432)
صفحات من تاريخ التنصير في شرق أفريقيا ... 116(22/433)
(22/434)
لماذ تهتم اسرائيل بأرتيريا؟ ... 119(22/435)
(22/436)
أساليب جديدة للتنصير في مصر ... 123(22/437)
(22/438)
الإنجيليون : الشق الديني من المشروع الأمريكي في المنطقة ... 126(22/439)
(22/440)
البوليساريو.. جذور المشكلة وآفاق الحل ... 131(22/441)
(22/442)
حوار الغافلين والجادين المهملين مع النصارى ... 134(22/443)
(22/444)
التنصير والاستعمار : وجهان لعملة واحدة ... 139(22/445)
(22/446)
صابع التنصير "الخفية" تقف وراء التدخل الدولي في دارفور ... 142(22/447)
(22/448)
أساليب المنصرين ... 147(22/449)
(22/450)
هجرة العقول الافريقية للغرب.. الآثار والحلول ... 150(22/451)
(22/452)
مناخ لمن سبق ... 154(22/453)
(22/454)
الصراعات في أفريقيا(1) ... 155(22/455)
(22/456)
أفريقيا في مواجهة المد التنصيري ... 158(22/457)
(22/458)
الرياض تتهم المدافعين عن حقوق الانسان بـ«التنصير» ... 162(22/459)
(22/460)
التنصير في العالم العربي ... 163(22/461)
(22/462)
جهود التنصير في اليمن.. ماذا حققت؟ ... 165(22/463)
(22/464)
في أفغانستان : المتهمون بالتنصير يواجهون الإعدام ... 171(22/465)
(22/466)
التنصير في زنجبار ... 172(22/467)
(22/468)
تزايد حملات التنصير في الجزائر ... 173(22/469)
(22/470)
النزاعات في أفريقيا (ساحل العاج نموذجا) (2) ... 174(22/471)
(22/472)
الصحوة الإسلامية وعقباتها: التنصير وسط أنماط البشر ... 179(22/473)
(22/474)
أناخ ركابه ... 184(22/475)
(22/476)
قصة احتيال بطلها " نجم " التنصير العالمي روبرتسون وصفقات مشبوهة مع دكتاتور لايبيريا ! ... 186(22/477)
(22/478)
حكم زيارة بابا الفاتكان للمسجد الأموي ... 189(22/479)
(22/480)
فتوى الشيخ ابن عثيمين حول الدش ... 191(22/481)
(22/482)
من المسؤول عن النشاط التنصيري في مصر؟ ... 192(22/483)
(22/484)
التنصير الحر قبل التبادل الحر ... 197(22/485)
(22/486)
التنصير عبر الإنترنت ... 199(22/487)
(22/488)
بابا الفاتيكان الرحيل والأثر ... 205(22/489)
(22/490)
من الحروب الصليبية إلى التنصير ... 210(22/491)
(22/492)
السياحة : آثارٌ وأخطارٌ ... 218(22/493)
(22/494)
موت بابا الفاتيكان يكشفُ انحرافاتٍ في عقيدةِ الأمةِ ... 228(22/495)
(22/496)
خطر التنصير في تركيا ... 240(22/497)
(22/498)
الحوار الإسلامي المسيحي...نظرة شرعية ... 243(22/499)
(22/500)
قراءة كتب أهل الكتاب...نظرة شرعية ... 246(23/1)
(23/2)
حكم عمل المرأة في مؤسسات أجنبية ... 247(23/3)
(23/4)
أقسام المؤلفة قلوبهم، والفرق بين التأليف والتنصير ... 248(23/5)
(23/6)
لا يحل التعاون مع المنصرين ... 249(23/7)
(23/8)
خدمة الدعوة عن طريق مهنة الطب ... 250(23/9)
(23/10)
…التنصير.. معناه..خطره.. وأهدافه ... 251(23/11)
(23/12)
مواجهة التنصير الذي تمارسه الجماعات التنصيرية ... 252(23/13)
(23/14)
من أعمال الكفر: مظاهرة المشركين على المسلمين ... 254(23/15)
(23/16)
بعد إسلامه المنصر العالمي السابق أشوك كولن يانق يكشف: ... 256(23/17)
(23/18)
أزمة عقدية تعيشها النصرانية في أفريقيا ... 266(23/19)
(23/20)
أعياد الميلاد .. وصيحة نذير من خطر التنصير ... 271(23/21)
(23/22)
التنصير : تاريخه وسائله أهدافه ... 276(23/23)
(23/24)
صفحات من التنصير في كردستان العراق ... 280(23/25)
(23/26)
النصارى يحاولون احتلال تركيا! ... 298(23/27)
(23/28)
الصومال بين مطرقة التنصير وسندان الفقر ... 301(23/29)
(23/30)
التنصير في موريتانيا ... 308(23/31)
(23/32)
تسخير موجات الأثير لخدمة أغراض التنصير ... 311(23/33)
(23/34)
تسخير موجات الأثير لخدمة أغراض التنصير ... 314(23/35)
(23/36)
خطوات عملية لمواجهة التنصير ... 318(23/37)
(23/38)
زوجة القس واحتلال العراق ... 324(23/39)
(23/40)
ما وراء مظاهرات أقباط مصر ... 326(23/41)
(23/42)
العمل للدين مسؤولية الجميع ... 330(23/43)
(23/44)
بعد هلاك بطرس السابع هل يتبدد حلم الإسكندرية؟ ... 332(23/45)
(23/46)
التنصير بالتبنّي أحدث صور استثمار الفقر!! ... 334(23/47)
(23/48)
المد التنصيري بالمغرب والصورة الموازية لتحجيم العمل الإسلامي ... 340(23/49)
(23/50)
جهود تنصير جزيرة العرب ... 345(23/51)
(23/52)
الأهداف "الخفية" للحرب الأمريكية على الإرهاب: ... 356
تصفية العمل الإغاثي الإسلامي لإفساح المجال إمام التنصير الغربي للمسلمين ... 356(23/53)
(23/54)
الشيخ أحمد ديدات: الدعوة الإسلامية في مواجهة التنصير ... 361(23/55)
(23/56)
الخطة للقضاء على الإسلام ... 366(23/57)
(23/58)
التنصير يغزو العالم الإسلامي ... 369(23/59)
(23/60)
كيف نواجه حملات تنصير المسلمين؟ ... 385(23/61)
(23/62)
كيف نواجه حملات تنصير المسلمين؟ ... 389(23/63)
(23/64)
التبشير والصراع بين الإسلام والغرب ... 392(23/65)
(23/66)
التبشير في بلاد المسلمين ... 405(23/67)
(23/68)
قوات الاحتلال الإثيوبية تشن هجوما على مسجد بمقديشيو أثناء الصلاة ... 413(23/69)
(23/70)
نشاط تنصيري أخطبوطي كبير في بريطانيا والعالم الإسلامي ... 414(23/71)
(23/72)
مواجهة حملات التنصير بـ"استراتيجية" موحدة للدعوة ... 418(23/73)
(23/74)
مقارنة بين نشاط التنصير والدعوة الإسلامية ... 423(23/75)
(23/76)
مرسوم بتنصير المسلمين! ... 425(23/77)
(23/78)
ماذا قدمت لدين الله؟ ... 431(23/79)
(23/80)
فتوى مهمة في التحذير من وسائل التنصير ... 436(23/81)
(23/82)
خطة قديمة وحقد قديم ... 441(23/83)
(23/84)
700 خطة لتنصير العالم ... 447(23/85)
(23/86)
الصومال تتعرض لحملة تنصيرية مسعورة ... 458(23/87)
(23/88)
تنصير في دولة الخلافة ! ... 460(23/89)
(23/90)
دارفور .. صرخة نذير من خطر التنصير ... 463(23/91)
(23/92)
التنصير يكتسح منطقة القبائل في الجزائر ... 468(23/93)
(23/94)
تاريخ الوجود التنصيري في إفريقيا ... 469(23/95)
(23/96)
التنصير في المغرب على أشده. ... 485(23/97)
(23/98)
التنصير في العالم العربي خطط مستمرة ... 486(23/99)
(23/100)
التنصير بالمراسلة أسفٌ مزدوجٌ ... 493(23/101)
(23/102)
التنصير في آسيا الوسطى ... 497(23/103)
(23/104)
التنصير هل أصاب الهدف ... 503(23/105)
(23/106)
الأغاني الشعبية أحدث طرق التنصير في المغرب ... 505(23/107)
(23/108)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3) ... 506(23/109)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (7) الاستشراق
الباب السابع
الاستشراق
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب السابع
الاستشراق(24/1)
(24/2)
الإسلام وتضليل الاستشراق
مبارك بقنه
عندما يشرع الشخص لدراسة الإسلام عن طريق الكتب المكتوبة باللغات الغربية - والتي كُتبت بأقلام غير إسلامية - يدرك بوضوح التحريفات المتأصلة والمنتشرة تقريباً في كل هذه المؤلفات، على الأقل منذ العصور الوسطى، فقد أُفتري على الإسلام كثيراً، وأُسيء فهمه بشدة في الغرب، ولا يبدو أن هناك تغيراً كبيراً في السنوات الأخيرة من القرن العشرين بالرغم من الانبهار الذي يعيشه كثير من المسلمين بهذا التقدم.
الدوافع المشكوك فيها والجهل العام:
وعن جهل الغرب بالإسلام، ودوافع المستشرقين؛ كتب الصحفي والمؤلف السويسري روجردو باسكور ملخصاً رائعاً وهو: " أن الغرب - سواء الكنيسة، أو مناهضين الكنيسة - لم يعرفوا مطلقاً الإسلام الحقيقي، فمنذ رأوا الإسلام يظهر على المسرح العالمي لم يتوقف النصارى عن التشنيع والافتراء على الإسلام لإيجاد مبرراً لشن الحرب عليه، وقد خُضع الإسلام لتحريفات بشعة غريبة والتي لا زال آثارها مستقراً في العقل الغربي، ويوجد اليوم كثير من الغربيين والذي يتلخص عندهم الإسلام في ثلاثة أفكار: التعصب، والجبرية، وتعدد الزوجات، بالطبع الثقافة العامة الكبيرة لا زالت أفكارهم عن الإسلام أقل تشوهاً، ولا يزال يوجد هناك قلة نادرة الذين يعرفون أن كلمة الإسلام لا تعني سوى " الخضوع لله "، وأحد علامات الجهل الحقيقية في تصور معظم الأوروبيين أن " الله" يرجع معناه إلى الألوهية عند المسلمين، وليس الإله عند النصارى أو اليهود، وكلهم يتفاجئون عندما يسمعون شرحنا لهم أن " الله " يعني "God"؛ بل حتى نصارى العرب لا يعرفون الله إلا بهذا الاسم.
لقد خُضع الإسلام للدراسة من قبل المستشرقين الغربيين خلال القرنيين الماضيين مما جعلهم ينشرون كتباً علمية كثيرة عن الإسلام، وبالرغم من قيمة أعمالهم، خصوصاً في الحقول التاريخية والفلسفية، فقد كانت مساهمتهم قليلة لفهم أفضل للدين الإسلامي في الوسط النصراني، أو ما بعد الوسط النصراني، ببساطة فقد فشلوا في إثارة اهتمام جاد خارج دوائرهم الأكاديمية المتخصصة، وأيضاً يُدفع الشخص للتسليم بأن دراسات المستشرقين في الغرب لم تُلهم غالباً بالروح الحيادية العلمية المحضة، كذلك من الصعب أن ننكر أن بعض الإسلاميين والعرب قد عملوا بنية بريئة للاستخفاف بالإسلام والملتزمين به، وهذا الاتجاه أُظهر خصوصاً - للأسباب السابقة - في أوج أيام الإمبراطوريات الاستعمارية، وقد يكون من المبالغة القول بأنهم قد انتهوا بدون أثر.
هذه بعض الأسباب لماذا يبقى الإسلام حتى اليوم يُساء تقديره لدى الغرب، وهناك تعاطف واهتمام كثير لدى الديانات الأسيوية كالبوذية والهندوسية، وبالرغم أن الإسلام أقرب إلى اليهودية والنصرانية فهي تنساب من نفس المصدر الإبراهيمي، وبالرغم من هذا فلعدة سنوات كان يبدو أن ظروف خارجية - وخصوصاً للأهمية المتنامية للبلدان الإسلامية العربية في الشؤون السياسية والاقتصادية العالمية - أدت إلى إثارة الاهتمام المتزايد للإسلام في الغرب.
الشعور بوجود جهل عام عن الإسلام لدى الغربيين ذُكر أيضاً من قبل الدكتور "موريس بوكيلي" حيث يقول: " عندما يُذكر الإسلام لأحد الملحدين الماديين؛ فإنه يتبسم برضا، والذي يتساوى جهله عن الإسلام بشكل مشترك مع أغلبية المفكرين الغربيين، لأي طائفة دينية، فإن لديهم مجموعة انطباعات من المفاهيم الخاطئة عن الإسلام، ومن هذه النقطة يجب على الشخص أن يلتمس عذراً أو عذرين: أولاً: بعيداً عن المواقف الحديثة المتبقاة والتي تسود وسط أعلى السلطات الكاثولوكية فإن الإسلام كان خاضعاً دائماً في الغرب لما يُسمى " التشويه العلماني"، فأي شخص في الغرب والذي قد اكتسب معرفة عميقة عن الإسلام يعرف مدى التشويه الذي نال التاريخ وعقيدته وقيمه، ويجب أن يأخذ الشخص في الاعتبار أن الحقيقة في الوثائق المنشورة باللغات الأوروبية فيما يتعلق بهذا الموضوع (بغض النظر عن الدراسات المتخصصة العالية ) لا تجعل العمل أيسر للشخص الراغب في التعلم " (من كتاب " الإنجيل، والقرآن، والعلم" ص 118)
الاستشراق: التعريف الشامل:
إن الظاهرة المعروفة بالاستشراق عموماً ليست سوى مظهراً واحداً من مظاهر التحريفات الغربية للإسلام، ومعظم المسلمين اليوم في الغرب ربما يتفقون بأن الحجم الأكبر - فيما يخص عدد الناس الذين تُوصلوا بمثل هذه المعلومات - للمعلومات المشوهة عن الإسلام تأتي من أجهزة الإعلام سواء في الصحف، أو في المجلات، أو في التلفاز، فوسائل الإعلام لديها مزيد من التأثير الواسع الانتشار لرؤية الغرب عن الإسلام أكثر من المنشورات الأكاديمية للمستشرقين والمستعربين والإسلاميين.(24/3)
وفي السنوات الأخيرة فإن المجال الأكاديمي لما اعتاد أن يُعرف بـ" الاستشراق" أعيدت تسميته في معظم الكليات والجامعات الغربية لـ " دراسات المنطقة" أو " الدراسات الإقليمية"، هذه المصطلحات السياسية المصححة أخذت مكان كلمة "الاستشراق" في الدوائر العلمية منذ تلوث الكلمة الأخيرة بمفهوم إمبريالي سلبي كبير بسبب المستشرقين أنفسهم، لكن بالرغم من أن أعمال العلماء الذين يتابعون هذه المجالات لا تصل لعامة الناس، فهم يسقطون في أغلب الأحيان في أيدي الطلاب وأولئك المهتمون شخصياً في التعلم أكثر عن الإسلام، وبهذا أي باحث عن الإسلام - خاصة أولئك الذين في الغرب - يحتاج أن يكون مدركاً للظاهرة التاريخية للاستشراق كمهنة أكاديمية، أو كوسائل للاستغلال الثقافي.
وعندما استخدم كلمة "الاستشراق" من قبل المسلمين والتي أصبحت تعود عموماً إلى أي عالم غربي يدرس الإسلام - بصرف النظر عن الدوافع - وعليه حتماً فإنه يحرّف الإسلام، وكما نرى بالرغم من أن الظاهرة الاستشراقية أكثر من مسعى أكاديمي قال العالم المسيحي العربي المشهور " إدوارد سعيد" المؤلف لعدة كتب تكشف عيوب نظرة المستشرق فإنه يعرّف "الاستشراق" كالتالي: "... أي شخص يعلّم، ويكتب، أو يبحث عن الشرق - وهذا ينطبق على أي شخص - سواء كان عالماً في الإنسانيات، أو عالما في الاجتماع، أو مؤرخاً، أو سواء كان في الفلسفة في مظاهرها العامة أو المتخصصة، فهو مستشرق، ومما يعمله هو الاستشراق" من كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد ص 2.
" لتتحدث عن الاستشراق فعليك أن تتكلم بشكل عام وليس بشكل حصري عن المشروع الثقافي الفرنسي والبريطاني، المشروع الذي أخذت أبعاده في هذه العوالم المتباينة كالخيال نفسه، فكل الهند والمشرق، والنصوص التوراتية والبلاد الإنجيلية، وتجارة التوابل، وجيوش الاستعمار الطويلة، والتعاليم لمدراء الاستعمار، والمجموعة العلمية الضخمة، والخبراء والعمال الشرقيين غير المحدودين، والأساتذة الشرقيين، والترتيب المعقد من الأفكار الشرقية (الاستبداد الشرقي، والعظمة الشرقية، والقسوة، والشهوانية) والعديد من الطوائف الشرقية، والحكم المدجنة للاستعمال الأوروبي المحلي - والقائمة يمكن أن تمدّد تقريباً بشكل غير محدد -. " من كتاب " الاستشراق" لإدوارد سعيد ص 4.
وكما الوضع مع العديد من الأشياء أن تكون مدركاً للمشكلة فذلك نصف المعركةن وعندما يكون الباحث عن الحقيقة صادقاً مدركاً لسوء الفهم، والعداوة طويلة المدى بين الإسلام والغرب - ويتعلم أن لا يثق في كل شيء يراه مطبوعاً - فإن المعرفة والمعلومات الأصلية يمكن أن يحصل عليها بسرعة كبيرة، بالتأكيد ليس كل الكتابات الغربية عن الإسلام لديها نفس الدرجة من التحيز - فهم يدورون في مدى من التشويه المتعمد، والجهل البسيط - فيوجد هناك قلة يمكن أن تصنف كجهود مخلصة من قبل غير المسلمين لتصور الإسلام في ضوء إيجابي، لكن حتى معظم هذه الأعمال مًبتلية فيما يبدو بالأخطاء غير المقصودة نتيجة نقص المؤلفات عن المعرفة الإسلامية، وبروح العدالة ينبغي أن يقال حتى بعض الكتب المعاصرة عن الإسلام من قبل مؤلفين إسلاميين تعاني من نفس هذه العيوب، عادة بسبب نقص في المعرفة، أو أفكار ضلالية، أو الاعتماد على مصادر غير إسلامية.
هذا الذي قيل عن التعليم عن الإسلام في الغرب - خصوصاً عند الاعتماد على أعمال اللغات الأجنبية - ينبغي أن يأتي بلا مفاجئة، قبل عقود قليلة مضت فإن الشخص المتحدث الإنجليزية والمهتم بالإسلام والذي لديه الرغبة لتحديد قراءته بالأعمال المؤلفة من قبل المسلمين ربما حُدّدا لقراءة ترجمة القرآن، وقليل من كتب الحديث المترجمة، وبضعة أبحاث بحجم الكتيب، وبالرغم من ذلك ولعدة سنوات مضت فالانتشار الواسع للكتب الإسلامية - المكتوبة من قبل مسلمين مؤمنين وملتزمين - وعدم مجيء الإنترنت جعل الحصول على المعلومة الحقيقية بأي أمر يتعلق بالإسلام أمر عسير، واليوم بالكاد يمضي أسبوع بدون ما يعلن عن ترجمة إنجليزية لعمل إسلامي أصيل، ومما تجعله - في ذهنك في محاولة تعلم الإسلام - فأنا أشجع القارئ ليستشير عن الكتب المؤلفة من قبل كتاب إسلاميين، يوجد مدى كبير من موزعي الكتب الإسلامية الذي يمكن أن تتصل به خلال الإنترنت.
الأهداف الاستعمارية والمبشرون المتلهفون:(24/4)
الانتقال إلى نظرة أكثر تفصيلاً عن التشويه الغربي للإسلام بصفة عامة وفي الاستشراق بصفة خاصة.. يقول "إدوارد" العربي النصراني في كتابه الضخم "الاستشراق" والذي أشار فيه بدقة إلى الاستشراق "المشروع الثقافي": " هذا بالتأكيد ليس تحريفاً، منذ الدراسة الجامعية للشرق الشرقي عن طريق الغرب الغربي حُفز في أغلب الأحيان - وتعاونت غالباً يداً بيد - مع الأهداف الاستعمارية للقوى الاستعمارية الغربية، وبدون شك فإن أساسيات الاستشراق كمسلمة عامة "اعرف عدوك"، وعندما بدأت "الأمم النصرانية" في أوروبا حملتهم الطويلة للاستعمار، وغزو بقية العالم لتحقيق مصالحهم، جلبوا مصادرهم التبشيرية والأكاديمية لكي تساعدهم في مهنتهم، المبشرون والمستشرقون - الذين تتداخل الصفوف بينهم في الغالب - كانوا في الغالب أكثر من الخدم للحكومة الإمبريالية والتي كانت تستخدم خدماتهم كطريق لإخضاع وإضعاف العدو، ولكن بشكل مهذب فيما يتعلق بالإسلام والمناطق الإسلامية، مثال ذلك شعرت بريطانيا - كقوة نصرانية - أن لديها مصالح شرعية يجب حمايتها، فأنشئت جهاز لإدارة وتطوير هذا المصالح مثل التنظيمات لترويج المعرفة النصرانية في المجتمع (1698)، ولنشر التعاليم في مجتمع البلدان الأجنبية (1701)، وورثت وحرّضت فيما بعد بالمجتمع التبشيري المعمداني (1792)، ومجتمع الكنيسة التبشيري (1799)، ومجتمع التوراة البريطاني والأجنبي (1804)، ومجتمع لندن لترويج النصرانية بين اليهود (1808)، وهذه الإرساليات المنفتحة انضمت إلى التوسع الأوروبي "(من الاستشراق لإدوارد ص 100).
أي شخص يدرس هذا الموضوع يعرف أن المبشرين النصارى كانوا مشاركين راغبين في الإمبريالية الأوروبية، بغض النظر عن الدوافع النقية أو سذاجة بعض الأفراد من المبشرين، ففي الحقيقة عدد كبير نسبياً من علماء الاستشراق كانوا مبشرين نصارى، ومن الأمثلة البارزة على ذلك وليم ميور الذي كان مبشراً نشطاً، ومؤلفاً لعدة كتب عن الإسلام، وكانت كتبه متحيزة جداً، ودراساته ضيقة الأفق إلا إنهم جعلوها إلى يومنا هذا مراجع للذين يريدون مهاجمة الإسلام، وينبغي أن لا نتفاجأ إذا هؤلاء النصارى كانوا مصدراً لبعض الأكاذيب والتحريفات الأسوأ عن الإسلام، وقد كانت تحريفات النصارى والأكاذيب التامة عن الإسلام واسعة الانتشار كالمشاهد التالية:
" بالكاد يدرس تاريخ الاستشراق دون تحيز لمصادر الإسلام خصوصاً عندما كان تحت تأثير التعصب النصراني، من التحريفات المتعصبة لجون الدمشقي إلى المعتذرين من الكتاب المتأخرين ضد الإسلام الذي أخبر مشاهديهم أن المسلمين عبدوا ثلاثة أوثان! " ترجم بيتر (1156ـ1084)، القرآن والذي أُستخدم خلال العصور الوسطى وشمل تسعة فصول إضافية، وهذه الترجمة السيئة المحرفة المباعة حذت حذو الترجمات السابقة، وسارت بنفس الاتجاه كما مع رودريل، وموير. وآخرون هاجموا شخص وصفات محمد، وفي أغلب الأحيان وضّفوا القصص المخترعة والروايات التي يعتبرها المسلمون ضعيفة أو مكذوبة، أو شيء آخر، فإنهم أزالوا الحقائق بادعائهم أن المسلمين حلوا في موضع ليس هم فيه أهل، أو استخدموا العادات الخاطئة الممارسة بطريق الجهل بين المسلمين كتصوير دقيق للإسلام، بينما فورمان داينال يخبرنا في عمله "الإسلام والغرب": " استخدام الدليل الكاذب لمهاجمة الإسلام كان كُلاً لكن عالمي.. " من " شرح موثوق" الجزء الأول ص 267 لعبد الرحيم الأخضر.
وهذه النظرة أُكدت من قبل المؤرخ الشرق الأوسطي المشهور بيرنارد لويس عندما كتب:
" درست النصرانيةُ في القرون الوسطى الإسلام لغايات مزدوجة لحماية النصارى من مداهنات المسلمين، وتحويل المسلمين إلى النصرانية، والعلماء النصارى - معظمهم من قسيسين ورهبان - أوجدوا مجموعة مؤلفات متعلقة بالدين، ونبيه، وكتابه، بجدلية عنيفة في صميم الدين، وغالباً بلغة بذيئة من أجل أن تحمي وتثبط بدلاً من أن تُعلم." من كتاب " الإسلام والغرب" لبيرنارد لويس ص (85 ـ 95).
http://muba r k.buqnah.net المصدر:
============(24/5)
(24/6)
الجهاد بين عقيدة المسلمين وشبه المستشرقين
العوض عبد الهادي العطا
"...اهتم المستشرقون بأمر الجهاد الإسلامي وناقشوه كثيراً وأثاروا حوله الافتراضات والشبه، وحاولوا أن يشوهوا روح الجهاد ومغزاه، ورغم أن المسلمين أوضحوا أن غايتهم نشر الإسلام، وأن القتال ليس غاية في حد ذاته... "
بدأت الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة حين بعث الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكانت دعوة دينية خالصة لتوحيد الله ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، مستندة إلى قوة الحجة والإقناع والموعظة الحسنة، فاستجاب لهما نفر من قريش، وصدقوا الرسو صلى الله عليه وسلم وشدوا من أزره وساندوه ونصروه، فنالوا سبق الدخول في الإسلام، وحملوا لواءه وظلوا على ذلك العهد حتى عم الإسلام أرجاء الأرض، ولم يتزحزحوا ولم تؤثر فيهم الأهواء والمغريات حين تأثر بها الناس. والملاحظ أن أول من أسلم كانوا من الشباب ومن لدات الرسو صلى الله عليه وسلم أو ممن لا يكبرونه في السن كثيراً.
أما الشيوخ المسنون فلم يستجيبوا لدعوته، وكان من العار على المسن تغيير ما هو عليه من موروث قبيلته وآبائه وأجداده، فتأثروا بعرفهم وتقليدهم عن رؤية الحق والصواب، ولكن دخل في الإسلام جماعة من المستضعفين من أهل مكة الذين وجدوا الإسلام نصرة لهم، واشتد البلاء وعمت المحن علىِ المسلمين في مكة، ولذلك لم يتمكنوا من إقامة مجتمع إسلامي متكامل، ولكنهم كانوا أفراداً معروفين، آمنوا بالله ورسوله وتكونت فيهم أخلاق الإسلام الصحيحة وملأت نفوسهم قيمه ومثله. وحين أعز الله رسوله بالهجرة والنصرة تميزت صورة المجتمع في المدينة وصار الناس على ثلاثة أقسام، المؤمنين الذين آمنوا بالله ظاهراً وباطناً والكفار وهم الذين أظهروا الكفر، والمنافقين وهم الذين آمنوا ظاهراً لا باطناً[1] وسارت الدعوة إلى الإسلام من خلال ذلك في عدة مراحل، أولها مرحلة النبوة، تقول عائشة رضي الله عنها: "إن أول ما بدئ رسول ا صلى الله عليه وسلم النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رسول ا صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب الله إليه الخلوة فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده"[2].
والمرحلة الثانية إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قوم صلى الله عليه وسلم من قريش، ثم إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة، ثم إنذار جميع من بلغته الدعوة الإسلامية إلى آخر الدهر[3]. وفي المدينة المنورة انتشر الإسلام، وتكونت جماعة مؤمنة متجانسة آخذة في النمو من المهاجرين والأنصار كنواة للأمة الإسلامية، وهو إطار عريض يظهر لأول مرة في الجزيرة العربية على غير نظام القبيلة.
فقد انصهرت جماعة الأوس والخزرج في طائفة الأنصار ثم انصهر المهاجرون والأنصار في جماعة المسلمين، وبذلك تكونت جماعة كانت الأساس التاريخي للأمة الإسلامية ومهدت بذلك لكل من ينضم إليهم، قال ابن إسحاق في حديثه عن كتاب الرسو صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة يهود: "هذا كتاب من محمد صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس"[4] ومن ثم وضع الأساس الذي ينظم العلاقة بين هذه الأمة ومن سكن معهم من أهل الكتاب، ولأول مرة تردَّ أمور هذه الجماعات إلى نظام يحتكم إليه "وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو إشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول ا صلى الله عليه وسلم "[5].
وسارت الدعوة الإسلامية في مسارها لتوحيد الجزيرة العربية على دين الإسلام فغزا الرسو صلى الله عليه وسلم بنفسه بضع وعشرين غزوة، أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك، وكان القتال في تسع غزوات، فأول غزوات القتال بدر وآخرها حنين والطائف، وأنزل الله فيها ملائكته.(24/7)
وعندما حاصر الطائف لم يقاتله أهلها زحفاً وصفوفاً كما حدث في بدر وحنين وإنما قاتلوه من وراء جدر[6]. وكان الرسو صلى الله عليه وسلم يتولى أمور الجهاد ويضعها في اعتباره ويهتم بها ويقود المسلمين ويخرج بهم فوضع بذلك المثل والقدوة في تطبيق مفهوم الجهاد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الآية[7] وكان لذلك أكبر الأثر في انتشار الإسلام بصورة واضحة بين القبائل العربية منذ صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، وأخذت الوفود تترى إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم حتىٍ عددَّ ابن سعد في الطبقات عند ذكره لوفود العرب على رسول ا صلى الله عليه وسلم واحداً وسبعين وفداً[8] وقد جاءوا إما عن رغبة صادقة أو رهبة وخوف، لأن الإيمان هبة من الله يمنحها الصادقين من عباده، فعندما جاءت بنو أسد إلى صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول الله صلى الله وسلم: "إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطلق على ألسنتهم"، ونزلت هذه الآية {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية[9].
ثم إن الرسو صلى الله عليه وسلم واصل جواده بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في الجزيرة العربية، فأرسل الكتب إلى كبار الملوك آنذاك في العالم الحيَّ يعرض عليهم اعتناق الإسلام، فبعث إلى إمبراطور الروم وإلى نجاشي الحبشة وإلى كسرى ملك الفرس، والمقوقس صاحب الإسكندرية (مصر) وإلى أمراء الغساسنة وغيرهم[10] فأجاب بعضهم إجابة مهذبة وثار آخرون وتوعدوا.
وتأكيداً لتحقيق تلك المرحلة من مراحل الدعوة[11] حدثت بعض الغزوات، وأعد الرسو صلى الله عليه وسلم بعث أسامه بن زيد، وهو البعث الذي أنفذه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ولكن الدعوة الإسلامية واجهت صراعاً متصلاً بين المبادئ الإسلامية الداعية إلى الوحدة والإخاء والمساواة والسلام، وبين الاتجاهات العنصرية الداعية إلى عصبية القبيلة والتفكك والانقسام.
واشتد ذاك الصراع عقب وفاة الرسو صلى الله عليه وسلم مباشرة، فحدث ارتداد العرب عن الإسلام، والذي مثّل مظهراً من مظهراً التصادم بين العقيدة الإسلامية وبين القبلية الجاهلية، فقد انتعشت روح العصبية لدى بعض الزعامات القبلية التقليدية والتي لم يكن قد وقر الإيمان في قلوب بنيها، تلك العصبية التي حار بها الرسو صلى الله عليه وسلم وقضى عليها.
ولكن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه تصدى لكل ذلك في قوة ورباطة جأش وإيمان صادق وعزم أكيد حتى أعاد للإسلام هيبته وللمسلمين وحدتهم، وصارت العقيدة الإسلامية هي الرابطة الوحيدة بين أبناء الأمة الإسلامية.
وكان بعث أسامة بن زيد بمثابة مواصلة الجهاد الذي أكده القرآن الكريم ومارسه الرسو صلى الله عليه وسلم والتزم به الخليفة أبو بكر الصديق في خطبته المشهورة عند مبايعته في المسجد "لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل.... "[12] ثم أخذ يحث المسلمين على الجهاد ويدعوهم إليه.
ففي الصحيحين عن صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي العمل أفضل فقال: "إيمان بالله ورسوله، قيل ثم ماذا قال: جهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا قال: حج مبرور"[13].
وقيل إن الإعراض عن الجهاد من خصال المنافقين، وفي الحديث: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغز ومات على شعبة نفاق"[14] وتتمثل في الجهاد حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، كما يتجسد فيه الإخلاص، وقوة الإيمان تمنح المسلم القدرة في مواجهة العدو مهما كانت قوته وكان عدده. ولم يكن مفهوم الجهاد عند المسلمين يعنى نشر الإسلام عن طريق الحرب والسيف وحسب وإنما بمبادئه السمحة الكريمة ولذلك انتهجوا منهج الإسلام في الدعوة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [15] الآية {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الآية [16].
وقد وضح هذا المنهج في سياسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما أعلن للمجاهدين حيِن توديع جيش أسامه بن زيد: "لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاًَ كبيراً ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً، اندفعوا باسم الله" [17].(24/8)
ولما كانت الدعوة إلى الإسلام هي الغاية المنشودة لذلك كان المسلمون يعرضون على خصومهم خيارات ثلاثة، إما الإسلام وكانوا يشرحونه ويحسنونِه لهم، وإما أن يقبلوا دفع الجزية، وإذا رفضوا هذين الخيارين فإن الحرب واجبة تأكيداًَ لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} الآية [18] وقد أخذت الجزية على أسس من الحق والعدل والرحمة، وتؤخذ على الرجل القادر البالغ العامل الحر، ولا تجب على الأعمى والمسكين وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار، وهي واجبة على جميع أهل الذمة[19].
ومن ثم أصبح كثير من اليهود والنصارى على دينهم ودخلوا في ذمة المسلمين، بل إن بعضهم شارك في الأعمال الإدارية مثل أعمال الحسابات ومسك الدفاتر وظهرت روح التسامح في معاملة المسلمين لغيرهم حتى أحس أهل هذه البلاد بالطمأنينة والحرية والعدالة وحسن المعاملة في أموالهم وأعراضهم وأعمالهم. وقد عقد المسلمون مع كثير من أهل البلاد العهود والمواثيق، يدفعون بموجبها الجزية للمسلمين، ونظير ذلك يجدون الحرية والأمن، يقول الماوردي: "وأما الجزية فهي موِضوعة على الرؤوس واسمها مشتق من الجِزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغاراًَ، وإما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً" ويقول: "فيجب على ولي الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقروا بها في دار السلام ويلتزم لهم ببذلها حقان: أحدهما الكف عنهم والثاني الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين"[20].
ومع ذلك فالملاحظ أن المسلمين كانوا يقومون بواجب الدعوة وتبليغ أهل تلك البلاد بالإسلام، فعندما بعث الخليفة عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص إلى القادسية، وجد أن الفرس قد أمّروا على الحرب رستم من الفرخزاذ الأرمني، وأمده بالعساكر فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر بن الخطاب: "لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله وتوكل عليه، وأبعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه فإن الله جاعل دعاءهم توهيناًَ لهم وفلجاً عليهم واكتب إليَّ في كل يوم"[21].
كما تمثلت في أعمال الجهاد عند المسلمين خصال فريدة، فقد وجه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد أن يتآلف الناس ويدعوهم إلى الله عز وجل، وأمره ألا يكره أحداًَ على المسير معه وألا يستعن بمن ارتد عن الإِسلام، وإن كان عاد إليه[22].
القوة والاستعداد وآلات الحرب من وسائل النصر:
لقد توفرت عند المجاهدين المسلمين قوة العقيدة والإيمان وارتفاع الروح المعنوية بأنهم خير أمة أخرجت للناس لها رسالتها في الدعوة، ولذلك كانوا لا يهابون الموت في سبيل ذلك إذ كان الظفر بالشهادة أمنية المجاهد المسلم مما يؤكد زهده في الدنيا مهما كانت مغرياتها.
وقد كانت العقيدة عند المسلم الصادق هي السلاح الرئيسي الذي يعتمدون عليه في كل المعارك، فهي تأتي عندهم في المقام الأول بين العوامل والدوِاعي التي تجعلهم يصمدون ويثبتون حيث يكون الفرار في حساب المقاييس العسكرية أمراً لا مفر منه بل ولا لوم على فاعله. ومع هذه القوة النفسية التي توفرت للمسلمين فقد تهيئوا من حيث العدة والعتاد أيضاً حتى اجتمعت لهم مقومات متكاملة للقتال {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}[23].
وقد ثبت أن صلى الله عليه وسلم حينما تلا هذه الآية وهو على المنبر قال: "ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي"[24].
وقد عرف عن هؤلاء المجاهدين أنهم قد امتازوا بخفة الحركة والمثابرة والصبر وتحمل الشدائد وبذل النفس والثبات في ميدان القتال وإظهار التضامن بينهم، والانضباط، فقد كانوا يقفون صفوفاً متراصة ليس لأحد منهم أن يتقدم من الصف أو يتأخر عنه عملاً بقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[25].
وكان الرسو صلى الله عليه وسلم في غزواته يراعي هذا الأمر ويحثهم عليه دائماً، لأن الانضباط وحسن النظام من دواعي الجيش الممتاز، ففي يوم بدر قام الرسو صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف وفي يده قدْح، فمر بسواد بن غزية وهو مستنتل من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح وقال: "استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، قال: فأقدْني، فكشف رسول ا صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد، قال فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول ا صلى الله عليه وسلم بخير"[26].(24/9)
وقد يسبق القتال التدريب وتعلم الرمي والمهارة فيه، فقد عرف عن المسلمين إجادتهم الرمي، وقد شكل الرماة عند المسلمين أهمية خاصة، ففي يوم أحد وضعهم الرسو صلى الله عليه وسلم على الجبل كغطاء أساسي لظهر المسلمين، وعند عبور المسلمين إلى المدائن عاصمة الفرس كانوا أمام الجيش يخوضون الماء وكانوا من أمهر الرماة، فإذا رموا أصابوا الهدف.
فاهتم المسلمون بالاستعداد التام من كل ناحية لمواجهة العدو، وهو عمل لابد منه ليستحق به المجاهدون نصر الله.
وقد اهتم الخلفاء الراشدون بإعداد الجيش وتنظيمه إقتداءً بالرسو صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر ابن الخطاب أول من جعل الجند فئة مخصوصة، فأنشأ ديوان الجند للإِشراف عليه وتقييد أسمائهم ومقدار أرزاقهم وإحصاء أعمالهم.
وكان ديوان الجند الذي استخدمه عمر بن الخطاب أكبر مساعد له في تحسين نظام الجند وضبطه في الإسلام، مما ساعد في تحسين استعداد المسلمين الكامل عند خروجهم للجهاد[27].
وفي ضوء ذلك اهتموا بأدوات الحرب والقتال، فاهتموا بالخيل المعدة للجهاد لأن في إعدادها لهذا الغرض فضيلة كبيرة، وتدرب عليها شباب المسلمين ومارسوا الرمي وهم على ظهورها اعتنوا بها عناية فائقة، وفي الحديث "الخيل معقود في نواصيها الخير إلىِ يوم القيامة، الأجر والمغنم"[28] وكان أغلب جيش المسلمين في كثير من الأحيان يتألف أساساً من الفرسان، بل إن جيش سعد بن أبي وقاص يوم المدائن كان كله من الفرسان[29].
وكان المسلمون يتسلحون بالدروع والسيوف والرماح كما استخدموا أسلحة أخرى كانت ذات أهمية في القتال، قال ابن سعد رحمه الله في حديثه عن غزوة أحد: "فخرج رسول ا صلى الله عليه وسلم قد لبس لامته وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل السيف واعتم وتقلد السيف والترس في ظهره"[30]ويعتبر السيف والدرع والرمح من الأسلحة الخفيفة، وكان للسيف أهمية خاصة عندهم.
كذلك عرفت بعض الأسلحة التي استخدمت في كثير من الحالات مثل: ـ المجانيق ـ والدبابات والضبور، ومما يدل على معرفتهم لهذه الأسلحة ما ذكره ابن هشام: "ولم يشهد حنيناً ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيدن بن سلمة كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور"[31]، قال السهيلي: "والدبابة آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبون بها إلى الأسوار لينقبوها " وقيل: " آلات تصنع من خشب وتغشى بجلود ويدخل فيها الرجال ويتصلون بحائط الحصن".
قال ابن إسحاق: "حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه" [32] وقيل: "أنها من آلات الحرب يدخل المحاربون في جوفها إلى جدار الحصن فينقبونه وهم في داخلها يحميهم سقفها وجوانبها". والمجانيق من آلات الحصار يرمى بها الحجارة الثقيلة، وقد ذكر ابن هشام أن الرسو صلى الله عليه وسلم أول من رمى بالمنجنيق، رمى أهل الطائف[33]، وهي أنواع منها ما يرمى بالحجارة ومنها ما يرمى بالزيت المغلي ومنها ما يرمى بالنبال.
وقد أقام سعد بن أبي وقاص على بهرسير شهرين يحاصرها ويرميها بالمجانيق ويدب إليها بالدبابات ويقاتلهم بكل عدة، وكان الفرس البادئين بالرمي والعرادات، فاستصنعها سعد، وأقام عليها عشرين منجنيقاً فشغلهم بها[34].
قال السهيلي: "والضبور جلود يغشى بها خشب يتقى بها في الحرب"، وقيل: استخدمت ليتقى بها النبل الموجه من عل، ويتقى بها في الحرب عند الانصراف، وفي اللسان: الضَّبره ـ جلد يغشى خشب فيها رجال تقرب إلى الحصون لقتال أهلها، ويجمع على ضبور[35].
وإلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرجع الفضل في إقامة الحصون والمعسكرات الدائمة لراحة الجند في أثناء الطريق بعد أن كانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الإبل، ولا يرتاحون إلا في مظلات مصنوعة من سعف النخل، ومن ثم بنيت العواصم وأقيمت الحاميات لصد هجمات الأعداء المفاجئة[36].(24/10)
وتطور الدفاع عن بلاد المسلمين والجهاد في سبيل الله بإقامة الربط لحماية الثغور، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله ثم صار لزوم النفر رباط، وأصل الرباط ما تربط فيه الخيول وأن كل ثغر يدفع عمن وراءهم، والمدافع المجاهد يدافع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد[37] وعند ابن تيمية أن المقام في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة لأن الرباط من جنس الجهاد، والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج[38] قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [39] وفي الحديث "رباط يوم وليلة (في سبيل الله) خير من صيام شهر وقيامه"[40]. ولم يكن المسلمون في أول عهدهم يرغبون في ركوب البحر، ولم يأذن الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لعماله بذلك، ولكن في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنشأ أول أسطول إسلامي، فقد أذن لمعاوية بن أبي سفيان في غزو الروم بحراًَ، على ألا يحمل الناس على ركوب البحر كرهاً، فبرع المسلمون في ركوب البحر، وخاضوا المعارك فيه ورتب معاوية بن أبي سفيان الشواني والصوائف لغزو الروم.
وبعث عبد الملك بن مروان لما ولي الخلافة إلى عامله على أفريقية حسان بن النعمان يأمره باتخاذ صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية[41] وعلل المقريزي امتناع المسلمين من ركوب البحر للغز وفي أول الأمر لبداوتهم ولم يكونوا مهرة من ثقافته وركوبه، وكان الروم والفرنجة قد تمرسوا عليه لكثرة ركوبهم له.
وعندما استقر أمر المسلمين تقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعتهم، واستخدموا من النواتية في البحرية أمماً وتكررت ممارستهم البحر وثقافته فتاقت أنفسهم إلى الجهاد فيه، وأنشأوا السفن والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح، واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر على ضفته مثل الشام وأفريقية والمغرب والأندلس[42] وقد كان ميناء جدة ثغراًَ هاماً للمسلمين باعتباره مدخلاً للحرمين الشريفين، وهذا ما حمل المسلمين فيما بعد على تحصينها وإقامة سور قوي حولها لتأمين الأماكن المقدسة في مكة والمدينة من أي غارة وخاصة غارات الصليبين[43].
وقد برع المسلمون في صناعة السفن حتى صار علمهم في هذا الجانب تقلده أوربا وتنقله عنهم[44].
المستشرقون والدعوة الإسلامية:
وقد اهتم المستشرقون بأمر الجهاد الإسلامي وناقشوه كثيراً وأثاروا حوله الافتراضات والشبه، وحاولوا أن يشوهوا روح الجهاد ومغزاه، ورغم أن المسلمين أوضحوا أن غايتهم نشر الإسلام، وأن القتال ليس غاية في حد ذاته وإنما هو وسيلة لإزالة العقبات عن طريق الدعوة، ولكنهم عن قصد أو سوء فهم لأمر الجهاد أثاروا هذه الشبهة، وركز بعضهم مثل كيتاني وأرنولد على أقوال المسلمين، فعندما فرغ الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه من حروب الردة وجه الجيوش إلى الشام لمواصلة الجهاد ولذلك كتب إلى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد يستنفرهم للجهاد ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع وأتوا المدينة من كل باب[45] فتذرعوا بهذا القول مدعين أن هناك دافعاً مادياً، ولذلك يقول أرنولد: "إن أملهم (المسلمين) الوطيد في الحصول على غنائم كثيرة في جهادهم في سبيل الدين الجديد ثم أملهم في أن يستبدلوا بصحاريهم الصخرية الجرداء التي لم تنتج لهم إلا حياة تقوم على البؤس، تلك الأقطار ذات الترف والنعيم".
ثم يثير شبهة أخرى في أن هذه الفتوح الهائلة التي وضعت أساس الإمبراطورية العربية (كذا) لم تكن ثمرة حرب دينية قامت في سبيل نشر الإسلام، وإنما تلتها حركة ارتداد واسعة عن الديانة المسيحية حتى لقد ظُن أن هذا الارتداد كان الغرض الذي يهدف إليه العرب.
ويستنتج بأنه من هنا أخذ المؤرخون المسيحيون ينظرون إلى السيف على أنه أداة للدعوة الإسلامية.
وفي ضياء النصر الذي عُزي إليه حجبت مظاهر النشاط الحقيقي للدعوة. ويتفق أرنولد مع أستاذه كيتاني في أنه يعتبر توسع الجنس العربي على أصح تقدير هو هجرة جماعة نشيطة قوية البأس دفعها الجوع والحرمان إلىِ أن تهجر صحاريها المجدبة وتحتاج بلاداً أكثر خصباً كانت ملكاً لجيران أسعد منهم حظاًَ[46] وأنها آخر هجرة من الهجرات السامية.
ويقول أنه لا ينبغي أن نتلمس أسباب الانتشار السريع للعقيدة الإسلامية في أخبار الجيوش الفاتحة بل الأجدر أن نبحث عن ذلك في الظروف التي كانت تحيط بالشعوب المغلوبة على أمرها. والمعروف أن نداء الخليفة الذي أورده البلاذري إنما هو حث للقبائل لتسارع للجهاد ونشر الإسلام، فإن تحقق مكسب بعد ذلك فهو أمر لاحق لأصل.(24/11)
ولم يكن القول (بأن جزيرة العرب كانت مجدبة فكان ذلك دافعاً للفتح والحروب)، وذلك لعدة أسباب، من ضمنها أن الجزيرة العربية حينذاك كانت قد تزايدت أموال أهلها بفضل النشاط التجاري الذي انتعش حينذاك، فعير قريش التي انتهت بغزوة بدر قيل أنها كانت مكونة من ألف بعير وأن الدينار ربح ديناراً، وأن ريعها استفادت منه قريش في تعبئة نفسها لغزوة أحد.
وأن سرية زيد بن حارثة إلى ذي قرد حصلت من قافلة قريش على كمية من الفضة وزنها ثلاثون ألف درهم[47] وكان موسم الحج من عوامل الانتعاش الاقتصادي، بالإضافة إلى أن الإسلام نظم الحياة الاجتماعية بين المسلمين، فأسلوب المؤاخاة بين المهاجرين والأنصارٍ الذي طبقه الِرسو صلى الله عليه وسلم حقق التكافل الاجتماعي بين المسلمين[48] فكون بذلك مجتمعاً إسلامياً نموذجياًَ.
ورغم بذخ الدولتين الروم وفارس، ومظاهر الأبهة والعظمة إلا أن ذلك لازمه استبداد وخلافات دينية وصراع حول الملك، على حين ألف الإسلام بين قلوب المسلمين، فمع مظاهر الزهد والتقشف في حياتهم، ظهر عليهم شدة الإيمان والحرص على الاستشهاد في سبيل الله[49] مما حقق لهم أعظم النتائج في المعارك التي خاضوها.
ويقول جودفروا: "يقود الخليفة الجهاد أي الحرب المقدسة ضد الكفار لحملهم على اعتناق الدين الإسلامي أو استرقاقهم أو قتلهِم أو إجبارهم آخر الأمر على دفع الجزية، ومع أن العلماء المسلمين يعتبرون الجهاد فرضاًَ واجباً على جميع المسلمين إلا أنهم غير متفقين على قيمته الدينية، ولا يجعلونه جميعاً ركناً من أركان الدين الخمسة.
وأصول الجهاد توضح هذا التردد، فقد كان الرسول في بداية دعوته في مكة ضعيفاً جداً ولم يزوده القرآن بسلاح سوى الصبر والثقة بالله، ولكن بعد الهجرة إلى المدينة هبط الوحي يحث المسلمينِ على أن يقاوموا بقوة السلاح أولئك الذين طردوهم من ديارهم وأرادوا بهم شراًَ (ق: س 22، 39ـ 43) وبمناسبة غارة قام بها المسلمون لخرق الهدنة الجاهلية في الأشهر الحرم أمرهم القرآن (س 2: 212) أن يقاتلوا"[50].
هذا رأي المستشرق والملاحظ أنه يمتلئ بالأخطاء سواء عن قصد أو سوء فهم، من ذلك أنه يحور مفهوم الجهاد من أداة للدعوة ونشر الإسلام كما هو مضمونه الواسع المليء بالتسامح والصبر، إلى وسيلة للقتل والاسترقاق والنهب. ثم يتحدث عن سرية عبد الله ابن جحش على أنها غارة.
رهط من المهاجرين في رجب وكتب لهم كتاباًَ، فإذا فيه "إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم"[51] فالمطلوب من السرية الحصول على معلومات عن قريش، وليس في هذا أمر غريب بين أعداء احتمال الحرب بينهما وارد، ولكن لم يكن أمراً للسرية بالقتال فقوله إنها غارة فيه إجحاف وتجن.
وخاصة وأن الرسو صلى الله عليه وسلم قال لهم عندما رجعوا: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، وظل الأمر معلقاً حتى أنزل الله على رسول صلى الله عليه وسلم {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ}[52] وما قاله هذا المستشرق لم يخرج عما قاله أعداء الإسلام حينذاك عندما قالت قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وغنموا الأموال وأسروا الرجال[53] وعموماً فإن الدراسات التي أعدت عن المستشرقين وتناولت مناهجهم اتفقت على أنهم يعالجون المسائل الإسلامية من وجهة نظرهم ووفق طرقهم ومناهجهم، فإن تخلوا عن الغرض، فقد تأثروا بالمنهج، وأدخلوا عوامل ومبررات في التوسع المبكر للإسلام، مثل عواقب الصراع بين الإمبراطوريات الساسانية والبيزنطية وعدم الاستقرار الداخلي للقوط في أسبانيا، ولكنهم لم يربطوا بين ذلك الانتشار السريع للإسلام وبين العقيدة الإسلامية نفسها، فهل من الممكن أن يحدث ذلك الانتشار والتوسع بهذه الدرجة من غير الدين الإسلامي؟ [54].
--------------------------------------------------------------
الهامش:
[1] ابن تيمية، أحمد، مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ج 28ص 431 (ط الأولى 13).
[2] ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، ج 1، 2 ص 234 ط 2 (القاهرة 1375هـ). ولفظ البخاري رحمه الله " أول ما بدئ به الرسو صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء ….. " أنظر ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج1 ص22، ط السلفية (1380هـ).
[3] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، ج ا ص 38 (القاهرة 1373 هـ).
[4] ابن هشام، المصدر السابق، ج 1، 2 ص 501.
[5] نفس المصدر ص 504.
[6] ابن تيمية، المصدر السابق ج 28 ص 429.
[7] سورة الأحزاب الآية 21.
[8] ابن سعد، محمد، الطبقات الكبرى، ج 1 ص 1 29ـ 359، (بيروت دار صادر).
[9] سورة الحجرات آية 17 انظر ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج 4 ص 2.(24/12)
[10] ابن سيد الناس، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ج 2 ص 329 ط 3 (بيروت، 1402 هـ).
[11] أنظر هذا البحث ص 2 (مراتب الدعوة).
[12] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، خ 2 ص 332 (بيروت 1399 هـ).
[13]ابن حجر، المصدر السابق، ج ا ص 77. (أنظر صحيح مسلم ج 1 ص 88 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي).
[14]أحمد بن حنبل، المسند ج 2/ 374.
[15] سورة النحل آية 125.
[16] سورة البقرة آية 256.
[17] ابن الأثير المصدر السابق، ج 1 ص 335.
[18] سورة التوبة، آية 29.
[19] القاضي أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، كتاب الخراج (ضمن موسوعة الخراج) ص 122، (بيروت 1399 هـ).
[20] الماوردي، أبو الحسن علي بن حبيب، الأحكام السلطانية، ص 143 (بيروت 1402 هـ).
[21] ابن الأثير، المصدر السابق ج 2 ص 456.
[22] ابن كثير، البداية والنهاية، ج 5/ 6 ص 342 ط 2 (بيروتـ 1977م/ 1397 هـ).
[23] سورة الأنفال، آية 60.
[24] ابن تيمية، المصدر السابق ج 28 ص 9.
[25] سورة الصف، آية 4.
[26] ابن هشام، المصدر السابق، ج 1، 2 ص 626.
[27] علي إبراهيم حسن، التاريخ الإسلامي العام، ص 535 (النهضة المصرية).
[28] ابن حجر، المصدر السابق، ج 6 ص 56. أنظر الترمذي، صحيح الترمذي، باب الجهاد، شرح الإمام بن العربي المالكي، ج7 ص6.
[29] ابن الأثير، المصدر السابق، ج 2 ص 5.
[30] ابن سعد، المصدر السابق ج 2، ص 38.
[31] ابن هشام، المصدر السابق، ج 3ـ 4، ص478 أنظر السهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن، الروض الأنف، تحقيق طه عبد الرؤوف ج 4 ص162ـ 163 (دار الفكر).
[32] ابن هشام، المصدر السابق ج 3 ـ4، ص 483.
[33] نفس المصدر.
[34] ابن الأثير.، المصدر السابق، ج 2 ص 509.
[35] جمال الدين محمد بن منظور لسان العرب، ج4 (فصل الضاد باب الراء) ص480 (بيروت، دار صادر).
[36] حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، ج1، ص 478 (النهضة المصرية، ط 7، 1964).
[37] المقريزي، تقي الدين أبى العباس، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج 2 ص 427 (بيروت، دار صادر).
[38] ابن تيمية، المصدر السابق، ج 28 ص 5.
[39] سورة التوبة، آية 19.
[40]أحمد بن حنبل، المسند، ج 5/0 44.
[41] المقريزي، المصدر السابق، ج 2 ص0 19.
[42] نفس المصدر.
[43] عبد القدوس الأنصاري، تاريخ مدينة جدة، ص70.
[44] حسن إبراهيم حسن، المصدر السابق، ج 1ص 484.
[45] البلاذري، أبو الحسن، فتوح البلدان، ص 111 (بيروت 1403 هـ).
[46] أرنولد، سيرتوماس، الدعوة الإسلامية (مترجم) ص 64 (القاهرة0 197 م).
[47] ابن سعد، المصدر السابق، ج 2 ص 36.
[48] عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، ص 154 (مؤسسة الرسالة 1398 هـ).
[49] حسن إبراهيم حسن، المصدر السابق، ج 1ص 214.
[50] جودفروا، م. كتاب النظم الإسلامية، (باب الخلافة) مترجم، ص135.
[51] ابن هشام، المصدر السابق، ج اـ 2، ص 602.
[52] سورة البقرة، آية 217.
[53] ابن هشام، المصدر السابق، ج اـ 2، ص 604.
[54] راجع الدراسة التي أعدتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مكتب التربية العربي لدول الخليج، تحت عنوان (مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية) جزآن (الرياض 1405 هـ/ 1985م).
15ـ 8 ـ 2005
http://www.alqlm.com المصدر:
===============(24/13)
(24/14)
بل ظاهرة أصيلة عامة
من الأفكار التي يحاول أعداء الإسلام إشاعتها بالإلحاح بتردادها أن عودة المسلمين إلى التمسك بدينهم ووضعه في الاعتبار ليست ظاهرة أصيلة عامة، وإنما هي ظاهرة جزئية يقوم بها شباب يائس يعيش تحت ضغط ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة، وأغلقت في وجهه كل الأبواب، فلجأ إلى الإسلام كنوع من الهروب من مشاكله، وصنع لنفسه جواً يشعر فيه بالأمان والاطمئنان! وقد جعلوا من عودة الشباب المسلم إلى الاعتزاز بعقيدته وإحلالها المحل الأول من حياته نوعاً من أحلام اليقظة التي لا تعدو عند الإغراق فيها أن تكون مرضاً نفسياً يحتاج إلى علاج! !.
وهذه النظرة القاصرة المغرضة نابعة ابتداء إما من التحامل على الإسلام كدين، والكراهية العميقة له؟ وإما من الآثار الفكرية للمبشرين والمتربين في معاهدهم ودهاليزهم. أي أنها تعود إلى سببين رئيسيين:
أ - كره للأديان عموماً والإسلام خصوصاً.
ب- جهل عميق بالإسلام؛ كيف ينتشر وكيف ينحسر.
إن هذه التحليلات المغرضة التي تمتلئ بها الصحف والمجلات أجنبية وعربية عن أسباب رجوع الإنسان إلى عقيدته تبدو مضحكة في كثير من الأحيان كما تبدو سمجة وثقيلة، وما أشبهها بكلام كثير من المستشرقين عن الإسلام وأحكامه، وعن شخصية الرسولمحمد صلى الله عليه وسلم ، بل إن هذه التحليلات امتداد لذلك الفكر الذي أرساه المستشرقون، وعمل على ترسيخه أولياؤهم في عالمنا الإسلامي.
ونحن نقول: إنه على الرغم من غثاثة هذا الفكر وسطحيته فإنه يجد من يسمعه ويتعلق به ويعجب به من بيننا.
ويساعد على ذلك أن هناك تقصيراً سببه تقاعس أهل الفكر الصحيح، وأجواء فكرية تحدث من تكاسل هؤلاء؛ وجرأة أهل الباطل التي تحتضن الغث وتروجه، وتقصي النافع وتشوهه..
لكن الذي يفوت هذه التحليلات هو طبيعة الإسلام كعقيدة، وطبيعته في التفاعل مع الحياة، ويظنون أن العقيدة الإسلامية إذا كانت في حالة ضمور فهي في طريقها إلى الموت دائماً.
نعم: قد يوجد من تضمر عقيدته، ثم تموت، ولكن هؤلاء نسبتهم قليلة، وبما أن الساحة ليست لهؤلاء فقط، حتى لو حُوْول إخلاؤها لهم بكل السبل، فإن من طبيعة البشر عامة أن تستخدم الاستقراء والاستنتاج كعمليات منطقية بسيطة، فتدرس الظواهر هنا وهناك، وتستنتج منها نتائج تعمل بمقتضاها.
والمسلم إنسان قبل كل شيء، لو نظر حوله لوجد عشرات ومئات الظواهر والدلائل التي تلفته إلى دينه لفتاً، وتجعله يقتنع أنه لا يتلاعب به المتلاعبون ولا تجوز عليه الدعاوى والخدع إلا إذا كان رقيق الدين ضحل العقيدة.
هذا على المستوى الفردي.
أما على المستوى الجماعي سمه القومي أو الوطني إن شئت فإنه كما يستعبد فرد فرداً، ويهضم قوي حق ضعيف؛ فإن أمماً تأكل أخرى، وتذوب حضارات وتندثر وتبنى على أطلالها حضارات، ولا يودي بالأمة سوى ضعف العقيدة، وانحلال الروابط الدينية التي تجمع أفرادها ومؤسساتها، وعندما تنهزم الأمة نفسياً، فتتخلى عن قيمها ومفاهيمها، وتجلب قيم ومفاهيم القوي تطبقها راضية مختارة بلا تمحيص وبلا خجل؛ فهذا هو الانهيار والاندثار والذوبان بعينه.
وقد ينخدع بعض الناس فتنعكس عندهم السنة الكونية التي تقول: " حيث يكون الحق تكون القوة " فتصبح في نظرهم: " حيث تكون القوة يكون الحق " وهذا هو طريق الشيطان كما قال تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 268] وهكذا فإن من طبيعة المسلم أنه يمكن أن يؤوب إلى الحق، وإلا لما كان هناك من التوبة، ويمكن أن يراجع نفسه فيصدقها وتصدقه، والله يحوطه ويرعاه سواء كان مهتدياً أو ضالاً، وهو رحيم بعباده يصرِّف عليهم العبر والحوادث، ويمتحنهم بالمصائب والرغائب (إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف: 201] " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم " (جزء من حديث أبي ذر المشهور الذي رواه مسلم).
وكما يتوب المسلم عن الفواحش كالزنا، وشرب الخمر، والاستهتار بالمحرمات كذلك يتوب عن إهمال أمر الدين وعدم إحلاله المحل الأول في حياته وعن التغني بالشعارات والبدع التي تستورد من أعداء الله شرقاً وغرباً، ويتوب عن تجزئة الإسلام أجزاء؛ فهذا يرفضه، وهذا يقبله، وهذا ضروري؛ وهذا هامشي! وعن قياس الإسلام على سائر النحل والأديان الأخرى، واعتبار حاله بأحوالها، وعن تضييق المفهوم الرباني للإسلام وتقليصه إلى أن يقتصر على هذه الحركات التي تمارس في المسجد، وإلى هذه التراتيل التي تسمع عند موت شخص، ولا شيء بعد ذلك.
وباختصار، فكما تكون التوبة من الموبقات الخلقية والسلوكية وارتكاب الفواحش، والتهاون بأركان الإسلام؛ تكون أيضاً من الموبقات والفواحش الفكرية والعقيدية الشائعة.(24/15)
وإذا شئنا أن نناقش تحليلات هؤلاء الجهلة بظواهر الأمور فضلاً عن جهلهم بنوايا المسلمين الذين يرجعون إلى دينهم زرافات ووحداناً فإن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي يذكرونها لا تكفي وحدها لتفسير ذلك، وهذا تكذيب للواقع، وإساءة إلى هذه الجموع العريضة من الشباب المسلم الذي يجتهد في إثبات عقيدته والتمسك بهدي ملته، وتشكيك بتوجه هؤلاء؛ فلو كان العامل الاقتصادي هو الدافع فما بالنا بهؤلاء الذين اختاروا هذا الطريق على الرغم من البحبوحة التي يعيشون فيها؟ ماذا يدفعهم إلى هذا؟ أهو طمع في الزيادة؟ ! ثم ما بال هذه الجماهير التي ذاقت بسبب تمسكها بعقيدتها كل أنواع المحن من قتل وسجن وتضييق وتشريد..
ومع هذا لم ترض الدنية في دينها، ولم تفتنها التهديدات ولا الإغراءات عن التخلي عما تؤمن به؟ !.
إن طرق المغريات المادية والمعنوية لم تزل مفتوحة أمام طلاب الدنيا، وما على الإنسان الذي يريد المطامع الدنيوية إلا أن يشير ولو إشارة إلى امتعاضه من المظاهر الإسلامية، ويتهجم على هذا التيار من الفهم والتفكير الذي يحس ويلمس بين الجماهير المسلمة؛ حتى يُحْتَضَن وترفع درجته لينصب إما أديباً عبقرياً، أو مفكراً مستنيراً جريئاً، وبعد أن يكون نكرة فقيراً مطوياً في براثن الإهمال والضعة؛ يصبح معرفة غنياً طافياً على سطح المجتمع.
إن تفسير رجوع الناس إلى دينها هذا التفسير الفج مثل تفسير كارل ماركس للتاريخ، وبقدر تهافت الماركسية وانهيارها؛ ستنهار هذه التفسيرات والتحليلات إن شاء الله.
وهذا التفسير والتفسير المادي للتاريخ هو نفسه تفسير المستشرقين والمستغربين للفتوح الإسلامية بأنها فتوحات وهجرات اقتصادية خرج فيها العرب من جزيرتهم تحت ضغط الحاجة، وانساحوا في البلاد للنهب والسلب لتحسين وضعهم الاقتصادي! وهكذا تجرد هذه الموجات الكاسحة من الشباب المسلم من أي دافع مشروع، ومن أي هدف نبيل، وتشوه صورتها لتبدو موجات مسعورة، تنشر الفوضى والتخريب، ليكون ذلك مسوغاً لضربها أو علاجها بكافة الطرق، تجرد هذه الجماهير من الأحفاد كما جردت أجدادها من الغايات السامية، والأهداف العظيمة، وتصاغرت تضحياتهم ودماؤهم المسفوحة في كل ربوة، وفوق كل ثرى لتكون من أجل البحث عن لقمة الخبز فقط، أما سبيل الله، والجنة، وجزاء الصابرين، وغسل العار، والعزة الإيمانية، وحرب الظلم والطغيان، والرباط، والشهادة، ومن هو في سبيل الله، ومن هو في سبيل الشيطان.
كل ذلك لا قيمة له ولا وجود له في نظر علماء الاجتماع الذين يبحثون في الظواهر الإسلامية وهم يعيشون خارجها.
ولكن أنى لإنسان أن يصف لك ألمك كما تشعر به حتى ولو كان طبيباً ألمعياً؟ تشتكى ما اشتكيتُ من ألم الشوق إليها والشوقُ حيث النحول وإذا خامَرَ الهوى قلبَ صب فعليه لكل عين دليل
http://www.albayanmagazine.com المصدر:
==============(24/16)
(24/17)
المستشرق المجري الدكتور روبرت سيمون
محمود بيومي
يؤكد المستشرق المجري الدكتور"روبرت سيمون" في لقاء له مع (الإسلام اليوم) بالقاهرة أنه أحب الإسلام لمزاياه التشريعية، ولسهولة تعاليمه الربانية، ولاحتوائه على ثروة هائلة من الحقوق الإنسانية التي تصون أمن المجتمعات البشرية، ولأنه دين سماوي خالد قائم على إرساء قواعد السلم والأمن في المجتمع الدولي كله.
وأشار إلى أن أحوال المسلمين في المجر تدعو للتفاؤل؛ لأن المسلمين في المجر استطاعوا تأسيس حضارة إسلامية راقية، ولأن الأقلية المسلمة في المجر من الأقليات المسلمة النشطة في قارة أوروبا، ولأن اللغة المجرية ليست لغة أوروبية وإنما لغة آسيوية تأثرت بالعروبة القرآنية.. وأضاف المستشرق المجري: إنني أعتبر الشورى في الإسلام فريضة سياسية ومن أسمى وأرقى النظم الديمقراطية التي عرفها وطبقها العالم خاصة نظام الشورى في العهد النبوي الشريف، وفي عهد الخلفاء الراشدين.. كما أن نظام الزكاة في الإسلام فريضة اقتصادية قامت من أجلها أول حرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .. كما أن صوم شهر رمضان عبادة، وكذلك فإن الحج عبادة إسلامية عملية لها إيجابيات شتى في تاريخ المسلمين في النواحي الشخصية والنواحي الجماعية، فكل ما جاء به الإسلام يُسهم في ترقية حياة المسلمين في مختلف المجالات، ولو تمسك المسلمون بأهداب و هدايات الدين الإسلامي الحنيف لتحققت لهم الريادة الكاملة في قيادة الأسرة البشرية، والأخذ بيدها نحو المجتمع المثالي المنشود.
ويقول المستشرق المجري الدكتور روبرت سيمون: لقد درست حقوق الإنسان كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لمدة عشر سنوات، ووجدت أنها حقوق عامة للأسرة الإنسانية كلها، وهذه الحقوق هي المثل الأعلى الذي تنشده كافة الشعوب والأمم؛ إذ ترجع هذه الحقوق في أصولها إلى توفير الحرية للناس وتحقيق العدل والمساواة والأمن بينهم، واستهدافا لعالم يكون فيه الناس أحراراً فيما يقولون، وفيما يعتقدون، ويكونون في مأمن من الفزع والصراع بين البشر الذي يعاني منه المجتمع الدولي.
وأضاف: فإذا نظرنا إلى " حق الحرية " كما وردت في الإسلام.. نجد أنفسنا أمام قاعدة متينة من الحرية تؤكد أن لكل إنسان الحق الكامل في اختيار العقيدة التي يقتنع ويؤمن بها من غير ضغط ولا إكراه.. ويتفرع من حق حرية العقيدة حقوق أخرى منها: ممارسة شعائر العقيدة والعمل بشريعتها في حرية وعلنية.
ويؤكد المستشرق المجري قائلاً: لقد أخطأ عدد كبير من المستشرقين في فهم حرية العقيدة الدينية، فالمرتد هو المسلم الذي ينكر ما جاء في دينه الإسلامي.. ولاشك أن قتل المرتد لا يمكن أن يكون عقوبة على الكفر ذاته؛ فقتل المرتد عن الإسلام كما جاء في الشريعة الإسلامية لا يتعارض أبداً مع الحرية الدينية التي قررها الإسلام، ونحن نرى أن أعظم الدول تطبيقاً للنظام الديمقراطي في العالم تعاقب كل من يرتكب جريمة الخيانة العظمى دون أن تمس هذه العقوبة الحرية المكفولة للناس بمقتضى القانون والدستور، والدليل على سوء فهم الذين يردّدون ذلك أن غير المسلمين من يهود ونصارى.. قد كفل لهم الإسلام حرية العقيدة دون إكراه أو اضطهاد.. لذا فإنني أؤكد أن قتل المرتد عن الإسلام إنما يكون لجريمة الخيانة العظمى والمكيدة التي قام بها ضد المجتمع الذي عاش فيه وبالنظام العام الذي تقوم عليه الدولة.
أمّا عن أحوال المسلمين في المجر وكيف عرفت المجر الإسلام فيقول:
الأقلية المسلمة في المجر من أنشط الأقليات المسلمة في جنوب وسط قارة أوروبا، وقد بلغ عدد المسلمين في المجر اليوم أكثر من (30) ألف نسمة.. يتمتعون بكامل حريتهم في إقامة مؤسساتهم الدعوية والتعليمية. والإسلام دين رسمي معترف به لدى الحكومة المجرية، وقد تزايدت أعداد المسلمين خلال السنوات الماضية؛ إذ كانت أعداد المسلمين في عام 1950 ميلادية ثلاثة آلاف نسمة. أصبحوا في عام 1985 ميلادية ستة آلاف نسمة.. أي أن أعداد المسلمين قد تزايدت خمس مرات خلال السنوات الأخيرة.
الآثار الإسلامية النادرة:
ويضيف المستشرق المجري الدكتور روبرت سيمون: لقد عرفت المجر الإسلام في أواخر القرن الرابع الهجري.. حيث هاجرت بعض القبائل البلغارية إلى المجر في هذا الوقت وتمركزوا في (30) قرية نشروا الإسلام بين سكانها حتى أصبحت من القرى الإسلامية الخالصة وقد تزايدت أعداد المسلمين خلال الحكم الإسلامي العثماني للمجر الذي بدأ منذ عام 949 هجرية وحتى عام 1098هجرية.. (1586 1687 ميلادية).. وقد أسس المسلمون خلال هذه الفترة (61) مسجداً جامعاً و (22) مسجداً للصلوات الخمس يومياً وعشر مدارس إسلامية، وبعض المكتبات الدينية، وذلك في مدينة بودابست وحدها. بالإضافة إلى المساجد التي شُيدت في بعض المدن والقرى الأخرى كما انتشرت الدور والقصور التي شُيدت وفقاً للعمارة الإسلامية حتى أصبحت بودابست من المدن الإسلامية..(24/18)
وقد تعرضت أغلب هذه المساجد للتدمير في القرن السابع عشر الميلادي. لذا فقد تأسست جمعية إسلامية مهمتها الحفاظ على التراث الإسلامي في المجر.. يرأسها خبير الآثار الإسلامية المجري الدكتور يوسف جيرو..وقد تمكنت هذه الجمعية من إعادة ترميم بعض المساجد مثل مسجد "حسن باكوفيل"ومسجد" الغازي قاسم" وغيرها.
23/12/1425 - 03/02/2005
http://www.islamtoday.net المصدر :
=============(24/19)
(24/20)
المستشرق النمساوي محمد أسد (ليو بولد فايس) كما لا يعرفه الكثيرون
د. إبراهيم عوض
محمد أسد (1900- 1992م) صحفي نمساوي يهودي، وُلِد بإقليم من أقاليم بولندا كان تابعاً آنذاك للإمبراطورية النمساوية، وكان يسمى ليوبولد فايس، ثم دخل في الإسلام سنة 1926م بعد أن رحل إلى الجزيرة العربية أيام الملك عبد العزيز آل سعود، ثم انتقل بعد ذلك إلى شبه القارة الهندية حيث توثقت بينه وبين العلامة إقبال عُرَى الصداقة، وظل يساعد في إذكاء نهضة الإسلام في تلك البلاد إلى أن انفصلت الباكستان عنها، فانتقل إلى الإقامة في الدولة المسلمة الجديدة، واكتسب جنسيتها، وأصبح مندوبها الدائم في الأمم المتحدة حتى عام 1953م.
وقد تزوج أسد ثلاث مرات: أُولاها بإلزا التي أسلمت معه ولكنها لم تُعَمَّر طويلاً، فاقترن بامرأة عربية رُزِق منها ابنه الوحيد طلال الأستاذ بإحدى الجامعات الأمريكية ثم انفصل عنها، وأخيراً تزوج بولا حميدة الأمريكية التي أسلمت هي أيضاً.
كما ترك أسد عدة كتب تُرْجِم بعضها إلى العربية: "الطريق إلى مكة"، و"الإسلام في مفترق الطرق"، و"منهاج الحكم في الإسلام"، وبعضها الآخر لم يترجم بعد إلى لغة الضاد حسب علمي، وهى ترجمته الإنجليزية للفرآن الكريم واسمها: "The Message of the Qu r an"، وترجمته لقسم من "صحيح البخاري" بعنوان "Sahih al-Bukha r i _ The Ea r ly Yea r s of Islam "، وبقية سيرته الذاتية، وعنوانها: "Coming Home of the Hea r t" ...إلخ.
والذين يعرفون أسد في العالم العربي إنما يعرفونه في الغالب من خلال كتبه المترجمة إلى العربية، وهذه الكتب ليس فيها تقريباً ما يمكن الاختلاف معه بسببه، لكن الأمر يختلف بالنسبة لترجمته للقرآن، وإلى حد ما بالنسبة لترجمته لـ"صحيح البخارى"، إذ نراه في الأولى مثلاً ينكر معجزات الأنبياء، ويُجَوِّز عليهم الوقوع في الأخطاء والخطأيا مثلهم في ذلك مثل أي شخص آخر، كما يؤوّل الجن والشياطين والملائكة ونعيم الجنة وعذاب النار تأويلاً رمزياً، فضلاً عن أن له في مجال الفقه آراء غريبة ليس من السهل هضمها أبداً، وهو ما يجهله قراؤه العرب، وما يبدو الإسلام معه شيئاً آخر غير الذي نعرف.
وكل ما أرجوه ألا أكون قد ظلمت الرجل أو أسأت إليه، فلقد كنت شديد الانبهار بقصة إسلامه وكتاباته المترجمة إلى لغتنا، إلى أن اطَّلَعْتُ على ترجمته للقرآن الكريم، ووجدت فيها تلك الآراء الغريبة فخفَّ انبهاري، وحَلَّتْ محلَّه نظرة نقدية تريد وضع الأمور في نصابها الصحيح، مبتغية بذلك وجه الله وحده، وهو نعم المولى ونعم النصير!
وسوف أبدأ بدراسة هذه الترجمة لأنها تتضمن آراء أسد التي لا يعرفها جمهور قرائه العرب، وستكون أولى خطواتنا في هذه الدراسة هي تناول الناحية الفنية في الترجمة، أما آراء كاتبنا الغريبة فيجدها القارئ في هوامش هذه الترجمة، وسوف نتعرض لها لاحقاً بعد الانتهاء من الناحية الفنية:
- ترجمة أسد للقرآن الكريم:
صدرت ترجمة محمد أسد للقرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية عام 1980 م عن "دار الأندلس" بجبل طارق، وكانت قد صدرت طبعة محدودة تضم السُّوَر التسع الأولى قبل ذلك بستة عشر عاماً، وتقع الترجمة الكاملة في ألف صفحة من الصفحات الكبار، ويشغل الجزءَ العلوىَّ من كل صفحة النصُّ القرآنى في الناحية اليمنى، وترجمته الإنجليزية على اليسار، أما الجزء السفلىّ فيضم الهوامش التفسيرية، والتعليقات الفنية الخاصة بعملية الترجمة...إلخ، وفي بداية كل سورة يطالع القارئ تمهيداً يتحدث عن تاريخ نزولها، والموضوعات التي تتعرض لها وما إلى ذلك.
ولا شك أن ترجمة مثل هذه تحتاج إلى دراسة علمية مفصلة تليق بها وبصاحبها، ولست أعلم أحداً نهض بهذا العبء من قبل، وكنت قد رأيت نسخة من هذا الكتاب لأول مرة في لندن في إحدى المكتبات التي تبيع الكتب العربية والإسلامية عام 1981م، ثم وجدت نسخة أخرى في مكتبة كلية التربية بالطائف عام 1991م، واستعنت بها في كتابي عن سورة "الرعد"، ثم لما عدت إلى مصر شرعت أبحث عنها فعثرت على نسخة منها في مكتبة جامعة القاهرة صوَّرْتُها وأنا في غاية الانشراح، وهذه الصورة هي التي اعتمدتُ عليها في دراستي لسورة "المائدة"، التي خالفت فيها أسد في بعض ما قاله عن عقوبة الحرابة، وهأنذا أجد في الدوحة نسخة أخرى سهّل لي استعارتها من وزارة الأوقاف القطرية الأستاذ أحمد الصِّدّيق الشاعر الإسلامي المعروف، فله أجزل الشكر على هذه المعاونة القيمة، وهى النسخة التي اعتمدت عليها في وضع هذه الدراسة.
وبالمناسبة فقد وجدت بعد أن انتهيت من تأليفها نسخةً أخرى هنا في مكتبةٍ يملكها رجل باكستانى فاشتريتها.(24/21)
وقد لاحظت أن أسد - على طول ترجمته كلها - لم يسمّ قط رب العزة باسم "الله" مُؤْثِراً استعمال كلمة "God"، ولا أدرى السر في ذلك، وهو نفسه ما فعله في ترجمته لـ"صحيح البخارى"، إن كلمة "الله" هي اسمُ عَلَم، وأسماء الأعلام لا تتغير في الترجمة، بل تبقى على حالها كما هو معروف، وإذا كان سافارى وبيرك مثلاً في ترجمتيهما للقرآن إلى الفرنسية قد صنعا مثل هذا فمن السهل أن يُفَسَّر ذلك بأنه كراهية منهما لهذا الاسم الكريم الذي يُعْرَف به المولى في دين محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن ماذا عن أسد نفسه الذي ترك دينه وأسماء الإله فيه إلى الإسلام وإلهه؟ ترى لماذا تخلى بتلك البساطة عن هذه الخصوصية الإسلامية الجميلة؟
ونراه أيضاً يترجم "الهجرة" في الأغلبية الساحقة من المرات بـ"Exodus"، وهى الكلمة التي ارتبطت بتاريخ اليهود وخروجهم جميعاً دفعة واحدة من مصر(1)، لقد تحولت اللفظة العربية إلى اسمِ عَلَم تقريباً، بل لقد دخلت اللغات الأوربية كما هي دون تغيير مع كتابة حرفها الأول "H" بالحجم الكبير دلالة على أنها تُعامَل في تلك اللغات على أنها عَلَم من الأعلام، لقد انسلخ كاتبنا عن دينه فلماذا يهجر الكلمة العربية المسلمة إلى تلك اللفظة الأجنبية ذات الإيحاءات اليهودية؟ ولقد انتقدتُ جاك بيرك لنفس السبب في كتابي الذي وقفته على دراسة ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم (2)، وأحسب أن الأستاذ أسد أولى بالعتب من بيرك لأنه مسلم، أما بيرك فلا، ومما ترجم به كاتبنا أيضاً مصطلحَ "الهجرة" كلمةُ "flight: الفرار" (3)، وهى ترجمة خاطئة، بل لا إخال أنني أتجنى عليه إذا قلت إنها مسيئة في حق الرسول - عليه الصلاة والسلام -.
إن من المقبول أن يصف مثلاً خروج موسى - عليه السلام - من مصر بعد وَكْزه المصري وقضائه عليه، بأنه "فرار"(4) لأن القرآن الكريم نفسه يقول على لسان ذلك الرسول الكريم في حديثه إلى فرعون بعد أن عاد إلى أرض الكِنَانَة محمَّلاً برسالة السماء: ((ففررت منكم لمّا خفتكم))(5)، وفوق هذا فإن هذا الفرار إنما كان قبل بعثته، ولذلك لم يعقب الله - سبحانه - على تصرفه هذا بشىء، على عكس الحال في قصة يونس - عليه السلام - حين أَبَق من قومه لعنادهم وتصلبهم في الكفر، فركب سفينة لترسو عليه القرعة، ويلقى بنفسه في البحر من ثم فيبتلعه الحوت حيث يقاسى في بطنه الأهوال إلى أن كتب الله له الفرج(6)، أما تسمية الهجرة المحمدية "فراراً" فهي في الواقع خطأٌ صُراحٌ، وإساءة لا تصح، وإذا كان بعض المستشرقين من غير المسلمين يستعملون هذه اللفظة لقد كان أَقْمَنَ بأسد اختطاطُ سبيلٍ أخرى، وعنده مندوحة عريضة في كلمة "Hegi r a" التي دخلت قاموس اللغة الإنجليزية، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها، إن محمداً - عليه الصلاة والسلام - لم يهاجر من مكة إلا بإذن إلهى، فكيف تُسَمَّى هجرته "فراراً"، ثم إن أسد نفسه يقول إن لفظة "الهجرة" هي من الألفاظ ذات الإيحاءات الروحية، فبأي معنى طاوعته نفسه إذن لترجمتها بـ"الفرار" مُنْزِلاً إياها من أعلى عِلِّيّين إلى أسفل سافلين؟
وقد ترجم كاتبنا أيضاً عبارة "مِنْ خِلاف" في قوله تعالى: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن في الأرض فساداً أن يُقَتَّلوا أو يُصَلّبوا أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنْفَوْا من الأرض ))(7)، وكذلك في قوله سبحانه على لسان فرعون يهدّد سَحَرَته بعد انقلابهم عليه وإيمانهم بموسى: ((فلأُقَطِّعَنَّ أيديَكم وأرجلَكم من خلاف))(8) بـ"because of (in r esult of) you r pe r ve r sness "(9)، أي بسبب الإفساد (الناشئ عن الخلاف والعصيان)، مخالفاً بذلك ما قاله علماء المسلمين من أن المقصود هو قطع اليد اليمنى والقدم اليسرى، أي من جهتين مختلفتين.
والحق إنه لمن الصعب جداً موافقة الأستاذ أسد على هذه الترجمة، إذ من غير المعقول أن يفهم - وهو الأجنبي وبعد كل هاتيك القرون - تعبيراً عربياً قديماً أفضل مما فهمه كل المفسرين والفقهاء المسلمين تقريباً، وأيضاً من الصعب جداً أن تكون عبارة "من خلاف" إشارة إلى علة تقطيع أيدي المفسدين الخارجين وأرجلهم، والسبب هو أن تلك العلة قد نُصَّ عليها قبل ذلك في كل الآيات المذكورة: ففي آيات "المائدة" نقرأ في أولها: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويَسْعَوْن في الأرض فساداً...))، فالعلة إذن هي محاربة الله ورسوله، والسعي في الأرض فساداً، فلماذا يعاد النص على تلك العلة بعد ذلك على هذا النحو الغامض بعبارة "من خلاف"؟(24/22)
أما في الآية الخاصة بفرعون فإننا نسمعه يقول للسَّحَرة: (( آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم؟ إن هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتموه بالمدينة لتُخْرِجوا منها أهلها ))، وواضح أنه يشير إلى العلة التي أوجبت في نظره تقطيع أيديهم وأرجلهم، وتصليبهم في جذوع النخل، ألا وهى مَكْرُهم لإخراج أهل المدينة منها، كذلك لو كانت عبارة "من خلاف" تشير إلى سبب التعذيب فلماذا لم تُذْكَر إلا عقب الصنف الأول منه فقط، ولم تؤخَّر إلى ما بعد الفراغ من ذكر كل ألوانه ما دامت هي علة هذه الضروب العقابية جميعاً؟ ثم إننا لم نسمع باستخدام هذا التعبير في المعنى المذكور، ولو كان هناك شاهد من النصوص القديمة عليه فلماذا لم يَسُقه المترجم؟
الواقع أن الذوق العربي لا يرتاح إلى مثل ذلك التوجيه، والواقع أيضاً أن أسد قد اعتسف هذا التفسير أَوّلاً في سورة "المائدة" لِيَخْلُص منه إلى إلغاء عقوبة الحرابة على ما سوف يأتي بيانه في فصلٍ لاحق، ثم اضْطُرَّ أن يقول به في آية فرعون والسَّحَرة حتى لا يناقض نفسه، هذا هو تفسيري للمسألة، والله أعلم.
ومن الألفاظ القرآنية التي تصرَّف فيها مترجمنا تصرفاً واسعاً يطمس مفهومها طمساً لفظُ "الأعراف"، إن هذا اللفظ يشير إلى مفهوم قرآني خاص، فكان ينبغي أن يُبْقِىَ أسد عليه كما هو، ولْيَشْرَحْه بعد ذلك في الهامش على النحو الذي يفهمه فيجمع بذلك بين وفاء الترجمة للأصل وبين شرح هذا الأصل بما يعتقد أنه هو المعنى المراد، لقد ترجم كاتبنا لفظ "الأعراف" بما يعنى أنه "القدرة على معرفة الحق والباطل والتمييز بينهما"، ومن ثم صار قوله تعالى: ((وعلى الأعراف رجالٌ يعرفون كُلاًّ (أى كلا من أهل الجنة وأهل النار) بسيماهم )) في الترجمة الإنجليزية هكذا:" they who (in life) we r e endowed with the faculty of disce r nment (between r ight and w r ong)"، أي أولئك الذين كانوا يتمتعون في الدنيا بالقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ(10)، وهو ما يعنى أنه لا "أعراف" في الآخرة كما يُفْهَم بكل وضوح من النص القرآني! فكيف كان ذلك يا ترى؟
يوضح أسد هذا في الهامش بقوله: "إن كلمة "الأعراف" (التي أعطت السورةَ اسمها) قد تكررت في القرآن مرتين ليس إلا، وذلك في الآيتين 46، 48 من هذه السورة، وهى جمع "عُرْف" التي تعنى في الأصل "المعرفة" أو "الاستبصار"، كما تُسْتَعْمل للدلالة على أعلى أو أسمى جزء في الشيء (لأنه أسهل جزء يمكن رؤيته) مثل: "عُرْف الديك" و"عُرْف الحصان"...إلخ، وعلى أساس من هذا الاستعمال الشائع حَسِبَ كثيرٌ من المفسرين أن "الأعراف" هنا تشير إلى "الأماكن المرتفعة" مثل أعالي الجدران والأسوار، ومن ثم ربطوا بينه وبين "الحجاب" المذكور في الجملة السابقة (جملة "وبينهما (أي بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب")، لكن هناك تفسيراً أصوب من ذلك يعتمد على المعنى الأصلي لكلمة "عُرْف" وجمعها ألا وهو الاستبصار والتمييز أو القدرة عليهما، وقد أخذ بهذا التفسير بعض كبار المفسرين القدماء كالحسن البصري والزجّاج، اللذين يوافق الرازي على ما قالاه موافقة صريحة، واللذين يؤكدان أن عبارة "على الأعراف" ترادف قولنا: "على معرفة"، أي أصحاب علم أو ذوو مقدرة على التمييز (بين الحق والباطل)، ومن ثم فالرجال الذين على الأعراف هم الذين كانوا في دنياهم قادرين على إبصار الحق من الباطل (متعرِّفين على كل منهما بعلامته المميِّزة له)، لكنهم في ذات الوقت لم يكونوا قادرين على اتخاذ موقف محدد منهما، أي أنهم باختصار كانوا أشخاصاً غير مبالين، وهذا الموقف الفاتر قد حرمهم عمل الكثير من الخير أو الشر بحيث أدَّى ذلك في النهاية إلى ما تقوله الآية التالية من أنهم لا يستحقون الجنة ولا النار (وهناك عدة أحاديث بهذا المعنى أوردها الطبري وابن كثير في تفسيريهما لهذه الآية)، هذا ويُقْصَد بكلمة "رجال" في الآيتين المذكورتين "الأشخاص" من الجنسين: جنس الرجل وجنس المرأة على السواء"(11).
وواضح أن أسد ينطلق من أن المعنى الأصلي لكلمة "عُرْف" هو "المعرفة" وأن دلالتها على أعلى جزء في الشيء هي دلالة فرعية، لكنه بهذه الطريقة يقلب رأساً على عقبٍ ما نعرفه من أن المعنى المادي للكلمات هو الأساس الذي تتفرع منه المعاني المجردة، وإذن فهذا المعنى الأخير الذي ذكره على أنه المعنى الفرعي هو في الحقيقة المعنى الأصلي لا العكس، وثانياً هل يمكن في العربية أن نقول: إن فلاناً "على الأعراف" بإطلاق ونحن نقصد أنه على معرفة واسعة وقدرة كبيرة على التفرقة بين الخطأ والصواب؟ الذي أعرفه هو أننا نقول مثلاً: "فلان على معرفة بكذا" لكنى لم أسمع قط بمن يقول: "فلان على عُرْف" هكذا بإطلاق (أي على معرفة)، بله أن نقول: "فلان على أعراف"، فضلاً عن "فلان على الأعراف" (بالألف واللام)! ترى أيصح أن نقول: "فلان على معارف"؟ بالطبع لا، فما بالنا بـ"على المعارف"؟(24/23)
وثالثاً فإن الزمن في قوله تعالى: "وعلى الأعراف..." هو نفس الزمن الذي ينظر فيه هؤلاء الرجال إلى كل من أهل الجنة وأهل النار أي في الآخرة، أما الأستاذ أسد فيقول إنهم "كانوا" يتمتعون "في الدنيا" بالمقدرة على التمييز بين الحق والباطل، وهذا غير ذاك كما هو واضح، ثم إن العرب إذا وصفوا شخصاً بالتمييز بين الحق والباطل فإنهم يقصدون مدحه لا القول بأنه فاتر في موقفه تجاههما مما يدخل في باب الذم لا المدح!
أما الملاحظة الخامسة فهي أن أصحاب الموقف الفاتر في مثل هذه الأمور هم عادةً الأشخاص الذين لا يتمتعون بمقدرة على المقاومة، ولا يستطيعون من ثم الصمود أمام إغراءات الشهوات والأباطيل، أليس هذا ما نشاهده في هذه الحياة؟ وعلى ذلك كان ينبغي أن يكون مكان هؤلاء مع أهل النار.
وسادساً لقد تحدث القرآن كثيراً عن الكافرين الذين يصرون على كفرهم رغم علمهم أنهم على الباطل، وأن النبي على الحق، ومع ذلك لم يستعمل كلمة "أعراف" في أي موضع من هذه المواضع، بل يستعمل عادةً كلمة "يعرفون" أو "يعلمون".
وسابعاً هل ثمة معنى لقولنا: "وعلى المعرفة رجال يعرفون كذا"؟ إن هذا كلام ركيك، وحاشى لله أن يكون هذا هو أسلوب القرآن! وعلى أية حال فقد كان ينبغي أن يترجم محمد أسد هذه العبارة ترجمة مباشرة، ثم فليقل بعد ذلك في الهامش ما يشاء وذلك احتراماً للنص القرآني، وحفاظاً عليه بدلاً من تحيُّفه وطَمْسه قليلاً قليلاً، وإسقاط تصوراته هو ومفاهيمه عليه في ذات الوقت!
إن النص القرآني شيء، وفهمه وتفسيره شيء آخر، وإن مكان التفسير في مثل هذه القضية هو الهامش الذي سيُحْسَب حينئذ على المترجم لا على القرآن نفسه.
ومما يجدر ذكره كذلك في هذا السياق أن كاتبنا يترجم كلمة "النَّسِىء" في قوله تعالى: ((إنما النسىء زيادة في الكفر يُضَلّ به الذين كفروا يُحِلّونه عاماً ويُحَرِّمونه عاماً ليواطئوا عِدَّة ما حَرَّم الله فيُحِلّوا ما حَرَّم الله ))(12) بـ"the inte r calation of monthes" بمعنى "إضافة بعض الشهور" ليظل عدد أيام السنة القمرية مساوياً لعدد أيام نظيرتها الشمسية، إذ كانوا (كما يقول) يزيدون شهراً في السنة الثالثة والسادسة والثامنة كل ثماني سنوات، ثم يمضى قائلاً: إن المسلمين لو كانوا جَرَوْا على هذه الطريقة الجاهلية لجاء الصوم والحج دائماً في نفس الموعد من السنة الشمسية كل عام، ومن ثم يكون أداؤهما إما بالغ السهولة أو شديد الصعوبة حسب الفصل الذي سيقع فيه(13).
والواقع أن هذا أحد المعنيين اللذين تذكرهما المعاجم كـ"لسان العرب" و"تاج العروس"مثلاً لكلمة "النسىء" أما معناه الآخر فنَقْل حُرْمة أحد الشهور الحُرُم (وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرَّم) إلى شهر آخر لأن العرب كانوا إذا تقاتلوا وأتى عليهم شهرٌ حرامٌ وأرادوا أن يستمروا في القتال ولا يتوقفوا طِبْقاً لما تقضى به حرمة تلك الأشهر، ينقلون تلك الحرمة إلى شهر آخر غير محرَّم بعد انتهاء الحرب، فالأستاذ أسد كما نرى قد ذكر أحد المعنيين لكمة "النسىء" وأغفل المعنى الآخر وهو المعنى الذي أرى أنه الأنسب للسياق: فالآية تتحدث عن "الأشهر الحُرُم" لا عن الحج أو الصيام، وتذكر تحليل النسىء عاماً وتحريمه عاماً، ولا تشير إلى زيادة أيامٍ كل عام كي تتوافق السنة القمرية مع السنة الشمسية، وتقول: إن غاية العرب من ذلك هو مواطأة عِدّة ما حرَّم الله أي جَعْل الفترة التي يمتنعون فيها عن القتال أربعة أشهر دون أن تكون بالضرورة هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ثم فليكن المعنى الذي أدار محمد أسد عليه ترجمته رغم ذلك كله هو المعنى الصحيح، أفلم يكن ينبغي أن يتعرض للمعنى الآخر في الهامش حتى يعطى القارئ فرصة لاختيار ما يطمئن إليه عقله وضميره؟ ذلك أنه لا يفسر بل يترجم، وما دامت الآية تحتمل معنيين لقد كان ينبغي أن يذكر المعنى الثاني في الهامش ويخرج بذلك من العهدة، أياً ما يكن الأمر فقد رأيت عدداً من مترجمي القرآن يترجم "النسىء" كما ترجمه أسد، ويبدو لي أنه قد تأثر بهم، وقد رددت على بعضهم في كتابي "المستشرقون والقرآن".(24/24)
ويُبْعِد الأستاذ أسد النُّجْعة في بيداء الاعتسافات الخاطئة عند ترجمته لـ"كذلك" في قوله تعالى عن رحلة ذي القرنين في اتجاه المشرق: ((كذلك وقد أَحَطْنا بما لديه خُبْراً ))(13) بـ"thus (We had made them and thus he left them)"، ومعناه : "كذلك جعلناهم، وكذلك تركهم ذو القرنين"، يقصد (كما قال في الهامش) أن ذا القرنين لم يشأ أن يتدخل في أسلوب حياتهم البدائية الطبيعية في العيش عراةً حتى لا يسبب لهم الشقاء، إذ هم لا يحتاجون إلى أي نوع من الملابس(14)، لكن ثمة عدداً من الأسئلة لا بد من الجواب عليها عند ترجمة هذه الآية الكريمة: ترى هل هناك أي دليل على أن المقصود بعدم وجود ستر بين هؤلاء القوم وبين الشمس أنهم كانوا عراة؟ ألا يمكن أن يكون المقصود مثلاً أن الجو عندهم ضاحٍ طول النهار؟ أو أنهم من أهل الصحراء حيث لا شجر ولا واقٍ طبيعي من حرارة الشمس؟ وحتى لو كان الأمر في "الستر" هو ما قاله، فما الدليل على أن كلمة "كذلك" تعنى ما جاء في ترجمته؟ ثم كيف لا يهتم ذو القرنين، وهو (كما يلوح من الآيات) من الحكام الصالحين المؤمنين بالله - سبحانه - بأن يُخْرِجهم من حالة العُرْى، ويعلِّمهم كرامة الاستتار؟ لقد امتنَّ الله في القرآن على عباده بأنه قد أنزل عليهم لباساً يوارى سوءاتهم وريشاً(15)، وهو ما يدل على أن ستر العورات وارتداء الملابس امتثال لمشيئة الله، وتقبل لنعمته الكريمة، فكيف يقول أسد إن ذا القرنين قد آثر تركهم على ما هم عليه من عُرْىٍ وبدائية؟ بل إن آدم وحواء في بداية الخليقة ما إن أكلا من الشجرة المحرمة وبدت لهما سوءاتهما حتى طَفِقا يَخْصِفان عليها من ورق الجنة رغم أنه لم يكن هناك أحد غيرهما، فما بالنا بِعُرْى الدنيا الذي يكون عُرْضة لأنظار كل من هَبَّ ودَبّ؟ وفوق ذلك فإنه - سبحانه - قد نسب نزع الملابس عن أبوينا الأوَّلَيْن إلى الشيطان نفسه بما يبرهن أقوى برهان على قبح ذلك وشُنْعه عند رب العالمين(16)، إن هذا الموقف الذي ينسبه أسد إلى ذي القرنين لهو أشبه بما كان يفعله المستعمرون الأوربيون مع همج القارة الأفريقية إبان الهجمة الاستعمارية على تلك القارة، إذ كانوا يَجْهَدون في إبقائهم على ما هم فيه من جهل وبدائية كي يستطيعوا نزح ثروات القارة السوداء دون حسيب أو رقيب!
وثمة أيضاً لفظة قد ترجمها أسد بطريقة لا يمكنني هضمها، وهى تأديته حَرْفي "الطاء" و"الهاء" في مفتتح سورة "طه" بـ"O man: يا رَجُل" رغم أن ذلك أحد المعاني التي يذكرها المفسرون قائلين إن هذا هو معنى "طه" في النبطية والسريانية وغيرهما، بل إنه قد ترجم اسم السورة بذات الطريقة أيضاً فأصبحت تُعْرَف عنده باسم "سورة يا رجل"!(17)
ولقد سبق في كتابي "سورة طه - دراسة لغوية أسلوبية مقارنة"، في فصل "ملاحظات في تفسير السورة" أن رفضتُ أي تفسير لهذه الكلمة لا يقول إنهما حرفان مقطَّعان مثل: "ألم، ألمص، طس، حم، ق"، ويجد القارئ هناك بسطاً لرأيي والآراء التي رددتُ عليها، والذي يهمنا هنا هو القول بأن تفسيرها بـ "يا رجل" هو قول غريب فيه إساءة إلى النبي - عليه السلام - إذ لم يحدث أن ناداه ربه - سبحانه - في القرآن بغير النبوة والرسالة: (( يا أيها النبي، يا أيها الرسول )) أو بصفة تدل على حالة خاصة به في موقف معين: (( يا أيها المُزَّمِّل، يا أيها المُدَّثِر )).
فالقول إذن بأن الله - سبحانه - قد ناداه هنا بكلمة عامة تصدق على كل البشر هو قول لا يتسق مع الطريقة التي ينادى بها المولى في القرآن عبده محمداً، ثم فلنلاحظ أن أسلوب النداء: "يا أيها الـ..." المستعمل في جميع المرات التي نودي فيها الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا وجود له في "طه"، فلماذا يشذّ القرآن هنا بالذات عن أسلوبه في مناداة الرسول؟ بل لماذا يا ترى يلجأ القرآن الكريم إلى النبطية والسريانية في نداء الرسول العربي القرشي؟ أهو ضِيقٌ في العربية استلزم استعارة هذا اللفظ؟ أم هو لون من المباهاة بمعرفة اللغات الأخرى، حاش لله؟ أترى من المعقول أن ينادى الله - سبحانه - رسوله الكريم بما يضيق به صدر الواحد منا، نحن الذين لا نرتفع إلى عشر معشار مقامه صلى الله عليه وسلم لو نُودِىَ به، إذ يرى بحقٍّ أن فيه تجهيلاً له واحتقاراً؟ إن بعضهم يظن أن ورود كاف الخطأب في قوله - تعالى- عقب ذلك: ((ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)) معناه أنه لا بد أن تكون "طه" نداء للرسول، لكن ما وجه اللزوم في ذلك؟ إن هذه الكاف موجودة أيضاً في قوله سبحانه: "ألمص* كتابٌ أُنْزِل إليك..."، وفي "كهيعص* ذِكْرُ رحمة ربك عبده زكريا"، وفي "حم* عسق* كذلك يوحِى إليك وإلى الذين من قبلك اللهُ العزيز الحكيم" وغيرها، فلماذا لم يقل هؤلاء إن الحروف في هذه المواضع أيضاً هي نداء للرسول؟ لكل هذا أرفض رفضاً باتّاً أن يكون معنى "طه" هو "يا رجل"!(24/25)
ومن الألفاظ التي لا أوافق أ. أسد على ترجمته لها كلمة "زُرْقاً" في قوله تعالى: ((ونحشر المجرمين يومئذ زُرْقاً))(17)، إذ يؤوّلها بالإنجليزية قائلاً: "thei r eyes dimmed (by te r ro r )"، ثم يضيف في الهامش موضحاً أن المعنى الحرفي هو: "blue of (eye)"، وأن المقصود هو أن أعينهم ستبدو كما لو كانت مغطاة بغشاوة معتمة زرقاء(18)، وواضح أنه يصر على أن الزرقة هنا هي زرقة العيون مع أنه ليس في الآية ولا في السياق ما يدل على هذا أو يُلْمِح إليه مجرد إلماح، والذي يتبادر إلى ذهني أن تكون الزرقة هنا هي زرقة الاختناق، والمعاناة الرهيبة التي سيقاسيها المجرمون يوم القيامة حين يُنْفَخ في الصُّور، ولقد شاهدت منذ أكثر من عشرين عاماً في أوكسفورد طفلاً أصابته حالة اختناق وهو يبكى من الغضب مرتمياً على الأرض يرفس الهواء بقدميه من شدة بُرَحاء الألم، وقد اربدّ وجهه وازرقّ، ووقفنا حياله عاجزين لا نستطيع له شيئاً، وتصورت أنه سيموت، لكن سرعان ما انجابت عنه الغاشية، وعاد إلى حالته الطبيعية، فتنفسنا الصُّعَداء ورُدَّتْ إلينا أرواحنا، فهذا فيما أفهم هو الازرقاق المذكور في الآية الكريمة، وقد تكون الزرقة صِبغةً يُوسَم بها المجرمون يوم القيامة فضحاً لهم على رؤوس الأشهاد، أو تكون انعكاساً لما يعانونه آنذاك من همٍّ وخِزْى وكَرْب، وقريبٌ من هذا ما جاء في الآية 106 من "آل عمران": ((يومَ تبْيَضّ وجوهٌ وتسْوَدّ وجوه)) وكذلك الآيات 38- 42 من سورة "عَبَس": ((وجوهٌ يومئذٍ مُسْفِرة* ضاحكةٌ مستبشرة* ووجوهٌ يومئذٍ عليها غَبَرة* ترهقها قَتَرة* أولئك هم الكَفَرة الفَجَرة )).
وبالمناسبة فقد جاء في الترجمة الإنجليزية القاديانية التي حررها ملك غلام فريد أن زرقة العيون في الآية إنما تشير إلى أن هؤلاء المجرمين هم أمم الغرب النصرانية (19)، وكأن المجرمين يوم القيامة سيكونون كلهم من الأوربيين والأمريكان فقط، فلا مجرمين أفارقة أو آسيويين أو من أمريكا الجنوبية، وكأن الغربيين جميعاً سوف يدخلون النار ضربة لازب، وكأن الغربيين كلهم أصحاب عيون زرقاء، فليس فيهم من هو أخضر العينين أو أسودهما مثلاً، أما لماذا انصرف ذهن هذين المترجمين إلى زرقة العيون فسببه أن ذلك هو المذكور في كتب التفسير التي تقول إن العرب تتشاءم بصاحب العيون الزرقاء، لكن ينبغي أن نعرف أن أذواق العرب وأوهامهم شيء وحقائق الدار الآخرة شيء آخر.
أما ترجمة كلمة "أيام" في قوله - جل جلاله -: ((خَلَقَ السماواتِ والأرضَ في ستة أيام )) فتحتاج إلى وقفة خاصة، إن أسد يترجمها بـ"aeons"(20) أى حِقَب، وهى في حدود علمي ترجمة جديدة ولا بأس بها، لكن الإنسان يتساءل: لماذا يا ترى لم يجر على هذه الخطة في ترجمة كلمة "يوم" في قوله تعالى: ((يوم كان مقداره ألف سنة مما تَعُدّون))(21)، أو ((يوم كان مقداره خمسين ألف سنة))(22) التي يستخدم إزاءها كلمة "Day" رغم أن اليوم هنا أيضاً ليس هو اليوم العادي الذي نعرفه على سطح الكرة الأرضية بل حقبة متطاولة كما هو واضح، وهى الحجّة التي استند إليها في ترجمة لفظة "يوم" في عبارة "ستة أيام"؟ وبالمثل نراه يترجمها في عبارة "يوم الحساب" و"يوم الدين" بـ"Day"(23)، فلماذا هذه التفرقة غير المفهومة؟ إن هذه نقطة منهجية كان ينبغي أن تحظى من المترجم باهتمام أكبر.
وأحياناً ما يضيف أسد إلى الترجمة كلمة أو عبارة بين معقوفتين لتوضيح النص، وفي بعض المواضع قد تستدعى الحاجة فعلاً مثل هذه الإضافة، لكن في بعض المواضع الأخرى لا يستطيع الإنسان أن يبصر تلك الحاجة، بل قد تكون ذات خطورة على النص كما في ترجمته لقوله - تعالى-: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ))، الذي أضاف إليه في الترجمة عبارة "فهو أبوهم" قبل جملة "وأزواجُه أمهاتُهم"، وهو يسوّغ هذا الصنيع العجيب في الهامش قائلاً إنه اعتمد في ذلك على أن بعض الصحابة والتابعين كانوا يقولون هذا أثناء قراءتهم على سبيل شرح الآية (24) بيد أنى رغم ذلك أرى أن هذا خطأٌ صُرَاح لا سبيل إلى التهوين منه إذ إن علاقة زوجاته صلى الله عليه وسلم بأتباعه غير علاقته هو بهم، فقد حرَّم القرآن أن ينكحوا أزواجه من بعده، أما هو فكان يَحِلّ له أن يتزوج من نسائهم كما هو مبين في نفس السورة (25)، ثم إن الله - سبحانه - يقول في السورة ذاتها: ((ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم))(26)، فكيف نأتي نحن ونقول: إن محمداً لم يكن أباً لواحد من المسلمين فقط بل أباً للمسلمين كلهم أجمعين؟ أَوَبَعْد قول الله قول؟(24/26)
أما عبارة "رب المشارق" في سورة "الصافّات"فإنه يذهب خطوة أبعد، إذ لا يضع ما أضافه من كلمات بين معقوفتين، مما يوهم القارئ الذي لا علم له بالنص القرآني أنه هذا هو ما يقوله القرآن فعلاً وليس تفسيراً له من لدن المترجم، وهذا هو ما قاله: "the sustaine r of all the points of sun r ise" أي رب مشارق الشمس كلها (27)، لكن من ذا الذي يستطيع أن يقول إن "المشارق" هنا مقصورة على مشارق الشمس وحدها؟ إن نجوم السماء لا أول لها ولا آخر حتى لقد ضُرِب بها المثل فيما يستحيل عدّه، ولكل نجم مشرقه ومغربه، وهذا هو الأحجى أن يكون تفسير العبارة القرآنية بدلاً من حصرها في الشمس وحدها دون أن يكون هناك ما يدعو إلى ذلك، وبمثل هذا أرى أنه ينبغي تفسير عبارة "ربّ المشرقين ورب المغربين"، أي ربّ مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما لا "ربّ أبعد نقطتين من نقاط شروق الشمس وغروبها" حسبما جاء في ترجمة أسد (28).
أما في ترجمة جملة "وهو في الخصام غير مبين" من قوله - تعالى- عن بعض الآباء في الجاهلية ممن كانوا يئدون بناتهم الرضيعات: ((وإذا بُشِّر أحدهم بما ضَرَب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسودّاً وهو كظيم * أَوَمَنْ يُنَشَّأ في الحِلْيَة وهو في الخصام غير مبين)) يخطئ أسد خطأ من نوع آخر إذ يظن أن الكلام في جملة "وهو في الخصام غير مبين" مقصود به الأب الذي بُشِّر بالبنت، وأغلب الظن أنه لما رأى أن الضمير المستعمل في الآية هو للمذكَّر انصرف ذهنه إلى الأب لا إلى البنت التي وُصِفَت في العبارة السابقة، وهى عبارة "مَنْ يُنَشَّأ في الحلية"، وإذا صح تفسيري لقد كان ينبغي أن يتنبه أسد إلى أن الضمير هنا أيضاً هو ضمير مذكر رغم استعماله للبنت، ووجه تذكيره أنه يعود على الاسم الموصول المبهم: "مَنْ" الذي نحن معه بالخيار: فإما أن نذكِّر الضمير العائد عليه ونُفْرِده دائماً وإما أن نطابق بينه وبين ما يدل عليه، فنحن نستطيع أن نقول: "رأيت من النساء من أُحِبّه" أو "رأيت من النساء من أحبها"، أما لو استخدمنا "التي" فلا بد من المطابقة فنقول: "رأيت من النساء التي أحبها".
إذن فقوله - تعالى-: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأ في الحِلْيَة وهو في الخصام غير مبين)) هو جملة استفهامية واحدة لا جملتان: إحداهما استفهامية على لسان الأب الساخط، والثانية خبرية داخلة في السرد كما حسب الأستاذ أسد، الذي يفهم الجزء الأخير من الجملة على أن المقصود بها الإشارة إلى الصراع النفسي المحتدم في نفس الأب: أيُبْقِى على حياة ابنته أم يئدها؟ فهذا الصراع في ظن المترجم هو الخصام المذكور في الآية، أما "غير مبين" فمعناها أنه صراع داخلي لا ينطق به اللسان، ومن ثم ترجم هذا الجزء من الجملة على النحو التالي: "ومن هنا يجد نفسه وقد مزقه صراع داخلي خفي"(29)، والواقع أنها ترجمةٌ جِدّ غريبة لا يقبلها الذوق العربي ولا الأسلوب القرآني الذي استعمل مادة "خ ص م" سبع عشرة مرة لم تأت قَطُّ في أي منها بالمعنى الذي فهمه مترجمنا، بل كلها في الخصام بين شخصين أو جماعتين لا في الصراع الباطني بين رغبات الشخص المتعارضة، وحتى لو أردنا رغم ذلك كله أن نستخدم كلمة "خصام" في هذا المعنى لكان علينا أن نقول: "فلان في خصام مع نفسه" بزيادة عبارة "مع نفسه" مثلاً.
وفي قوله - جل شأنه - عن قوم لوط: ((لِنُرْسِل عليهم حجارةً من طين * مسوَّمةً عند ربك للمسرفين)) يترجم كاتبنا عبارة ((حجارة من طين)) بـ"ضربات عقاب شديدة كالحجارة"(30)، ولست أستطيع أن أجد مسوِّغاً لهذا الذي فعله المترجم! لقد لاحظتُ كما سأوضح لاحقاً أنه دائماً ما يؤوِّل عذاب الآخرة ونعيمها وهذا أمر قد يحتمل الخلاف، أما تأويل مثل هذا العذاب الدنيوي فما وجهه؟ إن حجة القائلين بتأويل الأخرويات هي أنها بنص القرآن والحديث شيء مختلف عما نعرفه في الدنيا، لكن الأحداث الدنيوية هي وقائع تاريخية لا تقبل التأويل، ومثل هذا التصرف من شأنه أن يزعزع النص القرآني، فالمرجوّ أن نحترمه، وفي الهامش متسع لما نريد أن نقول وذلك بدلاً من تثبيت النص المقدس إلى الأبد على فهمنا الذي من المحتمل جداً أن يكون خاطئاً بل هو هنا خطأ بكل يقين.(24/27)
ثم فلنفترض أن ترجمة أ. أسد صحيحة فأي عقاب يا ترى ذلك الذي يشبه في شدته الحجارة والذي أرسله الله على قوم لوط؟ ترى أيصح أن نترك مثل هذا التعبير القرآني المُشْمِس ونذهب فنضرب في حنادس الأوهام الغامضة؟ لقد ذكر مترجمنا في موضع آخر من ترجمته أن هذه الحجارة الطينية تشير إلى وقوع انفجار بركاني، لكنه للأسف ترك هذا التفسير وجرى وراء الربط بين كلمة "سِجِّيل" في قوله - تعالى- عن نفس الواقعة: ((حجارة من سِجِّيلٍ منضود)) وكلمة "سِجِلّ" وانتهى إلى تلك الترجمة الغريبة هنا وفي الآية 82 من سورة "هُود"، فهو عقاب لكنه ليس عقاباً بالحجارة بل في شدة الحجارة، أما "مِنْ سِجِّيل" فمعناها "مسجلة في لوح القدر: p r e-o r dained"، وتبقى كلمة "منضود" التي جعلها صفة لضربات العقاب - ولا أدرى كيف - فهي مذكَّر، والضربات مؤنَّثة، وهذه عبارته في نصها الإنجليزي: "and r ained down stone-ha r d blows of chastisement p r e-o r dained one upon anothe r "، ويستطيع القارئ أن يتبين بنفسه الآن كيف تمزقت أوصال الآية بلا رحمة أو داع!
ومن ترجمات أسد الغريبة التي يصعب إقراره عليها ترجمته كلمة "النجم" في قوله سبحانه: ((والنجمِ إذا هَوَى* ما ضَلَّ صاحبُكم وما غَوَى)) بـ"قطعة الوحي الإلهي" على أساس أن القرآن قد نزل منجَّماً أي على دفعات لا جملةً واحدة (31)، ولكن فاته أن القرآن لا يستخدم أيّاً من "النجم" أو "هَوَى" في الحديث عن الوحي، فكلمة "النجم" فيه إنما تدل على نجم السماء، اللهم إلا في موضع واحد يحتمل أن يكون المقصود بها نجم النبات، وذلك في الآية السادسة من سورة "الرحمن": "والنجم والشجر يسجدان"، أما بالنسبة لمجيء الوحي فيستعمل له القرآن فعلاً من مادة "ن ز ل" لا الفعل "هوى".
وأشدّ غرابةً من الترجمة السابقة تأديته لقوله - تعالى- في وصف سَقَر": (( لَوّاحةٌ للبشر ))(32) بما معناه أنها "تُليح للبشر (أى تُرِيهم) الحقيقة كلها"، يقصد كما وضَّح في الهامش أنها تجعلهم يبصرون أخيراً الحقيقة التي لم يكونوا يُقِرّون بها في الدنيا، وتُرِيهم خطاياهم وشرورهم ومسؤوليتهم عن معاناتهم وآلامهم في الجحيم، مخالفاً بذلك جميع المفسرين تقريباً، الذين يقولون إن المقصود هو أنها تَسْفَع وجوه الكافرين، وتغيِّر شكلهم(33)، ومعروف أن من معاني الفعل "لاحَ": "غَيَّر وأضمر" كما في قولنا: "لاح العطشُ أو السفرُ أو الحزنُ فلاناً"، ومن ثم فكلمة "لوّاحة" هي صيغة مبالغة من هذا الفعل الذي ليس من معانيه "أَرَى فلانٌ فلاناً كذا وكذا"، وحتى لو قلنا إن هذا أحد معانيه فأين المفعول الثاني لكلمة "لوّاحة"؟
ومما أخطأ فيه أسد بل انفرد بالخطأ حرفُ "الواو" في قوله عز شأنه: ((كلا والقمرِ* والليلِ إذا أدبر* والصبحِ إذا أسفر))، ((والصافّات صَفّاً))، ((والذاريات ذَرْوا))، ((والطُّورِ* وكتابٍ مسطور))، ((والمرسَلات عُرْفاً))...إلخ، إذ يترجمه بمعنى "تأمَّلْ واعتَبِرْ"، ولا أدرى على أي أساس فعل ذلك إذ هو قول لم يقل به أحد من المفسرين أو علماء النحو أو أصحاب المعاجم، إنه يسوّى بين "الواو" في هذه الآيات وبين قولهم في الإنجليزية: "by God"(34) مع أن الأمرين مختلفان، فمن الواضح أن "الواو" هنا هي للقَسَم لا للتعجب، والُمقْسَم به هو الاسم الواقع بعد "إنَّ" كما في الشاهد التالى: "والذارياتِ ذَرْواً* فالحاملاتِ وِقْراً* فالجاريات يُسْراً* فالمقسِّمات أَمْراً* إنّ ما توعَدون لَصادق* وإن الدِّين لَواقع))(35)، بل إن القرآن نفسه يصرح بأن هذا قَسَم، إذ جاء في سورة "الفجر": ((والفجرِ* وليالٍ عَشْر* والشَّفْع والوَتْر* والليل إذا يَسْرِ* هل في ذلك قَسَمٌ لِذى حِجْر))، كما تكرر القسم في القرآن بالظواهر الكونية وعناصر الطبيعة بلفظ القسم الصريح أكثر من مرة مثل: ((فلا أُقْسِم بالخُنَّس* الجَوار الكُنَّس* والليل إذا عَسْعَس* والصبح إذا تنفَّس* إنه لَقول رسول كريم))(35)، ((فلا أقسم بالشَّفَق* والليل وما وَسَق* والقمر إذا اتَّسَق* لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عن طَبَق))(36) فماذا يبغى الأستاذ أسد أكثر من هذا؟
وهذه النزعة إلى الانفراد بالآراء الغريبة لدى محمد أسد هي المسؤولة أيضاً عن ترجمته لقوله - تعالى- عن نساء الجنة: ((كواعب أتراب)) لا بالناهدات الصدور المساويات لأزواجهن في السن كما تقول كتب التفسير وكما يقول الأسلوب العربى، بل بـ"splendid compagnons well matched: أصحاب رائعين متوافقين"، وهو يكشف السر وراء هذه الترجمة العجيبة قائلاً: إن متع الجنة التي يمثّل الكواعب الأتراب لوناً من ألوانها ليست حقيقية، إذ لا نساء في الفردوس، ومن ثم فـ"الكواعب" هنا هم الأقران البارزون (لأن الفعل "كَعَبَ" يدل على البروز بإطلاق لا بروز النهدين فقط)، أما "الأتراب" فهم الذين يكون بينهم وبين أصحابهم توافق وانسجام"(37).(24/28)
ورأيي أن هذه حجج داحضة: فأولاً لو افترضنا أنه ليس هناك نساء في الجنة فعلاً كما يقول، فإن هذا لا يُسَوِّغ ترجمة الآية بالطريقة التي فسرها بها، بل كان ينبغي أن يلتزم بما جاء فيها، ثم فلْيقل في الهامش إن هذا مجاز، وإن المقصود بالإشارة إلى النساء في الآية هو كذا وكذا، ذلك أن نساء الجنة في هذه النقطة لا يختلفن في شيء عن لبنها وعسلها وخمرها وشجرها وأنهارها...إلخ، فسواء قلنا إن في الجنة عسلاً ولبناً مثلاً كعسلنا ولبننا، أو عسلاً ولبناً من نوع آخر يليق بالآخرة وخلودها، أو قلنا إنهما رمزان لمتع أخرى لا يمكن التعبير عن حقيقتها بلغتنا البشرية، فالواجب في كل هذه الحالات الإبقاء على ذكر اللبن والعسل، وفي الهامش متسع لتوضيح رأينا على النحو الذي نشاء، ولقد فعل الكاتب نفسه ذلك مع "الحدائق والأعناب، والكأس الدِّهاق" التي ورد ذكرها في هذه السورة(38)، فلِمَ لَمْ يتّبع هذه الخطة هنا مع "الكواعب الأتراب"؟
وثانياً فإن كلمة "أتراب" في كل من المرتين الأُخْرَيَيْن اللتين وردتا في القرآن كانت وصفاً لنساء الجنة فلم تشذّ عن هذا هنا؟ وهاتان هما الآيتان المذكورتان: "وعندهم (أي عند المتقين في جنات عَدْن) قاصرات الطَّرْف أتراب"(39)، "فجعلناهن (أي نساء الجنة) أبكاراً* عُرُباً أتراباً* لأصحاب اليمين"(40)، وبالمناسبة فقد فعل أسد هنا في ترجمة "قاصرات الطرف أتراب" و"أبكاراً* عُرُباً أتراباً" ما اقترحتُه قبل قليل في ترجمة صفات نساء الجنة(41)، فلم هذه التفرقة التي لا مسوِّغ لها إذن؟
يبدو لي - والله أعلم - أن صيغة جمع المؤنث السالم في النص الأول، وضمير جماعة النسوة في النص الثاني هما اللذان منعا مترجمنا من التمحُّل الذي لجأ إليه في ترجمة "الكواعب الأتراب"، فما رأى القارئ إذا قلنا له إن كلمة "كواعب" من حيث صيغتها لا تحتمل هنا إلا أن تكون للنساء، ومن ثم لا تصلح أن يكون معناها "الأصحاب أو الأقران" كما يريد منا الأستاذ أسد أن نفهمها؟ ذلك أن صيغة جمع التكسير "فواعل" لا تُسْتَعْمَل للعقلاء الذكور، اللهم إلا في "فوارس" و"سوابق" اللتين شذَّتا عن القاعدة(41)، ثم إن "التِّرْب" هو المساوي في السن لا المتوافق المنسجم مع رفيقه كما ترجمها أسد.
- رأيه في عصمة الأنبياء:
من القضايا ذات الأهمية الشديدة التي تناولها محمد أسد في ترجمته التفسيرية للقرآن الكريم بَشَريَّة الرُّسُل ومدى انعكاسها على أخلاقهم وسلوكهم، فهو دائم الإشارة إلى هذه البشرية، وهى مما لا يُشاحّ فيه أحد، إذ إن رسل الله وأنبياءه كانوا كلهم فعلاً بشراً: هكذا تكلم التاريخ، أما إذا زعم أصحاب بعض الأديان هنا أو هاهنا أن نبيهم إله أو ابن إله فهو كلام لا يؤبَه له، وإن كان لكلٍّ أن يعتقد ما يشاء، وحسابه على الله، وهكذا أيضاً تكلم القرآن، إذ ذكر مراراً أن الرسل والأنبياء كانوا جميعاً بشراً من البشر، وأنهم يأكلون ويشربون ويَغْشَوْن الأسواق والمجامع، ثم في النهاية يموتون، ولا خلاف إذن مع محمد أسد في هذا، إلا أنه للأسف لا يتوقف عند هذا الحد، بل دائماً ما يجعل إشارته إلى بشرية الرسل منطلقاً للحديث عن أنهم أيضاً مثل سائر البشر معرَّضون للخطأ كلما سنحت الفرصة، ويبدو لي بقوة أن أبواب الأخطاء كلها مفتوحة عنده أمامهم كأي إنسان آخر.
فعلى سبيل المثال يقول عند تعليقه على قوله تعالى: ((وما أرسلْنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنَّى أَلْقَى الشيطانُ في أمنيّته فينسخ الله ما يُلْقِى الشيطانُ ثم يُحْكِم الله آياته والله عزيز حكيم)) إن إلقاء الشيطان في أمنية النبي والرسولل معناه أن يكون هدفهما لا الأخذ بيد أمتهما في معراج الرقى الروحي بل إحراز القوة والنفوذ الشخصي، ثم يمضى فيستشهد بقوله عَزَّ من قائل: ((وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً شياطينَ الإنس والجن))(1) دون أن يوضح صلة هذه الآية بما نحن فيه(2)، أتراه يريد أن يقول إن للشياطين من إنس وجن تأثيراً على الرسل والأنبياء حتى إنهم لَيَحْرِفونهم عن مسارهم الذي حددته لهم السماء إلى التطلع لغايات شخصية؟ لكنْ أي نبي أو رسول يا تُرَى استطاعت الشياطين أن توسوس له بوضع مطامحه في القوة والنفوذ الشخصي فوق الغاية النبيلة التي انتدبه لها رب العزة والجلال؟
ها هو ذا القرآن الكريم بين أيدينا وليس فيه شيء من ذلك على الإطلاق، أما إذا كان العهد القديم ينسب إلى أنبياء الله ورسله مثل هذه التطلعات وغيرها مما يشوه صورة النبوة ويلطخها، فهذا ليس برهاناً على صحة تلك الدعوى الخطيرة، لأن كتب اليهود مجرَّحة تجريحاً حسبما ذكر القرآن في أكثر من موضع، وكذلك حسبما أثبتت الدراسات النقدية التي تناولت هذه الكتب، سواءٌ تلك التي قام بها علماء المسلمين أو علماء الغرب أنفسهم، وعلى أية حال فالذي يهمنا في هذا السياق هو القرآن لأنه هو الذي يستند إليه أسد في تقرير ما قال.(24/29)
وفي كلمته التمهيدية التي قدَّم بها لسورة "القَصَص" يقول إن "معظم قصة موسى في تلك السورة تصوِّر الجانب البشرى الخالص في حياته، أو بتعبير آخر تصوِّر الدوافعَ وألوانَ الحيرة التي تشكِّل جزءاً من الطبيعة البشرية، وهو ما يبرزه القرآن إبرازاً رغبةً منه في مقاومة أي ميل لدى المتدينين إلى عَزْو أية صفات إلهية أو شِبه إلهية إلى أحد من رسل الله"(3)، ثم بعد قليل يعقِّب على اقتتال المصري والإسرائيلي وتدخّل موسى - عليه السلام - ووَكْزه المصري الوكزةَ التي قضت عليه دون قصد منه، قائلاً إن "الآيتين 16- 17 من هذه السورة تومئان إلى أن الإسرائيلي لا المصري هو المخطئ، ومن الواضح أن موسى قد تقدَّم لمساعدة الإسرائيلي بدافع من الميل الغريزى نحو ابن جلدته دون اعتبار للصواب والخطأ في هذه القضية، وإن كان قد تبيَّن له أنه إنما اجترح إثماً فظيعاً، لا بقتله إنساناً بريئاً فحسب رغم أنه قتلٌ غير مقصود، بل بإقامته تصرفَه كذلك على أساس من التحيز العنصري"(4).
وفي أحد الهوامش التي خصصها للتعليق على قصة يونس - عليه السلام - وإباقه إلى الفُلْك المشحون حين لم يجد من قومه آذاناً صاغية، يختم مستشرقنا تعليقه قائلاً إن الهدف من هذه القصة في القرآن هو أن تبيِّن لنا أنه ما دام قد "خُلِق الإنسان ضعيفاً" كما جاء في سورة "النساء"، فإن الأنبياء أنفسهم غير محصَّنين ضد أي لون من ألوان الضعف المركوزة في الفطرة البشرية (5)، وهو ما يعنى بوضوح أنهم - عليهم السلام - يمكن أن يرتكبوا أي شيء مما يقع فيه البشر هان أو عَظُم، وقد كرر هذا المعنى ذاته في تفسيره لقوله - جل جلاله - مخاطباً نبيه محمداً - عليه الصلاة والسلام -: ((لِيغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر))، إذ يؤكد أن الإنسان مهما ارتقى في معراج الخُلُق وكان حميد السجايا، فإنه عرضة للوقوع في الخطأ بين الحين والحين، وأن الآية تشير من طَرْفٍ خَفي إلى أن التحرر من الأخطاء مقصور على الله - سبحانه -(6).
وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم ما قاله بصدد الحديث عن الخَصْمَيْن اللذين تسوَّرا المحراب على داود - عليه السلام - وشكا أحدهما الآخر إليه بأنه طلب منه نعجته الوحيدة التي لا يملك سواها كي يضمها إلى قطيعه الذي يبلغ تسعاً وتسعين نعجة...الخ، إذ تساءل قائلاً: هل الأنبياء معصومون من الذنوب والخطايا كما يقول علماء المسلمين القدامى أو لا؟ ثم يجيب بأن أولئك العلماء يذكرون أن داود قد أحب امرأة قائده العسكري أوريا ورسم خطة للتخلص منه كي يخلو له وجه الزوجة، إذ أمر أن يوضَع في مكان مكشوف على خط المواجهة مع الأعداء حيث قُتِل، وبعدئذ تزوَّج داود المرأة، وأنجب منها سليمان، وإن أنكروا في ذات الوقت أن يكون قد زنى بها إنكاراً شديداً(7) ومن الواضح هنا أيضاً أن أسد مع عدم عصمة الأنبياء.
وهو يرى أن قوله - تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم : ((ألم نَشْرَح لك صدرك* ووضعنا عنك وِزرك* الذي أَنْقَضَ ظهرك* ...)) يشير بكل وضوح إلى الأخطاء التي اقترفها - عليه السلام - قبل البعثة(8)، ولكنْ أية أخطاءٍ تلك التي اقترفها النبي آنذاك؟
هنا يسكت أسد! بَيْدَ أنى لست أوافقه على أن معنى "الوِزْر" في الآيات الكريمات أخطاء ارتكبها الرسول في الجاهلية، إذ لو كان الأمر كذلك فلماذا تنقض هذه الأخطاء ظهره وهو لم يكن مكلّفاً آنئذ ولا آخذه الله عليها في أي موضع من القرآن، ولا اتخذها قومه تكأة للنيل من سمعته، أو للتشويش على أخلاقه ونبوته؟ علاوة على أنّ امتنان الله عليه بشرح صدره وطمأنته إياه بأنه ما من عسر إلا ومعه يسر إنما يشير بالأحرى إلى ضيق صدره - عليه السلام - بشيء من قبيل فتور الوحي عنه في أول الدعوة، أو معاندة المشركين له أو ما إلى ذلك، أي أن الوزر هنا نفسي لا أخلاقي، أما إذا كان المقصود بشرح الصدر دلالته المادية بمعنى شقّه واستخراج حظ الشيطان منه وغَسْله بالثلج أثناء طفولته الأولى في بادية بني سعد كما جاء في بعض الروايات فإن ذلك ينسف ما قاله محمد أسد عن الرسول من أساسه، إذ معناه أنه قد أصبح في حماية تامة من الوقوع في الذنوب والآثام.
وعلى أية حال فإنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون قد وقعت منه أخطاء مما يتحدث عنها الكاتب، وإلا لاتخذها المشركون حين جاءهم بالدين الجديد سلاحاً من أسلحة الحرب النفسية التي شنوها عليه منذ البداية، ترى لو كانت هناك أخطاء من ذلك النوع أكانوا يتركونها ويتهمونه بما يعرفون هم قبل غيرهم أنه باطل، من مثل أنه ساحر، أو مجنون، أو كذاب، أو أنه يكتب ما يحكيه من قصص الأنبياء السابقين وأممهم عن بعض الرقيق المكي من أهل الكتاب؟ أيعقل أن يكون في يد إنسان ما عملة سليمة فيلقى بها في عُرْض الطريق ويتخذ بدلاً منها نُقُوداً زُيُوفاً؟(24/30)
ترى لو كان النبي - عليه السلام - قد شرب الخمر مثلاً، أو ضحَّى للأوثان، أو عُرِف عنه الكذب؛ أكان قومه يسكتون على ذلك؟ إن كل ما قالوه في بشريته لا يتعدَّى إنكارهم عليه أنه كان يأكل الطعام، ويمشى في الأسواق، وأن له زوجاً وذرية، إذ كانوا يريدونه مَلَكاً لا بشراً، وهذا كل ما هنالك! فهل يصح أن يقول مُسْلِمٌ في الرسول الكريم ما لم يقله المشركون؟
ولْيلاحظ القارئ أنني قد تجنبت الخوض في الجدال النظري البحت حول عصمته صلى الله عليه وسلم ، وسلكت بدلاً منه المنهج التاريخي والنفسي، واستنطقت النصوص ذاتها، فلم يصادفنا لا فيما وصلنا عن سيرته ولا في الآيات التي تحدثت عنه أو إليه أَىٌّ من تلك الذنوب المزعومة، ثم هل كان من الممكن أن يصفه القرآن رغم ذلك بقوله: ((وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم)) كما جاء في الآية السادسة من سورة "القلم"؟
كذلك لو كان داود - عليه السلام - قد صنع بأوريا هذا الذي ادُّعِىَ عليه أكان الله - سبحانه - تاركه دون مؤاخذة وعقاب وهو الذي عَرَّض يونسَ - عليه السلام - لتلك التجربة الفظيعة المرعبة، تجربة التقام الحوت له أياماً وليالي لمجرد غضبه من قومه، وإباقه إلى الفُلْك المشحون بسبب صلابة رقابهم، ولجاجهم في الكفر والطغيان؟ إن التآمر على قتل رجل بريء طمعاً في زوجته الجميلة ليس بالأمر الهين الذي يمكن أن تُعَدِّىَ عنه السماء بمثل هذه البساطة، وإلا فالعفاء على الأخلاق بل على النبوة ذاتها! والمضحك في الأمر أن من قَبِلوا من علماء المسلمين على داود هذه الدعوى الرقيعة (حسبما جاء في كلام كاتبنا) كانوا حُرَصاء في ذات الوقت على أن يبرِّئوه من تهمة الزنا، وكأن قتل الأبرياء بدمٍ باردٍ، وتخطيطٍ مسبقٍ، ودون خالجة من ضمير ليس بشيء بجانب هذه التهمة!
إن القصة القرآنية تقول: إن الأخ الغنىّ لم يأخذ من أخيه الفقير نعجته فعلاً بل كل ما في الأمر أنه سأله ضمَّها إلى نعاجه فهذا كل ما هنالك، أما لو كان هذان الخصمان ملكين أرسلهما الله إلى داود كما جاء في بعض كتب التفاسير لينبهاه على سبيل التلميح إلى الجريمة التي اقترفها فأي جدوى من ذلك التصرف ما دام قد سبق السيفُ العَذَل، وتمت الجريمة، ولم يعد سبيل لتداركها؟ إن هذا عبث لا تليق نسبته إلى المولى - عز وجل -، الذي يَقْدِر أن ينبِّه نبيَّه في هذه الحالة تنبيهاً مباشراً كما كان يفعل مع محمد صلى الله عليه وسلم حين كانت تنزل عليه هذه الآية أو تلك مشيرةً إلى ما وقع منه من اجتهاد لا تقرّه عليه السماء؟
ثم إذا كان الأنبياء يمكن أن يجترحوا جريمة القتل والتآمر على هذا النحو الشيطاني الخسيس فما الفرق بينهم وبين عُتَاة المجرمين إذن؟ إن الإنسان العادي لا ينحطّ في الغالب إلى هذه الدركة، فكيف يَتَدَهْدَى إلى مثلها الأنبياء والمرسلون الذين اصطفاهم الله على سائر خلقه، وصنعهم على عينه، وزوّدهم بالحكمة والتقوى على أحسن حال؟ وفضلاً عن ذلك فالقرآن يقول عن داود - عليه السلام - بعد واقعة الخصمين في سورة "ص" ذاتها: ((وإن له عندنا لَزُلْفي وحُسْنَ مآب))(8) فكيف يمدحه الله - سبحانه - هذا المديح العظيم، ويأتي بعضٌ فيتهموه تلك التهمة الشنيعة جرياً وراء اليهود الملاعين الذين لم يتركوا نبياً ولا رسولاً إلا افترَوْا عليه أشنع ضروب البهتان في كتبهم؟ أنكذّب بالقرآن ونصدّق العهد القديم؟ كذلك فالآية التي تلي قصة المتخاصمين تحضه - عليه السلام - أن يحكم بين الناس بالحق ولا يتَّبِع الهوى، وهو ما يرجح أن تكون القصة متعلقة بمسائل القضاء والحكم بين الناس لا بمسألة أوريا وزوجته، ولو افترضنا بعد هذا كله أن لهذه القصة ظلاً من الحقيقة - ولا إخال - فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن داود ربما سمع بجمال زوجة قائده فحدّثته نفسه قائلة: لماذا لم يُكْتَب له أن يرى تلك المرأة قبل أن يتزوجها أوريا فيتخذها هو لنفسه زوجة؟
أما يونس فإن ما صنعه حين ضاق صدره بما رآه من لَدَد قومه في الكفر والعصيان فتركهم ومضى على وجهه ليس سقطة أخلاقية، لا ولا هو تهاون في أداء الواجب، وكل ما يمكن التعليق به على تصرفه ذاك هو أن الله لم يأذن له بهجرة قومه، وإلا فإن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قد ترك هو أيضاً بلده إلى بلد آخر رجاء أن يكون حظ الدعوة فيه أحسن، لكنه مع ذلك لم يُقْدِم على هذه الخطوة إلا بعد إذن الله له.
ونأتي إلى وكزة موسى التي ينبغي ألا يفوتنا أنها كانت قبل النبوة وكانت مجرد وكزة أراد بها - عليه السلام - أن يدفع غائلة العدوان أو على الأقل ما ظنه عدواناً على ابن جلدته في بلد كان الاضطهاد والعسف يتناوشان بني إسرائيل فيه، لا لشيء إلا لضعفهم وهوانهم آنئذ، لكن كانت للقدر مشيئة أخرى إذ مات المصري بسببها رغم أن موسى لم يقصد قتله البتة! ولْنلاحظ أن موسى قد أنبه ضميره على الفور، ولذَّعه تلذيعاً شديداً، وأخذ يبتهل لربه نادماً يطلب منه الغفران.(24/31)
ورغم كل ما أبدأ فيه محمد أسد وأعاد فإنه هو نفسه في حديثه عن عبوس رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه ابن أم مكتوم يسأله في بعض أمور دينه أثناء انشغاله - عليه السلام - بمحاولة إقناعه بعض رؤساء المشركين في مكة بدعوته وهدايتهم إلى الإسلام قد قال: إن ما لا يزيد عن كونه مجرد هفوة تافهة من أي إنسان آخر في مثل هذه المسألة المتعلقة بالمجاملات الاجتماعية يُعَدّ مع ذلك في حق الأنبياء ذنباً كبيراً يستوجب العتاب، ثم يمضى قائلاً: إن معاتبة القرآن للرسول على مسمع من الدنيا كلها على ذلك النحو إنما هو دليل على أنه تنزيل من لدن رب العالمين،وأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى(9)، وهذا هو الذي أتفق فيه مع أسد ليس إلا، وهو هو نفسه ما صاغه علماؤنا القدامى - رضي الله عنهم - عندما قالوا: "حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين"، كذلك قد صدرت عن قلم كاتبنا عبارة مهمة لا أدري كيف لم يستصحبها دائماً معه بدلاً من هذا الإلحاح المستمر على فكرة الضعف البشرى الأخلاقي الذي لا يفلت منه الرسل والأنبياء، وإمكان وقوعهم في أي ذنب من الذنوب التي يقترفها البشر؛ ألا وهى تذكيره بصدد التعليق على قوله - جل شأنه -: ((ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سُنَّةَ الله في الذين خَلَوْا من قبل وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً))(10) بأن الكلام هنا إنما يدور على الأنبياء السابقين الذين تتوافق فيهم جميعاً هم والرسولل - عليه الصلاة والسلام - رغائبهم الشخصية مع إسلامهم أنفسهم إلى الله، وهو ذلك الانسجام الروحي والفطري الذي يميز صفوة خلق الله وقَدَرُهم المقدور كما تقول خاتمة الآية(11)، ترى أين كان ذلك الكلام الجميل من قبل؟ إن هذا هو أحجى ما يقال عن أنبياء الله ورسله وأقربه إلى حديث القرآن المجيد عنهم، أما تصويرهم بصورة الضعفاء المهتزين الذين لا يملكون أنفسهم من الوقوع في أي من الذنوب والآثام كلما تهيأت الدواعي لذلك فلا ينسجم مع القرآن الذي يرفع النبيين والمرسلين مكاناً عَلِيّاً، ويثني عليهم أجزل الثناء، ويبرزهم على صفحاته نموذجاً فذّاً لا يُطال رغم بشريتهم التي يؤكدها في ذات الوقت، بل ينسجم بالأحرى مع اتجاه العهد القديم الذي ينسب إليهم الزنا والقتل والدِّيَاثة ومقارفة الفاحشة مع المحارم والكذب والغدر والتحايل على الله والجلافة في مخاطبته والإغضاء عن عبادة الأوثان في بيوتهم... إلى آخر ما سوّد به اليهود الملاعين صفحات كتبهم التي يزعمون أنها وحى من عند رب العالمين، ملطِّخين بتلك الطريقة الصُّوَر النبيلة لهؤلاء الصفوة من عباد الله!
ولقد رجعت بعد الفراغ من كتابة ما تقدَّم إلى "الفِصَل في المِلَل والنِّحَل" للإمام الجليل ابن حزم لأستعيد ما قالت الفِرَق الإسلامية في هذا الموضوع فوجدته يذكر أنهم اختلفوا في ذلك: فطائفةٌ قالت إن الرسل - عليهم السلام - يمكن أن يعصوا الله في جميع الكبائر والصغائر عَمْداً حاشا الكذب في التبليغ، بل إن بعض هؤلاء قد جوَّزوا عليهم الكفر أيضاً، كما جوَّزوا أن يكون في أمة محمد من هو أفضل منه، ويؤكد ابن حزم أن هذا كفر وشرك وردة عن الإسلام، وهناك من جوَّزوا عليهم الصغائر فقط عَمْداً أما الكبائر فلا، أما الذي تدين به أمة الإسلام من سنّة ومعتزلة وخوارج وشيعة ونجارية كما يقول ابن حزم فهو أنه لا يمكن البتة أن يقع من نبي معصية أصلاً لا كبيرة ولا صغيرة، وهذا رأيه هو أيضاً، وإن قال إنه قد يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد، كما قد يقع منهم قصد الشيء يريدون به وجه الله - تعالى- والتقرب إليه فيوافق خلاف مراده - عزَّ وجلَّ -، إلا أنه تعالى لا يُقِرّهم على شيء من هذين الوجهين أصلاً، بل ينبههم على ذلك ويبيّنه، وربما عاتبهم عليه(11)، وهذا الذي ذهب إليه ابن حزم هو نفسه ما وصلتُ إليه من خلال تحليل النصوص القرآنية تقريباً، وإنه ليسعدني أن يتوافق رأيي مع رأى ذلك العلامة العظيم، وإن كنت لا أستطيع أن أُقْدِم على تكفير محمد أسد في مثل هذا خشية أن يكون اجتهاداً منه خاطئاً لا يبغى به التطاول على الأنبياء أو إهانتهم والتحقير من شأنهم - عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين -، لكنى في نفس الوقت لا أستطيع أبداً أن أهضم ما قاله بأي حال!(24/32)
وفي النهاية أود أن أضبف أننا لا نجد هذا الرأي الغريب لأسد في الأنبياء في الكتب التي تُرْجِمَت له إلى العربية، لقد لمس مثلاً بشرية الرسول - عليه الصلاة والسلام - في موضعين من كتابه "الطريق إلى الإسلام"، وهذا نص ما قاله في الموضع الأول: "ومع ذلك فإنه - أي الرسول عليه الصلاة والسلام - لم يَدَّعِ يوماً إلا أنه بشر، ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط كما فعل الكثيرون من أتباع الأنبياء الآخرين بعد وفاة نبيهم، والحق أن القرآن نفسه يزخر بالأقوال التي تؤكد إنسانية محمد ((وما محمد إلا رسول قد خَلَتْ من قبله الرسل أفإن مات أو قُتِل انقلبتم على أعقابكم))، كذلك فإن القرآن الكريم قد دلَّل على عجز النبي المطلق تجاه العزة الإلهية بقوله - تعالى-: ((قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضَرّاً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرتُ من الخير وما مسني السوء إنْ أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ لقوم يؤمنون))، ولا ريب في أن مَنْ حوله لم يحبوه هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب، ولأنه عاش كما يعيش سائر الناس، يتمتع بملذات الوجود، ويعانى آلامه"(12)، وهو تقريباً نفس ما نقرؤه في الموضع الآخر حيث يقول إنه - عليه الصلاة والسلام - كان " كائناً بشرياً مليئاً بالرغبات والدوافع الإنسانية، وبوعى حياته الخاصة، وفي الوقت عينه أداة طيِّعة لتلقِّى رسالته"(13)، والنَّصّان رغم حرصهما على إبراز بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتطرقان إلى مسألة العصمة النبوية، بل لا نلمح في عباراتهما ما يوحى بأن المؤلف يرى أنه - عليه الصلاة والسلام - عرضة للوقوع في الذنوب والآثام كأي شخص عادىّ، فهل هذا دليل على أن فكر كاتبنا قد تطور بعد ذلك إلى القول بأن الأنبياء يذنبون ويأثمون كغيرهم من البشر؟ أم هل كانت هذه الفكرة كامنة في أطواء نفسه آنذاك، لكنها لسبب أو لآخر لم تشقّ طريقها إلى الظهور في ذلك الكتاب؟
- بعض آرائه الفقهية:
فيما يلي سنناقش بعض المسائل الفقهية التي عرض لها مترجمنا في هوامش ترجمته للقرآن الكريم: فمن ذلك تكريره القول بأن الحرب المشروعة في الإسلام هي الحرب الدفاعية فقط (الحرب الدفاعية بالمعنى الواسع)، وأن ذلك هو ما تقوله الآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بمقاتلة من يقاتلونهم فحسب، وألا يبدأوا أحداً بعدوان كما في الآية 190 وما بعدها من سورة "البقرة"، والآية 39 من سورة "الحج"، والآية 227 من سورة "الشعراء"، والآية 39 من سورة "الممتحنة"(1)، وهو يؤكد في نفس الوقت أن "الجهاد في سبيل الله" واجب ديني لا يتم الإيمان إلا به (an act of faith)(2)، وأن الأمم التي يخاف أبناؤها الموت الجسدي ينتهي أمرها إلى الموت المعنوي، كما أن عودتها إلى الحياة تتوقف على عودتها إلى التمسك بالأخلاق من خلال التغلب على الخشية من الموت (2).
وفي ضوء هذا نراه يفسر غزوات الرسول - عليه الصلاة والسلام - فعند حديثه عن غزوة بدر يقول: إن حالة "حرب مفتوحة" كانت قائمة بين المسلمين والمشركين منذ الهجرة، ومن هنا كان تفكير الرسول في مهاجمة القافلة القرشية العائدة من الشام والتي لم تكن رغم ذلك هي الهدف الحقيقي، وإلا لأخفي عزمه على مهاجمتها، ولانتظر حتى تمر في ميعادها وهاجمها عندئذ دون أن تكون لديها الفرصة للاستنجاد بقريش، أما هدفه الحقيقي فهو استفزاز الجيش المكي عن طريق الإشاعات عن عزمه مهاجمة القافلة حتى يبرز إليه ويشتبك معه في معركة يحدد هو زمانها ومكانها فيهزمه محقِّقاً بتلك الطريقة الاعتبار والأمن لأتباعه الذين كانوا ضعفاء إبانئذ، بدلاً من انتظار قريش حتى تغزوهم في الوقت والظروف المواتية لها(2).
وانطلاقاً من مبدأ الدفاع عن النفس أيضاً يعلل أسد غزوة تبوك، إذ يقول إن الأخبار قد وردت النبي - عليه الصلاة والسلام - في المدينة حينئذ بأن الروم يجهزون جيشاً لغزو الجزيرة العربية والقضاء من ثم على الإسلام خشيةً من عواقب سرعة انتشاره، واستجابةً لتحريض أبى عامر الراهب، ولكن عندما لم يجد الرسول جيش الروم عاد أدراجه إلى المدينة لأن الإسلام لا يحارب إلا للدفاع عن النفس(3)، ولست أظن أن عندي ما يمكن أن أعترض به على هذا الكلام.(24/33)
أما ما قاله في الحرابة فليس من السهل قبوله، لقد تحدث القرآن الكريم عن جريمة الحرابة وعقوبتها في قوله - عزّ شأنه -: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَوْن في الأرض فساداً أنْ يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُفَطَّع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ أو يُنْفَوْا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم* إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم))(4)، وكان تعليق أسد على ذلك أن تقطيع يدي الشخص ورجليه غالباً ما يراد به القضاء على سلطانه، وأن من الممكن أن يكون هذا هو المعنى المقصود هنا، أو قد يكون المراد تشويهه على الحقيقة والمجاز جميعاً، وأن التفسير الصحيح لعبارة "مِنْ خِلاف" هو "بسبب مخالفتهم (للدولة)" أو "بسبب فسادهم"، ثم أضاف قائلاً إن الآية لا تمثل في الواقع حكماً تشريعياً بل هي نبوءة بأن الذين يحاربون الله ورسوله سينتهي مطافهم حتماً إلى أن يُقَتِّل أو يُعَذِّب أو يُشَوِّه بعضهم بعضاً مما يترتب عليه القضاء على جماعات كثيرة من الناس بسبب تهالكهم على السلطة الدنيوية والمطالب المادية وهذا هو معنى النفي من الأرض في رأيه.
والذي جعله يقول بهذا التفسير هو أن التضعيف في "يُقَتَّلوا" و"يُصَلَّبوا" و"تُقَطَّع" يفيد حسب فهمه وقوع تلك الأفعال على أعداد كبيرة منهم لا عليهم كلهم بالضرورة، وهذا (في رأيه) محضُ تحكمٍ يعوذ بالله أن يكون تشريعاً إلهياً، فضلاً عن أن محاربة الله ورسوله قد تقع من فرد واحد، فكيف يمكن أن يُقْتَل أو يُصْلَب منه أعداد كبيرة؟ وفوق ذلك فهذا الحكم هو نفسه الحكم الذي أصدره فرعون على من آمن مِنْ سَحَرَته بموسى، فكيف يجعل الله - سبحانه - مثل هذا الحكم الفرعوني تشريعاً سماوياً؟ كذلك لم يحدث كما قال أن أصدر حاكمٌ مسلمٌ عقوبةَ النفي من بلاد المسلمين على أحد من الخارجين عليه، وفوق ذلك فإن استعمال كلمة "الأرض" بمعنى "بلاد الإسلام" هو استعمال لا يعرفه الأسلوب القرآني، ثم إن قوله - تعالى- : ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقَتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو تُقَطَّع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو يُنْفَوْا من الأرض)) ليس على سبيل الأمر لأن الأفعال الأربعة فيها كلها إنما جاءت بصيغة المضارع(5).
هذا ما قاله مستشرقنا لكن فاته أن القرآن حين يقول: ((إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... )) إنما يقصد النص على تحديد العقوبة بصرف النظر عن الصيغة الفعلية المستخدمة، وهذا واضح في قوله - تعالى-: ((ومَنْ قَتَلَه منكم (أى قتل صيد الحَرَم) متعمِّداً فجزاءٌ مِثْلُ ما قَتَل من النَّعَم))(6)، ((قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يُسْجَن أو عذابٌ أليم))(7)، ((ومن يقتل مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ))(8)، ((قالوا جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه))(9)...إلخ، وحتى لو وافقنا كاتبنا على تفسيره للتقتيل وتقطيع الأيدي والأرجل فإن السؤال هو: إذا كان المحارب شخصاً واحداً كما قال فكيف يا ترى سيَقْتُل هذا الشخصُ أو يشوِّه بعضه بعضاً؟ كذلك قد يموت الخارجون على الدولة ميتة طبيعية دون أن يقتل أو يشوه بعضهم بعضاً كما يفسر محمد أسد العبارة، إن التضعيف في هذه الأفعال إنما يشير إلى أن الخارجين يجب أن يؤخذوا بكل عنف ودون لين أو هوادة مهما كثرت أعدادهم، أما حكم فرعون بهذه العقوبة على سَحَرَته المؤمنين فلا يعنى أنه في ذاته حكم فاسد، بل يعنى أن تطبيقه فقط كان ظالماً، أما حين يطَبَّق على وجهه الصحيح فإنه يكون عندئذ حكماً عادلاً، وبالنسبة للنفي من الأرض فقد حدث كثيراً في التاريخ الإسلامي وإن لم يَعْنِ بالضرورة النَّفي خارج ديار الإسلام كلية بل من المكان الذي يكون للمحارب فيه شوكة أو الذي يعيش فيه أهله وأصحابه ممن يؤلمه الابتعاد عنهم مثلاً(10)، وإلى جانب هذا فإن الاستثناء في الآية الثانية من النص الذي بين أيدينا يدل على أن الكلام هنا إنما هو عن عقوبة تشريعية يُعْفي منها الذين تابوا من جريمتهم قبل أن تلقى السلطات يدها عليهم.(24/34)
وأخيراً وليس آخراً فلو جارينا محمد أسد في رأيه هذا لما كان له من معنى إلا أن الإسلام لم يضع لهذه الجريمة الشنعاء أية عقوبة، فهل هذا ممكن؟ حقاً هل هذا ممكن في الوقت الذي قد حدَّد فيه للسرقة عقوبة القطع، وهى جريمة أهون من جريمة الحرابة بكل المقاييس؟ أقول هذا لأن أسد لم يحاول أن يؤوِّل آية عقوبة السرقة(11) كما صنع مع آيَتَىِ الحرابة، بل دافع عن العقوبة الواردة فيها قائلاً إنها عقوبة عادلة جداً في ضوء ما تقوم به الحكومة الإسلامية من توفير المستوى المعيشي الملائم لكل فرد في الدولة مسلماً كان أو غير مسلم، ومن ثم فليس معقولاً أن يتحجج أحد بأنه قد وقع فريسة لإغراء السرقة، ثم تابع كلامه قائلاً: إنه إذا لم يقم المجتمع الإسلامي بتوفير المستوى المعيشي الملائم لأفراده فلا محل عندئذ لتطبيق عقوبة القطع(12)، وهو كما يرى القارئ كلام معقول جداً وقد سار عليه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في عام الرَّمادة، إذ سِيقَ إليه رجلان متَّهَمان بسرقة بعيرٍ وأَكلِْه، فكاد أن يطبِّق عليهما الحدّ، لكنه لما علم أنهما كانا واقعين تحت ضغط الجوع والحاجة أسقط عنهما العقوبة، وهدد بها سيدهما الذي كان يضيق عليهما في الطعام مما اضطرهما إلى الإقدام على هذه السرقة.
وبالنسبة لـ "الزنا" يقول أسد إنه في الإسلام شيء واحد، سواء كان الزانيان متزوجين أو عَزَبَيْن، وذلك على عكس ما هو مقرر في بعض اللغات الأوربية كالإنجليزية مثلاً ، إذ يسمَّى النوع الأول: "adulte r y"، والثاني: "fo r nication"(13)، ويجد القارئ كلامه هذا في تعليقه على الآية الثانية من سورة "النور" وهى الآية التي تحدد عقوبة الزاني والزانية، ورغم أنه لم يفصِّل القول في هذه العقوبة فالمفهوم من عبارته ما دام لا يفرق بين زنا وزنا أنه لا يرى حدّاً للزنا إلا الجلد سواء كان مجترحه مُحْصَناً أو غير محصن، وتعليقاً على اشتراط القرآن الإتيانَ بأربعة شهود على واقعة الزنا يقول كاتبنا إن ذلك من الاستحالة بمكان، مما يدل على أن الإسلام يريد استبعاد أي طرف ثالث غير مرتكبي الواقعة، وقَصْرها على إقرار الزاني من تلقاء نفسه(14)، ونضيف نحن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقبل إقرار الزاني بسهولة، بل كان يراجعه ويحاول أن يتأكد بكل السبل أنه قد اجترح فعلاً هذا الإثم نفسه اجتراحاً صريحاً لا يقبل الشك على أي نحو من الأنحاء، بل لقد كان يمحِّص قواه العقلية، وهو ما يومئ إلى أن الإسلام يُؤْثِر في هذا الأمر الستر وعدم المسارعة إلى تطبيق الحد، أو تمزيق البناء الأسري.
وبالنسبة لتعبير "ما ملكت أيمانكم" الذي تكرر في القرآن المجيد يؤكد أسد خلافاً لما يقوله المفسرون والفقهاء أن الإسلام لا يُقِرّ الاتصال الجنسي بسَبِيَّةٍ أو أَمَةٍ دون زواج، وأن "ما ملكت أيمانكم" معناها: "من امتلكتموهن من النساء بحقٍّ بعقد زواج"، وأن تحديد النكاح بأربعٍ غيرُ خاص بالحرائر من النساء، بل يمتد ليشمل السبايا أيضاً، ذلك أنه يقرأ قوله - تعالى-: ((وإن خفتم ألا تَعْدِلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم)) على أساس أن جملة ((فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً)) هي جملة اعتراضية، و((ما ملكت أيمانكم)) معطوف على "النساء"، أي "انكحوا ما طاب لكم من النساء أو مما ملكت أيمانكم مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاع"، ومعنى هذا أنه لا فرق على الإطلاق بين الحرائر والإماء في مسائل الاتصال الجنسي والزواج(15).(24/35)
لكن يبدو لي أن ما فعله أسد هو إرهاق شديد لتركيب الآية، إذ لماذا يقدِّم القرآن الكريم جملة "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً" على موضعها الأصلي ويحولها إلى جملة اعتراضية مما يترتب عليه أن يفهم القارئ أن التحديد بأربع أمر خاص بالحرائر من النساء فقط، مع أن المقصود شيء آخر غير ذلك؟ إن الذي نعرفه هو أنه لا بد من استبراء السَّبِيَّة بحيضة واحدة خلافاً للحرة المطلَّقة التي تُسْتَبْرَأ بثلاث حيضات، ولم نسمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الصحابة كان إذا ضم إليه سبية يعقد عليها القران ويدفع لها مهراً كما كانوا يصنعون مع الحرة، ثم إن القرآن الكريم يميِّز تمييزاً واضحاً بين زوجات الرجال وما ملكت أيمانهم بما يؤكد أن هؤلاء غير أولئك حيث قال - تعالى- في موضعين من القرآن: ((... إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم))(16) ذاكراً هؤلاء وأولئك جنباً إلى جنب، ولو كُنّ شيئاً واحداً لاكتفى بذكر الزوجات وحدهن، بل إن المهر فيه لا يُذْكَر إلا للزوجة وحدها لا لملك اليمين، إذ خاطب المولى - سبحانه - رسوله - عليه الصلاة والسلام - بقوله: ((يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيتَ أجورهن وما ملكتْ يمينُك مما أفاء اللهُ عليك...إلخ))، فالأجور كما هو بيّن قد ذُكِرَتْ للزوجات وحدهن دون ملك اليمين، وهذا فضلاً عن أن السبيّة يحل نكاحها لمجرد وقوعها في السبي حتى لو كان لها زوج(17)، وذلك بعد استبرائها بحيضة كما سلف القول، أما الحرة المتزوجة فلا يمكن نكاحها إلا إذا مات عنها زوجها أو طلّقها، أما آية سورة "النساء" فالواضح من تركيبها أن على المسلم إذا أراد التعديد أن يعدل بين زوجاته، وإلا فلْيكتف بواحدة أو فلْيأخذ مما ملكت يمينه ما يشاء، هذا ما تقوله الآية أما تفسيرها على طريقة المستشرق النمساوي فمن الصعب الاقتناع به، ولسنا نقول هذا لأننا ندعو إلى إفلات الشهوات، فإن الحياة الحديثة في بلادنا تجعل من الصعب الشديد الصعوبة التزوج بأكثر من واحدة، فضلاً عن أن "ما ملكت اليمين" لم يعد لهن الآن أي وجود بحكم التطور التاريخي، لكننا نقرر ما نعتقد أنه هو التفسير الصحيح للآية، ولا ريب أن ما يشرعه القرآن في "ملك اليمين" هو أنبل وأشرف مما تفعله الجيوش الأوربية في أي بلد تجتاحه من اغتصاب النساء، وبقر بطونهن، وتعاور عدّة ذكور على المرأة الواحدة، وغير ذلك من الفظائع، فلا ينبغي إذن أن يُفْزِعنا المعيار الغربي، فهو معيار كله نفاق وغطرسة فارغة كذابة، والأستاذ أسد يعرف هذا أكثر من غيره.(24/36)
وما دمنا بصدد الحديث عن المرأة فيحسن أن نورد هنا رأى كاتبنا في زي النساء في ضوء ما طالبتهن به الآية الحادية والثلاثون من سورة "النور" التي تقول: ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يُبْدين زينتهن إلا ما ظهر منها ولْيضربن بخُمُرهن على جيوبهن...)) إذ يرى أن عبارة "إلا ما ظهر منها" عبارة غامضة قصداً كي يترك الإسلام الباب مفتوحاً للتطورات الاجتماعية في تحديد المساحة التي تظهرها المرأة من جسدها، وعلى هذا فهو يخالف العلماء الذين يحددون المقصود بـ"ما ظهر منها" بالوجه والكفين والقدمين أو أقل من ذلك، ثم يضيف مؤكداً أن المهم هو غض البصر وحفظ الفرج لأن هذا هو مقياس العفة الذي ينصبه الإسلام للحكم على سلوك المرأة ولبسها(18)، ومن الواضح جداً أن محمد أسد قد فاته ما نصَّت عليه أقوال الرسول من أن المرأة إذا بلغت المحيض فلا يحل لها أن تُظْهِر من نفسها إلا الوجه والكفين، ومن الواضح أيضاً أنه لم يبال كثيراً بما تقوله الآية ذاتها من وجوب ضَرْب النساء خُمُرهن على جيوبهن ولا ما جاء في الآية 59 من سورة "الأحزاب" من قوله - عزَّ شأنه -: ((يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِين عليهن من جلابيبهن)) فمن هاتين الآيتين نعرف أن المسألة ليست متروكة للتطور الاجتماعي بل هي محددة تحديداً، وإلا فلِمَ أمر القرآن نساء المؤمنين بألا يكتفين بستر رؤوسهن بالخمار بل لا بد أن يغطين به صدورهن أيضاً، أو بأن يُدْنِين عليهن من جلابيبهن ما دام المجتمع في ذلك الوقت كان يسمح بكشف الصدر والشعر وما إلى ذلك؟ أليس هذا دليلاً على أن القرآن هو الذي يُسَيِّر المجتمع ويوجهه في هذه المسألة لا العكس كما يريد أن يقنعنا محمد أسد؟ وهب أن العرف الاجتماعي في بلد ما (كما هو الحال في بعض مناطق أفريقيا الهمجية مثلاً، وكذلك في أندية العراة، ومسارح الإستربتيز، وكثير من الأفلام في الغرب نفسه، وبعض بلاد العالم الأخرى أيضاً) لا يرى في كشف المرأة أثداءها ولا سوأتها من حرج، فهل يمكن القول بأن القرآن يقرّ ذلك العرف ولا يرى به بأساً؟ فما دور الإسلام إذن في هذه القضية الخطيرة التي لها من الآثار الاجتماعية والأخلاقية ما ليس لكثير غيرها؟ وإذا كان القفّال الذى يستشهد به أسد قد فسَّر حدود "ما ظهر منها" بأنه "ما تقضى به العادة الجارية"، فقد كان مقصده هو العادة الجارية في المجتمعات الإسلامية في عصره، إذ مهما تفاوتت العوائد وقتها فلم تكن لتخرج عن نطاق الشرع: فبعضٌ يرى أنه لا بأس بكشف الوجه واليدين مثلاً، وبعضٌ آخر يوجب أن تغطى المرأة وجهها ويديها أيضاً تغطية تامة، وبعضٌ ثالث يخفف قليلاً فيجيز لها ارتداء البرقع بدلاً من النقاب... وهكذا.
ثم كيف يا ترى يمكن وصف المرأة التي تعرِّى شعرها وذراعيها وصدرها مثلاً بصفة الحشمة (decency) كما يقول أسد؟ إن هذا تمييع للمفاهيم وللحدود الفاصلة بينها، إننا لسنا من المتشددين الذين يرفضون أن يظهر من المرأة حتى ولا الوجه والكفان*، لكننا لا نستطيع رغم ذلك أن نوافق على ترك الميدان دون ضابط أو كابح بحجة مسايرة "العادة الجارية"، وفوق ذلك فالأستاذ أسد قد عاد في الهامش الذي بعد ذلك فقال: إن الصدر في الإسلام هو جزء من أجزاء جسم المرأة التي لا يمكن إظهارها (19)، إذن فالمسألة ليست متروكة سبهللاً بل هناك ضوابط تحكمه وهذا أحدها، كذلك كيف يقول كاتبنا ما قال والآية التي تلي ذلك تحرِّم على النساء إظهار زينتهن إلا لآبائهن أو آباء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن...إلخ؟ إن هذا يبرهن بأجلى برهان أن زي المرأة ليس متروكاً للعادة الجارية بإطلاق بل له قواعد محددة.
وفي الآية 58 من سورة "النور" الخاصة بالاستئذان داخل البيت الإسلامي والتي توجب على الذين ملكتهم يمين المسلم والذين لم يبلغوا الحُلُم أن يستأذنوا أهل البيت قبل الدخول عليهم في ثلاثة أوقات محددة: من قبل صلاة الفجر، وحين يضعون ثيابهم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ يقول محمد أسد: إن "ما ملكت أيمانكم" يمكن أن يكون المقصود بها مَنْ ملكته يد المسلم أو المسلمة من خلال الزواج (أي الزوج والزوجة)، وذلك بناء على قوله إن السبيَّة لا يصح الاتصال الجنسي بها إلا بعقد زواج ومهر، وقد فرغنا من توضيح خطئه في هذه النقطة، ونزيد هنا أن من الغريب جداً القول بوجوب استئذان كل من الزوجين على الآخر قبل الدخول عليه مع أن كليهما يرى من رفيقه في الفراش ما لا معنى معه لوجوب استئذانه عند الدخول عليه في غرفة النوم، ليس ذلك فقط بل هو يفسر "الظهيرة" في الآية بـ"النهار كله"(20)، ومعنى ذلك أن وجوب الاستئذان سيستمر أربعاً وعشرين ساعة تقريباً ما دامت الظهيرة تساوى النهار كله، على حين يتكفل بالليل جميعه تقريباً الوقتُ الممتد من بعد صلاة العشاء إلى ما قبل صلاة الفجر، لكن إذا كان الأمر كذلك فعلاً فلِمَ حدَّد القرآن مرات الاستئذان بثلاث ولم يقل: "ليل نهار" فيريح ويستريح؟(24/37)
بقيت نقطتان أختتم بهما هذا الجزء الخاص بالمسائل الفقهية في تعليقات أسد على ترجمته للقرآن: الأولى عَزْوُه إلغاءَ التبني في الإسلام إلى "رغبةِ الرسول" وزعمُه أنه صلى الله عليه وسلم حين زوَّج زيداً من زينب كان في ذهنه هذا الهدف، وكأنه - عليه الصلاة والسلام - قد رتَّب كل شيء بحيث يتزوج ربيبُه بنتَ عمته ثم يطلقها ليتزوجها هو، إذ كانت زينب (كما يقول كاتبنا) تحبه منذ طفولتها (21)، ولكن كيف عرف أسد أن زينب كانت تحب الرسول منذ الطفولة؟ وكيف طاوعته نفسه على كتابة هذا الكلام الذي يرجع بعضاً من التشريعات الإسلامية على الأقل إلى "رغبة الرسول" - عليه الصلاة والسلام -؟ بل كيف يرضى محمد صلى الله عليه وسلم وهو العربي الغيور أن يزوج بنفسه حبيبته وعلى غير هواها من عبده السابق تخطيطاً للزواج بها من بعد؟ وكذلك كيف فات كاتبنا أن كلامه هذا يناقض القرآن الذي عاتب النبي صلى الله عليه وسلم في الآية 37 من سورة "الأحزاب" لأنه "يخشى الناس" فيتباطأ في الزواج من زينب بعد تطليق زيد لها كيلا يقول الناس إنه قد تزوج امرأة ابنه، مع أن الله أحقّ أن يخشاه؟ الواقع أنني لا أعرف سر هذا الغرام لدى أسد بمخالفة ما هو معلوم ومقرَّر دون داع، والإتيان بتلك الآراء الغريبة التي يصعب على النفس والعقل هضمها!
والنقطة الثانية هي دعواه بأن الحكم الشرعي في قوله عزَّ من قائل: ((يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدِّموا بين يَدَىْ نجواكم صدقة)) لا يزال ساري المفعول، إذ الآية في نظره أعم مما يُفْهَم من ظاهرها، وأن المقصود هو وجوب تقديم المسلم صدقة كلما أقبل على دراسة التعاليم النبوية، ماليةً كانت هذه الصدقةُ أو مجردَ كلمة طيبة...إلخ، لأن هذه التعاليم تقوم مقام النبي نفسه - عليه الصلاة والسلام -(22)، وكاتبنا بهذه الطريقة يُضَيِّع معالم النص، ويجعله ينطبق على كل شيء وأي شيء، ثم إننا لم نسمع أن أحداً من الصحابة كان يفعل هذا الذي يطالب به أسد، بل بالعكس كان بعضهم يشفقون أن يقدِّموا بين يدي نجواهم مع الرسول نفسه صدقات كما تقول الآية التي تلي ذلك، فكيف يطالَب المسلمون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدِّموا هذه الصدقات؟ على أية حال فهذه الآية نفسها توضح أن الله قد أعفاهم من هذا الحكم، إذ تقول: ((أأشفقتم أن تقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتُوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون)) لكن أسد رغم هذا لا يسلِّم بل ينفي أن يكون في الآية الثانية نسخ للأولى، إذ إنه ينكر فكرة النسخ من جذورها لأنها كما يقول تذكِّرنا بمؤلِّف بشرى يعيد النظر في بعض النصوص التي كتبها فيشطب ما تبيَّن له خطؤه، ويستبدل به كلاماً آخر(23).
والمعروف أن النصارى يتخذون من فكرة النسخ في القرآن هدفاً لمطاعنهم رغم وجوده في دينهم، ويتهمون كتاب الله بالتخبط، وتغيير الأحكام من آونة لأخرى(24)، فهل يريد أسد أن يغلق الباب في وجه هؤلاء وأمثالهم؟ لكننا لو نفينا من القرآن كل ما يتخذه أعداؤه مطاعن عليه فأخشى ما يُخْشَى أن نصحو ذات يوم لنجد أننا قد ألغينا القرآن كله! وأياً ما يكن الأمر فلا بد أن نعرف أن النسخ غير "البَداء": فالبداء هو اتهام الله - سبحانه - بالجهل بما سيقع والاضطراب في الأحكام بناءً على هذا كما يزعم اليهود، أما النسخ فهو المواءمة مؤقتاً بين الأحكام وبعض الظروف الطارئة ثم تغيير هذه الأحكام بعد زوال الطارئ من الظروف، فالفرق بينهما كما ترى هو الفرق بين المشرق والمغرب(25).
والحق أن في تفسير أسد لمفهوم النسخ ظلماً وتجنياً شديداً على من يقولون به، فهم لا يقصدون هذا الذي يقول البتة، ولا يمكن أن يدور بذهنهم شيء منه، وكل ما يقولونه هو أن الظروف في بداية الدعوة الإسلامية كانت تحتاج إلى بعض التشريعات المؤقتة التي تناسبها ثم اسْتُبْدِل بها غيرها حين زالت هذه الظروف الخاصة، وهذا مشاهَدٌ في كل مجالات الحياة، فالطفل مثلاً له معاملة تختلف عن معاملته هو نفسه حين يكبر، وليس يظن عاقل أن في الأمر خطأ، بل هي طبيعة التطور، وعجيب أن يتصلَّب أسد في موقفه هذا من النسخ، وهو الذي يقول باحترام التطور في مسألة الزي النسائي على رغم خطورة الرأي الذي ينادى به.
ومما يعتمد عليه مترجمنا في إنكار النسخ في القرآن أيضاً الآية 42 من سورة "فُصِّلَتْ" التي تصف القرآن المجيد بأنه "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" لأنه يظن أن "إبطال" الحكم في الآية المنسوخة هو نفسه "الباطل" الذي نفته الآية عن القرآن(26) مع أن هذا غير ذاك، ومثله نوع الطعام الذي يقدَّم للإنسان في فترة الرضاعة إذ بعد أن يكبر الطفل وتنبت له أسنان ويقوى جهازه الهضمي فإن أمه تكفّ عن إرضاعه وتقدِّم له بدلاً من ذلك أطعمة متماسكة، ولا يقال أبداً إنه قد اتضح أن اللبن كان طعاماً باطلاً.(24/38)
ولأن مستشرقنا النمساوى يرفض القول بالنسخ نراه يلوى بعنفٍ الآيتين 6- 7 من سورة "الأعلى": "سنُقْرِئك فلا تنسى* إلا ما شاء الله" قائلاً إنهما قد سببتا حيرة شديدة للمفسرين إلى يومنا هذا، وإنهم كالعادة قد لجأوا في تفسيرهما إلى القول بالنسخ، أما هو فيفسرهما بأن المقصود بهما ليس قراءة القرآن ونسيانه بل العلم البشرى بكل أنواعه من تجريبي وتأملي واستنباطي مما يورِّثه كل جيل للجيل الذي يليه، فلا يضيع منه شيء إلا ما شاء الله أن ينساه البشر لكونه لم يعد صالحاً جَرّاء تقدم العلم، والتنبه إلى أنه كان خاطئاً(27)، وفي هذا التفسير من التمحُّل ما فيه، فالكلام في الآيتين موجَّه للرسول - عليه الصلاة والسلام - على حين أنه حسب تفسير أسد موجه للبشرية كلها دون أن يكون في السياق ما يسوِّغ هذا التفسير!
على أن محمد أسد ليس هو الوحيد الذي ينكر النسخ من المسلمين، بل مجرد واحد منهم، وأذكر في هذا الصدد أن عبد المتعال الجابرى مثلاً قد أصدر منذ وقت غير بعيد كتاباً بعنوان "لا نسخ في القرآن"، ولهذا الفريق حججه التي يبسطها في الدفاع عن رأيه، وهم يؤوِّلون كل آية يقول غيرهم إنها قد نُسِخَت بحيث تبدو وكأن مفعولها لا يزال سارياً، ولست أرى في هذا ما يجرح إيمان صاحبه وإن كنت أخالفهم في موقفهم، وقد أحببتُ في ردّى على أسد أن أبين أن الأدلة التي يوردها في الدفاع عن رأيه ليست بالأدلة القوية أو الوجيهة، وهذا كل ما هنالك، وعلى أية حال فإني أجد الخلاف معه هنا أهون كثيراً من الخلاف حول عصمة الأنبياء، أو نجاة اليهود والنصارى والصابئين بعد مجيء الرسول - عليه الصلاة والسلام - برسالته إلى جميع الإنس والجن.
وفي النهاية أحب أن أضيف أني بعد أن فرغت من هذه الفصول قد اطَّلعت على ترجمة محمد أسد في "تتمّة "الأعلام" للزِّرِكلِْىّ" لمحمد خير رمضان يوسف الذي يقول إن أسد قد "ظل يُسْدِى النصح الصبور إلى الإسلاميين ليقنعهم بأن الموعظة الحسنة والبناء المتأني لا الصراع المتعجل هو سبيل البناء الإسلامي الصحيح"(28)، وأنا معه في هذا، وأرى أنه ينبغي البدء بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية قبل التفكير في تطبيق الحدود التي ينبغي أن تكون آخر ما يُطَبَّق بعد أن تكون الأرض قد مُهِّدَت تماماً مثلما حدث في عصر الرسول - عليه الصلاة والسلام -.
_________________________
* وهذا ليس من التشدد في شيء لأن الخلاف وارد في هذه المسألة، أما الرأي المذكور فهو خاص بالكاتب. المختار الإسلامي.
المصدر : http://www.alshaab.com/2004/29-10-2004/awad.htm
=============(24/39)
(24/40)
من الاستشراق إلى الدراسات الإسلامية
د. ميسم الفاروقي
تغيرت حالة التعليم العالي في مجال الدراسات الإسلامية تغيراً هائلاً و تقدمت تقدماً ملحوظاً في العقود الأخيرة في الولايات المتحدة. و بغرض فهم الوضع الراهن و تفهُّم المشكلات و مناحي القصور الحالية المتعلقة بهذه الدراسات، سوف نقوم أولاً بمراجعة تطور هذا المجال فيما يتعلق بالدراسات الدينية بشكل عام، ثم نركز بعد ذلك على المشكلات الرئيسية المتعلقة بتدريس الإسلام على وجه الخصوص، وهي مشكلات تتعلق على وجه التحديد بالمعلمين ومناهج التعليم من ناحية، وبالكتب وطريقة كتابتها من ناحيةٍ ثانية.
التطور التاريخي:
انتقلت الدراسات الدينية في العالم الغربي من المؤسسات اللاهوتية إلى المعاهد العلمية، و أدخل (عصر العقلانية) الغرب في دائرة الدراسات المنهجية و العلمية للدين، و التي تختلف بشكلٍ ملحوظ عن الطرق الكَنَسيّة لدراسة الدين و التي تعتمد بشكلٍ أساسي على التسليم. و قد أدى هذا إلى الاعتراف بأن الدين كظاهرةٍ اجتماعية و سياسية و ثقافية يمكن فهمها و شرحها عبر العلوم الاجتماعية و ليس عبر علم اللاهوت.
ومن المعروف أن هذه العلوم الاجتماعية أبدعت طرائقها في البحث بشكلٍ يتناسب مع موضوعاتها ومجالات بحثها، و لكن استعمال هذه الطرائق في مجال دراسة الأديان يؤدي عادةً إلى اختزال الدين إلى أحد أبعاده فقط. فبدلاً من رؤية الدين كعقيدةٍ جامعة تربط كل الأمور ببعضها، ضاعت هذه العلوم في التحليل الجزئي الذي فشل في رؤية البنية الكلية التي تجمع الأمور و تعطيها معناها. و قد كان التحدي لطالب الدراسات الدينية أن يطور حقل دراسة الأديان بحيث يكون الدين وحده هو محور الاهتمام و مصدر التعريف و مفصل التفريق، وبحيث يصبح الدين موضوعاً خاصاً متفردا مستقلا، تُستدعى لدراسته طرائق بحثٍ خاصة مستمدة و مفهومة من طبيعته الكلية.
وبعيداً عن الدخول في تفصيلات الموضوعات المنهجية لدراسة الدين، تجدر الإشارة إلى أنه رغم الاختلاف حول تاريخ الدين و تعريف موضوع الدين و بنية الدين، إلا أن هناك اتفاقاً عاما حول استقلال و ذاتية حقل الدراسات الدينية و الذي احتفظ به عبر منهجية الظاهراتية. و قد نأى هذا الاتجاه بنفسه بعيداً عن المنهجية اللاهوتية التي تعنى بتأصيل الحقيقة المطلقة، و بقي في نفس الوقت على مسافةٍ من منهجية الاختزال التي تمارسها العلوم الاجتماعية، و التي لا تستطيع أن تفسر إلا أموراً جزئية من الدين. و بالطبع لم ترحب المدارس اللاهوتية التي احتكرت دراسة الدين (بِعَلمَنة) هذا المجال من الدراسة من قبل علماء الاجتماع أو علماء الظاهراتية. لكنها تقبّلت - في بعض الأحيان - هذه العلوم المستحدثة بشرط إضافة لمسةٍ دينية تُثبت أن الإيمان هو النتيجة النهائية لمكتشفاتها. و ظلت النصرانية في أوروبا محصورةً بمدارس اللاهوت و الكنائس بينما كان للأديان الأخرى معاهد و مؤسسات "استشراقية". أما في الولايات المتحدة فقد كانت جميع الأديان تتكامل في أقسام و هذا يعني تطبيق نفس المنهجية على جميع الأديان بغض النظر عن تفوقها.
كان كل ذلك من الناحية النظرية - على الأقل- و لكن التطبيق أثبت صعوبة التزام هذه المنهجية بشكل شامل. فلم تكن أقسام الدراسات الدينية تلتزم دائما بالمنهجية الظاهراتية التي كانت تُستخدم بشكل أكثر جدية في الدراسات المتعلقة بالنصرانية (ثم اليهودية بعد ذلك) منها في الدراسات المتعلقة بالأديان الأخرى. فبالنسبة للنصرانية كدينٍ للأغلبية في الغرب، كان العلماء الجدد على علمٍ و درايةٍ بالبعد الاعتقادي و هذا بالطبع يمنع من الجنوح إلى الاختزال في الدراسات النصرانية، أما ما يحدث عند دراسة أي دين آخر "غير غربي" فكان على عكس ذلك تماما.
فالإسلام كما يروون لنا سواء في النشرات التمهيدية أو التخصصية ليس ديناً واحدا فهناك عدة نسخٍ وأنواعٍ من الإسلام (أو ما يسمونه "إسلامات")، و تديُّنُ المسلمين يختلف من منطقة إلى أخرى في العالم، و تتمحور أكثر دراسات الطلبة للأديان غير الغربية على دراسة السلوك وعلى عرض وجهات نظر شائعة. و بالمقابل لا تُعطى المجلدات الضخمة التي تتحدث عن العقيدة أي اهتمام، و ليس هناك من محاولة لكشف العلاقة بين السلوك و عقائد الدين.
و بالطبع فإن نقص الفهم و الإدراك لعقائد الأديان الأخرى هو الذي يحمل الطلاب الغربيين على التركيز على الدراسات العرقية و الدراسات الميدانية. و نظراً لعدم تمكنهم من فهم العلاقة بين الواقع و عقيدة الدين فإن ذلك يقودهم إلى التقديم المختصر المختزل الذي تصبح فيه شعائر العبادة هي المُعبِّر الرئيسي عن الدين. و على سبيل المثال - إذا لم تكن مسلماً - فإن معرفتك بالعقيدة الإسلامية لن تتعدى العلم بأن المسلمين يؤمنون بالإله و يمارسون أركان الإسلام الخمسة، و بعبارةٍ أخرى فإن الفهم الإجمالي سيتلخص أن هناك بعض الشعائر ترتبط بالإيمان. و بالطبع فإن المختص سيكون على علمٍ بكثيرٍ من التفاصيل التاريخية و لكن الفهم للعقيدة سيكون معدوماً في غالب الأحوال.(24/41)
هذا الافتراق بين الدراسات النصرانية و الدراسات للأديان - غير النصرانية - موجودٌ بعمق في حقل الدراسات الدينية. و لا بد من معالجة هذا الوضع بزيادة الأبحاث الميدانية في واقع التدين النصراني الحديث من جهة، و بزيادة الدراسات المنهجية للعقيدة في الأديان الأخرى.
وإن من الضرورة بمكان أن ننتبه إلى أن حقل دراسات الأديان - غير الغربية - قد تأثر إلى حدٍ كبير بظروف نشأته التاريخية. فقد نشأ الاستشراق في القرن التاسع عشر مع التوسع الاستعماري الذي كان يحتاج إلى فهم ثقافات الشعوب المستعمَرة ليتمكن من نشر الدعاية للمدنية الغربية بشكل أفضل. و لذا لم يكن مستغرباً أن يتزايد الاهتمام بالدراسات الإسلامية في الفترة الاستعمارية لارتباطه بإيجاد المبرر الفكري للاستعمار. و لم يجرِ سبرُ و فحصُ استغلال و استعمال النتاج الفكري قبل قيام هذا النتاج بتركيب القوى في المجتمع الذي أنتجه إلا في الستينات من هذا القرن من خلال الكتابات الفلسفية لأمثال (مايكل فوكو). و كذلك ساهم بعض العلماء - و المسلمون والعرب منهم بشكل خاص في فضح عددٍ من المستشرقين و في تبيان مناهجهم. و قد بلغ هذا النقد شأوه عندما عُمِّمَ مجال النقد الأدبي و تحليل النصوص عبر النقد المنهجي الذي يهدم طرق المستشرقين و مجالات بحثهم، وكانت الصورة المُثلى لهذا البحث الذي نشره (إدوارد سعيد) في كتابه (الاستشراق) و الذي أصبح مشهورا عالميا. و رغم أن الاستشراق كظاهرة - فَقدَ رصيده و احترامه حتى أن هذه الكلمة أصبحت تستعمل لوصف فكرةٍ أو كاتب لا نتفق معه، إلا أنه - أي الاستشراق - ما زال المصدر و المرجع للدراسات المتعلقة بالإسلام.
يحمل الاستشراق أهدافاً فكريةً تتمثل في إثبات دونية البنية الاعتقادية و العملية للأديان غير الغربية و ذلك لتبرير فرضِ قيم و مؤسسات الثقافة الغربية (وخاصة المؤسسات السياسية و الاجتماعية تحت شعار الديموقراطية و التحديث و العلم)، و ذلك كما بين (إدوارد سعيد) بأمثلة تفوق الحصر. لقد كان التحيز الوقح للمستشرقين مدعاةً للشك في انتمائهم للعلم، و كان هذا أيضاً هو الأمر الذي طرحته الحركات الرافضة المعادية للمؤسسات في أمريكا في الستينيات. و قد صادف أن الاهتمام بالأديان الأخرى غير النصرانية و الذي تزايد من خلال هذه الحركات ساهم جزئياً في التحريض على إنشاء أقسام أديان، و سُمِح لهم باكتساب الاستقلال عن أقسام الفلسفة. و بذلك أصبح الاختصاص بحقول الدراسات الإسلامية و الأديان الشرقية واسعاً ومُنتشرا، و جاء مع ذلك المساهمات العلمية التي أبرزت التحدي للمناهج و المؤسسات القديمة.
و على هذا فالمشكلة الرئيسية في مجال الدراسات الدينية تنبع من حقيقة أن أكثر الأعمال الأساسية فيها جاءت عن طريق الفلسفة أو الاستشراق حيث لا يتعامل أي منهما مع الدين كعقيدة ونظام حياة و لا يستخدم منهجية الظاهراتية على الإطلاق. و كان فهم الدين يُستنبط و يُحمل على شرح و بيان الجمود الاقتصادي عند المسلمين، أو أي قصور في الثقافة الإسلامية بالقياس إلى الثقافة الغربية. فالخلفية الثقافية للعلماء الغربيين و النقص النسبي في معالجة قضايا الاعتقاد في الأديان الأخرى، يجعلهم يفسرونها بشكل لا يمكن أن يُقرِّهُ أهل تلك الأديان. إن من الطبيعي أن يقرأ المرء ثقافته من خلال دين آخر، و لكنه ليس من الطبيعي على الإطلاق الادعاء أن هذه القراءة هي القراءة الصحيحة و الموضوعية، و هذه بشكل أساسي هي المشكلة مع الدراسات المعاصرة في حقل الأديان غير الغربية. و كما أكَّد (فوكو) و (تشومسكي) و (إدوارد سعيد) فإن النفوذ السياسي ما زال له دورٌ في قبول العمل العلمي و الحكم على درجة معقوليته، و باعتبار أن النفوذ السياسي العالمي يكمن في قبضة الغرب، فإن الاستشراق لا يستند في مرجعيته إلى التزام المعايير الموضوعية بل إلى القوة السياسية الكامنة في الثقافة التي أنتجته. و الحقيقة أن أكثر الأعمال العادية للعلماء الغربيين لا تتطلب أكثر من ترديد آراء المستشرقين عن الإسلام لتلقى الترحيب و تحصل على الدعم المالي و تنال الشهرة رغم احتياجها للمؤهلات و الجدارة العلمية، وهذه حالةٌ يمكن أن تُلاحظ بوضوح في كل أرجاء العالم.
و رغم أن الجيل الجديد من العلماء يبدون قدراً متزايداً من النقد الذاتي، إلا أن التكبُّر في الدراسات الاستشراقية لا يزال موجوداً و بحاجة إلى الاقتلاع. و باختصار، تتمثلُ الموروثات التي تحمل إشكاليةً سلبية في حقل الدراسات الإسلامية في هذه المجموعة من النقاط:
1. الجهل بعقيدة و مفردات الإيمان الكامنة في الدين الأجنبي (وخاصةً الإسلام في هذه الحالة).
2. الميل الطبيعي لقراءة الأديان الأخرى من وجهة نظرٍ محدودة بالرؤية الخاصة لمن يمارس تلك القراءة.
3. التحيز الاستعماري و الانطلاق من عقلية امتلاك المرجعية.(24/42)
وليس من الغريب بعد هذا - ورغم المتغيرات الكثيرة التي حدثت في هذا الميدان - أن أكثر القضايا المرتبطة بالوضع الحالي للتعليم الإسلامي في مستوى الكليات له علاقة بواحدة أو أكثر من العوامل المذكورة. و سيحتاج الأمر إلى بعض الوقت - على ما أعتقد - ليحرر هذا المجال من الدراسة نفسه من هذه الخلفية التاريخية و ليتمكن من الاحتفاظ بالاكتشافات الحقيقية و بالنظريات العلمية الرصينة في تراث الاستشراق و يتخلص من التشويه الفكري.
المشكلات المتعلقة بالمعلمين و مناهج التعليم:
من أكبر المشكلات أهميةً و التي تنطبق على جميع الأديان غير الغربية، أنها تُدرَّسُ على الأغلب في الصفوف التمهيدية، و يقوم على تدريسها مختصون في عقائد أخرى و أحياناً مختصون في تخصصٍ مختلف كلياً. وفيما يتعلق بالإسلام بالذات فإنه غالباً ما يُكلَّفُ بتدريسه أي إنسانٍ له خبرة بمجالٍ ما ذو علاقة بهذا الحقل من الدراسة مهما تكن تلك العلاقة بعيدة. و المشكلة تظهر عندما يُعيّنُ لتدريس الدراسات الإسلامية إنسانٌ غير متخصص في العقيدة، لأن الإسلام يغطي مساحة واسعة من التاريخ إلى الدين، ولا يُعقل أن يستطيع مثل ذلك الشخص أن يؤدي دوره بأمانة وهو بعيد عن فهم العامل الأساسي في ما يقوم بتدريسه وهو العقيدة.
فهؤلاء، سواء منهم المتخصص في التاريخ أو الاجتماع أو حتى في الأدب العربي، يصبحون خبراء في الإسلام (و لا يُقال خبراء في التاريخ الإسلامي أو الاجتماع الإسلامي..)، و ليس غريباً أن نجد علماء اجتماع يُدرِّسون الإسلام في أقسام الدين، في الوقت الذي لا يُقبل فيه على الإطلاق ادعاء متخصص في تاريخ أوروبا السياسي في العصور الوسطى على أنه خبيرٌ في النصرانية. و في نفس الوقت يمثل مصطلح (مختص بالإسلاميات) مشكلةً، إذ أن هذا المصطلح يغطي بدون تمييز مجالا من العلم ينتسب إلى حضارةٍ تمتد زمانياً عبر خمسة عشر قرناً و مكانياً عبر ربع مساحة العالم. و على النقيض ليس هناك (مختصٌ بالنصرانيات) من بين الاختصاصات العلمية التي تنتسب إلى النصرانية التي تمتدُّ زمانياً عشرين قرنا و تغطي مكانياً ربع مساحة العالم.
و كما يبدو فإن هناك موقفاً متعجرفاً يكمن وراء هذه الطريقة المسيئة في تمثيل الإسلام، كما يبين المثال التالي (علماً بأنني سأُعرضُ عن ذكر الأسماء لأن الغرض هو عرض القضايا في مجال الدراسات السياسية). فقد أخبرني مرةً عميد قسم الأديان في جامعةٍ مرموقة عن نيته تعيين مُدَرِّسٍ لتدريس دورةٍ تمهيدية عن الإسلام، وعندما أشرتُ إلى أن ذلك الشخص المعني هو متخصصٌ في التاريخ، هزَّ العميد كتفيه بلا مبالاة و قال إن والد هذا الشخص قسيس و هذا يكفي لضمان أن يمتلك هذا الرجل فهماً كافيا للبعد الديني للإسلام!! و لنا أن نتصور أن يُطبَّقَ هذا المثال على النصرانية، و نتصور أن يُعينَ مسلمٌ متخصصٌ في التاريخ الأوروبي مُعلِّماً للدين النصراني فقط لأن أباه كان فقيهاً شرعيا.
إن أحد المشكلات الرئيسية يكمن في حشد جميع أنواع الدراسات و الاختصاصات تحت اسم (الدراسات الإسلامية). و لا تنحصرُ إشكالية تعليم (الدراسات الإسلامية) بشكلها الراهن في غياب التحديد الدقيق فقط، وإنما في رداءة النوعية العلمية التي يُنتجها مثل ذلك التعليم. و لذا فإن هذا يستدعي أن يُطبّقَ في تصنيف الفروع الموجودة تحت هذا العنوان الكبير (الدراسات الإسلامية) المنهج المُتّبعُ في كل حقول المعرفة الأخرى. و من الطبيعي أن يؤثر غياب التحديد على تدريب الأساتذة "المختصين" و "علماء" المستقبل، الذين يحصلون على شهاداتهم من جامعاتٍ تعاني من كل المشكلات التي عرضناها، والأدهى من ذلك أنه ليس هناك أي مؤهلات محددة تُطلب من الجامعات لتغيير هذا الوضع.
و من الظواهر العجيبة أن ترى أن أغلب "الخبراء" بالإسلام في أمريكا لا يمتلكون إلا معرفةً ضئيلة بالعربية أو ليس عندهم أي خبرة بها. و إذا حدث أن كان عندهم بعض المعرفة بالعربية فليست هي المعرفة اللازمة للتمكن من الأدب العريق القديم أو المعاصر و الذي يُهملُ ببساطة لأنه ليس أدباً غربياً. و مرةً ثانية، للقارىء أن يتصور إمكانية وصف إنسانٍ بأنه خبيرٌ بالفكر اليوناني دون أن يكون عنده أي معرفة باللغة اليونانية. ولكن هذا بالضبط هو ما يحدث في مجالات الدراسات الإسلامية، ليس في المستويات التمهيدية فحسب بل على مستويات مراكز الصدارة في هذا المجال.
المشكلات المتعلقة بالكتب:
تحدث المشكلة الرئيسية في الكتب الدراسية عندما تُكتبُ هذه الكتب لدراساتٍ دينية و تُستعمل من قبل خبراء في مجال آخر غير مجال الدراسات الدينية، كطلاب التاريخ و علوم السياسة الذين ينقلبون بلحظةٍ واحدة إلى "خبراء" غبر التأثير السحري لكلمة (خبير إسلاميات). فالمشكلة تكمن في كتبٍ دونها علماء تمرسوا في الدراسات الدينية و لكنهم يفتقدون التمرس في العقيدة الإسلامية و يعتمدون على مصادر غير أصلية نظراً لجهلهم التام باللغة. و تغيب العقيدة تماماً أو تُذكر باختصار في ثنايا عرض بعض المناظرات الدينية في مدارس اللاهوت في القرون الوسطى.(24/43)
و لقد جرت العادة أن يعطي أي كتابٍ تمهيدي عن الإسلام عرضاً مختصرا عن تاريخ نشأة الدين، تُذكرُ بعده بعض (أركان/شعائر) الإسلام مع غياب أي نظرة عقدية، و ربما يتبع ذلك وصفٌ جاف لنشأة بعض المدارس و المذاهب الفقهية، ثم ينتقل البحث إلى الحركات الحديثة و القضايا المعاصرة في العالم الإسلامي. و يغيب في هذا العرض البعد الاعتقادي الذي يعطي المعنى للحركات و المؤسسات و يُبرز الجانب العملي للإيمان. و تتضاعف المشكلة وتزداد وضوحاً عندما نتعامل مع كتابٍ تمهيدي يُغطّي عدداً من الأديان. إذ غالباً ما يعتمد الكاتب على فهمٍ مُتَوهّم لمصادر غير أصلية لعرضِ الدين الذي يُدَرِّسُهُ. و لذا أصبح تتبُّعُ الشائعات و الأغاليط التي تنتقل من مؤلف إلى آخر بُغية التنبيه والإشارة إليها مهمةً من أصعب المهام.
و حيث أن عرض النصرانية (و اليهودية بشكل متزايد) يتمُّ بشكل متوافقٍ مع رموزها و تصورها الديني، فإن المرء ممن يتعلم في مثل هذه الكتب - يتخيل أن الإسلام (و الأديان غير الغربية) ليس إلا مجموعةً من الطقوس التي قد تُفهم إلى حد ما. فبعد الأركان الخمسة ننتقل مباشرة إلى بعض القضايا الاجتماعية (و التي تمثل مشكلات) كالمرأة و الجهاد، و في بعض الكتب التمهيدية تبتدأ المقتطفات بسورة الفاتحة و يليها مباشرة آية ضرب النساء، و كما هو متوقع لا يُشرح هذا الأمر وتبقى ارتباطاته وتفسيراته مُغيّبةً تماما. و طبيعيٌ بالنسبة لمؤلفي الكتب وإن كان غريباً في المنهجية المقارنة - أن أقسام الكتاب التي تتحدث عن اليهودية و النصرانية لا يوجد فيها أي ذكرٍ لوضع المرأة في هذه الديانات.
و إذا حدث أن عُرضت بعض التصورات الاعتقادية في هذه الكتب فغالباً ما تُوضع بحيث تعكس التفكير الصوفي في الإسلام. الأمر الذي يعطي فهماً مغلوطاً بأن الفهم الصوفي (الباطني-الرمزي) هو الفهم الوحيد للعقيدة في الإسلام. فيما الحقيقة تقول أن هناك فهماً أصلياً يتعارض مع الصوفية، و أنه لابد على الأقل - من إجراء بعض التأويلات على مثل هذه الكتابات لتتفق مع الفهم الأصلي. ومعلومٌ أن الفهم الأصلي للعقيدة يتعارض بشكل صريح مع النصرانية بينما تتشارك الصوفية مع الرمزية النصرانية. و هذا ما يفسر الاهتمام من قبل كثيرٍ من العلماء بالصوفية.
و هناك مشكلةٌ أخرى تكمن في ترجمة القرآن الكريم حيث أن بعض الترجمات مثيرٌ للتساؤل بشكلٍ مؤكد. و أحسن الترجمات - على حد علمي - هي ترجمة محمد أسد (رسالة القرآن) و التي تحتوي على تعليقٍ وشرحٍ علمي جيد، و إن كانت اللغة الإنجليزية المستعملة فيها تتصفُ بالرصانة و الجدية. هذا وإن من الصعوبة بمكان اختيار مقتطفاتٍ من القرآن كما هو الحال عليه مع النصوص الأخرى، و ذلك بسبب الاختلاف الجذري بين أساسيات البلاغة العربية و فن الكتابة الغربية، الأمر الذي يجعل الفهم متعسرا من غير تدريبٍ اعتقادي مناسب. و بدون هذا التدريب غالباً ما سينتقل انطباعُ عدم إمكانية الفهم إلى الطلاب.
و أهم من هذا كله في مجال (الدراسات الإسلامية) - الخضوع لضغط وسائل الإعلام وقبول عرضها الشائع للإسلام. فالموضوعات الرئيسية للمناقشة في أي كتابٍ تمهيدي عن الإسلام هي المرأة و الجهاد و الإرهاب، و كأن هذه الموضوعات هي الموضوعات الرئيسة في الإسلام أو عند المسلمين.
و لا أود أن أنهي هذه المراجعة بلهجة سلبية، فالحقيقة أن التقدم في العقود الأخيرة في مجال الدراسات الإسلامية هائلٌ حقاً، و الحقيقة أن هناك جيلاً من العلماء يعملون على تحرير أنفسهم من القديم و ينتجون بازدياد إنتاجاً علميا رصينا. و إذا ما طبقنا المعايير الصارمة في مجال الدراسات الإسلامية كما اقترحَت هذه المراجعة فسيصبح هذا القسم مضاهيا لبقية الأقسام.إن ماضي وتاريخ أي علم من العلوم يمكن أن لا يكون رائعا أو على الوجه المطلوب، ولكن الواجب أن يكون المستقبل كذلك، و هذا هو الهدف الطبيعي النهائي لطلب العلم.
http://www.al r ashad.o r g المصدر:
=============(24/44)
(24/45)
البعد التوراتي الصهيوني لحملات الاستشراق نحو فلسطين
شكلت فلسطين في الذهنية الغربية أهم منطقة جغرافية ودينية منذ زمن بعيد، لكن التحول العقدي الذي برز منذ أوائل القرن السادس عشر حوّل ذلك الاهتمام إلى توحد عقدي سياسي يرتبط بالتطلعات التي نشأت مع نشوء الدولة القومية في مجمل أوروبا.
ولما كانت الحملات الاستعمارية على أفريقيا وآسيا وحتى أمريكا تأخذ طابعاً أوسع من الطابع العسكري؛ فقد رافقت هذه الحملات حركات دينية تلعب لعبة التنصير في خدمة السياسة الاستعمارية الكلية.
أما في فلسطين فقد كان الأمر أعمق، وأكثر حساسية، فبروز المذهب البروتستانتي جعل التطلع إلى فلسطين يأخذ بعداً سياسياً تاريخياً وعقدياً، فالصهيونية الغربية راحت تركز أفكارها وتوجهاتها نحو ما يسمى أرض الميعاد، أو الأراضي المقدسة تمهيداً لربط اليهودية بهذه الأرض، وتمهيداً لما أسموه عودة اليهود إلى أرض أجدادهم، فإضافة لترويج هذه الأفكار ونشرها في أوروبا كان لابد من خلق موجهة من التحرك الاستشراقي والاثاري الغربي كي تكتمل دائرة التوجه الاستعماري نحو فلسطين، وكان المقياس في هذا التحرك إثبات ارتباط أرض فلسطين بالتوراة دون سواها.
والواقع أن تسلسل التحركات الاستشراقية يثبت أن موجة هستيرية اجتاحت العقل الغربي بشكل عام، وبات لدى الدوائر الغربية نهماً وشراهة في إيجاد أي صلة بين فلسطين واليهود.
ومن هذا المنطلق اختلط علم الاستشراق بعلم الآثار، وبات على الصهيونيين المسيحيين التوجه إلى فلسطين توجهاً فكرياً وتوجهاً آثارياً، فهناك من يروج لفكرة أرض الميعاد واليهود، وهناك من يرحل إلى فلسطين ينقب عن الآثار، ويدرس الواقع السكاني والاجتماعي، وفي المحصلة فإن هؤلاء وهؤلاء كانوا يحملون التوراة، ويتوقفون عند نص من نصوصها، ويقارنون ما يشاهدون أو ينبشون عنه في الأرض بما في النص التوراتي.
وأصبح من الواضح أن المستشرقين والاثاريين الغربيين جعلوا كل جهودهم في إثبات أن التوراة هي الأصل وهو المقياس، وأن علم الآثار ليس إلا وسيلة للوصول إلى مقولات التوراة، وأصبح نص هذا الكتاب بالنسبة لهم مقدساً إلهياً لا يحتمل الخطأ، حتى وإن أخطأ علم الآثار أو أصاب فإن التوراة لا تخطئ، وهي الأصح، وهي القانون الذي يقاس به أي اكتشاف أو أي نظرية تاريخية تخص أرض فلسطين.
وليس غريباً أن نجد أن التوجه الاستشراقي نحو فلسطين باعتبارها - أرض الميعاد - يدخل ضمن دائرة كبرى من حركة الاستشراق الغربي ككل، فمن المستشرقين من تخصص بدراسة الإسلام، والجزيرة العربية، ومنهم من تخصص بدراسة عادات الشعب العربي وتقاليده ومعتقداته، وآخرون تخصصوا بالأدب العربي خاصة الشعر، وغالبية هؤلاء كان هدفهم التشويه والتحريف والطعن والتشكيك، فلا يمكن في هذه الحال فصل أي توجه استشراقي عن دائرة المعركة بين الغرب والشرق، أو بين الأرض العربية الإسلامية وبين الغربيين وتوجهاتهم الاستعمارية.
والواقع أن الاهتمام الاستشراقي بفلسطين هو اهتمام مبكر جداً ويعود تقريباً إلى القرن السادس الميلادي، إلا أن التوجه المنظم والهادف والمرتبط بالدوائر الاستعمارية والتوجهات اليهودية راح يتشكل في القرون السابقة الأخيرة، وخاصة بعد انتهاء الحروب الصليبية والتقلبات التي حدثت في أوروبا.
إلا أن القرن التاسع عشر شهد أكبر الحملات الاستشراقية الاثارية، حيث صار من الواضح أن الحكومات الغربية وعلى رأسها الملوك في بريطانيا وفرنسا وهولندا وروسيا هي التي تبنت الحملات ومولتها، حيث أخذت بشكل ما طابعاً رسمياً منظماً، ولما بدا واضحاً أن اليهود راحوا يتحركون لإنشاء جمعيات صهيونية اجتمعت جهودهم مع جهود التوجه الصهيوني المسيحي لتشكيل تحركات واسعة نحو فلسطين.
ففي عام 1838 زار فلسطين ولمدة ثلاثة أشهر متوالية العالم اللاهوتي الأمريكي ادوارد روبنسون، وقد دون مع زميل له الأسماء العربية، ولاسيما الخاصة بالقرى والأماكن الأثرية، وفي عام 1850ـ 1863 لحقه العالم السويسري تيتس روبلر وقد عمل بالمسح الطبوغرافي لفلسطين، وقام بالكشف عن كثير من الآثار الفلسطينية.
ومنذ عام 1865 تأسست هيئة صندوق تمويل التنقيب عن آثار فلسطين، ويرجع أساس تكوينها لجمعية أحباء صهيون البريطانية، ومنذ ذلك الوقت توسع التفكير الغربي الاستشراقي والاثاري بفلسطين على اعتبارها الأرض المقدسة، وأرض الميعاد حسب التصور الصهيوني المسيحي.
ترافق هذا التطور مع حملة نابليون بونابرت على مصر، وبلاد الشام، وقد ركزت الجهود الغربية آنذاك على النشاطات الواسعة من رحلات وبعثات وجمعيات توراتية عدة وأخرى جاءت بقصد التنصير، وتنافست الدول العظمى آنذاك كبريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا على إيجاد موطئ قدم تبشيري في أرض فلسطين، وكان لا بد من أن يرافق ذلك توجه استشراقي واسع ومتخصص بأرض فلسطين.
ولعل أهم ما ميز هذا التحرك الارتباط الوثيق بين السياسة البريطانية والحركة الصهيونية، وحتى يمهدوا لتحقيق الطموحات الصهيونية فقد تصدى لحالة الاستشراق كبار ضباط الإنجليز الصهاينة والمرتبطين باليهودية ارتباطاً وثيقاً.(24/46)
وأتضح أن معظم الذين اهتموا بدراسة فلسطين وزاروها هم ضباط ملكيون بريطانيون أمثال الكابتن تشارلز وراين، وكلود رينيه كوندر، والملازم كتشنر وغيرهم، وقد جاؤوا إلى فلسطين برعاية ملكية بريطانية خاصة، وبسماح من السلطات العثمانية التي كانت فلسطين آنذاك جزءاً من الدولة العثمانية.
نشر الكابتن تشارلز وارين كتاباً أسماه "الأرض الموعودة"، نادى فيه بضرورة تطوير فلسطين على يد شركة الهند الشرقية بقصد تسريب عناصر يهودية إلى فلسطين للتمهيد لإقامة دائمة لهم، ومن ثم تأسيس كيان لهم.
وحين نطالع ما كتبه هذا الكابتن في كتابه نرى أنه لا يختلف مطلقاً عما كتبه هرتزل في يومياته، أو ما كتبه المنظرون الصهاينة حول أرض الميعاد - فلسطين -، يقول مثلاً (من المرجح أن يتبادر إلى الذهن في الحال: ماذا يحدث لعرب فلسطين؟ وأجيب متسائلاً: من هم العرب؟ إنهم ليسوا سوى أتراك بالتأكيد، ومعظمهم ليس من عرب الجزيرة العربية أو من الصحراء، من هم إذن؟ لقد أصبح معروفاً منذ زمن طويل كما يؤكد المسيو كلير مونت غانو عالم الساميات والآثار الفرنسي بأن سكان فلسطين ينتمون إلى عرق خليط، بعضهم يتحدر من الكنعانيين والإسرائيليين والإغريق والرومان والعرب والصليبيين، وقد يعتنقون الآن الديانة الإسلامية والمسيحية حسب الظروف، لكنهم يحافظون قبل كل شيء على التقاليد القديمة، نعم وفي بعض الحالات لا يساورني أدنى شك بأنهم يحافظون على ديانتهم القديمة الحقة ).
وما بين عامي 1848 ـ 1910 جاء إلى فلسطين عالم الجغرافيا الاستشراقي كوندر، وقد ظهر له عدة كتابات عن طبوغرافية غرب فلسطين، وكتاب "المرشد إلى التوراة"، وفي كتبه حاول تعيين مواقع الأسماء الوارد ذكرها في التوراة، ورسم حدود أسباط بني "إسرائيل"، وقام بقراءة النقوش الأثرية، وفك رموزها. وعلى ضوء ما قام به رسمت خرائط لفلسطين، ساعدت جنرال اللنبي حين زحف على فلسطين أثناء الحرب العالمية الأولى، وتشير كتابات المستشرق الجغرافي كوندر أنه كان من غلاة الصهيونية المسيحية، وقد نشر كتاباً عنونه بـ "يهوذا المكابي وحرب الاستقلال اليهودي" ثم أصدر كتاباً بعنوان "مدخل إلى جغرافية الكتاب المقدس"، وفي عام 1892 ألقى محاضرة بعنوان "فلسطين الشرقية" على أعضاء الخيمة الغربية التابعة لأحباء صهيون التي سارعت إلى نشرها، وقد اعتز الصهاينة اليهود بما قدمه كوندر من خدمات للحركة الصهيونية خاصة تلك الخرائط الطبوغرافية المتعلقة بفلسطين.
والواقع أن أمريكا والمستشرقين الأمريكيين لعبوا نفس الدور الذي لعبه الإنجليز، فمنذ 1870 تأسست الجمعية الأمريكية للتنقيب بفلسطين على نمط المنظمة الإنجليزية وقد تولت مسح منقطة شرقي الأردن.
ولقد لعب الاستشراق الألماني دوراً مهماً وبارزاً في التركيز على فلسطين، واكتشاف آثارها، ومقارنة تلك الآثار بما ورد في التوراة، ومن أشهر المستشرقين الألمان في هذا المجال المدعو كارستن نيبور، واولريش زيتسن، ولودفيغ موركهارت.
ولعل أخطر من في حركة الاستشراق الغربية بشكل عام هي أن الجامعات - وخاصة الألمانية - لا تدرس إلا علم الآثار التوراتي، والذي يتطلب دراسة اللغة العبرية لمدة عشر سنوات، ومن إفرازات حركة الاستشراق أن عدداً من المستشرقين المهتمين بدارسة أرض فلسطين اتجهوا نحو دراسة التراث الشعبي الفلسطيني ليربطوه ببعض مقولات التوراة، والقصص الشعبي اليهودي، ومن هؤلاء المستشرقة الفنلندية هيلما جرانكفست، فهذه المستشرقة التي جاءت إلى فلسطين في أوائل القرن العشرين جمعت آلاف البطاقات والأوراق المدون فيها كل ما يتعلق بالتراث الشعبي الفلسطيني من لباس، وأغنية، وعادات، وتقاليد، وقد مارست مع الفلاحين في منطقة بيت لحم وقرية ارطاس تحديداً حياتهم، فكانت تذهب مع الحصادين، وتدون أغانيهم وعاداتهم وتقاليدهم.
والملفت للنظر أن هذه المستشرقة دونت هذا التراث بالنطق الفلسطيني، وبالحرف الفنلندي، وقد صرحت نفسها بأنها جاءت إلى فلسطين لكي تدرس العلاقة بين التوراة والتراث الفلسطيني، وبعد أن مكثت عشر سنوات في فلسطين خرجت بقناعة أن لا علاقة بين التوراة وهذا التراث، وأن المزاعم اليهودية ما هي إلا أباطيل يجب دحضها، وما زالت آلاف النسخ والبطاقات والأوراق التي دونتها المستشرقة موجودة في هلسنكي عاصمة فنلندا.(24/47)
ولعل كثيراً من المستشرقين قدموا إلى فلسطين بدافع البحث عن علاقة ما بين التوراة وما يسمى "أرض الميعاد"، ولكن المنصفين منهم وغير المنحازين وجدوا أن ما دسته الحركة الصهيونية في عقول الغربيين هو عبارة عن افتراءات وأكاذيب يهدفون من ورائها التمهيد الفكري والنفسي لاحتلال فلسطين، وطرد شعبها، وقد أثارت اكتشافات مخطوطات البحر الميت شهوة الكثيرين من المستشرقين والباحثين والاثاريين عندما أثبتت هذه المكتشفات عدم وجود أي علاقة بين اليهود وأرض فلسطين، بل إن هذه المكتشفات فضحت أقاويل التوراة وما دسه حاخامات اليهود من أقوال تخدم أهدافهم السياسية، وقد حاول بعضهم إخفاء ما جاء في هذه المخطوطات ولكنها تسربت على الرغم من سرقة بعضها من متحف القدس وتهريبها إلى أمريكا خوفاً من انتشارها، وقلب كل مفاهيم التوراة، وما روجه زعماء الحركة الصهيونية قبل أن تحتل فلسطين.
لقد فعل الاستشراق السياسي فعله في خدمة المخططات الاستعمارية الغربية التي من خلال الصهيونية المسيحية دفعت بالصهيونية اليهودية أن ترسم مخططها الاستعماري لفلسطين، والواقع أن الاستشراق الغربي الذي خدم الصهيونية كان أشد فتكاً، وأبلغ أثراً على واقع فلسطين، وحتى المجتمع العربي ككل إذ أن حركة الاستشراق لم تكتف بجانب دراسي واحد بل كانت شمولية درست المجتمع والعادات والتقاليد، كما درست الأرض وطبيعتها ومناخها وجغرافيتها، فقدمت رؤية استراتيجية للتحرك اليهودي لاحتلال فلسطين، وإقامة كيان يهودي يلعب أخطر دور استعماري تدميري تخريبي في المنطقة العربية.
http://www.moqawama.o r g المصدر:
=============(24/48)
(24/49)
الإعلام والاستشراق
مازن مطبقاني
يظن الكثيرون أن ثمة فرقاً بين الإعلام والاستشراق، فالإعلام يقوم عليه قوم متخصصون في مجالات الإعلام المختلفة، بينما الاستشراق جهد وعمل أكاديمي تخصص فيه نفر من الغربيين الذين يعيشون في أبراجهم العاجية، لا شأن لهم بالإعلام، ربما يكون هذا الأمر صحيحاً قبل أكثر من مئة سنة حينما كان الإعلام في بداياته، أما وقد أصبحت للإعلام قوة عجيبة اليوم فأضحى التداخل كبيراً بين الإعلام والاستشراق، وإليك تفصيل ذلك:
في أثناء بحثي عن الاستشراق البريطاني اطلعت على مجلة اسمها (المستمع العربي) كانت تصدر عن هيئة الإذاعة البريطانية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي هذه المجلة وجدت العديد من المستشرقين البريطانيين قد كتبوا العديد من المقالات والدراسات عن العلاقات البريطانية العربية، بل إن بعض كبار المستشرقين من أمثال آربري وبرنارد لويس قد كتب كل واحد منهما عن الجهود البريطانية في الدراسات العربية الإسلامية.
وكتب غيرهما من المستشرقين عن الحضارة الإسلامية، وربما كتب مونتجمري وات عن أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الغربية، ومثل هذه المقالات إن لم تكن علمية بحتة ففيها قدر كبير من الدعاية، ومحاولة لتقوية العلاقات العربية البريطانية في وقت تحتاج فيه بريطانيا للعالم العربي ليقف معها ضد دول المحور.
وانتهت الحرب الأوروبية (تسمى خطأ عالمية) فهل انقطعت الصلة بين الاستشراق والإعلام؟
بالطبع لا فهذه بريطانيا ترسل أحد كبار المستشرقين، ورئيس قسم التاريخ بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية ليقوم بجولة في الولايات المتحدة الأمريكية للاتصال بوسائل الإعلام الأمريكية المختلفة من إذاعة وتلفاز وصحافة ليقدم وجهة نظر الحكومة البريطانية في أحداث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وتصدر الإذاعة البريطانية مجلتها التالية باسم (هنا لندن)، ويستمر المستشرقون في الكتابة فيها، ومن بين الموضوعات التي كتب فيها المستشرقون في المجلة باب (السياسة بين السائل والمجيب)، وقد صدرت عدة كتيبات مستقلة فيها إجابات على أسئلة كثيرة حول أوضاع العالم العربي، ولا شك أن بعض هذه الأسئلة حقيقية ولكن بعضها أيضاً مفتعل لتروج الإذاعة لمواقف أو أفكار معينة.
ومازلت أذكر سؤالاً قيل أنه أرسله احد المستمعين في السودان عن تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، فكان رد الخبير البريطاني في الشرق الأوسط أن شعار تطبيق الشريعة الإسلامية إنما هو فكرة غامضة، وقد أشار الخبير إلى أن كثيرين قد رفعوا هذا الشعار ولكنهم لم يقدموا تفصيلات حقيقية لهذا الشعار.
وتقدم الإذاعة البريطانية أيضاً برامج منوعة منها عروض الكتب التي تصدر في بريطانيا أو الكتب العربية، وتأتي اختيارات هذه الإذاعة بإيحاء استشراقي واضح، فتهتم الإذاعة مثلاً بكتب أحمد أمين (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) و (ظهر الإسلام)، وتهتم بكتاب علي عبد الرزاق مثلاً (الإسلام وأصول الحكم)، وتهتم بكتب طه حسين، ولعل إذاعة لندن هي من أطلقت عليه (عميد الأدب العربي)، وهي من أطلقت على لطفي السيد (أستاذ الجيل)، وأذكر أنه في أسبوع واحد عرضت الإذاعة لكتب المستشار محمد سعيد العشماوي التي يطعن فيها بالإسلام، ويشوه صورته، وينفي العلاقة بين الدين والسياسة، وتأتي مجلة عربية تصدر من لندن وتقدم لقاءً من ست صفحات مع العشماوي، فهل هناك اتفاق بين الجهتين؟
وتستمر الصلة بين الإعلام والاستشراق، وأبرز الأمثلة على هذه الصلة أن العديد من المجلات الأمريكية تستكتب عدداً من المستشرقين، ومن هذه المجلات مجلة (ال نيو رببلك) New r epublic، ومجلة اتلانتك الشهرية Atlantic Monthly، وقبلهما مجلة كومنتري Commenta r y، ونشرة جريدة نيويورك تايمز لعرض الكتب New Yo r k Times r eview of Books، فهذه المجلات تنشر الكثير من المقالات لأبرز المستشرقين الأمريكيين، ومن هؤلاء على سبيل المثال برنارد لويس، وقد دار سجال كبير بينه وبين ادوارد سعيد على صفحات هذه النشرة الأخيرة نيويورك رفيو اوف بكس.
وقد انساقت بعض المجلات التي لم يعرف عنها تناول القضايا الجدلية مثل مجلة المختار r eade r 's Digest فنشرت مقالات تحمل طابع الكتابات الاستشراقية التي تهاجم الإسلام، وتشوه صورته، وتقدمه في صورة سلبية.
ولم يتوقف الأمر عند الصحافة، فالتلفاز والقنوات الفضائية والإذاعات ترجع إلى المستشرقين كثيراً في أخذ رأيهم في القضايا التي تهم العالم الإسلامي، فهذه المحطات الفضائية الأوروبية والأمريكية وحتى العربية الإسلامية تستضيف ريتشارد بوليت من جامعة كولومبيا، وتستضيف فؤاد عجمي - وهو لبناني من الجنوب، ويعمل في أمريكا منذ عشرات السنين، وله آراء أخطر من كثير من المستشرقين - وتستضيف برنارد لويس، وريتشارد لت صلى الله عليه وسلم icha r d Little، ودانيال بايبس Daniel Pipes، وفيتالي نومكن Vitaly Naumkin وغيرهم كثير.(24/50)
وجاء دور الإنترنت فكلمة استشراق تجدها في عشرات الألوف من الصفحات، وتحمل الآلاف من المقالات التي كتبها المستشرقون، فهناك مواقع متخصصة في الاستشراق، وأخرى تابعة لمؤسسات ومراكز بحوث ومعاهد متخصصة في دراسات الشرق الأوسط أو الشؤون الدولية أو الدراسات الاستراتيجيةن ومن الأمثلة على النشر الانترنتي اللقاء الذي أجراه أحد الباحثين في معهد الدراسات الدولية التابع لجامعة كاليفورنيا بمدينة بيركلي مع فيتالي نومكن، ومن الموضوعات التي تناولها اللقاء: موقف الروس من الإسلام، وموضوع العراق، والاهتمام الروسي بالدراسات العربية الإسلامية.
ولم يبتعد الاستشراق عن السينما، أو لم تبتعد السينما عن الاستشراق، فهناك الكثير من الأفلام التي استمدت رؤيتها للإسلام والمسلمين من كتابات المستشرقين وتراثهم الضخم في تشويه صورة العالم العربي الإسلامي، وتنميط العرب والمسلمين في السينما الأمريكية معروف جداً، وقد كتب عنه الباحث العربي الأمريكي جاك شاهين العديد من الكتب.
إن كثيراً من الإعلاميين من صحفيين ومخرجين ومقدمي برامج إذاعية وتلفازية عندما يريدون إعداد برنامج عن العرب والمسلمين فإنهم يلجؤون إلى كتابات المستشرقين القديمة والحديثة يستندون إليها، ويستمدون منها معلوماتهم.
وتبقى مسؤوليتنا نحن في العالم العربي الإسلامي نترك للإعلام الغربي بشتى أشكاله أن يقدم الصورة التي يريد لنا دون أن نحرك ساكناً، أو ننبس ببنت شفة، بل إننا نقوم في أحيان كثيرة بترجمة ما يكتبونه عنا من شتم وسب، ونقوم بتوزيعه ونشره، وهو ما فعلته إحدى الشركات في الجزيرة العربية من اتفاق مع شركة ديزني لاند لترجمة العديد من مجلات الأطفال إلى اللغة العربية، وهي الشركة التي كان ينبغي علينا أن نقاطعها منذ زمن طويل لما قدمته وتقدمه من أفلام تسيء إلى صورة العرب والمسلمين، وتشوه العقيدة الإسلامية، والشخصية الإسلامية.
http://www.suhuf.net. sa المصدر:
=============(24/51)
(24/52)
الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما عليهم
مصطفى السباعي
الاستشراق والمستشرقون بحث لم يعن أحد من الكاتبين بأمرهما عناية علمية واسعة تبحث الاستشراق وأهدافه ومراميه وحسناته وسيئاته، وعن المستشرقين وطوائفهم وأعمالهم، وما أصابوا وما أخطأوا فيه من أبحاث ومؤلفات، وكل ما كتب في هذا الموضوع لا يخلو عن أن يكون تمجيداً لهم مثل كتاب (المستشرقون) للأستاذ نجيب العقيقي، أو أن يكون كشفاً موجزاً عن أهدافهم التبشيرية والاستعمارية، وأهم بحث في هذا الشأن محاضرة قيمة للأستاذ الدكتور محمد البهي المدير العام للثقافة الإسلامية في الجامع الأزهر ألقاها في قاعة المحاضرات الكبرى الأزهرية.
وقد أفرط منا أناس في الثقة بهم، والاعتماد عليهم، والثناء المطلق على جهودهم، ويمثل هؤلاء المعجبين بهم الدكتور طه حسين من أوائل تلاميذ المستشرقين في تاريخنا الأدبي المعاصر، حيث يقول في مقدمة كتابه (الأدب الجاهلي):
"وكيف تتصور أستاذاً للأدب العربي لا يلم ولا ينتظر أن يُلم بما انتهى إليه الفرنج (المستشرقون) من النتائج العلمية المختلفة حين درسوا تاريخ الشرق وأدبه، ولغاته المختلفة، وإنما يلتمس العلم الآن عند هؤلاء الناس، ولابد من التماسه عندهم حتى يتاح لنا نحن أن ننهض على أقدامنا، ونطير بأجنحتنا، ونسترد ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومنا، وتاريخنا، وآدابنا".
ولا ريب في أن هذا الكلام يمثل دوراً من أدوار العبودية الفكرية التي مررنا بها في مطلع نهضتنا العلمية والفكرية الحديثة، وهذه العبودية تتمثل في كتاب الدكتور طه حسين نفسه (الأدب الجاهلي) الذي كان ترديداً مخلصاً لآراء غلاة المستشرقين المتعصبين ضد العرب والإسلام أمثال (مرجليوث) الذي نقل آراءه كلها في كتابه (الأدب الجاهلي) ونسبها إلى نفسه، وليس له في الكتاب رأي جديد نتيجة بحث علمي قام به، أو تعب في سبيله.
ويمثل هؤلاء أيضاً الأستاذ أحمد أمين في كتابيه (فجر الإسلام) و (ضحى الإسلام) وقد بينت ما في فصل (الحديث) من كتاب (فجر الإسلام) من سرقة لآراء المستشرقين دون أن ينسبها إليهم في كتابي الذي صدر حديثاً (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي).
ومن هؤلاء أيضاً الدكتور علي حسن عبد القادر في كتابه (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي) وهو ترجمة حرفية لما كتبه جولدزيهر في كتابيه (دراسات إسلامية) و (العقيدة والشريعة في الإسلام)، وكذلك كان كسابقيه غير أمين حين نسب هذه الآراء إلى نفسه ولم ينسبها إلى أساتيذه المستشرقين.
ويقابل هذا الاتجاه المفرط في الثقة ببحوث المستشرقين اتجاه يحمل على المستشرقين واتجاهاتهم المغرضة المفرطة في التعصب، ويمثله قول أحمد فارس الشدياق في كتابه (ذيل الفارياق): "أن هؤلاء الأساتيذ (المستشرقين) لم يأخذوا العلم عن شيوخه، وإنما تطفلوا عليه تطفلاً، وتوثبوا فيه توثباً، ومن يخرج فيه بشيء فإنما تخرج على القسس، ثم أدخل رأسه في أضغاث أحلام، أو أدخل أضغاث أحلام في رأسه، وتوهم أنه يعرف شيئاً وهو يجهله، وكل منهم إذا درس في إحدى لغات الشرق أو ترجم شيئاً منها تراه يخبط فيها خبط عشواء، فما اشتبه عليه منها رقعه من عنده بما شاء، وما كان بين الشبهة واليقين حدس فيه وخمَّن، فرجح منه المرجوح، وفضل المفضول".
وفي الحق أن كلاً من الثناء المطلق والتحامل المطلق يتنافى مع الحقيقة التاريخية التي سجلها المستشرقون فيما قاموا به من أعمال، وما تطرقوا إليه من أبحاث، ونحن من قوم يأمرهم دينهم بالعدل حتى مع أعدائهم (( ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى )).
وسنحاول في هذه المقالة أن نذكر ما للمستشرقين وما عليهم، من غير تحيز ولا حيف ولا شطط، ممهدين لذلك بنبذة موجزة عن تاريخ الاستشراق وأهدافه، وفئات المستشرقين وأشهر علمائهم، وسنتتبع بقدر ما وسعنا الجهد أخطاءهم فيما انتهوا إليه من أبحاث، نقارع الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، حتى لا يتغاضى معجب عن السيئات، ولا يطمس مبغض صفحة الحسنات.
تاريخ الاستشراق:
لا يعرف بالضبط من هو أول غربي عنى بالدراسات الشرقية، ولا في أي وقت كان ذلك، ولكن المؤكد أن بعض الرهبان الغربيين قصدوا الأندلس في أبان عظمتها ومجدها، وتثقفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم، وتتلمذوا على علماء المسلمين في مختلف العلوم وبخاصة في الفلسفة والطب والرياضيات.
ومن أوائل هؤلاء الرهبان الراهب الفرنسي (جربرت) Je r be r t الذي انتخب بابا الكنيسة روما عام 999م بعد تعلمه في معاهد الأندلس وعودته إلى بلاده، و (بطرس المحترم 1092 1156م Pie r rele Vene r e) و (جيرار دي كريمون 1114 1187م Ge r a r dde G r emone).
وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان إلى بلادهم نشروا ثقافة العرب ومؤلفات أشهر علمائهم، ثم أسست المعاهد للدراسات العربية أمثال مدرسة (بادوي) العربية، وأخذت الأديرة والمدارس الغربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية وهي لغة العلم في جميع بلاد أوروبا يومئذ، واستمرت الجامعات الغربية تعتمد على كتب العرب وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون.(24/53)
ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلمية والأدبية، حتى جاء القرن الثامن عشر وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي، والاستيلاء على ممتلكاته، فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون لذلك المجلات في جميع الممالك الغربية، ويغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلونها إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذا بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوربا وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين وخمسين ألف مجلداً، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم.
وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873م، وتتالى عقد المؤتمرات التي تلقى فيها الدراسات عن الشرق وأديانه وحضاراته، وما تزال تعقد حتى هذه الأيام.
ميدان الاستشراق:
بدأ الاستشراق كما رأينا بدراسة اللغة العربية والإسلام، وانتهى بعد التوسع الاستعماري الغربي في الشرق إلى دراسة جميع ديانات الشرق وعاداته وحضاراته وجغرافيته وتقاليده وأشهر لغاته، وإن كانت العناية بالإسلام والآداب العربية والحضارة الإسلامية هي أهم ما يعنى به المستشرقون حتى اليوم؛ نظراً للدوافع الدينية والسياسية التي شجعت على الدراسات الشرقية كما سنذكره فيما بعد.
دوافع الاستشراق:
1- الدافع الديني: لا نحتاج إلى استنتاج وجهد في البحث لنتعرف إلى الدافع الأول للاستشراق عند الغربيين وهو الدافع الديني، فقد بدأ بالرهبان كما رأينا، واستمر كذلك حتى عصرنا الحاضر كما سنرى، وهؤلاء كان يهمهم أن يطعنوا في الإسلام ويشوهوا محاسنه، ويحرفوا حقائقه ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدينية أن الإسلام وقد كان يومئذ الخصم الوحيد للمسيحية في نظر الغربيين دين لا يستحق الانتشار، وأن المسلمين قوم همج لصوص وسفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية، ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي، ثم اشتدت حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر بعد أن رأوا الحضارة الحديثة قد زعزعت أسس العقيدة عن الغربيين، وأخذت تشككهم بكل التعاليم التي كانوا يتلقونها عن رجال الدين عندهم فيما مضى، فلم يجدوا خيراً من تشديد الهجوم على الإسلام لصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة، وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ثم الحروب الصليبية ثم الفتوحات العثمانية في أوروبا بعد ذلك في نفوس الغربيين من خوف من قوة الإسلام، وكره لأهله، فاستغلوا هذا الجو النفسي، وازدادوا نشاطاً في الدراسات الإسلامية.
وهنالك الهدف التبشيري الذي لم يتناسوه في دراساتهم العلمية وهم قبل كل شيء رجال دين، فأخذوا يهدفون إلى تشويه سمعة الإسلام في نفوس رواد ثقافتهم من المسلمين لإدخال الوهن إلى العقيدة الإسلامية، والتشكيك في التراث الإسلامي، والحضارة الإسلامية، وكل ما يتصل بالإسلام من علم وأدب وتراث.
2- الدافع الاستعماري: لما انتهت الحروب الصليبية بهزيمة الصليبيين وهي في ظاهرها حروب دينية وفي حقيقتها حروب استعمارية؛ لم ييأس الغربيون من العودة إلى احتلال بلاد العرب فبلاد الإسلام، فاتجهوا إلى دراسة هذه البلاد في كل شؤونها من عقيدة، وعادات، وأخلاق، وثروات، ليتعرفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموه، ولما تم لهم الاستيلاء العسكري والسيطرة السياسية كان من دوافع تشجيع الاستشراق أضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسنا، وبث الوهن والارتباك في تفكيرنا وذلك عن طريق التشكيك بفائدة ما في أيدينا من تراث، وما عندنا من عقيدة وقيم إنسانية، فنفقد الثقة بأنفسنا، ونرتمي في أحضان الغرب نستجدي منه المقاييس الأخلاقية، والمبادئ العقائدية، وبذلك يتم لهم ما يريدون من خضوعنا لحضارتهم وثقافتهم خضوعاً لا تقوم لنا من بعده قائمة.
انظر إليهم كيف يشجعون في بلادنا القوميات التاريخية التي عفا عليها الزمن واندثرت منذ حمل العرب رسالة الإسلام، فتوحدت لغتهم، وعقيدتهم، وبلادهم، وحملوا هذه الرسالة إلى العالم فأقاموا بينهم وبين الشعوب روابط إنسانية، وتاريخية، وثقافية، ازدادوا بها قوة، وازدادت الشعوب بها رفعة وهداية، أنهم ما برحوا منذ نصف قرن يحاولون إحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين، والآشورية في العراق وهكذا، ليتسنى لهم تشتيت شملنا كأمة واحدة، وليعوقوا قوة الاندفاع التحررية عن عملها في قوتنا وتحررنا وسيادتنا على أرضنا وثرواتنا، وعودتنا من جديد إلى قيادة ركب الحضارة، والتقائنا مع إخوتنا في العقيدة والمثل العليا والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة.(24/54)
3- الدافع التجاري: ومن الدوافع التي كان لها أثرها في تنشيط الاستشراق رغبة الغربيين في التعامل معنا لترويج بضائعهم، وشراء مواردنا الطبيعية الخام بأبخس الأثمان، ولقتل صناعاتنا المحلية التي كانت لها مصانع قائمة مزدهرة في مختلف بلاد العرب والمسلمين.
4- الدافع السياسي: وهنالك دافع آخر أخذ يتجلى في عصرنا الحاضر بعد استقلال أكثر الدول العربية والإسلامية، ففي كل سفارة من سفارات الدول الغربية لدى هذه الدول سكرتير أو ملحق ثقافي يحسن اللغة العربية، ليتمكن من الاتصال برجال الفكر، والصحافة، والسياسة، فيتعرف إلى أفكارهم، ويبث فيهم من الاتجاهات السياسية ما تريده دولته، وكثيراً ما كان لهذا الاتصال أثره الخطير في الماضي حين كان السفراء الغربيون ولا يزالون في بعض البلاد العربية والإسلامية يبثون الدسائس للتفرقة بين الدول العربية بعضها مع بعض، وبين الدول العربية والدول الإسلامية، بحجة توجيه النصح، وإسداء المعونة، بعد أن درسوا تماماً نفسية كثيرين من المسؤولين في تلك البلاد، وعرفوا نواحي الضعف في سياستهم العامة، كما عرفوا الاتجاهات الشعبية الخطيرة على مصالحهم واستعمارهم، ونحمد الله على أن هذا النوع من الاستشراق قد بدأ يفقد أثره منذ آمنت الشعوب العربية والإسلامية بسياسة الحياد وعدم الانحياز، وأصبحت هذه السياسة شعاراً صريحاً لكثير من الحكومات العربية والإسلامية، وفي مقدمتها الجمهورية العربية المتحدة.
5- الدافع العلمي: ومن المستشرقين نفر قليل جداً أقبلوا على الاستشراق بدافع من حب الإطلاع على حضارات الأمم، وأديانها، وثقافاتها، ولغاتها، وهؤلاء كانوا أقل من غيرهم خطأً في فهم الإسلام وتراثه، لأنهم لم يكونوا يتعمدون الدس والتحريف، فجاءت أبحاثهم أقرب إلى الحق وإلى المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين، بل أن منهم من اهتدى إلى الإسلام وآمن برسالته، على أن هؤلاء لا يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الاستشراق بأمانة وإخلاص، لأن أبحاثهم المجردة عن الهوى لا تلقى رواجاً لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين، ومن ثمة فهي لا تدر عليهم ربحاً ولا مالاً، ولهذا ندر وجود هذه الفئة في أوساط المستشرقين.
http://www.islamiyatonline.com المصدر:
===============(24/55)
(24/56)
الاستشراق علم غريب أم استعمار جديد
يصرّ البعض على استخدام صور النعامة التي تدفن رأسها في الرمال لوصف من يُتهمون بالغفلة؟
ولقد أشار علماء الحيوان أن النعامة مظلومة بهذا الوصف، وليس مهماً أن تكون النعامة مظلومة أو ظالمة، ولكن كيف يمكن أن نصف من يزعمون أن الاستشراق قد انتهى، أو قد ضغف، أو أنه أُضعف في الفروع المعرفية في الجامعات الغربية منذ بدأ؟ على الأقل فلنقف موقف المحايد دون إفراط أو تفريط، ودون مبالغة أو لا مبالاة.
والحقيقة أن الاستشراق قد شغل حيّزاً كبيراً في الكتابات العربية، وقد بالغ البعض في ذمّه، بينما رأى البعض الآخر أن الاستشراق إنما هو جهد علمي محض لدراسة الشرق، ورأوا في المستشرقين المثال في المنهجية والإخلاص والدقة وغير ذلك من النعوت المادحة.
كتب المستشرقون في القرآن والسُنّة واللغة والتاريخ والاجتماع والسياسة، وقد صدرت كتابات كثيرة تتناول تعريفه ودوافعه ونشأته.
التعريف القديم والجديد:
والاستشراق حسب الموسوعات تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلع على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامّة وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة، معبّراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما.
ولكن بعيداً عن التعريفات القديمة الفضفاضة يرى د. مازن مطبّقاني مدير مركز المدينة المنورة للدراسات الاستشراقية أن القضية ليست قضية تعريف قديم أو جديد "فالغرب تخلى عن هذا المصطلح منذ عام 1973 في مؤتمر المستشرقين الدولي الذي عقد في باريس، فذهب الاسم وبقي المسمى، ولقد تمّ استبدال كلمة استشراق بالدراسات الشرق أوسطية Middle east studies وهذا ما عبّر عنه المستشرق الفرنسي فلوريال سانغوستان Flo r éal Sanagustin مدير مركز الدراسات العربية في دمشق عندما التقيناه فقال: "كلمة الاستشراق هذه كلمة سلبية نوعاً ما، ولقد انتقد إدوارد سعيد الاستشراق بشكل لاذع، ونحن الآن في مرحلة ما بعد الاستشراق، لذلك يمكننا تسميتها دراسات شرقية أو شرق أوسطية.. "، إلا أن د. مطبّقاني عاد ليؤكد أن كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" أعاد الغربيين رغماً عنهم لاستخدام هذا المصطلح، ولكن بدلاً من أن تتم اليوم دراسة الإسلام عقيدة وشريعة وتاريخاً واجتماعاً وسياسة واقتصاداً ضمن كلية واحدة أصبح بإمكان المتخصصين في كلياتهم المختلفة أن يدرسوا العالم الإسلامي بشكل مجمل.
وهذا ما أكّده طلاب من الجامعة الأمريكية (عثمان محمد، كاترين جمعة، غسان إبراهيم وغيرهم..) بأن هناك مواداً يُجبر الطالب في أي كلية كان على أن يدرسها، وهذه المواد تسمّى Civilization Sequence (CS) وفيها دراسات حول الاستشراق، والمفكرين العرب والمسلمين وغيرهم، وقراءة لهم من وجهة نظر غربية خاصة وأن "معظمهم علمانيون أو ملاحدة درسوا في الخارج.. " كما يقول عثمان محمد (متخرج من الجامعة الأمريكية 23 عاماً).
الأهداف والآثار:
وحتى لا نكون متحاملين على الاستشراق لا بد لنا من تحديد الأهداف التي تدفع الغربيين للدراسات الشرق أوسطية.
يقول د. نظام يعقوبي (خبير اقتصادي ومتخصص في الدراسات الاستشراقية من البحرين): "هناك أهداف استعمارية لها صلة بالجهات الاستخباراتية، وهناك أهداف علمية بحتة، ومثالاً على هذه الأخيرة نرى أن المستشرق إيوارلد فهرس المخطوطات العربية في مكتبة برلين في 50 سنة؛ وفِهْرِسُه للمخطوطات العربية في برلين مطبوع قبل 150 عاماً في 10 مجلدات ضخمة، وهو أفضل فِهرس للمخطوطات العربية في العالم إطلاقاً، وهذه المستشرقة اليهودية حوّاء لازارس يافث كتبت بحثاً عن أساليب الإمام الغزالي في كتبه، وتوصلت إلى طريقة بحثية قارنت فيها بين جميع كتب الغزالي مستخلصة كل الجمل التي يرددها، واعتبرت أن القاسم المشترك بين كتاباته يمكن تسميته أسلوب الإمام الغزالي في الكتابة، وبذلك يمكنها أن تحكم على بعض الكتب المنسوبة إليه إن كانت فعلاً من مؤلفاته.. ".
أما أومسبي غو وزير المستعمرات البريطاني فقد قال في تقريره لرئيس حكومته بتاريخ 9/1/1938: "إن الحرب علّمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الامبرطورية وحدها بل فرنسا أيضاً، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة، وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة.. " وعلى نفس النسق الهجومي على الإسلام كان المستشرق غولدزيهر وشاخت وغيرهم.
ولقد فصلّ د. مطبّقاني هذه الأهداف بخمس أساسية تتجلى في: الهدف الديني، والهدف العلمي، والهدف الاقتصادي التجاري، والهدف السياسي الاستغلالي، وأخيراً الهدف الثقافي، واعتبر أن معظم هذه الأهداف تركت آثاراً في العالم الإسلامي في المجالات العقدية والتشريعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
حتى نكون منصفين:(24/57)
وليس من العدل أو المنطق أن نقع في الخطأ الذي نأخذه على بعض المستشرقين، فنصدر التعميمات الجزافية ضدهم؛ خاصة وأن هناك بعضهم امتدحوا العرب والمسلمين، وبُهِروا بتاريخهم، فعلى سبيل المثال تحدث المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون في كتاب حضارة العرب عن ظهور الإسلام، وحالة العرب حينذاك، ثم امتدح الفتوحات الإسلامية وقال: "إن العالم لم يشهد فاتحاً أرحم من العرب"، وعلى الرغم من أن كتاب لوبون "فيه بعض المغالطات الفكرية والتاريخية" كما يقول د. مطبّقاني إلا أنك إذا تصفّحت هذا الكتاب فإنك تجد فيه بعض العبارات والكلمات التي أنصفت الإسلام والمسلمين نقتطف منها:
"وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمدٌ من أعظم من عرفهم التاريخ"، "ولم ينتشر الإسلام بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنق الإسلامَ الشعوبُ التي قهرت العرب كالترك والمغول.. ".
مراكز ومعاهد وجامعات استشراقية:
ونظراً لأهمية هذا العلم نرى أن كثيراً من الجامعات أفردت أقساماً له كقسم الدراسات الشرق أوسطية في الجامعة الأمريكية في بيروت، في حين انتشرت الكثير من المعاهد والمراكز الاستشراقية في مختلف الدول العربية كمركز غوتة الألماني في لبنان، والمعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، ومركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق في المملكة العربية السعودية.
الجامعة الأمريكية ومركزها الاستشراقي:
على الرغم من أن الجامعة الأمريكية أحدثت قسماً جديداً للدراسات الشرق أوسطية CAMES (cente r of A r ab & middle east studies) فإنّ د. مازن مطبّقاني يؤكّد أن الجامعة الأمريكية والجامعة اللبنانية الأمريكية هما من أهم المراكز الاستشراقية بشكل عام في الشرق الأوسط، خاصة وأنه تابع بعض الطلاب الذين جاؤوا من قسم الاستشراق في الجامعة التي يُدرِّس فيها (وهي جامعة الإمام محمد بن سعود) لإجراء دراسات مفصلة عن مناهج الجامعة الأمريكية.
ولكن بعيداً عن هذه المسألة فقلد التقينا بطالبتين من المركز الاستشراقي في الجامعة الأمريكية، وتعرّفنا عليه عن كثب.
تقول كاري يورك (26 سنة، أمريكية، تحضر رسالة الماجستير) أن هذا القسم يهتم بدراسة الشرق الأوسط من تاريخه إلى سياسته واقتصاده، إلى كل ما يتعلق بشؤونه، وتضيف أن هناك 25 طالباً وطالبة يدرسون معها، ولكن كل واحد منهم يستطيع اختيار المواد التي يريدها على أن لا تتجاوز الثمان مواد.
كاترين جمعة (26 سنة، لبنانية، طالبة في نفس القسم) اختارت حتى الآن 4 مواد هي: الإسلام والسياسة، والمدارس الفكرية في الإسلام، وموضوعات متفرقة حول الإسلام (Semina r ) بالإضافة إلى اللغتين الفارسية والعبرية، ولكنها قالت: "إن من يدرّسون بعض المواد متحاملون كثيراً على الإسلام.. "، وهذا ما أكّدته كاري التي أخذت مادة الدراسات القرآنية قائلة: "للأسف إن مدرّس هذه المادة لا يعطينا وجهتي النظر، وهو غير موضوعي لأنه لا يعطينا إلا وجهة النظر المعادية للإسلام".
ومن المستغرب في هذا القسم أن معظم طلابه هم من الأجانب، وتقول كاترين "هناك حوالي 25 طالباً كلهم أجانب، وأنا اللبنانية الوحيدة فيه! وما يشككني أكثر في أهداف القسم أن نائب رئيس الجامعة يدرس معنا وهو يهودي متخرج من جامعة بيرزيت"، أما كاري يورك فتعتبر أنه رغم وجود "كثير من الأشخاص الذين يهدفون من دراسة الشرق الأوسط أهدافاً استعمارية" فإنها تستفيد من دراستها لشغفها بالإطلاع على التاريخ العربي، ولحبها للأسفار وربما "لرغبة منها بالعمل في السفارات أو في السلك الدبلوماسي في الأمم المتحدة".
المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق:
كثيراً سمعنا عن هذا المعهد وأنه من أهم المعاهد في الشرق الأوسط لناحية الأبحاث التي نشرها، والنشاطات التي قام بها، لذلك كان لا بد من زيارة له في مركزه لإجراء مقابلة مع رئيسه.
ولعل اللافت في هذه الزيارة والمقابلة أن فلوريال سانغوستان (مدير المركز) يتكلم العربية الفصحى أكثر من العرب أنفسهم.
س: متى أنشئ المركز؟
ج: أُسس المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق عام 1922م، وهو تابع لوزارة الخارجية الفرنسية. وكان في البداية يهتم بالآثار والفنون الإسلامية، ثم مع مرور الأيام تخصص في كل مجالات الاستشراق والحضارة العربية والإسلامية خاصة ما يتعلق منها بالقسم الشرقي من العالم العربي.
س: ما هو الهدف من المعهد؟
ج: لقد اهتمت فرنسا منذ فترة طويلة بالشرق، وليس فقط الشرق الأوسط بل بالصين أيضاً واليابان وغيرها، وهناك معهد للغات الشرقية في باريس تُدرّس فيه معظم اللغات والحضارات والنصوص الشرقية، كما أن هناك قسم باللغة العربية وآخر باللغة العِبرية واليابانية وغيرها، والهدف من هذه المعاهد بشكل عام هو تخريج ديبلوماسيين أو صحافيين أو باحثين لذلك نرى مثلاً أن السفير الفرنسي في سوريا يجيد اللغة العربية بطلاقة.
س: ما هي نشاطات المعهد؟
ج: هناك عدّة نشاطات وتتجلى فيما يلي:(24/58)
1. الطباعة والنشر: وقد نشرنا منذ 70 سنة وحتى الآن 196 كتاباً متخصصاً بالأدب العربي، والتاريخ، وفقه اللغة، ومعظم هذه الكتب منشور باللغة الفرنسية، وبعضها باللغة العربية.
2. تأهيل الباحثين الشباب: الذين وصلوا لمرحلة الدكتوراه، ومنهم فرنسيون، وبعضهم أمريكيون وأجانب، وقد تخصصوا في الحضارة العربية والإسلامية، ونقوم بالإشراف على أعمالهم ونمنحهم بعض المنح الحكومية، ونعمل على تأهيلهم كباحثين حتى يصبحوا خبراء جامعيين في فرنسا وغيرها.
3. تنظيم وإقامة ندوات محلية وعالمية وسوف نقيم قريباً ندوة عالمية عن تيار الإصلاح الديني في المجتمعات العربية حول عبد الرحمن الكواكبي، ودعونا الكثير من الزملاء اللبنانيين، والمصريين، والسوريين، والفرنسيين، ومعظم المداخلات ستكون باللغة العربية، وسنعمل فيما بعد على نشر أعمال هذه الندوة.
4. المكتبة: نستقبل كثيراً من الباحثين الذين يزورون مكتبة المعهد "القيّمة" التي تجمع أكثر من 100 ألف كتاب باللغة العربية، وبمعظم اللغات الغربية، ونحاول دائماً أن نتابع حركة النشر في العالم العربي حتى نضع تحت متناول الباحث معظم المراجع الأساسية والمهمّة.
س: هل نظّمتم دورات في اللغة العربية؟
ج: أعتقد أن الباحث الأجنبي إذا أراد التخصص في الحضارة العربية عليه أن يُحكم اللغة، ولا يستطيع فقط الاستناد إلى كتب ترجمة، لأن الترجمة هي نوع من الخيانة لذلك لا بد من الرجوع دائماً إلى الأصل.
ولهذا نظّمنا منذ 15 سنة دورة لغوية مكثّفة للباحثين الأجانب في اللغة العربية الفصحى، واللهجة المحكية حتى يتمكنوا من قراءة النصوص، ويجروا المقابلات مع الناس.
س: ما هي اهتماتك الاستشراقية واهتمامات الدارسين للشرق الأوسط الآن؟
ج: أنا اهتمّ بتاريخ الفكر القديم، وكانت رسالة الدكتوراه التي أعددتها عن ابن سينا، وحالياً في فرنسا يوجد جيل جديد من الباحثين اللغويين مثل جورج بوهاس، وجان باتي غيوم، والمؤرخين كمدير المعهد السابق تيري بيانكي، وبرهان غليون من جامعة السوربون، وفي القضية الفلسطينية نجد جان فرانسوا لو غران، أما في الفلسفة فعندنا هنا في المعهد جان لويس لوبيتير.
س: هل تتعاونون مع مراكز ثقافية أخرى؟
ج: هناك تنسيق مع الجامعات السورية، ونقوم بنشاطات مشتركة مع المراكز الأخرى كالمركز الإيراني (المستشارية الإيرانية)، كما لنا علاقات بالمراكز الفرنسية الأخرى مثل مراكز الآثار، والمركز الفرنسي في بيروت.
مركز المدينة المنورة لدراسات وبحوث الاستشراق:
قبل عشرين سنة تقريباً تأسس قسم الاستشراق بكلية الدعوة في المدينة المنورة، وهدفه التعريف بالكتابات الاستشراقية حول الإسلام والمسلمين، ومحاولة الرد عليها، وكانت طموحات القسم كبيرة في ابتعاث عدد من الطلاب لدراسة اللغات الأجنبية، والمشاركة في المؤتمرات، وإقامة عدة ندوات، وكانت الطموحات أكبر بكثير من الإمكانات التي أتيحت، ورغم أن البداية كانت قوية جداً لكن تغير إدارات الجامعة والأشخاص أدى إلى برود في دعم هذا القسم حتى توقف برنامج الماجستير في القسم قبل أربعة أعوام.
وكان د. مطبّقاني مدير مركز المدينة المنورة أول من حصل على درجة الدكتوراه في قسم الاستشراق، وحضر بعض المؤتمرات والندوات في أوروبا وأمريكا والدول العربية، ورأى في الإنترنت وسيلة ممتازة لنشر الفكر، فقرر إنشاء المركز كموقع على الإنترنت في البداية لينطلق بعدها للعمل في الواقع.
والمركز يحاول الإطلاع على الكتابات الاستشراقية، ويشارك في المؤتمرات والندوات، ويقدم المحاضرات، كما أن له نشرة شهرية تقدم معلومات مهمة عن الاستشراق من خلال الأبواب الثابتة فيها والتي يؤمل أن تصبح أول مجلة عربية تتناول علم الاستشراق في الغرب.
ومن اهتمامات المركز قضايا المرأة، واهتمام المستشرقين بها، وكذلك تقديم صورة واقعية عن المرأة الغربية، ويقدم المركز الإجابات على الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن حول الاستشراق والمستشرقين، وكذلك حول الاستغراب وغير ذلك من الأمور.
يقول د. مطبّقاني: "لقد أُنشئ المركز لهذا الهدف، ومن المؤمل أن يسعى إلى تحقيقه - بإذن الله -، فإذا كان عدد زواره خلال السنتين الماضيتين زاد على الأربعين ألف زائر مع العلم أن بعض الزوار ينقل المادة العلمية، ويقوم بتوزيعها على آخرين فيكون عدد الزائرين أكثر من ذلك بكثير".
مواجهة الاستشراق:
لعل انتشار المراكز الاستشراقية في الأحضان العربية يدفعنا إلى التساؤل عن أجدى الوسائل لمواجهة جهوده، إلا أن الإجابة على ذلك ليست بالأمر الهين إذ كيف نواجه أمراً نجهله أو نعرف عنه بعض الأمور ونجهل أموراً كثيرة.
يقول د. مطبّقاني: "لا بد أن نتعرف على الاستشراق معرفة دقيقة منذ نشأته وحتى اليوم، وهذه المعرفة لا تتطلب أن نعرف كل ما كتب وما يكتب في مجال الدراسات العربية والإسلامية في الغرب؛ بل نعرف القضايا الكبرى التي يتبناها المستشرقون، لأننا لو أردنا أن نرد على كل كلمة لما وسعنا الوقت والجهد، وإنهم ليفرحون بأن ننشغل بمثل هذا الأمر.(24/59)
وإن كان الكثير منّا يرى أن التعليم في الجامعات الغربية يوفر لطلابنا أن يتلقوا العلم في جو علمي يوفر لهم الإمكانات والمنهجية العلمية، فمتى تصبح جامعاتنا جامعات حقيقية توفر الفرص التعليمية الصحيحة، فلا يعيش الطالب في الجامعة العربية مضطهداً مكسور الخاطر، يستأسد عليه الأساتذة والإدارات الجامعية، ويتفنون في إذلاله حتى إذا خرج إلى الواقع بعد نيل الشهادة صب جام غضبه على من يَتتلمذ على يديه.
إن مواجهة الاستشراق تكون أيضاً بأن ننقل من كوننا ذاتاً مدروسة إلى ذات دارسة، ومن ذات موضع الدراسة إلى ذات تجعل غيرها موضع الدرس، وأن نتخلص من عقد النقص التي فينا، وأن نقضي على عقدة الاستعلاء لدى عدونا، وهو ما يمكن أن نفعله حين نهيئ عدداً من أبنائنا المقيمين في الخارج لدراسة أوضاع المجتمعات الغربية. وأذكر مثالاً هنا أن أحد الطلاب العرب الذين يدرسون القانون في أمريكا أراد أن يدرس قضية بنوك الحيوانات المنوية من النواحي القانونية فأشار إليه أستاذه أن هذه المسألة شائكة، ولا ينبغي له أن يتصدى لها.
http://www.islamiyatonline.com المصدر:
=============(24/60)
(24/61)
الاستشراق اليهودي وهواجس الرعب
أيمن خالد
في عام 1969 حصل الباحث الصهيوني «يهوشع براور» على جائزة «الدولة» لقيامه بإنجاز دراسة استنتج بموجبها أن ما جرى للصليبيين في فلسطين لن يتكرر مع الكيان الصهيوني مجدداً في بلادنا، وفي واقع الأمر لم تكن تلك الجائزة في ذلك الوقت بالتحديد - والذي شهد تحولات فلسطينية وعربية كثيرة - لم تكن أمراً عرضياً، أو أمراً أكاديمياً صرفاً؛ بل كان الكيان الصهيوني بتلك الجائزة يحاول طمأنة نفسه، وطمأنة اليهود الوافدين أن مستقبلهم لن يكون إلى البحر كأسلافهم الصليبيين، وكما يقول «يوري أفنيري»: (إن الصليبيين حاربوا طيلة ثمانية أجيال ليجدوا أنفسهم وقد القوا إلى البحر، ومن هنا يتوجس اليهود من أن يصل التشابه إلى هذا المستوى).
ففي هذه العبارة الصريحة يُعبّر «افنيري» عن الهاجس الذي يشغل اليهود خصوصاً وأنهم أنشئوا كيانهم في ظرف استثنائي ناتج عن الشرذمة التي تعانيها الأمة العربية والإسلامية، وهي حالة شبيهة بالحالة التي نشأت فيها مملكة بيت المقدس اللاّتينية، في ظل ظروف مماثلة عاشتها المنطقة لحظة بدء الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.
فالخوف من ملاقاة ذات المصير دفع باليهود إلى قراءة المنطقة العربية والإسلامية قراءة ذات بعد استراتيجي بغية إدراك مواطن الضعف، والعمل على استمرارها، واكتشاف مواطن القوة وكيفية التعامل معها، لإدراك هذا الكيان أنه كيان غريب لا ينتمي لجغرافية المنطقة، وبالتالي لا يمتلك ما يلغي لديه المخاوف الأمنية التي تبقى شغله الشاغل.
استشراق مبكر:
كانت بداية الاستشراق اليهودي على موائد الاستشراق الأوروبي، والذي ساهم في خلق المفاهيم والرؤى السلبية تجاه المنطقة العربية والإسلامية، وبهذه الرؤية السلبية انطلق اليهود في استشراقهم، وتميزوا عن الاستشراق الأوروبي في طبيعة عملهم، فكانت محاولات المستشرقين اليهود التركيز على ما يسمى بـ «الإرث العبري» ومحاولة نقل هذه الفكرة إلى داخل العقلية الأوروبية على اعتبار أن اليهود هم جزء من الشرق، وأن إعادتهم إليه مسألة أخلاقية، ولا توجد فيها دوافع استعمارية، خصوصاً مع بروز التيار البروتستانتي، ومحاولات تأكيد الرؤية التوراتية للمنطقة.
لذلك كانت الأبحاث الاستشراقية اليهودية في تاريخ العرب وجغرافيتهم هي مهمة ذات بعد صراعي يُستخدم فيها التاريخ بمدلولاته، وتستخدم الدراسات - بعد تزييفها في معظم الأحيان - كأداة لبناء منظومة من الرؤى والمفاهيم، ومحاولة تصديرها على أنها حقائق تاريخية ثابتة.
لذلك سعى المستشرقون اليهود إلى فكرة ربط اليهود بالمنطقة العربية وتحديداً فلسطين، فعمل المستشرقون اليهود على توجيه الاستشراق الغربي نحو هذا الهدف من خلال رسم هيكلية المنطقة العربية والإسلامية وفق المنظور الاستشراقي اليهودي، رغبة منهم في أن يسير الاستشراق الغربي على خطى الاستشراق اليهودي، حيث عمل المستشرقون اليهود على استحضار عوامل صراع شرقي - غربي بغية حشد الغرب في خندقهم، واستخدمت في ذلك آلاف المطبوعات الصادرة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وخصوصاً في السنوات الأخيرة، والتي تصل بسهولة ويسر للباحثين الغربيين في سنوات دراستهم الأولى، مما يجعل التحرر من هذه الأفكار أمراً صعباً.
لذلك يأتي الاستشراق اليهودي ليكون مكملاً لما بدأ به الاستشراق الغربي، ثم ليعمل على إدماج النتائج المعرفية في شؤون العرب والمسلمين وفق مسار محدد، يراد من خلاله المنطقة برمتها، وجعلها في أذهان الأوروبيين والغرب عموماً خلاف ما هي عليه في محاولة إثبات ما يسمى استمرارية «التاريخ اليهودي» في فلسطين وحولها تحديداً.
لذلك جاءت محاولات كتابة ما يسمى «التاريخ اليهودي» خلال الحملات الصليبية، فأظهرتهم تارة محاربين - وهو أمر ينافيه العقل - فقد كانوا يدفعون الجزية وهذا ثابت في كل الكتابات التاريخية، فكيف يمكن لهم أن يكونوا محاربين، ثم تأتي محاولات إلصاقهم بالأرض من خلال وصفهم كمزارعين، إضافة إلى نفي الهوية الواحدة لعرب فلسطين، وجعل الهوية اليهودية لفلسطين هي المسألة المركزية في أذهان الغرب.
تطور الاستشراق:
بعد نكبة عام 1948تطور الاستشراق اليهودي تطوراً كبيراً، فلم تعد الأهداف الصهيونية محاولة إثبات ما يسمى «التاريخ اليهودي» فحسب بل تعدى ذلك إلى دراسة التاريخ والجغرافيا، والعادات والتقاليد وكل ما أمكن عن المنطقة.
من هنا إن كان الاستشراق الغربي قد تركز حول مساعدة المؤسسات الغربية على تحقيق طموحاتها وتطلعاتها في الهيمنة، فإن الاستشراق اليهودي تجاوز ذلك ليجعل المنطقة برمتها تحت أنظاره، فالاستشراق الصهيوني اليوم يدرس أحوال المسلمين من ماليزيا وحتى تركيا وأفريقيا، ناهيك عن أحوال العرب المسلمين.(24/62)
والاستشراق اليهودي الجديد يزحف ليحل محل الاستشراق التقليدي من خلال تحويل الاستشراق ذاته إلى استخبارات في الميادين الاستراتيجية كافة، لتمكين هذا الكيان من الاستمرار في تحقيق التفوق، وإنما يعكس ذلك الطبيعة العنصرية لهذا الكيان، من خلال استخدام الجوانب المعرفية بغية تحقيق السيطرة، والهيمنة على المنطقة برمتها.
اهتمام بحثي:
عندما نعلم أن الجامعة العبرية تخصص قرابة نصف ميزانيتها للمشاريع البحثية ندرك أهمية الأبحاث في العقلية الصهيونية المعاصرة، فيكون الباحثون أشبه بأداة استشعار عن بعد، ترصد المخاطر التي تواجه المشروع الصهيوني في بلادنا، فلقد سبق مشروع بناء الجامعة العبرية في القدس والذي جاء عام 1918 بمساعدة بريطانيا، سبق نشأة هذا الكيان، وكانت خطط بنائها قد وضعت في نهايات القرن التاسع عشر، وهي منذ تشكلها تحث الباحثين اليهود على دراسة الشؤون العربية كافة، ويتم تقديمهم في المجتمع الصهيوني على أنهم «خبراء الشؤون العربية»، حيث يعمل الكثير منهم مستشارين سياسيين وأمنيين لدى القادة العسكريين.
فالصهيونية التي وضعت نفسها وسط تشكل عربي وإسلامي، بدأت بدراسات مفصلة للتعرف على مكامن القوة والضعف، لامتلاك مصدر معرفي يساعدها في تعميق التناقضات، وصياغة خطاب وبرنامج ميداني للتعامل مع العرب وفق توالي الظروف السياسية وغيرها.
لذلك فالاستشراق اليهودي ليس ترفاً فكرياً، ولا ينبع من حاجات الإنسان إلى ثقافة محددة، إنما عليه أن يستطلع أحوال العرب والمسلمين من ماليزيا وحتى ساحل العاج، وبالمقابل فإن أمامه مهمة أخرى، وهي تعزيز الانتماء لليهود القادمين من الخارج من أجل التحفيز على الاستمرارية في بناء المشروع الصهيوني، ولا يتم ذلك إلا بإقامة عشرات المؤسسات البحثية، والعمل على صناعة الباحثين وصياغتهم من خلال مؤسسات الاستيعاب، فتجد الباحث الصهيوني والذي يريد دراسة أي من القضايا العربية يحصل على امتيازات خاصة، وتوضع أمامه إمكانات كبيرة لإنجاز مهمته.
دراسة وتعبئة:
فالحروب في الاستشراق اليهودي تشكل مادة بحثية أساسية، وتأتي دراستها وتحليل دورها في السياق العام للسياسة الصهيونية، والوقوف على النتائج والاستخلاصات التي أفضت إليها تلك الحروب بغية إدماجها في رؤية مستقبلية للصراع لتحاشي التقصير، وتشغل معركة حطين الباحث الصهيوني ليس من خلال دلالاتها العسكرية فحسب بل ومن خلال دراسة الظروف التاريخية التي سبقت هذه المعركة، والعمل على منع تكرارها من جديد، بما يشكل ذلك مصدراً للرعب لدى الكيان الصهيوني.
ففي عام 1987 وعلى إثر انطلاق الانتفاضة الأولى المباركة أقام الكيان الصهيوني مؤتمرا أعقبته العديد من الندوات، وذلك في ذكرى مرور800 عام على معركة حطين، وحاول الباحثون الصهاينة من خلال ذلك التذكير من جديد باختلاف التجربة بين الحملات الصليبية وبين الصهيونية.
وبكل تأكيد إن أعمال هذا المؤتمر لم تكن موجهة لغايات بحثية أكاديمية، وإنما جاءت موجهة إلى صميم المجتمع الصهيوني الداخلي، والذي بدأ يرى مع الانتفاضة صورته الغريبة عن المنطقة، ومن خلال التعاطف العربي الشعبي والإسلامي بدأ يلمس من جديد الظروف التاريخية التي سبقت معركة حطين، بما يشكله ذلك من هاجس يؤرق سريرة الصهاينة.
وهنا نلاحظ مهمة جديدة للاستشراق اليهودي أنه أخذ يخاطب المجتمع الصهيوني من الداخل بغية جعل المجتمع الصهيوني في حالة توحد مع المؤسسة العسكرية والتي لها مفهومها الخاص للأمن، فمفهوم الأمن لأي دولة يعني حماية الحدود، إلا أن هذا الكيان يرى أن مفهوم الأمن بالنسبة إليه يعني «الوجود ذاته» لذلك مع انطلاق الانتفاضة المباركة لم يعد مفهوم الردع للأنظمة العربية يعني له الكثير بسبب التماس المباشر بينه وبين أصحاب الأرض.
ومن هنا نجد مفهوم الأمن إنما يستند على رؤية استشراقية من صميم الدراسات التاريخية استخلصها الباحث الصهيوني دان هورو فيتش وهو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية، حيث يقول «هنا تكمن فرصتنا الأخيرة، فإما الوجود والاستمرار بأي ثمن، وإلا فإن أمامنا الفناء النهائي».
رعب دائم:(24/63)
ما جرى للصليبيين في بلادنا من الطبيعي أن يشكل حالة قلق مستمرة للصهاينة في بلادنا، فهناك مسألة لا شعورية داخلية تقود الصهاينة لدراسة هذا التاريخ للوصول إلى حالة من الاطمئنان الداخلي، فعليهم اختراع الكثير من الأوهام، وتزييف العديد من الحقائق، مع انهيار أسطورة الجندي الذي لا يقهر بفعل الانتفاضة المباركة، والتي تشكل بحق أكبر فعل تاريخي مؤثر في مواجهة الاستعمار الغربي منذ معركة حطين والتي كان أهم عامل فيها بروز التيار الجهادي الإسلامي، والتصميم الكبير الذي أبداه الفلسطينيون بما يعتبر عملاً أسطورياً، فلم تفلح التكنولوجيا في كبح جماح شعب أعزل، وهكذا يصطدم المشروع الصهيوني للمرة الأولى بالحائط الإسلامي، وهو الأمر الذي تحدث فيه المستشرق اليهودي آرمينوس فامبيري 1831-1913 إلى هرتزل محذراً، حيث قال له «.. القدس مقدسة لهؤلاء الناس مثل مكة»، لكن هرتزل لم يستطع أن يعي تلك الحقيقة، والتي تجلت ملامحها في الانتفاضة المباركة الثانية أثناء محاولات تدنيس الحرم الشريف.
حقائق:
الحقيقة التي لا بد من رؤيتها والتي ينبغي أن تصبح علامة فاصلة في الثقافة العربية أن مفهوم التسوية من كامب ديفيد الأولى وحتى أوسلو وخارطة الطريق كل ذلك ساهم في تغذية النزعة الاستعلائية الصهيونية، حيث نرى أن المجتمع الصهيوني لم يترك مناسبة إلا وعبر فيها عن فاشيته، لذلك لا بد من تصدير مفهوم الرعب إلى داخل الكيان الصهيوني، ويتجلى الأمر من خلال إعادة تشكيل واقعة حطين في أذهان الغزاة الصهاينة، بما شكلته من وحدة إسلامية، وتمسك بهذه العقيدة، حيث الإسلام هو الوحيد القادر على تعديل كفة المواجهة، وتنفيس وإزالة التضخم المرضي في الشخصية اليهودية، التي غذّاها الاستشراق اليهودي، وأظهرها بغير مظهرها الطبيعي، ويتجلى انكسار هذا المفهوم فيما نراه اليوم من جدار الفصل العنصري الذي يعتبر تعبيراً عن هذه الحالة، ومحاولة لترميم مفهوم الأمن الذي كسره المجاهد الفلسطيني.
فالانتفاضة المباركة جعلت الجندي الصهيوني يقف وراء الجدار ممسكاً ببندقيته في ذاكرته البعيدة هاجس حطين، ولا يدري من أين يأتيه الرعب هل من القادم من وراء الجدار أم من حفرة تحت قدميه، من هنا ستكون مهمة مراكز البحث الصهيونية القادمة العمل على إقناع اليهود إن أجلهم طويل هي مهمة صعبة ومعقدة.
http://www.qudsway.com المصدر:
==============(24/64)
(24/65)
الاستشراق الجديد
سهيلة زين العابدين حمَّاد
لقد تعرَّف الغرب بالشرق عبر قرون طويلة عن طريق عدد كبير من الكتاب والرحالة والجغرافيين والمؤرخين، والشرق الذي عرفته أوروبا قديماً يمتد من سواحل البحر المتوسط غرباً إلى البحار الشرقية النائية، وقد اختلفت وسائل اتصال أوروبا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال.
وكانت بداية هذه العلاقات ترجع إلى أيام الكنعانيين، وكانت علاقات تجارية، ثُمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال، إذ قامت الحرب الفارسية اليونانية (499 - 449ق. م)، وكانت الغلبة في البداية للفرس ثُمَّ أخرجهم اليونان من بلادهم.
وفي أواخر القرن الرابع "قبل الميلاد" قام الإسكندر المقدوني باحتلال آسيا الصغرى، وبعض أواسط آسيا، واستمر في حربه حتى وصل أبواب الصين، وقد عاجلته المنية، ولم يتعد عمره ثلاثين عاماً، وتوفي عام 323ق. م، وعندما اجتاح الإسكندر المقدوني الشرق فكَّر في احتلال الجزيرة العربية، بعدما تمَّت له الغلبة على مصر والهلال الخصيب؛ إذ كان وقتها في بابل، فأرسل بعثة استطلاعية تتسقط له المعلومات اللازمة؛ تمهيداً للاستيلاء على هذه الأصقاع المليئة بالغموض والأسرار الصعبة الاختراق، فبنى أسطولاً قوياً، واتخذ مدينة بابل قاعدة للانطلاق، وأمَّر على أسطوله قائده "أرخياس "A r chias الذي عبر الخليج العربي، وصل إلى جزيرة البحرين الحالية، وكان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم "أيلوس" وقدَّمت البعثة البحرية وغيرها من البعثات الأخرى تقارير وافية عن المناطق التي وصلت إليها، تناولت السكان، والإنتاج، والمبادلات التجارية، والوصف "الطبوغرافي" للأرض، والطرق السهلة التي يمكن لجيش جرار المرور منها في صحراء قاحلة خالية من الماء، ومن كل الوسائل المريحة التي يحتاج إليها جيش مقبل على احتلال أصقاع لم يخترقها أحد قبل ذلك التاريخ، فأخذ المهتمون بهذه الحملات تسجيل العديد من المعلومات عن الأرض الشرقية التي احتلوها، ودَّونوا كثيراً من الروايات الشفهية والسماعية عن أرض أخرى كان في نية الإسكندر ابتلاعها.
بداية الاستشراق:
من وجهة نظري فإن بداية الاستشراق كانت من عهد الإسكندر المقدوني، وكما رأينا فإنه قام لأهداف السيطرة والاحتلال، ومنذ هذا التاريخ كان المستشرقون المهتمون بالدراسات الشرقية مبعث اهتمامهم بهذه الدراسات يعود في المقام الأول إلى خدمة أهداف بلادهم في السيطرة على الشرق، وعند ظهور الإسلام أضيف إلى هذا الهدف هدف آخر هو محاربة الإسلام بتشويه صورته، وصورة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الشرق والغرب، وتاريخ الاستشراق الطويل يشهد بهذا.
كشف حقيقة الاستشراق:
وقد كشف القناع عن حقيقة الاستشراق بعض الباحثين العرب مثل الأستاذ "أنور عبد الملك" الذي نشر مقالة له بعنوان " الاستشراق في أزمة"، ونشر بالفرنسية في مجلة "ديوجين" سنة 1963م في العدد رقم 44، ومن المستشرقين الذين ردَّوا عليه المستشرق الإيطالي "فرانسيسكو جابوبيلي" في مقالة نشرت له في مجلة "ديوجين" العدد "50" سنة 1965م كما رد عليه المؤرخ الفرنسي اليهودي "كلود كاهين" في نفس المجلة والعدد، وكذلك المستشرق الفرنسي اليهودي "مكسيم ردونسون"، حيث رد عليه ضمنياً في كتابه "جاذبية الإسلام".
ثُمَّ أعقبه كتاب الاستشراق للدكتور "إدوارد سعيد" أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، وقد صدر بالإنجليزية عام 1978م، وكانت له أصداء واسعة، وقد ردَّ عليه كل من المستشرق اليهودي الفرنسي مكسيم ردونسون، وكلود كاهين، والمستشرق اليهودي البريطاني الأمريكي "برنارد لويس"، وكذلك " ألان ردسون"، كما كان لبحوث عبد النبي أصطيف، وهو يعمل بكلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، وممن عقَّب على كتاباته "ألان ردسون".
هذه البحوث والدراسات والمقالات قد زلزلت الأوساط الاستشراقية وجعلتهم يقررون في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس بمناسبة الذكرى المئوية لأول مؤتمر دولي للمستشرقين في صيف عام 1973م أن يقذفوا بمصطلح "مستشرق " في مزبلة التاريخ على حد تعبير " برنارد لويس"، ولكن في الوقت نفسه أعلنوا عن تمسكهم بمناهجهم التي اتبعوها في دراساتهم، وأنَّهم لن يتخلوا عنها لإرضاء العرب.
الاستشراق الأمريكي الجديد:
وهكذا نجد أنَّهم قد تخلوا عن المصطلح، ولكنهم لم يتخلوا عن المنهج والأهداف والأغراض، لذا نجدهم استبدلوا كلمة "استشراق" "بمراكز المعلومات"، أو "دراسات الشرق الأوسط"، وهذا هو الثوب الجديد للاستشراق الجديد، ولا سيما الاستشراق الأمريكي.(24/66)
ومن هنا نجد بعض الباحثين المسلمين قد انخدع بهذا المصطلح الجديد وهو الأستاذ "مرسي سعد الدين" الذي يرى أنَّ هذا النوع من الاستشراق يدخل في إطار جمع المعلومات، وهو ناتج عن رغبة حقيقية في البحث نابعة من ذات المستشرق، وليس بإيعاز من أجهزة المخابرات، ويرى أنَّ هذا النوع من الاستشراق يمثله الاستشراق الأمريكي الجديد، ويضيف قائلاً: " وإن كانت هذه الدراسات تساعد أمريكا مثلاً على رسم سياستها تجاه دول المنطقة، ويؤكد على أنَّ دراسات المستشرقين الأمريكان الجدد عن مصر الفرعونية، ومصر الإسلامية، وعن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الظروف الحالية، وعن الحركة العمَّالية، والمجتمع الريفي، ووضع المرأة والطبقة الوسطى أنَّها لم تكتب لغرض استعماري، وإنَّما هي بحوث نتيجة لتجارب كتابها.
وقد كتب هذا في مقال نشر في الأهرام في 24/8/1999م، بعنوان "الاستشراق الجديد" والأستاذ "مرسي سعد الدين" متفائل جداً، فهو يجزم أنَّ هذه الدراسات بإيعاز من أجهزة المخابرات، وليس لأغراض استعمارية، مع أنَّ ما ذكره من نوعية الدراسات يؤكد لنا أنَّ الغرض استعماري.
أهداف الاستشراق:
فالاهتمام بمصر الفرعونية هذا من أهداف الاستعمار؛ إذ يسعون لإحياء القوميات الجاهلية القديمة في العالم الإسلامي، فقد نبَّش المستشرقون خاصة في النصف الأول من القرن العشرين في الحضارات الجاهلية القديمة، وإحياء معارفها لسلخ المسلمين من دينهم، من ذلك بعث الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، والفارسية في إيران، والقومية الطورانية في تركيا، أمَّا الجزيرة العربية فلقد بحثوا في آثار السابقين، وأسموا دراساتهم "التاريخ الحضاري للعرب قبل الإسلام"، وذلك ليطفئوا نور الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس وحده هو الذي قدم الحضارة الإنسانية، وليقطعوا صلة الأمة الإسلامية بماضيها الحقيقي الذي بدأ بظهور الإسلام.
أمَّا دراساتهم عن العصور الإسلامية فهي لا تخلو من الدس والتشويه، وأمريكا تريد القضاء على الإسلام والسيطرة على البلاد الإسلامية، ففي شهر مايو سنة 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية الأمريكية بولاية ماريلاند أنَّهم قد أخيفوا في هذا القرن بثلاثة تيارات هي: الشيوعية، والنازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنازية، ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية، وما حملتها الآن على ما تسميه إرهاباً ومحاربتها له إلاّ للقضاء على الإسلام، وبسط نفوذها وهيمنها على الشعوب والدول الإسلامية ولا سيما العربية.
أمَّا عن الدراسات المعاصرة للأحوال الاجتماعية والاقتصادية فمعروف أنَّ المستشرقين المعاصرين في الولايات المتحدة قد أولوا عناية فائقة بدراسة الأوضاع القائمة في المنطقة العربية منذ قيام إسرائيل وحتى الآن، وذلك في إطار تجنيد هؤلاء المستشرقين والعملية الاستشراقية الأمريكية إجمالاً لتلبية احتياجات وتطلعات السياسة الأمريكية في هذه المنطقة، واحتل الاهتمام بإسرائيل مكانة خاصة في الاستشراق الأمريكي المعاصر، انطلاقاً من الدور الوظيفي الذي تؤديه إسرائيل في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية، فانصبت غالبية نشاطات المستشرقين الأمريكان في مجالات الأبحاث الصراعية باتجاه تعزيز المواقع الإسرائيلية على جبهة المواجهة مع العرب، ومن المستشرقين الأمريكان الذين يسعون لخدمة الصهيونية "برنارد لويس" وهو يهودي بريطاني الأصل، ومنذ سنة 1973م انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ أصبح عضواً دائماً في معهد الدراسات المتقدمة، وفي الجمعية الفلسفية الأمريكية، وشغل منصب أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون، وانتقال "برنارد لويس" إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1973م يبين لنا أنَّ هذا المستشرق انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية لهدف يسعى إلى تحقيقه من خلال الدور الأمريكي في الدعم الصهيوني، خاصة بعد حرب أكتوبر عام 1973م التي قلبت موازين الاستراتيجية الصهيونية والأمريكية، إضافة إلى إدراكه أنَّ الدور البريطاني في الدعم الصهيوني قد ضعف أمام قوة الاستراتيجية الأمريكية، وأنَّ الصهيونية قد حصلت من بريطانيا ما تريده منها، فلقد أدت بريطانيا دورها، والدور الآن على الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق بقية الحلم الصهيوني باعتبارها أكبر دولة في العالم، وإسرائيل هي الدولة المدللة لديها.(24/67)
ولم يتوقف الاستشراق الأمريكي على خدمة الأهداف الصهيونية، بل نجده قد تعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية لخدمة مصالح أمريكا في الشرق الأوسط، وذلك من خلال "مركز دراسات الشرق الأوسط " في جامعة هارفارد، ومن المستشرقين اليهود الأمريكان الذين تعاونوا مع جهاز المخابرات الأمريكية " ندَّاف سفران" الذي عمل مديراً لمركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة "هارفارد" حتى إقالته عام 1985م حيث تمَّ كشف النقاب عن تعاون "ندَّاف سفران" مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكان هذا الكشف فضيحة في الأوساط الأكاديمية حيث قبض سفران مبلغاً وقدره 45 ألف دولار من المخابرات الأمريكية لتمويل ندوة في جامعة هارفارد حول " نمو المشاعر الإسلامية في الشرق الأوسط"، وتبين كذلك أنَّ المخابرات الأمريكية قد دفعت 107 ألف دولار مقابل قيام سفران بتأليف كتاب عن المملكة العربية السعودية، ويتضمن هذا الكتاب الذي تعهد سفران بتنفيذه دراسة عن حجم القوى الإسلامية في هذا البلد بهدف الإجابة عن سؤال مهم هو: كيف يمكن السيطرة على هذه القوى؟ وكيف يمكن أو هل يمكن لهذه القوى أن تسيطر على زمام الحكم هناك؟
وقد كلَّف سفران أحد أساتذة الجامعة العبرية في القدس "البروفسور آفير" بإجراء بحوث ميدانية بالتعاون مع الطلبة العرب، ودراسة الصحف الصادرة في البلد المعنية بالدراسة المتوفرة في معهد "ترومان" لأبحاث الشرق الأوسط التابع للجامعة العبرية، إلاَّ أنَّ الطلاب العرب في الجامعة المذكورة رفضوا التعاون مع البروفسور الإسرائيلي، وبعد افتضاح الأمر أجرت جامعة "هارفارد" تحقيقات مع سفران، وأقيل على إثرها، لكن سفران ادعى أنَّه هو الذي قدَّم استقالته بسبب الحساسية التي سببتها تحقيقات الجامعة معه، وأخذ يدافع عن ارتباطه بوكالة المخابرات المركزية مؤكداً أنَّ علماء كثيرين جداً يعملون في جامعة هارفارد، ويقيمون علاقات وطيدة مع الوكالة يتلقون منها المساعدات المالية، وأنَّ الجامعة لا تكتفي بإجازة هذه العلاقات بل تشجعها، ولم تنف جامعة هارفارد هذا الأمر.
وهذه المؤشرات في قضية سفران تبرهن خلاف ما ذهب إليه الأستاذ "مرسي سعد الدين" بأنَّ دراسات الاستشراق الأمريكي الجديد بعيدة عن أجهزة المخابرات الأمريكية والأغراض الاستعمارية، وهذه وقائع حدثت لم آت بها، وإنَّما واردة مصادرها في الهوامش، وبالإمكان الرجوع إليها.
تعريف الاستشراق:
والذي أريد قوله: إنَّه علينا ألاَّ ننخدع بالمصطلحات الجديدة، فالاستشراق حديثه مثل قديمة لا يخرج عن كونه مؤسسة غربية بالغة القوة، قائمة على دراسة الشرق بشتى جوانبه، مع التركيز على الجزء الإسلامي منه برؤية غربية قائمة على التفوق العرقي والثقافي بهدف سيطرة الغرب على الشرق، وتشويه الإسلام في الشرق والغرب.
http://islamtoday.net المصدر:
==============(24/68)
(24/69)
الاستشراق البوسنوي: دراسة الذات البوسنية
د. محمد م. الأرناؤوط*
تحتفل سراييفو والبوسنة هذا العام بالذكرى الخمسين لتأسيس معهد الاستشراق (1950-2000) الذي كان تعبيراً عن مرحلة متميزة في الكشف عن التاريخ الثقافي للبوسنة.
وكانت البوسنة قد دخلت في مُنعطَفٍ جديد في نهاية القرون الوسطى بعد الفتح العثماني لها في 1463م؛ حيث انتشر فيها الإسلام بسرعة ليصبح دين الغالبية؛ ولتبرز فيها عدة مراكز للثقافة الإسلامية (سراييفو، بانيا لوكا، موستار الخ)، ومع هذا المنعطف دخلت وانتشرت في البوسنة لغات جديدة (العربية والتركية والفارسية)، وأخذ يبرز في البوسنة بعد أقل من قرن من الحُكم العثماني الجيل الأول من العلماء البشانقة الذين أخذوا يكتبون بهذه اللغات في مختلف المجالات (اللغة والأدب، التاريخ، الفلسفة والمنطق، علوم القرآن، علوم الحديث، الفقه وأصول الفقه الخ)، كما أخذ الجيل الثاني والثالث يكتب في اللغة البشناقية بحروف عربية.
ومع الاحتلال النمساوي للبوسنة (1878 - 1908) ثم مع ضمها إلى الإمبراطورية النمساوية المجرية (1908 - 1918) شهدت البوسنة بداية الاهتمام بهذا التراث البشناقي من خلال بعض المستشرقين الأوروبيين، ثم مع الجيل الأول من الباحثين البشانقة الذي يأتي على رأسهم د0 صفوت بك باش اغيتش (1870 - 1932)، ومع ضم البوسنة إلى يوغسلافيا في (1918) حيث أصبح المسلمون أقليةً في الدولة الجديدة، وفُتِحَ أول قسم للاستشراق في بلغراد (1924) كان يُفترَض أن يساهم هذا القسم في التعرف على التراث المسلم خاصة وأن أول رئيس للقسم د0 فهيم بايراكتاروفيتش كان من العارفين بهذا التراث، ولكن د0 مايراكتازوفيتش على علمه الغزير كان يمثل النزعة الأوروبية المركزية (الاستشراقية) التي تنظر للاستشراق باعتباره دراسة للآخَر.
ولكن مع قيام يوغسلافيا الجديدة في (1945) التي أصبحت فيها البوسنة واحدة من الجمهوريات الست المكونة للاتحاد الفدرالي تعبيراً عن خصوصيتها، تأسس لاحقاً في (1950) معهد الاستشراق في سراييفو الذي أخذ على عاتقه مهتمين متداخلتين:
أ. جمع تراث البوسنة المكتوب باللغات الشرقية (العربية والتركية والفارسية)، وحفظه حسب الأصول، وتصنيفه.
ب. دراسة ونشر هذا التراث باللغة البشناقية الحديثة (التي أصبحت تُكتَب بالحروف اللاتينية).
وقد أخذت أولى الدراسات عن هذا التراث - الذي لم يَعُدْ دراسةً للآخَر بل للذات البوسنوية - تُنشَر في المجلة الجديدة التي أخذ يصدرها المعهد (إسهامات في الفيلولوجيا الشرقية)، والتي حظيت مع الزمن بسمعه علمية جيدة نظراً لأصالة الدراسات المنشورة فيها، وبالإضافة إلى هذا فقد أخذ المعهد ينشر الكتب المتعلقة بهذا التراث، وينظم الحلقات النقاشية والندوات حول هذا التراث، وجاءت مناسبة مرور (25) سنةً على تأسيس المعهد فرصةً للاحتفاء بما أنجزه حتى ذلك الحين، فقد تمكن المعهد حتى ذلك الحين من جمع وحفظ آلاف المخطوطات باللغات الشرقية؛ التي أصبحت تُعَدُّ أنفس مجموعة من نوعها في يوغسلافيا، ونشر عشرات الدراسات حول هذا التراث، وقد قام المعهد بهذه المناسبة بتنظيم ندوة "الثقافة العربية الإسلامية" التي نشرت أوراقها في العدد (24) الخاص من مجلة المعهد، وقد خصص العدد اللاحق (25) لنشر أول فهرس عن الإصدارات / الدراسات التي نشرها المعهد حتى ذلك الحين، وفي العدد ذاته نُشِرت أول دراسة عن مجموعة المخطوطات الشرقية في المعهد، التي بلغت حتى ذلك الحين(4850) مخطوطةً، ودراسة أخرى عن أرشيف المعهد وما فيه من وثائق أصلية ومُصوَّرَة من مراكز الوثائق في البلقان.
ولكن كل هذا الإنجاز الكبير للمعهد وما أُضيف إليه خلال الثمانينيات تعرض إلى نكبة خلال الحرب في البوسنة؛ حيث تعرض المعهد إلى قصف صربي مُتعمَّد طيلة 17- 18 آيار/مايو (1992) مما أدى إلى إحراق مكتبة المعهد الغنية بالمخطوطات الشرقية.
وعلى الرغم من هذا لم يتوقف العمل في المعهد حتى خلال الحرب، وإن انطلق من جديد بحيوية أكبر بعد توقف الحرب في (1995)، وهكذا فقد أصدر المعهد في(1995) الكتاب المهم " الأدب النثري للبوسنة والهرسك باللغات الشرقية " من تأليف د0سليمان غروزدانيتش ود0 أمير لوبوفيتش"، والكتاب الآخر المتفرع من هذا التراث " مؤلفات البشانقة في المنطق في اللغة العربية " لـ د. لوبوفيتش.
أما خلال 1997 فقد أصدر كتابين مهمين؛ الأول عن تاريخ سراييفو بمناسبة الذكرى الـ (500) لنشوئها، والثاني "فهرس المخطوطات الشرقية للمعهد" من إعداد الباحثين صالح تراكو، وليلى غازيتش.
لا بد أن نشير أخيراً إلى كتاب د0 أسعد دوراكوفيتش " البلاغة العربية في البوسنة، كتاب أحمد بن حسن بشناق حول الاستعارة "، الذي يُعَدُّ عينةً من هذا التراث الذي تعتز به البوسنة.
___________________
* مدير معهد بيت الحكمة / الأردن
http://www.islam-online.net المصدر:
=================(24/70)
(24/71)
هولندا تبدأ الاستشراق الجديد
حسام تمام
أعلنت جامعة روتردام الإسلامية بهولندا مؤخراً وضع حجر الأساس والبدء في تأسيس أول كلية للدراسات الشرقية بها، وأسند مجلس الجامعة عمادة الكلية للدكتور "محمد حرب" مستشارها لشئون الشرق الأوسط، والعالم التركي، وأستاذ كرسيّ التاريخ الإسلامي، والذي كان أول من أطلق الفكرة ضمن أطروحته لتأسيس استشراق جديد.
التقينا الدكتور حرب، وناقشناه في فكرة الكلية، وتطورات تأسيسها، وأطروحة الاستشراق الجديد.
كيف ظهرت فكرة إنشاء كلية للدراسات الشرقية في أوروبا؟
** الفكرة حديثة جداً، أثارتها محاضرة ألقيتها في أوائل شهر يونيو الماضي (1999م) في فيينا بدعوة من الأكاديمية الإسلامية هناك؛ وكانت بعنوان (نحو استشراق جديد)، وحضرها عدد كبير من الجيل الثالث للمسلمين في أوروبا، تحدثت فيها عن عيوب الاستشراق القديم، وآثاره السيئة على الإسلام، وتأثيره السلبي على الرأي العام العالمي تجاه الإسلام، والقضايا الإسلامية، ودعوت إلى تأسيس استشراق جديد يتجاوز عيوب وسلبيات القديم، ويكون دعامته من الباحثين المسلمين الغربيين والجيل الثالث من المسلمين في أوروبا، أحدثت المحاضرة تأثيراً كبيراً في الحاضرين، ولاقت استحسانهم، واقترح البعض تأسيس كلية في أوروبا لهذا الغرض، فتلقف المسئولون في جامعة روتردام الإسلامية بهولندا الفكرة، وأعلنوا عن قبول الجامعة إنشاء مثل هذه الكلية، وأسندت إليَّ عمادتها، ووضع مقرراتها الدراسية، وإنشاء هيكلها الإداري، وبالفعل تم ذلك في أوقات وجيزة، وكانت البداية باسم الدراسات العثمانية على أن تستكمل بقية الأقسام في وقت لاحق.
وما الفكرة الرئيسية لأطروحة الاستشراق الجديد التي تتبناها وتقوم عليها كلية الدراسات الشرقية؟
الفكرة تقوم على نقد الاستشراق القديم، والدعوة إلى تأسيس استشراق جديد يتناسب مع المرحلة الجديدة التي يعيشها، ويتجاوز سلبيات وتجاوزات الاستشراق القديم التي ترجع لأسباب وظروف كثيرة، فالاستشراق منذ ظهوره قبل خمسة قرون تقريباً نشأ في ظروف ولأهداف غير موضوعية؛ فقد ظهر مع اشتداد الصراع بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي، ووصوله إلى ذروته مع طرد المسلمين من الأندلس، وسقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، ووصولهم إلى أبواب فيينا، وانتشار حالة الفزع من الإسلام التي ساهم فيها باباوات الكنيسة الغربية.
فقد بدأت الدراسات الاستشراقية في الظهور والتزايد، وكان هدفها استكشاف ذلك الخطر الذي يسمى بالإسلام، واختراقه داخلياً في محاولة للتغلب عليه، خاصة بعد إدراك الأوروبيين لاستحالة القضاء عليه عسكرياً وبالمواجهة المباشرة، فنشأ الاستشراق في المدارس الكنَسيّة، فتحمل بكل سلبيات نظرتها غير الموضوعية للإسلام، ثم في مرحلة لاحقة تحمل بسلبيات ومساوئ أخرى لا تقل خطورة بعد ارتباطه المباشر بالاستعمار، وتحولت الدراسات الاستشراقية لخدمة الاستعمار، ولعب المستشرقون دوراً مؤثراً في السيطرة على الشعوب الإسلامية والشرقية أيضاً، وإحكام قبضة الاستعمار الغربي عليها، وهو دور يخالف كل أخلاقيات العلم والمعرفة، وكانت المحصلة النهائية أن الاستشراق مارس تأثيراً سلبياً على الإسلام والمسلمين، وظهر ذلك واضحاً في سيل الدراسات والكتابات الاستشراقية؛ فمعظمها يرسم صورة بالغة السوء عن الإسلام والمسلمين، بجهالة أو سوء نية، لكنها ساهمت في إفساد الرأي العام الأوروبي والغربي في كل ما يتعلق بالإسلام، بل وأفسدت أيضاً تصورات كثير من المسلمين أنفسهم عن الإسلام خاصة المثقفين والأكاديميين، فأي باحث مسلم يعتمد بصفة أساسية على الكتابات الاستشراقية في كل ما يتصل بالدراسات والكتابات المتعلقة بالإسلام أو التاريخ الإسلامي باعتبارها رائدة في هذا المجال، ومن ثم يتحمّل بكثير أو قليل مما تحمله من أكاذيب أو مغالطات، وعلى سبيل المثال لا أعتقد أن باحثاً لا يستعين بدائرة المعارف الإسلامية التي أعدها مستشرقون أوروبيون التي صدرت بثلاث لغات أوروبية (ألمانية/ إنجليزية/ فرنسية)، وترجمت إلى كل اللغات الإسلامية، وتتضمن تشويهاً للعقيدة والتاريخ والفكر الإسلامي؛ إذ خضع فيها الإسلام للدارسة وفق مناهج ورؤى غربية متباينة (مسيحية، يهودية، علمانية، استعمارية)، كلها بعيدة عن الإسلام الصحيح، وتحمل جناية بالغة عليه، لذلك كان لا بد من الاتجاه إلى تصحيح مسار الاستشراق، والدعوة إلى استشراق جديد.
ولكن ألا يتجاهل ذلك الآثار الإيجابية للاستشراق، والدور البارز لعدد من المستشرقين المنصفين؟(24/72)
لا بالطبع، أنا أدرك وجود آثار إيجابية لكنها قليلة إذا ما قورنت بالسلبي منها، كما لم تخل أبداً من الغرض، ربما باستثناءات قليلة جداً، كلنا يذكر جيرمانوس وزيجريد هونكة وأناماري شميل وليوبولد فايس وغيرهم، ويذكر لهم إنصافهم وموضوعيتهم، ولكن هذه استثناءات نادرة، أما القاعدة فهي غير ذلك، ومعظم المستشرقين كانوا أصحاب غرض ومتحاملين فطرياً وعقائدياً ضد الإسلام والمسلمين، أو ارتبطوا بأهداف استعمارية بحتة، وللأسف هؤلاء كانوا الأكثر إنتاجاً وتأثيراً في الوقت نفسه، حتى إن معظم الأكاديميين والمثقفين العرب والشرقيين تتلمذوا عليهم، وتأثروا بأفكارهم ومناهجهم، التي ما زالت مسيطرة على الدراسات الإنسانية والاجتماعية في بلادنا، خاصة وأنهم نجحوا في فرضها على جامعاتنا ومناهجنا العلمية الحديثة منذ إنشائها، لذلك فما زال كاردايفو وكازانوفا وسانتيلانا وجولدتسيهر وكارلونالينير وبروكلمان وأربري... وغيرهم من كبار المستشرقين المعروفين بتعصبهم وأهدافهم الاستعمارية هم المعروفين والمؤثرين في حقل الدراسات الإنسانية في عالمنا العربي والإسلامي.
وكيف سيتجاوز الاستشراق الجديد هذه العيوب والسلبيات؟
الفكرة تقوم على إعداد وتأسيس جيل من الباحثين والأكاديميين الذين تتوافر فيهم الشروط الموضوعية للقيام بالدور الاستشراقي؛ وأهم هذه الشروط:
البعد عن الغرض، وعدم التحامل أو التعصب، مع توافر الإمكانات اللازمة للعمل في الحقل الاستشراقي.
وأعتقد أن المسلمين الغربيين، وخاصة أبناء الجيل الثالث من المسلمين هناك أفضل من يمكنه القيام بهذا الدور، وتتحقق فيه الشروط اللازمة له؛ فهم بعيدون عن التعصب ضد الإسلام أو التحامل عليه، وأقدر على فهمه وإدراك معانيه من الغربيين غير المسلمين، كما أنهم أكثر قدرة أيضاً على تكوين ثقافة إسلامية، وإجادة لغات العالم الإسلامي، بالإضافة إلى قدرتهم على الاستفادة من الإمكانات والمناهج العلمية والغربية، وتمكنهم من اللغات والأدوات الغربية اللازمة للعمل في هذا الحقل نظراً للخبرة الغربية فيه، ومهمة الكلية إعداد هذا الجيل في قلب أوروبا لتحقيق المعادلة الصعبة، والقيام بهذه المهمة، وتصحيح مسار حركة الاستشراق من أجل خدمة الإنسانية التي ستستفيد كثيراً من تصحيح الرؤية السائدة عن الإسلام، وإعادة تصوره على حقيقته.
وما حجم الاستجابات لهذه الفكرة؟
كبيرة بالنظر إلى حداثتها؛ إذ لم يمر عليها سوى ثلاثة أشهر، فالاستجابة الكبيرة ليست فقط في الترحيب البالغ الذي لاقته من ضيوف المحاضرة - وكلهم من البارزين في الحقل الإسلامي والأكاديمي في أوروبا -، وكذلك الاهتمام الواسع الذي أبدته الصحف الأوربية، بل وفي السرعة التي تبنت بها جامعة روتردام الفكرة؛ حيث بدأت فعليّاً إجراءات تأسيس الكلية، وأسندت إلىَّ عمادتها والإشراف على وضع هيكلها الإداري والتعليمي، وتحدد لها عام 2001 كبداية للدراسة بها، على أن تبدأ الدراسة بقسم الدراسات العثمانية، ثم تستكمل بقية الأقسام (العربية، الفارسية، المالوية، والأوروبية)، ومدة الدراسة أربع سنوات، وقد بدأت بعض الجامعات استعدادها للاعتراف بالشهادة التي تمنحها الكلية؛ وكانت جامعة طشقند الدولية أولى هذه الجامعات، حيث وقعنا مع السيد نعمة الله إبراهيموف رئيس الجامعة بروتوكولاً بذلك، وفي انتظار ردود عدد آخر من الجامعات.
ولكن لماذا كانت البداية بقسم الدراسات العثمانية غير كونها تمثل تخصصك الأكاديمي؟
لأن الدولة العثمانية ليست فقط أطول الدول الإسلامية عمراً، وأكثرها اتساعاً؛ ولكن لأنها كانت نقطة الالتماس المشتعلة للإسلام مع الغرب منذ نشأتها وحتى سقوطها، فمنذ دخول العثمانيين مدينة القسطنطينية وحتى انهيار دولتهم بعد الحرب العالمية الأولى كان هناك صراع مع الغرب امتد إلى داخل أوروبا نفسها، وحمل معه بذوراً للصراعات المستمرة إلى الآن كما هو الحال في البلقان، وكثير من الأوروبيين لا يعرفون الإسلام إلا مقترناً بالعثمانية، لذلك فتشويه الإسلام والتحامل عليه في الأدبيات الأوروبية والغربية عموماً مرّ ببوابة الدولة العثمانية التي صارت أكثر دول الإسلام - ربما في التاريخ كله - التي تمثل نموذجاً لجناية الاستشراق، وتجسيداً لعيوبه وسلبياته، حتى إننا لا نجد مستشرقاً واحداً منصفاً لها طوال تاريخها، لذلك كان لا بد أن تبدأ عملية تصحيح المسار الاستشراقي من الدولة العثمانية؛ خصوصاً أننا نعيش في هذا العام ذكرى مرور سبعمائة عام على تأسيسها (1299م- 1999م)، وأعتقد أنها مناسبة لتأسيس هذا القسم والبداية به، بالإضافة إلى أننا كنا نمتلك تصوراً واضحاً عنه، ولدينا إمكانيات البدء فيه فعلياً بعكس بقية الأقسام التي ما زلنا بصدد البحث في تشكيل هياكلها ومقرراتها الدراسية، بل واختيار أعضاء هيئة التدريس بها.
هل كان ذلك سبباً في تأجيل بدء الدراسة بالكلية إلى عام 2001 بدلاً من عام 2000 الذي سبق الإعلان عنه؟!(24/73)
أبداً السبب الرئيسي هو أننا فضلنا انتظار تخرج أول دفعة من جامعة روتردام الإسلامية لتكون النواة الرئيسية لكلية الدراسات الشرقية، لأنهم أفضل من تتوافر فيهم الشروط المطلوبة لها.
ولكن هل بدأ فعلياً الإعداد للأقسام الأخرى؟
نعم بدأنا الاتصال بعدد من الأكاديميين في أنحاء متفرقة من العالم الإسلامي، خاصة مصر وتركيا وبعض دول آسيا الوسطى وشرق آسيا، ووصلتنا ترشيحات لعدد كبير منهم، ولكننا ما زلنا في مرحلة الدراسة والتقديم تمهيداً لاختيار أكفأ المرشحين، وهذا ربما يستغرق بعض الوقت، خاصة وأننا نحتاج لمتخصصين غير تقليديين، ولديهم القدرة على استيعاب الفكرة وتطويرها والإفادة فيها، ولكننا نتوقع أن ننجز ذلك في موعده - بإذن الله -.
http://www.islamonline.net المصدر:
==============(24/74)
(24/75)
موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية
أ. د أكرم ضياء العمري
إن موضوع الاستشراق ليس من الموضوعات التي تُطرق للمرة الأولى، وإنما طرق في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص مراراً في مؤلفات، وكتب، ومحاضرات، ومقالات صحفية، وتحقيقات في المجلات والدوريات، ولكن النظرة إلى الاستشراق كانت تتغير باستمرار حتى انتهت إلى الصورة التي يمكن أن تعتبر واضحة في أذهان الأجيال.
فعندما كنا نطلب العلم في المرحلة الجامعية في مطلع الخمسينيات كنا نستمع إلى آراء تتصل بالعقيدة، أو الشريعة، أو التاريخ، أو التفسير، أو الثقافة الإسلامية، وكانت هذه الآراء تطرح بلسان عربي من قِبل أساتذة ينتمون إلى أمتنا، ويتكلمون بلساننا، وكنا نظن أن الأقوال هي اجتهاداتهم في هذه الموضوعات المختلفة، لكن بعضهم كان أحياناً يعزو، فإذا ما عزا القول لصاحبه عرفنا أنه يتبنى رأياً لأحد الدارسين الذين كانوا يسمون دارسين غربيين، لكن معظم الآراء ما كانت تُعزى - وهذا أخطر بالطبع - لأن الأستاذ يتكلم وكأنه يجتهد في فهم النصوص فيوجهها في حين أنه يكون قد درس كتاباً باللغة الألمانية أو الفرنسية أو الانكليزية وهو يحاضرنا من خلال ذلك الكتاب.
ومع مرور الأيام بدأت صورة الاستشراق تتضح، وأبعاده تستبين، ولكن بعض الدارسين يرى أن ذلك لم يتم أو لم يصبح واضحاً في أذهان المثقفين من أبناء أمتنا إلا قبل عقدين من الزمان فقط، ليس معنى ذلك أن اسم الاستشراق ما كان يظهر على ألسنة الناس، وما كانت بعض أقوال المستشرقين المتداولة في الأوساط الجامعية وغيرها لتعرف بأنها أفكار وآراء استشراقية، ولكن معرفة أن الاستشراق ليس مشروعاً فردياً وإنما هو مؤسسة متضامنة متعاونة على اختلاف البلدان التي ينتسب إليها المستشرقون، وعلى اختلاف اللغات التي ينطقها المستشرقون، على اختلاف سياسات الدول التي ينتمون إليها تبقى المؤسسة من وراء ذلك تتسم بصفات ثابتة في التعامل مع التراث الإسلامي.
منذ مئة وخمسين سنة وحتى الوقت الحاضر يصدر في أوروبا بلغاتها المختلفة كتاب كل يوم عن الإسلام، هذه الإحصائية التي ننتهي إليها عندما نعرف أن ستين ألف كتاب قد صدرت بين 1800 - 1950 م أي عبر قرن ونصف، وعندما نعرف أن في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد حوالي خمسين مركزاً مختصاً بالعالم الإسلامي، وأن المستشرقين يصدرون الآن ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات كما قرر ذلك بوزورث في (تراث الإسلام)، وأن المستشرقين عقدوا مؤتمرات دورية خلال قرن واحد - هو المئة سنة الأخيرة - ثلاثين مؤتمراً، هذا سوى المؤتمرات الإقليمية، وسوى الندوات، وبعض هذه المؤتمرات مثل مؤتمر أوكسفورد ضم قرابة تسعمائة عالم، فلماذا كل هذا الاهتمام بالإسلام، وبالشرق، وبالعَربِ، وبالقضايا التي تتصل بمنطقة بعيدة عنهم؟
طبعاً هناك بدايات لاستشعار الغرب لقوته العسكرية والسياسية بعد أن استقرت فيه معالم نهضته الفكرية والحضارية عبر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، ثم بدأ في اكتساح العالم خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكان هذا يقتضي أمرين:
أن يُهيأ الرأي العام الغربي لمثل هذا العمل، لأن الاقتحام العسكري، والاختراق الثقافي والسياسي والاقتصادي سيكلف الغرب الكثير، وينبغي أن يضحي من أجل ذلك بقوى عسكرية، وبإمكانات اقتصادية، وبتسخير قدرة الأجهزة العلمية - إلى حين - لهذه المشكلة المثارة، فالمستشرقون هم الذين صوروا الشرق أمام الغرب، هم الذين قالوا: من هم المسلمون؟ ما هي خصائصهم العقلية، ما هي ثقافتهم، ما هي أعرافهم وتقاليدهم، إلى أي شيء يدفعهم الإسلام، وكم يؤثر فيهم، في الوقت الذي توضع فيه الخطط العسكرية والاقتصادية.
هذا الأمر - تصوير الشرقيين أمام الغربيين - كان هدفاً من الأهداف الكبيرة لحركة الاستشراق، إذ كان المطلوب إعطاء صورة معينة تمكن من الغزو العسكري، والاقتصادي، والثقافي، وهكذا بدأت الدراسات التي اتسمت بطابع عرقي في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، والتي أدت أولاً إلى تقسيم البشر إلى ساميين وآريين وحاميين، وأن هؤلاء البشر يتمايزون تمايزاً عرقياً، وأن خصائصهم العقلية والجنسية تتباين، فالساميون لا يمتلكون القدرة على التفكير البعيد في المستقبل، وهم أيضاً لا يمتلكون القدرة الكافية على التنظير العقلي والربط بين الجزئيات، وهذا ما سماه المستشرق جب Gib - وهو يعتبر معاصراً لأنه إلى سنة 1965 م كان يدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد - عقلية ذرية، تتسم بتجزئة الأشياء، وعدم القدرة على تجميعها وتركيبها والنظر إليها بصورة شاملة.
إن الدراسات ذات الطابع العرقي قام بها أولاً أرنست رينان، حيث كتب عدة مؤلفات عن أصول الساميين، وعن فقه اللغات السامية، وفقه اللغات كان يتجه نحو تكريس الفرق بين الساميين والآريين، أو بين الشرق والغرب.(24/76)
ويعتبر العرب والمسلمون هم المركز الذي تدور حوله دراسات الاستشراق أكثر من بقية الأمم والشعوب، والدراسات التي تناولت الإسلام والمسلمين تختلف عن تلك الدراسات لبقية أرجاء الشرق، ولعل هذا لافت للنظر، لماذا تتسم الدراسات المتعلقة بالإسلام والمسلمين بالتحيز والتعصب والغضب؟ ولماذا لا تتسم بذلك الدراسات عن البوذية مثلاً، أو الهندوسية، أو الثقافات الأخرى أو الحضارات الأخرى كالصين مثلاً؟ ولماذا عندما تختص القضية بجانب إسلامي، أو بجانب يتصل بمجتمعات إسلامية عندئذ تظهر جذور الانفعالات المختلفة، والعصبيات المتنوعة والغيظ؟ هذه إحدى الملاحظات التي سجلها إدوارد سعيد، وهي في الحقيقة تستحق الانتباه إليها خاصة إذا راجعنا الاستشراق في بدايات نشاطه، لأن بداياته الأولى ترجع إلى فترات مبكرة أكثر، وترتبط بقصة الصراع بين المسلمين والغرب من خلال فتح الأندلس، ومن خلال الحروب الصليبية، ومن خلال الصراع في صقلية وجنوب أوربا، وهذا الأمر كان يجعل الإسلام يحتك بصورة مباشرة بالنصرانية التي كانت مؤسساتها الكنسية تسود العالم الغربي، وكانت هي التي تتوج الأباطرة والملوك، وتتمتع بملكية أرض واسعة مما جعلها القوة الرئيسية في الغرب، وهذا كله كان يجعل الإسلام في مواجهة مع الكنيسة النصرانية، ومن ثم اندفعت أعداد من القسس لدراسة الإسلام، فهذه البدايات الدينية كانت تتسم بالتشنج والعاطفية، والدراسات فيها اتهامات ممجوجة، وهي من السخف بحيث أن ذكرها في مثل هذا العصر ليس له من أثر، وإنما يدل على طبيعة العلاقات المنفعلة والمتسمة بالطوابع الذاتية في تلك الدراسات الاستشراقية الأولى.
والبعض يرى أن أوربا كانت تخشى من غزو إسلامي فكري في تلك الفترة، لأن المسلمين نقلوا الفكر اليوناني إلى أوروبا - أقصد عن طريق حفظ الكتب اليونانية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية عن العربية -، هذا الجانب لا يهمنا بوصفنا الإسلامي، ولكنه حدث وحدث معه أن ذهب أوروبيون ربما لطلب مثل هذه العلوم ابتداءً، ولكنهم احتكّوا ببيئة إسلامية في الأندلس، وكان البابوات يرصدون هذه الحركة، ويرون أنها خطرة على أوربا، وأنها تمثل غزواً حضارياً فكرياً إسلامياً، ومن هنا أنشئت مراكز الدراسات الاستشراقية المختلفة في أوربا بإذن من البابوات، وبتنسيق المجالس الكنسية، ووضعت في كمبردج وأوكسفورد وفي مراكز أخرى مثل ألمانيا.
كانت هناك قضية الصراع الفكري الديني، واستمر هذا التيار إلى أن ظهرت المرحلة الجديدة المقترنة بالتوسع الاستعماري، عندئذ صار من مهام الحكومات أن تسخر عدداً كبيراً من الباحثين ليكتبوا عن الإسلام والمسلمين باللغات الأوروبية، إذن الخطاب لم يكن موجهاً ابتداءً لناطقي العربية، أو اللغات الشرقية، وإلا لكانت الكتابة باللغة العربية، بل كان موجهاً لأوروبا، أن هذه هي صورة الإسلام فلا تتحولوا إليه، وإذا كانت هذه هي صورة المسلمين فلا تلوموننا إذا اقتحمنا ديارهم، ولا تلوموننا إذا استنزفنا خيراتهم، ولا تلوموننا إذا تعصبنا ضدهم، لأن هؤلاء القوم يتسمون بخصائص عقلية وجنسية وثقافية لا تمكنهم من النهوض بأنفسهم، وهم بحاجة إلى عوننا، والدور الذي سنقوم به والذي سنحدثه إنما هو لصالح الحضارة الإنسانية، ويستمر هذا الخطاب عبر قرن من الزمان وهو القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي اشتد فيه الاستشراق، واشتدت فيه مؤسساته، وأوزرت من قبل الحكومات المختلفة الأوروبية.
ومنذ مطلع القرن العشرين وإلى الوقت الحاضر نعلم كيف برزت منطقة الشرق الأوسط، وأهمية هذه المنطقة استراتيجياً واقتصادياً، وبالتالي فإن الدراسات الاستشراقية استمرت واتصلت، كما أن مؤتمرات المستشرقين واصلت طريقها بدعم من الحكومات، ومن المؤسسات، ومن الأغنياء (الأفراد) من الأمريكيين والأوروبيين، ونجد أن الاستشراق الروسي يبرز بشكل أقوى منذ الثورة البلشفية سنة 1917 م، إذ لا بد من دراسة القوم الذين يراد لهم أن يُستعمروا، ولا بد أن يعتقد الغربي أن العمل إنساني وحضاري، وكيف مُثَّل الإسلام أمام الغرب؟
أولاً: لا وجود حقيقي للإسلام في الغرب لعدم وجود المؤسسات القوية القادرة على تمثيله، وهذا ولَّد فراغاً، ومكَّن المؤسسات الاستشراقية ومن ورائها عدد كبير من الدارسين الغربيين الذين لا يعرفون العربية ولكنهم يتلقون الصورة من خلال المؤلفات الاستشراقية.(24/77)
لقد ظهرت دراسات تحليلية كثيرة في القرن العشرين عن الإسلام والمسلمين، وعن القرآن الكريم، وعن السنة النبوية، وعن السيرة النبوية، وعن الثقافة الإسلامية، وعن الشريعة الإسلامية، وهذه المؤلفات قامت بعقد دراسات مقارنة، والمقارنات منذ القديم تستهدف شيئاً أساسياً وهو تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مصلح اجتماعي عكس ضرورات البيئة العربية في مكة، ويقول جب Gib: " إنه نجح لكونه أحد المكيين " بمعنى أنه عبَّر عن الحاجيات المحلية، ومهما اختلفت العبارات ما بين قسوة كاملة تتسم بسوء الأدب عند ذكر الرسول، - عليه الصلاة والسلام - وهذا ما يقوله المستشرقون المتأخرون عن المتقدمين بأنهم أساءوا جداً -، وبين دراسات أكثر موضوعية وحياداً، ومهما اختلفت الصورة تبقى هناك قضية أساسية وهي أن جميع المستشرقين - متسامحهم ومتعصبهم - يتأثرون بوسطهم الثقافي المعادي للإسلام إلا من أسلم منهم، وهم قلة كما تعلمون مثل " أتين دينيه "، صاحب " محمد رسول الله " و " أشعة من نور الإسلام " وهو فرنسي، ومثل " موريس بوكاي " الذي قارن بين القرآن والانجيل والتوراة، ولما تبين له أن الكتب السماوية المحرفة تتناقض مع العلم، وأن القرآن لا يتناقض مع أية حقيقة علمية ثابتة عندئذ أعلن تشهده وإيمانه بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبأن القرآن كلام الله، وهو من كبار العلماء الفرنسيين في الطبيعيات، وهؤلاء قلة أمام الكثرة الكاثرة التي استمرت تصور الرسالة الإسلامية على أنها هرطقة ( الهرطقة: اصطلاح يطلق على المنشقين عن الكنيسة النصرانية ) فهم يرون أن الإسلام هرطقة، وحركة خارجة عن النصرانية، وأن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يكن نبياً موحى إليه وإنما كان على حد أحسن تعبيراتهم وهو ما يقوله مونتغمري وات أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة لندن، وهو من أحدث الذين كتبوا في السيرة النبوية من المستشرقين في كتابيه: " محمد في مكة، محمد في المدينة " وهو يقول: " إن محمداً صادق، لأنه يخيل إليه أنه بعث نبياً، وأنه يحمل رسالة، وأنه يوحى إليه ".
هذا المستشرق لأنه يعيش في هذا القرن الذي تبلورت فيه علوم جديدة لم تكن موجودة عند المستشرقين في القرن التاسع عشر أو القرن الثامن عشر أو القرن السابع عشر أو مع البدايات الاستشراقية مثل: علم النفس التحليلي، علم الاجتماع، والعلوم الاقتصادية والاجتماعية الحديثة، لذلك نجد أن تقنية البحث عند مونتغمري وات تختلف عن التقنية القديمة من حيث أنه يمزج دراسته بهذه الألوان الجديدة من العلم، وهذا قد يولد قناعة عند بعض القارئين ممن لا يعرفون السيرة النبوية معرفة دقيقة، أو ممن لا يعرفون الإسلام بصورة تفصيلية، فهو يزعم أن عملية الوحي إنما هي استشعار داخلي ولكن بصدق، فهو لا يشكك بصدق شعور النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة، ولكنه يظن أن هذا إنما هو استشعار داخلي، وقناعة ذاتية، دون أن يكون هناك شيء خارجي اسمه الوحي.
وعندما يأتي إلى قضية الاختلاف بين أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وبين أسلوب القرآن المتميز هنا يلجأ إلى علم النفس التحليلي، فيقول: إن النبي عندما يقرأ القرآن على الناس يكون في حال يضعف فيها الوعي الخارجي، ويعمل وينشط اللاشعور أو العقل الباطن، فعندئذ يكون الأسلوب مغايراً لأسلوبه عندما يكون في يقظته العقلية الكاملة، أو وعيه الظاهر الكامل، ومن هنا يأتي أسلوب الحديث مغايراً لأسلوب القرآن، نحن نعلم أن مغايرة أسلوب القرآن لأسلوب الحديث هو أحد الوسائل التي بنيت عليها موضوعات الإعجاز القرآني، باعتبار أن أسلوب القرآن أسلوب فريد متميز عن الأساليب البشرية، وأن الإسلام تحدى العرب - وهم أساطين البلاغة - بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وأن عدم استجابتهم للتحدي مع رغبتهم في ذلك يدل على أن الأمر كان عندهم ظاهراً، بحيث تميزت أمامهم الحقيقة وهي أن هذا أسلوب مغاير لأساليب البشر، ومن هنا تبرز أهمية هذه " الفذلكة " التي يقدمها مونتغمري وات لأنها تستهدف نقض قضية الإعجاز باعتبار أن هناك أساليب متغايرة تنجم إحداها عن الوعي الظاهر والثانية عن اللاشعور، بالطبع مثل هذا إذا قُيِل ينبغي أن يطبق على سائر الأساليب لسائر الكتاب والشعراء والمفكرين في أرجاء الدنيا، وإلا لماذا يختص محمد صلى الله عليه وسلم وحده بالأسلوبين؟ ونحن نعلم أن الدراسات المقارنة والدراسات الأدبية النقدية كلها مبنية على وحدة الأسلوب بحيث يقال: إن هذا الكلام ليس من كلام فلان لأنه مغاير لأسلوبه.
إن محاولات إلقاء الرؤى الثقافية المعاصرة على الإسلام منهج خطير، ومن الناحية العلمية لا يمكن قبوله لأنه مجرد إسقاط تاريخي لرؤية ثقافية حديثة، فقبل مونتغمري وات كان المستشرقون يحتارون في تفسير ظاهرة الوحي قبل أن تبرز فكرة التحليل النفسي التي جاء بها فرويد الطبيب المشهور في مطلع هذا القرن، والتي أخذت مجالها في الدراسات النفسية والاجتماعية، وفي عالم الرواية الأدبية.(24/78)
كانت مشكلة الوحي تواجه المستشرقين ولا يتمكنون من إعطاء تفسير لها إلا باللجوء إلى الاتهامات التي سبق أن ذكرت على لسان الجاهلين في مكة عند نزول الإسلام، وللأسف في دراساتنا الجامعية وربما المرحلة الثانوية كانت تطالعنا أسماء لدارسين يسمون دارسين غربيين، وهذه الأسماء أصبح يطلق عليها فيما بعد اسم الاستشراق أو المستشرقون، وكانت انطباعاتنا عن البعض أنه معتدل، فكان يقال لنا مثلاً: إن دانتي له تأثير كبير على نشوء الثورة الفرنسية، والتمهيد لها، ومعاداة الآراء الكنسية الباطلة والمخالفة للعلم، ودانتي الذي أُبرز والذي يعرفه ربما الكثير من العرب والمسلمين لأنه يأتي في المناهج الثانوية في كثير من الدول الإسلامية، ودانتي الذي ظهر لنا بمظهر الشاعر النابه، صاحب الكوميديا الإلهية التي ربطت عن طريق الدراسات المقارنة بقصة الإسراء والمعراج، وربطت أحياناً في الدراسات الأدبية برسالة المعري " رسالة الغفران "، ودانتي قيل لنا إنه شاعر نابه، وإن له تأثيراً في مجرى التاريخ الإنساني، وإنه أحد الممهدين للثورة الفرنسية - في رأيهم - مصدر الحرية والمساواة والتحرر الإنساني الذي يظنون أنه شمل أهل الأرض خلال القرون الأخيرة على إثر ظهور تلك الثورة.
موقف دانتي من الرسول صلى الله عليه وسلم :
دانتي يضع النبي - عليه الصلاة والسلام - في طبقة متأخرة من طبقات الجحيم، هذا الوجه الآخر من العملة لم يقولوه لنا، وإنما فقط قالوا لنا إن له أثراً إيجابياً، وعندما يقتنع الإنسان وهو صغير بأن هؤلاء هم نماذج الأبطال في التاريخ الإنساني، وإنهم هم رجال الفكر ورجال التحرر، ثم يأتي بعد ذلك - بعد أن يشب - ويقرأ مثل هذا الكلام لدانتي لن يغضب كثيراً، لأن ما عرفه عن دانتي يخفف من هذا العمل، ولأنه لم يعرف شيئاً عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فلماذا يغضب؟ ولكن يبقى أن أشير إلى ما ذكرته في البداية من كون خطاب دانتي بالفرنسية العالمية المستوى ليس موجهاً للعرب ولا للمسلمين، إنما هو في الأصل موجه لقراء الفرنسية، وأن المراد تشويه صورة محمد صلى الله عليه وسلم بغية الخلاص مما كانت تظنه الكنيسة ويظنه مفكرو الغرب حتى أعداء الكنيسة غزواً فكرياً إسلامياً.
نَسْبُ حسنات الإسلام إلى اليهودية والنصرانية:
إنَّ تلمس كل حسنات الإسلام ومحاوله نسبتها إلى أصول يهودية أو نصرانية هذا المنهج كان منذ البدء معمولاً به، ولا يزال حتى الوقت الحاضر يظهر في عبارات المستشرقين المعاصرين، فالقضايا التي تتصل بتوحيد الإله، وبطرح العقيدة الدينية يشار فيها إلى أثر بحيرا الراهب، وأثر ورقة بن نوفل، فكتب الحداد الذي لا نعرف اسمه - لأنه لم يصرح به - سواء في كتابه عن " المسيح والقرآن " أو " محمد والقرآن " أو كتبه الأخرى التي ظهرت حديثاً، وهذه الدراسات التي قيل إنها للأستاذ الحداد ركزت كثيراً على هذا الجانب وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان على صلة بورقة بن نوفل خلال خمسة عشر عاماً، وكان هذا الوقت منذ زواجه بخديجة الذي يزعم الكاتب أن ورقة زوجه بها، وهو أمر طبعاً منقوض تاريخياً لأنه معروف أن الذي زوجها هو عمها عمرو بن أسد، ولكن المهم إيجاد الصلة بورقة الذي يقول إنه كان نصرانياً، وكان على ثقافة كتابية، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم تلقى عنه الوحي الأول، ثم جاء الوحي الثاني في الغار.
هذه الكتابات الحديثة وهذه الرؤى ليست جديدة، وإنما منذ البداية كان المنهج يركز على أن حسنات الإسلام مقتبسة من سواه، لعدم إمكان إنكارها، لأن القرآن جاء بها، ولأن السنة أثبتتها، إذاً لا يوجد إلا طريق واحد وهو أن يقال: نعم إن الإسلام فيه هذا الجانب ولكنه مأخوذ عن النصرانية بواسطة ورقة بن نوفل، والإسلام فيه هذه الحسنة ولكن الذي أوحى بها إنما هو بحيرا الراهب، وبعضهم يريد أن ينسب الأمر إلى بعض اليهود الذين كانوا في شبه الجزيرة العربية، ونحن نعرف تماماً أن مكة لم يكن فيها يهود.
القصص الديني:
نعم هناك أوجه تشابه في القصص الديني بين ما ورد في التوراة وشرحه التلمود والإنجيل؛ وبين ما ورد في القرآن الكريم، ولكن هذا التشابه لا يعود إلى كون القرآن اقتبس تلك الصور عن التوراة والإنجيل، وإنما لكون الأصل واحد، نحن لا ننكر أن الإنجيل وأن التوراة من عند الله، ولكننا نقول ما أثبته القرآن من كون الإنجيل والتوراة لم يعودا كلمة الله - تعالى - بسبب التحريف الذي وقع، والذي لا يمكن تمييزه وتحديده وتخليصه بدقة من الحق، فكون الوحي الإلهي واحداً، وكون العقائد الدينية واحدة، والشرائع هي التي تختلف؛ هذا الأمر يؤدي بالطبع إلى أن يلتقي الوحي الإلهي للأنبياء جميعاً في بعض الجوانب.
ترجمات معاني القرآن:(24/79)
هناك ترجمات كثيرة لمعاني القرآن الكريم قام بها المستشرقون وهي تزيد على خمس وسبعين ترجمة، ونحن لا نعرف هذه التراجم، بل لا تكاد تجتمع في مكتبة من مكتبات العالم الإسلامي - وهذا بلا شك تقصير كبير -، إننا لا نعرف ماذا يكتب عنا، وكيف يترجم كتاب الله - تعالى -، وماذا يقال في تصديره للعالم الغربي، لابد أن نمثل أنفسنا وخاصة بعد أن أصبح عندنا العديد من المثقفين والكتاب ممن يعرفون اللغات الأجنبية، يجب أن نتكلم عن أنفسنا، ولا ندع المستشرقين يتكلمون عنا ويمثلوننا.
يقول جورج سيل في مقدمة الترجمة الإنكليزية لمعاني القرآن الكريم سنة 1736 م: " أما أن محمداً كان في الحقيقة مؤلف القرآن والمخترع الرئيسي له فأمر لا يقبل الجدل، وإن كان من المرجح مع ذلك أن المعاونة التي حصل عليها من غيره في خطته هذه لم تكن معاونة يسيرة، وهذا واضح في أن مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك، يشير إلى آيات القرآن (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون)، وقول الحق - تعالى -: (إنما يعلمه بشر)، المقصود أن هذه مقدمة لترجمة لمعاني القرآن إلى الإنكليزية، وهي من أقدم الترجمات!!.
هناك دراسة لمالك بن نبي وهي " الظاهرة القرآنية "، وفيها مناقشة دقيقة ومنطقية لما قيل من تشابه بين القصص الديني القرآني والقصص الديني التوراتي.
وينبغي أيضاً أن نلاحظ أن تمثيل الاستشراق للإسلام وللمسلمين بالنسبة للغرب ينعكس على قضايانا السياسية، وعلى علاقاتنا مع الغرب، حيث يتصور الرأي العام الغربي أننا أمة همجية، وأننا برابرة كما تزعم كثير من الدراسات، وأننا لا نمتلك مقومات حضارية، ولا نمتلك عقلية منطقية، ولا نفكر في المستقبل، هذا كله يمكن أن يؤدي إلى مشكلة في نطاق العلاقات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والصراع بين الشرق والغرب، لذلك فإن قيامنا بتمثيل أنفسنا هو الحل الأمثل، نحن الذين نطرح فكرنا وديننا وعاداتنا لكنه ينبغي أن نعترف أننا حتى الآن لم نمثل أنفسنا أمام أنفسنا، أقصد لازلنا ندرس الإسلام، ولازلنا ندرس أوضاع المسلمين، وندرس شرائح كثيرة تاريخية، وجغرافية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية؛ من خلال الدراسات الغربية والاستشراقية، وأن مناهج جامعاتنا في أرجاء العالم الإسلامي مليئة بمثل هذه الكتب، وحتى تلك الكتب التي ألفها عرب لو قارناها بدقة فإننا سنجد أن كثيراً من الأفكار مترجمة دون عزو عن الاستشراق.
فلابد إذاً من أن نبني صرحنا الثقافي الفكري الديني بأنفسنا، وأن تكون دراستنا مستقلة ذات مناهج مستقلة، ورؤى مستقلة، وأن هذا الذي يطرح لا يكون متأثراً وغارقاً في بؤرة الاستشراق، أن نمثل أنفسنا أولاً عن طريق بناء الصرح العلمي والرؤى الإسلامية الخالصة المنبثقة عن كتاب الله - تعالى - وسنة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم أن نعكس هذا على الغرب بترجمات إلى اللغات العالمية المختلفة، لكن الذي حدث أن المستشرقين مثلونا أمام الغرب، وبعد أن شوهوا الصورة تماماً خلال قرنين من الزمان وعادوا إلى عكس الصورة، فبدل أن يكون الإنشاء يخاطب به الغربي باللغة الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية صار الخطاب - بعد الترجمة للعربي وللمسلم الذي يقرأ العربية أو بعض اللغات الإسلامية الأخرى، إذن عكس الخطاب الذي شوّه الصورة أمام الغربي، بحيث قبل أن نُستعمر " لأننا بحاجة إلى الاستعمار، قبِل أن نُخترق لأننا لا نستطيع النهوض بأنفسنا، ولئلا نبقى بعيدين عن الحياة الطيبة التي لا بد أن تكون ثمرة من ثمرات الاستعمار وخيراته علينا!! ".
وتعكس الصور منذ مطلع القرن العشرين إلى الآن بشكل ترجمة إلى لغاتنا، فتحول الخطاب القديم إلى الأوربي إلى خطاب جديد للمسلم، وبنفس الأفكار والتوجيهات التي تولِّد الشك في نفس المسلم.
أولاً: لأن التربة صالحة لبذر أية فكرة، فلا توجد تربية إسلامية موجهة لكل أبناء العالم الإسلامي ولأجياله الصاعدة، ولا يوجد تغذية بالقرآن والسنة ومفاهيم الإسلام بشكل يحصن الشاب المسلم عن تقبل مثل هذه الأفكار.
ثانياً: هذا الخطاب يحطم الأمة لأن المعنوية التي تأتيها من صلتها بالقرآن، بالوحي الإلهى كتاباً وسنة، واستشعارها بأنها الأمة الوحيدة التي تحمل وحياً إلهياً خالصاً من التحريف، هذا الاستشعار يمكن أن يعيدها إلى مجد حضاري جديد، والمجد الحضاري الجديد معناه وقف المصالح للعالم الغربي، معناه توجه المنطقة توجهاً مستقلاً يحفظ كرامتها وشخصيتها وهويتها الإسلامية وثقافتها التاريخية وتطلعاتها نحو مستقبل أفضل.(24/80)
قبل ثلاثة عقود في المرحلة الجامعية كان الأستاذ يتكلم بلسان الآخرين، وطبعاً هناك أناس متدينون في القاعة، ولازالت الطينة بصورة عامة فيها بقايا خير كثير، ولازالت لم تتسخ كثيراً، من الصعب أن يقول الإنسان ائتمر أبوبكر وعمر وأبو عبيدة على انتزاع الخلافة، ولكن يستطيع أن يقول ذلك على لسان الأب " لا مانس "، ويسوق هذا الكلام ثم يسكت، والمهم أن الصورة التي تكونت في أذهان الطلبة الجامعيين أن هؤلاء الصحابة أناس يأتمرون بينهم على انتزاع سلطة وخلافة دنيوية، وأنهم ليس كما يقول المسلمون عنهم من كونهم ربوا على عين النبوة، ونشأوا مع آيات الوحي، وتمثلوها قولاً وعملاً، وبما أنهم نماذج الإسلام الأولى فلا يعقل أن آخرين سيأتون بعدهم يصبحون نماذج أفضل، وهكذا فإن الإسلام ليس ديناً واقعياً يربى رجالاً نظيفين وأقوياء وإنما مجرد خيال ومثاليات.
كم أُثني على " توماس كارليل صاحب الأبطال الذي ترجم إلى العربية، إنه جعل النبي بطلاً تاريخياً، وأنه مستشرق منصف، والآن اقرأوا فقرة من كلام كارليل عن القرآن، يقول: " هو خليط مهلهل مشوش، محل خام، مستغلق، تكرار لا نهاية له، وإسهاب وإطناب ومعاضلة، خام إلى أقصى الدرجات، ومستغلق وبإيجاز غباء فارغ لا يطاق ". هذا الكلام نقله إدوارد سعيد - وهو أستاذ جامعي أمريكي نصراني من أصل عربي - نقله عن كارليل في كتابه " الاستشراق "، وكتاب " الاستشراق " هذا يعد من أقوى ما كتب في فضح المستشرقين، ومناهجهم، وتعريتهم، ووضعهم في الإطار الكلي من قبل رجل ليس مسلماً ليقال إنه يتعصب للإسلام وللمسلمين، وإنما هو رجل نصرانى، ومنذ أن كُتب هذا الكتاب وصُدِّر إلى أسواقنا بالعربية سنة 1981 م تتالت كتابات مسلمين أستثيروا، فظهرت عدة دراسات أثارت نفس القضايا الكبرى سواءً ما تعرض له إدوارد سعيد، أو أخذت نماذج من الاستشراق كالهولندي، كما فعل الدكتور قاسم السامرائي في " الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية "، وكما فعل الدكتور زقزوق في محاضرته التي نشرت في سلسلة كتب مجلة " الأمة " عن الاستشراق، وثمة كتاب يستحق أن يشار إليه وهو " مناهج المستشرقين " الذي طبعه مكتب التربية لدول الخليج العربي والذي يقع في مجلدين تحت عنوان " مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية " فلا شك أن هذا الكتاب يعد عملاً نقدياً رائعاً في مجاله، ولكن الكُتَّاب لم يتمكنوا أن يقولوا كل ما يريدون لأنهم كتبوا بحوثاً ومقالات اجتمعت في المجلدين، والأمر يحتاج إلى جهد أكبر ليُفحص كلام الاستشراق، وكيف طُرح على الغرب، وكيف تكونت صورة العربي والمسلم في ذهن الغربي المعاصر، ثم إذا ما عُدِّل المخاطب أو المراد بالخطاب إلى الشرقي المسلم العربي ما الذي سينتج بعد ربع قرن إذا ترجم ستون ألف كتاب أو عشرون ألف منها إلى لغات العرب والمسلمين.
لا ينظر إلى الأمر من زوايانا ونحن ندرس في كلية قرآن، وكلية حديث، وكلية شريعة، وكلية لغة عربية، لا ينظر الأمر من هذه الزاوية، وإنما ينبغي أن ننظر برؤية واسعة إلى العالم الإسلامي، إلى تلك الأجيال التي تعد بالملايين والتي لا تعرف عن الإسلام إلا الشهادة وإلا بعض المظاهر العامة، ماذا لو نوقشت قضية الوحي الإلهي، وتطبيقات علم النفس التحليلي عليه؟ ألا يتسرب الشك إلى عقل خال وليس عنده من تصور لقضية الوحي الإِلهي؟ بالطبع ليس معنى ذلك أن هذه القضية هي من بنات أفكار هذا القرن، نعم إن استخدام التحليل النفسي هو من أفكار القرن لارتباطه بعلم معين، أو فرع معين من فروع علم النفس، ولكن قبل ذلك ماذا قيل؟ قيل إن النبي - عليه الصلاة والسلام - يُصْرَع، ولكن المستشرقين الذين تأخروا لما درسوا ظاهرة الصَّرَع من الناحية الطبية وجدوا أن الدعوى لا يمكن أن تقبل لأن المصروع يفقد عقله، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان على أتم اليقظة والوعي واستحضار العقل بل شدة التركيز، بحيث قال له الله - تعالى - ألا يفعل ذلك إشفاقاً عليه (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتَّبِع قرآنه ثم إن علينا بيانه)، وعده الله - تعالى - بأن يجمع ذلك له، بأن يُحفظهُ إياه دون هذا التركيز العقلي المشدود، فأين هذا من حال المصروع؟ فالمصروع كما نعلم يهذي لكنه لا يأتي بقرآن مبين، لا يتناقض إطلاقاً، وعدم التناقض إطلاقاً ليس إلا من صفات الله - سبحانه وتعالى-، ولذلك قال الحق: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).
أيضاً قالوا لنا بأن " جوستاف لوبون " الفرنسى الذي كتب " حضارة العرب " رجل حصيف، ورجل عادل، وهو يثني على العرب وحضارتهم، وكتابه هذا اعترف بمكاننا، ولكنهم لم يقولوا لنا ماذا يقول جوستاف لوبون عن القرآن، يقول: " ليس في عامية القرآن ولا صوتيته أو هويته الصبيانية التي هي من صفات الأديان السماوية ما يقاس بنظريات الهندوس "، يعنى لوبون يرى أن القرآن الكريم في لغته، وفي أفكاره؛ لا يرقي إلى الهندوسية، ثم ينكر شمولية القرآن، ويرى أنه مؤقت لعصره، وأنه لا يحقق حاجات الفرد في عصور لاحقة بل يجعله سبب تخلف المسلمين.(24/81)
إن خلط السم بالدسم بالثناء على الحضارة العربية وأنها تستحق الإشادة بها، ومن ناحية ثانية الطعون في القرآن والرسولل صلى الله عليه وسلم ، وفي ظاهرة الوحي يعنى أن المقصود هو الطعن، وأما الإطار بالثناء على حضارة العرب فهو للتخدير، لأنه في حالة الوعي الكامل سيرفض القارىء الشتم، ولكن إذا قيل له إنك إنسان نبيل ونابغة ومهذب ولا ينقصك إلا كذا - وهذا " الكذا " يفقد الإنسان قيمته - هذا هو الأسلوب والمنهج المتبع في معظم الدراسات الاستشراقية في القرن العشرين، فهي لا تتجه إلى الأساليب المباشرة، وإنما تتجه إلى تغليف الكلام.
وقد كتب جولد زيهر مئات البحوث عن الإسلام والمسلمين، وعشرات الكتب الكبيرة، وأشهر كتبه " مذاهب التفسير الإسلامي " الذي يمثل نضجه الثقافي حيث كتب قبل ذلك " دراسات إسلامية " و " العقيدة والشريعة "، وهذا المؤلف المجري اليهودى أثر على كثير من أساتذتنا الذين تكلموا عن تاريخ الحديث النبوي في مطلع القرن، واستمرت آراؤه تحظى باحترام العديد من الدارسين في الغرب هو و" شاخت " صاحب كتاب " أصول الفقه الإسلامي "، ولا يمكن في هذا البحث الوجيز استعراض كل ما قيل في هذا المجال وإنما المراد هو إيضاح أن الاستشراق وإن كان قد بدأ حركة دينية ثم تحول إلى حركة مقترنة بالسياسية بحيث اشتغل معظم المستشرقين بل كلهم إلا اليسير في دوائر المخابرات الأجنبية، وخدموا وزارات الخارجية، وهذا معروف عن أساطينهم مما لا يولد الشك في اقترانهم بالسياسة، وأن ما يكتبونه يراد منه خدمة واقع سياسي، وأنه حتى بعد التطور الحديث من مطلع القرن العشرين وحتى الآن لازال يواصل خطاه، وأن ما يبدو عليه من تعميق لبحوثه بالإفادة والاستثمار للعلوم الحديثة لن يخلصه من الإطار القديم المرسوم له، فأهداف طرح الشرق أمام الغرب بصورة مشوهة ثم عكس القضية لإضعاف ثقة المسلمين بأنفسهم، بدينهم، بماضيهم، هذا كله إضافة إلى زرع بذور العنصرية والتفرقة بين الأمة الإسلامية بشتى الطرق.
وفيما يلي عرض لجملة من آراء المستشرقين في السنة النبوية:
المستشرقون والسنة:
لم يفرد المستشرقون القدامى السنة بدراسات مستقلة، بل ركزوا على العقيدة والقرآن والسيرة والتاريخ.
في نهاية القرن السابع عشر كتب هربلو وهو فرنسي (1635 - 1695 م) صاحب المكتبة الشرقية وهي دائرة معارف عن الشرق نُشرت 1738 م - بحثاً في (حديث، قصة، خبر مسموع مقول، أحاديث الرسول، حديث عن أشياء قالها الرسول الزائف، وقد نقل من فم إلى فم، ومن شخص إلى آخر)، وخلاصة رأيه أن جملة الأحاديث التي في الكتب الستة والموطأ والدارمي والدار قطني والبيهقي والسيوطى مأخوذة إلى حد كبير من التلمود، ويلاحظ أنه يفرق بين السنة التي التزم المسلمون بتطبيق أحكامها وبين الحديث الذي هو مجرد خبر تاريخي غير موثوق!!.
كذلك يلاحظ في دراسة هربلو التكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم ، واتهامه بالزيف والألقاب الأخرى الشائنة، والزعم بأن المحمدية مستقاة من التلمود، واليهود الذين دخلوا في الإسلام، مما سيتطور فيما بعد إلى الاستقاء من عدة ديانات وحضارات كانت على صلة بجزيرة العرب، وكذلك اتهام المسلمين بعدم التمييز في دراسة أصول شريعتهم، مما تبناه " جولد تسيهر " و" شاخت " وهما أبرز من تناول موضوع السنة من المستشرقين، وقد جعل الزهري أول من جمع الحديث، مما يولد فجوة تاريخية بين مرحلة النطق بالأحاديث وتدوينها مما يشكك في إمكانية الثقة بها.(24/82)
وفي القرن الثامن عشر قسم المستشرقون حقول الدراسات الشرقية بصورة موضوعية، وفي نهاية القرن برز الأمير كايتاني (1869 - 1926 م)، وميور (ت 1905 م)، وشبرنجر Sp r enge r (ت 1893 م) وكانوا مهتمين بتاريخ السنة، واعتقدوا الشك في صحة الأحاديث، وسعوا للكشف عما أسموه " المادة الأصلية للحديث "، أفاد من الثلاثة أحد المتضلعين بأصول اللغات السامية والتاريخ الإسلامي هو إجناس جولد تسيهر (1850 - 1921 م) الذي درس بالأزهر، وهو مجري الجنسية، يهودي الديانة، وقد اعتبره المستشرقون - ومن تأثر بهم - الرائد الأول في دراسة الحديث ونقده بالاستعانة بمنهج النقد التاريخي، حيث توصل إلى فكرة تطور الأسانيد والمتون في الفكر الإسلامي، ولا شك في أهمية تأثيره على سير الدراسات الاستشراقية في حقل السنة، ويرى أن وضع الحديث بدأ في جيل الصحابه المبكر، وإن كان يثبت وجود مادة أصلية، فهو يعترف بوجود أحاديث مكتوبة في الصحف في أيدي الصحابة، لكنه رغم ذلك يرى أن التدوين للسنة لم يبدأ إلا في القرن الثاني، وأن معظم الأحاديث - في رأي جولد تسيهر - وضعتها الفرق السياسية الكلامية والمذهبية في القرنين الثاني والثالث، لذلك هي تعكس تطور المسلمين السياسي والفكري خلال القرنين ولا تمت غالباً إلى القرن الأول بصلة، ويركز على الصراع بين الأمويين الذين يصورهم بصورة الطغاة الجهلة وبين العلماء الأتقياء وأنصار أهل البيت، ويتهم الزهري بوضع حديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد "، وقد عزا جولد تسيهر أصول الإسلام إلى اليهودية والمسيحية، وأكد على تأثير الهلينية في تطور الإسلام، وتأثير القانون الروماني في نمو التشريع الإسلامي.
لقد صارت دراساته دستوراً للمستشرقين من بعده، وقليل منهم انتقد بعض آرائه أو عدَّل فيها مثل فيوك Fueck (ت 1939 م)، وهوروفتس Ho r ovitz (ت 1931 م)، أما الأكثرية الساحقة فاكتفوا بتعميق آرائه بإضافة براهين جديدة أو تعميمها على حقول جديدة مثل كيوم، ونيكلسون، وهاملتون كب، وواط، وفنسنك (ت 1939 م).
وقد ركز فنسنك على أحاديث العقيدة في كتابه العقيدة الإسلامية، في حين ركز جوزيف شاخت (ولد 1902 م) على أحاديث الأحكام في كتابه أصول الشريعة المحمدية وكتابه الآخر مقدمة في الفقه الإسلامي - وهو يهودي الديانة بريطاني الجنسية -، وقد أكد شاخت على اختلاق الأحاديث، وأثنى كيب وسافوري على كتابه، واعتبره كيب أساساً لكافة الدراسات في الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي في الغرب - على الأقل -، في حين عده سافوري من أكبر علماء الشريعة الإسلامية في العالم.
وقد درس شاخت في مؤلفه (أصول الشريعة المحمدية) كتابي " الموطأ " لمالك، و" الأم " للشافعي، ثم عمم نتائج دراسته على كتب الحديث والفقه الأخرى، فقال بنظرية " القذف الخلفي " لتفسير تطور الأسانيد، وتتلخص آراؤه في زعمه اختلاق الجزء الأكبر من الأسانيد، واعتقاده أن أقدم الأحاديث لا يرقى إلي ما قبل سنة 150هـ، وأن الأحاديث اختلقها الفقهاء وأصحاب الفرق، وأن الشافعى هو الذي استحدث مبدأ حجية السنة، وكان العمل قبله على السنة المذهبية، وقد كان أثره كبيراً على جيله من المستشرقين.
لقد طعن شاخت في سند مالك عن نافع عن ابن عمر بأن نافعاً مات ومالك صغير وهذا خطأ، فمالك كان صاحب حلقة في مسجد المدينة في حياة نافع، وقد رد روبسون على شاخت في هذا السند في مقاله " الإسناد في الحديث النبوي "، وفي هذه المقالة عدل عن آرائه التي تابع فيها شاخت عندما نشر بحثه، حيث كان يشك في جملة الأحاديث، ويرى أن ما يمكن عزوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن وحده، والملاحظ أن كيوم وواط وروبسون كلهم من رجال الكنيسة.
وقد ظهر توجه نحو دراسة موارد الحديث، ونقد بعض وثائقه عند روبسون (ولد 1890 م) الأستاذ في مانشستر منذ سنة 1949 م، وقد أثبت أن ثمة مادة أصلية من الأحاديث خلافاً لما ذهب إليه شاخت ومن قبله جولد تسيهر، كما أنه لم يوافق كايتاني وشبرنجر (1813 - 1893 م) في القول بأن أسانيد عروة بن الزبير (ت 93 هـ) مختلقة ألصقها به المصنفون المتأخرون.
لقد أشار شبرنجر (ت 1893 م) إلى تعاسة نظام الإسناد، وأن اعتبار الحديث شيئاً كاملاً سنداً ومتناً قد سبَّب ضرراً كثيراً وفوضى عظيمة، وأن أسانيد عروة مختلقة ألصقها به المصنفون المتأخرون، وكذلك مقاله " أصول تدوين الوثائق عند المسلمين "، ولكنه أثبت تدوين الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على كتاب " تقييد العلم " للخطيب، وهذا ما خالفه فيه جولد تسيهر فيما بعد.
أما ميور معاصر شبرنجر فينتقد طريقة اعتماد الأسانيد في تصحيح الحديث لاحتمال الدس في سلسلة الرواة، ورغم أنه مثل شبرنجر أقر بأن ثمة مادة أصلية في الحديث لكنه اعتبر نصف أحاديث صحيح البخاري ليست أصلية، ولا يوثق بها.(24/83)
وأما كايتاني (ت 1926 م) فقد ذكر في حولياته أن الأسانيد أضيفت إلى المتون فيما بعد بتأثير خارجي، لأن العرب لا يعرفون الإسناد، وأنها استعملت ما بين عروة وابن اسحق، وأن عروة لم يستعمل الإسناد مطلقاً، وابن إسحق استعملها بصورة ليست كاملة.
وقد أثبت هوروفتس (1874 - 1931 م) معرفة عروة للإسناد، وأن الإسناد دخل في الحديث منذ الثلث الأخير من القرن الأول، وألمح إلى الإسناد الجمعي عند الزهري حيث يفيد وقوفه على عدة أسانيد للمتن الواحد.
ولكن هوروفتس يرى أن العرب أخذوا فكرة الإسناد عن المدارس التلمودية عند اليهود، ويرى - ويوافقه كيوم - تشابه المسلمين واليهود في نسبة شرائعهما إلى نبييهما.
ورد فيوك Fueck(ت 1939 م) على جولد تسيهر فبرأ المحدثين والفقهاء من تهمة وضع الأحاديث، وكشف عن منهج جولد تسيهر في التعامل مع الإسلام، وأنه يستخدم المذهب المادي لنقد التاريخ، ومنهج الشك، فانتهى إلى أن كل أحاديث الأحكام تعتبر زائفة، حتى يثبت العكس.
أما مرجليوث المعاصر لجولد تسيهر (1858 - 1940 م) فقد تابع جولد تسيهر، بل ذهب إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك أوامر ولا أحكاماً سوى القرآن!!
ويرى كيوم أنه لا يمكن إثبات صحة نسبة الأحاديث في الكتب الستة إلى الصحابة، ولكن لعل بعضها تسلم نسبته، ويفسر كيوم قول الزهري: " إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث " تفسيراً خاطئاً ليدلل على وضعه للأحاديث، وهو فهم جولد تسيهر من قبله.
ويتشبث نيكلسون بقول أبي عاصم النبيل: " ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث "، فذهب إلى أن شواهده في " دراسات محمدية " لجولد تسيهر، وأن أتقى العلماء كان يستعمل الغش في الحديث لتأييد أغراض سياسية ومذهبية، وقد بين الإمام مسلم أن الكذب يجري على لسانهم ولا يتعمدونه، وقال يحيى بن سعيد القطان: " ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير والزهد "، والكذب هنا على لغة أهل الحجاز وهو مطلق الخطأ.
ويرى كولسون وكيوم أن المحدثين يبحثون في الأسانيد شكلياً بدون الاهتمام بنقد المتون.
يقول كولسون: " إذا كانت سلسلة الإسناد متصلة، وكان كل فرد من أفراده عدلاً - من وجهة نظرهم - فحينئذ قبلوا الحديث، وصار شرعاً واجباً، ولا يمكن بسبب الإيمان السؤال عن متن الحديث لأنه وحي إلهي فلا يقبل أي نقد تاريخي ".
ويقول كيوم: " متى اقتنع البخاري بتحديد بحثه في سلسلة الرواة في السند مفضلاً ذلك على نقد المتن، صار كل حديث مقبول الشكل حتمياً بحكم الطبع ".
http://web.macam.ac.il المصدر:
==============(24/84)
(24/85)
مقدمة حول الاستشراق والمستشرقين
الاستشراق اتجاه فكري يعنى بدراسة حضارة الأمم الشرقية بصفة عامة، وحضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة، وقد كان مقتصراً في بداية ظهوره على دراسة الإسلام واللغة العربية، ثم اتسع ليشمل دراسة الشرق كله بلغاته، وتقاليده، وآدابه، فالمستشرقون هم علماء الغرب الذين اعتنوا بدراسة الإسلام واللغة العربية، ولغات الشرق وأديانه وآدابه.
أهداف الاستشراق:
انطلق المستشرقون في دراستهم للإسلام من منطلقين كان لهما أبلغ الأثر في توجيه الدراسات الاستشراقية:
المنطلق الأول: النزعة الصليبية التنصيرية التي خيمت على أذهان المستشرقين، وغطت على أفكارهم، فجاءت دراساتهم في ثوب تنصيري، فقد ارتبط الاستشراق في جميع مراحله ارتباطاً وثيقاً بالمؤسسات الكنسية التنصيرية.
المنطلق الثاني: النزعة الاستعمارية السياسية المادية التي تهدف إلى بث النفوذ الغربي على البلدان الإسلامية، ونهب خيراتها وثرواتها.
ومن خلال ما سبق يمكن تلخيص أهداف المستشرقين والدراسات الاستشراقية في الآتي:
1. إفساد صورة الإسلام بطمس معالمه، وتشويه محاسنه، وتحريف حقائقه، وتقديمه للعالم على أنه دين متناقض.
2. تشكيك المسلمين في دينهم، بإثارة الشبهات حول الإسلام، ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، لإضعاف صلتهم بهذا الدين، وارتباطهم به.
3. إحياء النعرات القبلية، والعصبيات المذهبية، والنزعات الطائفية والعقائدية، وإثارة الخلافات، لتفريق وحدة المسلمين، وإضعاف روح الإخاء بين المسلمين، وإثارة اللهجات العامية وذلك بالتشكيك في اللغة العربية ومصادرها.
4. غرس المبادئ الغربية في نفوس المسلمين وتمجيدها، والعمل على إضعاف القيم الإسلامية وتحقيرها حتى يتم لهم إفساد أبناء المسلمين، وتحللهم، ثم توجيههم لخدمة مصالحهم.
5. إزالة الثقة بعلماء وأعلام الأمة الإسلامية وذلك لقطع الصلة بين المسلمين وماضيهم، وفي المقابل تمجيد الشخصيات الغربية وتعظيمها ليسهل التأثير والانقياد لهم.
منهج المستشرقين في دراسة الإسلام والدافع من ورائه:
الدافع الذي دفع هؤلاء المستشرقين لدراسة الإسلام هو في الحقيقة العداء السافر لهذا الدين وللرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا العداء الذي بدأ منذ فجر الإسلام، فالمستشرقون ليسوا سوى امتداد لليهود والنصارى الذين بذلوا كل ما في وسعهم لطمس دين الإسلام، وإزالة معالمه من الوجود، ولم تخفف من هذا العداء القرون المتطاولة، بل ظل يأخذ صوراً شتى وأشكالاً متنوعة، تعلن تارة وتخفي أخرى، وتظهر في ثوب الود والولاء تارة، وتكشر عن أنياب العداء أحياناً، واشتدت هذه العداوة بعد الحروب الصليبية (1097-1295م )(التي كانت نقطة تحول في الصراع الفكري والعقدي والسياسي بين الغرب المسيحي وبين الشرق الإسلامي)، فقد عاش المستشرقون في هذه البيئة المفعمة ببغض الإسلام، وارتضعوا من لبانها، ولذا جاء منهجهم يحوي بين طياته كل دسيسة وشبهة تطعن في هذا الدين.
وأبرز سمات هذا المنهج الذي درسوا الإسلام على أساسه:
1. تحليل الإسلام ودراسته بعقلية أوربية، فهم حكموا على الإسلام معتمدين على القيم والمقاييس الغربية المستمدة من الفهم القاصر والمغلوط الذي يجهل حقيقة الإسلام.
2. تبييت فكرة مسبقة ثم اللجوء إلى النصوص واصطيادها لإثبات تلك الفكرة، واستبعاد ما يخالفها.
3. اعتمادهم على الضعيف والشاذ من الأخبار، وغض الطرف عما هو صحيح وثابت.
4. تحريف النصوص ونقلها نقلاً مشوهاً، وعرضها عرضاً مبتوراً، وإساءة فهم ما لا يجدون سبيلاً لتحريفه.
5. غربتهم عن العربية والإسلام منحتهم عدم الدقة والفكر المستوعب في البحث الموضوعي.
6. تحكمهم في المصادر التي ينقلون منها، فهم ينقلون مثلاً من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث، ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصححون ما ينقله الدميري في كتاب الحيوان، ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ، كل ذلك انسياقاً مع الهوى، وانحرافاً عن الحق.
7. إبراز الجوانب الضعيفة، والمعقدة، والمتضاربة، كالخلاف بين الفرق، وإحياء الشبه، وكل ما يثير الفرقة، وإخفاء الجوانب المشرقة والإيجابية وتجاهلها.
8. الاستنتاجات الخاطئة والوهمية وجعلها أحكاماً ثابتة يؤكدها أحدهم المرة تلو الأخرى، ويجتمعون عليها حتى تكاد تكون يقيناً عندهم.
9. النظرة العقلية المادية البحتة التي تعجز عن التعامل مع الحقائق الروحية.
10. صلتهم بالفكر الإسلامي، وأثر تلك الصلة في إثارة الشبه حول السنة.
سبق أن الحروب الصليبية كانت نقطة التحول في الصراع الفكري والعقدي والسياسي بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، وأنها الدافع الأساسي للنشاط الاستشراقي المكثف، ولكن اتصال الغرب بالشرق في ذلك الوقت وخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي كان اتصالاً عدائياً مسلحاً، متمثلاً في الحروب الطاحنة التي ظلت آثارها باقية حتى الآن.(24/86)
وفي نهاية القرن السادس عشر - الذي يعتبر منطلق الإصلاح الديني في الغرب - كانت بداية الاتصال الاقتصادي المتمثل في اكتشاف موارد الثروة في العالم الإسلامي، واستغلالها ونقلها إلى الغرب في صورة تبادل تجاري وغير ذلك، وتبع هذا الاتصال السياسي المتمثل في سيطرة الغرب ونفوذه على العالم الإسلامي حتى بلغ أوجه خلال الفترة ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، وخلال هذه الفترة الاستعمارية عمل الغربيون على تخلف المسلمين بإبعادهم عن دينهم حتى يتمكنوا من إخضاعهم إخضاعاً تاماً للسيطرة الغربية.
ففي تلك الفترة كان الاستشراق في ذروته لأنه كان مدعوماً من قبل الحكومات الغربية التي كانت توفر لهم الأسباب المعينة على دراسة العلوم الإسلامية حتى يتمكن الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، فبحث المستشرقون في كل ما يتصل بالإسلام من تاريخ، وفقه، وتفسير، وحديث، وأدب، وحضارة، وصبغوا كل ذلك بصبغة علمية مما أدى بتلك البحوث والدراسات أن تكون مراجع للكثير من الباحثين في المعاهد، والجامعات العالمية.
وقد غزت تلك البحوث العالم الإسلامي في مؤسساته الفكرية والتربوية، ومناهج التعليم، وكان العديد من قادة الفكر الإسلامي قد تتلمذوا على أيدي أولئك المستشرقين عن طريق إيفادهم إلى الخارج، أو استقدام المستشرقين إلى البلاد الإسلامية للعمل في المؤسسات الفكرية، ومناهج التعليم، وهكذا ظلت العلاقة قائمة، والصلة وثيقة بين العالم الغربي والفكر الإسلامي، ولكنها علاقة تستهدف الإسلام بدرجة أولى.
والمستشرقون الذين بحثوا في كل جوانب الإسلام لم يغب عنهم أهمية السنة النبوية، فقد علموا أنها المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن، وفيها توضيحه وبيانه، ولذا تناولوها بالطعن والتشويه والشبه ليتسنى لهم بعد ذلك أن يتلاعبوا بالقرآن، ويؤولوه بما يحلو لهم، فطعنهم في السنة هو في الحقيقة طعن في القرآن، وهدم لصرح الإسلام.
http://www.t r uthway.com المصدر:
=============(24/87)
(24/88)
المنهج الاستشراقي عند المتغربين فكرياً
المحامي قاسم خضير عباس*
الاستعمار الغربي استغل ظاهرة الاستشراق في تمرير سياسته في الشرق، وإلغاء ثقافة الآخرين، واتهامها (بالضحالة، والرجعية، والجمود)، لهذا لم يفرق كثير من الباحثين بين الاستشراق القديم والاستشراق الجديد الذي وصف نفسه بـ(العلمي)، وهذا يدعونا للتأمل بشأن العلاقة بين (السياسة الغربية والاستشراق)، ويدعونا كذلك للوقوف طويلاً على موضوع استغلال اطروحات المستشرقين لصياغة سياسة غربية متعنتة تطبق في الشرق الأوسط؛ مع اتباع موقف إشكالي إزاء الإسلام، وإلغاء ثقافة الآخرين، واتهامها بالإرهاب.
ويوضح هذه الحقيقة أدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) ص 89 قائلاً بصراحة وموضوعية: (لم يصبح الإسلام رمزاً للرعب، والدمار والشيطاني، وأفواج من البرابرة الممقوتين بصورة اعتباطية، فبالنسبة لأوروبا كان الإسلام رجة مأساوية دائمة).
وهكذا فإن الاستشراق ببحوثه، وتوجهاته، وحقده على الإسلام؛ سهل الاختراق الأوروبي والأمريكي للشرق، وقد لعبت الإرساليات دوراً بارزاً في ذلك، إضافة إلى تشجيعها للسياسة الأوروبية لكي تصب في خدمة الصهيونية العالمية، وإقامة دولة لها في فلسطين.
وكان طبيعياً ضمن هذا التوجه أن تشوّه صورة الإسلام والمسلمين، ولعب المستشرق الأوروبي (غوستاف فون) دوراً كاملاً في قلب الحقائق، خصوصاً بعد أن هاجر إلى (أميركا)، وعمل في جامعة شيكاغو، وصاغ نظرياته الاستشراقية الجديدة من وحي الاستشراق الديني القديم، ولم يتورع (فون) من اعتبار المسلمين في (أدنى السلم الإنساني، ومن الواجب عدم الاعتراف بحقوقهم ومصالحهم)!!
أما المشرع البريطاني (ستيوارت ميل) فيلغي من جانبه كل الحقوق والمصالح من الأساس، ويعتبر أن بعض الشعوب التي يسميها بـ(الهمجية) لابدّ أن تحكم بالقوة وبالقوانين الوضعية، مع عدم الاعتراف لها بأي التزام قانوني!!
ويرسم ادوارد سعيد ملامح العلاقة بين الغرب والإسلام بصورٍ من خلال تقييمه للظاهرة التلفيقية الاستشراقية التي جعلت (أبسط التصورات للعرب والإسلام قضية مشينة إلى درجة عالية، بل تكاد تكون خشنة:
أولاً تاريخ التمييز الشعبي ضد العرب، وضد الإسلام في الغرب، الذي ينعكس مباشرة في تاريخ الاستشراق.
ثانياً: الصراع بين العرب والصهيونية الإسرائيلية، وتأثير هذا الصراع على اليهود الأمريكيين، بالإضافة إلى تأثيره على كلا الثقافة التحررية، والكيان عامة).
أما الدكتور محمد النقوي في كتابه (الاتجاه الغربي) ص 158فيوضح تلك العلاقة المتشنجة من خلال بحوث المستشرقين التي تهدف إلى (إيجاد الشعور بالحقارة لدى المسلمين أمام الثقافة والحضارة الغربيتين، لكي لا يستفيدوا من شخصيتهم الثقافية والرسالية، ويتسببوا في انحطاطهم تجاه الأمم الغربية، ويعترفوا بحقارتهم، ويصدقوا بأنهم شعب منحط)، فالمستشرقون (عزموا على الإلقاء في روع الشرقيين أن الرجل الشرقي نبغ في مجال العرفان فقط، وأنه ذو عقل عاطفي، وأنه لابد له من الاعتماد على الغرب في الصناعة، والعلم، والتقنية، والحضارة).
وقد قرأت لـ(زكي نجيب محمود) نفس هذه المقولات الاستشراقية في كتابه (المعقول واللامعقول)، حيث أكد على موضوع (العقل العاطفي والشاعري للإنسان الشرقي)، وأن حضارة الشرق حضارة شعر وخيال، أما (حضارة الغرب) فهي (حضارة علم، وعقل، وإبداع) منذ القدم!!، وللأمانة والموضوعية نقول: إن الدكتور (زكي نجيب) تراجع عن كثير من أفكاره في كتابه (عربي بين ثقافتين).
وهكذا فإن (مثقفي التغرب) من العرب والمسلمين قد رددوا مقولات استشراقية دون وعي وإدراك، لأنهم قد انبهروا بالغرب، ومنهجه، وثقافته، وتقدمه التكنولوجي إلى درجة أفقدتهم مصداقيتهم، وموضوعيتهم، ومنهجيتهم، وكانوا بحق أذرع الغرب في المجتمع الإسلامي، يحاولون إنجاح ما عجز عنه المستشرقون، وتهيئة الأرضية ليسهل تشويه الإسلام، الذي يعد أكبر خطر تواجهه أوروبا قديماً وحديثاً، وهذا ما يؤكد عليه (لورانس براون) قائلاً بأن:
(الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي).
وليس غريباً إذا عرفنا ذلك أن نجد بيننا من يستغل الثغرات لافتعال ضجة غايتها إبعاد الإسلام والحركة الإسلامية عن ساحة الصراع، وفصل الدين عن السياسة، وجعله طقوساً تنشط في التكايا والمحاريب.
ونتساءل لماذا يربط مثقفونا منهجهم وتحليلهم بمنهج وتحليل الغرب؟!
لا أعرف!! ولا أريد هنا أن أتهمهم بشيء، كل ما أريد قوله أن عملهم هذا يحمل للأمة الأسى والمرارة، ويكرس الإحباط والانكسار، خصوصاً وأنهم وقفوا ضد الصحوة الإسلامية، واتهموها بالإرهاب، مرددين نفس مقولات المثقفين الأوروبيين الذين يعرفون جيداً أن الحركة الإسلامية تهديد خطير لمصالح الغرب وأطماعه في منطقة (الشرق الأوسط).(24/89)
ويعد (محمد عابد الجابري) من المثقفين العرب المبدعين لكنه للأسف الشديد متغرب فكرياً في أطروحاته، ويؤمن بوهم (المعجزة اليونانية) التي يعتبرها (عقلية خالصة)!! فيما يهاجم باستحياء الأصالة الإسلامية ويعتبرها رجعية!! ويدعو إلى (تأصيل الأصول) من خلال عملية تغيير شاملة، وهذا معناه (تغيير الأصول) وليس تأصيلها.
ولكي لا تأخذنا تداعيات القول بعيداً نعود إلى صلب الموضوع، ونؤكد على أن هناك نوعاً من الاستشراق يتسم ببعض الموضوعية والعلمية، لكنه يتلبس بالحقد على الإسلام، ويخلط الحق بالباطل، فـ(كارل بروكلمان) مثلاً كتب في تأريخ الأدب العربي بصورة موسعة، جعلت الباحثين العرب يعتمدون كتابه لما يحتويه من مادة أدبية جمعت كل ما كُتب باللغة العربية، ويقول الدكتور المرحوم عمر فروخ في كتابه (تاريخ الأدب العربي) ج 1 ص 18عن هذا الجهد:
(إن كتاب بروكلمان جريدة إحصاء لكل من كتب، ولجميع ما كُتب باللغة العربية، ومن هذه الناحية لن يستطيع الباحث العربي أن يستغني عن ذلك الجهد الجبار).
ولكن (بروكلمان) في مناسبات عديدة لم يتخلص من عقدة الحقد على الإسلام، وتشويه الحقائق، واعتقد أن ذلك هو السبب غير المعلن الذي دعا عمر فروخ إلى تجنب المنهجية التي أسماها (افرنجية) في وضع كتابه القيم (تاريخ الأدب العربي).
_______________
* كاتب وباحث إسلامي عراقي
http://www.nah r ain.com المصدر:
===============(24/90)
(24/91)
تفكيك مقولات الاستشراق
د. طريف الخالدي*
من بين ما تتحفنا به الثقافة العالمية المعاصرة سلسلة من المقولات التي تختصر نظاماً فكرياً معقداً بكلمة أو كلمتين، ولعل السبب في ذلك أننا وفي أيامنا هذه نرى من الضروري لنا أن نختزل الكلام توطئة لتسويقه أو ترويجه، فهناك مثلاً مقولة "الواسطة هي الرسالة" في علم الإعلام، وهناك مقولة "الأقل هو الأكثر" في فن العمارة، وهناك مقولة "تطور الفرد يستعيد تطور الجنس" في علم الأحياء، وإلى ما هنالك من شعارات تحشر الفكر في كبسولة يسهل على الإنسان هضمها والاستفادة منها لأغراض الترويج، ولا عجب فنحن في عصر اللقمة الصوتية.
ومن بين هذه المقولات واحدة تهمني لأسباب مهنية، وهي مقولة لا تاريخ بل تأريخ، أو حتى لا ماض بل روايات عن الماضي، أو إذا شئتم لا حقيقة تاريخية بل قصص، وهذه المقولة سلاح بتار، فإذا أخذنا هذا السلاح بقوة جاز لنا أن نبتز أي نظام فكري أو سياسي، أو أي مجتمع بشري عن تاريخه فتصبح حقيقته التاريخية سلسلة من القصص، ويبقى النظام المعين أو المجتمع المعين معلقاً في الهواء، يطفو على سحب من الأساطير.
مقدمة سريعة لا بد منها للاقتراب من موضوعي هذا اليوم ( جانب الصراع السياسي والإنساني الدائر حالياً حول مدينة القدس ) يدور صراع آخر خفي وهو الصراع الذي يتمحور حول تأريخ القدس، وهذا الصراع الآخر ليس بالأمر الطارئ طبعاً، فالصهيونية منذ أن وجدت تسعى بلا كلل لكي تخترع فلسطين من جديد.
فهي ما فتئت تقتلع وتخترع، وتمحي ثم تبني على أنقاض ما محت، وفي خضم هذا السيل الجارف الماحي نلمح وبوضوح رغبة صهيونية حيثية لإعادة كتابة التاريخ وذلك لكي يتكامل جرف الأرض مع جرف تاريخها، وإذا أخذنا بمقولة لا حقيقة تاريخية بل قصص، وتوخينا الدقة والإنصاف والعدل فقد نستنتج أن هذا الصراع يدور حول القصص، أي قصصنا نحن في مواجهة قصصهم، غير أن الأمر ليس على هذا النسق أبداً، فالصهيونية تقول لنا منذ البدء أن قصصنا وهمية، وأن قصصهم حقيقية تاريخية، أي أن قواعد هذه اللعبة تتغير حسبما يشاء الخصم الصهيوني، فهو كالفريق الذي كلما اقتربت الكرة من مرماه ينزع المرمى من مكانه ويركض به إلى مكان أبعد.
فالاستشراق الصهيوني نظام فكري من طراز فريد، فإن الصراع التأريخي الذي يدور بيننا وبينه ليس كمثل الصراعات الدائرة في أماكن أخرى من عالمنا المعاصر كالصراع على تاريخ الهند مثلاً بين المؤرخين الهنود والبريطانيين، أو على تاريخ أفريقيا بين المؤرخين الأفارقة والأوروبيين، بل هو صراع يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصير أرض يجري تغيير ملامحها ساعة بعد ساعة، إن هذا الاستشراق يسعى إلى تثبيت تاريخه هو ونفي تاريخنا نحن جملاً وتفصيلاً، ومن أبرز مقولات هذا الاستشراق فيما يتعلق بتاريخ القدس العربي المبكر كما نلمحها في الكتب والمجلات التي يستخدمها هذا الاستشراق في سبيل الوصول إلى غاياته تحت ستار مما يشبه البحث العملي.
أولاً: يقول لنا هذا الاستشراق إن المصادر العربية الإسلامية حول تاريخ القدس في الفترة الأولى التي تلت الفتح متناقضة متضاربة ومنمطة - أي أنها على شكل نماذج من القصص الشعبية التي أخذها الإسلام أما من الأديان الأخرى، وخصوصاً اليهودية، أو الذي اتخذ شكل النمط والنموذج الذي مثيله الأقرب هو الأدبيات والأساطير الشعبية -.
من هنا فالوصول إلى أية حقيقة تاريخية استناداً إلى هذه المصادر أمر شبه مستحيل، وليس بالإمكان أكثر من أن يكتشف المؤرخ النية من وراء هذه القصص وهي في الأغلب تعكس رغبات أجيال من المؤرخين العرب المسلمين عاشت بعد الأحداث بمئات السنين، وحاولت خلق تاريخ ملائم للقدس.
ثانياً: يقول الاستشراق أيضاً أن دخول عمر بن الخطاب إلى القدس، ولقاءه البطريرك صفرونيوس هو وهم ومجرد أسطورة الغاية منها إضفاء الاحترام والإجلال على القدس، وكلها قصص ابتدعها خيال جيل لاحق من المؤرخين العرب، ولربما في أيام الحروب الصليبية مثلما يقول بعض المستشرقين.
ثالثاً: إن الإشارة الواردة في القرآن الكريم إلى الإسراء والمعراج لا تدل على القدس تحديداً، أما أحاديث الإسراء فتنتمي إلى عصور متأخرة أراد فيها المسلمون التأكيد على أهمية القدس لأسباب سياسية، إذ لا ترد أية إشارة إلى الإسراء والمعراج في الآيات والكتابات الواردة على جدران قبة الصخرة مثلاً، وهو أمر متوقع فيما لو كانت القدس هي المقصودة في الآيات القرآنية.
رابعاً: إن القدس لم تتمتع بأية مكانة خاصة لا على المستوى الديني، ولا على المستوى السياسي في العصور العربية الإسلامية الأولى، ولم تكتسب القدس مكانتها سوى بعد مضي قرون عديدة، أما في العصور الأولى فقد كانت مدينة هامشية دينياً وسياسياً، ورغم أهمية قبة الصخرة والمسجد الأقصى في ميدان العمارة، فإن هذين البناءين لا يدلان بوضوح على أية أهمية خاصة ترتبط بمكانة القدس.(24/92)
هذه باختصار بعض المقولات الرئيسية التي نجدها في ثنايا الاستشراق الصهيوني ذي الشكل الأكاديمي، وهي مقولات تعكس بجلاء ذهنية صهيونية ما برحت تقول لنا ومنذ عشرات السنين: إن تاريخهم أكثر قدسية من تاريخنا، كما يرد مثلاً في أقوال نسبت إلى شمعون بيريز منذ زمن ليس ببعيد: قد يكون لكم أيها العرب بعض الروابط التاريخية مع القدس لكن تاريخنا هو الأقدس.
وفيما تلوح مدينة القدس أمامنا وكأنها قادمة على حل نهائي يبدو من الواجب لنا أن نعي شيئاً مما قد يدور في ذهن الخصم الصهيوني عندما تدق الساعة، فنحن سنواجه قريباً من سوف يقول لنا ما معناه: "لنا القدس، والقداسة، والتاريخ الصحيح، ولكم الأساطير".
لن أسعى إلى أن أفند هذه المقولات الصهيونية قولاً رغم اعتقادي بأن هذه المقولات وأمثالها هي من بين الأسس الراسخة التي بني عليها الخطاب الصهيوني المعاصر حول القدس، فالبعض من هذه المقولات يفند نفسه بنفسه، غير أن الأمر يتعدى ذلك ليتناول حملة صهيونية أوسع ترمي إلى وضع علامة استفهام كبرى حول مصداقية المصادر العربية المبكرة برمتها، دعونا نتأمل قليلاً مغزى هذا الأمر.
فتوحات عربية شاسعة الأرجاء تقضي وفي زمن قصير جداً نسبياً على امبراطوريتين عظيمتين، وذلك من خلال عمليات عسكرية تفترض درجة عالية من المهارة اللوجستية، ثم تبني لنفسها نظاماً إدارياً، وحضارة ومدنية، وتتولى أموراً حكومية ومالية واجتماعية بالغة التعقيد، وإلى ما هنالك من بنيان حضاري إمبراطوري، ثم يأتي اليوم من يقول لنا: أن هذه الحضارة عندما جاءت لتضع لنفسها تاريخاً كانت كالطفل الساذج الذي لا يعرف للحقيقة معنى، ويقال لنا: إنه وبعد ذلك بمئات السنين، أتت طبقة أخرى من المؤرخين فابتدعت تاريخاً جديداً برمته، وكأنما هي مؤامرة كبرى تنوي أن تطمس ما لا يلائمها، وتبرز ما يخدم أغراضها الدعائية.
إن الذي يضع علامة استفهام كبرى على المصادر المبكرة هو كمثل الذي يقول لنا إن الحضارة العربية الإسلامية الأولى كانت متقدمة في كافة الميادين الإدارية والحكومية والقانونية والسياسية والمعمارية واللوجستية لكنها كانت طفولية وساذجة وأسطورية في كتابة التاريخ، وعلينا نحن اليوم أن نصدق جيلاً من المؤرخين العرب في عصور لاحقة جلسوا حول طاولة الكتابة، ودرسوا بدقة الأدبيات الشعبية اليهودية، ثم بنوا عليها قصصاً معينة لكي تأتي ملائمة للتنبؤات اليهودية: (ولا يقال لنا لماذا فعلوا ذلك)، ومن ثم عمدوا إلى طمس كافة الروايات الأخرى، وكل ذلك حتى يعظموا مكانة القدس، ويخترعوا لها أهمية لم تكن لها من قبل، ويراد لنا أن نعترف بأن هذه المؤامرة التأريخية تمت في زمن كان فيه جهابذة التاريخ والحديث قد بلغوا درجة عالية جداً من التمحيص والتدقيق في الروايات.
أما فيما يختص باستخدام النماذج والأنماط الأدبية في الكتابة التاريخية فالواضح الجلي لكل من تصدى لهذا الموضوع أن النمط لا يمكن له أن يكون نمطاً ناجحاً مقبولاً لدى العموم إلا إذا تضمن في داخله نواة من الحقيقة التاريخية، فالمؤرخ يلجأ إلى استخدام الأنماط والنماذج (أي التشبيهات والاستعارات) لأنها تشبه الحقيقة، وتحاكي الواقع، وليس لإخفائها أو تزويرها، غير أن الأدهى من كل هذا وذاك هو أن الاستشراق الصهيوني هذا وبعد أن وضع علامة استفهام كبرى حول كل ما تتضمنه المصادر العربية المبكرة حول القدس يعود فينتقي من هذه المصادر فقط ما يناسب نواياه وأغراضه.
ففي رواية الفتح الإسلامي مثلاً يقال لنا: عمر بن الخطاب ليس هو الذي فتح المدينة بل الفاتح الحقيقي هو على الأرجح عمرو بن العاص، فإذا كانت المصادر كلها مشبوهة فما معنى الانتقاء والتفاضل بين الروايات؟ وإذا كانت المصادر كلها مشبوهة فما معنى أن نكتب أي تاريخ من أي نوع كان بالاستناد إلى هذه المصادر؟ ومن سخرية الأقدار أن آخر ما توصل إليه البحث العلمي حول المصادر غير العربية لتاريخ الإسلام المبكر أي المصادر اليونانية، والسريانية، والعبرية، والقبطية، والأرمنية، والفارسية قد وجد أن هذه المصادر تطابق في غالب الأمر ما جاء في المصادر العربية ذاتها.
وفيما يختص بقبة الصخرة والمسجد الأقصى فإنه يقال لنا: أن غياب أية إشارة إلى الإسراء والمعراج في الكتابات والنقوش في هذين الحرمين دليل على أن ربط الإسراء والمعراج بالقدس أمر تم في عصور لاحقة، إذ لو كان هذا الرابط موجوداً في زمن البناء لما غاب عن ذهن الباني أن يذكر الإسراء والمعراج في الكتابات والنقوش، وهذه المقولة كما هو مثال صارخ جلي على السفسطة التي تفترض أن غياب الدليل دليل على غيابه، ولا حاجة للوقوف عند هذه المغالطة التي يستبان منها بوضوح غرضها الدعائي.
هذه - وباختصار شديد - بعض ملامح هجمة يشنها الاستشراق الصهيوني، ولا هم له سوى إلقاء الشك على مركزية القدس في التاريخ العربي، ونحن وإن كنا اليوم نشهد على أرض الواقع تنازلات فلسطينية متتالية على صعيد التفاوض السياسي، وعلى صعيد القوانين الدولية، وعلى صعيد الأرض، نشهد أيضاً بعض التراجع الصهيوني الملحوظ على صعيد التأريخ لفلسطين.(24/93)
فقد كانت الحجة الصهيونية ولسنوات مديدة أن الفلسطينيين هربوا من أرضهم تبعاً لأوامر تلقوها من الزعماء العرب، فأتى الآن فريق من المؤرخين الصهاينة اسمهم المؤرخون الجدد ليغير هذه الرواية ويعترف بأن طرد الفلسطينيين كان جزءاً من سياسة صهيونية متعمدة وواضحة وموثقة بالوثائق.
ثمة حقيقة هامة لا يجب أن نغفل عنها وهي أن الصراع على القدس يدور على أصعدة شتى، وفيما يقترب هذا الصراع من إحدى محطاته العديدة على مر الزمن، لا بد لنا من التصدي لهذه العقلية الصهيونية العجيبة التي تسمح لنفسها ببلع الأرض، والتي تجد أن بلع الأرض هذا أمر أسهل على الهضم إذا كان بالإمكان إغراق الأرض المنوي بلعها في مستنقع من الأساطير.
________________________
* أكاديمي وباحث فلسطيني
http://www.alqudsgate.com المصدر:
=============(24/94)
(24/95)
الفكر الاستشراقي وأثره على الدعوة
مما لا شك فيه أن الاستشراق منذ نشأته في أوروبا القرون الوسطى قد عمل جاهداً على مقاومة الدعوة الإسلامية، وهدم قيم الإسلام وأسسه الفكرية وذلك عن طريق تشويه صورة الإسلام بمفتريات وأكاذيب تمجها الآذان، وتتقزز منها المشاعر، وكانت معظم هذه المفتريات تنصب بالدرجة الأولى على شخصية نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بسبب يقين المستشرقين بأنه صلى الله عليه وسلم يمثل الأساس في الرسالة الإسلامية، إذ إنه هو الذي بلغ الإسلام عن الله، وامتثله في نفسه، وكوَّن أمة عظيمة على عاتقه، فإذا استطاعوا إلقاء أغشية على شخصيته فإن ذلك سيكفل لهم عدم انتشار رسالته، ثم إدخال كثير من الريب والشكوك في قلوب الذين اتبعوه وآمنوه به.
ومن ثمَّ قالوا عن نبي الإسلام الطاهر، الصادق، الأمين، بأنه كان رديء الولادة والسمعة، وأنه عاش بربرياً بين برابرة، وثنياً بين وثنيين، وأنه تعلم ما نشره من الدين من راهب فر إلى الجزيرة العربية واسمه "سيرجونز" الذي اعتقد محمد أنه الملك (جبريل)، وأنه كان ذا شهوات جامحة، متعجرفاً في الحياة، وأنه قبل الوفاة حاول أن يعمِّد نفسه ولكن الشياطين منعته من ذلك!! وعندما مات أكلته الخنازير التي تعتبر من الحيوانات القذرة.
بالإضافة إلى هذه الادعاءات الكاذبة التي افتراها مستشرقوا القرون الوسطى على أعظم شخصية في التاريخ، وأكثرها عفة وطهراً، اخترع المستشرقون مفتريات أخرى حاولوا أن يصِمُوا بها أقدس جماعة بشرية في التاريخ كله وهم الصحابة الكرام، وكذلك المسلمين بصورة عامة، فقد قالوا عن الصحابة بأنهم: (زمرة من منتهكي الحرمات المقدسة، وقطاع الطرق والسالبين، والقتلة واللصوص)، وقالوا عن المسلمين بصورة عامة بأن سبب إسلامهم:
1- إما أنهم خدعوا بالشيطان بسبب سذاجتهم.
2- أو حذوا حذو أقربائهم ولو قاد ذلك إلى الخطأ.
3- أو للحصول على المنافع المادية.
وقالوا عن المسلمين أيضاً بأنهم يعبدون محمداً في المساجد، وأنهم شعوب ينتمون أساساً إلى السيف.
أما عن الإسلام فقد قالوا عنه بأنه: (مجموعة من العقائد المسيحية، واليهودية، والوثنية)، وأن العنف من مكوناته، وأنه لا يقبل الخلاف العقلاني، وأنه رمز للتعصب واللا إنسانية، وأنه منبع المبالغات والانحرافات في أنظمة الفكر.
وقالوا عن القرآن الكريم بأنه غير منطقي، وغير معزز بالمعجزات.
هذه بعض النماذج من الإفك الأثيم الذي أنتجه الفكر الاستشراقي، وروجه في عرض العالم الغربي وطوله منذ العصور الوسطى، وإذا كان هذا الإفك الاستشراقي لم ينجح في طمس معالم الإسلام وزعزعة أركانه إلا أنه نجح إلى حد كبير في وقف أو على الأقل إبطاء انتشاره في العالم الغربي المسيحي على وجه الخصوص، إذ إن الإنسان الغربي كلما كانت تطرق إذنه لفظة الإٍسلام أو ما أسموه بـ (المحمدية) فإن تلك الصور البشعة والمرعبة كانت تتمثل أمام ناظريه، فيفر من الإسلام فرار الظبي من الأسد، ولا شك أن كثيراً من هذه الصور لا تزال عالقة في العقل الأوروبي إلى اليوم، مما يجعله ينظر إلى الإسلام بكثير من الشك والريب والتوجس.
انعطافة في الفكر الاستشراقي:
وإذا كان استشراق القرون الوسطى قد مارس هذا النوع المخزي من الهجوم ضد الإسلام بهدف حماية المسيحيين من التأثير الإسلامي - بسبب ما كان يجسده في تلك الفترة من قوة تبشيرية عارمة -، ثم محاولة جعل المسلمين يعتنقون الإسلام، فإن الاستشراق في نهاية القرون الوسطى قد أخذ ينحو منحى أخر، فقد أصبح الأوروبيون أكثر تقدماً في مجال الفلسفة، والطب، والعلوم الأخرى بعد أن كان المسلمون أساتذتهم فيها، وبدا لهم أن تحويل المسلمين عن دينهم لكي يعتنقوا المسيحية بهذا الأسلوب العنيف شيء مستحيل.
من هنا أصبحت تلك الخطابات الاستشراقية العنيفة في طور الانحدار والأفول، لتتخذ مكانها ممارسات استشراقية أقل عنفاً، وأكثر ذكاء، ولعل عصر النهضة قد قدم للاستشراق آليات جديدة لممارسة المماحكات الهجومية المخفية والمختبئة خلف الجهاز الأكاديمي الثقيل، فقد قدم عصر النهضة التقنيات الفيلولوجية التي تم بلورتها من أجل دراسة النصوص اللاتينية والإغريقية والعبرية، كما قدم أنواعاً أخرى من المناهج في مجال البحث والدراسة، والتي من أهمها منهج البحث التاريخي الذي تبلورت صورته الغربية على حساب خروج الغرب كلياً من الدوغماتية الدينية (ولم يخرج منها فقط بعض الأفراد أو بعض التيارات وإنما مجمل الأوساط العلمية بمن فيهم أعضاؤها المؤمنون أنفسهم)، لقد انخرطوا جميعاً على طريق البحث الذي يحيد تدخل الله في التاريخ، ومسيرة المجتمعات، وآليات مسيرتها، فأصبحوا يدرسون النصوص والقصص المقدسة عن طريق استبعاد أية سببية غير السببية المرتكزة على القوانين المشتركة لحركية المجتمعات البشرية، أي أن دراسة الدين أصحبت تتم بعيداً عن فكرة الوحي، بل باعتبار أنه ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تولدت بسبب عوامل اجتماعية وتاريخية.
الاستشراق الحاضر:(24/96)
وإذا غضضنا الطرف عن الصورة الاستشراقية الماضية، ونظرنا إلى أيامنا الحاضرة فإننا نرى فيها منحى استشراقياً آخر للنيل من الإسلام وهدم أسسه، فكما هو معروف أن الاهتمام بالإسلام قد زاد في الغرب بصورة منقطعة النظير بعد الثورة الإيرانية عام 1979 ميلادي، فقد تكاثرت المقالات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وحملت معظمها في طياتها الغش والخداع والأخطاء، مما جعل المعلومات الخاطئة تنشر في كل مكان، وكما يقول مكسم رودنسون فإن: (مجمل صورة عالم الإسلام قد شوهت من خلال منظور مشوه إلى حد كبير)، والسبب في ذلك - على حد اعتقاد "مكسيم رودنسون" - هو التقدم الهائل في مجال وسائل الإعلام الجماهيري الذي استثار شهية الكثيرين لكي يكتبوا عن الإسلام والعالم الإسلامي على الرغم من أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء اكتساب الكفاءة العلمية التي تتطلب وقتاً طويلاً، وتحضيراً حقيقياً، وقد أطلق عليهم "رودنسون" بأنهم طفيليون (الذين يتطفلون على العلم تطفلاً، ويحدثونك موضوع الإٍسلام والعرب إلخ... وكأنهم عارفون).
وخلاصة القول أن الاستشراق سواء بصورته القديمة، أو الذي ظهر بعد عصر النهضة، أو ذلك الذي نعايشه اليوم عمل على تشويه الإسلام، وهدم مرتكزات المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية بصورة لا هوادة فيها، وقد اشترك في هذا العمل جيش عرمرم من المستشرقين الذين لا يسعني أن استثني منهم إلا عدداً ضئيلاً، وحتى أولئك الذين أعدوا المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، وألفاظ القرآن، وأولئك الذين فهرسوا المخطوطات العربية، وحققوا كثيراً منها، وأظهروها إلى النور؛ نكون مخطئين إذا اعتبرناهم ممن خدموا العلم، وأنهم أرادوا خدمة الإسلام والمسلمين بنية خالصة، لا والله لم يكونوا ممن يحملون مثل هذه الروح الخيرة التي يطيب لكثير منا أن يتصورها فيهم، بل إنهم عكس ذلك كانوا يريدون من خلال ما قاموا به من أعمال الفهرسة، وطباعة المخطوطات، وغيرها هو تسهيل عملية تداول الكتب الشرقية، وتيسير الاطلاع على محتوياتها، حتى يتمكن الرجل الغربي أن يستوعب الشرق، وينفذ إلى أعماقه بسهولة ويسر، هذا ما نتأكد منه من خلال ما قال "جون مول" عام 1841 ميلادي بأنه: (مهما كررنا وأعدنا فإننا لا نكرر بما فيه الكفاية أن طبع المخطوطات الشرقية الأهم هو الحاجة الأكبر والأكثر ضغطاً وإلحاحاً بالنسبة لدراساتنا، وبعد أن يكون العمل النقدي للعلماء قد مر على الأدبيات الشرقية، وبعد أن تكون الطباعة قد سهلت عملية تداول الكتب بعد ذلك فقط يمكن للعقل الأوروبي أن ينفذ فعلاً إلى أعماق الشرق)، وكذلك من خلال ما قاله المستشرق المعاصر "مكسيم رودنسون" عن الفهارس البيلوغرافية والجداول الإحصائية، والقواميس وكتب النحو وغيرها، والتي تعب المستشرقون الأوائل في إعدادها، يقول عنها: (إنه لتدريب طويل وصعب ويستحق الإعجاب على كل حال، فنحن الذين نصرف كل هذا الوقت والعناء لجمع المعلومات التفصيلية المتراكمة منذ مئة وخمسين عاماً في كتب متوافرة على طاولتنا، لا يمكننا إلا أن نشعر بالإعجاب والإكبار أمام "سيلفستر دوساسي" الذي كان مضطراً للبحث عنها في مخطوطات المكتبة الوطنية التي علاها الغبار، فهذه الكتب من تلك المخطوطات، ولولا جهود المستشرقين الأوائل لما توافرت لدينا جاهزة).
فالمجهود الاستشراقي المختص بالعالم الإسلامي إذن في مجملة - إلا ما شذ وندر - صرف ولا يزال يصرف في سبيل مقاومة الدعوة الإسلامية وتحييد العالم الإسلامي من مواكبة تطورات العصر وبنائه، وليس من شك في أن الاستشراق قد نجح في تحقيق بعض مستهدفاته على أصعدة مختلفة، فقد تمكن من جهة من إيقاف المد الإسلامي إلى الدول الغربية وذلك عن طريق ترويج تلك الصورة الشائبة عن الإسلام، والتي اقتنع بها الإنسان الغربي مع مرور الأيام، فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الإرث الفكري الذي ينقله كل جيل إلى الذي يليه دونما وعي، مما نجم عنه أن الإٍسلام أصبح أكثر الأديان كرهاً في المحيط الغربي، ومن جهة أخرى تمكن الاستشراق من زعزعة ثقة كثير من المسلمين بموثوقية مصادر دينهم، وبإخلاص نبيهم، وذلك عن طريق إثارة الشبهات والشكوك، ومحاولة فهم النصوص المقدسة بوضعها في بعد بشري معزول عن أية علاقة بالوحي.
فالاستشراق إذن قد مثل ولا يزال يمثل تحدياً صارخاً أمام الفكر الإسلامي، والدعوة الإسلامية، ونحن أمام هذا التحدي لا يكفي فقط أن نبدي الغضب والاحتجاج - الأمر الذي يعيبه علينا المستشرقون -، بل ينبغي علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد، ونرد الصاع بالصاعين، وهو ما تجده في المقال التالي بعنوان (مناهضة الفكر الاستشراقي).
_______________________________
الدعوة إلى الله: "محمد شمس الحق".
http://www.islamweb.net المصدر:
=============(24/97)
(24/98)
الغرب والإسلام.. قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق
يرى الدكتور رسول محمد رسول في كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر والموسوم «الغرب والإسلام.. قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق» أن الأديان تعود اليوم قوة أكثر فاعلية في التاريخ عامة، وفي تاريخ تصارع القوى خاصة، ومنذ نحو نصف قرن تقريباً عاد الإسلام كأحد الأديان الأكثر مزاحمة بين الأديان الأخرى إلى حيز التداخل والتفاعل مع اتجاهين يبدوان في الظاهر متباعدين نسبة إلى الحس العام لدى المسلمين وغيرهم، إذ نلاحظ العودة إلى البعد السياسي المزاحم في الفكر الإسلامي من جهة، والى الانفتاح على واقع الإسلام المعاصر في علاقاته المتبادلة مع الأديان والثقافات الأخرى، ودخوله بطرق جهادية ونضالية مزاحمة مع القوى الحضارية والثقافية من جهة أخرى.
وأشار الباحث إلى أن هذا التداخل الجديد بشكليه كان موضع اهتمام الغرب المسيحي واليهودي المعاصر على السواء، بل ومخاوفه وقلقه، فأخذ تسميات عدة منها: الإسلام السياسي، الأصولية الإسلامية، الإرهاب الإسلامي، واشتقاقات أخرى مثل الإسلاموية، والرهبوية الجديدة، وغيرهما حسب سياقات التعبير اللغوية، والرؤى التأويلية إلى ظاهرة الإسلام المعاصرة.
خلال هذا الاهتمام اعتمد الغرب المعرفة والمؤسسة بكل عطائيهما التداولي لقراءة الإسلام المعاصر، وتعددت أوجه الرؤى منها ما هو سلبي، وآخر ايجابي، كان الأول هو الغالب على مدى عقود طويلة، إلا إن متغيرات العصر حتمت ظهور رؤى جديدة كان منها أن تعيد المركزية الغربية النظر في مواجهاتها بإزاء الإسلام المعاصر.
فالذي جرى في الأدبيات الغربية التي تدرس الظاهرة الإسلامية المعاصرة إنها غالباً ما تسقط مفاهميها الخاصة بالمزاحمات الدينية اليهودية والمسيحية في دار الغرب على الديانة الإسلامية، فمصطلح «الأصولية» هو نتاج للماكنة المعرفية الأمريكية حين ظهوره مطلع القرن العشرين، كما أن ما ساعد على ولادة رؤى ايجابية نطلق عليها رؤى ما بعد الاستشراق هو وجود الجاليات الإسلامية الوفيرة في عددها داخل الدول الأوروبية والغربية الأخرى، حيث تبين عن كثب للغرب أن حدة الإرهاب عند المسلمين هي أقل مما يتصورون في الماضي، عندما عزت المؤسسة الاستشراقية هذا التصور رغم وجود إحصائيات ترى أن 10% من الإرهابيين في العالم هم من المسلمين.
ويرى الباحث أن توصيف الأسباب التي أدت إلى تحول الرؤية الغربية إلى الإسلام يتطلب جهداً كبيراً، فأسباب الواقع تجاورها أسباب فكرية وفلسفية فهناك من سعى إلى تفويض المركزية الغربية مثل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي نقض المركزية الغربية، ودعا إلى فك المركز باتجاه الأطراف، لكن هذا اليهودي أراد فك المركز لفرض خلق مراكز أخرى تتحكم في مصير جغرافية ما، ومثال إسرائيل وجودها في قلب الوطن العربي هو أنموذج لدعوته، كما أن دعوة الرؤية البنيوية إلى إحلال العلاقة تتضمن دعوة صريحة للتفكير بالآخر كما هو دون مسبقات رؤيوية، إلى جانب ذلك هناك رؤية ميشيل فوكو الفيلسوف الفرنسي الذي اقترح تجاوز المناطق المعرفية التقليدية التي انكب عليها الفكر منذ أكثر من ألفي عام إلى غيرها، وهي دعوة ضمنية إلى دراسة الهامش والأطراف الحضارية والثقافية على ضوء منهجيات استقرائية، وفي أمريكا ومنذ الستينات دعا مارشال هودغسون إلى ضرورة إعادة النظر بالإسلام المعاصر، واللجوء إلى مفاصله برؤية مختلفة.
وفي فصول الكتاب نستقري الرؤى الجديدة في نظرتها إلى الإسلام من خلال اتجاهاتها الثلاثة، وبالتالي المواقف الأمريكية في نظرتها إلى الإسلام المزاحم، أو الإسلام السياسي والأصولي، فهناك رؤى ايجابية نجدها في الرؤية الأمريكية العامة تجاه الإسلام لدى مارشال هودغسون، ووليم زارتمان، وصاموئيل هنتنجتون (كدالة سلبية تفرض المقارنة بين المواقف السلبية والايجابية)، ثم ديل ايكلمان، وتيموثي ميتشل، وجون ايسبوسيتو، وغراهام فولر.
وفي الفصل الثاني حرص المؤلف على استقراء مواقف أوروبية جديدة ومختلفة في نظرتها إلى الإسلام المعاصر بدأت بالرؤى الألمانية لدى جيرنوت روتر، ثم فريدمان بوتنر، وليس بعيداً عن ألمانيا استقرأت رؤية مختلفة قادمة من السويد هذه المرة مع انجمار كارلسون وهو يدرس الإسلام المعاصر على ضوء جدلية الخوف المتبادل بين الغرب والإسلام بعد ذلك التوقف عند واحدة من أهم رؤى الاختلاف في المنظور الفرنسي إلى الإسلام المعاصر، تلك هي مساهمة الباحث الفرنسي الكبير برتراند بادي الذي دعا إلى نقض الحداثة الشمولية، والالتفات إلى الحداثات الهامشية، ومنها تجربة الحداثة في البلدان الإسلامية الحديثة والمعاصرة.(24/99)
ويلاحظ المؤلف أن هذه الرؤى مجتمعة تعبر عن رؤى جديدة لدى الأمريكيين والأوروبيين في دراسة الإسلام المعاصر اسماها «ما بعد الاستشراق» كونها تنحو إلى الاختلاف في قراءة الظاهرة الإسلامية، وبقدر ما تستند إلى منزع تأويلي نراها تركن إلى الاستقراء والمعاينة المباشرة لمعطيات هذه الظاهرة، إيماناً بأننا مثلما ننزر أيضاً ونتابع بجد وبإخلاص الرؤى المغايرة للرؤى السلبية لا بد أن نفيد منها، ونستخلص ما يمكن أن يسوغ لنا الحوار مع الغرب على أساسها ضمن منطلقات التعارف البشري والحضاري والثقافي.
ويشير المؤلف إلى أن القصد من هذا الكتاب ليس الاحتفال بهذه الرؤى، ولا التبشير مجدداً بالفكر الغربي حول الإسلام - مع أن هذه مهمة ذات قيمة ثقافية، وفكرية ضرورية - إنما القصد هو المتابعة لفكر الاختلاف، ومعطيات المثاقفة الجديدة لا أكثر.
ويختتم الكتاب بفصل ثالث يتضمن قراءات أخرى في فكر المثاقفة عن الإسلام، وحداثة الغرب الأولى، ثم العلاقة بين الإسلام والعولمة في ضوء جدلية الاجتهاد والتنافذ مع العصر، وقراءة في موضوع الإسلام والمثاقفة الجديدة بشيء عن عولمة الهوية، ومخرج لازمة العلاقة بين العقل والتاريخ.
ويؤكد المؤلف أن هناك افتراقاً داخل الولايات المتحدة الأمريكية في نظرتها الكلية إلى الإسلام المعاصر، وهذه الرؤية بطبيعتها قائمة على أساس سياسي وهو شأن النظرة الأمريكية إلى الإسلام منذ نشأت حتى اليوم، إذ نجد هناك فئة من الأكاديميين الأمريكيين تنضر أراء تجاه الإسلام غير التي تنضرها فئة أخرى ممن يضعون استراتيجية ما للإدارة الأمريكية بإزاء الإسلام، والملاحظ في هذا الصراع أنه يوماً بعد آخر يتسع في فجواته، ويبدو أن كل طرف محق في ما يرى في الاتهامات المتبادلة بينهما، فالأكاديمي يكتسب فكره قدراً من الوضوح والصحة الفكرية، ورجل السياسة وصانعها يؤكد أهمية تحقيق نجاحات على أرض الواقع قائمة على أساس الفلسفة النفعية أو (البراجماتية) كما هو المصطلح، على العكس من ذلك حيث يسعى الأكاديمي ورجل المعرفة المنظمة القائمة إلى إحلال النظرية على العدالة والمساواة الإنسانية.
http://www.dawaweb.info المصدر:
=============(24/100)
(24/101)
الحروب الصليبية ومناهج الاستشراق
حسن الباش
شغلت الحروب الصليبية حيزاً واسعاً من التأليف والتدوين والتأريخ، فكتب فيها من عايشها من المؤرخين العرب والمسلمين كابن شداد، وأسامة بن منقذ، واستند على تدوينهم معظم المؤرخين العرب القدامى كابن الأثير، والطبري، ومن عايشهم في عصور انحدار الدولة العربية.
ولما لم تكن هذه الحروب محلية أو محصورة، فإنها في وقتها وما بعده من سنين فتح الباب على مصراعيه ليكتب عنها المستشرقون الغربيون على شتى مناهجهم وتوجهاتهم، وتصل إلى أيدينا مادة ضخمة حول هذه الحروب وآثارها على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
وبطبيعة الحال فإن الإنصاف والحيادية لم يكونا بعيدين كثيراً عن التحيز والتعصب، وخاصة أن المستشرقين الذين يدعون تلك الحيادية والموضوعية ظلت تشدهم جذورهم الدينية والتاريخية ليقعوا في مطب الهوى، وتصوير الأحداث تصويراً مخالفاً للحقيقة.
ومع ذلك كله فقد جاء القرن الماضي أي القرن العشرين ليفرز نوعين من المستشرقين في العالم الغربي، وبرز المؤرخون السوفيات كطرف، والمؤرخون الأوروبيون الغربيون كطرف آخر، والحقيقة أن الحروب الصليبية بشكلها العام كانت ذات توجه أوروبي غربي تقوده الكنيسة البابوية، ويجمع تحت ظلها غالبية أبناء أوروبا الغربية كالفرنسيين والطليان والإنجليز والهولنديين وغيرهم.
ومن الطبيعي أيضاً أن المؤرخين السوفيات الذين ينتمون تاريخياً إلى الكنيسة الأرثوذكسية رأوا أن الكنيسة البابوية الكاثوليكية كانت تنظر نحو الأرثوذكس نظرة دونية، ويعتبرون الكنيسة الأرثوذكسية خارجة عن المسيحية، ولهذا السبب اكتوى المنتمون لهذا المذهب بنار المذهبية، وقدموا ضحايا كثيرين بسبب التعصب الصليبي الكاثوليكي، بل إن الحملات الصليبية الغربية هاجمت مئات القرى والمدن في أوروبا الشرقية، وقتلت المئات من أبنائها، صحيح أن ذلك حدد الرؤية التاريخية للمستشرقين السوفيات، ولكن علم التاريخ الذي خاض فيه المستشرقون فتح آفاقاً كبرى لمن يريد الكشف عن حقائق الحروب الصليبية وأهدافها، ولعل في التناقض الصارخ بين منهجين استشراقيين غربيين ما يفتح الأبواب على دراسة طبيعة الاستشراق، وغاياته، وأهدافه من ناحية، ويحقق للقارئ الكشف عن دقائق الأمور في الصراع بين الشرق والغرب في القرن العاشر وما بعده.
ومن المعروف لدى المهتمين بالحروب الصليبية ووقائعها أن المستشرق الفرنسي رينيه كروسيه يعتبر من أهم الباحثين الفرنسيين المتخصصين في تأريخ الحروب الصليبية، وهو بالمحصلة يمثل تياراً غربياً استشراقياً عمل في تدوين وقائع تلك الحروب في ثلاثة مجلدات تعتبر أهم مراجع البحث في الموسوعات الفرنسية التاريخية، ومرجعاً لكل طالب يدرس التاريخ في الجامعات الفرنسية، ولما كان كثير من الطلاب العرب الذين يدرسون التخصص ليحصلوا على شهادات الدراسات العليا مضطرين للعودة إلى المراجع الأولى في الجامعات الفرنسية فإنهم يقعون فريسة الأفكار التاريخية التي وصفها كروسيه وغيره من المستشرقين، والأخطر من ذلك أنهم يعودون إلى بلدانهم العربية يحملون هذه الأفكار، وينقلونها إلى طلبة الجامعات، مما يؤدي بالتالي إلى تغيير حقائق الحروب الصليبية، وحرفها عن واقعيتها، وإيقاع قارئيها في مطب التشوّش التاريخي، وعدم الثقة بالمؤرخين العرب الذين عايشوا تلك الحروب وكتبوا عنها.
ومنذ البداية تظهر كتابة كروسيه عن الحروب الصليبية على اعتبارها حروبه هو وحروب الغربيين ضد الشرق الإسلامي، دون النظر إلى طبيعة تحرك هذه الحروب على اعتبارها غزواً واستعماراً لهذا الشرق.
يقول كروسيه: ينبغي لنا نحن الأوروبيون الاعتراف بحق لهؤلاء الأباطرة الأشداء الذين حكموا في تلك الظروف الصعبة بفضلهم في إنقاذ معقل الحضارة الأوروبية، فإن أيام القسطنطينية المشهودة في عام 717 ـ 718م التي صد فيها ليون الإيسوري زحف الهجوم الإسلامي في الشرق لا تقل أهميتها بشيء عن معركة بواتيه (بلاط الشهداء) عام 732م الذي أوقف فيه قائدنا الفرنسي شال مارتل هجوماً آخر مشابهاً في الغرب.
ويرى كروسيه أن الحروب الصليبية بدأت فعلياً منذ عصر بني أمية، واشتدت زمن بني العباس، حتى إنه يعتبر معركة عمورية التي قادها المعتصم من أشهر الحروب الصليبية باعتبارها حرباً دفاعية ضد المسلمين الذين غزوا بلاد الإمبراطورية البيزنطية.(24/102)
ونلاحظ أن كثيراً من الحقائق يغيبها كروسيه حيث يتحدث مثلاً عن وقعة عمورية، ويبدي حزنه الشديد لأنه حسب ما يكتب يرى في أبعاد المعركة انتهاكاً لحقوق الصليبيين الدينية، يقول: في عام 1838م اقتحم المسلمون مدينة آموريوم الواقعة في قلب فيريجيا، وانتهبوها، وأما قادة حاميتها البيزنطية فقد أبقوا في الأسر مدة طويلة، ثم صدر الأمر بإعدامهم لرفضهم اعتناق الديانة الإسلامية عام 845م، وقد اشتهر هؤلاء باسم شهداء أموريوم الاثنين والأربعين، وتوضح هذه الحادثة بجلاء كيف أن تلك الحروب القديمة بين المسلمين والبيزنطيين يمكن اعتبارها بشكل أو بآخر بمثابة حروب صليبية باكرة، وهنا يبدو التعصب التاريخي المنحاز للغرب، فالحقائق تُخفى وتجرد الحوادث التاريخية من أسبابها.
فمدينة أموريوم ( عمورية ) التي عرفت رداً إسلامياً قاسياً من قبل المسلمين على انتهاك حرماتهم وأراضيهم، فالرومان هاجموا مدينة زبطرة العربية واستباحوها، ووقعت في أسرهم النساء، ومنهن امرأة هاشمية صرخت وامعتصماه، ولما وصل الخبر الخليفة العباسي رد على الرومان بأن غزا عمورية بجيش قوامه ستون ألفاً.
أما قصة إعدام الحامية البيزنطية وعدد أفرادها اثنان وأربعون عنصراً لأنهم لم يعتنقوا الدين الإسلامي فهي قصة تفتقد إلى دقة الخبر وصحته، فهذه الحامية كما تذكر كتب التاريخ لم تكن سوى ضباط وجنود رومان ظلوا سبع سنوات وهم معتقلون، وجرت مفاوضات لتبادلهم مع بعض الأسرى المسلمين الذين ظلوا في السجون البيزنطية سنوات، وقد حاول الرومان التأثير عليهم لتنصيرهم حتى لو كان عن طريق القوة، ولما لم يستجيبوا نفذ حكم الإعدام ببعضهم، ولما علم المسلمون بذلك نفذوا حكم الإعدام ببعض أفراد تلك الحامية الرومانية.
وجرياً على عادة تغيير الحقائق فقد قال كروسيه عن أحداث 1009 ـ 1010م إن كنيسة القبر المقدس (أي القيامة) بالقدس هُدمت وسويت بالأرض بأكملها تقريباً وذلك من قبل الخليفة الفاطمي، وتغافل كروسيه أن كنيسة القيامة كانت تخص المسيحيين العرب وليس المتنصرين الغربيين، وهذه الحادثة لم تحدث قط، ولكن كروسيه الذي يمهد للحروب الصليبية يضع منذ البداية حكايات غير واقعية مبرراً من خلالها ما قام به الصليبيون عندما اقتحموا مدينة القدس، وفتكوا بأهلها.
وحين يغوص في التبريرات يرى أن الحملات الصليبية المتتالية ليست إلا رداً على اقتحام المسلمين بعض السواحل الإيطالية، والجزر الغربية القريبة منها، فيقول مثلاً "وقامت إحدى فرق المسلمين بعملية اتصفت بجرأة واجتراء خارقين، تمكنوا فيها من الإغارة على كنيسة مار بطرس الكبرى في قلب روما عام 846م".
وبمعنى آخر لم تكن الحروب الصليبية سوى رد دفاعي على المسلمين خاصة المسلمين الذين انطلقوا من تونس والجزائر لغزو السواحل الجنوبية الإيطالية، وجزيرة صقلية، وسردينيا وغيرها حسب قول المؤرخ المستشرق كروسيه، فإذا كانت الحروب الصليبية رداً دفاعياً فلماذا ظل الصليبيون قابعين حوالي مائتي عام في بعض المدن والمناطق العربية؟ كطرابلس، والرها، وأنطاكية، ولماذا ظلوا في القدس محتلين أكثر من تسعين عاماً؟ لماذا أقاموا ممالك وإمارات في المناطق التي احتلوها، وأبادوا سكانها؟ فالحروب الصليبية لم تكن حروباً دفاعية، إنما هي حروب هجومية احتلالية، همجية دموية.
وحينما ننظر إلى منهج آخر من مناهج المستشرقين نرى ميخائيل زابوروف يتصدر المستشرقين السوفيات في تناوله للحروب الصليبية.
رينيه كروسيه يصور الصليبيين بالأبطال كونهم تصدوا في البدايات للجيوش الإسلامية، وأوقفوا زحفها كما يقول، أما زابوروف فيصورهم على حقيقتهم منطلقاً من موقف إنساني موضوعي واقعي صحيح، فيقول مثلاً عند تقدم جيوش الصليبيين حول أسوار القدس:
"إن حمامات الدم، وعمليات النهب الشاملة المقترفة في القدس قد حجبت المآثم والوحشيات المقترفة في أنطاكية".
ويصف المشهد قائلاً: "والمجازر وعمليات النهب والسلب تخللتها الصلوات المحمومة أمام قبر السيد المسيح، ومن الصلوات كان الفرسان ينتقلون في الحال إلى الأعمال الدموية، كانوا يقتلون الجميع من رجال ونساء، وأطفال وشيوخ، وأصحّاء ومقعدين، وفي المسجد الأقصى ذبح الصليبيون ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص، وهذا العدد يذكره على كل حال شهود العيان اللاتين"، "ولم يكن ثمة مكان كان بوسع المسلمين أن يتحاشوا فيه القتلة، وكانوا يسحقون رؤوس الرضع على الحجارة".
أما منطق رينيه كروسيه فهو منطق الغرب الذي خبرناه على مدى الزمن الاستعماري الذي حلّ في بلادنا العربية.
فيقول كروسيه في وصفه لاحتلال القدس: "وهكذا تم سقوط القدس بأيدي الصليبيين إثر اقتحام مروّع بذل فيه كودمزواري بديون كل قواه، وعرض نفسه للموت بجسارة، ولكن أعقب ذلك - مع الأسف - مذبحة بشعة لسكان المدينة من المسلمين، وكانت آثار هذه المذبحة لا إنسانية وفاسدة سياسياً، فإن مسلمي القدس كانوا من النوع الذي يشكل عقبة كأداء أمام الفاطميين لاحتلال باقي مدن الساحل الفلسطيني".(24/103)
فرينيه كروسيه يمجد بطولة قائد الحملة، ويصف عمله بالجسارة، ثم يحلل المذبحة واحتلال القدس فيقول: إن المعركة خاسرة لأن أهل القدس كانوا معارضين للفاطميين في مصر، ولم يتحدث عن المجزرة المروعة إلا بهذا الاقتضاب العابر.
ويرى زابوروف أن مؤرخي هذه الأحداث من الغربيين يصفون هذا الحدث بقدر متفاوت من الإسهاب والتفصيل، ويتحدثون بتفاصيل طبيعية عن أعمال جنود الرب التي تبدو لهم جديرة بالمديح والثناء.
ويوضح زابوروف غاية من غايات الحروب الصليبية حيث يقول: "فبعد فتح الرملة التي صارت أسقفية أخذت ترتفع بينهم أصوات تطالب بالتوجه إلى مصر وبابل، وينقل مدونو الأخبار هذه المشاريع الخيالية التي تزاحمت في رؤوس أشد جند المسيح جشعاً وغروراً، وكأنهم نسوا مساعدة الإخوان المسيحيين، ولم يكونوا يفكرون إلا بإمكان فتح كثير من الممالك".
وحين يتحدث المستشرقون عن موقعة حطين، وتحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين والجيش الإسلامي تبرز بعض الموافقات والتطابقات في الرواية، إلا أن الاختلاف يقع في النظرة الاستراتيجية للحدث برمته.
فرينيه كروسيه اعتبر معركة حطين كارثة، وأن تحرك صلاح الدين كان عبارة عن اقتناص للمدن الفرنجية على حد قوله.
أما لغة زايوروف فإنها تجاري الحق والواقع حيث قال: "كان انتصار صلاح الدين في حطين مقدمة للنجاحات التي أحرزها المسلمون فيما بعد".
وفي الحديث عن صلاح الدين ومعاملته للناس عندما فتح مدينة القدس واستعادها من أيدي الصليبيين فتتقارب الآراء كثيراً، ويبدو أن معاملة صلاح الدين التي شهدها الأعداء قبل الأصدقاء لم يكن بمقدور أحد أن يخفيها.
فرينيه كروسيه يقول: "ولقد سمح صلاح الدين بأريحية كريمة تنم عن روح الفروسية العالية لسكان القدس من المسيحيين بمغادرة المدينة المقدسة، والجلاء عنها بحرية وسلام، كما أنه رفض رفضاً قاطعاً تهديم كنيسة القبر المقدس".
أما زابورف فيقول: "برهن صلاح الدين أنه رجل دولة حكيم، فعامل القدس وسكانها معاملة أرق وأخف بكثير مما عاملهم الغزاة الصليبيون حين انتزعوا المدينة من حكم مصر قبل ذلك بنحو مئة عام، فلم تقع قساوات لا معنى لها، ولم تحدث تدميرات".
في هذا الإطار يمكن لنا أن نتعرف على منهجين استشراقيين تناولا الحروب الصليبية، ولكلٍ منهما وجهة نظر مختلفة، وهذا الاختلاف يتجلى في الموقف من هذه الحروب، ومن أهدافها، وعليه فإن اختلافاً يقع في التسميات والمصطلحات، وكذلك في وصف الأمور من خلال الهوى النفسي أحياناً، ومن خلال الخلفية الفكرية والتاريخية لكل منهج.
http://www.qudsway.to المصدر:
==============(24/104)
(24/105)
التراث والاستشراق
نورة الغامدي
يمكن القول بأن الاستشراق بمعناه العام يشير إلى الدراسات والأبحاث والأعمال الكتابية التي قام بها مفكرون غربيون عن الشرق - وهو فرع من فروع المعرفة في الثقافة الغربية وموضوعه الشرق -، وكلمة استشراق تطلق على كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق ولغاته وآدابه وحضارته.
ويبدو أن الاستشراق تاريخياً برز منذ بدايات القرن الرابع عشر الميلادي عندما أنشئ عدد من كراسي الأستاذية في اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية، وهذا ما عرف بداية الاستشراق الرسمي، في حين يرى البعض أنّ الاستشراق بدأ قبل ذلك التاريخ حينما بدأت الكنيسة جهودها في مواجهة الإسلام والمسلمين، وتزايد مع الحروب الصليبية، وظل مستمراً مع سيطرة الاستعمار الأوروبي الحديث على العالم الإسلامي، ومنذ ذاك الحين اندفع المستشرقون بحركة قوية لامتلاك أكبر قدر ممكن من التراث المادي (اثري)، وفكري (كتب ومخطوطات)، وقاموا بدراسته وفق مناهجهم، ومستوى فهم كل واحد منهم ودربته في البحث والتاريخ، فجاء أكثره مشوهاً، وبعضه سليماً، أما المنهجية في الرواية الاستشراقية فكانت تقوم على معارضة الثقافات على قراءة تراث وتراث، بمعنى آخر تقدم تفسيراً للتراث العربي الإسلامي من خلال تراثهم هم، ثم يقطع أوصال هذا التراث عند تقسيمه وتشتيته من خلال غياب النظرة التاريخية وغير الموضوعية.
واختلطت دوافع وأهداف الاستشراق باختلاط مراحله بالأهداف التبشيرية والاستعمارية ثم الصهيونية، وضمت حركة الاستشراق عدداً هائلاً من المؤسسات والمجلات ودور النشر والكتب والأبحاث، وبرز عدد كبير من المستشرقين الذين حملوا روحاً عدائية واضحة مثل (بيكر) و(غولد تسهير) و(بيرحر) و(برنارد لويس) و(بارتولد).. وبالمقابل ظهرت بعض الأعمال الاستشراقية التي اتسمت بالروح العلمية، ولا تحمل دوافع عدائية مثل (ريلاندرس) و(يوهان رايسسكه)..
ومن المفاهيم الخطرة التي طرحها الاستشراق محاولتهم التأكيد على مفهوم الذات المنعكسة للإنسان العربي المسلم في ( إدراك الإنسان لنفسه كما يراه الآخرون )، في حين أسهم بعضهم أسهاماً واضحاً في تحقيق كتب التراث وفهرستها، وفهمها بشكل مميز، وبرزت أراؤهم بموضوعية معتدلة مثل أعمال (جو ستاف لوبون) و (سيدو) و (تويني)، ووجد بعض الباحثين العرب المسلمين في مثل هذه الأعمال قرباً أكثر من تراثهم، ومجالاً للاعتزاز بماضيهم وحضارتهم، لهذا فإن الحاجة لا تزال قائمة لتصحيح وعينا بتراثنا، وهذا يتطلب إعادة الأمور إلى نصابها بأخذ زمام المبادرة من المستشرقين، وإعادة دراسة التراث ذاته من الداخل على أيد عربية إسلامية، ذات كفاية وخبرة ودراية، وأن تتم معالجة التراث كوحدة ضمن سياقة التاريخ الطبيعي، متسلحين برؤية تاريخية واعية، متطلعين إلى بناء المستقبل انطلاقاً من معطيات واقعنا وخصوصيتنا ومقومات شخصيتنا، وحتى يصبح التراث معاصراً لذاته ومعاصراً لنا في آن.
http://www.al-jazi r ah.com.sa المصدر:
===============(24/106)
(24/107)
الاستشراق
التعريف:
الاستشراق تعبير يدل على الاتجاه نحو الشرق، ويطلق على كل ما يبحث في أمور الشرقيين وثقافتهم وتاريخهم، ويقصد به ذلك التيار الفكري الذي يتمثل في إجراء الدراسات المختلفة عن الشرق الإسلامي، والتي تشمل حضارته، وأديانه، وآدابه، ولغاته، وثقافته، ولقد أسهم هذا التيار في صياغة التصورات الغربية عن الشرق عامة، وعن العالم الإسلامي بصورة خاصة، معبراً عن الخلفية الفكرية للصراع الحضاري بينهما.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
- البدايات:
- من الصعب تحديد بداية للاستشراق، إذ أن بعض المؤرخين يعودون به إلى أيام الدولة الإسلامية في الأندلس، في حين يعود به آخرون إلى أيام الصليبيين، بينما يرجعه كثيرون إلى أيام الدولة الأموية في القرن الثاني الهجري، وأنه نشط في الشام بواسطة الراهب يوحنا الدمشقي في كتابين الأول: حياة محمد، والثاني: حوار بين مسيحي ومسلم، وكان هدفه إرشاد النصارى في جدل المسلمين، وأياً كان الأمر فإن حركة الاستشراق قد انطلقت بباعث ديني يستهدف خدمة الاستعمار وتسهيل عمله، ونشر المسيحية.
- وقد بدأ الاستشراق اللاهوتي بشكل رسمي حين صدور قرار مجمع فيينا الكنسي عام 1312م وذلك بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية.
- لم يظهر مفهوم الاستشراق في أوروبا إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، فقد ظهر أولاً في إنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا عام 1799م، كما أدرج في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838م.
- هربر دي أورلياك (938-1003م) من الرهبانية البندكتية، قصد الأندلس، وقرأ على أساتذتها، ثم انتخب بعد عودته حبراً أعظم باسم سلفستر الثاني 999 - 1003م فكان بذلك أول بابا فرنسي.
- في عام 1130م قام رئيس أساقفة طليطلة بترجمة بعض الكتب العلمية العربية.
- جيرار دي كريمونا 1114- 1187م إيطالي، قصد طليطلة، وترجم ما لا يقل عن 87 مصنفاً في الفلسفة والطب والفلك وضرب الرمل.
- بطرس المكرم 1094-1156م فرنسي من الرهبانية البندكتية، رئيس دير كلوني، قام بتشكيل جماعة من المترجمين للحصول على معرفة موضوعية عن الإسلام، وقد كان هو ذاته وراء أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية 1143م التي قام بها الإنجليزي روبرت أوف كيتون.
- يوحنا الإشبيلي: يهودي متنصر ظهر في منتصف القرن الثاني عشر، وعني بعلم التنجيم، نقل إلى العربية أربعة كتب لأبي معشر البخلي 1133م، وقد كان ذلك بمعاونة إدلر أوف باث.
- روجر بيكون 1214-1294م إنجليزي، تلقى علومه في أكسفورد وباريس، حيث نال الدكتوراه في اللاهوت، ترجم عن العربية كتاب مرآة الكيمياء نورمبرج 1521م.
- رايموند لول 1235-1314م قضى تسع سنوات 1266- 1275م في تعلم العربية، ودراسة القرآن، وقصد بابا روما وطالبه بإنشاء جامعات تدرس العربية لتخريج مستشرقين قادرين على محاربة الإسلام، ووافقه البابا، وفي مؤتمر فينا سنة 1312م تم إنشاء كراس للغة العربية في خمس جامعات أوربية هي: باريس، اكسفورد، ويولونيا بإيطاليا، وسلمنكا بأسبانيا، بالإضافة إلى جامعة البابوية في روما.
- قام المستشرقون بدراسات متعددة عن الإسلام واللغة العربية والمجتمعات المسلمة، ووظفوا خلفياتهم الثقافية وتدريبهم البحثي لدراسة الحضارة الإسلامية، والتعرف على خباياها لتحقيق أغراض الغرب الاستعمارية والتنصيرية.
- وقد اهتم عدد من المستشرقين اهتماماً حقيقياً بالحضارة الإسلامية، وحاول أن يتعامل معها بموضوعية، وقد نجح عدد قليل منهم في هذا المجال، ولكن حتى هؤلاء الذين حاولوا أن ينصفوا الإسلام وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يستطيعوا أن ينفكوا من تأثير ثقافاتهم وعقائدهم، فصدر منهم ما لا يقبله المسلم، وهذا يعني أن أي تصنيف للمستشرقين إلى منصفين ومتعصبين هو أمر تختلف حوله الآراء، فقد يصدر ممن عرف عن الاعتدال قولاً أو رأياً مرفوضاً، وقد يحصل العكس فتكون بعض آراء المتعصبين إنصافاً جميلاً للإسلام، ولهذا نتوقع أن تكون بعض الأسماء التي شملها تصنيفنا الآتي محل نظر.
• مستشرقون منصفون:
- هادريان ريلاند ت1718م أستاذ اللغات الشرقية في جامعة أوترشت بهولندا، له كتاب الديانة المحمدية في جزأين باللغة اللاتينية 1705م، لكن الكنيسة في أوروبا وضعت كتابه في قائمة الكتب المحرم تداولها.
- يوهان ج. رايسكه 1716-1774م هو مستشرق ألماني جدير بالذكر، اتهم بالزندقة لموقفه الإيجابي من الإسلام، عاش بائساً ومات مسلولاً، وإليه يرجع الفضل في إيجاد مكان بارز للدراسات العربية بألمانيا.
- سلفستر دي ساسي: 1838م اهتم بالأدب والنحو مبتعداً عن الخوض في الدراسات الإسلامية، وإليه يرجع الفضل في جعل باريس مركزاً للدراسات العربية، وكان ممن اتصل به رفاعة الطهطاوي.
- توماس أرنولد 1864-1930م إنجليزي، له الدعوة إلى الإسلام الذي نقل إلى التركية والأردية والعربية.
- غوستاف لوبون: مستشرق وفيلسوف مادي، لا يؤمن بالأديان مطلقاً، جاءت أبحاثه وكتبه الكثيرة متسمة بإنصاف الحضارة الإسلامية مما دفع الغربيين إلى إهماله وعدم تقديره.(24/108)
- زيجريد هونكه: اتسمت كتابتها بالإنصاف وذلك بإبرازها تأثير الحضارة العربية على الغرب في مؤلفها الشهير شمس العرب تسطع على الغرب.
- ومن المعتدلين: جاك بيرك، أنا ماري شمل، وكارلايل، ورينيه جينو، والدتور جرينيه وجوته الألماني.
- أ. ج. أربري، من كتبه الإسلام اليوم صدر 1943م، وله التصوف صدر 1950م، وترجمة معاني القرآن الكريم.
• مستشرقون متعصبون:
- جولد زيهر 1850-1920م مجري يهودي، من كتبه تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي، والعقيدة والشريعة، ولقد أصبح زعيم الإسلاميات في أوروبا بلا منازع.
- جون ماينارد أمريكي متعصب، من محرري مجلة الدراسات الإسلامية.
- ص م. زويمر مستشرق مبشر، مؤسس مجلة العالم الإسلامي الأمريكية، له كتاب الإسلام تحد لعقيدة صدر 1908م، وله كتاب الإسلام عبارة عن مجموعة مقالات قدمت للمؤتمر التبشيري الثاني سنة 1911م في لكهنئو بالهند.
- غ. فون. غرونباوم ألماني يهودي، درس في جامعات أمريكا، له كتاب الأعياد المحمدية 1915م ودراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية 1954م.
- أ. ج. فينسينك عدو للإسلام، له كتاب عقيدة الإسلام 1932م، وهو ناشر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي في لغته الأولى.
- كينيث كراج أمريكي متعصب، له كتاب دعوة المئذنة 1956م.
- لوي ماسينيون فرنسي، مبشر، مستشار في وزارة المستعمرات الفرنسية لشؤون شمال أفريقيا، له كتاب الحلاج الصوفي شهيد الإسلام 1922م.
- د. ب. ماكدونالد أمريكي، متعصب مبشر، له كتاب تطور علم الكلام والفقه والنظرية الدستورية 1930م، وله الموقف الديني والحياة في الإسلام 1908م.
- مايلز جرين سكرتير تحرير مجلة الشرق الأوسط.
- د. س. مرجليوث 1885-1940م إنجليزي متعصب، من مدرسته طه حسين وأحمد أمين، وله كتاب التطورات المبكرة في الإسلام صدر 1913م، وله محمد ومطلع الإسلام صدر 1905م وله الجامعة الإسلامية صدر 1912م.
- بارون كارادي فو فرنسي، متعصب، من كبار محرري دائرة المعارف الإسلامية.
- هـ. أ. ر. جب 1895-1965م إنجليزي، من كتبه المذهب المحمدي 1947م والاتجاهات الحديثة في الإسلام 1947م.
- ر. أ. نيكولسون إنجليزي، ينكر أن يكون الإسلام ديناً روحياً، وينعته بالمادية وعدم السمو الإنساني، وله كتاب متصوفوا الإسلام 1910م وله التاريخ الأدبي للعرب 1930م.
- هنري لامنس اليسوعي 1872-1937فرنسي، متعصب، له كتاب الإسلام وله كتاب الطائف، من محرري دائرة المعارف الإسلامية.
- دوزيف شاخت ألماني متعصب ضد الإسلام، له كتاب أصول الفقه الإسلامي.
- بلاشير: كان يعمل في وزارة الخارجية الفرنسية كخبير في شؤون العرب والمسلمين.
- ألفردجيوم إنجليزي، متعصب ضد الإسلام من كتبه الإسلام.
- الأفكار والمعتقدات:
• أهداف الاستشراق
- الهدف الديني:
كان هذا الهدف وراء نشأة الاستشراق، وقد صاحبه خلال مراحله الطويلة، وهو يتمثل في:
1) التشكيك في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، والزعم بأن الحديث النبوي إنما هو من عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، والهدف الخبيث من وراء ذلك هو محاربة السنة بهدف إسقاطها حتى يفقد المسلمون الصورة التطبيقية الحقيقية لأحكام الإسلام ولحياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يفقد الإسلام أكبر عناصر قوته.
2) التشكيك في صحة القرآن والطعن فيه، حتى ينصرف المسلمون عن الاتقاء على هدف واحد يجمعهم، ويكون مصدر قوته، وتنأى بهم اللهجات القومية عن الوحي باعتباره المصدر الأساسي لهذا الدين (تنزيل من حكيم حميد).
3) التقليل من قيمة الفقه الإسلامي، واعتباره مستمداً من الفقه الروماني.
4) النيل من اللغة العربية واستبعاد قدرتها على مسايرة ركب التطور، وتكريس دراسة اللهجات لتحل محل العربية الفصحى.
5) إرجاع الإسلام إلى مصادر يهودية ونصرانية بدلاً من إرجاع التشابه بين الإسلام وهاتين الديانتين إلى وحدة المصدر.
6) العمل على تنصير المسلمين.
7) الاعتماد على الأحاديث الضعيفة والأخبار الموضوعة في سبيل تدعيم آرائهم، وبناء نظرياتهم.
8) لقد كان الهدف الاستراتيجي الديني من حملة التشويه ضد الإسلام هو حماية أوروبا من قبول الإسلام بعد أن عجزت عن القضاء عليه من خلال الحروب الصليبية.
- الهدف التجاري:
لقد كانت المؤسسات، والشركات الكبرى، والملوك كذلك؛ يدفعون المال الوفير للباحثين من أجل معرفة البلاد الإسلامية وكتابة تقارير عنها، وقد كان ذلك جلياً في عصر ما قبل الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي في القرنين التاسع والعشرين.
- الهدف السياسي يهدف إلى:
1) إضعاف روح الإخاء بين المسلمين، والعمل على فرقتهم لإحكام السيطرة عليهم.
2) العناية باللهجات العامية، ودراسة العادات السائدة لتمزيق وحدة المجتمعات المسلمة.
3) كانوا يوجهون موظفيهم في هذه المستعمرات إلى تعلم لغات تلك البلاد، ودراسة آدابها ودينها ليعرفوا كيف يسوسونها ويحكمونها.
4) في كثير من الأحيان كان المستشرقون ملحقين بأجهزة الاستخبارات لسبر غور حالة المسلمين، وتقديم النصائح لما ينبغي أن يفعلوه لمقاومة حركات البعث الإسلامي.
- الهدف العلمي الخالص:(24/109)
بعضهم اتجه إلى البحث والتمحيص لمعرفة الحقيقة خالصة، وقد وصل بعض هؤلاء إلى الإسلام ودخل فيه، نذكر منهم:
1) توماس أرنولد الذي أنصف المسلمين في كتابه الدعوة إلى الإسلام.
2) المستشرق الفرنسي رينيه فقد أسلم، وعاش في الجزائر، وله كتاب أشعة خاصة بنور الإسلام مات في فرنسا لكنه دفن في الجزائر.
- الكتب والمؤتمرات والمجلات:
- تاريخ الأدب العربي: كارل بروكلمان ت1956م.
- دائرة المعارف الإسلامية: ظهرت الطبعة الأولى بالإنجليزية والفرنسية والألمانية وقد صدرت في الفترة 1913-1938م، غير أن الطبعة الجديدة قد ظهرت بالإنجليزية والفرنسية فقط من عام 1945-م وحتى عام 1977م.
- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف والذي يشمل الكتب الستة المشهورة بالإضافة إلى مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل وقد وضع في سبعة مجلدات نشرت ابتداء من عام 1936م.
- لقد بلغ ما ألفوه عن الشرق في قرن ونصف قرن (منذ أوائل القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين) ستين ألف كتاب.
- المؤتمرات والجمعيات:
- عقد أول مؤتمر دولي للمستشرقين في باريس سنة 1873م.
- تتابعت المؤتمرات بعد ذلك حتى بلغت أكثر من ثلاثين مؤتمراً دولياً، فضلاً عن الندوات واللقاءات الإقليمية الكثيرة الخاصة بكل دولة من الدول كمؤتمر المستشرقين الألمان الذي عقد في مدينة درسدن بألمانيا عام 1849م، وما تزال تنعقد مثل هذه المؤتمرات باستمرار حتى الآن.
- يحضر هذه المؤتمرات مئات من العلماء المستشرقين، حيث حضر مؤتمر أكسفورد تسعمائة (900) عالم من خمس وعشرين دولة، وثمانين جامعة، وتسع وستين جمعية علمية.
- هناك العديد من الجمعيات الاستشراقية كالجمعية الآسيوية في باريس تأسست عام 1822م، والجمعية الملكية الآسيوية في بريطانيا وايرلندا عام 1823م، والجمعية الشرقية الأمريكية عام 1842م، والجمعية الشرقية الألمانية عام 1845م.
• المجلات الاستشراقية:
للمستشرقين اليوم من المجلات والدوريات عد هائل يزيد على ثلاثمائة مجلة متنوعة، وبمختلف اللغات نذكر منها على سبيل المثال:
1) مجلة العالم الإسلامي أنشأها صمويل زويمر ت1952م في بريطانيا سنة 1911م وقد كان زويمر هذا رئيس المبشرين في الشرق الأوسط.
2) مجلة عالم الإسلام ظهرت في بطرسبرج عام 1912م لكنها لم تعمر طويلاً.
3) مجلة ينابيع الشرق أصدرها هامر برجشتال في فيينا من 1809 إلى 1818م.
4) مجلة الإسلام ظهرت في باريس عام 1895م ثم خلفتها عام 1906م مجلة العالم الإسلامي التي صدرت عن البعثة العلمية الفرنسية في المغرب، وقد تحولت بعد ذلك إلى مجلة الدراسات الإسلامية.
5) في عام 1910م ظهرت مجلة الإسلام.
الاستشراق وخدمة الاستعمار:
- كارل هنيريش بيكر ت1933م مؤسس مجلة الإسلام الألمانية، قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية في أفريقيا.
- بار تولد لآشقفاخمي ت 1930م مؤسس مجلة عالم الإسلام الروسية، قام ببحوث تخدم مصالح السيادة الروسية في آسيا الوسطى.
- الهولندي سنوك هرجرونجه 1857-1936م قدم إلى مكة عام 1884م تحت اسم عبد الغفار، ومكث مدة نصف عام، وعاد ليكتب تقارير تخدم الاستعمار في المشرق الإسلامي، وقد سبق له أن أقام في جاوه مدة 17 سنة، وقد صدرت الصور التي أخذها لمكة والأماكن المقدسة في كتاب بمناسبة مرور مئة سنة على تصويرها.
- معهد اللغات الشرقية بباريس المؤسس عام 1885م كانت مهمته الحصول على معلومات عن البلدان الشرقية، وبلدان الشرق الأقصى مما يكل أرضية تسهل عملية الاستعمار في تلك المناطق.
- وهكذا نرى أن مثل هؤلاء المستشرقين جزء من مخطط كبير هو المخطط الصهيوني الصليبي لمحاربة الإسلام، ولا نستطيع أن نفهمهم على حقيقتهم إلا عندما نراهم في إطار ذلك المخطط الذي يهدف إلى تخريج أجيال لا تعرف الإسلام، أو لا تعرف من الإسلام إلا الشبهات، وقد تم انتقاء أفراد من هذه الأجيال لتتبوأ أعلى المناصب، ومراكز القيادة والتوجيه لتستمر في خدمة الاستعمار.
آراء استشراقية خطرة:
- جورج سيل زعم في مقدمة ترجمته لمعاني القرآن 1736م أن القرآن إنما هو من اختراع محمد ومن تأليفه، وأن ذلك أمر لا يقبل الجدل.
- ريتشارد بل يزعم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد استمد القرآن من مصادر يهودية، ومن العهد القديم بشكل خاص، وكذلك من مصادر نصرانية.
- دوزي ت 1883م: يزعم أن القرآن الكريم ذو ذوق رديء للغاية، ولا جديد فيه إلا القليل، كما يزعم أن فيه إطناباً بالغاً ومملاً إلى حد بعيد.
- جاء في تقرير وزير المستعمرات البريطاني أومسبي غو لرئيس حكومته بتاريخ 9 يناير 1938م: أن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه، وليس الإمبراطورية وحدها بل فرنسا أيضاً، ولفرحتنا فقد ذهبت الخلافة وأتمنى أن تكون إلى غير رجعة.
- يقول شيلدون آموس: إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلاً وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية، ويقول كذلك: إن القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي.(24/110)
- قال رينان الفرنسي: إن الفلسفة العربية هي الفلسفة اليونانية مكتوبة بأحرف عربية.
- أما لويس ماسينيون فقد كان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة بالعامية وبالحرف اللاتيني.
- مما لا شك فيه أن للمستشرقين فضلاً كبيراً في إخراج الكثير من كتب التراث ونشرها محققة مفهرسة مبوبة.
- ولا شك أن الكثير منهم يملكون منهجية علمية تعينهم على البحث.
- ولا ريب في أن لدى بعضهم صبراً ودأباً وجلداً في التحقيق والتمحيص وتتبع المسائل.
- وما على المسلم إلا أن يلتقط الخير من مؤلفاتهم متنبهاً إلى مواطن الدس والتحريف ليتجنبها، أو ليكشفها، أو ليرد عليها لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، خاصة وأن الفكر الاستشراقي المعاصر قد بدأ يغير من أساليبه وقسماته من أجل المحافظة على الصداقة والتعاون بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، وإقامة حوار بين المسيحية والإسلام، ومحاولة تغيير النظرة السطحية الغربية إلى المسلمين، وربما كمحاولة لاستقطاب القوى الإسلامية وتوظيفها لخدمة أهدافهم فلنكن حذرين.
الجذور الفكرية والعقائدية:
• لقد كان الاستشراق وليد الاحتكاك بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني أيام الصليبيين، وعن طريق السفارات والرحلات، ويلاحظ دائماً أن هناك تقارباً وتعاوناً بين الثالوث المدمر: التنصير والاستشراق والاستعمار، والمستعمرون يساندون المستشرقين والمنصرين لأنهم يستفيدون منهم كثيراً في خططهم الاستعمارية.
• كان الدافع الأساسي هو الجانب اللاهوتي النصراني بغية تحطيم الإسلام من داخله بالدس والكيد والتشويه، ولكن الاستشراق بعد ذلك وفي الآونة الأخيرة بدأ يتحلل من هذا القيد نوعاً ما ليتوجه توجهاً أقرب إلى الروح العلمية.
الانتشار وأماكن النفوذ:
• الغرب هو المسرح الذي يتحرك فوق أرضه المستشرقون، فمنهم الألمان، ومنهم البريطانيون، والفرنسيون، والهولنديون، والمجريون، وظهر بعضهم في إيطاليا، وفي أسبانيا، وقد علا نجم الاستشراق في أمريكا وصارت له فيها مراكز كثيرة.
• لم تبخل الحكومات ولا الهيئات ولا الشركات ولا المؤسسات ولا الكنائس في يوم من الأيام في دعم حركة الاستشراق ومدها بما تحتاجه من مال، وتأييد وإفساح الطريق أمامها في الجامعات حتى بلغ عدد هؤلاء المستشرقين آلافاً كثيرة.
• لقد كانت حركة الاستشراق مسخرة في خدمة الاستعمار، وفي خدمة التنصير، وأخيراً في خدمة اليهودية والصهيونية التي يهمها إضعاف الشرق الإسلامي، وإحكام السيطرة عليه بشكل مباشر أو غير مباشر.
• استطاع المستشرقون أن يتسللوا إلى المجامع العلمية، وقد عين عدد كبير منهم أعضاء في هذه المجامع في سوريا ومصر، كما استطاعوا أن يؤثروا على الدراسات العربية والإسلامية في العالم الإسلامي من خلال تلاميذهم ومؤلفاتهم.
الخلاصة:
• إن الاستشراق تيار فكري يتجه صوب الشرق، لدراسة حضارته وأديانه وثقافته ولغته وآدابه من خلال أفكار اتسم معظمها بالتعصب، والرغبة في خدمة الاستعمار، وتنصير المسلمين، وجعلهم مسخاً مشوهاً للثقافة الغربية، وذلك ببث الدونية فيهم، وبيان أن دينهم مزيج من اليهودية والنصرانية، وشريعتهم هي القوانين الرومانية مكتوبة بأحرف عربية، والنيل من لغتهم، وتشويه عقيدتهم وقيمهم، ولكن بعضهم رأى نور الحقيقة فأسلم، وخدم العقيدة الإسلامية، وأثر في محدثيهم، فبدأت كتاباتهم تجنح نحو العلمية، وتنحو نهو العمق بدلاً من السطحية، وربما صدر ذلك عن رغبة من بعضهم في استقطاب القوى الإسلامية، وتوظيفها لخدمة أهدافهم الاستشراقية، وهذا يقتضي الحذر عند التعامل مع الفكر الاستشراقي الذي يتدثر الآن بدثار الموضوعية.
http://www.khayma.com المصدر:
===============(24/111)
(24/112)
التربية الجهادية
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين•
وبعد:
فيقول الله عز وجل: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
ومما لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله تعالى ضرب مهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لا بد منه للأمة التي تدعو إلى الله عز وجل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وذلك في مرحلة من مراحلها؛ وذلك إما بجهاد الدفع عندما تبتلى الأمة بمن يفتنها في دينها أو دمائها أو أعراضها فيفرض عليها المدافعة فرضًا حسب الإمكان وإلا الفناء والهلاك، أو بجهاد الطلب ونشر دين الله تعالى عندما تكون قادرة على ذلك؛ إذ إن من سنن الله تعالى أن يجد الدعاة أنفسهم وهم يتقدمون بالدعوة إلى الناس أن الطواغيت يحولون بينهم وبين وصول الحق إلى الناس وأن يكون الدين كله لله، فيشرع حينئذ جهاد المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى• وهذا فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم من أجله الدعوة وتبذل فيه التضحيات في سبيل الله تعالى•
وإن الأمة الإسلامية اليوم تمر بظروف عصيبة تكالب فيها الأعداء وتنادوا من كل صوب، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملة شرسة وحقد دفين يريدون من ورائه مسخ الإسلام في قلوب أهله، وجر المسلمين إلى التبعية للغرب الكافر• وساعدهم في ذلك المنافقون من بني جلدتنا؛ فجاءت الحرب شاملة من خارج الأمة ومن داخلها: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32).
ومع إيماننا بحتمية الصراع بين الحق والباطل، ومع أن جهاد الكفار أصبح أمرًا مفروضًا على المسلمين دفاعًا عن الدين والعرض حتى لا تكون فتنة، إلا أن المسلم الناظر في أحوالنا اليوم وما هي عليه من ضعف إيمان، وركون إلى الدنيا، وترهل في الهمم والأجسام، ويأس وإحباط ليَشعُر بالخطر على نفسه وعلى أمته، ويفرض عليه ذلك المبادرة مع إخوانه في وضع برامج علمية وعملية لإعداد النفوس وانتشالها من نومها أو موتها، وإحياء الجهاد وتحديث النفس به. فلقد قال رسول الله: "من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق"(1).
وتحديث النفس بالغزو ليس المراد منه خاطرة تمر في النفس ثم تدفن في أودية الدنيا وزينتها التي سيطرت على كثير منا؛ وإنما المراد به العزيمة الصادقة على ذلك، ومن علاماتها الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة الشاملة للجهاد في سبيل الله تعالى علماً وعملاً وحالاً• قال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ...) (التوبة: من الآية46).
وفي المقابل لأحوال المفرِّطين في إعداد العدة لجهاد الكفار وتربية النفوس على ذلك، توجد طائفة أخرى قد أفرطت وتعجَّلت في مواجهة الكفار والمنافقين بالصدام المسلح دون إعداد شامل لهذه المواجهة، وقبل أن يأخذ البلاغ العام للناس حقه كي تستبين لهم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، ويزول اللبس والاشتباه بينهما ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة•فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة على الدعوة وأهلها وعلى عامة المسلمين الذين لبس الأمر عليهم ولم يستبينوا سبيل المجرمين•
وعندما نذكر المستعجلين للجهاد قبل الإعداد له فإنما نقصد أولئك الذين بادروا إلى المواجهة مع الأنظمة الكفرية المستقرة المتمكنة قبل الإعداد لذلك، وقبل وضوح الراية الكفرية للناس في هذه الأمكنة• أما الساحات الجهادية التي قد اتضحت فيها رايات الكفار فهذا جهاد مشروع ومطلوب كما هو الحال في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين•
والمقصود مما سبق أن كلا الفريقين: سواء المهملون للتربية الجهادية في برامجهم ومناهجهم وسيطرة حياة الترف والترهل على حياتهم، أو المستعجلون للجهاد المسلح قبل استكمال عُدته في النفس والواقع؛ أن كلا الفريقين محتاج لإعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى بمفهومه الشامل، وهو ما دفع إلى كتابة هذه الأوراق التي أرجو أن تكون فاتحة خير في هذا الموضوع المهم، ولعلها أن تفتح الباب للمهتمين بالدعوة والجهاد كي يدلوا بدلوهم في هذا المجال المهم من مجالات التربية والإعداد للجهاد ويكملوا ما نقص منه حتى يجد المربون فيه بغيتهم من البرامج العلمية والعملية لإعداد شباب الصحوة وبقية الأمة للجهاد في سبيل الله تعالى•
وقبل الدخول في ذكر الوسائل والبرامج التي تُحيي في النفوس الجهاد والاستعداد له يحسن الحديث عن بعض المقدمات المهمة التي تتعلق بالجهاد والغزو في سبيل الله تعالى•
المقدمة الأولى: المعنى العام للجهاد ومراتبه•
المقدمة الثانية: أقسام الجهاد في سبيل الله عز وجل•
المقدمة الثالثة: غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل•
المقدمة الرابعة: ثمرة الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة•(24/113)
المقدمة الخامسة: مخاطر إهمال الجهاد في سبيل الله عز وجل وترك الاستعداد له•
المقدمة الأولى
المعنى العام للجهاد ومراتبه
المعنى اللغوي:
قال الراغب في مفردات القرآن: (الجَهْد والجُهْد: الطاقة والمشقة• وقيل الجَهْد بالفتح: المشقة، والجُهْد: الوسع)(2).
وقال ابن حجر: (والجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة)(3).
المعنى الشرعي:
يدور المعنى الشرعي عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم•
فهو عند الأحناف: (بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك)(4).
وبأنه: (الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله)(5).
وعند المالكية هو: (قتال مسلم كافرًا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى)(6).
وعند الشافعية كما قال الحافظ ابن حجر: (وشرعًا: بذل الجهد في قتال الكفار)(7).
وعند الحنابلة: (قتال الكفار)(8).
وكل هذه التعريفات يُرى أنها قد حصرت الجهاد في قتال الكفار، وهذا هو تعريف الجهاد عند الإطلاق• وهناك أنواع أخرى قد أطلق عليها الشارع اسم الجهاد مع خلوها من القتال كجهاد المنافقين، وجهاد النفس•
ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفًا عامًا للجهاد قال فيه: "والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق"(9).
وقال أيضاً: "••• وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله
من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان"(10).
وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر - وهو نشر التوحيد - والنهي عن المنكر الأكبر - وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به - وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية•
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه فيقول: "لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وقُبَّتَه، ومنازلُ أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعةُ في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول ا صلى الله عليه وسلم في الذِّروةِ العُليا منه، واستولى على أنواعه كلِّها فجاهد في الله حقَّ جهاده بالقلب والجَنانِ، والدعوة والبيان، والسيف، والسِّنَانِ، وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده• ولهذا كان أرفعَ العالمين ذِكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا•
وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52).
فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحُجة، والبيان، وتبليغ القرآن• وكذلك جهادُ المنافقين إنما هو بتبليغ الحُجَّة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73).
فجهادُ المنافقين أصعبُ من جهاد الكفار، وهو جهادُ خواصِّ الأمة، وورثة الرُّسل، والقائمون به أفرادٌ في العالم، والمشاركُون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هُم الأقلين عددًا، فهم الأعظمون عند الله قدرًا•
ولما كان من أفضل الجهاد قولُ الحقِّ مع شدة المُعارِضِ، مثلَ أن تتكلم به عند من تُخاف سَطوتهُ وأذاه، كان للرسلِ - صلواتُ الله عليهم وسلامُهُ - مِن ذلك الحظُّ الأوفَرُ، وكان لنبينا - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك أكملُ الجهاد وأتمُّه•
ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذاتِ الله؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم (المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى الله عنه)(11). كان جهادُ النفس مُقدَّماَ على جهاد العدوِّ في الخارج، وأصلاً له؛ فإنه ما لم يُجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرَتْ به، وتترك ما نُهيت عنه، ويُحارِبها في الله، لم يمكنه جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكِنُهُ جهادُ عدوه والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له، متسلطٌ عليه، لم يُجاهده، ولم يُحاربه في الله، بل لا يُمكنه الخروجُ إلى عدوه، حتى يُجاهد نفسه على الخروج•(24/114)
فهذان عدوَّانِ قد امتُحِنَ العبدُ بجهادهما، وبينهما عدوٌ ثالث، لا يمكنه جهادُهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يُثَبِّطُ العبدَ عن جهادهما، ويُخَذِّلُه، ويُرجِفُ به، ولا يزالُ يُخَيِّل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يُمكنه أن يُجاهِدَ ذَيْنكَ العدويْنِ إلا بجهاده، فكان جهادُه هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان؛ قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )(فاطر: من الآية6). والأمر باتخاذه عدوًا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنَّهُ عدو لا يفتر،ولا يُقصِّر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس•
فهذه ثلاثة أعداء، أُمِرَ العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بُلي بمحاربتها في هذه الدار، وسُلِّطت عليه امتحاناً من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدداً وعُدَّةً وأعوانًا وسلاًحًا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددًا وعُدَّةً وأعوانًا وسلاحًا، وبَلاَ أحدَ الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلُوَ أخبارهم، ويمتحن من يتولاه، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(الفرقان: من الآية20) ، وقال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)(محمد: من الآية4)، وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).
إذا عُرِفَ هذا فالجهاد أربع مراتب:
جهاد النفس - وجهاد الشيطان - وجهاد الكفار - وجهاد المنافقين•
فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلُّم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين•
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرَّدُ العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها•
الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعه علمُهُ، ولا يُنجِيه من عذاب الله•
الرابعة: أن يُجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله• فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الرَّبَّانِيينَ؛ فإن السلف مجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرف الحقَّ، ويعمل به، ويُعَلِّمَه، فمن علم وعَمِلَ وعلَّمَ فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات•
وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان:
إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوكِ القادحة في الإيمان•
الثانية: جِهادهُ على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات• فالجهادُ الأول يكون بعُدة اليقين، والثاني يكون بُعدة الصبر؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
فأخبر أن إمامة الدين إنما تُنال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات•
وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فأربع مراتب:
بالقلب، واللِّسان، والمال، والنفس، وجهادُ الكفار أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان•
وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب:
الأولى: باليد - إذا قَدَرَ - فإن عَجَزَ انتقل إلى اللسان، فإن عَجَزَ جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و (من مات ولم يغزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُْعبَةٍ من النفاق)(12).
وأكملُ الخلق عند الله، من كمَّلَ مراتِبَ الجِهاد كُلَّهَا، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتمُ أنبيائه ورُسُلِهِ؛ فإنه كمَّل مراتبَ الجهاد وجاهد في سبيل الله حقهَ جهاده ••"(13).
وقال أيضاً: "لا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي: بالقرآن (جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ"(14).
من هذا الكلام النفيس حول المفهوم العام للجهاد وأنواعه يمكن الخروج بالفوائد التالية:
الأولى: أن الجهاد بمفهومه العام يشمل جهاد النفس والشيطان في طاعة الله عز وجل وترك معصيته، كما يشمل جهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وجهاد أهل البدع والمنكرات باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الاستطاعة، كما يعني جهاد الكفار بالسيف والسنان إما جهاد دفع أو طلب وجهاد الكفار بالسيف هو الذي ذكر صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام هذا الدين وهو المراد من الجهاد في سبيل الله عند الإطلاق•(24/115)
الثانية: أن جهاد الكفار في المعارك هو قمة الجهاد وكماله، بل هو قمة الإيمان وهو ثمرة جهاد طويل مع النفس والشيطان وتربية لها على الصبر والتضحية وقوة الصلة بالله عز وجل، ولا يصبر على جهاد الكفار وينتصر عليهم إلا أولئك الذين انتصروا على أنفسهم والشيطان في جهادهم لهما وكان لهم نصيب من جهاد البيان وقول الحق والصبر على الأذى فيه؛ إذ إن معركة الجهاد مع الكفار إن هي إلا ساعات أو أيام حاسمة لكنها ثمرة لمعركة سبقتها مع النفس والشيطان، وجهاد بالعقيدة مع الباطل بفضحه وبيان ما يضاده من الحق وقد يستغرق ذلك سنوات أو أجيال، وهذا أمر لا بد منه وهو ضرب من ضروب الجهاد وإعداد للجهاد الحاسم مع الكفار•
الثالثة: أن الكُمَّل من الناس في باب الجهاد من قام بمراتب الجهاد كلها وأعد نفسه بجميع متطلبات الإعداد للانتصار على النفس والهوى؛ والذي هو ممهد للانتصار على الكفار في ساحات الوغى، وممهد للدخول في ذروة سنام هذا الدين، والثبات أمام الأعداء، والاستجابة لداعي الجهاد، والتضحية في سبيل الله عز وجل بالمال والنفس عند النداء، لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ولكن لا يسارع إلى ذلك إلا من كان له جهاد سابق مع نفسه وهواه وكان النصر له عليها•
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "••• إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه؛ قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال جهادك هواك• وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم"(15).
المقدمة الثانية
أقسام الجهاد في سبيل الله
بعد أن تعرفنا على المعنى العام للجهاد ومراتبه نأتي فنتعرف على أقسام الجهاد مع الكفار حيث ينقسم إلى قسمين: جهاد الدفع، وجهاد الطلب•
1- جهاد الدفع: وهو جهاد الصائل والمعتدي - سواءً كان فردًا أو طائفة - ومنعه من فتنة المسلمين في دينهم والاعتداء على الأنفس والأعراض أو الاستيلاء على بلاد المسلمين•
وهذا القسم من الجهاد فرض عين على كل مسلم مكلف قادر؛ وذلك عندما يهاجم الكفار المسلمين في عقر دارهم أو يحصل الاعتداء من الصائل على مال المسلم أو عرضه، أو نفسه، وقد يكون الصائل كافرًا أو محاربًا مسلمًا، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد)(16).
وعن مدافعة الصائل يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وهذا الذي تسميه الفقهاء "الصائل" وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئًا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة، أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال؛ بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز• وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع عن نفسه• وهل يجب عليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره• وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان، إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجرى السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم، في مذهب أحمد وغيره"(17).
وقد عد شيخ الإسلام مدافعة الصائلين ومقاتلة المحاربين من المسلمين من أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل وذلك بقوله: "لا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب المحاربين وإقامة الحد، وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى (البيكار) وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزوات"(18).
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام الجهاد فيقول: "فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوباً والعدو طالبًا، وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوبًا، وقد يقصد كلا الأمرين، والأقسام ثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد•
وجهاد الدَّفع أصعب من جهاد الطلب؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أُبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه - كما قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(الحج: من الآية39).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من قُتِل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه؛ فهو شهيد)(19) - لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباحٌ ورخصة؛ فإن قتل فيه فهو شهيد•(24/116)
فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه؛ وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق•
ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تُباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرَّته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد•
ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين•
وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رَجُلين: إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلُّه لله، وإما راغبٌ في المغنم والسبي•
فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً وعقلاً، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالباً مطلوباً؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفَر"(20).
وقد جعل أهل العلم جهاد الدفع فرض عين على كل مسلم ذكر مكلف حتى يندفع العدو عن ديار المسلمين•
المقدمة الثالثة
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى
الجهاد في سبيل الله تعالى عبادة من العبادات العظيمة التي يتعبد لله تعالى بها، وهو كما ذكرت سابقًا يعد من لوازم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ التوحيد للناس وإزالة ما يضاده من الشرك•
فما أعظمه وأشرفه من عبادة؛ حيث لا ينحصر نفعها على القائم بها ولكنها تتعداه إلى الناس بهدايتهم إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وإنقاذهم بإذنه تعالى من الشر والشقاء في الدنيا والآخرة•
ويمكننا حصر الغاية من الدعوة والجهاد في الأهداف التالية:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فشعور المجاهد أنه عبد لله عز وجل يحب ربه سبحانه، ويحب ما يحبه من الجهاد في سبيله، ويبغض ما يبغضه من الشرك والفساد، ويبغض من يبغضهم الله من أعدائه الكفرة، ويجاهدهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى• إن هذا الشعور لمن أعظم الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى• ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلا على شعوره بالعبودية لله عز وجل والتلذذ بذلك لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة(21).
كما أن في مصاحبة شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات المجاهد أكبر الأثر في التربية على الإخلاص وتحري الحق والصواب واللذان هما شرطا قبول العبادة، وعلى العكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل المجاهد أنه متعبد لله تعالى بدعوته وجهاده، فإنه بذلك يضعف إخلاصه وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، مما ينتج عنه في نهاية الأمر فتور المجاهد أو مزلة قدمه عياذًا بالله تعالى•
وإن بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل ليعد من أكبر العلامات على محبة الله تعالى ودينه، وعلى العكس من ذلك فيما لو تقاعس المسلم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وبخل بماله أو نفسه عندما يوجد داعي الجهاد؛ فإن هذا دليل على ضعف المحبة لله تعالى ولدينه•
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن كان محبًا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله• فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ )(التوبة: من الآية24).
إلى قوله: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد ••• والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه• ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كان محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة لله(22).(24/117)
وقال في موطن آخر: " والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد• والجهاد دليل المحبة الكاملة ••• فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له"(23).
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة؛ وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيله على بصيرة• ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح المجاهدين في سبيله سبحانه والصابرين على ما أصابهم في سبيله وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم• وعندما ينْشَدُّ الداعية إلى هذه الغاية وتنجذب نفسه إليها فإنه يستسهل الصعاب ويمضي في طريقه بقوة وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنه بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة ولا ينتظر جزاء عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنما يروض نفسه ويربيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم في دار النعيم المقيم• ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس المخلصة لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا•
أما أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأن وقت ومكان توفية الأجر ليس مجاله الدنيا وإنما في الآخرة - دار الحساب والجزاء - ولذلك فهم يعملون ويجاهدون حتى يأتيهم اليقين•
3- تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم - بإذنه تعالى - من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم•
وهذا لا يتأتى إلا بإزالة الشرك وأربابه الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل التوحيد إلى قلوبهم، ومن أجل ذلك شرع الجهاد لإزالة هذه الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس؛ وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39).
وعندما يتذكر المجاهد هذه المهمة الجسيمة وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنه يضاعف من جهده ولا يقر له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الناس والفساد المستطير والظلم العظيم في حياتهم والذي يؤول بهم إلى الشقاء والعنت وكثرة المصائب في الدنيا وإلى العذاب الأليم في الآخرة• ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة•
ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، ولو كان فيه ما فيه من المشقة وبذل الأرواح والجراحات؛ فإن هذه المشقات والمكاره لا تساوي شيئًا في مقابلة ما يترتب على الجهاد من المصالح العظيمة وذلك من نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم•
وبعد هذا التفصيل في غايات الجهاد يمكن القول بأنها كلها ترجع إلى غاية في الدنيا، وغاية في الآخرة•
فأما غاية الجهاد في الدنيا:
فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده•
وأما الغاية من الجهاد في الآخرة:
فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه•
والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته•
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(24).(24/118)
وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضًا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد• إذًا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد•
وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة - وهي الشرك - عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغيت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار•
شبهة وجوابها :
يثير بعض المهزومين روحيًا وعقليًا من أبناء المسلمين - وتحت ضغط الواقع اليائس وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر - قولهم بأن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع عن النفس والأوطان وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على ديار غير المسلمين بالقوة• ولقد ظهرت هذه الشبهة بشكل جلي في السنوات الأخيرة وبالأخص في هذه الأيام بعد الحملة الصليبية واليهودية على ديار المسلمين بحجة ما يسمى مكافحة الإرهاب، مما دفع بعض المهزومين من أبناء المسلمين بل - ويا للأسف - من بعض دعاتهم إلى أن يركزوا على أن الإسلام دين سماحة وسلام ومحبة للناس، وليس دين إرهاب ولا قتال ولا غلظة على الكفار، وصاروا يكررون الآيات والأحاديث التي فيها ذكر الصفح والسماحة والسلام، ويضربون صفحًا عن النصوص التي فيها جهاد الكفار والإغلاظ عليهم حتى يكون الدين كله لله، وحتى يسلم الكفار أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون•
وللرد على هذه الشبهة أورد جوابين: أحدهما مجمل والآخر مفصل:
أما المجمل :
فهو القول بأن دوافع الجهاد في الإسلام تختلف عن تلك الدوافع التي تنشأ عنها الحروب من أجل الملك فحسب؛ فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله في جميع المعمورة، فمتى كان في المسلمين قوة وجب عليهم أن ينشروا هداية الله عز وجل في العالم، ولا يتركوا مكانًا تعلو فيه كلمة الكفر إلا فتحوه وأعلو كلمة التوحيد فيه• فإن لم يكن بهم قوة فلا أقل من أن يدافعوا عن بلادهم التي تحت أيديهم حتى لا يعلوا فيها الكفر ويفتن الناس في دينهم، مع إعدادهم لجهاد الفتح والطلب• وبناء على هذه الغاية الشريفة للجهاد تسقط كل بنود هيئة الأمم المتحدة الكافرة، وما يسمى بإعلان حقوق الإنسان التي تدعو إلى احترام حدود الغير، والسلام الدائم، والتعايش بين أصحاب الملل، وإلى حرية الاعتقاد لجميع الأفراد•
وأما الجواب المفصل :
فيكفينا فيه ما سطرته يد الداعية المجاهد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن الكريم؛ حيث لم أعثر حسب اطلاعي القاصر على من تكلم في هذا الموضوع المهم بكل عزة وصراحة كما تكلم هذا الرجل عليه رحمة الله•
وفيما يلي مقتطفات متفرقة من رده الحاسم على هؤلاء المهزومين: يقول رحمه الله تعالى: "إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة ••• فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام• والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبيه له أكثر من المبررات التى حملتها النصوص القرآنية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الأنفال:38-40).
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي •• مع تقرير مبدأ: "لا إكراه في الدين" •• أي لا إكراه على اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار•
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك •• وهذه وحدها تكفي •• ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين؛ فلم يُسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!(24/119)
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، -رضي الله عنهم - جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام •• فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه• ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر ••••
حقًا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده •• إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته• ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه•
هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً•
هذا كله حق •• ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضًا••
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة •• إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله• ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركًا "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض" •• كل الأرض •• للشر والفساد والعبودية لغير الله•
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! •• ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانًا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها•
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعًا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق!
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من أجناس!•• ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة •• حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد •• إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! •• والإسلام ليس مجرد عقيدة حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان• إنّما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس• والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام• وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله؛ فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة• والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدًا أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة •• ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء•
وقد غشي على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" •• وأنه مجرد "عقيدة" في الضمير؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة •• ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادًا لفرض العقيدة على الضمير!
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ فالإسلام منهج الله للحياة البشرية• وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهادٌ لتقرير المنهج وإقامة النظام• أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات •• ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة•(24/120)
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان •• فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة• وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة في المراحل التاريخية المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الطويلة"(25).
ويقول في موطن آخر: "والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام"ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام!" •• يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله •• وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما •• ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: "الحرب الدفاعية" •• والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك •• إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة "الإسلام" ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات ••
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين •• إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور •• أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور •• ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله •• ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
2- جهاد الطلب: وهو طلب العدو الكافر والظفر به وبأرضه حتى تخضع البلاد والعباد للإسلام، ويقضى على الشرك، ويكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا•
وهو الذي قال عنه ابن القيم في الفقرة السابقة: "وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين"•
بينما قال عن جهاد الدفع: "فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلاً)•
قال الله تعالى عن جهاد الطلب: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وعند القدرة على جهاد الطلب فإنه يكون على الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين للجهاد فلا يسوغ لأحد أن يتخلف، بل يصبح الجهاد عينًا على كل مسلم•
ولا يعني كون جهاد الطلب كفائيًا أن يزهد المسلم فيه ويفرط في أن يكون من أهله؛ فإنه من شأن أولياء الله المتقين• ويكفي في فضل أهله وعلو منزلتهم على القاعدين قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض"•• كل الأرض •• ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! •• إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات •• فهنا: "لا إكراه في الدين" •• أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!"(26).
تنبيه:
إن الحديث السابق عن غاية الجهاد في الإسلام لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ومدى قوة المسلمين وضعفهم وهل لهم شوكة وتمكين أو لا•(24/121)
إن بيان غاية الجهاد لا يتعارض مع كف اليد في مراحل الاستضعاف، أو الاقتصار على جهاد الدفع في بعض الأمكنة أو الأزمنة؛ فهذا من باب السياسات الشرعية وترجيح المصالح أو المفاسد• وكل هذه الاعتبارات ما هي إلا أسباب مؤقتة يجب على المسلمين أن يتجاوزوها لينتقلوا من مرحلة إلى غيرها، وأن يأخذوا بالأسباب التي تؤول بالمسلمين إلى غايات الجهاد ومراحله الأخيرة التي يكون الدين فيها كله لله، ويخضع الناس لسلطان الإسلام، ويتحدد مواقف الناس فيها: إما مسلم مؤمن بدين الإسلام، وإما مسالم آمن يدفع الجزية، وإما محارب خائف•
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "كان صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن •• وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة صار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة"(27).
وهذا ما أوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "زاد المعاد" وهو يستعرض مراحل الدعوة والجهاد منذ بعثت صلى الله عليه وسلم حتى نزلت سورة براءة حيث يقول: صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2)؛ فنبأه بقوله: (اقْرَأْ) وأرسله بـ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤُمر بالكف والصبر والصفح•
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده• ولما نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها؛ فأمره فيها أن يُقاتل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم؛ فجهاد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان•
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم - وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له - فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مُؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم• وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )(التوبة: من الآية2).
قاتلهم؛ وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: وهي الحُرُمُ المذكورة في قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(التوبة: من الآية5).
فالحرم هاهنا: هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان - وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك - وآخرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة: من الآية36) ؛ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحَرَّمُ• ولم يَسِرْ المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذمة الجزية•
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب•(24/122)
وأما سيرته في المنافقين: فإنه أُمِرَ أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحُجَّة، وأمره أن يُعْرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم؛ فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"(28). ا.هـ.
ونخلص بعد هذا الكلام النفيس في بيان المراحل التي تنقل فيها الرسو صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده إلى النتائج التالية:
1- أن الرسو صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية قد أُمِرَ بكف اليد وترك الجهاد المسلح مع كفار قريش، وأُمِرَ فيها بجهاد البلاغ والبيان، وتحمل في سبيل ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم من الأذى أصنافًا كثيرة• ولا شك أن في الأمر بكف اليد في المرحلة المكية حكمًا وغايات عظيمة لعل من أبرزها:
- ضعف المسلمين وقلة عددهم بحيث لو تمت المواجهة مع المشركين فإن ذلك من شأنه أن يئد الدعوة في مهدها•
- ومنها: الإعداد والتربية للقاعدة الصلبة التي يقوم على كاهلها نشر الإسلام ونصرة الدين•
- ومنها: أن يأخذ البلاغ حقه، وتقوم الحجة على المشركين، ويتم البيان للناس عن حقيقة الإسلام وحقيقة سبيل المجرمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وغير ذلك من الحكم(29).
2- أن الجهاد المسلح للكفار لم يؤذن فيه إلا بعد الهجرة بعد أن تهيأ للمسلمين المكان الذي يأمنون فيه وينطلقون منه ويفيئون إليه•
وجاء الإذن في أول الأمر لرفع الظلم، ثم تلا ذلك الأمر بجهاد المعتدي، ثم لمَّا قويت شوكة المسلمين بدأ جهاد الطلب حتى انتهى أمر الجهاد بعد آية السيف إلى أن لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو الجزية أو الحرب•
وفي ضوء ما سبق عرضه من غايات الجهاد ومراحله يمكن مناقشة موقفين خاطئين من الجهاد اليوم أحدهما يقابل الآخر•
الموقف الأول:
هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها•
ويستند أصحاب هذا الرأي على هدي صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر• وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل•
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهدي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل• ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين سبقت الإشارة إليهم في الصفحات السابقة عند الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله؛ وهم الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب•
وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معيناً• وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة• وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين •• إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية"(30).
ولذلك فهم يتعاظمون مثل قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: من الآية5)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).(24/123)
ويحاول سيد قطب - رحمه الله تعالى - تفسير مواقف هؤلاء المهزومين، ولماذا تهولهم مثل هذه النصوص حتى يحاولوا تقييدها بالمراحل السابقة من أحكام فرض الجهاد فيقول: "إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو •• إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" •• جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله •• جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد •• "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" •• وأنه ليس جهادًا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله؛ إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم؛ إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهادًا لإقامة مملكة العبد؛ إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض •• ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها، لتحرير "الإنسان" كله؛ بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها •• فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تُعَبِّد العباد للعباد!
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعًا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم •• إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلاً لا تستساغ! •• لولا أن الأمر ليس كذلك، وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية؛ فليس لواحد منها أن يقول: إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعًا من ذلة العبودية للعباد، ويرفع البشر جميعًا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك!
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبيًا منظمًا لئيمًا ماكرًا خبيثًا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وإن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد!
وأخيرًا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيًا في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر •• وهو يهول فعلاً! •• فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عمومًا! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعًا بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلاً •• ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً!
ولكن فات هؤلاء جميعًا أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه• وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يومًا بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة••• إن الناس لا يستطيعون أن يفهموا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال• إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض، ومكافحة ألوهية الطواغيت"(31).
الموقف الثاني:
وأصحاب هذا الموقف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء من كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم •• إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ حتى يكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة، ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذي أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(32).
وقد جاء هذا الموقف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل الموقف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار•(24/124)
وبين هذين الموقفين موقف ثالث نحسب أنه الموافق لهدي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ وهو الموقف الذي رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسو صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار• ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى•
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك•
تنبيه:
ليس المعني في الموقف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وغيرها، وإنما المعني هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم وقيل لهم بأن حكومتهم شرعية، وأن الخارجين عليها متطرفون إرهابيون مفسدون، ولم يجد الناس من يزيل عنهم هذا اللبس• فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضًا•
أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في مثل أفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس الوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار•
أما جهاد الطلب فإنه لا يكون إلا بعد قيام دولة وكيان قوي للمسلمين ينطلقون منه ويفيئون إليه، ويهاجر إليه وتصب طاقات المسلمين فيه• وقبل قيام هذا الكيان القوي الآمن فإنه ليس أمام المسلمين إلا إعداد العدة لإقامة هذا الكيان، والقيام بجهاد الدفع فيما لو تعرض المسلمون إلى عدو كافر يريد صرفهم عن دينهم أو استباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وديارهم•
المقدمة الرابعة
فضائل الجهاد في سبيل الله تعالى وثماره في الدنيا والآخرة
تقدم الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله عز وجل وثمرته الكبرى في الدنيا والآخرة، وأنه شرع لتعبيد الناس لرب العالمين، وحتى لا تكون فتنة ولا شرك ويكون الدين كله لله• هذا في الدنيا أما في الآخرة فرضوان الله وجنته والنجاة من سخطه والنار•
وقد نبه الله سبحانه إلى خيرية الجهاد في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
وسيتم في هذه المقدمة تفصيل بعض الثمار والخيرات التي تترتب على الجهاد في سبيل الله عز وجل في الدنيا والآخرة، والتي هي فرع عن غاية الجهاد.
( أ ) الثمار التي تظهر في الدنيا :
1- بالجهاد تظهر حقيقة المحبة لله عز وجل وصدق العبودية له، ويظهر الصادق فيها من الكاذب؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وتقديم الروح رخيصة لله تعالى من أقوى البيان على صحة دعوى المحبة لله تعالى ولدينه، وبالجهاد يمحص ما في القلوب ويبتلى به ما في الصدور ويتخذ الله عز وجل من شاء من عباده شهداء•
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى؛ فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلىُّ حُرقَة الشَّجيِّ• فتنوع المدعون في الشهود• فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(آل عمران: من الآية31).
فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: من الآية54).(24/125)
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )(التوبة: من الآية111).
فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع: عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا• فرأوا من أعظم الغَبْن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس• فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار• وقالوا: "والله لا نقيلك ولا نستقيلك"•
فلما تم العقد وسلموا المبيع، قيل لهم: منذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معًا: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (آل عمران: 169-170)(33).
وقد تقدم قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "•• والجهاد دليل المحبة الكاملة ••• فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهي عما نهى عنه؛ فهو موافق له في ذلك •••)(34).
وقال أيضًا: "فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه"(35).
وهنا يحسن الإشارة إلى مسألة مهمة تتعلق بعقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله؛ ألا وهي: أن هذه الشعيرة العظيمة التي هي صلب التوحيد وأسه المتين إنما تقوى وتصقل بالجهاد في سبيل الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنها تضعف ويصيبها الوهن بترك ذلك أو ضعفه• وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وفي واقع الدعوة إلى الله عز وجل يرى أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، وبين عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية•
فكلما قويت الدعوة وقوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحب الجهاد في نفس العبد المخلص لربه قويت هذه العقيدة في نفسه وظهرت بشكل واضح في حياته ومواقفه ومحبته وعداوته؛ حتى يصبح على استعداد أن يهجر وطنه وأهله وماله إذا اقتضى الأمر ذلك•
بل إن هذه العقيدة لتبلغ ذروة السنام في قلب الداعية ومواقفه؛ وذلك في جهاد أعداء الله ولو كانوا أقرب قريب؛ قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة:71).
والعكس من ذلك واضح ومشاهد؛ فما من داعية فترت همته عن الدعوة والجهاد ومال إلى الدنيا وأهلها إلا كان الضعف في عقيدة الولاء والبراء مصاحبًا لذلك•
والحاصل أن عقيدة الولاء والبراء ليست عقيدة نظرية تحفظ في الذهن المجرد، بل هي: عقيدة وعمل ومفاصلة ودعوة وجهاد وحب وبغض؛ فإذا أردنا أن تقوى هذه العقيدة فهذا هو طريقها: طريق الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى، وكلما ابتعد العبد عن هذه الأعمال مؤثرًا الراحة عليها فهذا معناه هشاشة هذه العقيدة وتعرضها للخطر والاهتزاز•
وهذه إحدى ثمار الجهاد؛ حيث يميز صادق الولاء لله تعالى ولدينه من كاذبه، كما أنه في نفس الوقت يقوي هذه العقيدة ويصقلها• والصلة بين الجهاد وعقيدة الولاء والبراء صلة تناسب مطرد متبادل؛ بمعنى أن الحماس للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى يقوى بقوة عقيدة الولاء والبراء في القلب، كما أن الولاء والبراء يقوى ويشتد بالجهاد في سبيل الله تعالى•
2- نشر التوحيد وشريعة الإسلام التي يهنأ الناس في ظلالها، وتسعد البشرية بها، ويرتفع عنها الظلم والشقاء بارتفاع الشرك الذي فيه استعباد الناس وظلمهم وقهرهم• والتاريخ يشهد بذلك؛ فما من أمة فشى فيها الشرك والكفر إلا وعانت من الظلم والشقاء وتسلط الطواغيت الشيء العظيم، وما من أمة دخلها الإسلام وحكمها بحكمه العادل القائم على توحيد الله عز وجل إلا صلح أمرها وعاشت هنيئة سعيدة تحت ظلاله الوارفه، فالجهاد إذن شرع رحمة بالعباد•(24/126)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة؛ وذلك مما يفرح به العبد المطيع؛ فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه وإلى عباده؛ ففيها حكمة له ورحمة لعباده؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصف:10-13).
ففي الجهاد عاقبة محمودة للناس في الدنيا يحبونها: وهي النصر والفتح، وفي الآخرة الجنة، وفيه النجاة من النار؛ وقد قال تعالى في أول السورة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4) فهو يحب ذلك؛ ففيه حكمة عائدة إلى الله تعالى وفيه رحمة للعباد؛ وهي ما يصل إليهم من النعمة في الدنيا والآخرة"(36).
3- بالجهاد يُدفع عذاب الله عز وجل ونقمته في الدنيا والآخرة ويعيش المسلمون حياة طيبة عزيزة خالية من التذلل للكفار والبقاء تحت سيطرتهم وقهرهم• والعكس من ذلك يحصل حين يُترك الجهاد ويركن الناس إلى الدنيا؛ حيث يحل محل العزة ذل المسلمين واستكانتهم لأعدائهم يسومونهم سوء العذاب في أديانهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم•
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم (إذا ظن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)(37).
وواقعنا المعاصر أكبر شاهد على ذلك؛ حيث يعد عصرنا من أسوء العصور التي مرت بالمسلمين حيث بلغ المسلمون فيه من الذل والاستكانة والتفرق ما لم يبلغوه في أي عصر مضى، مما أغرى بهم أعداؤهم فتداعوا إلى بلدان المسلمين كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وما ذاك إلا بترك طاعة الله عز وجل وحب الدنيا وكراهية الموت، وترك الجهاد في سبيل الله تعالى•
ولن يُرفع هذا الذل عن المسلمين إلا أن يراجعوا دينهم ويرفعوا عَلَم الجهاد على الكفار ويعدوا ما استطاعوا من قوة لقتالهم دفاعًا وطلبًا• وقبل أن يتم ذلك فلا نرجو عزة، ولا نطمع أن يكف الكفار شرهم عن المسلمين بمجرد المفاوضات السياسية أو عن طريق مجلس الأمن - أعتذر - مجلس الخوف، أو هيئة الأمم الكفرية الطاغوتية• كلا فلن يردع الأعداء المعاصرين إلا ما ردع أسلافهم المعتدين من قبل؛ إنه الجهاد في سبيل الله تعالى•
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24) ، فتضمنت هذه الآية أمورًا أحدها أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله؛ فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل البهائم• فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسولل ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان• ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول؛ فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة؛ فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول•
قال مجاهد: لما يحييكم يعني للحق•
وقال قتادة: هو هذا القرآن؛ فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة•
وقال السدي: هو الإسلام؛ أحياهم به بعد موتهم بالكفر•
وقال ابن إسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: لما يحييكم يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم•
وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي: القيام بما جاء به الرسول ظاهرًا وباطنًا•
قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله لما يحييكم هو: الجهاد، وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني•
قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد؛ فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم• قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة"(38).
4- المجاهدون في سبيل الله تعالى من أهدى الناس إلى الحق، وأسعدهم بسبيل الله عز وجل عند اختلاف السبل؛ قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).(24/127)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم؛ كما دل عليه قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم لأن الله يقول: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)(39) ا•هـ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد:4-5).
قرأها الجمهور: "قاتلوا" وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم: "قتلوا".
5- الجهاد في سبيل الله تعالى من أعظم وسائل التربية للنفس وتزكيتها باطنًا وظاهرًا: فكم من الأخلاق الفاضلة وأعمال القلوب الزكية لا يمكن إصلاحها والوصول بها إلى كمالها أو قرب كمالها إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى• وبدون الجهاد ستبقى هذه الأعمال ضعيفة أو يصعب على العبد تكميلها وهو قاعد•
وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في تعليقه على كون الجهاد ذروة سنام هذا الدين؛ حيث قال: "••• ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة؛ ففيه سنام المحبة، كما في قوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة: من الآية54). وفيه سنام التوكل وسنام الصبر؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (النحل:41-42).
وقال تعالى: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128).
••• وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضًا: حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن يجاهد في سبيل الله، لا في سبيل الرياسة، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا• وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: من الآية111)(40).
6- وحدة صف المسلمين واجتماع كلمتهم: حيث إن استقراء التاريخ يدل على أن الجهاد في سبيل الله عز وجل يوحد صفوف المسلمين ويضيق أبواب الخلاف، وما من وقت كان المسلمون يقارعون فيه أعداءهم الكفار إلا وكانوا فيه في غاية الإخاء والاتحاد، وما كانوا ينتهون من غزوة أو معركة إلا ويدخلون في أخرى، ولم يجد الخلاف إليهم سبيلا، والعكس من ذلك يحدث عندما يعطل الجهاد وينشغل المسلمون بعضهم ببعض•
( ب ) الثمار الأخروية للجهاد :
في الآخرة تتحقق الثمرة العظمى للجهاد في سبيل الله تعالى، والتي تنافس فيها المتنافسون، وضحى في سبيلها المجاهدون بأرواحهم رخيصة راضية بها نفوسهم، وكيف لا وهم يرجون رحمة الله تعالى ورضوانه وجناته؟! هذه الغاية الشريفة والثمرة العظيمة التي يرخص في سبيلها كل شيء•
وإن المتأمل في كتاب الله عز وجل والمتدبر لجميع الآيات التي ورد فيها ذكر الجنة وما أعد الله عز وجل فيها لأهلها من الرضوان والنعيم ليلفت نظره أمرٌ مهم وشيئ عجيب؛ ألا وهو أن جل ما ورد من الآيات التي يذكر فيها سبحانه ما أعد لأوليائه من الجنة والرضوان يسبقها في العادة صفات الموعودين بذلك، وبالتأمل في أوصافهم تلك نجد أنها تكاد تنحصر في: المجاهدين، والصابرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر• وفيما يلي ذكر بعض الآيات التي يذكر الله عز وجل فيها ما أعد لعباده المجاهدين من الرحمة والنعيم والرضوان•
- الآية الأولى: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:218).
- الآية الثانية: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).(24/128)
- الآية الثالثة: قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142).
- الآية الرابعة: قوله تعالى: )وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (آل عمران:157).
- الآية الخامسة: قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:169-172).
- الآية السادسة: قوله تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران:195).
- الآية السابعة: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:74).
- الآية الثامنة: قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة: 20-22).
- الآية التاسعة: قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:71-72).
- الآية العاشرة: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
- الآية الحادية عشر: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) (محمد:4-6).
- الآية الثانية عشر: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف: 10-12).
وأما الأحاديث في فضائل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين والشهداء في الآخرة فهي كثيرة جدًا والمتأمل في أحاديث الفضائل يجد أنه ما من عمل صالح جاء في فضيلته والترغيب فيه والثناء على أهله أحاديث كثيرة لم تأت لغيره من الصالحات كما جاء في شعيرة الجهاد؛ ومن هذه الأحاديث:
- قوله صلى الله عليه وسلم (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمانٌ بي، وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سَرية، ولوددت أني أقتلُ في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتل، ثم أُحيا، ثم أُقتل)(41).(24/129)
- وقوله صلى الله عليه وسلم (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المُجاهد في سبيل الله)(42).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقةِ، وجبت له الجنة)(43).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (إِن في الجنة مائة درجةٍ أعدها الله للمُجاهدين في سبيل الله؛ ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سأَلتم الله فاسألُوهُ الفرْدَوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)(44).
- وقول صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد: (من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة) فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعِدْهَا عليَّ يا رسول الله، ففعل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأُخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: (الجهادُ في سبيل الله)(45).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (من اغبرَّت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار)(46).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكًا يوم القيامة)(47).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)(48).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان)(49).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)(50).
- وقوله صلى الله عليه وسلم (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع)(51).
ولأجل هذه الفضائل كان السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم أحرص الناس على هذه الشعيرة العظيمة؛ فتسابقوا في بذل أنفسهم رخيصة في سبيل الله عز وجل راجين هذه الفضائل العظيمة، وعلى رأسها رضوان الله عز وجل ورحمته وجنته• وأسوق فيما يلي نماذج من حرص السلف على هذه الشعيرة العظيمة:
- عن حماد بن سلمة: حدثنا عليُّ بن زيد، عن ابن المسيِّب، قال: أقبل صُهيب مهاجرًا، واتبعه نفرٌ، فنزل عن راحلته، ونثل كِنانته، وقال: لقد علمتم أني من أرماكم، وأيمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بكل سهم معي، ثم أضربُكم بسيفي، فإن شئتُم دللتُكم على مالي، وخلَّيتُم سبيلي؟ قالوا: نفعل• فلما قدم على صلى الله عليه وسلم قال: (ربح البيعُ أبا يحيى!) ونزلت: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) (البقرة: من الآية207)(52).
- وقال الواقدي : حدثنا عبدالله بن نافع، عن أبيه عن ابن عمر، قال: رأيتُ عمارًا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أَمِن الجنة تَفِرُّون، أنا عمارُ بن ياسر، هلمُّوا إليَّ! وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت، فهي تَذَبْذَبُ وهو يُقاتلُ أشد القتال"(53).
- وقال ابن الجوزي في ترجمة سعد بن خيثمة : يكنى أبا عبدالله، أحد نقباء الأنصار الاثنا عشر• شهد العقبة الأخيرة مع السبعين• ولما ندب رسول ا صلى الله عليه وسلم الناسَ إلى غزوة بدر قال له أبوه خيثمة: إنه لا بد لأحدنا أن يقيم، فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك• فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فاستَّهما فخرج سهم سعد فخرج فقتل ببدر(54).
- وعن ابن عُيينة عن ابن أبي خالد، عن مولى لآل خالد بن الوليد أن خالدًا قال: ما من ليلة يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها مُحِبٌّ أحبّ إليَّ من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سريَّةٍ أُصَبِّحُ فيها العَدُوَّ(55).
- وعن جُبير بن نُفَير قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود بدمشق وهو يحدثنا وهو على تابوت ما به عنه فضل، فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو؟ قال: أبت البحوث - يعني سورة التوبة - قال الله تبارك وتعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) قال أبو عثمان: بحثت المنافقين(56).
- وعن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال : بعثني صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إنْ رأيتَه، فأقْرِه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ فطفتُ بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة فأخبرته، فقال: على رسول الله السلام وعليك، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم وفيكم شفْر يطرف، قال: وفاضت نفسه رضي الله عنه(57).(24/130)
- وعن حَمَّادِ بنِ سلمة، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس: أنَّ أبا طلحة قرأ: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً) فقال: استنفرنا الله، وأمرنا شيوخنا وشبابنا، جهزوني• فقال بنوه: يرحمُك الله! إنك قد غزوت على عهد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر، وعمر، ونحن نغزو عنك الآن• قال: فغزا البحر، فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونَه فيها إلاَّ بعد سبعة أيام، فلم يتغير(58).
- وعن أنس رضي الله عنه قال : "بعث صلى الله عليه وسلم أقوامًا من بني سليم إلى بني عامر في سبعين فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول ا صلى الله عليه وسلم وإلا كنتم مني قريبًا، فتقدم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن صلى الله عليه وسلم إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة• ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام صلى الله عليه وسلم أنهم لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم ••"(59).
- وعن ثابت البناني عن ابن أبي ليلى، أن ابن أم مكتوم قال: أي ربِّ! أنزل عذري• فأنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (النساء: من الآية95). فكان بعدُ يغزو ويقولُ: ادفعوا إليَّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرَّ، وأقيموني بين الصفين(60).
- وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما توجه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله - خمسة آلاف، أو ستة آلاف - فأتاني جدِّي أبو قُحافة وقد عمِي، فقال: إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه• فقلتُ: كلا، قد ترك لنا خيرًا كثيرًا• فعمدتُ إلى أحجارِ، فجعَلْتُهنَّ في كوَّة البيت، وغطيتُ عليها بثوب، ثم أخذتُ بيده، ووضعتُها على الثوب، فقلتُ: هذا تركه لنا• فقال: أَمَا إذْ ترك لكم هذا فنعم(61).
- وروى عاصم بن بهدلة عن أبي وائل أظن قال: لما حضرت خالدًا الوفاةُ، قال: لقد طلبتُ القتل مظانَّه فلم يُقَدَّر لي إلا أن أموت على فراشي• وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلّني ننتظر الصبح حتى نُغيرَ على الكفار• ثم قال: إذا متُّ فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله• فلما تُوفي، خرج عمر على جنازته، فذكر قوله: ما على آل الوليد أن يَسْفَحْنَ على خالد من دمُوعهن ما لم يكن نَقْعًا أو لَقْلَقَةً(62).
- ومن ترجمة أبي عقيل عبدالرحمن بن ثعلبة - وهو بدري شهد المشاهد كلها مع رسول ا صلى الله عليه وسلم - روى ابن الجوزي عن جعفر بن عبدالله بن أسلم قال: لما كان يوم اليمامة واصطف الناس كان أول من جُرح أبو عَقِيل؛ رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤادِه في غير مَقتل، فأخرج السهم ووهَن له شقَّه الأيسر في أول النهار، وجُرَّ إلى الرحل• فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح يا للأنصار! الله الله والكرّة على عدوكم• قال عبدالله بن عمر: فنهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد؟ ما فيك قتال• قال: فد نوَّه المنادي باسمي قال ابن عمر: فقلت له: إنما يقول: يا للأنصار، ولا يعني الجرحى• قال أبو عقيل: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْوًا• قال ابن عمر: فتحزَّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرَةً كيوم حُنين فاجتمعوا رحمكم الله جميعاً تقدّموا فالمسلمون دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوّهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم• قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب فوقعتْ إلى الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدو الله مسيلمة• قال ابن عمر فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت: يا أبا عقيل! قال: لبيك - بلسان ملتاث (63)- لمن الدَبرَة(64).؟ قلت: أبشر قد قتل عدو الله• فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله• ومات يرحمه الله•
قال ابن عمر: فأخبرت عمر، بعد أن قدمت، خبره كله• فقال: رحمه الله؛ ما زال يسعى للشهادة ويطلبها، وإن كان - ما علمت - من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلموقديم إسلامهم رضي الله عنهم(65).
- ومن ترجمة واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: عن محمد بن سعد قال: أتى واثلة رسول ا صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح• وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه• فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع• فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم• قال: فيما أطقت؟ قال: نعم• فأسلم وبايعه(66).(24/131)
وكان رسول ا صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال: نعم• قال أبوه: والله لا أكلمك أبداً• فأتى عمه فسلم عليه، فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم• فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر• فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام• فقال واثلة: أنىَّ لكِ هذا يا أخيّة؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت• فقال: جهّزي أخاك جهازَ غَازٍ؛ فإن رسول ا صلى الله عليه وسلم على جناح سفر• فجهزته فلحق برسول ا صلى الله عليه وسلم قد تحمَّل إلى تبوك وبقي غُبَّراتٌ(67) من الناس وهم على الشخوص(68) فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلاً لا رِحلة(69) بي. قال: فدعاني كعب بن عُجْرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي• قال واثلة: نعم• قال واثلة: جزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي، حتى إذا بعث رسول ا صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبدالملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص(70) فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها• فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا(71).
- وعن عبدالله بن قيس أبي أميَّة الغفاري قال: كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم فصيح في الناس فهم يثوبون إلى مصافهم، إذا رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه، وهو يخاطب نفسه ويقول: أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتُك ورجعتُ؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت: أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنَّك اليوم على الله، أخذك أو تركك• فقلت: لأرمقنه اليوم• فرمقته فحمل الناسُ على عدوهم فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم، ثم إن الناس حملوا فكانوا في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم• قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا• فعددتُ به وبدابته ستين، أو أكثر من ستين طعنة(72).
- وعن ابن المبارك عن السري بن يحيى، حدثنا العلاء بن هلال أن رجلاً قال لصلة: يا أبا الصهباء! رأيت أني أعطيتُ شهدة، وأُعطيت شهدتين، فقال تستشهد وأنا وابني، فلما كان يوم يزيد بن زياد؛ لقيتهم التركُ بسجستان فانهزموا• وقال صلة: يا بُني ارجع إلى أمك• قال: يا أبة؛ تريدُ الخير لنفسك، وتأمرني بالرجوع! قال فتقدم، فتقدم، فقاتل حتى أصيب فرمى صلة عن جسده - وكان راميًا - حتى تفرقوا عنه فأقبل حتى قام عليه فدعا له ثم قاتل حتى قتل رحمه الله(73).
- وقال حماد بن سلمة : أخبرنا ثابت أن صِلَةَ كان في الغزو، ومعه ابنه، فقال: أي بُنَي! تقدَّمْ، فقاتل حتى أَحْتَسبك، فحمل، فقاتل، حتى قُتِلَ، ثم تقدَّم صِلَةُ، فقُتل، فاجتمع النساءُ عند امرأته معاذة، فقالت: مرحباً إن كُنْتُنَّ جئتُنَّ لتُهنِّئنني، وإن كُنتُنَّ جِئتُنَّ لغير ذلك، فارجعْنَ(74).
سؤال وجوابه:
بعد ذكر هذه الفضائل والثمار العظيمة للجهاد والمجاهدين في سبيل الله عز وجل يتبادر إلى الذهن سؤال جدير بالجواب ألا وهو: لماذا هذه الفضائل العظيمة التي أُعدت للمجاهدين والشهداء في سبيل الله عز وجل دون غيرهم؟
الجواب - والله أعلم - يكمن في معرفة غاية الجهاد وبواعثه في نفس المؤمن• وقد مر بنا في مقدمة سابقة أنه تعبد لله تعالى ومحك حقيقي لمحبة الله عز وجل؛ فالجهاد في سبيل الله تعالى وبذل الروح رخيصة له سبحانه أكبر دليل على صدق المحبة والعبودية لله تعالى؛ والتي يستحق صاحبها هذه الفضائل العظيمة دون غيرها من الأعمال•
كما أن تقديم الروح في سبيل الله عز وجل لأجل أن ينتشر التوحيد والعدل في الأرض، ويكون الدين كله لله، وينجو الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد لهو أيضًا عمل شريف كريم عظيم يستحق صاحبه هذه الفضائل العظيمة؛ حيث بذل نفسه في سبيل الله تعالى حتى ينجو بموته فئام من الناس ويخرجون من الظلمات إلى النور ومن الجحيم إلى النعيم؛ فأكرم به من عمل وأعظم بها من غاية•
وفي هذا يستطرد الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى حيث يقول: "ما سبب فضل الجهاد في سبيل الله، وسبب امتداحه بهذا الشكل؟ ولماذا يقال للمجاهدين في سبيل الله مرة بعد مرة إنهم هم الفائزون، وإن لهم الدرجات العليا؟ ولماذا وُجّه مثل هذا التحذير للقاعدين في بيوتهم لا يشاركون في هذا الجهاد؟(24/132)
إن الإجابة على هذا السؤال تستلزم مراجعة النظر مرة ثانية في تلك الآيات التي ورد فيها ذكر حكم الجهاد وفضله، ومساوئ الفرار منه؛ ففي هذه الآيات لم يرد معنى الفوز والعظمة في أي موضع بالحصول على المال والثروة، والملك والسلطان مثلما كان كرشن يقول لأرجُن: "إذا فزت في هذا القتال فسوف تنال ملك الدنيا" (جيتا 2:73)، فمثل هذا لم يرد في القرآن، ولم يحث القرآن المجاهدين على القتال في سبيل الله لينالوا مقابله ثروة الدنيا وسلطانها، بل على العكس من هذا كلما ذكرت ثمار الجهاد في سبيل الله كان ذكرها مقترنا بمرضاة الله فقط، والحصول على مقام عالٍ عند الله، والنجاة من العذاب الأليم• وقد أرشد رب العزة عباده إلى أن الخروج في سبيل الله أفضل من سقاية الحاج وعمارة البيت - وكانتا من أكبر مصادر الدخل عند العرب، وأعظمها أثرًا ورسوخًا - ولم يذكر للجهاد من ثمرة سوى: "أعظم درجة عند الله"(75)، وفي مكان آخر أرشد عباده وعلمهم قاعدة من قواعد التجارة يظن منها أنه يذكر الثروة والمال، ولكن بعد قليل نلاحظ أن حقيقة هذه التجارة أو رأسمالها هو التضحية بالروح والمال في سبيل الله، والثمرة - أي ثمرة هذه التجارة - هي النجاة من العذاب، وفي موضع آخر يحذر ويعنف الهاربين من القتال لأنهم أصبحوا أسرى لمحبة زوجاتهم وأولادهم، وأنهم يخشون على أموالهم التي كسبوها، ويخشون كساد تجارتهم، بينما المجاهدون في سبيل الله يقاتلون في هذه الدنيا وينتصرون ويفتحون البلاد، ويحصلون على أموال طائلة، وتزدهر تجارتهم، ويجدون مساكن يسلبونها من الأمة المغلوبة، إلا أن هذا ليس هو المقصود بالجهاد •• فإذا لم يكن المقصود من هذا الجهاد ثروة الدنيا وسلطانها فماذا ينال من هذا القتال حتى يعد عباده المقاتلين بالدرجات العليا؟ وماذا في هذا العمل الخطير حتى يجعل من أقدام المهرولين إليه المثيرة للغبار موردًا للطفه وعنايته؟ ثم أي نجاح وأي فوز يكمن فيه حتى يقال "مرة بعد مرة" عن المقاتلين في هذه الحروب الشديدة إنهم هم الفائزون (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة: من الآية20) ؟!•
إن الإجابة على جميع هذه التساؤلات تكمن في قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة: من الآية251)، (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: من الآية73)؛ فالله لا يريد أن تنتشر الفتن وينتشر الفساد على أرضه، وهو لا يقبل أن يتعذب عباده دون ذنب، أو أن يحل بهم الدمار والبلاء، ولا يحب أن يأكل القوي الضعيف، وأن يسلبه أمنه وطمأنينته، أو أن يصاب عباده في حياتهم الأخلاقية والنفسية والمادية، وهو لا يرضى أن تنتشر أعمال السوء والشر في الدنيا، وأن ينتشر الظلم والإجحاف والقتل والغزو، كما لا يقبل أن يصبح عباده عبادًا لمخلوقيه من بقية العباد فيلطخوا شرفهم الإنساني بجراح الذلة والهوان، وبعد كل هذا فالجماعة التي تنهض لتطهير العالم من هذه الفتنة وتخلصه من الظلم، وتقيم العدل دون رغبة في نيل جزاء، وبغير أي طمع في ثروة أو في مال، وتضحي في سبيل هذا العمل الطيب بروحها وبمالها وبمصالحها التجارية وبحبها لأبنائها وآبائها وأخوتها، وبراحتها داخل بيتها •• أهناك من هو أحق منها بمحبة الله ومرضاته؟ ••
هذه هي فضيلة الجهاد في سبيل الله التي جعلته يحتل الدرجة العليا بين جميع الأعمال الإنسانية بعد الإيمان بالله"(76).
المقدمة الخامسة
مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله
بعد أن تبين لنا في المقدمة السابقة فضل الجهاد وثمرته في الدنيا والآخرة فإنه يسهل علينا في هذه المقدمة الحديث عن مخاطر ترك الجهاد والاستعداد له، وما يترتب على ذلك من المفاسد والشرور والعواقب السيئة في الدنيا والآخرة•
ويكفي أن نعكس الفضائل والثمار السابقة لتظهر لنا تلك العواقب السيئة المضادة لتلك العواقب والثمار الحميدة، وقد عد أهل العلم ترك الجهاد العيني من كبائر الذنوب•
يقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر: "الكبيرة التسعون والحادية والثانية والتسعون بعد الثلاثمائة: ترك الجهاد عند تعينه؛ بأن دخل الحربيون دار الإسلام أو أخذوا مسلمًا وأمكن تخليصه منهم، وترك الناس الجهاد من أصله، وترك أهل الإقليم تحصين ثغورهم بحيث يخاف عليها من استيلاء الكفار بسبب ترك ذلك التحصين"(77).
ولذلك كان ترك الجهاد وعدم الاستعداد له علامة على النفاق قال ": (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق)(78).(24/133)
وقد عده الله عز وجل علامة على عدم الإيمان باليوم الآخر، أو ضعف اليقين به فقال تعالى: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:44-46).
ويمكن تفصيل المخاطر والعواقب السيئة لترك الجهاد فيما يلي:
1- ترك الجهاد كما مضى كبيرة من الكبائر؛ لأن فيه تعريض النفس لسخط الله عز وجل وعقابه في الدنيا والآخرة•
قال تعالى: (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التوبة:39).
وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (التوبة:26).
ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى الذين يهملون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله بأنهم أقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله تعالى؛ فيقول: rوأما الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه؛ فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها• وأقل الناس دينًا وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها، وقَلَّ أن ترى منهم من يَحْمَرُّ وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه• وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء"(79).
إذًا فترك الجهاد في سبيل الله سبب للهلاك في الدنيا والآخرة؛ وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).
قال ابن كثير: "وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه - ومعنا أبو أيوب الأنصاري - فقال أناس: ألقى بيده إلى التهلكة• فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية؛ إنما نزلت فينا؛ صحبنا رسول ا صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار نجيًا فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبي صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإسلام وكثر أهله - وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد - وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل فينا: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). فكانت التهلكة: الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد"(80).
كما أن في ترك الجهاد إضعافًا لعقيدة الولاء والبراء؛ وذلك كما مر بنا سابقًا أن عقيدة الولاء والبراء تتناسب طردًا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فكلما ركن العبد عن الجهاد ضعفت عقيدة الولاء والبراء وأصابها الوهن؛ وكفى بذلك خطرًا•
2- بترك الجهاد يفشو الشرك والظلم ويعلو الكفر وأهله ويستعبد الناس بعضهم بعضًا، ولا يخفى ما في ذلك من الشقاء والتعاسة والفساد الكبير على الناس قال الله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية251)، وقال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40).(24/134)
"فلولا أن الله يدفع الكافرين بجهاد المؤمنين، ويكبت الكفار ويذلهم لاعتلوا على المؤمنين، وإذا اعتلى الكافر جعل الناس يعبدونه هو من دون الله سبحانه وتعالى، وإذا عبد الناس من دون الله أحدًا فسدت حياتهم كلها؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا إذا سارت على المنهج الذي رسمه الله؛ وهو المنهج الذي يحقق العبودية لله، ويحقق الأخلاق الرفيعة والفضائل الحميدة للبشر؛ فالذي رسم المنهج هو الله الذي خلق الحياة والأحياء العالم بما يصلحهم، أما إذا اعتلى كافر على الأرض وشرع للناس من عند نفسه فإنه لا يعلم جميع الأمور، وليس مبرأ من النقص والهوى، ولا يعلم ما الذي يصلح النفس البشرية فيتخبط خبط عشواء ويفسد الحياة كما هو الحال اليوم• ونظرة على الواقع الذي يعتلي فيه كافر كافية بتقرير هذه الحقيقة، ولولا تخاذل المسلمين عن الجهاد الذي أمر الله به لصلحت حياة الناس الذين يحكمون بشرع الله• لأجل هذا شرع رسول ا صلى الله عليه وسلم الجهاد حتى مع الإمام الفاجر الذي لم يصل إلى درجة الكفر؛ لأن بقاء الإسلام وأهله يحكمهم فاسق خير لهم من أن يحكمهم كافر يحكم بغير ما أنزل الله؛ فإن الحكم بغير ما أنزل الله هو سبب فساد الأرض"(81).
3- ترك الجهاد سبب للذل والهوان كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلة في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا إلى ما كنتم عليه)(82).
وهذا أمر مشاهد وبارز في عصرنا اليوم؛ حيث تسلط الكفار على بلدان المسلمين، وعاش المسلمون في مؤخرة الركب؛ يأكل الكفار خيراتهم، ويتدخلون في شؤونهم، ويتسلطون عليهم بأنواع الذلة والمهانة؛ وما ذاك إلا بتعطيل أحكام الله وترك الاحتكام إلى شرعه، ومن ذلك تعطيل شعيرة الجهاد•
وإن الكفار لن يلتفتوا إلى حقوق المسلمين ويراجعوا حساباتهم ويكفوا شرهم بمجرد الإدانات والشجب والكلام الأجوف، وإنما الذي يخيفهم ويجعلهم يكفون عن المسلمين وديارهم هو الجهاد في سبيل الله تعالى الذي فيه كبت للكفر وأهله، وفيه إعزاز وكرامة للمسلمين•
وهذا أمر يشهد له التاريخ كما يشهد له الواقع؛ فما من مكان علت فيه راية الجهاد إلا وشعر المسلمون فيه بالعزة، وخاف أعداء الله الكفرة من تكبيرات المجاهدين وتضحياتهم(83).
"فإذا وجد إحساس لدى أمة ما بضرورة دفع الشر عن نفسها، وضحت في سبيل ذلك براحتها ومتعها وثروتها ومالها، وبشهواتها النفسية، وبروحها وبكل عزيز لديها؛ فإنها لا يمكن أبدًا أن تظل أمة ذليلة مستضعفة، ولا يمكن لأية قوة مهما كانت أن تنال من عزتها أو شرفها• ويجب أن تتصف الأمة الشريفة العزيزة بأن تخفض الرأس أمام الحق، وأن تفضل الموت عن أن تخفض الرأس أمام الباطل، وإذا لم تتوافر لها القوة لإعلاء كلمة الحق ومساعدة الحق فلا بد على أقل تقدير أن تعمل للحافظ على الحق بكل شدة وبكل صلابة، وهذه أقل درجات الشرف"(84).
ويقول سيد قطب رحمه الله: "والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض •• إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار!"(85).
4- وفي ترك الجهاد تفويت لمصالح عظيمة في الدنيا والآخرة؛ منها الأجر العظيم الذي أعده الله تعالى للمجاهدين والشهداء في الآخرة، ومنها الحياة العزيزة في الدنيا وإقامة شرع الله عز وجل، والشهادة والغنائم والتربية الإيمانية التي لا تحصل إلا في أجواء الجهاد ومراغمة أعداء الله تعالى•
5- إلقاء العداوة والفرقة بين المسلمين: وهذا أمر مشاهد؛ فما من وقت تركت فيه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا انشغلت بنفسها ووجه المسلمون حرابهم إلى صدور إخوانهم وانشغل بعضهم ببعض•
ونظرة فاحصة إلى أيام الفتن التي تلت مقتل عثمان رضي الله عنه تطلعنا على أثر ترك الجهاد في سبيل الله، وما يحدثه من الفتن والاختلاف والافتراق؛ فلقد توقف غزو الكفار طيلة تلك المدة، ولم يستأنف المسلمون فتوحاتهم إلا بعد أن اجتمعت الكلمة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وهدأت الفتنة•
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير عن سعيد بن عبدالعزيز قال: "لما قتل عثمان رضي الله عنه ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية رضي الله عنه، فأغزاهم مرات، ثم أغزى ابنه في جماعة من الصحابة برًا وبحرًا حتى أجاز بهم الخليج وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها ثم قفل"(86).(24/135)
ونظرة أخرى إلى واقعنا المعاصر وما جرى فيه من تعطيل لشرع الله عز وجل - ومن ذلك الجهاد في سبيل الله - ترينا كيف حلَّ بالمسلمين من الفرقة والتحزب والاختلاف بين المسلمين حيث انشغل بعضهم ببعض• وما ذاك إلا من الانحراف عن المنهج الحق وتعطيل هذه الشعيرة العظيمة وما ترتب عليها من تسلط الكفار على بلاد المسلمين وتأجيجهم نار الخلاف والفرقة والتحريش بين المسلمين، وهذه سنة الله عز وجل في كل من أعرض عن شرعه سبحانه ونسي حظًا مما ذكر به قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:14)
التربية الجهادية
وجوانب الإعداد للجهاد في واقعنا المعاصر
بعد أن تعرفنا في المقدمات السابقة على معنى الجهاد العام والخاص، ومراتبه ومراحله، وغايته وأنواعه، وفضائله والمخاطر التي تترتب على تركه؛ يحسن بنا الآن أن ندخل إلى صلب موضوعنا؛ ألا وهو ذكر المجالات المختلفة للتربية الجهادية ووسائل الإعداد لذلك، والذي هو الدافع إلى كتابة هذا البحث، وذلك بعد ما رأيت من نفسي ومن كثير من العاملين في مجال الدعوة إلى الله عز وجل من التقصير الكبير في إعداد النفس للغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما صاحب ذلك من الترف والركون إلى الدنيا والميل إلى زهرتها وزينتها• وقبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع أرى أنه لا بد من توصيف سريع لواقع المسلمين اليوم في ضوء المقدمات السابق ذكرها في الصفحات المتقدمة•
فأقول وبالله التوفيق:
- إن المسلمين اليوم يقاسون من الذلة والمهانة وتسلط الأعداء والغثائية الشيء العظيم؛ وما ذلك إلا من الإعراض عن الدين وحب الدنيا وترك الجهاد قال صلى الله عليه وسلم (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْنَ) قالوا: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)(87)، ومن ذلك أيضاً حديث العينة السابق ذكره(88).
- يواجه المسلمون اليوم في بعض الأقطار احتلالاً وغزوًا عسكريًا في عقر دارهم، وغزوًا فكريًا وأخلاقيًا في كل ديارهم، وساعد الأعداء في ذلك بطانة السوء والمنافقين من أبناء المسلمين الذين ربوا على عين الغرب وتسلطوا على أزمة الحكم في أكثر بلدان المسلمين وحكموا بقوانين الشرق والغرب ورفضوا الحكم بشرع الله عز وجل، ووالوا أعداءه وعادوا أولياءه•
- وفي ظل هذه الظروف لم يترك الله العزيز الرحيم الحكيم العليم هذا الغزو العسكري أو الفكري بلا مدافعة؛ بل اصطفى من عباده المؤمنين طائفة تقوم بالحق وتدافع الباطل على ضعفها وقلة إمكانياتها؛ وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)(89).
وهذه الطائفة منتشرة في الأرض ومتنوعة المهام فمنهم العلماء الربانيون الذين يصدعون بالحق ويعلمون الناس أمور دينهم•
ومنهم المربون والدعاة الذين يدعون الناس إلى الخير ويحذرونهم من الشر، ويجوبون القرى والمدن لنشر التوحيد والخير بين الناس، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل المتاحة التي تساعد على ذلك من: المحاضرات والندوات، والدورات الشرعية، والتأليف، والأشرطة النافعة، إلى غيرها من الوسائل•
ومنهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر الذين يحتسبون على الناس ويغيرون المنكرات بقدر استطاعتهم•
ومنهم المرابطون على الثغور الذين يجاهدون العدو الكافر الذي استحل ديار المسلمين ويدافعونه بقدر استطاعتهم• ومع وجود هذه الفئات التي تقوم كل واحدة منها بنوع من أنواع الجهاد إلا أن الفساد والباطل والغزو العسكري والفكري أكبر بكثير من جهد وإمكانات هذه الفئات، وقد تخلو بعض ديار المسلمين من هذه الفئات تمامًا•(24/136)
- لقد حذرنا الله عز وجل من أعدائنا الكفار وبطانتهم من المنافقين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:118-119)، وإن ما يدور منذ سنوات ولا سيما بعد أحداث (11 سبتمبر) من حملة صليبية صريحة على الإسلام والمسلمين لهو أكبر شاهد ومصدق لهذه الآية وغيرها من الآيات التي تحذر المسلمين من الكفار وعداوتهم مثل قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: من الآية217).
.
وإن الحملة الصليبية على أفغانستان وما صاحبها من الدمار المروع الذي أهلك الحرث والنسل، وما زامن ذلك من أحداث فلسطين المروعة وتلويح الكفار بالتدخل في أي بلد إسلامي يوجد فيه من يرفض التبعية للغرب ويضع نفسه في صف المواجهة له؛ إن كل هذا يوجب على المسلمين - ولا سيما المتصدرين للدعوة والتربية والتعليم - أن يفكروا في جدية الموقف، وأن تبذل المساعي والمشاورات المستمرة في كيفية إحياء الأمة من سباتها وجعل المسلمين يدركون خطر الكفار المحدق بهم؛ فما يجري في بلدان المسلمين البعيدة والقريبة من عدوان على الدين والنفس والعرض والمال ليس ببعيد أن يحل بغيرهم• وإن لم يتحرك المخلصون من الدعاة والعلماء في إعداد الأمة لجهاد أعدائها الكفار والمنافقين فإنه لن ينفع الندم حين يفاجأ المسلمون بغزو الكفار لهم واستيلائهم لديارهم وإذلالهم لهم•
ولقد ذكر أهل العلم أن العدو إذا هاجم المسلمين في عقر دارهم فإن دفعه يصبح واجبًا على جميع المسلمين فهل أعددنا العدة الشاملة لذلك•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "••• فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين لإعانتهم ••• وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب؛ كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو"(90).
وهذا الكلام في جهاد الدفع، وأسبابه اليوم منعقدة في بلدان المسلمين المعتدى عليها أما جهاد الطلب وغزو الكفار في عقر دارهم فهذا يسبقه قيام دولة وكيان للمسلمين وقدرة تمكنهم من فتح بلاد الكفار• ولذلك يجب الإعداد له بإقامة هذا الكيان أولاً، ثم تقويته وإعداد المجاهدين لقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "•• وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"(91).
- في ضوء السنن الربانية، وفي ضوء ما سبق يمكننا القول بأن الجهاد مع الكفار والصراع مع الباطل وأهله أصبح أمرًا حتميًا لا سيما جهاد الدفع حيث فرض على المسلمين فرضًا ولا مناص منه - كما هو الحاصل اليوم في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين التي احتلها العدو الكافر - ووجب على أهل تلك الديار الدفاع عن دينهم وديارهم وأعراضهم بكل ما استطاعوا من قوة• كما وجب على المسلمين الذين يلونهم نصرتهم وعدم خذلانهم وإسلامهم لأعدائهم الكفار•
- ما دام أن جهاد الكفار وإخراجهم أو صدهم عن ديار المسلمين أصبح أمرًا مفروضًا - سواء ما كان من هذه البلاد محتلاً أو ما كان مهددًا بالاحتلال والغزو - فماذا يجب أن نعد لهذا الجهاد من الإعداد بمفهومه الشامل؟•
والجواب على هذا السؤال في الوقفات التالية:
الوقفة الأولى
الجهاد العام بمعناه لا يسقط عن المسلم المكلف
إن الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف؛ فكما مر بنا في مراتب الجهاد أن جهاد النفس والشيطان ضرب من ضروب الجهاد - وهو الممهد لجهاد الكفار - والجهاد بهذا المفهوم لا يسقط عن أي مسلم•
بل إن جنس جهاد الكفار فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد والسنان - وذلك حسب القدرة والاستطاعة - وما وراء الجهاد القلبي ذرة إيمان• والجهاد القلبي يعني البراءة من الكفار، وبغضهم، والتربص بهم، وتحديث النفس بغزوهم، والإعداد لذلك؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجهاد بنوع من هذه الأنواع•(24/137)
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية(92)، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة:41)، وعلق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف:10-12).
أي: ولكم خصلة أخرى تُحبُّونها في الجهاد، وهي: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)(93).
وجهاد النفس والشيطان هما الأصلان لجهاد الكفار• والانتصار على الكفار في ساحات القتال هو نتيجة للانتصار على النفس والشيطان قبل ذلك• بل إن جهاد النفس والشيطان يستغرق العمر كله؛ إذ لا بد منه قبل منازلة الكفار، وأثناءها، وبعدها•
وعن أهمية هذا النوع من الجهاد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69). علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد؛ قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص• ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدوه)(94).
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عند الحديث عن الإعداد الإيماني والمعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل•
الوقفة الثانية
الإعداد الإيماني قبل الجهاد لا يعني ترك جهاد الدفع
حتى يكتمل هذا الإعداد
إن القول بضرورة الإعداد الإيماني قبل جهاد الكفار لا يعني ترك جهاد الكفار وقتالهم في جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد الإيماني• إن هذا لا يقول به عاقل؛ بل إنه يصادم مقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس•
إن جهاد الدفع يجب أن يهب المسلمون له بالحالة التي هم عليها سواء كانوا في ضعف من الإيمان وتفريط في طاعة الله عز وجل أو كانوا في ضعف مادي؛ فإذا لم يندفع العدو عن الديار والحرمة والدين إلا بقتاله وجب ذلك على المسلمين بما تيسر من القوة دون اشتراط للقدرة، والقوة الإيمانية، إذ لا بد من التفريق بين جهاد الطلب الذي يشترط فيه الإعداد المادي والمعنوي وبين جهاد الدفع الذي لا يشترط فيه ذلك•
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعًا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده"(95).
ولا يعني عدم اشتراط العدة الإيمانية أو المادية في جهاد الدفع التفريط فيها، بل يجب الدفع بما تيسر منهما مع الاهتمام بهما أثناء القتال والسعي لتقويتهما قدر المستطاع؛ فقد يستمر الدفاع شهورًا أو سنوات، فحينئذ يجب السعي أثناء القتال لتوفير القدرة المادية وإعداد المقاتلين إيمانيًا بوضع البرامج العلمية والعملية لتقوية هذا الجانب؛ لأثره العظيم في الثبات والصبر ونزول نصر الله عز وجل، وهزيمة الكفار ودفعهم عن ديار المسلمين وحرماتهم• وإن الحاجة لتشتد في مثل الظروف الراهنة التي يهدد فيها الكفار بالهجوم على ما تبقى من ديار المسلمين•
ومما ينبغي التنبيه إليه أن أجواء الجهاد في سبيل الله عز وجل من أفضل البيئات التي يعد فيها المجاهدون إيمانيًا وتربية وزهدًا وتضحية، وهذا شيء مشاهد؛ فما حصل عليه بعض المجاهدين من التضحية وتزكية أعمال القلوب والزهد والإخلاص في سنة من سنوات الجهاد لم يحصل عليه غيرهم إلا في عدة سنوات•
الوقفة الثالثة
مواطن الاتفاق والاختلاف بين جهاد الطلب وجهاد الدفع
يتفق جهاد الطلب مع جهاد الدفع في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى؛ وذلك كما يلي:
1- يتفق هذان النوعان من الجهاد في ضرورة الإعداد لجهاد الكفار سواء المادي أو الإيماني، ولكنهما يفترقان في أن جهاد الطلب وقته موسع فلا يسارع فيه قبل توفر شروطه والتي من أهمها:
( أ ) القدرة في العدة والعتاد•
(ب) الإعداد الإيماني من جوانبه المختلفة؛ والذي سيأتي تفصيله قريبًا إن شاء الله تعالى•
(حـ) وجود الكيان والمكان الآمن الذي يحتمي فيه المجاهدون وينطلقون منه•(24/138)
( د ) إذا كان العدو منافقًا أو مرتدًا قد التبس أمره على المسلمين فلا بد أن يسبق ذلك جهاد البيان وفضحه للناس حتى يستبينوا سبيل المجرمين وتتضح راية الكفر للناس، وفي نفس الوقت يُعَرِّف المجاهدون أنفسهم للناس حتى يتبينوا حقيقة دعوتهم وأهدافهم، وأنهم لا كما يصورهم إعلام المجرمين بأنهم إرهابيون مفسدون خارجون على الشرعية• وسيأتي تفصيل هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى•
أما جهاد الدفع فالغالب في القتال فيه أنه قتال مع الكفار المعتدين ورايتهم للناس واضحة، فلا يحتاج الأمر إلى جهد كبير في تعريف الناس بعدوهم كما هو الحال في المنافق الذي التبس أمره على الناس، ومن أمثلة ذلك اليوم ما يجري في أفغانستان أو كشمير أو الشيشان أو فلسطين•
كما أن جهاد الدفع لا يشترط أن يكون له كيان أو دولة تحميه، بل إنه ينطلق من الظروف والإمكانات المتاحة له؛ لأنه لا خيار للمسلمين في تركه، ولو وجد المكان الآمن فهو المفضل والمطلوب لكنه ليس بشرط•
2- كما أن جهاد الدفع يفترق عن جهاد الطلب في أن القيام به فرض عين على المسلمين ولو لم تتوفر الشروط لذلك من الإعداد المادي أو الإيماني؛ بشرط عدم انخرام أصل التوحيد والإيمان وقد سبق ذكر ذلك في الوقفة السابقة•
أما جهاد الطلب فعلى الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين فإنه يتعين حينئذ كما يتعين أيضاً إذا حضر المسلم الصف وتواجه مع العدو•
3- أما من حيث غاية النوعين من الجهاد فيشتركان في كونهما لرد الفتنة عن الناس في دينهم وحرماتهم؛ لكنها في جهاد الدفع لرد الفتنة عن المسلمين فيما لو استولى الكفار على البلاد، أما جهاد الطلب فهو لرفع فتنة الشرك والكفر والظلم عن الناس بعامة؛ وذلك في بلاد الكفار التي استعبد طواغيتها الناس وحالوا بينهم وبين وصول الدين الحق إليهم، فيأتي جهاد الطلب ليرفع فتنة الشرك عن الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكون الدين كله لله تعالى•
الوقفة الرابعة
معنى الإعداد الإيماني أو المعنوي للجهاد في سبيل الله
ماذا نعني بالإعداد الإيماني - أو المعنوي - للجهاد في سبيل الله عز وجل؟ والجواب أن يقال: لقد ثبت عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق)(96).
وإن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى ضعف العزيمة عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديثها بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى؛ فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين• وكذلك أسلوب معيشتنا وما يشتمل عليه من الترف والترهل، وحب الدعة والراحة، والركون إلى الدنيا، وضعف الصلة بالله تعالى؛ كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد، ومن كانت هذه حاله فهو من أول الفارين عن الجهاد عندما ينادى إليه•
إن "تحديث النفس بالغزو" الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه، كلا ليس هذا هو التحديث المنجي• إنما تحديث النفس بالغزو يعني أمورًا عملية لا بد من العزيمة عليها من الآن، وهذا ما نعنيه بالإعداد الإيماني أو المعنوي•
إن الجهاد في سبيل الله عز وجل عبادة عظيمة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ لأن فيها من المشاق والتضحيات ما لا يوجد في عبادة غيرها لكنها خفيفة ولذيذة على من اصطفاهم الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته• ولما كان الجهاد فيه ما فيه من المشاق وبذل المال والنفس في سبيل الله تعالى أصبح الاستعداد له بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمرًا لا بد منه وإلا خارت القوى وانحلت العزائم• ومن ذلك أَمْرُ الله تعالى لنبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعدادًا لتحمل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمل أعباء الرسالة؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل:1-4).
كما أن الإعداد الإيماني قبل الجهاد ضروري لتحقيق النصر على الأعداء عند ملاقاتهم والثبات عند قتالهم؛ قال الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) (النساء:66-67).(24/139)
والإعداد الإيماني علمًا وعملاً وحالاً يباعد بين المجاهدين وبين المعاصي والذنوب أو الميل إلى الدنيا والتي هي من أسباب الخذلان والهزيمة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسيرة إلى غزو الفرس: "فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو ••• [إلى قوله:] فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم؛ وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة"•
وذكر البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه قال: "باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم"(97).
وقال ابن حجر في فتح الباري: "جاء من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد أن أبا الدرداء قال: (أيها الناس عمل صالح قبل الغزو• إنما تقاتلون بأعمالكم) ثم ظهر لي تفصيل البخاري؛ وذلك أن هذه الطريق منقطعة"(98).
والأصل في الإعداد الإيماني للمجاهدين ما ذكره سبحانه في سورة التوبة من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
ثم عقب على هذه البيعة بصفات المؤهلين للجهاد الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى فقال سبحانه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (التوبة:112).
وقال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل قال له: أريد أن أبيع نفسي من الله فأجاهد حتى أقتل، فقال له: ويحك وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)"(99).
وقد اشتملت هذه الآية على أصول الأعمال الباطنة والظاهرة التي يحبها الله عز وجل؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: "وإذا أردت أن تعرف قدر الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله• وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها؛ جنات النعيم• وإلى الثمن المبذول فيها، وهو: النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان• وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل• وبأي الكتب رقم، في كتب الله الكبار المنزلة على أفضل الخلق•
كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟
فقال: هم (التائبون) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات، عن جميع السيئات•
(العابدون) أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته، من أداء الواجبات والمستحبات، في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدين•
(الحامدون): لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره، في آناء الليل، وآناء النهار•
(السائحون): فسرت السياحة، بالصيام، أو السياحة في طلب العلم•
وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام• والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج، والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك•
(الراكعون الساجدون) أي: المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود•
(الآمرون بالمعروف): ويدخل فيه، جميع الواجبات والمستحبات•
(والناهون عن المنكر): وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه•
(والحافظون لحدود الله): بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلاً وتركًا"(100).
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات: "هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عدة من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان •• هذا النص - حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان!
إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها - بإسلامهم - طوال الحياة؛ فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف (المؤمن) وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق!(24/140)
حقيقة هذه البيعة - أو هذه المبايعة كما سماها الله كرمًا منه وفضلاً وسماحة - أن الله - سبحانه - قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء •• لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله، لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا •• كلا •• إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام •• والثمن: هو الجنة •• والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال •• والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد ••• إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه، ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق! بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده، ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق •• بل لا بد أن يقطع عليه الطريق •• ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله• ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقًا! •• وما دام في "الأرض" كفر• وما دام في "الأرض" باطل، وما دامت في "الأرض" عبودية لغير الله تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء وإلا فليس بالإيمان، "ومن مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق"(101). ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال، والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة:112). هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته، وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح• وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته• وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله• وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق• وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة• وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك•
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته؛ قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال•
وليست الحياة لهوًا ولعبًا• وليست الحياة أكلاً كما تأكل الأنعام ومتاعًا• وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة •• إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله •• ثم الجنة والرضوان ••"(102).
الوقفة الخامسة
جهاد النفس ومراتبه
بعد أن تبين لنا من آية التوبة صفات المؤهلين للجهاد اتضح لنا بذلك أهمية الإعداد الإيماني للمجاهدين حتى يلقوا عدوهم وهم مستعدون معنويًا وإيمانيًا لذلك، وفي هذه الوقفة الأخيرة سيتم تفصيل جوانب هذا الإعداد والوسائل المختلفة لتحقيقه حسب ما يفتح الله عز وجل إنه هو الفتاح العليم، وهو المستعان وحده وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه•
فأقول وبالله التوفيق:
الأصل في الإعداد الذي يسبق جهاد الكفار هو جهاد النفس والشيطان• والمعركة معهما مستمرة ومتواصلة منذ بلوغ المسلم سن التكليف إلى أن يوافيه الأجل• فهو إذن جهاد لا يتقيد بوقت، بل هو مطلوب قبل ملاقاة العدو وأثناء ملاقاته وبعد ملاقاته• والنصر على الأعداء في معارك القتال مرهون بالانتصار على النفس والشيطان في معركة الجهاد معهما•
والمطلوب في الإعداد المتمثل في جهاد النفس: أربعة جوانب مهمة سبق ذكرها في أول البحث نقلاً عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وأعيدها هنا لمناسبتها ولكونها أصول الإعداد الشامل التي بها ينجو العبد من الخسران في الدنيا والآخرة، ويثبته الله عز وجل بها في ميادين الجهاد وغيرها من المواقف(103).
يقول رحمه الله تعالى: "فجهاد النفس أربع مراتب أيضاً:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهُدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِلمُه، شقيت في الدَّارين•
الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجردُ العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها•(24/141)
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعُهُ علمُهُ ولا يُنجيه من عذاب الله•
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، وبتحمَّل ذلك كله لله•
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الرَّبَّانيين؛ فإن السلف مُجمِعُونَ على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيًا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويُعلَّمه، فمن علم وعمل وعلَّمَ فذاك يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات"(104).
وتحت كل مرتبة من هذه المراتب أمور تفصيلية وبرامج علمية وعملية لتحقيقها وتكميلها، ولذلك سأعيد هذه المراتب المذكورة آنفًا مصاغة بشكل تفصيلي؛ وذلك كما يلي:
المرتبة الأولى
مجاهدة النفس على تعلم الهدى ودين الحق
العلم بالشرع والبصيرة بالحق أمر لازم لكل مسلم فضلاً عن الداعية إلى الله عز وجل والمجاهد في سبيله تعالى؛ قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108). فذكر الله سبحانه في هذه الآية أن الدعوة إليه - والجهاد من الدعوة - يجب أن يكون على بصيرة؛ أي على علم بأن ما يدعو إليه ويجاهد من أجله هو الحق الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الموافق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبدون العلم بالشرع والفهم الصحيح للدين تفسد الدعوة ويتلوث الجهاد، ويتخلف شرط أساس من شروط قبول العمل عند الله عز وجل؛ ألا وهو المتابعة لرسول ا صلى الله عليه وسلم •
والعلم الذي يجب أن يستعد به المجاهدون في سبيل الله عز وجل نوعان: 1- عيني• 2- وكفائي•
أما العيني: فهو الذي يعنينا في هذا المقام وهو في حق المجاهد نوعان:
أ - نوع عام: يشترك فيه المسلمون جميعًا، وهو العلم بالفقه الواجب على كل مسلم، وهو: الفقه بالعقيدة، والفقه بالأحكام العينية، ومن ذلك فهم أصول الإيمان الستة على مذهب السلف الصالح، ومعرفة الإيمان والتوحيد وأنواعه، وما يضاده من الكفر والشرك والنفاق، والمعرفة المجملة بضوابط التكفير، وما يترتب على ذلك من الأحكام•
ومن ذلك معرفة أركان الإسلام علمًا وعملاً، والمعرفة الإجمالية بقواعد الأحكام ومقاصد الشريعة، ومعرفة المحرمات العينية والفروض العينية الواجبة على كل مسلم• كل هذا مما يجب العلم به قبل الجهاد، فإن فرض على المسلمين القتال قبل إتمامه، فإنه يحصله أثناء الجهاد ويكمل منه ما نقص• والمقصود أن لا يُقدم المسلم - فضلاً عن المجاهد - على أمر حتى يعلم حكم الشريعة فيه، فإن لم يعلم فليسأل من يدله على حكم الشرع فيه؛ لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء: من الآية7)، ومما يدخل في هذا: العلم بسبيل المجرمين، والبصيرة بواقع الكفار الذين يراد قتالهم•
ب - نوع خاص: وهو العلم بمشروعية الجهاد وأحكامه، ومعرفة الراية التي سيجاهد المسلم تحتها•
كل هذا مما يجب أن يعلمه المجاهد قبل الشروع في الجهاد؛ حيث أن الإخلاص لا يكفي وحده، بل عليه أن يعرف ما إذا كان الجهاد الذي ينوي الدخول فيه مشروع ومحبوب إلى الله عز وجل أم ليس كذلك• وهذا فرض واجب؛ لأن الجهاد فيه ذهاب الأنفس والأموال، والمسلم لا يملك إلا روحًا واحدة، فلا يجوز المخاطرة بها في أمر قد لا يكون مرضيًا لله عز وجل• وأسوق فيما يلي مثالين اثنين يوضحان حرص السلف الشديد على علمهم بمشروعية أي جهاد قبل الدخول فيه•
المثال الأول: المناظرة التي تمت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قتال المرتدين حيث خفي على عمر رضي الله عنه مشروعية قتالهم وناظر أبو بكر رضي الله عنه في ذلك فبين له أبو بكر ذلك حتى انشرح صدر عمر لقتالهم• فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله)، قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعها• قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق(105).
المثال الثاني: روى الذهبي في السير قال: وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبدالله يدعونه إلى رأيهم فقال: "يا هؤلاء، لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما، وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدىً أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرِّر بها"(106).(24/142)
ومما يلحق بالعلم بمشروعية الجهاد: العلم بالراية التي سيجاهد المسلم تحتها، وما غايتها؛ فهذا مما يجب العلم به، فلا يكفي أن يعلم هل قتال العدو واجب أم غير واجب، أم غير جائز، بل لا بد من معرفة الراية التي سيقابل العدو تحتها؛ قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) (النساء: من الآية76). فمما ينافي القتال في سبيل الله: القتال تحت راية عمية؛ قال صلى الله عليه وسلم (من قتل تحت راية عِمِّية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلةٌ جاهلية)(107).
والمقصود أنه كلما كان المسلم على بينة من سبيل المؤمنين الذي يحبه الله عز وجل، وعلى بينة من سبيل المجرمين كان هذا أكبر دافع للجهاد في سبيل الله تعالى•
وأما العلم الكفائي: فيكفي أن يعلمه طائفة من المجاهدين؛ حيث يفرغ بعضهم لطلب العلوم الشرعية اللازمة لسد حاجات الدعوة والتعليم والإفتاء، ويكونوا من ذوي الاستعداد لذلك• وإذا وجد الحد الأدنى من الكفاية سقط الوجوب عن الآخرين• والأصل في هذا أن يكون قبل ملاقاة الأعداء؛ لأن أيام القتال أيام شغل، لكن إن فرض على المسلمين القتال قبل إتمام حد الكفاية من هذا العلم فينبغي إتمامه أثناء الجهاد قدر المستطاع•
والخلاصة:
أن العلم هو أساس العمل، وهو قبل القول والعمل• والجهاد من العمل، فإن لم يكن العلم صحيحًا موافقًا لما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم فإن العمل سيكون باطلاً ومنحرفًا• ولذلك كان الرسو صلى الله عليه وسلم في مكة يعلم أصحابه أصول هذا الدين، ويعلمهم العقيدة وما تقتضيه من ولاء وبراء وإذعان وانقياد لله تعالى، كما يعلمهم الإخلاص وإرادة الدار الآخرة في جميع الأقوال والأعمال• فلما جاء الإذن بالجهاد، ثم فرضه ظهرت آثار هذا العلم في تضحياتهم العظيمة وفتوحاتهم المباركة• ولذلك وجب على المهتمين بأمور الدعوة وتربية الناس وتوجيههم وإعدادهم للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يولوا هذا الجانب اهتمامًا كبيرًا، وأن يركزوا في برامجهم الدعوية وأنشطتهم المختلفة على تحقيق الحد الأدنى من العلم بسبيل المؤمنين - وهم أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح - انطلاقًا من القرآن الكريم وتدبره، والسنة الصحيحة بفهم الصحابة رضي الله عنهم وأن يستفاد من كل وسيلة متاحة مشروعة لبناء العلم الشرعي في النفوس؛ سواء على هيئة دروس علمية عامة أو خاصة، أو بالاستفادة من الأشرطة العلمية المسجلة• والمقصود أن يهتم المربون بهذا الجانب المهم من الإعداد لأنه هو الأساس، فإن صلح صلح ما بعده، وإن فسد فسد ما بعده•
وأختم هذه المرتبة من جهاد النفس بكلام نفيس لأحد الصحابة رضي الله عنهم يتبين منه أهمية معرفة الحق والعلم به، وأنه ضروري للمجاهد في سبيل الله عز وجل، وأنه لا يكفي في المجاهد أن يكون مخلصًا لله تعالى في جهاده، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك أن يكون جهاده على الحق• والحق لا يتبين إلا بالعلم الشرعي والبصيرة في الدين، والواقع• فقد روى ابن وضاح - رحمه الله تعالى - في كتابه "البدع والنهي عنها" بسنده: "قال: حدثنا أسد قال: حدثنا مبارك بن فضالة عن يونس ابن عبيد عن ابن سيرين قال: أخبرني أبو عبيدة بن حذيفة قال: جاء رجل إلى حذيفة بن اليمان - وأبو موسى الأشعري قاعد - فقال: أرأيت رجلاً ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة• قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول• قال أبو موسى سبحان الله، كيف قلت؟ قال: قلت: رجل ضرب بسيفه غضبًا لله حتى قتل أفي الجنة أم في النار؟ فقال أبو موسى: في الجنة• قال حذيفة: استفهم الرجل وأفهمه ما تقول• حتى فعل ذلك ثلاث مرات، فلما كان في الثالثة قال: والله لا تستفهمه، فدعى به حذيفة فقال: رويدك، إن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار• ثم قال: والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا"(108).
المرتبة الثانية
مجاهدة النفس على العمل بالعلم بعد تعلمه
إن تعلم العلم والتزود به ليس مطلوبًا لذاته، وإنما هو مطلوب للعمل والسير في ضوئه إلى الله تعالى؛ بفعل ما يحبه ويرضاه واجتناب ما يسخطه وينهى عنه•
والأقوال والأعمال التي يحبها الله عز وجل كثيرة؛ منها الواجبات، ومنها المستحبات، وكذلك الأقوال والأعمال التي يبغضها الله عز وجل كثيرة• وليس المقصود حصرها وعدها في هذا المقام، وإنما المقصود التنبيه على ضرورة إعداد النفوس ومجاهدتها - قبل جهاد الكفار - على الانقياد لأوامر الله عز وجل والقيام بها، والانتهاء عما نهى الله عز وجل عنه•(24/143)
وهذا مطلوب من المسلمين بعامة، ومن المجاهدين أو الذين يعدون أنفسهم للجهاد بخاصة؛ وذلك لما للأعمال الصالحة من بركة وتثبيت لأهلها، وكونها زادًا للمجاهد في مشاق الطريق، وسببًا لمحبة الله تعالى ومعيته الخاصة - وما أحوج المجاهدين إلى معية الله تعالى ونصره وتأييده - كما أن في اجتناب المعاصي والمحرمات بعدًا عن أسباب الهزيمة والخذلان؛ فما شيء أخطر على المجاهدين من ذنوبهم؛ قال الله تعالى: {أّوّ لّمَّا أّصّابّتًكٍم مٍَصٌيبّةِ قّدً أّصّبًتٍم مٌَثًلّيًهّا قٍلًتٍمً أّنَّى" هّذّا قٍلً هٍوّ مٌنً عٌندٌ أّنفٍسٌكٍمً إنَّ پلَّهّ عّلّى" كٍلٌَ شّيًءُ قّدٌيرِ} [آل عمران: 165] ، وقال سبحانه عن بركة العمل الصالح والامتثال لأوامر الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (النساء:66-68).
وقا صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه في فضل التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل: (•• وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه •••)(109).
كما أن فعل محاب الله واجتناب مساخطه يورث التقوى في القلب، والتقوى تورث ثمارًا عديدة منها تفريج الكروب وتيسير الأمور؛ قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (الطلاق: من الآية2)، ومنها تأليف القلوب؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96). وكلما كثر في المجاهدين من يتصف بهذه الصفات كانوا أقرب إلى نصر الله تعالى• فلذلك وجب الاستعداد بالأعمال الصالحة التي تؤهل لهذه المقامات الرفيعة التي ينصر الله عز وجل أهلها ويثبتهم ويستجيب دعاءهم•
ذكر الذهبي - رحمه الله - في ترجمته لمحمد بن واسع العابد الزاهد المجاهد رحمه الله تعالى• قول الأصمعي: "لما صافَّ قتيبة ابن مسلم للترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء• قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير"(110).
ومن الأعمال الصالحة التي ربى رسول ا صلى الله عليه وسلم عليها الصحابة في مرحلة الإعداد في مكة واستمر عليها في المدينة بعدما شرع الجهاد ما يلي:
أولاً : أعمال القلوب:
وهي الأصل في الأعمال الصالحة الظاهرة، فإذا فسدت فسدت الأعمال كلها وإذا صلحت صلح العمل كله؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله؛ وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب)(111).
ومن الأعمال القلبية التي يجب أن يعتني بها المربون في الإعداد للجهاد ما يلي:
1- محبة الله عز وجل والحب فيه والبغض فيه:
المحبة هي أصل العبادة، وهي ثمرة معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته الحسنى، وهي مستلزمة لتوحيده وطاعته، وكلما قويت المحبة في قلب العبد ظهر أثرها في الانقياد التام لأمر الله عز وجل والتضحية في سبيله، وبغض أعدائه ومجاهدتهم وموالاة أوليائه ونصرتهم• كما يظهر أثرها في البعد عن الحزبيات المقيتة والرايات العصبية والمنافع الدنيوية؛ فلا ينقلب بغيض الله حبيبًا له بإحسانه إليه، كما لا ينقلب حبيب الله له بغيضًا إذا وصله منه ما يكرهه ويؤلمه؛ والمجاهدون في سبيل الله عز وجل أو من يعدون أنفسهم للجهاد أحوج من غيرهم إلى تزكية هذا العمل القلبي الشريف؛ وذلك حتى لا يتورط المجاهد في رايات عمية ولوثات حزبية أو وطنية أو قومية•
والتربية على هذا الأصل تأتي من الفهم الصحيح للعقيدة على مذهب السلف الصالح، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء، مع القراءة في سير الصالحين والمحبين وتضحياتهم وجهادهم، وما تحلوا به من صدق في المحبة له سبحانه والمحبة فيه• كما أن للقدوات من المربين والموجهين والعلماء أثرًا في تقوية هذا العمل القلبي وتزكيته• وكما ذكرت في أول البحث من أن كثيرًا من الأعمال القلبية ستبقى ناقصة وضعيفة ولا يكملها ويقويها ويبلغ بها ذروة سنامها إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، فهو ذروة سنام هذا الدين وفي بيئته وأجوائه تصل كثير من أعمال القلوب إلى ذروة قوتها وكمالها(112).
2- الإخلاص لله عز وجل:(24/144)
وهو من أعظم أعمال القلوب والتي لا يطلع عليها إلا الله عز وجل، وهو أن يريد الإنسان بقرباته وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ومن ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل والذي يقدم فيه العبد أغلى ما عنده - وهي نفسه التي بين جنبيه - فإذا لم يكن قاصدًا بجهاده وجه الله عز وجل ورضوانه وجنته في الآخرة خسر خسرانًا مبينًا؛ ولذلك يجب إعداد المجاهدين قبل الجهاد بالإخلاص في أعمالهم والتجرد لله سبحانه في حركاتهم وسكناتهم•
وكما أن للإخلاص أثره في نيل رضا الله سبحانه وما أعده للمجاهدين الصادقين، فإن له أثرًا كذلك في الثبات أمام الأعداء لقوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: من الآية18)، وإذا تمكن الإخلاص من القلوب أثمر التضحية والشجاعة في سبيل الله عز وجل، وأثمر الصبر، والزهد في الدنيا ومتاعها الزائل، وتوحد الهم في إعلاء كلمة الله تعالى وإقامة دين الله تعالى؛ وبذلك ترتفع الهمة ويعلو المقصد ويوجه إلى الله تعالى والدار الآخرة وما أعد الله فيها لعباده المجاهدين من الرضوان والنعيم ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا•
والإخلاص من أشرف أعمال القلوب التي يجب أن يعتنى بها في جميع الأعمال، ولا سيما في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من فتنة الشهرة، أو حب المدح، والثناء عليه بالشجاعة والبذل والتضحية•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وفي ماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(113).
ولذلك لا يكاد يذكر الجهاد في الكتاب والسنة إلا ويذكر بعده "في سبيل الله"• وكذلك من يقتل في القتال مع الكفار لا يسمى شهيدًا إلا إذا كان في سبيل الله• قال تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (البقرة:154). أي الذين أخلصوا في جهادهم لله تعالى ولم يريدوا شيئًا من حظوظ هذه الدنيا الفانية.
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء؟ إنهم أولئك الذين يقتلون "في سبيل الله" •• في سبيل الله وحده، دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله• في سبيل هذا الحق الذي أنزله• في سبيل المنهج الذي شرعه• في سبيل هذا الدين الذي اختاره •• في هذا السبيل وحده، لا في أي سبيل آخر، ولا تحت أي شعار آخر، ولا شركة مع هدف أو شعار• وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث، حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر •• غير الله ••
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء. أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(114) أخرجه مالك والشيخان•
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضًا من الدنيا؟ فقال: (لا أجر له) فأعاد عليه ثلاثًا• كل ذلك يقول: (لا أجر له)(115) أخرجه أبو داود•
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيله؛ لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة• والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه مسك• والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني• والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)(116).
فهؤلاء هم الشهداء• هؤلاء الذين يخرجون في سبيل الله، لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله، وإيمان به، وتصديق برسله•
ولقد كره رسول ا صلى الله عليه وسلم لفتى فارسي يجاهد أن يذكر فارسيته ويعتز بجنسيته في مجال الجهاد: عن عبدالرحمن بن أبي عقبة عن أبيه - وكان مولى من أهل فارس - قال: شهدت مع صلى الله عليه وسلم أحدًا، فضربت رجلاً من المشركين، فقلت: خذها وأنا الغلام الفارسي• فالتفت إليّ صلى الله عليه وسلم فقال: (هلا قلت: وأنا الغلام الأنصاري؟ إن ابن أخت القوم منهم، وإن مولى القوم منهم)(117).
فقد كره له " أن يفخر بصفة غير صفة النصر للنبي r، وأن يحارب تحت شارة إلا شارة النصر لهذا الدين• وهذا هو الجهاد، وفيه وحده تكون الشهادة وتكون الحياة للشهداء"(118).(24/145)
ويقول في موطن آخر - رحمه الله -: "إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده، والموت في سبيله وحده• والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سئل رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية• ويقاتل رياء• أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)(119).
وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد، ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة، إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف• من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات!
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية، وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة، وألا يلبسوا برايتهم راية، ولا يخلطوا بتصورهم تصورًا غريبًا على طبيعة العقيدة•
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا؛ العليا في النفس والضمير، والعليا في الخلق والسلوك، والعليا في الأوضاع والنظم، والعليا في العلاقات والارتباطات في كل أنحاء الحياة• وما عدا هذا فليس لله ولكن للشيطان•وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد• وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام• وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف"(120).
ويقول في موطن ثالث: "ولقد كان القرآن ينشئ قلوبًا يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله• قلوبًا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب• ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين ••حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدًا للجزاء •• وموعدًا كذلك للفصل بين الحق والباطل، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقًا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه• فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والزاد؛ إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد"(121).
ومن ثمار الإخلاص في الدنيا أنه سبب من الأسباب القوية في سلامة القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة وائتلاف القلوب وقطع الطريق على من يريد التحريش بين المسلمين وإثارة الفرقة بينهم؛ لأن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف والتناحر بين الدعاة والمجاهدين بعضهم مع بعض ضعف الإخلاص، وتغلب الهوى وحظوظ النفس، فإذا حصل الإعداد القوي والتربية الجادة على الإخلاص قبل الجهاد وأثناءه فإن هذا من شأنه أن يقضي على الفرقة والتناحر، وأن يوحد الصف ويجمع الكلمة على قتال الأعداء، وبهذا يُقضى على سبب خطير من أسباب الفشل والهزيمة؛ قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (الأنفال: من الآية46).
وإن مما يقوي الإخلاص وينميه: صدق المحبة لله تعالى - والتي سبق ذكرها - وصدق التوحيد والعبودية لله تعالى واليقين الصادق باليوم الآخر، والقراءة في سير الصالحين المخلصين وكيف كان حرصهم على تحقيق الإخلاص في جميع أعمالهم، وخوفهم من الرياء والنفاق، وإخفاؤهم لأعمالهم، وحفظهم لها من كل ما يكون سببًا في إحباطها وإبطالها؛ فإن ذلك مما يشوق النفوس إلى أعمالهم واللحوق بهم•
كما أن وجود القدوات المخلصة التي تعلم وتربي وتوجه يعد من الأسباب المهمة في إعداد المجاهدين المخلصين، كما أن من أعظم أسباب الإخلاص الزهد في الدنيا والتخفف منها، والإكثار من ذكر الموت، والتطلع إلى الدار الآخرة، والطمع في رضوان الله تعالى ونعيمه فيها، والخوف من سخطه وعذابه• وهذا ما سيدور الكلام حوله في الفقرة التالية من أعمال القلوب•
3- الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة:
إن الركون إلى الدنيا وإشغال الهم والفكر بها وبمتاعها الزائل لهو من أعظم أسباب الغفلة وضعف كثير من أعمال القلوب والجوارح• ومتى ما امتلأ القلب بحب الدنيا وزخرفها لم يعد فيه مكان للأعمال الشرعية من المحبة والإخلاص والتوكل وغيرها، لأن التحلية بالأعمال الشرعية لا بد أن يسبقها تخلية مما يضادها من الأعمال المهينة والحقيرة والمشغلة عن الله عز وجل والدار الآخرة•(24/146)
إن حب الجهاد في سبيل الله تعالى لا يحل في قلب مشحون بالدنيا مائل إليها؛ لأن من أهم مقومات الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى الزهد في الدنيا والاستعلاء عليها، والاستعداد للتضحية بها في أي وقت؛ فالدنيا في حس المجاهد خادمة لا مخدومة، ومملوكة لا مالكة•
وإن الناظر في حياتنا اليوم وما فيها من الترف والدعة والاهتمام الشديد بالتوسع في مراكبها ومساكنها ومآكلها ومشاربها، وكمالياتها ليرى الفرق الكبير والبون الشاسع بين هذه الحياة وحياة المجاهدين؛ ولذا كان لزامًا علينا وعلى كل من أراد إعداد نفسه للجهاد، وعلى من يتولون إعداد الأمة للجهاد؛ علينا جميعًا أن ندرك خطر ما نحن فيه من الترف والترهل والركون إلى الدنيا(122)، وأن نبادر للتخفف منها ونبذل الأسباب التي تزهدنا فيها وترغبنا في الآخرة،وإلا نفعل تكن فتنة ومصيبة على أنفسنا وعلى أمتنا؛ إذ لو فاجأنا داعي الجهاد أو هاجمنا الكفار في عقر دارنا - وهاهم من حولنا - فإن أول من يقعد عن الجهاد فيذل للكفار ويستكين أو يفر منهم بجلده هم أولئك المترفون الغافلون السادرون الذين ملأت الدنيا قلوبهم وصارت هي همهم ومبلغهم من العلم• والترف: هو التوسع في النعمة والمباحات، وبذل الجهد والوقت والهمة في تحصيلها والتنافس فيها• ولم يرد ذكر الترف في القرآن إلا بمعرض الذم؛ فلقد ذكر الله عز وجل في أكثر من آية أنه سبب الكفر والإعراض عن الحق أو رده؛ قال تعالى عن أصحاب الشمال )إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) (الواقعة:45)، وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سبأ:34-35)، وقال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)(هود: من الآية116).
ولا يفهم من ذم الترف التهوين من شأن المال؛ فالمال عصب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولكن المقصود التحذير من الإسراف في التنعم وجعل ذلك من أكبر الهم، وبخاصة للعاملين في حقل الدعوة والجهاد والإعداد؛ لما لذلك من آثار سيئة في حياة المنتسبين إلى الدعوة والجهاد• والواقع شاهد بذلك؛ فكم رأينا من الدعاة ومن كانوا مهتمين بالجهاد قد تخلوا عن الجهاد والإعداد له وركنوا إلى الدنيا بسبب الترف والتوسع في النعيم•
ويبين ابن خلدون رحمه الله مضار الترف على الأمم وأثره في زوالها، وأثر التقشف وخشونة العيش في الغلبة على الأعداء فيقول في مقدمته: "الفصل السادس عشر: في أن الأمم الوحشية أقدر على التَّغَلُّب ممن سواها: اعلم أنه لما كانت البداوة سببًا في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة، لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر؛ فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم، بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعصار، فكلما نزلوا الأرياف وتَفَنَّقوا(123) في النعيم، وألفوا عوائد الخصب في المعاش والنعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم وبداوتهم"(124).
وكلما تخفف المسلم من الدنيا ومتاعها وأصبحت في يده لا في قلبه هانت عليه وهان عليه فراقها والتضحية بها، وسهل عليه الجهاد والبذل، وقوي عنده الصبر على المصائب والبلايا•
ولذلك كان المتقللون من الدنيا هم أتباع الرسل، وهم الذين يلبون منادي الجهاد عند النداء، "والأمة المجاهدة لا تكون مترفة، والأمة المترفة لا تكون مجاهدة؛ فلا يجتمع ترف وجهاد؛ لأن الترف نعومة وراحة واسترخاء وإغراق في الشهوات والملذات يصعب على صاحبه مفارقة ما ألفه منه، بل إنه يعيش وهو يفكر في إضافة المزيد منه ويخاف أن يحال بينه وبين ذلك الترف والنعيم• والجهاد بذل وتضحية ومشقة وبعد عن الملذات والشهوات ومفارقة للمحبوبات واقتحام للمكاره والعقبات؛ المترف يخاف كل شيء يعكر عليه صفو ترفه، والمجاهد لا يخاف في الله لومة لائم، المترف يتلهف للفسق والفجور والفواحش، والمجاهد يتطلع لقيادة البشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر• فالمترفون فاسقون والمجاهدون مصلحون•
ولهذا كانت سنة الله في المترفين الفاسقين تدميرهم، والتدمير قد يكون بالاستئصال بعذاب الله كما كان في الأمم الماضية، وقد يكون بإنزال البأس الذي يحول بين المترف وما كان يتمتع به من شهوات، وهو عذاب وتدمير، وقد يكون أشق عليه من مفارقة ترفه بالموت• والعقوبة تعم المترفين ومن لم يقف في وجه ترفهم؛ قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16)"(125).(24/147)
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية الإسراء فيقول: "والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة حتى تترهل نفوسهم وتأس،ن وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادًا، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلاّ بها ولها، ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها فتهلك وتطوى صفحتها• والآية تقرر سنة الله هذه •••"(126).
والحاصل التنبيه على خطورة الترف على حياة الداعية والمجاهد، وأن الجهاد والترف لا يجتمعان، وعلى من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله عز وجل أن يربي نفسه على الزهد في الدنيا والتقلل منها، وتعويد النفس على شظف العيش وخشونته• وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس الأمارة لأنها تميل إلى الدعة والراحة والتنعم•
كما لا ننسى دور المربين والقدوات الذين يربون الأمة ويعدوها للجهاد، فإن لم يكونوا مثالاً للزهد والبعد عن الترف بأشكاله كلها فإن التربية ستكون ضعيفة وهشة؛ لأن الناس لا ينظرون إلى أقوال الدعاة والمربين فحسب، بل إن نظرهم يتركز على أفعالهم وأحوالهم• ولنتصور شخصًا من الناس يحثه شيخه أو مربيه على الزهد في الدنيا ويحذره من الترف والتوسع في المباحات، ثم هو يرى شيخه في مركبه ومسكنه وملبسه ومطعمه في واد والزهد في واد آخر• فماذا سيكون حال هذا المتربي؟! إنه سيشعر بالاضطراب والازدواجية، وإن هذا لمما يعوق التربية والإعداد ويؤخرهما•
وإن مما يعين على ترك الترف والرضى من الدنيا باليسير والتضحية بها حين يتطلب الأمر ذلك: النظر في سيرة المربي العظيم سيد الزاهدين وإمام المرسلين محمد بن عبدا صلى الله عليه وسلم ، وكيف كانت حياته، وكيف كان يعد أصحابه رضي الله عنهم ويربيهم بقوله وعمله وحاله، ثم النظر في حياة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من سادات المجاهدين والزاهدين• إن الإطلاع على حياة السلف رحمهم الله لمما يعين على الاقتداء بهم وبذل الجهد في اللحوق بهم؛ وإذا كان النعيم أثَّرَ في بعض أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم في حياته فكاد يحول بين بعضهم وبين النفير مع الرسو صلى الله عليه وسلم ، وحال فعلاً بين بعضهم وبين ذلك، ولم ينفعه من عقاب الله وسخطه وسخط رسول صلى الله عليه وسلم إلا التوبة، فكيف بمن بعدهم؟•
فهذا كعب بن مالك رضي الله عنه يتخلف عن رسول ا صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويعرض في سياق حديثه بعض الأسباب التي أغرته بذلك التخلف، منها المشقات التي استقبلت المجاهدين كما قال: (فغزاها رسول ا صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم •••)(127).
ومنها النعيم ووسائل الراحة المتاحة في المدينة التي كان يميل إليها كما قال: (وغزا رسول ا صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال فأنا إليها أصعر)(127) أي أميل.
وأختم هذا الحديث عن الزهد وما يضاده من الترف بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يوجه فيها الأنظار إلى كيفية الاستقامة بالزهد في الدنيا فيقول: "لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها؛ فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها• فهذا أحد النظرين•
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُد، ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرَّات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17).
فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة، فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه؛ فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تَبَيَّن له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تَبَيُّن الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل"(128).(24/148)
وإن مما يعين على الزهد وترك الترف محاولة الانتقال من حياة الدعة والترف ما بين الفينة والأخرى؛ وذلك كأن يخصص الداعية أيامًا أو أسابيع في السنة يفارق فيها أهله وبلده ضمن برنامج دعوي في بعض القرى أو الهجر أو الأماكن النائية في الجبال والغابات التي يقطنها كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد ولا كيف يصلون ولا يصومون وتنتشر فيهم الأخلاق والعادات السيئة؛ فإن مثل هذه الأجواء فيها تربية للداعية نفسه، وذلك بالتعود على حياة الخشونة والشظف، وفيها تربية وتعليم لسكان هذه الأماكن ما يجهلونه من أمر دينهم، ولا شك أن هذه الأعمال تحتاج إلى جهاد مع النفس بنقلها من حياة الدعة والترف التي تحبها إلى حياة الشظف والتعب التي تكرهها، كما أن في مثل هذه الأسفار بذلاً للمال في سبيل الله عز وجل ومجاهدة للنفس في حبها للمال والبخل به•
4- التوكل على الله عز وجل :
وهذا العمل القلبي من أفضل الأعمال وأنفعها للعبد، ولا سيما المجاهد أو من يعد نفسه للجهاد في سبيل الله تعالى، وحقيقة التوكل: هو غاية الاعتماد على الله سبحانه وغاية الثقة به، مع الأخذ بالأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها ولا التعلق بها• وهو عبادة عظيمة تجمع بين تفويض الأمور إلى الله تعالى، وإحسان الظن به، والرجاء في رحمته ونصرته، وعدم الخوف إلا منه سبحانه؛ فهو الذي بيده النفع والضر، وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها•
لذا وجب على المجاهد أن يقوي هذه العبادة في قلبه، ويسأل ربه صدق التوكل عليه، ويأخذ بالأسباب التي تحوِّل هذه العبادة من علم وعقيدة مجردة إلى عمل وحال يتحرك بها ويواجه الأخطار والمصائب والأعداء بها؛ لأن هناك فرقًا بين العلم بالتوكل والمعرفة به وبين كونه عملاً وحالاً•
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "••• وكثير ما يشتبه في هذا الباب: المحمود الكامل بالمذموم الناقص ••• ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل؛ فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله، فيظن أنه متوكل وليس من أهل التوكل• فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به•••"(129).
والتربية على التوكل تأتي من الاعتناء بالفقه بأسماء الله تعالى وصفاته الحسنى؛ فهو ثمرة هذا العلم الشريف؛ كالفقه بصفات العلم والقدرة والرحمة والحكمة والتعبد لله سبحانه بها؛ لأن من أيقن كمال علم الله تعالى وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وأنه القادر على كل شيء، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه رحيم بالمؤمنين، وحكيم في أقضيته وأحكامه• من أيقن بهذا وتشرب به قلبه اعتمد على من هذه صفاته وفوض أمره إليه سبحانه•
ولا ينافي هذا الأخذ بالأسباب، لأن الله عز وجل أمر بالأخذ بالأسباب في قتال الأعداء فقال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (لأنفال: من الآية60)، وأمر بأخذ الحذر من الكفار فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وظاهر الرسو صلى الله عليه وسلم يوم أُحد بين درعين ولبس المغفر، وحفر الخندق؛ وهو سيد المتوكلين• ولكن قلبه لم يتعلق بهذه الأسباب بل فوض أمره إلى الله عز وجل، ودعا ربه بالنصر وإهلاك الكافرين• قال سبحانه: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (الأنفال: من الآية17).
ولما ظن الصحابة رضي الله عنهم ترتب النصر على الأسباب وأعجبوا بها يوم حنين هزموا في أول المعركة، وقال تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً) (التوبة: من الآية25).
فالأخذ بالأسباب من سنن المرسلين، والأخذ بها واجب وطاعة لله تعالى مع ترك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحده لا شريك له في حصول المقصود بعد الأخذ بالأسباب• وقد تضيق بالعبد السبل وتنعدم الأسباب؛ وهنا ليس أمام العبد إلا عمل القلب وحده بصدق التوكل على الله عز وجل وصدق اللجوء والاضطرار إليه؛ كما لو أحاط العدو الكافر بالمجاهدين ولم يكن لهم حيلة في دفعه؛ قال الله تعالى عن المسلمين يوم أحد: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173).(24/149)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والتوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وَزَرًا إلا التوكل؛ كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة، وتارة يكون توكل اختيار وذلك: التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد، فإن كان السبب مأمورًا به ذُم على تركه، وإن قام بالسبب وترك التوكل ذم على تركه أيضاً؛ فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن والواجب القيام بهما والجمع بينهما• وإن كان السبب محرمًا حرم عليه مباشرته وتَوَحَّد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه؛ فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق• وإن كان السبب مباحًا نظرت هل يُضعف قيامك به التوكل أو لا يضعفه؟ فإن أضعفه وفرق عليك قلبك وشتت همك فتركه أولى، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛ لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به فلا تعطل حكمته - [إلى أن قال] - وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده؛ فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء"(130).
وإن من لوازم التوكل على الله عز وجل: اليقين بمعية الله سبحانه ونصرته لعباده المؤمنين وتثبيتهم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم الكافرين بعد الأخذ بالأسباب المأمور بها وبذل الوسع في ذلك•
والناس في التوكل على الله عز وجل والأخذ بالأسباب في قتال الكافرين طرفان ووسط:
الطرف الأول: الذين يرون أن الله عز وجل سينصر المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاء على الكافرين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر أو لم يكملوها؛ فما داموا مسلمين وأعداؤهم من الكافرين فإن نصر الله عز وجل سينزل عليهم؛ لأنهم مسلمون وكفى• وهذا الفريق من الناس يفرِّط في العادة في الأخذ بأسباب النصر أو يستطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقة وآية من الله عز وجل•
ولا يخفى ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين•
الطرف الثاني: وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردة فعل له، وذلك بقولهم بأنه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد والسلاح والأخذ بالأسباب المادية، ومثل هؤلاء يغلبون الأسباب المادية ويتعلقون بها ويفرطون في الأسباب الشرعية،ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أن عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه• ومعلوم أن المسلمين في كل وقت - وبخاصة في هذا الوقت - لم يصلوا ولن يصلوا ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح؛ لأنه ليس شرطًا في نزول النصر، ولا يخفى ما في هذا القول من تطرف وغفلة عن مسبب الأسباب ونسيان لقوة الله تعالى والتي لا يقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصر بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخر لهم جنود السموات والأرض•
الوسط: وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربوا أنفسهم على ذلك، وبلغوه للأمة قدر استطاعتهم حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفر وفساد، وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم• ومع أخذهم بهذه الأسباب فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب ومن بيده ملكوت السموات والأرض، وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: من الآية7)، ولم ينسوا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (الفتح:7)، وقوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (المدثر: من الآية31)، بل هم موقنون بظهور قوة الله عز وجل، وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب وإعداد العدة للجهاد، ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت من القوة والدمار؛ لأن قوة الله عز وجل فوق قوتهم، ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها• ولكن هذا لا يكون إلا لمن حقق أسباب النصر والتمكين الشرعية والمادية ولا بد هنا من التفريق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب في إعداد العدة كما سبق بيانه(131).
ثانياً : أعمال اللسان :
1- الذكر والدعاء :(24/150)
الدعاء هو العبادة، وقد قال الله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60)، وفي الذكر ثناء وتمجيد وتسبيح وحمد لله تعالى، وفي الدعاء تبرؤ من الحول والقوة وتعلق بقوة الله وحده؛ فهو في الحقيقة يعبر عن حقيقة التوكل والاستعانة بالله عز وجل وحده•
وقد مر بنا في صفات المجاهدين الذين اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم أنهم (العابدون الحامدون)• والدعاء: هو العبادة، والحمد: هو ذكر الله عز وجل والثناء عليه بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وبما أنعم وأحسن على عباده•
وقد أمر الله عز وجل عباده المجاهدين أن يستعدوا للقاء عدوهم بكثرة الذكر والدعاء والتضرع فإنها من أسباب النصر؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (لأنفال:45).
وقد سن الرسو صلى الله عليه وسلم أدعية وأذكارًا في اليوم والليلة ينبغي للمسلم وخاصة المجاهد ومن يعد نفسه للجهاد أن يحفظها ويذكر الله بها في أوقاتها؛ فهي من أكبر العون في طمأنينة القلب وتوكله على الله وحده واستحضار معية الله سبحانه له؛ وذلك كما جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم •••)(132) الحديث•
وأعظم الذكر قراءة القرآن قال تعالى: (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) (الأنبياء: من الآية50)، وقال سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وإن مما ينبغي على الداعية والمجاهد أن لا يغفل عن كتاب الله عز وجل، بل يتعاهده حفظًا وتلاوة وتدبرًا، وأن يكون له حزب يومي لا يخل به مع كتاب الله عز وجل•
2- التوبة والاستغفار :
وقد ذكر الله عز وجل في آية التوبة أن من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم أنهم (التائبون)•
والتوبة: الرجوع إلى الله عز وجل والإنابة إليه والندم على فعل الذنب بعد الإقلاع عنه، وعدم الرجوع إليه• وحاجة المجاهد إلى التوبة والاستغفار شديدة؛ لأن المجاهد معرض أكثر من غيره للعجب بعمله الصالح مع دنو أجله وتعرضه للموت في كل لحظة ولأن أكثر ما يخذل المجاهدين في المعارك ذنوبهم؛ فبالتوبة والاستغفار تمحى آثار الذنوب والمعاصي وتزول أسباب الهزيمة والخذلان، فضلاً عن أن التوبة عبادة عظيمة من العبادات التي يحبها الله عز وجل ويفرح بها•
والمجاهد بشر ليس بمعصوم، بل إنه معرض للذنوب، ولكنه لا يصر على الذنب، بل يسرع الرجوع ويستغفر ربه عندما تضعف نفسه وتزل قدمه؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201)، وقال سبحانه في الآيات التي سبقت قصة أحد في آل عمران: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135).
وقد كان الرسو صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يكثر من الاستغفار ويقول: (والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (133)، ويقول صلى الله عليه وسلم (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)(134).
3- الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وسيأتي التفصيل فيها إن شاء الله تعالى في المرتبة الثالثة من مراتب جهاد النفس وهي جهادها على الدعوة والتعليم•
4- صدق الحديث، وطيب الكلام :
وهذا يحتاج إلى مجاهدة للنفس في تحقيقه، وليس المقام مقام تفصيل في فضل الصدق وأدلة ذلك، وإنما المراد أن الداعية والمجاهد في سبيل الله من أخص أوصافه أنه صادق لا يبطن خلاف ما يظهر، ولا يكذب على إخوانه في حديثه بل يصدقهم، وينصح لهم ولا يغشهم، وبهذا تصفو النفوس وتطيب القلوب•
ثالثاً: أعمال الجوارح، ومن أهمها في الإعداد للجهاد:
1- المحافظة على الصلوات فرضها ونفلها:(24/151)
سبق وأن مر بنا في صفات المجاهدين المذكورين في سورة التوبة، والذين اشترى الله عز وجل منهم أنفسهم وأموالهم أن من صفاتهم: (الراكعون الساجدون)؛ وكأنها صفة لازمة لهم؛ لا تراهم إلا ركعًا وسجدًا يعبدون ربهم بهذه الشعيرة العظيمة، هي لذتهم ونور حياتهم وقرة عيونهم وسعادة قلوبهم، ولذلك لا يقدمون عليها مالاً ولا ولدًا ولا مرادًا من مرادات النفوس؛ يلبون نداء الصلاة فور سماعهم للنداء، يحافظون على أدائها في جماعة مبكرين لها محافظين على إتقانها بأركانها وواجباتها وخشوعها• ويزيدون عليها بالسنن الرواتب، لا يفرطون فيها ويحافظون على النوافل الواردة من صلاة الضحى وقيام الليل، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله عز وجل؛ كما قال الله عز وجل في وصفهم: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً) (الفرقان:64)، وقال أيضاً عنهم: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) (الذريات:17)، وهم بذلك يرجون أن يكون لصلاتهم آثارها ومنافعها الدنيوية والأخروية•
وإن من الإعداد للجهاد الاهتمام الشديد بالصلاة فرضها ونفلها؛ وذلك لأنها أم العبادات، وهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، فضلاً عن كونها زادًا للمجاهد في طريقه الشاق الطويل؛ يستعين بها على ما يواجهه في جهاده من تكاليف ومشاق وقتل وقتال وهجر للمال والأولاد؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). فمن لم يكن له زاد من الصلة بالله عز وجل فإنه لا يقوى على مواصلة الطريق، ولا على الثبات أمام الأعداء في ساحات الوغى•
ثم لا ننسى الحديث القدسي الذي مر بنا قريبًًا، والذي يبين أثر التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض والنوافل في محبة الله عز وجل لمن هذه حاله• وأن العبد ما يزال يتقرب بذلك حتى يحفظه الله عز وجل في سمعه وبصره ويده ورجله؛ فلا تنطلق جوارحه إلا فيما يحب الله عز وجل• وكفى بحفظ الله تعالى حفظًا وقوة وثباتًا وجهادًا•
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على آية البقرة الآنفة الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...) فيقول: "وحين يطول الأمد ويشق الجهد، قد يضعف الصبر، أو ينفد إذا لم يكن هناك زاد ومدد ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر؛ فهي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي لا ينفد• المعين الذي يجدد الطاقة، والزاد الذي يزود القلب؛ فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع• ثم يضيف إلى الصبر، الرضى والبشاشة، والثقة، واليقين•
إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بربه الأعلى، يستمد منه العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة، حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع، وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة، حينما يطول به الأمد وتبعد به الشقة في عمره المحدود، ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئًا وقد أوشك المغيب، ولم ينل شيئًا وشرارة العمر تميل للغروب، حينما يجد الشر نافشًا والخير ضاويًا، ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق •• هنا تبدو قيمة الصلاة؛ إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني وربه القوي الباقي •• إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض• إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود •• ومن هنا كان رسول ا صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال: (أرحنا بها يا بلال)(135) •• ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله•
إن هذا المنهج الإسلامي منهج عبادة• والعبادة فيه ذات أسرار• ومن أسرارها أنها زاد الطريق، وأنها مدد الروح، وأنها جلاء القلب، وأنه حيثما كان تكليف كانت العبادة هي مفتاح القلب لتذوق هذا التكليف في حلاوة وبشاشة ويسر •• إن الله سبحانه حينما انتدب محمدًا r للدور الكبير الشاق الثقيل ، قال له: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (المزمل:1-5).
فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل وترتيل القرآن •• إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتشرق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى والراحة والاطمئنان"(136) ا•هـ•
2- الصيام:
والصوم من العبادات الشريفة المحبوبة إلى الله عز وجل، وهو يعود صاحبه الصبر وقوة الإرادة والاستعلاء على شهوات النفس، فضلاً عن كونها عبادة يحبها الله عز وجل ويثيب عليها ثوابًا لا يضاهيه ثواب عبادة أخرى؛ كما جاء في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به)(137).(24/152)
والمراد بالصوم صيام الفرض أولاً وإتقانه وحفظه من المبطلات، ثم صيام أيام النفل؛ وهي كثيرة منها صيام يومي الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، وصيام ست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ وكلها ورد في فضل صومها أحاديث صحيحة•
وأهمية الصوم في الإعداد للجهاد في أنه يقوي الإيمان ويزيد في التقوى التي تدفع العبد إلى امتثال الأوامر واجتناب المحرمات؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183).
وقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين ورد ذكرهم في سورة التوبة وأنه سبحانه قد اشترى منهم أنفسهم وأموالهم؛ ذكر من صفاتهم أنهم (السائحون)، وقد ذكر المفسرون أن من معانيها: الصائمين•
والمحافظة على نوافل الصلاة والصوم تحتاج من العبد مجاهدة وصبرًا، ويقينًا بمنافعهما العظيمة في الدنيا والآخرة، وقناعة بأهمية هذا الزاد في الإعداد للجهاد في سبيل الله تعالى• كما تحتاج إلى تعاون وتواص بين الدعاة، وأن تكون هناك البرامج العملية، والأجواء التربوية، والعيشة الجماعية التي تسهل على النفوس الأخذ بهذه العبادات ويكون فيها القدوات الصالحة التي تشد الناس بقولها وفعلها إلى هذه الأعمال وتحببها إلى النفوس•
3- الأخذ بمحاسن الأخلاق وترك مساوئها :
جاء الإسلام بمحاسن الأخلاق، وأرشد الناس إليها وحثهم على التحلي بها، ونفَّرَهم من مساوئ الأخلاق وقبحها وذم أهلها• وإذا كان المسلمون بعامة مأمورين بمحاسن الأخلاق والاتصاف بها ومنهيين عما يضادها، فإن الأمر بالأخذ بها يكون آكد وأوجب في حق الدعاة والمجاهدين لأنهم في موطن القدوة والصلاح والإصلاح• فضلاً عن أن الدعوة والجهاد يواجه أهلهما من المواقف والابتلاءات ما يحتاجون معه إلى الخلق الحسن والسلوك الجميل الذي يرغب الناس في الخير، ويدفع الداعية والمجاهد إلى الصبر والتحمل، والتحلي بالأخلاق الطيبة في تعامله وتصرفاته في المواقف؛ كما أن في اشتراك الدعاة والمجاهدين في برامج وأعمال مشتركة مجالاً لأن يظهر بينهم خلاف في وجهات النظر وتقدير المواقف• فإذا لم يكن هناك تربية أخلاقية وسلوكٌ إسلاميٌ قد تربى عليه المجاهد من قبل وإلا فقد تظهر بعض الأخلاق السيئة الكامنة، والتي لم تتهذب من قبل، مما قد ينشأ عنه مفاسد من الافتراق والتناحر والتشاجر كما نسمع أحيانًا هنا وهناك•
وقد وصف الله سبحانه نبي صلى الله عليه وسلم وهو قدوة الدعاة والمجاهدين بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)، ولما سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق صلى الله عليه وسلم قالت: (كان خلقه القرآن)(138). وقال صلى الله عليه وسلم (خياركم أحاسنكم أخلاقًا)(139). وقال أيضاً: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)(140)، والأحاديث في فضل حسن الخلق كثيرة جدًا والأخلاق الفاضلة كثيرة•
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أصول الأخلاق الفاضلة وأنها تقوم على أربعة أركان فقال: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل•
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيط، وكف الأذى، والحلم والإناة والرفق، وعدم الطيش والعجلة•
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء؛ وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة•
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته• وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش• كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب)(141). وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه•
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو توسط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة، الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس•
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة•••)(142) ا•هـ•
والأخلاق الفاضلة كثيرة أذكر منها في هذا المقام بعض ما هو لصيق بحياة الدعاة والمجاهدين، وما يكونون فيه أحوج إلى التحلي بها من غيرهم• ومن ذلك:
( أ ) الكرم والجود والبذل في سبيل الله:
وهذه الأخلاق تنشأ من الشجاعة التي أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بأنها من أصول الأخلاق الحسنة؛ لأن الشجاعة تحمل صاحبها على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته؛ بداية من بذل المال والجاه والعلم وغيرها من وجوه البذل والجود، ونهاية ببذل النفس والروح التي هي أعز وأغلى ما يملك الإنسان في سبيل الله عز وجل•(24/153)
ولذلك فإن البخيل في العادة لا تجده إلا جبانًا خوارًا، والبخل والجبن قرينان، كما أن الكرم والشجاعة قرينان، وقد قرن صلى الله عليه وسلم بين الجبن والبخل في دعائه حيث قال: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن)(143).
ولذلك يجب مجاهدة النفس على بذل ما تحبه، وتعويدها على الجود والإيثار وحب الخير للمسلمين، وبذل الجاه لهم بالمساعدة والشفاعة والسعي في حوائجهم• وهذا أمر يحتاجه المجاهد في سبيل الله لأن بيئة الجهاد بيئة بذل فكانت بالضرورة بيئة إيثار وتكافل وتعاون بين المجاهدين، وأجواء الجهاد والمجاهدين لا مكان فيها لأهل الأثرة والشح والأنانية والبخل•
ومما يساعد على تقوية خلق الكرم والجود ما سبق ذكره في أعمال القلوب من الإخلاص والزهد في الدنيا والرغبة فيما أعد الله لعباده المجاهدين المنفقين في الآخرة من النعيم والرضوان، ومما يساعد على ذلك أيضًا العيش في بيئات أهل العلم والزهادة والجهاد؛ لأن في رؤية القدوات من أهل السخاء والشجاعة والجود وطول صحبتهم أثرًا في التربية على هذا الخلق الكريم وغيره من الأخلاق، كما أن فيها التواصي والتذكير والحث على هذه الأخلاق•
كما أن في قراءة سير أهل الشجاعة والجود والكرم من سلف هذه الأمة وعلى رأسها سيرة سيد المجاهدين وبطل الأبطال وأكرم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم دافعًا ومحفزًا للاقتداء بهم واتباع آثارهم•
( ب ) العفو والصفح وكظم الغيظ :
وردت في الكتاب والسنة نصوص كثيرة تحث على هذا الخلق الكريم وتمدح أهله وتعدهم بالثواب الجزيل في الآخرة• قال الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:133-134).
وبالتأمل في هذه الآية نجد أن الله عز وجل قد ذكر قبلها آيات في غزوة أحد والاستعداد لها؛ وذلك في قوله: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران:121). ثم بعد أن ذكر تسع آيات في هذه الغزوة انتقل السياق إلى نهي المؤمنين عن أكل الربا، ثم حثهم على المسارعة إلى الجنة بالإنفاق في سبيل الله، والعفو عن الناس وكظم الغيظ، ثم عاد السياق مرة أخرى إلى مواصلة الحديث عن غزوة أحد بقوله: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ...) (آل عمران: من الآية137) فما معنى توسط هذه الآيات بين آيات الحديث عن غزوة أحد؟
يجيب عن ذلك سيد قطب رحمه الله تعالى بقوله: "••• وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة؛ فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان في "أحد" إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب• والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين• والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر، وليست بمعزل عن الميدان! واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر؛ والمجتمع التعاوني أقرب إلى النصر؛ من المجتمع الربوي• وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن والتواد في المجتمع المتسامح قوة ذات فاعلية كذلك"(144).
والأصل في العفو وكظم الغيظ وكف الأذى هو خلق الصبر الذي عدَّه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أحد الأركان الأربعة للأخلاق الفاضلة• وسيأتي الحديث عن خلق الصبر إن شاء الله تعالى بشيء من التفصيل عند الحديث عن المرتبة الرابعة من مراتب جهاد النفس•
وإن التأكيد على إعداد المجاهدين وتربيتهم على هذا الخلق الكريم نابع من أن المجاهد في طريق الجهاد الطويل قد يتعرض لبعض الأذى والأخطاء من إخوانه المشاركين له في درب الجهاد، أو من إخوانه المسلمين الذين قد يؤذونه بكلام أو تخذيل أو غير ذلك؛ فإن لم يكن على مستوى من التربية الأخلاقية - ولا سيما خلق الحلم والعفو والصفح - فإنه قد لا يصبر على ما يرتكب في حقه من الأخطاء، وقد يتصرف بما لا يليق بالمسلم فضلاً عن المجاهد الذي يفترض فيه أنه قد استعلى على حظوظ نفسه وأغراضها، وجعل غضبه وانتقامه لله عز وجل وحده لا شريك له• ولا يخفى ما في الانتقام للنفس والانتصار لها من مفاسد على وحدة صف الدعاة والمجاهدين واجتماع كلمتهم، وأنه باب للإحن والأحقاد والشحناء.
وان التحمل والعفو وكظم الغيظ يحتاج إلى جهاد شديد مع النفس، وتعويدها على الصبر والإخلاص لله وحده؛ لأن الإخلاص من أسباب سلامة الصدر وخلو القلب من الغل والحقد؛ قال صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يغل عليهن قلب مسلم - وذكر منها - إخلاص العمل لله)(145).(24/154)
كما أن في التربية الجماعية ورؤية القدوات من ذوي الحلم والأناة والعفو والصفح، والقراءة في سير المخلصين والعافين عن الناس الأثر الكبير في التحلي بهذه الأخلاق الفاضلة•
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "•• وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس، وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام"(146).
( ج ) الأمانة وحفظ العهد والوعد :
لقد ذكر الله عز وجل أن من صفات المؤمنين المفلحين محافظتهم على أماناتهم، ورعايتهم لعهودهم؛ فقال في صدر سورة "المؤمنون": (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:1-2) إلى قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8). وأمر بتأدية الأمانة في قوله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: من الآية58)، ونهى عن خيانة الأمانة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال:27).
والأمانة إذا أطلقت فالمراد منها القيام بجميع التكاليف التي كلف الله عز وجل بها عباده؛ سواء ما يتعلق منها بحقوق الله تعالى أو ما يتعلق منها بحقوق الخلق وهذا هو المعنى الوارد في آية الأحزاب في قوله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72).
وأما الأمانة بمعناها الخاص فالمراد منها جميع ما يُستَأمن عليه العبد من أموال أو أسرار أو مسؤوليات محددة أو عهود ومواثيق، أو غير ذلك من الأمانات؛ وذلك بحفظها وعدم الاعتداء عليها، أو التفريط فيها، أو الغش فيها وعدم إتقانها•
وحفظ الأمانة من الأخلاق الكريمة والمروءات النبيلة التي تدل على تقوى صاحبها وخوفه من الله وعفته ووفائه• ولذلك وجب الاهتمام بتقوية هذا الخلق في التربية بعامة، وفي الإعداد للجهاد بصفة خاصة؛ وذلك لما يتعرض له المجاهد من مواقف تتطلب منه إبرام عهد وعقد للقيام بمهام معينة في الجهاد، أو يستودع بعض الأسرار التي تتعلق بالجهاد، أو توكل إليه بعض أموال الجهاد قبضًا وإنفاقًا وحفظًا، وغير ذلك من المهمات التي تحتاج إليها الدعوة ويتطلبها الجهاد في سبيل الله•
كما يدخل في الأمانة تولية الأعمال للأكفاء وإسنادها إلى أهلها؛ فالولايات من الأمانات، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة)(147). وقال صلى الله عليه وسلم (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) قيل: وكيف إضاعتها• فقال: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله)(148).
ونحن اليوم في زمن ضاعت فيه الأمانات، وضعفت في قلوب كثير من الناس حتى عز المتصفون بها• لذا وجب التركيز عليها في التربية والإعداد للجهاد، واستخدام الوسائل الشرعية لتقويتها؛ وذلك بتقوية أعمال القلوب السابق ذكرها من الإخلاص والزهد في الدنيا وأعراضها وأموالها ورئاساتها، وإنشاء هم الآخرة في النفس والخوف من الحساب•
ومما يدل على قلة الأمناء في هذا الزمان حديث حذيفة رضي الله عنه في الأمانة، والذي يشتكي فيه من نقص الأمانة ومنه قوله: (ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت؛ لئن كان مسلمًا ليردنه عليَّ دينه، وإن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنه علىَّ ساعيه• وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا)(149). وقوله بايعت: من البيع والشراء؛ وهو يشير إلى رفع الأمانة ونقصها في الناس• فإذا كان حذيفة رضي الله عنه يشكو من ندرة الأمناء في زمانه فكيف بزماننا اليوم؟! والمقصود من ذكر حديث حذيفة هو قوله: (وأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا) وفيه الإشارة إلى تحري الأمانة في من يعاملون في بيع أو شراء أو يراد ائتمانهم على الأمانات•
المرتبة الثالثة
مجاهدة النفس على الدعوة إلى الهدى وتعليمه للناس
والدعوة واسعة ومجالاتها متعددة، لكن الحديث في هذه المرتبة سيكون عن الدعوة والبيان اللذَيْن يسبقان جهاد السنان،ويمكن تسمية هذا النوع من الجهاد بجهاد البيان وتبليغ الناس الدين الحق، وتعليمهم توحيد الله عز وجل وحقيقة العبودية، ومعرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته وكيف يعبدونه بمعرفة الأحكام العينية كأركان الإسلام وما لا تقوم إلا به، كما أن مما لا يتم البلاغ والبيان إلا به بيان سبيل الكافرين والمجرمين، وبيان ما يناقض التوحيد والإسلام الحق، وتعرية أهله للناس•(24/155)
إذن فإنه يمكن القول في هذه المرتبة بأنها مجاهدة النفس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر•ولقد ذكر الله سبحانه في صفات المجاهدين الذين عقدوا البيعة مع الله عز وجل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) (التوبة: من الآية111) الآية. ذكر من بين هذه الصفات أنهم: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية112). والجهاد في حقيقته فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الغاية من الجهاد - كما مر بنا - هي إعلاء كلمة الله عز وجل بعلو المعروف الأكبر وهو التوحيد وعبادة الله وحده، وإزهاق المنكر الأكبر وهو الشرك وأهله•
ولكن لما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبدأ بجهاد البيان والبلاغ للناس، وتعريفهم بحقيقة سبيل المؤمنين الموحدين، وحقيقة سبيل الكافرين والمجرمين، كان لزامًا قبل جهاد الكفار والمرتدين أن يكون جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تأخذ الدعوة حظها من البيان والتعريف للناس بحقيقة دين الإسلام وشموله، وحقيقة المنافقين والمجرمين الذين يتسلطون على الناس ويستعبدونهم، ويستخدمون في ذلك جميع الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في نشر باطلهم وثقافتهم والتلبيس على الناس بأنهم أصحاب حق وشرعية، وتشويه سمعة الدعاة الصادقين، ووصفهم بالتطرف والسعي إلى الفتنة والفساد، والخروج على الشرعية!!
والحديث هنا منصب على جهاد الطلب في واقع لم يستبن فيه الناس سبيل المؤمنين ولا سبيل المجرمين، وإنما الوضع عندهم ملتبس أو منعكس؛ بحيث ينظرون إلى المجرمين على أنهم مصلحون وإلى المؤمنين على أنهم مفسدون•
أما جهاد الدفع، فكما أشرت في أكثر من مرة إلى أنه في الغالب تكون فيه راية الكفر قد اتضحت، وكذلك راية المؤمنين الذين يدفعون العدو عنهم وعن المسلمين، فلا لبس حينئذ ولا فتنة، وأما جهاد الطلب فإن من يتخطى فيه جهاد البيان إلى جهاد السنان سيجد نفسه متورطًا في مواجهة إخوانه المسلمين الذين يعيشون في ظل الأنظمة الكفرية التي لُبِّس أمرها على الناس فلم يعرفوا المجاهدين ولم تصل إليهم حقيقة دعوتهم، وليس عندهم إلا ما يتلقونه من إعلام المجرمين من تضليل وعكس للحقائق• وأما إذا أخذت الدعوة حظها من البيان والبلاغ، ووصل الحق إلى الناس وزال اللبس عنهم واتسعت قاعدة الدعوة، وحصل الحد الأدنى من تربية الناس على المفاهيم الصحيحة لهذا الدين وبيان حقيقة المجرمين المتسلطين، وبيان كفرهم وفسادهم؛ فإنه حينئذ يستطيع المجاهدون إذا ملكوا الحد الأدنى من القدرة المادية والإعداد الإيماني أن يواجهوا عدوهم الذي قد عرَّفوا الناس حقيقته وعرَّفوا حقيقة سبيل المؤمنين وأهدافهم النبيلة، فإذا اختار أحد من الناس سبيل المؤمنين أو سبيل المجرمين فإنه يكون قد اختاره عن علم ورضى واختيار، فحينئذ يزول الحرج الشرعي من قتال الكفار ومن هو في صفهم؛ لأن البينة قد تمت، والحجة قد قامت، وحينها يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وعندما يُؤكد على أهمية العلم بسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين وتعليمهم ذلك فإنه يُفترض سلفًا أن الدعاة والمجاهدين قد فهموا وعلموا سبيل المؤمنين والمجرمين قبل غيرهم؛ وإلا فكيف سيبينونه للناس وفاقد الشيء لا يعطيه• وقد مضى في المرتبة الأولى من مراتب جهاد النفس ذكر مجاهدتها على تعلم الهدى والدين الحق، ومعرفة ما يناقضه• وعلم أصحاب الحق بسبيل المجرمين ضروري في توقيه ومحاربته، والاندفاع الشديد لمجاهدته ومجاهدة أهله•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم؛ ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره•
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانًا وجهادًا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي، ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك• ولهذا يقال: والضد يُظهِر حُسْنَه الضِدُ)(150).(24/156)
وقريب مما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قد أشار إليه سيد قطب رحمه الله عند قوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55) وذلك بقوله: "إن هذا المنهج هو المنهج الذي قرره الله - سبحانه - ليتعامل مع النفوس البشرية •• ذلك أن الله سبحانه يعلم أن إنشاء اليقين الاعتقادي بالحق والخير يقتضي رؤية الجانب المضاد من الباطل والشر، والتأكد من أن هذا باطل ممحض وشر خالص، وأن ذلك حق ممحض وخير خالص •• كما أن قوة الاندفاع بالحق لا تنشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق؛ ولكن كذلك من شعوره بأن الذي يحاده ويحاربه إنما هو على الباطل •• وأنه يسلك سبيل المجرمين؛ الذي يذكر الله في آية أخرى أنه جعل لكل نبي عدوًا منهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان: من الآية31). ليستقر في نفس النبي ونفوس المؤمنين أن الذين يعادونهم إنما هم المجرمون؛ عن ثقة، وفي وضوح، وعن يقين•
إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح• واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات؛ ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشًا وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم• فهما صفحتان متقابلتان• وطريقان مفترقتان •• ولا بد من وضوح الألوان والخطوط ••
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين؛ يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميز للمؤمنين، والعنوان المميز للمجرمين، في عالم الواقع لا في عالم النظريات• فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم؛ بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان؛ ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين•
وهذا التحديد كان قائمًا، وهذا الوضوح كان كاملاً يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية• فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسو صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لا يدخل معهم في هذا الدين •• ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل، وكان الله سبحانه يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين! ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا •• إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيام دارًا للإسلام يسيطر عليها دين الله، وتحكم بشريعته •• ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسمًا• وإذا هي تنكر لمقومات الإسلام اعتقادًا وواقعًا - وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادًا! - فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله •• وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه، وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله، وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله •• وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد؛ كائنًا من كان اسمه ولقبه ونسبه• وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعد• وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ••
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! •• تهمة تكفير "المسلمين"!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله! هذه هي المشقة الكبرى •• وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المومنين وسبيل المجرمين •• ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة، وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألا تقعدهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفرون المسلمين! ••(24/157)
••• أجل، يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة، ولا يعوّقها غبش، ولا يميعها لبس؛ فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون"، وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم المجرمون"(151) ا•هـ•
وإن المتدبر لهدي صلى الله عليه وسلم في مكة وكيف واجه الكفار فيها ليجد أن جهاد صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة من الدعوة كان جهاد بيان وبلاغ وتربية طيلة العهد المكي،ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه واجه المشركين بالسلاح، ولم يأذن لأصحابه في ذلك• وما ذاك - والله أعلم - إلا لتأخذ الدعوة حظها من البلاغ والقوة والتربية للقاعدة الصلبة• ولقد واجه عليه الصلاة والسلام في سبيل ذلك من الأذى والتعذيب لأصحابه الشيء العظيم حتى إذا استبانت سبيل المؤمنين واستبانت سبيل كفار قريش المجرمين، واتضحت السبيلان دون لبس ولا غموض، أذن الله عز وجل لرسوله والمؤمنين بالهجرة ثم الجهاد بعد أن تهيأ لهم الأنصار والمكان الذي يؤون إليه ويحتمون به وينطلقون منه، ولعل هذه هي إحدى الحكم التي من أجلها أُمر المسلمون أن يكفو أيديهم في مكة•
وعن هذه المرحلة وضرورة بيان سبيل المؤمن وسبيل المجرمين قبل مصادمة الكفار يتحدث محمد قطب وفقه الله تعالى فيقول: "نحتاج أن نقف وقفات طويلة نتأمل فيها نشأة الجيل الأول؛ لأن فيها زادًا كاملاً لكل من أراد أن يدعو، أو يتحرك بهذا الدين في عالم الواقع؛ فقد صُنع ذلك الجيل على عين الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: من الآية39)، ونشأ على يدي أعظم مرب في تاريخ البشرية، محمد رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فكان جيلاً فريدًا في تاريخ البشرية كله، يوجهه الله بالوحي، ويتابعه رسول ا صلى الله عليه وسلم بالتربية والتوجيه، فاكتملت له كل وسائل النشأة الصحيحة في أعلى صورة، فأصبح كالدرس "النموذجي"، الذي يلقيه الأستاذ ليعلّم طلابه كيف يدرّسون، حين يئول إليهم أمر التعليم•
ثم إن إرادة الله سبحانه وتعالى قد اقتضت أن يتم أمر هذا الدين على السنن الجارية - لا الخارقة - لحكمة أرادها الله، لكي لا يتقاعس جيل من الأجيال فيقول: إنما نصر الجيل الأول بالخوارق، وقد انقطعت الخوارق بعد رسول الله ،! وفيما عدا هذه الخارقة التي اختص بها أهل بدر، وفيما عدا ما يختص بشخص الرسو صلى الله عليه وسلم ، فقد جرت أمور الإسلام كلها على السنة الجارية؛ من استضعاف في المبدأ، وابتلاء وصبر وتمحيص، ثم تمكين على تخوف، ثم تمكين على استقرار وقوة، ثم انتشار في الأرض• لذلك فإن الدروس المستفادة من نشأة الجيل الأول هي دروس دائمة، لا تتعلق بالنشأة الأولى وحدها، وإنما هي قابلة للتطبيق في كل مرة تتشابه فيها الظروف أو تتماثل؛ لأنها سنن جارية، وليست حوادث مفردة عابرة لا تتكرر•
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وَجَّهَنَا في كتابه المنزل، لتدبر السنن الربانية ودراسة التاريخ - الذي هو في الحقيقة مجرى السنن في عالم الواقع - فنحن جديرون أن نعكف على دراسة النشأة الأولى؛ لنستخلص منها الدروس والعبر، ولتكون هاديًا لنا في كل تحرك نقوم به، ومحكًا لاستقامتنا على الطريق أو انحرافنا عنه ••• يقول سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
وكأن المعنى: نظل نفصل الآيات حتى تستبين سبيل المجرمين•
وورود هذا المعنى في آية مكية له دلالة واضحة، أو ينبغي أن تكون واضحة؛ فاستبانة سبيل المجرمين هدف مقصود، تبينه لام التعليل في قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ). ونزول هذه الآية في الفترة المكية، معناه أن استبانة سبيل المجرمين هي من أهداف الدعوة، بل من لوازم الدعوة في الفترة الأولى التي يتم فيها نشأة الجماعة المسلمة•
فما الذي تحققه استبانة سبيل المجرمين للدعوة؟
إن استبانة سبيل المجرمين تتضمن أمرين:
أولاً: بيان من هم المجرمون؟ وثانياً: بيان السبيل الذي يسلكونه، والذي من أجله أصبحوا مجرمين•
فمَن هم المجرمون؟ وما سبيلهم؟ وما علاقة تفصيل الآيات باستبانة سبيلهم؟
لقد فصّلت الآيات قضية الألوهية، وهي القضية الأولى والكبرى في القرآن كله، والسور المكية بصفة خاصة•(24/158)
فصلت الآيات أنه إله واحد لا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شركاء في الخلق ولا في التدبير، ولا في أي شأن من الشؤون، وظلت الآيات تتنزل مبينة صفات ذلك الإله، وتنفي عنه الشركاء حتى صار المعنى واضحًا تمامًا، سواء لمن آمن أو لمن كفر؛ فقد كان الكفار قد أصبحوا على بينة تامة مما يريد منهم رسول ا صلى الله عليه وسلم أن يعلموه ويؤمنوا به، حتى قالوا كما روى الله عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5)... وعلى هذ فقد انقسم الناس فريقين اثنين: فريق المؤمنين، وهم الذين آمنوا أنه إله واحد، فعبدوه وحده بلا شريك، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم، وفريق المجرمين وهم الذين أبوا أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده، وأن يتبعوا ما أنزله إليهم•
وإذن، فأين تقع قريش في هذا التقسيم؟
لقد كانت قبل تفصيل الآيات هي صاحبة الشرعية، وكان المؤمنون في نظر قريش، وفي نظر الناس أيضًا، خارجين على الشرعية، فما الموقف الآن بعد تفصيل الآيات؟ وبعد ما رفضت قريش أن تؤمن بالله الواحد، وتعبده وحده بلا شريك، وتتبع ما أنزل الله؟ هل بقيت هي صاحبة الشرعية، وبقي المؤمنون هم الخارجين على الشرعية؟ أم تبدل الحال عند بعض الناس على الأقل، فأصبحت قريش وأمثالها هم المجرمين، وأصبح أصحاب الشرعية هم المؤمنين؟!
إنها نقلة هائلة في خط سير الدعوة، أن يتبين الناس من هم المجرمون، وما سبيلهم، ويتبينوا في المقابل من هم الذين على الحق، وما هو سبيل الحق•
ولقد كان الإشكال بالنسبة لقريش خاصة أنهم هم سدنة البيت، الذي يعظمه العرب جميعًا، فضلاً عن كونهم أصحاب ثروة وأصحاب جاه وحسب ونسب، فاجتمعت لهم بمقاييس الجاهلية كل مقومات الشرعية، ممتزجة ببقايا الدين المحرف الذي ينتسبون به إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام •• فلم تكن زحزحة الشرعية عنهم أمرًا هينًا، خاصة والخارجون على شرعيتهم ضعاف فقراء لا قوة لهم ولا مال، ولا سند من أحد من ذوي السلطان!
لقد كانت العقيدة الصحيحة وحدها هي التي يمكن أن تُجْليَهم عن شرعيتهم المدعاة، وتكشفهم على حقيقتهم؛ وهي أنهم مجرمون لا شريعة لهم، لرفضهم الإيمان بالله الواحد، وعبادته وحده بلا شريك، واتباع ما أنزل الله•
وهنا نسأل: لو أن المؤمنين في مكة دخلوا في معركة مع قريش، فهل كانت تستبين سبيل المجرمين؟ لو دخلوا المعركة وفي حس الناس أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، فهل كان يمكن أن يستقر في خَلَد أحد - كما استقر في خَلَد الأنصار - أن القضية لها معيار آخر غير سدانة البيت، وغير المال والجاه، وكثرة العدد، ورصيد العرف، ورصيد التاريخ؟ وأن هذا المعيار هو: لا إله إلا الله •• هو الإيمان بألوهية الله وحده بلا شريك، وما يترتب على ذلك من ضرورة اتباع ما أنزل الله، وأن هذا هو الحق الذي لا شيء بعده إلا الضلال، وأن هذه هي القضية الكبرى التي يُقاس بها كل شيء، وينبني عليها كل شيء؟
هل كان يمكن أن يصل الحق الذي يحمله المؤمنون إلى أفئدة فريق من الناس، كما وصل إلى أفئدة الأنصار، لو أن المؤمنين دخلوا معركة مع قريش، أم كان غبار المعركة يغشى على حقيقة القضية، وتنقلب القضية بعد قليل إلى قضية ضارب ومضروب، وغالب ومغلوب، وتصبح قضية "لا إله إلا الله" على هامش الصورة، إن بقي لها في حس الناس وجود على الإطلاق؟!
أظن الصورة واضحة ••• لقد كانت (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) هي سر الموقف كله!
كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله - وهي قضية الرسل جميعًا من لدن آدم إلى صلى الله عليه وسلم - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التي أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التي لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفرًا لا شبهة فيه؛ كفرًا غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله •• وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال: من الآية42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، هو من مستلزمات الدعوة •• فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس "لا إله إلا الله"، واستبانة سبيل المؤمنين في المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول في الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب•
وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ)، جاء الأنصار! وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ!"(152).(24/159)
والمقصود من كل ما سبق أن الأمر بالمعروف - وأوله المعروف الأكبر وهو التوحيد - والنهي عن المنكر - وأوله المنكر الأكبر وهو الشرك الأكبر - هو أمر ضروري يسبق الجهاد بالسنان، وهو من جهاد النفس على تبليغ وبيان ما تعلمته من الهدى والنور فتدعو الناس إليه، وما علمته من الشرك والضلال فتحذر الناس منه ومن سبيل أهله من المجرمين وهذا البيان ضروري لا يتم الجهاد بالسنان بدونه، وهو يحتاج إلى وقت وجهد وبذل وتضحية وصبر، وليس بالأمر الهين؛ لأن البيان محتاج إلى وسائل قوية للبلاغ تواجه وسائل المجرمين التي يصدون بها الناس عن سبيل الله تعالى ويلبسوا عليهم دينهم• كما تحتاج إلى التكاتف بين الدعاة وتوظيف طاقاتهم كل بحسب حاله وقدرته؛ فالخطيب على منبره، وإمام المسجد في مسجده وحيه، والكاتب والمؤلف بقلمه، والمحاضر في محاضرته، والشيخ والمربي مع طلابه في دروسهم•
كما لا ننسى وسائل الإعلام الحديثة وأثرها في توسيع قاعدة الدعوة وإيصالها إلى فئام كثيرة من الناس، وهذا يؤكد ضرورة تميز الدعاة والمجاهدين بمؤسساتهم الإعلامية المتميزة النظيفة التي يرى فيها الناس الحق ويسمعونه، ويرون القدوات والقادة من العلماء والدعاة الذين يصدرون عن مواقفهم ويستمعون توجيهاتهم، ويتبصرون بسبيل المجرمين فينفرون منها ومن أهلها•
كما لا ننسى دور المال في التعريف بسبيل المؤمنين وبسبيل المجرمين على نطاق واسع؛ فإذا لم يكن هناك ما يدعم الوسائل الإعلامية ويسهم في إنشائها فسيكون أثر البيان ضعيفًا• وهذا مما يعوق الدعوة ويؤخرها•
ومما يلحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته في الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل التواصي بين المتآخين في طريق الدعوة والجهاد، وأن لا يشغلهم الأمر والنهي الموجهان للناس عن الأمر والنهي فيما بينهم؛ فإن كل بني آدم خطاء، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام• لذا فمن الطبيعي أن تظهر بعض الأخطاء والمنكرات في صفوف الدعاة ومن يعدون أنفسهم للجهاد• وحينئذ لا بد من الاحتساب بين الإخوان بأن يناصح بعضهم بعضًا، وأن يتواصوا بالحق والمعروف، وينبه المقصر في الحق على تقصيره، وينصح المتلبس بالباطل حتى يقلع عن باطله•
وبهذا التناصح والتواصي وإشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الدعاة والمجاهدين تقل المنكرات، ويفشو المعروف، وتقل المعاصي، وتكثر الطاعات، وتسود المحبة والألفة، وتتحقق بذلك أهم أسباب النصر على الأعداء؛ وهما طاعة الله عز وجل، والاجتماع والائتلاف؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46). ووحدة الصف واجتماع الكلمة من أعظم ما يستعد به للجهاد•
وما دمنا بصدد الحديث عن الاجتماع والفرقة فإنه من المناسب في الحديث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التركيز على خطورة الفرقة والاختلاف، وبخاصة من الدعاة والمجاهدين؛ فإنها من أعظم المنكرات التي تضيع بها ثمار الدعوة والجهاد، ولذلك يجب التصدي لها ومحاربتها، وأن يُسعى للتغلب على أسبابها والمراتب السابقة في الإعداد كفيلة بإذن الله تعالى - عندما يأخذ بها المربون - أن تقضي على جذور الفتنة والفرقة• وقد سبق الإشارة إلى أثر العلم وأعمال القلوب والأعمال الصالحة في القضاء على هذه الآفة الخطيرة التي تعوق الدعوة والجهاد وتؤخر نصر الله عز وجل• وهذا لا يعني أن لا يحصل اختلاف في وجهات النظر وبعض الاجتهادات بين الدعاة والمجاهدين، لكنها لا يجوز أن تؤدي إلى الافتراق والمنابذة، ولنا في أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ حيث اختلفوا في بعض المسائل لكنهم بقوا صفًا واحدًا وقلوبًا متآلفة فبارك الله فيهم وفي عملهم وجهادهم ودعوتهم• فالاجتماع أصل، والمسائل التي قد يختلف عليها فروع، فلا يجوز بحال أن نضيع الأصل وهو الاجتماع لنحافظ على فرع، وإلا كنا كمن يهدم مصرًا ليبني قصرًا•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59). وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين• نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع"(153).
المرتبة الرابعة
جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق(24/160)
وهذه المرتبة من جهاد النفس لا يستغني عنها المسلم في جميع مراتبه السابقة، وفي عمره كله• وبدون الصبر أو بضعفه لا يستطيع العبد أن يجاهد نفسه على تعلم الشريعة والتبصر في الدين، كما أنه يعجز عن العمل بما تعلمه، فضلاً عن أن يدعو إلى هذا الهدى ويبينه للناس، ويتحمل ما يلاقيه في سبيل ذلك• وإذا كان لا غنى عن الصبر لكل مسلم، فإنه في حق المجاهدين والذين يعدون أنفسهم للجهاد أشد وآكد؛ وذلك لبعد الشقة وطولها•
إذن فالصبر خلق عظيم رفيع الشأن لا بد من التزود به في أداء الطاعات واجتناب المحرمات، وفي مواجهة المصائب والمكروهات وفي مقاتلة الأعداء قال تعالى عن المتقين: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) (البقرة: من الآية177).
والحديث عن الصبر وأنواعه ومراتبه وفضله لا يتسع له المقام(154)، وليس هو غرضنا في هذه الدراسة• وإنما مقصودنا هو الإشارة إلى ضرورة توطين النفس على الصبر والتحلي به للاستعداد للجهاد في سبيل الله تعالى لأنه الزاد، وهو من أسباب النصر على الأعداء؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:45-46)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).
وما أحسن ما علق به سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية إذ يقول: "والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة• إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالدماء والأشلاء، وبالإيذاء والابتلاء •• الصبر على أشياء كثيرة: الصبر على شهوات النفس ورغائبها، وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها، وعجلتها وملالها من قريب! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم، وأثرتهم، وغرورهم، والتوائهم واستعجالهم للثمار! والصبر على تنفج الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الشهوة، وتصعير الغرر والخيلاء! والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة من الألم والغيظ، والحنق، والضيق، وضعف الثقة أحيانًا في الخير، وقلة الرجاء أحيانًا في الفطرة البشرية؛ والملل والسأم واليأس أحيانًا والقنوط! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله، واستسلام لقدره، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع ••
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل •• لا تصوره حقيقة الكلمات• فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة• إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق، وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات!
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي• فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء؛ كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه •• والمصابرة •• وهي مفاعلة من الصبر •• مصابرة هذه المشاعر كلها، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين •• مصابرتها ومصابرتهم، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة• بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى: أعدائهم من كوامن الصدور، وأعدائهم من شرار الناس سواء• فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر، والدفع بالدفع، والجهد بالجهد، والإصرار بالإصرار •• ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء• وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارًا وأعظم صبراً على المضي في الطريق!
والمرابطة: الإقامة في مواقع الجهاد، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء •• وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدًا، ولا تستسلم للرقاد! فما هادنها أعداؤها قط، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة، والتعرض بها للناس• وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد حيثما كانت إلى آخر الزمان!"(155) ا•هـ•
والمواطن التي يحتاج الداعية والمجاهد أن يوطن نفسه فيها على الصبر كثيرة منها ما ذكره سيد قطب في النقل السابق، ومنها ما لم يذكره، ومن أهمها:
- الصبر على شهوات النفس ورغباتها وميلها إلى الراحة والترف والدعة•
- الصبر على ضعف النفس ونقصها وسرعة ملالها•
- الصبر على ضغوط الواقع وأذى الأعداء؛ فلا يتغلب اليأس ولا القنوط•
- الصبر على طول الطريق وشدة الابتلاء؛ فلا يدفع إلى العجلة والمواجهة قبل أوانها•(24/161)
- الصبر على الناس وشهواتهم وجهلهم وسوء تصوراتهم، وانحراف طبائعهم، وإعراضهم عن الحق•
- الصبر على إخوان الدعوة والجهاد، وما يطرأ عليهم من ضعف أو ما يصدر منهم من بعض الأذى والأخطاء؛ فلا يؤدي ذلك إلى الفرقة والتنازع•
- الصبر على انتفاش الشر وانتفاخ الباطل، ووقاحة الطغيان، وقلة الناصر، وضعف أتباع الحق وقلة حالهم، وطول الطريق ووساوس الشيطان في ساعات الكرب•
- الصبر على ضبط النفس في ساعات القدرة والانتصار والغلبة، واستقبال ذلك بالتواضع والشكر لله عز وجل، وبدون خيلاء أو تجاوز في القصاص الحق إلى الاعتداء•
- الصبر على البقاء في صلة مستمرة مع الله عز وجل في السراء والضراء، والاستعانة به وحده، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة•
- الصبر على مفارقة الأهل والأولاد والأوطان للدعوة والجهاد•
- الصبر على تخذيل المخذلين وإرجاف المرجفين، وشبهات المشبهين•
- الصبر في ساحات الوغى على قتال الكافرين، والمصابرة والمرابطة في ذلك•
والتربية على الصبر، وتوطين النفس عليه يحتاجان إلى جهد ومشقة وأخذ بالأسباب المعينة عليه• ومن أعظم الأسباب تقوية الصلة بالله عز وجل وكثرة ذكره وتسبيحه وكثرة العبادة• وهذا واضح من توجيه الله عز وجل لنبي صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم؛ حيث يغلب على الآيات التي يأمر فيها الله عز وجل نبي صلى الله عليه وسلم بالصبر أن تكون مقرونة بالأمر بالتسبيح والصلاة والاستغفار؛ قال الله عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه:130)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (الإنسان:24-26)، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) (الطور:49)، وقال عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) (قّ:39-40)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153). والآيات في هذا المعنى كثيرة•
كما أن مما يعين على الثبات والصبر وعدم النكول والضعف ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصبر عن أنواع الصبر، وأن هناك شروطًا ثلاثة إذا حققها العبد في صبره حصل له الثبات، وإن تخلف واحد منها أو أكثر ضعف صبره وخذل• وملخص هذه الشروط ما يلي:
1- أن يكون الصبر بالله تعالى؛ وذلك بالتبرؤ من الحول والقوة والاعتراف بالضعف والهلكة لو وكل العبد إلى نفسه• وهذا ينبه على ضرورة الاستعانة بالله عز وجل وسؤاله الصبر والثبات؛ لأنه سبحانه هو المصبر والمثبت ولولاه لم يصبر الصابرون ولم يثبت المجاهدون•
2- أن يكون الصبر لله تعالى؛ بأن يكون الباعث على الصبر محبة الله عز وجل وإرادة وجهه، والتقرب إليه ورجاء ثوابه، لا لإظهار الشجاعة وقوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأغراض•
3- أن يكون الأمر المصبور عليه مرضيًا لله تعالى ودائرًا مع مراده الديني وأحكامه الدينية صابرًا نفسه معها سائرًا بسيرها، يتوجه معها أين توجهت ركابها، وينزل معها أين استقلت مضاربها(156).
ونظراً لأهمية هذه الشروط في تحقيق الصبر وكماله كان لزامًا على من يعدون أنفسهم للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل أن يعتنوا بهذه الأمور، ويبذلوا الأسباب العلمية والعملية في تقويتها في النفس، وأن يتواصوا بها؛ فما خذل عبد في موقف وضعف صبره فيه إلا بتخلف واحد أو أكثر من هذه الشروط•
تنبيه مهم:
ينظر كثير من الناس إلى أن ضعف الصبر لدى الداعية أو المجاهد إنما يتمثل في عدم تحمله لأعباء الطريق وأذى الأعداء مما يجعله يرجع إلى الوراء فيفتر أو يترك الدعوة والجهاد، أو يداهن الأعداء أو ييأس ويصيبه الإحباط•
وهذا لاشك أنه ضعف في الصبر والتربية، لكن ضعف الصبر لا ينحصر في هذا فقط، وإنما هناك نوع آخر من ضعف الصبر في طريق الدعوة والجهاد قد ينظر إليه في الوهلة الأولى أنه شجاعة وإقدام وقوة وصبر، ولكنه في الحقيقة إنما نشأ من ضعف في الصبر واستعجال للنتائج• وتتجلى أهمية هذا الأمر بخاصة في واقعنا المعاصر الذي يشهد من بعض الدعاة حماسًا مفرطًا واستعجالاً ومسارعة لمواجهة الأعداء قبل الإعداد والاستعداد لذلك علمًا وعملاً ودعوة وعدة وعتادًا•(24/162)
وقد ينظر إلى هذه الممارسات - كما أسلفت - على أنها قمة الشجاعة والصبر والتحمل، لكنها - والله أعلم - قد تكون في أغلبها إنما نشأت من عدم الصبر على طول الطريق واستكمال جوانب الإعداد• وزاد في إذكائها أذى الأعداء وما يواجهون به الدعاة من السجن والتعذيب والتقتيل(157).
وهنا يحسن الاستئناس بآية (كف اليد) في مكة؛ حيث أُمِرَ المسلمون بذلك لحكمة عظيمة، وأحسب أن المقام مناسب لذكرها والوقوف عند مدلولاتها، وما مدى الاستفادة منها في ضوء الصراع القائم اليوم مع الكفار والمنافقين في داخل بلدان المسلمين•
يقول الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء:77)، وامتثل الرسو صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه أمر ربهم فكفوا أيديهم في مكة وصبروا على الأذى والتعذيب، وعلى كل الممارسات الاستفزازية، مع قدرتهم الفردية على الرد والانتقام، ووجه الرسو صلى الله عليه وسلم همه إلى البيان والبلاغ بدعوة التوحيد، وإلى التربية الجادة لمن دخل في الإسلام، مع الاستمرار على ضبط النفس، حتى أذن الله عز وجل لهم بعد ذلك في الهجرة ثم الجهاد• ولنا في رسول ا صلى الله عليه وسلم وصبره وعدم عجلته في تلك الظروف العصيبة أسوة حسنة، وبخاصة من يعيش اليوم في ظل الأنظمة التي تدعي انتسابها إلى الإسلام في الظاهر بينما حقيقتها أنها عدوة للإسلام وأهله؛ حيث يحكم فيها بحكم الطاغوت ويوالى أعداء الله ويؤذى فيها أولياء الله عز وجل ودعاته المصلحون• فما أشبه واقع المصلحين اليوم في ظل هذه الأنظمة بواقع الرسو صلى الله عليه وسلم في ظل سلطة قريش، مع وجود فارق مهم يؤكد على ضرورة الصبر على الدعوة والبيان في هذا الزمان أكثر من أي زمان مضى؛ ذلك أن الأنظمة المعاصرة لا تعلن عداءها للإسلام صراحة ولا كفرها برسالةمحمد صلى الله عليه وسلم ، بل تدَّعي الإسلام والإيمان زورًا وتلبيسًا• ولا يخفى ما في هذا من التلبيس والخداع الذي يحتاج فيه الدعاة والمجاهدون إلى وقت ليس بالقصير، وجهد ليس بالقليل ليصبروا ويكفوا أيديهم ويركزوا على إزالة هذا اللبس وبيان حقيقة الإيمان الحق، وحقيقة الكفر والنفاق، وحقيقة سبيل المجرمين مع الإعداد الشامل المذكور في المراتب السابقة•
ولو قفزت مرحلة البيان للناس والإعداد الإيماني للمجاهدين إلى مرحلة الصدام مع هؤلاء الزنادقة المعاصرين فلا يخفى على اللبيب المتتبع لسنن الله عز وجل، وسنن المرسلين، ورصيد التجارب في القديم والحديث ما نشأ وينشأ من جراء ذلك من المفاسد والفتن والشرور• وإنَّ السعيد لمن جنب الفتن واتعظ بغيره• ولعل من المفيد في هذا المقام أن نقف على بعض ما كتب حول آية (كف اليد) المذكورة آنفًا•
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة، ولم تكن ذات النصب، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يحترقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبًا لأسباب كثيرة منها: قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداءً لائقًا؛ فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار"(158).
ويعلق صاحب الظلال رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله: "إن أشد الناس حماسة واندفاعًا وتهورًا، قد يكونون هم أشد الناس جزعًا وانهيارًا وهزيمة عندما يجد الجد، وتقع الواقعة •• بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبًا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلة الاحتمال، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل؛ دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار •• حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدَّروا، وأشق مما تصوروا• فكانوا أول الصف جزعًا ونكولاً وانهيارًا •• على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت، ويعدون للأمر عدته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف• فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته •• والمتهورون المندفعون المتحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافًا، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً؛ وأي الفريقين أبعد نظرًا كذلك!(24/163)
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة• فيندفع يطلب من الرسو صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة• والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب، فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال• وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص لم يعد يرى للقتال مبررًا، أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة!
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (النساء: من الآية77).
وقد يكون هذا الفريق مؤمنًا فعلاً؛ بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا؛ فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصور الذي لم تتضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض؛ وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان؛ إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه - إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة •••"(159).
ثم عرج على بعض الحكم من كف اليد في مكة والأمر بالصبر فقال رحمه الله تعالى: "أما حكمة هذا فلسنا في محل الجزم بها؛ لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسبابًا وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية• أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة •• وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف أو أي حكم في شريعة الله لم يبين الله سببه محددًا جازمًا حاسمًا، وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة •• نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب •• على أنه مجرد احتمال •• وندع ما وراءه لله• لا نفرض على أمره أسبابًا وعللاً، لا يعلمها إلا هو •• ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح!
إنها أسباب •• اجتهادية •• تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
( أ ) ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة لقوم معينين ••• ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئات تربية النفس على الصبر وضبط النفس لأناس كانوا يثورون لأول وهلة ولا يصبرون على الضيم•
(ب) وربما كان ذلك لأن الدعوة السلمية أشد أثرًا وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال في مثل هذه الفترة إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية ••••
(جـ) وربما كذلك لما يعلمه الله عز وجل من أن كثيرين من المعاندين هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلصين •••
( د ) وربما كان كذلك لقلة عدد المسلمين حينذاك وانحصارهم في مكة؛ فلو وقع القتال لمحيت الجماعة المسلمة وبقي الشرك•••
(هـ) لم يكن هناك حاجة للقتال؛ فقد كانت الدعوة تصل إلى الناس ويبلغها الرسو صلى الله عليه وسلم وهذا هو المطلوب في هذه الفترة •••)(160).
ويشير الأستاذ محمد قطب وفقه الله تعالى إلى بعض هذه الأحكام فيقول: "من أشد ما استوقفني في مسيرة الجيل الأول، ذلك الأمر الرباني للمؤمنين أن يكفّوا أيديهم في مرحلة التربية بمكة، وأن يتحملوا الأذى صابرين، وقد أشار الله إلى هذا الأمر في قوله تعالى، مذكرًا به: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (النساء: من الآية77).
وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد سأل الرسو صلى الله عليه وسلم حين اشتد الأذى بالمؤمنين: ألا نقاتل القوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (ما أُمرنا بقتالهم)(161).
ولم يرد في النصوص - لا في الكتاب ولا في السنة - بيان لحكمة هذا الأمر الرباني، ومن ثم فالأمر متروك للاجتهاد لمعرفة الحكمة منه، وربما كان أيسر سبيل للتعرف على حكمته أن نفترض أن المؤمنين كانوا قد دخلوا في معركة مع قريش في ذلك الحين، فماذا كان يمكن أن يترتب على ذلك؟ ثم نتدبر الفوائد التي تحققت حين كفوا أيديهم ولم يدخلوا في معركة في ذلك الوقت•
أبسط ما يمكن أن يتصور من نتائج هذه المعركة غير المتكافئة أن تتمكن قريش من إبادة المؤمنين، وهم حينئذ قلة مستضعفة لا سند لها، فينتهي أمر الدعوة الجديدة في معركة واحدة أو عدة معارك متلاحقة، دون أن يتحقق الهدف، ودون أن يتعرف الناس على حقيقة الدعوة، ودون أن يكتب لها الانتشار•(24/164)
ونفترض أن المعركة - على الرغم من عدم تكافئها - لم تؤد إلى إبادة المؤمنين كلهم، فثمة أمر آخر على غاية من الأهمية، يلفت انتباهنا بشدة، لاتصاله بما يجرى من أحداث في وقتنا الحاضر•
لمن كانت الشرعية في تلك المرحلة في مكة؟ لقد كانت في حس الناس جميعًا لقريش••!
وما وضع المؤمنين يومئذ؟ وضعهم أنهم خارجون على الشرعية••! ومن حق صاحب الشرعية - ولا شك - أن يؤدب الخارجين عليه!
وصحيح أن قريشًا تشتد في "التأديب" إلى حد الفظاظة والقسوة، وأن بعض الناس قد يتأذى لهذه الفظاظة، حتى ليحاول أن يبسط حمايته - أو جواره - على بعض المعذبين المستضعفين، ولكن يظل الأمر في حس الناس - من حيث المبدأ - أن قريشًا هي صاحبة الشرعية، وأن المؤمنين خارجون على الشرعية، وأن من حق صاحب الشرعية أن يؤدب الخارجين عليه!
فهل كان من مصلحة الدعوة أن يدخل المؤمنون يومئذٍ في معركة مع قريش، وهذا التصور هو السائد بين الناس؟!
كلا بالطبع! والآن فلننظر ماذا تم حين استجاب المؤمنون للأمر الرباني وكفوا أيديهم•
لقد تمت أمور كثيرة في الحقيقة ••••• ومن خلال (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) تكونت النواة الأم التي صنعت التاريخ!
ولو كان المؤمنون قد دخلوا في معركة مع قريش في مكة، لتأخر كثيرًا تكوّن النواة الأم، ولتغيرت كثيرًا صفاتها التي اكتسبتها، وذلك فوق الغبش الذي كان سيصيب قضية لا إله إلا الله، حين تتحول إلى قضية ضارب ومضروب،وغالب ومغلوب، ولتأخر كذلك التجمع الصلب حول النواة الصلبة المصقولة المتينة البناء •• لقد تمت أمور على غاية من الأهمية في مسيرة الدعوة•
تم تحرير موضع النزاع، إن صح التعبير •• إنه قضية "لا إله إلا الله" دون غيرها من القضايا ••
ليس الصراع الدائر بين قريش وبين المؤمنين على سيادة أرضية، ولا على السلطة السياسية (وقد عُرضت السلطة على رسول ا صلى الله عليه وسلم فأباها، وأصرَّ على لا إله إلا الله، والمؤمنون من جانبهم لم يتحركوا حركة واحدة تهدف إلى الاستيلاء على السلطة) ••
ليس الصراع على "شرف" سدانة البيت، ولا "وجاهة" خدمة الحجيج ••
ليس على القوة الاقتصادية التي تملكها قريش وحدها دون المؤمنين، وتحارب المؤمنين من خلالها بالحصار والتجويع، والمؤمنون لا يتعرضون لها من قريب ولا بعيد•
الصراع كله على القضية الكبرى التي هي - والتي يجب أن تكون دائمًا - القضية الأولى، والقضية الكبرى في حياة الإنسان؛ قضية من المعبودُ؟ ومن ثَمَّ من صاحبُ الأمر؟ من المشرِّع؟ من واضع منهج الحياة؟ قريش تريدها حسب أهوائها وخيالاتها وموروثاتها وأعرافها، والمؤمنون حول رسول ا صلى الله عليه وسلم يريدونها لله•
وتم تركيز الجهد وتوفيره لتربية القاعد الصلبة، التي ستحمل البناء، وتم تحرير قضية "الشرعية"، بتفصيل الآيات واستبانة سبيل المجرمين•
وتم أخيرًا اتساع القاعدة بالجنود الذين استضاءوا بالنار التي اكتوى بها أهل النواة الأم، فتجمعوا بقدر من الله، وبحسب سنة من سنن الله، حول تلك النواة، مضيفين إليها قوة حقيقية في الصراع•
ثم تم أمر آخر بالغ الأهمية كذلك؛ وهو التجرد لله•
إن التجرد لله عنصر من أهم العناصر التي تحتاج إليها الدعوة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، بالنسبة للقاعدة بصفة خاصة، وبالنسبة لجميع العالمين على وجه العموم•
ولقد تعمق التجرد لله في قلوب الصفوة المختارة، خلال فترة التربية في مكة، من خلال الآيات المنزلة من عند الله، تدعو إلى إخلاص العبادة لله، ومن خلال القدوة المباشرة في شخص الرسو صلى الله عليه وسلم ، يعلمهم بالسلوك العملي كيف يكون إخلاص العبادة لله"(162).
والمقصود بيان أن الاستعجال في جهاد الكفار قبل الإعداد الإيماني المتمثل في التربية على العلم بالشرع ورسوخ العقيدة، والعمل الصالح، والدعوة والبلاغ للناس؛ فيه من المفاسد والشرور التي يتحتم على الدعاة والمجاهدين أن يدرءوها بالصبر وضبط النفس ومواصلة الإعداد الشامل حتى يهيئ الله عز وجل الظروف والأسباب التي يُمَكِّن الله بها لأهل الحق ويدمغ الباطل وأهله•
وإن الناظر اليوم في بعض الحركات المتعجلة التي أعلنت الجهاد قبل الإعداد والدعوة والبيان الكافية لتجلية سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين للناس، ليرى فتنًا ومفاسد قد ظهرت بسبب هذا الاستعجال وضعف الصبر على طول الطريق• وقد يتهم بعض المتحمسين لبدء الصدام مع الكفار والمنافقين إخوانهم الذين يرون التربية والإعداد والبدء بجهاد البيان قبل جهاد السنان بأنهم مخذلون، أو أنهم يريدون السلامة وعدم التعرض لأي شيء يؤذيهم ويكدر عليهم حياتهم•
وللرد على هذه التهمة يقال لهم: إن إخوانكم الذين يرون الصبر على جهاد النفس وجهاد البيان للناس إنما هم في جهاد ويشاركونكم الغاية والهدف، وهم بذلك يعدون العدة لجهاد الكفار وقتالهم في الوقت المناسب بعد الأخذ بأسباب النصر والتمكين• وهم بطرحهم هذا يؤدون واجب النصح لكم لما في قلوبهم من الشفقة عليكم، والحب والولاء لكم، ولكل من يهمه أمر هذا الدين ويسعى لنصرته؛ فهم يتواصون معكم بالحق والصبر وليسوا مخذلين•(24/165)
أما القول بأنهم يسعون بطرحهم هذا إلى تجنيب أنفسهم البلاء والعناء، فلا شك أن السلامة والعافية مطلوبان، لكن الابتلاء والتمحيص سنة من سنن الله عز وجل في عباده وبخاصة الدعاة منهم والمجاهدين، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31). وقال تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:1-2).
وإن جهاد النفس، والبيان للناس ليس أمرًا هينًا• وأصحابه معرضون لأذى الأعداء وسجونهم وتعذيبهم؛ لأن جهاد البيان يقتضي بيان الحق، وفضح ما يضاده من الباطل، وهذا أمر لا يرضى به الكفار والمنافقون ومن ثم سيجندون وسائلهم المختلفة من تشويه، وترغيب وترهيب، وكل ما يستطيعون لإخماد صوت الحق وإسكات أهله• وهذا كله بلاء وفتنة يتعرض لها الدعاة الذين يعدون أنفسهم وأمتهم للجهاد، وليكون الدين كله لله•
وإن مما يؤسف له أن الخطاب الدعوي اليوم يفتقد إلى البلاغ المبين، بل إن كثيراً منه يعطي الشرعية للطاغوت إما ضمناً وهو الأكثر وإما تصريحاً؛ ولا يخفى ما في ذلك من التلبيس•
والواجب على رموز الدعوة أن يبينوا الحق والباطل للناس ويتجنبوا الخطابات السياسية التي تشوش وتلبس على الناس فهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما سأله النجاشي عن قولهم في المسيح كان البيان منه واضحًا صريحاً• وكان هذا الجواب منه يمكن أن ينهي وجود المسلمين معه في الحبشة• لكن جعفرًا وأصحابه رضي الله عنهم قد تعلموا من مدرسة النبوة أن لا تنازل عن الثوابت والمحكمات حتى في مرحلة السلم والاستضعاف•
ويحسن بهذه المناسبة إيراد ما ذكره الإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في أهمية وفضل جهاد البيان، وذلك في كتابه العظيم "منهاج السنة" وهو يرد على شبهة الرافضي في أن عليًا رضي الله عنه قد سبق الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في الشجاعة والجهاد في سبيل الله عز وجل• حيث أوضح - رحمه الله تعالى - عكس ذلك بقوله:
"ومما ينبغي أن يُعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله، كانت: إمّا وبالاً عليه، إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له، إن استعملها فيما لا يقرّبه إلى الله تعالى•
فشجاعة عليّ والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة، إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقّوا ما حمد الله به المجاهدين•
وإذا كان كذلك، فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجّة والبيان والدعوة•
قال الله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:51-52) فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفّار بالقرآن جهادًا كبيرًا• وهذه السورة مكيّة نزلت بمكة، قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن يُؤمر بالقتال، ولم يؤذن له• وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال• وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي، ويحتاج إلى شجاعة القلب، وإلى القتال باليد• وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن• وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدّمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن•
قال أبو محمد بن حزم: "وجدناهم يحتجون بأن عليًا كان أكثر الصحابة جهادًا وطعنا في الكفّار وضربا، والجهاد أفضل الأعمال• قال: وهذا خطأ، لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة: أحدها: الدعاء إلى الله تعالى باللسان• والثاني: الجهاد عند الحرب بالرأى والتدبير• والثالث: الجهاد باليد في الطعن والضرب• فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر• أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه، فهذا أفضل عمل، وليس لعليّ من هذا كثير حظ• وأما عمر فإنه من يوم أسلم عزّ الإسلام وعُبِدَ الله علانية، وهذا أعظم الجهاد• وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما•
وبقي القسم الثاني، وهو الرأي والمشورة، فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر•(24/166)
بقي القسم الثالث، وهو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري، وهو أن رسول ا صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة، فوجدنا جهاد صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأوّلين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة، وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة، لا عن جبن، بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويَدًا، وأتمهم نجدة، ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال، فيقدمه ويشتغل به، ووجدناه يوم بدر - وغيره - كان أبو بكر معه لا يفارقه، إيثارًا من صلى الله عليه وسلم له بذلك، واستظهارًا برأيه في الحرب، وأُنْسًا بمكانه، ثم كان عمر ربما شُورك في ذلك، وقد انفرد بهذا المحل دون عليّ ودون سائر الصحابة، إلا في الندرة•
ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد، الذي هو الطعن والضرب والمبارزة، فوجدنا عليًا لم ينفرد بالسيوف فيه، بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان، كطلحة والزبير وسعد، ومن قُتل في صدر الإسلام، كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب ومصعب بن عمير، ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة - يعني أبا دجانة - وغيرهما، ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن، وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء، وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل مع ملازمة رسول ا صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب، وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليًا، وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم، وبعث عمر إلى بني فلان، وما نعلم لعليّ بعثا إلا إلى بعض حصون خيْبر ففتحه• فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر، وقد شاركا عليًا في أقل أنواع الجهاد، مع جماعة غيرهم"(163).
إذن فأمر الإعداد للجهاد بالإيمان والبيان ليس أمرًا سهلاً إذا أخذ بعزم وجد• وكم يحتاج من التضحيات والصبر والمصابرة وطول النفس• وقد يتعرض أهله فيه من البلاء والقرح والشدائد ما قد يفوق ما يتعرض له المجاهد في ساحات الوغى من المهالك والمتالف•
ونظرة سريعة إلى ما تعرض إليه الرسو صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين في مكة من البلاء والتعذيب والحصار والتجويع والتشريد تعطينا دليلاً على أن جهاد التربية والإعداد والبلاغ والبيان يحتاج إلى صبر وتضحية واستعلاء على حب الراحة والسلامة لا يقل عن الصبر على قتال الأعداء•
إذن فالقول بأن الدعوة إلى الصبر على إعداد النفوس للجهاد وبيان الحق للناس، وعدم العجلة في منازلة الكفار قبل أوانها؛ بأنه هروب من الشدائد وإيثار للسلامة ليس صحيحًا ولامقبولاً لما قدمنا•
نسأل الله عز وجل العافية في ديننا ودنيانا وعاجل أمرنا وآجله•
تعقيبات
في ختام هذه الرسالة المتعلقة بالتربية الجهادية أورد بعض التعقيبات المهمة المتعلقة بالإعداد للجهاد أُضمن بعضها تتمات لمسائل لم تأخذ حظها من الإيضاح مع القناعة بأهميتها• وأضمن بعضها الآخر استدراكًا لبعض المسائل التي لها علاقة بالإعداد لكنني غفلت عن ذكرها في زحمة المسائل الأخرى•
التعقيب الأول : تداخل مراتب جهاد النفس بعضها مع بعض :
إن ما ذكر من جوانب الإعداد ومراتبه (العلم والعمل والدعوة والصبر) لا يعني البقاء في مرتبة بحيث لا ينتقل منها إلى التي تليها حتى تستكمل التي قبلها• إن هذا غلط وفهم خاطئ لتحقيق مراتب الإعداد• والمطلوب الأخد بالمراتب كلها وتكميل ما لم يكمل منها؛ فمجاهدة النفس وإعدادها بالتعلم والتبصر في الدين لا يعني ترك مجاهدتها بالعمل الصالح، ومجاهدتها بالدعوة إلى الهدى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك كله• وكلما علم العبد شيئًا من دين الله تعالى جاهد نفسه للعمل به والدعوة إليه والصبر على العمل والدعوة معًا• والمسلمون اليوم - وبخاصة من يهمهم أمر هذا الدين - لديهم رصيد لا بأس به من العلم يبدأون به الإعداد ويُحَوِّلون فيه هذا العلم إلى عمل ودعوة؛ أي إنهم لا يبدأون الإعداد العلمي وهم خلو منه؛ بل إن لديهم من العلم قدرًا جيدًا، وحينها يطالبون بالجهاد للعمل بهذا العلم وتكميل ما ينقصهم من العلم العيني لو وجد نقص في ذلك• والمقصود أن المربين لن يجدوا أنفسهم أمام أفراد لا علم عندهم، بل العلم موجود والحمد لله، والمطلوب تكميله في نفس الوقت الذي يحصل فيه المجاهدة بالعمل به والدعوة إليه•
التعقيب الثاني : تفاوت المتربين في تحصيل مراتب الجهاد، والعناية بالمبرزين منهم :(24/167)
يتفاوت المتربون الذين يُعدون للجهاد في الأخذ بهذه المراتب وتكميلها وإتقانها، وليس مطلوبًا أن يكونوا في مرتبة واحدة، وإنما المطلوب التأكيد عليها والسعي لمجاهدة النفس في الأخذ بها• مع التأكيد على ضرورة العناية بطائفة من الذين يعدون أنفسهم للجهاد، والذين تظهر عليهم علامات الصدق والجد والإخلاص والهمة العالية لتكميل هذه المراتب؛ فهؤلاء وأمثالهم ينبغي أن يكون لهم شأن آخر في الإعداد، وأن لا يتسامح معهم كما يتسامح مع غيرهم، وإنما يطلب منهم تكميل هذه المراتب قدر الإمكان؛ حتى يكونوا على قدر من العلم بالشريعة والواقع يؤهلهم لتربية أنفسهم والتأثير على الناس، ويكونوا على قدر كبير من: العمل الصالح، والإخلاص، والصدق، والتوكل على الله عز وجل، والزهد في الدنيا، والتقرب إلى الله عز وجل بالطاعات فرضها ونفلها؛ حتى يتحملوا الشدائد ويكونوا قدوات لغيرهم في العلم والعمل، ويكونوا على قدر كبير من الدعوة والتأثير في الناس وبيان الحق والباطل لهم، وعلى قدر عظيم من الصبر يتحملون به ما يواجههم من الأذى والابتلاء من الكفار والمنافقين وأصحاب القلوب المريضة•
وهذه الفئة من الدعاة والمجاهدين ضرورية لأنها بمثابة القاعدة الصلبة التي يثبتها الله عز وجل عند الشدائد، ويثبت بها الصف الإسلامي من التفكك والإضطراب عند النوازل• وهذا هو الذي قام به صلى الله عليه وسلم أثناء الدعوة والإعداد في العهد المكي؛ حيث قام بتربية هذه الفئة من المسلمين ورباها بالعلم والعمل والتجرد والإخلاص والصبر والتوكل على الله عز وجل، فصلب عودها وثبتت أمام البلاء والمحن، وكانت القاعدة الصلبة التي قام عليها سوق الدعوة والجهاد، وفتح الله عز وجل بها الدنيا، وحمى بها بيضة الإسلام من الأعداء المتربصين•
وعن أهمية إعداد القاعدة الصلبة يقول الدكتور/ عبدالله القادري حفظه الله تعالى: "كثير من الناس يستجيبون لنداء الحق ولتطبيق هذا الدين على أنفسهم فينفذون أوامر الله ويجتنبون ما نهى عنه، وقد يخلطون العمل الصالح بآخر سيء، ولكن قليل هم الذين يستجيبون لهذا الدين فيطبقونه على أنفسهم، ويحملون غيرهم من قريب أو بعيد على تطبيقه بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل المال والجاه والمنصب في سبيل الله وتقديم النفس في ساح الوغى لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الله•
هذا القليل يجب أن يأخذ حظًا أوفر من الدعوة والتوجيه والتزكية والتطهير والإعداد لتحمل أعباء الدعوة وتكاليفها، ويعنى به أكثر من غيره؛ لأن هذا الصنف هو الذي يثبت وقت الشدائد والمحن، وهو الذي يلتف حوله من لم يبلغ مثله في إيمانه وتحمله• ولولا أن الله تعالى يهيئ لعامة الناس رجالاً يلتفون حولهم ويقتدون بهم ويرون فيهم ما يجذبهم إلى الثبات معهم لما كان لأولئك العامة من شأن يذكر، بل لكانوا في مهب الرياح أينما تميلها تمل•
لذلك كان من الواجب على الدعاة أن يختاروا ذوي المواهب العالية في العلم والعمل والذكاء والقدرة على الاستيعاب، والصبر والجلد والقيادة؛ يولوهم من العناية ما يأخذ بأيديهم إلى المستوى اللائق بهم، ويدربوهم على تحمل مسؤولياتهم؛ كلٌّ فيما يظهر أنه أنفع فيه من غيره، وذلك هو الذي يضمن بتوفيق الله استمرار صفوف الدعاة إلى الله وقادتها؛ لأن القائد الواحد يربي قادة، والصف يربي صفوفًا؛ كلما ذهب قائد حل قائد آخر محله، وكلما ذهب صف تقدم إلى مكانه الصف الذي يليه، كما يضمن بقاء الروح الجهادية في النفوس ••• وهذا الإعداد يكون بتقوية الإيمان، وتزكية الأخلاق الفاضلة، وكثرة الطاعة لله ولرسوله، والبعد عن المعصية، والتوعية الكاملة والفقه في الدين ومعرفة مشكلات العصر وحلها، والتدريب العملي على البذل والإنفاق وإيثار الدعوة الإسلامية بالنفس والنفيس، والإخلاص الكامل والتجرد لله وحده•
وهذا الإعداد مع صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها العواطف •••"(164).
وعن ضرورة تكوين القاعدة الصلبة والاعتناء بها ودورها في حماية الدين وأهله يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار فيقول: "إن هذه القاعدة الصلبة من المهاجرين الأوائل هي التي انضم إليها السابقون من الأنصار، ليكونوا القاعدة في المدينة - قبل بدر - وليكونوا هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتنظيمي•
وأخيراً فإن القاعدة الصلبة التي اتسعت أبعادها قبيل الفتح، حتى صارات تتمثل في المجتمع المدني بجملته، هي التي حرست الإسلام وصانته من الهزات بعد الفتح ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم وارتداد الجزيرة عن الإسلام•
••• إنه ابتداء يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذي تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً •••"(165).(24/168)
التعقيب الثالث : الحذر من اختراق المنافقين للصف المسلم، وتبوّئهم للمراتب العليا فيه :
وهو مرتبط بما قبله؛ وذلك من جهة التأكيد على ثمرة مهمة من ثمار الإعداد القوي للقاعدة الصلبة؛ ألا وهي تحصين الصف المسلم أثناء الإعداد وأثناء الجهاد من المنافقين الذين يظهرون الصلاح وحب الدعوة والجهاد حتى يخترقوا صفوف الدعاة والمجاهدين ويصلوا إلى مستويات متقدمة في التوجيه والتأثير، وهدفهم من الاختراق أمور خطيرة من أهمها: زعزعة الصف من داخله، وبث الشقاق والفرقة بين الدعاة والمجاهدين، ومن أخطر أهداف الاختراق: الاطلاع على خطط الدعاة وأسرار المجاهدين وإيصالها إلى أوليائهم من الطواغيت والكفرة حتى يقطعوا على الصف المسلم أهدافه ويعرضوا أهله للبلايا والمحن•
لذا وجب على المتصدرين للدعوة والإعداد والتربية الحذر الشديد من هؤلاء المنافقين الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر؛ قال الله عز وجل في التحذير منهم ومن غيرهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71).
وإن المتأمل في تاريخ المسلمين في القديم والحديث ليرى أنه ما من مأساة و انتكاسة أو محنة وقعت بالصف المسلم إلا وكان للمنافقين يد فيها، ولذا فإن من أهم ما ينبغي الحرص عليه في الإعداد للجهاد الحذر من المنافقين وتحصين الصف من اختراقهم•
ومن أهم وسائل التحصين الاهتمام بالقاعدة الصلبة، وحسن إعدادهم وتربيتهم ولو طال الزمان، وأن لا يصل إلى مستوى التوجيه والإعداد إلا من صهرته التربية وظهر صبره وفضله وتقواه وصدقه، وأن يحرص على التربية الجادة ودقة الاختيار، والحذر ممن كان له تاريخ في النفاق ولو صلح بعد ذلك، وكذلك الحذر من كل من ارتفع اسمه فجأة في أوساط الدعاة، ومعرفة السبب في اشتهاره هل هو عمله أم أن جهات أخرى تولت هذه المهمة؟! فينبغي الحذر من أمثال هؤلاء فلا تسند إليهم مسؤوليات مهمة في الدعوة والإعداد•
وعن خطر المنافقين في واقعنا المعاصر وضرورة تحصين الصف منهم يقول أحد الدعاة الناصحين: "مرت فترات من عصرنا الحديث اشتد فيها عود الجماعات الإسلامية، وقويت شوكتها، وعلا أمرها، وتحقق لها بعض أهدافها في أكثر من بلد من عالمنا الإسلامي الكبير•
وفي مثل هذه الأجواء يستغل المنافقون مبدأ التوبة إلى الله، فيترددون على المساجد، ويشهدون حلقات الذكر، ويكتبون المقالات التي يعربون فيها عن ندمهم على ما اقترفته أيديهم من ذنوب ومعاص، ويتبرأون من ماضيهم الأسود، ويشنون حربًا ضروسًا على رفاق دربهم القدامى من الفاسدين والعلمانيين•
ويرحب بتوبتهم الذين يأخذون الأمور على ظواهرها من الدعاة وبعض قادة الجماعات، وإذا قيل لهم: احذروا من هؤلاء الوافدين الجدد، ولا تسندوا إليهم مناصب قيادية، وتذكروا ظهور النفاق بعد غزوة بدر الكبرى، ولا تنسوا أنَّ تفشي هذه الظاهرة يكثر بعد انتصارات الدعاة والجماعات الإسلامية؛ قالوا: لم نكلف بالبحث عن نوايا الناس وما تخفيه قلوبهم، والذي نعلمه أن التوبة تجب ما قبلها، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعًا، إنه هو الغفور الرحيم•
ونحن لا نطلب من إخواننا الدعاة القادة البحث عن نوايا الناس، وما تكنه قلوبهم، ولا نريد منهم طرد من جاء تائبًا مستغفرًا؛ ولكن الذي نريده ونؤكد عليه ألا تسند لهؤلاء التائبين وظائف قيادية لأن علمهم الشرعي وماضيهم لا يسمحان بذلك•
وفي خضم هذه الأنشطة السياسية التي تنقصها التربية والإعداد تم اختراق معظم الجماعات الإسلامية من قبل أشخاص مشبوهين يقولون ما لا يفعلون، ويظهرون ما لا يبطنون، أو من قبل أشخاص مترفين يظنون أن الدعوة إلى الله، والعمل من أجل تحكيم شريعته خالية من التمحيص والابتلاء وخشونة العيش ••• وإذا كانت معارك الموحدين الدعاة مع الطغاة دائمة ومستمرة، وشعار الحذر يجب أن يستمر مرفوعاً، فهناك مراحل تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر، ومنها هذه المرحلة التي مضى عليها أكثر من عقدين، وشهدنا فيها سقوط أصنام متعددة: شهدنا سقوط الصنم القومي، والصنم الثوري الاشتراكي، وشهدنا سقوط رائد القومية والتقدمية والوحدة، الصنم الذي عبده كثير من الجماهير من دون الله•(24/169)
كفر الناس بهذه الأصنام كلها، وأيقنوا أن بعدهم عن الإسلام هو سبب هذه الهزائم المتكررة، وعاد الشباب إلى دين الله أفواجاً، وأصبحت الصحوة الإسلامية حديث الشرق والغرب، وقويت شوكة الجماعات الإسلامية، وكثر أنصارها ••• إن قوة الدعاة والجماعات الإسلامية مسألة تهدد كل طاغية وتنذر بزواله، فلا بد من تسخير جميع إمكاناتهم وتنسيق جهودهم من أجل وأد الصحوة في مهدها• ومن الأساليب التي يستخدمونها كما قلنا فيما مضى زرع جندهم داخل الصف الإسلامي، والعمل على ضرب هذا الصف من داخله، وهذه هي المرحلة التي تتضاعف فيها الحاجة إلى الحذر واتباع هدي رسول ا صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان يختار أمراءه وولاته من الصحابة الذين تنطبق عليهم الشروط الشرعية التي ينبغي أن تتوفر في أهل الحل والعقد، وكانت الأفضلية للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم، واستمر هذا النهج بعد وفاة الرسو صلى الله عليه وسلم ، كما كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذين كانا يتشددان في اختيار الولاة(166) وكانا في شخصيهما قدوة حسنة لكل مسؤول ••• أما القواعد والأسس التي يتم على أساسها اختيار المسؤولين فثابتة• وأهمها: الأمانة والتقوى، وأن لا يكون المسؤول ممن يسعى ويعمل من أجل الوصول إلى المنصب"(167).
ومن أجل هذا كان صف الصحابة رضي الله عنهم هو الصف المحصن الذي لم يخترق؛ وما ذاك إلا لكونهم القاعدة الصلبة الذين تعهدهم الرسو صلى الله عليه وسلم بالتربية والتعليم وصقلتهم الشدائد والمحن؛ ولكونهم يملكون الموازين الشرعية الدقيقة في وزن الرجال، ومن أجل ذلك صعب على المنافقين اختراقهم، حيث لم يعرف أن أحداً من المنافقين قد أسندت له مهمة قيادية سواء في السلم أو الحرب•
التعقيب الرابع : يقبل في مستويات التربية الجهادية من عموم المجاهدين ما لا يقبل من قادتهم :
إن المراتب السابقة من مراتب الإعداد للجهاد في سبيل الله لا تعني أن تتوفر بتمامها في كل الأفراد، ولكن المطلوب توفرها بقوة في القاعدة الصلبة الذين هم قادة الناس وقدواتهم، وهم أصحاب التوجيه والتربية•
أما من سواهم فإنه يقبل منهم الحد الأدنى، ولا يتشدد معهم في توفر كل صفات المجاهدين فيهم• نعم لو اكتملت هذه الصفات في الجميع لكان هو الأفضل والمطلوب، لكن طبائع البشر وما يتعرضون له من ضعف وفتور تأبى ذلك•
ومع ذلك فتستمر التربية والتزكية، والمقصود الإشارة إلى أنه مع التأكيد على ضرورة التربية والإعداد إلا أن ذلك لا يعني أن لا يشارك في الدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى عندما يفرض على الأمة إلا من ليس عليه ملاحظات أو هفوات، بل قد يخرج للجهاد من هو متلبس ببعض الذنوب وبعض ما يقدح في كمال إيمانه الواجب لكنه يجاهد نفسه على ترك ذلك، ويستمر النصح والتوجيه له في جميع الأوقات بل إنه قد يخرج صاحب البدعة التي دون الكفر مع المجاهدين إذا احتاج المسلمون إلى ذلك؛ كأن يهاجَمون في عقر دارهم وهم على قلة من العدد والعتاد•
ولو لم يخرج للجهاد في سبيل الله تعالى إلا الكمل من الناس لتعطل الجهاد وتسلط الكفار على المسلمين وساموهم سوء العذاب، ولا يخفى ما في ذلك من المفاسد العظيمة•
وكذلك من هم في موطن التوجيه والقدوة والمسؤولية؛ فمع أنه لا يسعهم ما يسع غيرهم ممن هم دونهم إلا أنهم ليسوا معصومين، وصدور بعض الهفوات أو الذنوب لا يقدح فيهم ولا ينقص من منزلتهم إذا كانت ذنوبًا طارئة يرجعون منها ويتوبون ولا يصرون•؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (لأعراف:201).
التعقيب الخامس : أنواع الإعداد المادي وضرورة وجوده بجانب الإعداد الإيماني :
ما سبق ذكره من جوانب الإعداد للجهاد إنما كان منصباً على الإعداد المعنوي أو الإيماني، ولم يشر فيما مضى إلى الإعداد المادي والجسدي• وسبب ذلك أن الإعداد الإيماني للمجاهدين يحتاج إلى جهد وزمن طويلين، وهو الأساس الذي ينطلق منه المجاهد وتحقق به غايات الجهاد، وهو ما ينقصنا اليوم؛ حيث نعيش حياة الترف والترهل، والركون إلى الدنيا، وضعف الإيمان، وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضعف الصبر والتحمل• والانتصار على النفس في هذه المجاهدة والإعداد هو طريق النصر على الأعداء في ساحات القتال، والعكس صحيح•
أما الإعداد المادي والجسدي فإنه يتحقق في وقت يسير إذا قيس بالإعداد الإيماني•
ونظرًا لما تعيشه بلدان المسلمين اليوم من تسلط الأعداء وتهديداتهم مما يجعل الجهاد أمرًا مفروضًا على المسلمين للدفاع عن الدين والمال والعرض؛ وذلك في البلدان التي يحتلها العدو الكافر، أو أنه قريب الحدوث في البلدان التي يهددها العدو الكافر ويلمح بغزوها واحتلالها•
إنه نظراً لذلك فلا بد من الإشارة إلى الإعداد المادي والجسدي بأن يكون له حظ من الإعداد؛ وذلك في خط موازي للإعداد الإيماني والمعنوي؛ يسيران جنبًا إلى جنب دون أن يقطع إحدهم الآخر أو يؤخره•(24/170)
والأصل في الإعداد المادي قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (لأنفال:60)، ومن أهم جوانب هذا الإعداد ما يلي:
1- الإعداد المالي:
وهو من أهم جوانب الإعداد المادي؛ فهو عصب الدعوة والجهاد، ولا تكاد تخلو آية من الآيات التي تحض على الجهاد إلا ويذكر الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس بل يقدم عليها• وإذا تأملنا آية الإعداد الآنفة الذكر وجدنا في خاتمتها ذكر النفقة، مما يدل على أهمية المال في الإعداد المادي للجهاد• والتفريط في توفير المال للجهاد في سبيل الله تفريط في الأخذ بأسباب النصر•
ولذا وجب السعي في توفير مصادر مالية ثابتة لدعم الجهاد والإعداد له؛ وذلك باقامة المؤسسات الاقتصادية، وبث روح البذل في الأمة وبخاصة الموسورن فيها، وإقامة المؤسسات الخيرية التي تعلم وتدعو وتدعم المحتاجين من المسلمين المهاجرين والمستضعفين•
2- الإعداد الإعلامي:
حيث لا يخفى على أحد ما للإعلام اليوم من أثر كبير في التعريف بالإسلام الحق والتعريف بأهله، وكذلك ما له من الأثر في فضح الباطل والتحذير منه ومن أهله؛ بحيث تستبين للناس سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وقد سبق التنويه على ضرورة المعرفة بالسبيلين للناس قبل المقاتله بالسنان• كما لا يخفى ما للإعلام من دور في التعريف بالجهاد والمجاهدين، ونقل أنباء انتصارات المسلمين وهزائم الكافرين، والاستفادة من الإعلام في الحرب النفسية ضد الكفار، ورفع معنويات المجاهدين والمسلمين بعامة؛ حيث إن أسلوب الحرب النفسية عن طريق الإعلام أصبح من الوسائل المهمة في تحطيم معنويات ونفسيات الأعداء وهزيمتهم•
فإذا لم يكن للمسلمين - سواء في إعدادهم للجهاد بالدعوة والبيان أو أثناء قتالهم الكفار - وسائل إعلامية قوية ومؤثرة فإن تفريطًا كبيرًا قد حصل في الأخذ بأسباب العدة للجهاد والانتصار على الأعداء•
3- الإعداد الجسمي:
المطلوب من المسلم أن يعتني بجسمه في جميع الأحوال؛ فيعتني بصحته وكل ما من شأنه تقوية الجسد وشدته وتحمله للمشاق وشظف العيش؛ (فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)(168) والقوة هنا تشمل قوة الإيمان والنفس والجسم، وقد تعوذ الرسو صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، فإذا كان هذا في الأحوال العادية، فكيف بمن يعد نفسه للجهاد؟ بل فكيف بمن غزاه الكفار في عقر داره أو حاموا حول دياره؟! كما هو الحال اليوم في أكثر بلدان المسلمين•
إن الأمر في حقه يكون آكد وأوجب؛ لأن الأجسام الضعيفة المترهلة المترفة التي أخلدت إلى الراحة والإسراف في أنواع الطعام والشراب والأثاث سوف لن تلبي نداء الجهاد؛ وذلك لما فيه من الشدائد والجوع والجراحات، الأمر الذي لا تطيقه الأجسام المتنعمة المترهلة المترفة•
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة ينبغي أن يهتم بها المربون والمهتمون بالإعداد للجهاد؛ منها:
( أ ) تجنب فضول الطعام والشراب والنوم لما في ذلك من الترفه، ولما فيه من الأدواء والأمراض للأجساد والقلوب•
(ب) تقوية الجسم بأنواع الرياضة المشروعة؛ كالمشي الطويل وصعود الجبال، والسباق، والسباحة، وركوب الخيل، والدفاع عن النفس، وغير ذلك مما فيه تقوية الجسم وتعويده على تحمل الشدائد•
(جـ) تعويد النفس على صوم النفل؛ فهو في المقام الأول عبادة عظيمة محبوبة لله عز وجل، وفيها من المصالح والحكم ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أنه يورث تقوى الله عز وجل، كما أن فيه تعويد النفس على الصبر والتغلب على شهواتها وتقوية إرادتها•
ووسائل تقوية الأجسام كثيرة، لكن هذا هو الحد الأدنى الذي ينبغي لمن يعد نفسه للجهاد أن يأخذ به في حال الأمن والسلام•
أما في حال الحرب والتهديد فلا بد من الأخذ بالفقرة التالية•
4- الإعداد بالتدريب على الرماية بأنواعها:
حيث قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن القوة الرمي - ثلاثًا)(169).
ويكون التدريب على الرماية واجبًا وفرض عين في حال ما يكون الجهاد عينيًا بأن يُهاجَم المسلمون في عقر دارهم•
وأما الإعداد لجهاد الطلب فيبقى كفائيًا تبعًا لحكم الجهاد الطلبي• ومعنى هذا أن البلاد التي غزاها الكفار اليوم يكون التدريب فيها واجبًا، والإعداد له متعينًا، وكذلك الحال فيمن هو مهدد بالغزو والاحتلال حتى لا يفاجأ المسلمون بعدوهم وهم على غير استعداد•
وقد يقال: إن المسلمين في مكة حيث كف اليد والتركيز على الإعداد الإيماني والمعنوي لم يتدربوا آنذاك ولم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالتدريب• والجواب أن يقال بأن الناس في ذلك الوقت ليسوا محتاجين إلى تدريب وتعليم لأنهم أهل القتال والخبرة بهذا الفن لطبيعة العرب في ذلك الوقت؛ حيث إن السلاح والرماية جزء من حياتهم كما هو الحال اليوم في بعض البيئات والبلدان•(24/171)
التعقيب السادس : أخطاء بعض المجاهدين لا تعني خطأ الجهاد، ونصحهم يكون مع الولاء لهم حتى لا يستغله المبطلون في رد الجهاد :
إن المجاهدين بشر كغيرهم يخطئون ويصيبون، ولا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن ينبغي الحذر كل الحذر عندما يكون هناك حاجة إلى ذكر هذه الأخطاء والتناصح حولها أن لا تكون في منابر عامة قد يفهم منها التعريض بالجهاد والمجاهدين، وقد يكون إبرازها في المنابر العامة مقصود لذاته من قبل أعداء الدين وأعداء الجهاد والدعاة والمجاهدين؛ وذلك ليوظفوها في مخططهم الماكر في القضاء على الدعاة الصادقين وتعطيل شعيرة الجهاد والاحتساب• وفي عدم الانتباه لمآلات الكلام عن أخطاء المجاهدين مفسدة كبيرة قد يجد المتحدث نفسه متورطًا في الإسهام مع أعداء الدين في عرقلة الدعاة والمجاهدين في إحياء الأمة من سباتها• وقد يجد نفسه وهو لا يشعر في خندق الطواغيت من الكافرين والمنافقين•
ولو وجد الداعية نفسه مضطرًا للتعليق على بعض الأخطاء فيمكنه أن يتحدث عن ذلك بعبارة لا يستطيع الإعلام الماكر ومن وراءه أن يستفيدوا من ذلك في الوصول إلى مبتغاهم؛ وذلك كأن يثني على المجاهدين وأثرهم في إحياء الجهاد والعزة ودورهم في الدفاع عن بلدان المسلمين وأعراضهم، ودورهم في إرهاب الكفار، في الوقت الذي يتولى بالنقد والفضح تلك الأنظمة الطاغوتية التي تتولى الكفار وتضع نفسها في خندقهم في مواجهة الدعاة والمجاهدين• ثم يشير بعد ذلك إلى ما يراه من ملاحظات وأخطاء قد تصدر من بعض الطوائف الجهادية، وإن كان هناك ثمة عذر يشير إليه، وإن لم يجد فيضعها في حجمها الطبيعي، ويتوجه بالنصح للمجاهدين بعبارات مضمونها الود والشفقة والنصح والولاء•
إنه متى كان الحديث بهذه النفسية، وبهذا الحذر فلا أظن الإعلام الماكر سيسمح لأحد من الدعاة فضلاً عن أن يدعوه ويبرزه للناس ليقول هذا الكلام في منابره•
كما أن المجاهدين سوف لن تُجرح نفوسهم من هذا الداعية الذي هذا مقصده وهذا طرحه، ولن يتهموه بأنه من المخذلين أو أنه من الذين يعرضون بالمجاهدين ويشمتون بهم•
وبعد :
فهذا ما يسره الله عز وجل ووفق إليه من الكتابة في هذا الموضوع المهم الخطير ولا أزعم أني استوفيته أو قربت من تمامه، ففي الموضوع مسائل كثيرة تحتاج إلى العلماء العاملين ليبينوها للناس• وحسبي أني ساهمت ببضاعتي المزجاة وجهد المقل فما كان فيه من صواب فمن الله عز وجل وهو المان به وله الحمد والشكر. وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان واستغفر الله منه ومن جميع ذنوبي.
وأسأله سبحانه الإخلاص والصواب في القول والعمل. اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ويرفع فيه علم الجهاد إنك سميع قريب وأنت على كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين•
الهوامش
(1) رواه مسلم: (1910).
(2) "المفردات": (ص99).
(3) "الفتح": (6/3).
(4) "بدائع الصنائع": (9/4299).
(5) "حاشية ابن عابدين": (4/121).
(6) "الشرح الصغير على أقرب المسالك": (2/267).
(7) "فتح الباري": (6/3).
(8) "مطالب أولي النهى": (2/497).
(9) "مجموع الفتاوى": (10/192، 193).
(10) "مجموع الفتاوى": (10/191).
(11) رواه أحمد: (6/21)، وقال محمقق زاد المعاد "الأرناؤوط": "سنده جيد، وصححه ابن حبان: (25)، والحاكم: (1/11)، ووافقه الذهبي.
(12) رواه مسلم: (1910) في الإمارة: باب ذم من مات ولم يحدث نفسه بالغزو، وأبو داود: (2502).
(13) "زاد المعاد" ت: الأرناؤوط: (3/5-12) مختصراً.
(14) "زاد المعاد": (3/71).
(15) "روضة المحبين": (ص478).
(16) أبو داود: (4/246)، وابن ماجة: (2/681)، وقد روى شطره الأول البخاري: (2480).
(17) "مجموع الفتاوى": (28/320).
(18) "مجموع الفتاوى": (28/321).
(19) تقدم تخريجه.
(20) "الفروسية" لابن القيم: (ص187-189).
(21) وعن شعور اللذة بالعبودية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "... فقُرَّة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه. وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم. ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم، وبذل نحورهم لأعدائهم". "طريق الهجرتين": (1/56) ط. دار الحديث.
(22) "مجموع الفتاوى": (10/191-193) باختصار.
(23) "مجموع الفتاوى": (10/57-58) باختصار.
(24) "مجموع الفتاوى": (15/170).
(25) "في ظلال القرآن": (3/1440-1444) باختصار.
(26) "في ظلال القرآن": (3/1433-1436) باختصار.
(27) "الجواب الصحيح": (1/74).
(28) "زاد المعاد": (3/159-161).
(29) انظر لمزيد من التفصيل عن هذه الحكم كتاب "في ظلال القرآن": (2/714، 715).
(30) "في ظلال القرآن": (3/1581).(24/172)
(31) "في ظلال القرآن": (3/1737-1739) باختصار.
(32) "الصارم المسلول": (2/414).
(33) "مدارج السالكين: (3/9) ط الفقي.
(34) "مجموع الفتاوى": (10/57، 58) باختصار.
(35) "مجموع الفتاوى": (10/193).
(36) "مجموع الفتاوى": (8/36).
(37) أبو داود (3462)، وأحمد: (2/28) واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (2956).
(38) "الفوائد": (ص88).
(39) "مجموع الفتاوى": (28/242).
(40) "مجموع الفتاوى": (28/441-443) باختصار.
(41) البخاري في الإيمان باب الجهاد من الإيمان، ابن ماجة (2753).
(42) البخاري في الجهاد: باب أفضل الناس مجاهد بنفسه وماله (2787)، ومسلم (1878) واللفظ له.
(43) أبو داود (2541)، وابن ماجة (7292) وصححه الأرناؤوط في حاشية زاد المعاد (3/78).
(44) البخاري في الجهاد: باب درجات المجاهدين (2790)، وأحمد (2/335).
(45) مسلم: (1884)، والنسائي: (6/19-20).
(46) البخاري في الجمعة: باب المشي إلى الجمعة (907)، وأحمد (3/479).
(47) ابن ماجه: (2775) بسند حسن.
(48) البخاري في الجهاد: باب فضل رباط يوم في سبيل الله (2892).
(49) مسلم: (1913).
(50) قطعة من حديث رواه مسلم (1902)، وأحمد: (4/396).
(51) البخاري: (2887).
(52) "سير أعلام النبلاء":(2/23).
(53) المصدر السابق: (1/422).
(54) "صفة الصفوة": (1/468).
(55) "سير أعلام النبلاء": (1/375).
(56) "الجهاد" لابن المبارك: (1/88).
(57) "سير أعلام النبلاء": (1/319).
(58) "سير أعلام النبلاء": (2/34).
(59) البخاري: (2801).
(60) "سير أعلام النبلاء": (1/364).
(61) "سير أعلام النبلاء": (2/290).
(62) "سير أعلام النبلاء": (1/381). واللقلقة: الصوت الشديد المضطرب. والنقع: رفع الصوت وشق الجيب.
(63) بسان ملتاث: ثقيل بطيء في الكلام.
(64) الدَبَرة: النصر والغلبة.
(65) "صفة الصفوة": (1/466، 467).
(66) انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد: (1/232).
(67) غُبَّرات: الجماعة الباقية.
(68) الشخوص: المرتفعات.
(69) لا رحلة بي: ليس لديه بعير أو ظهر يرتحل عليه.
(70) قلائص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة.
(71) "صفة الصفوة": (1/674-676).
(72) "صفة الصفوة": (4/421).
(73) "سير أعلام النبلاء": (3/499).
(74) "سير أعلام النبلاء": (3/498).
(75) المقصود هنا: أعظم الثمار وإلا فثمار الجهاد كثيرة كما مر بنا فيما سبق.
(76) "شريعة الإسلام في الجهاد": (ص31-32).
(77) "الزواجر عن اقتراف الكبائر" للهيتمي: (2/163).
(78) مسلم (1910).
(79) "عدة الصابرين": (ص121).
(80) "تفسير ابن كثير": (1/228)، وصحح الحديث ابن حبان (1667)، والحاكم: (2/275) ووافقه الذهبي.
(81) "أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية" د. العلياني: (ص252).
(82) "الفتح الرباني" لترتيب مسند أحمد: (15/44) وقال المحقق الساعاتي: سنده جيد.
(83) انظر إلى ما ذاقه الهندوس على أيدي المجاهدين الكشميريين، وانظر كيف تحركت قوافل اليهود للهجرة من فلسطين بعد أن عرفوا أن القتل ليس من نصيب المسلمين وحدهم، وفي أفغانستان كيف دفعت الإمبراطورية الروسية ثمناً باهظاً لعدوانها على المسلمين تفككت على إثره وتحولت إلى أمة متسولة لا تكاد تجد قوتها، ثم عادت لتدفع ثمناً غالياً لعدوانها على المسلمين في الشيشان. وفي البوسنة لما ولغ الكفار في دماء المسلمين وفرحت ملل الكفر بذلك لم يكبتوا ويكسروا إلا بعد نزول المجاهدين إلى أرض البوسنة.
(84) "شريعة الإسلام في الجهاد" للمودودي: (ص34).
(85) "في ظلال القرآن": (4/1941).
(86) "نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء": (1/242).
(87) رواه أبو داود في الملاحم: باب في تداعي الأمم على الإسلام: (4297)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (3610).
(88) انظر الحديث: (ص54، 79).
(89) البخاري في التوحيد: (7460)، ومسلم: (1037).
(90) "مجموع الفتاوى": (28/358، 359).
(91) "مجموع الفتاوى": (28/259).
(92) هذا في جهاد الطلب، أما جهاد الدفع فإنه فرض عين على أهل البلد الذين يهاجمهم الكفار.
(93) "زاد المعاد": (3/72).
(94) "الفوائد": (ص59)، وقد مضى في (ص56) قول ابن المبارك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى: "إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم"، وعلى هذا فإن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) يدخل تحته جهاد الهوى وجهاد الكفار بالسنان.
(95) "الاختيارات الفقهية": (ص309، 310).
(96) تقدم تخريجه.
(97) "فتح الباري": (6/29).
(98) المصدر نفسه: (6/30).
(99) "جامع الأصول": (2/580).
(100) "تفسير السعدي": (2/290).
(101) سبق تخريجه.
(102) "في ظلال القرآن" (3/1716-1717) باختصار.
(103) انظر تفاصيل هذه الأصول في رسالة "وقفات تربوية في ضوء سورة العصر" للمؤلف.
(104) "زاد المعاد": (3/10).
(105) البخاري: (1399، 1400)، ومسلم: (20).
(106) "سير أعلام النبلاء": (4/195).
(107) رواه مسلم: (1850).
(108) "البدع والنهي عنها" لابن وضاح: رقم الأثر (86) ص (75)، ت: عمر عبد المنعم.
(109) البخاري: (6502).(24/173)
(110) "سير أعلام النبلاء": (6/121).
(111) البخاري (52)، ومسلم: (1599).
(112) انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: (ص57).
(113) "مجموع الفتاوى": (15/170).
(114) البخاري في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2810)، مسلم (1904).
(115) أبو داود (2516) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم: (2196).
(116) مسلم (1876).
(117) أبو داود (5123)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (1096).
(118) "في ظلال القرآن": (1/144).
(119) البخاري: (123)، ومسلم: (1904).
(120) "في ظلال القرآن": (6/3288).
(121) "طريق الدعوة في ظلال القرآن": (ص361).
(122) ومما يدل على أن حياتنا ليست حياة من يعد نفسه للجهاد أنه لو طلب من بعضنا بذل ربع ماله أو عشره أو طلب منه الانتقال إلى بلد غير بلده لمصلحة الدعوة والجهاد لامتنع أو تردد وتلكأ. فكيف بما هو أكبر من ذلك كبذل النفس وهجر الأهل والأولاد والأوطان.
(123) تَفَنَّقوا: تنعموا؛ انظر: القاموس المحيط، مادة (فنق).
(124) "المقدمة" لابن خلدون: (ص138).
(125) "الجهاد في سبيل الله" (2/373)، د. عبد الله القادري.
(126) "في ظلال القرآن": (5/2217).
(127) البخاري: (4418)، ومسلم (2121)، وانظر: "الجهاد في سبيل الله" الدكتور/ عبد الله القادري (2/376).
(128) "الفوائد" لابن القيم: (ص94، 95) باختصار.
(129) "مدارج السالكين": (2/125).
(130) "الفوائد": (ص86، 87).
(131) انظر المنارة الثانية والعشرين من (منارات في الطريق) للمؤلف: (ص199).
(132) البخاري: (7405)، ومسلم: (2675).
(133) البخاري: (6307).
(134) مسلم: (2702).
(135) أبو داود: (4986)، وأحمد: (5/364) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4172).
(136) "في ظلال القرآن": (1/141،142) باختصار وتصرف يسيرين.
(137) البخاري: (7492)، ومسلم: (1151).
(138) مسلم: (746).
(139) البخاري: (3559)، ومسلم: (2321).
(140) أبو داود: (4798)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (4013)، ورواه أحمد: (6/64).
(141) مسلم: (2609)، والبخاري في الأدب باب الحذر من الغضب.
(142) "مدارج السالكين": (2/308) ط. الفقي.
(143) البخاري: (6370).
(144) "في ظلال القرآن": (1/459).
(145) مسند أحمد: (5/183)، والترغيب والترهيب: (1/23)، وعزاه الألباني إلى الشافعي في مسنده وصحح إسناده، انظر "مشكاة المصابيح" الحديث (229).
(146) "مدارج السالكين": (2/319).
(147) مسلم في الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (1825).
(148) البخاري: (59).
(149) البخاري: (6497)، ومسلم: (143).
(150) "مجموع الفتاوى": (10/301).
(151) "في ظلال القرآن": (2/1105-1107) باختصار.
(152) "كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 11-19) باختصار.
(153) "مجموع الفتاوى": (24/172).
(154) للتوسع في موضوع الصبر وما يتعلق به يمكن الرجوع إلى رسالة (وقفات تربوية في ضوء سورة العصر)، مبحث: "وتواصوا بالصبر" للمؤلف.
(155) "في ظلال القرآن": (1/551، 552).
(156) انظر "مدارج السالكين": (2/157).
(157) أكرر ما ذكرته سابقاً من أني لا أعني بذلك جهاد الدفع الذي يقوم به المجاهدون اليوم في ساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها ضد المعتدين الكفرة؛ فهذا جهاد مشروع، ولكني أعني ما يقوم به بعض المتحمسين من جهاد الطلب في أماكن لم يتبين للناس فيها حقيقة المجاهدين، وحقيقة أعدائهم، مع ضعف في الاستعداد لذلك.
(158) "تفسير ابن كثير": عند الآية (رقم: 77) في سورة النساء.
(159) "في ظلال القرآن": (2/712، 713).
(160) "في ظلال القرآن": (2/713-715) باختصار شديد وتصرف.
(161) ورد هذا الجواب بلفظ مقارب في بيعة الأنصار البيعة الكبرى: انظر مسند أحمد: (3/460،462) وصحح إسناده الأرناؤوط في "زاد المعاد": (3/460).
(162) "كيف ندعو إلى الإسلام": (ص 14-23) باختصار.
(163) "منهاج السنة": (8/86-89).
(164) "الجهاد في سبيل الله": (2/347-349) باختصار.
(165) "في ظلال القرآن": (3/1577، 1578) باختصار.
(166) ومن ذلك ما ذكره ا بن كثير - رحمه الله تعالى - في "البداية والنهاية": (6/323) في ترجمة طليحة الأسدي بعد أن ذكر ردته وتنبأه بعد وفاة الرسو صلى الله عليه وسلم قال: "وأما طليحة فإنه راجع الإسلام بعد ذلك وذهب إلى مكة معتمراً أيام الصديق واستحيا أن يواجهه مدة حياته وقد رجع فشهد القتال مع خالد. وكتب الصديق إلى خالد: أن استشره في الحرب ولا تؤمره - يعني معاملته بنقيض ما كان قصده من الرياسة في الباطن -وهذا من فقه الصديق رضي الله عليه عنه وأرضاه". ا.هـ.
(167) انظر "مجلة السنة" الأعداد: (31، 33، 35، 36، 37، 39، 41، 42) باختصار شديد وتصرف يسير.
(168) انظر نص الحديث في صحيح مسلم: (2664).
(169) رواه مسلم (917) في الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.
================(24/174)
(24/175)
الطاعنون في السنة قديماً وحديثاً
إن التشكيك في مصادر التلقي قديماً وخصوصاً السنة منذ الصدر الأول للإسلام, وقد أخذت الآن طابع مؤسسي كالعقلانيين والحداثيين ومن قبلهم المستشرقين, ولهذا فإننا في هذا المقال نعرف بهولاء المشككين في القديم والحديث لكي يعرف المسلم الشر لا للشر لكن لتوقيه. إدارة الموقع * الطاعنون في السنة قديماً وحديثاً
أ- المعتزلة:
1- وهؤلاء ردوا كثيراً من السنة لمخالفتها للعقل.
2- لما ذكر لعمرو بن عبيد المعتزلي حديث لرسول ا صلى الله عليه وسلم قال: لو سمعت الأعمش- أحد الأئمة- يقول هذا لكذبته، ولو سمعت رسول الله لرددته يقول هذا: لرددته، ولو سمعت الله يقول هذا لقلت: ليس على هذا أخذت ميثاقنا.
3- والمعتزلة- ردوا أحاديث الشفاعة- لمعارضتها لأصلهم في الوعيد، وهوأن مرتكب الكبيرة عندهم مخلد في النار؟
*كما ردوا أحاديث الصفات، لمعارضتها لأصلهم في نفي الصفات عن الله كماردُّوا حديث:"الشقي من شقي في بطن أمه "لمخالفته لأصلهم في القدر.
* إنكارهم لأحاديث رؤية الله في الجنة،ولأحاديث عذاب القبر...وغيرها.
4- طعنهم في الصحابة، رواة الحديث وحفظته.
أ- فهذا واصل بن عطاء يقول : لو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم .
- وقال النظام عن عمر رضي الله عنه : (إنه شك يوم الحديبية،واتهم النظام عمر بأنه كتم الوصية لعلي وبايع أبا بكر).
- واتهم النظام ابن مسعود بالكذب لروايته حديث انشقاق القمر،وحديث: "السعيد من سعد في بطن أمه "،وطعن في غيره من الصحابة،وتلك سمة من سمات هؤلاء قديماً وحديثاً.
ب- الخوارج : سبق نقل قول أحد أساتذتهم لرسول ا صلى الله عليه وسلم : (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ) والخوارج يعدلون جميع الصحابة قبل الجمل وصفين، ثم يكفرون- أو يفسقون- علياً وأصحاب الجمل وصفين والحكمين ومن رضي بالتحكيم.
- ولهذا ردوا أحاديث جمهور الصحابة بعد الفتنة.
وسنعرض- إن شاء الله- لرأي الخوارج المعاصرين،حينما نتكلم عن منكري السنة حديثاً.
ج- الرافضة : وهم شر الطوائف طعناً في الصحابة وسباً لهم ووضعاً للأحاديث:
1- وأخطر ما في الرافضة، وضعهم للأحاديث المكذوبة،ولقد كشف أئمة الحديث أمرهم قديماً:
فقد سئل الإمام مالك رحمه الله عنهم فقال:(لا تكلمهم ولا ترد عليهم فإنهم يكذبون).
ويقول شريك بن عبد الله- مع ميله لعلي رضي الله عنه-: (احمل عن كل ما لقيت إلا الرافضة،فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه ديناً).
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: (ما رأيت في أهل الأهواء قوماً أشهد بالزور من الرافضة).
2- سبهم للصحابة وقولهم بردتهم جميعاً- إلا عدداً قليلاً-:
* روى الكليني- الرافضي- بإسناده إلى أبي جعفر أنه قال: ارتد الناس بعد صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة: المقداد وسلمان وأبو ذر.
* ورووا عن عبد الرحمن القصير قال: قلت لأبي جعفر: إن الناس يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا. فقال: يا عبد الرحمن ! إن الناس عادوا بعد ما قبض رسول ا صلى الله عليه وسلم أهل جاهلية، إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير، جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية.
3- طعنهم في الصحابة- رواة الحديث-وطعنهم فى عدالتهم.
يقول شرف الدين الموسوي الرافضي: (إن أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليه،ولو تدبروا القرآن الحكيم لوجدوه مشحوناً بذكر المنافقين منهم، وحسبك منه سورة التوبة و الأحزاب .
4- وترتب على ذلك رفضهم للسنة الواردة عن طريق أهل السنة.
يقول حسين بن عبد الصمد العاملي الرافضي: (وصول الأخيار إلى أصول الأخبار) : (فصحاح العامة- يقصدون أهل السنة- كلها وجميع ما يروونه غير صحيح).
ولهذا،فالسنة عندهم مخالفة العامة أي أهل السنة، وقد عقدوا أبواباً وأوردوا روايات كثيرة في ذلك.
منها: ما يروونه- كذباً وزوراً- عن جعفر الصادق- رحمه الله- أنه قال:(إذا ورد عليكم حديثان مختلفان،فخذوا بما خالف القوم) وأنه قال: (ما خالف العامة ففيه الرشاد) وقوله عن أهل السنة:(والله ما بقي في أيديهم شيء من الحق إلا استقبال الكعبة فقط).
د- الزنادقة: وهؤلاء وضعوا أحاديث لتشويه سمعة المسلمين، وللتنقيص من سنة الرسو صلى الله عليه وسلم :
ا- فمما وضعوه وكذبوه حديث:"ينزل ربنا عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان ويعانق المشاة".
2- ومما وضعوه حديث: إن الله اشتكى عينيه فعادته الملائكة تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
3- وغيرها كثير وكثير.
أعداء السنة في العصر الحديث:
أولأ: المستشرقون: وعلى رأسهم أستاذهم وأستاذ المستغربين من المسلمين (جولد تسيهر)، الذي ألف كتاباً قبل مائة عام بعنوان (دراسات إسلامية) .
حيث صار مصدراً لكل من أتى بعده، في الطعن في الإسلام وسنة الرسو صلى الله عليه وسلم خاصة.
وبعده جاء (شاخت)...وغيره.
وليس بمستغرب على هؤلاء،ولا حاجة بنا إلى ذكرهم هنا،لولا أنهم صاروا مدرسة لكل طاعن في السنة النبوية الشريفة.(24/176)
و(جولد تسيهر) طعن في الإمام الزهري واتهمه بوضع الأحاديث إرضاءً لبني أمية. ومن ذلك: زعمه أنه وضع لعبد الملك بن مروان حديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ومنها: الأقصى- حتى يصرف الناس إلى الأقصى بدل مكة التي كان فيها ابن الزبير.
ولما التقى السباعي بالمستشرق (شاخت) وناقشه في مفتريات أستاذه (جولد تسيهر) وتحريفاته- كان يجيب شاخت بالاعتذار عنه. فقال له السباعي: (إن جولد تسيهر هو مؤسس المدرسة الاستشراقية التي تبني حكمها في التشريع الإسلامي على وقائع التاريخ نفسه،فلماذا لم يستعمل مبدأه هنا حين تكلم عن الزهري؟!وكيف جاز له أن يحكم على الزهري بأنه وضع حديث فضل المسجد الأقصى،إرضاء لعبد الملك بن مروان ضد ابن الزبير، مع أن الزهري لم يلق عبد الملك إلا بعد سبع سنوات من مقتل الزبير؟).
يقول السباعي: (وهنا اصفر وجه (شاخت) وأخذ يفرك يداً بيد وبدا عليه الغيظ والاضطراب،وأنهيت الحديث معه...).
وإنما ذكرت هذا المثال؟ لأن كثيراً من العلمانيين والحداثيين في دراستهم للتراث- ومنه السنة- تشربوا هذا المنهج الاستشراقي التبشيري،وقد طعنوا في حديث الذباب ولطم موسى ملك الموت وغيرهما.
ثانياً: العقلانيون وأذنابهم : وهم تلاميذ المدرسة العقلية.
ولا يقولن قائل: إن المعتزلة انقرضوا،بل لا تزال أفكارهم ومنطلقاتهم باقية إلى اليوم- بل إن أحد أكبر دعاة هذا المنهج دعا في إحدى المناسبات الفكرية إلى أن يكون للمعتزلة تجمع، كما أن لغيرهم تجمعات. ا- فهذا أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) خاض وماج في قضايا كثيرة،منها قضية السنة.
وقد ناقشه السباعي- رحمه الله- مناقشة مطولة في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي).
2- وهذا محمد عمارة أشهر من يتبنى منهج الاعتزال والعقلانية المنحرفة. يقول في كتابه (الإسلام وقضايا العصر): (نحن مطالبون حتى نكون متبعين للرسول ا صلى الله عليه وسلم بالتزام سنته التشريعية- أي تفسير القرآن- لأنها دين .
أما سنته غير التشريعية، ومنها تصرفاته في السياسة والحرب والسلم والمال والاجتماع والقضاء ومثلها ما شابهها من أمور الدنيا، فإن اقتداءنا به يتحقق بالتزامنا بالمعيار الذي حكم تصرف صلى الله عليه وسلم ، فهو كقائد للدولة كان يحكم فيها على النحو الذي يحقق المصلحة للأمة، فإذا حكمنا كساسة بما يحقق مصلحة الأمة وكنا مقتدين بالرسو صلى الله عليه وسلم حتى ولو خالفت نظمنا وقوانينا ما روي عنه في السياسة من أحاديث، لأن المصلحة بطبيعتها متغيرة ومتطورة) .
ويقول أيضاً: (علمنا الرسو صلى الله عليه وسلم أن ما كان ديناً فمرجعه الوحي والتنزيل وما كان دنيا بما فيها الدولة والسياسة فالمرجع فيها العقل والتجربة الإنسانية..) .
ويقول ما هو أدهى وأمر: (والفرق بين المسلمين وأهل الكتاب ليست من الخطر بحيث تخرج الكتابيين من إطار الإيمان والتدين بالدين الإلهي).
ثالثأ : الحداثيون : وهؤلاء- ليست القضية معهم- خاصة بهذا الموضوع،بل ما هو أشمل. وهو موقفهم من الدين الإسلامي ومصادره وأصوله كلها.
ولكن سأذكر نماذج من مواقفهم من السنة فقط،وإلا فموضوعهم طويل:
أ- يقول أحدهم- وأنزه المنبر من ذكر اسمه-: (أرضنا البيد غارقة، طوق الليل أرجاءها، وكساها بمسجده الهاشمي فدانته لعاداته معبداً).
2- ونشرت صحيفة- اليوم- بتاريخ 6/ 11/ 1406 هـ محاضرة لأحدهم ألقاها في المملكة العربية السعودية،ومما قاله المحاضر عن أمته: الإسلام ينسلخ من الجوهر بما فيه من المثل والقيم والمبادئ ليغرق في هامشيات، وأقول يغرق، لأنه- للأسف- مازال غريقاً حتى اليوم يغرق في ماذا؟ في تحريم أو استكراه لبس الجلباب وتقصيره إلى ما فوق الكعبين وضرورة الأكل باليمين، وكراهية استعمال الملعقة والشوكة والسكين واستحباب لعق الأصابع...إضافة إلى مسائل أخرى،منها: الاحتفال بمولد النبي والتوسل بالأولياء والصالحين).
3- بل بلغ بهم الاستهتار بالسنة أن قلد أحدهم منهج المحدثين وهو يتحدث عن أزمة الفن والغناء. فيقول: (حدثنا الشيخ إمام عن صالح بن عبد الحي عن سيد بن درويش عن أبيه عن جده قال: يأتي على هذه البلاد زمان إذا رأيتم فيها أن الفن أصبح جثة هامدة فلا تلوموه ولا تعذلوا أهله، بل لوموا أنفسكم.
قالها وهو ينتحب فتغمده الله برحمته وغفر له ذنوبه)،وهكذ ا...وهكذ ا...
رابعاً: الطاعنون من غير هؤلاء:
ا- أبو رية. تولى كبر الطعن في السنة، وقلد في طعونه من سبقه وألف كتابه (أضواء على السنة المحمدية)، وقد رد عليه: محمد عبد الرازق حمزة- رحمه الله- في كتابه ظلمات أبي رية) ، والمعلمي- رحمه الله- في كتابه: (الأنوار الكاشفة). والسباعي- رحمه الله- في كتابه: (السنة).
2- ثم ظهر في سنة 1974م في مصر كتاب يطعن فيه صاحبه- والمدعو صالح أبو بكر- في صحيح البخاري، سماه: "الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها"ذكر فيه- متابعة لشيخه أبي رية- للمستشرقين- أكثر من 120 حديثاً يرى وجوب تطهير صجح البخاري منها.
3- وجاء بعد هؤلاء كثير تنتشر طعوناتهم المختلفة في السنة النبوية؟كالغزالي وغيره.(24/177)
خامساً: الرافضة المعاصرون والخوارج المعاصرون:
لم تتغير آراؤهم ومواقفهم من السنة. فالرافضة تابعوا أسلافهم وربما زادوا عليها في طعونهم في السنة،والخوارج الأباضية ردوا أحاديث الرؤية المتواترة،وأحاديث الشفاعة وخروج الموحدين من النار،بناء على مخالفتها لأصولهم العقدية المنحرفة.
الموقف من أعداء السنة:
ا- كشف أمرهم وفضحهم.
2- العناية بالسنة والاهتمام بنشرها.
3- تربية الأمة على احترام الرسو صلى الله عليه وسلم وتوقيره.
4- الاحتساب على كل متنقصي الرسو صلى الله عليه وسلم أو طاعن في السنة وعدم التساهل معهم.
5- الدعوة إلى تطبيق السنة في حياة الأمة أفراداً وأسراً ومجتمعاتٍ ودولاً.
والحمد لله أنه لا تخلو الأمة في كل عصر- ومنه عصرنا هذا- ممن يدافع عن السنة وينشر مخطوطاتها، ويعمل على خدمتها جمعاً وتحقيقاً وتخريجاً وشرحاً ورداً على خصومها وفضحاً لهم.
==============(24/178)
(24/179)
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :
فمنذ أشرقت شمس الإسلام وأعداؤه يكيدون له المؤامرة تلو المؤامرة ، فاستخدموا كثيراً من الوسائل ونوعوا العديد من الخطط ، فتارة بالقوة ، وتارة بالحيلة ، نجحوا أحياناً وفشلوا أحياناً أخرى ، وهكذا الصراع بين الحق والباطل.
وعصرنا الحاضر ما هو إلا حلقة في سلسلة التداول بين الإسلام وأعدائه ؛ إلا أن الأعداء هذه المرة ابتكروا أسلوباً جديداً ؛ حيث ابتعدوا عن الاعتماد على القوة وحدها ولجأوا إلى محاربة الإسلام بالفكر فكان ما يسمى بالغزو الفكري .
ولا شك أن لهذا الغزو الجديد خطورته ووسائله ، وله أهدافه و آثاره ، مما جعل الغيورين من أبناء المسلمين يتنادون بوجوب مجابهته ومحاربته ، وكشف زيفه وبيان مغازيه .
ومن المحاولات الرامية إلى مواجهة هذا الغزو عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات الإرشادية ، وكتابة الكتب والمقالات ومنها هذه المقالات والتي هي بعنوان (الغزو الفكري وآثاره) .
أولا: تعريف الغزو الفكري :
الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة , وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك [1].
فالغزو الفكري إذاً مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تدخل على الفكر الإسلامي هدفها السيطرة على هذا الفكر أو على الأقل حرفه عن وجهته الصحيحة.
نشأة الغزو الفكري:
بعد فشل الحروب الصليبية وعدم استطاعة الصليبين السيطرة على المسلمين بالوسائل العسكرية تنادى مفكروهم وقوادهم إلى ضرورة استحداث أسلوب آخر يكفل لهم تحقيق أهدافهم, فكان هذا الأسلوب المطلوب هو الغزو الفكري.
يقول لويس التاسع ملك فرنسا بعد أن وقع في الأسر وبقي سجيناً في المنصورة يقول(إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده, فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) [2].
وبالفعل بدأت الحملات الصليبية ولكن هذا المرة عن طريق الفكر وبالفكر, واستخدمت الوسائل المتعددة والأساليب الكثيرة لتحقيق ما يريدون, سواء كان ذلك عن طريق الوسائل التعليمية أو عن طريق الوسائل الاقتصادية أو عن طريق الوسائل الاجتماعية أو عن طريق الوسائل السياسية, مما سيأتي الكلام عنه مفصلا عند الكلام على وسائل الغزو الفكري.
ثانياً: أهداف الغزو الفكري:
- السيطرة السياسية على بلاد المسلمين:
قد ذكرت أن نشأة الغزو الفكري كان بعد فشل السيطرة العسكرية, فحتى يتم لهم ما يريدون من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بدأوا بالغزو الفكري.
والسيطرة السياسية تنقسم إلى قسمين أو يمكن أن تأتى على وجهتين:
الوجهة الأولى:
الاحتلال المباشر لبلاد المسلمين كما حصل في وقت ما يسمى بالاستعمار, حيث تدخل الجيوش الغازية إلى البلد المسلم, وتبسط نفوذها عليه, كالاستعمار البرتغالي لمنطقة الخليج ثم انحساره عنها ليحل محله الاستعمار الهولندي ثم الاستعمار البريطاني, وكان هذا الاستعمار يهدف في ما يهدف إليه إعطاء الغطاء السياسي اللازم لحركات الغزو الفكري.
الوجهة الثانية:
الاحتلال غير المباشر لبلاد المسلمين بأن يجعلوا من حكامها تابعين لهم لا يخرجون عن أرادتهم وطوعهم ولا ينفذون إلا ما يريدون, وقد حدث هذا بعد خروج المحتل ولكنه أبقى نفوذه ووصايته, فبعد اكتشاف النفط في دول الخليج بادرت بريطانيا إلى اخذ التعهدات من حكام تلك الدول ألا يمنحوا امتياز التنقيب عن النفط لشركات أو أشخاص دون مشورتها([3]).
- الاستغلال الاقتصادي:
لا تقوم البلدان إلا على اقتصاد قوي, والاقتصاد يحتاج إلى موارد اقتصادية, وبلدان العالم الإسلامي في الغالب تحتوي على موارد اقتصادية هائلة سال لها لعاب الدول الغربية مما جعلها تحاول جاهدة استغلال هذه الموارد, فكان في بداية الأمر أن فرضت الدول المستعمرة شروطا واتفاقيات تبيح لها التصرف في ثروات الشعوب الإسلامية سواء كانت هذه الاتفاقيات مفروضة بالقوة أو كانت بقوة غير مباشرة كمعاهدات الحماية بأن تتعهد الدولة القوية بحماية الدولة المسلمة الضعيفة مقابل ابتزازها اقتصادياً, ولأن القوة ربما تولد القوة والهجوم يولد الدفاع, لذا رأت الدول القوية أن منطق القوة قد لا يستمر لها وأن الدولة المسلمة ربما أفاقت وقاومت, لذا لجأت هذه القوى إلى الغزو الفكري الذي يحقق لهم ما يريدون دون إثارة حفيظة المسلمين وحنقهم.
- إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم:(24/180)
أدرك الغزاه أن المسلمين وإن كانوا في ضعف وهوان وتشتت وانقسام إلا أنهم يملكون سلاحاً قوياً يستطيعون به الانتصار على عدوهم متى ما استخدموه لذا حرصوا اشد الحرص على إبعادهم عن هذا السلاح وعن مصدر قوتهم, فبدءوا بمحاربة العقيدة الإسلامية ومحاولة إبعادها عن حياة المسلمين, لا عن طريق ذمها في البداية وبشكل مباشر فهذا يثير المسلمين عليهم ويرجع المسلمين إلى عقيدهم, ولكن عن طريق دس السم في العسل كما يقال, وبطرق ملتوية غير مباشرة, فحاولوا التشكيك في العقيدة أو في جوانب منها فإن لم ينجحوا في ذلك فعلى الأقل عملوا على زعزعة ثقة بعض المسلمين بعقيدتهم.
وقد لجأوا في ذلك إلى أساليب كثيرة أحيانا تحت مسمى التدرج وعدم التعصب وأحيانا تحت مسمى البحث العلمي وأحيانا تحت مسمى التقارب العقدي للأديان وهكذا,,,,
وسيأتي الكلام عن الأساليب التي اتخذوها.
ثالثاً: وسائل الغزو الفكري:
- التدخل في مناهج التعليم:
من أخطر وسائل الغزو الفكري, لأنه على مناهج التعليم يتربى الجيل, ومناهج التعليم على قسمين:
القسم الأول:
قسم تتولى الدولة وضعه أو بمعنى آخر يضعه أناس ولكن تحت إشراف الدولة, ويتم الغزو الفكري في هذا القسم بما يبذله العلمانيون من جهد في تغيير المناهج ولهم في ذلك أساليب ووسائل يخادعون بها دولتهم ومجتمعهم, حتى يتم لهم ما يريدون, يقدمون التقارير ونتائج الندوات والمؤتمرات المبرمجة سلفاً لشيء معين وكلها تنصب في ضرورة التغيير, وأن المناهج الحالية لا تلبي حاجة المجتمع أو حاجة السوق كما يعبر عنه أحيانا, وأحيانا تتهم أنها سبب في توليد الإرهاب, وأنها تنمي الكراهة والبغض عند الطلاب ضد الكفار, الذين اصبحوا أصدقاء وأعوان, وهكذا, ولا بأس إذا أرادوا شيئاً معيناً أن يحركوا بعض الصحفيين ليكتبوا في الصحف عن ضرورة التغيير وعن حاجة المجتمع, وعن عدم قدرة المناهج الموجودة على مواكبة العصر.
وأحياناً يمكن أن يكون الغزو في هذا القسم تحت ضغوط مباشرة من الغزاة الحقيقيين, ويستخدمون لهذه الضغوط وسائل متعددة ليس المجال مجال ذكرها.
- القسم الثاني:
قسم لا تتولى الدولة وضعه ، وإشرافها عليه غير مباشر, وهذا يتمثل في الجامعات, وبعض المدارس الخاصة والمدارس الأجنبية.
ويتم الغزو الفكري فيها باختيار مناهج تضعف فيها المواد الدينية ويركز على غيرها, ثم هذه المواد تدرس بعيداً عن الدين, وربما كان فيها من الانحراف الفكري ما يشوش على أفكار الطالب ، وربما درست نظريات وأفكار لعلماء غربيين مليئة بالانحراف, دع عنك النظريات العلمية في مواد العلوم الطبيعية كما تسمى, وإنما نقصد العلوم الاجتماعية, كعلم الاجتماع ، و علم النفس, وغيرهما.
وربما درست للطلاب أشياء مخالفة للدين فيدرس الربا على أنه فوائد ، ويدرسون كيفية حساب الفائدة, حتى إنه يلقى في روع الطالب أن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا.
وربما يوكل للأستاذ الجامعي وضع المنهج وقد لا يكون على مستوى المسؤولية.
- المدارس الخاصة والأجنبية ، ومنها الجامعات الغربية المقامة في بلاد المسلمين :
وذلك لأنها لا تخضع في مناهجها ومدرسيها للدولة بشكل مباشر, وبالتالي تكون مجالاًََََََ خصباً لبث ما يريدون, كما أن هذه المدارس قد تتعدد فيها الديانات ولاسيما المدارس الأجنبية مما يخفي عند الطالب المسلم عقيدة الولاء والبراء أو يضعفها ؛ لأنه يرى أستاذه نصرانياً وزميله كذلك وهو يعاشرهم ويعيش معهم مما يضعف البراء من الكفار.
كما أن هذه المدارس ربما تمارس أنشطة غير منهجية فيها مخالفات للدين.
من أخطر آثار هذه المدارس أنها تجذب الأنظار إليها بما تملكه من وسائل تعليمية عالية, وبما تتمتع به من تنظيم إداري فائق, كما أنها تهتم باللغات الأخرى ، مما يجعلها محط أنظار فئات خاصة من المجتمع, هذه الفئات تتخرج من هذه المدارس لتتولى المناصب في مجتمعاتهم ، مما يجعلهم سنداً بعد ذلك لقادة الغزو الفكري.
- تقليل الاهتمام بمواد الدين:
ويتم ذلك بما يلي:
- تقليصها في الجدول الدراسي.
- دعوى صعوبتها, وصعوبة فهمها.
- جعلها في آخر الجدول اليومي, مما يجعلها في وقت تعب وملل.
- التقليل من شأن مدرسها.
- دعوى أنها لا تلبي حاجة المجتمع.
- دعوى أن الطالب ربما يستفيدها من خارج المدرسة.
- جعلها مادة لا يترتب عليها نجاح الطالب, وإنما للفائدة فقط.
- جمع مواد الدينية كلها تحت مسمى واحد كأن تسمى مادة الثقافة الإسلامية مثلاً, أو مادة إسلامية, أو دين أو تربية إسلامية وهكذا.
- حصر الدين في المواد الشرعية وإخراج العلوم الأخرى
كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس و العلوم الإدارية والعلوم التطبيقية.
- تدريس المواد غير الشرعية بعيداً عن الدين فالاقتصاد بعيد عن الإسلام أو فيه مخالفات شرعية كثيرة, وعلم الاجتماع كذلك , وعلم النفس كذلك , والعلوم التطبيقية لا تربط بقدرة الله ، وإنما الطبيعة هي كل شيئ ..
- تقسيم المدارس أو التخصصات إلى دينية وغيرها
مما يولد الشعور عند الطالب أن الدين لا يصلح في التخصصات الأخرى.(24/181)
- تهيئة الفرص الوظيفة لخريجي الأقسام غير الشرعية, وتقليل هذه الفرص بالنسبة لخريجي الأقسام الشرعية, مما يجعل الطالب لا يحرص على دخول هذه الأقسام.
- هدم اللغة العربية: ويتم هذا بما يلي:
- الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية بدعوى أن الحركات لا تكتب.
- الدعوة إلى العامية والبعد عن الفصحى.
- دعوى صعوبة اللغة العربية وعدم قدرة النشء على تعلمها.
- الدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية, وربما للصغار مما يفسد لغتهم الأصلية.
- تشويه التاريخ الإسلامي: ويتم هذا بما يلي:
- تصوير أن الإسلام لم يعش إلا في عهد الرسو صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين, وما بعده انحرف المسلمون عن الإسلام.
- إبراز مظاهر الانحراف التي حدثت في عصور الإسلام, وجعلها هي الأصل والأساس ، وبالذات الانحرافات السياسية.
- إلصاق التهم السيئة بنوايا الفاتحين, وبنوايا المصلحين ، كاتهام الفتوحات الإسلامية بأنها نوع من الاستعمار.
- تمثيل المواقف الإسلامية أو المعارك بتشويه متعمد, فهذا القائد يحب ابنة الخصم أو يحب أخرى ، وعلاقات الحب تمثل مع عدم وجود مستند تاريخي لها ، وكتابات جورجي زيدان في التاريخ الإسلامي شاهد على ذلك.
- الاختلاط:
وهذا يكون في مسلك التعليم وفي غيرة, فأما في التعليم فيتم في البداية في الروضة ، وفي المختبرات في الجامعات ونحوها ، ثم في المراحل الأولية من الدراسة الابتدائية ، ثم يتطور بعد ذلك إلى ما هو أكثر.
هذا في المدارس الحكومية وأما المدارس الأجنبية فالأمر مختلف فالاختلاط فيها ظاهر سواء بين الطلاب والطالبات أو بين المدرسين والطالبات أو بين المدرسات والطلاب أو بين المدرسين والمدرسات.
وأما غير التعليم فالاختلاط يكون في المستشفيات ، وفي الحدائق ، وفي مطاعم العوائل ، وفي الأسواق ، وفي المنتزهات وغيرها.
- الابتعاث:
ويعني إرسال أولاد المسلمين إلى البلاد الكافرة للتعلم هناك وهذا قد تضطر له الدول الإسلامية لتتعلم العلوم التي سبقتنا فيها البلاد الكافرة, ولكن الإشكال حينما يفتح الابتعاث على مصراعيه لكل أحد ، وبدون ضوابط ولا عوامل حماية للمبتعثين, فيذهب المبتعث ويرجع بفكر غير الذي ذهب به.
- الدعوة إلى تعلم اللغة خلال الصيف في مدارسهم ومعاهدهم في بلادهم الكافرة, فيذهب الشاب إلى هناك ، وربما سكن مع عائلة كافرة ، مما يجعل فرصة تأثره بأفكارهم ومعتقداتهم سانحة, وربما احتقر بلاده وتعاليم دينه.
- نشر الأفكار الهدامة التي تدعو إليها بعض المؤتمرات والمنظمات والجمعيات العالمية.
- الحديث عن أعيادهم ، ونشر ما يحدث فيها كعيد الميلاد وعيد الحب.
- الدعوات إلى الفرق والأديان الباطلة.
- زعم التقريب بين الأديان, والدعوة إلى الندوات والمحاضرات والمؤتمرات لمناقشة هذه القضية.
- محاولة نشر الكتب أو الكتيبات أو النشرات التي تدعو إلى أديان باطلة أو تشكك في الدين الإسلامي.
- الدخول من باب الأدب لحرف الفكر الإسلامي, فتارة عن طريق الحداثة ، وتارة عن طريق القصص الغرامية, وتارة عن طريق فكر مخالف للدين بدعوى الحرية الفكرية.
- نشر الأدبيات المنحرفة وتمجيد أصحابها, سواء كان عن طريق القصة أو الشعر أو غيرها, وكتاب في جريدة شاهد على ذلك.
- ترجمة غير المفيد من اللغات الأخرى فلا تترجم الكتب العلمية المفيدة و إنما تترجم الغراميات ، أو التي تحمل الأفكار العلمانية أو الإلحادية.
- استغلال الإذاعة أو التلفزيون أو القناة الفضائية لبث الأفكار التي يريدون.
- استغلال العادات والتقاليد:
ويتم عن طريقين:
أ- استغلال واقع خاطئ يعيشه المجتمع المسلم أفرزته العادات والتقاليد البعيدة عن الإسلام, فيقوم هؤلاء باستغلال هذا الوضع ويهاجمونه هجوماً شديداً لا لرد الناس إلى الحق ولكن للشطوح بهم بعيداً عن الدين.
- الطريق الثاني:
الحرص على جعل تعاليم الإسلام عادات وتقاليد مما يهون من شأنها ويسهل تركها, كالحجاب مثلاً.
- إفساد المرأة:
والدعوة إلى تغريبها وسفورها واختلاطها ، ولهم في ذلك طرق كثيرة ودعوات مغرضة ؛ لأنهم يعرفون أهمية المرأة ودورها في المجتمع.
- استغلال النكبات في العالم الإسلامي بدعوى تقديم العون للمنكوبين المحتاجين ، وهم في الحقيقة لا يقدمون العون إلا مع تقديم أفكارهم ومعتقداتهم.
- السيطرة على مصارف النقد ومحاربة الاقتصاد الإسلامي لإضعاف المسلمين ، وبالتالي السيطرة عليهم.
- تكثيف الدراسات الاستشراقية ، والاهتمام بها ؛ لتسهل السيطرة على العالم الإسلامي .
- القيام بالعمليات التنصيرية ، ورصد الأموال الطائلة ، والجهود الكبيرة لإنجاحها .
- اختراع مصطلح العولمة لإذابة الفكر الإسلامي ، بل ليس سراً أن نقول إن العولمة هو المصطلح الجديد للغزو الفكري .
- الضغوط الخارجية على الحكومات المسلمة لئلا تقف في وجه الغزو الفكري.
- الدعم السياسي للغزاة المحليين ممن هم على شاكلتهم, ولذا ليس سراً صلة حركات التغريب بالاستعمار وبالدول الكافرة بعد الاستعمار.
1 واقعنا المعاصر ص195.
2 المرجع السابق ص196.
3 الخليج العربي دراسة في الجغرافيا السياسية ص281.(24/182)
===============(24/183)
(24/184)
مناهضة الفكر الاستشراقي
الثلاثاء:24/08/2004
(الشبكة الإسلامية)
علم الاستشراق يحتاج إلى تصدي
مثَّل الاستشراق، ولا يزال يمثل، تحدياً صارخاً أمام الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، ونحن ـ كما ذكرنا في المقال السابق بعنوان "الفكر الاستشراقي.. وأثره على الدعوة" أمام هذا التحدي لا يكفي فقط أن نبدي الغضب والاحتجاج، الأمر الذي يعيبه علينا المستشرقون، بل ينبغي علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد ونرد الصاع بالصاعين، وفي هذا أظننا بحاجة إلى أن نعمل في مسارين اثنين في آن واحد:
الأول: تنقية الذاكرة الغربية من مخلفات استشراق القرون الوسطى والتي تثبط همم الغربيين عن دراسة الإسلام ومبادئه.
والثاني: مناهضة المستشرقين أنفسهم مناهضة جادة وشاملة حتى يتهدم بنيان أفكارهم هدماً كاملاً ، بحيث لا يجد طريقاً للنهوض مرة أخرى .
ففي إطار الأمر الأول لا أظن أنه يكفي فيه مجرد الردود الكتابية، إذ إن مثل هذه الردود بذل الكثيرون فيها إلى اليوم مجهوداً مشكوراً ولكن رغم ذلك لازالت آثار الموقف المجافي للحقيقة، والذي ولدته كتابات العصور الوسطى في أوروبا، قائمة.
أما السبب في هذا الإخفاق في إزالة المفتريات الاستشراقية فأظن أنه يكمن في عزوف الإنسان الغربي عن قراءة الموضوعات الدينية وعن الاهتمام بكل ما هو ميتافيزيقي، بعد انتشار الفكر الإلحادي الذي ألقى الأديان كلها، من غير استثناء ، في سلة المهملات، فالبحوث الدينية التي ألفت في هذه الفترة، سواء أكانت تتعلق بالإسلام أم المسيحية أم غيرهما من الأديان لم تلق آذاناً صاغية في المجتمع الغربي، فلم يقرأها إلا العدد القليل؛ مما جعل الرؤى الاستشراقية عن الإسلام تظل باقية كعادتها في عقول الغالبية العظمى من الأوروبيين الذين يرثون تلك الرؤى خلفاً عن سلف.
بل الحال، كما أعتقد، يكمن- بالإضافة إلى إعداد كتب جيدة تعرض الإسلام بصورة موضوعية وتناقش المفتريات الاستشراقية بصورة علمية رصينة -في تحريك العمل الدعوى في العالم الغربي على نطاق أوسع بحيث لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا وقد طرقنا بابه ووضحنا لأصحابه حقيقة الإسلام والصورة الصحيحة التي كانت عليها حياة نبي الإسلام، وقبل هذا وذاك أن نخلق في الوعي الغربي أهمية التدين بإزالة ما به من شبهات إلحادية وتساؤلات لا دينية وذلك حتى ينصت الغربيون إلينا فيستمعوا إلى ما نود قوله بقلوب يقظة وعقول منتبهة.
أما في نطاق الأمر الثاني، وهو مناهضة المستشرقين وهدم بنيان أفكارهم، فينبغي علينا أن نضع في الاعتبار بأن أزمة الاستشراق هي أزمة المناهج، وليست أزمة التطبيق، أي أن المستشرقين بعد عصر النهضة بدؤوا يخضعون مصادر الإسلام - كما أسلفت ذكره - لقواعد المنهج الفيولوجي والتاريخي وعلوم الإنسان الاجتماع وكلها بمفاهيم غربية، مما جعل حقائق الإسلام تظهر في غير ثوبها بل تصبح مشوهة المظهر، مبتورة الأطراف.
فالخطأ إذن، يكمن في مناهج البحث أو في طريقة توظيف تلك المناهج في سبيل الوصول، إلى أهداف معينة، مما يحتم علينا إذا أردنا مناهضة الاستشراق حقاً وحقيقة أن نغربل تلك المناهج غربلة دقيقة وأن نشير إلى مكامن الخطأ فيها، وأن نبرز كيف أن تلك المناهج استغلت استغلالاً مجحفاً في سبيل الوصول إلى مآرب معينة، فعلى سبيل المثال استغل طه حسين- المنهج التاريخي والفيلولوجي في إبطال صحة الشعر الجاهلي ، بينما أثبت ناصر الدين الأسد، وباستخدام المناهج عينها صحة الشعر الجاهلي، مما يدل على أن الخطأ قد يكمن في طريقة توظيف واستغلال منهج ما وليس في المنهج عينة.
وأظن أن إبراز أخطاء المستشرقين في استخدام المناهج ثم إظهار الفكر الإسلامي وفقاً لمعايير المناهج المتقدمة ليس من الأمر المستحيل، غير أنه يبدو أننا في حين معارضة الاستشراق قد صرفنا معظم طاقاتنا في نقد التطبيقات الاستشراقية واكتفينا في حين تقديم الإسلام بالتزمت عند مناهج ينظر إليها المستشرقون نظرة الازدراء و يطلقون عليها بأنها (بالية) و(لا تاريخية)، وهناك بعض المستشرقين ممن لا يكتفون بهذا فقط بل يذهبون إلى أبعد من ذلك فيرفضون أن تكون لدينا مناهج معاصرة أصلا، فهذا المستشرق المعاصر "فرنسيسكو غابريلي" يقول بعد أن تبجح بما لديهم من المنهجيات والأدوات: (لا ينبغي على أصدقائنا الشرقيين أن يطلبوا منا دراسة ماضيهم وحاضرهم على ضوء علم التاريخ الحديث الشرقي، أو الفلسفة الحديثة الشرقية، أو علم الجمال أو علم الاقتصاد الشرقي، لماذا ؟ لسبب بسيط هو أن ذلك غير موجود حتى الآن)!!
تطوير مناهج البحث(24/185)
فنحن، إذن، بحاجة إلى تطوير المناهج الموجودة أصلاً في تراثنا الغني، وكل ما نحتاج إليه هو إعادة إبراز تلك المناهج بقوالب معاصرة، وخلع الهيبة الأكاديمية الحديثة عليها، فما يتبجح به الغربيون من المناهج ليس إلا اقتباسات مما أبدعه العلماء العرب والمسلمون من المناهج في عصور الازدهار العلمي الإسلامي، فكل ما فعلوه هو تطوير تلك المناهج وإحداث بعض تعديلات طفيفة حتى يتساوق مع النسق الغربي في التكفير والتأمل ثم تجربة تلك المناهج في مجالات أوسع كما اقتضته طبيعة العصر.
فمسألة تطوير المناهج لكي تواكب مصطلحات العصر ليس من الأمر المستحيل، وأقل ما يمكن فعله في هذا الإطار هو القيام بعملية الغربلة والانتقاء، وإعادة صياغة ما يتوافر لدى الغرب من مناهج البحث والتفكير وفقاً للتوجهات والمفاهيم الإسلامية ثم قولبة الفكر الإسلامي وفقاً لخطوات ومصطلحات تلك المناهج الحديثة، وبهذه الصورة أظننا نستطيع أن نقف في وجه المستشرقين ونبطل ما يبدونه من عنهجية ويمارسونه من تطفل وتشويش على الفكر الإسلامي النقي الذي هم بعيدون عن كل البعد، قلباً وقالباً.
إنشاء علم الاستغراب
وأمر آخر ينبغي فعله في إطار مناهضة الاستشراق وهو إنشاء علم (الاستغراب) في جامعاتنا ومعاهدنا المتخصصة بغية استيعاب الغرب واحتواء توجهاته وميوله الفكرية وكذلك كشف البنية التحتية للعقلية الغربية حتى تكون مناهضتنا للغرب والاستشراق الغربي متسمة بالدقة والإتقان ويكون خطابنا وردودنا نابعة عن موقف المسؤولية العقلية والنضج الثقافي وعلى مستوى الوعي الغربي والعقلية الغربية، ولعل إدوارد سعيد يمثل معلماً رائعاً في هذا الطريق.. فالرجل عربي فلسطيني حاول استيعاب الغرب وتوجهاته الاستشراقية استيعاباً أقل ما يمكن وصفه بأنه يتصف بكثير من الجدية والإتقان ، ثم هو بحكم معايشته الغربيين لمدة طويلة أتقن أسلوب مخاطبة العقلية الغربية مما جعل كتابه الذي أصدره عام 1978 ميلادي (بالإنجليزية) متناولاً فيه موضوع الاستشراق يحدث دوياً كبيراً في الساحة الثقافية الغربية بصورة عامة وفي محيط الاستشراق بصورة خاصة، وأظن أننا لو سرنا على خطى إدوارد سعيد وأسسنا دوائر متخصصة لإنجاز مثل هذه الأعمال فإننا سنحقق الكثير في سبيل الرد على التحدي الاستشراقي بجدارة وإتقان.
ــــــــــــــــــــــــــ
الدعوة إلى الله: "محمد شمس الحق"
==============(24/186)
(24/187)
الفكر الاستشراقي.. وأثره على الدعوة
الثلاثاء:17/08/2004
(الشبكة الإسلامية)
مما لا شك فيه أن الاستشراق منذ نشأته في أوروبا القرون الوسطى، قد عمل جاهداً على مقاومة الدعوة الإسلامية وهدم قيم الإسلام وأسسه الفكرية وذلك عن طريق تشويه صورة الإسلام بمفتريات وأكاذيب تمجها الآذان وتتقزز منها المشاعر، وكانت معظم هذه المفتريات ينصب بالدرجة الأولى على شخصية نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بسبب يقين المستشرقين بأن صلى الله عليه وسلم يمثل الأساس في الرسالة الإسلامية، إذ إنه هو الذي بلغ الإسلام عن الله، وامتثله في نفسه وكوَّن أمة عظيمة على عاتقه.فإذا استطاعوا إلقاء أغشية على شخصيته فإن ذلك سيكفل لهم عدم انتشار رسالته ثم إدخال كثير من الريب والشكوك في قلوب الذين اتبعوه وآمنوه به.
ومن ثمَّ قالوا عن نبي الإسلام الطاهر، الصادق الأمين، بأنه كان رديء الولادة والسمعة وأنه عاش بربرياً بين برابرة، وثنياً بين وثنيين، وأنه تعلم ما نشره من الدين من راهب فر إلى الجزيرة العربية واسمه "سيرجونز" الذي اعتقد محمد أنه الملك ((جبريل))، وأنه كان ذا شهوات جامحة، متعجرفاً في الحياة وأنه قبل الوفاة حاول أن يعمِّد نفسه ولكن الشياطين منعته من ذلك!! وعندما مات أكلته الخنازير التي تعتبر من الحيوانات القذرة.
بالإضافة إلى هذه الادعاءات الكاذبة التي افتراها مستشرقو القرون الوسطى على أعظم شخصية في التاريخ وأكثرها عفة وطهراً، اخترع المستشرقون مفتريات أخرى حاولوا أن يصِمُوا بها أقدس جماعة بشرية في التاريخ كله، الصحابة الكرام وكذلك المسلمين بصورة عامة، فقد قالوا عن الصحابة بأنهم: (زمرة من منتهكي الحرمات المقدسة، وقطاع الطرق والسالبين، والقتلة واللصوص)، وقالوا عن المسلمين بصورة عامة بأن سبب إسلامهم:
1- إما أنهم خدعوا بالشيطان بسبب سذاجتهم .
2- أو حذوا حذو أقربائهم ولو قاد ذلك إلى الخطأ.
3- أو للحصول على المنافع المادية.
وقالوا عن المسلمين أيضا بأنهم يعبدون محمداً في المساجد، وأنهم شعوب ينتمون أساساً إلى السيف.
أما عن الإسلام فقد قالوا عنه بأنه (مجموعة من العقائد المسيحية واليهودية والوثنية)، وأن العنف من مكوناته، وأنه لا يقبل الخلاف العقلاني، وأنه رمز للتعصب واللاإنسانية وأنه منبع المبالغات والانحرافات في أنظمة الفكر.
وقالوا عن القرآن الكريم بأنه غير منطقي وغير معزز بالمعجزات.
هذه بعض النماذج من الإفك الأثيم الذي أنتجه الفكر الاستشراقي وروجه في عرض العالم الغربي وطوله منذ العصور الوسطى. وإذا كان هذا الإفك الاستشراقي لم ينجح في طمس معالم الإسلام وزعزعة أركانه إلا أنه نجح إلى حد كبير في وقف أو على الأقل إبطاء انتشاره في العالم الغربي المسيحي على وجه الخصوص، إذ إن الإنسان الغربي كلما كانت تطرق إذنه لفظة الإٍسلام أو ما أسموه بـ (المحمدية) فإن تلك الصور البشعة والمرعبة كانت تتمثل أمام ناظريه، فيفر من الإسلام فرار الظبي من الأسد، ولا شك أن كثيراً من هذه الصور لا تزال عالقة في العقل الأوروبي إلى اليوم مما يجعله ينظر إلى الإسلام بكثير من الشك والريب والتوجس.
انعطافة في الفكر الاستشراقي
وإذا كان استشراق القرون الوسطى قد مارس هذا النوع المخزي من الهجوم ضد الإسلام بهدف حماية المسيحيين من التأثير الإسلامي - بسبب ما كان يجسده في تلك الفترة من قوة تبشيرية عارمة - ثم محاولة جعل المسلمين يعتنقون الإسلام فإن الاستشراق في نهاية القرون الوسطى قد أخذ ينحو منحى أخر. فقد أصبح الأوروبيون أكثر تقدماً في مجال الفلسفة والطب والعلوم الأخرى بعد أن كان المسلمون أساتذتهم فيها، وبدا لهم أن تحويل المسلمين عن دينهم لكي يعتنقوا المسيحية بهذا الأسلوب العنيف شيء مستحيل.
من هنا أصبحت تلك الخطابات الاستشراقية العنيفة في طور الانحدار والأفول، لتتخذ مكانها ممارسات استشراقية أقل عنفاً وأكثر ذكاء، ولعل عصر النهضة قد قدم للاستشراق آليات جديدة لممارسة المماحكات الهجومية المخفية والمختبئة خلف الجهاز الأكاديمي الثقيل، فقد قدم عصر النهضة التقنيات الفيلولوجية التي تم بلورتها من أجل دراسة النصوص اللاتينية والإغريقية والعبرية، كما قدم أنواعاً أخرى من المناهج في مجال البحث والدراسة والتي من أهمها منهج البحث التاريخي الذي تبلورت صورته الغربية على حساب خروج الغرب كلياً من الدوغماتية الدينية (ولم يخرج منها فقط بعض الأفراد أو بعض التيارات وإنما مجمل الأوساط العلمية بمن فيهم أعضاؤها المؤمنون أنفسهم) لقد انخرطوا جميعاً على طريق البحث الذي يحيد تدخل الله في التاريخ ومسيرة المجتمعات وآليات مسيرتها، فأصبحوا يدرسون النصوص والقصص المقدسة عن طريق استبعاد أية سببية غير السببية المرتكزة على القوانين المشتركة لحركية المجتمعات البشرية أي أن دراسة الدين أصحبت تتم بعيداً عن فكرة الوحي، بل باعتبار أنه ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تولدت بسبب عوامل اجتماعية وتاريخية.
الاستشراق الحاضر(24/188)
وإذا غضضنا الطرف عن الصورة الاستشراقية الماضية ونظرنا إلى أيامنا الحاضرة فإننا نرى فيها منحى استشراقياً آخر للنيل من الإسلام وهدم أسسه، فكما هو معروف أن الاهتمام بالإسلام قد زاد في الغرب بصورة منقطعة النظير بعد الثورة الإيرانية عام 1979 ميلادي، فقد تكاثرت المقالات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية وحملت معظمها في طياتها الغش والخداع والأخطاء مما جعل المعلومات الخاطئة تنشر في كل مكان وكما يقول مكسم رودنسون فإن (مجمل صورة عالم الإسلام قد شوهت من خلال منظور مشوه إلى حد كبير) والسبب في ذلك ، على حد اعتقاد "مكسيم رودنسون"، هو التقدم الهائل في مجال وسائل الإعلام الجماهيري الذي استثار شهية الكثيرين، لكي يكتبوا عن الإسلام والعالم الإسلامي على الرغم من أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء اكتساب الكفاءة العلمية التي تتطلب وقتاً طويلاً وتحضيراً حقيقياً، وقد أطلق عليهم "رودنسون" بأنهم طفيليون (الذين يتطفلون على العلم تطفلاً ويحدثونك موضوع الإٍسلام والعرب إلخ ... وكأنهم عارفون).
وخلاصة القول أن الاستشراق سواء بصورته القديمة أو الذي ظهر بعد عصر النهضة أو ذلك الذي نعايشه اليوم عمل على تشويه الإسلام وهدم مرتكزات المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية بصورة لا هوادة فيها، وقد اشترك في هذا العمل جيش عرمرم من المستشرقين الذين لا يسعني أن استثني منهم إلا عدداً ضئيلاً، وحتى أولئك الذين أعدوا المعجم المفهرس لألفاظ الحديث وألفاظ القرآن وأولئك الذين فهرسوا المخطوطات العربية وحققوا كثيراً منها وأظهروها إلى النور نكون مخطئين إذا اعتبرناهم ممن خدموا العلم وأنهم أرادوا خدمة الإسلام والمسلمين بنية خالصة، لا والله لم يكونوا ممن يحملون مثل هذه الروح الخيرة التي يطيب لكثير منا أن يتصورها فيهم، بل إنهم عكس ذلك كانوا يريدون من خلال ما قاموا به من أعمال الفهرسة وطباعة المخطوطات وغيرها هو تسهيل عملية تداول الكتب الشرقية وتيسير الاطلاع على محتوياتها حتى يتمكن الرجل الغربي أن يستوعب الشرق وينفذ إلى أعماقه بسهولة ويسر. هذا ما نتأكد منه من خلال ما قال "جون مول" عام 1841 ميلادي بأنه (مهما كررنا وأعدنا فإننا لا نكرر بما فيه الكفاية أن طبع المخطوطات الشرقية الأهم هو الحاجة الأكبر والأكثر ضغطاً وإلحاحاً بالنسبة لدراساتنا، وبعد أن يكون العمل النقدي للعلماء قد مر على الأدبيات الشرقية، وبعد أن تكون الطباعة قد سهلت عملية تداول الكتب بعد ذلك فقط يمكن للعقل الأوروبي أن ينفذ فعلاً إلى أعماق الشرق) وكذلك من خلال ما قاله المستشرق المعاصر "مكسيم رودنسون" عن الفهارس البيلوغرافية والجداول الإحصائية، والقواميس وكتب النحو وغيرها، والتي تعب المستشرقون الأوائل في إعدادها، يقول عنها: (إنه لتدريب طويل وصعب ويستحق الإعجاب على كل حال، فنحن الذين نصرف كل هذا الوقت والعناء لجمع المعلومات التفصيلية المتراكمة منذ مائة وخمسين عاماً، في كتب متوافرة على طاولتنا، لا يمكننا إلا أن نشعر بالإعجاب والإكبار أمام "سيلفستر دوساسي" الذي كان مضطراً للبحث عنها في مخطوطات المكتبة الوطنية التي علاها الغبار، فهذه الكتب من تلك المخطوطات ولولا جهود المستشرقين الأوائل لما توافرت لدينا جاهزة).
فالمجهود الاستشراقي المختص بالعالم الإسلامي، إذن ، في مجملة إلا ما شذ وندر، صرف ولا يزال يصرف، في سبيل مقاومة الدعوة الإسلامية وتحييد العالم الإسلامي من مواكبة تطورات العصر وبنائه.
وليس من شك في أن الاستشراق قد نجح في تحقيق بعض مستهدفاته على أصعدة مختلفة، فقد تمكن من جهة من إيقاف المد الإسلامي إلى الدول الغربية وذلك عن طريق ترويج تلك الصورة الشائبة عن الإسلام والتي اقتنع بها الإنسان الغربي مع مرور الأيام فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الإرث الفكري الذي ينقله كل جيل إلى الذي يليه دونما وعي مما نجم عنه أن الإٍسلام أصبح أكثر الأديان كرهاً في المحيط الغربي، ومن جهة أخرى تمكن الاستشراق من زعزعة ثقة كثير من المسلمين بموثوقية مصادر دينهم وبإخلاص نبيهم، وذلك عن طريق إثارة الشبهات والشكوك ومحاولة فهم النصوص المقدسة بوضعها في بعد بشري معزول عن أية علاقة بالوحي.
فالاستشراق، إذن ، قد مثل ولا يزال يمثل، تحدياً صارخاً أمام الفكر الإسلامي والدعوة الإسلامية، ونحن أمام هذا التحدي لا يكفي فقط أن نبدي الغضب والاحتجاج، الأمر الذي يعيبه علينا المستشرقون، بل ينبغي علينا أن نأخذ الأمر مأخذ الجد ونرد الصاع بالصاعين.. وهو ما تجده في المقال التالي بعنوان (مناهضة الفكر الاستشراقي).
ــــــــــــــــــ
الدعوة إلى الله: "محمد شمس الحق"
=============(24/189)
(24/190)
الاستشراق والإسلام بين الموضوعية والتزييف
الاربعاء:13/08/2003
(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ غادة الجوابرة
أثارت الظاهرة الاستشراقية وما زالت تثير جدلاً حامياً بين مؤيديها ومعارضيها، بل إننا نستطيع الجزم بأنها أكثر المسائل إثارة للجدل والنقاش، وسوف تستمر هكذا ولأحقاب لاحقة، حتى يتم فهم هذه الظاهرة فهماً علمياً بعيداً عن التعصب والولاء.
وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".
بداية الاستشراق
ومعروف أن أول ترجمة غربية للقرآن الكريم كانت إلى اللغة اللاتينية، وقد تمت بإشراف رئيس دير كلوني بجنوب فرنسا سنة 1143 م، وقد أخفيت هذه الترجمة في الدير المذكور إلى سنة 1543 م حيث أظهرت، وطبعها لأول مرة تيودور بيلياندر، ثم اعتمدت واعتبرت الأساس الذي يترجم عنه إلى اللغات الأوربية.
وكانت الدراسات التي يجريها المستشرقون ولازالت تتم في مؤسسات لها مسحة أكاديمية، وقد انتشرت هذه المؤسسات في صور مراكز استشراقية تابعة لجامعات أوربية وأمريكية عديدة، وأصبحت هذه المراكز تحت أسماء وعناوين إسلامية.
والدراسة الموضوعية والمتأنية لكتابات المستشرقين في العصر الحديث منذ القرن التاسع عشر حتى الآن لتؤكد غلبة موقفهم المهاجم والمعادي من الرسو صلى الله عليه وسلم ومن القرآن الكريم .
وأكثر هذا نلمحه في كتاب تاريخ الإسلام لجامعة كامبردج، وهو كتاب ضخم اشترك في تأليفه عدد كبير من المستشرقين المعاصرين، صدر في جزأين سنة 1970 يردد ما يزعمه جميع المستشرقين منذ نشأة الاستشراق حتى اليوم، وهو أن الإسلام مزيج ثقافي مستعار من عدة ثقافات أخرى : يهودية، ونصرانية ، يونانية، وفارسية، بالإضافة إلى ثقافة بيئته الأصلية، وهي البيئة الجاهلية.
وطبعاً، كثير هم المستشرقون الذين هاجموا الإسلام، ونذكر على سبيل المثال المستشرق صموئيل مرجليوث في كتابه عن محمد وظهور الإسلام (1905 م) يزعم أن الرسو صلى الله عليه وسلم بادعائه الوحي قد ضلل الناس عمداً .
لكن هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟
في الحقيقية أن بعض المؤلفات الإسلامية المعاصرة تظهر بعض المستشرقين في العصر الحديث بأنهم موضوعيون أو منصفون، و تصف دراساتهم بأنها محاولات جادة نحو فهم الإسلام، وتقول بأنهم قاموا بتلك الدراسات دون تأثير عوامل سياسية أو اقتصادية أو دينية ، بل لمجرد ذوقهم وشغفهم بالعلم.
تيارات ثلاث
وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق إلى أن وصل إلى التدخل في تحديد مصطلح الاستشراق نفسه، فقد زعم الغرب في البداية أنه يريد استكشاف الشرق ليعطيه رسالته الحضارية، كونه أكثر حضارة، في الوقت الذي كان الشرق يرزح تحت نير التخلف، وبالتأكيد هذا القول هو ليبرر الاستعمار أمام شعوبه و حروبه وتحركاته الوحشية البعيدة عن الإنسانية عبر رسالة إيديولوجية تمس المشاعر الإنسانية، لذلك ادعى أنه صاحب رسالة حضارية، وأخذت بالتالي ممارساته صفة المشروعية، وكان أن جاء المضمون الاستشراقي ليخدم الاستعمار ومصالحه، فظهر عدد كبير من المستشرقين قاموا بالتشويه المتعمد بهدف نشر الإيديولوجية الاستعمارية، إذ جاءت دراساتهم بعيدة عن الدقة و الموضوعية، وأخذت موقف الإنكار للرسالة والتكذيب للرسو صلى الله عليه وسلم وإثارة الشبهات حول الإسلام بوجه عام، وحول القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بوجه خاص.
لكن الحقيقة بأن هذا أحد جوانب الاستشراق، إذ هنالك جوانب أخرى هامة تتعلق بالغرض الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التوفيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.(24/191)
أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية، وتيار المستشرقين الموضوعيين اتسم بأنه أعطى الفكر الحر القادر على الحكم الموضوعي، فقدم صورا رائعة ترصد الحضارة العربية والإسلامية وما قدمته من علوم ومعارف للعالم أجمع عبر التاريخ، وعندما أقرأ لهؤلاء المستشرقين أصاب بالدهشة لمدى الدقة والموضوعية التي اتصفوا بها، فقد استطاعوا الكتابة عن الشرق بما عجز عن كتابته بنفسه، وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، الذي قال فيه:
" الثقافة كانت عربية منذ بداياتها، تحت شلال نور آسيا المتدفق، ومن السماء التي تظلل نهر النيل كتبت جميع الدفقات القوية التي ولدت منها الحضارة العربية الكبرى التي بسطت منذ فجر الزمان معرفتها وآداب سلوكها".
وعن حالة التزوير والتشويه التي تعرضت لها الحضارة العربية حتى قبل ظهور الإسلام ذكر روسي: "إننا باختصار في جهل مطبق، جهل علمي متفق عليه، وإن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمنا بدلا من الساميين الأبطال المختلقين من أصل خيالي، لو أننا تكلمنا عن العرب ذلك الشعب الحقيقي، والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين".
كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية.
إذ قالت في كتابها: " لقد وجدت اللغة العربية تجاوباً من الجماعات، وامتزجت بهم وطبعتهم بطابعها، وكونت تفكيرهم ومداركهم وشكلت قيمهم وثقافتهم، وطبعت حياتهم المادية والعقلية، فأعطت للأجناس المختلفة في القارات الثلاث وجهاً واحداً مميزاً، حتى السلاجقة والأتراك والمماليك والتتار عندما وصلوا إلى الحكم ظلوا بقلوبهم رعايا مخلصين للثقافة العربية وللغتها، بل ولأساليب الحياة العربية وفكرها، حقاً إن قدرة هذه العقلية العربية على طبع الشعوب لرائعة".
الاستشراق والاستغراب
وأكدت د. نجاح أحمد أنه كي نفهم الاستشراق لابد من فهم المصطلح المقابل له وهو الاستغراب، أي علينا فهم العلاقة التاريخية بين الشرق و الغرب، المرتبطة بدورها بجدلية الداخل والخارج من حيث حجم القوة، فقالت: " طوال العصور القديمة والوسطى كان العرب القدماء أصحاب النظام العالمي، المتميز عن النظام الغربي الحالي بأنه كان إعمارياً، فأينما ذهب العرب شيدوا حضارة كاملة أكثر ما تجلت في الإعمار والبناء، وفي تعليم الزراعة والحرف والتجارة وقدموا الأبجدية التي هي نتاج حضارة متكاملة، وكانوا بحق أصحاب رسالة، وليس عبثاً ما يقال بأن مصر أم الدنيا، وسورية مهد الحضارات، والعراق الأصل البشري والحضاري، ومكة المكرمة مركز الكون.
شُكل النظام العالمي القديم من ثلاثي مصري ـ سوري ـ عراقي، هذا المثلث الحضاري كان المسيطر اقتصادياً وثقافياً وحضارياً، فعلم الحضارة للعالم في العصور القديمة والعصور الوسطى، ثم جاءت الدولة الإسلامية مؤلفة من المثلث نفسه إضافة إلى شبة جزيرة العرب، وأصبح هنالك نظام عالمي إسلامي مسيطر على العالم شرقاً وغرباً، يقوم على أساس جدلية الداخل والخارج ، حيث كان الداخل العربي قوياً سياسياً واقتصادياً، فأعطى العالم من إشعاع حضارته ونورها أكثر مما أخذ، وأثر فيه أكثر مما تأثر به، وانعكس ذلك على علاقة الاستشراق والاستغراب في العصور القديمة والوسطى، فكان الشرق هو المعطي والغرب هو المتأثر بحضارتنا، هذا لا يعني نفي مساهمة كل شعوب العالم في الحضارة، ولكن عندما نأخذ المعطيات ونجري المقارنة نجد أن العرب كانوا أصحاب اليد الأولى في هذه الحضارة والتيار المعتدل والموضوعي، يقول إن أصل النهضة الأوربية هي من المنطقة العربية، لكن في الفترة التالية حصلت متغيرات عالمية انتقل من بعدها مشعل الحضارة والنظام العالمي من العرب إلى أوربا. بعد أن قطع الأسبان والبرتغال الاحتكار العربي للطرق الاقتصادية العالمية بين الشرق والغرب، بمعرفتهم طريق رأس الرجاء الصالح عام 1488 واستعانتهم بابن ماجد للوصول إلى الهند، وكان ذلك بعد عشر سنوات،.. ثم جاء الاحتلال العثماني الذي هز الاقتصاد العربي في حين كان الغرب يعيش الثورة الصناعية والتقنية، وبالتالي أصبح الداخل العربي ضعيفا ومهلهلا، في حين كان الخارج الغربي يملك القوة، والأقوى يعطي أكثر مما يأخذ، فأصبح العرب متلقين للحضارة ومنفعلين غير فاعلين، وتعرضوا لهجمات تشوه حضارتهم وبعيدة عن مبادئهم، وأصابهم الإحساس بالدونية أمام القوة الغربية، في حين صار الغرب ينظر إلى المجتمع العربي بتعال، وهذا انعكس على مفهوم المستشرقين تجاه العرب الذين تخلفوا عن الركب الحضاري".
الاستشراق والدعوة الإسلامية(24/192)
وبالتالي هل للاستشراق دور في نشر الإسلام والدعوة الإسلامية في العالم الغربي؟
يقول الشيخ بسام عجك : " قام الاستشراق في مرحلته الأولى، ومرحلة الانبهار بالحضارة العربية والإسلامية التي شهد أثرها في الأندلس، فقام بدراسة العالم الإسلامي من خلالها وعندها ترجم الكثير من الكتب التي تبين عقيدة المسلمين وتاريخهم وأفكارهم وتقاليدهم إلى العالم الغربي، ويمكن أن نقول إن المستشرقين نقلوا صورة العالم الإسلامي من وجهة نظرهم إلى العالم الغربي، وكانت الكنيسة هي المسيطرة على حركة الاستشراق، إذ إن الاستشراق بدأ بأهداف ودوافع دينية بحته، ناتجة من خوف الكنيسة الغربية من الانتشار السريع للدين الإسلامي في كافة أرجاء العالم القديم، فبدأت بدراسة الإسلام في محاولة جادة لإيقاف زحفه، ثم كثرت مقاعد الدراسات الشرقية والعربية واللغوية واللغات الشرقية في العالم الغربي، في جامعاتها ومعاهدها ومدارسها ومراكزها البحثية، فقام المستشرقون خلال هذه الفترة الطويلة زمنياً بترجمة الكثير من تراث المسلمين في كل مجالات سواء كانت الدينية أو الثقافية أو التاريخية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو العلوم التقنية العملية كالكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات وغيرها، هذه الترجمة أدت إلى نوع من التوعية غير المباشرة للعالم الغربي، بأن هناك مجموعة كبيرة من البشر المسلمين، لهم ثقافتهم وتراثهم وتوجهاتهم، مع أنه يجب أن نذكر أن تلك الدراسات كانت تحذيراً للغربيين من خطر مخيف بالنسبة لهم وهو خطر الإسلام، هكذا كانت الصورة تعرض، ويمكن لنا أن نذكر بوضوح تام أن المستشرقين كانوا على ثلاثة أصناف، منهم المتعصبون الذين كانوا يكتبون بروح عدائية حاقدة، وكتاباتهم كانت تتسم بالهجومية الدائمة ضد الإسلام والمسلمين ومحاولة إلصاق أي تهمة سلبية بالمسلمين أو تحريف مقاصد الشريعة الإسلامية، أو فهم النصوص فهماً خاطئاً، ويمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال المستشرق اليهودي الأصل جولد زيهر وغيره من المستشرقين المتعصبين الذين كتبوا بروح عدائية لأن منطلق البحث عندهم كان منطلقاً عدائياً بالدرجة الأولى، إذ إنهم انطلقوا من نظرية أن الإسلام يريد أن يلغي وجود العالم الغربي، فبدؤوا يكتبون تجاهه بهذه النظرة العدائية، وهناك نوع آخر من المستشرقين المعتدلين، أو لنقل الإيجابيين الذين كتبوا بروح غربية، لكن كانوا أقرب إلى الموضوعية والنزاهة العلمية في بحثهم، وربما لم يسلم بعضهم، ويمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه " حضارة العرب " ، وهو الذي قدم كتابه بهذه العبارة التي قال فيها " لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب المسلمين ".
وهناك من المستشرقين من تأثر بالإسلام والمسلمين فاهتدى إلى دين الله عز وجل وأسلم وجهه لله سبحانه وتعالى، ولقد كتب من بين المستشرقين المعتدلين أو لنقل الإيجابيين أصحاب النظرة الموضوعية أو أقرب للموضوعية، المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد، ويعد هذا الكتاب من أفضل الوثائق التي يمكن أن يستفيد منها الباحثون في تاريخ نشر الدعوة الإسلامية ، فهو أولاً كتب بأيد غربية، أي لم يكتبه المسلمون، بالتالي لن يتهم المسلمون بأنهم كتبوا بنوع من التعصب أو الانحياز للإسلام والمسلمين، وهذه الأقلام الغربية اعتمدت على مصادرها وعلى كتبها، وعلى أسلوبها في البحث والدراسة، وهو يعد وثيقة تاريخية تؤكد كيف انتشر الإسلام في العالم القديم، وعلى أن الإسلام انتشر بالكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة، وأن شخصية الدعاة وقدوتهم الحسنة للناس من حولهم هو ما أثر في دخول الناس أفواجاً في دين الله عز وجل، ويذكر نماذج رائعة لهذا الانتشار السلمي للدعوة الإسلامية في العالم القديم، في بلاد "الملايو وإندونيسيا" وفي جمهورية السودان وحتى المحيط الأطلسي غرباً، هذه البلاد كلها دخلت في دين الله أفواجاً دون قوة السيف، وإنما بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة التي كان يمارسها الدعاة في نشر الإسلام بهذه الطريقة السلمية التي كانت تعتمد على قول الله عز وجل: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".
بالتالي يمكن أن نذكر أن هنالك من حاول نقل التراث الإسلامي بترجماتهم ودراساتهم للإسلام والمسلمين إلى العالم الغربي، وهذا بطبيعة الحال هو نوع من تعريف الآخرين بالإسلام، وإن كتب الكثير منه بروح سوداوية حاقدة على الإسلام والمسلمين ، لكننا لا يمكن أن ننسى أن الكثير منه أيضاً كتب بروح أقرب إلى الحيادية، واتسم بالموضوعية والعلمية في الدراسة.
==============(24/193)
(24/194)
الاستشراق والإسلام بين الموضوعية والتزييف
الاحد :10/08/2003
(الشبكة الإسلامية) دمشق ـ غادة الجوابرة
أثارت الظاهرة الاستشراقية وما زالت تثير جدلاً حامياً بين مؤيديها ومعارضيها، بل إننا نستطيع الجزم بأنها أكثر المسائل إثارة للجدل والنقاش، وسوف تستمر هكذا ولأحقاب لاحقة، حتى يتم فهم هذه الظاهرة فهماً علمياً بعيداً عن التعصب والولاء.
وقد وجدت تعريفات عديدة تحدد مفهوم الاستشراق وتحاول أن تعطيه أبعاده، و نوه الشيخ بسام عجك إلى أن تعريف الاستشراق مجملاً " هو دراسات وأبحاث قام بها غربيون .. تهدف إلى دراسة العالم الشرقي ولاسيما الإسلامي، ديناً وتاريخياً وحضارة وعادات وشعوباً، بهدف فهم حقيقة الإسلام، وقد نشأت منذ أكثر من ألف سنة في العالم الغربي، ومازالت موجودة حتى يومنا هذا، إلا أنها في الفترات الأخيرة بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في الظهور، باسم مستشارين اقتصاديين أو سياسيين أو لغويين يتبعون وزارات الخارجية والاقتصاد والمال والحربية في العالم الغربي، ومهمة هذه الدراسات فهم طبيعة العالم الإسلامي وتوجهات المسلمين، وذلك من أجل التعامل الغربي معهم".
بداية الاستشراق
ومعروف أن أول ترجمة غربية للقرآن الكريم كانت إلى اللغة اللاتينية، وقد تمت بإشراف رئيس دير كلوني بجنوب فرنسا سنة 1143 م، وقد أخفيت هذه الترجمة في الدير المذكور إلى سنة 1543 م حيث أظهرت، وطبعها لأول مرة تيودور بيلياندر، ثم اعتمدت واعتبرت الأساس الذي يترجم عنه إلى اللغات الأوربية.
وكانت الدراسات التي يجريها المستشرقون ولازالت تتم في مؤسسات لها مسحة أكاديمية، وقد انتشرت هذه المؤسسات في صور مراكز استشراقية تابعة لجامعات أوربية وأمريكية عديدة، وأصبحت هذه المراكز تحت أسماء وعناوين إسلامية.
والدراسة الموضوعية والمتأنية لكتابات المستشرقين في العصر الحديث منذ القرن التاسع عشر حتى الآن لتؤكد غلبة موقفهم المهاجم والمعادي من الرسو صلى الله عليه وسلم ومن القرآن الكريم .
وأكثر هذا نلمحه في كتاب تاريخ الإسلام لجامعة كامبردج، وهو كتاب ضخم اشترك في تأليفه عدد كبير من المستشرقين المعاصرين، صدر في جزأين سنة 1970 يردد ما يزعمه جميع المستشرقين منذ نشأة الاستشراق حتى اليوم، وهو أن الإسلام مزيج ثقافي مستعار من عدة ثقافات أخرى : يهودية، ونصرانية ، يونانية، وفارسية، بالإضافة إلى ثقافة بيئته الأصلية، وهي البيئة الجاهلية.
وطبعاً، كثير هم المستشرقون الذين هاجموا الإسلام، ونذكر على سبيل المثال المستشرق صموئيل مرجليوث في كتابه عن محمد وظهور الإسلام (1905 م) يزعم أن الرسو صلى الله عليه وسلم بادعائه الوحي قد ضلل الناس عمداً .
لكن هل من بين هؤلاء المستشرقين من اتصف بالموضوعية والإنصاف؟
في الحقيقية أن بعض المؤلفات الإسلامية المعاصرة تظهر بعض المستشرقين في العصر الحديث بأنهم موضوعيون أو منصفون، و تصف دراساتهم بأنها محاولات جادة نحو فهم الإسلام، وتقول بأنهم قاموا بتلك الدراسات دون تأثير عوامل سياسية أو اقتصادية أو دينية ، بل لمجرد ذوقهم وشغفهم بالعلم.
تيارات ثلاث
وهنا تقول أستاذه التاريخ د. نجاح محمد في موضوعية الاستشراق: " لا نستطيع أن نقول إن الاستشراق موضوعي بمجمله، كذلك لا نستطيع أن نقول بأنه مغرض بمجمله أيضاً، فالاستشراق لنحكم عليه تماماً يفترض أن نضعه ضمن سياقه التاريخي، وعبر هذه الرؤية نجد أنه احتوى على ثلاثة تيارات، الأول هو استعماري مغرض، يرتبط ببحث الاستشراق الاستكشافي، وبما يريده الغرب المستعمر من الشرق، والمصالح المأمول الحصول عليها من الشرق، وقد دخل هذا الغرض الاستعماري في كل ما يتعلق بأمور الشرق إلى أن وصل إلى التدخل في تحديد مصطلح الاستشراق نفسه، فقد زعم الغرب في البداية أنه يريد استكشاف الشرق ليعطيه رسالته الحضارية، كونه أكثر حضارة، في الوقت الذي كان الشرق يرزح تحت نير التخلف، وبالتأكيد هذا القول هو ليبرر الاستعمار أمام شعوبه و حروبه وتحركاته الوحشية البعيدة عن الإنسانية عبر رسالة إيديولوجية تمس المشاعر الإنسانية، لذلك ادعى أنه صاحب رسالة حضارية، وأخذت بالتالي ممارساته صفة المشروعية، وكان أن جاء المضمون الاستشراقي ليخدم الاستعمار ومصالحه، فظهر عدد كبير من المستشرقين قاموا بالتشويه المتعمد بهدف نشر الإيديولوجية الاستعمارية، إذ جاءت دراساتهم بعيدة عن الدقة و الموضوعية، وأخذت موقف الإنكار للرسالة والتكذيب للرسو صلى الله عليه وسلم وإثارة الشبهات حول الإسلام بوجه عام، وحول القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بوجه خاص.
لكن الحقيقة بأن هذا أحد جوانب الاستشراق، إذ هنالك جوانب أخرى هامة تتعلق بالغرض الثاني للاستشراق، وأصحابه ذوو الاتجاهات الموضوعية، وأصنفهم بين تيارين اثنين للاستشراق، الأول: هو التيار المعتدل التوفيقي الذي يوفق بين المصالح القومية، التي أصبحت مهيمنة لبلاده وبين الموضوعية العلمية.(24/195)
أما التيار الثاني: هو الموضوعي تماماً، فالحضارة الإنسانية ترتبط حتماً بالموضوعية، التي تستوجب العقل الحر القادر على إنتاج القيم والأحكام الحرة، غير المرتبطة بمصالح شخصية أو دينية أو سياسية أو اقتصادية، وتيار المستشرقين الموضوعيين اتسم بأنه أعطى الفكر الحر القادر على الحكم الموضوعي، فقدم صورا رائعة ترصد الحضارة العربية والإسلامية وما قدمته من علوم ومعارف للعالم أجمع عبر التاريخ، وعندما أقرأ لهؤلاء المستشرقين أصاب بالدهشة لمدى الدقة والموضوعية التي اتصفوا بها، فقد استطاعوا الكتابة عن الشرق بما عجز عن كتابته بنفسه، وهنا أخص بالذكر المستشرق الفرنسي بيير روسي في كتابه " مدينة ايزيس التاريخ الحقيقي للعرب" ، الذي قال فيه:
" الثقافة كانت عربية منذ بداياتها، تحت شلال نور آسيا المتدفق، ومن السماء التي تظلل نهر النيل كتبت جميع الدفقات القوية التي ولدت منها الحضارة العربية الكبرى التي بسطت منذ فجر الزمان معرفتها وآداب سلوكها".
وعن حالة التزوير والتشويه التي تعرضت لها الحضارة العربية حتى قبل ظهور الإسلام ذكر روسي: "إننا باختصار في جهل مطبق، جهل علمي متفق عليه، وإن الأمر سيكون بسيطاً جداً فيما لو أننا تكلمنا بدلا من الساميين الأبطال المختلقين من أصل خيالي، لو أننا تكلمنا عن العرب ذلك الشعب الحقيقي، والذي يمتلك وجوداً اجتماعياً مستمراً وجوداً ثقافياً ولغوياً يعطي حياة وتوازناً لهذا البحر المتوسط منذ عدة آلاف من السنين".
كما أخص بالذكر المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة المختصة بالحضارة الإسلامية والتي قدمت كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" رسمت فيه صورة رائعة عن الحضارة الإسلامية.
إذ قالت في كتابها: " لقد وجدت اللغة العربية تجاوباً من الجماعات، وامتزجت بهم وطبعتهم بطابعها، وكونت تفكيرهم ومداركهم وشكلت قيمهم وثقافتهم، وطبعت حياتهم المادية والعقلية، فأعطت للأجناس المختلفة في القارات الثلاث وجهاً واحداً مميزاً، حتى السلاجقة والأتراك والمماليك والتتار عندما وصلوا إلى الحكم ظلوا بقلوبهم رعايا مخلصين للثقافة العربية وللغتها، بل ولأساليب الحياة العربية وفكرها، حقاً إن قدرة هذه العقلية العربية على طبع الشعوب لرائعة".
الاستشراق والاستغراب
وأكدت د. نجاح أحمد أنه كي نفهم الاستشراق لابد من فهم المصطلح المقابل له وهو الاستغراب، أي علينا فهم العلاقة التاريخية بين الشرق و الغرب، المرتبطة بدورها بجدلية الداخل والخارج من حيث حجم القوة، فقالت: " طوال العصور القديمة والوسطى كان العرب القدماء أصحاب النظام العالمي، المتميز عن النظام الغربي الحالي بأنه كان إعمارياً، فأينما ذهب العرب شيدوا حضارة كاملة أكثر ما تجلت في الإعمار والبناء، وفي تعليم الزراعة والحرف والتجارة وقدموا الأبجدية التي هي نتاج حضارة متكاملة، وكانوا بحق أصحاب رسالة، وليس عبثاً ما يقال بأن مصر أم الدنيا، وسورية مهد الحضارات، والعراق الأصل البشري والحضاري، ومكة المكرمة مركز الكون.
شُكل النظام العالمي القديم من ثلاثي مصري ـ سوري ـ عراقي، هذا المثلث الحضاري كان المسيطر اقتصادياً وثقافياً وحضارياً، فعلم الحضارة للعالم في العصور القديمة والعصور الوسطى، ثم جاءت الدولة الإسلامية مؤلفة من المثلث نفسه إضافة إلى شبة جزيرة العرب، وأصبح هنالك نظام عالمي إسلامي مسيطر على العالم شرقاً وغرباً، يقوم على أساس جدلية الداخل والخارج ، حيث كان الداخل العربي قوياً سياسياً واقتصادياً، فأعطى العالم من إشعاع حضارته ونورها أكثر مما أخذ، وأثر فيه أكثر مما تأثر به، وانعكس ذلك على علاقة الاستشراق والاستغراب في العصور القديمة والوسطى، فكان الشرق هو المعطي والغرب هو المتأثر بحضارتنا، هذا لا يعني نفي مساهمة كل شعوب العالم في الحضارة، ولكن عندما نأخذ المعطيات ونجري المقارنة نجد أن العرب كانوا أصحاب اليد الأولى في هذه الحضارة والتيار المعتدل والموضوعي، يقول إن أصل النهضة الأوربية هي من المنطقة العربية، لكن في الفترة التالية حصلت متغيرات عالمية انتقل من بعدها مشعل الحضارة والنظام العالمي من العرب إلى أوربا. بعد أن قطع الأسبان والبرتغال الاحتكار العربي للطرق الاقتصادية العالمية بين الشرق والغرب، بمعرفتهم طريق رأس الرجاء الصالح عام 1488 واستعانتهم بابن ماجد للوصول إلى الهند، وكان ذلك بعد عشر سنوات،.. ثم جاء الاحتلال العثماني الذي هز الاقتصاد العربي في حين كان الغرب يعيش الثورة الصناعية والتقنية، وبالتالي أصبح الداخل العربي ضعيفا ومهلهلا، في حين كان الخارج الغربي يملك القوة، والأقوى يعطي أكثر مما يأخذ، فأصبح العرب متلقين للحضارة ومنفعلين غير فاعلين، وتعرضوا لهجمات تشوه حضارتهم وبعيدة عن مبادئهم، وأصابهم الإحساس بالدونية أمام القوة الغربية، في حين صار الغرب ينظر إلى المجتمع العربي بتعال، وهذا انعكس على مفهوم المستشرقين تجاه العرب الذين تخلفوا عن الركب الحضاري".
الاستشراق والدعوة الإسلامية(24/196)
وبالتالي هل للاستشراق دور في نشر الإسلام والدعوة الإسلامية في العالم الغربي؟
يقول الشيخ بسام عجك : " قام الاستشراق في مرحلته الأولى، ومرحلة الانبهار بالحضارة العربية والإسلامية التي شهد أثرها في الأندلس، فقام بدراسة العالم الإسلامي من خلالها وعندها ترجم الكثير من الكتب التي تبين عقيدة المسلمين وتاريخهم وأفكارهم وتقاليدهم إلى العالم الغربي، ويمكن أن نقول إن المستشرقين نقلوا صورة العالم الإسلامي من وجهة نظرهم إلى العالم الغربي، وكانت الكنيسة هي المسيطرة على حركة الاستشراق، إذ إن الاستشراق بدأ بأهداف ودوافع دينية بحته، ناتجة من خوف الكنيسة الغربية من الانتشار السريع للدين الإسلامي في كافة أرجاء العالم القديم، فبدأت بدراسة الإسلام في محاولة جادة لإيقاف زحفه، ثم كثرت مقاعد الدراسات الشرقية والعربية واللغوية واللغات الشرقية في العالم الغربي، في جامعاتها ومعاهدها ومدارسها ومراكزها البحثية، فقام المستشرقون خلال هذه الفترة الطويلة زمنياً بترجمة الكثير من تراث المسلمين في كل مجالات سواء كانت الدينية أو الثقافية أو التاريخية أو الفلسفية أو الاجتماعية أو العلوم التقنية العملية كالكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات وغيرها، هذه الترجمة أدت إلى نوع من التوعية غير المباشرة للعالم الغربي، بأن هناك مجموعة كبيرة من البشر المسلمين، لهم ثقافتهم وتراثهم وتوجهاتهم، مع أنه يجب أن نذكر أن تلك الدراسات كانت تحذيراً للغربيين من خطر مخيف بالنسبة لهم وهو خطر الإسلام، هكذا كانت الصورة تعرض، ويمكن لنا أن نذكر بوضوح تام أن المستشرقين كانوا على ثلاثة أصناف، منهم المتعصبون الذين كانوا يكتبون بروح عدائية حاقدة، وكتاباتهم كانت تتسم بالهجومية الدائمة ضد الإسلام والمسلمين ومحاولة إلصاق أي تهمة سلبية بالمسلمين أو تحريف مقاصد الشريعة الإسلامية، أو فهم النصوص فهماً خاطئاً، ويمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال المستشرق اليهودي الأصل جولد زيهر وغيره من المستشرقين المتعصبين الذين كتبوا بروح عدائية لأن منطلق البحث عندهم كان منطلقاً عدائياً بالدرجة الأولى، إذ إنهم انطلقوا من نظرية أن الإسلام يريد أن يلغي وجود العالم الغربي، فبدؤوا يكتبون تجاهه بهذه النظرة العدائية، وهناك نوع آخر من المستشرقين المعتدلين، أو لنقل الإيجابيين الذين كتبوا بروح غربية، لكن كانوا أقرب إلى الموضوعية والنزاهة العلمية في بحثهم، وربما لم يسلم بعضهم، ويمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه " حضارة العرب " ، وهو الذي قدم كتابه بهذه العبارة التي قال فيها " لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب المسلمين ".
وهناك من المستشرقين من تأثر بالإسلام والمسلمين فاهتدى إلى دين الله عز وجل وأسلم وجهه لله سبحانه وتعالى، ولقد كتب من بين المستشرقين المعتدلين أو لنقل الإيجابيين أصحاب النظرة الموضوعية أو أقرب للموضوعية، المؤرخ الشهير صاحب كتاب " تاريخ الدعوة إلى الإسلام" السير توماس آرنولد، ويعد هذا الكتاب من أفضل الوثائق التي يمكن أن يستفيد منها الباحثون في تاريخ نشر الدعوة الإسلامية ، فهو أولاً كتب بأيد غربية، أي لم يكتبه المسلمون، بالتالي لن يتهم المسلمون بأنهم كتبوا بنوع من التعصب أو الانحياز للإسلام والمسلمين، وهذه الأقلام الغربية اعتمدت على مصادرها وعلى كتبها، وعلى أسلوبها في البحث والدراسة، وهو يعد وثيقة تاريخية تؤكد كيف انتشر الإسلام في العالم القديم، وعلى أن الإسلام انتشر بالكلمة الطيبة والحكمة والموعظة الحسنة، وأن شخصية الدعاة وقدوتهم الحسنة للناس من حولهم هو ما أثر في دخول الناس أفواجاً في دين الله عز وجل، ويذكر نماذج رائعة لهذا الانتشار السلمي للدعوة الإسلامية في العالم القديم، في بلاد "الملايو وإندونيسيا" وفي جمهورية السودان وحتى المحيط الأطلسي غرباً، هذه البلاد كلها دخلت في دين الله أفواجاً دون قوة السيف، وإنما بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة التي كان يمارسها الدعاة في نشر الإسلام بهذه الطريقة السلمية التي كانت تعتمد على قول الله عز وجل: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة".
بالتالي يمكن أن نذكر أن هنالك من حاول نقل التراث الإسلامي بترجماتهم ودراساتهم للإسلام والمسلمين إلى العالم الغربي، وهذا بطبيعة الحال هو نوع من تعريف الآخرين بالإسلام، وإن كتب الكثير منه بروح سوداوية حاقدة على الإسلام والمسلمين ، لكننا لا يمكن أن ننسى أن الكثير منه أيضاً كتب بروح أقرب إلى الحيادية، واتسم بالموضوعية والعلمية في الدراسة.
=============(24/197)
(24/198)
تطور مدارس الاستشراق الألماني في القرن العشرين
الاثنين :09/04/2001
(الشبكة الإسلامية)
إن كلمة استشراق لم تعد تستعمل في ألمانيا اليوم بعد صدور كتاب ادوارد سعيد (الاستشراق) الذي يمزج بين الاستشراق والاستعمار. فالمصطلح المستعمل اليوم في ألمانيا هو الاستعراب والدراسات الإسلامية.
والاستشراق موضوع واسع ومتشعّب يتناول كل ما له علاقة بالشرق من حيث اللغة والأدب والتاريخ والدين والحضارة وما إلى ذلك. والشرق يقسم إلى ثلاثة اقسام: الأدنى - والأوسط - والأقصى . ونحن لا يهمنا منه هنا سوى ما له علاقة باللغة العربية ، والتراث العربي ، وبالإسلام.
لم تكن ألمانيا الدولة الأوروبية الأولي التي اهتمت بالدراسات العربية والإسلامية، إذ سبقتها دول أوروبية أمثال فرنسا وإنكلترا وهولندا.
ولعل الصفة البارزة للاستشراق الألماني أنه لم يزدهر نتيجة للاستعمار - كما هي الحال مع فرنسا وإنكلترا وهولندا التي كانت تستعمر أكبر دولة إسلامية هي أندونيسيا - أو يرتبط بأهداف دينية تبشيرية كسواه. والاستشراق الألماني يمتاز بالموضوعية والعمق. وساهم المستشرقون الألمان أكثر من سواهم بجمع ونشر وفهرسة المخطوطات العربية ، وخصوصاً كتب المراجع والأصول المهمة.
يقول الدكتور صلاح الدين المنجّد: "إن المستشرق الألماني وستنفلد نشر من تراثنا القديم ما يعجز عنه مجمع علمي" .
وإلى نشر المخطوطات، فإن أهم ما قام به المستشرقون الألمان وضع المعاجم العربية . فقد وضع فرايتاغ (1788- 1861) المعجم العربي - اللاتيني في أربعة أجزاء ، ثم وضع فيشر (1865- 1949م) معجماً للغة العربية الفصحي. وقاموس استاذي هانس فير (1909- 1981م) العربي - الألماني للغة العربية المعاصرة. وقاموس شراكل (1923م) الألماني - العربي الذي صدر سنة 1974م ، والقاموس الضخم للغة العربية الفصحى الذي عمل عليه اولمان (1931- ) في جامعة توبنغن . ولما زرته سنة 1980م كان وصل إلى حرف الكاف (ك) ، واليوم وبعد عشرين سنة انتقل العمل على هذا القاموس إلى جامعة ميونيخ ووصل إلى حرف الميم (م) . وأن العمل على هذا القاموس سيستغرق مائة سنة ونيّف على رغم الإمكانات التكنولوجية والمادية المتوافرة ، وعلى رغم أن الذي يعمل على هذا القاموس هو فريق عمل.
عندما نعرف ذلك ندرك كم هو عمل ابن منظور (630- 711هـ) واضع قاموس لسان العرب في (15) مجلداً وما يزيد على (8) آلاف صفحة - عمل مُعجز.
كما قام بعض الأساتذة من المستشرقين الألمان البارزين بالتدريس في بعض الجامعات العربية وخصوصاً في جامعة القاهرة أمثال: ليتمان وبرجستريسر وشاده وشخت . كما أن أول مدير للمكتبة الخديوية في القاهرة كان المستشرق الألماني شتيرن. وعُيّن بعض المستشرقين الألمان أعضاء في مجامع اللغة العربية ؛ تقديراً لما قدّموه من خدمات للغة العربية والدراسات الإسلامية.
لا بد لمن يتناول الاستشراق الألماني أن لا يُهمل ثيودور نولدكه (1836- 1930م) ، الذي اهتم بالأبحاث القرآنية ، إلى جانب اهتمامه بالشعر العربي القديم وخصوصاً المعلقات. وكذلك كارل بروكلمان (1868- 1956م) ، الذي اهتم بتاريخ الأدب العربي ، ووضع كتابه الشهير تاريخ الأدب العربي ، الذي ظهر الجزء الأول منه أواخر القرن التاسع عشر ، الذي عمل عليه طوال نصف قرن من الزمن ، ونقله إلى العربية بتكليف من جامعة الدول العربية ، عبدالحليم النجار ، ونشرته دار المعارف في مصر في ثلاثة أجزاء. وكتاب آخر مهم تركه لنا "بروكلمان" هو (تاريخ الشعوب والدول الإسلامية) ، الذي ظهر سنة 1939م ، ونقله إلى العربية نبيه أمين فارس ، ومنير بعلبكي سنة (1949- 1951م). وكتابه الرائد (قواعد اللغات السامية) في مجلدين ضخمين 1961م .
ويجب ألا ننسى أنّ وليتمان (1875- 1958م) ، الذي ترجم كتاب (ألف ليلة وليلة) إلى الألمانية في ستة مجلدات بأسلوب رائع ، وهي أول ترجمة كاملة لهذا الكتاب الهام ، الذي كان له تأثير كبير في اوروبا .
الاستشراق لا ينتهي بنهاية القرن ولا يتوقف . هو عملية مستمرة تتطور وتمر بفترات من الضعف والتراجع . ففي الثلاثينات من القرن العشرين أُصيب الاستشراق الألماني بانتكاسة عند مجيء النازية إلى الحكم ، وترك ألمانيا المستشرقون اليهود ، وبعض الألمان ، وذهب القسم الأكبر منهم إلى الجامعات الأميركية ؛ مما أعطى الدراسات العربية والإسلامية فيها دفعاً قوياً. وفي فترة الحرب العالمية الثانية أصاب الاستشراق الألماني ركوداً ؛ لانشغال بعض المستشرقين بالحرب ، ومقتل البعض منهم فيها.
ولكن بعد الحرب العالمية الثانية أخذ الاستشراق الألماني يستعيد نشاطه. وهنا حصل شيء جديد جاء نتيجة لتقسيم المانيا إلى قسمين: الغربية والشرقية. ففي ألمانيا الشرقية DD r سابقاً أخذ الاستشراق منحى جديداً ، وأصبح يركز على الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية ، وعلى مواضيع حديثة لم يكن الاستشراق الألماني التقليدي يوليها كبير اهتمام.(24/199)
جمعية المستشرقين الألمان هذه الجمعية تعد من أبرز الجمعيات الاستشراقية في العالم ، أسسها المستشرق فلايشر سنة 1845م في مدينة هالّه على غرار الجمعيتين الآسيويتين الفرنسية والبريطانية. وما زالت حتى اليوم تواصل نشاطها في جمع شمل المستشرقين الألمان ، وإقامة المؤتمرات الدورية ، ودراسة التراث العربي ، ونشر كنوزه. وانتقل مقرها بعد الحرب العالمية الثانية أي سنة 1948م من مدينة هالّه إلى مدينة ماينس ، ولكنها عادت بعد أن توحدت ألمانيا إلى مقرها القديم في مدينة هالّه. وبدأت في عقد اجتماعها الثامن والثلاثين في 26- 30 آذار - مارس الجاري. وهذه الجمعية تنشر مجلة مهمة تُعنى بالدراسات الشرقية ، هي مجلة المستشرقين الألمان ZDMG منذ سنة 1847م . يسهم فيها كبار المستشرقين الألمان وتصدر مرتين في السنة. يتولى الإشراف عليها المستشرق تلمان ناغل 1942م الأستاذ في جامعة غوتنغن.
وتضم جمعية المستشرقين الألمان اليوم أكثر من (600) عضو ، منهم أعضاء من غير الألمان ممن درسوا في الجامعات الألمانية وتفاعلوا مع الدراسات الشرقية.
ومن بين أعضائها أعضاء شرف ، منهم إحسان عبّاس ، ونقولا زيادة. ولا بد لنا من ذكر مجلة الإسلام التي أسسها الأستاذ بيكر سنة 1910م في هامبورغ ، وتُعنى بعرض أبرز المؤلفات المتعلقة بالتاريخ والأدب والمجتمع الإسلامي.
وهناك أيضاً مجلة عالم الإسلام التي أسسها كامبفماير في برلين سنة 1913م وهي تُعنى بالعالم الإسلامي عموماً. ومجلة أوريانس أسسها الأستاذ ريتر في اسطنبول سنة 1948م ، وتُعنى بالدراسات العربية. وهناك مجلات أخرى لا يتسع المجال لتناولها.
المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت
تأسس هذا المعهد سنة 1961م ، وهو تابع للجمعية الألمانية للدراسات الشرقية ، وهو أول معهد يجري تأسيسه خارج ألمانيا.
كان صاحب فكرة تأسيس هذا المعهد أستاذي هانس فير ، الذي كان أمين سر جمعية المستشرقين الألمان وكان يود أن يؤسس هذا المعهد في دمشق ؛ على اعتبار أن دمشق أقدم عاصمة عربية ، وهي مدينة عربية عريقة. يومها كانت الوحدة بين سورية ومصر. ولما تقدمت ألمانيا بطلب الموافقة على إنشاء هذا المعهد في دمشق اشترطت حكومة الجمهورية العربية المتحدة أن يعين مدير عربي إلى جانب المدير الألماني ، ولما كانت جمعية المستشرقين الألمان لا ترى ضرورة لذلك ؛ لأن هذا المدير المحلّي لن يكون له أي عمل يقوم به ، عندئذ تقدمت الحكومة الألمانية بالطلب إلى الحكومة اللبنانية التي لم تشترط مثل هذا الشرط فتقرر إنشاء المعهد في بيروت. وتأسس في 1/5/1961م ، وكان يُشغل شقة في الطابق الثاني في بناية الصمدي ، شارع مدام كوري بالقرب من فندق البريستول - وهي البناية التي سكن في الطابق الأول منها الشاعر الكبير عمر أبو ريشة - ثم انتقل إلى مركزه الحالي في فيلا مود فرج الله ، في زقاق البلاط شارع حسين بيهم.
أول مدير للمعهد كان هانس روبرت رويمر (1915- 1997م) ، ثم تعاقب على إدارته عشرة مستشرقين ، من بينهم مستشرقتان ويتولّي إدارته اليوم الأستاذ الدكتور مانفرد كروب. وبسبب الأحداث في لبنان اضطر العاملون فيه إلى تأسيس مركز في اسطنبول ، أصبح منذ سنة 1987مفرعاً مستقلاً .
وهذا المعهد الذي يضم مكتبة ضخمة ، ويهيّئ الجو للباحثين الألمان للعمل فيه ، يقوم بنشر سلسلة من الكتب تعرف بـ نصوص ودراسات بيروتية ، صدر أولها سنة 1964م ، وهو دراسة لي عن اللهجة اللبنانية ، هي الأولى باللغة الألمانية - وفاق عددها الـ75 كتاباً .
ويُعنى المعهد كذلك بإصدار المكتبة الإسلامية ، وصدر منها ما يزيد على الخمسين كتاباً.
يجب ألا نتوقع أنه بنهاية القرن العشرين طرأ تغير جذري على الدراسات العربية والإسلامية في ألمانيا. في الواقع استمرت هذه الدراسات ناشطة ، وإن يكن من جديد طرأ عليها فهو التخصص من جهة ، وكثرة عدد الشبان والشابات الذين أخذوا يهتمون بها ويُقبلون عليها اليوم مما استوجب تأسيس جامعات جديدة. إذ يوجد في ألمانيا اليوم أكثر من (25) جامعة تُعنى بالدراسات العربية والإسلامية . وأن هذه الجامعات أخذت تهتم إضافة إلى المواضيع القديمة ، بالمواضيع الحديثة مثل دراسة اللهجات العربية المحكية ، والأدب العربي المعاصر من شعر ونثر، وبالقضايا السياسية ، والتيارات الفكرية وبالقضية الفلسطينية ، وبالمجتمع العربي والإسلامي .
ما هو مستقبل الاستشراق الألماني؟
يعتقد البعض أن الاستشراق إلى ضمور، أنا لا أرى أن الاستشراق سيضعف ، بل إنه سينمو ويتطور ويتناول مواضيع جديدة .
ففي السنوات الأخيرة أخذ الاستشراق الألماني يركّز على العالم العربي المعاصر ، ودراسة اللغة المعاصرة ، واللهجات العربية ، إلى جانب اللغة الفصحى واللغات الساميّة، ويهتم بمتابعة التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد العربية، ومن هنا كثر هذا النوع من الدراسات الاجتماعية والسكانية والجغرافية .
أضف إلى ذلك الاهتمام بالأدب الحديث ، وبالدراسات اللغوية المعاصرة ، وهو ما يعرف بالألسنية .(24/200)
ولكن ذلك لا يعني أن الاستشراق سيتخلى عن الدراسات القديمة ، كاللغة ، والتراث ، والإسلام ، والتاريخ القديم .
وبتنا نجد شيئاً من التخصص في هذا الحقل ؛ إذ أن بعض الجامعات باتت تُعنى ببعض الجوانب ، وتركز عليها من دون سواها .
كما أن عدد الجامعات التي تُعني بالدراسات العربية والإسلامية أخذ يتزايد . ففي العقود الأخيرة تأسست جامعات عدة أخذت تلبي حاجات الطلاب الذين يُقبلون على الدراسات الاستشراقية ، ويمكن تصنيفهم إلى ثلاث فئات:
1- الطلاب الألمان الذي يتخصصون باللغة العربية والإسلام.
2- الطلاب الألمان أو العرب الذين يدرسون العربية كمادة فرعية إلى جانب تخصصهم بالعلوم السياسية والاقتصادية أو سواها.
3- أولاد المهاجرين المسلمين ، وفي غالبيتهم من الأتراك الذين ولدوا في ألمانيا ممن يقدمون على دراسة اللغة العربية والإسلام للإطلاع على دينهم .
هذه لمحة سريعة عن الاستشراق الألماني المُشرق ، الذي سيبقى في يقيني محافظاً على تفوّقه وتفرّده
صحيفةالحياة:العدد13
=============(24/201)
(24/202)
في دائرة الضوء
مجلة البيان - (ج 87 / ص 100)
نهاية الاستشراق القديم وبداية عهد جديد
محمد حامد الأحمري
هناك من يحبون استدبار الحوادث إذا استقبلتهم، فيقررون الغياب عن الزمان والناس والأفكار مرعوبين من الجديد، ليعيشوا في زمن معروف، ومع أقوام معروفين، وأفكار معروفة، وهم إن عادوا إلى تلك المدارس والأشخاص وجاؤوا بجديد فلا تثريب عليهم، ولكن اللوم على أولئك الذين يعيدون الهجرة إلى الماضي القريب ويريدون أن نذهب معهم مرة أخرى إلى عوالم معروفة لنا ولهم، مدروسة، مكرورة، مملولة، ثم هم لا يبدعون في رؤيتهم جديداً، ولا يمتعون عقولنا وأذواقنا بشيء، يزعمون أن جهدهم الجهد وقولهم الفصل ـ وإن كان قد دُرِسَ حتى دَرس ـ.
إن تكن طالت عليك المقدمة، فقد أودعتها جزءاً من القضية؛ لأن جمعاً من قومنا لفتوا الانتباه هذه الأيام إلى العودة لأعمال الحركة الاستشراقية فيما قبل قرن ـ يزيد أو ينقص قليلاً ـ، ويعيدون الحديث عن الأسماء نفسها، والكتب ذاتها، ويختصرون أو يشرحون كلام المعقّبين على الحركة تلك، ويقولون ما قاله عمر فروخ أو الخالدي أو العقاد أو الجندي، بل وللأسف ليس لبعض هؤلاء المتحدثين اليوم اطلاع الناقدين السابقين، ولا يملكون الوسائل اللازمة لدراسة الاستشراق، وأولها لغاته ومناهجه.
وتكتب كتب، وتعقد دراسات، وتقام ندوات... بلا جديد، ويشتغل طلاب الجامعات العربية الإسلامية في اجترار الماضي بلا زيادة.
ولم لا يسأل هؤلاء المستغرقون في الأبحاث القديمة.. لم لا يسألون أو يهتمون بحركة الاستشراق الجارية الآن، هل هناك استشراق اليوم؟! ما هو؟ وماذا فيه؟ ما قديمه وما جديده؟ ومن هم رواده؟ وماذا يريدون؟!.
وهذه هي المحاولة أو المغامرة العسيرة على عقول ومعارف كُتّابنا، بعضهم ليسوا كتاباً ولا باحثين.. إنهم قُراء قديم بلا مواهب، أفلا يكتفون بأن يكونوا قراءً وكفى!، ونعْم العمل، أمّا أن يقنعونا أنهم عرفوا ما كتب قبل خمسين عاماً أو تزيد، عرفوا الاستشراق ودرسوه، فهذا لا جديد فيه، ولا يستحق أن يقنعونا به أو يقولوا لنا إن بعض قومنا قديماً تأثروا بالاستشراق ـ أو لم يتأثروا ـ ويعيدوا علينا الاعتراضات نفسها والسياقات القديمة عينها.
كان الأولى بنا أن ندرس ظاهرة الاستشراق المعاصر، ونحددها في مستجداتها، وندرس أعمالها مباشرة، وأعمالها اليوم بخاصة ـ دون إغراق في قديمها ـ وألا نخشى من التحول إلى دراسة ما جد عندهم كما درسوا هم ما جد عندنا.
الجديد في الاستشراق:
والذي طرأ على تلك المدرسة في العقود الأخيرة تطور مهم، فإن ما يسمى استشراقاً أو مدرسة استشراقية ذات اهتمام علمي ثقافي في غالبه،وسياسي اجتماعي في بعض جوانبه ـ كما عهدناه ـ، قد انتهت كثير من تلك الجوانب ولم تعد أولوية في الاستشراق الحديث، بل تحول اليوم إلى عمل سياسي اجتماعي متخصص يهتم بمراقبة ودراسة الأوضاع السياسية والأشخاص والأحزاب والأفكار السياسية والعوامل الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية دراسة وافية، ووضع حلول لها!!.
فقد قرر المستشرقون منذ قرابة عشرين عاماً أنّ العمل العلمي الثقافي في بلاد المسلمين وتراثهم ليس بذي جدوى ولا أهمية، بل هو ضياعٌ للوقت والجهد، فليس لدى العرب والمسلمين أفكار ولا كتب ولا آداب تستحق الدراسة والجهد، والقليل الذي يحتاجون له نقلوه إلى لغاتهم ـ وبخاصة الإنجليزية ـ كتاريخ الطبري، ومقدمة ابن خلدون، ورسالة الشافعي وأعمال المتصوفة! والفلاسفة والشعراء الكبار.. ونحوها، والكتاب المعاصرون العرب ليس لديهم ما يستحق القراءة، وإذا حدث فسوف يكون عمله مترجماً بلغة غربية في زمن قياسي، والمؤلف العربي يحرص على ترجمة أعماله إلى لغات غير العربية، وهذا يسهل عمل من يتابع أفكارنا منهم، وهم يترجمون ما يحتاجونه حتى بعض الأشرطة السمعية، فلماذا يضيعون وقتاً طويلاً في دراسة الكتب الإسلامية القديمة مع معاناة مشكلة اللغة العربية؟.
لذا: اتجهوا اتجاهاً سياسياً عارماً، وقطعوا الاهتمام ـ أو أغلبهم ـ بالقضايا العلمية والفكرية إلا بمقدار ما تحقق أثراً سياسياً مباشراً.(24/203)
واليوم: شخص مثل برنارو لويس اليهودي المؤرخ الشهير الذي كتب عن الشرق الأوسط، والحشاشين، والأتراك، وترجم عن العربية مقتطفات تاريخية وأعمالاً عديدة ذات طابع علمي، ولّى وجهه منذ زمن نحو السياسة، وأشرف على معهد الدراسات اليهودية في جامعة (برنستون)، ثم تفرغ للكتابة السياسية، ويكتب عن: العرب والإسلام، واللغة السياسية في الإسلام، والإسلام والغرب، وصياغة المشرق الإسلامي الجديد،ويعمل لإعداد جيل من السياسيين اليهود الأمريكيين ليُخترق العالم العربي بشكل أكبر، ويقدم محاضرات سياسية واستشارات في الهدف نفسه متخذاً من قضية أمته وقومه اليهود قضيته، ورمى بالتاريخ إلى الوراء، ولا قيمة للتاريخ عنده إلا دوره في الحاضر والمستقبل ـ وهذه أهم مهمة للتاريخ حقاً ـ، وهو من أصحاب النظرية المركزية اليهودية في غرب آسيا، حيث يرى أن على إسرائيل أن تحكم منطقة وسط وغرب آسيا، من الجمهوريات الإسلامية إلى النصف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وأن على الغرب أن يترك هذه المنطقة لها وحدها؛ فإسرائيل هي القادرة عقلياً وسياسياً ومالياً وعسكرياً على القيام بذلك في إدارة يسندها تحالف أمريكي مباشر ويربط هذا باستراليا ـ كما شرح في مقال له شهير عن مستقبل المنطقة، ونشره في مجلة الشؤون الخارجية ـ.
ومثل آخر هو: جون إسبوزيتو ، يتجه لدراسة الإسلام المعاصر والحركات الإسلامية المعاصرة، ويقيم علاقات مباشرة مع الإسلاميين وجمعياتهم وزعاماتهم ليدرسها عن قرب، ويقدم الكتب من أمثال التهديد الإسلامي، أسطورة أو حقيقة، وبدأت أعداد كبيرة من الشباب تهتم بهذه الموضوعات. ويقدم هؤلاء الاستشارات والتوجيهات للحكومات الغربية كما كان يفعل السابقون في زمانهم.
ولعل أعمالاً سابقة كعمل مالك بن نبي وحديثه عن المستشرقين من معاصريه، أو عملاً كعمل السباعي عن مستشرقي زمانه ومقابلاته لهم: كانت أعمالاً حية مواكبة للحركة في وقتها، مؤثرة في قرائها آنذاك ولم تزل، ولكنها لا تصلح لتكون مادة دراسة الحركة في زماننا هذا ـ ولا القادم ـ لأنها أصبحت في معظم مادتها تاريخاً فكرياً لا فكراً معاصراً جارياً.
اليوم يطلب الأساتذة في الجامعات الغربية أن تكون الأبحاث في الجامعات عن الحركة الإسلامية المعاصرة!، عن الأفكار الجديدة والمؤثرة على الشباب في العالم الإسلامي وتطلعاته، ولعل من اطلع على كتاب انتقام الله الذي ترجم بعنوان يوم الله للكاتب الفرنسي جيل كيبل وكتابه النبي والفرعون يلاحظ مدى المتابعة للوعي الإسلامي في بلادنا، والكتب التي يقرؤها الشباب المسلم، والأشرطة التي يستمعونها، عن الرجال المؤثرين فيهم، المواقف التي تستفز الشباب المسلم!!، وكيف يمكن أن يواجه ويُغوى عن هدفه ويُشغل بمعارك هامشية جانبية تؤكد غياب الأمة عن دورها وعن قضاياها وتغرق فيما يتمنى لها عدوها، وللأسف يقع بعض المسلمين ـ عن قناعة أو جهل ـ في شباك الإغواء أو النقاش البيزنطي الذي غدا مثلاً، ليس لأنه في ذاته خطأ فقط، وإنما لأنه أيضاً زمنياً خطأ أكبر، كان ملهاة عن الجيوش الغازية على الأبواب، كان مشغلة عن المعركة، ونحن نختار أحياناً إحياء الطريقة البيزنطية نفسها ـ ولكن لا نسميها جدلاً بيزنطياً أو جدلاً لا فائدة منه ـ مع أننا منهيون عنه، ولأنه هو البديل عن العمل: فقد نضفي على جدلنا هالات من الأهمية والخطورة والمنهجية، فتكسب نقاشاتنا أهميتها من الألقاب التي نلقيها عليها، وليس من حقيقتها ولا من مكانتها في الدين أو السياسة أو المجتمع أو التاريخ، وهذه مضيعة للوقت والجهد، وسبب في صرف اهتماماتنا عن معرفة حال المسلمين الذين هم بأشد الحاجة إلى الالتفات لمصائبهم ولأعدائهم المحدقين بهم، ولتصحيح أفهامهم وأفكارهم وعقائدهم، فهم لا يدرسون حياة الشعوب المجاورة لهم، ودورها في حياتهم، ولا يدرسون الإسلام بالطريقة التي بعثت الحياة في قلوب السابقين من الأمة، إذ كان الإسلام لأتباعه: طريق عزة وكرامة للفرد وللأمة، واستقلالاً عن ضغط الأعداء، وعدالة في الداخل، ووحدة في التوجه، وتكاملاً في التخصصات، وحيوية غامرة، وتطلعاً لمعالي الأمور وذروة سنامها.(24/204)
التفكير عند سلف الأمة ليس إغراقاً في تاريخ كسرى وقيصر ولا في جاهلية العرب وأقوالهم، وليس تمحكاً وتحكيكاً وافتعالاً للخلاف الداخلي بين المسلمين أشخاصاً وأفكاراً، وكتب الملل والنِحَل لم تكن همّ المسلمين وهدفهم، بل كان عملهم دعوة الناس وهدايتهم، عملهم هداية من ترون من أعماق الصين إلى نهاية الغرب، وليس لكلام زال وزال تأثيره ماضياً كان أو معاصراً، بل معرفة بالدين، ثم معرفة بالحال الحالّة بأنفسهم وعدوهم وكيف يواجهونها، وبذل الطاقة والجهد لهذا، لا لعلاج مشكلة ماضية، ولا لتوهم أو افتراض مشكلة في داخل الأمة.. ثم البحث عن حل مفترض كذلك. هذه السلبية في الهروب من مواجهة الحياة والعدو طريق العاجزين ومنحى الجاهلين، لأن كل شيء منها سهل ممكن النقاش مدروس سابقاً، أو هو طعن للأمة من الخلف لا يكلف سوى استثارة وإيهام بشبهة أو ترويع مروع، فيجن خوفاً وهلعاً ويضحي بأهل داره خوفاً من عدو متخيل من الداخل، وإذا كان قد ولى أولئك أو تركوا ما كان يسمى استشراقاً في عمومه واختصوا بعمل محدد ـ عمل سياسي مجرد ـ، فإن مواقعهم الآن احتلها مجموعة من العرب الذين نشؤوا عرباً في بلاد عربية ـ بغض النظر عن أصلهم ـ، ولكونهم غرباء في المجتمع العربي، لن يجدوا موقعاً سياسياً يتناسب مع معرفتهم بالعرب، فقد قاموا بالعمل التشويهي نفسه، بل أسوأ بكثير مما كان يعمله المستشرقون؛ فها قد رأينا مستشرقين أمثال عزيز العظمة و أركون، وهؤلاء المستشرقون العرب توفرت لهم إمكانات لم تتوفر للطبقة الاستشراقية الغربية المعاصرة؛ فمهارتهم في العربية ـ التي كانت تقف عائقاً لكثير من الغربيين ـ لم تعد اليوم عند هؤلاء مشكلة، ثم: أزمة عقدتهم الفكرية والسياسية ـ حيث لا يجدون من يحترم كتاباتهم في العالم الغربي ـ تزيد من حقدهم على الإسلام والمسلمين والسخط على الأمة وتشويه تاريخها واحتقار تفكيرها وقراءته بعين غربية حاقدة، وثم: عقدة كونهم مستغربين على هامش الغرب يزيدهم محاولة إثبات أنهم غربيون أكثر من الغرب، فتجعلهم عقدة النقص هذه أشد ضرراً على المسلمين من المستشرقين الغربيين.
والأولى بنا أن نعلم أن الاستشراق ليس تاريخاً ماضياً، ولكنه أيضاً سياسة قائمة يومية متجددة.. نجد أنفسنا وثقافتنا فيها من خلال لغاتها مباشرة، وأعمالها ومؤتمراتها وأبحاثها وقرارات الحكومات المبنية عليها.
ونحن لو اتجهنا نحو هذه المدرسة بهذه القناعة، أو على الأقل واجهناها بهدف معرفتها ومتابعتها عن قرب ـ متابعة مؤلفاتها ومقالاتها ودراساتها وتقاريرها ـ، لوجدنا في الحاضر ما يغني عن كثير مما قيل في الماضي، ولساعدنا ذلك على فهم العالم الذي نعيش فيه، ولساهمت هذه الدراسة الواعية والمراقَبة الجادة في تطوير العقول والعلوم والأفهام وإنضاج مجتمعنا سياسياً، وإنضاج أساتذة الجامعات لدينا والشباب المسلم ليخرج واعياً لعصره، فاهماً لصديقه وعدوه، يعرف كيف يتعامل مع مفكري عصره وعالَمهم، لأن تدريس الاستشراق بالطريقة الفكرية التاريخية الموجودة الآن قد تساهم في عمل تغفيلي غير مقصود، ولكنه يساعد في عملية تركيز الجهل بالحاضر والإغراق في الماضي، وإقرار الخروج عن مسار العمل والفكر المعاصر، والعودة إلى عهد المِلَل والفرق الهالكة، يجعله يناقشهم وكأنهم فرقة إسلامية انتهت منذ العصر العباسي، ولا يتعامل معهم كبشر وفكر يعمل ويعيش معه في نفس الزمن، يناقشه ويكيد له ويحاربه ويصالحه ويخادعه في نفس الوقت.
لا بأس من دراسة تمهيدية للاستشراق مثل دراسة محمود حمدي زقزوق الجيدة، أو دراسة قاسم السامرائي تكون البداية منها، ثم بعد ذلك تكون المتابعة لما يحدث الآن.
طريقة المواجهة:
وهل يمكن أن تقوم محاولة جادة لاختراق وعي الحاضر الغربي والصورة الموجودة للإسلام والمجتمعات الإسلامية هناك؟، وهل يمكن أن تعطي أعمالنا وكتبنا تصوراً عنا نحدده نحن ـ ولا يُحَدد لنا ـ وحسب ما نريد؟، على فهمنا: فليسوا كلهم حاقدين، وليسوا كلهم صليبيين مغرضين، بل منهم من يريد الحقيقة كما أن منهم من أسلم في الماضي، ولكن.. هل نملك القدرة أيضاً على صرف النظر عن التفكير من خلال التهم والدفاع عن ذاتنا! بطرق مباشرة أو غير مباشرة؟.(24/205)
وإذا كان المقصود الهداية ـ هداية مجتمعاتهم ـ فهل بإمكاننا غزو المكتبة الغربية بكتب جديدة مترجمة أو مؤلفة يقرؤها هؤلاء المستشرقون ويقرؤها المجتمع الغربي عموماً؟، وسوف تعين هذه الكتب بالدرجة الأولى هذه الجماهير المسلمة التي تعيش وتفكر من خلال مكتبة غربية حاقدة ومضادة، ونحن نملك بعض! المعرفة الجيدة في الإسلام، فلم لا نحولها إلى عمل جاد في اللغات الأخرى، يحيي صورة الإسلام الحقيقي، وينشر الوعي به، ويقلل من تيار الهجوم العنيف ضده وضد أهله؟ ونتخلص من عقدة ماذا قالوا عنا قبل قرن أو قرنين؟! ولنجعلهم يسمعوا لنا الآن، ثم: ألا نقوم بدراسة جادة للفكر الغربي مباشرة بلا وسائط ونجعله مادة دراسة؟، لم لا نفكر في قلب الموضوع وتغيير الاتجاه؟، لماذا نحن خائفون فزعون من دراسة ما عندهم وبخاصة النخبة منا؟، لم لا نتحدث عما لديهم عن خرافات وأكاذيب.. وإيجابيات قد تكون مفيدة؟ وبخاصة أن الإغراق في الاستشراق لا يقدم فائدة، فهؤلاء المستشرقون ـ غالباً ـ نكرات في بلادهم وفي ثقافتهم، ميزتهم كتابة تقارير عنا.. وماذا تصنع تجاه كاتب التقارير؟!، هل تصرف جهدك لكتابة تقرير عنه، أم تنصرف لعملك وهمك؟ وإذا فهمت ماذا كتب عنك، فهذا كل الذي تريد حتى تعرف ما هو موقع قدمك في عمل دائم جاد ومؤثر ومهم. فمعرفة الاستشراق أداة وليست غاية.
إن علماء الإسلام ـ عبر القرون ـ درسوا التوراة والإنجيل وعقائد الفرق الأخرى، وحاجّوا علماءهم، بل أسلم بعضهم بعد نقاشات ودراسات ومجادلات أدت بأن يؤلف بعضهم ـ الذين أسلموا ـ كتباً في نقد ديانة قومهم، لماذا ألجأنا الخوف والضعف الفكري إلى الانكماش وضرب أسوار الحديد حتى على القادرين!!
دراسة الاستشراق بالطريقة الموجودة طريقة عقيمة لا فائدة منها، فنحن في حاجة إلى متابعة جادة للجديد ومواجهته بموقف من جنسه، وهذه الدراسة غير مسموح بها في أكثر مناطق العالم الإسلامي، فأين الدولة التي تسمح لجامعاتها بدراسة السياسة والمجتمع الغربي، ثم بناء سياسة ذلك البلد الإسلامي مع الآخر بناءً على معرفة علمية وسياسية صادرة عن جامعة عربية أو مركز للدراسات المستقبلية؟!، وما دام هذا الأسلوب العلمي غير مسموح به في بلاد العالم الإسلامي فقد يكون الحل هو دراسة فكر الغرب ودياناته ونقدها بلغتنا، وهذا هو الرد العملي الموازي للاستشراق؛ إن كتاب الدكتور حسن حنفي عن الاستغراب والذي هدف إلى نقل المواجهة إلى ساحتهم قد يكون مثالاً لجانب من جوانب المعرفة بالفلسفة الغربية، ولكنه لم يَخْلُ من شطحات فلسفية وتلمذة لمدارسهم، وليس عندنا إلى الآن أعمال نقدية للفكر الغربي مشابهة لما يخرج عندهم ينقد أفكارهم، أما ضياع الجهد في اتهام المستشرقين وتلاميذهم وإثبات انحرافهم وخداعهم فحسب فلا فائدة منه، إن علينا أن نتخلص من عقدة الخوف من فكرهم ومن ثقافتهم، وأن نواجه ثقافتهم بتنمية ثقافة جادة لنا، وناقدة لخصومنا، وننقل ميدان النقاش إلى هناك، ونتخلى عن عقدة النقص حين نضع دائماً ديننا وأمتنا مادة للنقاش والاتهامات، ولا يعني هذا أن نكتب هجاءً سطحياً لهم كما فعل كثير من المستشرقين تجاهنا، بل ليكن عملنا علمياً، مفيداً لنا ولهم، ومنقذاً لهم من الضلال..، وكل هذا لا يعني عدم معرفة الاستشراق، بل نريد المعرفة التي تسوق وتدفع إلى مواجهة ثقافة بثقافة وعلم بعلم.
=============(24/206)
(24/207)
البيان الأدبي
مجلة البيان - (ج 111 / ص 46)
حوار
حوار مع د. حسن الأمراني
حول مرجعيات الاستشراق المعاصر
أجرى الحوار: محمد بن عمر
توطئة:
تعد ظاهرة الاستشراق من أبرز الظواهر الثقافية التي تبقى مفتوحة للسؤال والقراءة؛ لأن أغلب الأسئلة التي تؤسس هذه الظاهرة الثقافية هي من نوع الأسئلة التي يغلب عليها طابع الإثارة والإغراء بالمتابعة.
لكن أكثر أسئلة الاستشراق إثارة واستفزازاً هي تلك الأسئلة التي اختارت التعايش مع لحظة السقوط الحضاري وتجربة الانهيار الغريب التي عاشتها الأمة الإسلامية.
لقد كانت نية الاستشراق من هذا التوجه: العمل على تكريس هذه التجربة واستمراريتها في نسيج الثقافة الإسلامية المعاصرة.
فالاستشراق توجّه خاصة إلى ثقافة السقوط، وبالمقابل أغفل ثقافة البناء، كل ذلك تحت غطاء البحث العلمي والفضول الفكري والمعرفي.
إنه انطباع أولي استخلصناه من نص الحوار الذي أجريناه مع الدكتور (حسن الأمراني)(1) الذي أنجز عملاً جامعيّاً اختار له عنوان: (المتنبي في كتابات المستشرقين الفرنسيين) (2)، وقد أثار في هذه الدراسة كثيراً من القضايا التي تمس الاستشراق بشكل مباشر، ومن أهم هذه القضايا: الاستشراق: الموضوع، المنهج، المرجع،...
ومن أهم المحاور والقضايا التي تستوقف الباحث والقارئ لهذا البحث: قضية اشتغال الاستشراق الفرنسي بشعر وأدب المتنبي، من حيث هو لحظة تاريخية وحضارية تعبر عن السقوط والانهيار، وتنشد البناء، وتبحث عن السبل الكفيلة بالخروج من هذا السقوط والانهيار الحضاري.
وهذا الاعتناء بهذه اللحظة بالذات، أدى بالاستشراق إلى إغفال الجوانب الأخرى المُشَكِّلة لأدب المتنبي، خاصة الفني... وهذا الإغفال له ما يبرره إذا أدركنا النوايا والخلفيات التي كانت توجه قراءة المستشرقين للتراث العربي الإسلامي.. وهذا نص الحوار:
أ- من الأفكار التي راجت كثيراً في فضائنا الثقافي مؤخراً: فكرة نهاية الاستشراق؛ لأن المعطيات الثقافية والحضارية التي كانت من وراء نشأة هذه الظاهرة لم تعد مستمرة في هذا الفضاء، وهذا ما حَوّل الاستشراق من ظاهرة ثقافية إلى ظاهرة تاريخية.. ما هو تعليقكم على هذا الفهم؟.
- قد ينتهي الاستشراق مصطلحاً، ولكنه لا ينتهي فكرة، ولعله اليوم أشد ما يكون ارتباطاً بالمؤسسات الغربية وخدمة لمصالحها، فمنذ نشأة الاستشراق كان همه المعرفة المرتبطة بالغلبة والهيمنة، ولئن كان في فترة من الفترات مرتبطاً أشد الارتباط بالكنيسة، ولا سيما منذ قرار مجمع (فيينا الكنسي، 1311م ـ 1312م)، فإنه ما فتئ يغير جلده دون أن يغير أهدافه ومقاصده.
إن المستشرقين كانوا أول من دعا إلى تدمير آليات الاستشراق التقليدي؛ لشعورهم بأنه استنفذ أغراضه، ولا بد له ـ إن أراد أن يستمر في الحياة ـ من أن يغير أدواته، وتلك كانت الأغراض من وراء صيحة (ماكسيم رودنسون)، إن عزوف المستشرقين منذ فترة عن هذا المصطلح، ورفضهم أن ينعتوا به، واكتشافهم بدائل أخرى كـ (الاستعراب).. لم يكن الهدف من ورائه الدقة العلمية ـ كما يريدون أن يوهمونا بذلك ـ بقدر ما كان تخلصاً ممّا يحمله المصطلح القديم من ظلال استعمارية وتحكمية.
وإن وجود فئة من المستشرقين المعتدلين أو الموضوعيين أو حتى المتعاطفين مع القضايا الإسلامية لا ينفي القاعدة بقدر ما يؤكدها، لأن أولئك يمثلون استثناء، والشاذ لا حكم له كما يقال.
وهل يشك عاقل في أن الذين يخدمون (الإمبريالية الغربية) تحت اسم (الخبراء) هم مستشرقون من نوع جديد؟، إن ما قدّمه (برنار لويس) وأضرابه مثلاً لا يقارن بما قدمه أسلافهم.
ب -الدكتور حسن الأمراني: لقد أنجزتم أطروحة جامعية حول الاستشراق الفرنسي وكلفكم هذا الإنجاز زيارة كثير من مكتبات فرنسا، نود أن تقدموا للقارئ أهم المستويات المعرفية التي تؤسس الاستشراق الفرنسي وتميزه عن غيره من أنواع الاستشراق .
- يجب ألا ننسى أن فرنسا وبريطانيا تمثلان حالة متفردة في علاقتهما بالعالم الإسلامي، فهما (الإمبراطوريتان) الاستعماريتان اللتان بسطتا سلطانهما على معظم العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من هذا القرن، كما أن ماضيهما مرتبط أكثر من غيرهما من دول الغرب بالحروب الصليبية، ولذلك: كانت العلاقة بين هاتين الدولتين والعالم الإسلامي علاقة احتكاك حربي وتدافع ومغالبة أكثر مما كانت علاقة تواصل حضاري.(24/208)
ولقد انعكس هذا الإرث الثقيل على التراث الاستشراقي لهما، ولذلك: تجد أن الذين يصنفون عادة ضمن المتعاطفين مع التراث الإسلامي من المستشرقين، من أمثال (ماسينيون) كانوا من أشد الناس ولاءً للفكر الاستعماري، ولذلك: كان (ماسينيون) نفسه مستشاراً لشؤون الاستعمار، كما إنه كان من أشد الدعاة إلى إحياء اللهجات المحلية في البلدان الإسلامية وإحلالها محل العربية، أي إنه كان يدفع ـ ببحوثه وكشوفاته ـ في اتجاهين اثنين لا يتعارضان في نهاية المطاف: الاتجاه الأول هو: تمجيد الشخصيات الفلسفية في تاريخ الإسلام وبعثها نموذجاً ومثالاً ينبغي أن يحتذى، والاتجاه الثاني: تشجيع النزاعات التفتيتية والتفكيكية داخل المجتمع الإسلامي، فما بالك إذا تجاوزنا (ماسينيون) إلى سواه من المستشرقين المعروفين بعدائهم السافر للمجال الحضاري الذي يتخذونه مرتكزاً لدراساتهم.
أما المعتدلون منهم، من أمثال (جيل كيبل)،و (أندريه ميكال)، فإنهم يحسون بغربة قاتلة داخل مجتمعاتهم، ويشعرون بأن أصواتهم لا تكاد تسمع، لا في الغرب ولا في العالم الإسلامي.
ج- هناك ظاهرة تبدو غريبة في استنتاجات المستشرقين، ذلك بأن أغلب المستشرقين نعتوا الثقافة الإسلامية بأنها حضارة نص!، بماذا تفسرون هذا الاستنتاج؟.
- بدلاً من أن نتساءل: هل الحضارة الإسلامية حضارة نص أم ليست كذلك؟: لا بد أن ندرك طبيعة المعرفة الاستشراقية، هذه المعرفة التي ظلت تفتقد إلى العمق والشمولية، وهذه السمة هي التي ما تزال عالقة بما يمكن تسميته: الاستشراق الدائري، الذي يعتبر (محمد أركون) علماً بارزاً من أعلامه.
لقد كانت المعرفة الاستشراقية ـ في منطلقها ـ معرفة خبرية، تقوم على ما يصل إلى المؤسسة الاستشراقية من أخبار لا تخلو من أوهام، يسوقها بعض الرحالة، أو نسجها الخيال الشعبي، ومما لا شك فيه أن المعرفة الخبرية من مقومات العلم في الإسلام، ولكن شرطها: الصحة، وهو الشرط المفقود في المعرفة الاستشراقية، ويكفي أن نقرأ (أنشودة رولان) لندرك طبيعة تلك المعرفة المشوهة التي تجعل المسلمين ـ بزعمه ـ وثنيين مشركين، يؤمنون بثلاثة آلهة: (أبولون، وترافاكان، ومحمد).
وقد كان يغذي هذا الاتجاه ما ظهر عند طلائع المستشرقين، من أمثال (جيوم بوستل) (1510 ـ 1581م)، الذي قيل عنه إنه كان من دعاة الوحدة بين المسلمين والمسيحيين!، ومع ذلك لم يستطع أن يتخلص من النظرة التي ترى أن من فوائد تعلم العربية أنها تعين على مجادلة أعداء المسيح من المسلمين!!.
ثم تحولت هذه المعرفة إلى معرفة نصيّة عندما قام (ديربيلو ((1625 ـ 1695م) بتأليف كتابه (المكتبة الشرقية)، هذا الكتاب الذي يعد أول كتاب غربي يضم معارف عن الشرق الإسلامي في شكل موسوعة معجمية، وبذلك انتقلت المعرفة، مع (ديربيلو (، من الخبر إلى النص، أي: إلى استنباط المعرفة المتعلقة بالشرق الإسلامي، من كتب المشارقة أنفسهم.
وستمر فترة من الوقت قبل أن يُضاف إلى هذا المصدر المعرفي مصدر آخر هو المصدر العيني.
وكان الفرق بين هذه المرحلة وسابقتها: أن إحداهما كانت غارقة في الماضي، بينما جمعت الأخرى بين الماضي والحاضر.
وقد كان الاستشراق الحديث والمعاصر بحاجة إلى جهد كبير لتخليص المعرفة الاستشراقية مما علق بها من قصور، نتيجة قصور مصادر المعرفة.
د- الأستاذ حسن الأمراني، تنزعون في الكتابة نحو مجالات مختلفة: الإبداع ـ النقد ـ الكتابة الفكرية.. لكن الذي جمع هذه الكتابات هو أنها تعبير عن زمن السقوط وتشخيص للحظة الانهيار الفكري والحضاري الذي تعيشه الأمة الإسلامية.. من خلال هذا المُعطى نود منكم كلمة أخيرة لقراء مجلة (البيان)؟.
- لا أدري أي هاجس دفع بي ـ وأنا أعد دراستي عن المتنبي في دراسات المستشرقين ـ إلى أن أُعْنَى عناية خاصة بلحظة من التاريخ فيه من واقعنا المعاصر تشابه كبير، فقد تبين لي أن تلك اللحظة هي لحظة الانهيار الحضاري التي قام المتنبي في وجهها صارخاً مستصرخاً باحثاً عن الفتى الذي يستطيع أن يحقق معه رسالته، فكان (سيف الدولة) [على ما فيه] أقرب ما يكون إلى الصورة المثال التي كان يحلم بها الشاعر، فلذلك ربط مصيره بمصيره، وقد عني المستشرقون بهذه اللحظة بالذات أكثر مما عنوا بدراسة الجانب الفني من شعر أبي الطيب، وذهبوا في تفسير تلك اللحظات مذاهب شتى لم تكن تخلو من الشطط.
ولا يشك أحد أننا نعيش لحظة من أشد لحظات الانهيار الحضاري الذي يواكبه تغطرس الاستكبار التدميري، وأمام هذا الواقع لا مفر من صيحةٍ تنبه الغافلين، وتستل من الظلمة فجراً، فلا عجب إذن أن يكون هنالك خيط جامع ـ عندي ـ بين الإبداع والإنتاج الفكري، وهذا الخيط هو صرخة الألم التي قد تكون من جهة المصدر كصرخة ابن أبي موسى الغساني في غرناطة، ولكنها من جهة الأثر ـ بحكم كونها صرخة جماعية لا فردية ـ قد تكون كصرخة قطز في (عين جالوت).. ولعلها ـ كما قال (الكواكبي)(*) ـ: كلمة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غداً بالأوتاد.
الهوامش :(24/209)
1) الدكتور حسن الأمراني كاتب من القطر المغربي، يشتغل أستاذاً للنقد الأدبي القديم بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة (المغرب)، وهو واحد من رواد الأدب الإسلامي المعاصر، ورئيس تحرير مجلة المشكاة.
2) صدرت هذه الدراسة عن مؤسسة الرسالة، عام 1994م. *) لمعرفة من هو (عبد الرحمن الكواكبي) وتقويم فكره: انظر كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، د/محمد محمد حسين.
*) لمعرفة من هو (عبد الرحمن الكواكبي) وتقويم فكره : انظر كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر)، د/ محمد محمد حسين
- البيان -
=============(24/210)
(24/211)
الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري
المؤلف : الدكتور محمود حمدي زقزوق
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول : يتناول الأول منها نظرة تاريخية لنشأة الاستشراق وتطوره، ثم يدرج المؤلف إلى تفصيل موقف المستشرقين من الإسلام في الفصل الثاني، أما الفصل الأخير فيوضح موقف المسلمين من الاستشراق.
المختصر المفيد للكتاب: يشكل الاستشراق الجذور الحقيقية التي كانت ولا تزال تقدم المدد للتنصير والاستعمار، وتغذي عملية الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، وتشكل المناخ الملائم من أجل فرض السيطرة الاستعمارية على الشرق الإسلامي وإخضاع شعوبه، فالاستشراق هو المنجم والمصنع الفكري الذي يمد المنصَّرين والمستعمرين بالمواد يسوِّقونها في العالم الإسلامي لتحطيم عقيدته، وهدم عالم أفكاره، وقد جاء هذا الغزو الثقافي ثمرة لإخفاق الغزو العسكري وسقوطه، ولتربية جيل ما بعد الاستعمار .. لقد تطورت الوسائل وتعددت طرق المواجهة الثقافية الحديثة، ففي القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات ، منها حوالي خمسين مركزاً مختصاً بالعالم الإسلامي، ووظيفة هذه المراكز تتبع ورصد كل ما يجري في العالم، ثم دراسته وتحليله مقارناً مع أصوله التاريخية ومنابعه العقائدية، ثم مناقشة ذلك مع صانعي القرار السياسي، ومن ثم تُبنى على أساس ذلك الخطط والاستراتيجيات، وتحدد وسائل التنفيذ. لقد أصبح كل شيء خاضعاً للدراسة والتحليل، ولعل المختبرات التي تخضع لها القضايا الفكرية والدراسات الإنسانية أصبحت توازي تلك المختبرات التي تخضع لها العلوم التجريبية، إن لم تكن أكثر دقة حيث لا مجال للكسالى والنيام والعاجزين الأغبياء في عالم المجدين الأذكياء. لقد اكتفينا بمواقف لرفض والإدانة للاستشراق
والتنصير، اكتفينا بالانتصار العاطفي للإسلام، وخطبنا كثيراً ولا نزال في التحذير من الغارة على العالم الإسلامي القادمة من الشرق والغرب دون أن تكون عندنا القدرة على إنضاج بحث في هذا الموضوع، أو إيجاد وسيلة صحيحة في المواجهة، أو تحقيق البديل الصحيح للسيل الفكري والغزو الثقافي من هناك.. إلا من رحم الله من جهود فردية لا تفي بالغرض، فإذا كنَّا لا نزال في مرحلة العجز عن تمثل تراثنا بشكل صحيح حيث يحاول بعضنا الوقوف أمامه للتبرك والمفاخرة دون أن تكون لدية القدرة على العودة من خلاله إلى أصولنا الثقافية المتمثلة في الكتاب والسنة، ويحاول آخرون القفز من فوقه ضاربين بعرض الحائط فُهوم علماء وجهود أجيال، بدعوى التناول المباشر، دون امتلاك القدرة على ذلك، فكيف يمكننا ، وهذا واقعنا وموقعنا، أن نواجه معركة الصراع الفكري، ونقدم فيها شيئاً؛ وإذا كان الكثير منا ما يزال يعيش على مائدة المستشرقين لفقر المكتبة الإسلامية للكثير من الموضوعات التي سُبقنا إليها، وإذا كانت مناهج النقد والتحليل، وقواعد التحقيق، ووسائل قراءة المخطوطات من وضعهم، كما أن الكثير من المخطوطات الإسلامية لم تر النور إلا بجهودهم على ما فيها ، فأنّى لنا الانتصار في معركة المواجهة العقائدية ؟ ! .(24/212)
ويمكن لنا إذا تجاوزنا جهود علمائنا الأقدمين في تدوين السنة ووضع ضوابط النقل الثقافي، وقواعد الجرح والتعديل، وتأصيل علم مصطلح الحديث الذي حفظ لنا السنّة إلى جانب بعض الدراسات الجادة في هذا الموضوع، فإننا لا نكاد نرى شيئاً يذكر، فقد اقتصر عمل معظم المشتغلين بالحديث والسنة عندنا على تحقيق بعض الأحاديث، تضعيفاً أو تقوية لإثبات حكم فقهي أو إبطاله، أو إثبات سنّة ومواجهة بدعة، وهذا العمل على أهميته يبقى جهداً فردياً فكرياً دون سويّة الأمر المطلوب الذي يمكن من الانتفاع بكنوز التراث .. وأين هذا من عمل المستشرقين في إعداد المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، كعمل ضخم وكدليل علمي لا يستغني عنه أي مشتغل بالحديث .. لقد نجحت العقلية الأوربية بداية في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعن طريق الاستشراق والمستشرقين إلى التحقيق والتمحيص والطبع والنشر لمجموعة من أكبر وأهم المصادر التراثية، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلاّ أنها في النهاية وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثقافي . ولقد نجحت العقلية الأوروبية، كما أسلفنا ، في فرض شكلية معينة من التحقيق والتقويم والنقد، وأوجدت القدوة والأنموذج، ويمكن القول: إن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث قد سارت على هذا النهج ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، إلى درجة إيجاد ركائز ثقافية عربية معبرة ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها؛ حتى في الجامعات والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية التي اكتسبها المثقفون المسلمون من الجامعات الأوروبية ..ونستطيع القول: إن آثار الاستشراق وإنتاج المستشرقين لا يزال يحتل الكثير من مواقعنا الثقافية، وسوف لا يفيدنا في المواجهة مواقف الرفض والإدانة أو الهروب من المشكلة، من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب في أنه لا يقتصر على تشخيص العلَّة ورصد آثارها فقط، وإنما يتجاوز ذلك إلى تحديد الأسباب التي أوجدتها، ومن ثم يصف العلاجيون الخطة التي لا مناص من التزامها في معركتنا الفكرية التي تستهدف وجودنا حيث نكون أو لا نكون .. وميزة هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم أن له صفة الأكاديمية، فقد اعتمد مؤلفه المنهج العلمي الوثائقي في التناول، وناقش المقدمات، وعقد المقارنات، وانتهى إلى النتائج، وقدم الحلول اللازمة بعيداً عن الانفعال والارتجال، لذلك نقول: إنها لا تكفي القراءة للكتاب بل لا بد من الدارسة له .. ومن ميزاته أيضاً أنه يُمكن أن يصل بالمثقف بشكل عام، والمثقف المسلم غير المخصص بشكل خاص إلى حد الكفاية في هذا الموضوع حيث إن الاطلاع على هذا القدر من المعلومات عن الاستشراق ومناهج المستشرقين يشكل ضرورة لكل مسلم، يبصره بالساحة الثقافية التي يتعامل معها، والخلفية الفكرية للصراع الحضاري.. خاصة وأن مؤلفه الأخ الدكتور محمود حمدي زقزوق يمكن أن يعتبر إلى حد بعيد متخصصاً في هذه القضية الهامة، بعد أن عَرَف المستشرقين واطلع على إنتاجهم عن قرب بطبيعة متابعة دراساته العليا في الغرب، وأنه كان مقرراً للندوة التي دعت إليها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في القاهرة لمناقشة إعداد موسوعة الرد على المستشرقين، وأعد التقرير عن المنهج العلمي الواجب اتباعه في إعداد الموسوعة .. وتبقى حاجة المكتبة الإسلامية قائمة لمجموعة من الكتب التي تعرض للقضايا الفكرية التي يعاني منها عالم المسلمين ، وتصل إلى حد الكفاية بالنسبة للمسلم غير المتخصص على حو هذا الكتاب بعيداً عن الانفعال والعاطفية وإثقال ذهنه بما ينفع وما لا ينفع. بقلم الدكتورعمر عبيد حسنة
============(24/213)
(24/214)
الاستشراق
الأستاذ أنور الجندي
لقد تبين من الدراسات الواعية المتعددة مدى خطر الاستشراق على الفكر الإسلامي، ولم تبق إلا دعوى "الدور الذي قاموا به في تحقيق التراث الإسلامي" ومنها تبويب بعض كتب السنة وغيرها. ولا ريب أن الاستشراق يعمل على إيجاد حصيلة واسعة من مفاهيم الإسلام بدأها بترجمة القرآن والحديث النبوي وبعض الكتب المعروفة، والهدف هو إحكام الرد على ما في هذه من قضايا معارضة للمسيحية من ناحية أو معارضة للنفوذ الأجنيب من ناحية أخرى والحقيقة أن هذه الأعمال لم تكن خاصة لوجه العلم وهل بالرغم من ضآلتها بالنسبة لعمل الاستشراق الواسع في ابتعاث كتب التراث المتصلة بالفلسفة والتصوف الفلسفي والفرق المتصارعة والباطنية وغيرها فإنها عمل مشكور لهم ولكنه لا يشكل ظاهرة يمكن أن تحول دون الغرض الحقيقي للاستشراق بما يخدع به دعاة التغريب ذوي النيات الجسنة منقومنا.
وهذه مجموعة من الحقائق:
أولاً: المستشرقون يدرسون قضايا الإسلام (لغته وتاريخه وشريعته وتراثه) بروح غير علمية، تقوم إما على سوء الفهم أو سوء النية، وهم لا يتصورون أي شيء إلا في حدود مفاهيمهم المسيحية اليونانية وعقليتهم الغربية التي تعودت على ربط الظواهر الإنسانية بالجنس واللغة القومية والبيئة في حدود المفهوم المادي القائم على المحسوس ومن هنا كان الإنسان عندهم ظاهرة قومية نشأت عن ظروف اقتاصدية ومن شأن هذا التصور أن يجعل كا أحكامهم على تاريخ الإسلام وشريعته وقيمه خائطة ومنحرفة لأن الإسلام يقوم على تصور جامع بين الروح والمادة والعقل والقلب.
ثانياً: قدم المستشرقون كتابات أعطوها صفة العلم في مختلف المسائل الإسلامية تدرس في بعض الجامعات على أنها صورة صحيحة لما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام وقواعد، جاء بعضها محرفاً وبعضها لا يقيد حكمة الشارع ثم بولغ في تحريف مدلولاتها ومعانيها على نحو يتعذر معه فهم أحكام الإسلام على وجهها الصحيح.
ثالثاً: أخضع المستشرقون تاريخ الإسلام لمفهوم المسيحية وتفسيراتها ثم أخضعوها لتفسيرات المادية الغربية ثم التفسيرات الماركسية.
رابعاً: دخل المستشرقون إلى مجامع اللغة وحولوا أهدافهم إلى مناهج براقة سواء في أحياء العامات أو الدعوة إلى تعديل النحو أو اللغة الوسطى أو الكتابة العربية المعاصرة وكلها محاولات ترمي إلى إيجاد فجوة بين لغة القرآن ولغة الكتابة.
ومن قبل ذلك تسللوا للبحث عن العاميات ولبسوا ملابس التجار والدبلوماسيين وصاروا يعملون بشتى الوسائل لجمع الأمثال العامية والمواويل بهدف مسموم هو القول بأن العامية لغة لها تراث.
وقد أولوا اهتماماً شديداً لدراسة اللهجات في البلاد العربية وعقدوا مؤتمراً خاصاً لذلك في مدينة ميونخ بألمانيا 1957 م وكتب المستشرقون في ذلك كتباً منها: كتاب في لغة الغجر في البلاد العربية ودراسات في اللهجات الأمهرية. السحرية والقطرية وغيرها من اللهجات المستعملة في جنوب الجزيرة العربية وعلى أطرافها.
والهدف في التركيز على اللهجات العامية واضح فهم الذين قدموا تلك الفلسفة الضالةة التي تقول إن العامية أقدر على تصوير المشاعر، مع أن هذه المشاعر التي تصورها العامية هي المشاعر الساذجة ومشاعر طفولة البشرية أين منها ذلك الشعر الرصين والبيان العربي الذي يحمل صور المجتمع الإسلامي والنفس الإسلامية في مراحل الرشد الفكري والهدف هو إضعاف لغة القرآن وتمييعها بالتحريض على استعمال اللهجات وتحطيم قواعد اللغة باسم التيسير.
خامساً: أثار الاستشراق دعوات مسمومة للتشكيك في الإسلام والطعن في مبادئه وتشويه الحضارة الإسلامية. ومن ذلك دعوتهم إلى رفع لواء الإنسلاخ من الماضي والتراث وإحياء النزعات القديمة كالفرعونية والفينيقية والآشورية وأمثالها والغض من شأن الشعوب الملونة في العالم الإسلامي ووصفهم بأنهم أقل قدرة من الجنس الأبيض (الأوربي) في مجال السياسة والمدنية والعلم والفن. والعمل على فصل الدين عن الدولة وإبطال فريضة الجهاد وإثارة الشبهات حول القرآن بطرح سموم على أيدي مسلمين وتوحي ببشرية القرآن للتشكيك في أنه من الله تبارك وتعالى والقول بتأثر الثقافة الإسلامية بالعقلية الإغريقية والفارسية، وهم في سبيل ذلك يعملون على انتزاع نصوص معينة من سياق المصادر لتأييد وجهة نظرهم ويعملون على إثارة التناقضات بين النصوص والمصادر.
سادساً: المبالغة في تمجيد الحضارات الشرقية القديمة السابقة للإسلام والإدعاء بأن الإسلام أخذ منها والبحث عن الأثر الغربي والأوربي في الفكر الإسلامي والمبالغة في تحديده وإكباره وجعله شيئاً أساسياً بالرغم من أنه أقل من ذلك ومحاولة إرجاع العلوم العربية إلى أصول يونانية.
سابعاً: دراسة الحركات المضادة للإسلام والتوسع فيها كالفتن الأهلية والخلافات المذهبية ومظاهر التفسخ والانقسام والإدعاء بأنها أبرز ظواهر تاريخ الإسلام مع أن تاريخ الإسلام حافل بالإيجابيات ومراحل القوة والتمكن وأن هذه الصور قليلة جداً وموجودة في تاريخ جميع الأمم والحضارات.(24/215)
ثامناً: يدرس الاستشراق خصائص الفكر الإسلامي بروح خصومه وبفكرة مسبقة قائمة على أحكام قوامها سوء نية وعجز عن الإنصاف، ويعجز الاستشراق عن أن يتخلص من عواطفه الخاصة وهو يدرس مجتمعاً مختلفاً ومنهجاً متبايناً مع فكره ومنهجه.
تاسعاً: توسعة شقة الخلافات المذهبية بين المسلمين، بينما أن هذه الخلافات لم تصل إلى ما وصلت إليه بين فرق الأديان الأخرى وخاصة المسيحية لا في طبيعتها ولا في مداها فلا يوجد خلاف بين المسلمين على المبادئ الأساسية للإسلام مثل وحدانية الله ونبوة صلى الله عليه وسلم والاعتقاد في أن القرآن الكريم هو كلام الله والإيمان باليوم الآخر. وإنما وجد الخلاف في الأمور التفصيلية فيما يعد أمراً طبيعياً في مجتمع إنساني يضم أناساً من مختلف هذه الخلافات اختلافات مذهبية لأنها ليست إلا خلافات فقهية محصورة في إطار ديني وقانوني عريض.
عاشراً: حاول الاستشراق الغض من عظمة الدعوة الإسلامية بإثارة شبهات متعددة منها محاولة الإدعاء بوجود صلة بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني (وقد كشفت البحوث عكس دعوى الاستشراق فإن القانون الروماني الحديث مأخوذ من مذهب مالك نقله نابليون معه إلى أوربا) كذلك التشكيك في عالمية الرسالة الإسلامية بالقول بأن الآيات جاءت بعد استقرار الرسالة، والحقيقة أن آيات عالمية الرسالة كلها مكية، كذلك أثار الاستشراق الشكوك حول الكتب التي بعث بها صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وزعموا أنها وضعت في صورتها الأولى بعد قرن من حياة صلى الله عليه وسلم وقد كذبتهم البحوث العلمية الحديثة التي أثبتت صحة هذه الرسائل.
حادي عشر: يذهب المستشرقون إلى أبعد حدود المغالطة حين يواجهون تاريخ الإسلام بأهوائهم فهم معجبون ببني أمية لأن أحدهم (أبا سفيان) كان عدو الرسول (ما كتبه هنري لامانس عن معاوية ويزيد).
أما عهد العباسيين فالدولة الإسلامية خرجت من يد العرب.
أما المغرب فيسمونها بلاد البربر وهذه التسمية دسيسة تافهة لأن أهل المغرب عرب وبربر ولكنهم مسلمون أولاً.
وهم لا يتحدثون عن الملوك الذين وطدوا الدولة بل عن الخارجين (بني رستم الخارجين أيام عبد الرحمن الداخل وبني مدرار أصحاب سلجمار) ويقولون عن المأمون أن دولته فارسية ونهضة العلوم في عصره نهضة غير عربية، ولا يتحدثون عن الرشيد إلا عن نكبة البرامكة وينقلون رسالة مذوبة عن أبي يوسف إلى ابن المقفع في معماملة أهل الذمة لكي يؤكدوا ما يدعيه المستشرقون من سوء حالتهم في ظل الإسلام ويهتمون بمدرسة حران الفلسفية ويقفون طويلاً عند المعتزلة وينقلون عنهم رأي المسعودي دون غيره ويتحدثون عن المعتصم والأتراك، ويتخيرون فقرأت من رسالة الجاحظ في فضلهم لا يوردون فقرة واحدة عن فضل العرب. أما القرامطة فهم عندهم طلاب عدل وإصلاح ويروون قصة مصرع الخليفة المتوكل برواية الطبري وتفاصيل فتنة الزنج في جنوب العراق بواية النويري وقصة القرامطة برواية الطبري ويأتي بخطاب أحمد القرمطي إلى الخليفة المقتدر وهو خطاب يصورهم في صورة طلاب عدالة وإصلاح وعندما يتحدثون عن الدول المنشقة التي انتهت بالقضاء على وحدة الدولة العباسية: الصفاريين والسلمانيين والطاهريين والبوهيين ويطلبون الوقوف عندهم لأنهم دول فارسية، في كتابة تاريخ المغرب حاولوا الوقيعة بين البربر والعرب وفي المشرق حاولوا الإيقاع بين العرب والفرس. ويعجبون بالفاطميين لأن مذهبهم لم يلق قبولاً من جماعة المسلمين وعندما يتحدثون عن الصليبيين يفخرون بأنهم قتلوا عندما دخلوا القدس 65 (ألفاً) من المسلمين.
ثاني عشر: وضعوا أساس الشبهات ثم نسبوها إلى كتاب عرب ومسلمين فالشعر الجاهلي والأدب الجاهلي أساسهما بحث عن انتحال الشعر لمرجليوث، وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق أساسه كتاب عن الخلافة الإسلامية لمرجليوث. ومع المتنبي لطه حسين أساسه بحث لبلاشير، و...
ثالث عشر: غلبة التفسير المسيحي على التحليل والعرض، فدرمنجم يقول أن تعاليم أهل الكتاب هي التي لفتت نظر سيدنا محمد إلى الكمال الروحي والمثل الأعلى وجعلته يتحنث في الغار وهذا كذب صراح، كما يحاولون تصور أن القرآن جاء من الكتب السابقة وأن الهجرة كانت إلى الحبشة لأنها مسيحية، والحقيقة أن الدافع الحقيقي ليس لأن النجاشي مسيحي بل لأنه كان عادلاً قال النبي: لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق) ولذلك فليس للعاطفة الدينية أثر في تصرفاته وحاول درمنجم أن يستدل بأن الله رضي للناس الإسلام ديناً مع بقاء سائر الأديان التي سبقت وحدة مندمجة.
وهذا غير صحيح، لأن الإسلام جاء خاتماً للرسالات وداعياً أهل الكتاب للدخول فيه لأن دين الله الحق وأن صلى الله عليه وسلم لم يكن متصلاً بأهل الكتاب.
ويدعي مرجليوث أن النبي محمداً كان يعرف القراءة والكتابة ويتخذ من آية (اقرأ) مع أن اقرأ لا تعني قراءة المكتوب وإنما تعني قراءة ما يوحي إليه.(24/216)
ومن أخطائهم إدعاؤهم بأن العرب كانوا قبل الإسلام على استعداد للملك والنهضة وأن دور صلى الله عليه وسلم لم يكن أكثر من قيادة جماعة مهيأة، وذلك باطل صراح فإن العرب في مكة أمضوا ثلاثة عشر عاماً في محاربة الدعوة الإسلامية والإصرار على عبادة الأصنام حتى هاجر النبي إلى مجتمع آخر هو الذي تقبل دعوته. ولقد كانت دراستهم لأحوال العرب قبل الإسلام هو الذي شكل للعرب وجودهم الحقيقي، وأن دعوة الإسلام غلى التوحيد كانت شيئاً جديداً بالنسبة للوثنية العربية.
وهذه محاولة مضللة في الاهتمام بالغساسنة والمناذرة وإعلاء الجاهلية واعتبار الإسلام اقتباساً منها.
ومن ذلك إنكار الوحي للوصول إلى القول بأن القرآن من عملمحمد صلى الله عليه وسلم .
وكل محاولات الاستشراق في القول بأن الأفكار الأساسية للإسلام مستقاة من الكتاب المقدس، أو أن طابع الإنجيل موجود في القرآن أو ان هناك أصلاً يهودياً للإسلام (بروكلمان - فون كريمر - مونتجمري وات) أو بروكلمان فكل هذا باطل.
ذلك لأن مصدر الأديان السماوية واحد ولذلك فلابد أن تكون هناك علاقة مشتركة لأن الدين كله من عند الله وهو التوحيد ولكن رؤساء الأديان حرفوه، أما الإسلام فقد حفظه الله تبارك وتعالى.
وقد عجز المستشرقون مع الأسف - كما يقول محمد أسد (ليوبولد فابس) عن استيعاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته الأساسية ومن ثم فإنهم لا يستطيعون أن ينفذوا إلى أعماق الحياة الإسلامية ويستحيل على المستشرق أن يفهم الوحي، أو الهجرة، أو ينفذ إلى أعماقها لأنه بعيد بحكم تكوينه النفسي وتفكيره عن هذا النظام.
ولهذا اعتبر (توينبي) الهجرة مبدأ التدهور في تاريخ الرسالة المحمدية ويزعم مونتجمري وات حين يتحدث عن المعاهدة التي عقدها بين المسلمين واليهود بعد الهجرة أن كلمتي إسلام ومسلم لم تكن مستعملة في الفترة المبكرة من العهد المدني ويرجع هذا إلى أنه تجاوز في الترجمة وحرف.
ومن الشبهات التي يثيرها المستشرق فون كريم الإدعاء بأن الإمامين الأوزاعي والشافعي وقد ولدا في سوريا كانا على علم بكثير من قواعد القانون الروماني البيزنطي وقد ثبت أن هذا القول مجرد أسطورة فمن الثابت أن مدرسة بيروت لم تكت موجودة عند الفتح الإسلامي للشام وأن الشافعي والأوزاعي لم يعرفا القانون البيزنطي.
رابع عشر: أن القول بأن مصادر صلى الله عليه وسلم في القرآن هي التوراة والإنجيل من المسائل التي يكاد الاستشراق يجمع عليها ويرددها من كانوا من مستشرقي اليهود أو النصارى والواقع أن هذا الاتهام باطل بدليل واحد أن مفهوم القرآن للتوحيد يختلف عن مفهوم التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار أو الأناجيل الموجودة في أيدي الناس الآن فقد دعا صلى الله عليه وسلم وحمل القرآن لواء الدعوة إلى التوحيد المطلق، كما يقول الدكتور عبد الجليل شلبي: إله العالم كله واحد. إله مجرد من المادة وعن التركيب. كان الإله عند اليهود (يهوه) وهو الههم وحدهم وقد ظلوا على ذلك ردحاً من الزمن حتى جاء النبي (إليجا) أول من جهر بأنه إله العالم كله وظهر بشيء غريب أيضاً على اليهود هو أن حكم الله يجري على الملوك كما يجري على أبناء الشعب ولهذا لم تكن الديانة اليهودية موحدة بالمعنى الحقيقي وإنما كانت ديانة توحيد بالنسبة لجيرانها فقد كان لدى الآخرين آلهة متعددة للزرع والمطر والخصوبة والنجوم كل له إله خاص، وإذن فالتوحيد الإسلامي نوع فريد في كل ما أعلن من صفات الله خالق الكون سبحانه.
المسألة الثانية: أن القرآن لم يذكر قط قصص الإسرائيليين بل ذكر قصص داود وصالح والخضر وشعيب وسبأ، أما الكتاب المقدس فقد اقتصر على ذكر شعيب المختار وتاريخه وهو لم يتم بوضعه الحالي إلا بعد القرن الثاني الميلادي.
ولأنهم ينكرون الوحي السماوي فإنهم يبحثون عن مصدر معلومات الثرآن ولا يزالون مختلفين. قال مونتجمري وآت: أن محمداً نال معلومات ممتزجة من اليهودية والمسيحية معاً، وبذل جهداً واسعاً في سبيل الاستدلال على ذلك، كذلك فعل (درمنجم) ولكن الوقائع في المقارنة بين القرآن من ناحية وبين التوراة والإنجيل تكذبهم في هذا الإدعاء العريض.
خامس عشر: في محاولة لتأييد النفوذ الأجنبي الذي فرض القانون الوضعي كانت حملة الاستشراق على الشريعة الإسلامية، جولدزيهر وشاحت وغيرهم الذين كانوا ينشرون دعياتهم الرامية إلى القول بأن الفقه الإسلامي جامد ولم يتطور وسيبقى جامداً إلى الأبد وأنه لا يحتوي على قواعد عامة وإنما يتناول النوازل الخاصة.
وذهب بعضهم إلى القول بأنه لا يوجد فكر سياسي إسلامي، وإنما الذي عرفه المسلمون هو الفكر الفارسي واليوناني وقد كذبت الحقائق الناصعة دعاوي الاستشراق وكتب كثيرين كاشفين عن عظمة الشريعة الإسلامية وقدرتها على الاستجابة للعصور والبيئات وكيف أن للمسلمين فكرهم السياسي الخاص ومن أبرز هذه الدراسات كتابات الدكتور ضياء الدين الريس.(24/217)
كذلك فإن مؤتمرات دولية من رجال القانون عقدت خلال القرن الرابع عشر الهجري شهدت بأصالة واستقلال وعظمة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وأكدت أنها شريعة قائمة بنفسها ليست مأخوذة من غيرها وأنها خلافاً لما قال خصومها حية وقابلة لمسايرة الحياة الاجتماعية في إطار القواعد الثابتة وأن مبادئها لها قيمة حقوقية تشريعية لا مراء فيها.
سادس عشر: كذبت الحقائق دعاوي الاستشراق في أن التصوف الإسلامي أخذ من الافلاطونية الحديثة أو مذاهب المسيحية أو أن البلاغة العربية أخذت من كتاب الخطابة لأرسطو أو أن الفقه الإسلامي أخذ من مدونة جوستنيات.
كذلك كذبت الوقائع دعاوي الاستشراق وأتباعهم عن إسقاط الرواية الإسلامية لشعر عصر البعثة النبوية وما كان منه طعناً على الإسلام وهجاء صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن الإسلام لم يصادر هذا الأدب والدليل ما رواه ابن إسحاق في السيرة النبوية من قصائد المشركين واليهود وهي لا تقل في الإحصاء عن قصائد الشعراء مع النبي وخاصة في موقعتي بدر وأحد.
سابع عشر: ليس أدل على سوء نية الاستشراق في البحث من إصرار لويس ماسنيون على متباعة آثار الحلاج خلال أربعين سنة حتى نشر ذلك المجلد الضخم في 1400 صفحة ثم أخذ يتتبع متروكاته فطبع ما ورد عنه في الفقرات النثرية ثم نشر ديوانه الشعري وقد جمعها قطعاً من نحو مائة مؤلف بين مخطوط ومطبوع.
وقد ركز اهتمامه على المقاطع التي يوضح بها الحلاج اتحاده بالله بل معادلته له به (جل شأن الله عن ذلك وعلاً) كذلك ما حرص الاستشراق وأتباعه من إبراز الشخصيات المعادية للسنة وللإسلام مثل أبحاثهم عن مسيلمة الكذاب، وعن عيلان الدمشقي والإشادة بهما أو كذاب اليمن الأسود العنسي ووصف كل منهم بالبطولة مع أنهم جميعاً خارجون عن مفهوم الإسلام الصادق.
ثامن عشر: لقد تجمع في تحرير دائرة المعارف الإسلامية أخبث وأخطر رجال الاستشراق من يهود وغيرهم ممن يكنون الكراهية للإسلام ولذلك فقد حرصوا على صنع مواد الدائرة بمفاهيم كنسية ويهودية وتأخذ دائرة المعارف الإسلامية القصة اليهودية للعهد القديم في خلق آدم عليه السلام فيحيلها مصدراً لقصة آدم في دائرة معارف إسلامية.
كذلك فهم يأخذون وجهة نظر اليهود في إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويزيفون مفهوم فلسطين وعروبتها ويحاول الاستشراق اليهودي إعطاء فكرة للعالم أن فلسطين كانت يهودية قبل الإسلام.
ويعمل رونسون في ركتابه عن الرأسمالية والإسلام تشويه التاريخ الإسلامي ورفع العنصر اليهودي على حساب العرب.
تاسع عشر: حرص الاستشراق على تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور وخاصة في العصر الأول على أنه مجتمع متفكك تقتل الأنانية رجاله، وهم في كل محاولاتهم المسمومة للانتقاص من الإسلام ولغته وتاريخه وتراثه يخضعون النصوص للفكرة التي يفرضونها مع تحريف حين لا يجدون مجالاً للتحريف وتجمهم في المصادر التي ينقلون منها فهم ينقلون من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخه الفقه ويصححون ما نقله الدميري في كتاب الحيوان (وهو ليس ذا قيمة علمية صحيحة) ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ كل ذلك انسياقاً مع الهوى وانحرافاً عن الحق.
وهم يستخدمون كتب التراث استخداماً خبيثاً فيبرزون كل ما يفرق ويخفون كل ما يجمع ويغلب عليهم سوء الظن وسوء الفهم والهوى.
العشرون: يحاول كل من الاستشراق المسيحي خطة والاستشراق الشيوعي خطة مختلفة والاستشراق الصهيوني خطة ثالثة، كل منها يهدف إلى تحقيق غرض خاص ولكنها جميعاً تطبق على الإسلام بالعداوة والخصومة والحقد الدفين.
==============(24/218)
(24/219)
كيف دخل اليهود من بوابة الاستشراق ؟
طارق حسن السقا ...
كثيرة هي الدراسات الحديثة التي تناولت قضية الاستشراق والمستشرقين بأبعادها المختلفة . وكثيرة هي الأبحاث التي رصدت دور المستشرقين ورصدت أعمالهم, وخدماتهم, وإنجازاتهم, و إيجابياتهم, وسلبياتهم . غير أن الملاحظ في كثير مما كتبت عن الاستشراق عدم وضوح الدور اليهودي في هذه العملية. وهذا يفرض سؤالا :-
هل ترك اليهود مجال الاستشراق ولم يتدخلوا فيه؟
الثابت تاريخيا أن اليهود كان لهم دورهم الخطير في عملية الاستشراق . ولقد ظهرت بوادر هذا التدخل منذ زمن بعيد يرجعه المؤرخون إلى القرن الثاني عشر على يد رجل يهودي اعتنق المسيحية وأخفى اليهودية . وفعل ما فعل .أنه يوحنا الإشبيلي الذي ظهر في منتصف القرن الثاني عشر .
والحقيقة التي أردت أن أبرزها هنا هي أن اليهود نجحوا في التسلل إلى حقل الاستشراق المغري لهم , والأكثر تمشيا مع فكرهم المشؤوم بهذه الخدعة التي ابتدعها يوحنا الاشبيلي ألا وهي خدعة ( الإخفاء والارتداء ) أي إخفاء ديانتهم اليهودية . وارتداء كل ما من شأنه توصيلهم إلى أهدافهم. فالثابت تاريخيا أن " كل المستشرقين اليهود قد استطاعوا أن يكيفوا أنفسهم ليصبحوا جزء من الحركة الاستشراقية الأوروبية وليصبحوا عنصرا أساسيا في إطار الحركة الاستشراقية الأوروبية النصرانية . فقد دخلوا المجال بوصفهم الأوروبي لا بوصفهم اليهودي . "(1)
لقد مكنتهم هذه الخدعة التاريخية , التي هي أصل ملازم للشخصية اليهودية عبر السنين من تنفيذ أكبر قدر من الدس والهدم والتحطيم . لأنهم يدركون أن في الإفصاح عن الهوية اليهودية ما سيثير الحفائظ ضدهم. مما سيؤدي إلى عزلهم. وبالتالي يقل أثرهم الهدام . لذلك دخل اليهود مجال الاستشراق بإخفائهم الدائم للديانة اليهودية وارتدائهم لأثواب مختلفة . فلقد ارتدوا ثوب الجنسية الأوروبية تارة . و ثوب النصرانية تارة , وثوب الإسلام تارة أخرى . وأثوابا أخرى كلها تصب في اتجاه تحقيق أهدافهم الخبيثة .
إن خدعة الإخفاء والارتداء هذه هي أشهر ما استخدمه اليهود في صراعهم التاريخي ضد المسلمين . استخدموها في كل ما من شأنه تلويث المناخ الفكري الملوث الذي يعيشون فيه . وإذا كانت آثار القنبلة الذرية التي ألقيت على المدن اليابانية في أغسطس 1944 م ظل ملموسا في عشرات الأجيال اللاحقة . فإن أثر المناخ الفكري الملوث لأي أمة من الأمم يظل أثره السيئ ملموسا في عشرات الأجيال اللاحقة بعد ذلك . وهذا ما ينتهجه اليهود معنا في لعبة الصراع الحضاري الدائر بين القوتين . كما أن وسيلة الإخفاء والارتداء هذه هي أشهر الوسائل التي حققت لليهود هذه الأهداف. لقد تعلموا هذه الدسيسة على ايدي حكماءهم . فلقد جاء في أحد بروتوكولات حكمائهم ما نصه :
" عليكم ألا تظهروا.. وألا تعرفوا الناس علينا . .عليكم ألا تستخدموا كلمة يهودي . " (2) -
انظر إلى الآثار المدمرة التي عاشها المسلمون في عهد الخليفة عثمان بن عفان. وكيف نجح اليهود في تنفيذ هذه الخديعة على يد رجل يهودي من أهل صنعاء في اليمن هو عبد الله بن سبأ - الذي أخفى يهو ديته وارتدى عباءة الإسلام نفاقا . ثم انظر كيف تنقل بين بلاد المسلمين يحاول إضلالهم وإفساد عقيدتهم . وانظر كيف حاول نقل ضلالات الفكر اليهودي إلى واقع حياة المسلمين . وانظر كيف نجح بالفعل في تلويث المناخ الفكري للمسلمين . ونتج عن هذا المناخ الفكري الملوث مقتل الخليفة الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان . وفتح باب الفتنة في عهد الإمام علي - رضي الله عنه - وقيام الخلاف المستحكم في السياسة الإسلامية . ونشأت المتاعب في ذلك . وفي ظل هذه الفتن نبت المذهب الشيعي ( الذي أخذ من اليهودية أكثر مما أخذ من الفارسية ) . وفي صدى هذه الفتن التي استمدت طيلة عهد الإمام علي - كرم الله وجهه - نبت مذهب الخوارج- أيضا. (3)
وكلها بقع سوداء على ثوب التاريخ الإسلامي نتجت من جراء استخدام اليهود لهذه الخدعة .
" ولقد أكثر اليهود من استعمال هذه الخدعة بعد طردهم من البرتغال و أسبانيا و قيام المجلس التفتيش عليهم بالعذاب المعلوم , وهكذا كان إسلام اليهود الذين جاءوا إلى المملكة العثمانية بعد القرن الخامس عشر فأسلموا وسُموا بالدونمة أي المهتدين " (4) وليس بخاف على أحد ما أحدثه هؤلاء الدونمة في وتاريخ الخلافة الإسلامية التي تظاهروا عليها وأسقطوها عام 1924 م . ولم يتخلص العالم الإسلامي حتى اليوم من كثير من الأفكار الملوثة التي صدرها يهود الدونمة إلى عقول المثقفين في عالمنا الإسلامي . وكانت أسباب كل هذا إجادتهم لخدعة الإخفاء والارتداء .
إن هذه الحيلة واحدة من السمات التي لازمت الشخصية اليهودية عبر السنين . وهي واحدة من الخدع التي استخدموها معنا مرات ومرات .
يقول ا / سليمان ناجي(24/220)
" في معظم الأحيان يستر اليهود يهوديتهم حينما يقومون بحملات الغزو الخبيث للأديان . إذ ينادون بإلغاء الأديان كلها , ويهاجمونها جميعا , ويضعون وكلاءهم وحراسهم في شتى ميادين العمل الإنسانية , ويحاولون ألا تفلت ثغرة واحدة منهم دون أن يرسلوا فيها بعض وكلائهم أو أجرائهم أو يشتروا من الأفراد بعض ضعاف الإدارة , أو بعض ضعاف العقل مهما كلفهم الثمن . وغالبا ما يكون الثمن زهيدا . " (5)
و من الثغرات التي لم تفلت منهم مجال الاستشراق. ومن الوكلاء الذين أرسلوهم في هذا المجال صموئيل زويمر. فحين يذكر اسم زويمر في كثير من المحافل الثقافية عندنا فيتبادر إلى الذهن أنه المستشرق الذي كتب عديدا من المؤلفات الإسلامية . وهو الذي أسس مجلة العالم الإسلامي عام 1911 م . وهو أحد كبار المستشرقين الذين لعبوا دورا في المنطقة العربية . كما أنه الشخص الذي رأس وأدار عديدا من مؤامرات التبشير من إدنبرة في إنجلترا -في أقصى الغرب-إلى لكنو في الهند - في أقصى الشرق - وهو الرجل الذي آزره في كل هذا فريق من المنصرين الذين كانوا يعملون في المنطقة وكان من بينهم أخوه بيتر وزوجته: إي- لو- زويمر"(6)
ولكن العجيب أن " صموئيل زويمر " وعائلته كانوا يهودا . وأن " صموئيل زويمر " نفسه مات على اليهودية عام 1952م . ولكن كيف استطاع هذا اليهودي أن يعتلي المناصب الهامة والأكثر خصوصية عند النصارى؟ كيف حظي هذا اليهودي بثقة الكنيسة الإصلاحية الأمريكية ؟ويتلقى كامل دعمها ؟
يقول د\ عبد الله التل:
أخبرني راهب من أصدقائي أيام معركة القدس أن الكنيسة تحتفظ بهذا السر المذهل ولا تبوح به حتى لا تنكشف حيل اليهود الذين يتظاهرون باعتناق النصرانية . وحتى لا ينكشف إخفاق جمعيات التبشير التي تبذل الملايين عبثا , وتنخدع بمكر اليهود وخططهم الخبيثة لبث الفتن بين الإسلام والمسيحية " (7)
ولقد نجح اليهود بهذه الخدعة في الدخول من بوابة الاستشراق. وأحدثوا الكثير من حالات الفوضى والهرج والمرج في تاريخنا الإسلامي . لقد ذاقت امتنا بهذه الحيلة - من الهزائم والنكبات و الضربات الموجعة ما أنهكها, وأضعفها. بهذه الحيلة استطاع صموئيل زويمر وآخرون أن يلوثوا المناخ الفكري للمسلمين. ولقد ظهرت آثار هذا المناخ الملوث بادية للعيان حتى بعد مرور اكثر من نصف قرن . ففي مؤتمر القدس التبشيري عام 1935م وقف صموئيل زويمر "يقول
" مهمة التبشير التي تربيكم لها الدول المسيحية في البلاد الإسلامية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية, فإن في هذا هداية لهم وتكريما. وإنما مهمتك هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوق لأصله له بالله ،وبالتالي لأصله له بالأخلاق التي تعتمد عليه الأمم في حياتها "
وفي أحد أشهر كتبه -العالم الإسلامي اليوم - كتب يقول :-
تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لان الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها .
وفي موضوع آ خر من نفس الكتاب قال مخاطبا المستشرقين :-
إنكم أعددتم نشأ لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي جاء ألنشء طبقا لما أراده الاستعمار لا يهتم بعظائم الأمور ويجب الراحة و الكسل فإذا تعلم فللشهرة وإذا تبوأ أسمي المراكز فالشهرة ففي سبيل الشهرة يجود بكل شيء "
هذه كلها ما هي إلا حثالات الفكر الصهيوني والتي رضعها زويمر من بروتوكولات أجداده .بل واستطاع أن يحملها في حقيبة أنيقة ويدخل بها من بوابة الاستشراق في ظل غياب حراس الفضيلة من جند الله المخلصين . ثم نجح في تسريبها الي واقع الأمة الإسلامية حتى أصبحت هذه الحثالات روح تسري, وفكر يعتنق, أثر يلمسه القاصي والداني دون عناء . وإذا ما نظرت بعين الاعتبار إلى أفكار زويمر هذه ., وإلى واقع الأمة اليوم ستجد أن المستهدفات التي وضعها هؤلاء قد تم تحقيقها بنسبة مزعجة . وان كل ما حققوه و أنجزوه إنما تحقق وأنجز بفضل إجادتهم لسياسة الإخفاء والارتداء .
.ولكن لماذا دائما كان يفضل اليهود التخفي وراء القناع المسيحي ؟
يقول الدكتور علي إبراهيم النملة :
" يخفي اليهود انتماءاتهم اليهودية وينخرطون في أعمال دينية تصل أحيانا إلى حد التظاهر بالإسلام قصدا إلى الإسهام في مصادرته . والتظاهر بالنصرانية من باب أولى لما لنصارى من قبول في المجتمع المسلم اكثر من قبوله لليهود "(24/221)
وحينما يذكر أمامنا اسم غ . فون جرونباوم فإن الظاهر عنه أنه مستشرق ألماني. درس في العديد من الجامعات الأمريكية . كان أستاذًا بجامعة (شيكاغو)، ا لف عديدا من الكتب الإسلامية منها :( الأعياد المحمدية 1951م) -(دراسات في تاريخ الثقافة الإسلامية 1954م) وغيرها . وعند هذا الحد فمن الممكن أن تكون هذه الشخصية مقبولة في المجتمع المسلم . وكذلك كتاباته , وأفكاره , وإبداعاته . أما حينما نعلم أن هذا المستشرق يهودي متعصب. كان من ألد أعداء الإسلام . .كان غزير الإنتاج . امتلأت كتبه بالاعتداءات الصارخة علي الإسلام والمسلمين.بل وكانت وسيلة لدك حصون المجد الإسلامي . فلطالما اعتدى على مقدسات المسلمين وقيم المسلمين وتاريخ المسلمين . لقد أخفى يهوديته وارتدى القناع الأوروبي فسهل عليه المساهمة في تلويث المناخ الفكري للمسلمين. ولقد ظهر اثر هذا المناخ الملوث في أجيال عديدة تربت على موائد هؤلاء اللئام .وللأسف كان هذا المستشرق إماما ومثلا أمام كثير من المستشرقين بل وكان له الكثير من المعجبين من المستشرقين أنفسهم .
.
وحينما يذكر لنا التاريخ اسما له بريقه في هذا المجال ألا وهو ( جولد زيهر - 1850م : 1920 م ) . فإننا لا نعرف عنه غير أنه المستشرق المجري . نعم المجري !! . وأنه زعيم علماء الإسلاميات في أوروبا بلا منازع . وأن كتبه ومؤلفاته تحظى بالتقدير الأعظم , والاحترام الفائق من كل فئات المستشرقين . وأن كتابه تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي . يعد أشهر المراجع المعترف بها عند الأوروبيين . كل هذا قد لا يلفت الانتباه . أما حين نعرفه أن زعيم علماء الإسلاميات بلا منازع هو يهودي متعصب . وأنه اتخذ من جنسيته المجرية قناعا لهدم العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين . كما ساهم في تلويث المناخ الفكري في العالم الإسلامي فالأمر أظن يختلف .
وقد يفسر لنا هذا سر وقفة جولد زيهر المؤيدة والمدافعة عن الفكر البهائي ( 8) أو البلاء البهائي. ذلك الفكر الذي جاء بضلالات وافتراءات عن الإسلام ونبيه وقرآنه . وجاء بصلاة جديدة , وصيام جديد , وحج جديد , وادعاءات بأن القيامة لم يعرفها محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه , ولا أئمة المسلمين من بعد . لقد وقف جولد زيهر موقف المؤيد والمدافع عن كل هذه الافتراءات بل وباركها وأيدها. ولم يكتف بذلك بل أضفى على أنصار هذا الفكر ألقاب البطولة وبخاصة قائد تهم قرة العين ( 1230 - 1269 هـ ) وهي امرأة منحرفة السلوك فرت من زوجها . وراحت تبحث عن المتعة . وأعلنت عن نسخ الشريعة الإسلامية في مؤتمر برشت 1269 هـ . وقد أعدمها الشاه في نفس العام . (9)
وحينما يذكر أمامك اسم جو زيف شاخت فهو أحد كبار اليهود المستشرقين . دخل المجال مخفيا ليهوديته . وسار على نهج أسلافه - وبخاصة أستاذه جولد زيهر - في الحط من الشريعة الإسلامية . وادعى بأن الشريعة الإسلامية لا تختلف عن أعراض الجاهلية . وساهم مع غيره في تسميم الأجواء العامة أمام أجيال تأثرت بمثل هذه الأفكار ووقعوا فريسة الفكر الشيطاني أو الفكر الاستشراق . وخرجوا علينا بسفيه الأفكار التي لا يقبلها لا منطق ولا عقل ولا دين .
وتطول القائمة التي تحوي العشرات من المستشرقين المغتصبين الذين أهالوا التراب على مجدنا الإسلامي العظيم . ولكننا لا نعرف عنهم غيرهذا الإنجليزي أو ذاك الإيطالي وهكذا . ولكن وراء هذه الجنسيات تقبع كثير من الأسماء التي اتخذت من وسيلة الإخفاء والارتداء قناعا وذريعة لتحقيق أهداف الصهيونية كفكرة أولا وكدولة ثانيا .
يقول د / محمود حمدي زقزوق :
" لم يرد اليهود أن يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين يهود حتى لا يعزلوا أنفسهم . وبالتالي يقل أثرهم . ولهذا عملوا بوصفهم مستشرقين أوربيين , وبذلك كسبوا مرتين : كسبوا أولا فرض أنفسهم على الحركة الإستشراقية كلها , وكسبوا ثانية تحقيق أهدافهم من النيل من الإسلام وهي أهداف تلتقي مع أهداف غالبية النصارى . " ( 10 )
لم يكتف هؤلاء المسترقين بتلويث المناخ الفكري للمسلمين ا. ولكنهم نجحوا في دس رجال وزعامات للكيد لهذه الأمة بالمئات والألوف . هؤلاء الرجال كانوا دسيسة في العالم الإسلامي . والعشرات من هذه الشخصيات المدسوسة على الأمة الإسلامية في صور أبطال مصنوعين على عين الصهيونية يؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوها ظاهرين . (11)
إن هناك ا من علماء المسلمين ومفكر يهم ممن عاشوا وعايشوا هذا المناخ الفكري الملوث . ومنهم من دَرَسَ أو درس. ومنهم من قرأه وتأثر به . ولقد ساهم هذا المناخ الفكري الملوث في تشكيل عقلية هؤلاء . كل هذا ساهم أيضا في أن يخرج علينا كثير من هؤلاء الاتباع بإنتاج فكري ملوث أيضا . فشجرة الحنظل لا تثمر إلا حنظلا . - لا تينا ولا زيتونا -(24/222)
ومازالت أمتنا الإسلامية حتى هذه اللحظة تعيش آثار هذا المناخ الفكري الملوث الذي صوبه نحونا الاستشراق والمستشرقون . ولا سيما اليهود منهم . وما تزال أمتنا الإسلامية تعاني من خدع اليهود وقدراتهم على التخفي وراء الجنسية أو وراء اعتناق ديانة غير ديانتهم . وما تزال أمتنا الإسلامية تعاني من قدرة هؤلاء على تجنيد صبيانهم وتصيد الأجراء من حين لحين . وما تزال كل هذه الوسائل الخطيرة هي أكبر تحد أمام الأجيال القادمة في عالمنا الإسلامي . وما تزال هذه الخدعة " خدعة الإخفاء والارتداء " هي أخطر سهام اليهود المصوبة نحونا بغية محو الطابع الإسلامي عن مجتمعاتنا . وبالتالي إفساد عقيدتنا الإسلامية . وتكون النتيجة الطبيعية لذلك هي تفكيك وحدة المسلمين . وصرفهم عن قضاياهم الإسلامية .
فاللهم بصر شباب المسلمين بعواقب الأمور كلها حتى لا يُساء بهم صديق . ولا ينتصر عليهم عدو . ولا أن يُلدغوا من نفس الجحر مرة أخرى .
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmail.com
==========================
المراجع :
1- الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري . د/ محمود حمدي زقزوق
2- بروتوكولات حكماء صهيونية . عجاج نويهض
3- تاريخ المذاهب الإسلامية . الإمام محمد أبو زهرة
4- بروتوكولات حكماء صهيونية . عجاج نويهض
5- مكائد يهودية . سليمان ناجي
6- جذور البلاء . عبد الله التل
7- المرجع السابق
8- البهائية : حركة نشأت( 1260: 1844هـ) تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية . والاستعمار الانجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية تفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية وكان اليهود وراء انتشار وانتعاش الفكر البهائي في بلاد المسلمين .
9- الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة .
10- الاستشراف والخلفية الفكرية للصراع الحضاري . د/ محمود حمدي زقزق
11-معركتنا مع اليهود -سيد قطب .
================(24/223)
(24/224)
الثقافة الإسلامية في عصر العولمة(1-2)
سهيلة زين العابدين حمَّاد 3/9/1424
28/10/2003
إنَّ الموضوع الذي نحن بصدده جد خطير وهام؛ إذ لابد من هذه الوقفة مع واقع الثقافة في عالمنا الإسلامي الذي يواجه الآن كل تحديات أنواع العولمة (الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأدبية، واللغوية، والفكرية، والثقافية).
ومما لاشك فيه أنَّ هذه المجالات جميعها تكون عقيدة وفكر وثقافة الأمة التي من خلالها يتحدد سلوك أفرادها، وقرارات قاداتها.
وقراءة منا لواقع الثقافة في عالمنا الإسلامي، وحال مثقفيها نجد أنَّنا -للأسف الشديد- مهيئين تماماً لقبول العولمة، بل والذوبان في الآخر، وهذه ليست نظرة تشاؤمية، ولكن حاضرنا الثقافي هو الذي يشهد بهذا، فنحن منذ ظهور الإسلام حتى وقتنا الراهن كنا فريسة لمخططات الغرب التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، ولابد لنا أن نكون صريحين وواقعين حتى لانخدع أنفسنا ونوهمها بحسن نية الآخر تجاهنا، وحتى لا نعطي للآخر حجماً أكبر من حجمه، أو نستهين بما يخططه ضدنا للتظاهر بأننا لسنا من ذوي نظرية التآمر التي نجح الغرب في أن يجعل عددًا كبيرًا من مثقفينا يعتنقها ليخطط ويحقق أهدافه دون أن توجه إليه أصابع الاتهام، ولنتقبل ما يخطط لنا دون إدراك أبعاد وخطورة هذه المخططات كما هو حاصل الآن، علينا أن نقرأ التاريخ، ونتعرف على حقيقة علاقة الشرق بالغرب، وأبعاد هذه العلاقة وأهدافها، ونتوقف عند علاقة الغرب بالإسلام وموقفه منه، ومخططاته لمواجهته، ونظرته للمسلمين عامة وللعرب بصورة خاصة، وما يفعله الآن معنا.
إنَّ ما يحدث ليس وليد التسعينيات من القرن العشرين ولكنه حصيلة قرون عديدة تصل إلى ما قبل عصور التاريخ، ومما ينبغي علينا أن نحذر من الغرب؛ لأنه يريد طمس هويتنا ومسخ شخصيتنا واقتلاعنا من جذورنا وإحلال ثقافته ودينه وعقيدته وأمراضه وانحلاله محل ديننا وثقافتنا وقيمنا وأخلاقياتنا، مع فرض هيمنته السياسية والاقتصادية والعسكرية علينا، وحرماننا من حق المعارضة وإبداء الرأي، والدفاع عن حقوقنا الشرعية. وجعلوا منا من أصبح يناهض كل ما هو إسلامي، ويطالب بإلغاء ثوابت الإسلام، وإسقاط الإسلام من دساتير الدول الإسلامية، وقصره على العبادات، ومنا من فقدوا ثقتهم في العقلية الإسلامية، وشككوا في قدرات المسلمين، ونسبة إنجازات المسلمين للغرب، ووصفوا الإسلاميين بسرقة أفكار الغربيين ونسبتها إليهم، بل نجد اللغة الإنجليزية قد أصبحت هي الأساسية في الدراسات الجامعية في جامعاتنا، ليس في العلوم التجريبية فقط، بل أصبحت لغة دراسة الاقتصاد والإدارة أيضاً.
كما نجد الغرب قد نجح في نسبة الإرهاب إلى الإسلام بشرائه لمجموعة من الأفاكين مستغلين حبهم للمال وحاجتهم إليه للقيام بأعمال إرهابية، ونسبتها إلى جماعات إسلامية، هم في الغالب وراء إيجادها وتكوينها، حتى أصبحت الحكومات الإسلامية تخشى من كل ما هو إسلامي.
أليس هذا هو واقعنا الآن؟
قد يقول قائل: الخطأ خطؤنا ونحن أوصلنا أنفسنا إلى ما نحن عليه الآن، وأنا أتفق مع هذا القائل، ولكن لكي نكون واقعيين لابد لنا أن نضع أيدينا على الأسباب التي أوصلتنا إلى الحال هذه، ومن وراءها؛ علَّنا نستطيع تلافيها. وهنا يتطلب منا أن نطرح هذه الأسئلة:
متى تعَّرف الغرب إلى الشرق؟ وماذا كانت طبيعة هذه العلاقة؟ وما أهدافها وغاياتها؟ وكيف كانت نظرة الغرب إلى الشرق؟ وما هو تأثيرها على الثقافة العربية والإسلامية؟
وسأبدأ بالإجابة عن السؤال الأول:
متى تعرَّف الغرب إلى الشرق:
لقد تعرَّف الغرب إلى الشرق عبر قرون طويلة، وعن طريق عدد كبير من الكتَّاب والرَّحالة والجغرافيين والمؤرخين، وقد اختلفت وسائل اتصال أوربا بالشرق باختلاف أهدافها وبواعثها من وراء هذا الاتصال، وقد بدأت بعلاقات تجارية ترجع إلى أيام الكنعانيين، ثمَّ تلتها علاقات حرب واحتلال في زمن الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد الذي وقف علماؤه لدراسة الشرق ليتمكن من غزوه. وهذه تعد البداية الحقيقية للاستشراق.
صورة الإسلام في أوربا من خلال الكنسية وكتابات المستشرقين:
وعندما ظهر الإسلام كثّفت الكنيسة جهودها لمهاجمة الإسلام والنبي محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، ولقد ظهرت آراء ومواقف فظة ومشوبة بالعصبية في العقيدة الإسلامية، وقد أوضح المستشرق البريطاني ريتشارد سوذرن في كتابه "صورة الإسلام في أوربا في العصور الوسطى"، وكذلك نظيره نورمان دانيال في كتابه "العرب وأوربا في العصور الوسطى" تلك المواقف الفظة المشوبة بالعصبية ضد الإسلام ونبيه -محمّد r-، وإلحاق فعال وصفات به هو منزه عنها، ولا تمت إلى الحقيقة والواقع بصلة، فقط ليشوهوا صورته وليصرفوا الناس عن الإيمان برسالته وبنبوته، وليفرغوا حقدهم عليه، والمجال لا يتسع لذكر ما نسبوه إليه باطلاً، ولكن يبين لنا هذا أنهم في تعاملهم معنا يخرجون عن جميع مبادئ وأسس الحوار العلمي الموضوعي المنطقي الذي يتظاهر به الغرب في نقاشه وحواره معنا.(24/225)
قد يقول قائل إن طريقتهم اختلفت مع مشارف القرن العشرين، ولا سيما في العقود الأخيرة منه، وأقول هنا من خلال دراستي للاستشراق، ولبعض المدارس الاستشراقية -وأهمها المدرسة البريطانية والفرنسية والألمانية، وغيرها- وموقفها من السيرة النبوية؛ وجدتها لم تخرج عن الإطار الذي رسمه المستشرقون الأوائل الذين كان معظمهم من رجال الكنيسة، وعند دراستي لمصادرهم وجدت أن كتابات أولئك المستشرقين هي مصادرهم الأساسية، أمَّا المصادر الإسلامية فما هي إلاَّ مجرد إطار لوضع الصورة التي رسمها المستشرقون الأوائل مع تخفيف حدة الهجوم المباشر بتغليفه بغلاف يوحي بالمنهجية العلمية والموضوعية، ولكن عندما تتفحص في المحصلة والنتيجة تجد أنها لا تخرج عن الصورة التي رسمها أولئك المتعصبون الحاقدون على الإسلام ونبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتؤكد ما أقوله أهداف الدراسات الاستشراقية ونتائجها.
أهداف الاستشراق ونتائجه:
نتيجة لكشف بعض الباحثين العرب- في مقدمتهم الدكتور إدوارد سعيد، والأستاذ عبد النبي أصطيف، والدكتور أنور عبد الملك- أمام الرأي العام العالمي أهداف ومناهج المستشرقين مبينين مثالبه وعيوبه فلقد تخلى المستشرقون رسمياً عن مصطلح "مستشرق" في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين للمستشرقين الذي عقد في باريس صيف عام 1973م، وقال المستشرق الصهيوني البريطاني الأمريكي برنارد لويس: "فلنلق بمصطلح مستشرق في مزبلة التَّاريخ"، لكنهم لم يتخلوا عن مناهجهم، وقد أعلنوا هذا في ذات المؤتمر، واتخذوا من مراكز المعلومات مصطلحاً جديداً للاستشراق الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية لتمارس من خلاله على الشرق ولاسيما الشرق الإسلامي ودول العالم الثالث نوعاً جديداً من الاستعمار، وهو أخطر أنواع الاستعمار ولم يسبق للبشرية أن رأت مثيلاً له، وهذا الاستعمار هو "العولمة".
هذا وللاستشراق أهداف دينية وتنصيرية، وأهداف سياسية، وأهداف استعمارية عسكرية، وأهداف علمية، والحديث عن هذه الأهداف طويلة جدًا، لذا سأوجز الحديث عنها في الحلقتين القادمتين إن شاء الله.
توقفتُ في الحلقة الأولى من هذه المقالة عند أهداف الاستشراق التي سوف أوجزها في الآتي:
أولاً: الأهداف الدينية والنتصيرية:
1- لقد أسهمت الدراسات الاستشراقية في إيجاد الأرضية في كثير من بلاد المسلمين للدعوة التنصيرية، وقد كتب بعض المستشرقين ونظَّروا لكيفية التَّنصير مع المسلمين، مثل ما قام به المستشرق المُنصِّر القس صموئيل زويمر في معهده الذي أنشأه باسمه من قبل المؤتمر التَّنفيذي ليكون مركزاً للأبحاث مهمته إعداد الأبحاث وتدريب العاملين في صفوف المسلمين لتعزيز قضية تنصير المسلمين، وكذلك المستشرق البريطاني وليم موير، ويشهد على ذلك كتابه " شهادة القرآن على الكتب اليهودية والمسيحية " فهو كتاب تنصيري في المقام الأول. ومسلسل التنصير لم ينته بعد فلقد أعلن البابا في المجمع المسكوني الثاني الذي عقد عام 1965م خطته لتنصير العالم واقتلاع الإسلام مع قدوم الألفية الثالثة بحيث يتم استقبالها بلا إسلام، ولعل حملات التنصير المكثفة التي شهدتها إندونيسيا تعطينا مؤشراً لذلك، بل الأخطر من هذا وجود بعض المدارس التنصيرية في بعض دول الخليج العربي، ولعل كتاب " الغزو التبشيري النصراني في الكويت" لأحمد النجدي الدوسري يكشف أبعاد هذا المخطط، أيضاً النشاط التنصيري المكثف في الجنوب السوداني لإيجاد دولة مسيحية سودانية تمهيداً لاقتلاع الإسلام من السودان، وقد شرعوا بالفعل لتنفيذ هذا المخطط، كما نجحوا في تفتيت وحدة إندونيسيا، وقسَّموا تيمور إلى شرقية وغربية، بينما نجدهم وحَّدوا برلين الشرقية والغربية.
إنَّ مخطط تجزئة الدول الإسلامية وشطرها إلى شطرين: مسيحي وإسلامي، أو تقسيمها على أساس مذهبي أو عرقي كما هو مخطط للعراق، وغيرها من دول المنطقة، كل هذا يؤكد أنَّ هدف الغرب القضاء على الإسلام، وأن أساس الصراع بيننا وبين الغرب هو الدين الإسلامي في المقام الأول ويظهر هذا بوضوح في الحروب الصليبية، إذ خشي الغرب من المد الإسلامي، وعندما فشلت هذه الحملات، ولم تحقق أهدافها نشأ الاستشراق الذي ركَّز هجومه على القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه الإسلامي والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، واللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم، وكذلك دراسة الأدب العربي، والعمل على إحياء الفرق المنحرفة في تاريخ المسلمين كالباطنية، وقضوا السنوات في إخراج كتب ليؤثروا في المفاهيم الأساسية للإسلام، وذلك بثنائهم على البهائية والقاديانية، وقد أوجد الاستعمار البريطاني القاديانية، إذ أشاد بها لأنها -كما زعم- جاءت بآراء حرة مستقلة ووصفها بالعقلانية، والاستنارة والتجديد ليخدع بها بعض المسلمين، وليشوه تعاليم الإسلام، وللأسف هناك أقلية من المسلمين تأثرت بفكر هذه الفرق المنحرفة واعتنقت عقائدها.(24/226)
كما أسهم المستشرقون بقدر كبير في إحياء القوميات في العالم العربي خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، فقد نبَّش المستشرقون في الحضارات الجاهلية القديمة؛ لإحياء معارفها من ذلك: بعث الفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، والفارسية في إيران، والطورانية في تركيا، أمَّا الجزيرة العربية فلقد بحثوا في آثار السَّابقين، وأسموا دراستهم " التاريخ الحضاري للعرب قبل الإسلام "، وتعمدوا بذلك إظهار الحضارات القديمة ليطفئوا نور الإسلام، وأنَّ الإسلام ليس وحده هو الذي قدَّم الحضارة الإنسانية، وترتب على مثل هذه الدراسات الآتي:
ا-تحسين سمعة الجاهلية القديمة، وتمجيد رجالها.
ب-بث النعرات الانفصالية في الأمة الإسلامية.
ج-محاولة قطع صلة الأمة الإسلامية بماضيها الحقيقي الذي بدء بظهور الإسلام.
د- تهيئة بعض المسلمين لتقبل قيام حضارة لهم غير مهتدية بهدي الإسلام، كما نشأت في تلك الحضارات القديمة.
- كما سعى المستشرقون في نشر بعض الأيدلوجيات الأجنبية في الأراضي الإسلامية كالشيوعية، فلقد أشاد المستشرق " بندلي جوزي" بالقرامطة، وأدعى أنَّهم والإسماعيلية الشيوعيين الأولون في الإسلام، وذلك في كتابه "من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام "، كما زعم المستشرق الفرنسي "جاك أوستري" أنَّ هناك بعض الشَّبه بين الإسلام والشيوعية من حيث عالميتها وتساميها على القوميات والعنصريات، وقد شبَّه كذلك نظام الدَّولة في الإسلام بنظام الدَّولة في النِّظام الشيوعي، وقد تأثر بهذه الكتابات بعض الكتاب المسلمين، وعملوا على نشرها مثل الكاتب الكبير "توفيق الحكيم" في سلسلة مقالاته التي نشرت في الأهرام "دفتر الجيب"، وذلك في الفترة من 21إبريل حتى 15سبتمبرعام 1981م، وقد قرَّر في هذه المقالات أنَّ الشيوعية تسير على مبدأ الإسلام في قوله تعالى (وفي أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم)، وأراد أن يثبت أنَّ المادة قد طغت على الإسلام عند تطبيقه لنظمه؛ ليجعل الإسلام لا يختلف عن الشيوعية من ناحية طغيان المادة، واتخذ من الإسلام وسيلة للدعوة لتطبيق الاشتراكية، والأخذ بالشيوعية، بل قال في كتابه شجرة الحكم السياسي صفحة 507: " أنَّ الرسول محمَّد r كان يسارياً هو وسائر الأنبياء " ، ونسمع الآن عن الإسلام اليساري الذي يتزعم دعوته الأستاذ حسن حنفي.
- كما شجَّع الاستشراق على نشر الليبرالية الغربية وتبعيتها في بلاد المسلمين، وقد حاول بعض المستشرقين أن يخدعوا بعض المسلمين، بأنهم إذا أرادوا التقدم واللحاق بركب الأمم الصناعية ما عليهم إلاَّ أن يتبنوا المنهج الأوربي الذي قام وفُرِض بعد نقض كتب العهد القديم والعهد الجديد " ، وهي أقدس كتب لديهم وهم بهذا يريدون من المسلمين التجرؤ على كتاب الله ونقده، وللأسف فقد تأثر بعض الأساتذة المسلمين بهذه الدعوة في مقدمتهم الأستاذ الدكتور طه حسين، إذ دعا طلبته في كلية الآداب إلى نقد القرآن الكريم بوصفه كتاباً أدبياً، وأثار الشبهات حول كلمة كتاب وقرآن، وقال إنَّ الكتاب غير القرآن، وأنَّه كان موجوداً قبل نزول القرآن، وإنَّ القرآن صورة عربية منه، وأنَّه أخذ صوراً من الكتب التي قبله، ويقول: "إنَّ هناك قرآناً مكياً له أسلوب، وقرآنا مدنياً له أسلوب آخر، وإنَّ القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة والخلو من المنطق، أمَّا القسم المدني فيمتاز بمناقشة الخصوم بالحجة الهادئة، وهذا القول هو ما يردده المستشرقون، وفي مقدمتهم المستشرق اليهودي البريطاني دافيد صموئيل مرجليوث في كتابه "مقدمة الشعر الجاهلي" الذي ترجمه الدكتور طه حسين ونسبه إلى نفسه، مسمياً كتابه " الشعر الجاهلي"، والذي قال فيه بخلق القرآن، ثمَّ تراجع عن ذلك عندما وجد اعتراضاً على ذلك.
- قيام بعض المستشرقين برصد الحركات الإسلامية المعاصرة، ودراسة أحوالها وأوضاعها ليمكنوا صناع القرار في البلاد الغربية من مكافحتها، وبذل كافة الوسائل لإطفاء نورها، وهناك عدد من المستشرقين مثل: "هاملتون جيب"، و"ميشيل ريتشارد"، و"ألفريد سميث" وغيرهم كتبوا عدة دراسات عن هذه الحركات، ومن أحدث الدراسات عن هذه الحركات أعدها المستشرق الأمريكي جون سبوزيتو عن ظاهرة الصحوة الإسلامية في العالم الإسلامي، وهي على صلة وثيقة بالبيت الأبيض الأمريكي.(24/227)
إنَّ رجال الحكم الغربيين والإعلاميين حريصون على معرفة الحركات وزعمائها، وفي شهر مايو سنة 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية بولاية ماريلاند "بأنهم في هذا القرن أي القرن العشرين قد أخيفوا بثلاث تيارات: الشيوعية، والنَّازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنَّازية ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية"، فمن أخطر دراسات المستشرقين عن الإسلام وأهله الدراسات التي تحذر الغرب من قدرات الإسلام الكامنة، وتنبيه الغربيين إلى ثروات المسلمين الهائلة ليخطط الغرب مواصلة سيطرته على بلاد المسلمين، ومن أخطر الدراسات الاستشراقية تلك التي أعدها المستشرق الألماني "باول شمتز" باسم "الإسلام قوة الغد العالمية".
إنَّ مقولة نائب الرئيس الأمريكي عن الإسلام في التسعينيات من القرن العشرين تعيد إلى أذهاننا مقولة رئيس الوزراء البريطاني "جلاد ستون" في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل حوالي قرن من الزمان؛ إذ أعلن رئيس الوزراء البريطاني في مجلس العموم البريطاني وقد أمسك بيمينه كتاب الله عزَّ وجل، وصاح في أعضاء البرلمان وقال: "إنَّ العقبة الكؤود أمام استقرارنا بمستعمراتنا في بلاد المسلمين هي شيئان، ولابد من القضاء عليهما مهما كلفنا الأمر، أولهما هذا الكتاب، وسكت قليلاً، بينما أشار بيده اليسرى نحو الشرق وقال: هذه الكعبة ".
أليس هذا أكبر دليل على أنَّ الغرب لم ولن يغير موقفه من الإسلام والمسلمين؟
إنَّ دور المستشرقين لم يتوقف عند هذا الحد، إذ نجدهم مهدوا وساعدوا على الاستعمار منذ عصر الإسكندر الأكبر، ونابليون بونابرت، حتى أواخر القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، سواء كانوا رحالة أو قناصل أو جواسيس، أو منصِّرين.
ثانياً: الأهداف السياسية والاستعمارية والعسكرية:
ممَّا ينبغي التوقف عنده والتأكيد عليه أنَّ نشاط المستشرقين والخبراء الأمريكيين بشؤون الشرق الأوسط يشكل جزءًا رئيساً من نظام التخطيط للعمل الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة العربية، وهذا ينبهنا إلى حقيقة هامة، وهي أنَّ الاستشراق يقوم في عصرنا الراهن على مخطط تحدده المصالح الأمريكية والصهيونية في الشرق الأوسط، كما لعب الاستشراق الأوربي من قبل، والاستعمار الإنجليزي بدور في خدمة الأهداف الصهيونية بإنشاء صندوق اكتشاف فلسطين، وإعلاء شأن اليهود مع التقليل من شأن العرب المسلمين، والذي سهَّل للصهيونية تحقيق أهدافها من خلال الاستشراق وجود أكثر من أربعين يهودي في المدارس الاستشراقية الأوربية والأمريكية، ومن أكبر مستشرقيها مثل: جولد تسهير، وشاخت، وكارل بروكلمان، ولويس ماسينون، ومكسيم ردونسون، ومرجليوث، وبرنارد لويس.
ولا ننسى أنَّ بعض المستشرقين أوجدوا النظرية العرقية ليبرروا الاستعمار، ووصفوا العقلية العربية بأنَّها عقلية ذرية غير قادرة على التجميع والقيادة، وممن قالوا بهذا القول المستشرق البريطاني هاملتون جيب، وملف الاستشراق حافل بهذه المواقف التي تدين الحركة الاستشراقية، والتي بسببها أصبح مصطلح الاستشراق مشبوهاً، وأعلن المستشرقون تخلصهم منه ورميه في مزبلة التاريخ، واستبداله بمراكز المعلومات التي تقوم بنفس دور الاستشراق القديم، ولكن في ثوب جديد.
ثانياً: الأهداف العلمية والتمهيد للعولمة الثقافية:
ومما ينبغي لفت الانتباه إليه أن الاستشراق قام بدور كبير في التمهيد للعولمة الثقافية باحتواء كثير من المسلمين ثقافياً عن طريق خدمة المستشرقين للتراث وتحقيقه ونشره وفهرسته، وما إلى ذلك حيث أصبح كل باحث مسلم لا يستغني عن بعض جهودهم في أبحاثه ومكتباته، فيعتمد عليها أو يتناولها بالدراسة، وتأثر بها شعر أو لم يشعر، ويرجع هذا إلى نجاح الاستشراق في السيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، وعلى الرغم من أن بعض الدراسات كانت تقترب من صفة النزاهة والحياد إلاَّ أنها في النهاية، وبكل المقاييس تبقى مظهراً من مظاهر الاحتواء الثَّقافي، وقد نجم عن هذا الاحتواء الآتي:
أ-شعور كثير من المسلمين بضعفهم، ونقص إمكاناتهم، وتأخرهم عن غيرهم في العصر الحديث، ونسبة كل الإيجابيات إلى الغرب.
ب-تبعية كثير من الكتَّاب والباحثين فكرياً لهم، ودفاعهم عن مبادئهم ومناهجهم.
ج- وضع أسس لمنهج البحث والتفكير المادي، فكتبوا وبحثوا ونقدوا في ضوء هذا المنهج، كما نجدهم قد طبَّقوا المناهج الفكرية المادية على كثير من علومنا الإسلامية سواءً في التفسير المادي للتاريخ، أو في كتاباتهم عن القرآن الكريم والرسولل - صلى الله عليه وسلم - فدَّعموا شهادتهم في هذه الجوانب الفكرية باسم المنهج العلمي، ممَّا أدى إلى رواجها واستسلام كثير من الكتاب لها ودفاع بعض المسلمين عنها.(24/228)
د- لقد رسَّخ المستشرقون مبدأ العلمانية وصدَّروه إلى عالمنا الإسلامي سواء في الجانب الفكري والسياسي، فأصبح من المسلمين من تبنوا مبدأ العلمانية، بل نجد هناك بعض الدول الإسلامية قد تبنت العلمانية، وأعلنت أنَّها دولة علمانية، أو هناك من المسلمين من ينادي بعلمانية السياسة، ونحن لو رجعنا إلى أصل نشأة هذه الدعوة نجد أنَّ المستشرقين ممن روَّجوا لها ودعوا إليها، ولا ننسى أثر ميكافلي في ترسيخ العلمانية السِّياسية، وتجريد السياسة من معاني الدِّين والأخلاق وتبرير الوسائل باسم الغايات.
ه-دعوة المستشرقين إلى الحرية الفكرية المزعومة التي دعوا إليها، ولم يلتزموا بها في بحوثهم وكتاباتهم؛ إذ نجدهم صوروا المفكرين الإسلاميين مجرد نقلة للتراث اليوناني الفلسفي بناءً على نظرتهم العنصرية المقسمة للشعوب إلى: ساميين، وآريين. فالساميون ومنهم العرب لا قدرة لهم على التفكير الفلسفي، وتناول الأمور المجردة بخلاف الشعوب الآرية، كما صرَّح بذلك رينان في كتابه " تاريخ اللغات السامية "، وكذلك "جوتيه" في كتابه " المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية ".
و-كان الاستشراق وراء طرح ونشر مصطلحات متعددة في الجانبين الأدبي والنقدي مثل "الحداثة" و " البنيوية" و "الأبستولوجيا المعرفية" و "والوجودية" و "النثرية" في مجالات الأدب، ولقد كشفت الباحثة البريطانية فرانسيس ستونور سوندرز في كتابها "بعنوان "التكاليف؟ -الصادر في يوليو عام 1999م- قيام الحكومة الأمريكية عبر وكالة المخابرات المركزية لإيجاد مدارس وتيارات ثقافية كاملة ومنها تيار الحداثة، ودعم مجلة الحوار العربية وغيرها، فتجرأ بعض الأدباء والشعراء على الذات الإلهية، فأدونيس كتب قصائد بعنوان " الإله الأعمى، و " الإله الميت "، ويقول في هذه القصيدة: " وبدلت إله الحجر الأعمى وإله الأيام السبعة بإله ميت "
(1) ، وأعلن كرهه لله، بل ادعى الألوهية في قصيدة " الخيانة "
وأنا ذاك الإله
الإله الذي سيبارك أرض الجريمة
وصلاح عبد الصبور قال في شعره " الشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم "
(2) ، وقال في قصيدة " الإله الصغير" :
ورقصنا وإلهي للضحى خداً…لخد
ثمَّ نمنا وإلهي بين أمواج وورد
ويقول ذات الشاعر في قصيدة " الناس في بلادي ":
كم أنت قاس موحش يا أيها الإله
(3)وأمل دنقل مجَّد الشيطان فقال في قصيدة له :
المجد للشيطان ……معبود الرياح
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " فلم يمت
وظلَّ روحاً أبدية الألم.
والأمثلة كثيرة لا حصر لها، ولكن ما ذكرته يبين لنا سمة الشعر الحداثي، ومقومات الحداثة القائمة على فصل العقيدة عن الفكر والأدب آخذة بمذهب " الفن للفن، متبنية مذاهب فكرية لا تمت للدين الإسلامي بصلة، بل تدعو إلى الإلحاد وإلغاء العقل، وإحياء فكر الفرق الباطنية من دعاة الحلولية والتناسخ، كما أوجد المستشرقون في الساحة مصطلح "الأصولية " و " السلفية " لتغييب اسم الإسلام.
ز-لم يقتصر المستشرقون في بحوثهم على علم واحد، وإنَّما تناولوا مختلف العلوم، وللأسف لم يلتزموا بالحيدة والموضوعية في أغلب بحوثهم، إذ نجدهم سلكوا سبل التحريف والتشويه في دراساتهم عن القرآن الكريم والطعن في مصدره، وكذلك الطعن والتشكيك في السنة المطهرة وصحتها، وامتد التشويه إلى نبي الإسلام محمَّد - صلى الله عليه وسلم -، وحسبنا قول المستشرق البريطاني وليم موير: "إنَّ سيف محمَّد والقرآن هي أكثر الأعداء الذين عرفهم العالم حتى الآن عناداً ضد الحضارة والحرية الحقيقية " .
ح-تأليف الكتب والمراجع والموسوعات العلمية في موضوعات مختلفة عن الإسلام ونظمه مع التحريف الخفي، والتزييف المتعمد في الوقائع التاريخية، وفي نقل النصوص من القرآن والسنة، وبيان سيرة الرسو صلى الله عليه وسلم ، وإصدار النشرات الدورية والمجلات العلمية الخاصة ببحوثهم عن الإسلام والمسلمين، وإلقاء المحاضرات والخطب في الجمعيات العلمية، وفي كل مكان، ونشر مقالات وبحوث في الصحف والمجلات الواسعة الانتشار، وخاصة في أوساط المثقفين، وترجمة كتبهم ومراجعهم وموسوعاتهم إلى اللغة العربية، ويكفي أن نعرف أنَّ هناك وأقسام عديدة مستقلة للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية في الغرب كله، وأنَّ في القارة الأمريكية وحدها حوالي تسعة آلاف مركز للبحوث والدراسات الشرقية عامة، ومنها حوالي خمسين مركزاً خاصاً بالعالم الإسلامي، وأنَّه منذ مئة وخمسين عاماً، وحتى الآن يصدر في أوربا بلغاتها المختلفة كتاب كل يوم عن الإسلام، فقد صدر ستون ألف كتاب بين سنة 1800-1950م.أي عبر قرن ونصف، ويصدر المستشرقون الآن ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات في تراث الإسلام، وأنَّ المستشرقين عقدوا خلال قرن واحد ثلاثين مؤتمراً مثل: مؤتمر"أكسفورد" الذي ضمّ تسعمائة عالم.
وما هذا إلاَّ خطة لتهيئة الرأي العام لقبول الغزو العسكري والاقتصادي والثقافي الغربي لبلاد الإسلام من جهة، ولدراسة أحوال العالم الإسلامي، وكل ما يتعلق بشؤونه ليساعدهم ذلك على السيطرة وبسط النفوذ من جهة أخرى.(24/229)
كل هذا كان إعداداً وتمهيداً لتقبلنا لما هو آت، وهو " العولمة " ، بل لخضوعنا لما تفرضه علينا العولمة، وعدم إعطائنا فرصة للقبول أو الرفض، فنحن ما بين عشية وضحاها وجدنا أنفسنا أمام العولمة الدينية -من خلال فرض الحوار الإسلامي المسيحي- والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية في آن واحد، ووجدنا أنفسنا قد فقدنا القدرة حتى على شجب ما تتعرض له الأمة الإسلامية من عدوان ومحاولات إبادة، بعدما فقدنا القدرة عن المشاركة في القتال للدفاع عن ما يتعرض له المسلمون من غزو، فلقد شوهوا مفهوم الجهاد في الإسلام، فصوروا الجهاد في سبيل الله ومقاومة الاحتلال والعدوان إرهاباً، وقتلوا روح الجهاد في نفوس المسلمين بعد اتفاقية كامب ديفيد، وخداعنا بأسطورة السلام مع الذين لا يعرفون السلام، ولا يحترمون العهود والمواثيق، ولا يلتزمون بها.
أخطار العولمة السياسية
والطَّامة الكبرى أن "العولمة" السياسية سوف تلغي دور الدولة والحكومة، وأنَّ النظام الاقتصادي العالمي الجديد المفروض علينا سوف يجعل البلاد النامية التي نصنف نحن ضمنها مراكز للتلوث الصناعي، إذ يخطط الكبار نقل مصانعهم إلى بلادنا لحماية بيئاتهم من التلوث الصناعي، مع استغلال العمالة في هذه البلاد لرخصها، ولكن دون أن تنقل لنا تقنية الصناعة أو جعلها في أيدينا، وهذا ما تدرسه الآن بريطانيا لطلبتها وتعِدُّهم لتنفيذه، كما أنَّ النظام المالي الجديد سيتيح المجال أمام المضاربين لضرب اقتصادنا كما حصل في إندونيسيا وماليزيا، كما أنَّ النظام الاقتصادي الجديد سوف يفتح باب الاستثمار على مصراعيه، وهذا يعني أن الصهاينة سيدخلون أسواقنا ويتحكمون في اقتصادنا كما دخلوا بيوتنا من خلال التمويل الأجنبي للجمعيات النسائية الأهلية، والاتفاقيات الدولية -كاتفاقية إزالة أشكال التمييز ضد المرأة التي وقع عليها عدد من الدول الإسلامية-، ومؤتمرات المرأة العالمية، وأصبحوا يفرضوا علينا الخروج عن ثوابت الإسلام مع توعدهم لعلماء الدين إن اعترضوا على ما يفرض علينا من توصيات مؤتمرات المرأة العالمية بسن قوانين دولية تطبق على الجميع، وخاصة القوانين التي تسمح بالانفلات الجنسي تحت مسمى " الصحة الجسدية " أو " الصحة الجنسية"، والتي تتضمن إقرار الإجهاض كوسيلة من وسائل منع الحمل إلى جانب الحرية الجنسية الانفلاتية.
1- ديوان أدونيس : المجلد الأول،ص346 .
2- ديوان صلاح عبد الصبور:قصيدة الحزين، ص 38.
3- قصيدة كلمات سبارتكوس لأمل دنقل
=============(24/230)
(24/231)
في ثقافة الديموقراطية.
عرض ونقد د/ مصطفى بكري السيد 22/9/1424
16/11/2003
الكتاب: ثقافة الديموقراطية.
المؤلف : جورج طرابيشي
الناشر : دار الطليعة ، بيروت.
الطبعة : الطبعة الأولى ، تموز 1998 .
1- مختارات من الكتاب:
" في جميع الأنظمة الأخرى يكون الإنسان مخلوقا للقانون ، بينما في الديموقراطية وحدها يكون القانون مخلوقا للإنسان " ص62 .( الكاتب التشيكي الأصل النمسوي المهجر (فرانز كافكا، 1882-1924).
"والحال أن السياسة هي انطلاق من معرفة الواقع : علم عقلنة الواقع" ص44.
"السياسة فن صيانة الوجود وحفظ الحق في الحياة والفرحة" ص60.
"السياسة مسألة بشرية ودنيوية خالصة" ص 108.
" كيف نتغير في عالم متغير ونبقى نحن؟ أو بتعبير أكثر تناقضاً : كيف يمكن أن نتغير بدون أن نتغير؟ " ص147.
1-تقديم:
في رواية (خريف البطريق) للروائي الكولومبي العالمي ماركيز يسأل القس الكاثوليكي - القادم من روما داعيةً للنصرانية - يسأل أحد حكام إحدى دول أمريكا الجنوبية عن تاريخ وصوله إلى الحكم، يستعين الحاكم بذاكرته فتخذله ولا تسعفه ، لأنه لطول مدة حكمه طال عليه الأمد فنسي متى ابتدأ فقال غير عابئ بصمت ذاكرته - لم يتعود أن يعبأ بشيء - منذ مئة سنة أو مئتين إلا ثلاثين عاما!!!
ولو عكسنا السؤال منذ متى لم يحكم الإسلام أكثر هذه الأرض لما كان الجواب بعيدا عن المدة التي بدأ فيها الحاكم فترة حكمه في إحدى دول أمريكا الجنوبية.
ليس وارداً هنا الحديث عن حكم الشخص بل عن حكم النص أو نص الحكم المؤسس لشرعيته الذي انتهى أو تآكلت أجزاء كثيرة من شرعيته بسقوط الدولة العثمانية في نهاية الربع الأول من القرن الماضي، هذا السقوط الذي وضع العرب المسلمين أمام تجربة غير مسبوقة لشرعية الدولة، وذلك عندما ارتأى كل تيار أن يوجد دولة تكون على مقاسه، وأن يكون حضور الإسلام - أحد أهم أعمدة الشرعية للدولة العثمانية - أن يكون حضوره - كليا أو جزئيا - حسب ظروف ومصلحة الحكم الداخلية والإقليمية والعالمية.
ولكن ما أن يستقر الحكم على النموذج الذي يريده الحاكم حتى يطلق العنان لورش الحكم المختلفة لحشد أدلة التراث والمعاصرة كيما تمنح الشرعية الإسلامية أو الدستورية - أو كليهما - للنموذج المقترح.
وما أن يتحقق ذلك حتى يسدل الستار على المقومات الشرعية أو الدستورية، فلا تنقح ولا تراجع ، بل تنقل إلى المدارس لتحفظ ، وإلى وسائل الإعلام لتمجد ، وإذا ما استجدت ظروف تدعو إلى التطوير أو التغيير في الوسائل والأساليب ردّ حزب الحكم قائلا:
أيها الناس: اتهموا عقولكم ، فهذه مسائل لا مجال للاجتهاد فيها وستظل قابلة للتطبيق دون أن تمس حتى يوم القيامة!!!
ولئن كان التغيير من داخل التراث عصيا، كان ذلك ولم يزل ، فما بالكم بالتغيير من خارج التراث وتجربته التاريخية كالدعوة إلى الديموقراطية مثلا.
إن هذه الأوراق تدعو القراء إلى قراءة متأنية لهذه الكلمة ابتغاء أن يكون الموقف منها على علم فلا نقرأ عنها فقط ، بل أيضا تقتضي منا التسلح بالمعرفة ، وأن نكون مدججين بالثقافة للدفاع عن المبادئ الثابتة التي تشكل منها هويتنا، إن المبادئ ثابتة، ولكن سبل الدفاع عنها متغيرة، ولعل من أعظم سبل الدفاع عنها تحريرها ممن يريد اختزال نصرتها بالرصاص الذي يخترق جسم الضحية ليستقر في قلب واقع الدعوة ومستقبلها.
هذه الأوراق استراحة للقارئ لتعريفه ببعض ما قد يفيده عن هذا المصطلح ليكون الموقف منه - سلباً أو إيجاباً - قائما على المعرفة ونابعا من القراءة.
2-تمرينات ومقاربات للديموقراطية:
يورد الكاتب في مواضع مختلفة السياقات تعريفاً أو تقريباً لمكونات كلمة الديموقراطية.
يقول ص 10:
" الديموقراطية تعريفا هي بكل تأكيد حكومة العدد الأكبر ، أو بتعبير أدق الحكومة التمثيلية للعدد الأكبر".
" أعطيت الأولوية في تعريف الديموقراطية لمعيار الحد من السلطة، وجاء تحديدها في الغالب تحديدا سلبيا باعتبارها نقيض الدكتاتورية " ص 37.
وفي ص41 " إن الديموقراطية قابلة للتعريف بأنها: إرادة التركيب بين الفكر العقلاني والحرية الشخصية والهوية الثقافية ".
وفي ص50/51 "الديموقراطية تتحدد بأنها مجهود للمؤالفة بين الوحدة والتنوع بين الحرية والاندماج".
" ليست هي أحسن أنظمة الحكم فحسب،بل أكثرها عقلانية واستجابة لشروط الوجود الإنساني" ص60.
" أول ما تعنيه هو أن الحكم ليس للشعب بما هو كذلك ، بل لممثلى الشعب المنتخبين" ص78.
وفي ص86-87: " الديموقراطية نظام لتبادل السلطة، وأول بند في العقد الديموقراطي هو أن يحتفظ الخصم لخصمه بالحق في الوصول إلى السلطة بدوره".
"وصحيح أن العيب الكبير للديموقراطية التمثيلية أنها تختزل سلطة المحكومين، ولكن ميزتها الكبرى أنها تحد على الأخص من سلطة الحاكمين" ص92.
" الحاكم الديموقراطي حصراً :
هو من يستطيع الذين يحكمهم أن يضعوا حدا لخدماته شاكرين أو غير شاكرين، وهذا دون أن يضطروا إلى العنف أو للخروج على القانون" ص103.
ويقول عن المقاومة المدنية بوصفها إحدى ثمار الديموقراطية ص131:(24/232)
" لا تهدف إلى أن تنتزع من الطغاة شيئا بقدر ما تحاول أن تمتنع عن إعطائهم شيئا، إنها القدرة على الرفض وقول : لا ".
3-أكلاف الديموقراطية:
والكاتب لا يقدم الديموقراطية وصفة سحرية أو وجبة سريعة تخرج المجتمعات من مآزقها كلمح بالبصر وبثمن بخس من التضحيات والضحايا.
" لا تعد بأي فردوس ، ولا تندر الحالات التي تكون فيها ممارستها جهنمية " ص 9. ويرى أنها يجب أن تكون ثقافة عامة وخياراً شعبياً وإلا " فليس لشعب أن يكون ديموقراطياً رغماً عن ألفه" ص 15.
إذن هي لا تسقط بالبراشوت " المظلة" ولا تكون بثرثرة بعض أمشاج المثقفين ؛ لأنها ما " في الرؤوس وليس فقط في صناديق الاقتراح ، وثقافة الديموقراطية لا تستقر في الرؤوس دون ثمن باهظ ، ولو أن التعبير بات ممجوجاً لتكلمنا عن ضرورة ثورة ثقافية فهي لا يمكن أن تكون نظاما للحكم دون أن تكون نظاماً للمجتمع ، وليس لها أن تسيّر العلاقات بين الحكام والمحكومين دون أن تسيّر العلاقات بين المحكومين أنفسهم ، ولئن تكن الحرية الديموقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع ، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه هو جمجمة الرأس " 16/17.
وإذا أردننا الديموقراطية مجاناً فنحن نستهلها ونريد وردتها بلا شوكتها - ومن الاستسهال - كما من الاختزال - ما قتل " ص 18.
4- مأخذ وتعقيب:
لم يكن الحديث عن الديموقراطية ممكناً دون الحديث عن الأصولية والأصوليين ، وإذا كان الكاتب قد أورد نماذج لمن حاول استقلال الديموقراطية عن دعاتها ولم يُحابِ الديموقراطيات الكاذبة والديموقراطيين المزيفين فهو لم يتخل عن المنهج عينه مع الأصوليين.
وابتداءً لا بد من التفريق بين الأصوليين والإسلام ، فإذا كانت طوائف شتى تستظل بهذا الاسم فإن من يحمل الإسلام عقيدة صحيحة ومقاصد مخلصة ووعي بالذات والواقع المحلي والعالمين ، إن من يفعل ذلك قلة في العالم ، وهذا مثال هجوم الكاتب على الأصوليين " فأي تهافت منطق في موقف من يعتبر المرأة بنصف عقل ودين ومن يصر على حرمانها من نصف حقها في الإرث(1)وفي الأهلية القانونية ويطالب لها مع ذلك بحق التصويت تاماً غير منقوص ولا مشروط ص 20.
المشكلة مع هذا المنهج في الكتابة أن الكاتب يخلط بين آراء من يسميهم " الأصوليين " وبين الأحكام الشرعية ، يسوس المسيحية - في حرية رفض ما يشاء عنها - بالإسلام متغافلاً عن تحريف الأولى مراجع ونسخها شرائع.
ولم يقبل من البابا أن يستغل موقفه الكاثوليكي للدعم المطلق لحركة التضامن البولندية بقيادة ليخ فاونسا وجعل كنسية " فر صوفيا " منبراً للثقافة الديموقراطية ، ويصف مجتمعاتنا بأنها " تخضع لغزو صحراوي وأصولي توظف فيه دولارات النفط بتمويل مكتبات " الثقافة الصفراء " ص 23.
هل يريد أن نوظف الدولارات لنشر "الثقافة الخضراء" ؟.
إننا نخشى كما قال الباكستاني المسلم ثم الأمريكي جنسية إقبال أحمد " يُطلب من المسلمين التخلي عن دينهم ليكسبوا الحضارة ، أخشى أن نخسر ديننا وألا نكسب الحضارة".
الكاتب يمثل بكتابته إحدى مشكلات الفكر العربي الحديث وهي افتقار دعاة هذا الفكر أكثرهم إلى فهم الإسلام بعيداً عن النظارة الشيوعية والمجاهر الاستشراقية وكذلك افتقار أكثر دعاة الفكر الإسلامي الحديث إلى الاحتكاك العميق المنهجي بالفكر الحديث.
إن تبادل الإدانات لا يفضي إلى شيء أما تيار الأفكار فإنه يفضي إلى المستقبل ، وتجسير الجسور بين الحضارات لبحث إمكانات التلاقي والتلاقح البناءين ، إن الوظيفة الأسمى للكتابة أن تعمل بوصفها مجسات لاكتشاف مواطن القصور والتصدع للعمل على إعادة تأهيلها وتفعيلها.
5- خاتمة:
كنت أدرّس طلبة التخرج في قسم الأدب في الجامعة لمحات عن الإبداع الروائي وقراءة الرواية ، فرأيت بعض الطلبة تمعرت وجوههم فقلت لهم:
"لكم مطلق الحريّة أن تقبلوا مضمون هذه الرواية أو ترفضوه وأن تقدموا الشعر وتؤثروه ،ولكن لا عذر لكم -بوصفكم طلاب أدب-أن تتجاهلوا أصول الرواية وطرائق قراءتها تجاهل الديموقراطية أو جهلها الأمران كلاهما ممنوع،أما قبولها ورفضها فإن أبسط صور الديموقراطية لا تمنح الحق بذلك فحسب بل وتضمنه أيضاً"(1) للأسف فقد سف محمد عباد الجابري ، وذكر مثل هذا الهراء
============(24/233)
(24/234)
موقف الغرب من الإسلام
سهيلة زين العابدين حمَّاد 10/3/1424
11/05/2003
لقد وقف الغرب من الإسلام موقفاً عدائياً عبر التاريخ، ويظهر هذا العداء بجلاء ووضوح في الآتي:
1-الحروب الصليبية:
حارب الغرب الإسلام، والحروب الصليبية التي شنها على الإسلام -مدى قرنين من الزمان- أكبر دليل على هذا .
الحركة الاستشراقية:
عندما فشلت هذه الحروب في تحقيق أهدافها، احتضنت الكنيسة الاستشراق الذي استمر على مدى ثمانية قرون يهاجم الإسلام، وينال من التشريعات القرآنية، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن النبي الكريم، لتشويه الإسلام، وسيرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - للحيلولة دون إسلام النصارى، ولتنصير المسلمين، وللسيطرة على المسلمين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واحتوائهم علمياً وفكرياً، ولا تزال الحركة الاستشراقية مستمرة حتى يومنا هذا، وقد تغير مسماها، إذ أصبحت تحمل مسمى الدراسات (الشرق أوسطية) ملقية بمصطلح (الاستشراق) في مزبلة التاريخ -بعدما كُشفت أغراضه وأهدافه- مركزة على هذه المنطقة التي تضم المقدسات الإسلامية، وباعتبارها محور الصراع، مع سيرها على ذات المنهج. ولقد صرَّح المستشرق اليهودي الفرنسي (مكسيم ردنسون) أنَّهم لن يتخلوا عن مناهجهم إرضاءً للعرب .
3-دعوة البابوية استقبال الألفية الثالثة بلا إسلام:
والإسلام ظل -وسيظل- مخيفاً لأعدائه الذين يخططون للقضاء على كل ما هو إسلامي، ويرهبهم الجهاد في سبيل الله للدفاع عن الأوطان وتحريرها، فعملوا على تغييب الجهاد واعتباره إرهاباً، وملاحقة المجاهدين في فلسطين وغيرها كإرهابيين لتصفيتهم والقضاء عليهم، والحملة الحالية الموجهة ضد الإسلام، وضد المملكة ليست وليدة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإنَّما مخطط لها منذ سنين طويلة، فلقد أعلن (بابا الفاتيكان) في المجمع المسكوني عام 1965م أنهم سوف يستقبلون الألفية الثالثة بلا إسلام، ففي شهر مايو عام 1992م صرَّح نائب الرئيس الأمريكي في حفل الأكاديمية البحرية الأمريكية بولاية (ماريلاند) أنَّهم قد أخيفوا في هذا القرن بثلاثة تيارات هي: الشيوعية، والنازية، والأصولية الإسلامية، وقد سقطت الشيوعية والنازية، ولم يبق أمامهم سوى الأصولية الإسلامية.
4- إعلانهم في مؤتمر التنصير -الذي عقد في (كلورادو) بالولايات المتحدة- أنّ الحضارة الإسلامية شرّ برمتها، ويجب العمل على اقتلاعها من جذورها، وأنَّ كلمة (مسجد) و (مسلم) تستفزهم.
4-إعلان جورج بوش حرب صليبية ثانية على الإسلام:
فما أعلنه الرئيس الأمريكي أنَّ حرب الإرهاب هي حرب صليبية على الإسلام لم تكن زلة لسان، وكل الأحداث التي حدثت -والمخطط لها- تؤكد أنَّ هناك حرباً شرسة على الإسلام على مختلف الجبهات، وعلى كل الأصعدة، والحملة المكثفة على المملكة العربية السعودية تؤكد ذلك؛ لأنَّ المملكة مهد الإسلام، ولأنَّها أكثر الدول الإسلامية اهتماماً بتحفيظ القرآن الكريم للجنسين، وبتدريس المواد الدينية من تفسير للقرآن الكريم، وحديث وتوحيد وفقه في جميع المراحل الدراسية، وذلك لينشأ أبناؤها على أسس سليمة من العقيدة.
والغربيون يدركون تماماً أنّ الدين الإسلامي والتاريخ الإسلامي يخلوان من الحقد الديني الذي يمتلئ به التاريخ الأوروبي، وتلمود اليهود وتشريع التوراة المحرفة، وتاريخ اليهود الصهاينة في فلسطين.
والذي يؤكد ما أقوله إنَّ التلمود يبيح دماء وأعراض وأموال غير اليهود، ويسب سيدنا عيسى -عليه السلام- ويشتمه، وإسرائيل قائمة على أساس الدين بكل ما تحمله عقيدتهم من استعلاء على الشعوب، وأنَّهم شعب الله المختار، وإسرائيل بكل ما تقوم من حرب إبادة لشعب بأكمله -وهو أعزل- وتضربه بالطائرات والصواريخ والدبَّابات، وتجرف الأراضي، وتهدم المنازل، وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتروع الآمنين، وتمثل بجثث القتلى من الأطفال، وتنزع منها أعضاءها، هذا كله لا يعد إرهاباً في نظر الغرب، بل اعتبروا جهاد الشعب الفلسطيني ومقاومته للاحتلال الصهيوني إرهاباً، مع أنهم قاوموا هم من احتل أراضيهم، فأمريكا قاومت الاستعمار البريطاني، وفرنسا قاومت الاحتلال الألماني لأراضيها.
والواضح أنّ نجاح انتفاضة الأقصى -فيما ألحقته من خسائر لإسرائيل- جعلت الصحف الإسرائيلية -الآن- تتحدث عن انهيار إسرائيل، وقد أصبح الآن عدد النازحين من إسرائيل من اليهود أكثر من المهاجرين إليها، إضافة إلى الخسائر المالية التي تكاد تشل اقتصاد إسرائيل، فهذا ضاعف من جنون الغرب، -ولا سيما أمريكا- الموجه حملاته ضد الإسلام، وكل ما هو إسلامي، وتجفيف منابع الجمعيات الخيرية التي تدعم الشعب الفلسطيني بصورة خاصة؛ لإجهاض الانتفاضة والقضاء عليها .(24/235)
وينبغي ألا ننسى أنَّ هذه الحملات التي تحركها وتصعدها الصهيونية العالمية؛ لأنهم مستفيدون منها إلى حد كبير، كما لا يخفى على الجميع مدى سيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام الغربية، من صحافة وإذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح، وشركات إعلان، وكذلك على مصادر الخبر، وهي وكالات الأنباء، فجريدة (النيويورك تايمز) -التي تقود حملة شعواء على المملكة- صاحبها يهودي، والكاتب الصحفي بها -المتحامل على الإسلام- يهودي صهيوني، وهذا يجعلنا ندرك أبعاد هذه الحملة
==============(24/236)
(24/237)
صراع الحضارات أكذوبة غربية
التحرير 26/2/1424
28/04/2003
- ما يمر به الاسلام اليوم حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف
- المرأة تمتلك أخطر دور في بناء الأمة الإسلامية القوية
- الحرب على الإسلام لم تتوقف منذ ظهوره من أجل القضاء عليه
المفكر الإسلامي الدكتور مصطفى الشكعة يرى أن الإسلام والمسلمين يتعرضون حالياً لحملة هجوم شرسة لم يتعرضوا لها من قبل، فالغرب يشن عليهم حربًا بكل ألوان العدوان البارد والساخن، ويؤكد أن المسلمين يعيشون مرحلة زمنية تعيسة، ولكنهم لا بد أن يتمسكوا بدينهم ووحدتهم؛ لأن تلك سنة الله، فمنذ أن ظهر الإسلام علي الأرض وهو يمر بمراحل متعددة من الهجوم، لكن أبطاله استطاعوا أن ينتصروا على عدوهم في كل المرات.
وينادي الدكتور مصطفى الشكعة الأستاذ بجامعة عين شمس بضرورة تمسك المرأة المسلمة بالرسالة التي حددتها لها الشريعة الإسلامية؛ لأن دورها في بناء الأسرة والمجتمع الإسلامي مهم جداً ،وخاصة في ظل كفالة المبادئ الدينية لحقوقها، بعدما كانت كماً مهملا ضمن ممتلكات الرجل، ويحذر الدكتور الشكعة من خطورة الاستشراق فهو السم المدسوس في العسل.. تفاصيل عديدة حول القضايا الساخنة في هذا الحوار الذي أجراه موقع الإسلام اليوم.
صورة مشوهة
سؤال: ما تعليقكم على الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام هذه الأيام ؟
جواب: الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام ليست وليدة اليوم، ولكنها حلقة جديدة في سلسلة لن تتوقف، وتتغير حسب موازين القوى الدولية ووحدة العالم الإسلامي، فالغرب يشن حربه التي بدأت بتشويه صورة الإسلام والمسلمين في شتى وسائل الإعلام الغربي، فأصبح هناك عقيدة راسخة في عقول الشعوب المعادية للإسلام في أمريكا ودول أوروبا بأن الرجل المسلم شخص عدواني متخلف، قبيح المنظر بدائي، يمسك في إحدى يديه بكتاب الله وفي اليد الأخرى السلاح، يرتدي جلبابه الأبيض القصير.. أما الصورة الأخرى للمسلم فهو رجل يجمع حوله النساء والخمر والطرب والأموال ولا يفكر فكل ما يعنيه هو ملذات الدنيا المادية ويبدد في سبيل ذلك كل شيء..أما الصورة الأشد قسوة فهي تلك التي تصور هذا المسلم بالعداوة للإنسانية والشذوذ، بحيث يتم عرض صورته في هيئة شخص يعتدي على الأطفال الأبرياء ويمزق براءتهم.. هذه الصورة المشوهة هي القاعدة التي انطلقت منها كل الحروب ضد الإسلام وشعوبه، سواء كانت بالحرب الاقتصادية تارة أو بالسلاح تارة أخرى، وهو ما حدث في البوسنة والهرسك وأفغانستان وما حدث في السودان والصومال، ولم يزل في فلسطين مستمرا وكذلك كشمير وغيرها من المناطق الإسلامية، وما يتعرض له العراق الآن وإيران ولبنان، كل ذلك هو نفس سيناريو الهجوم، لكن كلما اشتدت الأزمات بالمسلمين لا بد أن يزداد تمسكهم بدينهم، وتقوى وحدتهم لأن العدو الذي يتربص بهم - دائما - يجد فرصته في فرقة الأمة لتحقيق أهدافه الاستعمارية.
محنة المسلمين
سؤال: ما هو تقييمك للوضع الحالي للأمة الإسلامية ؟
جواب: الأمة الإسلامية تعيش في محنة ما يطلق عليه الغرب بالأصولية أو ما يطلقون عليه "التطرف الإسلامي"، ولا بد أن نعرف أن أصولية الإسلام ذات معنى يختلف تماما عن الأصولية النصرانية، فالأصولية عندهم ترتبط بالكنيسة وحرق العلماء، بينما الأصولية الإسلامية ترتبط بكل معاني الإنسانية والحياة السلمية .
وقد طوع الغرب هذه المغالطة الكبرى بصورة سيئة، فأصبحت المادة العلمية التي يتلقاها الأطفال والشباب الذين يتلقون تعليمهم في مدارسهم يحصلون على مادة علمية تحتوي على مادة مشوهة وكريهة، فهم يعلمونهم كيف يكرهون الإسلام، أما المصيبة الكبرى فتكمن فيما تصدره بعض الهيئات الحكومية في بلاد المسلمين، وتحمل هجوما شرسا على الإسلام، فما أقبح أن تكون يد الهجوم على الإسلام من بلاد المسلمين ومن وسائل إعلام ليست غربية، كذلك بعض الكتب التي هاجم أصحابها الإسلام ثم أعلنوا توبتهم وبراءتهم منها، ثم نجد بعد ذلك قيام بعض الهيئات الحكومية في بلادنا الإسلامية تعيد طباعتها مما يخدم الأطماع الغربية، وتثير عددا كثيرا من علامات الاستفهام، أما المناهج التعليمية في العديد من المدارس بالدول الإسلامية فقد تعرضت لعملية تجهيل للقضايا الإسلامية وكل ما يربط التلاميذ بدينهم، حتى الحصص القليلة التي خصصتها وزارات التعليم للدين الإسلامي فكثيرا ما يتم إلغاؤها وتحويلها لتدريس مواد أخرى، لكن على النقيض تماما فبرامج أقسام اللغات الأجنبية في الجامعات وما شاكلها تقوم بتدريس روايات بعضها إباحي مائة بالمائة، والبعض الآخر فيه طعن في الإسلام، والأبشع من ذلك أن الروايات العربية التي يتم تدريسها في أقسام اللغة العربية كلها فاحشة، وكل ذلك من أساليب الهجوم على الإسلام .
الحرب على الإسلام
سؤال: ما تحليلك للحروب التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية بدعوى مكافحة الإرهاب و إنقاذ الأمة العربية والإسلامية ؟(24/238)
جواب : الحروب الوهمية التي تعلن عنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وتحشد العالم من أجل المشاركة فيها تحت مسميات الشرعية الدولية تارة، ومكافحة الإرهاب تارة أخرى، كل ذلك يدور في نفس فلك الحرب ضد الإسلام، فما حدث في البوسنة والهرسك من عمليات إبادة للمسلمين وما يدور على الأرض المحتلة في فلسطين كان أدعى لسرعة التدخل الدولي من أجل إنقاذ الضحايا، لكن ما حدث هو غض الطرف عن السفاحين حتى ينتهوا من تنفيذ جرائمهم ضد المسلمين، وبعد ذلك يتم التدخل بصورة تعد ورقة توت يحاول ما يسمى بالمجتمع الدولي أن يستر بها عورته، وعلى النقيض تماما يكون التصرف مع الدول الإسلامية، فحين بدأت أفغانستان والسودان وإيران في بناء قواعد لدول إسلامية حقيقية، تم اختلاق الحجج من أجل القضاء عليها كي تضمن دول محور الحرب على الإسلام استمرار نفوذها في العالم الإسلامي...
أما المهزلة التي يشهدها بلد مسلم كالعراق فهي مسألة لا علاقة لها بالقضاء على أسلحة الدمار الشامل، لأن هذا النوع من السلاح بدأت ولادته في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الكبرى، ولم يصل للدول الأخرى إلا بعد أن طورت الدول الكبرى هذه الأسلحة أو ابتكرت ما هو أخطر منها، والمسألة برمتها تدور في إطار تحقيق المصالح الخاصة لأمريكا وبريطانيا، كذلك تعطي الفرصة لتمكين الحكومة الدموية في إسرائيل من تحقيق مخططاتها تجاه الشعب الفلسطيني المجاهد، فأي عدالة دولية هذه التي ترى في امتلاك دولة ذات سيادة على أرضها لسلاح ما خطورة على العالم ؟
في حين لا ترى الخطورة نفسها في امتلاك دولة معتدية بل إنها ترفض نداء المجتمع الدولي بالتوقيع على اتفاقيات نزع هذا النوع من السلاح الخطر، المسألة واضحة ولا تحتاج لعناء في كشف أبعادها الاستعمارية.
الداء والدواء
سؤال: هل هناك تصور من وجهة نظرك للخروج من هذه المحنة ؟
جواب: لست يائساً من الوصول إلى طريق الخروج من هذه المحنة فالمسلم لا ييأس، لكن لا يمكن أن نصل إلى الدواء بدون معرفة الداء، والذي ينبع من البلاد الإسلامية نفسها، هذا الداء يكمن في الهجوم على الإسلام في بلاد المسلمين، وملاحقة كل من يتمسك به، وكذلك الفرقة والصراعات التي أصبحت تحكم معظم علاقات الدول الإسلامية، وغياب المشروعات الكبرى التي من شأنها توحيد كلمتهم وإثراء عملية التمسك بدينهم، كذلك اختفاء القدوة التي من خلالها انتشر الإسلام، فالتجار المسلمون في بداية الدعوة كانوا أمناء في تعاملاتهم، صادقين في علاقاتهم الاقتصادية، يقيمون الصلاة في أوقاتها، فأسلم الكثيرون ومن خلال هذه القدوة وعن طريقها يتربى الطفل وينشأ على الفضيلة، وبها يمكن تحصين المجتمعات الإسلامية من التيارات الفكرية و الثقافية الوافدة التي تدمر عقول الشباب وتهدم بناء المجتمع، هذا بالإضافة إلى استغلال الثروات الضخمة التي يتمتع بها العالم الإسلامي، سواء أكانت بشرية أو طبيعية أو صناعية، ورفع اليد الاستعمارية من السيطرة عليها، كما لابد أن نكون أشد حذرا من عمليات الاستشراق التي بدأت تحت رايتين، الأولى راية الكنيسة المعادية للإسلام، والراية الأخرى هي راية الاستعمار الذي يرى أن كل ما يملكه المسلمون حلال لهم، ولذلك يلجأون للتدليس وقلب الحقائق؛ حتى يتمكنوا من تحقيق أهدافهم .
هذه النقاط التي كانت سببا في داء الضعف الذي أصاب العالم الإسلامي لو تم القضاء عليها لتغيرت الصورة إلى النقيض، وعادت لنا قوتنا من جديد .
صدام الحضارات
سؤال: ماذا عن رأيكم فيما يعرف بتصادم الحضارات، وتأثير ذلك على الإسلام ؟
جواب: الحضارة في أي مكان بمعناها الراقي الرفيع هي ملك لكل الإنسانية وكذلك المعرفة، لذلك فإن الحصول على المعرفة والبحث عنها واقتنائها والسفر إليها هي أمر مطلوب من كل الحضارات، وصدام الحضارات ثم صراعها لا وجود له في الحضارة الإسلامية التي لا تصارع أحد من جانبها، وهنا نذكر بقول الإمام ابن رشد - الذي أهدر بعضنا قيمته العلمية والدينية - " أننا نقرأ ما يكتبه الآخرون فإن اتفق مع ديننا وعقيدتنا وآدابنا أخذناه وشكرناهم، وإن اصطدم مع معتقداتنا الدينية والحضارية انصرفنا عنه وشكرناهم أيضا" .. لذلك فالحضارات لا بد ألا تصطدم بعضها البعض على أي حال، بشرط أن تكون نافعة للبشر والعقل الإنساني وليس للتشكيك فيه وهدم المعتقدات الدينية السليمة، فالحضارات لا تصطدم وتتصارع لكنها تتفاعل من أجل الإنسانية، شريطة أن تكون بعيدة عن تغيير فطرة الخالق أو هدم العقائد السماوية .
طعنات مسمومة
سؤال : هل يرى فضيلتكم أن هناك أزمة حقيقية في العقل المسلم، وما تفسيرك للاتهامات التي ترد في هذا الشأن ؟
جواب : ما يدعيه البعض ويروج له من وجود أزمة في العقل المسلم مغالطة لا وجود لها، فمادة "يعقلون" و"أولي الألباب " في آيات القران الكريم لا تحصى فكيف يكون هناك أزمة في عقل المسلم.(24/239)
إن الأزمة موجودة في العقول المريضة التي تلصق بالإسلام الأزمات، فأعداء الإسلام يختلقون التعبيرات والمفاهيم الخاطئة عن الإسلام، ويطعنونه بها، والهدف من ذلك هو إحداث بلبلة في عقول المسلمين من أجل صرفها عن الاهتمام بواقعها والتفكير في مستقبلها، والشيء المؤسف أن الأعداء نجحوا إلى حد كبير في تحقيق أهدافهم، فهناك العديد من المسلمين لا يعلمون شيئا عن دينهم ولا مشاكل مجتمعاتهم الإسلامية .. فكيف نطلب منهم أن يعملوا عقولهم لحلها.
إن الأزمة الحقيقية هي محاولة تغييب العقل المسلم، ومحو طاقته الفكرية والإبداعية، وللقضاء على هذه الأزمة لا بد أن تتكاتف كل المؤسسات الإسلامية داخل مجتمعاتنا المسلمة، بحيث توضح روح الإسلام الحقيقية لكل من يشوب عقله أي نقص في جانب من جوانب الإسلام، وهذا يتطلب وضع خطة متكاملة للنهوض بالعمل الإسلامي داخل هذه المجتمعات.
صلاح المرأة المسلمة
سؤال: ما رأيك في دعوة المساواة بين الرجل والمرأة، والتي يروج لها البعض هذه الأيام ؟
جواب: المرأة قبل الإسلام كانت مخلوقاً مضطهداً من قبل الرجل في شتى المجتمعات، لكن مع ظهور نور الإسلام حصلت علي حقوقها كاملة، وتم فك القيود التي كانت تحيط بعنقها، وللمرأة دور أساس في بناء الأسرة التي تعد اللبنة الأولى للمجتمع، وصلاح المرأة المسلمة ينتج عنه صلاح المجتمع الإسلامي، فدورها لا يقل بأي حال عن دور الرجل، وما يجب عليها فقط أن تؤدي رسالتها بالصورة التي رسمها لها الإسلام وقواعده؛ حتى لا تتحول إلى مخلوق ثالث لا هي حافظت على كونها امرأة ولا استطاعت أن تصير رجلا.
ولا بد أن تعي ما يريده أعداء الإسلام من توجيه أسلحتهم لهذا الجانب المهم من البناء الإسلامي، فهم يرغبون في خروجها عن آداب دينها وإفسادها عن طريق شعارات المساواة وغيرها، ونجاحهم في ذلك يعني نجاحهم في إفساد اللبنة الأولى في بناء المجتمع المسلم بما يعني النجاح في إفساد كل المجتمع، كما يجب على الرجل منحها حقوقها كاملة كما كفلها لها الإسلام، ولا يعود بها إلى عصور الجاهلية .
================(24/240)
(24/241)
الإستشراق والإعجاز في القرآن الكريم[1/2]
د. علي بن إبراهيم النملة(*) 26/3/1428
14/04/2007
المدخل
نقل المعلومة الشرعية
العناية بكتاب الله تعالى
الدافع لترجمة معاني القرآن
المدخل:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محَمَّد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن والاه,
وبعد:
فهذه وقفات حول النقد الذاتي للاستشراق, تتمحور حول نظرات الأوائل من المستشرقين حول القرآن الكريم, من حيث كونُه كلامَ الله تعالى, منزَّلاً على رسوله محَمَّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -, من خلال وسيلة هي جبريل -عليه السلام-, ومحاولات طلائع المستشرقين إنكار أنْ يكونَ القرآن الكريم كتابًا منزَّلاً من عند الله تعالى, ومن ثمَّ إنكار أنْ يشتمل على أيِّ نوع من أنواع الإعجاز, بالإضافة إلى الادِّعاء بأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استعان, في "تأليف" هذا الكتاب المجيد, ببعض معاصريه من أهل الكتاب. وسعى هذا البحثُ إلى التركيز على ردِّ المستشرقين على المستشرقين, فيما يمكن أنْ يدخُل في مفهوم النقد الذاتي للاستشراق.
تأتي هذه الوقفاتُ استجابةً لدعوةٍٍ كريمةٍ مشكورة من الأستاذ الدكتور محَمَّد عبدالرحيم محَمَّد عميد كلِّية دار العلوم بجامعة المنيا بجمهورية مصر العربية, رئيس المؤتمر الدولي الثالث عن العلوم الإسلامية وقضايا الإعجاز في القرآن والسنَّة بين التراث والمعاصرة, الذي يُعقد في رحاب جامعة المنيا, كلِّية دار العلوم.
آمل أنْ أكون قد وفِّقت في إثارة هذا الموضوع, بما يفتح المجال إلى مزيد من التركيز, من قبَل الباحثين العرب والمسلمين, على نظرة المستشرقين المعاصرين لأسلافهم من طلائع المستشرقين, في مواقفهم من الإسلام والقرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة, وما طرأ على هذه النظرة من تطوُّر أملته الحالة الثقافية المعولمة, التي برزت في الزمن المعاصر, دون اللجوء إلى التعميم في الأحكام, الإيجابية أو السلبية, على الاستشراق, وبما يكْفُل قدرًا من الإنصاف والاعتدال, في ضوء هذا التلاقُح الثقافي والحضاري بين الأمم, مما يستدعي قدرًا غيرَ مستهانٍ به من التسامُح والعدل في الأحكام العلمية وصنوف التعامُل الأخرى.
نقل المعلومة الشرعية
من وسائل نشر المعلومة الشرعية نقلُها لغويًا, من اللغة العربية إلى لغات أخرى, يتحدَّثها من لا يتحدَّثون العربية, من المنتمين للإسلام، ومن غير المنتمين إلى الإسلام. وتسمَّى هذه الوسيلة بالنقل والترجمة(1).
وأوَّل ما يتبادر إلى الذهن في مسألة ترجمة المعلومة الشرعية ترجمة معاني القرآن الكريم من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى(2).
القرآن الكريم كلامُ الله تعالى, المنزَّلُ من عنده, بواسطة جبريل -عليه السلام- إلى محَمَّد بن عبدالله- صلى الله عليه وسلم - النبيِّ الأمِّيِّ, لا يرقى إليه كلامُ المخلوقين, من حيث الصياغةُ والمعنى والمدلولُ والديمومةُ، وفيه ألفاظ ودلالات لا مقابلَ لها في اللغات الأخرى, ولا تتهيَّأ ترجمته إلى أيِّ لغة أخرى ترجمةً حرفية غير ميسورة, مهما قامت المحاولات, قديمًا وحديثًا, ولذا كانت هناك محاولات للتعامُل مع هذه الاستحالة بتفسير القرآن الكريم بلغات أخرى, كما اصطلح المسلمون على محاولات الترجمة, خروجًا من هذا الحرج, بأنَّها تعامُلٌ مع المعنى(3).
من سمات الإعجاز في القرآن الكريم إعجازه العلمي, بالمفهوم العلمي العام الذي لا يقتصر على العلوم التطبيقية والبحتة, إذ لا بُدَّ من التوكيد على توسيع رقعة المفهوم العلمي, من حيث كونُه إعجازًا قرآنيًا ليشمل السمات العلمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية والتربوية, التي جاءت إشارات لها في كتاب الله تعالى, دون الاقتصار فقط على العلوم التطبيقية (التجريبية) والبحتة.
يختلف التفسير العلمي للقرآن الكريم عن الإعجاز العلمي لكتاب الله, إذ إنَّ التفسير العلمي «هو الكشف عن معاني الآية في ضوء ما ترجَّحت صحَّته من نظريات العلوم الكونية. أما الإعجاز العلمي: فهو إخبار القرآن الكريم بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيرًا, وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -»(4).
تعالج هذه الصفحات موقفَ بعض المستشرقين من الإعجاز في القرآن الكريم, مع التركيز على نقد جهود المستشرقين في التعاطي مع القرآن الكريم بصفته وحيًا منزَّلاً على سيِّدنا رسول الله محَمَّد ابن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -, بما في ذلك نقد جهود هؤلاء المستشرقين في مصدرية القرآن الكريم, من حيث نزولُه وحيًا من عند الله تعالى, في مقابل كونه تأليفًا من رسول الله محَمَّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -, أعانه عليه قوم آخرون.
العناية بكتاب الله تعالى(24/242)
منذ أنْ ختم الله تعالى الأديان كلَّها بالإسلام, وختم الأنبياء والرسُل كلَّهم بمحَمَّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -, وختم الكتبَ السماويةَ كلَّها, بالقرآن الكريم، وهذا الكتاب المنزَّل هو محطُّ اهتمام المسلمين, وغير المسلمين, بالتفسير والتحليل, والسعي إلى فهمه وتمثُّله من المسلمين, والوقوف على أسرار تأثيره في النفوس من غير المسلمين(5).
تَعرَّفَ كثيرٌ من المستشرقين الأوائل على النصِّ القرآني من خلال ترجمة المستشرقين أنفسهم لمعانيه إلى اللغات الأوروبية, التي اعتمد لاحقها على سابقها, مما كان سببًا من أسباب الالتفات عن الإعجاز في القرآن الكريم. ويمكن القول إنَّه من تعرَّض لنصِّ القرآن الكريم, من المستشرقين والعلماء الغربيين, بلغته العربية كانت له مواقفُ أكثر نزاهةً ممَّن تعرَّضوا للنص القرآني مترجَمًا من مستشرقين.
الذين تعرَّضوا للقرآن الكريم من منطلق أدبي كانوا أكثر تركيزًا على إعجاز القرآن الكريم. ولا تكاد دراسات المستشرقين عن أدب العصر الجاهلي تخلو من التعرُّض للقرآن الكريم, على اعتبار أنَّ القرآن الكريم معجزٌ بلاغةً, كما أنَّه معجز من نواحٍ أخرى مختلفة(6).
لا يتوسَّع هذا البحث للحديث عن الإعجاز نفسه, فمنذ أنْ درس المسلمون الإعجاز البياني في القرآن الكريم, منذ علي بن عيسى الرمَّاني الإخشيدي الورَّاق (276 ـ 384هـ) في كتابه: الجامع لعلم القرآن, وحمد بن محَمَّد بن إبراهيم بن الخطَّاب البُستي "الخطَّابي" (319 ـ 388هـ) في كتابه: إعجاز القرآن, ومحَمَّد بن الطيِّب بن محَمَّد بن جعفر بن القاسم البصري الباقلاَّني (338 ـ 403هـ), في كتابه: إعجاز القرآن, والإنتاج العلمي في هذا المجال يزداد مع الزمن(7).
يمكن القول, دون تعميم: إنَّ دراسات المستشرقين الأوائل حول المعلومة الشرعية لا تكاد تخلو من الخلل, إمَّا أن يكون غير مقصود, أو يكون متعمَّدًا. ذلك أنَّ هؤلاء الدارسين للمعلومة قد افتقدوا إلى عاملين مهمَّين؛
أوَّلهما: الافتقار إلى الانتماء إلى هذه المعلومة, وما تمثِّله من ثقافة، ومن ثمَّ أعطاهم عدمُ الانتماء الجرأةَ في الحكم والتحليل, دون النظر إلى التأثير, ولو كان هذا التأثير سلبيًا.
العامل الثاني: هو افتقارهم إلى الإلمام باللغة التي جاءت بها المعلومة الشرعية، وهي, هنا, اللغة العربية، رغم محاولاتهم الجادَّة للسيطرة عليها(8).
هذا العامل الثاني أخفُّ بكثير من العامل الأوَّل، ولكنَّ تأثيرَه بدا واضحًا, من خلال اضطرار المستشرقين إلى الاستعانة بالضليعين باللغة العربية من العلماء والأدباء العرب, يقرأون لهم, وينسخون ما يكتبون. وقد حرصوا على أصحاب الخطوط الجميلة, في ضوء تعميم المطبعة ووسائل الاستنساخ الحديثة, ومن هؤلاء العلماء والأدباء (مرتَّبة أسماؤهم هجائيًا): إبراهيم شيُّوخ, وابن أبي شنب, وأحمد تيمور, وأحمد زكي, وأحمد عبيد, وإحسان عبَّاس, والقاضي إسماعيل الأكوع, وحسن حسني عبدالوهَّاب, وحمد الجاسر, وصلاح الدين المنجِّد, والشيخ طاهر الجزائري, والعابد الفاسي, وعبدالحيّ الكتَّاني, وفؤاد سيِّد, والفقيه التطواني, وقاسم الرجب, وكوركيس عوَّاد, ومحَمَّد إبراهيم الكتَّاني, ومحَمَّد رشاد عبدالمطلِّب, ومحَمَّد محمود بن التلاميذ التركزي الشنقيطي, ومحَمَّد المنوني, ومحَمَّد يوسف نجم, ومحمود محَمَّد الطناحي(9).
يقول رشيد رضا في كتابه: الوحي المحَمَّدي: «إنَّ ترجمات القرآن التي يعتمد عليها الإفرنج في فهم القرآن كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤدِّيها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر. وهي إنما تؤدِّي بعض ما يفهمه المترجم له منهم, إنْ كان يريد بيان ما يفهمه. وإنَّه لمن الثابت عندنا أنَّ بعضهم تعمَّدوا تحريف كلمه عن مواضعه. على أنَّه قلَّما يكون فهمهم تامًّا صحيحًا. ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا, بل يجتمع لكلٍّ منهم القصوران كلاهما: قصور فهمه وقصور لغته»(10).
يعترف المستشرق الفرنسي المعاصر جاك بيرك أنَّ محاولته ترجمة معاني القرآن الكريم «ليست غير محاولة لتفسير معاني القرآن الكريم؛ لأنَّ الترجمة الحقيقية للنصِّ القرآني مستحيلة, فألفاظ وعبارات القرآن الكريم لها مدلولات ومؤشِّرات عميقة, ولا تستطيع اللغة (القابلة) أنْ تنقلها بكلِّ ما تحتويه من معانٍ ظاهرة وخافية»(11).
يقول مصطفى عبدالغني: «إنَّ مراجعة ترجمة جاك بيرك, هنا, تشير إلى أنَّه ـ مثل عدد من المستشرقين ـ رغم استخدامه لعدد من المناهج الغربية الجديدة على النصِّ, فإنَّه ما زال يحمل رواسبَ تاريخيةً واجتماعيةً خاصَّةً في التفسير أكثر من محاولة صارمة في المنهج»(12).
اصطَلَح المسلمون على أنْ يطلقوا على عملية نقل القرآن الكريم, وترجمته من اللغة العربية إلى أيِّ لغة أخرى, ترجمة معاني القرآن الكريم(13), ويتحرَّج المسلم العالِمُ من إطلاق الترجمة على القرآن الكريم, دون أن تكون مقيَّدةً بترجمة المعنى(14).(24/243)
كان هذا مخرَجًا حفِظَ للقرآن الكريم مكانته, بلغته العربية، ودفع كثيرين من غير العرب إلى تعلُّم اللغة العربية, ليستطيعوا تذوَّق القرآن الكريم, باللغة التي نزل بها. كما أنَّه كان مخرجًا لتعدُّد ترجمات المعاني في اللغة الواحدة, على أيدي أبنائها وغير أبنائها، بل ربَّما تعدَّدت ترجمة المعاني باللغة الواحدة على يد مترجم واحد، حيث يتبيَّن له دائمًا التقصير الذي يعتريه, مع كل ترجمة للمعاني. وهذا من طبع البشر(15).
يقول عبدالله بن عبدالمحسن التركي في مقدِّمته للتفسير الميسَّر: «كان غير العرب ـ بمجرَّد دخولهم في الإسلام ـ يتعلَّمون لغة العرب, ليقرؤوا القرآن ويفهموه ويعملوا به. وحينما انحسر المدُّ الإسلامي, وضعُف المسلمون, وقلَّ الاهتمام بالعلوم الإسلامية ولغتها العربية, ظهرت الحاجة إلى ترجمة معاني كتاب الله لمن لا يتكلَّم اللغة العربية ولا يفهمها, إسهامًا في تبليغ رسالة الإسلام للناس كافَّة, ودعوةً لهم إلى هدي الله وصراطه المستقيم.
وتعدَّدت الترجمات, ودخل في الميدان من ليس أهلاً له, بل قام بذلك أناسٌ من غير المسلمين, ممَّا جعل الحاجة ملحَّةً إلى أنْ يعتني المسلمون بتوفير ترجمات صحيحة لمعاني كتاب الله, وبيان ما في بعض الترجمات من أخطاء وافتراء ودسٍّ على كتاب الله الكريم, ورسالة نبيِّنا محَمَّد - صلى الله عليه وسلم -»(16).
الاهتمام بالقرآن الكريم من قبل الغربيين أدَّى إلى ترجمتهم لمعانيه إلى لغاتهم, وهم غربيون, بمفهوم أنَّهم غير مسلمين. ورغم كثرتها إلا أنَّ أبرزها ترجمة المستشرق الإنجليزي جورج سيل (1697 ـ 1736م) إلى اللغة الإنجليزية, التي وضع لها مقدِّمة, قرَّر فيها أنَّ سيِّدنا محَمَّد بنَ عبدالله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي ألَّف القرآن الكريم ـ كما سيأتي ذكره ـ وإنْ كان لم يستبعد أنْ يكونَ قد عاونه أحد من حكماء عصره, من بني قومه, أو من اليهود والنصارى! (17) "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" [ النحل: 103].
أعقب ذلك نقولٌ أخرى عن هذه الترجمة. وكان هذا التأثير سلبيًا، ولعلَّه كان مقصودًا؛ لصرف الآخر عن التعلُّق بالإسلام, من خلال تقديم المعلومة الشرعية الصحيحة, بالترجمة الدقيقة للمصدر الأوَّل لهذه المعلومة. هذا في ضوء غياب جهود المسلمين القادرين على تقديم المعلومة الصحيحة, من خلال الترجمة الدقيقة لمعاني القرآن الكريم, وانشغال المسلمين, في حينها, بالنظر في مشروعية النقل والترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى.
لا شكَّ في أنَّ هذا الموقف من المعلومة الشرعية كان له, في مجتمع هؤلاء الدارسين, تأثيره السلبي عليها، إذ أسهم هذا الأسلوب في إبعاد الناس عن المعلومة الشرعية الصحيحة، بما في ذلك الالتفات إلى الوقفات العلمية الكونية القائمة وقت نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, أو تلك الحقائق العلمية التي تحقَّق بعضها بعد نزول الوحي, أو تلك التي لا تزال تخضع للاكتشاف المتواصل مع التقدُّم العلمي والتقاني.
هذا الالتفات عن هذا الجانب الحيوي في كتاب الله تعالى أسهم في ضعف فهم الإسلام, أو في سوء فهمه من قبل الغربيين، مما كان له تأثيره على الإقبال على هذا الدين, الذي يقوم على المعلومة الشرعية الصحيحة.
التركيز, هنا, مخصَّص لمحاولات فهم الجانب الإعجازي في القرآن الكريم من أولئك الذين لا ينتمون إليه، ولا يتحدَّثون لغته العربية، ممَّا أدَّى إلى قيام محاولات لترجمة معانيه إلى لغاتهم, تعود إلى القرن السادس الهجري (سنة 536هـ), الثاني عشر الميلادي (سنة 1141م), حينما بدأ بطرس المحترم الكلوني هذا الجهد، وتولَّى الترجمة له الراهب الإنجليزي روبرت (روبرتوس كيتينيسيس) الكلوني, وكان, هو والراهب الآخر هيرمان الدالماتي, الذي ترجم النبذة المختصرة, ملمِّين باللغة العربية, وكانت هذه الترجمة «تزخر بأخطاء جسيمة, سواءٌ في المعنى أو في المبنى, ولم يكن أمينًا, إذ أغفل ترجمة العديد من المفردات, كما لم يتقيَّد بأصل السياق, ولم يُقم وزنًا لخصوصيات الأدب», كما يقول يوهان فوك(18).
يُضيف عبدالرحمن بدوي إليهما كلاًّ من روبرت كينت, وعربي مسلم يُدعى محَمَّدا, «ولا يُعرف له لقب ولا كنية ولا اسم آخر»(19). ويذكر محَمَّد عبدالواحد العسري أنَّ من التراجمة أحدَ المسلمين المنقلبين عن دينهم الأصلي إلى النصرانية(20). كما يذكر محَمَّد عوني عبدالرؤوف «أنَّ أحد المغاربة من المتفقِّهين في التفسير والدين كان يمُدُّ له يدَ المساعدة دائمًا»(21).
ومع هذا فلم تكن هذه الترجمة أمينةً, «فقد كانت تعاني من نقص شديد في مواطنَ كثيرةٍ, فهي شرح للقرآن أكثر من كونها ترجمةً. لم يُعنَ بأمانة الترجمة ولا بتركيب الجملة, ولم يُعِر البيانَ القرآنيَّ أيَّ التفات, بل اجتهد في ترجمة معاني السور وتلخيصها, بصرف النظر عن موضوع الآيات التي تعبِّر عن هذه المعاني بالسورة نفسها»(22).(24/244)
إلا أنَّ هذه الترجمة لم يتمّ طبعها إلا بعد أربع مئة سنة من ترجمتها, أي في منتصف القرن العاشر الهجري, (سنة 950هـ), منتصف القرن السادس عشر الميلادي (سنة 1543م), حيث طبعت في بازل بسويسرا, إذ تولَّد جدل لدى رجال الدين في الكنيسة حول جواز نشر القرآن الكريم بين رعايا الكنيسة, ومدى تأثيره على مشروع حماية النصارى من الإسلام(23). ثمَّ صدرت الطبعة الثانية منها, في بازل بسويسرا, كذلك, سنة 957هـ/1550م(24). تلاها, مباشرة, محاولة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية، وقام بها جمعٌ من رهبان ريتينا. وقيل إنَّ هذه الترجمة قد أُحرقت(25).
تعاقبت الترجمات, مستندة إلى ترجمة روبرتوس الكلوني, وعلى أيدي المستشرقين, فقد صدرت أقدمُ ترجمة إلى الإيطالية سنة 954هـ/1547م, ثم صدرت عن الترجمة الإيطالية ترجمة ألمانية سنة 1025هـ/1616م, على يد سالومون شفايجر, وعن الألمانية صدرت ترجمة إلى الهولندية سنة 1051هـ/1641م, غير معلومة اسم المترجم, ثم إلى الفرنسية, حيث ترجمها رير سنة 1057هـ/1647م(26). وكلُّها كانت عالةً على ترجمة روبرتوس, حتى ظهرت ترجمة لودفيجو ماراتشي إلى الإيطالية سنة 1110هـ/1698م, «التي لا سبيل إلى مقارنتها, من حيث صحَّتُها, مع أيِّ ترجمة أخرى قبلها»(27).
الدافع لترجمة معاني القرآن
يُعيد الدارسون ترجمةَ معاني القرآن الكريم, المتقدِّمة تاريخيًا, إلى دوافع تنصيرية بالدرجة الأولى، وهذا مبني على القول بأنَّ الاستشراقَ قد انطلق من الدافع التنصيري، والديني بصورة أعمَّ.
يقول ريجي بلاشير عن بوادر ترجمة معاني القرآن الكريم التي انطلقت من بطرس المحترم سنة 536 ـ 538هـ/1141 ـ 1143م: «كانت المبادرة قد انبثقت عن ذهنية الحروب الصليبية. هذا ما تثبته الرسالة التي وجَّهها بطرس المحترم إلى القدِّيس برنار, مرفقةً بنسخة من الترجمة التي كانت قد أُعِدَّت, كما انبثقت في الوقت ذاته عن الرغبة الشديدة لإزالة كل أثر للإيمان الأول, من أذهان المسلمين المهتدين. وفي رأينا أنَّ الأهميَّة التي اتَّخذها القرآن في هذا المجال قد تجلَّت في الروح العسكرية التي استمرَّت حميَّتها حتَّى بداية القرن الرابع عشر, دليلنا على ذلك في الحماسة التبشيرية عند ريمون لول المتوفَّى في بورجي سنة 1315م»(28).
يقول يوهان فوك, حول هذا الارتباط, أيضًا: «ولقد كانت فكرة التبشير هي الدافع الحقيقي خلف انشغال الكنيسة بترجمة القرآن واللغة العربية. فكلَّما تلاشى الأمل في تحقيق نصر نهائي بقوَّة السلاح, بدا واضحًا أنَّ احتلال البقاع المقدَّسة لم يؤدِّ إلى ثني المسلمين عن دينهم, بقدر ما أدَّى إلى عكس ذلك, وهو تأثُّر المقاتلين الصليبيين بحضارة المسلمين وتقاليدهم ومعيشتهم في حلبات الفكر»(29).
تنطلق ترجمة معاني القرآن الكريم, بعد أفول حملات الفرنجة (الصليبيين)، وبالتحديد من دير كلوني, بأمر من رئيس الدير بطرس المحترم/الموقَّر, كما مرَّ ذكره(30). ويؤكِّد محَمَّد ياسين عريبي في كتابه: الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي، ارتباط ترجمات معاني القرآن الكريم بالتنصير(31). كما يؤيِّده في هذا محَمَّد عوني عبدالرؤوف في أنَّ «الفكرة من الترجمة إذًا قد كانت من الكنيسة بعد أنْ اقتنعت أنَّ النصر لن يكون بالسلاح»(32).
يؤكِّده, كذلك, الباحثُ الدكتور محَمَّد بن حمَّادي الفقير التمسماني, في بحث له بعنوان: تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها. حيث يجعل «حملات التبشير النصرانية, أحد أسباب بداية نشأة الاستشراق»(33).
يؤيِّده على هذا التوجُّه الأستاذ الدكتور محَمَّد مهر علي, في بحث له بعنوان: ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية ، حيث يؤكِّد الأستاذ الباحث أنَّ ترجمات معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين لم تلقَ إقبالاً إلا لدى الدوائر التنصيرية(34).
يؤيِّدهما, كذلك, الدكتور عبد الراضي بن محَمَّد عبدالمحسن في بحث له بعنوان: مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية، الذي يرى أنَّ التنصيرَ كان وراء ترجمة معاني القرآن الكريم، حيث انطلقت الترجمة في رحلتها الأولى والثانية من الأديرة, وعلى أيادي القسُس, وأنَّ فكرة التنصير كانت وراء ترجمة معاني القرآن الكريم(35).
هذا يؤكِّد أهمية اضطلاع المسلمين أنفسِهم بمهمَّة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، كما قام به بعض أبناء هذه الأُمَّة مؤخَّرًا، وكما تقوم به مؤسَّسات علمية عربية وإسلامية, لها اعتباراتها المرجعية, ومنها, على سبيل المثال, الأزهر الشريف ومجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة, حيث وصلت ترجمات معاني القرآن الكريم الصادرة عن هذا المجمَّع إلى أكثر من أربعين لغة. وهذا جهد يذكر ويشكر.(24/245)
الأصل أنْ تكون هناك ترجمة واحدة, قابلة للمراجعة ومعتمدة, لمعاني القرآن الكريم لكلِّ لغة، قصدًا إلى الحيلولة دون الاختلاف في المعنى باختلاف اللفظ، يأتي هذا في ضوء وجود أكثر من مئة وعشرين (120) ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى لغات العالم، بعضها مكرَّر في لغة واحدة، قام بها عدد من المستشرقين، وبعض المسلمين, كالإنجليزية, التي زادت عدد الترجمات بها عن 80 ترجمة(36). وصلت طبعاتُها سنة 1423هـ/2002م إلى ما يزيد عن 890 طبعة, بعد أنْ كانت قد وصلت سنة 1400هـ/1980م إلى ما يزيد عن 269 طبعة, «سجَّلت تفاصيلَها المرجعيةَ بدقَّة الببليوجرافيا العالميةُ لترجمات معاني القرآن الكريم: الترجمات المطبوعة»(37).
ثم تتركَّز الترجمة في اللغة الواحدة بترجمة واحدة, بفضل من الله تعالى, الذي تكفَّل بحفظ هذا الذكر العظيم؛ "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر: 9]. ثمَّ إلى هذه الثُّلَّة من علماء المسلمين, مدعومين من الحكومات العربية والإسلامية, ومن المعنيين بالشأن العلمي والثقافي والفكري ممن أقاموا مراكز الدراسات والبحوث الإسلامية؛ خدمةً لهذا الدين الحنيف.
|1|2|
(*) أستاذ المعلومات والمكتبات.
(1) انظر في مناقشة قضية النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية: علي بن إبراهيم النملة. النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية. ـ ط 3. ـ الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية, 1427هـ/2006م. ـ 204 ص.
(2) انظر في مناقشة هذه القضية: إبراهيم بن صالح الحميدان. مواصفات الترجمة المعدَّة للاستعمال في مجال الدعوة. ـ 69 ص.
في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي, وتخطيط للمستقبل. ـ المدينة المنورة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, 1423هـ/ 2002م.
(3) انظر, مثلاً: عُبادة بن أيُّوب الكبيسي. إمعان النظر في فواتح السوَر. ـ مجلَّة الدراسات الإسلامية. ـ مج 25 ع 2 (1410هـ). ـ ص 5 ـ 42. وانظر, أيضًا: عبد الفتاح عطية يونس. سر إعجاز القرآن الكريم في فواتح السور. ـ منار الإسلام. ـ مج 5 (5/ 1409هـ ـ 12/ 1988م). ـ ص 6 ـ 15.
(4) انظر: عبدالله بن الزبير بن عبدالرحمن. تفسير القرآن الكريم: مصادره واتِّجاهاته. ـ مكَّة المكرَّمة: رابطة العالم الإسلامي, 1423هـ. ـ ص 139. ـ (سلسلة دعوة الحقِّ؛ 202).
(5) تتَّكئ هذه الوقفات, في أصلها ومقدِّمتها, على دراسة للباحث حول القرآن الكريم والمستشرقين, تنشرها مجلَّة البحوث والدراسات القرآنية الصادرة عن مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة. ـ ع 3 (محرَّم 1428هـ ـ فبراير 2007م).
(6) انظر: عبدالرحمن بدوي. دراسات المستشرقين حول صحَّة الشعر الجاهلي. ـ ط 2. ـ بيروت: دار العلم للملايين, 1986م. ـ 327 ص. وتعرَّض مرجليوث للإعجاز البياني في مقالته: أصول الشعر العربي, كما تعرَّض له جوستاف فون جرونباوم في: دراسات في الأدب العربي, وله, كذلك, نقد الشعر في إعجاز القرآن للباقلاَّني, وأنجليكا نويفرت في مقالتها: طريقة الباقلاَّني في إظهار إعجاز القرآن.
(7) انظر مقدِّمة المحقِّق السيِّد أحمد صقر. ـ ص 5 ـ 95.
في: الباقلاَّني, أبو بكر محَمَّد بن الطيِّب. إعجاز القرآن/ تحقيق السيِّد أحمد صقر. ـ ط 5. ـ القاهرة: دار المعارف, 1981م. ــ 395 ص.
(8) انظر مناقشة البعد اللغوي لترجمةٍ من آخر ما ظهر لمعاني القرآن الكريم لدى: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير. ـ الاجتهاد. ـ ع 49 (شتاء 2001م ـ 1421/1422هـ). ـ ص 129 ـ 135.
(9) انظر: محمود محَمَّد الطناحي. مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي مع محاضرة عن التصحيف والتحريف. ـ القاهرة: مكتبة الخانجي, 1405هـ/1984م. ـ ص 223 ـ 224.
(10) انظر: محَمَّد رشيد رضا. الوحي المحَمَّدي. ـ ط 6. ـ القاهرة: مطبعة نهضة مصر, 1375هـ/1956م. ـ ص 24.
(11) انظر: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير. ـ الاجتهاد. ـ مرجع سابق ـ ص 115 ـ 137. والنصُّ من ص 119, نقلاً عن: سعيد اللاوندي. محاكمة جاك بيرك: إشكالية ترجمة معاني القرآن الكريم. ـ مخطوطة.
(12) انظر: مصطفى عبدالغني. ترجمة جاك بيرك للقرآن: من القراءة إلى التفسير. ـ الاجتهاد. ـ مرجع سابق. ـ ص 129.
(13) انظر: مصطفى صبري. مسألة ترجمة القرآن. ـ القاهرة: المطبعة السلفية، 1351هـ.
(14) انظر: محَمَّد سليمان. كتاب حدث الأحداث في الإسلام: الإقدام على ترجمة القرآن. ـ القاهرة: مطبعة جريدة مصر الحرَّة، 1355هـ.
(15) انظر: محَمَّد صالح البنداق. المستشرقون وترجمة القرآن الكريم: عرض موجز بالمستندات لمواقف وآراء وفتاوى بشأن ترجمة القرآن الكريم مع نماذج لترجمة تفسير معاني الفاتحة في ستِّ وثلاثين لغة شرقية وغربية. ـ ط 2. ـ بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1403هـ/ 1983م. ـ 338 ص.
(16) انظر: عبدالله بن عبد المحسن التركي, مشرف. التفسير الميسَّر/ تأليف نخبة من العلماء. ـ المدينة المنوَّرة: مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, 1418هـ. ـ ص و.(24/246)
(17) انظر: عبدالحكيم فرحات. إشكالية تأثُّر القرآن الكريم بالأناجيل في الفكر الاستشراقي الحديث. ـ 23 ص.
في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 ـ 18/10/1427هـ الموافق 7 ـ 9/11/2006م. ـ المدينة المنوَّرة: المجمَّع, 1427هـ/2006م.
(18) انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوروبَّا حتَّى بداية القرن العشرين/ تعريب عمر لطفي العالم.ـ ط 2.ـ دمشق: دار قتيبة, 1417هـ/1997م.ـ ص 18.
(19) انظر: انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين.ـ ط 4.ـ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر, 2003م.ـ ص 441.
(20) انظر: محَمَّد عبدالواحد العسري. الإسلام في تصوُّرات الاستشراق الإسباني. ـ مرجع سابق. ـ ص 122.
(21) انظر: محَمَّد عوني عبدالرؤوف. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي. ـ ط 2. ـ القاهرة: مكتبة الآداب, 2006م. ـ ص 67.
(22) انظر: محَمَّد عوني عبدالرؤوف. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي. ـ المرجع السابق. ـ ص 67.
(23) انظر: قاسم السامرَّائي. الطباعة العربية في أوروبا. ـ ص 45 ـ 108.
في: ندوة تاريخ الطباعة العربية حتَّى انتهاء القرن التاسع عشر, 28 ـ 29 جمادى الأولى 1416هـ/22 ـ 23 أكتوبر (تشرين الأول) 1995م. ـ أبو ظبي: المجمع الثقافي, 1996م.
(24) انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق. ـ مرجع سابق. ـ ص 15 ـ 20.
(25) انظر: عبدالرحمن بدوي. موسوعة المستشرقين. ـ مرجع سابق. ـ ص 438 ـ 445.
(26) انظر: محَمَّد عوني عبدالرؤوف. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي. ـ مرجع سابق. ـ ص 67.
(27) انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق. ـ مرجع سابق. ـ ص 20. وانظر : ص 97 ـ 98.
(28) انظر: بلاشير. القرآن: نزوله, تدوينه, ترجمته وتأثيره/ نقله إلى العربية رضا سعادة, أشرف على الترجمة الأب فريد جبر, حقَّقه وراجعه محَمَّد علي الزعبي. ـ بيروت: دار الكتاب اللبناني, 1974م. ـ ص 15.
(29) انظر: يوهان فوك. تاريخ حركة الاستشراق. ـ مرجع سابق. ـ ص 16 ـ 17.
(30) انظر: معلوف, أمين. الحروب الصليبية كما رآها العرب/ ترجمة عفيف دمشقية. ــ الجزائر: المؤسَّسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار, 2001م. ــ 352 ص.
(31) انظر: محَمَّد ياسين عريبي. الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي. ـ الرباط: المركز القومي للثقافة, 1411هـ/1991م. ـ ص 144 ـ 148.
(32) انظر: عبدالرؤوف, محَمَّد عوني. فريدريش ريكرت عاشق الأدب العربي.. ـ مرجع سابق. ـ ص 67.
(33) انظر: محَمَّد حمَّادي الفقير التمسماني. تاريخ حركة ترجمة معاني القرآن الكريم من قبل المستشرقين ودوافعها وخطرها. ـ 51 ص.
في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي, وتخطيط للمستقبل. ـ مرجع سابق.
(34) انظر: محَمَّد مهر علي. ترجمة معاني القرآن الكريم والمستشرقون: لمحات تاريخية وتحليلية. ـ 50 ص.
في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي, وتخطيط للمستقبل. ـ المرجع السابق.
(35) انظر: عبدالراضي بن محَمَّد عبد المحسن. مناهج المستشرقين في ترجمات معاني القرآن الكريم: دراسة تاريخية نقدية. ـ 64 ص.
في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي, وتخطيط للمستقبل. ـ المرجع السابق.
(36) انظر: عادل بن محَمَّد عطا إلياس. تجربتي مع تقويم ترجمات معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية. ـ 28 ص.
في: ندوة ترجمة معاني القرآن الكريم: تقويم للماضي, وتخطيط للمستقبل. ـ المرجع السابق.
(37) انظر: عبدالرحيم القدوائي. مقدِّمة في الاتِّجاهات المعاصرة في ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية/ ترجمة وليد بن بليهش العمْري. ـ مجلَّة البحوث والدراسات القرآنية. ـ مج 1 ع 1 (1/1427هـ ـ 2/2006م). ـ ص 217 ـ 229. والنصُّ من ص 218.
============(24/247)
(24/248)
الإستشراق والإعجاز في القرآن الكريم[2/2]
د. علي بن إبراهيم النملة(*) 1/4/1428
18/04/2007
محَمَّد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم:
إدراك الإعجاز
الخاتمة: الخلاصة والنتيجة
محَمَّد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم:
توالت ترجمات معاني القرآن الكريم, دون تدخُّل مباشر, بالضرورة, من الأديرة والكنائس والمنصِّرين، ولكن بقدر من الإيحاء الذي أملته العودة إلى الترجمات السابقة. حتى يأتي جورج سيل سنة 1149هـ/1734م, الذي وصف, لاهتمامه البالغ بالإسلام, بأنَّه «نصف مسلم»,(1) حيث أثنى على القرآن الكريم, وترجم معانيه إلى اللغة الإنجليزية ، لكنه نفى أنْ يكون وحيًا من عند الله، بل أكَّد على أنَّه من صنع محَمَّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -, حيث يقول: «أمَا أنَّ محَمَّدا كان, في الحقيقة, مؤلِّف القرآن المخترع الرئيسي له, فأمرٌ لا يقبل الجدل, وإنْ كان المرجَّح ـ مع ذلك ـ أن المعاونة التي حصل عليها من غيره, في خطَّته هذه, لم تكُن معاونةً يسيرة. وهذا واضح في أنَّ مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك»(2).
وفي نصٍّ آخر للترجمة ينقله علي علي علي شاهين في كتابه: الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام: «ومما لا شكَّ فيه ولا ينبغي أنْ يختلف فيه اثنان أن محَمَّدا هو في الحقيقة مصنِّف القرآن وأوَّل واضعيه. وإنْ كان لا يبعد أنْ غيره أعانه عليه كما اتَّهمته العرب, لكنَّهم لشدَّة اختلافهم في تعيين الأشخاص الذين زعموا أنهم كانوا يعينونه وَهَتْ حجَّتهم, وعجزوا عن إثبات دعواهم. ولعلَّ ذلك لأنَّ محَمَّدا كان أشدَّ احتياطًا من أن يترك سبيلاً لكشف الأمر».(3) "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" [النحل: 103].
يقول نجيب العقيقي عن هذه الترجمة: «وقد نجح في ترجمته, فذكرها فولتير في القاموس الفلسفي. وأُعيد طبعها مرارًا, إلاَّ أنَّها اشتملت على شروح وحواشٍ ومقدِّمة مسهبة, هي في الحقيقة بمثابة مقالة إضافية عن الدين الإسلامي عامَّة حشاها بالإفك واللغو والتجريح».(4) وجاءت ترجمات معاني القرآن الكريم التالية له, في معظمها, عالةً عليه, متأثِّرة به, بحيث نظر الآخرون إلى القرآن الكريم بعد جورج سيل بعينيه, ولم ينظروا إليه بعيونهم.
كون القرآن الكريم من تأليف رسول الله محَمَّد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -, سواء أعانه على تأليفه نفرٌ من اليهود والنصارى والحنيفيين المعاصرين له أم لم يعاونه عليه أحدٌ, أدَّى إلى المزيد من الصدِّ والالتفات عن الجانب الإعجازي في القرآن الكريم؛ إذ لا يتوقَّع القائلون بأنَّ هذا من تأليف ذلك العبقري العربي, الذي عاش في القرنين السادس والسابع الميلاديين, أنْ تكون له نظرات علمية, سواء أكانت متحقِّقةً في زمانه أم أنَّها داخلةٌ في نطاق ما يأتي من الزمان, وهو الناشئ في بيئة أمِّية, وهو نفسه كان أمِّيًّا. فلم تساعد هذه النظرة إلى كتاب الله تعالى على مجرَّد التفكير بأنَّه كتاب معجز(5).
الادِّعاء أن القرآن الكريم من تأليف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي فرية استشراقية قديمة في إطلاقها, ولكنها أثَّرت كثيرًا على تأثير القرآن الكريم على قرَّاء ترجمة المعاني باللغة الإنجليزية, دون شكٍّ. بل إنَّ التأثير قد امتدَّ إلى قرَّاء ترجمة المعاني باللغة الفرنسية, عندما تبنَّى المستشرق البولوني ألبر كازميرسكي (1216 ـ 1295هـ/1801 ـ 1887م) نقل ترجمة المعاني من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الفرنسية (سنة 1256هـ/1840 ـ 1841م), بالأسلوب الذي ترجمها به جورج سيل, حيث «تعوزها بعض الأمانة العلمية», كما يقول نجيب العقيقي(6).
يقول محَمَّد خليفة حسن: «أدَّت وفرة الترجمات الاستشراقية في اللغات الأوروبية إلى نتيجة سلبية في الدراسات القرآنية عند المستشرقين, وهي أنَّ معظم هذه الدراسات اعتمدت على الترجمات, ولم تعتمد على النصِّ العربي للقرآن الكريم»(7).
على أيِّ حال فالبحث في تأريخ الترجمات, التي قام بها الرهبان, ثم الرهبانُ المستشرقون، ثم المستشرقون من غير الرهبان, بحثٌ شائق، وليس هذا مجال التوسُّع فيه، إلا أنَّه غلب على ترجمات معاني القرآن الكريم, من قِبل غير أهله, أنَّها ترجمات اتَّسمت بالنظرة السلبية تجاه الوحي، وتجاه من نزل عليه الوحي, سيِّدنا محَمَّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -.(24/249)
هذه النظرة التي قال عنها واحد منهم، وهو روم لاندو: «إنَّنا لم نعرف إلى وقت قريب ترجمةً جيَّدة استطاعت أنْ تتلقَّف من روح الوحي. والواقع أنَّ كثيرًا من المترجمين الأوائل لم يعجزوا عن الاحتفاظ بجمال الأصل فحسب, بل كانوا إلى ذلك مُفعمين بالحقد على الإسلام, إلى درجة جعلت ترجماتهم تنوء بالتحامُل والتغرُّض. ولكن حتَّى أفضل ترجمة ممكنة للقرآن في شكل مكتوب لا تستطيع أنْ تحتفظ بإيقاع السور الموسيقي الآسر على الوجه الذي يرتِّلها به المسلم. ولا يستطيع الغربي أنْ يدرك شيئًا من روعة كلمات القرآن وقوَّتها إلا عندما يسمع مقاطعَ منه مرتَّلةً بلغته الأصلية»(8).
يعلِّق مصطفى نصر المسلاَّتي على هذا النصِّ بقوله: «إنَّ اعتراف روم لاندو صلى الله عليه وسلم Landauلَيعطي فهمًا مبدئيًّا بأنَّ بعضًا من المستشرقين عندما حاولوا ترجمة القرآن, في أفضل ترجمة ممكنة, أفقدوا القرآن روعته, وأساؤوا إليه, سواء عن قصد أو عن غير قصد.
إنَّنا نشير هنا إلى أنَّ جولدزيهر Goldzihe r قد تمسَّك بروايات شاذَّة جاء بها دليلاً وبرهانًا على أنَّ القراءات السبع عندما نشأت كانت أصلاً عن طريق الكتابة وعدم نطقها. وقد علم المسلم ـ بما لا يدع مجالاً للشكِّ ـ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد أقرأ صحابته بعدَّة وجوه, وليس بوجه واحد»(9).
الوقفات النقدية لرؤى جولزيهر في القراءات خاصَّةً من خلال كتابه: مذاهب التفسير الإسلامي كثيرة, يُرجع منها إلى مناقشات عبدالفتَّاح عبدالغني قاضي, (رئيس لجنة مراجعة المصحف الشريف الأسبق), في مجلَّة الأزهر في أعداد متواليةً, من العدد 9 المجلد 42 إلى العدد 1 من المجلد 45 (11/1390هـ ـ 1/1393هـ الموافق 1/1971 ـ 2/1973م), ثم جمعها في كتاب, طُبَع طبعاتٍ عدَّة(10).
إدراك الإعجاز
تنطلق هذه الوقفة من الإيمان المطلق بأنَّ هذا القرآن الكريم كلام الله تعالى, وأنَّ هذا الكون الفسيح بمخلوقاته وبماضيه وبحاضره وبمستقبله هو خلق الله, ومن ثمَّ فمن المتحقِّق أن يكون هذا الكتاب العزيز شاهدٌ من شواهد الإعجاز في هذا الكون.
من هذا المنطلق تتلمَّس هذه الوقفة ردود المستشرقين والعلماء الأوروبيين المعاصرين على المستشرقين الأوائل في قولهم بأنَّ القرآن الكريم من تأليف محَمَّد - صلى الله عليه وسلم -, ومن ثمَّ تفضي هذه الردود إلى الالتفات إلى الجوانب الإعجازية في كتاب الله تعالى(11), فيقول المستشرق شيبس: «يعتقد بعض العلماء أنَّ القرآن كلام محَمَّد, وهذا هو الخطأ المحضُ, فالقرآن هو كلام الله تعالى الموحى على لسان رسوله محَمَّد. وليس في استطاعة محَمَّد, ذلك الرجل الأمِّي في تلك العصور الغابرة أنْ يأتينا بكلام تحار فيه عقول الحكماء ويهدي به الناسَ من الظلمات إلى النور. وربَّما تعجبون من اعتراف رجلٍ أوروبِّي بهذه الحقيقة, لا تعجبوا فإنِّي درستُ القرآن فوجدتُ فيه تلك المعاني العالية والنظم المحكمة. وتلك البلاغة التي لم أرَ مثلها قطُّ, فجملة واحدةٌ تغني عن مؤلَّفات»(12).
وهذه لورا فيشيا فاغليري تقول في كتابها: دفاع عن الإسلام: «كيف يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محَمَّد وهو العربي الأمِّي الذي لم ينظم طوال حياته غير بيتين أو ثلاثة أبيات لا ينمُّ منها عن أدنى موهبة شعرية؟
وعلى الرغم أنَّ محَمَّدا دعا خصوم الإسلام إلى أن يأتوا بكتاب مثل كتابه, أو على الأقلِّ بسورةٍ من مثل سُوَره "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [البقرة: 23]. وعلى الرغم من أنَّ أصحاب البلاغة والبيان الساحر كانوا غير قلائل في بلاد العرب, فإنَّ أحدًا لم يتمكَّن من أنْ يأتي بأيِّ أثر يضاهي القرآن. لقد قاتلوا النبيَّ بالأسلحة, ولكنَّهم عجزوا عن مضاهاة السموِّ القرآني»(13).
وهذه ديبرا بوتر, الصحفية الأمريكية التي اعتنقت الإسلام سنة 1400هـ/1980م تقول: «كيف استطاع محَمَّد الرجل الأمِّي الذي نشأ في بيئة جاهلية أنْ يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم, والتي لا يزال العلم الحديث حتَّى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لا بُدَّ إذنْ أنْ يكون هذا الكلام هو كلام الله عزَّ وجلَّ»(14).
واشتهر الطبيب الفرنسي موريس بوكاي بوقفاته الموضوعية العلمية مع الكتب السماوية, وخرج من دراسته هذه بعدد من النتائج ضمَّنها كتابه المشهور القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم, أو دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة, إذ يقول: «كيف يمكن لإنسان ـ كان في بداية أمره أُمّيًّا ـ ثمَّ أصبح فضلاً عن ذلك سيِّد الأدب العربي على الإطلاق, أنْ يصرِّح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أيِّ إنسان في ذلك العصر أنْ يكونها, وذلك دون أنْ يكشف تصريحه عن أقلِّ خطأ من هذه الوجهة؟»(15).(24/250)
وكتب المستشرق الفرنسي إميل درمنغم عن حياة محَمَّد - صلى الله عليه وسلم -, وقال: «كان محَمَّد, وهو البعيد من إنشاء القرآن وتأليفه ينتظر نزول الوحي أحيانًا على غير جدوى, فيألم من ذلك, كما رأينا في فصل آخر, ويودُّ لو يأتيه المَلَكُ متواترًا»(16).
وتقول يوجينا غيانة ستشيجفسكا, الباحثة البولونية المعاصرة في كتابها: تاريخ الدولة الإسلامية: «إنَّ القرآن الكريم مع أنَّه أُنزل على رجل عربي أمِّي نشأ في أمَّة أمِّية, فقد جاء بقوانين لا يمكن أنْ يتعلَّمها الإنسان إلا في أرقى الجامعات. كما نجدُ في القرآن حقائقَ علميةً لم يعرفها العالم إلاَّ بعد قرون طويلة»(17).
وهذه الليدي إفيلين كوبولد, النبيلة ألإنجليزية التي أسلمت, تقول في كتابها: الحجُّ إلى مكَّة, أو البحث عن الله: «وذكرتُ أيضًا ما جاء في القرآن عن خلق العالم وكيف أنَّ الله سبحانه وتعالى قد خلق من كلِّ نوعٍ زوجين, وكيف أنَّ العلم الحديث قد ذهب يؤيِّد هذه النظرية بعد بحوث مستطيلة ودراسات امتدَّت أجيالاً عديدة»(18).
وهذا القس المستشرق المعاصر مونتوجمري واط يعود عن أقواله السابقة التي ضمَّنها كتابَه: محَمَّد النبي ورجل الدولة من أنَّ «الوحي لم يكن من عند الله, ولكنه كان من الخيال المبدع. وكانت الأفكار مختزنة في اللاوعي عند محَمَّد, وهي أفكارٌ حصَّلها من المحيط الاجتماعي الذي عاش فيه قبل البعثة. ولم يكن جبريل إلا خيالاً نقل الأفكار من اللاوعي إلى الوعي. وكان محَمَّد يسمِّي ذلك وحيًا»(19).
يرجع مونتجمري واط عن قوله هذا, فيقول عن القرآن الكريم في كتابه المتأخِّر: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر: «إنَّ القرآن ليس بأيِّ حال من الأحوال كلامَ محَمَّد, ولا هو نتاج تفكيره, إنَّما هو كلام الله وحده, قصد به مخاطبة محَمَّد ومعاصريه, ومن هنا فإنَّ محَمَّدا ليس أكثرَ من «رسول» اختاره الله لحمل هذه الرسالة إلى أهل مكَّة أوَّلاً, ثمَّ لكلِّ العرب, ومن هنا فهو قرآن عربي مبين. وهناك إشارات في القرآن إلى أنَّه موجَّهٌ للجنس البشري قاطبةً. وقد تأكَّد ذلك عمليًّا بانتشار الإسلام في العالم كلِّه, وقبله بشرٌ من كلِّ الأجناس تقريبًا»(20). ويمضي مونتوجمري واط في توكيد ذلك في أكثرَ من موضع من كتابه سالف الذكر(21).
يذكر وحيد الدين خان في كتابه: الإسلام يتحدَّى أنَّ الآية الكريمة: "وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"[فاطر: 28], قرئت على الأستاذ جيمس جينز أستاذ الفلك في جامعة كامبردج, «فصرخ السير جيمس قائلاً: ماذا قلت؟ إنَّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؟ مدهش! وغريب, وعجيب جدًّا! إنَّ الأمر الذي كشفتْ عنه دراسة ومشاهدة استمرَّت خمسين سنةٍ من أنبأ محَمَّدا به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب شهادة منِّي أنَّ القرآن كتاب موحى من عند الله. ويستطرد السير جيمس جينز قائلاً: لقد كان محَمَّد أمِّيًّا, ولا يمكنه أنْ يكشف عن هذا السرِّ بنفسه, ولكن «الله» هو الذي أخبره بهذا السر. مدهش! وغريب, وعجيبٌ جدًّا»(22).
يقول إبراهيم خليل أحمد, وكان قِسًّا عمل على تنصير المسلمين فاهتدى: «القرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كلِّ مناحيه: من طبٍّ وفلك وجغرافيا وجيولوجيا وقانون واجتماع وتاريخ ... ففي أيامنا هذه استطاع العلم أنْ يرى ما سبق إليه القرآن بالبيان والتعريف»(23).
وهذا ميلر بروز, أستاذ الفقه الديني الإنجيلي بجامعة ييل يقول: «إنَّه ليس هناك شيء لا ديني في تزايُد سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية, هناك آيَّة في القرآن يمكن أن يستنتج منها أنَّه لعلَّ من أهداف خلق المجموعة الشمسية لفت نظر الإنسان لكي يدرس علم الفلك ويستخدمه في حياته: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" [يونس: 5]. وكثيرًا ما يشير القرآن إلى إخضاع الطبيعة للإنسان باعتباره إحدى الآيات التي تبعث على الشكر والإيمان: "وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 12 - 13]. ويذكر القرآن ـ لا تسخير الحيوان واستخدامه فحسب ـ ولكن يذكر السفُن أيضًا. فإذا كان الجمل والسفينة من نعم الله العظيمة, أفلا يصدُق هذا أكثر على سكَّة الحديد والسيَّارة والطائرة؟»(24).
الخاتمة: الخلاصة والنتيجة
يمكن تلخيص الوقفات الخمس التي وردت في هذا البحث في النقاط الآتية:(24/251)
1. تأخَّر المسلمون في نقل المعلومة الشرعية, ومنها تقديم القرآن الكريم إلى الأقوام الأخرى, عن طريق ترجمة معانيه. وكان هناك جدلٌ بين علماء المسلمين حول مشروعية ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى غير اللغة العربية,
2. تردَّد رجال الكنيسة في قبول ترجمة معاني القرآن الكريم, خوفًا من انتشار الإسلام, وحُبست أوَّل ترجمة لمعانيه في الكنيسة لأربعة قرون (536 ـ 950هـ/1411 ـ 1543م), وأُحرقت بعض الترجمات, لاسيَّما المحاولة الثانية التي قام بها جمع من رهبان ريتينا,
3. رغبةً في الحدِّ من انتشار الإسلام بين النصارى على حساب العقيدة النصرانية, انطلقت ترجمات معاني القرآن الكريم من الكنائس والأديرة, ولم تكن الدوافع لهذه الترجمات, بالضرورة, علمية أو موضوعية,
4. اتَّسمت الترجمات الأولى لمعاني القرآن الكريم التي قام بها المستشرقون بالطعون في كتاب الله تعالى, وفي كونه كتابًا منزَّلاً على نبي مرسل, ومن ثمَّ فقد ظهر الزعم بأنَّ هذا الكتاب الكريم من تأليف محَمَّد - صلى الله عليه وسلم -, أعانه عليه قوم آخرون, من معاصريه من اليهود والنصارى والحنيفيين,
5. كان لهذا الزعم بأنَّ القرآن الكريم من تأليف محَمَّد - صلى الله عليه وسلم - أثرُه في التعامي عن الجوانب المعجزة من كتاب الله تعالى, تستوي في ذلك الجوانب الإعجازية في العلوم التطبيقية والبحتة والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية, مما يعني عدم التركيز في الجوانب الإعجازية من كتاب الله تعالى على العلوم التطبيقية والبحتة فقط.
6. منطلق النظرة إلى إعجاز القرآن الكريم قائم على القاعدة بأن القرآن الكريم من كلام الله والكون كلُّه من خلق الله, فكان من المنتظر أنْ يكون الإعجاز من سمات هذا الكتاب الكريم المنزَّل على رسول الله محَمَّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم -, الذي "لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" [فصلت: 42].
7. الذين تلقَّوا القرآن الكريم, من غير المسلمين, مترجمًا مباشرة عن طريق المسلمين كانوا أكثر تأثُّرًا به, وبإعجازه, ممن تلقَّوه عن طريق ترجمات المستشرقين الأولى, ومن ثمَّ انبرى مستشرقون وعلماء أوروبِّيون متأخِّرون إلى إنصاف كتاب الله تعالى بما احتوى عليه من جوانب إعجازية, ومن ثمَّ استبعاد أنْ يكون هذا القرآن الكريم من صنع البشر,
8. يحتِّم هذا اضطلاع المسلمين بنقل المعلومة الشرعية من منطلق انتمائي, بما في ذلك نشر ترجمات معاني القرآن الكريم التي يُعدُّها المسلمون أنفسهم, واضطلاع مراكز علمية وبحثية بذلك, على غرار ما يقوم به الأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية ومجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة بالمملكة العربية السعودية, وغيرهما من المراكز الموثوقة في العالم الإسلامي, بل في بلاد العالم بأسره, حيث انتفت الجِهوية لهذا الدين الحنيف.
والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل.
|1|2|
(*) أستاذ المعلومات والمكتبات.
(1) انظر: محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. ـ الدوحة: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية, 1405هـ/1985م. ـ ص 83. ـ (سلسلة كتاب الأمَّة؛ 5).
(2) انظر: إبراهيم اللبَّان. المستشرقون والإسلام. ـ القاهرة: مجلَّة الأزهر, 1390هـ/ 1970م. ـ ص 44. ـ (ملحق مجلَّة الأزهر).
(3) انظر: علي علي علي شاهين. الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام. ـ القاهرة: المؤلِّف, 1418هـ/ 1998م. ـ ص 189.
(4) انظر: نجيب العقيقي. المستشرقون: موسوعة في تراث العرب, مع تراجم المستشرقين ودراساتهم عنه منذ ألف عام حتَّى اليوم. ـ 3 مج. ـ ط 4. ـ القاهرة: دار المعارف, 1980م. ـ 2: 47.
(5) للوقوف على ردٍّ مستفيض لمزاعم جورج سيل المتعدِّدة انظر: علي علي علي شاهين. الإعلام بنقض ما جاء في كتاب مقالة في الإسلام. ـ مرجع سابق. ـ ص 159 ـ 591. وسمَّاه جرجس سال.
(6) انظر: نجيب العقيقي. المستشرقون. ـ مرجع سابق. ـ 2: 498 ـ 499.
(7) انظر: محَمَّد خليفة حسن. دراسة القرآن الكريم عند المستشرقين في ضوء علم نقد الكتاب المقدَّس. ـ 66 ص. والنصُّ من ص 45.
في: ندوة القرآن الكريم في الدراسات الاستشراقية المنعقدة في مجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنوَّرة في المدَّة من 16 ـ 18/10/1427هـ الموافق 7 ـ 9/11/2006م. ـ مرجع سابق.
(8) انظر: روم لاندو. الإسلام والعرب/ نقله عن الإنجليزية منير البعلبكي. ـ ط 2. ـ بيروت: دار العلم للملايين, 1977. ـ ص 36 ـ 37.
(9) انظر: مصطفى نصر المسلاتي. الاستشراق السياسي في النصف الأول من القرن العشرين. ـ طرابلس: إقرأ, 1986م. ـ ص 58.
(10) انظر: عبدالفتَّاح عبدالغني القاضي. القراءات في نظر المستشرقين والملحدين. ـ القاهرة: دار السلام, 1426هـ/2005م. ـ 174 ص.(24/252)
(11) الاستشهاد بالأقوال الإيجابية للمستشرقين والأوروبيين حول طبيعة القرآن الكريم لا يتنافى مع ما صدر عن هؤلاء المستشرقين والعلماء الأوروبيين من وقفات سلبية للمستشرق أو العالِم الأوروبي نفسه تجاه كتاب الله تعالى وسنة رسوله محَمَّد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - ودين الله الإسلام. كما لا يتنافى مع الملحوظات على النصِّ المنقول نفسه, مع الأخذ في الاعتبار أنَّ معظم النقول جاءت عمَّن لا يؤمنون بهذا الدين, فلا تتوقَّع منهم الإيجابية التامَّة.
(12) انظر: محَمَّد أمين حسن محَمَّد بني عامر. المستشرقون والقرآن الكريم. ـ إربد: دار الأمل, 2004م. ـ ص 223. ـ نقلاً عن محمود أبو الفيض المنوفي الحسيني. سيرة سيِّد المرسلين. ـ القاهرة: دار نهضة مصر, . ـ ص 18 ـ 19.
(13) انظر: لورا فيشيا فاغليري. دفاع عن الإسلام/ نقله إلى العربية منير البعلبكي. ـ ط 5. ـ بيروت: دار العلم للملايين, 1981هـ. ـ ص 57 ـ 58.
(14) نقلاً عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. ـ الرياض: الندوة العالمية للشباب الإسلامي, 1412هـ/1992م. ـ ص 55.
(15) انظر: موريس بوكاي. دراسة الكتب المقدَّسة في ضوء المعارف الحديثة. ـ ط 4. ـ القاهرة: دار المعارف, 1977م. ـ ص 150.
(16) انظر: إميل درمنغم. حياة محَمَّد/ نقله إلى العربية عادل زعيتر. ـ ط 2. ـ بيروت: المؤسَّسة العربية للدراسات والنشر, 1988م. ـ ص 277.
(17) نقلاً عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. ـ مرجع سابق. ـ ص 68.
(18) نقلاً عن: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. ـ المرجع السابق. ـ ص 81.
(19) انظر: رجب البنَّا. المنصفون للإسلام في الغرب. ـ القاهرة: دار المعارف, 2005. ـ ص 79.
(20) انظر: محَمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء. ـ القاهرة: دار الشروق, 1425هـ/2005م. ـ ص 162.
(21) انظر: مونتجمري وات. الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر/ ترجمة عبدالرحمن عبدالله الشيخ. ـ القاهرة: مكتبة الأسرة (الهيئة المصرية العامة للكتاب), 2001م. ـ نقلاً عن محَمَّد عمارة. الإسلام في عيون غربية. ـ مرجع سابق. ـ ص 159 ـ 178.
(22) انظر: وحيد الدين خان. الإسلام يتحدَّى/ ترجمة ظفر الإسلام خان, مراجعة وتقديم عبدالصبور شاهين. ـ ط 8. ـ القاهرة: المختار الإسلامي, 1984م. ـ ص 133 ـ 134.
(23) انظر: إبراهيم خليل أحمد. محَمَّد في التوراة والإنجيل والقرآن. ـ ط 2. ـ القاهرة: مكتبة الوعي العربي, 1965م. ـ ص 47 ـ 48.
(24) انظر: عماد الدين خليل. قالوا عن الإسلام. ـ مرجع سابق. ـ ص 51
==============(24/253)
(24/254)
مرتكزات الأمن الفكري الإسلامي
د.عبد الحكيم الفيتوري 4/7/1424
01/09/2003
قال تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن )
لا يخفى أن الأمة الإسلامية عبر تاريخها التليد استطاعت أن تترك بصماتها الحضارية بكافة إشكالها وألوانها على مساحة شاسعة من البلاد والعباد شرقاً وغرباً لا ينكرها إلا ظلوم جهول.
والآن وفي ظل غمرة اشتداد الهجمات الضارية الموجهة ضد ثقافة العالم الإسلامي والرامية بشتى السبل إلى طمس الهوية الإسلامية ومحو المعالم الحضارية الّتي تميّزت بها الحضارة الإسلامية عبر تاريخها المجيد؛ لابدّ للعالم الإسلامي بشكل عام وللمفكرين والمهتمين بشؤونه من استشعار خطورة هذه الهجمات العنيفة المركزة المدروسة، والتفكير الجاد الواعي في التصدي لها باستخدام كافة الإمكانات المتاحة الّتي لا نعتقد أنها قليلة أبداً.
فالغزو الثقافي غزو شرس، والحرب الفكرية حرب لا هوادة فيها، وهما أشد خطراً من عمليات الغزو المسلّح والحروب العسكرية لأنهما موجهان لتحطيم الهيكلية الثقافية الفكرية الإسلامية، وتقويض صرح الحضارة الإسلامية السامق، وبعبارة أخرى أن الأمن الثقافي الفكري الإسلامي مهدد تهديداً حقيقياً، وها هي معاول الثقافة الهدامة تعمل فيه ليلاً و نهاراً دون أن يثير ذلك ـ وللأسف ـ فزع الكثيرين، أو يحرك فيهم ردة فعل ما؛ بل هناك من انحاز إلى الجانب المعادي ورفع عقيرته منادياً بضرورة الأخذ بالثقافة الغربية والانسجام معها، ناسياً أنّ ذلك يعني الانسحاق الثقافي والانتحار الحضاري، والنهاية الحقيقية لهذه الأمة الّتي علا نجمها بتوحيد الله وعدم الإشراك به سبحانه، وإقامة نظامه الرباني.
مخاطر الغزو الفكري الثقافي
يعدّ الغزو الفكري الثقافي أضرى وأشد في تأثيراته من أية عملية غزو أخرى. فالغزو العسكري عادة يثير في الأمة حالة من الانتفاض ويلهب فيها الشعور بضرورة الدفاع والتصدي، ويضخ فيها حالة من الحماس والاندفاع والإقدام؛ ولهذا فطالما فشلت الحروب المسلحة في إسكات أصوات الأمم حتّى وإن أخضعتها لفترة من الزمن.
أمّا الغزو الفكري وانطلاقاً من طبيعته التدريجية وأسلوبه الصامت في النفوذ، والطريقة العلمية المدروسة الّتي يوجَّه بها من قبل الجهات الخارجية، فلا يثير في المغزوين تلك الحالة الّتي يثيرها الغزو الحربي، ولا يخلق لديهم ردة فعل معاكسة كتلك الردّة الّتي يخلقها الغزو الأول، وهو بذلك "يقضي على قوة الصمود في الأمة، لأنه يخرجها من دائرة كيانها الخاص، بما يمثله من قيم وعادات وتراث إلى دائرة أخرى تنتمي إلى الدولة الباغية، ومن ثمّ تفقد الأمة المستعمرة أصالتها الذاتية وحريتها الحقيقية، وتصبح تابعة لغيرها، وإن لم يكن في أرضها تسلط عسكري أو وجود أجنبي". (1)
وهذا يعني الانسحاق الحضاري الكامل في نهاية المطاف، وذوبان تلك الأمة في بحر الثقافة الغازية، وإلغاء وجودها الفكري والثقافي المتميز ودورها الحضاري.
فبعد الفشل الذريع الّذي منيت به الحملات الصليبية الثمان منذ عام 1096 وحتّى 1291، وطرد الفرنجة تماماً من الأراضي الإسلامية في أواخر القرن الثالث عشر، وبعد فشل الاستعمار السياسي في تحقيق مآربه الّتي تجسدت في ابتلاع العالم الإسلامي بأسره أرضاً ووجوداً وحضارة، أدرك الغرب أن الإسلام هو العقبة الوحيدة الّتي تقف في طريقه بما لديه من قيم ومثل وتشريعات ترفض كافة ألوان الظلم والاستغلال والتبعية، وما تضخه هذه المفاهيم في نفوس المسلمين من حالات تصدّ ومقاومة للبغاة والجائرين، وكل من يحاول فرض هيمنته على العالم الإسلامي والبشرية جمعاء.
لقد أدرك العالم الغربي ماذا يعنيه الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، ومدى تأثيرهما على المسلمين، بعد أن كانا السبب الأول والأخير في كافة حلقات الفشل والهزائم المتلاحقة الّتي مني بها في حروبه الصليبية، وما تلاها من عمليات غزو سياسي تحت شعار الاستعمار.
وبناءً على ذلك فقد توصل الغرب إلى قناعة بضرورة تشويه العقيدة الإسلامية، وتهشيم الفكر وسحق الثقافة الإسلامية، ولكن ليس عن طريق الغزو المسلّح ـ كما فعل خلال حرب الصليب ـ، ولا عن طريق الإخضاع السياسي والاقتصادي المباشر ـ كما كان عليه حال البلدان الإسلامية في العهد الاستعماري ـ؛ بل عبر عملية غزو فكري ثقافي منظمة ومدروسة لا تثير ردود فعل واضحة ومحسوسة وتمتلك رصيداً عظيماً من النجاح، لاسيّما إذا رافقتها حالة تأنّ وصبر وعدم استعجال في قطف ثمار النصر المرجو.
وكان البيان الأول في هذا الغزو الجديد التشكيك في الدّين الإسلامي، وتشويه صورته الناصعة، ورسم علامات الاستفهام حول القيم والمفاهيم الإسلامية، والتأكيد من جانب آخر على المثل الغربية والبناء الحضاري الغربي الجديد، وما قطعه الغرب من أشواط علمية بعيدة، وتطور تقني هائل، يعني في جملة ما يعنيه وجوب التجدد والتحديث والانفصام عن الماضي السحيق الّذي لم يعد الالتزام بمفرداته منسجماً مع الحالة العصرية الراهنة؛ بل إنّ الالتزام بها يعني الرجعية والتخلف عن مواكبة عجلة التطور وحركة العلم!.(24/255)
وكان تركيز عملية الغزو الجديد على أبناء الإسلام الدارسين في الجامعات والمعاهد الغربية، حيث تمكنت من إجراء عملية غسل أدمغة للكثيرين منهم، فعادوا إلى بلدانهم محملين بالأفكار الغربية ومكتسين بثقافة الغرب المتعارضة مع الثقافة الإسلامية، فكانوا يداً ولساناً وقلماً لعملية الغزو الفكري الحضاري، وحلقة مهمة من حلقاتها؛ لكونهم في تماس مباشر مع المجتمع الإسلامي، ولتعاملهم مع الشرائح المثقفة في غالب الأحيان، لا سيما طلبة الجامعات، ممّا يعني توفر الشروط الموضوعية اللازمة لنجاح عملهم في النيابة عن القائمين على عملية غزو المسلمين فكرياً وثقافياً.
وراح هؤلاء المتغربون يضمون أصواتهم إلى أصوات الغرب، ويلهجون بما تلقوه من تلقينات في وجوب الانسلاخ عن الثقافة الإسلامية وارتداء جلابيب الثقافة الغربية، وقطع أية صلة ثقافية وفكرية بالإسلام، خاصة وأن الإسلام ـ من وجهة نظرهم ـ ليس إلاّ طقوساً عبادية وشعائر لا تتعدى إطار علاقة ثنائية بين المسلم وربّه !!
وأخذ هؤلاء يثيرون ـ وطبقاً للإيحاءات الغربية ـ قضية التناقض بين الدين والعلم، والماضي والحاضر، ويثيرون سلسلة من الاشكالات على القرآن الكريم والسنة النبوية، ويطرحون المؤاخذات على كل ما له صلة بالإسلام؛ كالفقه الإسلامي والتفسير الإسلامي ومختلف النظريات والطروحات الإسلامية، والتأثير على نقاط الضعف والقضايا السلبية الّتي يحملها التاريخ الإسلامي، والّتي هي في معظمها مدسوسة.
وقد سبق دعوات دعاة الحداثة وتزامن معها نشاط هائل للمبشرين والمستشرقين الغربيين، ذلك النشاط الّذي امتدّ إلى سائر أرجاء العالم الإسلامي، بل وشمل العالم غير الإسلامي أيضاً. ولعبت الحركة التبشيرية دوراً خطيراً في عملية الغزو الثقافي الفكري، وذلك لاستتارها خلف براقع الأعمال الإنسانية والتعليمية والصحية وغيرها، فاستطاعت من خلال ذلك النفوذ إلى المجتمعات الإسلامية وشق طريقها إليه لتبث أفكارها الهدامة، وتسيء إلى الإسلام ومفاهيمه وقيمه عبر مبشريها المعدين لهذا الغرض.
"وفاقت الحركة الاستشراقية في خطورتها الحركة التبشيرية؛ لأنها تعامت بشكل مباشر مع المفردات الإسلامية، فأخذت تشوه وتحرف ما استطاعت، وراحت تقدم لنا التاريخ الإسلامي والشخصيات الإسلامية كما ترغب وتشاء. كما أنها راحت تقدم التراث العربي الإسلامي عبر قطع مبعثرة لا رابطة بينها سوى تناقضات تاريخية وفكرية سببها حجب الكثير من الكتب القيمة المتممة الّتي بقيت خارج إطار النشر والتداول لتبرر هذه التناقضات" .(2)
وأخذنا وللأسف نتعرّف على تاريخ الإسلام بل وحتّى على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والفكر الإسلامي في بعض الأحيان من خلال ما كتبه المستشرقون، الأمر الّذي يعني نجاح الجناح الاستشراقي في عملية الغزو الثقافي المدارة من خلال أجنحة عديدة تؤدي غرضاً واحداً، يصبّ في صالح الأيادي الخفيّة الّتي تحرك هذه الأجنحة.
وممّا يزيد من خطورة الهجمة الراهنة غياب الإسلام عن الساحة السياسية في مجمل البلاد الإسلامية، وانتماء حكام المسلمين سياسياً وفكرياً إلى المعسكر الغربي، ممّا يعني مساهمتهم إزاء ما يتعرض له العالم الإسلامي من غزو فكري ثقافي شرس.
إنّها حقاً عملية غزو رهيبة ومنظمة، وتزداد في حدتها وشراستها يوماً بعد آخر، ولهذا فنحن مدعوون إلى التحرك السريع الفاعل لوضع خطة عمل مبرمجة واضحة وقائمة على أسس علمية وتربوية لصيانة أمننا الثقافي الفكري، وتحصين جيلنا الإسلامي حصانة تعجز أسلحة هذا الغزو الجديدة عن اختراقها.
(1): دكتور محمد دسوقي ، مجلة المنطلق ، العدد 21، 1983، ص 62
(2): الأستاذ حسن الزين، مجلة العرفان، العدد 4، ص 28.
==============(24/256)
(24/257)
الغزو الفكري
مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي 21/10/1425
04/12/2004
مجلة المجمع (ع 7، ج4 ص 311)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7-12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 - 14 أيار (مايو) 1992 م ،
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع الغزو الفكري، والتي بينت بداية هذا الغزو وخطورته وأبعاده وما حققه من نتائج في بلاد العرب والمسلمين، واستعرضت صوراً مما أثار من شبه ومطاعن، ونفذ من خطط وممارسات، استهدفت زعزعة المجتمع المسلم ووقف انتشار الدعوة الإسلامية، كما بينت هذه البحوث الدور الذي قام به الإسلام في حفظ الأمة وثباتها في وجه هذه الغزو وكيف أحبط كثيراً من خططه ومؤامراته، وقد اهتمت هذه البحوث ببيان سبل مواجهة هذه الغزو وحماية الأمة من كل آثاره في جميع المجالات وعلى كل الصعد، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول هذه البحوث،
يوصي بما يلي:
أولاً : العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واتخاذها منهجاً في رسم علاقاتنا السياسية المحلية منها والعالمية .
ثانياً : الحرص على تنقية مناهج التربية والتعليم والنهوض بها بهدف بناء الأجيال على أسس تربوية إسلامية معاصرة وبشكل يعدّهم الإعداد المناسب الذي يبصرهم بدينهم ويحصنهم من كل مظاهر الغزو الثقافي .
ثالثاً : تطوير مناهج إعداد الدعاة من أجل إدراكهم لروح الإسلام ومنهجه في بناء الحياة الإنسانية بالإضافة إلى اطلاعهم على ثقافة العصر ليكون تعاملهم مع المجتمعات المعاصرة عن وعي وبصيرة .
رابعاً : إعطاء المسجد دوره التربوي المتكامل في حياة المسلمين لمواجهة كل مظاهر الغزو الثقافي وآثاره وتعريف المسلمين بدينهم التعريف السليم الكامل .
خامساً : رد الشبهات التي أثارها أعداء الإسلام بطرق علمية سليمة بثقة المؤمن بكمال هذا الدين دون اللجوء إلى أساليب الدفاع التبريري الضعيف .
سادساً : الاهتمام بدراسة الأفكار الوافدة، والمبادئ المستوردة، والتعريف بمظاهر قصورها ونقصها بأمانة وموضوعية .
سابعاً : الاهتمام بالصحوة الإسلامية ودعم المؤسسات العاملة في مجالات الدعوة والعمل الإسلامي لبناء الشخصية الإسلامية السوية، التي تقدم للمجتمع الإنساني صورة مشرقة للتطبيق الإسلامي، على المستوى الفردي، والجماعي، وفي كل مجالات الحياة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية .
ثامناً : الاهتمام باللغة العربية والعمل على نشرها، ودعم تعليمها في جميع أنحاء العالم، باعتبارها لغة القرآن الكريم، واتخاذها لغة التعليم في المدارس، والمعاهد، والجامعات، في البلاد العربية والإسلامية .
تاسعاً : الحرص على بيان سماحة الإسلام، وأنه جاء لخير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة . وبحيث يكون ذلك على المستوى العالمي وباللغات الحية جميعها .
عاشراً : الاستفادة الفاعلة، والمدروسة من الأساليب المعاصرة في الإعلام، مما يمكَن من إيصال كلمة الحق والخير إلى جميع أنحاء الدنيا ودون إهمال لكل وسيلة متاحة .
حادي عشر : الاهتمام بمواجهة القضايا المعاصرة بحلول إسلامية والعمل على نقل حلول الإسلام لهذه المشكلات إلى التنفيذ والممارسة، لأن التطبيق الناجح هو أفعل طرق الدعوة والبيان .
ثاني عشر : العمل على تأكيد مظاهر وحدة المسلمين وتكاملهم على كل الأصعدة، وحل خلافاتهم ومنازعاتهم فيما بنهم بالطرق السلمية وفق أحكام الشريعة المعروفة، إفساداً لمخططات الغزو الفكري في تفتيت وحدة المسلمين وزرع الخلافات والمنازعات بينهم .
ثالث عشر : العمل على بناء قوة المسلمين، واكتفائهم الذاتي اقتصادياً، وعسكرياً .
رابع عشر : مناشدة الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض، ودعم قضاياهم، ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة .
ويوصي أيضاً بما يلي :
استمرار الأمانة العامة للمجمع بالاهتمام بطرح أهم قضايا هذا الموضوع في لقاءات المجمع وندواته القادمة نظراً لأهمية موضوع الغزو الفكري، وضرورة وضع استراتيجية متكاملة لمجابهة مظاهره، ومستجداته، ويمكن البدء بقضيتي التنصير والاستشراق في الدورة القادمة . والله الموفق
=============(24/258)
(24/259)
وباء العنصرية واضطهاد المسلمين في هولندا
السيد أبو داود 22/10/1425
05/12/2004
يعيش في هولندا ما يزيد عن (945) ألف مسلم، حسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المركز القومي للإحصاء الهولندي العام الماضي ، ويبلغ عدد المسلمين من أصول عربية حوالي (400) ألف، وما زال يمثل الجيل الأول من الوافدين الأغلبية، من 55 إلى 60%، في حين تمثل النساء 47% من الوافدين.
وقد شهد العقد الأخير تزايدًا لعدد المسلمين من حاملي الشهادات الجامعية، ويرجع ذلك لتمكن عدد من أبناء الوافدين المسلمين من دخول الجامعات، وقدوم عدد آخر لمواصلة تعليمهم في الجامعات والمعاهد العليا الهولندية. وقد بلغت نسبة الملتحقين الذين تتراوح أعمارهم بين(19) و(22) سنة بالجامعات والمعاهد العليا 11% من طلبة الثانويات للسنة الدراسية م2002-2003م. كما لم تخلُ الجامعات الهولندية من الطلبة الوافدين المسلمين القادمين إليها على الرغم من محدوديّة اللغة الهولندية ونطاقها الضيق. فعدد منهم يأتي في شكل بعثات، وآخرون يحملون طموحًا وأملاً لاكتشاف ومعرفة مدرسة الاستشراق الهولندي، كما أن هناك مَن اضطرتهم الظروف السياسية والإنسانية لدولهم الإسلامية للهجرة ليجدوا من مؤسسة دعم اللاجئين الطريق للوصول إلى أهدافهم العلمية. وقد بلغ عدد الذين دُعموا لإتمام دراستهم (2444) طالبًا للسنة الدراسية 2002-2003م. ويمثل العراقيون والإيرانيون والأفغان حوالي 60% من هؤلاء الطلبة الذين استقطبتهم المعاهد العليا والجامعات الهولندية.
وقد اشتهرت هولندا على مدار التاريخ الحديث، بأنها أول بلد يعرف معنى الحرية الفكرية والتسامح الديني بالإضافة إلى إنجلترا. وبالتالي فهي منارة حضارية منذ ثلاثة قرون. ففي القرن السابع عشر مثلاً عندما كانت فرنسا لا تزال أصولية كاثوليكية متعصبة ، كانت هولندا تعترف بحرية جميع المذاهب والأديان وحقها في ممارسة طقوسها وشعائرها. هولندا سجلت في دستورها الأول عام 1579م(أي منذ أكثر من أربعمائة سنة) أن حرية الضمير مضمونة فيما يخص الشؤون الدينية والعقديّة. في ذلك الوقت كانت فرنسا تشن حرب إبادة على أتباع المذهب البروتستانتي على الرغم من أنهم نصارى ويؤمنون بالإنجيل والمسيح مثل الأغلبية الكاثوليكية. لكن كانت لهم تفسيراتهم العقديّة المختلفة عن مذهب الأغلبية، ولهم طقوس مختلفة أيضًا في بعض الجوانب. لذلك تم تكفيرهم واعتبارهم مجرد هراطقة. وقام لويس الرابع عشر بأكبر محاولة لاستئصالهم من المملكة الفرنسية التي ينبغي أن تظل طاهرة مذهبيًّا ولا تشوبها شائبة.
إحراق المساجد والمدارس الإسلامية
وأثار فيلم (فان جوخ) الأخير 'الخضوع' (Submission) موجة من الغضب بين مسلمي هولندا، نظرًا لأنه عمد إلى التشويه المتعمد لحياة المسلمين من خلال تجسيده شخصية امرأة مسلمة تتعرض للاغتصاب على يد عمها! ثم يجبرها أهلها على الارتباط برجل آخر يقوم بضربها بقسوة بعد الزواج!
وقد تلقى (فان جوخ) تهديدات بالقتل بعد عرض فيلم 'الخضوع' في وقت سابق هذا العام ، واستعان (فان جوخ) الذي كان مسلمًا وارتدّ عن الإسلام في إخراج الفيلم بسياسية هولندية تدعى (أيان هيرسي علي) وهي لاجئة صومالية حصلت على الجنسية الهولندية بعد فرارها من أهلها بالصومال قبل اثنتي عشرة سنة.
وتخضع "أيان" التي تسمي نفسها 'مسلمة سابقة'! لحراسة الشرطة بعد أن تلقت تهديدات بالقتل بعد عرض الفيلم على شاشة التلفزيون الهولندي.
وذكرت بعض وسائل الإعلام الهولندية أن (فان جوخ) تعرض لتهديدات بالقتل إن لم ينته عن تشويه صورة المسلمين في كتاباته وأفلامه.
وتعرضت عدة مساجد ومراكز اجتماعية تابعة للجالية الإسلامية في هولندا لاعتداء من قبل بعض المتطرفين بعد مقتل المخرج السينمائي الهولندي (فان جوخ) المعادي للمسلمين على يد شخص قيل: إنه من أصول مغربية.
وقد تعرضت مساجد في مدن روتردام وبريدا وهويزن لأضرار, وحاول مجهولون إشعال حرائق في بعضها.
وقالت مصادر أمنية: 'إنها اعتقلت شخصًا يبلغ من العمر 24 عامًا لمحاولته إحراق مسجد في روتردام, وقيامه بوضع صور خنازير في محراب المسجد, فيما اعتقلت ثلاثة مشتبه فيهم كانوا يستعدون لإشعال النار في مسجد النصر في هويزن بغرب البلاد.
وفي بريدا بجنوب البلاد أشعل مجهولون النار في أحد المساجد لكن المسلمين الذي يسكنون على مقربة منه أخمدوا الحريق قبل أن تصل الشرطة.
وتزامنًا مع هذه الهجمة, اعتدى مجهولون في مدينة 'أتريخت' على مراكز وجمعيات مغربية وإسلامية وعربية أخرى مستخدمين مواد الطلاء في تشويه هذه المساجد والمراكز.
وكانت قد وجهت لشاب هولندي من أصل مغربي اتهامات بقتل المخرج (فان جوغ) وبالانتماء لجماعة 'ذات نوايا إرهابية', وهو ما دعا الحكومة الهولندية إلى الإعلان عن عزمها شن حملة واسعة على من تسميهم 'المتطرفين الإسلاميين'.
خوف من موجة العداء للإسلام(24/260)
تقوضت سمعة هولندا كأرض للتسامح خلال الأسبوعين الماضيين منذ مقتل المخرج المثير للجدل (تيو فان جوخ) واعتقال مسلم للاشتباه في ارتكابه الجريمة، فمنذ وقع ذلك الحادث في يوم الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني وقع هناك (20) حادث حريق لمساجد وكنائس في أعمال انتقامية متبادلة.
وقد ربط رئيس بلدية المدينة (ألكسندر ساكرز) بين هذا الاعتداء واغتيال المخرج الهولندي المنتقد لتعاليم الإسلام (ثيو فان غوخ) في أمستردام بأيدي شاب هولندي من أصل مغربي.
وفي وقت سابق هددت جماعة التوحيد الإسلامية في بيان بثته على الإنترنت بشن هجمات في هولندا ردًا على سلسلة من الاعتداءات على مبان إسلامية هناك, وطالبت بوقف الاعتداءات على المساجد والمدارس الإسلامية، مشددة على أن أبناء الجالية المسلمة في هولندا يطالبون باعتذار رسمي.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلبية الشعب الهولندي غير مرتاحة أو أنها تشعر بالخطر من الأجانب فيما ترتفع شعبية اليمين المحافظ من ورثة السياسي المعادي للهجرة (بيم فورتيون).
وما يفكر فيه جميع المسلمين في هولندا هو شعورهم بالذعر بسبب ردود الأفعال على مقتل المخرج السينمائي.
ويقول البعض إن العنصرية في تصاعد منذ صعود حزب (فورتيون) في انتخابات 2002م بعدما قتله أحد الناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الحيوانات.
ولم يقل أحد أبدًا أنه مع قتل المخرج (فان جوخ) إلا أن كثيرين يعتقدون أن فيلمه القصير "خضوع" بشأن العنف ضد المرأة في المجتمع الإسلامي زاد من المشاعر المناهضة للمسلمين رغم أن قليلين فقط في هولندا هم الذين شاهدوه.
تحديات للمسلمين في هولندا
وأظهر استطلاع للرأي في هولندا ان 40 % من الهولنديين يرغبون في ألا يشعر (900) ألف مسلم يقيمون في هولندا من أصل (16) مليون نسمة عدد سكان البلاد، "في أنهم في بلادهم بعد الآن" إثر اغتيال المخرج (تيو فان غوغ) بنيران هولندي يحمل الجنسية المغربية أيضًا.
ورغم الإدانات القاطعة للاغتيال الصادرة عن المسلمين في هولندا تكاثرت ردود الفعل السلبية ضد المسلمين في هذا البلد.ويرى 80% من الهولنديين أن إجراءات أكثر صرامة يجب أن تتخذ في إطار دمج المهاجرين؛ إذ يعتبر البعض أن عملية الاغتيال على يد مسلم هو الدليل على فشل سياسة الدمج المتعددة الثقافات في هولندا.
ورغم الصورة التي يعكسونها في العالم "يواجه الهولنديون صعوبات أكثر من غيرهم لقبول الناس الذين يندمجون بشكل جيد في المجتمع لكن لديهم لون مختلف أو من ديانة أخرى" على ما يقول الأستاذ (هان اينتزينير) الخبير في شؤون الهجرة والاستيعاب في جامعة ايراسموس في روتردام. ويضيف "نحن في الحقيقة مجتمع مغلق جدًا".
ويوضّح أن الهولنديين عاشوا لفترة طويلة "الواحد إلى جانب الآخر لكن ليس معًا" باسم المعاملة المتساوية التي يجب أن يحظى بها البروتستانت والكاثوليك. لكنه يعتبر أن "من المبالغ به القول: إن الدمج الاجتماعي قد فشل .. لا يمكن الاستنتاج بالاستناد إلى عمل ناجم عن متطرف واحد يبدو أنه مختل- أن عشرين عامًا من سياسة الدمج قد فشلت. هذا لا يتفق مع الوقائع".
وأظهر تقرير برلماني العام 2003 أعد بعد مئات اللقاءات وأشهر طويلة من الأبحاث أن دمج المهاجرين في هولندا "ناجح نسبيًا".
ويعتبر ماينديرت فينيما خبير الشؤون السياسية في جامعة امستردام أن كوْن "محمد بويري" القاتل المفترض ولد وترعرع في امستردام رغم أنه يحمل الجنسية المغربية أيضًا، يجعل هذه المسألة تندرج في إطار الجدل حول الدمج في المجتمع.
وأظهر تقرير لأجهزة الاستخبارات الهولندية أن عدة عشرات من الهولنديين الشباب المسلمين الذين يعتبرون أنهم لم يندمجوا بشكل جيد، حساسون تجاه خطاب الإسلاميين الأصوليين.
ويقول (فينيما): إن "هذه الظاهرة تطال هولندا بسبب الطريقة التي أدرنا فيها النقاش حول دمج المهاجرين أكثر منها عملية الدمج بحد ذاتها" وينتقد خصوصًا المواقف السابقة للبلاد التي "منعت أي إمكانية لانتقاد سياسة الدمج" وذلك بسبب الهوس بارتكاب أي تجاوزات غير أخلاقية.
لكن ما أن كُسِرت المحرمات مع ظهور الزعيم اليميني المتطرف (بيم فورتاين) قبل سنتين وعبارته الشهيرة "طفح الكيل".
ويضيف (فينيما) "الجميع مدعو الآن إلى التفوه بألفاظ نابية ضد المسلمين (كما كان يفعل تيو فان غوخ) وإذا قلنا: إنه يمكن التحدث باحترام أكبر نوصف بأننا من أتباع السياسة القديمة ويتم انتقادنا".
وتمنى جميع هؤلاء الخبراء نقاشًا محترمًا ورفضوا وضع حدود في النقاش حول الهجرة وشددوا على ضرورة تبادل وجهات النظر لا سيما حول موقع الإسلام في الغرب خلال القرن الحادي والعشرين.
ويرحب هؤلاء برد فعل المسلمين لكنهم يدعونهم إلى المشاركة بشكل أكبر في النقاش وخصوصًا وأن عدة شخصيات سياسية بينهم النائبة من أصل صومالي "أيان هيرسي علي"، تلقت تهديدات بالقتل بعد انتقادها الشديد للإسلام الراديكالي
==============(24/261)
(24/262)
العولمة وأثرها على الهوية[1/2]
د. خالد بن عبد الله القاسم 2/5/1427
29/05/2006
- تعريف العولمة
- تعريف الهوية وأهميتها
- الآثار السلبية للعولمة على الهوية
* تعريف العولمة
العولمة كظاهرة بدأ انطلاقها في بداية هذا القرن الهجري في الثمانينات الميلادي وهي مرتبطة بثلاث أحداث كبرى سياسية،وتقنية، واقتصادية.
1- السياسية: حيث انتهاء المواجهة بين الشرق والغرب، وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشرقي.
2- التقنية: وهي الثورة المعلوماتية، حيث شهدت هذه الفترة طفرة تقنية هائلة في مجال الاتصالات الإلكترونية وانتقال المعلومات، حيث ساهمت مساهمة فعالة في حدوث العولمة. .
3- الاقتصادية: وظهور منظمة التجارة العالمية عام 1995م، ومقرها جنيف لتخلف الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية (الجات) وكتتويج لانتشار مذهب التبادل الحر واقتصاد السوق الذي بات أيديولوجية تسيطر على العالم شرقه وغربه، وهو ما وافق عليه قادة العالم عام 1998م، أثناء مشاركتهم في الاحتفال بمرور 50 عاماً على الجات(1)، وظهور الشركات متعددة الجنسيات.
لم توجد العولمة في السابق مع سيطرة أمم عسكرياً واقتصادياً كالحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية وبريطانيا ولكن في الوقت الحاضر اجتمع سيطرة القطب الواحد مع التقدم المذهل في الاتصالات والمواصلات ..
تختلف تعاريف العولمة بين المفكرين حيث يركز كثير من الكتاب على الجانب الاقتصادي وينبه على خطورتها من هذا الجانب بزيادة الفقر وتكدس الأموال وخدمة الشركات الكبيرة واضمحلال الصغرى أو إيجابيتها من انفتاح الأسواق وزوال الحواجز عن الأيدي العاملة، ومنهم من يبشر بها باعتبارها تحرر من الدول المغلقة وانطلاق نحو العالمية والتقدم.
ومنهم من يركز على الجانب الثقافي وأضراره، ومنهم من يأخذها بمفهومها الشامل، وهذا الاختلاف بسبب ذكر كل واحد جانباً من الموضوع وهو يذكرنا بمثل الذين دخلوا على الفيل في غرفة مظلمة فكل منهم عرفه بما لمسه منه.
ومع اختلاف تعريفات العولمة إلا أنها تأخذ عدة ظواهر:
- التقدم الهائل في وسائل الاتصال، لا سيما ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية.
- هيمنة الغرب لا سيما أمريكا وسقوط المعسكر الشرقي، وتأخذ هذه الهيمنة أبعاداً عسكرية واقتصادية وثقافية وسياسية.
- بروز المؤتمرات المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسيات.
وهذه التعريفات تتباين في درجة قبولها وخطورتها، حيث نجد أن أكثر المفكرين المسلمين ينبه على خطورتها مع التركيز على الاقتصادي كما فعل د. سعد البازعي حيث يقول: "العولمة هي الاستعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيماً تدعم انتشار تلك المصالح وترسخها، إنها الاستعمار بلا هيمنة سياسية مباشرة أو مخالب عسكرية واضحة. إنها بكل بساطة عملية يدفعها الجشع الإنساني للهيمنة على الاقتصادات المحلية والأسواق وربطها بأنظمة أكبر والحصول على أكبر قدر من المستهلكين، وإذا كان البحث عن الأسواق والسعي للتسويق مطلباً إنسانياً قديماً وحيوياً ومشروعاً، فإن ما يحدث هنا يختلف في أنه بحث يمارس منافسة غير متكافئة وربما غير شريفة من ناحية ويؤدي من ناحية أخرى إلى إضعاف كل ما قد يقف في طريقه من قيم وممارسات اقتصادية وثقافية"(2).
بينما يركز آخرين على الجانب الثقافي وربما سموها اختراقاً كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري حيث قال: "أن العولمة تعني: نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي .. والهيمنة، وفرض نمط واحد للاستهلاك والسلوك"(3). أو فرض النموذج كما يصفها الدكتور محمد سمير المنير حيث يقول: "فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماطه واستهلاكه على الآخرين، وإذا كان الفرنسيون يرون في العولمة صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي .. "(4). أو غزو شامل كما اعتبرها أسعد السحمراني حيث قال: إن العولمة/الأمركة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية، كل ذلك يعملون له باسم العولمة وحقوق الإنسان(5).
والتصريح بأنها أمركة تصريح صحيح باعتبارها المؤثر الأقوى وقد أكد على أن جوهر العولمة هو النمط الأمريكي، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية، وأنماط العيش والسلوك الأمريكي(6).
وربما تكون صهينة لا سيما واستثمار اليهود الذين يقودون الغرب وأمريكا تحديداً للعولمة للسيطرة على العالم من الاستعمار إلى الاستحمار (ركوب الأمم واستغلالها دون القضاء عليها) (7).
بينما نجد البعض يجعلها مجرد انتماء عالمياً، كما عرفها الدكتور صبري عبدالله حيث قال: "بأنها ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيه للعالم كله، عبر الحدود السياسية للدول"(8).(24/263)
بل إن البعض يجعل العولمة الثقافية مجرد خدعة لإلهاء الشعوب عن الغزو والمصالح الاقتصادية، حيث يقول حسن حنفي "يتم تصدير صراعات الحضارات للنطق بما كان مسكوتاً عنه سلفاً ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة، ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء الشعوب الهامشية بثقافاتها التقليدية، بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض النتاج عوداً إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية، في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية"(9).
ونجد سمير الطرابلسي ينبه إلى خطورة العولمة التي تشكلها الولايات المتحدة بجميع جوانبها المهمة حيث يعرفها بأنها الرؤية الاستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والرامية إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها، وأطماعها، سائرة نحو ذلك الهدف على ثلاثة مسارات متوازية: الأول: اقتصادي وغايته ضغط العالم في سوق رأسمالية واحدة، يحكمها نظام اقتصادي واحد، وتوجه القوى الرأسمالية العالمية (الدول الصناعية السبع والشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية) وتضبط حركته قوانين السوق وآلياته. والثاني: سياسي ويهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنسانيين، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني. وأخيراً المسار الثقافي الذي يهدف إلى تقويض البنى الثقافية والحضارية لأمم العالم، بغية اكتساح العالم بثقافة السوق التي تتوجه إلى الحواس والغرائز، وتشل العقل والإرادة، وتشيع الإحباط والخضوع، وتشهد منطقتنا العربية ترجمة لهذه التوجهات من خلال مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية(10).
وفي تقديري أن هذا أفضل تعريفات العولمة التي وقفت عليها، وبالإمكان القول أن العولمة:- وصف لظواهر متعددة يجمعها جعل العالم متقارباً مثل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والمواصلات والفضائيات والإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، مع سلطة القطب الواحد (أمريكا بقيادة صهيونية) الذي يسعى لعولمة اقتصادية وعسكرية تحقق مصالحه كما يسعى لعولمة ثقافية بفرض قيمه وثقافته (وهذه النقطة هي ما تعنينا) حول عولمة الثقافة المهدرة للهوية.
العولمة نموذج من مخططات الاستعمار التي نبه عنها وكتب فيها، الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وهذا قبل ظهور مصطلح العولمة، وقد كتب يقول: غوليامو فرير الفيلسوف الكاتب الإيطالي الشهير في علم الاجتماع والتاريخ لا في إيطاليا فحسب بل في أوروبا بأجمعها، وإذا كتب كتاباً أو نشر مقالة تجاوبت لها أصداء الشرق والغرب وتركت دوياً. نشر الفيلسوف المؤرخ المشار إليه كتاباً أخيراً باسم "وحدة العالم" لا يزيد على مئات معدودات من الصفحات طاف فيه على جميع الحوادث الجارية على سطح الكرة الأرضية، ودقق في مصادرها وأسبابها، فذهب إلى أنها مع تناقضها وتصادمها بعضها ببعض سائرة في الحقيقة على نظام ثابت مستقيم، ووصل إلى هذه النتيجة وهي:
أن مشروع الفتح والامتداد الذي يتابعه العالم المتمدن "أي الأوروبي" منذ أربعة قرون، والذي بدأ بطيئاً وانقلب سريعاً في آخر الأيام، يظهر للمتأمل أنه آيل إلى "توحيد العالم الإنساني" ولم يكن هذا "التوحيد" ليتم بدون جهد وبدون بلاء، لأن البشر خلقوا أطواراً، وبينهم من التدابر والتقابل ما يؤذن بالأخذ والرد والعكس والطرد، وهناك أسباب عديدة للحب والبغض والقرب والبعد، مع هذا كله تجد العالم سائراً إلى الوحدة، فإذا نظرنا إلى كيفية النظام السائد الآيل إلى هذه الوحدة وجدناها: بالإنجيل، وبالسيف، وبالإفناء، وبتبادل المساعدات، وبتبادل طلقات المدافع ....
ثم يقول: هذه خلاصة نظريات الفيلسوف الإيطالي فريرو، وظاهر أنه يقصد بالإنجيل "الثقافة الغربية" التي هي وحدها تمشي في آسيا وأفريقيا وفي يدها الواحدة "السيف" وفي الأخرى "ضماد للجرح"، وهي وحدها تفتنُّ في رق استئصال البشرية، وفي طرق توفير صحة البشر، تجمع في وقت واحد بين الضدين، وهي التي بين يديها الجندي من جهة، والقسيس من جهة أخرى(11).
وبعد هذه الجولة في ماهية العولمة وحدودها لا سيما الثقافية؛ نسأل: هل العولمة أمر حتمي؟ فالجواب: نعم ولا، نعم باعتبار ما وصلنا إليه، ولا باعتبار إمكانية مقاومتها والحد من آثارها السلبية، وهذا ما سنتناوله في الفصل الثالث.
* تعريف الهوية وأهميتها
ما هي الهوية: الهوية مأخوذة من "هُوَ .. هُوَ" بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت "التعريفات" يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب(12).(24/264)
فهوية الإنسان .. أو الثقافة .. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء -إنساناً أو ثقافة أو حضارة- الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة(13).
"إن هوية أية أمة هي صفاتها التي تميزها من باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية"(14).
والهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى(15).
اللغة هي التي تلي الدين، كعامل مميز لشعب ثقافة ما عن شعب ثقافة أخرى(16).
ثم يأتي التاريخ وعناصر الثقافة المختلفة في صنع الهوية.
وأهم عناصر الهوية الدين حيث في الحروب تذوب الهويات متعددة العناصر، وتصبح الهوية الأكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة، وغالباً ما تتحدد هذه الهوية دائماً بالدين(17).
وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد "من أنا؟"، "ولمن أنتمي؟"، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
والهوية في غاية الأهمية ومنها تنطلق المصالح حيث الناس لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم، فسياسة المصالح تفترض وجود الهوية.
وإذا كانت هذه هي الهوية وهذه أهميتها لكل أحد فإن الهوية عند المسلمين أكثر أهمية، والإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته ولغته هو هوية مشتركة لكل مسلم، كما أن اللغة التي نتكلم بها ليست مجرد أداة تعبير ووسيلة تخاطب، وإنما هي: الفكر والذات والعنوان، بل ولها قداسة المقدس، التي أصبحت لسانه بعد أن نزل بها نبأ السماء العظيم، كما أن العقيدة التي نتدين بها ليست مجرد أيديولوجية وإنما هي: العلم الكلي والشامل والمحيط، ووحي السماء، والميزان المستقيم، والحق المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي منظومة القيم التي تمثل مرجعيتنا في السلوك، فهي ليست نسبية ولا مرحلية(18).
وقد أدرك الأعداء ذلك حيث أن الصليبية والشيوعية والصهيونية اليوم ترى أن استعادة المسلمين لهويتهم الإسلامية وانتمائهم القرآني هو أكبر الأخطار، ومن ثم فإن كل قوى التغريب والغزو الثقافي ستطلق في هذا الاتجاه، ويقوم الاستشراق والتنصير بدور كبير(19).
كما أن الغرب أحرص ما يكون على هوياتهم، وعلى ذوبان المسلمين المهاجرين في مجتمعاتهم، بل إن هناك مؤسسات ووزارات خاصة للاندماج وتذويب الهويات.
وأوروبا ترفض تركيا بسبب الهوية ليس إلا، وكما قال الرئيس أوزال في سنة 1992م: سجل تركيا بالنسبة لحقوق الإنسان سبب ملفق لعدم قبول طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، السبب الرئيسي هو أننا مسلمون وهم مسيحيون(20).
فالقوى الأوروبية يظهرون صراحة أنهم لا يريدون دولة إسلامية (تركيا) في الاتحاد الأوروبي، ولا يسعدهم أن تكون دولة إسلامية أخرى (البوسنة) أنها حرب هويات كما يقول هنتجنتون حيث نجد تركيا تعيد تأكيد دورها كحامية للبلقان وتدعم البوسنة، في يوغوسلافيا السابقة، وروسيا تساند الصرب الأرثوذوكسية، وألمانيا تساعد كرواتيا الكاثوليكية، والدول الإسلامية تهرع لمساعدة الحكومة البوسنية، والصرب يحاربون الكروات ومسلمي البوسنة ومسلمي ألبانيا(21).
* الآثار السلبية للعولمة على الهوية
انطلاقاً من الفصل الأول من أن العولمة وصف لظواهر متعددة كالتقدم المذهل في وسائل الاتصال والانفتاح المعلوماتي وذهاب الحواجز بين الدول مع سلطة القطب الواحد الذي يسعى للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية.
وهذا ما حدا بالبعض إلى أن يسميها الأمركة، وللأسف إن أمريكا لا تهدف إلى تطبيق قيمها فحسب، بل إنها تنطلق من مصالحها الذرائعية المجردة من المبادئ والتي تكيل بمكيالين والتي تشكل خطورة عظيمة على القيم والأخلاق والهويات لا سيما الإسلامية.
وهذه أمثلة:
يحرم الشيشان من الإنفصال عن روسيا .. ويجبر أهل تيمور على الانفصال من اندونيسيا بتدخل من استراليا ودعم من الغرب ..
وكذلك تنفصل تماماً دول البلطيق وجورجيا من روسيا بينما الدول الإسلامية فاستقلاها غير كامل.
ودية الأفغاني الذين قتلوا في عرس 200 دولار وقد اعترفت أمريكا بالخطأ بينما من قتل في لوكربي 10.000.000 دولار أي 50.000 ضعف.
العولمة أن تُهاجَم دولة ذات سيادة حتى دون إذن من الأمم المتحدة لشبهة أسلحة الدمار الشامل، وتُترَك دولة قريبة منها تمتلك أسلحة دمار شامل وتحتل أرض غيرها مخالفة لقرارات الأمم المتحدة ..
أمريكا تمارس دوراً منفرداً حيث تدعم إسرائيل، وترفع الفيتو بعد الآخر لتتمكن من العدوان، وتعتدي على العراق بحجج واهية وحتى دون موافقة مجلس الأمن التي لها أكبر نفوذ فيه، وتأخذ المعتقلين من أفغانستان إلى قوانتنامو دون محاكمة عادلة، وتحارب الجمعيات الإسلامية وترهبها وتجمد أموال من تريد منها دون أدلة ..(24/265)
المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال ارهابية، والمحتل مدافع عن نفسه، والجماعات الإسلامية في أفغانستان المقاومة للاحتلال الأمريكي وحكومته ارهابية، بينما نفس الوضع كان إبان الاحتلال السوفيتي ولكن تلك الجماعات كانت مقاومة مشروعة مدعومة، مما يعني وجود اختلال حاد في موازين العالم تحت إمرة الحضارة الغربية الصليبية الصهيونية.
وهذا صمويل هنتجنتون في صدام الحضارات والذي يدعو للتعصب للحضارة الغربية ومحاربة ما عداها لا سيما الإسلامي، وهو في كتابه مرة بعد مرة يمارس تحريضاً على الإسلام وتخويف الأوروبيين منه، للإنضواء تحت أمريكا والغرب وإشعال فتيل التعصب الديني.
وهذا ما حدا بتوم فريدمان للقول: نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق(22).
وفي آخر سنة 2003م كانت استطلاعات الرأي في أوروبا أن أمريكا ثم إسرائيل تمثل أكبر خطورة على السلام العالمي.
فالعولمة هجمة صهيونية شرسة لا تتقيد بالمبادئ، وفي أحسن أحوالها أمركة وتغريب ما لم نقم بدور فعال لتخفيف آثارها والتأثير فيها، وهي حتى لكثير من الغربيين ليست خير للعالم حتى في الجانب الاقتصادي الذي يبشر به البعض، حيث نجد أن هانس بيتر مارتين في كتابه الشهير (فخ العولمة) والذي ركز على العولمة الاقتصادية، يؤكد أن العولمة فخ كبير مليء بالأكاذيب وهي في النهاية تزيد الفقراء، ونجد في الفصل الخامس من الكتاب على سبيل المثال عنوان (أكاذيب ترضي الضمير: أسطورة الميزة على استقطاب الاستثمارات وخرافة العولمة العادلة) (23) كما أن الشعوب حتى الغربية تخرج في مظاهرات شعبية عارمة معارضة لكل مؤتمرات العولمة لما يرونه من إضرار بهم.
ونجد أن الغرب لا يسعى لنشر قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمر نيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث .. إلخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(24) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، مراهقين ومراهقات، قادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء، حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م. أي أنه أكثر من مباح، فالسعي لتحقيقه بجميع البلدان في أسرع وقت ممكن، وقبل سنة 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(25).
بل ونجد ممارسات منفردة، حيث نجد أن أمريكا تضغط تارة باسم حقوق الإنسان (والتي أهدرته في أبو غريب وجوانتامو ومذابح أفغانستان وقصف الفلوجة) وتارة باسم الديمقراطية والحرية لتمرير ما تريد على دول العالم التي لا توافقها.
بينما الحرية والديمقراطية الغربية والقانون الدستوري جعل الغرب يسقط نتائج الانتخابات في تركيا والجزائر ونيجيريا (مشهود أبيولا) لأن الناجحين إسلاميين!!
للأسف أن الغرب حريص على فرض قيمه الاجتماعية والثقافية وعولمتها والتي تمثل أسوأ ما عنده بينما لا يسعى إلى عولمة العلم والتقدم حيث يجب الاحتفاظ به.
إن مما يزيد خطورة العولمة ضعف العالم الإسلامي وهزيمته أمام الغرب وهذا ما يزيد اختراق العولمة الثقافية للهوية، كما قال ابن خلدون "المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وسائر أحواله وعوائده"(26).
فضلاً أن العولمة تحمل فكرة استبداد القوي الذي يسخر إرادات الشعوب الضعيفة لصالحه، وتكمن في فكرة سيطرة المهيمن على الاقتصاد العالمي والقوة العسكرية والإدارة السياسية على شعوب العالم الفقيرة، بل والسعي لإفقار ما ليست فقيرة، وتكمن كذلك في فكرة الإذابة التي يقوى عليها من يمتلك أدوات الاتصال والتحكم بها، وبالمعلومات وبإنتاجها، وتدفقها دونما مراعاة لثقافات الشعوب وحاجاتها وخصوصياتها وإمكاناتها(27).(24/266)
كما أن مما يزيد خطورة العولمة ذراعها الإعلامي الخاضع للسيطرة الصهيونية والتي تمسك بخيوطها، تسير هذه القوة في السيطرة مع القوة الغاشمة العسكرية في فرض العولمة على الآخرين، فوظيفة المنظومة الإعلامية هي أن تتسلى وتتلهى وتعلم وترسخ القيم والمفاهيم والمعتقدات وأنماط السلوك الأمريكي على الآخرين، كما يرى أحد الخبراء الأمريكين، ولتحقيق ذلك صارت ميزانية الإعلام موازية تماماً لميزانية الدفاع في بعض الدول، فإحصاءات عام 1986م تقول إنه بلغ رقم اقتصاد الإعلام في الغرب والاتصالات مبلغ (1175) بليون دولار تقريباً منها (505) بلايين للولايات المتحدة الأمريكية، و (267) بليوناً للجماعة الأوروبية، و (253) بليوناً لليابان، و (150) بليوناً فقط للآخرين في العالم .. هذه الميزانيات الضخمة للإعلام في الشمال جعلته يتحكم بقوة في الإعلام المتدفق، في اتجاه الجنوب الأمر الذي أحدث خللاً في المنظومة الإعلامية، وقد فشلت جميع الجهود والمبادرات التي بذلت في إطار الأمم المتحدة لوضع أسس لقيام نظام إعلامي جديد يحقق التوازن بين الشمال والجنوب(28).
وهناك الدراسات الكثيرة التي تبين معاناة شعوب شرقية (ليست إسلامية) وسائرة في الفلك الغربي كاليابان وكوريا الجنوبية من العولمة ومن الدراسات الميدانية التي تمت لمعرفة تأثير المواد التلفزيونية الأمريكية على الشباب الكوري الجنوبي قام بها Kang & Mo r gan ومن نتائج هذه الدراسة أن هذه المواد أدت إلى تأثير بالغ على القيم التقليدية الكورية، فأصبحت الفتيات الكوريات أكثر تحرراً من القيم الأسرية والأخلاقية، ويعتقدن أنه لا حرج من الممارسة الجنسية خارج الزواج، وأن ذلك من قبيل الحرية الجنسية، وأصبحن يرتدين الملابس الأمريكية، ويحتقرن العقيدة الكونفوشيوسية(29).
كما أننا نجد دولاً كالفلبين وهي دولة تصنف أنها نصرانية سائرة في الفلك الأمريكي حيث نجد في دراسة أجريت على (255) طالباً فلبينياً وجد أن التعرض للمواد التلفزيونية الأمريكية قد ارتبط إيجابياً بتأكيد هؤلاء الطلاب على قيمتي: "المنفعة والمادية"، باعتبارهما القيمتين الأكثر أهمية في حياتهم، في حين تدنت لديهم قيم فلبينية أصيلة مثل: الصفح، والتسامح، والتضحية، والحكمة(30).
وإذا كانت بعض دول الغرب نفسه أو من هو قريب منها يشكو من عولمة الثقافة على الهوية، حيث نجد أن فرنسا مع أنها غربية نصرانية، ولكن بسبب اختلاف اللغة فإنها أكثر الدول الغربية تشكو من عولمة الثقافة ومن هيمنة اللغة الإنجليزية، والخوف على الهوية الفرنسية ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء، لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي الأمريكي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة(31).
بل أن هناك دراسة في استراليا وهي بلد غربي نصراني يتحدث الإنجليزية أي مشارك للولايات المتحدة في الهوية تقريباً يشكو من مواد التلفزة الأمريكية على الأطفال، لأنها تؤدي إلى فقدان الانتماء وإلى أزمة أخلاقية وغربة ثقافية(32)، وكذلك كندا حيث عبرت وزيرة الثقافة الكندية شيلا كوبي عن انزعاجها من الهيمنة الثقافية الأمريكية، وتداخلها قائلة: من حق الأطفال في كندا أن يستمتعوا بحكايات جداتهم، ومن غير المعقول والمقبول أن تصبح (60%) من برامج التلفزيون الكندي مستوردة، وأن يكون (70%) من موسيقانا أجنبية، وأن يكون (95%) من أخلاقنا ليست أمريكية(33).
وهذه الأمثال توفرها مئات الدراسات في أنحاء العالم من خوف المثقفين على هوية شعوبهم من العولمة الأمريكية، ألا يحق لنا كمسلمين ونحن نحمل أعظم عقيدة وخير لسان نزل به القرآن، وأعظم تاريخ بالإضافة إلى القيم الحضارية العالية أن نخشى على تلك الجواهر من أثر العولمة على الهوية إن أخطر ما تحمله العولمة تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، لما تدعو له من وحدة الأديان، وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها، وتهدمها من أصلها،لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتغيير، ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي. "كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً، فالكون في نظر العولمة الثقافية والفكرية لم يخلق تسخيراً للإنسان، ليكون ميدان امتحان للناس لابتلائهم أيهم أحسن عملاً!!، والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى !! وهذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة"(34).
إن هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة(35).(24/267)
إن المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة، والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً لنفس القانون المادي الصارم وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي، ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي، ولذا فإن ثمة نموذجاً واحداً للتطور، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه دائماً نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان / الطبيعة) (36).
وإذا انتقلنا من العقائد التي هي أصل الهوية إلى اللسان واللغة التي هي أداة التفاهم والتواصل، وهي وعاء الفكر وقالبه الحي، وما نراه اليوم من طغيان الثقافة الغربية، حيث تشكل اللغة نسبة عالية من الإسهام في نقلها، ولا أدل على ذلك من أن (88%) من معطيات الأنترنت باللغة الإنجليزية، و(9%) بالألمانية، و(2%) بالفرنسية، و(1%) يوزع على باقي اللغات(37).
ويبين هنتجنتون في كتابه صدام الحضارات أهمية اللغة في الصراع حيث أن توزع اللغات في العالم عبر التاريخ يعكس توزع القوة العالمية فاللغات الأوسع انتشاراً: الإنجليزية، الماندارين، الأسبانية، الفرنسية، العربية، الروسية. إما أنها أو كانت لغات دول إمبراطورية جعلت شعوباً أخرى تستخدم لغتها. كما أن التحولات في توزع القوة، تؤدي إلى تحولات في استخدام اللغات، حيث قرنان من القوة البريطانية والأمريكية الاستعمارية والتجارية والصناعية والعلمية والمالية، تركا ميراثاً ضخماً في التعليم العالي والتجارة والتقنية في أنحاء العالم(38).
أن إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي تشير إلى أن شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ومصر، ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على نصف إجمالي المواد المبثة إذ تبلغ (58.2%)(39). ومعلوم أثر هذه البرامج على العقائد والقيم والأخلاق والعادات واللغة.
أما إذا انتقلنا إلى السلوك والأخلاق فإن المبادئ الأخلاقية التي تتهاوى في الغرب يوماً بعد يوم حيث سيادة المصالح والمنفعة واللذة و تعظيم الإنتاج والاستهلاك.
هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين (أي الغربيتين) وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته(40).
كما تسوق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة. "ومن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة: محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gende r بدل كلمة Sex"(41).
والتأثير الأخلاقي هو أسرع من غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية(42).
علماً أن العرب هم أكثر الشعوب مشاهدة للتلفاز(43).
بل حتى في الجانب الاقتصادي فالإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية (20%) يستهلك ما يزيد على (80%) من مواردها الطبيعية(44).
|1|2|
(1) انظر: مجلة حصاد الفكر، العدد 135، جماد الأول 1424هـ - 2003م، عرض لكتاب بدائل العولمة للدكتور سعيد اللاوندي، عرض عبدالباقي حمدي، ص: 36.
(2) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ سعد البازعي بعنوان المثقفون والعولمة والضرورة والضرر، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م، ص: 73.
(3) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 29.
(4) العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 129.
(5) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ أسعد السحمراني، أستاذ بكلية الإمام الأوزاعي بلبنان، بعنوان تسويق الاستهلاك وترويج الكاوبوي والهامبرجر، الطبعة الأولى 1420هـ - 1999م، ص: 129.
(6) المصدر السابق، ص: 28، نقلاً عن الأسبوع الأدبي، العدد 602، ص: 19، بتاريخ 14/3/1998م.
(7) انظر مجلة البيان، العدد 136، ص 91، مقالة العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة لـ خالد أبو الفتوح.
(8) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 28.(24/268)
(9) الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، حسن حنفي، بحث ضمن كتاب العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى 1999م، ص: 33.
(10) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، الطبعة الأولى، رجب 1420هـ - 1999م، مقال للأستاذ سمير الطرابلسي بعنوان العرب في مواجهة العولمة ص: 51-52 .
(11) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، الدمام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1399هـ - 1979م، ص: 198-199.
(12) انظر: التعريفات، الشريف الجرجاني، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م، ص: 314.
(13) انظر: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 6.
(14) ندوة الهوية العربية عبر حقب التاريخ، للمدة 25-26/6/1997م، المجمع العلمي بغداد، الكلمة الافتتاحية للندوة، ص: 7.
(15) انظر: العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 146.
(16) صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 116.
(17) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(18) انظر مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 46.
(19) انظر حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني، أنور الجندي، دار الاعتصام، سلسلة الرسائل الجامعة، (د. ط. ت)، ص: 7.
(20) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 433.
(21) انظر: صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 204-205.
(22) العولمة وأثرها على اقتصاد الدول، ص: 28، نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/3/1997م.
(23) فخ العولمة، هانس بيتر مارتن، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998/1419هـ، ص: 253.
(24) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(25) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية، الفصل الثامن الفقرات 31-35. نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27.
(26) جعل هذا عنوان للفصل الثالث والعشرون من الفصل الثاني، انظر مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، ص 147، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، د. ت.
(27) انظر العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، كلمة عميد كلية الآداب أ. د. صالح أبو ضلع، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 11.
(28) انظر العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 130-131.
(29) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(30) العولمة والتحدي الثقافي، د. باسم علي خريسان، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، ص: 132.
(31) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 12 .
(32) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(33) نحن والعولمة من يربي الآخر، مقال للأستاذ أنور عشقي، بعنوان: الشياطين تختبئ في التفاصيل، كتاب المعرفة (7) الطبعة الأولى، 1420هـ 1999م، ص: 177.
(34) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 274-275.
(35) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 129.
(36) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 127.
(37) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م، ص: 111.(24/269)
(38) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(39) العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تعقيب نبيل الدجاني، الطبعة الثانية، 1998م، ص: 335.
(40) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 220.
(41) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 276-279.
(42) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 10.
(43) ضياع الهوية في الفضائيات العربية، د. عائض الردادي، كتيب المجلة العربية، العدد السابع والثلاثون، محرم 1421هـ، ص: 7.
(44) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 217.
=============(24/270)
(24/271)
العولمة وأثرها على الهوية[2/2]
د. خالد بن عبد الله القاسم 9/5/1427
05/06/2006
- سبل مقاومة الآثار السلبية
- سبل الاستفادة من العولمة في الحفاظ على الهوية
سبل مقاومة الآثار السلبية
مقاومة الآثار السلبية للعولمة على الهوية يأخذ أبعاداً متنوعة:
أولها: تعزيز الهوية بأقوى عناصرها، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" [المنافقون: من الآية8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان.
ثانيها: العناية باللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.
ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.
"إن الرد الحقيقي على الطاغوت الحالي الذي يسمى العولمة، هو إبراز النموذج الصحيح الذي يجب أن يكون عليه الإنسان، لكي يصدق الناس -في عالم الواقع- أنه يمكن أن يتقدم الإنسان علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وحربياً وسياسياً وهو محافظ على إنسانيته، محافظ على نظافته، مترفع عن الدنايا، متطهر من الرجس، قائم بالقسط، معتدل الميزان"(1) "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد: من الآية25].
إن العولمة يجب أن تكون - من أجل الإنسان- في العلوم والتقنيات والتعامل والتعاون الذي يحترم فيه البشر بعضهم، أما الديانات والثقافات والتقاليد فهي حضارات الشعوب ملك لهم تشكل تنوعاً غير ممل بشرط ألا يتعدى أحد على الآخر.
وأن نعلم أن هويتنا وذاتيتنا بعمقها الديني والحضاري لا بديل لها من أية حضارة أخرى مهما بدا في زينتها. فثقافتنا عالمية، أبدعت وأضافت وأعطت، ورغم خصوصيتها كانت إنسانية شاملة، لا بتراثها الإسلامي -وهو ذروة عطائها- ولكن بما تجاوزته من عناصر الحضارات الأخرى، وبلغتها العربية وفنونها وآدابها. وكما صنعت الأمة ثقافتها، صنعتها ثقافتها، وحافظت على هويتها عبر أداتها التعبيرية لغة القرآن، فلا تكاد تملك لغة من اللغات ما تملكه اللغة العربية من تراث فكري مكتوب، لا في الكم، ولا في النوع، ولا في النسق اللغوي المتماسك(2).
رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله سبحانه وتعالى التغيير "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: من الآية11]، وقد نبه القرآن الكريم على أهمية العمل "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: من الآية105].
خامسها: مواجهة مساوئ العولمة بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.
سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوب وجماعات بالاعتصام بكتاب الله عز وجل "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران: من الآية103] ثم التعامل معها إن وجدت بثقافة إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.
سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المنضبطة بضوابط(3).
ثامنها: أن نتعرف على العولمة الثقافية، والكشف على مواطن القوة والضعف فيها، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(4)، وإدراك وفهم التناقضات التي تكتنف فكرة العولمة وكشف الزيف الذي تتستر قواها خلفه(5).(24/272)
ولكن لابد أن يواكب عملية النقد الكلية للحضارة الغربية، عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته وتوضيح أن كثيراً من القوانين العلمية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي في واقع الأمر نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة، فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق، فإنه يجب أن يستعيد نسبيته، وإذا كان يشغل المركز فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصراً واحداً ضمن عناصر أخرى تكِّون عالم الإنسان(6).
تاسعها: التنسيق والتعاون بصورة متكاملة في وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي والثقافة والإعلام، و الأوقاف والشئون الإسلامية، والعدل، للمحافظة على الهوية الإسلامية من أي مؤثرات سلبية عليها.
عاشرها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.
حادي عشر: أن يقوم التعليم بتعزيز الهوية وكشف العولمة ومضارها، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم والمهارات والمعارف والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وبما أن البث المباشر يهدد هويتنا بتنشئة صغارنا على قيم وعادات تخالف فكر أمتهم وثقافتها فإن التربويين والإعلاميين مطالبين بتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، ونحن نريد من الإعلام التربوي أن يتحدث عن المسائل التربوية المهمة واللصيقة بحياة المجتمع، كما نريد منه تقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(7).
ثاني عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(8). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما نراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من تراث وتقاليد وقيم اجتماعية عريقة(9).
وفي دراسة علمية عن العولمة في ضوء العقيدة الإسلامي كان من التوصيات(10):
- ضرورة الانفتاح على الآخرين والاستفادة من فرص العولمة والتقدم العلمي والتقني، وتطوير ثقافتنا وتحسين أوضاعنا.
- أن من أهم التحصينات الثقافية لأمتنا قيم الانفتاح والتسامح والعدل والشورى.
- تطوير مشروع الإسلام الحضاري المتكامل.
- إعادة بناء الوحدة الإسلامية على أساس شرع الله تعالى.
- إنشاء السوق الإسلامية المشتركة.
- إعادة بناء وصياغة النظم التعليمية والتعاون في التعليم.
- الاهتمام بالإعلام.
ثالث عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً وتوجيهياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطا\ها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله تعالى من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد تأثيرات العولمة على الهوية، لذا لا نعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات العولمة، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق بمحاربة أنشطتها وتشويه سمتعتها وتجفيف مواردها(11).
هذه بعض الأفكار وغيرها كثير في سبيل مواجهة العولمة وهي وإن فرضت علينا واقعاً ليس من اختيارنا، لكنها لا تستطيع منعنا من العمل.
والطريف المضحك المبكي أن يتحدث بعض النفر من مثقفينا عن العولمة، كقضاء وقدر، يجب إسلام الذات الثقافية له، في ذات الوقت الذي يتمردون فيه على القضاء والقدر، إذا كانا من الله، ولقد كتب أحدهم في أحد المؤتمرات التي عقدت عن العولمة يقول: إن العولمة هي ظاهرة التوحد الثقافي والاقتصادي، التي يشهدها العالم اليوم، مع عدم إغفال النواحي السياسية والاجتماعية، وإن الحداثة الغربية عموماً والعولمة المعاصرة خصوصاً، وما أفرزت من ثقافة في طريقها إلى أن تصبح ثقافة عالمية أو كونية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى، فلا شيء قادر على الوقوف في طريقها، ولن تستطيع الثقافات التقليدية أن تصنع شيئاً أمام ثقافة العولمة التي لا تصدها الحدود، أحببنا ذلك أو كرهنا، وافقنا أو رفضنا(12).
وأخيراً مادمنا مقاومين فاعلين قائمين بما أمرنا الله به فإننا موقنين ليس بحماية هويتنا فحسب، بل حتى في التأثير على غيرنا بنفس وسائل العولمة، وهذا هو الفصل القادم.
- سبل الاستفادة من العولمة في الحفاظ على الهوية(24/273)
هل العولمة شر محض فنحصر أمورنا في الوقاية منها ومقاومتها؟ أم أنه يمكن التأثير من خلال العولمة، إن موقف نقد لا يعني حرمان النفس من إمكانيات الاستفادة من الفرص التي يتيحها، وذلك للتأثير الإيجابي أو على الأقل التخويف من مخاطر السقوط في الهرم والرثاثة(13).
وإذا كان البعض يشبه العولمة بالقطار إما أن تركب إذا أردت التقدم والوصول أو البقاء في المكان مع التعرض للمخاطر ويفوتك الركب، والقطار يسير إلى قدر محتوم معلوم كما ذكره فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وتأثر به كثير من الكتاب فإن هذا المثال غير صحيح لأن العولمة تتجاذبها قوى متعددة يمكن التأثير فيها.
وسنضرب بعض الأمثلة:
أولاً: إن من مظاهر العولمة وسائل الاتصال من الإنترنت والفضائيات وأن هذه الوسائل من الممكن تسخيرها لخدمة البشرية عبر نشر الحقائق الإسلامية فالأمة العربية والإسلامية تملك أعظم مشروع حضاري .. إنها تملك الوحي الإلهي المعصوم، الذي ينظم العلاقة بين العباد وخالقهم "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذريات:56] ، وبين العباد بعضهم وبعض "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) ، ومع سائر المخلوقات "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" [البقرة:30]، وهو في النهاية يؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية للعالم، هذه الرسالة العظيمة يجب أن تحملها البشرية وأن تستثمر كل أدوات العولمة المشروعة لإيصال رسالتنا "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [آل عمران:110].
وثقافتنا وهويتنا قابلة للنمو والاعتناء أكثر من الإذابة والتبعية، لذا نؤمن بالتفاعل والتبادل الذي يتيح لثقافتنا فرصة النمو والانتشار لا الإذابة والتبعية(14).
بل إن الإسلام بعقائده الفطرية وشريعته العادلة القائمة على المساواة هو أكثر المستفيدين من العولمة إذا تساوت الفرص وخدمه أبناؤه فالإسلام بقيمه العالمية بخلاف العولمة التي هي فرض قيم وحضارة خاصة، بينما الإسلام يتجه نحو العالمية منذ نزوله، ويحث على التعايش والسلم، وعايش فعلاً في تاريخه مختلف الديانات وتسامح معها تسامحاً واضحاً بشهادة المؤرخين المنصفين، كما أنه مؤهل بتعاليمه الأخلاقية أن يشارك في وضع أخلاق جديدة لهذه العولمة المنفلتة لحد الآن، وهو يعترف بالقيم المشتركة بين الحضارات، ولا شك أن الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقية والغربية من سمات الإسلام الرئيسية، فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى، منذ نزول القرآن، ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من خرافات وتحريفات، ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعاً، " "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران:64]، فعلى المسلم اليوم أن يحدد رسالته نحو العولمة ويبني موقفه على الفهم الصحيح للإسلام، وأن ميزانه ميزان أخلاقي (التقوى) حيث يتحاور ويتعاون مع البشرية في العالم إذا ألغي ميزان العصبية واللون، والطبقة والثروة، وجعل عمارة الكون والإحسان إلى العالمين من مبادئه ومقاصده، وكذلك المشاركة في توفير الخير للناس، وحفظ الحقوق، ومنع الظلم وإن كان مع عدو أو مخالف في الدين، " "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: من الآية8] ، وعد القرآن الكريم اختلاف اللغات والألوان من آياته سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم:22] (15).
فإنتاج البرامج التلفزيونية للتعريف بالإسلام وكذلك المواقع في الإنترنت، ونشر الحقائق الإسلامية وبيان دين الإسلام، والرد على الشبهات المثارة، فتلك الوسائل يستفيد منها بالدرجة الأولى أهل الحق، فهي فرصة لكشف فريق الباطل.(24/274)
وكذلك الاستفادة من السياحة في منطقتنا الإسلامية لاطلاع القادمين على ديننا وثقافتنا وتاريخنا، وكما أن المؤسسات الخيرية والدعوية الإسلامية التي تعاني الآن من هجمة العولمة واتهامها بدعم الإرهاب لها فرصة الاستفادة من وسائل العولمة لنشر الإسلام.
ثانياً: إن أدوات العولمة ربما ساعدت في الحفاظ على الهوية حيث يتاح للمسلم في الغرب الحفاظ على هويته وتقويتها عبر مواقع الإنترنت الإسلامية بل ويتفاعل معها وكذلك الفضائيات، وقد نشاهد جماعة من المهاجرين الأتراك مثلاً في ألمانيا يقتصرون على مشاهدة البرامج التركية وهم مقيمون في ألمانيا، ينقلون هويتهم معهم، ولا تنقطع الصلة بينهم وبين مجتمعهم الأصلي، وكذلك يفعل المهاجرون المسلمون في فرنسا، والأكراد في ألمانيا.
ثالثاً: العولمة المعاصرة أفرزت تهديداً ثقافياً، وهذا التهديد الثقافي والديني قد يؤدي أيضاً إلى فرار الناس إلى الدين، يلوذون به، ويحتمون بعقائدهم لدرجة التعصب والعنف والقتال، لأنهم يشعرون أنهم مهددون في أعز شيء عندهم، ولشدة خوفهم من الاستئصال والانسلاخ قصراً عن معتقداتهم، لأن الصراع يسهل أن ينشأ عندما يشعر الإنسان أنه مهدد في جانب من ذاتيته(16).
يقول برنارد لويس: "في العالم الإسلامي يوجد ميل متواتر لدى المسلمين في أوقات الأزمة، لأن يبحثوا عن هويتهم الأساسية وانتمائهم في المجتمع الإسلامي"(17).
ويقول هنتجنتون: في عالم اليوم أدى التحسن الذي حدث في مجالات الانتقال والاتصال إلى تفاعلات وعلاقات أكثر تكراراً واتساعاً وتناسقاً وشمولاً بين شعوب من حضارات مختلفة، ونتيجة لذلك أصبحت هوياتهم الحضارية أكثر بروزاً. الفرنسيون والألمان والبلجيك والهولنديون يتزايد تفكيرهم في أنفسهم كأوروبيين، مسلمو الشرق الأوسط يتوحدون ويهرعون لمساعدة البوسنيين والشيشان، الصينيون في آسيا كلها يوحدون مصالحهم مع مصالح البر الرئيسي، الروس يتوحدون مع الصرب والشعوب الأرثوذوكسية الأخرى ويدعمونها، هذه الحدود الأوسع للهوية الحضارية تعني وعياً أعمق بالاختلافات الحضارية والحاجة إلى حماية ما يميز "نحن" عن "هم"(18).
رابعاً: إن من إيجابيات العولمة القضاء على الحداثة بمعناها المعادي لكل ما هو قديم، وذلك هو مأزق الحداثة الفاضح عربياً، وذلك بعد عقود من مساعي الحداثيين إلى علمنة الثقافة والمجتمع، يكتسح الإسلام ساحة الفكر والعمل في غير بلد عربي، وفيما يصر أهل الحداثة على إحداث ثورة في الفكر الديني أو في العقل اللاهوتي، على غرار ثورة لوثر أو فولتير أو كنت، توضع الحداثة غربياً على مشرحة النقد والتفكيك بكل عناوينها ومسلماتها، بعد أن شهدت انفجاراتها المفهومية في أكثر فروع المعرفة والثقافة(19).
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- التعريفات، الجرجاني، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م.
3- الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، حسن حنفي، بحث ضمن كتاب العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م.
4- ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، د. برهان غليون ود. سمير أمين، دار الفكر المعاصر بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ/ 1999م.
5- حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني، أنور الجندي، دار الاعتصام، سلسلة الرسائل الجامعة.
6- حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م.
7- نحن والعولمة من يربي الآخر، سلسلة كتاب المعرفة (7)، مجموعة مقالات، مقالة للأستاذ سعد البازعي بعنوان المثقفون والعولمة والضرورة والضرر، الطبعة الأولى 1420هـ/ 1999م.
8- صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية، 1999م.
9- صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م.
10- ضياع الهوية في الفضائيات العربية، د. عائض الردادي، كتيب المجلة العربية، العدد السابع والثلاثون، محرم 1421هـ.
11- العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م.
12- العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تعقيب نبيل الدجاني، الطبعة الثانية، 1998م.
13- العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ/2001م.
14- العولمة وأثرها على اقتصاد الدول،نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/3/1997م.
15- العولمة، دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، ماجد بن علي الزميع، رسالة ماجستير قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1422هـ، لم تطبع.
16- العولمة والتحدي الثقافي، د. باسم علي خريسان، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م.
17- العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م.(24/275)