(19/118)
قمة الأزمة.. أم أزمة القمة؟
عبد الرحمن أبو عوف- سامح جاد 8/2/1425
29/03/2004
تأتي القمة العربية في شكلها الدوري لتضيف همًّا جديدًا إلى الهموم العربية؛ فبرغم أن الشعوب العربية لم تصل طموحاتها إلى خروج القمة بقرارات تعيد إلى الشارع العربي التوازن المفقود مع تتابع الضربات من الداخل والخارج؛ إلا أن مجرد انعقاد القمة العربية أصبح حلمًا عربيًّا.. ففي تطور مأساوي , وقبل ساعات من توافد القادة والزعماء العرب على العاصمة التونسية أعلنت تونس قرارًا بتأجيل عقد القمة العربية إلى موعد يتحدد فيما بعد , وكالعادة أرجعت أسباب التأجيل إلي خلافات شديدة حول الصيغ النهائية للقرارات , التي كان من المفترض أن تصدر عن القمة.
فبالرغم من الصمت العربي المعتاد إزاء تصاعد العدوان الصهيوني في فلسطين إثر اغتيال شيخ المجاهدين أحمد ياسين والعدوان الأمريكي في العراق؛ فإن الإعلان التونسي اليوم الأحد عن تأجيل القمة لأجل غير مسمى لم يكن مفاجئًا للمواطن العربي رغم الصدمة التي انتابت وزراء الخارجية العرب من القرار التونسي الذي لم يأت من فراغ، إنما كان انعكاسًا لحالة التمزق والفشل العربي، حيث تصاعدت التوقعات في أوساط المحللين السياسيين قبيل انعقاد القمة بالفشل الذريع لهذه القمة لتتحول القمة في ذاتها إلى أزمة بدلاً من السعي لحل الأزمات التي يعيشها العالم العربي.
وقد أحاطت الشكوك بالقمة العربية بعد الإشارة إلى أن الزعماء عازفون عن الحضور، ورغم أن الحكومات العربية منذ شهور وهي تعد للقمة والتي كان يفترض أن تعقد يومي الاثنين والثلاثاء القادمين في تونس إلا أنها لم تتفق على مواقف مشتركة، سواء فيما يخص الإصلاح الداخلي للجامعة العربية أو ما يخص سبل الرد على المبادرة الأمريكية الخاصة بالديمقراطية في الشرق الأوسط.
وقد أكد دبلوماسيون قبيل القمة التي لم تنعقد أن الحكومات تشعر أيضًا بالقلق من احتمال أن يكشف عقد قمة في هذه المرحلة عجزها عن التأثير على مسار الأحداث، سواء في العراق أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة وهما أكثر القضايا الإقليمية أهمية.
وقد كشفت إسرائيل ضعف هذه الحكومات عندما ظهر أنها لا تملك ما ترد به على اغتيال مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين في غزة بعد أدائه لصلاة فجر الاثنين الماضي سوى الشجب والاستنكار، حيث تتعرض الحكومات لضغوط شعبية تطالب باتخاذ موقف أقوى لكن جعبتها خالية من وسائل التأثير على الأحداث.
وكان وزراء الخارجية العرب عقدوا جلستهم الرسمية الأولى الجمعة الماضية في تونس وحاول وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحيى الذي تستضيف بلاده القمة والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى تبديد أي شكوك فيما يخص عقد القمة، وقال ابن يحيى في مؤتمر صحفي مشترك مع موسى: "لم نسجل أي طلب والقمة قائمة إن شاء الله ستسجل نقلة نوعية في العمل العربي المشترك".
وأضاف موسى "لا حاجة للعودة للحديث عن احتمالات غير قائمة، ومن ثم مسألة التأجيل غير واردة، القمة ستعقد في موعدها"، ويبدو أن عقد القمة من عدمه سار الهم الأكبر للقادة العرب الذي غالبًا ما يترافق تصاعد العدوان الصهيوني ضد الفلسطينيين ورئيسهم ياسر عرفات مع انعقاد القمم العربية المتلاحقة، بما يشبه الرسالة من الاحتلال الإسرائيلي إلى القادة العرب لتكون (الرسالة) شاهدة على عجزهم.
الإصلاحات أفسدت القمة
والغريب أن الخلافات العربية في هذه القمة تعدت المتوقع، وأصبحت المشكلات المثارة داخل أروقة الإعداد للقمة أكثر مما ستناقشه من قضايا، فقد شهدت الجلسة الثانية لوزراء الخارجية العرب نقاشًا حادًّا بعد أن هاجم رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية فاروق القدومي مشروع الإصلاحات العربية المقدم مدعومًا بوزيري خارجية سوريا فاروق الشرع ولبنان جان عبيد.
وأفاد مسؤول عربي أن "القدومي رفض المشروع المصري-الأردني حول الإصلاحات في العالم العربي معتبرًا أن هذين البلدين اللذين وقعا معاهدتي سلام مع إسرائيل فقدا حقهما في تقديم مبادرات من هذا النوع".
وأضاف القدومي "وحدهم الفلسطينيون وسوريا ولبنان لهم الحق في تقديم مبادرة إصلاح" للعالم العربي.
ويعتبر معارضو مشروع الإصلاحات في العالم العربي أن من الأفضل الاكتفاء باتخاذ موقف حازم إزاء إسرائيل والتشديد على الطلب من الدولة العبرية الانسحاب من الأراضي المحتلة منذ عام 1967.
وبالنسبة للملف العراقي يبدو أنه لا خلافات بين الوزراء العرب حوله. وقال وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري: "إن العراق قدم مشروع قرار حول تطورات الأوضاع في العراق في ضوء القرار الصادر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة (مطلع الشهر الجاري) لأن هذا القرار سيكون الأساس في صياغة موقف من تطورات الوضع في العراق"، ويؤكد مشروع القرار وحدة الأراضي العراقية وسيادة العراقيين على أرضهم إضافة إلى تعزيز دور الأمم المتحدة في هذا البلد.(19/119)
ومن الخلافات التي ثارت أيضًا تمسك مصر والأردن والسعودية بإعادة تفعيل المبادرة العربية التي أطلقتها المملكة السعودية قبل عامين، والتي تؤكد تمسك العرب بالسلام مع الكيان الصهيوني كخيار استراتيجي، ومن ثم قبولها (أي الدول العربية) بالتطبيع الكامل مع إسرائيل مقابل انسحاب الأخيرة من الأراضي التي احتلتها في يونيو 1967 في حين عارضت هذا الرأي سوريا وفلسطين ولبنان، واعتبرت أن الظروف غير ملائمة خاصة بعد اغتيال إسرائيل لزعيم حركة حماس الشيخ أحمد ياسين لإعادة تفعيل مثل هذه المبادرات.
كذلك من الخلافات التي ثارت خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب تمسك ليبيا بضرورة الإشادة الرسمية من القمة بالموقف الليبي الذي تمثل في التنازل عن برامجها للتسلح النووي في حين عارضت سوريا بشدة المشروع الليبي، ومن ثم التوصل لحل توفيقي وهو التأكيد على الدعوة لنزع أسلحة الدمار الشامل من منطقة الشرق الأوسط ليشمل المشروع بذلك إسرائيل، ولا يمثل ضغطًا جديدًا على سوريا إلى جانب الضغوط الأمريكية التي تتهمها بامتلاك أسلحة دمار شامل.
فرض التجربة التونسية
الجديد في القمة التي لم تنعقد هو محاولة تونس فرض تجربتها فيما وصفته بالتغيير والإصلاح، وربما يكون هذا هو السبب الرئيس في إعلان تونس تأجيل القمة في الوقت الذي كانت فيه اجتماعات وزراء الخارجية العرب لا تزال منعقدة، ومن ثم تواردت أنباء حول رفض الرئيس التونسي لاستقبال وزراء الخارجية العرب لإيضاح أسباب تأجيل القمة بسبب ما قال عنه وزير الخارجية التونسي: إنه "نزلة برد أصابت الرئيس التونسي"، ولكن تونس عادت ونفت صحة هذا النبأ.
أحلام موسى التي تبددت!!
من جانبه قال عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية إن قرار التأجيل للقمة العربية سوف تترتب عليه تداعيات كبيرة وصفها بأنها خطيرة، وذات أثر بالغ على مجمل العمل العربي المشترك، مضيفًا أنه لا يجب أن نحمّل تونس وحدها كل المسؤولية، وإنما كان مجمل الأداء العربي بأكمله مشاركًا في المسؤولية.
وقد أعلن موسى أنه يسعى لتحويل الجامعة العربية إلى هيئة إقليمية على غرار الأمم المتحدة، لها مجلس للأمن وسلطة الإلزام بتنفيذ قراراتها، وبموجب الميثاق الحالي للجامعة لا تلتزم الدول الأعضاء إلا بالقرارات التي توافق عليها.
وهكذا فقد أحدث تأجيل القمة شرخًا عربيًّا جديدًا تهاوت معه الأحلام العربية بإقامة مجلس أمن عربي على غرار مجلس الأمن الدولي، وبرلمان عربي على غرار البرلمان الأوروبي.
ولم تفلح القمة العربية منذ إنشاء الجامعة في جعل قراراتها ملزمة لكل الدول العربية، وفشلت أيضًا في وضع آلية لفض المنازعات العربية حتى لا نفتح الحدود العربية للقوات الأجنبية.
الوضع الفلسطيني وحرب المبادرات
يشير الدكتور أحمد ثابت -أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة- إلى أن قضية اغتيال أحمد ياسين الزعيم الروحي لحماس زادت من الضغوط على القادة العرب، حيث أصبحوا مطالبين أمام شعوبهم بالسعي لاتخاذ خطوات جادة وعقابية تجاه إسرائيل تتمثل في وقف أية خطوات للتطبيع معها وتجميد العلاقات الاقتصادية التي نمت وترعرعت في الفترة الأخيرة مع دول من المشرق والمغرب العربي.
وأعرب ثابت في تصريحات خاصة للإسلام اليوم عن تشككه حول فرص نجاح القمة في حالة انعقادها بسبب الخلافات الشديدة بين الأنظمة العربية فيما يخص مبادرة الشرق الأوسط الكبير؛ فهناك لوبي يؤيد هذه المبادرة ويسعى لتفعيلها وآخر يرفضها، وبين الطرفين ستضيع القمة خصوصًا أن هناك حرب مبادرات بين الدول العربية حول تطوير العمل العربي المشترك وتَضَخُّم الأجندة التي سيبحثها القادة مما يصعِّب من احتمالات نجاح القمة.
هذا وليس مستغربًا أن تسارع إسرائيل بالإعراب عن سعادتها الغامرة بوصول ما يفترض أنه أعلى بناء مؤسسي بالوطن العربي وهو القمة العربية لهذه المرحلة؛ فخرجت الخارجية الإسرائيلية ببيان تشيد فيه بتأجيل القمة وتقول: "لقد أدرك العالم العربي الآن أنه مخطئ في سياسته تجاه إسرائيل ولهذا فقد أجل القمة"، في الوقت الذي أعرب فيه كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات عن مخاوفه من استغلال إسرائيل لهذا الفشل العربي لتصعيد عدوانها ضد الشعب الفلسطيني، كما حذّر من سعي بعض الدول العربية للتعامل مع أمريكا بشكل منفرد بعيدًا عن المسلمات العربية التي يأتي على رأسها الحق الفلسطيني.
بوش يحذر القمة
وقد نقلت مراسلة مجلة "المصور" المصرية في تونس منذ أيام تحذير الرئيس الأمريكي جورج بوش للقمة العربية التي كان من المفترض أن تنعقد في تونس من خطورة اتخاذ مواقف من شأنها دعم ما تسميه واشنطن "بنهج الجماعات الإرهابية على الساحة الفلسطينية"، والتخلي عن خيار السلام والتطبيع مع إسرائيل كخيار وحيد لتحقيق الاستقرار في المنطقة.(19/120)
وتضمنت الرسالة التي بعث بها الرئيس الأمريكي إلى عدد من القادة العرب مؤخرًا عددًا من المطالب الأمريكية التي تطالب واشنطن بضمها إلى بيان القمة العربية، وأبرز هذه المطالب هي أن تعبر الدول العربية عن رغبتها الجادة والمخلصة في التعاون مع كافة الأطراف الإقليمية وأن يتم التأكيد على حل كافة الإشكالات والخلافات بين الدول العربية والدول الأخرى (يقصد إسرائيل) على أساس التفاهم والتفاوض، وتجنب كل ما يتعلق بالأعمال العدائية أو العسكرية، وأن يتم تشجيع الأطراف الدولية على حل هذه الخلافات، إلى جانب تطوير مجالات التعاون المشترك بين الدول العربية والأطراف الإقليمية الأخرى في المنطقة، وإنشاء آليات وأجهزة سياسية وفنية تدعم تحقيق هذا التعاون، والتفكير الجدي في إنشاء مشروعات مشتركة تمهيدًا للوصول إلى أرضية التعاون المشترك التي تحقق التكامل الاقتصادي في الشرق الأوسط.
هل تصلح القاهرة ما أفسدته تونس؟
وفي محاولة منها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه أعلنت القاهرة بعد ساعات من إعلان تونس تأجيل القمة لأجل غير مسمى أعلنت مصر استعدادها لاستضافة القمة العربية بشكل عاجل وسريع بعد احتدام الخلافات خلال مؤتمر وزراء الخارجية العرب حول مشاريع الإصلاح وباقي القضايا العربية، وقال بيان صادر عن الرئاسة المصرية: "إن جمهورية مصر العربية ترى ضرورة عقد تلك القمة على وجه السرعة، وترحب مصر بعقد مؤتمر القمة في دولة المقر في أقرب وقت ممكن يتم الاتفاق عليه".
ولكن السؤال هو: هل يصلح في القاهرة ما فسد بتونس؟ وما فسد بالقمم العربية المتعاقبة التي أصبحت مجرد أرقام لعدد القمم التي تضاف إلى رصيد الضعف العربي ومتى يدرك الزعماء والقادة العرب أننا لسنا بهذا الضعف المهين؛ فنحن نمتلك موقعًا جغرافيًّا استراتيجيًّا، ونملك أكثر من ثلث إنتاج بترول العالم ومعظم احتياطاته، ولدينا أكثر من ألف مليار دولار في خزائن البنوك الأمريكية، ولدينا معدات وأسلحة حديثة بعشرات المليارات، ولدينا تجربة العبور العظيم، ولدينا التجربة الرائعة للمقاومة في فلسطين ولبنان والعراق .. فإذا كانت لدينا كل تلك الإمكانيات، وإذا كان أعداؤنا ليسوا بتلك القوة القاهرة فإننا نستطيع أن نخرج من عنق الزجاجة القاتلة ونجبر الآخرين على أن يعيدوا النظر في سياساتهم ومخططاتهم ومبادراتهم .. هذا إذا جاءت قمة عربية قادمة!!
============(19/121)
(19/122)
قنابل موقوتة وراء الشرق الكبير..
إعداد: مركز أبعاد 8/2/1425
29/03/2004
لا شك أن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تروج له الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعمل على تسويقه لدى الدول الصناعية الثماني الكبرى وحلف الناتو؛ للضغط به على المنطقة العربية قد جاء في توقيت صعب للغاية.. فقمة الدول الثماني التي تعقد في ولاية جورجيا الأمريكية تبحث فيها أمريكا عن إعطاء شرعية دولية لمشروعها، وكذلك تعقد في نفس المدة قمة حلف الناتو في اسطنبول، وهذان الحدثان يتوافقان مع حدثين مهمين في المنطقة؛ الأول: تسليم السلطة للعراقيين في يونيو القادم، والثاني: الانتخابات الرئاسية في أفغانستان.
هذا التوافق لا معنى له إلا أن مبادرة الشرق الأوسط الكبير توجه رسالة إلى الناخب الأمريكي، إذ تعد تدشينًا لحملة بوش لتجديد ولايته في البيت الأبيض، وهذا هو النصف الأول من الرسالة، أما النصف الثاني: فيتمثل في الإيحاء للشعب الأمريكي أن بوش زعيم من فصيل عظيم للزعماء (مثل كارتر وريجان)، فإذا كان الاثنان قد حاربا الشيوعية؛ فإن الرئيس بوش يواصل جهده لنشر الحرية والديمقراطية في العالم.
السم في العسل
هذه الملاحظة كانت جديرة بالاهتمام قبل الدخول في لب قضية الشرق الأوسط الكبير؛ فرغم أن هذه المبادرة التي تحمل في إطارها الشكلي ألفاظًا براقة مثل: الديمقراطية، والحرية، ومواجهة الفقر، والتطرف والإرهاب...؛ إلا أن هذه الألفاظ تدور في فلك "السم في العسل"، ولا تستطيع إخفاء أن الهدف الحقيقي منها هو استكمال فصول الهيمنة على المنطقة، وخلق واقع جديد تسيطر عليه واشنطن وحلفاؤها في تل أبيب وأنقرة.
وتهدف المبادرة حسب التسريبات الصحفية -حيث لم تنشر رسميًّا حتى الآن- إلى دعم الديمقراطية والحرية عن طريق دعم الانتخابات الحرة في البلاد العربية من خلال المساعدات التقنية والفنية والقانونية؛ مع الوضع في الاعتبار أن عددًا من الدول العربية قد أعلنت عن نيتها في إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وبلدية في الأشهر القادمة، وعلى رأسها الجزائر وتونس والسعودية.
ويمكن في هذه الحالة للدول الصناعية الثماني أن يظهروا دعهم لهذا الإصلاح الديمقراطي عبر وسائل الدعم العديدة، ويركز واضعو المشروع على الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني كقوة دافعة للإصلاح، وهو ما يتطلب معه أن يكون هناك جزء كبير من المساعدات لصالح هذا القطاع للعب الدور الذي يجب أن يقوم به فيما يخص الإصلاح والتحديث.
وركزت المبادرة كذلك على ضرورة إنشاء مجتمع متقدم علميًّا من خلال التعليم الأساسي ومحو الأمية وسد النقص في الوسائل التعليمية وإصلاح برامج التعليم، ولتحقيق الأهداف فلا يجب ترك المجال الاقتصادي بدون دعم وتنمية، حيث طالبت المبادرة بتحقيق شراكة اقتصادية مع دول المنطقة، حيث ستدعم الدول الثماني الكبرى إنشاء صناديق لتمويل التنمية، ومعالجة الفجوة الاقتصادية عن طريق إنشاء مؤسسة المال الدولية بدعم من الدول الكبرى، وكذلك تدشين بنك تنمية الشرق الأوسط لدعم وإصلاح وتطوير هيكلة المؤسسات المالية في المنطقة، ومساعدة دول المنطقة على الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، وتحسين التبادل التجاري بين مجموعة الثماني ودول المنطقة.
استبداد وإرهاب
وليس هناك أي شك في أن القراءة الأولى للمشروع الأمريكي تطرح عددًا من الملاحظات؛ أولها: أنها ركزت على العالم العربي، وبعض دول جنوب آسيا، وهي مناطق تعاني من الاستبداد والديكتاتورية والفساد والإرهاب، وأن كل الدول التي تشملها المبادرة دول إسلامية، وعلى هذه الدول إعادة رسم خريطة المنطقة لخدمة المصالح الأمريكية والمشروع الصهيوني.
الملاحظة الثانية تدور حول أهداف واشنطن من وراء طرحها للمبادرة:
وأولها: الوصول إلى موقف دولي يدعم مساعيها لخلق واقع جديد في منطقة الشرق العربي تحديدًا، ويقوم على معطيات محددة أهمها إقامة منطقة جديدة تتسيدها وتهيمن عليها إسرائيل، وخلق محور (إسرائيلي ـ تركي) لإحداث نوع من السيطرة الاستراتيجية على المنطقة ووصلها بالقارة الأوروبية لخلق واقع جيوستراتيجي جديد.
هيمنة
ثانيها: احتواء ما يطلق عليه بالإسلام السياسي، وذلك بضم كل من إيران وباكستان وأفغانستان لهذا المشروع، والذي يعتمد أساسًا على إصلاح العالم العربي سياسيًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا وتنمويًّا، والسيطرة على الإرهاب الإسلامي.
ثالثها: جرجرة الدول الثمانية الصناعية الكبرى إلى مخطط واحد يعترف بالدور الأمريكي الجديد في المنطقة، بعد أن رفضت كل من فرنسا وروسيا وألمانيا دعم واشنطن لحربها على العراق.
رابعها: محاولة إقامة نظام لا يقوم على المنافسة الأوروبية الأمريكية في المنطقة العربية، وإنما خلق واقع جديد يقوم على مفاهيم ذات عناوين واحدة، مع ترك مساحة التفسير المتباين للولايات المتحدة وحلفائها.
أهداف انتخابية(19/123)
أما الملاحظة الأخيرة على القراءة الأولى للمشروع؛ فنشير إلى أن هذه المبادرة موجهة أصلاً إلى الناخب الأمريكي لإلهائه عن المأزق الذي تواجهه الولايات المتحدة في العراق، وسحب البساط من تحت أقدام المنافس الديمقراطي لبوش جون كيري الذي يركز حملته على خيبة بوش في الملف العراقي.. لذا فبوش يسعى إلى تنبيه الرأي العام الأمريكي أنه يخوض حربًا شرسة ضد الإرهاب.. لتحقيق الأمن للمواطن الأمريكي، وخلق واقع جديد في الشرق الأوسط يتمتع بالحرية والديمقراطية والتنمية؛ كما يلفت النظر في المبادرة أنها تجاهلت تمامًا أي ربط بين الإصلاح في الشرق الأوسط وبين قضيتي فلسطين والعراق؛ كأنهما مسألتان لا يهمان دول وشعوب المنطقة رغم أن الأولى حجر الزاوية في كل مشاكل المنطقة، ولا يمكن الحديث عن جدوى أي إصلاح بدون حلها.
ويبدو أن تجاهل الأمريكان للقضية الفلسطينية أمر متعمد ينسجم مع استراتيجية الإدارة الحالية التي لا تربط بين الإصلاح والتحديث وحل القضية، وذلك بإطلاق يد شارون لتصفية القضية الفلسطينية لفرض رؤيته على الفلسطينيين.. كما أن عدم الحديث عن العراق يعطي دليلاً على عدم جدية واشنطن لنشر الديمقراطية؛ لأن تجربتها في العراق تجعل الجميع يتشككون في مساعيها ونواياها تجاه المنطقة.
اعتراضات
والدول العربية من ناحيتها أبدت اعتراضات شديدة على المبادرة وأوضحت أن الإصلاح والتحديث يجب أن يكون نابعًا من دول المنطقة يرعى خصوصيتها وليس مفروضًا عليها من الخارج.
وقد سعت الدول العربية التي تحفظت على المبادرة إلى الربط بينها وبين القضية الفلسطينية وإقرار السلام في المنطقة، وهو مسعى أكد المراقبون أنه يرمي تحقيق هدفين؛ الأول: سعي من النخب الحاكمة لإبقاء الوضع على ما هو عليه من احتكار السلطة، وتزوير الانتخابات، ورفض أي إصلاح حقيقي تحت يافطة أن الإصلاح المفروض من الخارج مرفوض.
والثاني: ممارسة ضغوط على واشنطن حتى يكون الإصلاح في المنطقة بالتعاون مع الأنظمة، وليس مع مؤسسات المجتمع المدني، وهنا تدخلت واشنطن بالتأكيد للدول العربية أنها لن تفرض الإصلاح عليهم؛ بل سيتم بالحوار والتعاون معهم، إلا أن هذه التطمينات لم تبدد مخاوف هذه الدول.
وإزاء استمرار هذه المخاوف تدخلت عدة دول من الاتحاد الأوروبي لها مصالح استراتيجية من وراء المبادرة الأمريكية في طرح مبادرة مماثلة وإن كانت تجميلية للمبادرة الأمريكية القبيحة.. اختلفت معها في الرتبة وليس في النوع.
وكانت الاختلافات في ثلاث نقاط:
ـ رفض فرض إصلاحات تتعارض مع تقاليد الدول العربية.
ـ اشتراط التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية؛ قبل انخراط العرب في أي إصلاحات.
ـ إعطاء دور مهم للحكومات العربية في الإصلاحات، وعدم تجاهلها لصالح مؤسسات المجتمع المدني.
حائط صد
ولكن المبادرة الأوروبية رغم تجنبها العديد من الخطايا الأمريكية لم تشفع لها لقبول الدول العربية لها؛ بل إن هناك دولاً عربية قد تقدمت بمبادرات للإصلاح، أهمها المبادرة المصرية التي تدعمها السعودية وسوريا واليمن والأردن؛ ذلك لتشكيل حائط صد ضد المبادرات الخارجية وخصوصًا الأمريكية التي تسعى إلى الهيمنة على المنطقة سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا والقبول بقيادة إسرائيلية تركية للمنطقة.
وقد ركزت الدول العربية على توجيه رسالة لأوروبا وأمريكا أن فرض الإصلاح من الخارج ربما يوصل إلى الحكم قوى رجعية ومتطرفة كما حدث في الجزائر، ولكن واشنطن قابلت ذلك بطمأنة الدول العربية أنها لا ترغب في تغيير دراماتيكي للمنطقة، وأن هدف هذه المبادرة أن تصل إلى الحكم قوى ديمقراطية وليبرالية واستبعاد القوى الراديكالية والمتطرفة، وهذا ما يفسر أن واشنطن ستعمل على فرض رؤيتها على المنطقة، ولا تخشى من وصول قوى إسلامية إلى الحكم؛ لأنها ستسعى إلى فرض أسلوب (الإسلام الرومانسي) الذي يؤمن بالديمقراطية والتعددية، ولا يعادي الغرب وإسرائيل؛ على غرار تجربة حزب العدالة والتنمية التركي ، وهو ما يعطي تركيا فرصة لإعادتها إلى الأضواء كقائد للإصلاح في المنطقة مع السادة في تل أبيب.(19/124)
كما أن واشنطن تراهن على اللوبي العربي الموالي لسياستها في الشرق الأوسط ليمارس ضغوطًا على القمة القادمة في تونس للقبول بالمبادرة الأمريكية بعد دراستها وتنقيتها وإلباسها ثوبًا عربيًّا، وهو ما يؤكد أن العرب سيقبلون هذه المبادرة بعد تعديلها حتى لو كان الأمر في الخفاء لحفظ ماء وجهوهم؛ لأن المعطيات تشير إلى عدم استطاعة أي دولة المجاهرة بعداء واشنطن التي أعلنت أنها لا ترغب في أن تسمع صوتًا عربيًّا واحدًا يعترض، ولكن من يريد أن يتحدث مع واشنطن فليكن ذلك بأسلوب فردي وليس بأسلوب جماعيّ، وهو ما يشير إلى نوايا واشنطن في تفتيت المنطقة العربية وفرض النمط القطري، وهو الطرح الذي يتواءم مع المساعي الأمريكية كما يؤكد الدكتور جمال زهران -أستاذ العلوم السياسية بجامعة قناة السويس- بالقول: إن مخاطر هذه المبادرة عديدة أهمها: أنها تسعى لتذويب الهوية العربية في إطار شرق أوسطي؛ بل إن واشنطن ترغب في إعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة بصورة تنزع عنها صفة الإقليمية، وتكريس مبدأ القطرية ليسهل احتواء المنطقة وإخضاعها.
وأشار د. زهران إلى أن أهم مخاطر هذه المبادرة أنها تعكس المنهج الإمبراطوري الذي يسيطر على حكام واشنطن المحافظين، والذين يرغبون في تطويع العالم كله تحت هيمنتهم، وجعل أمريكا القوة الوحيدة حتى لو كان ذلك على حساب الشرعية الدولية، وهذا ما يفسر ما حدث في العراق وأفغانستان، وتهديد سوريا وإيران.
وشدد زهران على أن هذه المبادرة تحمل في طياتها عوامل فشلها بتجاهلها لقضايا فلسطين والعراق، وهذا لن يجعل الشعوب العربية تؤيدها رغم أنها تواقة للإصلاح، وذلك بسبب عدم الثقة في النوايا الأمريكية.
ويرى د. حسن نافعة أن الموقف الأوروبي يسعى لقطع الطريق أمام نزعة الانفراد الأمريكية بتقرير مستقبل العالم العربي وهو الفضاء الخلفي لأوروبا، والتي كانت تتمتع فيه بنفوذ كبير.. لكن هذا الموقف يصطدم بالضعف السياسي للقارة العجوز، لذا اختار الأوروبيون في النهاية طريق التعاون، واقتسام المصالح مع الأمريكان؛ لأن المواجهة مع صقور واشنطن لن تكون في صالح أوروبا.
وشدد د. نافعة على أن استقرار الأوضاع في العالم العربي يصب في خانة أوروبا حيث إن مصالحها ترتبط سلبًا وإيجابًا بالوضع في المنطقة، كما أن وجودها النشط في المنطقة يضيف إلى رصيدها كقوة عالمية مؤثرة.
أما عن الأهداف الاقتصادية لمشروع الشرق الأوسط؛ فيؤكد الدكتور عبد الحميد الغزالي -أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة- أن أهدافه واضحة وعلى رأسها إدماج المنطقة قسرًا في الاقتصاد العالمي بمشاركة إسرائيل من خلال عدة قنوات منها: بنك تنمية الشرق الأوسط، ومؤسسة المال.
ومن شأن ذلك أن يحول المنطقة إلى سوق استهلاكية لأمريكا وإسرائيل، تحقق من خلالها هذه الدول فائضًا اقتصاديًّا كبيرًا مع الدول العربية التي تعاني تخلفًا اقتصاديًّا.
وكذلك يهدف هذا المشروع إلى دمج إسرائيل في اقتصاد المنطقة، وفتح أفاق التعاون الاقتصادي معها مما يعود بالفائدة على الاقتصاد الصهيوني الذي يشكل عبئًا على الاقتصاد الأمريكي .. أضف إلى ذلك وضع واشنطن يدها على ثروات المنطقة من نفط وغاز، وعلى الاحتياطي العملاق لهاتين السلعتين الاستراتيجيتين، والسطو على المنتجات الأولية الزراعية في المنطقة لخدمة الاقتصاد الأمريكي.
وعن السبل لمواجهة هذا المشروع يطرح السفير طه الفربواني -وكيل وزارة الخارجية المصرية السابق- رؤيته بالقول: إن واشنطن تهدف إلى اختراق مجال التعليم لاختراق الأجيال القادمة، وإخضاع ثقافتها للهيمنة الأمريكية، وكبح جماح العنف والإرهاب الإسلامي كما تسميه؛ كي لا تتكرر أحداث سبتمبر مرة أخرى على حد زعم قادة واشنطن، وهذا يطرح علينا تحديات كبيرة ينبغي أن نواجهها بطرح رؤية عربية موحدة للإصلاح السياسي والاقتصادي، وخلق توازن بين السلطات المختلفة في العالم العربي، وإصلاح مؤسسات الرئاسة في العديد من الدول.
وأضاف أن الحل الأمثل لمواجهة المخططات الأمريكية يكمن في التحام القادة العرب بشعوبهم والتصالح معهم؛ لأن هذا يسد الفجوة التي تنفذ منها المخططات الأمريكية الصهيونية لاستغلال نقمة الشعوب على الأنظمة.. خصوصًا أن الطرح الأمريكي يهدد بهدم هذه الأنظمة، ويهز الأرضية التي تقف عليها، وسترتكب هذه الأنظمة الخطأ الفادح إذا اعتقدت أن الاتجاه صوب واشنطن ملاذًا آمنًا للخروج من هذا المأزق، وساعتها ستكون هذه الأنظمة قد حفرت قبرها بنفسها.
عناوين فرعية لخدمة الموضوع:
ـ تفتيت المنطقة، وإخضاعها للهيمنة الأمريكي صهيونية.. الهدف الحقيقي.
ـ إعادة رسم خريطة المنطقة وتحويلها إلى سوق استهلاكية لمنتجات القوى الكبرى.
ـ السطو على مقدرات المنطقة الاقتصادية وتحويلها إلى منطقة نفوذ كامل لأمريكا..
ـ فرض النموذج العلماني التركي واحتواء قوى الإسلام السياسي.
ـ الخلافات العربية حجر عثرة لصياغة رؤية وطنية للإصلاح.
ـ الخبراء والدبلوماسيون: المصالحة بين الأنظمة والشعوب السبيل الوحيد لمواجهة واشنطن.
==============(19/125)
(19/126)
القمة العربية .. منزلقات جديدة!
عبدالفتاح الشهاري 9/2/1425
30/03/2004
لا يمكن أن ينظر إلى ما قامت به تونس من تأجيل للقمة العربية - هو الأول من نوعه في تاريخ الجامعة العربية منذ نشوئها في العام 1945 - إلى ما أرجعته من تضارب في الصياغة العامة لقرارات القمة خصوصاً وأن كل الدلائل والمؤشرات تستلزم وضع أكثر من علامة استفهام على هذا الأمر، جميعها يرتبط بالخلفية السياسية للأحداث التي سبقت موعد انعقادها، والتي كان آخرها اغتيال الشيخ أحمد ياسين، وما تبعه من مواقف أمريكية لن يستطيعوا أمامها أن يتخذوا قرارات تحقق طموح الشارع العربي والجماهير العربية والإسلامية، ومن تلك المواقف الأمريكية التي كانت ستوقع قادة القمة العربية في حرج أمام شعوبها هو استخدام أمريكا حق الفيتو أمام مجلس الأمن الدولي ضد إدانة إسرائيل، فيما أقدمت عليه من اغتيال الشيخ ياسين، مما سيجبر رؤساء الوفود وممثلي الدول المشاركة أن يتنبهوا إلى مغزى هذا الفيتو، وإدراك ما تعنيه أمريكا من خلاله، وهو إعطاء الضوء الأخضر للقيادة الإسرائيلية لتصفية قادة حماس والجهاد الإسلامي، والذي سيعني حرج الدول العربية من اتخاذ أي قرار إيجابي بعكس ما ترمي إليه هذه الرؤية الأمريكية، خاصة وأن هذا الأمر جاء بشكل صريح من قبل الرئيس بوش في رسالته التي وجهها إلى الدول العربية مطالباً بعدم تسرع القمة العربية في اتخاذ أي قرارات من شأنها أن تقف عائقاً أمام المصالح الدولية أو الداعمة للإرهاب ومنظماتها وحركاتها والتي تصنف حماس أمريكيًّا وأوروبيًّا ضمن قائمتها.
ورجوعاً إلى هذا الإلغاء أو التأجيل الذي صدر بقرار رسمي من القيادة التونسية يبدو أن قناة أخرى من قنوات الخلل في الجامعة العربية ستبدأ في الظهور في الوقت الذي يسعى فيه المجتمعون إلى طرح مشروع إعادة هيكلة وإصلاح منظومة الجامعة العربية، والتي من إحدى مقترحات ذلك الإصلاح إنشاء مجلس شورى للجامعة، والتصويت بنسب الأغلبية بدلاً من التصويت الجماعي.
ومما لاشك فيه أن هذا الإجراء التونسي قد سبب مشاكل متعددة الاتجاه، تتمثل إحداها في خيبة آمال الوفود العربية التي كانت متواجدة على الأراضي التونسية وشعورها بأنها شخص غير مرغوب فيه دون أن تراعي الجهة المنظمة ذلك، كما أنه أصاب القادة العرب بخيبة أمل لما يضعهم فيه ذلك الموقف من زيادة استهجان واستياء من قبل شعوبهم والذين وإن كانوا غير معولين عليهم الشيء الكثير وإنما أقل القليل فإن فشلهم في الجلوس على مائدة مستديرة في ظل ظروف حرجة كهذه أصابهم بتبلد مضاعف عن ما سينتج عن اجتماع قادتهم وزعمائهم..
فكيف سيكون أثر ما قامت به تونس على الجامعة العربية؟ هل سيعني ذلك تحديد مواعيد القمم العربية القادمة على نفس الموعد الجديد الذي سيحدد خلال الأسابيع القادمة؟ أم سيتم معالجة مثل هذه الإجراءات ووضعها في الحسبان ضمن الإصلاحات المقدَّمة للجامعة العربية؟ وهل ستصر تونس على حقها في احتضان القمة العربية؟ وهل ستوافق الدول العربية على اعتذار تونس، أم ستقام القمة في مقر الجامعة العربية، أم سيكون ربما هناك قرار بأن تثبت اجتماعات القمة العربية القادمة جميعها في مقر الجامعة بالقاهرة؟ وعلى صعيد الجامعة العربية وهيكلها، هل سيكون جديد هذه القمة هو مفاجأة الإصلاح الهيكلي والشكلي للجامعة؟ أم في قراراتها السياسية الساخنة؟ أم هل لهذا التأجيل علاقة بما طرحه بوش في مشروع الشرق الأوسط الكبير؟
تساؤلات ربما لن تكون معظمها ذات جدوى أو نفع للشارع العربي الذي لم يعد يعوِّل كثيراً على مثل تلك الاجتماعات أو القمم؟
============(19/127)
(19/128)
قمة تونس .. أسباب التأجيل وقصة إصلاح الجامعة
ياسر الزعاترة 9/2/1425
30/03/2004
من العبث القول: إن ما جرى في تونس، وتحديدًا ذلك الإعلان المفاجئ عن تأجيل القمة العربية "إلى أجل غير مسمى" ذو صلة بهزال الجامعة العربية والآليات والقوانين التي تحكمها.
ما جرى في واقع الحال هو نتاج مساومة لم تنجح بين تيارين داخل الأروقة العربية، يرى الأول أن على العرب أن يقبلوا بالإملاءات الأمريكية والمشاريع الخاصة بالشرق الأوسط الكبير، وبالطبع ما تنطوي عليه من أبعاد سياسية وغير سياسية؛ لأن معارضة الولايات المتحدة ليست ممكنة هذه الأيام إذا كانت مصلحة في الأصل، أما التيار الثاني فيرى أن مواجهة واشنطن غير ممكنه، لكن القبول بكل مشاريعها هو الانتحار بعينه؛ لأنها مشاريع ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب.
بالمقابل يبدو من الخطأ الاعتقاد بأن التيار الثاني ذو صلة بالثورية أو التمرد، حتى لو صح أن بعض العواصم قد دأبت على اتخاذ مواقف أكثر تقدمًا في سياق معارضة الإملاءات الأمريكية.
جاء اغتيال الشيخ أحمد ياسين ليشكل نقطة تحوّل على مرمى أيام من القمة؛ فقد وحّد دم الشيخ جماهير الأمة على نحو غير مسبوق، وجعل موقف الزعماء العرب محرجًا إلى حد كبير، خاصة المنضوين تحت لواء التيار الأول، ذلك أن فرصتهم في فرض توجهاتهم تبدو صعبة إن لم تكن مستحيلة. أما تبنيهم للخط الآخر فسيغضب واشنطن. وهنا كان الحل الأمثل للخلاص من ضغوط الجماهير وعدم إفساح المجال للتيار الرافض للاملاءات الأمريكية أو لنقل المتحفظ عليها كي يفرض رأيه. وقد تمثل الحل المذكور بإعلان تونس، صاحبة الأرض تأجيل القمة على نحو منفرد، وكما لم يحدث من قبل في تاريخ الجامعة.
في هذا السياق يمكن القول: إن البيان التونسي الرسمي والتعليقات المرافقة قد جاءت لتفضح اللعبة أكثر من قدرتها على توفير مبرر مقنع للتأجيل. ذلك أن نفي الضغوط الأمريكية لم يكن سوى تطبيقًا للمثل المعروف "يكاد المريب يقول خذوني". أما تفاصيل البيان؛ فقد أوضحت أن دولة الاجتماع كانت تريد من القمة إقرارًا غير مباشر بقبول "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي فرضته الولايات المتحدة؛ بل إن فقرات من المشروع قد استخدمت في البيان التونسي.
تونس تريد -حسب البيان- "التنصيص على تمسك العرب بقيم التسامح والتفاهم، وبمبدأ الحوار بين الحضارات، وتأكيد رفضهم المطلق للتطرف والتعصب والعنف والإرهاب، وحرصهم على التصدي لهذه الظواهر في إطار التعاون والتضامن الدوليين للقضاء على أسبابها". أما الأسوأ فهو إشارة البيان إلى "تجربة تونس في التغيير والإصلاح"، التي أكدت "مدى نجاعة الالتزام بتلك المبادئ".
ما أرادته تونس ومعها عدد من الدول العربية الأخرى إذًا هو قبول "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، ورفض التفريق بين الإرهاب ومقاومة الاحتلال كما دأب الخطاب الرسمي للقمم العربية. وهنا يمكن القول: إن ذلك لم يكن ليجد قبولاً من طرف المحاور العربية الرئيسة على تفاوت مواقفها، وتفاوت قوة رفضها، لا سيما مصر والمملكة العربية السعودية وسوريا التي كان رفضها لمشروع واشنطن واضحًا، كما أن تحفظها على وصف المقاومة بالإرهاب معروف أيضًا.
ما يمكن أن يتذكره المعنيون -وقد تذكروه في سياق البيان التونسي- هو أن تونس لا تعيش جنة الديمقراطية وحقوق الإنسان كما يحاول بيانها أن يقول؛ بل إن أوضاع الديمقراطية وحقوق الإنسان فيها إنما تقع ضمن اللائحة الأسوأ عربيًّا، بدليل سجونها التي تعج بالمعارضين السياسين وصحافتها المقموعة. أما الذي لا يقل أهمية فهو أن أحدًا من الدول العربية لا يبدو متحمسًا لنهج "تجفيف ينابيع التدين" الذي تطبقه الدولة في تونس، والذي وصل حد منع الحجاب في أماكن العمل الرسمي ومحاربة مظاهر التدين على صعد مختلفة.
مشروع "الشرق الأوسط الكبير" لم يكن الخلاف الوحيد، ولا المقاومة والإرهاب؛ فهناك مبادرة السلام العربية والموقف من العراق، إلى غير ذلك من الملفات، لكن القرار التونسي قد استبطن ذلك كله على أسس تخالف ما تريده الجماهير العربية التي تأمل في مواقف قوية من الاحتلال الإسرائيلي ومن الاحتلال الأمريكي للعراق، في ذات الوقت الذي ترفض فيه الاملاءات الأمريكية، حتى لو كانت تحت عنوان الإصلاح الذي يريده الشارع العربي، ولكن على نسق مختلف عن الإصلاح التونسي الذي يعني التغريب وشطب الهوية من دون ديمقراطية حقيقية تتيح للإنسان حق المشاركة في صناعة مجتمعه.
عند تقييم القرار التونسي لا بد من الإشارة إلى ردة الفعل الإسرائيلية المرحبة بقرار التأجيل على اعتبار أن عداء إسرائيل لم يعد كافيًا لتوحيد العرب كما ورد على لسان مسؤول إسرائيلي.
ماذا عن قصة إصلاح الجامعة؟(19/129)
من الصعب القول: إن هذه المسألة كانت حاضرة في قرار تأجيل القمة، لكن مسألة إصلاح الجامعة كانت مطروحة منذ سنوات. وهنا يبدو من الضروري التذكير بأن الولايات المتحدة والصهاينة لا يريدون لهذه الجامعة على هزالها أن تبقى، بل إن مصطلحات التضامن والتعاون العربي تبدو مرفوضة بالنسبة لواشنطن وتل أبيب، ومن الأفضل شطبها لحساب عالم شرق أوسطي لا يعترف بالعروبة هوية جامعة، ولا حتى بالإسلام، فالشرق الأوسط الكبير تتمثل فيه كل الملل والأعراق ولا يقتصر على العرب أو المسلمين.
من هنا يمكن القول: إن دعم هذا الحد الأدنى من التضامن العربي، سواء كان خليجيًّا أم مغاربيًّا أم عربيًّا عامًّا من خلال الجامعة يبدو مهمًّا، على رغم كل الاعتراضات على الجامعة ومنهجية عملها.
في سياق قصة الإصلاح تبرز دائمًا مسألة التوافق أو الإجماع مقابل التصويت بالأغلبية. وهنا يمكن القول إن توافقًا على صيغة جديدة للتصويت تبدو مسألة صعبة، لأن الكثيرين يريدون صوتًا واحدًا لكل دولة، الأمر الذي لا يمكن قبوله من الدول العربية الكبيرة.
على هذا الصعيد طرح النموذج الأوروبي الذي يأخذ في الاعتبار عدد سكان الدولة في عدد نوابها في البرلمان الأوروبي، الأمر الذي لا يبدو مقبولاً عند دول عربية محدودة السكان. ولما كان قبول الكبار بالصيغة العادية (صوت لكل دولة) صعب إلى حد كبير، مقابل صعوبة إقرار صيغة السكان؛ لأن واشنطن لا تريدها لمخاوف قدرتها على تفعيل القرار العربي، فإن المراوحة ستبقى سائدة خلال المرحلة المقبلة، وذلك إلى حين بروز معطيات دولية تجعل بإمكان العرب أن يقرروا بأنفسهم ما يريدون، وعلى نحو يأخذ في الاعتبار توجهات جماهيرهم. ولن يحدث ذلك إلا في حال تراجع نفوذ الولايات المتحدة وبروز حالة من التعددية القطبية في العالم، الأمر الذي لا يبدو مستبعدًا بعد تورط واشنطن في العراق، وما جرى وسيجري على خلفية الحرب وتداعياتها.
==============(19/130)
(19/131)
صراع الانتخابات البلدية في تركيا
طه عودة 11/2/1425
01/04/2004
حقق حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان فوزًا كبيرًا في الانتخابات البلدية والمحلية بحصوله على أكثر من 43% من الأصوات، فيما واجه حزب الشعب الجمهوري المعارض هزيمة كبرى بحصوله على 14% من الأصوات؛ إلا أنه حافظ على سيطرته على مدينة أزمير.
لقد عانق الناخبون الأتراك حزب العدالة والتنمية مجددًا بشوق كبير ورجب طيب إردوغان بدوره رغم أن كافة استطلاعات الرأي العام قد أظهرت مسبقًا تقدم حزبه على كافة الأحزاب الأخرى؛ إلا أنه لم يهمل إجراء مؤتمرات جماهيرية في 55 ولاية تركية؛ بل جاهد من أجل كسب أكبر عدد من الأصوات الشعبية.
أما منافسه حزب الشعب الجمهوري (المعارض الوحيد في البرلمان)؛ فقد كان كالذي تقبل نتيجة الاستطلاعات واستسلم لها مسبقًا حيث إنه لم ير حاجة لإقامة مؤتمرات جماهيرية كافية تحت اعتبار منه أن مثل هذه المؤتمرات لن تغير النتيجة. مقابل ذلك؛ فإن مؤتمرات حزبي الحركة القومية والطريق القويم الجماهيرية لم تكن أقل من مؤتمرات إردوغان، والنتيجة أن الحزب الذي سعى أكثر ربح.
هناك تحليلات عدة تشرح خلفية هذه النتائج وأهمها أن الشعب حدد موقفه عند صناديق الاقتراع من خيارين وجدت تركيا نفسها في مواجهتهما:
الأول: أن تتبع نصيحة أتاتورك الذي أوصى بالانضمام إلى الحضارة الغربية من خلال الاتحاد الأوروبي.
والثاني: هو المحافظة على الوضع الراهن المغلق عن العالم الخارجي.
الأغلبية الساحقة من الشعب التركي وضعت نصب اهتمامها التالي:
1- أن تحصل تركيا على موعد لبدء المفاوضات الأوروبية الرسمية في نهاية العام الحالي.
2- وللحصول على هذا الموعد هم يدركون بضرورة حل المسألة القبرصية.
وفي هذا الإطار نرى أن المفاوضات الجارية حاليًا في سويسرا بين الجوانب التركية واليونانية على خطة كوفي عنان جذبت اهتمام الشعب التركي أكثر من الانتخابات المحلية.
والآن بالعودة إلى شرح نتائج الانتخاب نقول بأن الشعب يعتقد بأن حزب العدالة والتنمية هو تقدمي يجاهد بإخلاص لتغريب البلد وكسب عضوية الاتحاد الأوروبي بينما حزب الشعب الجمهوري يبذل جهده لمنع انضمام تركيا إلى الحضارة الغربية حيث إن أغلبية الناس تعتقد أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هو أهم مشروع للجمهورية العلمانية حاليًا لتحقيق الديمقراطية، بينما تنظر إلى حزب الشعب الجمهوري على أنه من المسؤولين الرجعيين الذي يديرون الأحزاب اليسارية الهامشية، ويعرقلون الحل في قبرص مثل رؤوف دنكطاش. وهكذا فقد قال الشعب كلمته الأخيرة مصوتا علانية لحزب العدالة من أجل مكافحة الوضع الراهن مطالبًا إياه بحمل تركيا إلى الحضارة الغربية، فيما وجه صفعة قوية ليس فقط للشعب الجمهوري؛ بل لكل من يحاول الدفاع والمحافظة على الوضع الراهن في البلاد.
حزب العدالة هو الفائز
لم يفاجأ الكثير من تصاعد أصوات حزب العدالة والتنمية، والسبب بسيط وهو أن الشعب بدأ يميل للوقوف بجانب الأقوى، ولكن من دون شك أن حزب العدالة قد فوجئ هو نفسه وشعر بالحزن بعد أن خيبت النتائج ظنه وهو الذي كان يعتقد بأنه سيحصل على 60-70% من مجمل الأصوات التركية وأيضًا إلى جانبه من أجروا مثل هذه الاستطلاعات. أما حزب الشعب الجمهوري المعارض؛ فإن نتائج أصواته أيضًا لم تكن غريبة، كما أن الأحزاب اليسارية التي تجمعت تحت لواء الحزب الواحد فإنها لم تف بالتوقعات التي كان محسوبة لها. حزبا الطريق القويم والحركة القومية في هذه الانتخابات المحلية أثبتا أنهما تمكنا من الحفاظ على أصواتهما نوعًا ما، فيما نجح حزب السعادة الإسلامي في رفع أصواته ولو قليلاً، بينما واصل حزبا الوطن الأم واليسار الديمقراطي نزيفهما السياسي.
التأثير الأمريكي الإسرائيلي على الانتخابات التركية
ما أن أصبحت النتائج الأولية شبه مؤكدة حتى خرج رجب طيب إردوغان رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم ليعلن بكل روح رياضية أمام أجهزة التلفاز التالي: "لن يصيبنا الغرور لأن التواضع من شيمنا.. هذه النتائج تؤكد أن الشعب صوت للاستقرار .. الانتخابات هي عيد الديمقراطية"!.
في البداية نرغب بتحليل هذه الاستراتيجية الجديدة وأيضا نصيب الصحافة التركية منها:
لا شك أن الأوساط التي تدير مشروع الشرق الأوسط الكبير والقائم أساسًا على حماية الأمن الصهيوني سوف تفعل ما بوسعها من أجل تعيين الأدمغة التي روضتها ونزعت منها شريان القومية في مواقع صنع القرار. وفي هذا الإطار فإن أول استراتيجية لهذه الأوساط وظفتها في انتقاء استطلاعات الرأي العام والمبالغة بالتكهن بنتائج الانتخابات المحلية لتوحي أمام الشعب أن أصوات حزب العدالة والتنمية سوف تكتسح بقية الأحزاب.(19/132)
وفي استراتيجية دعائية أخرى منها كانت عبر التحكم عن بعد في الصحافة التركية والتي برزت في الشعار المشهور (إذا كنتم تريدون خدمات جيدة توجهوا إلى حزب العدالة والتنمية) ولا سيما أنه الشعار الذي دأب رجب طيب إردوغان على المجاهرة به في كل مؤتمر جماهيري أجراه تحت رأي: "الاستقرار في تركيا يمر عبر انتخاب حزب واحد يديرها".
وإذا ما دققنا في التصريحات التي كانت تصدر من مرشحين هذا الحزب الذين كانوا ينتقلون من تلفاز إلى آخر نرى بوضوح الجهود التي بذلها الإعلام التركي منذ شهر تقريبًا في تحريك وتحويل الرأي العام إلى اتجاه واحد ومعين، وهو حزب العدالة والتنمية، حيث إنه ضمن هذه الفترة استقبل تقريبًا كل مرشحين الحزب الحاكم مقابل استقبال روتيني لزعماء الأحزاب الأخرى، وذلك بهدف أن تترك لدى الرأي العام انطباعًا أن "حزب العدالة هو الأقوى في تركيا". وللأسف الشديد؛ فإن المواطن التركي انقاد لهذه اللعبة الإعلامية وخضع بدوره مغناطيسيًّا لتأثيرها .. وبما أنه دوما يقف بجانب الأقوى فقد أختار حزب العدالة والتنمية.
وهكذا نرى بأن الإرادة التي تحكم العالم اليوم وتستغل نعمه تمكنت مجددًا من اختراق الجدار الشعبي التركي لتكليل السيناريو الذي حضرته في هذا الاتجاه بالنجاح الكبير.. والفائز كان من وافق على ارتداء القميص الذي تفصله أمريكا وإسرائيل!.
وماذا عن الاستقرار؟ يبدو وكأنه حلم صعب التحقيق في ظل الاستعمار السياسي الأمريكي الإسرائيلي الحالي لتركيا
==============(19/133)
(19/134)
المسكوت عنه في قمة تونس المؤجلة !!
عاصم السيد 16/2/1425
06/04/2004
ليس من السهل العثور على أجوبة قاطعة عن الأسباب الحقيقية لتأجيل القمة العربية التي كان مقرراً عقدها مؤخراً في تونس، فالنظام الرسمي العربي يعمل تقليديًّا على مستويين: سياسة تمارس علنًا، وأخرى تمارس في الخفاء؛ الأولى فارغة المضمون، والثانية هي السياسة الحقيقية المعتمدة.
إن القمة العربية أُجلت لغير الأسباب التي أُعلن عنها؛ فمن غير المتصور أن تلغى القمة لأن وزراء الخارجية اختلفوا حول الإصلاح والتطوير وحقوق المرأة والمجتمع المدني، كما ذكر الإعلان التونسي؛ فهذا الكلام لا ينطلي على أحد.
إن غياب المصارحة هو السبب، فقبيل ساعات من وصول القادة العرب للمشاركة في قمتهم الدورية في تونس، قررت الدولة المضيفة تأجيلها لأجل غير مسمى بسبب ما اعتبرته تباينًا شديدًا في الرؤى حول قضايا الإصلاح، هذا إقرار خطير؛ لكن الأخطر منه هو الأسباب التي لم يعلن عنها تفصيليًّا وبوضوح حتى الآن.
سؤال لا بد أن يعرف كل مواطن من أبناء الأمة العربية الإجابة عنه، فهذا حقه الذي حُرم منه لسنوات طويلة تمتد إلى زمن تأسيس جامعة الدول العربية 1945، ولم يعد ممكنًا أن يستمر هذا الحرمان لأجل غير مسمى كما هو حال تأجيل القمة العربية لأجل غير مسمى.
لقد ظل مجمل العمل العربي المشترك ومجمل أداء النظام العربي ومؤتمرات القمة وغيرها من الاجتماعات العربية أسيرة حرص شديد من الحكومات العربية على "سرية" ذلك العمل وتلك الاجتماعات والمؤتمرات، وخلف هذه السرية التي هي السمة العامة لكل ما يتعلق بالمعلومات العربية كان "التستر" هو العامل الحاسم على كل أداء النظام العربي، إلى درجة أن البعض من أعداء النظام العربي خاصة وأعداء أي عمل تجميعي عربي عامة أخذ يحمل الجامعة العربية والنظام العربي مسؤولية الفشل والعجز، من دون وعي بأن خلف هذا الفشل والعجز تقف الدول العربية متحملة وحدها المسؤولية.
مسؤولية الجامعة العربية والنظام العربي تتلخص في الحرص على سرية المداولات والاجتماعات والمواقف والتستر على الأخطاء، وعدم تسمية المسؤوليات.
مسؤولية الجامعة والنظام العربي هي غياب المصارحة والمكاشفة والعلنية، وغياب ديمقراطية العمل العربي، والإبقاء على هذا العمل "سلطويًّا" حتى النخاع والحيلوية دون المشاركة الشعبية فيه، بحيث انحصر العمل العربي في الحكومات من دون الشعوب. وإذا كانت الحكومات تجامل بعضها بعضًا والجامعة تتسر على الحكومات؛ فإن الضحية ليس فقط الجامعة ولا النظام العربي ولكن الحاضر العربي كله والمستقبل العربي كله!
هذه المرة نطالب بكشف الحقائق وتحديد المسؤوليات لأن قرار تأجيل قمة تونس ليس مجرد قرار بتأجيل قمة، ولكنه قرار بتأجيل "أمة" عن الخوض في تحديات المستقبل نظرًا لأهمية القضايا التي كانت مطروحة على تلك القمة، وهي قضايا الإصلاح الداخلي وإصلاح النظام العربي وقضايا مستقبل العراق ومستقبل القضية الفلسطينية.
وطالما أن القادة العرب يتصرفون بهذه السرية؛ فمن حقنا أن نصدق الأنباء التي ذكرت أن تونس أجّلت عقد القمة العربية حتى تتجنب مشاركة وفد فلسطيني يضم ممثلين عن حركات المقاومة الإسلامية "حماس"، والجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة.
ومن حقنا أيضاً أن نربط بين تأجيل القمة واغتيال رمز المقاومة الفلسطينية الشيخ (أحمد ياسين) وأن نصف تأجيل القمة بأنه "اغتيال" لهذا الزعيم للمرة الثانية.
ومن حقنا أيضاً أن نصدق ما يقال بأن موعد انعقاد اجتماع القمة سبقه قول بأن العرب "سيقدمون المخرج لإسرائيل من مأزقها باغتيال الشيخ (أحمد ياسين). ونعلم بالطبع أن دول الجامعة العربية تتخذ إجمالاً موقفًا سلبيًّا إن لم يكن عدائيًّا تجاه المقاومة الفلسطينية.
لو انعقدت القمة العربية في موعدها المضروب لما توفر لها خيار سوى تأييد التوجه الثأري لمنظمات المقاومة الفلسطينية بأسلوب العمليات الاستشهادية، وفي هذا السياق ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن الوفد الفلسطيني إلى القمة كان يضم ممثلين لفصائل المقاومة وتحديدًا: "حماس"، و"الجهاد الإسلامي"، و"فتح"، و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
الضغوط الأمريكية نسفت القمة
يرى فريق كبير من المحللين السياسيين العرب أن ضغوط الولايات المتحدة على تونس نسفت القمة العربية بسبب عزم القمة المؤجلة على طرح مشاريع إصلاح تتعلق بالعالم العربي لا بالشرق الأوسط الكبير الذي تروج له واشنطن.
وقد أكد وزراء خارجية عرب قبل مغادرتهم تونس أن أبرز أسباب إرجاء القمة انزعاجٌ أمريكي من ورقة إصلاحية تم التوصل إليها بعنوان (الإصلاحات في الوطن العربي) فيما كانت واشنطن تريد أن تظل تحت عنوان (الإصلاحات للشرق الأوسط الأكبر) فطلبت التأجيل .(19/135)
وقال هؤلاء الخبراء إن الخلافات حول النص لم تكن السبب في نسف القمة إذ ليس بين المشاركين من كان سيأخذها إلى تحرير فلسطين أو إلى مواجهة الإدارة الأمريكية طلبًا لتحرير العراق؛ بل إن تونس أرجأت القمة على الرغم من أن الوفود العربية نزلت عند رغبة المضيف التونسي وأضافت مقاطع مما اقترحه حول آخر المطالب الأمريكية المتصلة بمشروع الشرق الأوسط .
و معروف أن القادة العرب كانوا يريدون من القمة إعادة إطلاق مبادرة ولي العهد السعودي السلمية (قمة بيروت 2002) وطرح أفكارهم بشان الإصلاح السياسي كرد على الخطط الأمريكية .
الملفات الخطرة
لم يكن هناك كثير تفاؤل بما يمكن أن تصل إليه القمة المجهضة في ملفاتها الرئيسة الثلاثة: فلسطين والعراق وقضايا الإصلاح سواء إصلاح جامعة الدول العربية أو الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي داخل الأقطار العربية. كان التوقع ينصب على شيء من التشدد اللفظي المبرر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية خاصة على ضوء جريمة اغتيال الشيخ (أحمد ياسين). وشيء من التراجع اللفظي في الملف العراقي بالنظر إلى أن السقف الذي بلغته قمة شرم الشيخ الماضية في مارس 2003 يصعب الوصول إليه في ظل الظروف الراهنة. أما ملف إصلاح جامعة الدول العربية فكانت التوقعات المبنية على توجهات المجلس الوزاري الأخير الذي انعقد في شهر فبراير الماضي تُشير إلى تبني صيغة عامة ألِفَهَا العرب كثيراً في مؤتمرات القمة, تُفيد بالموافقة على توجهات الإصلاح ومقترحاته من حيث المبدأ مع إحالة الأمر برمته إلى مزيد من الدراسة. وأما بخصوص الإصلاح الداخلي فكان المنتظر أن تُقر القمة الحاجة إليه وتُظهر أن دولها ماضية في طريقه، رافضة إملاء الإصلاح عليها من الخارج، مؤكدة على المضي قدماً في خطط للإصلاح تنبع من داخلها وفق الظروف الخاصة بكل بلد عربي.
كان النظام العربي قبل القمة بشهور قد أظهر مؤشرات على تراجع واضح بعد احتلال العراق. فقد كان المتوقع أو على الأقل المأمول أن تُعقد قمة عربية استثنائية بعد واقعة الاحتلال التي لا تُعد بأي معيار واقعة مألوفة في النظام العربي، خاصة وأن بروتوكول دورية القمة ينص على إمكانية عقد مثل هذه القمم الاستثنائية إذا طرأت مستجدات تتعلق بالأمن القومي العربي بشرط أن تدعو إليها دولة عضو بالجامعة العربية أو أمينها العام وموافقة ثلثي الأعضاء على هذه الدعوة، لكن أحداً لم يدعُ إلى قمة استثنائية مع أن انعقاد القمم كان يحدث لأسباب أهون بكثير من واقعة كاحتلال العراق.
أسباب ساعدت على نسف القمة
إن إدراج كل مشاريع الإصلاح العربية سواء منها المتعلق بالأنظمة العربية , أو تلك الخاصة بالجامعة العربية على جدول أعمال واحد في مؤتمر قمة دورية , كان له أثر واضح فيما حدث؛ فالمفروض أن القمة تبحث المشكلات التي واجهتها الدول العربية في عام مضى وما تم بشأنها , ثم تخصص قمة استثنائية لدراسة مشاريع الإصلاح , وقد أدى ذلك إلى تفعيل الخلافات في وقت غير مناسب ثم انفجارها وتأجيل القمة .
أحد أسباب نسف القمة أيضاً هو تردد وزراء الخارجية العرب في اتخاذ الخطوة الأولى باتجاه الإصلاح في اليومين اللذين أجريت خلالهما المحادثات التحضيرية للقمة، إلى جانب عدم التوصل إلى بيان مشترك حول مبادئ التغيير السياسي وإعادة صياغة موقف الجامعة العربية من السلام مع إسرائيل؛ فالزعماء العرب انقسموا حيال مسألة الإصلاح السياسي إلى فريقين: الأول يرفض تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية العربية. والثاني يؤكد أن الدعوة إلى التغيير ليس حكراً على واشنطن، مطالبين بنشر الدعوة إلى الديمقراطية في كامل العالم العربي. إن الخلاف لم يكن حول الإصلاح فحسب، بل حول مسألة استئناف المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية، خاصة أن الفلسطينيين والأردنيين رفعوا اقتراحاً بذلك بالرغم من اغتيال إسرائيل للشيخ (أحمد ياسين)، غير أن لبنان وسوريا، رفضتا ذلك. كما أن وزراء الخارجية العرب شعروا بالانزعاج من الطريقة التي يحاول بها أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى الدفع نحو الإصلاح داخل الجامعة معتبرين أن موسى يرغب فقط في تعزيز دوره.
الانسحاب هواية عربية
إنها لعنة الانسحابات التي فرضت نفسها على العمل العربي المشترك؛ ففي اجتماعات تونس الأخيرة مرة انسحب عمرو موسى، ومرة انسحب وزير خارجية الكويت احتجاجاً على الأمين العام، ومرة انسحب محمد بن عيسى بعد ما قال للأمين العام إنه يرفض الدروس من أي كان، وعندما عاد الشيخ محمد صباح السالم إلى القاعة قال إن الكويت تصر على أن يكون الأمين العام المساعد كويتيًّا، وأن يتولى بالتحديد شؤون المال، وتم الاتفاق على إعادة "الرقابة الداخلية" في الجامعة التي كان قد أسسها الشاذلي القليبي للنظر في قرارات الأمين العام ورفضها أو تبريرها.(19/136)
إن الخلافات العربية ليست وليدة اليوم؛ بل بدأت مع نشأة الجامعة العربية رغم أن عدد أعضائها لم يتجاوز سبع دول آنذاك، فاختلاف العرب عام 1948 كان وراء نكبة فلسطين التي تبعتها نكبات أخرى آخرها احتلال العراق. فهذه "الحالة الصِراعية" والانقسامات العربية تلقي بظلالها الكثيفة وتؤثر سلباً في القضية الفلسطينية وما تتطلبه من تضامن عربي يكفل لها الدعم المطلوب معنويًّا وسياسيًّا وماديًّا.
أزمة بروتوكولية
الرئيس التونسي طلب تدخلاً مصريًّا لضمان حضور ولي العهد البحريني على الأقل للقمة بدلاً من ملك البحرين وذلك في إطار أزمة بروتوكولية حساسة آثارها البحرينيون في كواليس التحضيرات، إلا أن الرئيس التونسي استشاط غضبًا عندما وصله قرار بحريني بأن يتولى وزير الخارجية البحريني عملية تسليم رئاسة القمة في جلسة الافتتاح وهو ما اعتبرته تونس إساءة بالغة لها.
على العموم ينبغي التأكيد على أن إلغاء القمة أو عقدها لم يكن بيد تونس فالدولة المضيفة لا تملك أن تلغي القمة، وإن كانت غير قادرة فأمامها خياران: إما ترحيلها لدولة أخرى مثلما صار عندما تنازلت الإمارات للبنان في العام 2002، أو أن تحيلها إلى مقر الجامعة العربية في القاهرة مثلما حصل في البحرين العام 2003؛ لذا فإن تصرف تونس يمثل خطأً إجرائيًّا وقانونيًّا، وحاولت مصر استيعاب الأمر ولملمة الموضوع بدعوة لقمة عاجلة وإلاّ سيفرط عقد القمة، خصوصاً أن الرئيس المصري (حسني مبارك)، مهتم بالحفاظ على قرار قمة القاهرة في العام 2000 بدورية انعقاد القمة . الرئيس التونسي ألغى القمة بذريعة أنه يقدّر أنها لن تستجيب للمطالب التي عاد بها من واشنطن .
في النهاية نؤكد على أن هناك شواهد عدة على أن ثمة أطرافًا عربية فقدت حماسها للعمل العربي المشترك، وآثرت أن تصطف في مواقع أخرى خارج السرب العربي بمنظمته؛ لاعتقادها أن ذلك أدعى لتأمينها وأحفظ لمصالحها في المدى البعيد، وهي تلك التي تنخرط فيما سُمي مؤخرًا بالعالم العربي الجديد، تميزًا لها عن العالم العربي القديم الذي تقوده مصر وسورية والسعودية، وهذه الأطراف دفعت باتجاه التأجيل ورحبت به .
=============(19/137)
(19/138)
واشنطن .. وتعميم النموذج التركي
عاصم السيد 5/3/1425
24/04/2004
الولايات المتحدة الأمريكية بإطلاقها مبادرتها "الشرق الأوسط الكبير" للإصلاح في العالم العربي والإسلامي لا تستهدف مجرد القول والدعاية؛ ولكنها تعني ما تقوله، وتسعى إلى التنفيذ، وضمن الأطر التنفيذية للمبادرة الأمريكية تستضيف مدينة اسطنبول التركية خلال هذه الأيام مؤتمرًا حول الديمقراطية في العالم الإسلامي.. تشارك فيه قيادات حكومية، وزعماء ومسؤولون من الدول الإسلامية، والمبادرة التي أعلنتها الولايات المتحدة اعتبرت تركيا إحدى الدول القائدة في المنطقة، واعتبرت أن نظامها الإسلامي الحاكم الآن عبر حزب العدالة والتنمية هو نموذج مثالي يجب أن يسود العالم العربي والإسلامي.
وقد أعربت واشنطن عن رغبتها في أن يخرج من تركيا عشرات ومئات الدعاة والوعاظ ليدعوا إلى النموذج الإسلامي التركي ومزاياه، وأن يساهموا في محو الأفكار المتطرفة السائدة في الذهنية العربية والإسلامية، ويستبدلوها بأفكار تركيةٍ متصالحةٍ مع العلمانية.
والسؤال الذي نحن معنيون بالإجابة عنه في هذه السطور هو: لماذا هذا التركيز الأمريكي على تركيا؟ وما هي النقاط التي تثير إعجاب واشنطن في النموذج التركي؟ وما هي إمكانيات نجاح تركيا في أن تقود العالم الإسلامي ؟
تركيا في التصور الأمريكي
كانت واشنطن دائما داعمة ومؤيدة لوجود تركيا في حلف شمال الأطلنطي؛ كي تعمل كعازلٍ بين الاتحاد السوفييتي (سابقاً) وبين أوروبا والخليج العربي في عهد الحرب الباردة.
ونظرت واشنطن بعد ذلك لأنقرة على أنها يمكن أن تلعب دور الموصل داخل الاتحاد الأوروبي للمصالح الأمريكية. والولايات المتحدة تعلن في كثيرٍ من المناسبات أنها تؤيد انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي؛ لأنها تعتبر النموذج الإسلامي في تركيا الأفضل والأمثل في العالم الإسلامي، وترغب في تقوية ودفع هذا النموذج العلماني لكي يهيمن على المنطقة والعالم العربي والعالم الإسلامي.
الولايات المتحدة تريد أن يمارس المسلمون دينهم، وأن يذهبوا إلى مساجدهم ويعبدوا الله بشرطٍ واحدٍ: هو الفصل بين الدين والدولة، وهو النمط القائم في الولايات المتحدة نفسها، ولكنه غير قائم في العالم الإسلامي سوى في تركيا، وواشنطن ترى أنه لو نجحت التجربة الإسلامية التركية، وانتشرت في العالم الإسلامي؛ فإن مستقبل الأحزاب الإسلامية سوف يصبح كمستقبل الأحزاب المسيحية في ألمانيا ودول أوربية أخرى؛ فهذه الأحزاب بدأت كأحزابٍ دينيةٍ، وانتهى بها الأمر إلى أن أصبحت أحزابًا معتدلةً لا يكاد الدين يصيغ توجهاتِها.
تركيا ورقة للتغطية على إسرائيل
الولايات المتحدة الأمريكية نظرت في العالم الإسلامي فلم تجد أية ورقةٍ يمكن أن تلعب بها وتروجها على أنها النموذج والمثل؛ لأن العرب كلهم راسبون في المجال السياسي والديمقراطية، وفي نفس الوقت؛ فإن واشنطن ترغب في أن تصبح إسرائيل هي القائد والزعيم في العالم العربي والإسلامي، ويتم تعميم نموذجها ليكون هو السائد، ولكن عيب هذا النموذج أنه مرفوضٌ عربيًّا وإسلاميًّا، وهناك استنفارٌ شديدٌ لمواجهته، وهو استنارٌ عقائديٌّ في الأساس، وبالتالي كانت واشنطن في حاجةٍ إلى افتعال شبهةٍ إسلاميةٍ في الموضوع؛ فلم تجد ضالتها إلا في النموذج التركي ليتم الحديث بشأنه عن الماضي والتاريخ، والدولة العثمانية الإسلامية، وترغب واشنطن أن تأخذ تركيا كغطاءٍ لإسرائيل ليقوم الطرفان بقيادة التغيير في العالم العربي والإسلامي؛ حتى تختفي الحساسية ضد الصهاينة لو دخلوا هذا المعترك وحدَهم.
وقد يقول قائل ألا تخشى واشنطن من أن تلعب بورقة تركيا فينقلب السحر على الساحر، وتتأصل الهوية الإسلامية في تركيا وينتصر الإسلام على العلمانية الكمالية المتطرفة هناك، ويكون في ذلك خسارة محققة وفارقة للغرب كافة، والإجابة على هذا السؤال تقول: إن أمريكا لا تخاف من عودة تركيا للإسلام؛ فهي مطمئنة تمام الاطمئنان أن الجيش ومؤسسات الحكم العلمانية المتطرفة بما فيها مؤسسة المال والتجارة التي يسيطر عليها يهود الدونمة، ثم مؤسسة الصحافة العلمانية المتطرفة كل هؤلاء سيقفون بشدة ضد استعادة تركيا لهويتها الإسلامية .
وكأن الأمريكان يقولون: فنلعب مع أردوغان الذي ليس لديه إلا مساحة محدودة ليلعب فيها، وما دام أردوغان وحزبه يلعبون في هذه المساحة المحدودة فلا خوف منهم، ولو خرجوا عن الإطار فمن الممكن الانقضاض عليهم بسهولة، والإطاحة بهم كما تمت الإطاحة قبل ذلك بأربكان وحزب الرفاه؛ أي أن أربكان وحزب العدالة والتنمية ما هما إلا ورقة يتم اللعب بها أمريكيًّا لتحقيق هدفٍ معينٍ، ثم يتم القذف بها بعد ذلك بعيدًا كما فعلوا مع صدام تمامًا؛ حيث أغروه ودفعوه للحرب مع إيران، ثم غزو الكويت، وكان في ذلك هلكته، وبعدها تخلصوا منه.
أردوغان ..تباين وانقسام(19/139)
انقسم الرأي في أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى فريقين؛ الفريق الأول: يرى أن مشروع العدالة والتنمية هو تنازلٌ عن مشروع الحركة الإسلامية، بل خيانةٌ له، ورهانٌ على العلمانية الإسلامية، ورغبةٌ في العيش تحت الأضواء، وإرضاءٌ للعسكر، واستسلامٌ للعلمانية، ويقولون إن أردوغان وزملاءه -في سبيل تحقيق ذلك- يتنازلون عن الثوابت الإسلامية؛ لدرجة أن أردوغان بعد فوزه مباشرة؛ وفي جولته الأوروبية أفطر في رمضان حتى لا يتعارض ذلك مع دعوته على مائدة الغذاء، وحتى لا يوصف بالتطرف لأنه صائمٌ في رمضان، كما يقولون إن تنازلاتِه في مجال الحجاب تدل على هذا التنازل؛ لأنهم لم يقفوا الموقف الإسلامي الذي كان ينتظره الكثيرون.
والفريق الثاني يرى أن أردوغان وحزبه استمرارٌ وتواصلٌ مع المشروع الذي بدأه مندريس، واستأنفه ديميريل، ثم تورغوت أوزال، ووصل إلى ذروته مع أربكان، وهو مشروع مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها، وهويتها من خلال الحد من التطرف العلماني للدولة في عدائها للدين في مسعى لاستبدال علمانيةٍ متطرفةٍ بأخرى معتدلةٍ؛ هي أقرب إلى النوع الأوروبي الذي يغلب عليه الحياد إزاء المسألة الدينية، وهذا الطريق الثاني يعلل أسباب اكتساح الحزب في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وتشكيله للأغلبية البرلمانية ليس لتساهله دينيًّا، وتخليه عن الثوابت، وإنَّما جاء استقطابه لقطاعٍ واسعٍ من اليمين العلماني، وكذلك اليسار لأن أحزاب اليمين واليسار أصبح الجميع يعرف فسادها، وعجزها عن تقديم حلولٍ لمشاكلِ البلاد الكبرى، كما استقطب الحزب ثلُثي الأكراد؛ بالإضافة لجمهوره الطبيعي من الإسلاميين. كل هؤلاء رأوا في العدالة والتنمية إنقاذًا لتركيا من الفساد الاقتصادي، أو من الحرب الأهلية مع الأكراد.
تطوير الآليات
النظر في الشعارات التي رفعها زعماء حزب العدالة والتنمية من أن حزبهم ليس حزبًا دينيًّا، ومحاولتهم التأكيد على التوافق بين الإسلام والعلمانية.. كل ذلك جاء بعد أن وعت الحركة الإسلامية التركية أن الاستمرار بنفس السياسات والوجوه ليس من شأنه إلا استمرار الحصار والضغط العلماني، ولذلك لم يكن أمامهم إلا تغيير السياسات، والإتيان ببرامج وأفكارٍ جديدةٍ.. كل هذا في إطار أن حصدهم لأصوات الناخبين لم يأت نتيجة الشعارات التي رفعوها، وإنما من إنجازاتهم في البلديات التي وفرت الخدمات المتنوعة للجماهير في اسطنبول مثلاً، وهكذا كان هدف حزب العدالة والتنمية هو تجنب وقوع السيف العلماني على رؤوسهم مع الاستفادة من تجارب الماضي؛ خاصة وأن الإسلاميين في عددٍ من الدول العربية اضطروا إلى الإقدام على مواءمةٍ من هذا النوع حتى استطاعوا الاشتراك في الانتخابات والوصول للبرلمان، وهكذا فإن ما عليه غالبية المحللين والمراقبين هو أن حزب العدالة والتنمية هو امتداد متطور لتراث الحركة الإسلامية، مع مرونةٍ أكبر في التعامل مع مؤسسات المجتمع، والسياسات المحلية والدولية .
==============(19/140)
(19/141)
الإصلاح الأمريكي يحقق هدف من؟
مصطفى محمد الطحان 6/3/1425
25/04/2004
منذ أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن) مشروعه (الشرق الأوسط الكبير).. والصحف على اختلاف اتجاهاتها تكتب مطولاً حول هذا المشروع.. بين مؤيد ومخالف..
وبعد قراءتي لكل ما وقع تحت يدي من هذه المقالات وصلت إلى نتيجة أحببت أن أقدمها للسادة القراء؛ فقد تكون فكرة مفيدة يبنون عليها.. أو لا تكون كذلك فينسونها.
التاريخ يعيد نفسه
- إن هذا المشروع الذي أطلق عليه (الشرق الأوسط الكبير أو الأكبر).. ما هو إلا نسخة معدلة منقحة للمعاهدات الاستعمارية التي بدأت بغزو نابليون لمصر وإعلانه بأنه جاء ومعه مطبعة لتحرير الشعب المصري من جور الدولة العثمانية واستبدادها وتحرير المصريين وتنويرهم.. وبعد دخوله إلى مصر ليحرر المصريين توجه نحو فلسطين وفي طريقه وجه نداءه الشهير إلى يهود العالم.. يخبرهم ويطمئنهم أنه إنما جاء لإيجاد وطن قومي ليهود العالم في فلسطين.
- والمشروع استمرار لاتفاقيات الشريف حسين مع الإنكليز الذين وعدوا بتشكيل إمبراطورية عربية تضم جميع الدول العربية يكون الشريف حسين على رأسها.. مقابل أن يعلن الشريف حسين الثورة ضد الدولة العثمانية، وأن تنضم القوات العربية إلى قوات الحلفاء..
ونفذ الشريف حسين ما اتفق عليه.
أما دول الغرب فقد عقدت معاهدة (سايكس - بيكو) السرية عام 1916 لاقتسام الأرض العربية والإسلامية، وأعطت بريطانيا لليهود وعد بلفور عام 1917 وأرسلت هربرت صموئيل اليهودي الصهيوني مندوباً سامياً إلى فلسطين ليحوّلها إلى إسرائيل عام 1948.
وفي عام 1918 وبينما كان الشريف حسين يتهيأ للجلوس على عرش إمبراطوريته.. كان الجنرال اللنبي قائد القوات المشتركة للحلفاء يدخل القدس، ويعلن على رؤوس الأشهاد انتهاء الحروب الصليبية. وقال: لم تنته هذه الحروب يوم أعاد صلاح الدين القدس إلى هويتها الإسلامية؛ بل انتهت اليوم عندما أعادها اللنبي إلى هويتها الصليبية.
وفعل مثل فعله وقال مثل قوله الجنرال غورو الفرنسي وهو يدخل دمشق.. ويقف على قبر صلاح الدين ويقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين..!
- والمشروع استمرار لكل الفيتو الأمريكي ضد حقوق المسلمين والعرب وأهل فلسطين، ولكل التأييد لمشاريع الصهاينة في استيلائهم على فلسطين وتشريد شعب فلسطين، وتمكين إسرائيل من المنطقة، وتقوية ترسانتها النووية وتزويدها بأكبر ترسانة من نوعها في المنطقة.
- والمشروع ليس مشروعاً أمريكياً؛ فأمريكا اليوم مجرد قائد للصليبيين كما كانت يوماً إنكلترا وكما كانت قبلها فرنسا وهولندا والبرتغال.
إنه مشروع استعماري يمثل جميع القوى الغربية.. وعليه فسيعرض المشروع الذي أعدته أمريكا على قمة مجموعة الثماني الكبار في جورجيا الأمريكية الصيف المقبل، وعلى قمة الاتحاد الأوروبي السنوية، وعلى قمة حلف الأطلسي الصيف المقبل في استانبول.. ولقد ذكر وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد أن استراتيجية أمريكا للحرية بدأت تلقى قبولاً في أوساط الأطلسي بحيث تتمدد مظلته العسكرية نحو الجنوب لتشمل كامل المنطقة العربية من المغرب وحتى البحرين.
- الأمر يختلف كليًّا عن ما تقوله أمريكا؛ فالقضية هي هيمنة استعمارية جديدة تحت اسم جديد.. على المنطقة الإسلامية التي ستكون نقطة التركيز الأولى للدولة العظمى الوحيدة في العالم، لعقود عدة مقبلة، سواء كان قاطن البيت الأبيض من المحافظين الجمهوريين أو من الليبراليين الديمقراطيين كجون كيري.
لقد طالبت صحف واشنطن بوست ونيويورك تايمز مرشح الرئاسة الديمقراطي جون كيري بتوضيح موقفه من العراق، باتجاه الإعلان بأنه لا ينوي التخلي عن العراق في حالة فوزه بالانتخابات(1).
قراءة موضوعية للمشروع
القراءة الموضوعية للمشروع لا تعزله عن موقعه وسياقه في السياسة الأمريكية. وما تتضمنه من أهمية إحداث تغييرات جوهرية في الشرق الأوسط عبر إقامة نظم ديمقراطية في دوله ليس جديداً؛ وإنما له جذوره التي تمتد إلى عام 1992 حين أعد بول وولفوفيتز مساعد وزير الدفاع آنذاك ديك تشيني (في ولاية جورج بوش الأب) دراسة حول توجهات سياسة الدفاع في الولايات المتحدة، دعا فيها إلى إعادة النظر في الاستراتيجية الأمريكية، بعدما خلت لها الساحة، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، ودخول العالم في حقبة القطب الأوحد. في تلك الدراسة تحدث وولفوفيتز عن ضرورة منع ظهور أي منافس للولايات المتحدة في الساحة الدولية، ودعا إلى الاهتمام بتوسيع مناطق الديمقراطية والسلام في العالم. وقد شاءت المقادير أن يصبح وولفوفيتز نائباً لوزير الدفاع في الإدارة الحالية، وتشيني نائباً لرئيس الجمهورية.
في عام 1997 تأسس المركز الذي تبنى مشروع القرن الأمريكي الجديد، وأصدر مؤسسوه آنذاك (إعلان مبادئ) ركز على أهمية الدور الأمريكي في قيادة العالم، وضرورة إقامة نظام عالمي (موال لأمتنا ورخائنا ومبادئنا). وتحدث عن نقطتين أخريين هما:
- التعاون مع الحلفاء الديمقراطيين في النظم المعادية لمصالحنا وقيمنا (الموجودة في الشرق الأوسط أساساً).(19/142)
- وتعزيز قضية الحرية السياسية والاقتصادية في الخارج.
في عام 1998 وجه (18) من الشخصيات الأمريكية رسالة إلى الرئيس كلينتون طالبوه فيها بوضع استراتيجية جديدة تحمي مصالح أمريكا وحلفائها وتحقق الدفاع عن القيم الأمريكية. ودعوا صراحة إلى إسقاط النظام العراقي، منبهين إلى فشل سياسة احتوائه، وكان من بين الموقعين على تلك الرسالة أشخاص أصبحوا يحتلون مناصب مهمة في الإدارة الأمريكية الحالية، منهم رامسفيلد وزير الدفاع ونائبه وولفوفيتز وزلماي خليل زاده، الذي صار مبعوث الإدارة الأمريكية في أفغانستان، ثم سفيراً في كابول، وريتشارد بيرل عضو مجلس الدفاع (استقال مؤخراً).
في سنة 2002 وبعد أحداث سبتمبر أعلن الرئيس بوش استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي ركزت في فصلها السابع على أهمية توفير البنية الأساسية للديمقراطية في الشرق الأوسط، وتوسيع دائرة التنمية لإنضاج مجتمعات المنطقة.
هذا التراث الذي تراكم منذ أوائل التسعينيات، وأسهم فيه خبراء الدفاع مع عناصر المحافظين الجدد (وكلهم من الصقور) احتل مكانة في عقل الإدارة الراهنة، خصوصاً أن كثيرين ممن صنعوا ذلك التراث أصبحوا من أعمدة تلك الإدارة. وقد امتد تأثيره إلى أروقة وزارة الخارجية، حتى صار يشكل الوعاء الأساسي الذي خرجت منه مبادرة المشاركة في الشرق الأوسط التي أطلقها في العام الماضي كولن باول وزير الخارجية، ثم مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي نحن بصدده. وهو ما يعني بصريح العبارة أننا بصدد حلقة في مسلسل طويل يفتقد إلى البراءة، وأن المشروع من أوله إلى آخره لا يستهدف تلبية لأشواقنا الوطنية كما يزعم الذين يريدون استغفالنا، وإنما هو توسل بتلك الأشواق وتوظيف لها يراد به إحداث تغييرات في هيكل المنطقة وبنيتها بما يظن أنه يخدم الأمن القومي الأمريكي، ويصب في (اختراع الشرق الأوسط) ورفع ألوية القرن الأمريكي عليه(2).
لقد حان الوقت
ومما زاد الصورة جلاء الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي أي
إيه) جيمس ولسي الذي قال: إن الوقت قد حان لكي تستبدل الولايات المتحدة جميع الأنظمة العربية.
وأشار ولسي في كلمة ألقاها خلال مناظرة كبيرة نظمها اتحاد الطلبة في جامعة أوكسفورد البريطانية إلى أنه حان وقت إصلاح الأخطاء التي ارتكبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتعاملها مع الحكومات العربية الحالية وذلك بسبب تعطشها للطاقة والنفط، وأضاف أنه يتوجب على الولايات المتحدة أن تخطط لإزالة الأنظمة العربية الحالية وأن تجد بدائل للطاقة.
وقال ولسي في مناظرة (الحرب على الإرهاب): إن الدول العربية تقسم إلى قسمين: إما ديكتاتوريات مطلقة، أو أنظمة لأسر محدودة تتولى الحكم بأسلوب بيروقراطي متخلف لا يترك أي مجال للمشاركة السياسية.
وقال: إن الحرب التي تنوي الولايات المتحدة شنها على العراق لا ترتبط بالضرورة بموضوع أسلحة الدمار الشامل، بل هي (أساس لنشر الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي).
وهاجم الرئيس السابق لـ(السي أي إيه) الحكومات العربية قائلاً: ما إن ننتهي من الصدّاميين، حتى ننتقل إلى المباركيين (في إشارة إلى مصر) ومن ثم إلى السعوديين. نريد تحرير الشعوب العربية والإسلامية من أنظمة حكمها.
كلمة أخيرة
يريدون تحرير الشعوب العربية، كما حررت فرنسا مصر.. وكما فعلت بريطانيا وفرنسا في إسقاط دولة الخلافة العثمانية واقتسام أراضيها تحت شعارات براقة مثل التحرير والتنمية والتجديد.. وكما فعلوا جميعاً بفلسطين التي مازال يتعرض شعبها للتصفية..
ولا ضير أن يفعلوا إذا كانت الحكومات العربية راضية!!(1)مجلة الوسط اللندنية 23/2/2004
(2) المكر والاستعباط في المشروع الأمريكي- فهمي هويدي (9/3/2004).
============(19/143)
(19/144)
لماذا تفشل مشروعات الإصلاح ؟!
د. محمد مورو 10/3/1425
29/04/2004
منذ أن طرح الرئيس الأمريكي جورج بوش ما أسماه الشرق الأوسط الكبير والذي من المفترض أن تتبناه مجموعة الدول الثماني الكبار في العالم في مؤتمرها القادم، منذ ذلك الحين تبارت حكومات وجماعات ورموز ثقافية وسياسية في طرح تصورات وعقد مؤتمرات وإصدار توصيات حول مشروعات للإصلاح، ولكن الحقيقة أن كل هذه المبادرات محكوم عليها بالفشل لأسباب كثيرة واقعة في بنية هذه الحكومات والجماعات الثقافية والسياسية ولأسباب تتصل بإغفال العنصر الرئيس للإصلاح والنهضة، وهو نفس العنصر الذي فشلت بسبب غيابه كل مشروعات النهضة العربية والإسلامية التي شهدتها تلك البلدان في غضون القرنين المنصرمين.
بداية فإن مشروعات الإصلاح القادمة من الخارج هي بالضرورة فاشلة، لأنها أولاً تفتقد للمصداقية وتتسم بالنفاق ، وأهدافها لا علاقة لها في الحقيقة بموضوع الإصلاح أصلاً ، بل نكاد نقول إن الغرب وأمريكا لا يريدون لنا الإصلاح والديمقراطية والنهضة أو أي شيء إيجابي أصلاً ، لا على الأساس الإسلامي ولا حتى على الأساس العلماني ولا على أي أساس ، المطلوب فقط هو إعادة هيكلة مجتمعاتنا بما يضمن الخضوع والانصياع الكامل للمشروع الغربي الأمريكي الصهيوني، لا أكثر ولا أقل، ونلاحظ في هذا الصدد أن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تم طرحه مؤخرًا لم يكن مشروعًا أو مبادرة؛ بل كان نوعًا من الحكم والعقاب أو عقد الإذعان فهو لم يناقش الحكومات المعنية ولم يهتم بأخذ رأيها ؛ بل وضع المشروع هكذا وعليهم التنفيذ، فضلاً عن أن أي مشروع للإصلاح ما لم يستند إلى إرادة شعبية حقيقية فلن ينجح.
وبدهي أن الممارسات الأمريكية والغربية مع شعوبنا تاريخيًا وعقائديًا ووجدانيًا كلها تقود إلى نفرة الشعوب من أي شيء يأتي من هناك، أو على الأقل الشك فيه والارتياب بمضمونه وأهدافه، ويكفي أن مشروع الشرق الأوسط الكبير اهتم بإدخال إسرائيل قسراً في المنظومة العربية الإسلامية، وهذا مستحيل حتى ولو استند إلى قوة هائلة لأنه ضد حقائق التاريخ والجغرافيا والدين والوجدان، وهكذا فإن مثل هذه المشروعات تولد ميتة وأعتقد أن الذين جاءوا بها يعرفون هذا ولا يريدون إلا نوعاً من الضغط على الحكومات بها للمزيد من الانصياع والإذعان والانبطاح ووضع الحكومات في حالة رد فعل.
من جانب آخر؛ فإن الضجة الهائلة والتحليلات المستمرة في الصحف والفضائيات والجلسات الثقافية والسياسية والاهتمام المبالغ فيه من الحكومات والمثقفين بالموضوع يعكس قدرًا هائلاً من الخلل، ولن يكون التفكير في الإصلاح مجديًا إذا تم بناءً على ضغط خارجي، ومجرد الرقص على أنغام الخارج هو في حد ذاته خلل كبير وأحد أسباب الفشل؛ نعم لقد تأخرنا كثيرًا في الإصلاح ، نعم نحن في حالة مزرية، وهذه جريمة ارتكبتها الحكومات والقوى السياسية والجماعات الثقافية على حد سواء؛ فالحكومات أدمنت الاستبداد والفساد، وهذه جريمة تستحق عليه المحاسبة، والقوى السياسية لم تمتلك الشجاعة الكافية، ولا الرؤية الصحيحة لمواجهة هذا التحدي لا نستثني من ذلك أحد هذه القوى السياسية مهما كانت مستبعدة أو حتى تعرضت لقهر هائل، هو قهر غير مبرر وهو مجرّم ويستحق الإدانة ولكن ذلك لا يعفيها من المسؤولية، ربما يقلل مسؤوليتها ولكنه لا يعفيها من المسؤولية، والجماعات الثقافية ارتضت في مجملها أن تكون بوقاً للحاكم أو ترديدًا ومرجعاً لصدى الخارج، وبحثت عن المنافع والمناصب والمؤتمرات بالتقرب من المؤسسات الحاكمة أو عن الشهرة والجوائز بالتقرب إلى المؤسسات الغربية حتى لو كان الثمن مثلاً سب الدين أو التخلي عن الثوابت؛ بالطبع لكل ظاهرة استثناءاتها ولكنها استثناءات تؤكد القاعدة ولا تلغيها.
إذا تابعنا ردود الأفعال الحكومية تجاه مبادرة الشرق الأوسط الكبير؛ نجد أن الحكومات أصيبت فجأة بحمى الإصلاح والحديث عنه. والقول إنها كانت تؤمن به وتعدّ له وتجهز أدواته ولكنها تحتاج إلى وقت، وهو كذب صريح (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين). ثم عادت تلك الحكومات تتحدث عن الخصوصية.. وهو حق أرادوا به باطل؛ لأن الخصوصية لا تعني الظلم والفساد والتعذيب في السجون وانتهاك حقوق الإنسان، ثم لاذت الحكومات بمجموعة من المثقفين للتحدث عن الإصلاح وتضع لهم أجندات بهدف امتصاص الضغط الخارجي ليس إلا؛ وانبرت جماعات المثقفين كل يدلي بدلوه، وكأن الإصلاح، والقضاء على الفساد، وتحقيق الحريات واحترام حقوق الإنسان أو حتى تداول السلطة وتغيير الدساتير مسألة صعبة، وهي ليست صعبة بالطبع، وهي خطوة ضرورية طبعاً، ولكنها لن تحقق الإصلاح هكذا فجأة وبعصا سحرية.(19/145)
وفي هذا الصدد يمكن أن نرصد مؤتمر المثقفين في مكتبة الإسكندرية، الذي تم طبعاً برعاية حكومية سواء اعترف بذلك من اعترف أو أنكر من أنكر، ووصل المؤتمر إلى عدد من التوجيهات حول: الدعوة إلى تداول السلطة، وحرية تكوين الأحزاب السياسية، وإلى تحرير الصحافة والإعلام، والتوقف التام عن اعتقال الناس في الدول العربية بسبب آرائهم، وإصلاح المؤسسات والهياكل السياسية والإدارية، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية فصلاً واضحاً صريحاً.. أو غيرها من التوجيهات التي كان من الممكن لطالب حقوق مثلاً أن يدلي بها بسهولة، ولو كانت المسألة ليست مجرد امتصاص الضغط الأجنبي لقال هؤلاء المثقفون إنهم في حالة اعتصام مستمر وإضراب الطعام مثلاً حتى يتم الإفراج عن المعتقلين السياسيين في مصر، أو إلغاء قانون الطوارئ مثلاً. وهكذا فإن التصرف كرد فعل للضغط الأجنبي، وعدم الندم الثقافي على ما فرطنا في حق الوطن طويلاً وافتقادنا لدور المثقف كضمير للمجتمع ورائد للتغيير والتنبيه للمخاطر كزرقاء اليمامة لن يؤدي بالطبع إلى نجاح تلك الخلطة غير السرية.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن مبادرة جماعة المثقفين بالإسكندرية لم تتطرق إلى موضوع الاحتلال الأمريكي للعراق والممارسات الإسرائيلية بخصوص الفلسطينيين ، أو الرفض الصريح لقبول إسرائيل في منظومة الشرق الأوسط.
وهكذا؛ فإن هناك شبهات واضحة حول الهدف الحقيقي من تلك المبادرات: الأهداف الشخصية، والأهداف ذات الصلة بالحكومة، والأهداف ذات الصلة بإرضاء الأمريكان وتقديم البعض أنفسهم لهم كبديل.. وكلها تعرقل الإصلاح وتفقده مصداقيته.
بقي أن نقول إن كل مبادرات الإصلاح من الخارج أو الداخل فشلت وستفشل لعدم إدراكها أن المنوط بالإصلاح هم الناس.. الأمة.. الجماهير، وأن هؤلاء ليسوا قِطَعَاً من الحجر؛ بل لهم تركيبهم الوجداني والعقائدي . جزء من هذا التركيب الحضاري والوجداني أننا أمة لا تنهض ولا نصلح إلا بالمقاومة (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ، وإننا ننحط على مستوى الاقتصاد والسياسة والحرية والاجتماع وكل شيء بترك المقاومة "ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا" ، وإن الطريق الصحيح للإصلاح يبدأ بمقاومة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وبدون ذلك فإنه لن يكون إلا قبض الريح وحصاد الهشيم وبناء على غير أساس مهما كانت المطالب والمبادرات والمؤتمرات والتوصيات براقة ولامعة ، وحتى لو خلصت نوايا الحكومات والمثقفين والجماعات السياسية .. فبغير المقاومة لا إصلاح ولا تقدم ولا نهضة.
===============(19/146)
(19/147)
مفتي فلسطين: بلادنا ليست مزرعة لبوش
حوار: عبد الرحمن أبو عوف 27/3/1425
16/05/2004
- مؤامرة التهويد تزداد تصاعدًا والضغوط تتزايد لطرد عرب القدس ..
- اليونسكو تتواطأ مع الصهاينة لتذويب الهوية العربية الإسلامية للمدينة ..
- فلسطين ليست مزرعة يملكها بوش ليمنحها لشارون ..
- الضغوط الأمريكية وراء تراجع الدعم العربي للجهاد الفلسطيني ..
- اغتيال الكوادر الفلسطينية لن توقف مقاومة شعبنا البطولية ..
- مخطط شارون للانسحاب من غزة هدفه إشعال حرب أهلية وتوريط مصر.
أكد الشيخ عكرمة صبري خطيب المسجد الأقصى ومفتي الديار الفلسطينية أن محاولات تهويد القدس وطمس هوية المدينة الإسلامية مستمرة على قدم وساق لخلق أغلبية يهودية في القدس الشرقية ، يتم هذا عبر مخطط صهيوني واضح ومنظم لشراء الأرضي العربية ومصادرتها وطرد سكانها العرب بوسائل غير قانونية؛ وأضاف الشيخ عكرمة أن اليهود يستغلون الظروف الاقتصادية السيئة لعرب القدس لإقناعهم ببيع أراضيهم لوسطاء فلسطينيين يعملون مع اليهود ويقومون بتزوير عقود الملكية للاستيلاء التام على المدينة .. وشدد صبري في حواره مع "الإسلام اليوم" على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الصهيوني لأراضيه وما يقوم به الفلسطينيون هو كفاح ومقاومة مشروعة وبكل الوسائل لدحر الاحتلال وطرده من أرضنا ومقدساتنا ، موضحًا أن سياسات اغتيال الكوادر وكبار قادة حركات المقاومة الإسلامية والوطنية وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي لن يفت في عضد الشعب الفلسطيني، ولن يسهم في تراجع حدة المقاومة لأن قضيتنا قضية شعب، وليست قضية أشخاص مهما علا قدرهم ؛ لذا فحركة حماس ستمارس دورها بنشاط في مقاومة الاحتلال رغم الضربات التي شنها الاحتلال على كوادرها .. وناشد صبري الحكام العرب بضرورة الإسراع بعقد القمة العربية موضحًا أن تأجيلها كان هروبًا من المسؤولية وانصياعًا للضغوط الأمريكية .. قضايا عديدة وملتهبة نتناولها مع مفتي الديار الفلسطينية في السطور التالية ..
هل لفضيلتكم أن تطلعنا على المحاولات الصهيونية لتهويد المدينة المقدسة؟
محاولات التهويد بدأت منذ عام 67 على مختلف الأصعدة وما حصل مؤخرًا هو تغلغل صهيوني في البلدة القديمة عبر جمعيات صهيونية ودور غير مباشر لسماسرة وعملاء فلسطينيين يحاولون شراء أرض مقدسة من الفلسطينيين كوسيط تم بيعها لليهود بأسعار مرتفعة جدًا، كما تواصل السلطات الصهيونية فرض ضرائب باهظة على التجار وأصحاب المصانع الفلسطينيين بهدف التضييق عليهم وترحيلهم من القدس إلى الخارج كما تلاحق الشرطة الإسرائيلية هؤلاء التجار بالقوة وتصادر سياراتهم وبضائعهم لإجبارهم على الخروج من القدس ، أضف إلى ذلك قيام إسرائيل بتغيير أسماء الشوارع والأزقة في البلدة القديمة إلى أسماء عبرية لتزييف التاريخ وتغيير معالم وهوية المدينة.
لكن هناك جهات دولية وعربية نددت بهذا المسعى الصهيوني وطالبت بإنهائه فورًا حفاظًا على طابع المدينة التاريخي ..فهل كان لذلك أثر ؟
الصهاينة لا يهمهم شيء فهم مستمرون بدون هوادة ويقومون حاليًا بمحاولة لطمس حفائر المدينة المقدسة ، وهذا أكبر خطر لأنه يتواكب مع تجريف بعض البيوت والمساجد مما أدى إلى ضياع بعض الآثار الإسلامية وهو مستمرون في البحث عن هيكل داود المزعوم أسفل المسجد الأقصى غير عابئين بأي شيء ، كما أن منظمة جبل الهيكل تسعى بدأب لتحقيق أهدافها بدعم أمريكي ضخم حيث إن هناك مليونيرات أمريكان يقدمون لهم كافة أشكال الدعم .. يحدث هذا في ظل شح عربي كبير؛ فدولة واحدة فقط هي العربية السعودية هي التي تسهم في صندوق الأقصى وحدها وباقي الدول لا تسهم بدولار واحد للتصدي لهذه المحاولات فمثلاً منبر صلاح الدين يحتاج للترميم ولا تجد دوائر الأوقاف دعمًا لإنقاذه ، أما عن المنظمات التي تدين محاولات التهويد بتغيير معالم المدينة فأغلبه عربي إسلامي .. فمثلاً منظمة اليونيسكو متواطئة مع الصهاينة وتتآمر على التراب الفلسطيني بتأثير من الصهيونية العالمية ودورها سلبي للغاية إن لم يكن داعمًا للعبث الصهيوني.
تراجع العرب
ولماذا تراجع الدعم العربي للقضية الفلسطينية؟
التراجع طبعًا بسبب الضغوط الأمريكية التي طالبتهم بوقف الدعم لأنه يسهم في دعم الإرهاب على حد زعمهم ، ومن الأسف أن العرب استجابوا لذلك ولم يكتفوا بهذا بل إن الأنظمة العربية مارست ضغوطًا على العديد من الجمعيات الخيرية لوقف دعمها لشعبنا وكفاحه وجهاده المشروع لتحرير أرضه لكيلا يستطيع مجابهة الإرهاب الصهيوني .. أما حديث بعض الدول أنها تدعم من خلال منظمة دعم اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونرا) فهذا الكلام ذر للرماد في العيون .. لأن الأونرا حاليًا تعاني نقصًا شديدًا في الأموال وتعجز عن تحقيق الحد الأدنى .
قضية شعب
وماذا عن الاغتيالات التي يقودها شارون ضد قادة وزعماء حماس وتهديده لحياة عرفات ؟(19/148)
سياسة الاغتيالات التي يتبناها شارون وعصابته الحاكمة لن تحل المأزق الصهيوني بل تزيد الأمور تعقيدًا حيث إنها ستزيد الشعب الفلسطيني إصرارًا على استرجاع حقوقه المشروعة .. فاغتيال الشيخ ياسين والرنتيسي لن يقضي على حركة حماس المجاهدة بل سيولد من رحمها مجاهدون يردون الصاع صاعين لإسرائيل .. ثم إن هذه الحركة لا تعتمد على سياسة رد الفعل ولها استراتيجية واضحة وستستطيع رد الضربات لإسرائيل التي ستدفع الثمن باهظًا على هذه السياسة ؛ فإسرائيل تكون واهمة إذا اعتقدت أن عملية الاغتيالات ستنهي القضية .. فالقضية قضية شعب وليست قضية رموز مهما علا قدر هذه الرموز. أما فيما يخص حياة الرئيس عرفات فإن المس بحياته لن يحل المشكلة وسينفجر على إسرائيل شلالات الدماء لأنها ستوصل شعبنا إلى اليأس التام ولن تجد إسرائيل من يتفاوض معها، وستخلق تيارات لا ترضى إلا بتحقيق جميع مطالب الشعب الفلسطيني كاملة بدون انتقاص.
وعود بوش الكاذبة
أبدت جهات دولية عربية وأوروبية استياءها الشديد من وعود بوش لشارون فيما يخص اللاجئين والحدود فما تقييمك لهذا الوعد؟
بوش لا يملك شيئًا حتى يعد به لأن فلسطين أرض إسلامية مغتصبة وليست مزرعة يملكها الرئيس الأمريكي .. فوعد بوش مثل وعد بلفور (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق) وهذا الوعد سيكون مصيره الفشل لأن بوش لا يملك فرض رؤيته على الشعب الفلسطيني الذي يفرض الوصاية عليه .. كما أن حقوق اللاجئين ثابتة ومؤيدة بقرارات من الأمم المتحدة وهي قضية معقدة فليست لقمة سائغة يستطيع بوش وشارون هضمها أبدًا مهما طال الزمن ومهما كانت الظروف والمتغيرات في صالح العدو الصهيوني.
تبادل أدوار
تلقى شارون صدمة قاسية برفض الليكود لخطة الانسحاب من غزة .. ما تقييمك لهذه الخطة ولماذا رفضها الليكود؟
أولاً قضية الاستفتاءات شأن صهيوني لا تهمنا من قريب أومن بعيد وأظن أنها قضية توزيع أدوار وهي لعبة يجيدها الصهاينة كثيرًا .. أما خطة الانسحاب من غزة فهي خطة ولدت ميتة وأراد من خلالها شارون أن يوضح للعالم أن القضية قد انتهت وهو واهم إن اعتقد أنه يستطيع اختزال قضية عادلة كقضيتنا في الانسحاب الأحادي من غزة ويسعى شارون من خلال خطته المزعومة إلى ضرب عدة عصافير بحجر واحد؛ فهو يريد إشعال حرب أهلية بين السلطة وفصائل المقاومة أولاً، وثانيًا استغلال هذه الفتنة للتأكيد للعالم أنه لا يوجد شريك فلسطيني يتفاوض معه، وثالثًا إقحام مصر في قضية غزة للوقيعة بينها وبين الفلسطينيين .. لكن هذه المحاولات ستفشل على حائط صد الوحدة الوطنية الفلسطينية وكذلك لن تنجح محاولات شارون لضرب مصر التي نثمن دورها التاريخي في دعم الكفاح العادل للشعب الفلسطيني .
طرحت الولايات المتحدة مشروع الشرق الأوسط الكبير على دول المنطقة وإن كان بصورة غير رسمية ثم قامت بسحبه كيف ترى هذا المشروع؟
المشروع الأمريكي لا هدف له إلا السيطرة الكاملة على المنطقة وإخضاعها للهيمنة الأمريكية الصهيونية وتوجيه ضربة قاضية للمد الإسلامي بعد أن لاحظت وجود صحوة إسلامية تقف ضد محاولاتها، وأرى أن واشنطن غير جادة في قضية الديمقراطية في المنطقة لأنها ستكون المتضرر الأكبر من نشر هذه الديمقراطية كونها ستصل إلى سدة الحكم تيارات ضد السيطرة الأمريكية على مقدرات المنطقة وليس أدل على ذلك من قيامها بسحب المشروع ؛ فهي كانت تريد انتزاع تنازلات من الحكام العرب ونجحت في ذلك فلماذا الإصرار على إحراجهم.
كارثة القمة
فشلت الدول العربية في عقد القمة العربية وتم تأجيلها عدة مرات مما يعطي تأكيدًا على التخبط العربي؛ فما تعليقكم ؟
فشل الأنظمة العربية في عقد القمة كارثة كبيرة على أمتنا العربية تعكس عدم تحمل القادة العرب لمسؤوليتهم خلال التحديات الرهيبة التي تواجه الأمة وهروبًا من مجابهة الواقع المر .. فلا شك أن الحكام استجابوا للضغوط الأمريكية المتصاعدة عليهم التي لا هدف لها إلا تركيعهم وإخضاعهم لرغباتها الجهنمية حيث يرغب بوش في جعل المنطقة فناء خلفيًا لمزرعته في كرافود وهذا يفرض تحديات على القادة العرب بأن يطرحوا خلافاتهم الجانبية ويركزوا في محاولة صياغة خطاب عربي يقود أمتنا للتخلص من المخاض الصعب الذي تعاني منه لذا فقمة تونس هي قمة فارقة في تاريخنا العربي فإما النجاح وإما مواجهة غضبة الشعوب العربية التي لن يستمر صمتها على هذه المهازل.
الصهاينة وراء التفجيرات
شهدت المملكة العربية السعودية موجة أعمال عنف وتفجيرات .. فمن برأيك يقف وراء هذه التفجيرات؟
الأيادي الصهيوني والأمريكية وراء هذه الموجة لزعزعة الأمن والاستقرار في المملكة ونشر أجواء من الاضطرابات لإرهاب السعودية ومحاولة إخضاعها للضغوط الأمريكية فيما يخص موقفها من القضايا الراهنة وإضعاف دورها الوطني والإسلامي في إطارها الإقليمي ومحاولة التلاعب في تماسكها الداخلي، ونحن رغم إدانتنا لأعمال العنف والتفجيرات نطالب بمواجهة عاقلة تجفف منابع هذه الاضطرابات ومنع واشنطن وغيرها من استغلالها لزيادة المد الصهيوني في المنطقة وتكريس هيمنة إسرائيل .(19/149)
=============(19/150)
(19/151)
الشرق الأوسط..الكبير..الجديد!!
عمان / عاطف الجولاني * 14/7/1427
08/08/2006
ما إن أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس قبل أيام عن رغبة الولايات المتحدة بإنشاء شرق أوسط جديد، حتى راح البعض يطرحون تصورات وسيناريوهات متوقعة لهذا الشرق أوسط الأمريكي الجديد الذي يرغب بوش بإقامته في المنطقة.
بعض المتعجلين تحدثوا عن خرائط جغرافية جديدة، تُقسّم دول المنطقة بموجبها على أسس طائفية وعرقية، ويُعاد رسم الحدود بين الدول العربية والإسلامية، بحيث تتوسع دول على حساب أخرى، وتنشأ دول جديدة ليست قائمة الآن (كردستان، بلوشستان، دولة العراق العربي السني، دولة العراق العربي الشيعي، دولة دينية في السعودية...).
البعض الآخر راح يرسم خرائط سياسية جديدة للمنطقة، تقوم على أساس الإجهاز على حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وتعزيز مكانة إسرائيل كدولة مركز قوية ومهيمنة في النظام الإقليمي الجديد، وإثارة الخلافات الطائفية والعرقية والمذهبية، وإضعاف الكيانات العربية لتتحول إلى مجرد أحجار تُحرّك وفق الرغبة الأمريكية على رقعة الشطرنج.
فهل نحن أمام مشروع (سايكس بيكو) أمريكي جديد بالفعل هذه الأيام؟ وهل تبدأ أمريكا، الآن فقط، بإنشاء نظامها الشرق أوسطي الجديد في المنطقة؟ وبماذا يختلف عن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته في الأعوام الماضية؟ ولِمَ اختارت رايس أجواء التصعيد والعدوان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين لتبشّر بالنظام الإقليمي الجديد؟ وهل الطريق ممهدة أمام ولادة مثل هذا الشرق أوسط الأمريكي الجديد، أم أن دونه الكثير من العقبات والتحديات؟
ليس جديداً
كحال كل القوى العظمى التي ترى أن من حقها ترتيب الأوضاع الدولية بما يخدم مصالحها، ويحقق أهدافها في السيطرة والتحكم وبسط النفوذ، لم تتوان الولايات المتحدة الأمريكية طيلة العقود السابقة عن العمل على صياغة الخرائط الجغرافية والسياسية في المنطقة العربية وغيرها من مناطق العالم بما يتفق مع رغباتها ومصالحها. وحين شعرت بعد أحداث 11 سبتمبر بالحاجة لإعادة رسم صورة المشهد الإقليمي في المنطقة، لم تكتف بالإعلان عن نواياها وخططها، بل حركت جيوشها وآلتها العسكرية لتنفيذ تلك الخطط، وأعلنت صراحة عزمها على إقامة نظام إقليمي جديد، يتناسب ومعطيات المرحلة الجديدة التي جعلت عنوانها الحرب على الإرهاب.
فبدأت بتغيير الخريطة السياسية في أفغانستان، وأسقطت نظام طالبان، وأقامت نظام حكم تابعاً لها، وانتقلت في الفصل الثاني من مخططها إلى العراق، فاحتلت أرضه وغيّرت نظامه السياسي، ولو قُدّر لمخططها النجاح في هذه المحطة، لربما كنا شهدنا خلال الأعوام الثلاثة الماضية فصولاً أخرى من المشروع الذي أرادت تنفيذه في المنطقة. فقد كان يجري الحديث عن نوايا أمريكية لإحداث تغييرات سياسية وجغرافية واسعة على الوضع في سوريا وإيران ومصر والسعودية ودول أخرى.
الشعار الذي رفعته إدارة المحافظين الجدد في حينه لتسويق مشروعها الاستعماري الجديد وإضفاء نوع من الشرعية والأخلاقية عليه، هو نشر الحرية والإصلاح في المنطقة، وإقامة نظام شرق أوسطي ديموقراطي كبير خال من القمع والاستبداد والفساد. وزعمت إدارة الرئيس بوش أن عدوانها على العراق واحتلالها لأرضه، يهدف إلى نشر الحرية فيه، وتخليص العراقيين من نظام استبدادي تسلطي، وتقديم نموذج للمنطقة لمواصفات الحكم الرشيد والصالح الذي تنوي أمريكا تعميمه في المنطقة.
غير أن الأداء البطولي للمقاومة العراقية، والذي لم يكن في حسبان أصحاب القرار في إدارة صقور البيت الأبيض، أربك المخطط الاستعماري الأمريكي الجديد، وأغرق الولايات المتحدة في مستنقعات العراق التي استوعبت الاندفاعة الأمريكية، وعطّلت فصول المخطط اللاحقة. كما أن النموذج الذي قدمته أمريكا للديموقراطية والإصلاح ونظام الحكم الرشيد في العراق، جاء نموذجاً مسخاً ومشوّهاً، يغيب عنه الأمن، ويسود فيه القتل والفوضى، وتسيطر عليه الصراعات الطائفية والعرقية. وهو ما أفقد المشروع والأمريكي كل مسوّغاته الأخلاقية والسياسية.
لكن تعثر المشروع الأمريكي في محطة العراق لم يوقف سعي أمريكا لمحاولة تنفيذ ما أمكن من مخططها، وإن كانت اضطرت لإجراء تغييرات على كثير من تفصيلاته. وعوضاً عن شعارات الإصلاح ونشر الحرية والديموقراطية، اعتمدت آلية جديدة تقوم على أساس التهديد والتلويح بفرض الحصار السياسي والاقتصادي، وإثارة الفتن الطائفية والعرقية، واستهداف حركات المقاومة الشعبية.(19/152)
فقد مارست ضغوطاً مشددة على سوريا ولبنان، مستغلة حادثة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، مما أسفر عن سحب القوات السورية من لبنان وسيطرة حلفاء أمريكا من جماعة 14 آذار على الحكومة اللبنانية الحالية. كما شهد لبنان خلال الشهور الماضية - بدفع واضح من الإدارة الأمريكية - تعبئة طائفية واسعة النطاق، بخاصة بين الشيعة والسنّة. وهي ذات السياسة التي اعتمدتها أمريكا في العراق بعد إخفاق مشروعها العسكري؛ إذ لجأت لتغذية النزاعات الطائفية بين الشيعة والسنّة، وقامت بعملية تحريض طائفي واسعة قادت في نهاية المطاف إلى عمليات قتل متبادلة تشهدها مدن العراق بصورة يومية.
أما في إيران فاختارت الإدارة الأمريكية ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية مشدّدة على إيران للتراجع عن ملفها النووي، وسعت لحشد تأييد دولي واسع وراء موقفها، لا سيما في أوروبا التي أظهرت غالبية دولها استعداداً للتساوق مع التوجهات الأمريكية حيال الملف النووي الإيراني.
حركات المقاومة تعرضت هي الأخرى لحصار شديد وضغوط متواصلة. حيث تعرض حزب الله إلى حملة واسعة النطاق استهدفت عزله سياسياً ونزع سلاحه. وتعرضت حركة حماس وحكومتها الفلسطينية إلى حصار خانق من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والعديد من الدول العربية، بهدف إسقاط حكومتها، وإجهاض تجربتها في مهدها.
نجاح صغير .. و إخفاقات بالجملة
وعند تقييم النتائج التي حققها المشروع الأمريكي بنسخته الأصلية والمعدّلة، يتضح أنه حقق إنجازات محدودة، مقابل إخفاقات كبيرة واجهها في أكثر من محطة وموقع.
فإضافة إلى إخفاقه الكبير في العراق، فإن سياسة الضغوط والتهديد لم تنجح في دفع إيران وسوريا ولبنان للإذعان للرغبات الأمريكية. فإيران من جانبها تحدّت الضغوط الأمريكية والدولية وأعلنت صراحة عن انضمامها للنادي النووي وقيامها فعلياً بتخصيب اليورانيوم. وسوريا نجحت هي الأخرى في احتواء الضغوط الأمريكية وتشهد الآن وضعاً سياسياً مريحاً نسبيا .
وحزب الله الذي سعت الإدارة الأمريكية إلى تحجيمه سياسياً وعسكرياً ومصادرة سلاحه عبر قرار مجلس الأمن رقم 1559، استطاع تجاوز الضغوط الأمريكية واستحقاقات قرار مجلس الأمن، وانتقل من موقع الدفاع وردّ الفعل إلى موقع الفعل والمبادرة. نفس الأمر ينطبق على حركة حماس وحكومتها التي نجحت في الموائمة بين متطلبات الحكم والمقاومة، واستطاعت فرض معادلة سياسية جديدة.
أفغانستان هي الأخرى تشهد منذ شهور تصعيداً عسكرياً غير مسبوق ضد القوات الأمريكية والمتحالفة معها، بحيث أضحت 'عراقاً آخر' تغرق أمريكا في مستنقعاته وتتكبد خسائر فادحة في الأرواح والمعدات بشكل يومي . وبصورة فاجأت الجميع، دخلت الصومال بقوة على المشهد، لتعلن عن إخفاق جديد للسياسة الأمريكية في منطقة القرن الإفريقي ؛ إذ أخفق حلفاؤها من أمراء الحرب في المحافظة على مواقعهم، فضلاً عن التقدم على حساب المحاكم الشرعية التي استطاعت بسط سيطرتها على معظم الأراضي الصومالية.
عنوان كبير آخر لإخفاق السياسة الأمريكية في المنطقة، تمثل بنتائج الانتخابات في فلسطين ومصر ودول عربية أخرى تقدمت فيها الحركات الإسلامية بصورة كبيرة دفعت أمريكا للتوقف كلياً عن دعوات الديموقراطية والإصلاح في المنطقة، بعد أن تبين لها أن المستفيد الأكبر من انتخابات نزيهة أو شبه نزيهة، ستكون الحركات الإسلامية غير المرغوبة أمريكياً، والتي تعدها واشنطن بديلاً سيئاً عن أنظمة الفساد والاستبداد الموجودة في المنطقة.
وإضافة إلى تعدد الجبهات المشتعلة التي باتت واشنطن عاجزة عن التعامل معها، تكبّدت الولايات المتحدة الأمريكية خسائر كبيرة في الجانب القيمي والحضاري، وأضحت صورتها الأخلاقية كالحة وسلبية بعد فضائحها في سجون أبي غريب وغوانتانمو، وفظائعها وجرائمها في مدن حديثة والإسحاقي والفلوجة، وعمليات النقل السري للمعتقلين إلى مراكز تعذيب متعددة في العالم، فضلاً عن التراجعات الخطيرة في مجال الحريات الشخصية داخل أمريكا ذاتها بحجة الحرب المعلنة على الإرهاب والهواجس الأمنية.
لماذا الآن؟
في ظل الإخفاقات الأمريكية، بدأت تُطرح الكثير من التساؤلات حول مصير 'الفوضى الخلاقة أو البناءة' التي تحدثت عنها رايس واعتبرتها مدخلاً لإعادة صياغة النظام الإقليمي في المنطقة، وبات الكثيرون يعتقدون أن 'الشرق أوسط الكبير' الذي بشّر به بوش تحول إلى مجرد شعار.
والسؤال: هل المعطيات القائمة حالياً تتيح للإدارة الأمريكية تنفيذ مشروعها الشرق أوسطي الجديد الذي تبشّر به رايس؟ أم أنه سيتحول هو الآخر إلى مجرد شعار كبقية الشعارات التي طُرحت في الفترة الماضية، وتهاوت أمام حقائق الواقع؟ وإن كان الأمر كذلك فما هي أسباب اختيار التوقيت الحالي للحديث عن الشرق أوسط الجديد؟
في المشهد السياسي القائم حالياً، يمكن قراءة المعطيات التالية:
* المشروع الأمريكي فاشل ومأزوم، ويظهر الكثير من التخبط والارتباك. وبعض الأطراف الدولية التي قبلت في فترات سابقة بأدوار سياسية هامشية في(19/153)
المنطقة بدأت تستغل الإخفاق والتراجع الأمريكي من أجل لعب أدوار سياسية أكبر وأكثر فاعلية.
* الكيان الصهيوني مرتبك ومأزوم كذلك، ويفتقد قوة الدفع والتقدم والقدرة على تحقيق الانتصارات وخاصة بعد سقوط مقولة " الجيش الذي لا يقهر" بعد حوالي شهر من العدوان على لبنان والذي تكبد خلاله خسائر فادحة في الأرواح والمعدات ، كما يفتقد إلى القيادات القوية والكفؤة القادرة على التعامل مع المعطيات الجديدة المعقدة.
* النظام الرسمي العربي هو الآخر ضعيف ومأزوم وعاجز عن الفعل، ويشعر بالحرج في مواجهة غضب شعبي يتزايد بصورة مضطردة، وإن لم يصل مستوى التأثير في القرار السياسي.
* العملية السلمية التي اعتمدها العرب خياراً إستراتيجياً وحيداً، وصلت طريقاً مسدوداً، ولم يتردد أمين عام جامعة الدول العربية بنعيها وإعلان وفاتها خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب قبل أسابيع بالقاهرة .
* حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق تتقدم، وتنتقل من حالة الدفاع إلى الهجوم والمبادرة.
فهل تتيح هذه المعطيات المجال أمام الإدارة الأمريكية لصياغة نظام إقليمي جديد؟ وهل توفّر لها الظروف المواتية للحديث عن مشروع شرق أوسط أمريكي جديد؟ وهل مجرد رغبة أمريكا برسم خريطة سياسية وجغرافية للمنطقة، وحديثها عن امتلاكها خططا وتصورات، يجعل هذه المشاريع قدراً لا يُردّ ولا يُقاوم، وأمراً واقعاً لا محالة؟
لقد طرأت مستجدات سياسية مهمة، وتغيرت كثير من قواعد اللعبة السياسية، وظهرت أطراف فاعلة جديدة مؤثرة في معادلة القوى الفاعلة في المنطقة. وإذا كان اللاعبون الأساس في المعادلة الإقليمية السابقة هم: الولايات المتحدة، وإسرائيل، والأنظمة العربية فإن حركات المقاومة الشعبية دخلت في الآونة الأخيرة كلاعب رئيس وفاعل في المعادلة الإقليمية الجديدة، ولم يعد ممكناً تجاوز فصائل المقاومة الإسلامية في العراق، وحزب الله في لبنان، وحركة حماس وبقية فصائل المقاومة في فلسطين، عند مناقشة أي تصورات أو ترتيبات للوضع السياسي في المنطقة. وإذا ما قُدّر للشعوب العربية أن تخرج عن دائرة صمتها، وأن تأخذ دورها الفاعل المطلوب في المرحلة القادمة، فلا شك أننا سنكون أمام نظام إقليمي جديد، لكنه لن يكون هذه المرة أمريكياً، كما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعض الأطراف الرسمية العربية.
شرق أوسط جديد .. لماذا؟
نعود إلى طرح السؤال: لماذا طرحت إدارة المحافظين الجدد في هذا الوقت بالذات مشروعها الشرق أوسطي الجديد، ما دامت تدرك حجم التحديات والمتغيرات والعقبات التي لا شك ستواجه تنفيذه؟
يمكن الحديث عن سببين مهمين دفعا رايس للإعلان عن مشروع الشرق الأوسط الجديد على الرغم من إدراكها أن الظروف والمعطيات غير ملائمة البتّة، وأن فرص نجاحه ضعيفة ومحدودة وهما:
الأول: إظهار قوة أمريكا، وتأكيد أنها ما زالت - على الرغم من إخفاقاتها على أكثر من جبهة وتراجعاتها - هي القوة المسيطرة والمهيمنة والممسكة بجميع خيوط اللعبة في المنطقة، والقادرة على رسم الخرائط، وتحديد الأدوار، وتقديم المشاريع.
الثاني: الإشغال والإلهاء ومنع حدوث فراغ في المنطقة يمكن أن يفتح المجال أمام طرح مشاريع وخيارات تتعارض مع مصالح أمريكا وحليفها الإسرائيلي، لا سيما بعد تعثر عملية السلام وتقدم خيار المقاومة الشعبية في أكثر من موقع.
الولايات المتحدة لديها - دون شك - تصورات وخطط وسيناريوهات جاهزة ترغب بتطبيقها في المنطقة لو أمكنها ذلك وامتلكت أدوات التنفيذ، ولا جدال في أن إسرائيل قوية ومسيطرة إقليمياً ستبقى إستراتيجية أمريكية غير قابلة للتغير أو التبدل في المدى المنظور، ولا نقاش في أن أمريكا ستبذل كل ما في وسعها من أجل إضعاف حركات المقاومة إن تعذر القضاء عليها، وأن تفتيت دول المنطقة على أسس طائفية وعرقية سيبقى هدفاً أمريكياً مطلوباً. لكن من الواضح أن رياحاً معاكسة للرغبات الأمريكية بدأت تهبّ بقوة على المنطقة، ستجعل من نجاح المشاريع والخطط الأمريكية أمراً ليس بالسهل أو الهيّن.
* رئيس تحرير صحيفة (السبيل) الأردنية
===============(19/154)
(19/155)
قمة تونس وتجاوز المأزق العربي!
عمرو محمد 3/4/1425
22/05/2004
في ظل المأزق العربي الراهن تنعقد القمة العربية المؤجلة في تونس حيث يطرح الواقع العربي جملة من التساؤلات حول ما إذا كانت القمة ستتجاوز هذا المأزق ويكون الشتات العربي في هذه القمة هو البداية لعمل عربي مؤسس ومنظم، أم سيكون النقيض عندما تعلق القمة بتوقيع قادتها شهادة وفاة النظام العربي؟!
وبالرغم من ضبابية الواقع الراهن في تجاوز هذا المأزق مع انعقاد قمة تونس؛ إلا أن خبراء ومحللين سياسيين في التحقيق الذي أجراه موقع (الإسلام اليوم) يرون أنه يمكن تلافي هذه الضبابية برغم اشتداد المأزق الراهن إذا كانت هناك إرادة سياسية من جانب العمل العربي المؤسس فضلاً عن ضرورة تحرك الجمعيات والاتحادات العربية غير الرسمية، وما يزيد من المخاوف التي تساهم في تعمق المأزق العربي الراهن أن تخرج قرارات قمة تونس بقرارات دون المستوى لا تحقق الحد الأدنى من حالة الفوران السائدة في الشارع العربي فضلاً عن عدم ارتقائها وحجم التطورات المتسارعة في المنطقة وأن تصبح قرارات القمة "حبرًا على ورق" تضاف إلى قرارات القمم السابقة!
تباين الموقف
بداية يتمنى الدكتور أحمد يوسف أحمد -مدير معهد البحوث والدراسات العربية- أن تخرج قمة تونس المؤجلة بقرارات إيجابية برغم تباين المواقف العربية على المستوى الرسمي، وخاصة في ما يتعلق بالمسألة العراقية.
ويعتقد مع هذا التباين أن القمة لن تكون قراراتها فارقة بحيث تخرج بقرارات تصل إلى الإجماع بتوجيه نداء واضح ومحدد للاحتلال الأمريكي بالانسحاب من العراق نتيجة لهذا التباين الناتج في الأساس عن تردي النظام العربي؛ ولذلك فإن القمة العربية ستخرج بقرارات تسمح بأن يبقى الوضع على ما هو عليه، خاصة وأنه يبدو أن كثيرًا من القرارات حول تفعيل منظومة الجامعة مثلاً قد تم ترحيلها إلى القمة القادمة في الجزائر عام 2005.
ويشير الدكتور أحمد يوسف إلى أن الإشكالية القائمة في العالم العربي نتيجة عدم وضوح الموقف من احتلال العراق فإن هناك ممانعة أيضًا تحول دون اتخاذ القمة لقرارات يمكن أن تغضب السياسة الأمريكية، وهو ما يفرض على القمة أوضاعًا صعبة في الوقت الذي ينبغي أن يكون للدول العربية موقف صريح من السياسة الأمريكية وأنه يلاحظ أن النظام العربي يتعامل مع هذه السياسة بشكل التكيف وليس المواجهة، والدليل على ذلك قوبل النظر لتمثيل مجلس الحكم في الجامعة العربية بشكل التكيف وليس مواجهة هذا التمثيل عندما تمت الموافقة على تمثيله في الجامعة رغم تعيينه من قبل قوات الاحتلال
ويؤكد د. أحمد يوسف أنه من الضروري أن تخرج القمة بخطاب عربي قوي يجمع الرأي العام العربي حوله في ظل حالة الغليان التي تنتاب الشارع العربي نتيجة للأوضاع في العراق والجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية .
وفي هذا الإطار يقول د. أحمد يوسف: إن الوضع الحالي في العراق والدور المطلوب من النظام العربي يمكن أن يدفع بالقمة للخروج بقرارات توصف بأنها قرارات الحد الأدنى، وهي تحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال وجمع القوى السياسية المختلفة حول صيغة الحكم ووضع دستور جديد للبلاد وإشراف الأمم المتحدة والجامعة على المسألة العراقية وإن كان د. يوسف يستصعب على القمة الخروج بهذه التوصية في ظل حالة التباين العربي من المسألة العراقية، فضلاً عن أن الجامعة العربية تعكس هذا التباين، وبالتالي لا يمكن للقمة أن تخرج بقرارات قوية في هذا السياق حيث ترتبط الجامعة بإرادات الدول العربية.
انسحابات متوقعة
وهنا يبدي الدكتور محمد السيد سعيد - نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- مخاوفه من أن المأزق العربي الراهن قد ينتج عنه انسحابات من الجامعة العربية، باعتبارها خطوة تالية للأزمة وللتباين الحاصل بين الدول العربية، بحجة عدم ملائمة الأوضاع في الجامعة للأهداف السياسية، وستبدو الفكرة الأساسية المسيطرة على الأوضاع في الفترة المقبلة هي بعد كل دولة عن الأخرى واستقلالها بذاتها عن الكيان العربي، وهو ما تسعى إليه الولايات المتحدة وإسرائيل.
ويرى أن قرارات القمة العربية المقبلة ستكون انعكاسًا للوضع السابق ذكره في ظل عدم الانسحاب العربي، وهو الذي بات مستحيلاً، ويتسم بالانقسام المذهل حتى حول بديهيات الأمور والقضايا العربية، وهو ما أدركه بعض القادة العرب في القمة "المؤجلة" واعتذار الكثيرين عن عدم المشاركة في فعالياتها، في الوقت الذي رأت تونس الدولة الرئيسة للقمة المقبلة أنها في أزمة بسبب مشروعات الإصلاح المقدمة .(19/156)
ويقول الدكتور محمد سعيد: إن المطالبة بالإصلاح، وهي القضية المدرجة على جدول المناقشات تثير كثيرًا من أشكال الخلاف حولها من بعض الدول، لأن هذه الدول ترى أنه في ظل مواكبتها للإصلاح والسعي إليه أمر قد يضعها في أزمة داخلية، نتيجة لعدم رغبتها في إحداث هذا الإصلاح؛ فضلاً عن أنها لو تخلفت عن تحقيق هذا الإصلاح، فإنها ستجد نفسها خارج هذه المنظومة الإصلاحية، وهذا يؤكد أنه لا بد من النظر إلى الإصلاح على أنه قضية أساسية ينبغي الشروع فيها، دون أن تكون هناك إصلاحات شكلية تتوافق مع المطالب الخارجية، أو بالأحرى الضغوط الأمريكية، بهدف تطويع المنطقة لمصلحة الأغراض الأمريكية.
الشماعة الأمريكية
ومن جانبه يرى السفير وفاء حجازي أن يتم جعل الضغوط الأمريكية "شماعة" تعلق عليها القرارات العربية الضعيفة، والحقيقة كما يعتقدها أن العالم العربي في حالة لامبالاة نتيجة لغياب الإرادة لمناقشة القضايا المهمة والعاجلة، والتي ينبغي أن تفرض نفسها على "الأجندة" العربية، ويحددها في قضية الإصلاحات الداخلية والصراع العربي ـ الإسرائيلي.
لذلك يعتقد أنه مع غياب قرارات عملية في هاتين القضيتين، يمكن أن تتدهور الأوضاع العربية، ويتسبب في فشل آخر، وربما يكون جديدًا من نوعه في المواقف العربية، التي أصبحت -على حد قوله- لا تتسم بالوضوح، وتقتصر على بيانات الشجب والاستنكار، فضلاً عن عدم تنفيذ القرارات.
ويرى أن القمة العربية إذا لم تخرج بقرارات قوية بدعم حقيقي للمقاومة الفلسطينية والعراقية بكافة الأشكال ، فستكون فاشلة في ظل ممارسات عدائية يومية على الشعب الفلسطيني، وارتكاب شارون لمذابح واسعة للشعب الفلسطيني على نطاق كبير، فضلاً عن ضرورة التأكيد على أن إسرائيل دولة معتدية، تلفظ السلام ، وتضرب بالقرارات الدولية عرض الحائط .
والقضية الثانية التي يرى ضرورة في الخروج بتوصيات ضرورية بشأنها هي الإصلاحات الداخلية، والتي يطالب بأن تكون هناك إصلاحات داخلية حقيقية، في أن يكون للشعب حقه في الديمقراطية وتشكيل الأحزاب وإطلاق الحريات.
ومع وجود مخاوف من عدم مناقشة القضيتين السابقتين والخروج بتوصيات واضحة بشأنها؛ يحذر السفير حجازي من خطورة غياب القضية التي تجمع الدول العربية، وتوحد موقفها في مواجهة التحديات الراهنة، وأن يتم الاستغراق في مناقشة مبادرة الشرق الأوسط الكبير، في الوقت الذي لم يعلن فيه العرب رفضهم الواضح والمطلق لهذه المبادرة، والتأكيد للولايات المتحدة على أن لديهم نظامهم الأساسي الذي يقوم على أسس متينة، يعبر عن خصائص المنطقة العربية، وقوامها الشخصية العربية، دون الدخول في نظام إقليمي مع إسرائيل، حتى لا يتعرض العرب لمزيد من الشتات والضياع، أكثر مما هو حاصل حاليًا! .
ويصف السفير حجازي .. المأزق العربي الراهن، بأنه وقت المواقف الضائعة، وينذر بخطورة تفكيك الجامعة العربية، وهو البيت الذي عجز فيه العرب عن تسوية خلافاتهم وحل مشاكلهم فيه، حتى فرضت عليهم حلولاً خارجية بدعوى الإصلاح!
انبطاح عربي
الدكتور جمال زهران - رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة قناة السويس- يترجم المشكلات التي تواجه القمة بأنها تعكس "انبطاحًا" عربيًا على المستوى الرسمي، والذي لا يتوقع له تحقيق إصلاح على أي مستوى، ما لم تحقق إصلاحات جوهرية وجذرية قد تتعلق بوجودها في الأساس، في ظل وجود أزمة هيكلية في النظام العربي، حتى أصبح من الصعب بمكان الاتفاق على الحدود الدنيا من الاتفاق، وهو ما يعكس أيضًا فشل النظام العربي، في عدم القدرة على التصدي لجرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، وعدم التوصل إلى صيغة موحدة بصدد الاحتلال الأمريكي للعراق، في الوقت الذي أصبح فيه هذا النظام الرسمي غير قادر على رد الفعل، وهو ما قد يساهم في انفجار القمة، الأمر الذي يعكس مؤشرات عن أن قرارات القمة ستكون هزلية!.
ويرجع د. زهران هذا أيضًا إلى حرص الدول العربية على خطب ود الولايات المتحدة بشكل انفرادي وليس جماعيًا، وحاجة كل دولة عربية إلى جامعة عربية خاصة بها، توفر لها تفصيلات خاصة على مقاسها، وإلا التلويح بتجميد عضوية الجامعة، وهو ما يتطلب ضرورة تحرك مؤسسات العالم العربي بهدف إحداث إصلاح حقيقي وليس الإصلاح الذي يروج له المشروع الأمريكي وترفضه الأنظمة العربية، حيث يهدد وجودها في الأساس.
وهنا يؤكد د. زهران أن تأجيل القمة التي كان مقررًا لها أن تعقد في مارس الماضي كان ورائه سبب حقيقي اكتشفه المراقبون في الضغوط الأمريكية التي مورست لتمرير مبادرة الشرق الأوسط الكبير؛ إضافة إلى ما كان ظاهرًا في عدم تنفيذ الرغبة التونسية في طرح وجهات نظر معينة، وأنها عندما رأت عدم تنفيذها استغلت رئاستها للقمة المقررة، وقامت بإلغاء عقدها في الموعد المحدد له سنويًا.(19/157)
ولذلك لا يستبعد أن تكون هذه التداعيات مقدمة لفشل القمة التي تعقد يومي السبت والأحد ، وأن تكون التحركات العربية البطيئة، التي تتحرك بها الدول في سلبية رد الفعل الإسرائيلي على ما يرتكبه في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، فضلاً عن السلبية إزاء الاحتلال الأمريكي للعراق، كل ذلك قد يؤدي إلى المخاوف التي تنتاب المراقبين وتسود الرأي العام العربي في أن لا يتم اتخاذ قرارات تصل إلى الحد الأدنى من المنطلقات العربية.
دورية الانعقاد
أما الدكتور مصطفى الفقي -رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان المصري- فيعتبر أن دورية انعقاد القمة العربية يعد إنجازًا كبيرًا. ويصف ما حدث في تونس بأنه كان "صدمة كبرى"، وأن التحركات المصرية التي تمت جاءت إنقاذًا للعمل العربي المشترك، ومحاولة لمعالجة حالة الإحباط التي أصابت الشعب العربي منذ الإعلان عن القرار التونسي المفاجئ بالتأجيل.
ويرى الفقي أن القمة العربية باتت مطالبة اليوم بضرورة تقديم رؤية شاملة لقضية الإصلاح التي كانت موضع خلاف كبير، بشرط أن ترتبط هذه القضية بضرورة تغيير الأوضاع في المنطقة، فلا يمكن إملاء وصفات خارجية على العالم العربي من دون الرد على من يقدمها بأن السبب الحقيقي لقسم كبير مما نعاني منه -على حد قوله- نتيجة ازدواج المعايير والظلم في العلاقات الدولية والانحياز المطلق لإسرائيل.
ويعتقد أن مشكلة العرب الأساسية التي تجسدت خلال الأزمنة الأخيرة تكمن في أن العالم العربي بات يرفض من الشعارات ما هو أعلى من سقفه بكثير، أو أنه بات يتحدث ولا يفعل، ومن ثم فلا بديل عن تحرر الإرادة القُطرية التي هي أول خطوة على طريق الصدق مع النفس.
ويقول الفقي: لقد أصبح العالم العربي مكبلاً بمجموعة من الشعارات الثقيلة التي تنادي بها الجماهير، ولا تستجيب لها الحكومات، فقضية الإصلاح المثارة الآن تنظر إليها كل دولة عربية بمنظورها الخاص، فلا توجد قواسم مشتركة بين الجميع، بينما القضية في أصلها نسبية، وبالتالي فمن الظلم أن يصطف العالم العربي هنا في مستوى واحد، وإنما ينبغي إطلاق طاقاته ليتحرك باتجاه خلق فكرة النموذج .
==============(19/158)
(19/159)
قمة الثمانية.. والشرق الأوسط الكبير
عاصم السيد 19/4/1425
07/06/2004
تعقد مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى قمتها المنتظرة في الفترة ما بين 8- 10يونيو القادم بمدينة سي أيلاند بولاية جورجيا الأمريكية، وعلى رأس أولوياتها مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط،الذي
عدّل إلى "الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا".
وقبل بدء القمة أجرت الدول الكبرى تعديلاً جوهريًا في مبادرة إصلاح الشرق الأوسط التي ستعلن خلال اجتماع قمة الثماني، بما يعكس وجهات النظر العربية والاتحاد الأوروبي ، وأعلنت باريس أن مشروع الشرق الأوسط الكبير أصبح الآن مشروعًا مرضيًا بعد أن اعترف بوضوح بأن مسيرة السلام في الشرق الأوسط تعد عنصرًا مركزيًا لنجاح المشروع .
وقالت مصادر أوروبية إن النسخة الجديدة من المبادرة التي ترعاها الولايات المتحدة ستؤكد أن التغيير في منطقة الشرق الأوسط مشروط بإنهاء العنف الإسرائيلي ـ الفلسطيني .
كما ستركز النسخة الجديدة على الاحترام والحوار والمشاركة بوصفها أساليب مؤدية إلى تحقيق الإصلاح وتأكيد أن زخم التغيير يجب أن يأتي من داخل المنطقة .
وقالت تلك المصادر إن الاتحاد الأوروبي يعكف حاليًا على مهمة شاقة من أجل إجراء تغييرات بالمشروع الأمريكي الأصلي حتى يتسنى إضافة وجهة النظر الأوروبية ـ في أداء المهمة .
والجانب الأمريكي الذي كان رافضًا مبدئيًا التركيز علي الصراع العربي ـ الإسرائيلي في خطة الشرق الأوسط وافق الآن على أنه تجب الإشارة في جدول الإصلاح الإقليمي الذي ستعلنه مجموعة قيادات الدول الصناعية الكبرى خلال اجتماعها إلى أهمية وضع نهاية للأعمال العدائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين التي استمرت على مدار أعوام طويلة .
وسيتم أيضًا تأكيد في بيان مجموعة الثماني حول الشرق الأوسط أن الصراع العربي ـ الإسرائيلي يعد بمثابة أولوية استراتيجية رئيسية ، والاتحاد الأوروبي وضع عمدًا النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني في المقدمة لأن الواضح أن حل الصراع يعد قضية محورية لإرساء سلام ورخاء في منطقة الشرق الأوسط .
مجموعة الثماني أكدت أيضًا أنه يتعين عدم السماح بأن يشكل عدم إحراز تقدم في وضع نهائي للأعمال العدائية بين الإسرائيليين والعرب عقبة أمام الإصلاح ، ففي رأيها أنه يمكن أن تمضي جهود سلام الشرق الأوسط والإصلاح الديمقراطي والتغيير قدمًا على نحو متواز .
كما وافقت الولايات المتحدة أيضًا على تخفيف خطتها الأصلية في أعقاب الانتقادات الحادة من جانب دول عربية وعدد من الحكومة الأمريكية .
لذلك ترى فرنسا مثلاً أن مشروع القرار الأمريكي حول الشرق الأوسط الكبير أصبح قرارًا متوازنًا ومرضيًا بعد أن اعترف بوضوح بأن مسيرة السلام في الشرق الأوسط تعد عنصرًا مركزيًا لنجاح المشروع . يذكر أن فرنسا كانت قد أعربت عن تحفظها حيال مشروع الشرق الأوسط مطالبة بعدم فرض الإصلاحات على دول المنطقة من الخارج
الإسلاميون غيروا نظرة الغرب للإصلاح
وهكذا أصبحت واشنطن مهيأة الآن لكي تترك لكل دولة حرية اتخاذ ما تراه من إجراءات على طريق الإصلاح، وتتخلى عن المطالبة بالتعجيل بها.
والخوف من وصول الإسلاميين إلى الحكم سواء من جانب الأنظمة أو الغرب كان وراء ذلك التغير، والخاسر الوحيد من هذا التحول هو الشعوب العربية والإسلامية المتعطشة للإصلاح والديمقراطية.
ويرى المراقبون أن الأنظمة العربية وكل من الأمريكيين والأوروبيين توصلوا إلى حل وسط، يتم بموجبه تفعيل أطر مواجهة الحركات الإسلامية في المنطقة من قبل الأنظمة، في مقابل التخلي عن الإلحاح في طرح قضايا الإصلاح من قبل الأمريكيين.
أي أن السبب الرئيسي في تراجع الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا عن الضغط على الأنظمة العربية لتطبيق ما أطلق عليه مبادرات إصلاحية للشرق الأوسط هو الخوف من التيارات الإسلامية؛ سواء المعتدلة منها أو المتطرفة.
ويقول مراقبون إن قرار قمة تونس العربية الأخيرة بإدانة العمليات الفدائية الفلسطينية التي تستهدف مدنيين إسرائيليين اتُّخذ مقابل قيام واشنطن بتعديل وثيقة الإصلاحات المقترحة في الدول العربية؛ استجابة لرؤية الأنظمة العربية غير المتحمسة للقيام بإصلاحات سريعة.
وتطلب مبادرة الشرق الأوسط الكبير من الحكومات العربية وحكومات جنوب آسيا تطبيق إصلاحات سياسية واسعة، ومساءلتها عن سجلها في حقوق الإنسان وتطبيق إصلاحات اقتصادية، كما تقترح المبادرة تقديم دعم عسكري وتجاري للدول التي تشملها المبادرة والتي تنفذ الإصلاحات المطلوبة.
الصيغة الجديدة التي ستتدارسها قمة الدول الصناعية تؤكد على خصوصية كل دولة من ناحية وعلى عدم وجود معيار واحد ينطبق على الجميع من ناحية أخرى بشأن الإصلاح.
دول عربية وأفريقية في القمة
وقد دعيت عدة دول عربية إلى المشاركة في قمة مجموعة الثماني، ولا يعرف الأساس الذي اعتمد لاختيارها. وكانت مصر من بين الدول التي وجهت إليها الدعوة لكن الرئيس مبارك اعتذر "لارتباطات لديه"، وفد اعتذر الرئيس التونسي كذلك.(19/160)
وقيل إن قطر لن تحضر وأغلب الظن أن السعودية لن تحضر وأن دولاً أخرى ستشارك مثل اليمن والأردن.
مصر تقول إنها لا ترفض الإصلاح ولا ترفض الحوار حوله لكنها ترفض "إذابة الجامعة العربية". وتقول أيضاً: إن مجموعة الثماني تقدمت بأوراق كثيرة وكان فيها أمر خطير، وهو أنها تريد أن تجمع بين دول عربية وغير عربية مثل أفغانستان وباكستان وتركيا وهي دول صديقة ولكن ظروفها مختلفة عن الدول العربية، في إشارة إلى مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي ستطلق في قمة جورجيا، وهناك إحساس لدى مصر بأن هذه الفكرة قد تؤدي إلى إذابة الجامعة العربية.
ومن جانبه أعلن البيت الأبيض دعوة 5 دول أفريقية لحضور قمة مجموعة الثماني، وهي: غانا ونيجيريا والسنغال وجنوب أفريقيا وأوغندا. والدعوات أرسلت إلى زعماء السعودية ومصر والأردن واليمن والمغرب.
ووجه الرئيس الأمريكي جورج بوش دعوة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان لحضور قمة مجموعة الثمانية الكبار المقبلة لبحث مبادرته للشرق الأوسط الكبير لإجراء إصلاحات إقليمية سعيًا وراء كسب تأييد للمبادرة بعدما رفض بعض القادة العرب دعوة بوش لحضور القمة.
وفي أول كلمة تلفزيونية يوجهها للشعب العراقي أعلن رئيس الوزراء العراقي إياد علاوي الجمعة 4-6-2004 أن رئيس البلاد الجديد غازي الياور ونائبيه سيشاركون في قمة مجموعة الثماني التي ستعقد في الولايات المتحدة من 8 إلى 10 يونيو 2004.
رفض عربي بقيادة مصر
ورقة العمل التي طرحها الرئيس مبارك على القمة العربية في تونس حول مبادرات الإصلاح في العالم العربي تضمنت تحفظات رئيسية على مبادرة الشرق الأوسط الكبير.
أولى الملاحظات على هذه المبادرة هي أن الموقف الأمريكي ما زال بعيدًا عن الرؤية العربية "فما زالت الولايات المتحدة ترى أن الأولوية للإصلاح السياسي بجميع أبعاده" خلافًا للموقف الأوربي الأقرب للموقف العربي وهو "ضرورة تحقيق إصلاح متوازن يبدأ بالإصلاح الاقتصادي".
أما التحفظ الثاني فهو -حسب نص ورقة العمل التي تلاها مبارك أمام القادة العرب- "التجاهل التام" من قبل "واضعي النص المعدل للمبادرة الذي صدر منتصف الشهر الجاري لما يتطلبه الإصلاح من تدرج للحفاظ على الاستقرار وللحيلولة دون سيطرة قوى التطرف والتشدد على مسار الإصلاح".
والتحفظ الثالث هو أن المبادرة "تسعى منذ وضعها إلى إيجاد إطار أوسع من إطار الجامعة العربية". وبرغم تطور الورقة من اقتراحها بادئ الأمر أن يتبع الإصلاح في العالم العربي نموذج منظمة الأمن والتعاون في أوربا ثم تحويله إلى اقتراح باتباع نموذج منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي فإن كل هذه المفاهيم تستهدف وضع هياكل بديلة لجامعة الدول العربية".
أما التحفظ الرابع، فهو "أن المبادرة ستسعى للفصل بين جهود دعم الإصلاح من جهة والتعامل مع القضايا السياسية ذات الأهمية الحيوية بالنسبة للمنطقة العربية -خاصة قضية العراق- من خلال النص صراحة على أن عدم إحراز تقدم في التعامل مع القضايا السياسية يجب ألا يحول دون المضي قدمًا في تنفيذ خطط الإصلاح".
والتحفظ الخامس هو أنه "مع كل ما تقدم تسعى المبادرة لإدخال الناتو (حلف شمال الأطلسي) كطرف في دعم جهود الإصلاح".
وأضاف مبارك: "إذا كان الغطاء المقترح لتدخل الناتو هو دعم الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب فإن سبيلنا في تحقيق ذلك يقوم على تصحيح الفكر وتدعيم ثقافة المجتمعات العربية والسعي إلى تسوية القضايا السياسية والاقتصادية والتي تنتج عنها حالة الإحباط والتطرف والضعف".
بوش واستغلال المشروع انتخابياً
الولايات المتحدة تسعى إلى إقناع مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى بالالتزام بدعم الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية بالشرق الأوسط، وهو مشروع طموح خففت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش منه بعد الانتقادات التي أثارها.
ويشكل "الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا".. "الطبق الرئيسي" خلال مأدبة غداء بين قادة مجموعة الثماني (الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، وكندا، وروسيا) وقادة 6 دول إسلامية تمت دعوتها في هذه المناسبة، وهي: أفغانستان، والجزائر، والبحرين، والأردن، وتركيا، واليمن، ينضم إليهم الياور.
وجعل بوش من هذه الفكرة أحد محاور معركته على الإرهاب، وقدمها على أنها الشق السلمي لتحركه ضد التطرف، بعد استخدام القوة في أفغانستان والعراق. وقال بوش: "على المدى القصير سنعمل مع كل حكومة في الشرق الأوسط تحشد قواها للقضاء على الشبكات الإرهابية". وأضاف "على المدى الأبعد ننتظر من أصدقائنا في المنطقة مستوى أفضل من الإصلاحات والديمقراطية".(19/161)
وفي حين يسعى بوش إلى جعل العراق واجهة إحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط، زاد هذا النزاع الذي ينظر إليه الرأي العام العربي على أنه حملة استعمارية من تشكيك هذا الجزء من العالم بأي مبادرة أمريكية. وتريد واشنطن الآن خصوصًا أن تعرب مجموعة الثماني عن اهتمامها بجهود إحلال الديمقراطية والتحديث في هذه المنطقة، مشددة في الوقت ذاته على أن هذه المشاريع يجب أن تصدر عن الدول المعنية أنفسها.
ويبخل المسئولون الأمريكيون بالتفاصيل حول الجوانب الملموسة لهذه المشاريع، لكنهم يأملون الاستفادة من انعكاسات قمة الدول العربية التي انعقدت في تونس في مايو 2004، واعتمدت وثيقة "التطوير والتحديث" لإدخال إصلاحات في العالم العربي
=============(19/162)
(19/163)
القمة ومحرقة المقاومة
عبد الرحمن فرحانة 23/4/1425
11/06/2004
قبيل الإعلان عن نتائج قمة تونس التي انعقدت في 23/24 من مايو 2004م خرج علينا أمين الجامعة العربية عمرو موسى بتصريحات متفائلة قائلاً : إن في قرارات القمة مفاجأة غير سارة لأعداء العرب. وانتظرنا مفاجأة القمة السارة لنا باعتبارنا نعيش حالة عطش سياسي في هذا المناخ العربي القاحل.
لم يطل انتظارنا، وكما عهدنا العهد الأندلسي الجديد؛ فإذا بالقمة تقلب المفاجأة السارة إلى كارثة عربية هللت لها الصحف العبرية بعناوين عريضة وعلى صدر صفحاتها الأولى مشيدة بالتعقل والحكمة العربية ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني!
القمة الرشيدة لم يحركها مشهد العجوز الفلسطينية التي بدت تبحث عن دواء لها بين أنقاض بيتها الذي سحقته الجرافات الصهيونية في رفح ، وكان قلب القاتل على الضفة الأخرى أرق من القلوب العربية الرسمية الصخرية حينما صرح ليبيد وزير ما يسمى بوزارة العدل الصهيونية قائلا : لقد ذكرتني تلك العجوز بجدتي في الهولوكوست اليهودي أيام النازية.
الهولوكوست اليهودي التاريخي تحرك في قلب هذا القاتل حينما نبشه المشهد الفلسطيني ، بينما أبناء جلدتها بدلاً من أن يغيثوا هذه العجوز الفلسطينية التي اكتحلت عيناها المتجعدتان بغبار منزلها الذي سحقته جرافات شارون، بدلاً من النصرة أو الإغاثة؛ تقوم القمة العتيدة بحرق مظلومية مشهد هذه العجوز، وتسقط شرعية المقاومة التي تدافع عنها.
أدانت القمة العتيدة "العمليات التي تستهدف المدنيين (بدون تمييز)؛ لأنها "لا تخلف إلا العنف والعنف المضاد ، باعتبارها لن تؤدي إلى إقامة السلام الذي تحتاج إليه المنطقة" . وعندما طلب الوفد اللبناني حذف جملة (بدون تمييز) تعللت القمة بخطاب عرفات الذي أدان فيه كافة العمليات التي تستهدف المدنيين من الجانبين وذلك في خطابه للقمة، وبذلك جعلوها في رقبة عرفات .
ليس جديداً على الموقف العربي الرسمي ألا يكون مكافئاً للحالة الفلسطينية ، ولكن الجديد أن يسقط القرار العربي في هذه الهوة العميقة من حيث "تجريم" المقاومة، ومساواة الجلاد مع الضحية، مع ما يتضمنه هذا القرار من حرمان للمقاومة الفلسطينية من أقوى أسلحتها في المواجهة مع الكيان الصهيوني.
القرار العربي هذا جاء على قاعدة صفقة بين الإدارة الأمريكية والعرب، مفادها أن تنحى الأنظمة هذا المنحى الخطير مقابل أن تخفف الإدارة الأمريكية من الضغوط فيما يتعلق بمتطلبات الإصلاح التي تقتضيها مبادرة الشرق الأوسط الكبير، بمعنى أن العرب باعوا المقاومة مقابل شرعية البقاء السلطوي.
المنطق السياسي يقول إنه كلما شدد العدو الصهيوني على الفلسطينيين من المفترض أن يزيد التأييد العربي لهم باعتبارهم العمق الاستراتيجي، ولأن فلسطين مجرد الوكر الذي تبيت فيه الأفعى الصهيونية بينما سمومها تستهدف العالمين العربي والإسلامي ، ولكن المعادلة العربية المقلوبة : كلما زاد الضغط الصهيوني خضع الموقف العربي أكثر بمفاعيل الهيمنة الأمريكية . ولو قرأنا الخط البياني للموقف العربي منذ بداية الانتفاضة الحالية؛ لوجدناه منحدرًا نحو الأسفل بسرعة صاروخية، إذ إن سقفه في البداية وصل لحد الشجب والإدانة مع تقديم المعونات الإنسانية ، ثم انحدر نحو الصمت مع الاستمرار في تقديم المعونات الإنسانية ، ثم انحدر نحو الصمت والمشاركة في الحصار ومنع المعونات الإغاثية ، ثم انتقل نحو تجريم المقاومة بإدانة العمليات الاستشهادية - أقوى اسلحتها - ، وأخيراً انحدر الموقف العربي نحو التواطؤ والضغط على الفلسطينيين للموافقة على أجندة شارون . وتشير بعض المصادر الصحفية في هذا الإطار أن مع عرفات مهلة حتى الخامس عشر من حزيران ليقرر حول موافقته على خطة شارون ، وما تتضمنه من تنازله عن إدارة الملف الأمني وانتقاله إلى غزة باعتبارها نموذج الدولة الفلسطينية الاختباري وفق الطرف العربي الذي طرح العرض ، بينما المؤشرات تنبئ أن العرض هو غزة أولاً وأخيرًا ، حيث تتنبأ بعض المصادر أن الضفة سيتقاسمها دور وظيفي من مثلث الأطراف : الأردن و"إسرائيل" والفلسطينيين . وفي المحصلة الدولة الفلسطينية هي غزة فقط.
وعودة لقرار القمة المتعلق بإدانة العمليات الاستشهادية؛ فماذا يعني هذا القرار ؟
لو قدر لهذا القرار أن يترجم ميدانياً، وبفضل الضغط الأمريكي ستُجبر الأطراف العربية على ترجمته ، مما يعني قطع الطرق على المقاومة وبالذات ستُمنع حماس من الثأر لقادتها التي وعدت بالانتقام لهم، هذا في المدى المنظور القريب. وفي أفق أبعد سيتحول هذا القرار لمحرقة للمقاومة، لأن أمريكا ستطلب بعد أية عملية استشهادية من كل العواصم العربية أن تستنكرها ، وستمنع هذه العواصم من استضافة أو السماح لقادة المقاومة أن يتواجدوا على أراضيها.
فهل باعت القمة المقاومة في السوق الأمريكي الرخيص مع أن بوش لن يدفع الثمن؟!
=============(19/164)
(19/165)
من يملأ الفراغ الاستراتيجي العربي؟
السيد أبو داود 5/5/1425
23/06/2004
حالة الفراغ الاستراتيجي التي يعيشها العالم العربي لا تخفى على أحد، وكانت أبرز تجلياتها في الاحتلال الأمريكي البريطاني للعراق وإسقاط بغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الحضارة الإسلامية، وحالة الفراغ الاستراتيجي هذه ليست وليدة اللحظة الراهنة ولا هي من تجليات حرب الخليج الثانية وحصار العراق وكذلك حصار ليبيا والسودان وسوريا، إنما هذه الحالة موجودة منذ انهيار الخلافة العثمانية التي ظلت تملأ هذا الفراغ وتدافع عن العالم العربي والإسلامي لفترة زادت عن الخمسة قرون ضد الاستعمار الأوروبي، في بداية مرحلة الضعف هذه ومع الحرب العالمية الأولى ظهر وعد بلفور والنوايا الصهيونية الخبيثة في فلسطين ثم جاء عصر الانتداب وكان معه وقبله الاحتلال البريطاني الفرنسي للدول العربية.
وهكذا انكشف الوطن العربي استراتيجيًا أمام القوى الدولية ذات النفوذ بدءًا من العهد الاستعماري وحتى الآن.
وحتى بعد أن حصلت الدول العربية على استقلالها فقد ظل هذا الفراغ موجودًا، وتمثل في الاستقطاب الأمريكي لبعض الدول العربية والاستقطاب السوفيتي لبعضها الآخر حتى جاءت قارعة أحد 11 سبتمبر 2001 لتتحول أمريكا من التدخل غير المباشر في المنطقة إلى التدخل المباشر والكامل وممارستها العدوان العسكري وإزالة نظام سياسي عربي مستقر.
إن عددًا من المحللين العرب يرجع حالة الفراغ الاستراتيجي العربي هذه إلى الكساح الاقتصادي والسياسي والأمني الذي يعيشه العرب والذي جعلهم مطمعًا لقوى النفوذ الدولي.
فحالة التخلف السياسي العربي وعدم وجود نظام ديمقراطي أدى إلى تكوين حالة خاصة من الاغتراب السياسي نتيجة للتسلط والدكتاتورية التي مارستها الدولة في عالمنا العربي لعقود طويلة.
ويُرجع البعض حالة التخلف السياسي هذه إلى العصر العباسي الثاني الذي انفصلت في ظله السلطة السياسية عن المجتمع العربي وأخذت ترتبط بالعناصر التركية التي شكلت نخبة عسكرية اضطلعت بالقضية الأمنية فحالت بين المجتمع العربي وبين أداء الدور العسكري "الجهادي"، وفي المقابل تحكمت في سلطته السياسية وموارده الاقتصادية مما قاد إلى نوع من الانفصال بين المدني والعسكري والسياسي والأمني، ترسخ في العصرين المملوكي والعثماني واستمر في ظل السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية على مجتمعاتنا العربية التي لم تنجح في تجاوز ذلك عند تشكيل دولها الوطنية الحديثة.
محاولات أمريكية قديمة
لقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية التدخل في المنطقة في خمسينات القرن الماضي بعد حرب السويس بإطلاق الرئيس الأمريكي أيزنهاور استراتيجية "ملء الفراغ" مرة تحت عنوان "حلف الدفاع عن الشرق الأوسط" ومرة أخرى تحت عنوان "حلف بغداد"، ولكن هذه المحاولات فشلت في ظل وجود الاتحاد السوفيتي والقومية العربية وجمال عبد الناصر.
ورغم كل شيء يقال عن القومية العربية فقد ظلت حائط صد وملأت الفراغ الاستراتيجي، ولكنها تلوثت على أيدي مستبدين استغلوها لتحقيق أحلام خاصة.
وإذا كانت القومية العربية بفعل مكنونات الاستبداد داخل قادتها قد فشلت في مواجهة الصهيونية ومحاولات السيطرة الأمريكية فإن التيارات الإسلامية الناهضة تبدي مقاومة عنيفة للأمريكان والصهيونية واضطرها الضغط الأمريكي إلى ممارسة أشد أنواع العنف كطريق وحيد متاح للعمل السياسي.
متغيرات جديدة
لقد ظهرت متغيرات جديدة بعد حرب الخليج الثانية وزادت وضوحًا بعد احتلال العراق جعلت الأمر مختلفًا ومعَقَّدًا بالنسبة للدول العربية على مختلف الأصعدة الدولية والإقليمية والعربية وتتكامل هذه الظروف فيما بينها لتنشئ واقعًا جديدًا يملأ الفراغ الاستراتيجي بعد ترهُّل وشيخوخة النظام العربي وعدم جدواه.
على الصعيد الدولي كان انهيار الاتحاد السوفيتي خطرًا على العالم العربي وهو الذي كان يناصر إلى درجة كبيرة الحقوق العربية في المحافل الدولية ويتصدى للمخططات الأمريكية ثم حاصرت أمريكا والغرب الشيوعية وأماتتها داخل بلادها وقضت عليها.. بعد ذلك تفرغت أمريكا لأمرين: الأمر الأول: هو حماية النفط وضمان تدفقه بنظام معين وحجم محدد وسعر مناسب. والأمر الثاني: هو الحفاظ على أمن إسرائيل ونسج مشروع جديد باسم "النظام الشرق أوسطي" تكون لإسرائيل فيه القيادة.
وعلى الصعيد الإقليمي نشطت تركيا وطرحت مشروعاتها ذات الطابع الاقتصادي وتحالفت استراتيجيًا مع إسرائيل.
وعلى الصعيد العربي شهدت العلاقات العربية تمزقًا غير مسبوق وغاب التضامن العربي وانهار الرابط القومي بين الدول العربية وانحسر المد القومي وترسخت القطرية وظهرت نزعات قطرية استقلالية وتفاعلت المصالح القطرية مع المصالح العالمية وخاصة الأمريكية وهو ما أفرز حالة الاستعانة بالقوات الأجنبية.
مشاريع ملء الفراغ
ولهذا ظهرت على الساحة عدة مشاريع لملء هذا الفراغ منها مشروع نظام البحر المتوسط وإعلان دمشق ومشروع الشرق الأوسط الذي تم تطويره مؤخرًا باسم "الشرق الأوسط الكبير".(19/166)
وبالنسبة لمشروع نظام البحر المتوسط فثمة توجهات فكرية وسياسية وثقافية لتوثيق العلاقات بين الجانبين البحر المتوسط تجسدت في "مؤتمر الأمن والتضامن في البحر المتوسط" واقترح الاتحاد الأوروبي عقد الاجتماع التمهيدي له عام 1995 ويشمل منطقة تجارة حرة لأربعين دولة ويعالج شؤون الأمن المتبادل والهجرة إلى أوروبا والإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وينظم شؤون التجارة ومشاريع النفط والغاز، ويدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويختص بشؤون الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وينتظم ذلك كله في ميثاق ومؤسسات.
ولكن يواجه هذا المشروع مشكلات كثيرة مثل: تحديد إطاره الجغرافي؛ فهناك دعوات لأن يضم دول المغرب العربي الخمسة فقط بالإضافة إلى البرتغال وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ومالطا، وهناك دعوات لإطار أوسع ودعوات لنظام أكثر سعة مما أدى لإرباك الدعوة وعدم نجاحها.
وبعد حرب الخليج الثانية أيضًا ظهر "إعلان دمشق" الذي تناول فيه مجلس التعاون الخليجي الست بالإضافة إلى مصر وسوريا إلى الاجتماع في دمشق، وانتهى الاجتماع بإصدار "إعلان دمشق" الذي أعلن بناء نظام عربي جديد، ولكن هذه الصيغة لم تستطع الصمود أمام تطورات الوضع في المنطقة، وهناك مشروع الشرق الأوسط الذي تم تطويره إلى "الشرق الأوسط الكبير" وهو المشروع الذي يعد له الفكر الصهيوني منذ إنشاء دولة إسرائيل في الأربعينيات، ويعد شيمون بيريز أبرز منظريه والمشرفين عليه في الوقت الراهن.
وترى أمريكا وإسرائيل أن جميع الظروف مهيأة الآن لانطلاق هذا المشروع والذي تكون فيه إسرائيل هي القائدة حيث سيعتمد على التكنولوجيا الصهيونية والأيدي العاملة والسوق العربية ورغم أن هناك إلحاحًا أمريكيًّا لتمرير هذا المشروع إلا أن الوجود الإسرائيلي سيفسده والأمة تواجهه بكل عنف وخاصة على مستوى الفصائل الإسلامية، ولن ينجح إلا مشروع ينبت من داخل العالم العربي تقوده مصر والسعودية وسوريا ويحظى بإجماع الدول العربية أو غالبيتها ليعالج ويصحح مكامن الضعف في النظام الحالي.
============(19/167)
(19/168)
فرض الإصلاح ..مستحيل
محمد المصري 6/5/1425
24/06/2004
تحت عنوان "خادمات مقابل محتلين" رفض توماس فريدمان الكاتب الأمريكي المعروف بجريدة نيويورك تايمز الصادرة بتاريخ 17 يونيو 2004 الطريقة الجبرية التي تنتهجها أمريكا لفرض ما تسميه عمليات الإصلاح في الشرق الأوسط ومؤيدًا لخروج الإصلاح من الداخل العربي، طارحًا على خلفية ذلك طريقة جديدة لأمريكا لترويج أفكارها الإصلاحية في العالم العربي ويسوق في هذا الإطار بعض الادعاءات التي تؤيد فكرته المزعومة.
ويقترح الكاتب الأمريكي التقليل من الوجود الأمريكي في المنطقة العربية وترك المجال للشعوب لأن تقارن فيما بينها وبين دول جنوب شرق آسيا التي كانت ندًا لها والآن لتبنيها عمليات إصلاحية أصبحت تتبوأ مكانة كبرى بين دول العالم، مستشهدًا بالخادمات والعمالة المتدنية الشرق آسيوية التي تستجلبها الدول العربية وكيف أن هذه العمالة بدأت ترتقي لوظائف عليا معتمدة في ذلك على تطورها الذاتي على حد رأي فريدمان.
إصلاح من الداخل
يقول فريدمان: "زيارتي للهند والصين خلال الأشهر القليلة الماضية أخبرتني كم نحن كأمريكيين في حاجة لإنهاء عملنا في العراق والتقليل من تواجدنا هناك ليس لكي نغسل أيدينا من فكرة وضرورة ترويج الإصلاح في العالم العربي، بل لكي نستطيع دفع تلك الجهود.
فنحن لا نستطيع فرض الإصلاح على العرب.. انظر كيف قوبل اقتراح بإصلاح مخفّف خلال اجتماع قمة الثماني الكبرى (مبادرة الشرق الأوسط الكبير) في العالم العربي والإسلامي.. فلم يعر أحد الانتباه إليه، فالفكرة قتلت ككل خلال طريقها للوصول لأنها صنعت في أمريكا، الواسعة النشاط الآن في العالم العربي.
فالضغط من أجل التغيير يجب أن يأتي من الداخل، وأعتقد أنه من الممكن ذلك إذا ما قللنا من تواجدنا، ثم بعد ذلك يجب على العالم العربي أن ينظر بشكل واضح في حقيقة أنّ الصين، والهند، وسريلانكا، والفلبين وكل البلدان التي تزوّد طبقات الصفوة في السعودية وباقي الدول العربية بالخادمات والمهن اليدوية في أعمال الإنشاءات قد قفزت كثيرًا للأمام عن طريق التنمية الخاصة بهم وبدأوا يحصلون على وظائف جيدة الآن بعيدًا عن أمريكا.
إبعاد الوجه الأمريكي
هناك طريقان أمام الولايات المتّحدة لترويج الإصلاح في العالم العربي ..أحد الطريقين هو محاولة فرض الإصلاح بالقوة وهو ما لا يأتي بنتيجة.
فالسياسة الأمريكية أصبحت مكروهة جدًا في العالم العربي؛ فمن هم ضد الإصلاح يستطيعون إعلان عدم شرعية عملية الإصلاح بسهولة بتعريفه على أنه "مؤامرة أمريكية لتدمير الإسلام" كما أن المصلحين يصمتون لأنهم لا يريدون الظهور كمروجين لأجندة أمريكية.
الطريق الآخر لنا لترويج الإصلاح أن نبتعد عن الطريق بحيث تستطيع الشعوب في الشرق الأوسط أن ترى بشكل واضح كيف أن العديد من أطفال خدمهم من الهند والصين وسريلانكا والفلبين بدأوا يبرَعون في الرياضيات والعلوم والهندسة، تاركين الأطفال العرب في التراب.
ويزعم فريدمان -في محاولة لإلهائنا عن النخر الأمريكي في المنطقة- قائلاً: "فقط عندما يركز العرب على ما يفعله أطفال خدمهم في العالم لا على ما تفعله أمريكا في منطقتهم سيتذكرون ثانية أحد أحاديث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الأكثر شهرة الذي يقول فيه: "اطلبوا العلم ولو في الصين" كواجب على كل مسلم.
مقارنات هشة
وفي إطار محاولاته لتعضيد طرحه المزعوم يقارن فريدمان بين حالتين قائلاً:"لم أذهب إلى الصين منذ عام 2001، ومن أول الأشياء الجديدة التي لاحظتها هنا هي عدد النساء اللواتي يبعن بطاقات الهاتف الخلوي، بينما إسلاميون في العراق والسعودية يستعملون تقنية التليفون الخلوي والسيارات لصنع القنابل".
ولأسباب أكبر نحن -العدو الملموس- في حاجة لتسليم السلطة لحكومة عراقية منتخبة، وتحريك قواتنا في الخلفية، وإذا استطعنا أن نفعل ذلك، أقترح بأن تدعو قمة الثماني الكبرى للعام القادم كلاًّ من الصين والهند وعقد قمة للعشر الكبرى إما في إحدى الشركات الهندية الأصيلة أو في محور شنغهاي الصناعي. ثم ندعو الزعماء العرب للحضور حيث كانت تعتبر الهند والصين نظائر للعرب في يوم من الأيام.
إن التغيير الحقيقي سيحدث عندما يرى العرب شيئًا في هاتين الدولتين يقارنون فيه أنفسهم بهما ويتوصلون إلى استنتاجات ليست مفروضة عليهم.
فقد كان عملنا أن يتم تحطيم العراق القديم ووضع الأسس لعراق جديد، أما الآن فنحن نحتاج للتقليل من وجودنا حتى تستطيع الشعوب في العالم العربي والإسلامي أن ترى بشكل واضح شيئًا ما نحن نعرقل رؤيته وهم يتجاهلونه عن عمد وهو أن عالم اليوم يريد أن يستثمر في أطفال جواريهم أكثر من أطفالهم وعندما ينفذون إلى تلك الحقيقة جدًا هم أيضًا سيتبنَّوْن الإصلاح
=============(19/169)
(19/170)
البطحي: تقرير(راند) يستهدف السعودية
حوار: عبد الله بن محمد الرشيد 20/5/1425
08/07/2004
الحرب العسكريّة على الإرهاب لم تعد كافية في نظر المحافظين الجُدد ؛ فمنذ الحادي عشر من سبتمبر قام العديد من الكتاب والعلماء وصنّاع القرار والباحثين بتأمل دور الإسلام في المجتمعات المسلمة. في الوقت الذي يتمّ فيه إعادة رسم الحدود الثقافيّة والاجتماعيّة في كل من واشنطن ولندن، وهي إستراتيجية يحاول الغرب من خلالها أنْ يسيطر على "الأصوليّة الإسلاميّة" بمساعدة المسلمين "المعتدلين".
وهذا الذي يكشفه لنا مفصلاً التقرير الأخير الصادر عن مؤسسة راند ، ومقرها في الولايات المتحدة، وبتمويل من مؤسسة (سميث ريتشاردسون) المحافظة، حيث يأتي تقرير (الإسلام الديمقراطي المدني ، الشركاء والمصادر والاستراتيجياّت ) عن مؤسسة "راند" الأحدث في سلسلة من الأوراق السياسيّة المتخصصة التي تهدف إلى تشديد الهجمة العسكريّة والاقتصاديّة والثقافيّة الغربيّة على العالم الإسلامي ، واستئصال الأصولية الإسلامية التي تعاظم الحديث عنها بعد 11 سبتمبر .
ولتسليط مزيد من الضوء على هذا التقرير ، ومناقشة أبعاده وخفاياه ، يسرنا أنْ يكون معنا المهندس سليمان البطحي - المشرف على موقع اللجنة العالميّة لنصرة خاتم الأنبياء r -.
بعيداً عن تفاصيل ودقائق هذا التقرير، هل ترى أنّ لهذا التقرير قدرة تنفيذية ؟ بحيث إنه يمثل رأيا رسميا ينتقل إلى دوائر التنفيذ ؟ بعبارة أخرى ما مدى خطورة هذا التقرير ؟
ليتبين لنا مدى تأثير مثل هذه التقارير على صانعي القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، علينا أن نعرف مصدر هذا التقرير، ومركزه والذين يقومون بتمويله للحصول على استشارات ونصائح حول مواضيع تتعلق بالسياسة الخارجيّة أو المحليّة. وإليك بعض المعلومات تساعد في الإجابة عن سؤالك:
أولاً : صنع القرار في الولايات المتحدة في عصرنا الحاضر يؤثر فيه جماعتان، الأولى: "الإنجيليين الجدد" الذين يجعلون العداء والصراع مع العالم الإسلاميّ صراعاً دينيا، أما الجماعة الثانية: فتتمثل في تيار "المحافظين الجدد" والذين يقومون بمهمة البرمجة ووضع السياسات والاستراتيجيات العامة، وبين هاتين الجماعتين تقبع مؤسسات ضخمة تعنى بالفكر الاستراتيجي وتحويله إلى خُطَط ، خرائط ، برامج ، وأولويات يطلق على هذه المراكز "Think Tanks" أي "دبابات الفكر" وهي تسمية تمزج الفكر بفلسفة القوة، وهي تعبر عن التحالف بين الفكر والسلاح في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تمثل قوى ضاغطة وفاعلة تعمل بنشاط قلّ مثيله في العالم، وتعتبر مؤسسة "راند" مصدر هذا التقرير أحد هذه الدبابات الفكريّة
ثانياً : هذه المراكز تبدو وكأنّ دورها لا يعدو تقديم الاستشارة، إلا أنّ تأثيرها لا يمكن تجاهله بل وإسهامها في التنفيذ، انظر مثلاً ما حدث في كوريا الجنوبية من تخفيض لعدد القوات الأمريكيّة بهدف تخفيف حدة العداء للولايات المتحدة هناك لقد كان ذلك بناء على دراسة وتوصيات تقدمت بها مؤسسة "راند" مصدر هذا التقرير. وعلى حد علمي فإنّ هذا المركز بدأ يعمل من دولة قطر من خلال فرع برئاسة "شيرلي برنارد": عالمة الاجتماع، والباحثة الرئيسية، وكاتبة هذا التقرير، و زوجة زلمي خليل زاده الذي يشغل منصب المساعد الخاص للرئيس بوش، ومبعوثه الخاص إلى أفغانستان، وأحد المقرّبين منه، وهو أيضاً رئيس لمجلس إدارة مؤسسة" راند" التي تبنت إعداد هذا التقرير بتمويل من مؤسسة سميث ريتشاردسون..
أعتقد أنّ ما ذكرت كافٍ لتوضيح خطورة هذا التقرير، والقارئ له بعناية سيرى أنّ تنفيذ هذا المخطط قد بدأ بالفعل في (منطقة الجزيرة العربية) وبالأخص في المملكة العربية السعودية.
ما الجديد في هذا التقرير ؟ وهل هناك علاقة بين هذا التقرير ومشروع الشرق الأوسط الكبير؟.
الجديد في هذا التقرير تحديد المصادر والشركاء والإستراتجيات بناءً على فئات محددة في المجتمع يرى أنهم مناسبون لتنفيذ مشروع "الإسلام الديمقراطي المدني" بمعنى -حسب ما ورد في التقرير- "عالماً إسلامياً متوافقاً مع باقي النظام الدولي ، يكون ديمقراطيا،ً ومستقرًا سياسياً، ومتطورًا اجتماعيا، وقابلاً للنمو اقتصادياً ، ومواكباً لأنظمة وقوانين السلوك الدولي" أي عالم إسلامي بمواصفات أمريكية.
أما مشروع الشرق الأوسط الكبير فمن المحتمل أنْ يكون قد بُنِي على مثل هذه الدراسة وغيرها، كما يمكن اعتبار التقرير آليات تنفيذية لبعض النقاط التي وردت في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتخدم مشروع القرن الأمريكي الجديد.
ما رأيك في المصادر التي اعتمد عليها التقرير ؟ هل تحقق فيها جانب البحث العلمي الدقيق؟
مصادر التقرير غالبيتها غير محايدة، وإنْ كانت بعض المعلومات صحيحة؛ فهناك بعض المغالطات فيه نذكر منها على سبيل المثال: ما ذُكِر حول فقدان سورتين من القرآن الكريم ، وكل ذلك دون استشهاد أو دليل. وما نقله عن صحيح البخاري كان من أحد الكتّاب العلمانيين.(19/171)
ما هي المنطقة التي عناها التقرير بالحديث والتفصيل؟ حيث نراه يفصل في تصرفات المتشددين والتقليديين وغيرهم وكأنه يقصد منطقة محددة، إذ إنه من المعلوم أن تصرفات هذه الفئات تختلف من منطقة إلى منطقة في العالم الإسلامي ؟
الناظر للتقرير بعين فاحصة يرى أنّه ركز على مجتمع معين تنطبق عليه الأطياف التي ذكرها وأعتقد أنها تستهدف منطقة الجزيرة العربية والمملكة العربية السعودية بالتحديد، وإن كان قد تعرّض في بعض فقرات التقرير لمناطق بعينها كإيران وباكستان وغيرها إلا أنه يذكر أشياء لا وجود لها إلا في المملكة العربية السعودية.
ألا ترى أنّ التقرير قدّم تفسيراً سطحياً لبعض الممارسات الإسلاميّة، مما يشير إلى جهل واضح بطبيعة التركيبة أو النفسيّة الإسلاميّة ودوافعها، مثلاً عندما يصف التقرير الإسلام الراديكالي بأنه يحول الشباب إلى انتحاريين مستغلاً رغبتهم في البطولة والإثارة، ويعد التقرير ذلك عيباً يجب على الحداثيين استغلاله !! ما قولكم؟
لا أرى أنّ تفسيره لبعض الممارسات الإسلامية كانت سطحية، بل على العكس فقد قدم تفسيرات واقعيّة لكثير منها، والمثال الذي ذكرته من تحويل بعض الشباب إلى انتحاريين في الواقع موجود لدينا، فالتقرير ركّز على أنّ الحركات الجهادية المسلحة كتنظيم "القاعدة" والمؤيدين لها يعملون على استغلال الأوضاع التي يمر بها العالم الإسلامي وحالات القهر التي يعيشها المسلمون في أنحاء العالم بسبب السياسات الأمريكية لتوظيف الشباب من أجل تحقيق أهدافهم، ولهذا فهو يعتبر أنّ ذلك عيباً يمكن استغلاله ضد فئة معينة هم "المتشددون الراديكاليون". إلا أنّه يستغل حالياً لضرب جميع الأطياف الإسلاميّة عبر "الحداثيين " و "العلمانيين"!.
ركز هذا التقرير بشكل واضح على التقليديين باعتبار أنهم فئة يجب استغلالها لضرب المتشدّدين.. أولاً وبصورة مبسطة: ماذا يقصد التقرير بالتقليديين ؟ وهل ترى أنّ هناك خلطاً بين التقليديين والمتشدّدين يحاول التقرير جاهداً أنْ يفصل بينهما ؟ وهل يحمل هذا التقرير تحذيراً للتقليديين بأن يكونوا على أهبة الاستعداد والانتباه لأيّ استغلال لهم ؟ وما هي الخطوات التي تراها مناسبة لتفويت هذه الفرصة عليهم؟
ذكر في ثنايا التقرير أنّه يصعب الفصل بين الفئات، وأنّ الفاصل بينها غير واضح، وقد يكون هناك بعض التداخل، ولذلك حاول التقرير أنْ يحدد بعض الموضوعات الرئيسة مثل (مصادر التشريع ، الجهاد ، والديمقراطية وحقوق الإنسان ، والحريات الشخصية، والدولة الإسلامية، وتعدد الزوجات ، وضرب الزوجة، والمشاركة العامة للمرأة، والحجاب ) ومقابلها رأي أو موقف كل فئة من هذة الموضوعات ليتحدّد بالتالي انتماؤها.
والتقليديون يُراد بهم السواد الأعظم من المسلمين السنة، و «تشجيع عدم الاتفاق» بين "المتشددين" و "التقليديين" هو ما يهدف إليه التقرير، وذكر أساليب يُستفاد فيها من "التقليديين" لمواجهة "المتشددين"، ولا يعني ذلك أنّ التقليديين هم الفئة التي يعوّل عليها، ولكن يمكن الاستفادة منهم مرحليا، حتى يصلوا إلى الفئة التي تستطيع تحقيق "الإسلام الديمقراطي المدني" وهم الحداثيون وعامة العلمانيين الذين لا يملكون حالياً مقومات التأثير كالمتشددين والتقليديين؛ لذا أوصى التقرير بدعمهم لأنّهم الفئة المناسبة.
وبغض النظر عن هذه الأطياف والتقسيمات التي ذُكِرت وأطراف الصّراع فيها، فإنّ أعظم الخطوات لتفويت مثل هذه الفرصة؛ أنْ نعمل على دراسة مثل هذا التقرير وغيره، والبحث عن المغالطات التي تنشر عن الإسلام ورصدها، ووضع رؤية إسلاميّة مقابلة لها تساهم في مواجهة هذه الحملة، كذلك العمل على الاتصال مباشرة بالفئات المستهدفة، وبالأخص أهل العلم والعمل معهم على تشجيع الحِوار الهادئ بين جميع أطياف المجتمعات الإسلاميّة المختلفة، وألا ننساق وراء افتعال الخصومات، وأنْ نتجنب الخوض في صغائر الأمور مع التوافه الذين يتكلمون في أمر العامة.
قصة (حروب الحديث) حيث يشير التقرير إلى تحريف الحديث النبوي كوسيلة تكتيكية من أجل كسب المناظرات ضد المتشددين ، ألا ترى أنّ هذه الوسيلة قد بدأ استخدامها فعلاً ؟ و كيف تقدر أثرها على عقول العامة ؟
أعتقد أنّ التقرير قصد بـ "حروب الحديث" الاستفادة من الخلاف في تفسير أو شرح بعض الأحاديث بين " المتشددين" و "التقليديين" بحيث ينشغل كل منهما بالآخر في محاولة لإسقاط الخصم أمام العامة، وأعتقد أنّ هذا قد بدأ تطبيقه فعلياً ، فالمطّلع على بعض وسائل الإعلام والإنترنت تساهم بدون أن تعلم - إذا افترضنا حسن النيّة- في هذه الحروب.
لقد ذكر المؤرخ البريطاني اليهودي " برنارد لويس" في إحدى لقاءاته : "شكرا لوسائل الاتصالات الحديثة، لقد سهلت علينا مهمة اختراق الدول الإسلامية المغلقة لنشر مبادئ الديمقراطية "!
كيف تقرأ هذا الربط المتعمد بين "حركة طالبان" والتيار المتشدد والتقليدي في السعودية ؟(19/172)
من الواضح أنّ الربط في التقرير مبنيٌّ على نظرتهم إلى قضايا محددة، وأعتقد أنّهم يقصدون أنّ هناك عوامل مشتركه بين التيار المتشدّد والتقليدي في السعودية أو ما يسمى"بالوهابية" التي تدعمها الحكومة السعودية وحركة طالبان. مثل تطبيق الشريعة الإسلامية، وما يتعلق بمعاملة المرأة، انتهاك حقوق الإنسان، تدمير الكنوز التاريخية.
طرح التقرير مذاهب إسلامية بديلة أو وسيلة لضرب الإسلام المتشدد كما يقول التقرير كالصوفية ، والإسلام الشيعي ، والمذهب الحنفي . هل يعني ذلك أن هذا التقرير موجه لاستئصال الإسلام السني الوهابي والحنبلي على وجه الخصوص ؟
لقد ذكر التقرير "أنّ عملية تغيير دين ليست عملية سهلة إلا أنّها ممكنة " وأعطى مثالا بالتحول من الإمبراطورية العثمانية إلى دولة علمانيّة مثل ما حدث في تركيا!! وهذا ما جعلهم يفكرون في إيجاد "إسلام" يناسبهم، وذلك من خلال العمل على خنق "الإسلام السّني" صاحب المذهب "الوهابي الحنبلي" -كما يسميه البعض- ، معتمدين في ذ لك على أشخاص غير محايدين يعتبرونهم مصادر مهمة للمعلومات من أمثال ستيفن شوارتز (صوفي نقشبندي)، علي الأحمد (شيعي) وغيرهم كثير ممن يناصبون العداء للمذهب (الوهابي الحنبلي )، لقد ورد في التقرير فقرة حول الصوفيّة كمثال، جاء فيها "إنّ الصوفيّة بما لديها من طقوس شعريّة وموسيقيّة وفلسفيّة، تمثل جسراً للخروج من الاندماج الديني."
ببساطة ما هو الإسلام الذي يريده هذا التقرير؟ وهل تعكس هذه الوثيقة (تدين الصراع) ؟ وما هي رؤيتكم لمستقبل المواجهة بين الإسلام الغرب في المرحلة المقبلة؟
هم يريدون "إسلام ديمقراطي مدني"، يتناسب مع توجهات الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، يسهل توجيهه وتحويله صوب المزيد من الديمقراطية والحداثة والتأقلم مع النظام العالمي الجديد.. "باختصار يريدون إسلام خامل هش يمكن اختراقه و تشكيله لكي يتناسب مع أجندتهم، وإن الصراع اليوم بين الإسلام والغرب -بلا شك- صراع فكري ديني؛ فالغرب يعرف جيداً أنّ المسلمين اليوم لا يملكون شيئا يستطيعون مجابهتهم به إلا ديننا وعقيدتنا الإسلامية. ولهذا أرجو أنْ نعي ذلك جيداً ونتسلح في هذا الصرع بالثبات على الحق والمحافظة على هويتنا الإسلاميّة.
و في هذا المقام أنصح كل مسؤول أنْ يقرأ التقرير بكل عناية ليرى مدى دقة وصف حال مجتمعنا الإسلاميّ وأطماع هؤلاء فيه وبوجه خاص منطقة الجزيرة العربية.
وأناشد كل مسلم يشعر بالمسؤوليّة أنْ يعمل بكل ما يستطيع لإيقاف هذا المخطط الخطير
=============(19/173)
(19/174)
الشرق الأوسط بين "الجديد" و "الكبير"
د. غازي التوبة 4/2/1428
22/02/2007
شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل السابق أول من تحدّث عن "الشرق الأوسط الجديد" في عام 1993 بعد توقيع اتفاقية أوسلو في حدائق البيت الأبيض بين إسحاق رابين وياسر عرفات، وكان تصوّر بيريز قائماً على أنّ وحدة اقتصادية ستتحقّق بين المنطقة العربية وإسرائيل، وستجمع هذه الوحدة الاقتصادية بين العبقرية الصهيونية في القيادة، والأيدي العربية الرخيصة المستخدمة في التصنيع، والثروة العربية المتكدّسة من بيع البترول الخ...، وكان التفاؤل سيد الموقف آنذاك، والسبب في ذلك هو الاعتقاد بأنّ اللقاء الفلسطيني-الإسرائيلي كسر آخر الحواجز في الممانعة بين العرب وإسرائيل، ولم يبق إلاّ التداخل والتواصل والتلاحم الخ...، وذهبت الأحلام بعيداً في رسم صورة "الشرق الأوسط الجديد"، وخصّصت لكل دولة ما يجب أن تفعله وتنتجه؛ فإسرائيل ستتخصّص بالإلكترونيات والحاسبات، ومصر بالسياحة الخ...، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، وتعثّر اتفاق أوسلو الذي كان الشرارة في كل تلك الأحلام، والسبب في ذلك أنّ إسرائيل تريد أن يكون لها كل شيء، ولا تريد أن تعطي شيئاً للآخرين، وكانت نهاية الحلم كابوساً مزعجاً، فصانعا الحلم نُحِرا: اسحاق رابين وياسر عرفات، الأول: نحره أهله، والثاني: نحره محالفوه.
ثم صار الحديث عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وطرح بوش هذا المشروع بعد احتلال العراق، ونوقشت بنود المشروع في اجتماع الدول الثمانية الصناعية الكبرى في يوليو 2004 في جزيرة ايلاند، وأبرز ما جاء في المشروع آنذاك هو الدعوة إلى الديموقراطية، والتغيير الثقافي، وحقوق الإنسان، والتأكيد على حقوق المرأة، وإنهاء الأُمّية الخ...، وقد وُضعت برامج تفصيلية تحقّق تلك الأهداف، كما رُصدت ميزانيات مالية من أجل الإنفاق على تلك البرامج بين الدول الثمانية. لكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، بل تحقّقت الفوضى التي أسموها "الفوضى الخلاقة"، وتجلّت هذه الفوضى في أبهى صورة في العراق؛ فالدمار يعمّ كل شيء: البناء والطرق والجسور الخ...، والكل يقتل الكل: السنة والشيعة والأكراد والصابئة الخ...، والجميع يتآمر على تقسيم العراق، ولم تتحقّق ديموقراطية، ولا حقوق إنسان، ولا ارتقاء ثقافي، ولا محو أُمّية الخ...
ثم طلعت كوندليزا رايس علينا بمقولة: "الشرق الأوسط الجديد" أثناء التدمير غير المسبوق للبنان، ورافق مقولتها مقال للضابط الأمريكي السابق رالف بيترز، نزل في مجلة القوات الأمريكية عدد تموز (يوليو) تحت عنوان "حدود الدم"، وهو جزء من كتاب "لا تترك القتال أبداً" يرسم ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي أشارت إليه كوندليزا رايس، وجاء في ذلك المقال أنّ السبب في اضطراب الشرق الأوسط هو عدم تطابق الحدود الجغرافية مع الحدود الإثنية والطائفية والعرقية في المنطقة، والسبب في ذلك أن أوروبا التي قسّمت الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى لم تراع ذلك، وراعت أهواءها وبعض المصالح الخاصة، وأشار المقال أيضاً إلى ضرورة تصحيح الجوانب الحدودية من أجل التوصّل إلى شرق أوسط مستقرّ، واقترح المقال صورة جديدة للشرق تقوم على تفصيلات متعدّدة، منها إقامة ثلاث دول في العراق: كردية في الشمال وسُنّية في الوسط، وشيعية في الجنوب، واقترح أن تلتحق الدولة السُنّية المجتزأة من العراق في وقت تالٍ بسورية، واقترح "مشروع الشرق الأوسط الجديد" تفكيك السعودية، ووضع الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة تحت وصاية دولية، وإلحاق شمالي السعودية بالأردن، وإلحاق جنوبي السعودية باليمن، كما اقترح مشروع الشرق الأوسط الجديد إيجاد دولة شيعية تجمع بين جنوب العراق وتأخذ جزءاً من الإمارات وجزءاً من السعودية، كما استهدف المشروع تغييراً في حدود كل دول الشرق الأوسط كسورية وإيران ومصر وباكستان ولبنان الخ... والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: ما الهدف النهائي من هذه المشاريع المطروحة بين وقت وآخر بدءاً من "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وانتهاء بـ "مشروع الشرق الأوسط الجديد"؟ وما الملامح التي تجمع بينها؟
أولاً: تلتقي هذه المشاريع على أهداف دعائية كبيرة من مثل تحقيق الأمن والسلامة والتنمية والديموقراطية وحقوق الإنسان وإزالة الأُمّية وإقامة العدل الخ...، لكنّ هذه الأهداف تبقى في حدود الدعاية، ولا يتحقّق شيء منها على أرض الواقع، وينطبق عليها المثال الذي راج عن الشيوعية إبّان انتشارها: "اقرأ عن الشيوعية تفرح، جرّب تحزن".
ثانياً: تحرك هذه المشاريع النزعة الطائفية والتفتيت الطائفي، وتستهدف وحدة الأُمّة العربية والإسلامية بحجّة الظلم الذي لحق هذه الطوائف والأعراق خلال التاريخ الماضي، وهذا الاستهداف للإحياء الطائفي يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ويمكن أن نتأكّد من ذلك باستعراض السياسة الأمريكية في مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، فهي لا تمارس هذا الدور من التفتيت الطائفي، مع أنّ تعدّد الطوائف والأعراق والأجناس موجود في تلك المناطق وبصورة أكبر مما هو موجود في المنطقة العربية.(19/175)
ثالثاً: مما زاد في الحرص على تنفيذ مخططات التفتيت الطائفي في المنطقة وجود المحافظين الجُدُد في قيادة أمريكا، ومن الواضح أنهم صهاينة مثل صهاينة إسرائيل إن لم يكونوا أكثر صهيونية؛ إذ يشاركون الإسرائيليين آلامهم وآمالهم وأحلامهم، ويلتقون مع صهاينة إسرائيل في بعض الرؤى الدينية التي يستقونها من المسيحية والصهيونية التي تستمد مادتها من التوراة التي هي جزء من الكتاب المقدّس عند المذهب البروتستنتي الذي يعتنقه المحافظون الجُدُد.
رابعاً: مما يؤسف له أنّ إيران هي الوجه المقابل لأمريكا في استغلال التفتيت الطائفي، وإشاعته، وممارسته، وتعميق جذوره، ويتضح ذلك في العراق حيث تقسيم العراق وحلّ الجيش العراقي فعلان يتعدّيان هدف إزالة نظام صدّام حسين، وهو الهدف الذي سوّغت إيران وأعوانها به التعاون مع أمريكا في احتلالها للعراق عام 2003، ويصبّ هذان الفعلان المشار إليهما في خانة التفتيت الطائفي بالدرجة الأولى، والأمر لا يتوقّف على ساحة العراق بل يتعدّاها إلى ساحات أخرى في العالم العربي والإسلامي.
خامساً: يبقى الحصول على البترول هدفاً رئيسياً ومهماً في كل هذه المشاريع، وذلك لأنّ الصين والولايات المتحدة ستحتاجان إلى 70% من بترول الشرق الأوسط خلال السنوات العشر القادمة.
سادساً: تهدف هذه المشاريع إلى دمج إسرائيل في المنطقة من جهة، وجعلها تعلب دوراً مركزياً من جهة ثانية، وستكون بمثابة القلب له، لذلك تستهدف هذه المشاريع إلى إيجاد إسرائيل العظمى ذات الاقتصاد القوي وذات الجيش المبني على أحدث التطوّرات التكنولوجية، والتي ستقود الشرق الأوسط الجديد، وستشيع الديموقراطية فيه حسب أوهام المشاريع الأمريكية.
سابعاً: إنّ حلم التفتيت الطائفي للمنطقة العربية حلم إسرائيلي قديم، وقد اتضح ذلك في مذكرات بن غوريون منذ قيام إسرائيل، وكلامه عن استدراج الطوائف في لبنان إلى التعاون مع إسرائيل، وقد أصبح الأمر أكثر وضوحاً في الكتاب الذي نشره الصحفي الهندي كارانجيا بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فقد أشار فيه إلى استهداف إسرائيل إقامة دول الطوائف في المنطقة، ويمكن أن يعتبر الدارس لأوضاع المنطقة أنّ عمل إسرائيل واستهدافاتها في التفتيت الطائفي طبيعي، ويتسق مع طبيعتها الديموغرافية، ولكنّ من غير الطبيعي أن ترسم دولة عظمى كالولايات المتحدة إستراتيجيتها انطلاقاً من هذا الأساس
==============(19/176)
(19/177)
الإصلاح على أسِنّةِ الرّماح
د. محمد مورو 5/6/1425
22/07/2004
الإصلاح هو الاسم الكودي الذي تستخدمه الولايات المتحدة الأمريكيّة لتبرير التدخّل في شئون المِنطقة وإعادة صياغتها على الطّريقة الملائمة لها، ويصل الأمر إلى حدّ استخدام الإصلاح كمبرر للاحتلال العسكريّ كما حدث في العراق، وكما يمكن أنْ يحدث في دول أخرى، ومناطق أخرى وأحوال أخرى.
فالإصلاح هو الاسم الكودي للهيمنة، والنّهب، والاحتلال، وبسط النفوذ، وفرض الإرادات من الخارج. يمكن أنْ يكون الإصلاح أو يكون حماية الأقليّات ، كما كان من قبل الرجل الأبيض "مرحلة الاستعمار" ،أو إنقاذ قبر المسيح من الكفّار المسلمين كما حدث إبّان الحروب الصليبيّة ، وهكذا فالمسألة في جوهرها ليست جديدة، بل هي جزء لا يتجزّأ من المحاولات المستمرّة في الزّمان والمكان، منذ ما يزيد على الألف عام؛ للقضاء على الحضارة الإسلاميّة التي تمثل الحقّ، والعدل، والخير، والحريّة، لحساب الاستكبار، والعنصريّة، والقهر، والعُنف، والنّهب.
موضوع الإصلاح الذي قفز إلى واجهة الأحداث، وشكّل النقطة الرئيسة في الأجندة الأمريكيّة منذ مبادرة "كولن باول" وزير الخارجيّة الأمريكيّة ، ثم خطاب الرئيس "بوش" حول ما يسمّى "بالشرق الأوسط الكبير"، ثم "الشرق الأوسط الأكثر اتساعًا" في قمة الثمانية الكبار في "سي إيلاند" بالولايات المتحدة الأمريكيّة في 8 يونيو "حزيران" 2004 ، ثم قمّة الاتحاد الأوروبي ـ أمريكا المنعقد بإيرلندا في 26 يونيو 2004 أيضًا ثم أخيرًا في قمة حلف الناتو في اسطنبول يومي 28 ، 29 يونيو 2004 ، كلها أسماء لنفس المضمون، ولكن الجديد في المسألة أنّ تحويل المسألة من اختصاصات السياسيّين إلى اختصاصات العسكريّين متمثلاً في عرض الموضوع والحصول على خُطّة معيّنة من حلف الناتو وهو حلف عسكري أساسًا ، يعني أنّ المسألة ليست فقط ضغوطًا سياسيّة، ولا رُؤًى ثقافيّة بل هي في صميم عمل العسكريّة أي الاحتلال والجيوش، وهو ما يُسقِط القناع، ويكشف المضمون الحقيقي للموضوع، إنّه تبرير العدوان والاحتلال، ونشر النفوذ بالقوّة، وإجبار حكومات المنطقة على الاعتراف بإسرائيل، وتطبيع العلاقات معها، وإدماجها قهرًا في المنظومة السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة للمنطقة. ولعلّ هذه النقطة الأخيرة تُعطي عكس المطلوب عندما قالت حكومات المِنطقة:إنّه لا يمكن البدء في الإصلاح بدون حلّ مشكلة الصّراع العربيّ الإسرائيليّ ، فإذا بأمريكا تطور المشروع ليس باتجاه حلّ المشكلة ، بل بتكريس وجود إسرائيل وهيمنتها الإقليميّة بوضوح .
حصار العالم الإسلامي
عناوين المبادرات الصادرة عن القمم العربيّة المختلفة حول الموضوع تكشف عن المضمون الحقيقي لها، وهو الخضوع الكامل للهيمنة الأمريكيّة ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا والقبول الكامل بوجود إسرائيل والتعاون معها!! . وهو ما يرْشَح مباشرة من عُنوان قمّة الثمانية الكبار في ولاية "جورجيا" بالولايات المتحدة الأمريكية 6 يونيو 2004 وقد كان "مشروع الشرق الأوسط الموسّع وشمال أفريقيا" ثم قمّة أيرلندا التي كان عنوان مبادرتها "26 يونيو" هو "دعم مساعي حكومات المنطقة الرامية إلى تحديث بلدانها والمُضِيّ قُدُمًا في الإصلاحات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وتشجيع حقوق الإنسان" ثم قمة "الناتو" باسطنبول 28 يونيو تحت عنوان "مبادرة اسطنبول للتعاون مع بلدان البحر المتوسط والخليج العربي" .. ونلاحظ في هذا الصدد أنّ مبرر استمرار وتوسيع حلف الناتو بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق والمنظومة الاشتراكيّة كان لمواجهة الخطر الإسلاميّ المزعوم، وقد عبّر عن ذلك في حينها عدد من قادة الحلف العسكريّين والقادة السياسيّين الغربيّين والأمريكيّين . وهكذا فنحن في مرحلة تنفيذ الخُطّة - المعتمدة أصلاً- وهي حصار العالم الإسلاميّ، والقضاء على أيّ مشروع وحدة إسلاميّة أو عربيّة، والهيمنة على المِنطقة (وربما احتلالها عسكريًّا) بدعوى محاربة الإرهاب!! . ولعلّ تصريحات "كوندا ليزا رايس" مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي تكشف حقيقة المسألة حين قالت في ديسمبر 2003 ـ أي قبل اجتماع حلف الناتو في اسطنبول 28 يونيو 2004 أو صدور مبادرة اسطنبول- :"إنّ المطلوب من "الناتو" أنْ يشارك في عمليّة التغيير في المِنطقة العربيّة، ومراقبة والتأكّد من الإصلاحات المتخذة في هذه البلدان". وبدهيّ أنّ المشاركة، والمراقبة، والتأكد عن طريق منظمة عسكريّة ،اللهمّ إلا إذا كان الهدف النهائيّ هو الاحتلال العسكريّ !
الخضوع التام للاحتلال(19/178)
ولا يعنينا بالطبع أنْ تتحدث هذه المبادرات عن ضرورة قيام تلك الحكومات من تلقاء نفسها بالخُطُوات المطلوبة، أو عن طريق الحوار، فهو نوع من تقديم قُربان الطاعة، والقبول بالاحتلال طواعية، أي تحقيق الهدف بدون جهد، أو أنْ يقوم حلف الناتو بفرض ذلك بالقوّة إذا لم يكن انصياع تلك الدول طواعية!! . فالمحصلة في النهاية واحدة، وربما كان الانصياع والقبول بالتدخّل الأجنبي والقبول بإسرائيل والتعاون معها والانخراط في الجهد الأمريكي العسكري ضد الإرهاب، وغيرها طواعية أسوأ من الخضوع لذلك قهرًا!! . والمهم في كل الأحوال أنّ صيغة المبادرات لا تخلو من الإشارة إلى أنّ من حق "الناتو" أنْ يفرض ذلك بالقوّة!! . خاصة وأنّه قد توسّع شرقًا بل ووصل إلى حد الشّراكة مع روسيا ذاتها أي أنّ المستهدف بوضوح لعمليّات الملف هو المنطقة العربيّة خصوصًا ، والشرق الأوسط العربيّ الإسلاميّ عمومًا، وإلا فما الدافع العسكري وراء تَوَسّعه وشراكته مع روسيا؟ ولماذا يستمرّ الحلف أصلاً بعد زوال الخطر الشيوعيّ والسوفيتيّ؟ ماذا يعني امتداد حلف الناتو من غرب المحيط الأطلسي إلى أقصى شرق القارة الأوروبيّة وحتى جنوب المتوسط، وشراكته مع روسيا ووصول عدد أعضائه إلى 26 عضوًا وهو ما لم يحدث أيّام الحرب الباردة؟ ماذا يعني أنّ مسرح عمليّات حلف الناتو قريب جدًا - بالمقاييس الجغرافيّة البحتة- من المِنطقة العربيّة ؟
الاختراق الاستعماري
على كل حال فإن ما يسمّى بمبادرة "اسطنبول حول الشرق الأوسط الكبير" والتي تبنّاها حلف الناتو في مؤتمره الأخير باسطنبول 28، 29 ، يونيو 2004 تكشف الكثير من الحقائق حول طبيعة هذا الإصلاح والتعاون والدور الحقيقي لحلف الناتو في هذا الصدد . وقد تضمّنت تلك المبادرة :
ـ إنشاء قواعد عسكريّة لحلف الناتو بحيث ترتبط تلك القواعد الجديدة بالقواعد الموجودة "الأمريكية" .
ـ من حق هذه القوات التدخّل بدون استشارة الحكومات المعنيّة في حالة وجود أزمة .
ـ إنشاء مكاتب لجمع المعلومات والتحليل ـ وإنشاء المكاتب الفنيّة المتخصصة التي تقدم توصيات في مجالات الأمن، والاقتصاد، والإصلاح الداخلي، والتعليم، والبيئة، ومحو الأميّة، والحقوق السياسيّة، والاقتصاديّة والاجتماعيّة ، وأنّ هذه المكاتب الفنيّة ستنتشر في الجهات العلمية والجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات الوطنيّة المختلفة .
وبدهيّ أنّ الترجمة الحقيقيّة لهذه المقترحات هي الاختراق السياسيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والعلميّ، والاحتلال العسكريّ أيضًا إذا لزم الأمر .
ومن المقترحات أيضًا في مبادرة اسطنبول:
ـ إقامة علاقات شراكة وتعاون بين الدول العربيّة وإسرائيل، ويصل الأمر إلى حدّ إقامة مناورات عسكريّة مشتركة بين تلك الدول وإسرائيل، ومشاركة هذه الدول وإسرائيل مع أمريكا في عمليّاتها العسكريّة ضد الإرهاب .
ـ تغيير مناهج التعليم والتثقيف بما يتلاءم مع دعم ثقافة السّلام وتجفيف منابع الإرهاب .
ـ التدرّج في الإصلاح السياسيّ وحقوق الإنسان بما يتلاءم مع ظروف كل دولة .
ـ التحكم في تسليح الجيوش العربيّة بما يحقّق التوازن العسكريّ مع إسرائيل ـ والتفتيش الدوريّ على أسلحة الدمار الشامل في تلك الدول باستثناء إسرائيل .
وهكذا فإن مبادرات الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات ...الخ التي رفعت بها أمريكا وحلفاؤها وعملاؤها عقيرتهم طويلاً قد تمخضت عن تأجيل هذا الإصلاح،والتدرّج فيه، ولكن الإسراع بفرض إسرائيل، والتعاون معها على دول المنطقة، واختراق هذه الدول أو حتى احتلالها إذا لزم الأمر
==========(19/179)
(19/180)
المرأةُ بينَ التّحريرِ من الحِجابِ والتَّحرُّرِ من الشّرفِ
ماذا يريدُ دُعاةُ النّسويّة من المرأةِ المسلمةِ ؟
فاطمة عطوة 5/6/1425
22/07/2004
احتلت إشكاليّة المرأة وقضاياها مساحة كبيرة في ساحة الحِوار العالميّ الذي يجري هذه الأيّام فوق صفيح ساخن، وهو غالبا حِوار أُحاديّ الجانب ؛ إذ تحاول بعض القوى العالميّة فرض أجندةِ مشاكلِها ورُؤاها علينا باعتبار أننا الآن في مرحلة تراجع حضاريّ هائل، رُبّما لم يسبق لها مثيل على طول فترات تاريخنا، ومن هذه القضايا قضيّة العُنف ضدّ المرأة باعتباره أحد أهمّ أشكال التّمييز ضدّها، وفي هذا السياق يتمّ الخلط بين الحق والباطل، و العادات والدين بصورة غير متجانسة، ولا تهدف إلا إلى تحطيم ما تبقى لدينا من وعي واعتزاز بالذات، ولنأخذ ما اصطلح على تسميته بجرائم الشّرف كنموذج صارخ لهذا الخلط الفاضح في قضيّة العُنف ضدّ المرأة .
الجسد الإنسانيّ بين التّكريم والاستباحة
يقول تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم...) [الإسراء:70]، ويقول عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ... ) [لأعراف:26]
ويقول عزّ من قائل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30] ، ويقول: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النّور:31] .
هذه الآيات وغيرها الكثير تحمل الكثير من سِمات المنهج القرآنيّ في التعامل مع إشكاليّة الجسد، وهو منظور يتماشى مع الفِطرة الإنسانيّة السّويّة، حيث يحتل الجسد موقعًا وسطًا؛ فهو حاضر وفاعل في الحياة، ولكن بصورة كريمة تحفظه من الابتذال والامتهان من خلال ستْرِه والاقتصار على دائرة الزّواج لإشباع حاجته الغريزيّة في الجنس الآخر وهو بهذا يبتعد عن الرهبانيّة التي تهمّش الجسدّ وتحاول أنْ تمحو تلك الغريزة التي فطرها الله في البشر، وهو أمر بعيد عن الحكمة، وأثبت الواقع مدى زيفه وتهافته، وكذلك يبتعد عن الإباحيّة المسعورة التي تسود البشر في كل مرحلة تاريخيّة تتسم بالفوضى، وفي كل حضارة توشك على الذبول والاندثار ولكنّ دعاة التهتّك والفساد - في هذه الأيام - لم يكتفوا بفسادهم وانحرافهم وشذوذهم، بل أصرّوا على تصدير هذا الفساد والانحراف إلى كافة أصقاع الكرة الأرضيّة، وفي المركز منه بلادنا العربيّة والإسلاميّة أو ما اصطلحوا على تسميته أخيرًا "بالشرق الأوسط الكبير" ، وهذا التصدير من اللون الإجباريّ حيث لا يُؤخَذ رأي المستوردين في نوعيّة البضاعة الغثّة، التي غلّفوها بشكل أنيق، ووضعوا لها عناوين برّاقة، وعقدوا لها المؤتمرات والمنتديات، وكان شعارهم في كل هذه المؤتمرات والمنتديات شعار قوم لوط (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النّمل:56]
فلا مكان في عالمهم الملوّث للمتطهرين الشّرفاء، ولا بدّ من شنّ الحملة وراء الحملة؛ حتى ينعدموا، وينقرضوا، ولا يُسمع لهم صوت ينغص على سادة العالم الجدد ما هم فيه من لذّة حيوانيّة .
حملة للقضاء على البَكَارَة ( والتخلّص من إشكاليّات الشّرَف )
ومن تلك الحملات المشؤومة الحملة على البكارة بمفهومها الماديّ ودِلالتها المعنويّة المرتبطة بها، وهي حملة يتزعّمها في الداخل تيّارات نسويّة(1) متطرّفة تقوم بإعادة صياغة الأجندة الغربيّة عن طريق ربطها بالبيئة العربيّة بصورة مفتعلة وغير موضوعيّة ومستغلة في الوقت ذاته إشكاليّات حقيقيّة تواجه المرأة العربيّة والمسلمة .(19/181)
وبداية الحملة بدأت ببعض حوادث فردية وشاذّة قام فيها الأهل بالتخلص من فتاتهم؛ لأن ثمّة شكوكًا أثيرت حول طبيعة سلوكها ومدى التزامها بحسن الخلق، ثم ثبت بعد ذلك في تقرير الطبيب الشرعيّ أنّ الفتاة المجنيّ عليها كانت عذراء ولمْ ترتكب فعلا يستدعي ما حدث لها من إزهاق لروح بريئة .. من هذه الحوادث بدأت الحملة لمواجهة هذه الجرائم التي أَخذت اسمًا إعلاميًا هو "جرائم الشرف" ثم ارتفع منحنى الحملة ليصل إلى نقطة خطيرة ،وهي أنّ الحلّ الوحيد للقضاء على مثل هذه الجرائم العنيفة ضد المرأة هو "إلغاء فكرة الشرف" ذاتها عن طريق أنْ يتساوى الجميع في التخلّص الدليل المادي للشرف " غشاء البكارة " والاكتفاء بالدّلالة المعنويّة للشّرف والبكارة تماما، كالشاب الذي لا يوجد دليل ماديّ على شرفه وبكارته، على اعتبار أنّ الشّرف مسألة ليست مرتبطة بالأنثى فحسب. هذه هي المبرّرات الواهية لتلك الحملة الخبيثة، والتي يقودها تلك النّسويات المتطرّفات، وهن يستخدمن كلّ وسائل الإعلام وكلّ الضغوط الدوليّة لتمرير هذه الأفكار، ومن أخطر الوسائل التي استخدمنها الأدب والأعمال الفنيّة(2) سواء كان هذا الأدب نسويًّا أو ما اصطلح على تسميته "بأدب الجسد"، والعامل المشترك بين كل هذه الأعمال الأدبيّة - دون الولوج بالطبع في تحليل الجانب الفنيّ في العمل - أنّ البيت مكان يشبه السّجن بالنسبة للمرأة، وأنّ الجميع يتكاتف على كبتها وإذلالها داخله، وأنّها لابدّ أنْ تستردّ جسدها أولا كي تتحرّر من هذا السجن .. تقول الدكتورة شيرين أبو النجا معبّرة عن هذا التيار النسويّ المتطرّف : " لقد أرست المنظومة المعرفيّة الذكوريّة قواعد واضحة حدّدت أماكن
تواجد النساء والمساحة الخاصة بهن : المنزل . وهي منظومة تربط المنزل وسلسلة من التداعيات والمفاهيم التي تتمحور حولها حياة المرأة أو بمعنى أدق هي المفاهيم التي تشكل هويّة المرأة : رعاية الأبناء ، شرف البنات ، عمل غير مدفوع الأجر ، السلوك القويم ، طاعة الزوج ، وأخيرًا الإنكار المطلق لتفرّد الذات الأنثويّة، وبذلك يصبح المنزل شرنقة منعزلة داخل حدوده الهندسية، أمّا خارجه فتتشكل السّياسات بمعناها الحِرْفِيّ،وعندما يُقال: إنّ المرأة مكانها المنزل " ملكة متوّجة " فالمقصود هو إقصاؤها عن مساحة كبيرة تتشكل فيها الرّؤى، ويصنع فيها القرار أي مساحة تتمركز فيها القوى(3)".
هذا هو المنزل في الفكر النسويّ المتطرف مكان قبيح لقمع المرأة والسّيطرة عليها، وإلهائها في أمور تافهة، وتربية الأبناء، وطاعة الزوج والسلوك القويم !! وهكذا يتمّ السخرية من مفهوم البيت، ومفهوم التربية ،ومفهوم الشرف بحيث لا تتحقّق حريّة المرأة وفاعليتها إلا خارج البيت تمامًا، كما لا تتحقّق هذه الحريّة إلا بحريّة الجسد، الذي هو ملك خاصّ بالمرأة، ولها وحدها حريّة التصرّف فيه من خلال فكرة التجرِبة والخطأ؛ فالجسد من وجهة هذه النظر النّسويّة هو الأسلوب الأمثل لاكتشاف الذات، وأيّ تحرّر يستبعد حريّة الجسد كاملا فليس بالتحرّر الحقيقيّ، هذا الكلام هو مضمون الكثير من الأعمال الأدبيّة والفكريّة النسويّة التي تشقّ طريقها هذه الأيّام بزَخَم شديد، وهو مضمون فكر عالميّ يتشكل ويراد له أنْ يُفرض بكل الوسائل على إنساننا العربيّ المسلم سواء كان رجلا أم امرأة .
جرائم الشّرف .. رُؤية شرعيّة
يقول تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...) [النّور:2]
بهذه الصورة القاطعة يساوي الشّرع الإسلاميّ بين الرجل والمرأة في الجريمة المُخِلّة بالشّرف، وبالعقاب الذي يستحقه أيّ إنسان يقارف هذا الفعل .. فالإسلام يريد للإنسان أنْ يحيا حياة نظيفة طاهرة، لذلك أحلّ له الزواج وحرّم عليه الزّنا، لا فرقَ في ذلك بين رجل وامرأة، أو غنيٍّ وفقير، ولم يحمّل المرأة المسؤوليّة وحدها عن هذه الجريمة وما جاء في مثل قول صلى الله عليه وسلم " إنّ المرأة إذا أقبلت ، أقبلت في صورة شيطان وإذا أدبرت ، أدبرت في صورة شيطان " (4) ، وأنّ " النساء حبائل الشيطان" (5)، وغير ذلك من أحاديث فلابدّ من فهمها في سياق كل الأحاديث التي تتحدث عن المرأة في مثل قول صلى الله عليه وسلم " النّساء شقائق الرّجال " (6) فالمرأة أحبولة الشيطان هي التي تترك نفسها للشيطان يختار لها أزيائها ومشيتها وتلك هي المرأة التي علقت عليها السيدة عائشة بقولها: إنّ الرسول لو رأى ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل، في حين أن الرسول قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (7) وليس ثمّة تناقض أو إشكالات فالمرأة أمة الله لا تمنع المسجد؛ لأنّها جزء صالح من نسيج المجتمع، له أنْ يتمتّع بكامل حقوقه الإيمانيّة، أمّا المرأة (أحبولة الشيطان) فهي تُمنع المسجد، و لابدّ من عقابها وازدرائها من المجتمع حتى تعود إلى رشدها ودينها.(19/182)
وهناك الرّجل الشّيطان نفسه ينتهك الحرمات، ويلَغ في الأعراض بلا أدنى إحساس من ضمير، وهو ولاشك عضو مرفوض من مجتمع المؤمنين؛ لذلك رفض الرسول أنْ يتهاون مع الرجل الذي أراد الدّخول في الإسلام بشرط أنْ تترك له حرية الزّنا وأفهمه بمنطق بسيط وواضح أنّ الحُرُمات كلها مقدسة، فهل يرضى أحد أن تنتهك حرمة أمه أو أخته أو زوجه؟
كذلك فالتائب والتائبة متساويان ويتقبلهما المجتمع الإسلامي بكل ترحاب، وهذا ما دفع الرسول صلى الله علبه وسلم أنْ يُعلّق على توبة الغامديّة بقوله: "إنها تابت توبة لو وزّعت على أهل الأرض لكفتهم" (8) هذا هو موقف الإسلام منذ اللحظة الأولى التي يواجه فيها هذا النوع من الجرائم فقبل تقرير حد معين على الزنا قال تعالى : " (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء:15]
ولأنّه من الصّعوبة بمكان أنْ يحبس الرجل طول عمره فكانت عقوبته الإيذاء متروكا لضمير الجماعة المؤمنة (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا...) [النساء: من الآية16] ، ثم نزلت (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ... )(النور: من الآية2) وزاد بعض العلماء تغريب الشاب سنة كاملة، ولم يضيفوا عقوبة للمرأة وحتى أثناء الجلد يُعَرّى ظهر الرجل، أما المرأة حتى وهي زانية فإنّ سترها واجب وأمّا المحصن والمحصنة فجرت سنّة الرسو صلى الله عليه وسلم العمليّة على رجمهما لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، وإذا اتّهم الزوجُ زوجَته بمثل هذه الجريمة بلا شهود على قوله فسُنّ لذلك الملاعنة التي تفسخ الزّواج، ولم يُسَنّ له قتل الزوجة مثلا، والعقاب في كل هذه الجرائم يتمّ عن طريق السّلطة الشرعيّة، وليس موكولا للأفراد؛ للانتقام بوسائلهم الخاصة كما نرى من بعض الجَهَلة هذه الأيام.
جرائم الشرف .. رُؤية مجتمعيّة .
لكن إذا كان هذا موقف الشّرع من الجرائم الخلقيّة الشهيرة بجرائم الشرف فلماذا يُحَمّل المجتمعُ المرأةَ الوِزْرَ الأكبرَ من هذه الخطيئة؟ ولماذا تظلّ التائبة موضع شكّ ورِيبة واتهام؟ لا بدّ قبل إدانة المجتمع وجلده واتهامه بمجافاة روح الشّرع(الذي ساوى بين الرّجل والمرأة في الجريمة والعقاب مثلما ساوى بينهما في إمكانية اكتساب الفضيلة والتدرج في مراتب السّموّ الرفعة) أقول لا بدّ قبل الإدانة من تفهم الأسباب التي دعت المجتمع إلى ذلك .. فمن ذلك أنّ خوف المجتمع على المرأة أشدّ من خوفه على الرجل؛ لأنّ المرأة هي الخاسر الأكبر من جرّاء هذه العلاقة غير المشروعة فالمرأة لها طبيعة نفسيّة تختلف عن طبيعة الرجل النفسيّة؛ فالصّدمة التي تشعر بها المرأة عندما تدرك حجم الخطأ الذي وقعت فيه،ونظرتها المُزرية لنفسها أمر قد يؤدي بها إلى الانتحار، وهي لا تتحمل العلاقات العابرة التي لا تؤصل لمفهوم الاستقرار والسكن الذي هو أمر غريزي لدى المرأة ،والأخطر من ذلك أنّ هذه العلاقة قد تترك خلفها روحا بريئة تتحمل المرأة وحدها عبء مسؤوليتها؛ فكثير من الفتيات الأمريكيّات -على سبيل المثال- اختفى من حياتهنّ الصّديق الذي شاركهنّ الإثم ساعةً ليتركهنّ وحدهنّ يتجرعن طعم المأساة المرة؛ فهنّ بحاجة إلى المال كي تنفق إحداهنّ على نفسها وطفلها وقد تلجأ للإجهاض الذي قد يودي بحياتهما ... الخ .
فالمجتمع يريد أنْ يحمي المرأة من كل هذه الآلام التي قد تتحملها وحدها؛ فيقسو عليها حتى يجعل وقوعها في الخطيئة أمرًا بالغ الصعوبة .
ومن أسباب تشدّد المجتمع تجاه المرأة،أنّه بذلك يغلق الباب أمام فساد المجتمع كله؛ فلو أنّ جميع النساء ملتزمات فمع من سينحرف الرّجال ؟!
وكذلك من أساب هذا التّشدد أنّ المرأة أقدر بطبيعتها أنْ تتحكم في أحاسيسها وغريزتها، يؤكد ذلك جميع العلماء الذين درسوا الجنس بين الرجل والمرأة وعلى رأسهم فرويد .
وعلى الرغم من ذلك فالمجتمع في مجمله يزدري الرجل المنحرف أشدّ الازدراء، ويرفضه ويندّد به؛ فليس صحيحًا أنّه يتساهل معه، أو يتقبّله ببساطة كما يدّعي البعض؛ فالفارق بين الرجل والمرأة هو اختلاف في درجة العقاب الماديّ والمعنويّ، وليس الهدف من ذلك إبراء مجتمعاتنا من كل نقيصة أو خطأ، ولكنّها محاولة للفهم الصّحيح بعيدًا عن الفهم المتطرّف الذي يلوي أعناق الحقائق للوصول إلى نتائج موضوعة سلفًا.
< a name="1">(1) يتزعّم هذه الحملة في مصر فريدة النّقاش رئيسة تحرير مجلة أدب ونقد اليساريّة.
(2) انظر على سبيل المثال رواية "الباحثة عن الحب"لنوال السّعداوي، وكذلك رواية "زهرة" للكاتبة اللبنانيّة حنان الشيخ.
(3)نسائي أم نسوي ص80 بتصرّف يسير
(4)رواه الترمذي.
(5) من تخريج أحاديث الإحياء عن خالد بن يزيد.
(6) رواه أحمد.
(7) رواه البخاري ومسلم.
(8) رواه مسلم
=============(19/183)
(19/184)
ميل لـ CIA: نحن نساهم في إشعال الحرب الأهلية بالعراق(1)
حاوره: كين سيلفرشتاين
ترجمة: بتول عبد الحق 3/9/1427
25/09/2006
خدم الدكتور إميل أ. ناخليه في وكالة (السي آي ايه) لمدة (15) سنة، و تقاعد في 30 حزيران/يونيو 2006، بعد أن كان مديراً لبرنامج التحليل الإستراتيجي للإسلام السياسي، و هي المديرية الأهم من مجمع المخابرات المخصصة لقضية الإسلام السياسي. ركّز بحوثه عن الإسلام، وإصلاح التعليم، واستقرار أنظمة الحكم و قضايا السياسة تجاه الشرق الأوسط الكبير. وهو حائز أيضاً على عدد كبير من الميداليات و التنويهات من بينها ميدالية مدير الوكالة، و ميدالية التميّز في العمل المخابراتي، فضلاً على أنه عضو بمجلس العلاقات الخارجية.
سافر في العام 2002 إلى معتقل خليج غوانتانامو حيث بقي هناك (11) يوماً، التقى فيها معتقلين كثيرين. قبل انضمامه إلى الوكالة، عمل "ناخليه" و لفترة جاوزت الربع قرن، أستاذاً جامعياً، و تمكّن وقتها من أن يسافر عبر العالم، و يزور عدداً كبيراً من البلدان، كان العراق من بينها. قابلته و سألته عن هذا البلد و عن الحرب التي تخوضها إدارة الرئيس بوش على 'الإرهاب'، و لقد كانت هذه هي المقابلة الأولى التي يجريها الدكتور منذ مغادرته الوكالة.
خلال حملة التصعيد الإعلامي قبيل الحرب على العراق، أدّعى مسؤولو الإدارة أن لنظام صدام حسين روابط مع المنظمات 'الإرهابية' بما فيها القاعدة. ما هي وجهة نظرك حول هذا الأمر؟
الواقع أنه لم يكن لدينا أي دليل على وجود محور "صدام - ابن لادن". لقد كان صدام جزّاراً، و لكنه كان جزّاراً علمانياً، و نحن كنا نعلم ذلك؛ فهو لم يبدأ في استخدام الدين إلاّ حينما شعر أنه مهزوم؛ إذ قرر أنه سيكون من المفيد له أن يعمل على تطوير الصبغة الإسلامية لقضيته منذ أن طُرد من الكويت في العام 1991، فبدأ في الذهاب إلى المسجد لأجل أداء الصلاة.
لقد كان الجميع في الشرق الأوسط يدرك أن الأمر مِزحة؛ فالرجل لم يكن لديه أي 'أوراق اعتماد' دينية؛ لأن العراق كان دولة علمانية؛ إذ كانت النساء فيها يتمتعن بحقوق أكثر من تلك التي هي ممنوحة لغيرهن في بلدان المنطقة، مثلما أن الشيعة كانوا هم العمود الفقري لحزب البعث، و حتى للحزب الشيوعي، ثم إن القاعدة لم تقرر جعل العراق مكاناً للجهاد إلا بعد نحو عام من وقوع الغزو في 2003؛ لأنهم كانوا يعدون العراق دولة علمانية. لم يكن العاملون في (السي آي إيه) يعتقدون أن هنالك روابط بين العراق و القاعدة، و لقد كان مصدر كثير من هذا النوع من المعلومات هو المؤتمر الوطني العراقي و أحمد الجلبي، بمعنى أن أقاويل هؤلاء توافقت مع طلبات أولئك الذين هم في الإدارة، و الذين كانوا يرغبون في شن الحرب من أمثال وولفوفيتز، فييث، تشيني و غيرهم. من هنا فإن هؤلاء 'شجّعوا' هذه المزاعم على الرغم من أنه لم يكن هنالك إطلاقاً، أي دليل يساند وجود أي نوع من الروابط.
ما الذي يفسر إخفاق السياسة الأمريكية في العراق؟
السبب الرئيس لإخفاقنا في العراق يكمن في أنه لم يتم التفكير فيما بعد الغزو؛ إذ إنه كان واضحاً بأن العملية العسكرية سوف تنجح، و كانت هنالك رؤية أيديولوجية لدى بعض مسؤولي الإدارة ملخّصها أننا سوف نُستقَبل كمحررين. باختصار، لم يفهم هؤلاء الناس أن العراقيين -حتى و إن كرهوا صدام- إلاّ أنهم لن يباركوا قيامنا باحتلال العراق.
لقد كان العراق أكثر تعقيداً من مجرد القضاء على صدام و نظامه. كان ينبغي لنا أن نتعلم من الخبرة البريطانية في العشرينيات، حينما تم تشكيل العراق الحديث؛ إذ أثبتت التجربة أن الذين يجلبون الزعماء من الخارج، لن ينجحوا. لقد عبر الكثيرون عن ضرورة التفكير في التخطيط لمستقبل البلاد بعد إسقاط صدام، عن إمكانية حدوث عنف طائفي و ازدياد عدد الميليشيات؛ فضلاً عن حقيقة أن الشيعة سوف يطالبون بالارتقاء سياسياً. لم يكن أصحاب هذه الطروحات قليلين بين الأمريكيين داخل أجهزة الاستخبارات، و لكن الواقع أن الإدارة فضّلت الاستماع للأصوات الأخرى. لقد كان التركيز، في تصوّرهم، منصباً فقط على الغزو، و التخلص من صدام، ثم سوف يتطور كل شيء نحو الأفضل فيما بعد.
لقد سافرت إلى غوانتانامو في العام 2002، هل فاجأك ما رأيته هناك؟(19/185)
قضيت ساعات أتكلم مع السجناء عن الأسباب التي جعلتهم يصيرون 'مجاهدين'، و كيف جاؤوا إلى المعتقل. صحيح أن بعض المعتقلين شاركوا في الجهاد في أفغانستان، و لكن ذلك -في الأغلب- كان ضد التحالف الشمالي. آخرون لم يكونوا كذلك إطلاقاً، و لكنهم اعتقلوا خلال الحرب، بمعنى أنهم كانوا، في المكان الخطأ، و في التوقيت الخطأ. حتى القيادة العسكرية هناك كانت تعلم أن ثلث المعتقلين على الأقل لم يكونوا، لا مجاهدين و لا 'إرهابيين'. و لكننا كنا ندفع لقوات الأمن الباكستانية مكافأة عن كل شخص شرق أوسطي، يقبضون عليه و يسلمونه لنا. و لقد أقرّ لي معظم الذين تكلّمت معهم في المعتقل أننا قد دفعنا ما يقرب عن (5000) دولار عن كل فرد -و للأسف- لقد عاملنا الجميع بنفس الطريقة، و قُدناهم كلهم إلى غوانتانامو، و هذا هو أكثر ما يثير الإحباط لدى الأمريكيين تجاه مفاهيم العدالة و الاستقامة.
كيف ستتصرف الولايات المتحدة في العراق حالياً؟
لقد توصلنا إلى أن وجودنا هناك هو جزء من المشكلة، بمعنى أنه يتعين علينا أن نفكر في ابتكار إستراتيجية للخروج. هنالك حرب أهلية في العراق، و وجودنا يساهم في تذكية هذا العنف. يمكنني القول إننا صرنا نمثل دور مانعة الصواعق؛ أي أننا لا نحد من العنف، و لكننا نساهم فيه، و هذا ما حفز 'المجاهدين'، و أما فكرة أن نجعل من العراق نموذجاً للمنطقة فلقد باتت متجاوزة، و السؤال الوحيد المطروح حالياً أمامنا، هو عن الشكل الذي سوف يصبح العراق عليه بعد أن صار ملجأ للطائفية: هل سيتبع النموذج الإيراني أم أنه سيلحق بالنموذج التسلطي العربي؟ إن عمر العراق حالياً هو فقط ثلاث سنوات، و لقد نُسي النموذج الديموقراطي العلماني تقريباً، و هذا ما سوف يمثل ظلاً حالكاً للجهود الأمريكية في نشر الديموقراطية بالمنطقة.
ما هي الآثار السياسية الجانبية المحتملة من الإخفاق العراقي و من حالات إخفاق الحرب على الإرهاب؟
لقد فقدنا مودة جيل كامل في العالم الإسلامي. اختفت ديموقراطية الرئيس و برنامجه لإصلاح الشرق الأوسط، ربما باستثناء الكلام الرسمي طبعاً. كانت تلك ميزة سياسات الرئيس للمنطقة، و لا أحد يتكلم عن ذلك الآن. لقد فقدنا المصداقية عبر العالم الإسلامي بخصوص الديمقراطية و الحكومة و العدل النيابيين. إننا نبتكر القواعد الجديدة لاعتقال الناس من دون تهم و الـ (إف بي آي) في غوانتانامو منذ سنوات، و لكنها لم تستطع أن تثبت أي تهمة ضد أي شخص. العالم الإسلامي يقول إننا نتكلم عن حقوق الإنسان، لكننا نعتقل الناس من غير أن نقاضيهم، و بالتالي فإن العالم الإسلامي يعدّ هذه الحرب على 'الإرهاب'، حرباً على الإسلام، و نحن لم نكن قادرين على أن نخلصهم من ذلك المفهوم بسبب غوانتانامو و أبو غريب و سوء المعاملة الأخرى، فقدنا مفاهيم العدل، الاستقامة و حكم القانون، التي هي قلب المبادئ الأمريكية، و هذا الأمر خطير جداً، و أعتقد أنه سيبقى كذلك لسنوات كثيرة قادمة.
هل هناك تهديد متأصل في العالم الإسلامي للديموقراطية الغربية؟
لا، هناك تهديد فقط من هؤلاء الذين يستخدمون الإسلام لدوافع أيديولوجية، و الذين يرغبون في استخدام العنف. هنالك (1.4) بليون شخص في العالم الإسلامي، و أقلية صغيرة فقط، ربما 2 - 3%، تنشط سياسياً. إنهم مثلما هي حالة غيرهم من اليهود و المسيحيين، منشغلون بواقعهم المعيشي اليومي، تنشئة الأطفال، و تسديد الفواتير، بمعنى أن أكثر المسلمين لا تشكل تهديداً سياسياً و أقلية قليلة من بينهم فقط لديها الاستعداد لأن تمتلك ميولاً 'إرهابية'. هناك المئات من الأحزاب السياسية في العالم الإسلامي، في إندونيسيا، ماليزيا، البحرين، الكويت، المغرب و اليمن، باكستان، نيجيريا، و بنغلاديش. لقد شاركت هذه الأحزاب و مؤيدوها في انتخابات كثيرة، ففازوا أحياناً، و خسروا أحياناً أخرى، و اعترفوا بذلك في أغلب الأوقات، ثم إن همّ أكثرهم، ليس هو تطبيق الشريعة و إخضاع المجتمعات لحكمها، حتى حركة حماس، لقد أظهرت هذه الأخيرة معارضتها لإسرائيل و خدمتها للمجتمع، و لكن ليس من منظور ديني. إن الإسلام السياسي ليس تهديداً، و إنما التهديد يأتي فقط حينما تصير الناس محبطة من العملية الديموقراطية فتنهج طريق العنف بعد ذلك. هناك خطر حقيقي من 'إرهابيين' قليلين، و ينبغي أن نسعى إليهم، و التهديد على الأمد البعيد قد يأتي من أولئك الذين سوف يسلكون هذه الطريق. إننا لا نحتاج إلى الهجوم فقط، بل يتعين علينا أن نعمل أيضاً و بجد، في صالح الديموقراطية و الإصلاح السياسي.
إيران لغز كبير آخر للمستشارين. كيف تصيغ الولايات المتحدة سياستها تجاه إيران؟(19/186)
النزاع في عراق ما بعد صدام، الحرب الأخيرة بين حزب الله و إسرائيل، ثم تقوي و إحياء المذهب الشيعي في المنطقة، كل هذه عوامل بيّنت مكانة إيران، و أظهرت بعد حدودها و نفوذها كسلطة إقليمية بوضوح. سواء أحببنا ذلك أم كرهناه، سوف نعمل في سبيل استكشاف طرق إبداعية جديدة لشغل إيران أو جلبها نحو سياستنا في المنطقة. لقد أسست الولايات المتحدة -و لعقود طويلة- سياستها في الشرق الأوسط، على التقرب و التعامل مع الأنظمة السنية الاستبدادية باسم محاربة الشيوعية خلال فترة الحرب الباردة حتى 9/11. لقد 'دلّلنا' تلك الأنظمة لأجل الحفاظ على الاستقرار الإقليمي و تخوفهم من 'الشيعة'. إن إيران بلد كبير و فيها مجتمع مدني حيوي يملك تاريخاً و ثقافة غنية و تقاليد سياسية راسخة. أعتقد أنه سيكون ضاراً بمصالحنا طويلة الأجل، تجاهل الواقع الإيراني و السماح لأنفسنا أن تعميها كراهيتنا للرئيس الحالي، محمود أحمدي نجاد. النهضة الشيعية واضحة عبر المنطقة، من أذربيجان إلى باكستان. ينبغي أن نبدّد المخاوف السنية عن الهلال الشيعي، و نبتكر طرقاً لشغل الزعماء الدينيين و الاجتماعيين الشيعة بالقضايا الاجتماعية و الدينية. إن النفوذ المتنامي لحزب الله، و زعيمه حسن نصر الله، عبر المنطقة وداخل الشارع السني، و النفوذ الإقليمي المتنامي لإيران، حقيقتان جديدتان، ينبغي أن نتعرّف عليهما. إن قضية الملف الإيراني النووي بهذه الطريقة، سوف تشكل إخفاقاً جديداً في المنطقة، و هنا أيضاً، لا بد لنا من سياسة جديدة. باختصار، علينا أن نعيد النظر في تصرفاتنا السابقة.
(1) العنوان الأصلي للحوار: " ستة أسئلة للدكتور إميل أ. ناخليه بخصوص (السي آي إيه) و الحرب على العراق: لا دليل على وجود رابط بين صدام و القاعدة"، و يمكن قراءة النص الأصلي على الرابط:http://ha r pe r s.o r g/sb-six-questions-emile-nakhleh-1158706094.html
===============(19/187)
(19/188)
الصّراع في دارفور ومخاطر التّقسيم
بدران بن الحسن 29/6/1425
15/08/2004
بين يدي المشكلة:
يملكنا نحن المغلوبين على أمرنا في العالم العربيّ خصوصًا وفي العالم الإسلاميّ عموماً؛ حاكمين ومحكومين- انطباعٌ عامّ وهو أنْ نعدّ كلّ شيء يأتي من الغرب إما "طاهرًا مقدسًا أو حقيرًا مدنّسًا" بنظرة حديّة بالغة السذاجة كما يقول مالك بن نبي _عليه رحمة الله_، وذلك بفعل عدم قدرتنا على إدراك الأمور في عمقها وشمولها وفهم مختلف أبعادها .
فنجد أنفسنا أمام موقفين لا ثالث لهما، فالذين يعتقدون أنّهم يوالون الانتماء الحضاريّ الإسلاميّ يرَوْن في كل موقف غربيّ أنّه تحامل على الإسلام والمسلمين وحضارتهم ووجودهم، أمّا المنتمون إلى التغريب من أبناء المسلمين فيهلّلون لكل ناعق من العالم الغربي دون تفحّص لما يقول أو يفعل، وذلك بحكم الاغتراب الحضاريّ الذي يعيشونه، وكلا الطرفين مجانب للصواب، فإنّه ليس كل ما يأتي من الغرب شرًا، وليس كل ما يأتي منه خيرًا.
وفي هذا الإطار، فإنّه لمّا تعالت أصوات جمعيّات حقوق الإنسان الغربيّة مندّدة بما يقع في دارفور، وتبعتها حكوماتها في التهديد بالعقوبات والتدخّل العسكريّ في السودان، ثارت ثائرة المتعاطفين مع الانتماء الحضاريّ الإسلاميّ للسودان مدافعين عن حكومته، وعن استقلال قراره، ومكذبين جملة وتفصيلاً ما يُشاع عن أحداث دارفور والصّراع الخطير الدائر في ذلك الجزء من السودان.
ولكن هل وقف أحد منا وتساءل عن إمكانيّة أنْ يقع فعل مثل ما وقع في دارفور وليس خداعًا إعلاميًا غربيًا بحثًا عن هدف جديد بعد أفغانستان والعراق؟
هل نزل المتعاطفون مع الانتماء الحضاريّ الإسلاميّ للسودان إلى أرض الواقع وشاهدوا ما يقع، وتحقّقوا من مجريات الأمور؟
هل كلّف أحد نفسه بسؤال السّودانيّين الآخرين الذين لا يؤيّدون حكومة الخرطوم عن حقيقة ما يجري؟
إنّ مناصرتنا للسودان مجتمعًا ودولة وليس حكومة ونظامًا يفرض علينا أنْ نتبيّن الأمر، فإنْ كان فيه مزايدة أحضرنا بياناتنا التي تبيّن كذب الافتراءات، وإنْ كان في الأمر حقيقة وقفنا مع الحقّ وصدعنا في وجه الحكومة السودانيّة ألا تورط السودان في حرب أهليّة أخرى وفي مشروع تقسيم آخر، وألا تسمح بتآكل العالم العربيّ من أطرافه تعنّتًا وحرمانًا لحقوق مواطنيها في التعبير عن حقهم في العيش والاستقرار والأمن.
المشكلة موجودة ولا بدّ من الاعتراف
إنّ مشكلة ما في دارفور لا يمكن إخفاؤها أبدًا أو الادّعاء بأنّ مليون مشرّد ونازح إنّما نزحوا بدون سبب أجبرهم على ترك أرضهم وديارهم وأموالهم والتجمّع في محتشدات تفتقد إلى أبسط شروط الحياة الإنسانيّة.
وإذا اعترف الجميع بأنّ هناك مشكلة فإنّ بحثًا حياديًا ينبغي أنْ يقوم في أسباب المشكلة، ولا مانع من أنْ تستعين الحكومة السودانيّة، بخبراء من الدول غير الاستعماريّة، بل نقول أنْ تستعين بخبراء من الجامعة العربيّة أو من منظمة المؤتمر الإسلاميّ، وأهمّ الدّول المؤثّرة في سياستها مثل: مصر، والسعوديّة، وماليزيا، وإيران، وتركيا، وتطلب منهم أنْ يشكلوا لجانًا حياديّة من خبراء يعاينون المِنطقة ويحقّقون في المسألة، ويبحثون عن المتسبّبين في الكارثة الإنسانيّة التي وقعت بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد، ويزيلون بذلك أيّ فتيل للتدخّل الدوليّ الاستعماريّ سواء أكان مباشرًا من أمريكا وبريطانيا أو تحت غطاء الأمم المتحدة أو "النيتو" كما حدث مع أفغانستان والعراق.
بل من مصلحة الحكومة السودانيّة ألا تبالغ في المعاندة في إنكار الكارثة؛ لأنّ من مصلحتها أنْ تقبل بتدخّل دول إسلاميّة بخبراء مسلمين؛ ولأنّ المشكلة وقعت بين مسلمين في بلد واحد، خير لها من أنْ تصير إلى تدخل احتلاليّ من أوربا أو أمريكا أو من أيّ طرف آخر، وعندها يصعب التحكّم في الأمور.
كما أنّه من المصلحة للحكومة السودانيّة أنْ تباشر بفتح أبوابها للتعاون في مجال التّحقيق والحماية وحفظ الأمن في المنطقة من قبل الجامعة العربيّة ومنظمة المؤتمر الإسلاميّ والدول غير الاستعمارية؛ لأنّ تتابع الأحداث يؤدّي إلى ثلاثة مخاطر كارثيّة على الحكومة والدولة والمجتمع:
أولّها ـ أنّ تمادي المشكلة، واستمرارها، وإصرار المجتمع الدولي على اتهام الحكومة السودانيّة بالضلوع في التصفية العرقيّة قد يوصلها أو بعض أعضائها إلى محكمة جرائم الحرب .
وثانيها ـ أنّ تماديها في الامتناع عن طلب العون من العالم العربيّ والعالم الإسلاميّ من جهة وعدم قدرتها على التحكّم في الأمور من جهة أخرى يؤدّي إلى انهيار هيبة الدولة وغياب القانون ونشأة بل وتكاثر المليشيات المسلّحة التي قد تزيد من حجم الكارثة.
و ثالثها ـ فهو خطر التقسيم الذي يرعب كل مسلم يستشعر مدى خطور هذه الاستراتيجيّة التفكيكيّة التي يراد لها أنْ تزدهر في العالم الإسلاميّ، ولذلك جعلناه في عنوان هذا المقال.
خطر التقسيم:
إنّ خطر التقسيم أكبر المخاطر التي تهدّد السودان في وحدته الترابيّة والسياسيّة، كما تهدّد بتآكل العالم العربيّ من أطرافه.(19/189)
فبعد اتفاق "مشاكوس" الذي يمنح الجنوبيّين حقّ تقرير المصير خلال ستّ سنوات، تبدو الأمور في دارفور أنّها تسير في الاتجاه نفسه إذا لم تتدارك الحكومة السودانيّة الأمر في بدايته، وبالرّغم من أنّ المتابعين يرون أنّ الأمر يختلف في دارفور عنه في الجنوب، فإنّ كثيرًا من مراصد الصّراع الفكريّ والسياسيّ في الغرب والشرق بدأت تعزف لحنًا انفصاليًا آخر، فإذا كان اللّحن الذي يعزف في الجنوب هو التمايز الدينيّ الإسلاميّ الشماليّ والنصرانيّ الجنوبيّ، فإنّ اللّحن الذي بدأت قوى الاستكبار العالميّ تعزفه هو اللّحن العرقيّ؛ أي: أنّ الصّراع بين عرب وأفارقة، ولو أنّ كلا الطرفين يدين بالإسلام ويتمسّك به، وهنا تكمن الكارثة والفتنة.
ولعلّ أحدًا يتساءل: لماذا؟
نقول: إنّ التقسيم هو استراتيجيّة أمريكا والغرب بعد الحرب الباردة، وتريد أنْ تطبّقه على العالم الإسلاميّ بأسره، ففي السعوديّة والعراق الصّراع والتقسيم يكون على أساس طائفيّ (سنيّ- شيعيّ)، وفي مصر يكون التقسيم دينيّ بين المسلمين والأقباط، وفي الجزائر والمغرب على أساس لغويّ بين العرب والبربر، وفي ماليزيا وأندونيسا على أساس عرقيّ ودينيّ مسلمين وهندوس وبوذيين، وملايو، وصينيين، وهنود... وهكذا.
أما السودان فغناه التربة الخصبة لذلك بفعل ترامي أطرافه وكبر مساحته من جهة، وبحكم انتمائه الإسلاميّ العربيّ الإفريقي في الوقت نفسه، وكذلك بحكم أنّ الحكومة التي تحكمه تدّعي أنّها تحكم بالإسلام وتتبناه إطارًا دينيًا وحضاريًا لمشاريعها في بناء الدولة، ولهذا فإنّ مخاطر تقسيم السودان كبيرة وكارثيّة إذا لم تأخذ الحكومة السودانيّة الأمر بجدّ.
وقد تعجبت من أنّ بعض المسؤولين السودانيّين يعدون الأمر مجرّد صراع قبليّ من أجل مصادر الماء والكلأ بين قبائل منطقة دارفور، وقد سمعت هذا من حوار لموقع "الإسلام أون لاين" مع الأستاذ الدكتور حسن مكّي (مستشار وزير خارجيّة السودان)، وكذا الحوار الذي أجراه الدكتور عصام البشير مع موقع "الإسلام اليوم" إذ قلّلا من شأن المشكلة، بينما العالم كلّه يشاهد عمق المأساة التي يتعرّض لها مسلمون على أيدي مسلمين.
ولم يتنبّها إلى أنّ التهديدات الأمريكيّة والبريطانيّة ليست رحمة بالمسلمين الذين يقتلهم إخوانهم المسلمون، وتتفرّج عليهم حكومات المسلمين، وإنّما هو استغلال للفرصة من قبل أمريكا واليمين المتصهين في البيت الأبيض لتعميق الشّرخ، وتفتيت الوحدات السياسيّة الموروثة عن عهد الاستعمار والحرب العالميّة الثانيّة، وإعادة تشكيل العالم العربيّ التي طرحها "كولن باول" (وزير خارجيّة أمريكا) منذ العام 2002م، والذي تطوّر ليصبح مشروع الشرق الأوسط الكبير، فهل تنتبه حكومة السودان والحكومات العربيّة قبل فوات الأوان، وقبل أنْ نُؤكل واحدًا تلو الآخر
============(19/190)
(19/191)
"كوندي" تبشر بشرق أوسط جديد!
عمان/ ياسر الزعاترة 1/7/1427
26/07/2006
عندما تحدث شيمون بيريس عن الشرق الأوسط الجديد وألف كتاباً قدّم من خلاله أطروحته "العظيمة" كان جورج بوش الأب هو سيد البيت الأبيض حينها ، وكان جيمس بيكر هو وزير الخارجية، ولم يكن الصهاينة قد سرقوا القرار السياسي الخارجي للولايات المتحدة تماماً بعد، ونتذكر ضمانات القروض التي رفضت أمريكا منحها لتل أبيب على خلفية موضوع الاستيطان، وهو الموقف الذي قيل إن بوش الأب قد دفع ثمنه خسارة في الانتخابات لحساب كلينتون، فيما رسخ في الذاكرة كعبرة لبوش الابن في تعامله مع اللوبي الصهيوني.
في عهد كلينتون تمدد الصهاينة في الإدارة التي غدت العبرية لغة متداولة في أروقتها، لكنهم في عهد جورج بوش الابن لم يتركوا لسواهم شيئاً، أقله فيما يتصل بملف السياسة الخارجية. وفيما ماطلهم الأول عندما أرادوا توريطه في احتلال العراق، لم يتردد الثاني في الخضوع بعد هجمات أيلول، وذهب إلى العراق مورطاً بلاده في مستنقع قذر لا زال منذ أكثر من ثلاث سنوات يستنزفها مالياً وبشرياً وسياسيا.
بدأ مشروع الشرق الأوسط الجديد بنسخته الشيمون بيريسية وانتهى قبل استلام المحافظين الجدد لمقاليد السلطة في واشنطن، لكنه مع ذلك لم ينجح، ولا ندري إذا كانت وزيرة الخارجية السمراء "كوندي" قد قرأت التجربة وتمعنت فيها.
بعد حرب الخليج ونهاية الحرب الباردة أراد الصهاينة استغلال اللحظة المناسبة من أجل صياغة المنطقة على مقاسهم، وتحدث بيريس عن شرق أوسط جديد تقوده تل أبيب بدل القاهرة. شرق أوسط مدجج بالتنمية والرفاه. هذا في الظاهر، أما في الباطن فهو شرق أوسط مفكك على أسس عرقية وطائفية ومذهبية يشتبك الجميع فيه مع بعضهم البعض بينما يتصالحون جميعاً، وربما يتحالفون أيضاً مع الدولة العبرية.
أدرك العرب حقيقة اللعبة، فكان أن تماسكوا قليلاً، وفي قمة الإسكندرية 96 بدأت ملامح التصدي التدريجي لمشروع الشرق الأوسط الجديد عبر رفض التطبيع المبكر مع الدولة العبرية، ورفع شعار ربط التقدم في عملية التطبيع بالتقدم في المفاوضات.
في قمة كامب ديفيد 2 أهيل التراب على حلم بيريس. حدث ذلك لأنه حلم لا يمكن أن يتحقق من دون استسلام عربي شامل، وفي تلك القمة تبدى للعرب أن ما يعرضه الإسرائيليون هو من الهزال بحيث يستحيل القبول به. أما ياسر عرفات فقد قال لمضيفيه الأمريكيين إنه لو قبل بما يعرضونه عليه فسيقتله الفلسطينيون.
الآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة كيف يبدو الشرق الأوسط الجديد في خيال كوندي؟
من المؤكد أنه كما شيّد شيمون بيريس بناءه على لحظة استثنائية من الانهيار العربي والتفوق الأمريكي بعد حرب الخليج الثانية ونهاية الحرب الباردة، تشيد كوندي مشروعها على لحظة تراجع غير مسبوق في الوضع العربي مع انسجام دولي استثنائي مع مساعي واشنطن لمواجهة التمرد العربي وروح المقاومة في المنطقة.
حدث ذلك أيضاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرح مطلع العام 2004، وعرض بعد ذلك بشهور على قمة الثماني، لكنه ما لبث أن دخل سجل الوثائق المنسية الخاصة بهذه المنطقة، وذلك بعدما أكتشف الأمريكيون أن جوهره (الإصلاح) سيصب في صالح ألد أعدائها من الأصوليين، فحيثما تكون الانتخابات الحرة يتفوق الإسلاميون، بدليل ما وقع في تركيا ومصر والعراق وفلسطين، بل والسعودية (الانتخابات البلدية) أيضأً.
تأتي كوندي بمشروعها الجديد في سياق مواجهة التمرد الاستثنائي الذي تمثله المقاومة الفلسطينية واللبنانية، فضلاً عن العراقية التي تحضر هنا لأن التفرغ لها بعد يعد أمراً بالغ الأهمية، ولا شك أن مواجهة هذا التمرد وإخضاعه يشكل الحلقة الأولى في المسلسل، ولن يتم ذلك من دون استعادة وضع التهدئة في الساحة الفلسطينية بعد الإفراج عن الأسير، مع استعادة الأسيرين الآخرين وفرض مسار جديد على حزب الله يمهد لنزع سلاحه بعد إبعاده عن الحدود من خلال قوات دولية أطلسية.
لا جديد بعد ذلك سوى ما يجري على الأرض، من مطاردة للبرنامج النووي الإيراني والضغوط على سوريا، مع محاولات مستميتة لترتيب الوضع العراقي على نحو يستعيد الأمل بجعله محطة لإعادة تشكيل المنطقة وفق تعبير سلف كوندي السيد كولن باول، وبما يمهد الطريق أمام خطة الانطواء التي سينفذها أولمرت بناءً على برنامج شارون للحل أحادي الجانب.
تلك هي أحلام الآنسة كوندي، لكنها أحلام لن تتحول إلى واقع، وكما تبخر حلم بيريس ومن بعده حلم باول سيتبخر حلمها هي الأخرى، وفي حين تتواصل المقاومة في العراق فيما يتحول نموذجه الديمقراطي العتيد إلى ساحة للموت والقتل على الهوية بعدما قسمه الاحتلال على أسس طائفية وعرقية، فإن أفغانستان تعود إلى هوايتها في مطاردة الإمبراطوريات، ولا تسأل بعد ذلك عن شارع عربي إسلامي يغلي بالكراهية للأمريكان والصهاينة وينحاز على نحو رائع إلى خيار التحدي والمقاومة.
============(19/192)
(19/193)
لماذا يشتري الإسرائيليّون الأراضي التركيّة؟
اسطنبول/ طه عودة 20/8/1425
04/10/2004
بدأت مسألة نمو حركة شراء الأجانب للأراضي التركية مقلقة للغاية؛ فقوى الشر التي لديها مطامع خبيثة في تركيا شرعت بالتخطيط لاستراتيجية جديدة، وانكبّت على وضع خطط، واعتماد أساليب مختلفة للوصول إلى هدفها في النيل من تركيا.. ولم يعد يخفى على أحد المطامع الصهيونية بالأرض الموعودة، أو حلمهم بإنشاء إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.. وفي ضوء هذه المطامع والحلم الكبير؛ فإن إسرائيل نجحت عبر أنشطة اللوبي اليهودي الواسعة لها في العالم في جذب الدول الكبرى مثل أمريكا إلى جانبها. أما أمريكا فمن جهتها فقد بنت حساباتها الأكثر ثقلاً على تركيا لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير. وطبقاً لجريدة "تايمز" فإن (كل شيء يسير وفقا للخريطة التي تم وضعها عام 1996، حيث إن الدول الموجودة داخل هذه الخريطة سوف تكون مستهدفة بذريعتي دعم الإرهاب وحيازة أسلحة الدمار الشامل). تركيا هي المستهدف الأساسي من هذه الخطة والأحداث الخطيرة التي شهدتها في الفترة الأخيرة هي الدليل الأكبر على ذلك، حيث إن المُنصّرين اختاروا تركيا كمحطة مركزية لهم لنشر المسيحية في المنطقة، حيث بدأت (150) كنيسة تدقّ نواقيسها في تركيا بينما تم فتح (22 ألف) كنيسة في مبانٍ سكنية خلال العامين الماضيين في الوقت الذي تُمسك فيه الحكومة بالمشعل لإنارة طريقهم أكثر عبر استصدار قوانين التوافق مع المعايير الأوروبية، والتي تخدمهم بالدرجة الأولى، وتسهل لهم مساعيهم أكثر فأكثر. وأيضاً فتحت الطريق أمامهم في إطار التوافق التركي مع الاتحاد الأوروبي لامتلاك الأراضي في تركيا، بيد أن حركة الشراء الأجنبية للأراضي التركية شهدت ارتفاعاً مشهوداً منذ استصدار هذا القانون. وفي هذا الإطار تؤكد المديرية العامة للشهر العقاري على حدوث طفرة كبيرة في شراء الأراضي التركية خلال العام الأخير، حيث قام (44.740) شخصاً من (68) دولة مختلفة بشراء أراضٍ ومبان. السوريون وحدهم اشتروا مساحات زراعية في مدينة "هاتاي" الحدودية تقدر بـ(54.940.860) متراً مربعاً، وهي مملوكة لـ (228) شخصاً أي أن الشخص الواحد منهم يمتلك (241) دونماً من الأراضي. هذه المستجدات التي أعقبت استصدار "قانون الإعمار" بعام واحد تغذي مشاعر القلق؛ لكونها مؤشراً واضحاً على أن تركيا في خطر وحصار كبيرين، وإذا لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة بأسرع وقت ممكن؛ فإنه سيصبح من المستحيل بمكان إيقاف فيض العمليات الشرائية هذه. ويحذّر مصطفى باش أوغلو -المدير العام لصندوق العمل والصحة- من هذا الخطر الكبير بقوله: "يجب على المختصين إجراء تحقيقات واسعة للتنقيب عن خلفيّات هذه الطفرة الكبرى في شراء الأجانب للأموال غير المنقولة في تركيا. باعتقادي أن القوى الخارجيّة التي لم تتمكن من احتلال الأناضول بقوة السلاح في الماضي تسعى اليوم لاحتلالها بقوة المال". كما نذكر ما أورده البروفيسور نجم الدين أربكان -زعيم حزب (الرفاه الإسلامي) المنحل ورئيس الوزراء الأسبق- من تحذيرات بهذا الخصوص عندما قال: "حزب العدالة والتنمية يخدم الخطّة الصهيونية المعدة منذ خمسة آلاف عام. ويضيف "رئيس بلدية شانلي عرفة": إن (حزب العدالة والتنمية) يساهم اليوم فعلياً في جعل تركيا ولاية لإسرائيل، والسبب بأنهم سيربحون منها (20) مليون دولار.. يعني أنهم يبيعون هذه المدينة إلى إسرائيل مقابل (20) مليون دولار".
تقرير خطير...
وكشف تقرير نشرته مجلة "نقطة" المتخصصة في الشؤون السياسية والاستراتيجية التركية النقاب عن واقع التغلغل الإسرائيلي داخل تركيا ومخاطره على مستقبلها وأجيالها القادمة. وأوضح التقرير أن نحو ستين مواطناً يهودياً تركياً قاموا بشراء أراضي في المنطقة التابعة للمشروع العملاق لسدود جنوب شرق الأناضول "غاب" تقدر مساحتها الإجمالية بنحو أربعمائة وخمسين ألف دونم. ونقلت المجلة التقرير الذي أعدته منظمة تركية مدنية أن كل شخص من هؤلاء المواطنين اليهود الأتراك قام بشراء ما بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف دونم. وأوضح التقرير أنه بالرغم من أن هذه الأراضي مملوكة اسماً ليهود أتراك إلا أن أصحاب هذه الأراضي الحقيقيين من الإسرائيليين؛ لأن اليهود الأتراك لا يملكون القدرة المالية على شراء هذه المساحات الشاسعة، مشيرة إلى أن المعلومات الاستخبارية تؤكد أن المورد المالي الرئيسي لشراء هذه المساحات الضخمة من أراضي جنوب شرق الأناضول يرجع إلى رجال إسرائيليين يحملون صفة رجال أعمال، كما تؤكد هذه المعلومات الاستخبارية أن عنوان هذا المورد المالي هو مدينة اسطنبول التركية.
اللعبة الإسرائيلية الأمريكية على تركيا(19/194)
وتوصل موقع "خبر نت" على الإنترنت إلى وثائق تكذب الذين ينكرون حقيقة شراء الأجانب للأراضي التركية. وطبقا للخبر الذي نشره الموقع التركي، فقد قال بأنه أرسل موفداً صحفياً له إلى مدينة "كارس" (شرق تركيا) ليتحرى عن صحة الأخبار التي سبق وأن نشرتها الصحف تحت عنوان "اللعبة الأمريكية الإسرائيلية البشعة على كارس.." فقال بأن موفده التقى هناك بأورهان أزكايا نائب المدير العام السابق لدائرة التمليك في كارس الذي زوده بلائحة عن الشخصيات التي اشترت أراضي في هذه المدينة مع الإشارة منه إلى أن عملية الشراء تفجّرت بقوة خصوصاً بعد القانون الذي استصدرته الحكومة التركية، وأعطت فيه الأجانب حق تملك الأراضي في تركيا. وأورد الموقع بالتدريج أسماء الدول التي اشترت أراضي في عموم تركيا:
- من إسرائيل: 38 ألف و405 أشخاص، ويملكون أراضي مساحتها 114 ألف و780 هكتاراً.
- من أمريكا: 31 ألفاً و267 شخصاً، ويملكون أراضي مساحتها 74 ألفاً و523 هكتاراً.
- من فرنسا: 16 ألفاً و451 شخصاً، ويملكون أراضي مساحتها 473 ألف هكتار.
- من اليونان: 14 ألفاً و449 شخصاً ويملكون أراضي مساحتها أربعة آلاف و615 هكتاراً.
- من سوريا: 12 ألفاً و481 شخصاً ويملكون أراضي مساحتها 253 ألفاً و440 هكتاراً.
- من ألمانيا: 11 ألفاً و985 شخصاً ويملكون أراضي مساحتها ستة آلاف و770 هكتاراً.
- من أستراليا: تسعة آلاف و761 شخصاً ويملكون أراضي مساحتها تسعة آلاف و600 هكتار.
- من هولندا: سبعة آلاف و90 شخصاً ويملكون أراضي مساحتها ستة آلاف و870 هكتاراً.
- من بريطانيا: 5577 شخصاً ويملكون أراضي مساحتها ألفان و805 هكتارات.
-وبالنسبة لأزكايا فإن هذه الأرقام التي أعلن عنها رسمياً منذ عام 2001 تبقى نسبية مقارنة بالعامين الماضيين اللذين حمي الوطيس فيهما لشراء الأراضي بالضعف. وطبقاً للمعلومات التي حصل عليها الموقع، فإن مشروع غاب من أكثر المناطق التي تستحوذ على اهتمام الأجانب وخصوصاً اليهود عن بقية المدن التركية الأخرى بنسبة 15.4 بالمئة.
إسرائيل وسيناريوهات المؤامرة
إسرائيل تضع السيناريوهات من خلف الكواليس، وتحيك المؤامرات ضد تركيا لكي تشغلها عن الخطط الجهنميّة الهادفة إلى التمركز في منطقة مشروع غاب أولاً، ومن بعدها جنوب شرق الأناضول امتداداً للوصول إلى إمبراطوريتها المزعومة… والأكيد في الخطة الإسرائيلية هي أنها بدأت من نهر النيل، ووصلت الآن إلى الفرات.. كما أن النقطة التي لا يمكن التغافل عنها هي أن إسرائيل داخل اللعبة الكرديّة فهي تصعد التوتر في شمال العراق لكي تشغل تركيا والعراق وسوريا بالمشكلة الكرديّة ليتسنى لها أن تسرح وتمرح في المنطقة دون رقيب أو حسيب يدعمها في ذلك الانحياز الأمريكي السافر، بل المشجع لأهدافها التوسعيّة في المنطقة على حساب المسلمين.
=============(19/195)
(19/196)
الاقتصاد والإرهاب ودلال اليهود لدى (كيري) و(بوش)
ياسر الزعاترة 19/9/1425
02/11/2004
مثلما هي العادة، تبدو الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة من القضايا التي تهم القطاعات السياسية في العالم أجمع، لكنها تبدو أكثر تميزاً هذه المرة، من حيث حجم الاهتمام الذي ستحظى به، وهي التي سيتنافس فيها كل من الرئيس الحالي جورج بوش الابن عن الحزب الجمهوري، والسناتور جون كيري عن الحزب الديمقراطي.
هناك الكثير مما يجعل هذه الانتخابات مميزة إلى حد كبير، أكان على الصعيد الداخلي، أم على الصعيد الخارجي. فعلى الصعيد الأول تبدو معركة "بوش" ضد الإرهاب واحدة من أهم الأسباب، لاسيما أنها معركة تركت آثارها على كل شيء في الساحة، من الاقتصاد إلى الأمن والخوف إلى قضايا البطالة والتأمين الصحي والتعليم التي تتأثر بدورها بتقليص الميزانية لصالح زيادة مخصصات الأمن والدفاع.
أما على الصعيد الخارجي فقد تحوّلت معركة "بوش" ضد "الإرهاب" إلى شكل من أشكال الصدام مع العالم أجمع، وتكريساً لأحادية القطبية بما تنطوي عليه من استخفاف بالشركاء الآخرين في الساحة الدولية،لا سيما داخل المنظومة الغربية التي تمثلها أوروبا.
لقد بات واضحاً أن حقبة "بوش" هي الحقبة الأكثر يمينية في تاريخ الولايات المتحدة، حيث تشكلت من عدة عصابات تآلفت على منطق عسكرة الوضع الدولي. ويقود هذه المجموعات فريق "مشروع قرن امبراطوري جديد" الذي تأسس عام 1997 برموزه الصهيونية واليمينية المسيحية ومعهم تجار السلاح وتجار النفط، وقد اتفق هؤلاء على ضرورة أن يكون القرن الجديد هو قرن الامبراطورية الأمريكية، ولن يتم ذلك إلا من خلال القوة العسكرية ولن تبدأ تلك المرحلة إلا باحتلال العراق.
كان مصدر الفشل في أحلام الفريق المذكور هو ذاته منطلق المشروع الذي تبنّوه، ممثلاً في العراق، فمن الزاوية العسكرية كان احتلال ذلك البلد أمراً سهلاً، لكنه لم يكن كذلك من الناحية السياسية ولا في مرحلة ما بعد الاحتلال ممثلة في ترتيب البيت العراقي بحيث يغدو منسجماً مع المصالح الأمريكية الصهيونية.
من الناحية السياسية لم توفق واشنطن في ترتيب أمر التحالف من أجل شن الحرب، حيث ذهبت إليها فيما يشبه الانفراد. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقصة أسلحة الدمار الشامل التي استندت إليها لتبرير الحرب لم تكن صحيحة. أما الأهم فهو أن الشعب العراقي لم يرحب بالأمريكان كمحرّرين وإنما تعامل معهم كمحتلين، أكان ذلك سياسياً أم عسكريا؛ً حيث اندلعت المقاومة على نحو جعل نجاح المخطط كما رسمه صقور "البنتاغون" أمراً صعباً.
الآن يدخل جون كيري الانتخابات فيما يمكن القول: إنه مسار التركيز على فشل الطرف الآخر أكثر من برنامج مغاير تحفظه وعود الإنجاز، ويتبدى ذلك الفشل من خلال عدد من المعطيات الداخلية والخارجية. فداخلياً هناك الوضع الاقتصادي السيئ الذي يلقي بظلاله على الصحة والتعليم والبطالة. أما خارجياً فهناك العلاقة المضطربة لواشنطن مع حلفائها في أوروبا. فيما الأهم من ذلك كله هو الفشل في العراق وما يترتب عليه من استنزاف مالي وبشري بعد العجز عن العثور على أسلحة الدمار الشامل.
سيحاول (كيري) أن يركز على ذلك كله، إضافة إلى وعود الإصلاح المقابلة، وعلى رأسها إصلاح السياسة الخارجية والعلاقة مع الشركاء الآخرين كمسار لمحاربة الإرهاب والتصدي للتحديات الخارجية بدل الاستفراد ودفع الثمن المباشر دون الآخرين.
أما (بوش) فسيسعى إلى مواصلة حرب التخويف من الإرهاب الذي لا بد من استمرار محاربته كي يبقى الوطن سليماً معافى. وقد جاء الإعلان الانتخابي الأول بمثابة تركيز على هذا العنصر من خلال استعادة مشاهد هجمات الحادي عشر من أيلول، فيما ركز الرئيس ونائبه على ضعف (كيري) وعدم قدرته على إدارة زمن الحرب.
لا شك أن لغة اليمين ستهيمن على خطاب (بوش)، مع محاولة استثمار النزعة اليسارية لكيري، فيما لا يُستبعد أن يستخدم البعد الديني للاستمرار في هذه اللعبة واستقطاب جماعات اليمين الديني لصالحه، وهي الجماعات التي دأبت على دعمه بوصفه متديناً على طريقتها. ونعني جماعات الكنائس المعمدانية الجنوبية، صاحبة النفوذ الواسع على كم كبير من الجمهور المسيحي البروتستانتي.
أصول (كيري) موقف اليهود
لا شك أن سؤال موقف اليهود من اللعبة الانتخابية لايزال برسم الإجابة ولم يُحسم بعد، فالرجلان اللذان يختلفان على ملفات كثيرة يتفقان تماماً، بل يزايدان على بعضهما، في الانحياز لليهود والدولة العبرية. وقد جاءت المعلومات الجديدة لتؤكد أن والد (كيري) ووالدته كذلك كانا يهوديين من تشيخيا، وقد تنصّرا على المذهب الكاثوليكي وهاجرا الى الولايات المتحدة عام 1905 بعد أن غيّر الأب اسمه. أما شقيق (كيري) فقد عاد وتهوّد، لكنه لم يفعل ذلك-أقله- علناً، فيما يعلن دائماً افتخاره بذلك النسب. ويُشار هنا إلى أن المركز الإسرائيلي لتوثيق المحرقة اليهودية قد كشف هذه القصة، مضيفاً أن جدة (كيري) اليهودية قد فقدت كلاً من شقيقها وشقيقتها في المحرقة.(19/197)
(كيري) في ضوء ذلك يشكل حالة فريدة في السجل الانتخابي، ذلك أن فوزه بمنصب الرئاسة سيجعل منه اليهودي الأول إذا كان ولاؤه للدين اليهودي. أما إذا كان "كاثوليكياً" كما يقول، فسيكون الثاني على هذا الصعيد، إذ لم يسبق أن تبوأ كاثوليكي منصب الرئاسة إلا مرة واحدة وكان ذلك من خلال (جون كينيدي) الذي قتل قبل أن يكمل ولايته الرئاسية.
معروف أن الحزب الديمقراطي هو مزيج من اليهود والسود والملونين والأقليات عموماً، إلى جانب الكاثوليك والتيار الليبرالي واليساري في "الواسبس"، أو البيض الانجلوساكسون (البروتستانت). وعادة ما يقف اليهود إلى جانب الحزب الديمقراطي مع وجود آخرين من بينهم يدعمون الحزب الجمهوري من أجل كسب الطرفين معاً، وإن لم يتم ذلك بترتيب حقيقي بالضرورة؛ لأن الخلاف بينهم كان قائماً على الدوام.
في الموقف من الدولة العبرية قدّم (كيري) حتى الآن مواقف منحازة أكثر من (بوش)، حيث اعتبر الجدار الأمني حاجة إسرائيلية، وأدان ياسر عرفات واعتبره غير صالح لموقع الشريك السياسي بسبب دعمه للإرهاب. لكن ذلك كله لن يكون كافياً لحسم المسألة عند اليهود؛ لأن مواقفه الخارجية الأخرى قد تكون إشكالية بالنسبة لهم، ذلك أن استمرار معركة العراق ومشروع "الشرق الأوسط الكبير" ومطاردة "الإرهاب الإسلامي" ربما شكلت عناصر تجعل (بوش) أكثر جاذبية لليهود ولدولتهم الأم "إسرائيل".
بالمقابل فإن موقف العرب والمسلمين الذي كان يتحدد تقليدياً من خلال الملف الفلسطيني ومخالفة اليهود قد شهد تحولاً هذه المرة، حيث يتوقع أن يتم التصويت لصالح (كيري) بسبب الملف الخارجي وعلى رأسه قصة الإرهاب، لاسيما وأن الموقف من القضية الفلسطينية يبدو متطابقاً عند الرجلين.
واقع الحال هو أن المنظور العربي والإسلامي لا يبدو مطابقاً لمقاربة العرب والمسلمين، داخل الولايات المتحدة، ففوز (بوش) ربما شكل مصلحة للمسلمين لأن مواقفه الرعناء ستواصل حشد العالم ضده، فيما ستؤثر على الأوضاع الداخلية على أكثر من صعيد، وهو سيواصل غطرسته في العراق، ما سيدفعه إلى الفشل الذي سيؤدي عملياً إلى دفع الولايات المتحدة خطوات أخرى نحو الوراء، الأمر الذي يهم العالم أجمع، وعلى رأسه أمة العرب والمسلمين.
تبقى مسألة فرص الفوز لكل منهما، وهي مسألة لا مجال لحسمها، وإن بدا (كيري) متفوقاً هذه الأيام، لكن الأمل بفوز (بوش) يبقى قائماً، لاسيما إذا انحاز إليه اليهود أو معظمهم كما هو متوقع، أقله ضمن المعطيات القائمة.
===========(19/198)
(19/199)
تقرير "البيان" الاستراتيجي الثاني
قراءة: عماد الخطيب 20/9/1425
03/11/2004
تقدم مجلة "البيان" الشهرية الصادرة عن المنتدى الإسلامي بلندن تقريرها السنوي الثاني لعام 1425هـ والذي كان عنوانه (مستقبل العالم الإسلامي ، تحديات في عالم متغير).
أما التقرير الأول والذي يعد بادرة جديدة حيث طرحت مجلة البيان في الأسواق أحدث إصداراتها : التقرير الارتيادي ( الاستراتيجي ) السنوي ، و الذي جاء ليسد ثغرة هائلة في الوعي العربي ، طالما تسلل منها أعداؤنا ، ليحدثوا نزيفاً في وعي أمتنا ، و أتى التقرير ليفجر إعلاناً مدوياً ، وتطبيقاً عملياً ، لقاعدة هامة ، وهي أن العقل العربي ينبغي أن يكون صياغة إسلامية خالصة ..
ويهدف التقرير في طرحه السنوي إلى :
1 - بحث الخيارات الممكنة والسبل المتاحة لكي تأخذ الأمة الإسلامية وضعها ومكانتها في البيئة الدولية وقدرتها على تحدي القوى والاستراتيجيات العالمية والإقليمية، بل وصولها إلى وضع القوة المهيمنة الأولى على الساحة الدولية مستقبلاً في ضوء اللحظة الراهنة ليس استكباراً أو تجبراً في الأرض؛ بل أداء لمهمتها التي كلفها الله بها في الأرض.
2 - يكون التقرير أداة للتأثير على صانعي القرار أو النخبة القريبة من الدائرة المشتركة في صناعة القرار داخل دوائر الحكم العربية من سياسيين وإعلاميين؛ وذلك يتحقق من خلال إشراك مجموعة من الباحثين المحايدين في مراكز البحوث العربية والذين يرتبطون بدوائر صنع القرار عن طريق التشاور.
3 - تربية وتدريب عناصر على التحليل السياسي المرتبط بالرؤية الارتيادية.
4 - إحياء الحس الارتيادي لدى النخبة من أبناء الأمة.
5 - إبراز جانب النظرية السياسية في المنهج الإسلامي.
هذه هي الأهداف العامة كما جاءت في مقدمة العدد الأول منه . بينما الهدف الخاص لكل تقرير هو تتبع التغيرات العالمية الاستراتيجية بأبعادها السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها التي جرت خلال عام على أوضاع الأمة الإسلامية) وهي تجاهد لتحقيق مكانتها في البيئة الدولية وقدرتها على تحدي القوى والاستراتيجيات العالمية والإقليمية.
ويقوم هذا التقرير بالبحث عن اللحظة التي نعتبرها نقطة فاصلة في العلاقات الدولية والنظام الدولي، وهي لحظة صعود الأمة الإسلامية إلى تبوُّؤ مكانتها على الساحة الدولية؛ في وقت تخترق فيه هذه الأمة والقوى الفاعلة فيها بحُجُب وقيود تحول بينها وبين الصعود؛ فضلاً عن الاستمرار في هذا الصعود. هذه اللحظة أو الثغرة قد تكون حين تنهار قوى عظمى ومهيمنة، أو يقع خلل في ميزان القوى العالمي، أو تحدث أزمة عالمية حادة، اقتصادية أو عسكرية، أو غير ذلك من الظروف الدولية، وهذا ليس ببعيد أو مستغرب، فالأمثلة كثيرة والشواهد القريبة عديدة؛ منها القنبلة النووية الباكستانية.
ففي عام 1974م أجرت الهند اختباراً على قنبلة تبلغ قوتها حوالي 15 كيلو طناً، وقالت إن الاختبار هو انفجار نووي للأغراض السلمية.
في إثر ذلك اجتمع رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو بكبار العلماء، وأخبرهم عن نية الحكومة في تطوير أسلحة نووية.
وفي بداية الثمانينيات شهدت الساحة الدولية الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والذي أشارت المصادر الأمريكية بعد ذلك أنه تم باستدراج أمريكي للروس لإغراقهم في المستنقع الأفغاني، وكانت باكستان لأسباب عديدة هي المعول الأمريكي الرئيس في إسقاط القطب الذي ظل ينافس أمريكا على الهيمنة لعدة عقود. ورأت الولايات المتحدة أن استراتيجية إسقاط الاتحاد السوفييتي مقدَّمة على استراتيجية مكافحة انتشار الأسلحة النووية، والتقط الجانب الباكستاني الفرصة، وأشارت تقارير متعددة إلى حصول باكستان على نموذج قنبلة ذرية من الصين تم اختباره مسبقاً، إلا أن باكستان نفت ذلك. وفي عام 1981م نشرت وكالة أسوشيتدبرس محتويات تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية، جاء فيه: «إن لدينا سبباً قوياً للاعتقاد بأن باكستان تسعى إلى تطوير القدرة على التفجير النووي، وأنها تنفِّذ برنامجاً لإعداد وتطوير نظام إطلاق التفاعل في الأسلحة النووية»، وفي أواخر عام 1981م صدر كتاب بعنوان (القنبلة الإسلامية)، يتحدث عن الجهود الباكستانية الأخيرة لتنفيذ تجربة نووية.
وبعد أن انتهت الولايات المتحدة من إضعاف الاتحاد السوفييتي ثم إسقاطه تضاءلت الحاجة إلى باكستان، وتفرغت لمشكلة قنبلتها النووية، ولكن كانت عجلة المشروع الباكستاني قد وصلت إلى مرحلة لا يستطيع أحد إيقافها، وأفلتت باكستان بقنبلتها النووية.
فهذا النموذج نجحت فيه القوى الإسلامية في تنمية رصيد القوة لدى الأمة الإسلامية، وهذا يجعلنا نرقب الوضع الدولي جيداً، بل نسعى إلى تغييره في اتجاه تصعيد دور فاعل للأمة على الصعيد العالمي.
وبذلك يتتبع التقرير حال الأمة الإسلامية، ومدى ما تمتلكه من أدوات القوة ووسائلها، ووضع القوى الدولية وترتيبها، والعلاقات بينها، والنظريات السياسية التي تقودها؛ محاولاً رصد الفراغ الذي يمكن من خلاله أن تنفذ الأمة والقوى الفاعلة فيها.(19/200)
وبدأ التقرير الثاني كماهو العادة في التقرير الأول بباب النظرية والفكر.
ويتناول الفصل الأول في هذا الباب: مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي من خلال التعريف بالنظام الإسلامي والتنظيمات الإدارية المتعلقة به، وأحكام الخلافة، ومستقبل النظام الإسلامي في واقعنا المعاصر.
أما الفصل الثاني فيتناول قضية الإرهاب وشروط البحث في هذا الموضوع، والجوانب المرتبطة به مثل الإعلام والفكر والسياسة وغيرها.
ويحاول الباحث في الفصل الثالث المشاركة في تأسيس معرفي إسلامي لمفهوم حوار الحضارات الذي كثر الكلام حوله، وتباينت المواقف تجاهه في ظل ظروف هيمنة للحضارة الغربية.
كما خصص التقرير باباً كاملاً لدراسة هذه الحرب من زواياها الاستراتيجية المختلفة، فتحدث الفصل الأول عن مقارنة بين كل من الإعلام الغربي والعربي والصعوبات والتحديات والسلبيات التي أظهرتها تلك الحرب في هذا المجال.
وتناول الفصل الثاني التعريف بأهل السنة في العراق؛ حيث جرى التعريف بأوضاعهم، ورصد الباحث التحديات التي تواجههم على عدة مستويات سواء في ذلك المحيط الدولي أو الإقليمي أو المحلي، ثم وضع حلولاً للتعامل مع هذه التحديات.
أما في الفصل الثالث فيقوم الباحث فيه برصد المتغيرات في المنطقة العربية بعد أحداث احتلال العراق، وحاول الإجابة عن أسئلة تتعلق بمجالات التغيير المتوقعة في المنطقة العربية، وما هي أهداف التغيير المحتمل؟ وما هي عوامل نجاح وإخفاق هذا التغيير المحتمل؟
ثم في النهاية حاول الإجابة عن السؤال المحوري فيما يتعلق بسبل مواجهة هذا التغيير وكيفية التعامل معه.
وفي الفصل الرابع يتناول التقرير الدور الإسرائيلي في العدوان على العراق، ودلالاته الاستراتيجية. ويبحث في الدور الذي قامت به إسرائيل في التحضير للحرب قبل احتلال العراق وبعده؛ وذلك من خلال تحليل الاستراتيجية الإسرائيلية في العالم الإسلامي والعربي بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. كما يبحث في سياسة إسرائيل في دعم الولايات المتحدة في عدوانها على العراق، والمكاسب التي حققتها إسرائيل من الاحتلال الأمريكي للعراق على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
ويبحث الفصل الخامس في تأثير الحرب على العراق على توازن القوى الدولي من خلال تقويم واقع كل قوة كبرى في حدود الدور واحتمالاته المستقبلية، وتأثير ذلك على العالم الإسلامي، ثم مناقشة بعض الخيارات الاستراتيجية للعالم العربي الإسلامي في ظل نتائج الدراسة.
والفصل السادس يركز على المحددات التي يمكن بها توقع مستقبل الاحتلال الأمريكي للعراق والسيناريوهات المستقبلية لهذا الوجود، ثم إمكانية تأثير القوى الفاعلة في الأمة الإسلامية في هذا الوجود ومستقبله.
أما الباب الثاني فيطل على العلاقات الدولية من خلال التركيز على أوضاع البؤر الساخنة التي تواجهها أمتنا:
فالفصل الأول يتناول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم وانعكاسها على العرب.
ويتناول الفصل الثاني الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط؛ وذلك من خلال المشروع الأمريكي المسمى الشرق الأوسط الكبير.
وفي الفصل الثالث من هذا الباب يرصد مسمى (المحافظون الجدد) ذلك المصطلح الذي أخذ يتردد بقوة في الفترة الأخيرة، ويحاول هذا الفصل إزالة الالتباس المتعلق بهذا المفهوم على صعيد النخب الفكرية.
وفي الباب الرابع يحاول الباحث استكشاف التغيرات الطارئة على القضية الفلسطينية خاصة ما يمس منها المقاومة ويستشف أبعادها المستقبلية.
وفي الباب الخامس يناقش الباحث التحديات التي تمس أمن باكستان القومي، والتحديات التي تهدد الهوية الإسلامية التي قامت عليها باكستان والتي على رأسها حصار المحور (الأمريكي - الإسرائيلي - الهندي).
ويتناول الفصل السادس المعادلة الأفغانية والصراع الدولي حولها، وسبل خروج الأمة الإسلامية من المأزق الأفغاني.
ويضع الفصل السابع المسألة الشيشانية بأبعادها المختلفة القديمة والحالية تحت البحث، ويحاول الكشف عن أبرز العوامل المؤثرة في القضية في مراحلها المختلفة والإجابة عن تساؤلات عديدة.
ويسلط الفصل الثامن الضوء على الصراع في إيران بين المحافظين والإصلاحيين أو دعاة التشيع وحاملي لواء الليبرالية.
ويركز الفصل التاسع والأخير في هذا الباب على شكلين من أشكال الترجمة العملية للتناول الغربي لمصطلح الإرهاب الشكل الأول؛ تقزيم العمل الخيري الإسلامي. والشكل الثاني؛ مصادرة الأموال الإسلامية والعربية.
ويبقى في النهاية ملحقان للتقرير:
الملحق الأول: يتعلق بترجمات النشرات الصادرة عن أهم مراكز البحوث والدراسات خاصة في الولايات المتحدة وإسرائيل ومنها ملخصات دراسة الوجه الآخر للحركة الإسلامية لمركز كارينجي للسلام، ودراسة انهيار العرب لمركز ديان، وملخص لتوقعات مركز جافي الإسرائيلي لعام 2003م، وملخص لنشرات مركز استخبارات الشرق الأوسط لنفس العام، وكذلك ملخص لنشرة واشنطن الفصلية للعام نفسه.(19/201)
الملحق الثاني: ويتناول أشهر تسعة كتب سياسية تتعلق بالشأن الإسلامي في العالم التي صدرت في العام الماضي؛ حيث تناولنا تعريفاً بالكتاب والمؤلف، وهي: (مستقبل الإسلام السياسي)، و(ما بعد الحرب في العراق)، و(التصدي للجهاد ووجهاً لوجه مع الإسلام السياسي)، و(نهاية الشر)، و(ما بعد الجهاد)، و (أمريكا وأوروبا في النظام العالمي الجديد)، و(الدور السياسي للدين في الشرق الأوسط)، و(مشكلة القوة الأمريكية).
وبذلك يتتبع التقرير حال الأمة الإسلامية ومدى ما تمتلكه من أدوات القوة ووسائلها، ووضع القوى الدولية وترتيبها، والعلاقات بينها، والنظريات السياسية التي تقودها؛ محاولاً رصد الفراغ الذي يمكن من خلاله أن تنفذ الأمة والقوى الفاعلة فيها.
فالأمة بحاجة حقيقية إلى بعث الاهتمام جدياً بالدراسات المستقبلية في عالمنا الإسلامي؛ ليس بأن تأخذنا ضرورات البريق العالمي؛ فنبدي بشكل مظهري وقشري اهتماماً بالمسمى، دون أن نهتم اهتماماً فعلياً بالجوهر؛ وذلك من باب إبراء الذمة والظهور بمظهر المتقدمين، فنقوم بإضافة كلمة المستقبل إقحاماً إلى بحوثنا ودراساتنا ومقالاتنا، ولكن من خلال جهود علمية مؤسسية تأخذنا إلى نطاق أكثر جدية وفاعلية من مجرد حَدْس الأفراد وتوقعاتهم المعتمدة على قدراتهم الاستشرافية الذاتية؛ ذلك أن للدراسات المستقبلية أساليب منهجية تحتاج إلى درس ومران، وهي فوق ذلك تحتاج إلى قدر من التخيل العلمي المستقبلي، والتحرر الذهني، فضلاً عن قدرة على التدرب الدائم على تنمية عقلية البدائل القادرة على طرح تصورات إبداعية نظرية وواقعية على حد سواء، وهو ما يتطلب ضرورة التحرر من أسر الرؤية اللحظية بما تتطلبه من عدم إهمال للتفاصيل والأحداث والتطورات التي قد تبدو جزئية ومنفصلة، في حين أنها تنطوي على قدر كبير من الأهمية، كما أنها لا تهمل ما قد يراه أغلب الناس ضرباً من العشوائية، في حين أنه ينطوي على انتظام ما بالإمكان دراسته وفقاً لمنطقه الخاص
=============(19/202)
(19/203)
المبادرة الخامسة : حتمية إنشاء مؤسسات المجتمع المدني
9/1/1428
28/01/2007
المبادرة الخامسة: حتمية إنشاء مؤسسات المجتمع المدني
• هل يؤمن القادة بالعالم الإسلامي بسلطة المجتمع ..؟
• الحق الاجتماعي ..... هل جعلته الحكومات صدقة ..؟
• صوت الشعوب في بعض الدول ...مؤسسة حقيقية أم بهرجة إعلامية ومتاجرة بالحقوق
....!!!!
خلفية المبادرة
المجتمع المدني وفق المفهوم العام يأتي على نقيض المجتمع القروي - الريفي -حيث العلاقات لا تكون إرادية بقدر ما هي طبيعية, ينتمي الفرد إليها بالضرورة ويصعب عليه الانسحاب منها والتنكر لها (القبيلة - العشيرة. . الخ).
ومؤسسات المجتمع المدني تمثل المؤسسات التي ينشئها الناس فيما بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية, فهي إذاً مؤسسات إرادية ينشئها الناس وينخرطون فيها أو يحلونها وينسحبون منها.
تلك المؤسسات مستقلة عن الدولة سواء أكانت اقتصادية (شركات - مؤسسات - مصارف. . ) أو اجتماعية (جمعيات - نقابات - روابط. . ) أو سياسية (أحزاب - مجالس منتخبة -. . ) أو ثقافية (منتديات - صالونات - وسائل إعلام - صحف ومجلات. . ).من هنا فإن مؤسسات المجتمع المدني هي مؤسسات أهلية مستقلة عن تدخل الدولة، ولكنها ليست مستقلة عن إطارها، فهي تتميز بالاستقلالية وروح المبادرة الفردية، والجماعية، والعمل التطوعي والوظيفي المنظم، لخدمة الجماعة من أجل المصالح العامَّة، والدفاع عن الفئات المظلومة والمضطهدة والمهمشة. ولذا فهي تمثل مجتمع من التنظيم المهني والجمعياتي الفاعل والمؤثر، كما يمكن اعتبارها واحدة من الضمانات الحقيقية لاستقرار المجتمع وتحقيق أمنه ورفاهيته.
من هنا فإن إنشاء مؤسسات المجتمع المدني الحقيقية والتي تؤدي دور فاعل في الدول الإسلامية -والعربية بشكل خاص- مسألة جدية وواقعية لا تحتمل التأجيل حيث تؤدي إلى إحياء المجتمع وإبراز طاقاته وبث الحيوية والنشاط في أوصاله.
إن مشكلة بعض الأنظمة العربية التخوف من مؤسسات العمل المدني، لأنها سوف تحرمها من "الامتيازات" الخاصة التي ترفل فيها، والتي تجعلها فوق القانون. لأن الاستبداد هو الذي يمكنها من قمع معارضيها ومنتقديها وإيداعهم غياهب السجون، حتى صارت الشعوب العربية- التي عرفت في الماضي بجرأتها في الحق- تتخوف الآن من إبداء رأي، وهذا أدى إلى شيوع السلبية والانهزامية وتنامي الروح الأنانية. كما أنه ذاته هو ما جرأ، وربما دفع القوى الخارجية إلى مباشرة التدخل المقيت في بلادنا كما حصل في العراق مثلا أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو أمر مرشح للحدوث في دول أخرى حسب رؤية الدول الغربية وخططها المعلنة.
وهذا ما يراه الدكتور عبد الله الحامد ويؤكد أن المجتمع المدني ليس مجتمع الفردية ـ أو الانحصار ضمن تجمعات منغلقة على حقوقها ومصالحها ـ كما يسئ فهمه بعض الناس، بل هو مجتمع التسامح والحوار، والاعتراف بالآخرين الموجودين في الوطن واحترام آرائهم واتجاهاتهم.
أما أهمية دور المؤسسات داخل المجتمع المدني وضرورة المبادرة إليها فيمكن إبرازها في النقاط التالية:
لا يمكن تنبيه الدولة إلى الاختلال بدون مؤسسات المجتمع المدني، لأن السلطة المطلقة ذات ميل طبيعي إلى خرق القوانين التي أصدرتها هي نفسها دون وجود مصلح أو رقيب، لذا يمكننا القول "السلطة بلا رقيب علة بلا طبيب".
مؤسسات المجتمع المدني هي ضمانة الأمن والسلام الداخلي، من خلال إيجاد توازن بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع، إذ بمؤسسات المجتمع المدني تناط مسئولية التوازن والانسجام بدلاً من التناحر والانفصام، فهي تقف في وجه نزوع الدولة إلى بسط هيمنتها، وهي ليست ضد الدولة ولكنها ضد شموليتها واستبدادها.
مؤسسات المجتمع المدني تجسد إرادة الأمة التي ينبغي للدولة العمل على تنفيذها، وتنذر المسؤولين عن السلطة بما يسرى داخل المجتمع من أمراض أو علل، وتعمل على توثيق العلاقة بين الحاكم والمحكوم (تلاحم الجبهة الداخلية).
تلك المؤسسات تنتقل بالإنسان من مجرد "رعية" اعتاد على تنفيذ الأوامر والانصياع المطلق, إلى مواطن يتحدد كيانه بمجموعة من الحقوق والواجبات, هذا المواطن وبهذه الصفات فقط يمكنه أن يمتلك الأدوات اللازمة، ليمارس هذا المواطن مواطنته بشكل ناضج وحقيقي وصحيح.
من أجل ذلك تشتد الحاجة في بلداننا العربية والإسلاميَّة إلى تفعيل وتنشيط قيم المجتمع المدني، وإقامة هياكل مؤسساته، لأن أي دولة لن تسطيع الصمود أمام العولمة الإمبريالية، ما لم تكن فيها مؤسسات راسخة للمجتمع المدني.(19/204)
الدكتور الشيخ ناصر العمر يرى أن الأمر لا يحتمل التأجيل أو التأخير ، ولذا لابد من تنادي المثقفين والعلماء للمسارعة في إيجاد مؤسسات المجتمع المدني، و تفعيل دورها، نظراً لأهميتها في "إنعاش المجتمع المسلم "، ولأنها تشكل "قوة ضغط حقيقية على الحكومات الجاثمة على رقاب الناس". ويبدي الدكتور ناصر أسفه البالغ لنجاح تجربة تلك المؤسسات لدى الدول الأخرى وتأثيرها الشديد على أمريكا والدول الغربيَّة على وجه الخصوص، وانعدام تجربة تلك المؤسسات في المجتمعات المسلمة على الرغم من إمكانياتها الماديّة والبشرية الهائلة.
المحاور الرئيسية للمبادرة
من المؤكد جدا أن للمنظمات والهيئات والنقابات (مؤسسات المجتمع المدني) دوراً أساسياً جداً في المجتمع، لأنها تقوم بدور الوسيط بين الدولة وعامَّة الناس، كما أنها تعد بمثابة ركائز مهمة في وجه تغول الدولة وتسلطها. والمبادرة الحالية لإنشاء تلك المؤسسات يمكن عرضها ضمن المحاور الثلاثة التالية، مع ملاحظة أن بين تلك المحاور تلازم وارتباط شديد.
ضمن المحور الأول يرى مجموعة من الباحثين منهم الدكتور ناصر العمر والدكتور عبد الله الحامد وغيرهم، أن تحقيق هذا المقترح (مؤسسات المجتمع المدني) لأهدافه المرجوة، يستلزم إرساء التالي:
1. استقلالية هذه المؤسسات في وجودها وقراراتها عن المؤسسات الرسمية(الحكومات)، بحيث ترعى حقوق الناس، وتؤمن لهم العمل، لئلا يلجئوا إلى استجداء المتنفذين من أجل إيجاد عمل لهم، وتمارس نوعا من الضغط والتأثير على الحكومات، يوازن ما يقوم به المتنفذون وأرباب المصالح الخاصة في الدولة، الذين يوجهون إصدار النظم والقرارات بما يخدم مصالحهم، كما هو الحال في بعض الدول الإسلاميَّة كالجزائر وتركيا.
2. الرفق في الطرح، والبعد عن مواجهة الدول وعن مجالات العنف، حتى لا تسد الأبواب منذ البداية والعمل على ألا يتولى تلك الهيئات أشخاص معادون للدولة، أو لهم تاريخ في الوقوف في وجهها.
3. ألا تكون تلك المؤسسات إقليمية، من خلال العمل على أن يكون لأهل كل اختصاص أو مهنة هيئة تمثلهم، بحيث تتحول تدريجيا إلى مؤسسة عمل اجتماعي حقيقية.
4. الارتباط المباشر بالشعوب، والبعد عن المظهرية والبهرجة الإعلاميَّة، بحيث تتكفل تلك المؤسسات بالاتصال بشرائح المجتمع المختلفة، وتعيش هموم الناس وآلامهم ومعاناتهم في مدارسهم، ومستشفياتهم، ومصالحهم وسجونهم، كما تخاطب الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة، كالإنترنت والمنبر والصحيفة.
5. الدكتور عبد الكريم بكار يعترف بصعوبة القيام بعمليّة ربط الشعوب العربية بصورة سريعة بمؤسسات العمل المدني، ويحدد بأنه من واجب تلك المؤسسات أن تتمتع بالجاذبية التي تمكنها من شد الناس نحوها وثقتهم بها، وذلك يتم من خلال الاستراتيجيات التالية:
• الثبات على مبادئها من غير انغلاق ولا تحجر.
• الوقوف إلى جانب الأغلبية الصامتة من أبناء الأمة.
• الدفاع عن المظلوم ومساعدته على نيل حقوقه.
• البعد عن الحزبية والفئوية والتعصب، بحيث تعبر المؤسسات عن تطلعات ومشكلات جميع الأمة.
• التمتع بشيء من الجرأة في الطرح حتى تثبت قدرتها على الريادة الاجتماعية.
6. عدد آخر من الباحثين يؤكدون على أن بناء المؤسسات (المجتمع المدني) وتفعيلها في البلاد العربية، لا بد أن يتم بصورة ناضجة، ويمكن أن يتم عن طريق:
• دراسة التجارب السابقة، ومحاولة تلافي الأخطاء التي وقعت فيها.
• قيام كل مهنة بخدمة الأغراض التي قامت من أجلها والحذر من تداخل الأهداف وتقاطع الآليات المستخدمة لكل هيئة.
• تشكيل هويات تلك الهيئات عن طريق الإبراز الإعلامي المكثف للشخصيات المؤهلة لأداء الدور المستقبلي.
• ضرورة أن يتاح لها التمتع بقوة اقتصادية هائلة، من خلال تأمين مصادر دخل ثابتة مرتبطة بالأدوار التي تقوم بها.
فيما يتعلق بالمحور الثاني للمبادرة، وبصورة عمليّة وواقعية، يرى العديد من العلماء والباحثين التي تم استفتاؤهم، وعلى رأسهم الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي، أنّه لابد من اعتماد المرحلية لتأمين وجود مؤسسات المجتمع المدني للدول التي لا تتوفر فيها تلك المؤسسات. هذه المرحلية تستلزم التالي:
1. الإشاعة الفكرية لقضية المجتمع المدني، وبيان أهميته وفائدته للشعب وللدولة.
2. إشاعة مفاهيم (الحق الاجتماعي)، وأن ما يعطاه المجتمع ليس صدقة ولا منة، بل هو حق من حقوقه.
3. إشاعة مفاهيم (الواجب الاجتماعي)، وضرورة مشاركة "الجميع" في خدمة "المجتمع"، وبيان أهمية الإسهام في هذا الجانب بصورة عمليّة.
4. إزالة القداسة الموهومة في أذهان الناس تجاه المؤسسات الرسمية.
5. الاستفادة المبدئية (في الوقت الراهن) من المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية (الجامعات، والجمعيات الخيرية)، لإنشاء هيئات ومؤسسات يمكن أن تصبح بشكل طبيعي نواة لمؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل مفاهيم وأعراف (المجتمع المدني) بالتدريج.(19/205)
6. السعي العمليّ من قبل القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة، لإيجاد أي " منظمة " أو "هيئة " أو "نقابة " أو "اتحاد " أو "مؤسسة ذات طابع مدني "، وتشجيع هذا الاتجاه والإسهام فيه.
المحور الثالث يرتبط بالدول التي توجد فيها مؤسسات (المجتمع المدني) بصورة شكلية، حيث تكون المبادرة الحقيقية في تفعيل دورها وتمكينها من تحقيقها لأهدافها الحقيقية في تنمية المجتمع، وتماسكه وصيانته. ويكون ذلك بالتالي:
1. إعادة النظر في أفكارها ووسائلها والقائمين عليها.
2. ترسيخ أعراف الرقابة المالية والإدارية والمحاسبة عملاً وتطبيقاً.
3. فتح المجال لمشاركة أفراد المجتمع، وتفعيل الوسائل المعينة على ذلك ، والتخلص من السيطرة المزمنة لفكرة (النخبة) و (الصفوة) في هذه المؤسسات.
4. التنسيق والتفاهم مع كافة القوى و المؤسسات بما فيها التي لا تتبنى الاتجاه الإسلامي، وإفادتهم والاستفادة منهم (ضمن ضوابط ومحترزات شرعية).
5. السعي في فتح مؤسسات أخرى يحتاجها المجتمع، أولها تأثير في الأنظمة
=============(19/206)
(19/207)
رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية: لا نسعى لعتبات الحكام
حوار / محمد حسين 3/10/1425
16/11/2004
أثار مشروع قانون الأسرة في الجزائر العديد من الإشكاليات بين من عرفوا بالعلمانيين وبين التيار الإسلامي هناك.. واعتبر البعض أن الخلاف حول مشروع قانون الأسرة الجديد سوف يضع الجزائر على بداية علاقة جديدة ومختلفة بين التيار الإسلامي.. وفي مقدمته حركة مجتمع السلم الجزائرية (حمس) التي يرأسها الشيخ أبو جرة سلطاني.. حيث اعتبر البعض أن التحالف الذي تم بين حركة مجتمع السلم وبين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.. والذي بدأ مع انتخابات الرئاسة منذ نحو 6 أشهر سوف يكون مصيره الفشل...
في حوارنا مع الشيخ أبي جرة سلطاني رئيس حركة مجتمع السلم.. والذي خلف الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله .. يلقي لنا الضوء على آخر ما توصلوا إليه قانون الأسرة.. وحول آخر ما استجدَّ على الساحة الجزائرية.. خاصةً فيما يتعلق بالعلاقة بين الحركة.. وبين النظام الحاكم، وإلى تفاصيل الحوار...
بداية فضيلة الشيخ، نريد أن نتعرف على آخر ما توصلتم إليه حول قانون الأسرة؟
حركة مجتمع السلم نادت منذ عشر سنواتٍ بضرورة إثراء قانون الأسرة في ظل الشريعة الإسلامية، ورفعت شعارًا يقول (لا للإلغاء.. لا للإبقاء.. نعم للإثراء)، وعندما وضع السيد بوتفليقة في برنامجه الانتخابي بندًا يتعلق بمراجعة قانون الأسرة كان رأينا أن هذا التوجه يتقاطع مع دعوتنا؛ لكننا فوجئنا بأن المشروع المقترح في مجلس الحكومة يحتوي على جملةٍ من التجاوزات الشرعية، واعتبرنا هذه السابقة تمثل انتكاسة للمسار الديمقراطي، كما تشكل إحراجًا خطيرًا لخيارات الشعب الذي وقف مع مرشح المصالحة الوطنية، ورجح كفة الصراع لصالح التوجهات القائمة على المحافظة على الثوابت بنسبةٍ ساحقة، وبالتالي لا يعقل أن يكافأَ الشعب الجزائري المسلم بتوجيه طعنةٍ علمانيةٍ في الظهر.. بمشروع قانونٍ ينزع العصمة من يدِ الرجل ويضعها في يد المرأة.. من أجل إحداث صراعٍ مفتعل بين النساء والرجال.. يكون الأطفال ضحيته الأولى تمهيدًا لتفكيك الأسرة، وخلخلة النسيج الاجتماعي للشعب الجزائري؛ فنحن لسنا ضد التعديل والإثراء، ولكننا ضد الخروج عن الشريعة، وفتح باب الفساد والفتنة.. بإقرار قانون أسرةٍ علماني.
الهوية الإسلامية للجزائر
أشعر في كلامك أن هناك من يستهدف هوية الشعب الجزائري الإسلامية.. فما رأيك؟
من خلال الوجوه المنادية بإلغاء قانون الأسرة نهائيًّا، أو تلك المنادية بإضفاء صبغة الشريعة الإسلامية على روحه، يتأكد أن الهدف ليس قانون الأسرة، وإنما العمل على شطب كل ما له صلة بالإسلام، والحيلولة دون مرافقة ولي الأمر لابنته إلى عش الزوجية.
اتفقتم في وثيقة التحالف مع الرئيس بوتفليقة على عدة قضايا هل إقرار قانون الأسرة يعد خرقًا من جانب السلطة لما تم الاتفاق عليه؟
في وثيقة التحالف أكدنا على مبدأ المحافظة على الثوابت والقيم، وحينما طالعنا مسودة مشروع قانون الأسرة المطروح لاحظنا خروجًا واضحا عن روح الشريعة، واشتممنا روائح علمانية كريهة.. لتقويض أركان المجتمع.. بالدخول عليه من بوابة المرأة التي يريدون لها أن تخرج عن طبيعتها إلى "الجندرة".
إلى أي مرحلةٍ وصل مشروع القانون؟
القانون مازال مجرد مسودةٍ في درج رئاسة الجمهورية، ومع ذلك نرى أن فرصة الاحتفال بالذكرى الخمسين لثورة 1954م سوف يتم إفسادُها بإقحام قانونٍ هجين لأسرة تغريبية.. لا يقرها ديننا.. ولا ترضاها شريعتنا.. وهي مؤامرة قد تبدو في ظاهرها بسيطة ولكنها سوف تجر على المجتمع الجزائري الفتنة والفساد، ومن أجل هذا نادينا في حركة مجتمع السلم بضرورة الذهاب إلى استفتاءٍ عامٍّ حول التعديل لنأخذ التأشيرة الشرعية من قرار الشعب، وليس من لجنةٍ حكومية مكونة من 52 فردًا.. تبرأ أكثر من نصفِها من صيغة مشروع القانون.. خاصةً بعد أن فوجئت قبل أن تنتمي من الصياغة النهائية للمشروع بصيغةٍ أخرى تم تمريرها عبر مجموعةٍ من هذه اللجنة إلى وزارة العدل، ومنها إلى مجلس الحكومة.
مر على انتخابات الرئاسة أكثر من ستة أشهر.. إلى أي مدىً التزم الرئيس بوتفليقة بما تم الاتفاق عليه؟
حتى اليوم ما تزال كل أطراف التحالف ملتزمةً بتعهداتِها، وما زال التحالف يبني مرحلة بمرحلة في انتظار الوصول إلى قاعدةٍ عريضة للحكم ولجانٍ فرعية تناقش مختلف القضايا المحلية لعرضها على اللجنة المركزية للتنسيق لتتخذ في ضوئها القرارات المصيرية على مستوى القيادة العليا، ومع كثيرٍ من الجهات داخل المعارضة.(19/208)
أضف إلى ذلك أن بعض وسائل الإعلام حاولت زعزعة استقرار رفع حالة الطوارئ، وحول المنظومة التربوية للعزف على أوتار الانشقاق، والإعلان عن وفاة التحالف؛ إلا أن المسار العام لهذا التحالف أكد أنه تحالفٌ استراتيجيٌّ قائم ودائم، وأن لكل شريك سياسي في التحالف حريةَ التعبير عن وجهة نظره من غير أن يكون ذلك سبباً في نقض ما تم الاتفاق عليه؛ لأننا تركنا لكل حزبٍ هامشًا من الحرية.. يعبر فيه عن قناعاته، ويحافظ من خلاله على استقلاليته واستقلالية قراره السياسي، ولذلك فنحن رفضنا الذوبان في كتلةٍ واحدة بشكلٍ يجعل الفروق واضحةً ودقيقة بين التحالف على المبادئ والثوابت والذوبان في كتلة سياسية واحدة.. من شأنها أن تغلق الساحة السياسية، وأن تدفع باتجاه الحزب الواحد، والاحتكارات التي حاربناها وما زلنا نحاربها.
توسيع المشاركة
اتفقتم في التحالف على توسيع مشاركة الأطراف الأخرى في الحكم إلى أي مدى تحقق هذا المطلب؟
التغيير المرتقب لم يحدث حتى الآن، ولعل أجندة الأولويات لدى السيد الرئيس تختلف عن جدول أعمال الشركاء المتحالفين، ولذلك لاحظنا بعد فوزه مباشرةً أنه تم تجديد الثقة في رئيس الحكومة السابق، وشكلت حكومة قديمة متجددة في أقل من 5 حقائب وزارية، وحدث نفس الشيء في التغييرات التي مست السلك الدبلوماسي؛ لذلك لم يتغير شيء حتى الآن، وما زلنا ننتظر بعد الذكرى الخمسين للثورة تداولاً للسلطة، وليس تدويرًا لها على الحواشي، وهو ما وعد به السيد رئيس الجمهورية؛ حيث أكد أن التحالف سوف يكون أفقيًّا وعموديًّا، ونحن لازلنا ننتظر هذه الوعود، ولسنا متعجلين سياسة رئيس الجمهورية المعلنة والقائمة على الاستمرارية والتراكم؛ ليتمكن من استكمال المشاريع العالقة في عهدته الأولى، ويتفرغ لإعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل يتكيف مع التطورات الحاصلة في المحيط الدولي، ويرتبط بخصوصيات الشعب الجزائري، وهذه الفلسفة قد تؤخر مشروع المشاركة، وتوسع قاعدة الحكم لبعض الوقت، وفي تقديرنا أن الذكرى الخمسين للثورة مناسبة تاريخية حاسمة ليتحرر الشعب الجزائري من كل الضغوط الداخلية والخارجية بطرقٍ سلمية، ويستكمل بناء دولة الحق والقانون في ظل المبادئ الإسلامية. كما نص على ذلك بيان أول نوفمبر 1954م، وإذا مرت هذه المناسبة التاريخية ولم يحدث السيد رئيس الجمهورية تغييرات في العمق نكون قد خسرنا 40 سنةً من عمر الاستقلال، وسنكون بحقٍّ أمام مسئولياتنا التاريخية في الوفاء للشهداء الذين سطروا في بيانهم التاريخي هدفين:
أ- تحرير الجزائر من كل أشكال الاستعمار.
ب- إقامة دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية ذات سيادة في ظل المبادئ الإسلامية.
وإذا كان الهدف الأول قد تحقق بفضل دماء مليون ونصف مليون شهيدٍ؛ فإن الهدف الثاني ينبغي أن يتحقق سلميًّا بتوسيع قاعدة الحكم وإشراك أبناء الجزائر من جيل الاستقلال في تسيير شؤون الدولة؛ والكف نهائيًّا عن تدوير السلطة على الحواشي... فالشرعية التاريخية يجب أن تنتهي وينتهي معها كل الشرعيات الثورية والفئوية والجهوية لتبدأ (شرعية الجماهير أو الشرعية الشعبية).. التي (لا تؤمن إلا بشيء واحد هو صندوق الاقتراع النظيف والشفاف والبريء من التزوير).
نتائج التحالف
هل أنتم راضون عن نتائج التحالف؟
نسبيًّا.. نحن راضون.. ولكن طموحات المتحالفين أكبر من مجرد حقيبة وزارية أو اعتماد دبلوماسي أو ولاية؛ فتحالفنا مع مبادئ وثوابت؛ حيث وضعنا على رأس أولوياتنا السعي إلى ترقية الوئام المدني إلى مصالحة وطنية، وهذا لم يتحقق، بل إن ما نستشعره ونشاهده أن هناك هجمةً شرسة من قبل بعض العلمانيين على مبادئنا وثوابت أمتنا؛ كما أن هناك محاولاتٍ لزعزعة تقارب الإسلاميين مع الديمقراطيين والوطنيين؛ بل هناك (وشايات) غير بريئة للوقيعة بين الشركاء المتحالفين للعودة بالجزائر إلى نقطة الصفر، ومع إحساسنا بكل هذه التجاوزات إلا أننا مازلنا نعتقد أن واجباتنا الوطنية تفرض علينا أن نستمر في وفائنا للرجال وللبرامج إلى أن تتحقق أهدافنا المسطرة في وثيقة التحالف التي تم التوقيع عليها في 16 / 2 / 2004م دون أن نحيد عن ذلك قيد شعرة لاعتقادنا أن حركة مجتمع السلم ما زالت تمثل "شعرة الميزان" في قانون التدافع بين النافذين في الحكم والرافضين له؛ لأنها وسط معتدل بين المطالبين وهم قعود والمغالين بغير إعدادٍ يتكافأ والمتغيرات الإقليمية والدولية الحاصلة في بؤر التوتر العالمي لاسيِّما ما هو حادثٌ في فلسطين والعراق والمحيط المجاور.
مستقبل الحركة
كيف ترون مستقبل الحركة على ضوء إقرار مشروع قانون الأسرة؟(19/209)
مستقبل الحركة ليس مرتهنا بمعالجة ملف قانون الأسرة أو تقاسم أدوار سياسية أو تغير حكومي يحدث مرة كل عام؛ لأن مستقبلها بأيدي أبنائها من المناضلين ثم بأيدي آلاف المتعاطفين معها من أبناء الشعب الذين باركوا توجهاتها السلمية وثمنوا وقوفها مع المبادئ والثوابت، وانتصارها للخيارات الأساسية، وتخليها عن الأنانيات الحزبية لجانب المصلحة الوطنية العليا، وكل هذه المعاني ضمانات ندخرها في رصيدنا السياسي ونضالنا السلمي لنطرحها عند الحاجة أمام الذين يزايدون علينا باسم الإسلام أو يحاولون ابتزاز عواطفنا الوطنية باسم التاريخ أو اسم الثورة، ولذلك فنحن نعتقد أن معركتنا شريفة وأهدافنا واضحة، ويجب أن يكون نفسنا طويلاً وصدورنا منشرحة للرأي الآخر.. خاصة وأن أمامنا من الاستحقاقات السياسية والملفات التاريخية ما هو كفيل بالحكم لنا أو علينا، وبتقدير المكانة التي تستحقها الحركة.. حركة ضحت برصيد كبير من شعبيتها في سبيل اتخاذ مواقف استشرافية صامدة يراها البعض مهادنة أو مداهنة؛ ثم يؤكد التاريخ أنها الرأي الأصوب الذي يستشرف المستقبل، ويعمل من منظور استراتيجية شاملة دون الاستجابة لاستفزازات ظرفية تمليها جهاتٌ متسرعة أو تفرضها عواطف متهورة لم يفلح أصحابها في إلجامها بنظرات العقول.
الموقف من الطوارئ
فور إعلان الرئيس بوتفليقة تمديد العمل بقانون الطوارئ أعلنتم أنكم تتفهمون هذا الموقف.. ما تعليقكم؟
الخطابات الرسمية كلها تصب في اتجاهِ طيِّ صفحةِ الحالة الأمنية في الجزائر وتشدد على خروج الجزائر نهائيا من أزمتها الأمنية، وتستهدف الاستقرار واستتباب الأمن العام، وهذا ما دفعنا أن نقترح قبل عام ونصف رفع حالة الطوارئ، وما زلنا متمسكين بهذا المطلب لاعتقادنا أن الديمقراطية لا تتنفس إلا في جو الحريات وأن فرض حالة الطوارئ يضفي على فلسفة نظام الحكم حالة من الخوف حيث يجعل القانون طارئا ويعطي لأجهزة الأمن كثيرا من الصلاحيات التي تجعل كل تجاوز في حق المواطنين مبررا بحالة الطوارئ.
والسؤال الذي نطرحه إذا كان الوضع الأمني قد طوى كل صفحات التهديدات الداخلية ونجح في بسط نفوذ دولة الحق والقانون فما الداعي إلى استمرار حالة الطوارئ؟
أما إذا كان الوضع الأمني بحاجة إلى وقت إضافي فالمطلوب هو تحديد الزمن الذي ترفع بعده حالة الطوارئ كأن يقال لنا مثلا نهاية عام 2005م أما أن تظل حالة الطوارئ حاسمة على صدور المواطنين يستغلها بعض أعداء الشعب في وضع مراسيم تنفيذية لمعاقبة بعض المواطنين باسم القانون كالمرسوم التنفيذي 54 لسنة 1991م والذي يستخدم كذريعة لمعاقبة من أرادوا باسم الانتماء السياسي أو تحت عنوان "شخص مشبوه" أو مواطن متحفظ عليه.
إن هذه المصطلحات لا وجود لها في لغة القانون، ولا مكان لها في الديمقراطية، ونحن في حركة مجتمع السلم ما زلنا نطالب الجهات الساهرة على الأمن بأن تقدم لنا تقريرًا مفصلاً عن الواقع الأمني الذي في ضوئه يتم تحديد موقفنا النهائي تجاه قانون حالة الطوارئ دون أن يؤثر ذلك في العلاقة مع الشركاء؛ لأننا كما قلنا دائما نتفهم موقف الحكومة ونتفهم خلفيات الكيل بمكيالين خاصة إذا تعلق الأمر بالانتخابات البرلمانية والمحلية التي ما زالت حالة الطوارئ تلعب فيها أدوارًا مشبوهةً في ترجيح كفة تيار على حساب آخر بحجة المحافظة على استقرار البلاد واستمرار المؤسسات وكأن الجزائريين قسمان:
أ- قسم مكتوب عليه أن يقف في الصفوف الخلفية.
ب- قسم مبجل يحظى بامتيازات تبدأ بالتنازل عن أفخم ممتلكات الدولة وتنتهي بتقليدهم الأوسمة ورفعهم إلى المناصب العليا حتى ولو اقتضى الأمر إحداث تزوير فاضح كشفت عنه تجربة 1997 و2000م.
تراجع الحركة
هناك من يرى أن تحالف الحركة مع بوتفليقة كان له عظيم الأثر في التأثير على شعبية حركة مجتمع السلم فما رأيكم؟
الشعب الجزائري شعب قابل للتسييس ولذلك فالوعاء الانتخابي كالدالة الرياضية يصعد من سطح +1 إلى سطح +99 ثم ينخفض إلى الصفر والمنحنيات الانتخابية بين سنوات 1995 و2004م أكدت هذه الحقيقة حيث تراجعت جبهة التحرير الوطني من حزب حاكم إلى 16 مقعداً فقط في انتخابات 1991 من أصل 308 مقاعد، وقفز التجمع الوطني الديمقراطي من لاشيء إلى 160 مقعداً عام 1997م ثم تراجع إلى 48 فقط عام 2002م، وقفزت جبهة التحرير الوطني من 64 مقعداً عام 1997م إلى 199 مقعداً عام 2002م، وتراجعت حركة النهضة من 34 مقعدًا عام 1997م إلى مقعد واحد فقط سنة 2002م.(19/210)
فإذا أخذنا حركة مجتمع السلم التي فقدت 42 مقعدا بين انتخابات 1997م و2002م.. أي تراجعت من 70 مقعداً إلى 38 نجد أنه بحسابات المنطق أن الوعاء الانتخابي ليس ثابتًا عند أي تشكيلة سياسية، ولذلك فالقول بأن المشاركة في الحكومة هي سبب تراجعنا عدديًّا ليس قولا دقيقا، والصواب أن يقال أن الديمقراطية الناشئة في الجزائر مازالت تراوح مكانها بين مد الإسلاميين وجزر عملية التزوير التي لا تعطي فرصة عملية موضوعية لقياس حجم أي حزب؛ لأن النتائج المحققة المعلن عنها رسميًّا لا تعكس حجم الكتل البرلمانية الحقيقي، ولا تصلح أن تكون مؤشرات دقيقة يقاس بها حجم الأحزاب؛ خاصة وأن ما حدث بين سنوات 1990 و2000م كان عمليات حبس بنص سياسي لمعرفة حجم وقوة التمثيل الحقيقي لكل تيار من أجل إعادة ترتيب الخريطة المستقبلية على ضوء مشروع خريطة الشرق الأوسط الكبير التي تفرض حصصاً للمرأة وأخرى للأقليات؛ حتى وإن لم يكن هناك من يمثلون سوى أنفسهم، وهو أمر مستغرب في قياسات الممارسات الديمقراطية.
حجم الحركة الحقيقي
في تقديركم ما هو التمثيل الحقيقي للحركة الذي يمكن أن تفعله داخل الحكومة؟
الوعاء الانتخابي في الجزائر ليس وعاءً ثابتا يمكن قياسه بالتيارات السياسية أو بالانتماء الحزبي؛ فهناك هجرات داخلية تتم من حزب لآخر بالجملة أحياناً كما أن هناك تحالفاتٍ سياسية لا يعلن عنها، ولكن تشعر بآثارها وانعكاساتها على النتائج والإدارة الجزائرية - رغم الشعار المرفوع بحيادها- إلا أنها تمثل أكبر حزب في الجزائر يمتلك القدرة على "نفخ" صندوق انتخابي لصالح جهة وتفريغ صندوق آخر ضد جهة ثانية، وهذه السياسات لا تسمح بترك يد الديمقراطية، وسوف تظل فاتحة أبواب الارتزاق أمام الانتهازيين الذين كانوا سببًا في جعل السيد رئيس الجمهورية ينظر بعين الريبة إلى كل المؤسسات المنتخبة، ويمارس حقه الدستوري في التشريع "بالأوامر" رغم وجود هذه المؤسسات التي انتفض بعض من كانوا فيها محتجين على السيد رئيس الجمهورية.. إلا أن انتفاضتهم جاءت متأخرة عن موعدها لأنهم ساندوه عندما كانوا في كراسي الحكم.. فلما سحب البساط من تحت أقدامهم وجهوا أصابع الاتهام لمؤسسة الرئاسة، وهي حالة باعثة على الاشمئزاز من وضع نعتقد أنه إذا استمر سوف يمهد لميلاد طبقة عازلة بين الحاكم ورعيته
==============(19/211)
(19/212)
فرنسا والمغرب العربي..العودة للدور القديم
الرباط/ إدريس الكنبوري 19/10/1425
02/12/2004
الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك لليبيا يوم الأربعاء 24 نوفمبر، في طريقه إلى بوركينا فاسو للمشاركة في القمة العاشرة للفرانكوفونية، تكتسب أهمية كبيرة في السياسة المغاربية لفرنسا وتُعَد منعطفاً بارزاً في العلاقات المغاربية ـ الفرنسية خلال العقود الأربعة الماضية، وتتخذ دلالات عدة بالنسب لمستقبل هذه العلاقات وبالنسبة لمنطقة المغرب العربي عموماً.
فهذه الزيارة تُعد الأولى من نوعها لرئيس فرنسي منذ انقلاب 1969م في ليبيا وبداية عهد العقيد الليبي معمر القدافي، وهي الأولى أيضا لمسؤول فرنسي منذ استقلال ليبيا عن الاستعمار الإيطالي عام 1951م، ومن المؤكد أنها ستضع حداً للقطيعة التي استمرت طويلاً بين البلدين وجعلت فرنسا لا تتحدث في سياستها المغاربية سوى عن أربع دول هي المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا إلى حد ما، دون المراهنة على أي امتداد لهذه السياسة في ليبيا.
للتقارب ثمن
مثل هذه الزيارة لم تكن واردة دون أن يقدم النظام الليبي مؤشرات تدل على اعتداله واستعداده للتقارب مع القوى الأوروبية في السنة الماضية، مما مكنه من العودة إلى الساحة الدولية بعد مرحلة طويلة من المناكفة وشدّ الحبل، فبعد غزو العراق أعلن النظام الليبي تخليه عن برامج التسلح النووي طواعية، بعد عدة أشهر من المفاوضات السرية مع واشنطن ولندن تُوِّجت بإعلان بريطانيا عن الخطوة الليبية. وقد خلفت طريقة الإعلان عن تلك المبادرة ـ حيث إنها تمت من طرف لندن وليس طرابلس- والمفاوضات السرية مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية دون إشراك فرنسا- استياء واسعا لدى المسؤولين الفرنسيين الذين رأوا في ذلك نوعاً من النية المبيتة في استبعاد أي دور فرنسي في مبادرة كبرى من هذا النوع، وفي منطقة ظلت تعد على الدوام مربعاً استراتيجياً فرنسياً بامتياز، بالنظر إلى ماضيها الاستعماري الطويل. ثم جاءت خطوة التعويض الليبي لضحايا طائرة لوكربي لتزيد من غضب الفرنسيين، فاختارت فرنسا الدخول في مساومة مع النظام الليبي ومطالبته بتعويض ضحايا طائرة"يوتا" الفرنسية التي أسقطتها المصالح الليبية فوق سماء النيجر عام 1989م، ردا على التدخل العسكري الفرنسي في التشاد وطرد القوات الليبية منها، وقبلت ليبيا بعد مفاوضات صعبة دفع (170) مليون دولار لعائلات الضحايا الفرنسيين، مما أدى إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الفرنسية ـ الليبية.
وقد مهدت تلك الانفراجة، وإعلان النظام الليبي تخليه عن"الإرهاب" واعترافه بالممارسات الماضية علناً وتغيير الخطاب الراديكالي لدى المسؤولين الليبيين مهدت لعودة ليبيا إلى المسرح الدولي وشطب اسمها من اللوائح السنوية التي تعدها الإدارة الأمريكية عن الدول الراعية للإرهاب، ورفع الحصار الاقتصادي والحظر على استيراد الأسلحة اللذين كانا مفروضين عليها في السنوات الماضية، وبدأت طرابلس تستقبل المسؤولين الأوروبيين، حيث قام بزيارتها خلال الشهور الماضية كل من رئيسي الوزراء البريطاني طوني بلير، والإيطالي سيرجيو برلسكوني والمستشار الألماني جرهارد شرودر، وأخيراً الرئيس الفرنسي شيراك.
الرهان على النفط الليبي
مقارنة مع المغرب وتونس والجزائر التي تُعد من الزبائن الأكبر لفرنسا في المغرب العربي، تكاد المبادلات التجارية والاقتصادية بين ليبيا وفرنسا لا تمثل حجما قابلا للقياس، ذلك أن الواردات الفرنسية من ليبيا ـ والتي تقتصر أساساً على البترول ـ لا تزيد عن 800 مليون أورو، وهي قيمة أقل بكثير من قيمة مشتريات فرنسا من البترول الجزائري مثلا، بينما لا تتجاوز صادراتها إلى السوق الليبية 300 مليون أورو.
وتراهن فرنسا من خلال استئناف تطبيع علاقاتها مع ليبيا على الرفع من حجم المبادلات التجارية والاقتصادية الثنائية وإيجاد موقع لها في قطاع النفط الليبي، خاصة وأن هذا الأخير أصبح يثير شهية عدد من الشركات الأمريكية والبريطانية بعد التحول السياسي الليبي؛ إذ يقدر الاحتياطي الليبي من النفط بنحو 30 مليار برميل، وأعلنت طرابلس قبل أشهر أنها ستضاعف من إنتاجها ثلاث مرات في أفق عام 2010.
منافسة فرنسية ـ أمريكية على المنطقة
لكن إلى جانب الهاجس الاقتصادي والتجاري، تدرك فرنسا أنها دخلت مع واشنطن في منافسة محمومة على النفط في المنطقة المغاربية، خاصة وأنها تعي جيداً أنّ الانفراج في علاقاتها مع الجماهيرية لم يكن ممكناً قبل أن ترفع واشنطن اسم ليبيا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب وتصدر"تبرئة ذمة" في حقها، وهو ما دفع أحد المعلقين الفرنسيين إلى القول بأن فرنسا لا تزال ضحية الولايات المتحدة الأمريكية التي تحدد هي أي الدول من "محور الشر" وأي الدول من خارجه.(19/213)
بداية التطبيع الفرنسي ـ الليبي تأتي في سياق تطورات سياسية واستراتيجية ضخمة تمر منها منطقة المغرب العربي، وتنهض كمؤشر على انطلاق الصراع بين باريس وواشنطن على النفوذ في المنطقة. فخلال الأسابيع القليلة المقبلة سينعقد بالمغرب "منتدى المستقبل" الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأمريكية بغرض الدفع بمشروع"الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا" ودمقرطة الأنظمة العربية والإسلامية، وهو عنوان على تمادي النفوذ الأمريكي في المنطقة، وبمثابة تتويج لحربها على العراق التي كانت فرنسا وألمانيا من المعارضين لها، كما أنه ـ أي المنتدى ـ يأتي في سياق التمدّد الأمريكي في المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية، عقب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، وخاصة على المستويين الأمني والعسكري، دون إغفال المستوى الاقتصادي والتجاري الذي يتقوى بفعل الدينامية التي فتحها مشروع الشراكة الأمريكية ـ المغاربية المعلن عنها في عام 1998م، وكذا المستوى السياسي المتمثل في التعاطي الأمريكي مع موضوع النزاع حول الصحراء المغربية على حساب أي دور يمكن أن تلعبه فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة في المنطقة.
ويمكن القول بأن الزيارة الخاطفة للرئيس الفرنسي لليبيا، على رغم قصرها، إلا أنها تتخذ طابعاً رمزياً قوياً بالنسبة لسياسة فرنسا المغاربية في هذه المرحلة، تريد من خلالها باريس وهي تحضر القمة العاشرة للمنظمة الدولية للفرانكوفونية في "واغادوغو" ببوركينا فاسو أن توجه رسالة إلى واشنطن، فهذه القمة ستحضرها الجزائر بصفتها عضواً جديداً بالمنظمة منذ استقلال الجزائر عن فرنسا في بداية الستينيات من القرن الماضي، حيث ظلت الجزائر التي تشهد أكبر انتشار للغة الفرنسية في المنطقة تقاطع هذه المنظمة منذ إنشائها إلى عام 2002 عندما حضر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة القمة التاسعة لها في بيروت، من هنا فإن الرئيس الفرنسي يحضر القمة وفي جعبته مكسبان مهمان في المنطقة: عودة الجزائر إلى حظيرة المنظمة الفرانكوفونية وتطبيع العلاقات مع ليبيا. والرسالة الفرنسية إلى واشنطن تقول: إنه إذا كان"منتدى المستقبل" سيتعرض لإصلاح الأنظمة العربية والإسلامية وفق مشروع جاهز لا يأخذ في الحسبان الاختلافات الثقافية بين بلدان المنطقة، فإن قمة الفرنكوفونية ستعالج التعددية الثقافية وحوار الحضارات. وفي الظاهر يبدو ذلك تشخيصاً لحجم الخلافات الفرنسية ـ الأمريكية، لكنه في العمق يخفي صراعاً استعمارياً على النفوذ في المنطقة.
=============(19/214)
(19/215)
منتدى المستقبل واجهة الشرق الأوسط الجديدة
باسل النيرب 28/10/1425
11/12/2004
بمشاركة أمريكية عالية المستوى عقد منتدى المستقبل في العاصمة المغربية الرباط، شارك فيه وزير الخارجية الأمريكي المستقيل كولن باول، إضافة إلى مجموعة من وزراء الخارجية ووزراء المال في نحو 30 دولة تمثل مجموعة الثماني الكبار إلى جانب دول عربية وإسلامية.
الأجندة الأولية التي حاولت الإدارة الأمريكية تسويقها من أجل إنجاح هذا المؤتمر هي: إن من أهداف المؤتمر أن الدول المشاركة ستُعلن برنامج دعم اقتصادي ومالي، لتنمية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، شبيهاً بخطة مارشال عقب الحرب العالمية الثانية وزيادة الشراكة التجارية مع المنطقة في مقابل التزام تلك الدول إدخال إصلاحات في المجالات الاقتصادية والسياسية والتعليمية وتطوير مفهوم حقوق الإنسان وإشراك المرأة في الحياة العملية.
وجاء التسويق الأمريكي لهذه المبادرة من خلال توالي تصريحات الوزراء الأمريكيين من أن المنتدى تعاوني بدرجة أساسية؛ فيقول مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الاقتصادية والزراعية والأعمال التجارية (الآن لارسن): إن منتدى المستقبل سيفتح مجالات للتعاون بين دول منطقة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا ومجموعة الدول الثماني للعمل سوية على النهوض بالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشعوب منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان "لارسن" قد أكد في مؤتمر صحفي بالقول: إن "هناك بعض المخاوف وبعض التساؤلات حيال هذه المبادرة في وقت سابق إلا أن كل تلك الأمور صارت خلفنا، وأعتقد أن بلدان المنطقة تدرك أن (المبادرة) هي مبادرة تعاونية بكل معنى الكلمة حيث يرمي هدفنا إلى تعزيز قياداتها وجهودها للترويج للفرص والإصلاح النابعة من داخل المنطقة".
من الناحية النظرية يبدو أن منتدى المستقبل لا يختلف كثيراً عن مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ فالمشروعان يرميان من الناحية الأساسية إلى تفعيل فكرة الشرق الأوسط الكبير، بما هو مخطط أمريكي لإدماج إسرائيل في نسيج شعوب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفرض توجهات غير مرتبطة بتطلعات الشعوب وطموحاتها المشروعة من أجل التنمية والسلم والاستقرار، ويستدل على هذا من تواصل الاجتماعات المحمومة، وما طرح بخصوص اللقاءات المتعددة الأطراف لاجتماع دول جنوب المتوسط، واجتماع حلف الأطلسي، والدول الرئيسة في الاتحاد الأوربي، وقمة "أيس لاند" في يونيو 2004م، وكذا اجتماع وزراء خارجية دول المغرب العربي الخمس مع نظرائهم من خمس دول أوربية متوسطة.
إن تواصل هذه الاجتماعات تهدف بالدرجة الأساسية إلى السير قدماً بمشروع ''الشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك مع دول الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا''، والذي يعد منتدى المستقبل محطة رئيسة فيه، وهو مشروع صدر بعد قمة "أيس لاند" في يونيو 2004 من طرف الدول الصناعية الثماني، وشكل بذلك خطوة نحو إدماج الاتحاد الأوروبي في المشروع الأمريكي للشراكة مع الشرق الأوسط الكبير وذلك بعد تعديل بعض جزئياته، أي أن مستقبل علاقة دول جنوب المتوسط وضمنها المغرب مع الاتحاد الأوروبي أصبح هو الآخر مرتهناً في أهدافه وتوجهاته وأولويته للمشروع الأمريكي في إعادة صياغة المنطقة العربية ككل.
ويعد المسار الأول في هذا المنتدى ما تم الاتفاق عليه عند اجتماع القيادة العامة لدول حلف شمال الأطلسي مع دول الحوار المتوسطي والمكونة من إسرائيل والأردن ومصر والمغرب وتونس والجزائر وموريتانيا، ويأتي استكمالاً له مشروع الشركة الأمنية؛ حيث يعرض الحلف على الدول المشاركة في "المشروع/ المنتدى" تعاوناً في مجال الأمن، وهو ما أعلن عنه باسم شركة من أجل السلام وحوار دول المتوسط الطويل العهد للحلف، ومن بنوده كذلك تقديم المعطيات الخاصة بمراقبة الملاحة بالحوض المتوسطي، وهي ذات المبادرة التي قدمت بعد أحداث سبتمبر لمكافحة الإرهاب على مستوى حوض المتوسط، أما الأهم من موضع المراقبة فهو الاستعداد لعمل مستقبلي أوسع وتقديم التسهيلات العسكرية في الموانئ، ومشروع تأسيس منتدى مستقبلي عسكري.
وختاماً فإن هذا المنتدى "المستقبل" ليس إلا موجة جديدة للهيمنة على المنطقة بأهداف سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية وتتم في سبيل تواصل العدوان على العراق وتصفية القضية الفلسطينية وفق المنظور الأمريكي- الإسرائيلي، وإلا ما معنى أن تتواصل المشاريع الأمريكية في الساحة العربية دون أن تجد حتى مشروعاً مضادًا لها من حيث القبول والأهداف؟
=============(19/216)
(19/217)
وهم الدّراسات المستقبليّة!
أحمد فهمي 9/11/1425
21/12/2004
يطرح هذا المقال إشكالية الدراسات المستقبلية، التي تحولت إلى ما يشبه "موضة" فكرية، تُؤلف من أجلها الكتب، وتُدبّج المقالات، وتُعقد المؤتمرات، والمثير في الأمر أن أغلب هذه الأطروحات تتحدث عن أهمية الدراسات المستقبلية وجدواها وآليتها دون أن تقدم بالفعل نموذجاً عملياً مستقلاً لدراسة مستقبلية جديرة بالتقدير، فهل نحن بحاجة إلى دراسات مستقبلية؟
إن الإغراق في الحديث عن الدراسات المستقبلية يُفسّر في جانب كبير منه على أنه عملية هروب "أنيقة" من الواقع بتعقيداته ومشكلاته صعبة الحصر والبحث والتحليل والتصريح إلى آفاق المستقبل التي لا حدود لها ولا قيود عليها، وهذا المسلك في الحقيقة يقترن به عدد من السلبيات التي من أبرزها:
أولاً: كثير من المهتمين بالدراسات المستقبلية يتعاملون معها باعتبارها قدرة على التخيّل أو التخمين أو إعادة ترتيب المفردات والمتغيرات التي يتمّ تناولها في الواقع بعد إضافة عنصر الزمن، وحسب معامل واقعي يتم تحديده غالباً بصورة انهزامية تعكس الرؤى الغربية، وتهمل شأن العامل الذاتي الذي ينبغي إدراجه في مثل هذه الدراسات المستقبلية.
ونوضح ذلك بمثال ما يتعلق بالمنطقة العربية حيث يكثر الحديث عن تقسيم الدول وتفكيكها وعن مشروع الشرق الأوسط الكبير والإسلام البديل، وهذه كلها رؤى مستقبلية أمريكية المنشأ، وكل ما يفعله أغلب الباحثين العرب هو إعادة إنتاج هذه المدخلات بعد إضافة عنصر الزمن الذي يفترض أن الإدارة الأمريكية ستنجح في تنفيذ أغلب مخططاتها للمنطقة - العالم العربي عام 2020 أو 2025 أو 2050م الخ - ولذلك تصبح الأطروحات المستقبلية العربية في جانب كبير منها مجرد نماذج تطبيقية افتراضية للمشروعات الأمريكية تفتقر للاستقلالية وتؤيد بصورة مباشرة أو غير مباشرة نظريات مفكرين أمريكيين مثل:صمويل هينتنجتون أو فرانسيس فوكوياما حول صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، وهذا يعتبر اختراق أمريكي كبير للفكر السياسي العربي والإسلامي، وتكمن خطورة هذا الاختراق في حال استمراريته أنه في مرحلة ما من الزمن القادم سوف تكون العقلية العربية خاضعة تماماً للهيمنة الفكرية الأمريكية، عندها يصبح الماضي والواقع والمستقبل يحمل صبغة العم سام.
ولا يعني ذلك أننا لسنا بحاجة إلى هذه النوعية من الدراسات، بل نحن نفتقر إليها، لكن ينبغي الحرص على أن تكون الرؤى المستقبلية انعكاساً دقيقاً للواقع من ناحية، ومن ناحية أخرى ترجمة صادقة لقدرات الأمة وطموحها.
ثانياً:يؤكد النقطة السابقة أن الدراسات المستقبلية الغربية لها أهداف أخرى غير ما سبق، فهي تُستخدم في أحيان كثيرة كوسيلة للتأثير في الواقع عن طريق فرض تصورات أو مسارات حتمية للمستقبل في الأذهان، ويعتمد ذلك على القول بأن أي فكرة جديدة يتم طرحها من قبل جهة مؤثرة فإنها تكون قادرة على إعادة تنظيم الرؤى والتصورات والأفكار الأخرى في سياق يتلاءم معها، وتصبح مسألة الرفض أو القبول عديمة التأثير في هذه المجال.
وجانب كبير من الدراسات أو نتائج الدراسات المستقبلية التي تُنشر من قبل مراكز بحثية تنتمي إلى الولايات المتحدة يكون هدفها الترويج لتصورات محددة، فهي في الأصل مخطّطات وليست دراسات مستقبلية، وقبل أشهر نشرت المخابرات الأمريكيّة على بعض مواقع الإنترنت دراسة وافية تتنبأ بانقسام الاتحاد الروسي وتفككه إلى دويلات عديدة في خلال عشر سنوات من الآن، وقد سببت الدراسة إزعاجاً شديداً لقيادات الكرملين؛ لأنهم يعلمون تأثيرها السلبي، والطريف أن هذا الأسلوب - بصورته المبسطة - يستخدمه سياسيون عرب بكثرة في قضايا مختلفة مثل ترشيح شخصيات خارج السياق لتولي مناصب مهمة، أو للترويج لقرارت لها تأثير جماهيري، وقد كان الرأي العام في إحدى الدول العربية يعتبر أن تصريح مسؤول ما عن عدم وجو خطط مستقبلية لرفع الأسعار هو تأكيد رسمي غير مباشر لرفعها بالفعل.
ثالثاً: : الغرب لديه منظومته الفكرية والثقافية المتساوقة مع مبادئه وقدراته، وهذه المنظومة تطوّرت وتدرج بناؤها بصورة طبيعية ومنطقية - بغض النظر عن موقفنا من المضمون الذي تحتويه - والدراسات المستقبلية ظهرت وبرزت أهميتها كإحدى معطيات هذه المنظومة، وكان الهدف الرئيس منها مساعدة الدول الغربية على إدارة شؤونها وصراعاتها وتحقيق مصالحها واستغلال مواردها بأعلى مستوى من الكفاءة، ولذلك تُعتبر متلائمة مع البيئة السياسية والقانونية والاجتماعية في الدول الغربية.(19/218)
والمشكلة هنا تكمن في أن المثقفين العرب اعتادوا أن يقتبسوا أجزاء مستقلة من هذه المنظومة، ثم يحاولون استنساخها في المحيط العربي، متغافلين عن أثر عوامل مثل الزمن والتدرج الطبيعي والتلاؤم السياسي والمجتمعي، ومن ثم يفشل الاستنساخ بعد فترة من الوقت تُهدر فيها الجهود والطاقات، وربما رأوا العلاج في اقتباس المزيد والمزيد، لنجد لدينا في النهاية تكوينات سياسية، فكرية، ثقافية شوهاء لا علاقة لها بالمجتمع الذي نشأت فيه، وهذا الكلام ينطبق على ظواهر كثيرة مثل: العلمانية والديمقراطية والليبرالية وغيرها، ومنها أيضا قضية الاهتمام بالدراسات المستقبلية والذي نريد قوله: إن هذا النمط من البحوث لا يمكن أن يؤتي ثماره ما لم تتوفر مُعطياته، وقد نجحت الدول الغربية في توفير المناخ الملائم لهذه البحوث، وعلينا أن نسعى لذلك، والفقرة التالية تلقي بعض الضوء على هذه القضية.
ما قبل الدراسات المستقبلية
رغم ما يُعتقد للوهلة الأولى أن الدراسات المستقبلية ربما تكون أكثر سهولة نسبية من مثيلتها الواقعية، إلا أن العكس هو الصحيح، ولتوضيح ذلك نقول: إنه على خط الزمن لا يمكن استيعاب مرحلة ما إلا بتحقيق قدر كافٍ من الاستيعاب لما يسبقها، فلن نفهم الحاضر إلا باستيعاب الماضي، ولن نقرأ المستقبل إلا بفهم الماضي والحاضر، أي أن البحث في المستقبل أكثر مشقة؛ لأنه يحتاج إلى جهود مضاعفة.
والقول الفصل: إن مشكلتنا تكمن في عجزنا عن تحقيق مستوى من الإحاطة والاستيعاب لمفردات الواقع الذي نعيش فيه بدرجة تكفي لتقديم تصورات مستقبلية مقبولة، فالبنية المعلوماتية في العالم العربي تعاني من هزال شديد، ولا تسمح بتأسيس جهود بحثية واقعية أو مستقبلية اعتماداً عليها، والذي ينبغي أولاً أن يتم إصلاح وترميم هذه البنية المعلوماتية، ونشير فيما يلي لبعض عوامل الضعف في هذه البنية المعلوماتية.
أولاً: البيئة القانونية:
تعاني المجتمعات العربية من تدنٍ في سرعة تدفق المعلومات بسبب عدم وجود قوانين كافية لتحقيق ذلك، بينما تكفل الدول الغربية حرية المعلومات بقوة القانون، وحتى المعلومات بالغة السريّة يتم إعلانها للناس بعد انقضاء مدة زمنية كافية لزوال خطر كشفها، ويتيح قانون حرية المعلومات في الولايات المتحدة مثلاً للباحثين الولوج إلى مختلف المصادر والحصول على ما يريدون، وفي بريطانيا أُعلن قبل فترة عن قرب تطبيق قانون حرية المعلومات الذي يتيح لأي مواطن بريطاني حرية الإطلاع على الملفات السرية، وهو ما أحدث حالة من الهلع في الدوائر الحكومية التي سارعت إلى تدمير أكبر عدد ممكن من الملفات التي يمكن أن تسبب لهم إحراجاً حسبما ذكرت (التليجراف)، وفي ألمانيا تقرر فتح جميع الملفات السرية لوزارة الأمن أثناء الحكم الشيوعي في ألمانيا الشرقية أمام الجمهور، وتقدم (1.9) مليون ألماني للاطلاع على ملفاته السرية حيث بلغ عدد الجواسيس في تلك الفترة أكثر من (400) ألف جاسوس وشملت الملفات (6) مليون شخص، وتكدّست على أرفف امتدت لعدة كيلومترات في عدة مبانٍ، وكلها فُتحت أمام الجمهور بلا قيود.
ثانياً: مصادر المعلومات:
يتمتع الباحثون في الدول الغربية بتوفر عدد هائل من مصادر المعلومات، والتي تشمل مراكز البحوث والدراسات، والمكتبات العامة المتاحة للجميع، ومراكز الاستطلاع والإحصاء التي تحوّل المجتمع بأسره إلى أرقام ذات دلالة واقعية ومستقبلية، وباختصار يمكن لهؤلاء الباحثين أن يقرؤوا مجتمعاتهم بعدة لغات: بالأرقام وبالأحداث وبالتوقعات وبالتصريحات وبالتحليلات، واللافت أن توفر المعلومات يسهم بدوره في إعادة إنتاجها بصورة متجددة ومختلفة تُثري حركة النشر وتُخضع كل شئ للبحث والتقصي، وفي مثل هذه الأجواء يصبح الحديث عن إعداد دراسات مستقبلية أمراً منطقياً ومناسباً.
وفي خطوة هائلة لخدمة البحث والدراسة بدأ موقع (جوجل) للبحث على الإنترنت - أمريكي - في مشروع ضخم لنقل محتويات خمس مكتبات كبيرة على الإنترنت مع إمكانية متقدمة للبحث، وهي مكتبات جامعات ميشتجان وستانفورد وهارفرد وأوكسفورد ومكتبة نيويورك العامة، وتقدم مكتبة ميتشجان وحدها سبعة ملايين كتاب يستغرق إعدادها سبع سنوات.
ولكن في المقابل تفتقر الدول العربية إلى هذه المصادر الثرية وتعاني الجهات البحثية والعلمية من فقر شديد في المعلومات، والمؤسف أن الاعتماد على المصادر الغربية لمعرفة ما يخفى علينا من حالنا أصبح أمراً طبيعياً لا حرج فيه.
ثالثاً: ضعف القدرات البحثية:
رغم قلة مصادر المعلومات المتاحة فإنها لم تستغل بالقدر الكافي، والعجيب أن مراكز البحوث والدراسات العربية العديدة التي يُعلن عنها ليس لها علاقة بالبحث أو الدراسة، فأغلبها عبارة عن دور لنشر الكتب أو مجرد مواقع على الإنترنت، كما أن حركة الترجمة عن المصادر الأجنبية تعاني من ضعف واضح وتقتصر في الأغلب على ترجمة "الأكثر مبيعاً" بينما يوجد كم هائل من المنشورات الغربية تحتوي على معلومات لا حصر لها يمكن الاستفادة منها بدون قيود، إلا أن ضعف جهود الترجمة تقف حجر عثرة.(19/219)
ورغم أن الإنترنت يعتبر أكبر مصدرٍ مجاني للمعلومات، إلا أنه لم يُستغل - عربياً - بالقدر الكافي، ولا زلنا عاجزين عن استيعاب الدفق المعلوماتي الغزير الذي يقدمه الإنترنت ونُؤْثر أن نعيش على الكتابات الجاهزة التي يتحدث فيها الآخرون عنا، والذين يعتمدون بدورهم على الإنترنت كمصدر رئيس للمعلومات، وكمثال فإن الصحفي الفرنسي الشهير تيري ميسون مؤلف كتاب "الخدعة الكبرى" عن أحداث سبتمبر الذي أثار ضجة كبرى في أنحاء العالم، وتُرجم إلى عدة لغات، اعتمد في كتابه فقط على مصادر الإنترنت المتاحة للجميع، ولذلك تحاول هيئات أمريكية حكومية متعددة أن تراجع محتويات مواقعها على الإنترنت وتقوم بغربلتها بعد تكشّف العديد من الأسرار.
ويقدّم التأمل والمقارنة بين المواقع العربية المعلوماتية على الإنترنت ومثيلتها الغربية تقويماً واضحاً لقدراتنا البحثية، ونذكر مثالاً واحد فقط يبين الفارق في مستويات الأعمال، فقد قرّرت إحدى الجامعات الأمريكية أن تنشئ موقعاً متخصصاً في أحداث 11سبتمبر وما نشأ عنها وتوابعها، وتطوع للعمل في الموقع عدد كبير من الأساتذة والباحثين، ويهدف الموقع إلى جمْع كل ما نُشر عن 11 سبتمبر في جميع أنحاء العالم، وليس أمريكا وحدها، والنقل يشمل الجهات الموالية والمعادية، ثم أرشفة هذه المادة على الموقع، فأين نحن من ذلك؟
رابعاً: التكوين النفسي:
التكوين النفسي للشخصية العربية يعطي مساحة واسعة ومتقدمة للعاطفة، وتلك مشكلة مزدوجة عند الرغبة في حلها، إذ نحتاج إلى تخفيض جرعة العاطفة، وإلى تحديد دقيق لمواطن إظهارها أيضا، فقد وصل الحال في الآونة الأخيرة أن العاطفة أصبحت مقدمة على المعلومات لدرجة أنها أصبحت عنصراً تقويمياً رئيساً في مواجهة الأحداث، وقد ترتب على ذلك العديد من المواقف المتناقضة والمتقلبة، ونذكر مثالاً على ذلك موقف بعض المتعاطفين مع هجمات سبتمبر، فقد كانت المعلومات عديمة القيمة في تحديد الموقف من تلك الأحداث، وكانت العاطفة سيد الموقف يعني بعبارة أخرى ردود الأفعال، فعندما كان التوجه الأمريكي هو البحث عن جهة إسلامية لتحميلها مسؤولية الحدث، كان الموقف هجوماً على التعنت الأمريكي ومحاولة لنفي تلك التهمة، حتى بالغ البعض في إنكار أشرطة الفيديو التي تم بثها كدليل على مسؤولية القاعدة، وأذكر أن أحد الأشرطة بالغ بعض الناس في إنكاره، لدرجة أنه أعدّ ما يشبه دراسة مصغّرة لبيان كيفية تزوير الأمريكيين للشريط، وذكر قياسات ومقارنات مختلفة لوجه زعيم القاعدة في معرض إثبات التزوير، وفي نهاية الأمر أعلنت القاعدة صحة الشريط في بيان لها، وفي المقابل عندما تحدّدت المسؤولية وبثت الجزيرة عدة أشرطة لبعض المشاركين في الهجمات تحولت الدّفة، وأصبح كل من يحاول نفي مسؤولية القاعدة عن الهجمات أو يتحدث عن تورُّط جهات أمريكية بالعلم أو التسهيل، ويبرز كتابات مثل كتاب "الخدعة الكبرى" تتناول هذه المسألة، أصبح يتعرض لانتقادات من يؤيدون تلك الهجمات، وهذا يعني أنه لا أثر للدليل المعلوماتي في معالجة هذه القضية، بل العاطفة هي الأصل، وهذه الظاهرة النفسية تقلّل من قيمة المعلومات وتخفّض من الطلب عليها.
والذي نريد قوله: إن الدراسات المستقبلية تحتاج لكي تؤتي ثمارها إلى توفر بيئة ملائمة، وبدلاً من الإفراط في الحديث عن أهمية تلك الدراسات وجَدْواها ثم الاكتفاء بتداول نماذجها الغربية، ينبغي عدم التفريط في إعداد البيئة المناسبة لكي يكون لنا نتاجنا الخاص الذي يعبر عن رؤيتنا لواقعنا ومن ثم تصوّرنا لمستقبلنا.
===============(19/220)
(19/221)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 30/11/1425
11/01/2005
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(19/222)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(19/223)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(19/224)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (libe r alism ) ص 525, دار العلم للملايين - بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي - الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.
=============(19/225)
(19/226)
تراجعات عربيّة والإصلاح هو وسيلة الابتزاز
ياسر الزعاترة 3/2/1426
13/03/2005
ما بين التعاطي العربي مع الملف الفلسطيني واللبناني والعراقي خيط من التراجعات غير المبررة، والتي يمكن أن تنطوي على مخاطر حقيقيّة على مجمل الوضع العربي في مواجهة التحدّيات التي يطرحها برنامج الشرق الأوسط الجديد الذي بدأ في العراق وهاهو يطارد سوريا، فيما لن يتوقف طائعاً حتى يرتب وضع المنطقة على مقاس الدولة العبريّة التي يشكل رضاها مدخلاً لرضا المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.
لسنا متشائمين تماماً، فنحن نعوّل على التماسك الشعبي في حال إخفاق الرسمي، لكننا نتحدث بلغة التحذير، في ذات الوقت الذي نشير فيه إلى بؤس الرؤى السياسية التي تقف خلف ما يجري، والتي لا تستند إلى منطق واقعي، فضلاً عن أن تستند إلى رؤية متماسكة تأخذ في الاعتبار مصالح الوطن والأمة عموماً.
ما يمكن قوله بكل بساطة هو أن النظام العربي الرسمي لم يعد معنياً سوى بمصالحه الذاتية، ولا نعني هنا مصالح الدولة والشعب، أو ما عُرف اصطلاحاً بالمصلحة القطريّة، بل نتحدث عن مصالح الفئات الحاكمة التي لم تعد ترى ما يجري إلا من خُرْم مصالحها الذاتية، والأسوأ أن ذلك يجري بروحية العجز، لا بروحية المواجهة مع التحدّيات المحيطة.
لقد أدرك المحافظون الجدد في الولايات المتحدة أن لعبة الإصلاح والمطالبة به هي الورقة التي يمكنهم من خلالها ابتزاز التنازلات التي يريدونها من الأنظمة العربية، سواء أكانت من ذلك اللون الذي أعاد إنتاج الدولة الشموليّة بمظاهر ديمقراطية (برلمان، أحزاب، انتخابات)، أم من تلك التي لا تزال تقوم على نظام الوصاية التقليدي، وهذان بالطبع صنفان: صنف له مضامينه الديمقراطيّة المعقولة، وصنف لا يزال يحبو على هذا الصعيد، وحيث يسعى بدوره، وإن على مراحل، إلى تكرار تجارب الآخرين في صناعة ديمقراطية وتعدديّة لا تغيّر شيئاً في الواقع السياسي على الأرض، مستفيدة من تجارب الدول التي سبقتها في هذا المضمار.
والحال إننا إزاء أنظمة لا تريد تغييراً ديمقراطياً حقيقياً ينطوي على تداول سلمي على السلطة، في ذات الوقت الذي تدرك أن قبول ما تفعل أو رفضه إنما يحدّده سادة البيت الأبيض، الأمر الذي لا يتحدّد بناءً على مدى اقتراب التغيير من الديمقراطية الحقيقية، بل تبعاً لمدى استجابة الدولة المعنية-أو النظام المعنيّ بتعبير أدقّ- للمطالب الأمريكية بشأن الملفات التي تتصدر أجندتها في هذه المرحلة.
من المؤكد أننا لا نتهم أو نتحدث عن مجرّد نوايا، على اعتبار أن بعض النخب العربية المرتبطة بالغرب قد باتت تحدّثنا عن زمن آخر تبدو الولايات المتحدة فيه عازمة على فرض الديمقراطية بعيداً عن المقاربات السياسية القديمة التي كانت تتحدّث عن أنظمة فاسدة لكنها مطيعة كخيار مفضل لدى الأمريكان، والسبب بالطبع، بحسب ذات الرأي، هو مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول التي أثبتت أن الإرهاب إنما ينبت في ظل أجواء كهذه.
دعونا من حكاية التوقّعات والنوايا، ولنقرأ معاً خطاب حال الاتحاد الذي ألقاه جورج بوش قبل أيام، ويمكن النظر إليه بوصفه البرنامج الحقيقي للمحافظين الجدد في ولايتهم الثانية، ولنركّز قليلاً على حكاية الديمقراطية. لقد أشاد الرئيس الأمريكي بدول عربية بالاسم بوصفها تتقدم نحو "إصلاحات مملوءة بالأمل"، ولا حاجة لذكر الأسماء هنا، لكن المراقب العادي يدرك أن تلك الدول لم تغير في واقع الحال سوى الديكور الخارجي، بل إن الحريات في بعضها قد تراجعت عما كانت عليه قبل الإصلاحات إياها، وكل ما هنالك أن سياساتها الخارجية قد بدت منسجمة إلى حد كبير مع المطالب الأمريكية المعروفة في الملفات الأكثر أهمية بالنسبة إليها في هذه المرحلة.
الأكيد أن الديمقراطية اللبنانية، ورغم كل الملاحظات عليها، كانت الأفضل عربياً، وهي بالتأكيد أفضل بكثير من كل الدول التي أشاد بها الرئيس الأمريكي، ومع ذلك فقد فُرِضت عليها وعلى سوريا العقوبات تحت دعاوى ديمقراطية أيضاً، كما هو الحال بالنسبة لقرار مجلس الأمن رقم 1559، وهاهي تخضع لمطاردة محمومة لا تتوقف.
لنسأل بعد ذلك عن السر وراء وضع الرئيس الأمريكي للسعودية ومصر في الجهة المقابلة للحالات التي أشير إليها سابقاً، رغم أن مصر مثلاً لا تختلف عنها في شيء يذكر، وإن بدا أن السعودية كذلك، وهي التي أخذت تتحرك بدورها نحو إصلاحات تدريجية بذات الروحية وبدأت بالانتخابات البلدية، ولا بد ستصل مع الوقت إلى الأوضاع القائمة في الدول الأخرى.(19/227)
بعد السعودية ومصر جاءت سوريا في التصنيف السيئ، ليس ديمقراطياً بل بسبب رعاية الإرهاب، وهنا تحديداً تبرز حقيقة اللعبة، فالرئيس الأمريكي عندما يوجّه عصا الضغط والابتزاز نحو هذه الدول العربية الثلاث، فهو إنما يطالب الوضع العربي بمزيد من التراجعات على صعيد الملف الفلسطيني والعراقي؛ لأن تراجع هذه الدول لا بد سيعني تراجعاً عربياً شاملاً. فهذه الدول هي التي وقفت بتعاونها المشترك بعد أوسلو في وجه المشروع الشرق أوسطي الذي طرحه بيريز والذي يُعاد إنتاجه اليوم بمُسّمى آخر، هو الشرق الأوسط الكبير.
والحال أن الإصلاح الحقيقي القائم على تعزيز المشاركة الشعبية والتعدّدية الحقيقية والحريات الواسعة التي تعزّز انتماء المواطن لنظامه وبلده، ومن ثم لأمته، هذا اللون من الإصلاح ليس هو المطلوب، إن لم يكن مرفوضاً؛ لأنه بكل بساطة يقوّي الجبهة الداخلية، ويحول دون التراجع أمام إملاءات الخارج.
ما يجري إذن هو عملية ابتزاز يستجيب لها النظام العربي، وإلا فما معنى المبادرة إلى فك عزلة شارون، على رغم أنه لم يغير أياً من مواقفه؟ فلا هو شطب تحفظاته على خريطة الطريق، ولا تراجع عن التمسك بوعد بوش الذي وضع سقفاً بائساً لمفاوضات الوضع النهائي؟ ثم ما معنى أن يعلن بوش أنه ليس في وارد التفكير في جدولة انسحاب قواته من العراق؟ و ما معنى تصعيد الضغوط على سوريا في لبنان وسكوت النظام العربي عليها، فضلاً عن مواصلة الضغط على السعودية ومصر في ملفات كثيرة داخليّة وخارجيّة؟
ما يجري يتطلب مراجعة حقيقية، فاستمرار الاستجابة للعبة الابتزاز المُشار إليه ليس حلاً، والأصل هو تمتين الجبهات الداخلية لمواجهة الضغوط، وإذا لم يحدث ذلك فإن الابتزاز سيكون بلا حدود، وهو ابتزاز يطال الهوية والجغرافيا والمصالح وكل شيء، كما أن الوضع الدولي ليس بذلك السوء الذي يستحق كل هذا الخوف، ولعل في تمرّد دول أمريكا اللاتينية وعودة المناكفة الأوروبية الرافضة لنجاح المشروع الأمريكي في العراق، ومعها التحركات الروسية لاستعادة النفوذ الدولي، لعل ذلك كله يشكل نافذة لتغييرات حقيقية في المشهد الدولي، تعيد له قدراً من التوازن. و لا شك أن استمرار النزيف الأمريكي في العراق سيكون سبباً رئيساً في إحداث هذا التحول المتوقع.
============(19/228)
(19/229)
بوشارون: المخلوط السياسي الذي يحاصر المنطقة العربية
إدريس الكنبوري / المغرب 17/3/1426
26/04/2005
المتابع لما يجري في منطقة الشرق الأوسط هذه الأيام سوف يجد أن هناك عدة تحولات ترتسم في الأفق وترسم منظرا أسود اللون للمنطقة العربية، إلى حد أن لا أحد يتنبأ بما قد يحدث في الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة، وأزعم أنه حتى الحكام العرب أنفسهم، باتوا لا يعرفون الوجهة التي تسير فيها الأمور، وأين ستستقر غدا، وما هي الاختيارات الممكنة.
في الأيام الماضية شكلت الزيارة التي قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون لواشنطن تكريسا للتحالف الاستراتيجي التام بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية،حصل بموجبه شارون، أو البلدوزر كما تطلق عليه الصحافة العربية على ما كان يطلبه باستمرار، وهو مصادقة البيت الأبيض على سياسته اتجاه السلطة الوطنية الفلسطينية، وخطته أحادية الجانب بالانسحاب من قطاع غزة، والبقع الاستيطانية في الضفة الغربية، والموقف الإسرائيلي من القدس الشرقية. وبخلاف بعض القراءات المتسرعة التي تعاملت مع تصريحات جورج بوش من داخل" العقل" الأمريكي نفسه، وحاولت أن توهم القراء بأن الأمر يتعلق بخلاف حقيقي لساكن البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي البدين، ورفض أمريكي لسياسة الاستيطان، فإن الواقع لا يقول أكثر من أن الأمر مجرد تضليل للعرب ومسرحية أخرجتها الإدارة الأمريكية وزعت فيها الأدوار بين الرجلين، حتى يبدو أن هناك مواجهة بين بوش وشارون بشأن قضايا الاستيطان لفائدة السلطة الوطنية الفلسطينية والتسوية السياسية للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وهذا ليس مجرد استنتاج من خلال الأخبار والتصريحات، بل هو أيضا ما صرح به علنا الناطق الرسمي باسم الخارجية الإسرائيلية والسفير الإسرائيلي السابق في باريس ليومية"لوفيغارو" الفرنسية يوم الثلاثاء الماضي، فقد كشف الرجل عن وجود مراسلات سرية بين شارون وبوش وافق فيها الرئيس الأمريكي على مطالب شارون حول الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية التي تفصل بين القدس ومستوطنة معاليه أدوميم، بما يقود سلفا إلى منع إنشاء دولة فلسطينية متصلة جغرافيا، كما وافق فيها بوش على أن لا يكون هناك أي تراجع إسرائيلي إلى ما وراء خطوط 1967. ولا شك أن مثل هذه المواقف الأمريكية تقضي تماما على ما تعهد به جورج بوش نفسه للعرب والفلسطينيين قبل عامين من خلال ورقة خارطة الطريق، وما أطلق عليه"وديعة بوش" التي تؤكد من خلالها الإدارة الأمريكية على قيام دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل.
لكن جورج بوش الذي خرج عن تعهداته للعرب والفلسطينيين وأمطر صديقه شارون بكل الهدايا التي كان ينتظرها، لم يخرج عن تلك التعهدات التي قدمها لرئيس الوزراء الإسرائيلي منذ ولايته الأولى في البيت الأبيض عندما أطلق عليه قبل ثلاث سنوات لقب"رجل السلام". فما يقوم به شارون بالنسبة لبوش هو محاولة لصنع السلام مع الفلسطينيين، فيما يبدو هؤلاء واقفين في الصف الرافض للعروض الإسرائيلية، وهذا نفسه ما روج له شارون أثناء زيارته إلى واشنطن في الأسبوع الماضي، إذ وجه انتقادات قوية لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على اعتبار أنه ما يزال بعيدا عن التقدم نحو المشروع الإسرائيلي المعروض للتسوية، وشن حرب على فصائل المقاومة المسلحة، فيما تستمر الجرائم الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية تحت سمع وبصر المسؤولين الأمريكيين والعالم.
لقد دخل شارون إلى قلب بوش من نفس الباب الذي يحب هذا الأخير أن يدخله الجميع، وهو محاربة الإرهاب. وقد قضى السنوات الماضية كلها يبرر سياسته ناحية الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بهذا الأمر، وانتهى ذلك إلى قبول أمريكي رسمي لسياسة عزله من طرف الحكومة الإسرائيلية ثم محاصرته في مقر المقاطعة برام الله طيلة السنوات الأربع الأخيرة من عمره. ولذلك ليس غريبا أن يتم هذا التقارب الواسع بين الرجلين ليشكلا مخلوطا سياسيا خطيرا يتهدد المنطقة ويحاصرها من كل جانب، إسرائيل من داخل المنطقة وفي قلبها، وواشنطن عبر النافذة العراقية المطلة على سوريا وإيران والدول المجاورة.
المثير هو أن الكتابات الصحفية، سواء منها العربية أو الغربية، بل حتى الإسرائيلية، لا تأتي أبدا على ذكر العرب في كل القراءات التي تقدمها للتحولات الحاصلة في المنطقة، اللهم الا باعتبارهم ضحايا أو مفعولا بهم. فهو غائبون عن مسرح الأحداث وغير فاعلين فيها، أما ما سمي بالمبادرة العربية للتطبيع أو التسوية مع إسرائيل ، فهي غير موجودة إلا في أذهان صانعيها، بالرغم من أن ما يتم تحضيره للمنطقة يمس المستقبل العربي في الصميم ويحدد أشكال هذا المستقبل، وربما ينبئ من الآن بميلاد مولود مشوه الخلقة قد يجر المنطقة برمتها نحو الهاوية السحيقة.(19/230)
لقد بنى العرب كل شيئ على وعود بوش المتكررة لهم بدفع عجلة التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتحقيق حلم الدولة الفلسطينية، وركضوا جميعا خلف الوهم الذي صنعه الرئيس الأمريكي ومستشاروه. وفي وقت سابق شكل هذا الوهم غطاء سياسيا استفادت منه واشنطن في تمرير الحرب على العراق، إذ ضمن به بوش صمت البلدان العربية، لكن في وقت لاحق ظهر مبرر آخر وهو الحسم النهائي مع الإرهاب ومواصلة الإصلاحات السياسية في السلطة الوطنية الفلسطينية، بمعنى أن وعد بوش بإنشاء الدولة الفلسطينية أصبح مشروطا بهذين الأمرين، وذهبت هذه المواقف الأمريكية رصيدا إضافيا إلى حساب شارون على حساب حل القضية الفلسطينية.
الرؤية الأمريكية ـ الإسرائيلية لأمور المنطقة ولحل النزاع الفلسطيني تبدو متناغمة وليست بحاجة إلى جهد كبير للتفكيك، فهي تنطلق من ضرورة تغيير الوضع القائم في المنطقة العربية أولا واعتبار حل القضية الفلسطينية حاصلا لذلك التغيير لا مقدمة له، وهنا محور الاختلاف بين المطالب العربية من جهة والأمريكية ـ الإسرائيلية من جهة ثانية، والذي ظهر بعد وضع الإدارة الأمريكية لمشروع الشرق الأوسط الكبيروشمال إفريقيا، فقد علق العرب مطالب الإصلاح على حل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بينما علقت الإدارة الأمريكية هذا الحل على تلك الإصلاحات، ثم تغلبت المطالب الأمريكية على المطالب العربية لأن العرب لا يملكون الوزن الكافي لتمرير رؤيتهم للأمور.
وما يلوح في الوقت الراهن هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تضع الملف الفلسطيني في مركز الاهتمام فيما يتعلق بمنظورها الأشمل للتعاطي مع شؤون المنطقة، إذ أنها فتحت جبهات أخرى مع سوريا ولبنان وإيران، وتريد الانتهاء من هذه البؤر الثلاث بهدف وضعها داخل المساحة المتحكم بها لضمان استقرار إقليمي بالمنطقة بما يساير الأهداف الأمريكية في المستقبل المنظور. ولذلك تحرص على التجاوب مع حزمة المطالب الإسرائيلية لأنها توفر لها استراتيجية اللعب على الوقت الميت ريثما يتم دفع الأمور في الاتجاه المطلوب، ولذا يبدو من غير المؤكد حدوث تفكك في تحالف بوش ـ شارون أو"بوشارون" بما يقود إلى الفصل بين السياسة الأمريكية اتجاه الملف الفلسطيني والسياسة الأمريكية اتجاه ملف المنطقة العربية ككل واحد
============(19/231)
(19/232)
إدارة المعلومة في الحرب على الإرهاب
د. محمد بن سعود البشر 24/3/1426
03/05/2005
يقول الخبير العسكري الإستراتيجي (كارل فون كلوزويتر ka r l von (Clanscewitz: " الحرب في القرن الحادي والعشرين تعني مواصلة العمل السياسي بوسائل أخرى غير القوة العسكريّة". وهو بمقولته هذه يقرر حقيقة أن طبيعة الحرب في هذا القرن تشهد مرحلة تغيّر جذريّة كما شهدها من قبل المجتمع والسياسة على حد سواء، وجوهر هذا التغير أن الحرب أصبحت تُدار بوسائل أخرى قد تكون أكثر تأثيراً وفاعليّة من السلاح، ومنها وسائل الإعلام، وقد صدّق (روبن براونB r won ( r obin على هذا الاتجاه بقوله: "إن الحرب على الإرهاب التي يشهدها العالم هذا اليوم بقيادة الولايات المتحدة تدور رحاها من خلال وسائل الإعلام". فالطريقة التي تقدّم بها وسائل الإعلام فصول الصراع العسكري الذي تقوده أمريكا تمثل جزءاً هاماً ومحوراً رئيساً في الحرب على الإرهاب، وجوهر هذه الطريقة يتمثل في الاستخدام الذكي والبارع في "إدارة المعلومة" ومعالجتها قبل تقديمها للرأي العام حتى تحقق الأهداف الكبرى لإعلان الحرب، بل وإطالة أمدها، فقد شهد العالم تلاعباً بالمعلومة التي قدمتها وسائل الإعلام الأمريكيّة، والغربيّة تبعاً لذلك، من أجل إقناع الرأي العام الداخلي والعالمي بأن النظام السابق في العراق كان متورطاً في علاقات مع تنظيم القاعدة، وبأنه يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وكررت الآلة الإعلاميّة هذه المعلومات من أجل تهيئة الرأي العام العالمي للتدخل في العراق والإطاحة بنظامه السياسي، وإحلال الديموقراطية وإشاعة الحرية والأمن للشعب العراقي وشعوب المنطقة. فكان التدخل العسكري المرتبط برؤية أمريكيّة إستراتيجيّة في المنطقة لم تكن الدعاوى السابقة إلا غطاء ومبرراً لتحقيقها.
ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن الاستخدام المقنن لوسائل الإعلام من خلال الإدارة الذكيّة للمعلومة كان جزءاً هاماً من الصراع العسكريّ الذي تخوضه الولايات المتحدة في المنطقة العربيّة بدعوى الحرب على الإرهاب، وهذه الإدارة الذكيّة للمعلومة تكاملت في صياغتها المفاهيم العسكريّة، والاتجاهات الفكريّة، والدبلوماسيّة السياسيّة لتكون أبلغ في التأثير وأكثر في الإقناع وقد كان.
إطالة الحرب هدف محوريّ هام تسعى الإدارة الأمريكيّة لتحقيقه لتكمل محاولتها المنظمة في إدارة المعلومة فيما تبقى من فصول الحرب على الإرهاب.
وها نحن اليوم نسمع مصطلحات تتردد كثيراً على مسامعنا: الحريّة، حقوق الإنسان، الإصلاح، الشرق الأوسط الكبير، وهي جزء من السيناريو الإعلامي الذي أعده أباطرة "المعالجة المعلوماتيّة" وتنقله إلينا الآلة الإعلاميّة الأمريكيّة لتحقيق ما تبقى من الأهداف الإستراتيجيّة لهذه الحرب. فهل ننتظر حتى تُطبّق مثل هذه المصطلحات المزعومة في منطقتنا على الطريقة التي طُبّقت بها "الديمقراطيّة" في العراق؟!
============(19/233)
(19/234)
عون وجنبلاط .. وسرقة الأضواء !
نايف ذوابه / الأردن 14/4/1426
22/05/2005
يبدو أن العماد مشيل عون قد تجرد من زهده السياسي الذي كان قد عبر عنه قبل
بضعة شهور قبل أن ينجلي الأفق السياسي في لبنان؛ فالعماد كان قد صرح بأنه لا ينوي ترشيح نفسه للانتخابات، وإنما يريد فقط التأكيد على حق اللبنانيين في الحياة الديموقراطية والبرلمانية، بمعزل عن الوجود السوري الذي يكن له عداوة لدودة من يوم أن أسقطته سوريا، وخرج طريداً منفياً إلى فرنسا الراعية التاريخية للموارنة.
لكن المراقب للأمور على الساحة اللبنانية، ولنشاط العماد عون السياسي يدرك -بما لا يدع مجالاً للشك- أن العماد عون يهيّئ نفسه للانتخابات النيابية بل والاستعداد لخوض معركة رئاسة الجمهورية، التي يبدو أنه الآن من أبرز مرشحيها، بعد أن انهالت عليه الفضائيات لإجراء حوارات سياسية، وبعد أن وجد في الأبواق السياسية في لبنان من يروّج له ويخطب وده ويصفه بالنزاهة ونظافة اليد رغم انزعاجه الشديد لدى سؤاله في لقاء تلفزيوني عن الأموال التي تبرع بها لبنانيو المهجر في عهده فقال: إنه كان يوقع على سندات الصرف، لكن ما كان يعرف أن المسؤولين كانوا يشترون بها سيارات فارهة!!
ويمكن القول: إن العماد قد عاد عودة مظفرة بعد أن نجح في التحريض على سوريا في شهادته أمام الكونغرس الأمريكي الذي أدّى إلى صدور قانون معاقبة سوريا مستغلاً الثغرة التي نجمت عن مخالفة سوريا الظاهرية للغزو الأمريكي للعراق، ومع التحديات التي واجهتها أمريكا في العراق تحوّلت المسألة إلى شرخ خطير في العلاقات السورية الأمريكية التي هي في حقيقتها حليفة لواشنطن، وقد دخلت سوريا لبنان بموافقتها وبتفويض منها، لكن حداثة خبرة الرئيس بشار الأسد السياسية واندفاعه وراء الدعاية السياسية أوقعتاه في الفخ, وغاب عنه أن موارنة لبنان واليمين المسيحي فيه إلى جانب الإسرائيليين يتربّصون به الدوائر، وينتظرون فيه يوماً أسود، وقد كان حين اغتالوا رفيق الحريري, وأوقعوا بالطائفة السنية حين جرّ وها إلى المعارضة، وقد كانت في الموالاة بعد أن اغتالوا رمزا من رموز الطائفة السنية، وأوغروا صدور الناس على سوريا، وأصبحت وحيدة في دائرة الاتهام، وشمت بها جيرانها الذين حرّضوا عليها، ونوهّوا بالخطر الذي يحدق بالمنطقة بسبب رعايتها للإرهاب ودعمها لحزب الله، هي وإيران، وقد استعجل الملك عبد الله الثاني في الاستفادة من الأجواء المشحونة ضد سوريا ظناً منه بأن سوريا توشك أن تعصف بها الأحداث، ويوشك نظامها على الزوال المحقق، كما تراءى ذلك من التصريحات الأمريكية، ولكن يبدو أن أمريكا تروت في الأمر لما تعانيه من مصاعب ومصائب في العراق أولاً ثم لوساطة السعودية ومصر لبشار الأسد بوضعه تحت التجربة، واختبار النوايا، وهذا ما صرح به فعلاً وزير الخارجية العراقية، من أن سوريا بشار الأسد وعدت العراقيين بمراجعة سياستها كلياً من العراق؛ وقد بدأت ترشح أخبار تفيد بأن هناك ضباطاً سوريين قد شاركوا في معركة القائم الأخيرة؛ حيث أمدوا الأمريكان بمعلومات استخبارية ساعدتهم في الوصول إلى أماكن وجود المجاهدين والنيل منهم، وهكذا يكون الموقف السوري قد انقلب من قضايا المنطقة التي يختلف فيها مع الأمريكان مائة و ثمانين درجة حفاظاً على الكرسي!!
وقد انساق جنبلاط مع المعارضة وبالغ في استعداء سوريا، وجعل البعض جنبلاط زعيماً للمعارضة التي أصبحت تجتمع في بيته لتحقيق مأربها في التحريض على سوريا محليا ودولياً، وأوهموه بأنه الزعيم المرشح للبنان بعد ثورة الاستقلال، وقد حاول جنبلاط التنسيق مع ميشيل عون فزاره في باريس، ولكن يبدو أن الزيارة لم تكن موفقة، ولم تحقق النجاح المنتظر، وبدل أن تسفر عن توافق وتحالف وتصفية أجواء يبدو أنها عكرت ووترت الأجواء، ولم يمض وقت طويل حتى اشتعلت حرب التصريحات العدائية بين جنبلاط وعون بل بين الدروز والموارنة، بعد أن شعر جنبلاط أن عون يسحب بساط المعارضة من تحت قدميه ويسرق منه الأضواء، ويجمع المعارضة المارونية تحت مظلته السياسية، وهكذا يكون جنبلاط والمعارضة السنية التي جُرت لخندق العداء مع سوريا قد خرجوا جميعاً من "المولد بلا حمص"، وفاز الإسرائيليون والموارنة بالضربة القاضية على سوريا وعلى حلفاء سوريا السابقين؛ فخرجت سوريا من لبنان وانكشفت الخاصرة السورية من جهة لبنان لإسرائيل، وكسب الموارنة الجولة؛ إذ عادوا إلى الواجهة معززين بالدعمين الأمريكي والإسرائيلي، وبدور يعضد الدور الإسرائيلي في المنطقة، للتآمر عليها، والنيل من وحدتها، في إطار ما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، والرؤى الأمريكية للبننة المنطقة "وعرقنتها" وبلقنتها، وتفكيكها إلى نحل ومذاهب وقوميات متتاحرة، تتفجر بينها صراعات دامية وهذا هو العراق نموذجاً...!!
==============(19/235)
(19/236)
هل تراجع الأمريكيون عن مشروع الشرق الأوسط الكبير؟؟
د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي 20/4/1426
28/05/2005
في خطوة تشي بالتراجع أمام الأنظمة العتيدة يبدو فتور الأمريكان عن مشروعهم (الشرق الوسط الكبير) واضحًا جليًا خصوصًا في جانب الإصلاح السياسي؛ إذ لم تبدِ الإدارة الأمريكية أي استنكار حقيقي للإعلانات الإصلاحية الصورية من قبل بعض الرؤساء العرب الذين قاموا بما سمّوه إصلاحات، وهي عبارة عن محاولات صورية غير حقيقية في سبيل الإصلاح السياسي.
وهذا السكوت الذي فُهم منه التأييد، يدفع للتساؤل عن السبب الذي حمل الأمريكان على طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بشّروا به العالم، وجعلوه من أولويات أجندة القمم السياسية، وما الذي حملهم على التراجع وإعلان الاستسلام للأنظمة التي كانوا يطالبونها بالإصلاح. وهل كانت فكرة المشروع مجرّد نزوة طارئة ورأياً لم يُدرس ولم ينضج، وإنما كان ردّ فعل على أحداث سبتمبر تبين أنها ردة فعل غير مدروسة، أم أن الأنظمة المعنية في المنطقة استطاعت التأثير على عتاة السياسة الأمريكية والتغلب على قناعاتهم وإقناعهم بخطئهم في محاولة فرض الإصلاح والحرية؟!
أم أن غزو العراق وأفغانستان واستمرار الاحتلال والمقاومة أعطى الإدارة الأمريكية نوعًا من الاطمئنان على الأمن القومي الأمريكي ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وأنها تستطيع فرض ما تريد بالقوة العسكرية، وبالتالي فلا حاجة لهذا المشروع؟
إذا نظرنا لمسوغات إعلان المشروع فهي كما جاء في مقدمته:
"وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. إن الإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في "الشرق الأوسط الكبير" مروّعة.
وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق، ويمكن للشرق الأوسط الكبير أن يستمر على المسار ذاته، ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية، وسيمثل ذلك تهديدًا مباشرًا لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني".
وهذا يؤكّد إدراك الولايات المتحدة خطورة سياساتها السابقة في دعم الأنظمة القائمة على حرمان شعوبها من الحقوق السياسية، وإن هذه السياسة أدّت إلى سخط شعبي عام على الأنظمة والدول الكبرى الداعمة لها خصوصًا الولايات المتحدة.
وجاء هذا المشروع معبرًا عن رغبة في تلافي أسباب الانفجار في تلك المنطقة والانقلاب على مصالح الدول الكبرى.
غير أن الشيء غير المفهوم هو أن الدولة المبتدئة بالمشروع والمتحمسة له ما لبثت أن تراخت عن أهم بنوده، وأكبر أسبابه، وهو الإصلاح السياسي لتلافي الحرمان الذي تشعر به شعوب المنطقة.
ويؤكد هذا التراخي تأييد الولايات المتحدة لقانون الانتخاب الرئاسي في مصر، وسكوتها عن بقاء الرئيس العسكري الباكستاني برويز مشرف الذي انقلب على الديموقراطية.
إلى حد الحرب على قبائل بلاده إرضاء للإدارة الأمريكية.
إن المتأمل في أحوال المنطقة يجد أنه من الحكمة ومن المصلحة المشتركة لشعوب المنطقة، ولغيرهم ممن لهم مصالح مهمة فيها، أن تكون الأوضاع مستقرة غير مهددة بالثورات والقلاقل، وإن استمرار شعور الشعوب بالحرمان من حقوقها سيؤدي إلى مزيد من القلاقل والفتن، وإن الإصلاح السياسي سبيل مهم لاستقرار المنطقة، ولذلك فإن التراجع عن محاولات الإصلاح يُعدّ تأييدًا لاستمرار أوضاعِ منطقةٍٍ مهددةٍٍ غيرِ مستقرة. وبالتالي استمرار ما تخوّف منه واضعو المشروع على مصالحهم ومصالح العالم.
وأضاف الأمريكيون خطأ آخر إضافة إلى خطئهم في دعم استمرار الوضع السياسي المتأزم، وهو مقايضة الأنظمة بأن تقوم -مقابل السكوت عنها- بتغييرات تشريعية وثقافية واجتماعية ودينية تخدم الولايات المتحدة في سعيها للتأثير الثقافي والاجتماعي، وتضعف الهوية الإسلامية والعربية تتمثل في فرض تغييرات على أوضاع الأسرة المسلمة، ووضع المرأة، والتشريعات والأنظمة النابعة من الشريعة الإسلامية.
وقد سايرت بعض تلك الأنظمة المطالب الأمريكية وتحمّست لفرضها على نحو يؤجج مزيداً من الكره لتلك الأنظمة وللولايات المتحدة التي تفرض عليها هذه التغييرات المرفوضة شعبيًا، مقابل تجاهل التغييرات الإيجابية المطلوبة من تلك الشعوب
=============(19/237)
(19/238)
هل تنتهي طموحات "الأخ القائد" في أحضان شارون ؟؟
عبد الحق بوقلقول/ الجزائر 21/8/1426
25/09/2005
لعل من أهم الأخبار التي تداولتها وكالات الأنباء العالمية في موضوع الشرق الأوسط خلال الأسبوع الأخير هو الخبر الذي يقول بأن حكومتي كل من تل أبيب و طرابلس الغرب بصدد وضع آخر لمسات التحضير البروتوكولي لزيارة سوف يقوم بها الزعيم الليبي معمر القذافي إلى دولة الاحتلال في "أقرب فرصة".
هذه الأخبار -وإن كانت قد لقيت تكذيباً رسمياً من قبل السلطات الليبية- لم تنته في الحقيقة، و ما زالت مختلف مصادر الأنباء تتوقع أن تتم الزيارة فعلاً بما أن الكل صار الآن يرى بشكل واضح تلك الجملة من التغيرات العميقة التي بدأت تظهر كَسِمة بارزة لكامل منطقة الشرق الأوسط منذ غزو العراق قبل أكثر من ثلاثين شهراً، على الرغم من أن الوضع في هذا الأخير لا تبدو عليه أي من ملامح الانفراج، زيادة على أن خبر الزيارة نفسه لم يلق تكذيباً من قبل أي جهة رسمية في تل أبيب ، و هذا ما يدفعنا بالتالي إلى محاولة الوقوف على الدوافع الحقيقية التي تجعل منا نصدق مثل هذا الخبر الذي لم يكن في الواقع غير تحصيل حاصل مما يعني أن الجميع كان ينتظره، و لم تكن الصحف العبرية في الحقيقة غير الجهة التي سارعت إلى إعلانه خصوصاً إذا ما لاحظنا أن إذاعة هذا الأمر جاءت متزامنة مع تلك الدعوة الصريحة لسيلفان شالوم، وزير خارجية الكيان، و التي تقدم بها على هامش أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك حين طالب من كل الدول العربية بأن: "تجهر بعلاقاتها السرية مع إسرائيل"، و هي كلمة تعني ما تعنيه ، ثم إن الخبر في حد ذاته كان قابلاً للتصديق بالنظر إلى تلك السلسلة من الخرجات الاستعراضية التي ما فتئ نظام "الجماهيرية العظمى" يكررها في الفترة الأخيرة في تعبير واضح عن تحوّل عميق أصاب الدولة أو فلنقل، أصاب عقلية "الزعيم القائد" بما أننا لن نكشف سراً حينما نقول: إن الجماهيرية هي، مثل كثير من بلداننا، دولة "نزوات" تحكمها أمزجة شخص وحيد قد يغير "الثوابت" ويقلب الإستراتيجية الوطنية رأسا على عقب بين عشية وضحاها كما شاهد العالم مؤخرا !!
لكي نستطيع فهم ما يجري في هذا البلد العربي الغني بالثروة النفطية -التي صارت مع الأسف عبئاً على أمتنا- يتعين علينا أن نقتفي أثر بعض التطورات الأخيرة في العلاقات بين طرابلس الغرب و الولايات المتحدة الأمريكية بما أن مستوى العلاقة مع القوة العظمى صار-مثلما هو معروف-المقياس الحقيقي لتقييم مدى صلاحية و" انضباط " أي نظام على وجه الأرض في ظل الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم
من الدولة المارقة إلى الدولة الأنموذج
حينما التقى القذافي مع رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، (ريتشارد لوغار)، في العشرين من شهر آب/أغسطس الماضي تحت خيمة الأول في سيرت، مسقط رأس القذافي و عاصمة الجماهيرية الفعلية منذ سنوات، صرح (لوغار): "إنني هنا في ليبيا بناء على توصية خاصة من الرئيس بوش لأجل تطوير العلاقات الثنائية بين بلدينا. إن ترقية التمثيل الدبلوماسي بيننا قد يكون ثمرة هذه الزيارة"، و هذا التصريح تلاه مباشرة بعد يومين من ذلك، تصريح آخر لسيف الإسلام القذافي -نجل القائد و خليفته على ما يبدو- لوكالة الأنباء الفرنسية بأنه يعتقد أن العلم الأمريكي سوف يُرفع "في الأيام القادمة" في طرابلس مثلما سيتم رفع العلم الليبي في واشنطن، مما يعني تطويراً للعلاقات الثنائية و جعلها ترقى إلى مستوى التمثيل الدبلوماسي بما أنها لم تتجاوز سقف "مكاتب الارتباط" منذ استئناف العلاقات في 28 حزيران/يونيو الماضي بعد أربع وعشرين سنة من انقطاعها.
هذه التصريحات الليبية لم تتلق التجاوب المفترض من قبل واشنطن إلا أنها لم تكن محل معارضة من قبل هذه الأخيرة على أية حال؛ لأن الناطق باسم كاتبة الدولة للخارجية ، (شون ماك كورماك) صرح بعدها بساعات بأنه يتعين على الأمريكيين "التريث" قليلاً ليتم بعدها في الخامس و العشرين من نفس الشهر -آب/أغسطس- عقد اجتماع في لندن بين الأمريكيين و البريطانيين لكي يتم الاتفاق فيه على كيفية "تنسيق" العمل مع الجماهيرية.
ما السر إذن في كل هذه التطورات السريعة؟ كيف تحوّلت ليبيا هكذا من قائمة الدول المارقة منذ العام 1979، حتى يقرر الأمريكيون أن يستأنفوا علاقاتهم معها بشكل جدي؟
لقد كان الجميع يتوقع أن يكون رأس القذافي هو أول رأس سيسعى الأمريكيون إلى تنحيته بعد أن يفرغوا من أمر صدام حسين ، حتى إن بعض المؤسسات الإعلامية في الغرب نفسه بدأت في تخيّل السيناريوهات المحتملة لمثل هذا الأمر، بل إن البعض الآخر سارع إلى وضع جدول زمني بذلك، مفاده بأن عملية "تحرير ليبيا" سوف تكون في الصيف الذي يتلو سقوط نظام البعث في بغداد أي صيف العام 2003 نفسه.(19/239)
هل سبب تأخر كل هذا لا يعدو أن يكون تعثر المشاريع الأمريكية في العراق فحسب؟ أم أن الحقيقة ليست على نفس هذا القدر من البساطة، وأن تقارباً عملياً وقع بين الطرفين، وجعل الأمور تتجه بعد ذلك في غير الاتجاهات المتوقعة؟ الواقع أن الثانية هي الأصح بما أن العقيد الليبي أعلن صراحة عزم ليبيا التخلي النهائي عن كل برامج أسلحة التدمير الشامل لديها -هذا إن كان لديها هذه الأنواع من البرامج أصلاً- في كانون الأول/ديسمبر 2003 ثم قراره بعد ذلك أن تقوم الجماهيرية بدفع مليارات الدولارات تعويضا عن قتلى حوادث طائرة (البانام) فوق سماء لوكربي الاسكتلندية 1988 و الطائرة الفرنسية فوق صحراء النيجر عام 1989، و قبلها حادث تفجير ملهى "لا بال" في برلين الغربية عام 1986 .
هذه التغيرات لم تكن لتمر من غير أن تتحوّل العلاقة بين طرابلس و الغرب على وجه العموم من أقصى التنافر إلى أوثق روابط الود، و شهدت "خيمة الأخ القائد" في سيرت زيارات لشخصيات و قيادات غربية من بيرلسكوني الإيطالي و رئيس وزراء إسبانيا السابق خوسيه ماريا أثنار إلى الوزير الأول البريطاني توني بلير، و حتى الرئيس الفرنسي شيراك من غير أن ننسى الحديث المتداول مؤخراً عن إمكانية قدوم بوش نفسه إلى هناك. هل يعني هذا أن الزعيم القذافي أصبح متحمساً لهذه الفكرة الأخيرة إلى درجة أن يقدم على خطوة على هذا القدر من الجرأة، و يقوم بزيارة إسرائيل حتى يضطر الرئيس بوش إلى رد التحية بأحسن منها؟
أنا لا أستبعد هذا الأمر، و إذا كان وزير خارجية ليبيا عبد الرحمن شلقم قد أعلن أن هذا الأمر غير وارد في أجندة معمر القذافي؛ فالواقع يطلعنا أن هذا الأخير لم يكن يوماً شخصاً تحكمه الأجندات؛ فلقد ظل منذ وصوله إلى السلطة، في الانقلاب الذي دبره هو بنفسه مع جهات- لسنا مضطرين إلى ذكرها- في غرة أيلول/سبتمبر 1969 على الملك إدريس الأول، شخصاً لا تحكمه سوى الأمزجة الحادة التي جعلته يستدير دورة كاملة من التغني بأمجاد العروبة إلى الالتحام الكامل مع مشاريع تحمل نفس مقومات الفشل المسبق كالتي تحملها الجامعة العربية و نعني بها مشروع الاتحاد الإفريقي.
من العروبة إلى الأفرقة
كلنا يذكر تلك الملاسنة التي جرت في قمة شرم الشيخ 2003، و هي الحادثة التي نستطيع أن نقول: إنها كانت الدليل الأكبر على أن هذا العقيد صار شخصاً "غير مرغوب فيه" في المشاريع العربية، حتى وإن كانت بلاده لا تزال حتى الساعة عضواً في هذه الجامعة على الرغم من بعض القفزات الاستعراضية التي ما انفك هذا القائد يبديها مرة تلو أخرى، ثم إنه يجب علينا ألاّ ننسى أن نظام معاوية ولد الطايع في موريتانيا الذي أطاح به انقلاب الثالث من شهر آب/أغسطس الأخير، لم يخف يوماً اتهاماته لطرابلس بوقوفها خلف المحاولات الانقلابية الكثيرة التي كانت نواكشوط مسرحاً لها.
هذا يعني بما لا يدع مجالاً للشك بأن القائد الليبي صار الآن لا يهتم إلا بالتعاون، أو بالأحرى، الإشراف على العمل الإفريقي و لعل المؤتمر الذي نُظّم في مسقط رأسه سيرت في أوائل الشهر الحالي بمناسبة ذكرى إعلان تأسيس الاتحاد الإفريقي لدليل على أن القذافي الذي أفنى سنوات طويلة من عمر ثورته في توزيع الأموال على المناهضين للإمبريالية في العالم العربي و غيره، صار الآن لا يدفع فلساً إلا لأشد المتحمسين لمشروع "الولايات المتحدة الإفريقية" -مثلما يُسمّي الاتحاد- مع الحرص الكامل على ألاّ تتعارض مصالح هذه المشروع، الذي يحمل جينات الفشل في أحشائه، مع مشاريع أخرى كتلك التي تتولى الولايات المتحدة السير فيها، و نعني بها هنا مشروع الشرق الأوسط الكبير مثلاً.
هل يستفيد المواطن الليبي من هذا التحول؟
الواقع أن الليبيين كانوا دائماً آخر من يسمع عن التحوّلات "الإستراتيجية" في ذهن القذافي، و بالتالي فلن يكون غريباً أن تجد أن الليبيين صاروا لا يكترثون كثيراً لمثل هذه التغيرات بما أنهم ألفوا تلك الوثبات التي لا تجلب عليهم في النهاية غير مزيد من الأزمات الاقتصادية و المالية، و أما الحديث عن التحوّلات السياسية فهو لا يزال في طور التخمين في طرابلس بما أن العقيد القذافي لم يقم حتى الساعة باعتماد أي إجراء قد يفيد بقرب تحقق بعض الإصلاحات السياسية، على الرغم من أن تصريحات سيف الإسلام كانت تصب في هذا الاتجاه حينما قال: إن سلطات بلاده سوف تقوم بالإفراج قريباً عن عدة عشرات من معتقلي الرأي من تيار الإخوان المسلمين على وجه أخص، إلا أن قرار الوالد في ذكرى "ثورة الفاتح" الأخيرة لم يكن غير إفراجه عما يناهز (1600) سجين من سجناء الحق العام.
إن سيف الإسلام لا يشغل رسمياً أي منصب في الدولة، و هذا من شأنه أن يعني بأن تصريحاته لا تعني الأب في شيء إلا أنها-في تقديري- بالونات اختبار تطلقها الأجهزة الدعائية للسلطات الليبية بغية جس نبض الخارج و الداخل معاً من غير أن يكون لها أي مفعول على الأرض؛ مما يعني أنها لا تُوجه في الظرف الحالي سوى للاستهلاك الإعلامي.(19/240)
إن ليبيا، بشهادة كل من عرفها، بلاد تستحق أن تكون في موقع أفضل بكثير من الذي تشغله الآن؛ فهي تمتلك كل مقومات التطور و الرقي بما حباها الله من نعم لم تتوافر لكثيرين غيرها، و لكنها -مع شديد الأسف- لا تزال تفتقر لإرادة سياسية حقة تجعل من تلك الأحلام التي استشهد من أجلها أسد الصحراء عمر المختار واقعاً معيشاً تنعم به أجيال أبنائها خصوصاً و أن الديمقراطية التي يتغنى الغرب بها، و التي كانت حتى وقت قريب أملاً و منفذاً يراود كل مترقب للتغيير، لا تعني غير الدخول تحت المظلة الأمريكية، و عدم معارضة مصالحها، و ليذهب بعدها كل شيء إلى الجحيم !!
============(19/241)
(19/242)
تقرير " ميليس" بين الحياد والتسييس !
علي حسين باكير / لبنان 20/9/1426
23/10/2005
مساء الجمعة الأخير الموافق 21/10/2005 قدم المحقق الألماني ديتلف ميليس نص تقريره إلى الأمين العام للأمم المتّحدة كوفي أنان. و لربما لم يكن الهاجس الكبير هو الإجابة عن سؤال: من قتل الحريري؟ بقدر ما كان الهاجس الأساسي لدى جميع الاطراف هو: هل سيتم تسييس التقرير أم أنّه سيبقى في إطاره القانوني و القضائي؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نبيّن للقرّاء أنّ التقرير كان هلامياً و رمادياً، و ليس كما ظهر في الإعلام أنّه اتّهم فلاناً أو علاّناً من الشخصيات السورية و اللبنانية, أضف إلى أنّ عمل اللجنة هو جمع الوقائع، و ليس توجيه الاتهامات, لكن من واجبات اللجنة أيضا جمع أدلة قاطعة تسمح بتوجيه اتهامات في المحكمة أثناء المرحلة الثانية, لذلك فما يرد في تقرير اللجنة هام جداً لأنه يشكّل القاعدة التي تنتطلق منها المحكمة في توجيه الاتهام إلى جهة معينة أو أشخاص معينيين, فإذا أخطأت أو تسرعت اللجنة أو استعانت بأدلة ضعيفة و رمادية ، أو بشهود مدسوسين أو غير حقيقيين فإنّ ذلك سيؤدي إلى طمس الحقيقة ، فيما تتوجه أصابع الاتهام إلى جهة أخرى غير الجهة الحقيقية. و في هذا الإطار فقد كان من الواجب عدم نشر التقرير إذا كان الجميع يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة دون تسييس التقرير، و حفاظاً على مصداقيته، و أقله حتى تتم مراجعته من قبل مجلس الأمن و الدول المعنيّة بالتقرير بعيداً عن الإعلام و الاتهامات، و في جو مهني قضائي, و قد كان ميليس يعرف أنّ المهنية و المصلحة تقتضي عدم نشره ، وهو بذلك كان يفكر بطريقة صحيحة، و لذلك وضع عليه -و في الورقة الأساسية- جملة "سري للغاية"، و لكنّ جهة ما في الامم المتّحدة أو على علاقة معها قامت بتسريب التقرير للصحفيين، و هي لم تكتف بذلك بل أصبح هناك نسختان في آن واحد, نسخة تحتوي على أسماء جهات و أشخاص بشكل واضح ، و نسخة لا يوجد فيها أسماء!!
و بذلك تكون أول مرحلة من مراحل تسييس التقرير قد بدأت, و لكن هنا يتبادر للمحلل سؤال مهم, و هو: إذا كان ميليس -كما بدا عليه عند عقده للمؤتمر الصحفي-لا يعلم لماذا تم إعطاء التقرير للصحفيين، ولم يتم إبقاؤه سرياً على الرغم من أنه قد اتخذ الإجراءات اللازمة لجعله سرياً, فمن هي الجهة التي سرّبت التقرير الذي احتوى الأسماء، و ما هو الغرض من ذلك، و لماذا لم تنتظر مناقشات مجلس الأمن والدول المعنية؟!
الواضح حتى الآن أنّ الجهة التي قامت بتسريب التقرير قد أرادت الاستفادة من ورود أسماء مهمة فيه، و بالتالي إثارة بلبلة حول الموضوع، و نشر بعض الفضائح في وسائل الإعلام، وهو ما من شأنه أن يزيد من الضغط -بطبيعة الحال- على النظام السوري دون أن يلتفت القراء أو حتى غيرهم إلى كون المعلومات الواردة في التقرير صحيحة أو غير صحيحة, موثوقة أو غير موثوقة، مدعومة بأدلة أو غير مدعومة، و دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا التقرير ليس معداً للاتهام المباشر, و فعلاً هذا ما مرّ على الجميع، و لم يهتم أحد بهذه الأمور, لقد اهتموا بأسماء الموجودين في التقرير، و أصبحت سوريا متّهمة قبل تشكيل محكمة أو حتى النظر في الأدلة و مدى صحتها، و هكذا يكون الطرف الذي قام بالتسريب قد كسب نقطة مجانية عبر تسييسه بدءاً بمحتواه، و ليس انتهاء بتسريب الأسماء في وسائل الإعلام, و قد تمّ تمرير النسخة التي وردت فيها الأسماء عبر البعثة الصحفية البريطانية في الأمم المتحدة، و هي خطة ذكية لإبعاد الشبهات من أن أمريكا هي التي سرّبت التقرير, في حين أنّ الدلائل كلها تشير إلى أنها بالفعل هي من فعل ذلك لعدد من الأسباب المحتملة التي قد يكون من بينها:
1- جر سوريا الى عقد صفقة حول المطالب الأمريكية بعد أن ذُكرت أسماء رفيعة المستوى في التقرير تتعلق بها.
2- الضغط على سوريا إعلامياً، و تهيئة المناخات المشحونة ضدها و ذلك تمهيداً لاتخاذ إجراءات عقابية عبر مجلس الامن.
3- دفع سوريا إلى التعاون بشكل أكبر، و بالتالي تسليم أوراقها جميعاً في المرحلة الثانية من التحقيق الذي سيطالها بعد ورود أسماء رفيعة من النظام السوري في التقرير.
4- التمهيد لتحويل هذا التقرير إلى اتّهام مباشر دون التحقق ممّا ورد فيه.
و تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الخطوة في تمرير التقرير و تسييسه قد أضرّت كثيراً بمصداقية التقرير و بكفاءة القيميين عليه، فضلاً عن أنّ ميليس قد بدا و كأنه قد تم استغفاله او استغباؤه عندما راح الصحفيون يحققون معه في المؤتمر الذي عقده تعليقاً على هذا الأمر إلى أن وصل الأمر به أن يقول "أنتم أحرار فيما إذا أردتم تصديقي أو لا" و قد بدا عليه الارتباك و الخلط في الكلام دون معنى.
الحقيقة في جميع الأحوال مهمة، و لكن الكذب في عصرنا قد يبدو أحيانا حقيقياً أكثر من الواقع, و خير دليل على كلامنا ما حصل للعراق, فقد شنّت ضده حملات إعلامية و دعائية أدّت إلى غسل عقول الناس إلى درجة أنّه لم يصدق أحد أنّ العراق لا يملك أسلحة دمار شامل حتى بعد احتلاله وتدميره!(19/243)
بالتأكيد فإن السيناريو العراقي لايزال باكراً على الواقع السوري، و لكن البدايات قد بدأت تلوح بالأفق، و على الجميع التنبه لهذا الأمر، و لا يشك أحد للحظة - سواء كانت سوريا هي من قام بالفعل بعملية اغتيال الحريري أم لم تقم بذلك - من أن تسييس التقرير، و استخدامه كأداة في اليد الأمريكية هو أمر مفروغ منه ، خاصة إذا تطابق مع مصالحها الحالية و حلفائها في المنطقة، و الخوف كل الخوف من أن يتحول الأمر إلى توسيع لنطاق صلاحيات لجنة التحقيق لتشمل سوريا، وعندها يطالب التحقيق مع السوريين خارج البلاد، كما كانت المطالبة بالتحقيق مع العلماء العراقيين خارج البلاد قبل احتلال العراق ، و بعد المقابلات تصدر الاتّهامات و بعد الاتهامات تبدأ المساومات.. وعندها تكون دائرة الشرق الأوسط الكبير قد اكتملت، و حلّ بها جميع حلفاء الولايات المتحدّة من السودان إلى فلسطين إلى العراق و لبنان، و من ثمّ سوريا .. و البقية معروفة الولاء بالطبع !!
=============(19/244)
(19/245)
"رايس" وتسويق الخداع بالشرق الأوسط !
رضا عبد الودود/ القاهرة 22/10/1426
24/11/2005
جولة وزيرة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط الأخيرة والتي شملت البحرين والعراق والسعودية والأردن وفلسطين والكيان الصهيوني عبّرت بوضوح عن حجم الضغوط الداخلية التي تواجهها إدارة بوش التي يتزايد معارضوها في الكونجرس، وفي داخل الإدارات الحكومية الأمريكية يوماً بعد يوم بشأن الإخفاق الأمريكي في ضبط الأمور في العراق ، ووصول عدد القتلى الأمريكان إلى 2100 قتيل منذ بدء الحرب الأمريكية ، التي بُنيت على الكذب والخداع وترويج الشائعات ، والاعتماد على روايات ظنية لإقناع العالم بشرف الهدف الأمريكي. وفي محاولة منه لتعزيز الدعم الشعبي لموقف إدارته من الحرب على العراق، قال الرئيس الأمريكي بوش أمام حشد من قدامى الجنود في ولاية بنسلفانيا "لن نتراجع، ولن نستسلم أبداً في حربنا على الإرهاب. ولن نقبل بأقل من تحقيق نصر كامل على هذا العدو. ونحن مصممون على منع المتشددين من الحصول على أسلحة الدمار الشامل ووصولهم إلى السلطة في أي من بلاد العالم".
وهاجم الرئيس الأمريكي سوريا وإيران، وقال: إنه لا ينبغي الصبر عليهما، وإن الولايات المتحدة لا تفرق بين الإرهابيين وأولئك الذين يؤوونهم ويساعدونهم، وإنه "سيهزم الاثنين" !
وجاءت خطبة بوش الحماسية، والتي قاطعها عدة مرات الحضور من أصحاب البزة العسكرية بالتصفيق، تأكيداً لإستراتيجية جديدة كانت رايس قد أعلنت ملامحها منذ فترة وجيزة ، وتتلخص في أنه من الآن فصاعداً سيتم التركيز على "تنظيف" المكان (العراق) من "المتمردين"، ثم إحكام "السيطرة" على العراق، ثم "البناء".وهي السياسة نفسها التي شبهها ساسة في واشنطن بأنها نموذج لسياسة أمريكية خاطئة في الماضي استخدمت في فيتنام"Vietnam Pacification".
ضغوط على سورية بالرغم من وساطة السعودية
ولم تنس رايس مهمتها الأساسية التي جاءت من أجلها ، والمتمثلة في تصعيد الضغوط الأمريكية على سوريا بلسان العراق هذه المرة؛ إذ دعا رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الجعفري في مؤتمر صحافي مشترك مع رايس سوريا إلى ضبط الحدود مع العراق لمنع عمليات تسلل المقاتلين الأجانب. وقال: "نطلب منهم أن يسيطروا على الحدود، ويمنعوا هذا التسلل وهذا الإرهاب، ويحترموا سياسة حسن الجوار انطلاقاً من حرصنا على إيجاد علاقات عراقية-سورية جيدة" مضيفا أن "هناك معلومات بوجود مراكز تخريب وعراقيين مخربين موجودين في سوريا يعدون ويحاولون إشاعة الخراب والإرهاب في الداخل العراقي" كما جدّدت رايس مطالبتها لسوريا بالتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، مشيرة إلى أنها لم تر حتى الآن من الجانب السوري سوى انتقاد لجنة التحقيق الدولية.
لا جديد في جعبة رايس للفلسطينيين
وعلى صعيد القضية الفلسطينية التي أكدت رايس أنها جاءت لتدفع مسيرة السلام بين الفلسطينيين والصهاينة ، لم تحمل الزيارة أي جديد في الموقف الأمريكي غير التأكيد على تفكيك منظمات المقاومة الفلسطينية- المسماة بالإرهابية حسب رايس- كشرط نحو البدء في تطبيق تفاهمات شرم الشيخ ، والبدء في تطبيق آليات خارطة الطريق. الأمر الذي اعتبرته المنظمات الفلسطينية بداية لحرب أهلية يسعى الصهاينة لتأجيجها.
وذراً للرماد في العيون استبق شارون الزيارة باتخاذ إجراءات توحي بأنه يعمل من أجل تسهيل معيشة الفلسطينيين ، وتنفيذ تعهداته في شأن الاستيطان؛ إذ عقد اجتماعاً على عجل مع وزير دفاعه شاؤول موفاز ووزيرة العدل تسيبي ليفني ناقشوا خلاله تفكيكاً سريعاً لبؤرة «عمونة» الاستيطانية شمال القدس، وهي واحدة من بين (20) بؤرة تعهّد لأمريكا بتفكيكها. كما أصدرت السلطات الصهيونية تصاريح عمل لألفي عامل من قطاع غزة وثمانية آلاف آخرين من الضفة الغربية.
منتدى المستقبل يتخلى عن القضية الفلسطينية
وفي إطار التنازلات التي استقبلت بها الدول العربية وزيرة الخارجية الأمريكية أعلن المشاركون في قمة منتدى المستقبل الثانية بالبحرين تخليهم التام عن حل قضية الصراع العربي الصهيوني كشرط لبدء جهود الإصلاح السياسي والاقتصادي في المنطقة العربية التي تبشر بها الإدارة الأمريكية؛ إذ شدّد وزير الإعلام وزير الدولة للشؤون الخارجية البحريني محمد عبد الغفار أنه يجب ألاّ يُربط الإصلاح بإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، مؤكداً أن الإصلاح يجب أن يكون ذاتياً وبقناعة القيادات العربية الحاكمة.
وجاء ذلك رداً على سؤال بشأن التحفظات التي أبدتها دول عربية شاركت في الدورة الأولى من منتدى المستقبل في ديسمبر 2004 في الرباط عن المضي في الإصلاحات ، رابطة ذلك بحل الصراع العربي الإسرائيلي.(19/246)
وكانت مملكة البحرين قد استضافت يومي11 و12 نوفمبر الجاري الدورة الثانية من "منتدى المستقبل" الذي يبحث في المبادرة الأمريكية لإصلاح "الشرق الأوسط الكبير" . وتستهدف هذه المبادرة التي أعلنتها الولايات المتحدة في خضم غزوها للعراق صياغة "شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح". و"تشجيع الديموقراطية ، وبناء مجتمع المعرفة وتوسيع الفرص الاقتصادية.." والتي سيتكفل صندوق المستقبل الذي خُصص له (100) مليون دولار لدعمها والتبشير بها.
ومن ثم فإن نجاح رايس في فرض الأجندة الأمريكية الشاملة على مستوى الدول التي زارتها ، يحمل الكثير من المخاطر المستقبلية على قضايانا العربية والإسلامية ، وخاصة في فلسطين والعراق ، وكذا فرض مبادرة "الإصلاح" الأمريكية ، والتي من بنودها غزو سوريا ومحاولة إخضاع إيران للشروط الصهيونية والأمريكية لنزع خططها الإستراتيجية نحو التسلح النووي، في الوقت الذي لا يجرؤ أحد على مناقشة البرنامج النووي الصهيوني، ولا حتى نفاياته النووية الملقاة في الأراضي الفلسطينية والعربية ، ولو من باب حماية البيئة فقط !!
============(19/247)
(19/248)
البوليساريو...ولعبة المصالح الدولية !
إدريس الكنبوري/ الرباط 20/11/1426
22/12/2005
هل تغيرت قواعد اللعب في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا؟ وهل تسعى الإدارة الأمريكية والفاعلون الأوروبيون المؤثرون في سياسات المنطقة إلى تبديل هذه القواعد من خلال تبديل التحالفات؟ وإلى أي حد أصبحت المنطقة خاضعة أكثر فأكثر لتداعيات ومخلفات ما يسمى بالحرب على الإرهاب في حقبة ما بعد 11 سبتمبر 2001 الشهيرة؟.
هذه الأسئلة وغيرها أصبحت تفرضها التحولات الجارية في المنطقة والتي تتراكم يوما بعد آخر في اتجاه يقول المراقبون إنه قد يقلب المعادلات القائمة رأسا على عقب، مستدلين على ذلك بوتيرة التغيرات التي تمس هذه المنطقة التي لم تعد ـ في تقدير العديدين ـ أقل أهمية من منطقة الشرق الأوسط الملتهبة ، فقربها من أوروبا واستحقاقات الاتحاد الأوروبي، والمشروع الأمريكي المرتكز حول الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا، وأهمية المنطقة من ناحية الثروة النفطية الواعدة من خلال ما تأكد من بحوث وتنقيبات لشركات أمريكية وأوروبية، والتحديات الأمنية التي أملت تقاربا قويا وملحوظا ما بين بلدان المنطقة وحلف شمال الأطلسي، اتضح في إجراء العديد من المناورات العسكرية التي شارك في بعضها الكيان الصهيوني، كلها دواع تؤكد أن منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا تمر بمنعطف حاسم سوف تؤكده أو تنفيه، أو تؤكد جزءا منه وتنفي جزءا آخر، التطورات المقبلة على ساحته الأمنية والسياسية.
ولأن نزاع الصحراء الغربية ما بين المغرب والجزائر وجبهة البوليساريو، ظل منذ نحو عقود أربعة الصخرة التي تكسرت عليها جميع مشروعات التقارب في المنطقة، والثغرة التي دأبت على النفاذ منها القوى الدولية والإقليمية، وملتقى ومفترق المصالح والتحالفات ما بين بلدان منطقة المغرب العربي إلى حدود منطقة الساحل الإفريقي، فإن مفتاح التحول الكبير في المنطقة سوف يكون من مدخل هذا النزاع، وبالتالي يرتبط ذلك التحول بطبيعة التعاطي مع موضوعين أساسيين: شكل الحل المقترح للنزاع، وشكل الموقف من جبهة البوليساريو التي كانت ولا تزال لاعبا إقليميا راهنت عليه جميع القوى الدولية والإقليمية إلى هذا الحد أو ذاك، في هذه المرحلة أو تلك.
الانشغالات الأمنية أملت العديد من التغيرات في شكل التعاطي مع القضايا السياسية الداخلية في المنطقة، وعلى رأسها بطبيعة الحال نزاع الصحراء الغربية التي تمتد على مساحة 265 ألف كيلومتر مربع. فقد خضع الموقف الأمريكي للكثير من التغير حيال هذه الأزمة الشائكة، وأصبحت الإدارة الأمريكية أكثر انخراطا في الموضوع في الأعوام الأخيرة(تعيين جيمس بيكر مبعوثا أمميا عام 1997 إلى 2004 ووضع مشروع باسمه للحل ما زال هو أساس المباحثات الحالية ـ إفراج البوليساريو عن آخر أسرى الحرب المغاربة في شهر أغسطس الماضي تم بوساطة أمريكية)، ونفس الأمر بالنسبة للموقفين الفرنسي والإسباني الذين حصل بينهما تقارب واضح لم يكن ممكنا قبل عشر سنوات على الأقل، زد على ذلك أن هذه الأطراف باتت اليوم تلح على وجوب مصالحة مغربية ـ جزائرية كمدخل للحل النهائي للنزاع، وهو ما لم يكن حاصلا من قبل، عندما كان يتم التأرجح بين دعم هذا الطرف أو ذاك لإبقاء المنطقة في حالة من عدم الاستقرار الذي يخدم المصالح الخارجية.
هل هي نهاية البوليساريو؟
قبل عدة أشهر أعلن أحد أعضاء الكونغرس الأمريكي أن جبهة البوليساريو أصبحت تهدد أمن منطقة المغرب العربي، وكشف عن أن قياداتها باتوا متورطين في تهريب الأسلحة للجماعات المسلحة الجزائرية ، وتهريب البنزين عبرالحدود مع مالي والجزائر وموريتانيا، والمتاجرة في المساعدات الدولية التي تقدمها المنظمات والدول الأوروبية لسكان المخيمات في تندوف. وقد كانت تلك التصريحات معطى جديدا في ملف الصحراء الغربية، أكد أن هناك إرادة أمريكية في وضع حل لنزاع الصحراء عبر تقارب جزائري مغربي بعيدا عن البوليساريو، أخذا بالاعتبار أن هذه الأخيرة بقيت قائمة على الساحة بفضل الدعم الجزائري.
وفي الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر الماضي أصدر"المركز الأوروبي للاستخبارات الاستراتيجية والأمن " تقريرا مطولا حمل عنوان"جبهة البوليساريو: شريك مفاوضات ذو مصداقية أم مخلفات حرب باردة وعرقلة لحل سياسي للصحراء الغربية؟" هو الأول من نوعه لمؤسسة أوروبية، والأول من نوعه أيضا لهذا المركز الذي تأسس عام 2002 من طرف بلدان الاتحاد الأوروبي، في إطار مرحلة ما بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر2001.(19/249)
ويقول التقرير ـ الذي يعكس التصور الأوروبي للموقف في المنطقة ـ إن هناك اهتماما أمريكيا كبيرا بنزاع الصحراء، إذ بعد أن يتحدث عن وساطة إدارة جورج بوش في أغسطس الماضي للإفراج عن الأسرى المغاربة لدى البوليساريو بعد حوالي عشرين عاما من الاحتجاز، يقول" يعرف الجميع أن منطقة المغرب العربي والساحل الإفريقي كانت منذ سنوات عدة أحد المواضيع الكبرى التي تشغل الإدارة الأمريكية، وكانت هذه الأخيرة تسعى إلى ضمان استقرارها وبخاصة تحقيق المصالحة بين الإخوة الأعداء المغاربة والجزائريين بهدف الحيلولة دون تنامي الإسلام المتشدد والتحكم في حالة اللأمن التي تسود المنطقة".
ويشير التقرير إلى أن جبهة البوليساريو قد نشأت عام 1976 بالجزائر "خلال المراحل الأخيرة لتحرير منطقة المغرب العربي وخلال فترة الحرب الباردة وتعد نتاجا صرفا لهما، وتتخذ من جنوب الجزائر مستقرا لها"، ويعتبر أنه لم تعد تلك الحركة التحريرية التي كانت في الماضي ولقيت تأييدا واسعا من لدن تيارات اليسار والشيوعيين سواء في المغرب العربي أو في أوروبا وكوبا وبعض بلدان أمريكا اللاتينية.
وفي محاولة لضرب المبررات التي استندت إليها البوليساريو لدى تأسيسها، مثل الزعم بوجود"أمة صحراوية"، يفند التقرير تلك المبررات متكئا على أدلة من التاريخ والوقائع الجغرافية في المنطقة، ويؤكد على أن حل مشكلة الصحراء بالتصور الذي تحمله البوليساريو يعني إعادة نظر شاملة وجوهرية في حقائق المنطقة برمتها ولا يقتصر على منطقة الصحراء الغربية المعروفة:" إن مسألة(الاستقلال الذاتي) لا يمكن أن تجد حلا لها إلا في الإطار الواسع للصحراء الغربية الذي ينبغي أن يدخل في الاعتبار مجموع مجال البداوة التقليدية القائمة على الترحل للقبائل المعنية، الأمر يتعلق بوضوح ـ وانطلاقا من ذلك ـ بإدراج جزء من جنوب المغرب وشمال موريتانيا والجزء الجنوبي الغربي للجزائر، أي باختصار إعادة النظر في الحدود المرسومة للمنطقة، الأمر الذي يبدو مستحيلا حتى تخيله".
ويقول التقرير إن إشراف الجزائر على إنشاء البوليساريو في السبعينات كان الهدف من ورائه الانتقام لهزيمتها أمام المغرب في المواجهة المسلحة بينهما عام 1963 والمعروفة باسم"حرب الرمال"، وبالتالي إسقاط الملكية في المغرب"الذي كان يعتبر "بالنسبة للسوفيات والجزائريين بمثابة(طابور خامس) في المغرب العربي لـ"العدو"، فكانوا يعتقدون أنه بقليل من الجهد وبعض الوسائل يمكن أن ينزلق إلى"المعسكر التقدمي". ويضيف التقرير أيضا بأن الثورة الليبية التي كانت قريبة من جمال عبد الناصر كانت وراء الجبهة، وأن أول دفعة من الأسلحة المتطورة تلقتها البوليساريو كان مصدرها طرابلس.
التقرير يقسم التاريخ العسكري للبوليساريو إلى أربع مراحل:
ـ المرحلة الأولى: تطبيق استراتيجية حرب العصابات بنجاح باهر(1974-1976)، وفيها حقق انتصارات على المغرب وموريتانيا اللذين يتوفران على جيش نظامي غير معتاد على حرب العصابات.
ـ المرحلة الثانية: مرحلة التفوق الراجع إلى نفس الاستراتيجية والمدعومة هذه المرة باستعمال أسلحة متطورة(1976-1980).
ـ المرحلة الثالثة: مرحلة الانحسار والمعارك المتقطعة في الزمن أمام الاستراتيجية المغربية الجديدة(1981-1987)، وفيها تراجع البوليساريو عسكريا بعد بناء المغرب لجدار أمني في الصحراء عام 1980 للحد من هجومات عصابات البوليساريو.
ـ المرحلة الرابعة: من عام 1992 إلى اليوم، وهي مرحلة الضعف والانقسام داخل الجهاز العسكري للبوليساريو.(19/250)
ويرى التقرير أن البوليساريو تأثرت بقرار وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه مع المغرب بوساطة من الأمم المتحدة عام 1991، وانعكس ذلك على ديبلوماسيتها الخارجية التي يقول بأنها شهدت مراحل نجاح منقطع النظير خلال السبعينات والثمانينات(حصولها على عضوية منظمة الوحدة الإفريقية بتأييد الغالبية عام 1982 وخروج المغرب منها احتجاجا)، كما انعكس على بنائها الداخلي " فقد اختار قسم من المقاتلين دخول موريتانيا بدلا من العودة إلى المخيمات حيث المناخ السياسي شبه خانق، وبعضهم تزوج هناك واستقر وتفرغ آخرون للتجارة. لكن هذا الرحيل لم يكن خيانة أو تخليا لأنه حصلت نقاشات مع القيادة تعهد فيها من اختاروا"الوداع للسلاح"بالعودة إلى القتال تحت الراية في حال فرضت الظروف تحركات جديدة. وقد فضلت قيادة البوليساريو إغماض عينيها، من جهة لأن الوضع الجديد الذي استتب مع وقف إطلاق النار لم يعد يبرر الإبقاء على عشرة آلاف قاتل، ومن جهة ثانية لأن ذلك سوف يخفف من العبء المالي الذي يكلفه جيش تحرير الشعب الصحراوي. ويقدر عدد المقاتلين الذين اختاروا الذهاب إلى موريتانيا بنحو ستة آلاف، أي حوالي 60 بالمائة من حجم الجيش. وبعد عشر سنوات من ذلك، أي عام 2000، عندما دقت قيادة البوليساريو ناقوس الخطر ودعت إلى استنفار عام لقواتها من أجل اعتراض مرور رالي باريس ـ داكار عبر الصحراء الغربية، لم يلب النداء سوى أقل من 50 بالمائة من أولئك الذين غادروا عام 1991"، ولكي تملأ قيادة البوليساريو النقص في الطاقم البشري "بدأت في توظيف شباب غير مؤهل وليست له أي خبرة في المعارك" مما قلص من هيبتها العسكرية وقدرتها على القتال في حال ما استدعت الظروف ذلك، وإشارة التقرير واضحة هنا إلى التهديدات المختلفة التي تصدرها قيادة البوليساريو بين الفترة والأخرى لدفع الأمم المتحدة إلى تحريك الملف والضغط على المغرب.
أما عن عدد قوات جيش البوليساريو"جيش تحرير الشعب الصحراوي" فإن التقرير يشير إلى أنها تظل لغزا، لكن يقدرها وفقا لمصادر عسكرية أمريكية وأوروبية ببضعة آلاف مقاتل اليوم، بينما تشير التقديرات إلى عدد هذه القوات في الماضي كان يقدر بنحو عشرين ألف مقاتل.
البوليساريو... حركة تحرير أم جماعة إرهابية؟
التقرير يكشف أن تنظيم البوليساريو ليس سوى جماعة مشكلة من أفراد عصابة مستعدة للعب جميع الأدوار في جميع الأوقات. فهو يبين بأن ما يدعى بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية التي أعلنتها البوليساري وبتزامن مع إنشائها تقريبا عام 1976 هي مجرد غطاء لوهم غير موجود على أرض الواقع، لكن بداخل هذاالوهم تجري عدة جرائم مثل الاغتيالات والتعذيب والاغتصاب والاعتقال. ويقول التقرير بأن قيادة البوليساريو ذات الميولات الشيوعية المتصلبة تقوم باحتجاز عائلات وأقارب الفارين أو المسافرين من الصحراويين كرهائن لضمان عدم هروبه، وأن هناك أزيد من 1500 طفلا تم فصلهم عن أسرهم ويعيشون في كوبا ليتلقوا تداريب عسكرية ويشحنوا إيديولوجيا قبل العودة إلى مخيمات تندوف.
ويخصص التقرير فصلا كاملا تحت عنوان"أي مستقبل للبوليساريو؟" يتحدث فيه عن التهديدات التي باتت هذه الحركة تشكلها بالنسبة لأمن بلدان المنطقة، واحتمال سقوطه بيد متشددين دينيين. إذ يؤكد تسرب بعض مقاتلي الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية أو المتعاطفين معها إلى صفوفه، وحصول تقارب بين بعض أفراد قيادته وبين تلك الجماعة، ويضيف:"إن التهديد الإرهابي يجب في جميع الحالات أن يؤخذ بعين الاعتبار في المنطقة التي تمتد من جنوب المغرب والجزائر إلى شمال موريتانيا وحدود مالي والنيجر ، إنه التهديد الذي يمس استقرار المنطقة خاصة بالنظرلوقوع البوليساريو تحت تأثير إرضاء الجماعة السلفية للدعوة والقتال أو الجيش الإسلامي للإنقاذ ، وهو ما يدفع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا إلى الاهتمام أكثر بأمن هذه المنطقة. من الوارد ـ حسبما أكد ذلك خبراء وملاحظون ـ أن تتشكل هنا(أفغانستان ثانية)".(19/251)
وعلى الرغم من تأكيد التقرير على الخطر الإرهابي الذي يشكله البوليساريو، إلا أنه يقول بأن"السيطرة المطلقة للجزائر ومصالح المخابرات الجزائرية عل ىالبوليساريو من جهة، والثقافة الاجتماعية للصحراويين من جهة ثانية، كلاهما يحول حسب المراقبين دون سقوط البوليساريو في يد متطرفين إسلاميين". وفي قبالة هذا الافتراض الذي يستبعده التقرير، يظل هناك خطر آخر تمثله البوليساريو، وهو أن تتحول هذه الأخيرة إلى شبكة للجريمة المنظمة، بسبب انتشار الفقر وقلة الموارد، وينقل شهادة لأحد الضباط العائدين إلى المغرب بعدما قضى 26 سنة في المخيمات يقول فيها بأن"موظفي البوليساريو لا يتلقوا أجورهم لشهور طويلة، وتصل أجور بعضهم إلى 12 أو 17 دولارا مرتين في العام، وهي عوامل تضطرهم للبحث عن مصادر أخرى مثل التجارة والتهريب لإعالة أسرهم"، ويرى التقرير أن توفر البوليساريو على آلاف المقاتلين وعلى الأسلحة المتطورة والخبرة القتلية والمعرفة الدقيقة بالمنطقة، يمكن أن تجعله أكثر خطرا في حال ما لو تحول نحو الجريمة المنظمة أو الأعمال الإرهابية، خاصة إذا بدا له أن أي حل في الصحراء الغربية قد يتم وراء ظهره.
صدور التقرير في هذا التوقيت بعد حصول إجماع بين واشنطن ومدريد وباريس على وجوب تحقيق مصالحة مغربية جزائرية لحل نزاع الصحراء، وبداية حلحلة الملف عقب مبادرة المغرب ـ الأولى من نوعها ـ إلى طرح اقتراح يقوم على منح سكان الصحراء حكما ذاتيا موسعا تحت سيادة المملكة، هو مؤشر على أن الوضع في المنطقة مرشح ليشهد تحولات نوعية في المقبل من الأيام. إذ لا شك أن التقرير تعبير عن وجهة نظر تتبناها أطراف أوروبية معنية بمستقبل المنطقة، ومن تم فإن ما ورد فيه، حسبما أفادت مصادر مغربية، هو بمثابة توصيات أو أفكار للأخذ بها في التعاطي مع ملف النزاع
============(19/252)
(19/253)
أمريكا وبلدان المغرب العربي: تعاون أم استقطاب؟
عبد الحق بوقلقول / الجزائر 13/1/1427
12/02/2006
يظهر أن الحكومة الأمريكية - التي لا تريد أن تقر بإخفاقها المخجل في العراق- تحاول أن تنقص من حدة مأساتها "السياسية" في المشرق العربي من خلال سعيها إلى إجراء جراحة تجميل لما أصاب دبلوماسيتها هناك في الجانب الآخر من العالم العربي . فإلى أي حد يمكن لهذه الترقيعات التي أشار بها سفير واشنطن السابق في دمشق: إدوارد ديردجيان خبير شؤون المنطقة العربية، أن تكون صائبة؟ لقد كان الأمريكان يعدون دوما منطقة المغرب العربي منطقة "نفوذ" أوروبي، فهل قرروا أن يغيروا هذا الثابت في منطق تعاطيهم مع المنطقة؟
الحقيقة أن منطقة المغرب العربي على الرغم من أنها لم تكن تحظى بالأولوية المطلقة في أجندة عمل صُنّاع السياسة الأمريكية إلا أنها -و منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر- أضحت تشكل محل اهتمام متزايد بسبب توجه الإدارة الأمريكية الحالية إلى بسط نفوذها عبر كامل النقاط الحساسة من الكوكب وفق ما تعدّه إستراتيجيتها في الحرب على ما تسميه الإرهاب.
ينبغي بداية الفهم أن الاهتمام الأمريكي الحالي بمنطقة المغرب العربي ينبع أساساً من دوافع اقتصادية وأمنية سياسية.. والمبادرة التي أُطلقت في العام 1999 تحت مسمى "مبادرة إيزنشتات" هي الدليل على الأبعاد الحقيقية لهذا التوجه، بما أن هدفها المعلن هو زيادة حجم المبادلات الاقتصادية بين بلدان المغرب العربي و الولايات المتحدة ، من خلال تشجيع أكبر عدد ممكن من الشركات الأمريكية على الاستثمار في هذه البلدان، زيادة على أن الغريب في هذه المبادرة هو ما يمكننا ملاحظته من أنها دعوة صريحة من قبل واشنطن للعواصم المغاربية الخمس للعمل على إحياء اتحاد المغرب العربي ، بعد أن أُعلن عن وفاته "إكلينيكيا" كما يظهر في تأجيل عقد قمة رئاسته منذ فترة طويلة، مع ملاحظة رغبة واشنطن في التعاطي المباشر مع كل من ليبيا و موريتانيا بمعزل عن باقي أقطار الاتحاد ، بعد التغيرات الأخيرة في ليبيا، و سياسة "التقارب" الكبيرة التي أبداها العقيد القذافي، ثم الانقلاب الأخير في موريتانيا، و الذي أطاح بنظام الرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد الطايع، وما تبع ذلك من انفراج كبير في علاقات نواكشوط بطرابلس.
هذا يعني أن الولايات المتحدة تقسم المنطقة من وجهة نظرها إلى قسمين:
-القسم الشمالي من المغرب العربي، و يشمل البلدان الثلاثة: تونس، الجزائر و المغرب، و هي المجموعة التي تتعامل معها واشنطن على أساس هيكل الاتحاد الذي ترغب في إحيائه عن طريق تشجيع التعاملات الاقتصادية مع هذه البلدان، و ترسيم علاقات تعاون أمني و استخباراتي ، مثلما هو واضح من خلال الزيارة الأخيرة التي قادت مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى المنطقة قبل نحو أسبوع، علاوة على الزيارة المرتقبة لكاتب الدولة للدفاع دونالد رامسفيلد والتي ستشمل البلدان الثلاثة .
-القسم الجنوبي و الذي يشمل موريتانيا و الجماهيرية الليبية و هو الجزء الذي تتعامل معه الولايات المتحدة وفق مشروع بلدان الساحل ضمن إطار إستراتيجية الحرب على الإرهاب كما تسميها أمريكا، و التي تشمل أيضاً إلى جانب هذه البلدان كلاً من النيجر و مالي و السنغال، إلى جانب تشاد و حتى السودان، مع الإشارة إلى أن مشروع بلدان الساحل لا تعني التنسيق الأمني الاستخباراتي فحسب؛ لأن واشنطن تسعى بالمقابل أيضاً إلى تعزيز تواجدها الاقتصادي هناك، بما أنها تدرك أن ما تسميه "الإرهاب" يُستثمر في هذه المنطقة انطلاقا من الفقر الذي يميز أغلب أقطارها.
في عقد التسعينيات الأخير، كان الأمريكيون متردّدين جداً إزاء الوضع غير المستقر الذي كانت تعيشه الجزائر، فضلاً على أن محللين أمريكيين كثيرين وقتها كانوا لا يستبعدون أن يحقق المعارضون الإسلاميون لنظام الجزائر انتصاراً عسكرياً يلغي بعض التقاليد التي كانت تعرفها المنطقة من خلال حضور النفوذ الفرنسي خاصة، و هذا ملخصه أن الأمريكيين الذين لم يكونوا على أية حال، يتمنون انتصاراً حاسما للإسلاميين، يتوقون في المقابل إلى تضعضع المصالح الفرنسية هناك، بمعنى أنهم كانوا ينتظرون تغير ملامح الصراع المسلح داخل الجزائر، لأجل أن يتدخلوا منعاً لأن تتطور الأمور، و تصير في غير صالح كل الأطراف، فهم كانوا يدعمون جنرالات الجزائر علناً، و يغضون الطرف في ذات الوقت عن نشاطات معارضيهم؛ لأنهم كانوا يدركون أنه يتعين عليهم التعامل بحذر مع تلك البلاد، فلا هم يدعمون خصوم النفوذ الفرنسي صراحة، و لا هم ساندوا حلفاءها هنا بطريقة تعجل بتصفية حساباتهم مع المعارضة الإسلامية.(19/254)
تغير هذا المنطق مع هجمات سبتمبر، و لم تعد أمريكا بحاجة إلى أن تخفي حرصها على التواجد و التأثير في كل منطقة من العالم؛ فالتعاون الأمني بين أنظمة المنطقة برمتها، و بين واشنطن صار صريحاً، و زيارات الوفود الأمنية، و كبار الشخصيات العسكرية باتت روتيناً شبه يومي في الأقطار الثلاثة، و على الرغم من أن الدور الفرنسي لا يزال حاضراً و مؤثراً إلاّ أنه آخذ في الانحسار لحساب الأمريكيين؛ فالمغرب قام مؤخراً مثلاً بتوقيع اتفاقية للتبادل الحر مع أمريكا على الرغم من أنه يُعدّ واحداً من أكثر شركاء الاتحاد الأوروبي، و الذين تأتي فرنسا في مقدمتهم.
يعتقد كثير من الملاحظين أن واشنطن بدأت تولي اهتماماً خاصاً بالمملكة المغربية على اعتبار أن هذه الأخيرة في مقدورها أن تلعب دوراً أكثر أهمية من الحالي بسبب موقعها الإستراتيجي الفريد، زيادة على أنه يمكن جعلها بمثابة جدار تنتهي عنده كل التيارات المعادية لأمريكا بشكل خاص، فلا شك أن كل متطلع ناحية الغرب في هذه المنطقة سوف يجد نفسه مجبراً على المرور عبر البوابة المغربية، بمعنى أن للمغرب دوراً كبيراً سوف يلعبه على الساحة المغاربية، و حتى على صعيد البلدان الإفريقية القريبة منه، و لكنه ينبغي الملاحظة هنا أيضا أنه، و على الرغم من هذا الدعم و الاهتمام الذي يبديه الجانب الأمريكي ، إلا أن واشنطن لا تزال حتى الساعة ترفض الاعتراف بسيادة الرباط على الصحراء الغربية، و إن كان هذا يبدو أمراً طبيعياً بالنظر لتلك الكتلة من نواب الكونجرس الذين يدعمون فكرة إجراء استفتاء على الاستقلال في هذا الجزء من العالم، إلا أنه من زاوية أخرى أيضاً، حرص واشنطن على عدم استثارة الطرف الجزائري الداعم دائماً للقضية الصحراوية مثلما هو معروف، و التي تطورت علاقاتها هي الأخرى مع واشنطن بشكل كبير.
هذا التطور يبدو جلياً من خلال الزيارة التي أجراها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى واشنطن في صيف العام 2004، فالعلاقات الاقتصادية منذ ذلك الحين صارت توصف بأنها "ممتازة" إلى حد جعل بعض المراقبين يقولون: إن أمريكا استطاعت أن تزيح فرنسا من موقع الدولة "المميزة" في علاقات الجزائر الخارجية و التعاون الاقتصادي بين واشنطن و الجزائر، و إن كانت المحروقات أبرزه وأهمه، إلا أنه يشمل أيضاً ميادين الاتصالات والصناعات الصيدلانية مروراً ببعض تكنولوجيات المعلوماتية، ثم إنه يجب الإشارة إلى أن تصويت البرلمان الجزائري في نهاية شهر أبريل/نيسان المنصرم على قانون المحروقات الجديد، و الذي يسمح للشركات الأجنبية بدخول سوق التنقيب و الاستغلال هو في الواقع-و على رأي محللين كثيرين- نتيجة منطقية لحزمة ضغوط أمريكية في هذا الاتجاه.
و إذا كانت هذه هي حالة الجزائر و المغرب الأقصى فإن حالة الجمهورية التونسية في الواقع أكثر استقراراً بكثير من سابقتيها؛ لأن هذا البلد كان دائماً على رأس قائمة البلدان "المرضي" عنها في واشنطن، و هذا منذ استقلاله في 1956 لأن تونس -من وجهة نظر البيت الأبيض- هي بلد تمكن من أن يحقق نموذجاً فريداً من خلال استطاعته أن يوجد في هذا الجزء من العالم، دولة علمانية أساسها المساواة -القهرية- بين الجنسين، و اقتصاداً ليبرالياً مبنياً على الريع، بالإضافة إلى تمكّن النظام التونسي من أن يفرض على المجتمع هناك معايير حدّت من الزيادة السكانية بشكل كبير، على الرغم من أنه لا أحد كان قد اشتكى قبل اليوم من الاكتظاظ السكاني هناك، و الثابت أن الأمر لا يعدو أن يكون شعيرة من شعائر "الحداثة".
خلال الأزمة الأمنية التي عاشتها الجزائر، كانت تونس تستفيد بشكل واضح من الدعم الأمريكي لأجل التصدي للمد الإسلامي في المنطقة، و الروابط الوثيقة بين الدولتين بلغت درجة عدم تجرؤ واشنطن على الخوض في مجال حريات الإنسان المنتهكة هناك بشكل سافر.
من الطبيعي جداً أن نلحظ ختاماً لكل هذا، أن الاهتمام الأمريكي بالمنطقة يدخل ضمن إستراتيجية عالمية متكاملة، و لكن الحقيقة أيضاً أنه يدخل تحت خانة مشروع الشرق الأوسط الكبير، و الذي و إن كان متعثراً في المشرق إلا أنه قد ينجح في المغرب بسبب تورط الأنظمة من جهة، و عجز الطبقة السياسية هنا على العمل في سبيل إفشاله من جهة ثانية، و أما اللقاء الأخير في جزيرة صقلية الإيطالية لوزراء دفاع الناتو، و الذي استُدعي لحضور أشغاله، وزراء العَدْوَة الجنوبية - بما فيها البلدان المغاربية الخمسة - فإنه ليس إلا دليلاً إضافياً على أن أمريكا صارت تعمل في هذا الوقت على تشتيت ما بقي من مشاعر وحدة في العالم العربي، تمهيداً لأن ترسم فيها مراكز (الثينك تانكس) قريبا جداً، الشكل الجديد لجغرافية المنطقة.
==============(19/255)
(19/256)
اتحاد المغرب العربي .. والمسيرة المتعثرة
رضا عبد الودود / القاهرة 27/1/1427
26/02/2006
مرت الذكرى السابعة عشر لإقامة اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير الجاري دون ضجيج يُذكر، وبهدوء محزن لا للذكرى بقدر ما هو من مرارة الفشل والإخفاق لدول المغرب العربي التي لم تتذكر مشروع الاتحاد إلا بعدد من البرقيات والتهاني في صحف بلدان المغرب العربي...
ولعل الواجب على الفاعلين السياسيين من العرب والمسلمين أن يقفوا ملياً لدراسة وتَتبّع مسار التجربة المغاربية لاستيعاب العبر والدروس وتجاوز الخلاف من أجل بناء الكيانات العربية والإسلامية بشكل فعّال، لمواجهة تجبر وقوة التكتلات الدولية التي باتت عنوان المرحلة..ومن ثم تأتي تلك الإطلالة على تاريخ وعوائق عمل الاتحاد المغاربي ومستقبله ..
تعود الإرهاصات الأولى لإنشاء "اتحاد المغرب العربي" إلى مؤتمر عقدته الأحزاب المغاربية بمدينة طنجة بالمغرب في أواخر شهر أبريل عام 1958، بمشاركة ممثلين لعدد من الأحزاب من المغرب وتونس والجزائر، وخلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي طُرحت عدة مبادرات لتوحيد دول المغرب العربي في شكل معاهدات ثنائية، والبعض الآخر في شكل اتفاقيات تشمل كل أو معظم دول المغرب العربي، وتمثلت أول مبادرة جادة لتأسيس هذا الاتحاد في "إعلان زرالدة" الذي صدر عن قادة كل من الجزائر وموريتانيا والمغرب وتونس وليبيا، خلال لقائهم على هامش القمة العربية التي استضافتها الجزائر في يونيو عام 1988، وهو الإعلان الذي أوصى بتشكيل لجنة تبحث في إيجاد وسائل تحقيق وحدة المغرب العربي، وفي السابع عشر من شهر فبراير عام 1989 أعلن قادة الدول الخمس خلال اجتماع لهم بمراكش في المملكة المغربية عن تأسيس اتحاد إقليمي تحت اسم "اتحاد المغرب العربي".
وتبنى ميثاق الاتحاد عدة أهداف، منها؛ تعزيز أواصر الأخوة بين الدول والشعوب الأعضاء في الاتحاد، وتحقيق الرفاهية لتلك المجتمعات، والمساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف، وانتهاج سياسة مشتركة بين الدول الأعضاء في مختلف الميادين، والعمل بشكل تدريجي على تحقيق حرية تنقل الأشخاص والبضائع والخدمات ورؤوس الأموال بين هذه الدول. وتوقّع الخبراء وقتها حدوث وحدة كاملة بين دول الاتحاد.
وجاءت نشأة الاتحاد في نهاية الثمانينيات متزامنة مع مرحلة مخاض دوليّ وقارّي، أهم معالمه انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، مع ما جره ذلك التحوّل من تحريك لبعض الأنظمة العربية والمغاربية التي كانت تسير على النمط الاشتراكي، فبدأت تميل تدريجياً ناحية اقتصاد السوق وخصخصة القطاع العام، وترافق ذلك مع بزوغ رغبة أمريكية في الهيمنة على مقاليد الأوضاع في العالم وفرض القطبية الأُحادية، وبروز القناعة لدى عدد من البلدان العربية والإفريقية بأن العصر الجديد سيكون عصر التكتلات، مسترشدين آنذاك بالنقاش الذي فُتح داخل المجموعة الأوروبية حول التمدّد شرقاً والتحول إلى الاتحاد الأوروبي، وظهور النقاش بشأن العملة الأوروبية الموحدة التي أصبحت في بداية القرن الحادي والعشرين واقعاً ملموساً.
وفي واقع الأمر فإن الاتحاد المغاربي قد انتهى عملياً في بداية التسعينيّات من القرن الماضي، أي بعد أقل من ثلاث سنوات على إطلاقه. فالأزمة الجزائرية التي اندلعت في عام 1991 والدخول في دوّامة الحرب الداخلية وانتشار العنف، بعد انقلاب الجيش الجزائري على الانتخابات البلدية والتشريعية التي شهدتها البلاد وفازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أوقفت محرك الاتحاد عن الاشتغال، وأدخلته غرفة المراقبة - وأحيانا العناية المركزة - التي استمرت طويلاً بفعل التحوّلات السياسية السريعة في الجزائر ، وظهور المؤسسة العسكرية كفاعل رئيس في إدارة الصراع السياسي في الداخل والخارج.
ومجدداً كانت قضية الصحراء الغربية هي الورقة المركزية في كل هذه التحولات، بحيث لم تخضع لقانون التحوّل هذا في السياسات الجزائرية المتقلبة، فقد نشأ الصراع في الأصل كمحاولة من الجيش الجزائري للحيلولة دون تمدّد المغرب جنوباً ، وكان هدف الجزائر في عهد بومدين ألاّ يتحول المغرب إلى لاعب رئيس في المنطقة، في الوقت الذي كان النظام الجزائري يرى أنه داعية الاشتراكية في المنطقة وعدو الأنظمة الملكية، ومناصر حركات التحرّر العالمية الاشتراكية في تلك المرحلة.
وقد ظل اتحاد المغرب العربي منذ اندلاع الأزمة الجزائرية مجرّد مشروع على الورق ، بانتظار أن تتجاوز الجزائر أوضاعها الداخلية، إلى أن جاء عام 1994 عندما طلب المغرب رسميا تجميد مؤسسات الاتحاد احتجاجاً على المواقف الجزائرية من قضية الصحراء الغربية، وكانت تلك بمثابة الضربة القاضية لما تبقى من هياكل ومؤسسات الاتحاد !
تحديات في طريق الاتحاد(19/257)
ولعل حالة الجمود التي يشهدها الاتحاد المغاربي منذ ذلك التاريخ تدعو للشعور بالمرارة والحزن ، في ضوء العوامل المشتركة التي تجمع بين المغاربة؛ من وحدة الدين، والتاريخ، والثقافة، واللغة، والتي تعد كلها مقومات تكامل وتوحد لبلدان المنطقة على طريق تفعيل جوانب التعاون المختلفة (سياسية اقتصادية اجتماعية ) . ولكن على الرغم من كل ذلك بقيت التوترات البينية هي السمة التي تطبع العلاقات المغاربية في أكثر أوقاتها، مما انعكس سلباً على مجمل الأداء المغاربي؛ الشيء الذي ترجمه بوضوح تجميد مؤسسات الاتحاد منذ عام 1994 بطلب مغربي ، وفي لحظة توتر في العلاقات مع الجزائر، مما أعاد المشروع برمته إلى درجة تقترب من الصفر هبوطاً...ولعل تلك الحالة تستدعي التوقف عند أسبابها والتي تمثل تحديات ومعوقات في الطريق نحو الوحدة والتقارب...أهمها.
المطامع الخارجية
وبجانب التحديات والعراقيل الداخلية تقف المصالح الخارجية والمشروعات الأوروبية والأمريكية الهادفة لإعادة صياغة المغرب العربي حسب مصالحها، خاصة بعد مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001، أي مرحلة الانخراط في منظومة إقليمية ودولية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة الإرهاب بمفهومه الأمريكي، وتسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى هندسة المنطقة بحسب الأولويات الأمنية، وتريد لبلدان المنطقة أن تنخرط فيها أسوة بما يجري في مختلف بقاع العالم.
وتصارع المنطقة عدة مشاريع بهدف السيطرة عليها، فمن جهة هناك محاولات من حلف الناتو للتمدّد والانتشار في المنطقة القريبة من المتوسط، والتي يرى أنها تمثل تهديداً مفترضاً لمصالحه، بحسب التعريف الجديد الذي وضعه الحلف للتهديد الأمني خلال قمة هلسنكي، وقد أصبح المغرب حليفاً له من خارج أعضائه في السنة الماضية برغبة أمريكية واضحة، ويجري في الوقت الحالي التباحث مع الجزائر وموريتانيا بشأن إيجاد صيغة محدّدة للتعاون الأمني معها ، كل ذلك في إطار الحوار الذي يقوده الحلف مع بلدان غرب المتوسط تخوفاً من انبعاث تهديدات أمنية من المنطقة المتوسطية أو من منطقة الساحل والصحراء.
وإلى جانب هذا يوجد أيضاً تحدي الشراكة الأوروبية ـ المغاربية التي انطلقت عام 1995 في مؤتمر برشلونة الأوروـ متوسطي، والذي يركز على فتح أجندة جديدة له تركز على البعد الأمني، وكذا تحدي الشراكة الأمريكية ـ المغاربية التي بدأت عام 1998 بالمشروع الذي أُطلق عليه اسم"مشروع إيزنستات"، نسبة إلى نائب وزير التجارة الأمريكي الأسبق.
ومن ضمن التحدّيات التي تعرقل عمل اتحاد المغرب العربي ملف التطبيع مع الكيان الصهيوني، فبلدان المغرب العربي يبدو أنها أصبحت في الآونة الأخيرة ضمن دائرة الاستدراج نحو التطبيع بتوصيات أمريكية، بغية فتح الطريق نحو إفريقيا التي لا يخفى أنّ للكيان الصهيوني مصالح متعددة فيها، سياسياً واقتصادياً وثقافياً؛ إذ إن بلدان المنطقة المغاربية الخمس جميعها دخلت بشكل أو بآخر في نسج علاقات مع الدولة العبرية، و كانت المغرب وتونس وموريتانيا قد وصلت إلى حد فتح مكاتب لها في تل أبيب إبان التسعينيات من القرن الماضي، كما أن الجزائر وليبيا قد بدأتا في رفع أي تحفظات بشأن هذا الموضوع. وهذه التحدّيات كلها علاوة على التحدّيات الأصلية التي كانت في صلب إنشاء الاتحاد قبل عقد ونصف، وتخص النهوض بأوضاع المنطقة اقتصادياً وصناعياً وإيجاد قنوات لتبادل المنافع وفتح الحدود، هي التحدّيات المطروحة اليوم في أجندة الاتحاد، ويستلزم حلها في سبيل إحياء دور الاتحاد المغاربي.
آمال مستقبلية
وعلى الرغم من حجم التحديات إلا أن أجواء جديدة من الحماس لتنشيط الاتحاد وبعث الروح فيه بدأت تلوح في الأفق، تترجمها الاجتماعات والتحركات الأخيرة على مستوى المسؤولين والدبلوماسيين المغاربة ، مما يدفع إلى التفاؤل بإعادة بعث الاتحاد ، وإعادة مشروعه إلى دائرة التداول السياسي والإعلامي ، بعد أن تحوّل إلى ذكريات وأصبح نسْياً منسياً.
الأمل الجديد ليس مبعثه أن المشاكل السياسية بين الأنظمة المغاربية قد تم تجاوزها، رغم التحسن الملحوظ في العلاقات الثنائية يبين البلدان الخمس ، وخاصة على محور طرابلس انواكشوط بعد الإطاحة بنظام الرئيس الموريتاني السابق معاوية ، ولكن الأمر يبدو في جوهره استجابة لأوضاع وظروف لا يمكن إغفالها ، وتعاطياً مع ظروف خارجية لا تمكن مغالبتها، ضغوط يمكن أن نعدّها إلى حد ما من النوع الإيجابي تمت ممارستها على هذه الأنظمة ، وتستهدف تفعيل الاتحاد وتنشيط هياكله الميتة، وذلك في حد ذاته إيجابي.(19/258)
ولعل القوى الاقتصادية الأجنبية هي التي تدفع اليوم نحو تعاون مغاربي، فأوروبا التي فضلت في السابق المدخل الثنائي في مفاوضاتها مع دول المغرب العربي الذي لا تعدّه -اقتصادياً- كتلة واحدة ، فأبرمت اتفاقات شراكة مع كل من تونس والمغرب والجزائر في إطار الشراكة الأوربية المتوسطية، لكنها بدأت تدرك اليوم أن مشاكل الدول المغاربية لا يمكن حلها من خلال مدخل ثنائي، فالهجرة عموماً - والسرية منها خصوصاً - باتت تشكل هاجس أوروبا التي بدأت تؤمن بحل إقليمي لهذه الظاهرة ،من خلال تنمية منطقة جنوب المتوسط بأكملها، وبدأت تضغط في ذلك الاتجاه، كما يطالب الأوروبيون المغاربة المنخرطين معهم في الشراكة الأوروبية المتوسطية بتحرير التجارة فيما بينهم وعقد شراكة على نمط الشراكة مع الأوروبيين.
أما الأمريكيون فمحتاجون لتفاهم مغاربي يتجاوز حل بعض المشاكل العالقة بين بعض دول الاتحاد إلى خدمة التوجهات الأمريكية نحو شمال إفريقية ككل، وهي توجهات متعددة الرهانات والأبعاد (الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية) وبأهداف تشمل نشر قواعد عسكرية جديدة، ودمج أكبر في مشروع الشراكة الشرق أوسطية ...ولعل التخوّف الذي يبدو في الأفق أن يكون تطوير الاتحاد المغاربي بشكل مضادّ لتوجهات شعوب المنطقة، وخدمة لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يشكل أساس المخططات الغربية والأمريكية .. كل ذلك على حساب تطلعات الشعوب المغاربية في التنمية والتكامل والوحدة !
=============(19/259)
(19/260)
حرب لبنان تفضح العجز الأوروبي
الرباط / إدريس الكنبوري 6/8/1427
30/08/2006
يجمع المراقبون الأوروبيون على أن حرب لبنان كانت مرآة عاكسة للغياب الأوروبي بامتياز، مقابل حضور أمريكي لافت من خلال لعب الدور الرئيس في الواجهة كداعم قوي للعدوان الإسرائيلي على لبنان. لقد انتهت حرب لبنان بإخفاق ذريع للمشروع الأمريكي في المنطقة؛ لأن خطة"الشرق الأوسط الجديد" الذي بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في لحظة اشتعال النيران، ظهر أنه ولد ميتاً ما أن انطفأت النيران بصدور القرار الأممي 1701؛ إذ بالنسبة لواشنطن كان العدوان الإسرائيلي على لبنان محاولة هندسية لرؤية مدى القدرة على تغيير المنطقة بعد تحييد المقاومة، ومن تم فرض إسرائيل كقوة إقليمية في المنطقة، وإرغام حركة حماس والشعب الفلسطيني على قبول كمشة الهدايا التي يمكن للإدارة الأمريكية تقديمها من غير اعتراض.
أما على الصعيد الأوروبي، فالأمر بدا منذ الأيام الأولى للعدوان إخفاقاً ذريعاً للاتحاد الأوروبي في لعب دور متوازن يليق بحجمه وطموحاته الإستراتيجية والسياسية في العالم والمنطقة العربية. صحيح أن التحركات الأوروبية كانت حاضرة وحتى اليوم الأخير للعدوان؛ إذ إن إيطاليا احتضنت يوم 26 يوليو اجتماع روما لبحث القضية اللبنانية، وقدمت بريطانيا مشروعاً لإنهاء الأزمة بتفاهم مع واشنطن لكن هذه الأخيرة صرفت النظر عنه، وفي النهاية لعبت فرنسا دوراً معيناً بصيغة أو أخرى في التوصل إلى القرار 1701 يوم 11 أوغست الجاري، وقدمت مشروعها الخاص إلى مجلس الأمن، غير أن ذلك لم يعكس في الحقيقة الثقل الأوروبي على الساحة الدولية، وبقيت أوروبا خارج السياق طيلة أيام الحرب، وحتى في الوقت الذي بدا فيه أن الحرب تسير نحو إسقاط الأجندة الأمريكية في المنطقة والعالم، وكان هناك ضرورة للتحرك الأوروبي لاستغلال الوضع والقبض على المناسبة، ظلت غائبة، واكتفت بانتظار القرار الأمريكي، وأكثر من ذلك، كانت وجهات نظر البلدان الأوروبية أعضاء الاتحاد الأوروبي متباينة فيما يتعلق بسبل الخروج من الأزمة، وفي تفاصيل الحل، وعلى سبيل المثال كان الموقف الفرنسي يميل إلى الحوار مع إيران، وأثار وزير الخارجية الفرنسي فيليب دوست بلازي أثناء لقائه بنظيره الإيراني منوشهر متقي في مقر السفارة الإيرانية في بيروت حول كون إيران"عنصر توازن" في المنطقة انتقادات واسعة وسط الحلفاء الأوروبيين، أما ألمانيا التي ظهر أن علاقاتها بواشنطن دخلت مرحلة جديدة قوامها التفاهم والتقارب بعد مجيء أنجيلا ميريكل، فقد كان موقفها يميل إلى فتح حوار مع دمشق وليس مع طهران. وإلى هذا التباين الواسع في وجهات النظر برز هناك خلاف أوروبي ـ أوروبي حول أولوية وقف إطلاق النار على نشر القوات الدولية وما الذي ينبغي أن يسبق الآخر، كل هذا ما عرّى حقيقة أن هناك "اتحاداً" أوروبياً بالمعنى السياسي الذي يتضمن وحدة في المصالح المشتركة وتقارباً في المواقف، بمثل ما أضعف الموقف الأوروبي المشترك في مواجهة الموقف الأمريكي، وأظهرها بمظهر الاتحاد الذي لا يتكلم لغة واحدة، ولا ينطق بصوت واحد.
الانقسام الأوروبي(19/261)
لقد كان الانقسام أهم ما طبع المواقف الأوروبية خلال العدوان الإسرائيلي، فالبعض كان يفضل السير خلف الخطوات الأمريكية خشية إزعاج واشنطن، أو رغبة في إيجاد مكان في القطار الأمريكي في حال ما انتهت الحرب بما يرضي إدارة جورج بوش والمحافظين الجدد، فيما كان البعض الآخر ـ مثل فرنسا ـ يرى أن الحرب مناسبة لتعديل بعض التوازنات القائمة في المنطقة، ومن تم ركز اهتمامه على الحصول على موطئ قدم له في منطقة تتبدل تضاريسها السياسية. وانعكس هذا الانقسام بشكل كبير في مؤتمر روما والبيان الختامي الصادر في أعقابه، والذي عكس في الواقع الرؤية الأمريكية للصراع التي أرادت من خلاله واشنطن توفير غطاء سياسي وديبلوماسي للعدوان الإسرائيلي. لكن اجتماع وزراء الخارجية الأوروبي الذي انعقد مباشرة إثر مجزرة قانا الوحشية كشف ما هو أكثر من ذلك، فقد حصل اختلاف في المواقف بين البلدان الخمسة والعشرين بخصوص البيان الختامي والكلمات التي يجب استخدامها، وتلك التي ينبغي تجنبها؛ إذ إن المسودة الأولى من البيان التي صاغتها الرئاسة الفنلندية كانت تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار من أجل تجنب استهداف المدنيين الذي اعتبرته الوثيقة "خرقاً خطيراً" للقوانين الإنسانية، لكن هذه الصيغة أثارت حفيظة كل من بريطانيا التي لم يناقض رئيس وزرائها سياسته القاضية باتباع خطوات الرئيس الأمريكي جورج بوش، كما ظهر ذلك خلال وبعد الحرب على العراق، وألمانيا التي جاء موقفها غريباً، هي التي حرصت في السابق على عهد المستشار هرغارت شرودر على توثيق التحالف مع فرنسا، وانضافت إلى الموقفين البريطاني والألماني مواقف بولونيا والدانمارك والتشيك، فجاءت الصيغة الأخيرة للبيان الذي جرى تعميمه تدعو إلى وقف استهداف المدنيين "من الجانبين"، بما يعني المساواة بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية، وتدين حزب الله قبل أن تدين العدوان الإسرائيلي.
وعلى الرغم من ضعف البيان وانكشاف العجز الأوروبي، لم تتردد باريس في الإشادة بالبيان والقول بأنه يشكل نصراً ديبلوماسياً، وكان المعوّل بالنسبة للمراقبين أن يبقى التحالف الفرنسي ـ الألماني القائم منذ معارضة الحرب على العراق عام 2003، وينزل بثقله خلف الاتحاد لاستصدار بيان يليق بوزن الاتحاد الأوروبي على المسرح الدولي، لكن التراجع الألماني لصالح الموقف الأمريكي، وتصريح المستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل الذي أدانت فيه حزب الله، وأرجعت المشكلة كلها إلى خطف الجنديين الإسرائيليين، أضعف الموقف الفرنسي، لتجد باريس نفسها في النهاية في مواجهة واشنطن داخل مجلس الأمن.
لكن الانقسام الأوروبي لم يقف عند هذا الحد، فقد سارعت جميع البلدان الأعضاء إلى الإعلان عن استعداها لإرسال وحدات عسكرية إلى لبنان في إطار القوة العسكرية الأممية في الجنوب، والمثير أن هذه الدول لم تعلن بأنها ستفعل ذلك تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، بل بشكل فردي وبدون تنسيق داخل الاتحاد، وهذا على الرغم من وجود منسق أوروبي خاص مكلف بالسياسة الخارجية والدفاع هو الإسباني خافيير سولانا الذي قام بجولة في المنطقة، في الوقت الذي يتصرف فيه الأوروبيون، وكأنهم جزر معزولة لا بلدان متعايشة في اتحاد له أطره الداخلية الخاصة وقوانينه الناظمة.
ويمكن القول إن الأوروبيين، على الرغم من الحرص المستمر على التأكيد على وجود مصالح مشتركة، لا يزالون بعيدين عن تحقيق هذا الهدف برأي المراقبين. ويكون الجانب الأهم في الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي في عدم الحسم في العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ زوال الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن المنصرم ظل العديد من الدول الأوروبية يعتبر أن العلاقة التي كانت تربطه في السابق بواشنطن، خلال الحرب الباردة، لا ينبغي المساس بها، فيما استقر البعض الآخر على فكرة أن أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة يجب أن تجد طريقها الخاص من خلال الوحدة والشراكة بعيداً عن الراعي الأمريكي، وفي العام 1993 تم التوقيع على وثيقة ماستريخت التي اتفق الأعضاء الـ(25) في الاتحاد بموجبها على وضع سياسة خارجية وأمنية مشتركة، وهو المطمح الذي لا يزال لحد اليوم حبراً على ورق.
قد تبدو مرحلة التحضير للحرب على العراق عام 2003، والتحالف الفرنسي ـ الألماني الذي كان يريد أن يشكل قاطرة جر عربات الاتحاد المتفرقة، مرحلة طويت وانتهى الأمر، فالتحالف المشار إليه انحل بمجرد غياب المستشار الألماني جيرهارد شرودر من السلطة في برلين، وبريطانيا لا تزال تعطي على أي موقف مشترك يمكن أن يتخذه الأوروبيون، برهانها المستمر على الحليف الأمريكي، وسيناريو توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل بلدانا من أوروبا الشرقية لديها علاقات تاريخية مع واشنطن منذ زمن المواجهة مع الاتحاد السوفييتي قد يهدد بإضعاف أوروبا أكثر؛ لأن التوسع له تكاليف سياسية وإستراتيجية كبرى ربما لا تقدر بروكسيل على النهوض بها.(19/262)
مجمل القول إن الأزمة اللبنانية فضحت ما تبقى من النزعة الأخلاقية الأوروبية، فقد فضلت البلدان الأوروبية ـ حسب قول خبير فرنسي ـ العراك فيما بينها على مواجهة واشنطن، ذلك العديد من أعضاء الاتحاد يريدون من الآن استباق التطورات الإقليمية والبحث عن مقعد لهم في القطار الأمريكي، والحصول على نصيبهم من مشروع"الشرق الأوسط الكبير"، وذلك على حساب ما يُدعى بالسياسة العربية لأوروبا التي تُعد منطقة المتوسط شريكاً تجارياً واقتصادياً وسياسياً رئيسياً لها، وعلى حساب وزنها العالمي الذي أرادته من خلال الوحدة الأوروبية والانفتاح على الشرق. فهي تتخوف في حال ما واجهت النفوذ الأمريكي أن تنسحب الولايات المتحدة من المؤسسات الدولية أو تجمّد تمويلها لها، وتضع الاتحاد أمام مأزقه، لكنها نظرة أقل ما يمكن القول عنها إنها تعبير عن الانتهازية، والقبول بتقاضي ثمن مقابل السير خلف الأثر الأمريكي، عوض البحث عن صوت خاص في السياسة الدولية.
==============(19/263)
(19/264)
الحوار بين الحضارات
د. خالد بن عبد الله القاسم 25/7/1427
19/08/2006
أولاً: الإسلام دين الحوار:
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:
ثالثاً: آداب الحوار:
وقبل الدخول في حوار الحضارات نمهد بتعريف الحوار والحضارات.
أما الحوار في اللغة من الحور وهو الرجوع ويتحاورون أي يتراجعون الكلام(1).
وقد ورد في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم كلها تظهر الاختلاف بين المتحاورين ومحاولة إقناع بعضهم بعضاً، الأول ورد في قصة أصحاب الجنة "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً" [الكهف:34]، والثاني فيها أيضاً "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" [الكهف:37]. والثالث في أول سورة المجادلة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة:1]. ونفهم من هذه المواضع الثلاثة أن الحوار مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين مختلفين.
ويتفق الحوار مع الجدل والمناظرة والمحاجة في كونه مراجعة الكلام وتداوله بين عدة أطراف إلا أن الجدل يأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة وهو مأخوذ من معناه اللغوي حيث يسمى شدة القتل جدل، والجدال من الإبل الذي قوي ومشى مع أمه(2).
ولفظة الجدل مذمومة في غالب آيات القرآن الكريم، حيث وردت في تسعة وعشرين موضعاً(3)، مثل قوله سبحانه: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً" [الزخرف:58]، ولم يمدح الجدل إلا إذا قيد بالحسنى وجاء ذلك في موضعين، في قوله سبحانه: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، وقوله سبحانه وتعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وأما الحضارة فهي في اللغة من الحضر وهي الإقامة في المدن والقرى وهي ضد البداوة، قال القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا(4)
وفي العصر الحديث أطلق البعض هذا المصطلح على كل نتاج مادي لأمة من الأمم من عمران ومخترعات وابتكارات وتنظيمات. وتوسع النطاق ليشمل بالإضافة على النتائج المادية القيم الدينية والثقافية(5).
وعليه فكل أمة تشترك في هذه المعاني لها حضارة تخصها، فهناك الحضارة الإسلامية، والحضارة الأوروبية الغربية المسيحية، والحضارة الأوروبية الشرقية المسيحية، والحضارة الهندية، وحضارة الشرق الأقصى(6) وغير ذلك.
أولاً: الإسلام دين الحوار:
الحوار منهج قرآني, فقد كلم الله ملائكته واستمع منهم "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" [البقرة:30] وكذلك رسله "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" [المائدة:116]، وحتى مع الكافرين "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [طه:125-126]. وحتى مع إبليس "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف:12]. والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [إبراهيم:10] .
وتأمل حوار إبراهيم عليه السلام مع مدعي الربوبية "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 258].
وحوار موسى مع فرعون مدعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن وكذلك بقية الرسل عليهم صلوات الله وسلامه حيث يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شبهاتهم.
وهذا القرآن يحكي حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع امرأة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" [المجادلة: 1].
وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(7).
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:(19/265)
1 - الدعوة إلى الإسلام, وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] ومعرفة الله هي أعظم حقيقة وعبادته هي الحكمة من خلق البشر "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56], ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 123, 124].
ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يراد بهم وما مصيرهم.
فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لافادة أنفسنا فحسب بل لفائدة الأمم الأخرى أيضًا لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.
فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة, وعليها واجب البلاغ، قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
2- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض وهي الخلافة وعمارة الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" [البقرة: 30] (8).
3- تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة والتعاون على الخير "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: 2].
وليس من أهداف الحوار موالاة الكفار ومودتهم من دون المؤمنين، فقد جاءت النصوص القطعية في النهي عن ذلك، قال الله تبارك وتعالى: "لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ" [آل عمران: 28].
كما أن الحوار لا يهدف إلى التنازل عن شيء من ثوابتنا العقدية أو الشرعية، أو المشاركة في الدعوات المغرضة لوحدة الأديان التي تساوي الإسلام بغيره وخلط الحق بالباطل، أو مشاركة الكفار في باطلهم، وقد نهى الله نبيه عن ذلك فقال سبحانه: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1-6]، وقال أيضاً: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم: 9] وقال سبحانه: "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" [الإسراء: 74] كما يجب التفريق بين الكفار المحاربين الذي يجب معهم الجهاد في سبيل الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [الممتحنة: 1]، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [التوبة: 73]، والمسالمين الذين قال الله فيهم: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].
ثالثاً: آداب الحوار:
من أهم آداب الحوار:
1- حسن القصد من الحوار: وذلك بالإخلاص لله والرغبة في طلب الحق، قال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [البينة: 5].
2- العلم: فلا حوار بلا علم، والمحاور الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد ذم الله سبحانه وتعالى المجادل بغير علم "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج: 8]، وذم أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم كما في قوله تعالى: "هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 65-66].
العلم عام في كافة مواضع الحوار، فيشمل العلم بالإسلام وعقيدته وحضارته والعلم بالمحاورين وخلفياتهم وكافة ما يحتاج إليه في الحوار.(19/266)
فالمحاور المسلم داع إلى الله يجب أن تكون دعوته بعلم وبصيرة كما قال سبحانه "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108].
فالعلم بالإسلام وحضارته وشبهات المخالفين في غاية الأهمية في حوار غير المسلمين لإقناعهم ورد شبهاتهم فضلاً عن عدم الانخداع والتأثر بها.
3- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، حيث أن أهم ما يتوجه إليه المحاور التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [سورة الإسراء: 53] "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ" [سورة النحل: 125] (9).
وعلينا أن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
4- التواضع واللين والرفق من المحاور وحسن الاستماع وعدم المقاطعة والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآن، فقد أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام عند مخاطبة فرعون الذي طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية، فقال سبحانه : "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44].
5- الحلم والصبر، فالمحاور يجب أن يكون حليماً صبوراً، فلا يغضب لأتفه سبب، فإن ذلك يؤدي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والصبر، والحلم من صفات المؤمنين قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [أل عمران: 134]. وعندما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: (لا تغضب) (10) وكررها مراراً.
ومن أعلى مراتب الصبر والحلم مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا لم يهتدوا لعلم المحاور واستخدامه أساليب الجدل، وإنما لأدبه وحسن خلقه واحتماله للأذى ومقابلته بالإحسان، وقد نبه الله عز وجل الداعين إليه إلى ذلك الخلق الرفيع وأثره وفضل أصحابه، فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 33-35].
6- العدل والإنصاف؛ يجب على المحاور أن يكون منصفاً فلا يرد حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، كما تضفي على المحاور روح الموضوعية.
والتعصب وعدم قبول الحق من الصفات الذميمة في كتاب الله فإن الله أمرنا بالإنصاف حتى مع الأعداء فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8]، ومن تدبر القرآن الكريم وذكره لأهل الكتاب وصفاتهم الذميمة يجد أن المولى عز وجل لم يبخسهم حقهم، بل أنصفهم غاية الإنصاف، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً" [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. يقول ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما *** يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان(11)
ويأمر الله بمحاورة أهل الكتاب بلغة الإنصاف والعدل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً" [آل عمران: 64].
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعرق كما حكى الله عن اليهود قولهم: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" [سورة المائدة: 18] أو لون كما يدعى العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس، وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ ومقررة وجود الاختلاف ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].(19/267)
وهذا الاختلاف من آياته سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [المائدة: 48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلاهية ويجب التعايش وفق ما أمر الله من الدعوة والنصيحة(12).
وأخيراً هذه نظرتنا للحوار والاختلاف، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه(13).
أن الحوار لا يحقق أهدافه مع المجازر المستمرة في فلسطين والاحتلال في العراق وأفغانستان؛ بل كيف تتفق لغة الحوار ع الجدار العنصري في الأرض المحتلة على الرغم من إدانة العالم في الأمم المتحدة (باستثناء بعض دول الغرب المنحازة للصهيونية).
أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين.
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال(14).
إن الغرب مطلوب منه قبل أن يتحدث عن الحوار ونشر الديموقراطية (والشرق الأوسط الكبير) إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تقليص الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة, وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر، وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح؛ ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والساعي لتشويه ديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية.
(1) لسان العرب، ابن منظور (4/217-218).
(2) لسان العرب، ابن منظور (11/103).
(3) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، ص: 9. وانظر: الحوار مع أهل الكتاب، د. خالد بن عبدالله القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص: 104.
(4) لسان العرب، (4/196).
(5) انظر: الحضارة والعالم الآخر، د. عبدالله الطريقي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص: 16-17.
(6) انظر: الحضارة، حسين موسى، عالم المعرفة، 1998م، ص: 220.
(7) انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات، غير منشور، مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض - السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.
(8) انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص(11-12)، بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423هـ غير مطبوع.
(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبدالله بن حميد، ص: 13.
(10) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم (5765).
(11) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1345هـ، ص: 19.
(12) انظر: مجلة العرفة، العدد 101 شعبان 1424هـ، موضوع قيم الإسلام، الحوار الانفتاح على العالم، ص: (18 - 26).
(13) انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي دار النفائس، الطبعة الأولى 1411هـ.
(14) انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423هـ.
==============(19/268)
(19/269)
"العدالة والتنمية" والطريق إلى السلطة
الرباط / إدريس الكنبوري 17/5/1427
13/06/2006
على بُعد عام وبضعة أشهر من الانتخابات التشريعية في المغرب تتجه جميع الأنظار إلى حزب (العدالة والتنمية) كأوفر الأحزاب حظاً في الحصول على عدد مقدر من المقاعد في البرلمان المغربي ، ومن ثم تشكيل الحكومة القادمة، كونه من ناحية الحزب الإسلامي الوحيد في البرلمان المغربي، والحزب الذي لم يتحمل أي مسؤولية حكومية منذ ظهوره عام 1996، كحاصل دمج بين حركة التوحيد والإصلاح وحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية ، الذي جمّد نشاطه السياسي منذ السبعينيات من القرن الفائت، وبقي هيكلاً فارغاً حتى دخله الإسلاميون، وغيّروا اسمه إلى (العدالة والتنمية) بعد منعهم من إنشاء حزب سياسي خاص بهم.
وفيما لم تعد هناك أحزاب سياسية ذات قبول شعبي في البلاد، بعد إخفاق الاشتراكيين وأحزاب اليسار القديم في تجربة "التناوب التوافقي" الذي دشنه الملك الحسن الثاني عام 1998، وقبلهم إخفاق الأحزاب الأخرى التي تقلدت زمام الحكم طيلة العقود الماضية منذ الستينيات، فإن حزب (العدالة والتنمية) يبقى الحزب الوحيد اليوم الذي لا يمكن اتهامه، ومن تم يظل الأكثر حظوظاً في قيادة الحكومة المقبلة أو على الأقل الحصول على نصيب وافر من حقائبها الوزارية.
الاستطلاع ـ القنبلة
وبينما كان من المعتقد لدى الكثيرين أن الحزب قد تراجع تأثيره إثر تفجيرات الدار البيضاء في 16 مايو 2003 والحملة التي جوبه بها في الداخل، أيقظ استطلاع رأي أجراه المعهد الجمهوري الأمريكي في مارس الماضي مخاوف الأحزاب السياسية المغربية من هذا الحزب، ومن قدرته على اكتساح الانتخابات المقبلة. فقد منح الاستطلاع المشار إليه حزب (العدالة والتنمية) 47% من نسبة الأصوات في حال أُجريت الانتخابات التشريعية في القريب، فيما منح حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية(طليعة التناوب التوافقي عام1998 ومشارك في الحكومة الحالية) وحزب الاستقلال(مشارك في الحكومة) نسبة ضئيلة جداً، مما أثار حساسية بالغة في صفوف القوى السياسية الأخرى ، وجعلها تندد بما أسمته التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية للبلاد واستباق النتائج الانتخابية، واتهام الإدارة الأمريكية بنسج تحالف مع حزب (العدالة والتنمية). وكتبت يومية(العلم) التي هي لسان حزب الاستقلال وأقدم الصحف الوطنية في 21 مارس الماضي على صدر صفحتها الأولى مقالاً تحت عنوان: "هل تصل نوايا السفارة الأمريكية بالرباط حد محاولة تشكيل الأغلبية والحكومة في المغرب؟"، قالت فيه: إن الاستطلاع المذكور"يتستر وراء خلفيات خطيرة جداً تهدف بالأساس إلى نسف العملية السياسية الوطنية برمتها، وإن حصر الاستطلاع على فئة معينة منتقاة بدقة كان الهدف منه التوصل إلى نتائج معينة ومرسومة سلفاً"، ووصفت الاستطلاع بأنه"استطلاع مخدوم".
كان ذلك الاستطلاع بمثابة قنبلة أُلقيت في المسرح السياسي المغربي؛ إذ لأول مرة تقوم مؤسسة أمريكية بإجراء استطلاع من هذا النوع عن الحياة السياسية بالمغرب، ولأول مرة أيضاً تقدم فيه مؤسسة أجنبية في دولة عظمى كأمريكا شهادة مكتوبة عن تراجع نفوذ الأحزاب التاريخية في البلاد التي قامت بدور المعارضة الناجحة طيلة ثلاثين عاماً، لكنها أخفقت في أول اختبار حكومي لم يدم أكثر من خمس سنوات. وقد ألقى هذا الاستطلاع بظلاله على حزب (العدالة والتنمية) الذي رأى نفسه متورطاً في تهمة التحالف مع الإدارة الأمريكية الجمهورية، وبخاصة أن نتائج الاستطلاع نُشرت في الوقت الذي كان فيه الجدل محتدماً داخل الحزب ما بين مؤيد ومعارض للزيارة التي كانت مبرمجة لقيادة الحزب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي حصلت في نهاية مايو الماضي؛ إذ رأى الكثيرون في ذلك التزامن بين الحدثين استعداداً أمريكياً للتعامل مع الحزب ، وترشيحه لقيادة الحكومة القادمة في المغرب، وأن الإدارة الأمريكية تريد الدخول في شراكة مع الحزب ضمن إستراتيجيتها الجديدة للتقارب مع الإسلاميين المعتدلين في العالم العربي.
لكن الاستطلاع من ناحية ثانية أحرج الكثيرين من داخل الحزب الذي عُرف في السابق بمعارضته لأي تقارب مع الولايات المتحدة، وبمعارضته لمشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا ، وخطة الديموقراطية في العالم العربي والإسلامي التي تقودها واشنطن ، ومنتدى المستقبل الذي عُقد عام 2004 بالرباط للدفع في هذا الاتجاه، ومن ثم وقفوا ضد زيارة أمين عام الحزب سعد الدين العثماني إلى واشنطن، متخوفين من أن يُفسّر ذلك على أنه محاولة للتقارب مع الأمريكيين، وعلى أنه سكوت عما يحدث في العراق وأفغانستان وفلسطين.(19/270)
وأمام هذا الاحتقان السياسي بادر الأمين العام للحزب إلى عقد ندوة صحفية في مايو الماضي لطمأنة الفاعلين السياسيين، وإزالة بعض الغموض الذي يكتنف العديد من مواقف الحزب، حيث وصف نتائج الاستطلاع الأمريكي الذي يرشحه للفوز الكاسح في الانتخابات بكونها"مفبركة" وتضخيماً مبالغاً فيه لقوته الانتخابية، وقال: إن نمط الاقتراع بالقائمة لا يسمح لحزبه بالحصول على الغالبية، كما دافع عن مؤسسة إمارة المؤمنين، وقال: إن المرجعية الإسلامية التي يرتبط بها حزبه لا دخل لها في برنامجه السياسي؛ لأن إمارة المؤمنين هي المخولة بالإشراف والحسم في القضايا الدينية.
تحوّلات سياسية
من المؤكد أن حزب (العدالة والتنمية) بات يشعر بأنه أصبح ورقة سياسية مهمة في المرحلة القادمة في البلاد، وأنه سيكون الفائز الأكبر أو بين كبار الفائزين في الانتخابات المقبلة، فيما لو أُنها أُجريت في شفافية كاملة وضمن مناخ سليم. وقد قام الحزب طيلة العامين الماضيين بمحو الكثير من اللبس الذي أُحيط بخطابه السياسي بهدف تحقيق تقارب أكبر من الدوائر السياسية ودوائر القرار في البلاد، وفي العام الماضي نسج تحالفاً مع حزب" قوات المواطنة" الليبرالي الذي يرأسه عبد الرحيم الحجوجي الرئيس السابق لاتحاد المقاولين ورجال الأعمال في المغرب. وعلى الرغم من أن هذا الأخير لا يشكل أي قوة سياسية في البلاد، وأخفق في الحصول حتى على مقعد واحد في البرلمان في انتخابات 2002، إلا أنه ذو حضور ملحوظ وسط عالم المال والأعمال وعلى ارتباط بالسلطة، ومن ثم جاء تقارب حزب العدالة معه بغاية طمأنة رجال الأعمال وعالم الاقتصاد حول خياراته الاقتصادية والمالية، وتوجيه رسالة اطمئنان إلى السلطة ذات التوجه الليبرالي في السياسة والاقتصاد.
بموازاة مع ذلك، شرع الحزب في التعديل من مواقفه بشكل تدريجي، بما يُعدّ استعداداً لقبول المشاركة في الحكومة المقبلة بثمن سياسي؛ إذ قلل من لهجته في انتقاد السياسات الأمريكية، وسكت عن زيارة عمير بيريتز رئيس حزب العمل الإسرائيلي إلى الرباط. وجاءت هذه التحولات ضمن حزمة من التطورات السياسية التي شهدها الحزب في الآونة الأخيرة، بدأت بتصويته على قانون الإرهاب عام 2003 على الرغم من رفضه من قبل جميع منظمات حقوق الإنسان المغربية والأجنبية، وتصويته على اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة، على الرغم من مخاطرها على النسيج الاقتصادي المغربي ومعارضتها من قبل المهنيين والمجتمع المدني، ودخوله في تفاهمات مع وزارة الداخلية، كان أبرزها قبوله رفض رئاسة فريقه البرلماني من قبل مصطفى الرميد الذي تعدّه الداخلية المغربية من أقطاب الجناح المتشدد داخل الحزب، ما حدا بهذا الأخير إلى تجميد نشاطه داخل الحزب لمدة عام احتجاجاً على سلوك الداخلية تجاهه، وعلى قبول قيادات الحزب توصيات باستبعاده.
الديبلوماسية الحزبية
على الصعيد الخارجي بدأ حزب (العدالة والتنمية) منذ العام الماضي ديبلوماسية حزبية قوية للانفتاح على شركاء المغرب الخارجيين ونظرائه في العالم العربي والإسلامي، انطلقت بزيارة قيادة الحزب إلى تركيا للتعرف عن كثب على تجارب حزب (العدالة والتنمية) التركي في تسيير البلديات في المدن الكبرى وفي دواليب الحكومة، ثم زارت بعدها إسبانيا ـ الشريك التجاري الثاني للمغرب بعد فرنسا ـ إذ تباحثت مع المسؤولين بها بقصد تقريب وجهات النظر حول العديد من القضايا التي تُعدّ مثار خلاف بين البلدين، من جملتها قضية سبتة ومليلية المحتلتين وموضوع الصحراء والهجرة السرية والصيد البحري، وهي قضايا تهم الجانب الإسباني بشكل كبير، وتهتم كثيراً بالتعرف على مواقف الحزب المرشح للحكم في المغرب حيالها.
وفي زيارته لفرنسا، القوة المستعمرة السابقة والشريك التجاري الأول للمغرب، قدم سعد الدين العثماني، أمين عام الحزب، البرنامج السياسي لحزبه وموقفه من الإصلاحات السياسية والاقتصادية في المغرب، وحاول كسب تأييد المسؤولين الحكوميين والحزبيين في فرنسا لهذه الإصلاحات، مدركاً بأن جميع مشاريع الإصلاح في المغرب لا يمكن أن تمر دون أن يكون هناك تأييد فرنسي لها. أما في أمريكا فقد جرى التعريف ببرنامج الحزب أيضاً، وألقى "العثماني" محاضرة بمعهد (كارنجي)، وحصل على جائزة الديموقراطي المسلم، مما عُدّ شهادة أمريكية باستحقاق الحزب تسيير دفة العمل الحكومي والموافقة على أن يكون الإسلاميون المعتدلون أحد أقطاب الحكومة القادمة في الرباط.
أي قوة سياسية؟(19/271)
أحد أهم المعطيات التي تؤهل حزب (العدالة والتنمية) للفوز الكبير في الانتخابات المقبلة والمشاركة في الحكومة كأول تجربة يدخلها الإسلاميون في المغرب، أن الوضع السياسي والاقتصادي الداخلي لم يعد يسمح للقصر بالاتكاء على الأحزاب الأخرى التي فاق عددها الأربعين حزباً سياسياً ، بسبب تركتها السابقة غير المشرفة للبلاد، وبات بحاجة إلى تجربة سياسية جديدة مع حزب لم يتورط في المشاركة الحكومية من قبل، خصوصاً وأن الملك نفسه أكد مراراً أن الانتخابات المقبلة ينبغي أن تكون نظيفة وذات مصداقية، وأهاب بالأحزاب إلى الاقتراب أكثر من المواطنين، ووضع برامج اقتصادية واضحة وناجعة وصريحة، والابتعاد عن الابتزاز السياسي.
وإذا كان الملك الراحل الحسن الثاني قد أدرك أهمية تغيير حلفائه السياسيين في نهاية التسعينيات من القرن الماضي ، فدعا معارضة الأمس إلى دخول التناوب التوافقي عام 1998 لتجديد الخطاب السياسي ، وإعطاء مصداقية أكبر للعمل الحكومي واستعادة ثقة المواطن المغربي، فإن الملك الحالي محمد السادس يريد هو الآخر المراهنة على الإسلاميين المعتدلين عبر تدشين تناوب معهم، بعدما إخفاق تجربة التناوب مع الاشتراكيين التي أثارت في وقتها حماساً كبيراً، ما لبث أن خمد بعدما تأكد أنها لم تشرع في الإصلاحات الحقيقية المطلوبة
==============(19/272)
(19/273)
لماذا الإصرار على الطائفية يا أهل لبنان؟
عبد الحق بوقلقول 14/11/1427
05/12/2006
يلاحظ على أغلب كتابات الإسلاميين في الفترة الأخيرة أنهم يجدون أنفسهم ملزمين على أن يعلنوا موقفهم بوضوح، من قضية ما يعرف إعلامياً بالمد الشيعي خصوصا منذ إقدام الولايات المتحدة على غزو العراق في شهر آذار/مارس 2003 حيث صحب عملية السطو هذه، إخفاق كارثي على كل المستويات بالنسبة لصناع الإستراتيجيا في واشنطن إلى درجة قال عنها المدير الوطني لكل الهيئات الإستخباراتية الأمريكية جون نيغروبونتي نفسه قبل يومين فقط: أنها أكثر خطورة من الوضعية التي كانت عليها السياسة، و العسكرية الأمريكية.
طبيعي إذن أن يصاحب هذا الإخفاق، أو ينتج عنه بالأحرى، امتدادات أخرى فالفيزيائيون مثلا، يقولون أن: 'الطبيعة تنفر من الفراغ' بمعنى أنه من غير الممكن علمياً أن يتحقق الفراغ في ظل ظروف اعتيادية، و هذا معناه أنه من الطبيعي جداً أن يلي سقوط نظام الرئيس صدام حسين، حالة تمدد آلية لأن نظام صدام على الرغم من كل عيوبه - التي لم تكن حكراً عليه وحده- كان يمثل ثقلاً إقليمياً يلعب دور الجسم الموازن في لعبة التجاذبات الدولية.
هذه مقدمة ضرورية لا بد من الخوض فيها مسبقاً حتى يفهم المتابع أن واقع السياسة و الدبلوماسية الدولية لا يرضى بالجمود و بالتالي فإنه كان يفترض قبل سنوات من الآن، أن تفكر النخب فيما قد يعنيه خلو المنطقة من الرئيس صدام و نظام البعث الذي كان يقوده و باختصار شديد: لا بد من طرح السؤال بشكل مباشر: لماذا تخلفت النخب السياسية و الفكرية العربية؟ أو فلنكن أكثر وضوحاً و لنصفها باسمها فنقول 'السنية'، عن توقع تمدد وتقوي النظام الإيراني و استشراف مستقبل علاقاته مع حلفائه من المعارضة العراقية التي كانت شيعية في غالبيتها؟
لندع هذا الأمر جانباً و لنحاول الآن تتبع واحدة من أكثر إفرازاته الإستراتيجية وضوحاً، و هي الحالة اللبنانية و تعقيداتها التي بلغت مؤخرا نقطة ما كان ينبغي الوصول إليها لو أن الدول الإسلامية في المنطقة، تعاطت مع جوانبها و مشكلاتها بصيغ أخرى غير التربص و التنافر.
ما الذي حل بالطبقة السياسية في لبنان إذن، حتى تندفع عبر هذه الطريق الموحشة و التي قد تؤدي إلى الانفجار الطائفي بعد أن تأكد الاصطفاف المذهبي؟
لا يمكن لأي متتبع لواقع و مستجدات السياسة في لبنان عبر الشهور الأخيرة إلا أن يعترف بأن الاحتقان المرجعي قد بلغ مداه و أن كل الفرقاء قد دفعوا بالوضعية إلى نقطة اللارجوع خصوصاً منذ مآسي الصيف الأخير، و ما عرفته المدن، و القرى هناك من جحيم صبته من فوقها طائرات الاحتلال الصهيوني وسط صمت عربي مطبق و تواطؤ غربي مفضوح بطريقة لا نبالغ كثيراً حينما نقول أنها كانت شامتة في حزب الله الذي قاد البلاد وفقا لتعابير خصومه، إلى التهلكة. و لكن المشكلة التي طرحت نفسها بقوة بعد ذلك ملخصها أن الحزب الذي خرج متعافياً على الأقل، حتى لا نقول أكثر من ذلك، رأى أنه من حقه بعد أن فشل مخطط خصومه، أن يستحوذ وسط المشهد السياسي اللبناني على المكانة التي تليق بحجمه الشعبي و مصداقيته النضالية التي حازها رغماً عن الآخرين.
من هنا يمكننا أن نطرح التساؤل الأهم: لماذا يصر الفريقان على أن يصطبغ الخلاف بينهما بالطابع المذهبي؟ ما الفائدة التي ترجى حينما يقوم مفتي الجمهورية نفسه بإمامة صلاة الجمعة في السراي الحكومي؟ أليس في هذا السلوك الأخير وحده، دليلاً على أنه تقرر دق إسفين الخلاف المذهبي بين السنة و الشيعة تحديداً و بكيفية لا تخفى خطورتها على أحد؟ ثم، ألا يدرك سماحة المفتي أنه بهذا التصرف، يمنح الخصومة بعداً أعقد بكثير من حجمها فيجعلها ذات طابع مذهبي على الرغم من أنه كان يفترض من الشيخ قباني أن يعمل في سبيل أن يحتفظ منصبه بمكانة أرفع من كل منصب سياسي أو إداري هناك؟ هل كان بطريرك الموارنة أكثر حنكة و مراساً و هو الذي لم يجاهر بمخالفة مخالفيه على الرغم من أنه لم يدخر جهداً في سبيل مساندة موافقيه؟
إنها أسئلة تطرح نفسها، و لا يمكننا من باب حسن الظن بالمسلمين هنا، أن نطعن في نيات أية جهة إلا أنه من حقنا أن نفهم السبب الذي لأجله اصطفت الحكومات الغربية و أولها، أمريكا، وراء الطاقم الوزاري الذي يقوده فؤاد السنيورة في الوقت الذي لما تجف فيه دماء قتلى القنابل الذكية التي أطلقتها طائرات الصهاينة بعد إلى درجة أن أحدهم كتب يقول: "يكفي السنيورة عاراً أن حكومته تلقت الدعم و المساندة من بوش" !!!
من غير العلمي قطعاً أن يكون موقفنا مجرد الحرص على معاكسة توجهات واشنطن و باريس و مثيلاتها و لكنه ليس في وسعنا و لا مقدورنا توظيف أدوات غيرها على أمل ألا يكون الأمريكان قد انتبهوا لهذا فصاروا يوجهوننا حيثما أرادوا فقط من خلال إعلان عكس ذلك !!!(19/274)
المعلن في هذه الأزمة الحالية يفيد بأن سبب المشكلة مرده إلى المحكمة الدولية، و لكن الحقيقة غير ذلك لأن هنالك مشكلات أخرى مستترة إذ أن هنالك غضباً مستشرٍ في عدد كبير من الأوساط من هذا التوزيع الطائفي و ما أفرزه من محاصصة وزارية و إدارية تفسر على أساس أنها ضرورات طائفية -نسبة إلى مقررات مؤتمر الطائف-.
على حسب الوزير غازي العريضي فإن هذه: "هي المرة الأولى على الأقل منذ اتفاق الطائف التي يشعر فيها اللبنانيون بالخوف والذعر من النزول إلى الشارع. لماذا؟ لأن حرباً نفسية مورست ضدهم من قبل أصحاب الدعوات والتهديدات باللجوء إلى الشارع لإسقاط الحكومة"
الواضح أن هناك محاولات لتعديل بعض بنود تلك الاتفاقية، علماً بأنها قد أصبحت جزءً من القانون الدولي، حسب نصوص قرارات مجلس الأمن و آخرها القرار 1701، والذي أشار نصاً إلى هذا الاتفاق. و فضلاً عن ذلك فإنه في وسعنا أيضا أن نلحظ وجود تخوف من قبل حزب الله حول طبيعة مهمة قوات اليونيفيل فهي قد تصبح وفقا لذات القرار، المليء بالألغام، بمثابة جندي يشرف على الحصار الذي يمكن أن تقوم به قوات حفظ السلام الدولية في لبنان، وصولاً إلى نزع جزئي لسلاحه الثقيل.
هنالك من يرى أيضا أن لبنان، كنتيجة لشروط وقف إطلاق النار في آب/أغسطس الماضي، قد أصبح تحت وصاية الأمم المتحدة وكل من الولايات المتحدة وفرنسا، و بالتالي فإن سيادته باتت منقوصة و من هنا فإن القرار اللبناني لم يعد يصنع في بيروت بالضرورة و إنما أضحى ملكاً لعدد كبير من العواصم أولها واشنطن، و آخرها طهران مروراً بالرياض.
هذا يعني أن المأزق الحالي لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يكون مجرد نتيجة طبيعية لوضع داخلي مأزوم و إنما هو أيضا نتيجة فعلية لتجاذبات دولية عديدة بمعنى أنه من قدر اللبنانيين أن يستعدوا مجدداً لخوض مواجهة جديدة داخلية بالأساس إذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه.
قد يكون للأمريكيين دور محوري في ما يجري حالياً و هم الذين يعلنون صباح مساء، أن مشروع الشرق الأوسط الكبير ما يزال مطروحاً و لا يحتاج الوضع بالتالي أن يكون الواحد منا عظيم الفطنة حتى يدرك أن لبنان قد يكون محطة 'استراحة' يحط فيها المارينز المطرودون من العراق لأن هؤلاء لن يعودوا إلى أمريكا دفعة واحدة بكل تأكيد، إلا أن هذا لا ينفي أن أنظمة المنطقة بريئة من أي تصعيد لأن المشكلة التي بدأت سياسية صارت اليوم تأخذ زياً طائفياً.
===============(19/275)
(19/276)
من يدقّ طبول الحرب في واشنطن؟
الجزائر/ عبد الحق بوقلقول 13/8/1427
06/09/2006
لقد أضحى معروفاً لدى الكل أن إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، كانت تمهد الطريق لتوجيه ضربة ضد إيران بطريقة معدة و مدروسة إذا تواترت تقارير عديدة تفيد بأن هذه الإدارة خططت لتنفيذ هجوم عسكري جوي ضد هذا البلد، و لعل فيما كتبه الصحفي الأمريكي (سيمور هيرش) في شهر نيسان/أبريل الماضي على صفحات (النيويوركر)، خير مثال على هذا.
بالإضافة إلى ما أورده هذا الأخير، هناك حالياً أدلة قوية على أن التصريحات الأخيرة التي يطلقها عدد من رموز الإدارة البيضاوية، بطريقة تعني أن هؤلاء يرغبون في دخول مفاوضات حقيقية مع إيران، إنما هي فقط محاولات للتمويه على الهدف الفعلي بمعنى أنها دليل إضافي عن مبلغ الخبث: إن هؤلاء ببساطة مصممون على عدم التوصل إلى أي حل دبلوماسي لما يُسمّى بأزمة إيران حتى، و إن كان السيد أنان يعتقد أنه لا يزال يملك هامش حركة و تأثير بهذه الزيارة التي تقوده إلى طهران مع كتابة هذه السطور.
بعبارة أخرى، إن هذا يعني أن الهدف الحقيقي الذي يعمل لأجله 'صقور' واشنطن، هو إزالة الحواجز الدبلوماسية التي قد تعيق الحل العسكري، ثم إن إشارات الإدارة بشأن الاستعداد للتفاوض مع إيران باتت بلا معنى تماماً؛ لأن هذه المفاوضات المزعومة، اُفْتُرِضَتْ على شرط أن توقف إيران برنامجها لتخصيب اليورانيوم، و بالتالي فإن هذه الإدارة اشترطت مبدئياً، تعليق التخصيب، أي تحقيق مطلب يفترض أنه هدف المفاوضات من أساسها، و لا مناص من التذكير هنا بأن التخصيب في حد ذاته، حق شرعي تكفله معاهدة حظر الانتشار لإيران.
مشكلة الإدارة الأمريكية ضد إيران بكل معايير القانون الدولي ضعيفة جداً، و لا تستند على أي مرتكز 'أخلاقي'؛ لأن الدبلوماسية الأمريكية تدعي أن كل حركتها العالمية محكومة بمبدأ الأخلاق، أما أهدافها في توجيه ضربة عسكرية ضد طهران فهي مبهمة جداً، و احتمالات تحقيق أي نوع من النصر ذي معنى عملي، ضعيفة إلى درجة أن الخبراء العسكريين يعارضون بوضوح شديد، الخطط التي تُطرح حالياً في هذا الشأن؛ لأن وجهات نظر أغلب الخبراء بخصوص مثل هذه الحملة العسكرية، تؤكد أن أي عمل عسكري لن يحقق شيئاً و بالتالي، فإنه من حقنا أن نفهم حالياً أن أهداف واشنطن من وراء كل هذا، لا تعدو أن تكون مصالح اقتصادية و جيوسياسية.
و إذا ما كانت الحال هكذا، و هي بلا شك كذلك، فما هي الأسباب التي تدفع صوب ما هو متوقع إلى درجة أن الرئيس بوش بات لا يتورع عن التصعيد، و التلويح بالقوة، بمناسبة و بغير مناسبة؟ ألا يدرك "الكاوبوي" أن المغامرة الجديدة قد تكون مأساوية مستقبلاً؟ ثم ما هي الجهات التي تدفع باتجاه هذه المواجهة؟
من الواضح أن أكثر النقاد سوف يشيرون إلى المحافظين الجدد الذين يشرفون على الإدارة الحالية بالكامل تقريباً، و هذا صحيح في بعض حيثياته، و لكنه لا يمنعنا من التساؤل أيضاً عن حقيقة تلك الجهات التي تؤيد نزعة هؤلاء المحافظين أو بعبارة أخرى: من يمثل هؤلاء و أي مصالح يحفظون؟
الواقع أنه و في أغلب الأحيان، يدّعي منظرو أيديولوجيا المحافظين الجدد، أن سياستهم الخارجية العدوانية تستند أصلاً إلى القيم الديمقراطية و الحرية، و الرغبة في نشرها في كل أنحاء العالم -و هذه مسوّغات لا يبدو و أن الإعلام نفسه، مستعد لقبولها-. من الواضح إذن، أن هذه قضية أكبر من مجرد نوايا طيبة؛ لأن هذه الشعارات باتت في حكم المؤكد، يافطات تستجلب في كل مرة تتطلب اللباقة وضعها لأجل إخفاء بعض المصالح "الخاصة" الحقيقية التي تختفي وراء واجهة قيم المحافظين الجدد و بلاغتهم الخطابية.
من هنا فإن القوى الدافعة و المؤيدة لنزعة المحافظين الجدد يجب أن نبحث عنها، ليس من خلال دفاعها المزعوم عن الديموقراطية، و لا حتى حرصها على 'المصالح الوطنية' الأمريكية بما أن حروب هذه الأخيرة، لم تحقق غير مزيد من المشكلات الخارجية و الداخلية على السواء. يتعين علينا أن نبحث عن تلك القوى، وسط المصالح الخاصة و الضيقة التي تتم التغطية عليها بعناية فائقة، وراء واجهة المصالح الوطنية.
الحقيقة إذن ملخصها أن هذه المصالح الخاصة، تستفيد من تزايد موارد الأعمال المربحة و عائدات الإنفاق الضخم على الحرب و الصناعات العسكرية. إنها تتضمن كلتا المصلحتين الاقتصاديتين (وهي معروفة بشكل جيد كالمجمع الصناعي العسكري) و المصالح الجيوسياسية (المرتبطة كثيراً بالتيار المسيحي المتصهين المؤيد 'لإسرائيل الكبرى' في الشرق الأوسط، و اللوبي الإسرائيلي).(19/277)
في الفترة الأخيرة، تعيش الولايات المتحدة على وقع نقاش وطني جديد يحاول كسر "التابو" المفروض على بعض المشكلات المسكوت عنها سابقاً مثل اللوبي الصهيوني و لوبي أرباب صناعة السلاح و النفط. لقد بات في حكم المؤكد الآن أن هنالك تحالفاً فعلياً بين مصالح هاتين الجهتين اللتين يمكننا أن نجمعهما معاً تحت مسمى واحد: التحالف الصهيوني الصناعي العسكري. هذا التحالف هو أكثر من أي شيء آخر، تحالف بنيوي تتزاوج فيه اهتمامات الحرب مع مخططات مستقبل الشرق الأوسط، و حريّ بنا هنا أن نفصل المسألة بشكل أكثر وضوحاً.
ليس غريباً أن تلتقي مصالح المجمع الصناعي العسكري أو تجار الأسلحة و الحروب مع مصالح الراغبين في زعزعة الوضع الدولي الحرج أصلاً، بمعنى أن صُنّاع الحرب و هم في ذات الوقت، المستفيدون من عائدات زيادات الطلب على السلاح، يحتاجون إلى حالة من التشنج الدولي لأجل الحفاظ على تنامٍ قارٍ في ميزانية البنتاغون و بالتالي، حصولهم على الشريحة الأكبر من كعكة الموازنة العامة الفيدرالية، و في وسع أي واحد هنا أن يلحظ مدى مبلغ السخط العام داخل الولايات المتحدة من ثقل هذه 'المصاريف' الإضافية نتيجة للحروب الأخيرة، على كاهل الدخل الوطني الخام و سطوتها على أموال دافعي الضرائب، بلا طائل تقريباً.
لنتذكر أن الوضع خلال عهد الثنائية القطبية أيام الحرب الباردة، كان يكفل لهؤلاء 'الصناعيين' جواً مكهرباً ملائماً جداً لأجل مضاعفة الثروات الخاصة لديهم؛ إذ كان يكفي وقتها تسويق 'الخطر الشيوعي القائم'، حتى لا يفكر أحد في التساؤل عن سر تلك المخصصات الضخمة للتسلح، أما و لقد صار العالم في مأمن من الستالينية، فإن الأثرياء صاروا مجبرين على التفكير في 'إيجاد' بعبع جديد كفيل بإدامة الحالة و تفويت حلم الانتقاص من ميزانية البنتاغون على دعاة ذلك. كان الأمر إذن يتطلب إيجاد مصادر جديدة للخطر على المصالح الأمريكية لأجل تسويغ الحروب الأحادية و ميزانياتها، و لقد حُضّرت قوائم هذه المصادر مباشرة عُقيب انهيار الغول الشرقي، فظهرت مفردات على مسرح السياسة العالمية على شاكلة: الدول المارقة، محور الشر، الإرهاب العالمي، الأصولية الإسلامية و أعداء الديمقراطية وهلم جراًً.
و مثلما هي تخوّفات المستفيدين من صناعة السلاح و تسويق الحروب، من أن السلام العالمي يهدد مصالحهم، يدرك المسيحيون المتصهينون من أنصار 'إسرائيل الكبرى' أن السلام بين الكيان الغاصب و جيرانه العرب، يمثل خطراً حقيقياً على أهدافهم التي يسعون إلى تنفيذها وفقاً لتعاليم 'كتبهم المقدسة': السيطرة على 'أرض الميعاد'، أما سبب الخوف فمرده إلى أن السلام سوف يعني الالتزام بمقررات الأمم المتحدة، و عودة الكيان إلى حدود ما قبل 1967، أو بعبارة أخرى: الانسحاب من الضفة الغربية و قطاع غزة، و لا نتحدث هنا عن باقي الأراضي المحتلة؛ لأنها باتت بفضل، حنكة و عظمة قواد عالمنا الإسلامي، أرضاً إسرائيلية و واقعا لا ينكره إلا من به جِنّة.
و في سبيل تحقيق مطلب التوسع، لا يتورع المسيحيون الصهاينة في التعبير عن تخوفهم من السلام عبر الدخول في حوار حقيقي مع الفلسطينيين، و بالتالي فهم يركزون على تجاهل الفلسطينيين و حتى، الاستهزاء بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بهم، و جهودهم كلها تنصب حول تخريب مفاوضات السلام. و مثلما هي الحال، يعتقد هؤلاء المؤيدون أن الحرب و تشنج العلاقات هي فرص لا ينبغي تفويتها بما أنها تمنح أجواء مؤاتية تسمح بطرد الفلسطينيين وصولاً إلى تغيير الملامح الإقليمية و من ثمة: توسع إسرائيل و إعطاؤها دور 'قطب الرحى' وسط الشرق الأوسط الكبير، ثم الجديد.
يمثل التحالف الصهيوني الصناعي العسكري، من طرف عصابة المحافظين الجدد المحيطة بالرئيس بوش أما الإطار المؤسساتي للتحالف، فهو يتكون من شبكة من مراكز (الثينك تانكس) الوثيقة الارتباط التي تأسست، و يتم تمويلها أصلاً، من طرف لوبي السلاح و اللوبي الإسرائيلي، و من أهم هذه المراكز التي يمكننا الاستشهاد بها على سبيل المثال: معهد المؤسسة الأمريكية (AEI)، مركز السياسة الأمنية (CSP)، معهد الأبحاث الإعلامية للشرق الأوسط (MEM r I)، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (WINEP)، منتدى الشرق الأوسط (MEF)، المعهد القومي للسياسة العامة (NIPP) و لا يجدر بنا أن ننسى أيضاً، المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (JINSA).
هذه المراكز التي هي -واقعاً- مراكز لتبرير الحروب و تضخيم النفقات العسكرية، يسيرها بشكل رئيس، رموز المحافظين الجدد من التحالف الصهيوني الصناعي العسكري، و لم يعد اليوم سراً، على أن خطط السياسة الخارجية للإدارة الحالية، يتم تحريرها و صياغتها من قبل هذه المراكز.(19/278)
ففي مركز السياسة الأمنية (CSP)، يتفاخر المنتسبون هناك بأن مالا يقل عن (220) عضواً في المجلس الاستشاري عندهم، هم في ذات الوقت، مقربون من الإدارة البوشية علاوة على أن سدس موارد المركز تأتي مباشرة من مؤسسات الدفاع. و من أهم الأسماء التي يمكن مصادفتها هناك: (دوغلاس فيث) الذي خدم لمدة تجاوزت الأربع سنوات، وكيلاً للسياسة في وزارة الدفاع. و هنالك أيضاً، المراقب المالي في البنتاغون، (دوف زاخييم) إلى جانب ذائع الصيت، المسمى (ريتشارد بيرل)، الذي شغل منصب قيادة مجلس سياسة الدفاع سابقاً، و الصديق القديم لوزير الدفاع: دونالد رامسفيلد.
سوف يطول بنا الحديث هنا؛ لأن الأمثلة كثيرة، و لكن واجب الاختصار لا يمنعنا من أن نشير إلى أكثر هذه المراكز ارتباطاً بالكيان الغاصب إلى درجة أنه يمكننا أن نقول عنه إن المقر الحقيقي لسفارة تل أبيب في واشنطن؛ هو المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (JINSA).
بقي فقط أن نشير هنا، إلى أنه لا ينبغي الخلط بين اللوبي الصهيوني و بين لوبي السلاح في أمريكا؛ لأن الحقيقة تفرض علينا أن نقول إنه و على الرغم من أن العلاقة بينهما هي في أكثر مراحلها وثوقاً و التصاقاً، إلا أنها من ناحية أخرى، أيضاً تعرف في هذه الأيام بالذات، مشكلات خطيرة خصوصاً بعد العدوان الأخير على لبنان، و ما جره ذلك من نتائج كارثية على الداخل الصهيوني خاصة و العلاقات بين واشنطن وتل أبيب من ناحية أخرى أيضاً، و لقد صارت المنتديات العلمية هناك، تتشجع على الخوض في موضوع الترابط بين العاصمتين إلى هذا المستوى غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية.
صحيح أن العلاقة القائمة هي علاقة مصالح و منافع متبادلة إلاّ أنها للدقة، ليست انصهاراً كلياً بمعنى أن هذا التناغم الكبير في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مع سياسات تل أبيب، مرده إلى التقاء المصالح بين هذه الأخيرة و بين صُناع القرار الفعليين هناك وراء الأطلسي. و إذا كان في هذا القدر ما هو كافٍ لأن تتحرك كل المقدرات الأمريكية في الاتجاه المعاكس لمصالح باقي دول المنطقة، إلا أنه في وسعنا أن نقول: إن هذا ليس قدراً محتوماً؛ لأنه في مقدورنا نحن العرب أيضا أن نتحرك، و نضغط لنحقق على الأقل، بعض التوازن خصوصاً، و أن حرب لبنان، دائماً، أثبتت للأمريكيين قبل الصهاينة، أن الحراك السياسي في الشرق الأوسط حقيقة فعلية، و معطى واقعياً لا يمكن التغاضي عنه، فهلا أدركنا المطلوب منا فعله
==============(19/279)
(19/280)
لملاحقة النفوذ الأمريكي والصيني
زيارة ساركوزي الجزائر.. مصالح فرنسا أولاً
الجزائر: فاروق أبو سراج الذهب
بوتلفيقة مع ساركوزي
فرنسا التي اغتاظت كثيراً لما وصفته ب"الزحف" الأمريكي والصيني باتجاه منطقة شمال إفريقيا، وفي الجزائر بالذات، سارعت في عهد ساركوزي إلى طرح مشروع "الاتحاد المتوسطي" لتعيد انتشارها والبحث عن منافذ جديدة لها في الضفة الجنوبية للمتوسط، بعدما استحوذت ألمانيا على كل الطرق المؤدية إلى دول أوروبا الشرقية، وبسطت الولايات المتحدة الأمريكية قبضتها على دول الساحل الإفريقي، في إطار مبادرة حلفها ضد الإرهاب.
لكن فرنسا ساركوزي، التي لا تريد ترك المجال أمام واشنطن وبكين، وتبحث عن عملاء لمشروعها الجديد القديم "الاتحاد المتوسطي"، لم تحمل في حقيبتها أي مشاريع جادة للمنطقة، بقدر ما تبحث عن تحويل الجزائر إلى سوقها التجاري الأول، وليس الاقتصادي، بصفة دائمة.
وتسعى للقفز على الماضي الأليم، من خلال تفضيل رؤية المستقبل فقط، عبر ضمان تدفق النفط وتحويل دول الضفة الجنوبية إلى شرطي، لمنع تدفق المهاجرين نحو أوروبا، وإشراكها مالياً في تنظيف بحيرة المتوسط من النفايات التي تنفثها مصانع أوروبا... وهي الركائز التي يعتمدها ساركوزي في بناء الاتحاد المتوسطي.
لقد نجح ساركوزي بمشروعه الجديد في دق آخر مسمار في نعش "معاهدة الصداقة الجزائرية الفرنسية"، التي طويت بصفة نهائية، والتي أثارت معارضة قوية في الجزائر من خلال "قانون 24 فبراير" الذي مجد استعمار فرنسا للجزائر، وقفز على مطلب الاعتذار الذي كانت تريده منه الجزائر.
فجاء ساركوزي ليؤكد عدم تقديم اعتذاره عن الماضي الاستعماري بذريعة؛ "أنني لا أريد أن أتسبب في جرح مشاعر الفرنسيين"، ومن يقرأ هذه الجملة يخيل إليه أن الجزائر هي التي احتلت فرنسا! في حين تأجل البحث في ملف التعاون النووي حتى عودة ساركوزي إلى الجزائر في نوفمبر القادم، وكهدية للجزائر وقّع الرئيسان على اتفاق إنشاء جامعة جزائرية فرنسية.
الشرطي الجنوبي
وتأتي الزيارة في إطار السعي الأوروبي، وخاصة الفرنسي لضبط عقارب ساعة منطقة غرب المتوسط على مقاس احتياجاتهم وانشغالاتهم، والبحث عن الكيفية المناسبة لجعل دول الجنوب، ومنها الجزائر، تلعب دور الشرطي؛ من أجل تأمين جنوب أوروبا، وبقدر ما ستكون عليه استجابة أهل الجنوب المتوسطي، ستأتي مكافأة باريس.
وإن كان ملف الهجرة هو القنبلة القادمة، لما له من ارتباطات مع التهريب، وربما بعض مظاهر الإجرام، فإن باريس وأوروبا عموماً لم تقدما الحلول العملية لإقامة تعاون فعلي، وقرار باريس طرد حوالي 350 ألف مهاجر إلى الجزائر، يدخل فيما يمكن تسميته "النمط أو الأسلوب الذي تريده فرنسا في محاربة الهجرة السرية"، بدعم دول الجنوب مالياً، وطرد المهاجرين من أراضيها.
صراع فرنسي أمريكي صيني
ويتساءل المراقبون عن مستقبل العلاقة بين فرنسا ودول المغرب العربي في مقابل دخول كل من واشنطن وبكين على الخط، وعلى أي وتر تضرب القيادة الفرنسية عندما تقترح مشروع الاتحاد المتوسطي، في ظل وجود مشروع الشرق الأوسط الكبير، وقبله "اتفاقية برشلونة" و"مشروع المتوسطية".
وعندما زار ساركوزي منطقة المغرب العربي، كان على رأس أجندته مشروع مهم وهو "الاتحاد المتوسطي". وبين "الاتحاد المغاربي" و"الاتحاد المتوسطي" يقف ملف الصحراء الغربية على مسافة واحدة من كلا المشروعين.
فماذا يعني أن تؤجل المغرب دبلوماسياً زيارة الرئيس الفرنسي إليها؟ وما مستقبل مسار التسوية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي؟
صعود الرئيس الجديد ساركوزي في فرنسا وما يحمله من رؤية لجمع دول شمال إفريقيا، تحت مظلة "اتحاد متوسطي" يقوى تدريجياً بهيمنة اليمين على المجلس النيابي الفرنسي، ويلقي على طاولة النزاع الصحراوي معطى جديداً، يتمثل في تسريع آلية التفاوض، ضمن الفضاء المتوسطي للتقريب بين الرؤى المتباينة.
صك على بياض
ولم تكتف الجزائر بإعطاء موافقتها على مشروع الاتحاد المتوسطى المقترح من قبل الرئيس الفرنسي، بل كشف نيكولا ساركوزي أن "الرئيس بوتفليقة أصبح مدافعاً شرساً عن هذا المشروع ومعه الرئيس التونسي زين العابدين بن علي"، وهو ما يعني أن ساركوزي، قد أخذ "صكاً على بياض"، حتى قبل أن تتضح جلياً معالم مبادرته؛ حيث أعلن نيكولا ساركوزي في ختام زيارته لتونس أنه تلقى الضوء الأخضر من الرئيس بوتفليقة؛ بشأن انضمام الجزائر إلى مبادرة "الاتحاد المتوسطي".. هذا الإعلان الذي قدمه ساركوزي بمثابة انتصار كبير للدبلوماسية الفرنسية في العهد الجديد، في وقت التزمت فيه السلطات الجزائرية الصمت، ولم تبد أي موقف بخصوص المشروع المطروح من طرف ساركوزي، في أعقاب زيارته القصيرة إلى الجزائر.(19/281)
ومن شأن الموقف الجزائري الداعم لمشروع الاتحاد المتوسطي أن يسهل الطريق أمام ساركوزي في شرحه للمبادرة لبقية الدول الأخرى، ويجعله يربح الكثير من الوقت مع الشركاء الآخرين الذين سيزورهم رئيس دبلوماسيتها "برنار كوشنار" لعرض مشروع ساركوزي الذي وعد بعقد قمة للرؤساء المنخرطين في المبادرة في النصف الأول من عام 2008م.
ويكون نجاح ساركوزي في الحصول "نعم" الجزائرية، وراء تأجيل كل المباحثات المتعلقة بالتأشيرات، الغاز، الذاكرة والشراكة الاقتصادية إلى موعد جديد آخر لزيارة دولة تدوم ثلاثة أيام يقوم بها للجزائر في شهر نوفمبر، ووصفت جريدة "لوموند" هذه الزيارة بأنها "أسعدت كثيراً المسؤولين الجزائريين" النتيجة الملموسة الوحيدة في زيارة ساركوزي المغاربية..
مستقبل مشروعات الطاقة: ويتوقع الخبراء أن يحظى موضوع التعاون الفرنسي الجزائري في مجال إنتاج ونقل الغاز وتزويد السوق الفرنسي بالغاز، أن يحظى بحيز واسع على أجندة الطرفين، إلى جانب موضوع الاتحاد المتوسطي، إحدى أوراق الرئيس الفرنسي الانتخابية.
ويطرح الشارع الجزائري العديد من التساؤلات حول الخلفية التي تحكم مثل هذه الأجندة؟ وما ستقدمه الجزائر من رؤى لفرنسا في ضوء الخلاف الذي نشب بين الجزائر وإسبانيا المنافس الشرس لفرنسا على سوق الطاقة في المتوسط؟
يرى الخبير الاقتصادي الجزائري بشير مصطفى أن دراسة التركيبة السكانية المتوقعة في دول الاتحاد الأوروبي للعام 2030م تؤكد ملامح أزمة حقيقية، ستمس وقود التدفئة لملايين السكان في أوروبا..
وتشير الأرقام إلى أن دول الاتحاد الأوروبي ستشهد انخفاضاً في الإنتاج المحلي من الغاز، يقدر بنحو 30% (من 239 مليار متر مكعب حالياً إلى 173 مليار متر مكعب)، في الوقت الذي يزيد فيه الطلب على الغاز بنسبة 24% (من 537 مليار متر مكعب حالياً إلى 666 مليار متر مكعب العام 2030م)، معنى ذلك بلغة الحساب الاقتصادي تفاقم تبعية الاتحاد الأوروبي للخارج بنسبة تقدر بحوالي 23% (من 57% حاليا إلى 80% العام 2030م).
وللحفاظ على الوضعية الحالية تفكر دول الاتحاد الأوروبي في تأمين إمدادات الوقود عن طريق الاستحواذ على حصة جديدة من سوق الطاقة في العالم لا تقل عن 23% من حصتها الحالية.
وعلى هذه الخلفية اتخذت إسبانيا موقفها من مشروع "ميد غاز" الجزائري الإسباني، وهو موقف متبدل لكنه متكيف مع معطيات جديدة برزت إلى السطح. فالإسبان حسموا أمرهم عن طريق اللجنة الوطنية للطاقة الإسبانية، وهم مستعدون للتضحية بالمشروع كله أمام البدائل التي مازال يصنعها الحراك الدولي في مجال الطاقة، ولاسيما دخول روسيا على خط مضاعفة تصدير الغاز إلى أوروبا.
والملاحظ على الطرفين الإسباني والفرنسي، أن الأول يفضل الحل التقني الذي تضعه اللجنة الوطنية للطاقة في إسبانيا بعيداً عن الموقف الدبلوماسي، بينما تفضل فرنسا الحل التفاوضي على أعلى مستوى سياسي.. فهل تستمر الجزائر في محاولة كسر جمود الموقف الإسباني؟ أم أنها ستستثمر زيارة الرئيس الفرنسي لتقنع الشركة الفرنسية "غاز دي فرانس" بشراء حصة الطرف الإسباني؟
في كل الأحوال نشهد حالياً تحولاً في خريطة الطاقة الجزائرية من بلد مصدر للنفط، إلى مصدر للغاز مع ما يحمله ذلك من دلالات. ومعنى ذلك أن يستمر البلد كساحة صراع بين عملاء الجزائر القياديين على ما تبقى من احتياطي للغاز، وكل طرف يرغب في حصة أكبر لمدى أبعد من دول تشير جميع الدراسات إلى أن احتياطياتها من الطاقة لن تستمر لأكثر من نصف قرن آخر.
===============(19/282)
(19/283)
الطابور الخامس!
التطورات المثيرة والخطيرة التي شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة خاصة ما يجري على الساحة الفلسطينية تؤكد أن الطابور الخامس الذي تعاني منه الأمة أصبح مرضاً مزمناً يهددها في عقيدتها ودينها واستقلالها، بل ومستقبلها. ومع كل أزمة كبرى نتعرض لها بتنا نجد دوراً خبيثاً يلعبه هذا التيار لتأجيج الأزمات وصناعة الفوضى، ودفع الأمور نحو ما يريده أعداء الأمة.
إن منظومة هذا الطابور الخامس مركبة ومتنوعة في أدوارها ومخططاتها التي تعبث في السياسة والاقتصاد وفي الفكر والثقافة والتعليم، وهي إن بدت متباعدة إلا أنها تخدّم على أجندة واحدة في تناغم وتنسيق.. أجندة المشروع الغربي الصهيوني المعادي للمشروع الإسلامي ولهويتنا وحضارتنا بل وديننا وعقيدتنا.
وبنظرة فاحصة وشاملة لخريطة الأوضاع في المنطقة نجد آثاراً لسموم هذا الطابور، فعلى صعيد الصراع العربي الصهيوني لم يعد خافياً أن تيار التطبيع والصلح مع العدو الصهيوني الذي تمثله بعض الحكومات ويضم مجموعات من الساسة والمثقفين والاقتصاديين ذوي الصلات مع العدو الصهيوني هذا التيار يعمل منذ مبادرة السادات للقدس عام 1977م، على جر الأمة نحو الصلح مع العدو، وتقديم التنازلات تلو التنازلات، كما يقود حملة ضد تيار المقاومة المشروعة التي يقرها القانون الدولي.
ومنذ ظهر هذا التيار على السطح، فإن رصيد إنجازته لصالح القضية الفلسطينية معدوم بينما رصيد خدماته للمشروع الصهيوني متزايد، على حساب حقوق الشعب العادلة، وما كشفته الأحداث الأخيرة في غزة يؤكد أن التيار الخياني المتصهين داخل حركة فتح التي تضم تياراً شريفاً واسعاً يمثل رأس الرمح لتيار التطبيع والانبطاح والهرولة.
إن هذا "الطابور الخامس" يلقى دعماً مالياً ورعاية سياسية من الغرب في كل المجالات. ومن يراجع الأوضاع في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، يكتشف بسهولة قيادات هذا التيار الذين يقومون بأدوار متشابهة في بلادهم. والمثال الأوضح أمام العالم.. "قرضاي" في أفغانستان، والحكومات العراقية المؤيدة للاحتلال في العراق، والأنظمة الموالية التابعة للمشروع الغربي في العديد من البلاد الإسلامية التي تعمل لخدمة الأجندة الغربية الأمريكية في مجالات التعليم والاقتصاد والسياسة، ونشير في هذا الصدد إلى الحرب الشعواء التي شنتها الولايات المتحدة والغرب عموماً بعد أحداث سبتمبر 2001م لتجفيف منابع التعليم الإسلامي وتصفية مناهج التعليم بصفة عامة من كل ما يبين حقيقة اليهود والصهاينة.
كما نشير في نفس الوقت إلى مشروع "الجسور الثقافية" الذي تبناه الكونجرس الأمريكي في 10-5-2002م بميزانية 75 مليون دولار وهو مخصص وفق مقدمي المشروع من أعضاء الكونجرس، لتعزيز قدرة الولايات المتحدة على غربلة ومراقبة الطلبة الأجانب.. وصياغة مواقفهم من أمريكا، وتعليمهم القيم الأمريكية، لأنهم قادة الغد في العالم الإسلامي، وفق نص المشروع.
كما نشير إلى مشروع "إصلاح التعليم في الشرق الأوسط" الذي تشرف عليه إليزابيث تشيني والصادر من الكونجرس في 19-4-2005م ويهدف وفق الرؤية الأمريكية إلى "القضاء على انجذاب الشباب إلى التطرف"!!..
تلك نماذج من المشاريع الجاهزة في مجال التعليم التي تصدَّر إلينا ويقوم على رعايتها والترويج لها وتنفيذها، الطابور الخامس بهدف اقتلاع الأجيال من عقيدتها وتذويب هويتها وإلحاقها بالثقافة والفكر الغربي.
إن هذا الطابور الخطير بات منتشراً في كل مفاصل المجتمعات العربية الإسلامية تحت مسميات عديدة وشعارات براقة كاذبة. وقد استطاع بفضل الدعم الغربي والأمريكي بصفة خاصة اختراق مؤسسات المجتمع المدني، وقد أشار مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي طرحته الولايات المتحدة قبل سنوات إلى أهمية الطابور الخامس بين هذه المنظمات بالقول: "إن أفضل الوسائل لتشجيع الإصلاح هي عبر منظمات فاعلة للمجتمع المدني ولابد من زيادة التمويل المباشر لها ورفع كفاءتها"... ونشير في هذا الصدد إلى أن هذا النوع من منظمات المجتمع المدني المدعومة أمريكياً هو الذي قاد ما يسمى بالثورة البرتقالية في أوكرانيا، وأسقط النظام وجاء بحكومة موالية للولايات المتحدة... وما أكثر هذا النوع من المنظمات في منطقتنا العربية.
وهكذا تتجلى خطورة هذا الطابور وخطورة الدور الذي يقوم به والمخططات التي يعمل للتخديم عليها، وكلها تصب في صالح المشروع الغربي الصهيوني الاستعماري، لكن صحوة الشعوب وفي القلب منها التيار الإسلامي بمشروعه الكبير تقاوم هذا الطابور مقاومة شريفة..
ويوماً بعد يوم يزداد إدراك الشعوب لحقيقة هذا الطابور ويزداد التفافها حول التيار الإسلامي والوطني لمقاومة هذا الطابور. وإنها لمنتصرة بإذن الله
==============(19/284)
(19/285)
كسر شوكة الإسلام هدفهم ..
الأسرة المسلمة في فخ العولمة
القاهرة: هناء محمد
العولمة.. النظام العالمي الجديد.. القرية الكونية.. الشرق الأوسط الكبير.. مصطلحات مختلفة، اتفقت على هدف مشترك.. وهو كسر شوكة الإسلام، وهدم نظام الأسرة التي يتفرد هذا الدين العظيم برؤية عبقرية لها عجز الغرب، رغم عراقة حضارته، عن تطبيقها. وتقع المرأة في مركز دائرة الأسرة لتصبح المستهدفة الأولى بمخططات تحاك بليل لسلخها عن هويتها العقيدية، وتطويعها ثقافيًا لمقتضيات العولمة.
ورغم أن مصطلح العولمة قد شاع على الساحة الثقافية في العقدين الأخيرين، فإن تأسيسه الفعلي بدأ منذ عام 1965م في اجتماع المجمع المسكوني الثاني الذي نص على توحيد الكنائس تحت كاثوليكية روما لجمع صفها في مواجهة الإسلام واقتلاعه في عقد التسعينيات.
وفى عام 1978م انعقد المؤتمر المسكوني الثاني في كلورادو، ونوقش فيه أربعون بحثًا حول منافذ التسلل لتنصير المسلمين، وكانت المرأة والأسرة المسلمتان في مقدمة هذه المنافذ؛ استغلالاً لجهل بعض النساء بدينهن، وعدم حصولهن على حقوقهن كاملة، كما منحها لهن الإسلام، فضلاً عن سوء فهم بعض الرجال والمجتمعات لموقف الإسلام من المرأة، ومن ثم معاملتها بدونية، فكانت هذه الظروف مناخًا مهيئًا لتغلغل الفكر العلماني في نسيج الأسرة المسلمة، عبر عدة آليات يخدم بعضها بعضًا هي:
1 التمويل الأجنبي للجمعيات الأهلية النسائية لتكون أداة لتمرير مخططات العولمة.
2 الضغوط الاقتصادية لتفعيل وتنفيذ توصيات الاتفاقات الدولية الخاصة بالمرأة، ومقررات مؤتمرات الأمم المتحدة التي تروج للشذوذ ولأشكال من العلاقات المثلية التي تطلق عليها زورًا "أسرة"، كما تطالب برفع سن الزواج في مقابل خفض سن الممارسة الجنسية .
3 تسليع المرأة واستخدامها كوسيلة تسويقية، والتركيز عليها كأنثى في أغاني العرى الفاضحة.
ويلاحظ أن الآليتين الثانية والثالثة مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا، فمن خلال تشديد وثائق مؤتمرات المرأة على إلغاء التحفظات الدينية أو القيمية، ووصفها للدين بأنه مجرد نسق تراثي نابع من تقاليد المرأة الفقيرة، وكذلك النظر إلى الزوجية والأمومة على اعتبار أنهما من أسباب قهر المرأة، وإلى العمل المنزلي كجهد غير مربح، من خلال هذا كله وغيره وصل إلى المرأة مفهوم مغلوط عن الحرية، يجعلها تقبل التسليع، بل وتسعى إليه.
ليس هذا فحسب، بل إن بعض نساء المسلمين تحولن إلى أبواق لترويج مخططات العولمة، وبرامج الأمم المتحدة، واستراتيجيات تحرير المرأة عبر التطاول على ثوابت الدين، والمطالبة بإلغاء بعضها مثل: نظام الإرث، وشهادة المرأة والعدة، وقد شهد مؤتمر "مائة عام على تحرير المرأة" الذي عقد في القاهرة عام 2000م مواجهات ساخنة بين العلمانيات والإسلاميات، بعد أن جاهرت بعض العلمانيات بهذه الأفكار، ووصفن الدين بأنه "عائق أمام تحرر المرأة وتحقيقها لذاتها"!
المرأة المسلمة بين تشدد والانحلال
والواقع أن التطرف العلماني في النظر إلى قضية المرأة والأسرة هو وجه واحد من نظرتين تتمزق المرأة المسلمة بينهما. والتطرف الثاني هو النظرة الضيقة المتشددة للمرأة، واعتبارها تابعة للرجل مجردة من الحقوق لا تتمتع بشرف المشاركة في تنمية وإصلاح مجتمعها، ولعل أوضح صورة لهذه النظرة مقولة: إن المرأة لا تخرج إلا ثلاث مرات طوال حياتها: من رحم أمها، وإلى بيت زوجها، ثم إلى القبر.
وبين هذين النظرتين تقع نظرة الإسلام الوسطية المعتدلة، التي تجمع بين احترام خصوصية المرأة كأنثى، والاحتفاء بها كإنسان في الوقت نفسه، تلك النظرة التي تسعى العولمة إلى تغييبها، والتعتيم عليها، وإحلال نظرة منفلتة متحررة من كل الضوابط مكانها.
انعكاسات العولمة على الأسرة المسلمة
يكشف التأمل الدقيق لأوضاع معظم الأسر المسلمة اليوم عن فجوة عميقة بين الصورة التي يرتضيها الإسلام لها، وواقعها الحالي، وذلك بسبب تسرب قيم العولمة إلى صميم الأسرة، لتصبح أهم ملامحها:
1 التفكك: فقد صار التماسك والترابط في كثير من أسرنا أثرًا بعد عين
2 النفعية: فلم تعد مصلحة الأسرة ككيان واحد تهم أفرادها، بل أصبح كل منهم أسير مصلحته الذاتية.
3 شيوع العقوق: فالبر والولاء للأبوين لم يعد قيمة متجذرة في نفوس الأبناء، الذين تحولت نظرتهم لآبائهم من التقدير إلى الاستهزاء، وصاروا يعتبرونهم متخلفي التفكير.
4 اختلال معايير الأبوة والأمومة: فكثير من الآباء يختزلون دورهم في الإنفاق متخلين عن مسؤولياتهم التربوية، وأدوارهم المعنوية في حياة أبنائهم، أما الأمهات فصرن يعتبرن أمومتهن عبئًا وتضحية غير مبررة، وأن أعمارهن التي أنفقنها داخل أسرهن ضاعت سدى.
5 تفسخ علاقات الجوار: فكم من أسر تتجاور في السكن ولا يعرف بعضها بعضًا، وقد يلتقون قدرًا في المصاعد أو أثناء صعود السلم، فلا يتبادلون حتى التحية، ولم يعد الجار يتفقد أحوال جاره، ويتحرى احتياجاته، بل صارت كل أسرة جزيرة معزولة عن غيرها.(19/286)
6 انهيار قيمة الكبير: فالمسن الذي كان شيخ الأسرة وحكيمها ورأسها، صار ينظر إليه على أنه عبء وتراث يجب أن ينزوي في ركن؛ لكيلا يعطل مشاريع باقي أفراد الأسرة، ودخلت بيوت المسنين ضمن ثقافة المجتمع، بعد أن كان ينظر إليها كعار وشيء مشين. وتراجعت صورة الأسرة الممتدة التي يمثل الجد أو الجدة عمودها، كما انتشرت ظاهرة مسنِّي الشوارع الذين لا يجدون مأوى، أو الذين يعملون في مهن شاقة رغم شيخوختهم.
7 انتشار الجريمة الأسرية: فقتل الآباء للأبناء والأبناء لأمهاتهم وآبائهم، والأزواج للزوجات والعكس، وزنا المحارم وغيرها من الجرائم التي تقع في نطاق الأسرة الواحدة أصبحت عناوين شبه ثابتة في صفحات الحوادث.
8 صعود ثقافة الثراء بلا جهد: فمسابقات الهاتف السطحية، وشهادة المليون، وكوبونات السلع الغذائية وغيرها تكريس للخمول والوهن، والتقاعس والقعود، ولقيمة تحقيق الثراء بلا أدنى جهد، وانتظار الفرص دون السعي إليها، وكلها مفاهيم صدرتها لنا العولمة المرتكزة على تقديس المادية والفردية والانتهازية والكسب السريع.
9 غياب المفهوم الحقيقي للحرية: فبينما يطرح الإسلام قيمة الحرية الملتزمة بضوابط الشرع في إطار قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" أفرزت العولمة فهمًا فوضويًا للحرية التي تجاوزت المسلك الشخصي إلى السلوك الجنسي، فبدأ الإعلام يروج لفكرة الملكية الخاصة للجسد، وعدم ارتباط عذرية الفتاة بالبكارة. وبدأت بعض الأفلام تقدم شخصية المثلى أو الشاذ، وتدافع عن اختياره.
10 النظر إلى الالتزام الديني كقيد: فكثير من الآباء والأمهات أصبحوا يعتبرون اتجاه أبنائهم نحو التدين قتلاً لفرصهم في العمل والحياة، وساعد على ذلك ما تلاقيه المحجبات من صعوبات في الحصول على وظائف، فضلاً عن الاضطهاد والملاحقة الأمنية لأبناء الحركات الإسلامية، مما جعل الدين يتحول إلى مجرد طقوس تعبدية لا انعكاس لها على سلوك الفرد وأخلاقه، وهذا هو صلب أهداف العولمة، تنحية الدين عن الحياة، وفصله عن تفاعلات الحياة اليومية وحبسه في دور العبادة.
11 الأخذ بفكرة مراكز إيواء المعنَّفات: هذه الفكرة مهدت لها وثائق الأمم المتحدة الخاصة بالعنف ضد النساء، ويمثل وجودها في بعض الدول العربية طعنة في مقتل لقيم التكافل الاجتماعي والحلول الإسلامية للمشكلات الأسرية، وتكريسًا للعداء المزعوم بين الرجل والمرأة، وفصمًا للعلاقات الأسرية، خاصة إذا ارتبط الإيواء ببرامج فكرية وثقافية لتزييف وعى من تؤويهن هذه البيوت، وتعبئتهن بأفكار تدعو إلى التمرد على الأسرة ورفض الانصياع للقيود الاجتماعية والأخلاقية وهو عين ما ترمى إليه العولمة.
ومن هنا يتضح لنا أن العولمة لا تقتصر على تعميم القيم الاقتصادية وأنظمتها، بل إنها أخذت فعلاً تعمم القيم الثقافية التي تكوّن لب حياة المجتمع، وبخاصة القيم الأخلاقية.
والثقافة التي تملك وسائل الاتصال القوية ووسائل صناعة الثقافة والرقابة عليها هي التي أخذت تهيمن اليوم عن طريق القنوات الفضائية والإنترنت، مما يؤدى إلى غلبة نماذج معينة من القيم الأخلاقية وأنماط معينة من السلوك والذوق، وخاصة عند الأطفال الذين لم تتكون لديهم ملكة النقد، والحصانة الذاتية، فيقعون فريسة سهلة لما يعرض عليهم من صور مؤثرة، وأغان ورقص، وغيرها من أنماط الاستهلاك عن طريق الإعلانات المكررة والصور الجميلة المؤثرة، مما يؤثر تأثيرًا واضحًا على المعتقدات والقيم .
وربما أدى هذا الاكتساح للقيم، وهدم العلاقات الأسرية، والهجوم على المرجعيات والقيم الثقافية إلى رد فعل، يتمثل في تفجير أزمة الهوية فيرجع الناس إلى التقاليد القديمة والعصبيات القبلية أو القومية الضيقة، التي تؤدى إلى سلوكيات، ربما تكون أسوأ مثل التطهير العرقي، والاحتماء المتشدد بالثقافة القومية، وعدم الانفتاح الواعي على سواها.
=============(19/287)
(19/288)
هلا ّ انتهزنا الفرص السانحة!
د. توفيق الواعي
da r elbhoth*otmail.com
توفيق الواعي
كم من دروس انتهت ولم يستفد منها أحد، وكم من عبر مرت ولم تعِها الشعوب اللاهية، وكم من فرص ضاعت ولم تتعظ بها الأمة، لا في ليلها ولا في نهارها، وكأن هذه الدروس والعبر والفرص تنادينا كل يوم ينشق فجره: "يا مسلم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة"، ولكن لا مجيب.
وكم من نعم أسبغها الله على عباده، عمي عنها الناس ولم يستعملوها فيما خلقها الله من أجله، فضاعت ومرت، وسبقنا إليها غيرنا واستفاد منها سوانا ونحن نائمون، وهذا يخالف شريعتنا وطبيعة تعاليمنا.
قال الله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات( البقرة: 148)، وقال تعالى: وسارعوا إلى" مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين 133 (آل عمران)، وقال تعالى: سابقوا إلى" مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله... 21(الحديد)، وقد شاء الله سبحانه أن يعلمنا توجهات الأمم المتخلفة منها والسابقة، فقال سبحانه: ثم أورثنا الكتاب الذين \صطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير 32 (فاطر) والسابقون ما سبقوا إلا بطبيعة قادرة وعزم شديد؛ لأنهم يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون 61 (المؤمنون).
هذا وقد نبهنا رسول الله { إلى اغتنام الفرص، واقتناصها قبل فواتها، حيث قال: "اغتنم خمسا قبل خمس، حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك".
إن قلب المؤمن يحس آلاء الله في كل نَفَس وكل نبضة، ويرقب نعمه بكل مشاعره وقواه، وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات، وهم السابقون لها فينالونها ويكونون في الطليعة بهذه اليقظة، وبهذا التوجه وبتلك الأعمال والإنجازات.
تلك اليقظة التي يفرضها الإسلام على المسلم، ويستجيشها الإيمان بمجرد استقراره في القلوب. وهي ليست تكاليف فوق الطاقة، ولقد شرع الله التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس وقدراتها لا نكلف نفسا إلا وسعها (الأعراف:42)، وإنما يتخلف المتخلفون، ويضل العاجزون لأن قلوبهم في غمرة عن الحقائق، وفي لهو عن الفرص والنعم، لانشغالها بالتافه واندفاعها في التيه والضياع، فلا تفيق مجتمعاتهم إلا على الهول لتلقى التوبيخ والتحقير الذي تستحق: بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون 63 حتى" إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون 64 (المؤمنون).
فالعلة ليست في صعوبة الاغتنام وإنما لأن قلوبهم في غمرة، ولاترى الفرص أو الخيرات، ولهذا فهم دائماً ينتبهون ويفيقون على الكوارث المباغتة والمفاجئة، فيجأرون ولا من مجيب، والناظر إلى جؤار أمتنا اليوم التي تلازمها الكوارث وتباغتها النكبات، يقول: أين كانت هذه الأمة صاحبة المجد التليد والقرآن المجيد، والتعاليم الباعثة، والتوجهات الناهضة ولم تستغل فرصها وعقولها فيما ينفعها ويمنع عنها السوء والفحشاء؟! ولمَ نامت عن كل شيء نافع، وكل عمل سديد؟! ولمَ رضيت بالذلة وتركت العزة، ورضيت بالمسكنة وكرهت الرجولة، وتخلت عن الإنتاج ومدت الأيدي بالاستجداء، وعجزت عن إعداد السلاح واكتساب القوة حتى ضربت على أم رأسها وقفاها؟!
وكيف تخلت عن التكنولوجيا، وعشقت الأمية العلمية والبحثية، وتاهت عن علمائها ونبغائها، بل طاردتهم وعادتهم وحرضت عليهم، وولت أمورها العلمية لفقراء المواهب ومرتزقة المناصب، وكذابي النهضات؟
وكيف ضاع اقتصاد الأمة، فلا صناعات، ولا زراعات، ولا تجارات، ولا استغلال للخامات، ولا انتفاع بالأيدي العاملة، ولا بالفرص المتاحة؟
وكيف تحكّم في الأمة التيه السياسي، وضاع منها التدبير الصالح والفهم الحكيم للأمور؟ وكيف قطعت الألسن وكبتت الآراء، وانقلب المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وانقلب النصح إلى عداوة، وضاعت كلمة الحق؟ وكيف ساد النفاق وارتفع متملقو السلاطين وكذابوهم، فضاعت الرؤى المستقبلية وتاهت كلمات النور في الظلام الدامس!
وها نحن أولاء اليوم نباع ونشترى وتمر بنا الفرص تلو الفرص ونحن في غفلة ساهون وفي عماية سادرون، جاءتنا فرصة الغزو العراقي، وكان العراق هو المستنقع الذي أطار صواب أمريكا وأضعف شأنها واحتاجت فيه إلى منقذين، ولم نستغل تلك الفرصة أو نستفد منها أو نشترط فيها، بل ازداد خضوعنا وغباؤنا.
وجاءت حرب لبنان وخرج "الصهاينة" ومعهم "أمريكا" من الحرب بهزيمة منكرة وفضيحة مدوية، بعد أن كانوا قد أعدوا العدة لتنفيذ الشرق الأوسط الكبير، وتقسيم بلادنا بما تمليه "إسرائيل"، وكان ينبغي على الجميع أن يستغل ضعف "إسرائيل" وخيبتها لفرض شروط معينة في القدس وفلسطين، ولكن خاب التوقع .(19/289)
وجاءت أكبر الأثافي، وهي وقوف حماس في فلسطين ضد اليهود، ووقوف الشعب الفلسطيني بجانبها بدون مساعدات من أحد، ونجحت حماس في تأليف حكومتها المنتخبة، وجن جنوننا وزاد أسفنا لهذا النجاح الباهر، بل تعداه إلى حرب معلنة لصالح العدو، حتى نعترف ب "إسرائيل" دون أن تعترف بنا "إسرائيل"، وخضعنا مرة أخرى وأخرى حتى تمرغت الأنوف في الأوحال، بحصار الشعب الفلسطيني وتجويعه حتى يرفع الراية البيضاء، وزاد على ذلك تحريض الغوغاء على هذا، بل وتحريض السلطة الفلسطينية على المجاهدين ومحاولة إسقاط حكومة المخلصين بالاستعانة ب "إسرائيل". بدلاً من أن تكون حماس هي طليعة الأمة المجاهدة التي تتحمل عبء التحرير والجهاد ولكنه يُراد لها الخذلان ويستعان عليها بسلطة فلسطينية فاسدة ومتآمرة، وبخونة عششت فيهم طيور العمالة، وبكثير من العملاء الذين ربتهم "إسرائيل" على يديها وتحت رعايتها، فهل يمكن لهؤلاء الذاهلين من أمتنا أن يقتنصوا الفرص ويفقهوا الدروس والعبر خاصة أن الدروس ما زالت في الساحة والعبر ما زالت تتجلى وتُظل الأجواء، وهل يفهم المناكيد الدروس؟ نسأل الله ذلك.
=============(19/290)
(19/291)
لهذا يحاربون الإسلام ..
ويسعون للقضاء على المسلمين (1 من 2)
الداعية الروسي شامل سلطانوف : مجتمعات الغرب تتآكل وهذا سر حربهم على الاسلام !
دراسة بقلم:د. شامل سلطانوف
غلاف المجتمع العدد 1702
مجلة المجتمع / "المجتمعات الغربية تتآكل من الداخل.. وشمسها إلى غروب".. هذه ليست أوهام وإنما حقائق تؤكد كل الوقائع الماثلة على الأرض بين جنبات تلك المجتمعات.. بينما المجتمعات الإسلامية رغم تخلفها تقوى وتزداد تماسكاً ويتزايد تعدادها.
في المستقبل القريب يتزايد الفراغ الاجتماعي وينقرض النسل في الغرب والمؤهل لملء ذلك الفراغ هو الإسلام والمسلمون.. ولهذا يشن الغرب حرباً لا هوادة فيها على الإسلام والمسلمين.
والدراسة التي بين أيدينا للسياسي الروسي المسلم شامل سلطانوف عضو البرلمان الروسي والخبير السياسي .. تجسد بالأرقام والإحصاءات حال الغرب ومستقبله.. وتحلل من وجهة نظر جديرة بالتأمل فحوى تلك الحرب الدائرة على الإسلام في الغرب.
على تخوم خمسينيات القرن العشرين بدأت في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ما يصح أن نسميه "الثورة الجنسية العظمى". التي كانت عظمى حقاً بطريقتها الخاصة، ثورة أدت إلى تغير جذري في السلوك الجنسي للإنسان في المجتمع المتطور صناعياً، وبدلت العديد من القيم الأخلاقية، والثقافية، الأسرية، والاجتماعية، بشكل مأساوي، وبالنتيجة ابتلعت حضارة العولمة الغربية حتى مطلع القرن الحادي والعشرين وبصورة نهائية ما تبقى من مدنية عظيمة في أوروبا وأمريكا "الشمالية".
الثورات الجنسية في المائة وخمسين قرناً الماضية، باتت مؤشراً له دلالته على استمرار أزمة الديانة المسيحية وعملية الانحدار الديني في أوروبا: "عندما تغيب الآلهة، لا يبقى سوى الأعضاء التناسلية التي يتمكن المرء دوماً من مداعبتها ليقضي على ملله"! إن الحضارة الغربية ومنذ زمن بعيد لم تعد حضارة مسيحية، إلا أن "الثورة الجنسية العظمى" بالذات غدت ومنذ الستينيات الخطوة الحاسمة في نشوء وثنية جديدة مبدئياً، هي الوثنية العالمية للحضارة الاستهلاكية.
من الذي أوقد هذه الثورة ولأي غرض؟، ولماذا في النصف الثاني من القرن العشرين بالذات؟ ليست هناك أجوبة مقنعة وقاطعة على هذه الأسئلة حتى الآن، كما أنها لم توجد من قبل.
... إن تفسير الأمر بمجرد الصدف، هو في رأيي ليس بمسلك للمثقف الجريء.
تاتشر وأربكان...
آنذاك، وفي ستينيات القرن الماضي بالذات، أخذت تظهر في مطبوعات النخب الغربية دراسات وبحوث سياسية تتحدث بمزيد من القلق عن "الصحوة الإسلامية" التي أخذت بالنهوض. وقد أسفرت الأزمة النفطية العالمية في 1973 1975م عن تزايد الضغوط السياسية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية والعسكرية على العالم الإسلامي، وبعد اختفاء الاتحاد السوفييتي من الخريطة السياسية انتقلت تلك الضغوط إلى طور جديد.
في نوفمبر 2004م جمعني لقاء في أنقرة مع رئيس وزراء تركيا الأسبق السيد نجم الدين أربكان الذي أخبرني عن حادثة لها دلالة كبيرة، ففي بداية التسعينيات وأثناء إحدى قمم الناتو التي تدارست في موضوع نتائج انتصار الغرب النهائي على الاتحاد السوفييتي التفتت "السيدة الحديدية" مارجريت تاتشر فجأة إلى أربكان الجالس قربها وقالت: "الآن جاء دوركم". وميم الجماعة هذه تعني العالم الإسلامي، حيث عُرف أربكان آنذاك بمواقفه المشجعة للتضامن الإسلامي العالمي الشامل.
في خريف العام 1992م أقدم الغرب على عدوان سياسي مباشر، حين ألغيت وبفظاظة وبصورة غير مشروعة نتائج الانتخابات البرلمانية في الجزائر، مما أشعل فتيل حرب أهلية هناك راح ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين.
إن المشكلة الرئيسة بالنسبة للمؤسسة العليا أو النخبة في الحضارة الغربية هي الإسلام كدين سماوي عالمي، وليس الأصولية الإسلامية أو الغلو أو التطرف الإسلامي. في كتابه الشهير "صراع الحضارات" الذي يتوقع حتمية الصدام بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي أبدى س. هنتتجتون استدراكاً أو تحفظاً له دلالة كبيرة حين قال: "إن المشكلة الأساسية للغرب ليست هي الأصولية الإسلامية، بل هي الإسلام نفسه، الحضارة الأخرى..."
ر. بايبس بدوره يؤكد بشكل خاص على "الصراعات الحادة بين الإسلام والعصرنة (الحداثة) في القضايا الاقتصادية".
بعد التعليل الأيديولوجي لحتمية الصراع بين الحضارات، جرى تفجير البرجين في الولايات المتحدة وكأنما بطلب مسبق ، فيما ترك "الإرهابيون العرب" كأنما نسوا أن يأخذوها نسخاً من القرآن الكريم، في أكثر الأماكن اكتظاظاً بالناس. وانتقلت أمريكا، على رأس الجبهة الغربية، وبشكل سافر إلى شن هجوم عسكري على العالم الإسلامي. استولت فيه على أفغانستان والعراق واحتلت أراضيهما. وخيم خطر الغزو العسكري على سورية وإيران. واجتاحت موجات الحقد على الإسلام.. الأقطار الغربية الرئيسة، فيما يعلن بوش عن حتمية "الحرب طويلة الأمد لعقود من السنين على الإرهاب الإسلامي".
وباتت الهجمة واسعة النطاق على الإسلام واقعاً ملموساً في بداية القرن الحادي والعشرين.(19/292)
توضحت حقيقة وأهداف الحرب المعلنة على العالم الإسلامي، في مشروع الولايات المتحدة بعيد المدى لنشر الديمقراطية في "الشرق الأوسط الكبير"، يريد الغرب أن يبدل الإسلام الحقيقي "المشاكس" بإسلام "ليبرالي ديمقراطي، غير مشاكس"، ويريد أن يستبدل القرآن الحقيقي "السيئ" بقرآن مصحح "محرر" في إحدى الجامعات الأمريكية العريقة، ليزيد من تشرذم العالم الإسلامي، ويسرِّع في قضم أهم أجزائه "خاصة تلك الغنية بالنفط والغاز" ضمن الحضارة الغربية، هذا الأمر الذي وجد تجسيداً واضحاً له في التقرير الذي أعدته مؤسسة "راند كوربور يشن" الأمريكية بعنوان "العالم الإسلامي بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م".
المجتمع المتمدن هو الذي يحكمه الأطفال
حتى عام 1960م بلغ عدد سكان البلدان الغربية المتطورة صناعياً 750 مليون نسمة، وخلال الأربعين عاماً التالية "وهي فترة ظهور إفرازات ونتائج الثورة الجنسية في الستينيات" توقف تكاثر السكان في هذه البلدان، وبدأت في الواقع عملية تآكل في أعداد السكان الأصليين. فمن بين ال47 دولة أوروبية ليس هناك سوى بلد واحد هو ألبانيا الإسلامية سجل في سنة 2000م، مستوى مواليد كافياً للحفاظ على الأمة، أما باقي القارة أوروبية فهي في سبيلها إلى الانقراض.
في سنة 1960م كان السكان الأوروبيو الأصل يشكلون ربع سكان العالم، وفي سنة 2000م باتوا يشكلون السدس. وفي سنة 2050م سيشكلون عشر سكان العالم فقط. وفي نهاية القرن الحادي والعشرين سيعيش في أوروبا 207 ملايين شخص فيما لو بقيت توجهات النمو السكاني على حالها الآن، ومن دون حساب الوافدين. ومن بين سكان ألمانيا ال82 مليوناً سيبقى في عام 2050م أقل من 50 مليوناً. وفي عام 2100م سيتقلص هذا العدد إلى 38.5 مليون نسمة. أما سكان إيطاليا فسيتقلص عددهم في نهاية القرن الحالي إلى 41 مليوناً، فيما يتقلص سكان إسبانيا بمقدار الربع، ويتقلص عدد سكان أوروبا بأسرها بمقدار ثلثين.
وستطرأ تبدلات سكانية على المجاميع من مراتب الأعمار المختلفة. ففي سنة 2000م، كان يعيش في أوروبا 494 مليون نسمة في عمر يتراوح بين 16 و65 سنة. وفي عام 2050م سيتقلص عددهم إلى 365 مليوناً، وخلال خمسين عاماً سيتغير التناسب بين العاملين والمتقاعدين من 1:5 إلى 1:2، وتؤدي الشيخوخة المتسارعة للسكان من الآن إلى أعباء اجتماعية متزايدة على ميزانيات الدول المتطورة. وبعد عشرين أو ثلاثين عاماً يمكن لهذا التسارع في الشيخوخة أن يؤدي إلى عواقب كارثية بالنسبة للاقتصاد الأوروبي كله.
وللحيلولة دون هبوط المستوى المعيشي الحالي "الأمر الذي يهدد بتقلبات اجتماعية وسياسية مصيرية" لابد لدول المجتمع الأوروبي من أن تزيد توارد الوافدين لدرجة كبيرة، وبشكل المسلمون جزءاً كبيراً منهم.
وفي الوقت الحاضر يتزايد عدد المسلمين المهاجرين إلى أوروبا وإلى الغرب عموماً رغم الوقوف بوجه هذا السيل سياسياً وحقوقياً وثقافياً. ففي فرنسا يقيم اليوم 5.8 ملايين مسلم، وفي بريطانيا 1.6 مليوناً، وفي الولايات المتحدة 7 ملايين، وفي إيطاليا مليون وفي ألمانيا 1.5 مليون وهلمجرا. ويقيم في أقطار الاتحاد الأوروبي عموماً أكثر من 15 مليون مسلم، وينتظر أن يزداد هذا العدد إلى 40 مليوناً في عام 2015م.
علماً بأن حركية تكاثر السكان لا توفر إمكانية تأمين المستوى اللازم لأوروبا من الأيدي الأيدي العاملة. ولذلك فإن هجرة الأيدي العاملة إلى الأقطار الأوروبية الرئيسة ليست منة أو رغبة أو حسن إرادة من جانب النخب الأوروبية وليست محاولة لمساعدة المجتمع الإسلامي العالمي في حل مشكلاته الاجتماعية المعقدة، بل هي إجراء أوروبي أناني قاس. وقد اعترف أحد خبراء الاتحاد الأوروبي على الرغم من تحيزه ضد الإسلام "بأن اقتصاد العالم الأوروبي مزدهر على حساب توارد الأيدي العاملة ومعظمها من المسلمين".
أما الآفاق المستقبلية السكانية في روسيا الاتحادية فهي أسوأ من تلك، ذلك لأن:
أولاً: روسيا موضوعياً باتت بقدر كبير جزءاً من العالم الغربي من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والثقافية. ولذلك فإن مشكلة الهوية الروسية متأزمة الآن إلى أقصى حد.
كان اندماج الاتحاد السوفييتي وتكامله التدريجي ضمن الحضارة الغربية قد بدأ فعلاً من سنة 1961م، عندما أقر البرنامج الحزبي الجديد الذي رسمت فيه مهمة بناء الصيغة الشيوعية "للمجتمع الاستهلاكي" في الاتحاد السوفييتي.
ولم يسفر البحث الممض عن الفكرة القومية الروسية في السنوات العشر الأخيرة عن نتيجة. ومن الناحية الموضوعية لم تعد الفكرة القومية بحد ذاتها لازمة لروسيا التي أرغموها على التكامل والاندماج بالسوق الغربي الشامل وبالمجال الإعلامي العالمي الشامل والتي تقبلت القيم والمعايير الاستهلاكية المادية والثقافية والإعلامية الغربية.
ثانياً: لا تزال الأزمة البنيوية مستمرة في روسيا، وهي الأزمة التي تفرز تفاقم جميع الاتجاهات السلبية في البلاد، بما فيها المسألة السكانية الديموغرافية.(19/293)
ففي روسيا الاتحادية يتقلص العدد الإجمالي للسكان، بل يتقلص عدد القادرين على العمل. في عام 2010م ولكي تعوض البلاد عن شحة الأيدي العاملة ستضطر روسيا إلى زيادة حصة الوفادة الشرعية واستقدام من 700 ألف إلى مليون وافد سنوياً. وبعد خمسة وعشرين عاماً أخرى ستحتاج إلى حوالي خمسة ملايين وافد سنوياً لكي تحافظ على مستلزمات الحياة.
وتنشأ حالة غريبة عجيبة عندما يتطرق الكلام إلى تكاثر السكان بوصفه المعيار الرئيس لوجود إرادة الحياة أو غيابها.
فالفرد الغربي الذي يتمتع حسب الظاهر بالحرية الشخصية والعيش المرفه قد حل في الواقع كل مشكلاته الاجتماعية والاقتصادية وأدرك مغزى حياته المادية على الأقل ويكشف عن حيويته وإيمانه الراسخ بالمستقبل إنما المفروض أن يتزعم العالم من حيث مستوى المواليد، لأن الراضين على حياتهم لابد وأن يتناسلوا لينقلوا فرحة الحياة إلى الأطفال.
إلا أن الأمور تجري عن الضد من ذلك تماماً. ففي جميع البلدان الغربية المتطورة تقريباً يلاحظ من سنين تقلص مطلق في تعداد السكان. وإلى ذلك فإن نسبة المواليد تنخفض أيضاً عند الوافدين الذين تكاملوا مع الظروف الاجتماعية والإعلامية والمعيشية للمجتمعات الغربية.
=============(19/294)
(19/295)
القضية الفلسطينية: الواقع والآفاق
كتاب "القضية الفلسطينية: الواقع والآفاق" والذي أصدره المفكر الإسلامي غازي التوبة عام 2005م عن القضية الفلسطينية في الماضي والحاضر، جاء في خمسة أبواب.
حمل الباب الأول عنوان: "قضية فلسطين: الصليبيون في الماضي والصهاينة في الحاضر" واحتوى هذا الباب على فصلين، حمل الفصل الأول عنوان: "الحروب الصليبية: قراءة في عوامل الانتصار والهزيمة"، وحمل الفصل الثاني عنوان: "نقض دعاوى الصهاينة في فلسطين وإثبات دعاوى المسلمين فيها".
وجاء الباب الثاني تحت عنوان: "نشوء الصهيونية والتحرك نحو فلسطين"، واشتمل هذا الباب على مدخل وفصلين، حمل الأول منهما عنوان: "أضواء على نشوء الحركة الصهيونية"، وحمل الثاني عنوان: "المنظمة الصهيونية العالمية ودورها في إنشاء إسرائيل".
ثم جاء الباب الثالث تحت عنوان: "سقوط وصعود القومية العربية"، واحتوى على ثلاثة فصول عالجت الموضوعات التالية: سقوط الخلافة العثمانية ونتائج ذلك، القضية الفلسطينية وتطوراتها، حرب تشرين واتفاقات كامب ديفيد.
ثم حمل الباب الثاني عنوان: "الإسلاميون والقضية الفلسطينية"، واحتوى على ثلاثة فصول هي: قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وغياب الإسلاميين عن العمل الفدائي في الستينيات، وسبب ذلك ودور الإسلاميين في الانتفاضة الأولى التي انطلقت في نهاية عام 1987م.
ثم انتقل الكاتب إلى الباب الخامس الذي جاء تحت عنوان: "الأمة بين الامبراطورية الأمريكية وإسرائيل الكبرى"، وتناول الكاتب في هذا الباب الأحداث الغربية وجاء في ثلاثة فصول، حمل الأول عنوان: "الامبراطورية الأمريكية: قيادتها، أهدافها، وكيفية مواجهتها"، وحمل الثاني عنوان: "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، والثالث: "إسرائيل الكبرى".
ثم أورد الكاتب الخاتمة تحت عنوان: "القضية الفلسطينية: تقويم وآفاق"، تحدث فيها عن فشل التيار القومي العربي في تحقيق أي تقدم للقضية الفلسطينية بعد قيام إسرائيل عام 1948م، وبين فشل النهج الوطني الذي قاده ياسر عرفات والذي قام على اعتبار أن قضية فلسطين هي قضية الفلسطينيين فقط، والذي قام على عدم تبني أيّ نهج فكري لمعالجة قضايا الأمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية والنفسية والصحية... إلخ، ثم توقَّع الكاتب أن يتمكّن التيار الإسلامي من تحقيق تحوّل في مجال القضية الفلسطينية لأن هذا التيار يحمل الإسلام الذي يمكن أن يعبّئ جماهير الأمة ويدفعها إلى البذل والتضحية، ثم تحدث الكاتب عن آيات "سورة الإسراء" التي بشَّرت المسلمين بدخول المسجد الأقصى وطرد اليهود، حيث قال تعالى: وقضينا إلى" بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) (الإسراء).
وقد اعتبر الكاتب أن العلو الأول والإفساد الأول لبني إسرائيل والذي جاء مرتبطاً بدخول المسجد الأقصى كان بعد احتلال الضفة عام 1967م، لذلك فإن تحرير الأقصى مؤكد على يد فئة عابدة لله تعالى، كما قال تعالى: فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5) (الإسراء).
تأليف: غازي التوبة
الناشر: المكتب الإسلامي بيروت
الإصدار: 1426ه- 2005م
================(19/296)
(19/297)
محو الحضارة العراقية من التاريخ
د.أكرم عبد الرزاق المشهداني (*
ak r ammashhadani*ahoo.com
مخطئ من يظن أن السقوط الحقيقي الذي حدث في بغداد هو لحظة إسقاط (صنم ساحة الفردوس) ولكن الصحيح أنه كان في لحظة كسر أبواب المتحف العراقي تحت سمع ومشهد ورضا قوات الغزو الأمريكي، وترك المتحف نهباً للّصوص بأنواعهم، ولا يقصد بذلك الدلالة الرمزية لهذا الحدث المأساوي فقط، وإنما يؤشر كذلك إلى الدلالات الاعتبارية والاقتصادية في آن واحد.
إذا ما لاحظ المرء أن أصغر حضارةٍ عمراً في التاريخ (الولايات المتحدة الأميركية) قد فرضت الغزو والهيمنة على أقدم حضارة، تكون الدلالتان الرمزية والمادية متبلورتين أمام الناظر؛ لذا تؤكد وسائل الإعلام سوية مع المنظمات المتخصصة في العالم الغربي، على حقيقة مريرة مُفادها أن عملية النهب سواء كان المنظم أم الاعتباطي للمواقع الأثرية في العراق مازالت تجري على قدم وساق، إذ تستدل هذه الجهات على هذه الحقيقة عن طريق انتشار تجارة اللقى الأثرية والتحف الفنية العراقية التي لا تقدر بثمن في أسواق العالم، خاصة في الدول الغربية. هذا ما حدا بالصندوق العالمي للآثار لإدخال بلد بكامله (العراق) في حقل المناطق الأثرية المهددة. وهذا لا يشكل سوى الرأس المنظور من جبل الجليد الذي يخفي كتلته الأكبر مغمورة تحت مياه المحيط المظلمة!
وإذا ما كانت بعض اللقى والقطع الأثرية قد شوهدت في "التداول" بأسواق لندن ونيويورك وسواهما من العواصم التجارية الكبرى، فإن حجم أو كم هذا النوع من "السلع" الثمينة يبقى كبيراً وخافياً نظراً لأن تداولها محظور دولياً، ولأن هذه القطع الفنية تمثل العبقرية الجماعية لإنسان حضارة وادي الرافدين.
نهب تحت حماية الأباتشي
من يتذكر وقت اجتياح العراق ، يعرف تماماً كيف ساهمت هذه الدول وعلى رأسها أميركا بنهب الآثار العراقية جملة وتفصيلاً، ويعرف كيف كان يتم النهب المنظم بحماية الأباتشي والأسلحة الأميركية المختلفة وصورّت وقتها وسائل الإعلام هذا الحدث المهم ونقلوا الكاميرا إلى مقر وزارة النفط العراقية حيث احتشدت الدبابات الأمريكية تمنع حتى الموظفين العراقيين من الاقتراب من هذه الوزارة، يومها وبكل صفاقة طالعتنا "كونداليزا رايس" بتصريح استغربت فيه الحديث عن حماية وزارة النفط والسماح بنهب الآثار!!.. ومن ذلك اليوم حتى يومنا هذا شهدت العاصمة العراقية والمناطق الأثرية نهباً متزايداً للآثار، ومن الجدير ذكره أن بعض هذه القطع الأثرية ظهر في فرنسا ودول أوروبا، وبعضها الآخر تم ضبطه مع الجنود والإعلاميين الأميركيين الذي حاولوا تهريب هذه القطع إلى الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى إثر كارثة بل فضيحة نهب آثار العراق، فقد استقال رئيس اللجنة الاستشارية للبيت الأبيض للشؤون الثقافية مارتن ساليفن يوم 14 أبريل 2003 أي بعيد احتلال بغداد بأسبوع، معتبراً أن نهب متحف بغداد كان مأساة يمكن توقعها ومنعها. وقد أثار نهب المتحف استنكاراً دولياً وتعبئة واسعة من أجل منع تشتيت هذا التراث الذي يمثل ذاكرة البشرية.
مأساة مريرة: لاشك أن الحديث عن مأساة آثار العراق المنهوبة يمتزج بمشاعر عميقة ومريرة بسبب عدم اكتراث العالم المتحضر وهيئة أممه المتحدة ولا مجلس أمنه، لهذا الوضع المأساوي لحضارة أرض الرافدين التي تبتطن كل بقعة منها جزءاً من قصة الإنسان الأولى نحو بناء الحضارة الآدمية. بيد أن ما قيل ويقال حول هذا الموضوع يبقى حبيساً في الصفحات الثقافية التي تقرأ ثم تطوى، إذا ما قرأت من قبل أصحاب الشأن!!. هذا بحد ذاته مأزق للإنسان المرهف في كل مكان، خاصة إذا ما ارتقى بوعيه "الكوني" إلى مستوى الشعور بأن هذه المواقع الأثرية ليست ملكاً لأحد، فلا هي مُلك فقط لأحفاد السومريين والأكاديين والآشوريين والبابليين في بلاد الرافدين اليوم، بل هي من ممتلكات وتراث الإنسانية جمعاء، لأنها تقص أول قصة حدثت في التاريخ، حيث تم ابتكار الزراعة وتأسست أول قرية، ثم أول مدينة، وابتكرت أول عجلة في التاريخ، ومن هناك نشأت الكتابة، زد على ذلك قصة الصراع بين الإنسان المتوثب للاستقرار الحضري على ضفاف دجلة والفرات؛ لذا كان "الصراع الأول" في وادي الرافدين: بين الصحراء والماء، البداوة والحضارة، الارتحال والاستقرار.(19/298)
إن قصة الكنوز الأثرية في بلاد الرافدين قصة "مأساوية" بكل ما تنطوي عليه اللفظة من معنى. فقد بدأت القصة مع عصر النهضة الأوروبية حيث بدايات حملات الارتحال إلى الشرق من أوروبا، ثم جاءت الاحتلالات والوصايات الأوروبية للمنطقة لتجعل من التنقيب عن الآثار "حرفة" فنية ولصوصية منظمة ملأت من بين معطياتها متاحف بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة بالتماثيل والثيران المجنحة والأختام الأسطوانية المستخرجة من تحت تراب وادي الرافدين. حتى إذا ما جاء الاستقلال السياسي للعراق كي يفتح الباب لشيء من الأمل للحفاظ على ثروات العراق الأثرية، وهي ثروات لم يزل معظمها "حتى اللحظة" دفيناً في مواقع تعد بعشرات الآلاف، تمتد ما بين دهوك والفاو. ومع هذا، ومع ظهور مؤسسات وطنية متخصصة وبروز مدرسة أثرية عراقية من الطراز الأول، وآثاريين عمالقة من عيار المرحوم طه باقر (مترجم أسطورة كلكامش) فإن دناءة نفوس بعض المتنفذين في الحكومات السابقة جالت بهم حد التطاول على عدد من هذه اللقى النفيسة لتهريبها وبيعها في مزادات من نوع "كرستي" عبر تجار وسماسرة متخصصين.
اهتمام يهودي بالآثار!: كان اليهود في مختلف أنحاء العالم ومازالوا من أكثر المهتمين بالآثار العراقية نظراً لأن أرض بابل هي جزء لا يتجزأ من إرثهم الروحي والديني، حيث قصة السبي البابلي واستقرار بعض سلالاتهم، على ضفاف النهرين العظيمين، دجلة والفرات. على هذه الضفاف الخضر المظللة ببساتين النخيل الغنّاء كتب الأحبار العبريون الأوائل تحت ظلالها الوارفة أهم النصوص الدينية العبرانية، فسجلوا أهم الوصايا القديمة، من التوراة إلى التلمود، على لفائف حفظت في أسطوانات معدنية مصفحة في مخابئ وأماكن سرية: منها ما بُني في جدران بيوتهم ومعابدهم، ومنها ما دفن في مواقع خاصة لا يعرفها سوى الأحبار ومن ورثهم من كبار الحاخامات.
لذا فإن أرض أور، الموطن الأول لإبراهيم أبي الأنبياء r ، زيادة على أرض بابل، إنما تمثل جزءاً مهماً مما يسمى في التراث الثقافي الغربي بأرض الكتاب المقدس، وهم لهذا السبب يهتمون بل ويستميتون من أجل استخراج مثل هذه الكنوز التي لم تعد يهودية فحسب، بوصفها جزءاً من الأرض التي تبتطنها أرض العراق. وقد وجه كبير الوثائقيين العراقيين أسامة النقشبندي نداء استغاثة بإعادة نسخ من التوراة مكتوبة على جلد الغزال سرقها اليهود من العراق بعد الغزو الأمريكي!
معسكرات الغزاة
أما الأمريكان، الذين أقاموا معسكراتهم في بعض المواقع الأثرية أو على مقربة منها، مثل زقورة أور، ومدينة بابل، وآثار النمرود، وتل عكركوف وغيرها، فإن اهتمامهم بالآثار العراقية لا ريب فيه، ليس فقط لأن هذه الآثار تريهم معنى هيمنة "العالم الجديد" على "العالم القديم" كتعبير عن الشعور بالقوة والخيلاء، بل لأنها كذلك سلع يمكن أن تحيل الضابط أو الجندي الأميركي البسيط إلى مليونير، حيث يمكن أن يدس ختماً أسطوانياً أو تمثالاً صغيراً، أقل حجماً من علبة الكبريت، في حقائب أمتعته، ليظهر في نيويورك أو لندن فجأة وهو يحمل ثمن مملكة بيده. وإذا كانت هذه الجماعات جلها من الأجانب الطارئين على العراق، حيث تغيب المسؤوليات التاريخية والوطنية والحرفية عند التعامل مع هذه الآثار الثمينة، ويبقى السؤال الأهم والأكثر إلحاحاً، هو: من الذي يمكن أن يؤتمن على الآثار العراقية؟ القوات الأجنبية، كما لاحظنا، لا يمكن أن تخدم التراث العراقي بذلك: فإضافة إلى انشغالاتها الآنية المباشرة، لا يمكن قط لهذه القوات أن تمنع جندياً، جاء للعراق من أجل المال أصلاً، من أن يحتفظ بشيء من آثار هذا البلد لل"ذكرى". أما الحكومة العراقية، فلم تتمكن حتى اللحظة من احتواء هذه المأساة بسبب المأزق الأمني المعروف. المنظمات الدولية، من اليونسكو إلى الصندوق العالمي للآثار، تخشى الوصول إلى العراق، وهي تكتفي بكتابة القوائم الخاصة بالإرث العالمي وبمواقع التراث القديم، هذا مأزق إنساني خطير فقد شهدنا كيف أقامت قوات الغزو الأمريكي قاعدة عسكرية في مدينة بابل الأثرية ومن ثم سلمتها للقوات البولندية، وتحدثت الأنباء عن دبابات قامت بهرس وتحطيم أرصفة قرميدية عمرها يزيد عن 3500 سنة إضافة إلى تصدع كامل بالجدران الأثرية التي قال عنها أحد الخبراء أنها غير قابلة للإصلاح بعد اليوم وهي في طريقها الى الدمار الكامل، و لنقل في سياق هذا الكلام تحطيم جدران وقطع أثرية أخرى كي تتحول إلى أكياس للمتاريس التي تقيمها القوات المحتلة الأميركية خوفاً من الهجمات التي تشنها المقاومة أو خوفاً من "نبوخذ نصر" القادم من أعماق الأرض والحضارة.
لقد حذرت منظمة اليونيسكو من أن الآثار العراقية معرضة للضياع بسبب عمليات التنقيب غير الشرعي، وبسبب ووجود القوات الأميركية في مواقع بابل وأور جنوب البلاد. جاء ذلك في كلمة ألقاها "كوتشيرو ماتسورا" مدير عام المنظمة، في الاجتماع الثاني للجنة الدولية للحفاظ على التراث الثقافي العراقي، المنعقدة في باريس.
محو حضارة(19/299)
إن أحد أهم أهداف الغزو كان تدمير الذاكرة العراقية بشكل كامل إلى درجة يستحيل فيها قيام قائمة لها وهذا الأمر يتقاطع مع الرغبة اليهودية التي تسعى إلى الانتقام من نبوخذ نصر والسبي الشهير وبالتالي رد الصاع صاعين عبر دولة أخرى متهودة جدا.ً
ومن هنا فنحن أمام كارثة حقيقية لن نشعر بهولها إلا يوم يختفي تاريخنا وبشكل كامل عبر محو هذه الحضارات عن طريق رموزها الأثرية وبالتالي تشكيل الشرق الأوسط الكبير بزعامة يهودية واضحة وهذا ما تسعى لتحقيقه كل من اسرائيل وأميركا والحلفاء الآخرون.
لقد قال مدير هيئة الآثار والمتاحف العراقية هناك 38 قطعة نفيسة سرقت من قاعات متحف بغداد غير إن السرقات التي طاولت مخازن المتحف اكبر بكثير وتعد بالآلاف من القطع.
وقال المدير العام للآثار العراقية: لقد أعادت جهة واحدة إلى المتحف الوطني 450 قطعة مسروقة، فكيف يكون حجم السرقات بالمئات فقط؟. وقال أيضاً: "لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد المسروقات للآثار العراقية، لكنها بحدود 17 ألف قطعة، وأضاف: "لقد تعرضت التلال الأثرية إلى الحفر غير المشروع وسرقت كميات كبيرة من الآثار وهربت إلى الخارج.
اليوم... وبعد ثلاثة أعوام من كارثة نهب وتدمير آثار أعرق حضارة في التأريخ على يد الغزاة ممن لا تأريخ لهم، مازال العالم يتفرج، ومازالت آثار العراق المنهوبة بتداولها السماسرة وتجار المنهوبات، ومازال المجتمع الدولي لم يمارس دوره المطلوب في استعادة الآثار العراقية المنهوبة، ومازال المجتمع الدولي قاصرا عن مواجهة السارق الأكبر والمسبب لهذه الكارثة!.
==============(19/300)
(19/301)
تزايد حركة التنصير وإرسال بعض الكوادر لتلقي دورات تدريبية في واشنطن
رياح "الإسلام الأمريكي" تهب على تشاد!
محمد البشير أحمد موسى
Albeshi r 203@hotmail.com
تشاد دولة إفريقية تناصر الإسلام بقوة حيث تعد البوابة التي يعبر الإسلام منها إلى مختلف البلاد في القارة السمراء، ومثلها مثل الكثير من البلدان الإسلامية التي تقف في مواجهة حملات التنصير التي تنخر في المجتمع علاوة على محاولات السلطات العمل على تفعيل قانون الأحوال الشخصية الجديد.
فقد قال الشيخ عبد الله عزام رحمه الله تعالى : "من مزايا سيد قطب الكثيرة: نفاذ بصيرته وعمق نظره، وكثيرًا ما كان يردد: ستهبُّ في المرحلة القادمة على المنطقة رياح من الإسلام الأمريكي! فهل هبّت حقاً رياح "الإسلام الأمريكي" على العالم الإسلامي، وبدأت أجندة مشروع "الشرق الأوسط الكبير" وخاصة قضية تحرير المرأة التي تطرح على أرض الواقع في عالمنا الإسلامي"؟!
منذ سقوط الخلافة الإسلامية، وتحديداً بعد ما يسمى بأحداث 11سبتمبر 2001م بدأت تطرح بقوة مفاهيم ومصطلحات جديدة على الساحة الإسلامية لم تكن معهودة من قبل، يتبنّاها مجموعة من أبناء المسلمين انبهروا بالفكر الغربي العلماني وبدأوا ينادون بتلك الشعارات البرَّاقة الخلابة وبدأت صيحات مثل: "يجب أن نأخذ كل ما يأتي من الغرب بحلوه ومره "! وعلى ألسنة كثير من أفراخ الغرب لقد سبق هذا التوجه تمهيد طويل، استغرق حيناً من الزمن، حتى وجد الغرب من يتبنى تصوراته وأفكاره من أبناء الأمة الإسلامية، فبدأ هؤلاء بطرح مشاريعه نيابة عنه.
لماذا يطرح؟
ولعل مشروع قانون الأسرة أو مدونة الأحوال الشخصية من بين أهم المشاريع التي تطرح الآن وفي بقاع متعددة من عالمنا الإسلامي، ففي المغرب والجزائر وتشاد يطرح المشروع الآن وبقوة، يدعمه أبناء من جلدتنا يتكلمون لغتنا. ويمكننا أن نتساءل: لماذا يطرح هذا القانون في المستعمرات الفرنسية السابقة وبهذه القوة وفي وقت واحد تقريباً؟! سؤال جدير أن نقف عنده طويلاً!
لا تختلف البنود الواردة في مدونة الأحوال الشخصية التي تطرح في المغرب أو الجزائر عما ورد في مشروع مدونة قانون الأسرة التشادي، مع بعض الاختلافات الطفيفة ولكن الفكرة واحدة، فهي خلاصة توصيات وقرارات المؤتمرات الدولية الخاصة بالأسرة مثل مؤتمر المرأة في بكين، وكوبنهاجن، وأخيراً مؤتمر القاهرة.
ومن أهم القضايا التي تم التركيز عليها في مشروع مدونة الأحوال الشخصية التشادي قضايا مثل: تحديد سن الزواج، تعدد الزوجات،، الطلاق، القوامة، الميراث، تأديب المرأة (كضربها، والهجر في المضاجع) شهادة المرأة، الحجاب، حقوق المرأة السياسية (حق الترشح والترشيح للولاية العامة) إزالة الفوارق الطبيعية بين المرأة والرجل. ومعظم هذه القضايا هي التي تطرح في غالب المشاريع التي تُقدم في البلاد الإسلامية بصفة عامة، ونستنتج من ذلك أن هذه المدونة تدعو إلى الإباحية وتفكيك الأسرة المسلمة في تشاد وفي غيرها من الأقطار.
التخلف والجمود: لعل هذه هي أهم ملامح مشروع "قانون الأسرة التشادي" وقد سبق طرحه بهذه الصورة.. تمهيد طويل. فقد طرح المشروع لأول مرة من قبل بعض العلمانيين والنصارى، وفي أحد أهم مراكز التنصير في العاصمة "أنجمينا" (السيفود) وفي جمع من المثقفين وأساتذة الجامعات، وعندما حاول بعض المسلمين طرح أفكار مغايرة لأطروحاتهم في ذلك الاجتماع، تقبلوها بالسخرية والاستهزاء والتهجم عليهم بصيغ التخلف والجمود والرجعية!!!.
وهكذا دائماً، فإن الخطوات الشيطانية يقف وراءها النصارى في البلاد الإسلامية، فكما دعا النصراني مرقص فهمي صاحب كتاب "المرأة في الشرق".. إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والرجال النصارى، وكما كان أحد الذين روّجوا لحركة تحرير المرأة في البلاد الإسلامية وخاصة مصر، فكذلك كان لنصارى تشاد الدور ذاته بوضع تلك المسودّة ودعوتهم إلى هذا اللقاء!
وبعد هذا اللقاء الذي رُفِضَ فيه الاستماع إلى وجهة نظر المسلمين، اجتمع عدد من كوادر المسلمين فوضعوا مسودة لقانون للأحوال الشخصية مقتبس من الشريعة الإسلامية، وقدموه إلى البرلمان التشادي لإقراره، وقدم النصارى والعلمانيون القانون الآخر، ولحساسية الموقف تم إرجاء القانونين إلى وقت لاحق وذلك في عام 2000م.
طرح القوانين
وفي الأسابيع المنصرمة أي بعد خمسة أعوام من تأجيل النظر في المدونتين، وخاصة في عيد ما يسمى "يوم المرأة العالمي" طرح القانون العلماني على الساحة التشادية مرة أخرى، وبجدية أكثر من ذي قبل، ويقف وراءه شخصيات مسؤولة في الدولة! وقد تم طرح هذا القانون بينما تشاد تواجه تحدّيات جمَّة في النواحي الاقتصادية، حيث مقدرات البلد تستنزف من قبل أمريكا وشركائها. ومن الناحية السياسية حيث التخبط الواضح، وخاصة فيما يتعلق بإعادة العلاقات مع الكيان الصهيوني، ومجيء عدد من المستثمرين الصهاينة إلى البلاد.(19/302)
فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية، عن وجود اتصالات رسمية بين حكومتي الكيان الصهيوني وتشاد بهدف إعادة العلاقات الدبلوماسية، والتي انقطعت منذ السبعينيات من القرن الماضي، وأن المدير العام لوزارة الخارجية الصهيونية "يوآف بيران" قام بزيارة سرية لتشاد أجرى خلالها لقاءات مع مسؤولين تشاديين كبار. وتبع ذلك قيام وزير الخارجية التشادي "ناجوم ياماسوم" بزيارة سرية مماثلة إلى الكيان الصهيوني
أما النخبة الحاكمة فترى أنه من أجل الحفاظ على مقاليد الحكم يجب التقارب مع أمريكا، وهذا التقارب لا بدّ أن يمرّ عبر بوابة الكيان الصهيوني، وعبر نشر الثقافة الأمريكية و"القيم" الأمريكية! لذا كان توقيت بدء العلاقات مع الكيان الصهيوني وإعادة طرح مشروع قانون الأسرة متزامنين، وكأن هناك وعوداً أمريكية بمساعدة الطبقة الحاكمة بتثبيت جذورها في الحكم وتوفير الحماية اللازمة لها مقابل البترول والثروات التشادية الأخرى.
معقل الإسلام
لذا لم يكن غريباً تلك الزيارة التي قامت بها الملحقية الثقافية بالسفارة الأمريكية في أنجمينا مع وفد أمريكي جاء خصيصاً لزيارة أهم معاقل الدعوة الإسلامية في البلاد، وهي مدينة "بحر الغزال" (300 كلم من العاصمة) حيث زاروا المدارس العربية والإسلامية، والمحكمة الشرعية. وكان محور أسئلتهم يدور حول المنهج الدراسي في هذه المدارس، وخاصة القرآن الكريم والسنّة النبوية، والقدر الذي يُدَّرس منهما، وما هي الجهات الداعمة والمؤسسة لهذه المدارس؟! وأسئلة كثيرة.
فهل هذه الزيارات لمعاقل الدعوة الإسلامية تصب في إطار دراسة ردود الفعل من أبناء هذه المدن؟! وخاصة أنهم الآن يقودون حملة التوعية الإسلامية والدفاع عن اللغة العربية في البلاد، ويقفون ضد هذا التطبيع وضد مدونة الأحوال الشخصية بقوة؟! علماً أن الشرارة الأولى لثورة "فرولينا" الإسلامية اندلعت ضد فرنسا وعملائها من هذه المدن!
ومع هذا فإن الحكومة لا تبالي كثيراً بكل هذه التحركات، وستمضي قدماً في هذا المشروع وفقاً للإملاءات الخارجية وخاصة الأمريكية، وإن أدى ذلك إلى تكميم الأفواه بالسجن أو القتل أو بإعطاء الامتيازات لأصحاب التوجّه "الإسلام الأمريكي" في البلاد بتقريبهم وإبعاد كل من يعارض هذا القانون.
وقد وردت في تقرير مؤسسة "راند" للأبحاث الأمريكية الأخير توصية بتشجيع مجموعات إسلامية موالية في الفكر والطرح للغرب تحت رداء الإسلام حيث يقول التقرير: "إن المسلمين الليبراليين والمعتدلين لا يملكون شبكات فعالة كالتي أنشأها المتطرفون، وعليه من الضروري إنشاء شبكة عالمية للمسلمين المعتدلين لنشر الرسائل المعتدلة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولتوفير الحماية للجماعات المعتدلة، وقد تكون هنالك حاجة لقيام الولايات المتحدة بمساعدة المعتدلين الذين يفتقرون إلى الموارد اللازمة لإنشاء هذه الشبكات بأنفسهم".
ويظهر هذا في التوجّه الذي يقوده رئيس المجلس الأعلى الإسلامي في تشاد، من موافقته على هذا المشروع، وتبنّيه خطاً بالإمكان أن نطلق عليه حسب التعبير الأمريكي "معتدلاً" وحسب تعبير سيد قطب رحمه الله تعالى "الإسلام الأمريكي" فقد كان من أوائل الذين أيدّوا المشروع الجديد لهذا التصور العلماني والغريب على المجتمع التشادي المسلم، مع أن بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي يقول: "إن المجتمع المنغمس في الشهوات لا يستطيع أن يسن قانوناً أخلاقياً للعالم، وإن أي حضارة لا تستطيع أن تقدم قيادة أخلاقية سوف تتلاشى"، مع ذلك فإن هناك من يدعو إلى ما يسميه "القيم الأمريكية"! مع أن تشاد دولة إسلامية وقامت على أراضيها ممالك إسلامية مشهورة حكمت كثيراً من بقاع إفريقيا، واستمرت سنين عديدة تنشر الإسلام وسط المجتمعات الوثنية، وما زال هذا الدور جلياً في كثير من الدول المجاورة.. فهل يمكن أن تقبل "القيم" الأمريكية بهذه السهولة، وبهذه الإملاءات؟
==============(19/303)
(19/304)
ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير
قناة "البحرين"... تحرك اقتصادي بعد تعطل سياسي!
الضفة الغربية: رامي خريس
r amk77@hotmail.com
أثار الاتفاق الذي تم مؤخرا بين السلطة الفلسطينية والأردن والكيان الصهيوني لإحياء مشروع قناة أو خط أنابيب يصل البحر الأحمر بالبحر الميت، العديد من التساؤلات حول طبيعة الأخطار التي يمكن أن يتسبب فيها المشروع الذي تم التخطيط له في أوقات سابقة وأطلق عليه "قناة البحرين" وما يحمله من أهداف سياسية صهيونية خبيثة، في الوقت الذي بدأت فيه بعض الأبواق الترويج له!
تتمحور فكرة مشروع القناة في إنشاء خط أنابيب ضخم يتم من خلاله نقل كميات ضخمة من مياه البحر الأحمر إلى البحر الميت لرفع مستوى المياه داخله، وكانت الفكرة في بدايتها حفر قناة بين البحرين، وتتكلف المرحلة الأولى نحو 800 مليون دولار وسيتم فيها إقامة خط أنابيب لنقل المياه بطول 180 كيلومتراً في حين تهدف المرحلة الثانية لإقامة محطات لتوليد الطاقة الكهربية بطاقة 600 ميجاوات لكل من الأردن والكيان الصهيوني باستغلال الفرق في منسوب البحر الميت ومنسوب البحر الأحمر والذي يقدر بحوالي 400 متر، كما يستهدف المشروع إقامة محطة لتحلية مياه البحر الأحمر بطاقة 850 مليون متر مكعب سنوياً.. على أن تُنقل هذه المياه إلى كل من عمّان والخليل بالضفة الغربية والقدس.
اتفاق مفاجئ
وبحسب الدراسة سيمر جزء من هذه القناة عبر أنابيب وفي جزء آخر سيمر عبر مناطق منحدرة بشدة تسمح بالاستفادة من المياه المتدفقة في توليد الطاقة الكهربائية، وفي مناطق أخرى على شكل بحيرات صغيرة لأغراض مشاريع سياحية. وقد جاء التوقيع على الاتفاق مفاجئاً خصوصاً في ظل الأجواء السياسية التي تشهدها المنطقة، وفي هذا السياق ينتقد الصحفي عدلي صادق التوقيع على اتفاق القناة ويقول إن العجيب في الأمر هو دوران عجلة المشروعات الاستراتيجية في الوقت الذي تتعطل فيه وتنغرز في الرمال عجلة السياسة، ويرى أنه إن كان من السهل معرفة كل آفاق المشروعات وأرقامها (سعر المتر المكعب من المياه مثلاً يتجه إلى دولار ونصف الدولار) فمن الصعب معرفة آفاق السياسة والمصير الوطني مادامت استحقاقاتها لا تشترط تعطيل المشروعات الكبرى مقابل تعطيل مشروعنا السياسي.
واستهجن صادق ترك الأمور الإستراتيجية لموظفين ومستشارين لا نعلم طبيعة ارتباطاتهم وخلفياتهم، في الوقت الذي يتركز فيه اهتمامنا على الإجابة عن أسئلة من شاكلة: من يأخذ؟ ماذا في وظائف الأمن والحكومة؟
بالرغم من بعض الفوائد المرجوة من المشروع فهناك أضرار وأخطار عديدة يمكن أن يخلفها مشروع القناة أو نقل مياه البحر الأحمر إلى البحر الميت، ولكن هناك من الأطراف من يرى في المشروع مصلحة كبيرة لا يمكن تعويضها وتشير دراسة حول "قناة البحرين" نظرة على الأبعاد البيئية والاستراتيجية والسياسية والاقتصادية" التي أعدها الصحفي والباحث محمد أبو شرخ إلى أن الفوائد المتوقعة من المشروع تختلف من دولة لأخرى.. فالأردن له رؤية خاصة للمشروع.. والجانب الفلسطيني له رؤية خاصة والصهاينة لهم رؤيتهم كذلك.
الأردنيون ينظرون إلى المشروع كأحد المشاريع الاستراتيجية المهمة التي تبنى عليها التنمية في الأردن ويفكرون بذلك في حل مشكلة المياه التي يعاني منها الأردن عن طريق مشاريع تحلية المياه التي سترافق مشروع القناة والاستفادة من الطاقة الكهربائية من خلال استخدام الأحجار الزيتية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الماء.
وتوضح الدراسة أن الأردن المتحمس لا يستطيع أن ينفذه وحده لتكلفته العالية، ولذلك كانت هناك حاجة لدعم دولي، وبدون شراكة لا يتحقق بسهولة الدعم الدولي للمشروع، ولذلك سعى لإيجاد شراكة من الأطراف التي تشترك في شاطئ البحر الميت.
أما الفلسطينيون فلديهم رؤية مختلفة للمشاركة وهي تأتي لإثبات حقهم كدولة لها شاطئ على حوض نهر الأردن والبحر الميت، كما أن هناك علاقة لإثبات الحقوق في الحل النهائي بالاحتفاظ بالأغوار، والنقطة الأخرى أنه يريد الاستفادة من ثروات البحر الميت التي لم يكن يستفيد منها كما يريدون مراقبة الأوضاع البيئية للبحر الميت وأخطار المشروع على البيئة مثل انخفاض منسوب المياه في البحر الميت.
وتؤكد الدراسة أن المستفيد الأكبر من المشروع هم الصهاينة لأنهم سيرسمون أكبر نموذج للتطبيع مع الدول العربية، و(الكيان الصهيوني) يخطط لإقامة عدد من المصانع والتجمعات الصناعية بالشراكة مع الجانبين الأردني والفلسطيني وبذلك ستكون أسواق الدول العربية مفتوحة لها، كما أنها ستحصل على كميات من المياه التي تحتاجها في النقب وذلك لملئها بالسكان ومعالجة الخلل الجغرافي.. فالأماكن الكثيفة بالسكان يصعب اختراقها كما أن الكيان الصهيوني بحاجة إلى المياه في مفاعل ديمونة للتبريد ويمكن إنشاء مشاريع لمفاعلات نووية أخرى.(19/305)
ويقول الصحفي محمد أبو شرخ في حديثه ل المجتمع إن الجانب الفلسطيني يجب أن يكون أكثر الأطراف حذراً لما قد يعود عليه لأنه قد يكون أكثر الخاسرين، حيث لم يصبح دولة بعد، وليس لديه الإمكانات للاستفادة من المشروع بشكل اقتصادي، والكيان الصهيوني يقوم بفرض وقائع على الأرض. والتساؤل المطروح: هل ستقيم منتجعاتها في الأغوار؟ فهم يؤكدون من وقت لآخر تمسكهم بها وهذا أمر بالتأكيد يجب دراسته.
وتشير الدراسة إلى أن هذا المشروع قد يتسبب بتأثيرات أخرى جيولوجية على الأرض في المنطقة، وهذا ما يؤكده العديد من علماء الجيولوجيا الذين يقولون إن من شأن تنفيذ هذا المشروع التسبب في وقوع زلازل مدمرة، حيث ستصب كميات هائلة من مياه البحر المتوسط أو البحر الأحمر في البحر الميت، وباعتبار الأخير أخفض منطقة في العالم فإن الضغط على قعر البحر الميت سيزداد متسبباً في حدوث اختلال طبقات الأرض في منطقة الأغوار.
إثارة زلزالية
ومن جانبه يؤكد د. جلال الدبيك رئيس مركز أبحاث علوم الأرض وهندسة الزلازل في جامعة النجاح في دراسة قامت بها الجامعة أن الضغط الناتج من زيادة منسوب المياه في البحر الميت يمكن أن يؤدي إلى زيادة حجم الإثارة الزلزالية في المنطقة وبخاصة أن البحر الميت يحتوي على بؤرتين زلزاليتين يمتد تأثيرهما ليشمل العديد من التجمعات السكانية الفلسطينية حيث توجد مدن فلسطينية على فوالق مرتبطة بمنطقة البحر الميت.
ويضيف الدبيك أن الخطر لا يكمن فقط في حدوث الزلازل التي تكون متوسطة الحجم في الغالب، بل في تأثير هذه الزلازل على المباني الموجودة في المدن الفلسطينية المختلفة والتي تعاني من عيوب خطيرة تجعلها معرضة لأضرار فادحة نتيجة لحدوثها وفي الجاهزية للتعامل مع حالات الطوارئ والكوارث. وضرب الدبيك مثلاً بمدينة نابلس التي تعتبر من أكثر المدن الفلسطينية التي يمكن أن تتضرر في مثل هذه الحالات حيث أقيمت مبانيها على سفوح الجبال، مما يعرض المباني لتأثير الانزلاقات الأرضية.
أجواء جديدة
وفي إطار الدراسة التي يجب أن تعد للمشروع بشكل علمي قبل التوقيع النهائي على أي اتفاقية أو البدء بالتنفيذ يؤكد أبو شرخ أن المشروع موضوع كبير وخطير ويحتاج إلى دراسات معمقة، والجانب الفلسطيني ليس لديه رؤية كافية والموجود فقط توقعات ورؤية عامة للمشكلات والأخطار.
وأهم شيء يحتاج للدراسة موضوع المياه الجوفية وتأثرها بالمشروع لأنها قد تجذب إلى المياه كما يمكن أن تتأثر مناطق الأغوار وتغمر بالمياه المالحة وتؤثر سلباً على الزراعة، مشيراً إلى أن الفلسطينيين ربما هم الحلقة الأضعف كونهم لا يملكون سيطرة فعلية على المناطق التي سيتم فيها المشروع.. والمكسب الرئيس للفلسطينيين أن يكونوا مشاركين ومراقبين بشكل حذر وألا يوقعوا على أي اتفاقية يمكن أن تمس بالبيئة والموارد الفلسطينية.. ويجب أن تكون مشاركتهم قوية وواعية وليست مشاركة الانسياق.
ويؤكد أبو شرخ أنه يجب أن ننتبه إلى المخططات الصهيونية التي تحمل أهدافاً خطيرة جداً وخاصة من الناحية السياسية وعلى مستوى مستقبل الصراع بشكل عام. فالمشروع يأتي ضمن الترتيبات الأمريكية بعد احتلال العراق، فهم يريدون خلق أجواء جديدة في المنطقة، وتلك القناة هي من ضمن المشاريع المعدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير.
==============(19/306)
(19/307)
سعد الدين العثماني:الحل في تحديث "الحركات" وإصلاح الذات
الرباط- عادل الإقليعي
…
22/04/2004
سعد الدين العثماني
في حوار أجرته "إسلام أون لاين.نت" مع الدكتور سعد الدين العثماني، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، نصح الدكتور الحركات الإسلامية -في ظل طرح "الشرق الأوسط الكبير"- بالإسهام بقوة في الدفع في طريق الإصلاحات السياسية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية؛ والكف عن الحديث النظري من خلال إنزال "الإصلاح" على أرض الواقع؛ مع ضرورة التجديد والتحديث، والعمل على توفير المناخ السياسي الذي يسمح بإنجاح الإصلاحات الوطنية الذاتية.
كما ناشد الأنظمة والحركات معا بالإسراع في إيجاد التوافق بين بعضها البعض، اعتمادا على ثوابت وطنية، تكون ضمانا للاستقرار وحفظ المصالح العليا للدول، فيتم على أساسها التنافس السياسي الشريف والتداول على السلطة؛ وذلك من أجل قطع الطريق على أي تدخلات أجنبية.
وأكد أن حزب العدالة والتنمية -في إطار المبادرة- لن ينتظر الاعتراف من جهات خارجية، إلا أنه في المقابل لن يدير ظهره للحوار في إطار ما يضمن مصالح الشعوب والدول الإسلامية، مشيرا إلى أن أي خيار آخر يراهن على مشاريع الإصلاح الخارجية خيار باطل. وأخيرا، لم ينس الدكتور العثماني التحذير من السقوط في فخ رفض الإصلاح لمجرد أن الولايات المتحدة هي التي طرحت المبادرة.
وإليكم نص الحوار:
* إذا كنتم ترفضون الطرح الأمريكي من حيث المبدأ فهل لديكم بدائل متاحة؟
- المبادرة لها شقان: هناك النص الذي يحتوي على مقترحات وإجراءات مقبولة في مجملها، إذا استثنينا تلك المحاولة المكشوفة والهادفة إلى إدماج الكيان الصهيوني في الجسم العربي وتطبيعه معه، وقد يكون ذلك هو جوهر الإصلاح في المنظور الأمريكي. وهناك أبعاد المبادرة التي لا تنفصل عن السياق العام للتدخل الأمريكي في المنطقة. فمعروف أن أمريكا دعمت في كثير من الأحيان أنظمة غير ديمقراطية واستفادت منها، وتغاضت عن كثير من الممارسات المنافية للحكم الراشد. وساندت محاولات عديدة لإجهاض تجارب ديمقراطية في المنطقة. كما أن أمريكا اليوم تحتل العراق، وليس في ممارساتها ولا خططها الظاهرة ما يوحي بأنها تقيم ديمقراطية أو تطبق إصلاحات سياسية أو اقتصادية. وبناء على هذه التجارب المريرة، فإن كثيرين يشكُّون في أن الديمقراطية التي تسعى أمريكا إلى إنزالها في دولنا ستفرز أنظمة تتوافق مع الرؤية الأمريكية للمنطقة، وليس مع رؤية شعوب المنطقة وتطلعاتها. ستكون ديمقراطية على المقاس الأمريكي تصب في المصالح الأمريكية.
لكنْ هناك جانب آخر مهم، هو أن الإصلاحات كي تكون ناجعة يجب أن تنبع من الذات، لا أن تكون مملاة من الخارج. لقد فشِلت العديد من محاولات التحديث في دولنا؛ لأنها سوقت بوصفها وصفة جاهزة مفروضة بالقهر، فكان مصيرها الرفض من قبل الشعوب. ولو استندت إلى أرضية صلبة -من عقيدة الشعوب وتراثها- لأسست للإصلاحات الضرورية بتعبئة شعبية واسعة، تضمن لها الحد الأدنى من النجاح.
أما الحديث عن البدائل، فإن الجديد في المشروع هو كونه طُرح في إطار مبادرة سياسية، أما المقترحات التي يتضمنها فليست سرا يفشى. فالمطالبة بمزيد من الديمقراطية والانتخابات النزيهة والشفافية في تدبير الشأن العام وغيرها موجودة في برامج مختلف الأحزاب والهيئات العربية، ونضالاتها المتواصلة في الميدان، وانطلاقا من معاينتها للمشاكل اليومية للمواطن العربي. وقد وقفت الولايات المتحدة للأسف الشديد ضد تلك البرامج والمحاولات الإصلاحية في السابق.
* ما رؤيتكم لمستقبل الحركات الإسلامية في المنطقة في ضوء هذا الطرح الأمريكي؟
- مستقبل الحركات الإسلامية لا يرتبط بالمبادرة، لكنه يرتبط بالخط السياسي الذي تنهجه، وبقدرتها على استيعاب المتغيرات المتسارعة في عالم اليوم وإفراز المبادرات المناسبة. وأظن بالمناسبة أن الأولويات التي يجب أن تهتم بها هذه الحركات في الظرفية الراهنة تنبني على أمرين، هما:
أولا: الإسهام بقوة في الدفع في طريق الإصلاحات السياسية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية الضرورية. يجب ألا تبقى الحركات الإسلامية مكتفية بترديد خطاب حول الهوية والمرجعية، بل يجب أن تحوله إلى برامج إصلاح تعمل على أن يتم تنزيلها في الواقع. ويجب أن تكون قاطرة التحديث، والقطع مع عدد من تقاليد الجمود والانغلاق.
ثانيا: العمل على توفير الجو السياسي العام الكفيل بإنجاح الإصلاحات، وهو جو يحتاج إلى التوافق مع الأنظمة ومع الحركات السياسية الأخرى لإنجاح الإصلاحات.
* هل تفكرون في التعامل مع هذا الطرح على أنه ورقة ضغط على أنظمتكم لتحسين أوضاعكم أو الاعتراف بكم أو تحقيق مكاسب ما؟(19/308)
- من غير المعقول ولا المقبول أن يستعان بالأجنبي للضغط على دولنا، فهذا يعيد إلى الواقع الصراع المرير بين الحركات السياسية والأنظمة. وهو الصراع الذي أضاع لشعوبنا عقودا طويلة من الزمان في الإقصاء والإقصاء المضاد، وأدى إلى دوس الحريات ومصادرة الحقوق، والاعتداء على الأرواح والأعراض. لذلك فإننا نرى أن الحياة السياسية في العالم العربي والإسلامي من الضروري أن تبنى على أساس من التوافق المبني على ثوابت وطنية، تكون ضمانا للاستقرار وحفظ المصالح العليا للدول، ويتم على أساسها التنافس السياسي الشريف والتداول على السلطة. وأظن أن من مصلحة الجميع، أنظمة وحركات سياسية ومجتمعية، أن تسرع في إنشاء هذه التوافقات لتقطع الطريق على أي تدخلات أجنبية أو أي وصفات جاهزة مفروضة، أثبتت التجارب العديدة عقمها وعجزها عن إطلاق ديناميكية الإصلاح.
* ألا تخشون لو رفضتم الطرح الأمريكي أن تظهر على الساحة حركات إسلامية "صناعة أمريكية" وفق نموذج "الإسلام الأمريكاني"؟
- المهم في رأيي هو تحريك عجلة الإصلاحات. وإذا كانت النيات صالحة والجبهة الداخلية موحدة، فلا أحد يمكن أن يخترقها. والصناعات الأمريكية في هذا المجال أثبتت فشلها على الدوام، مثل البضائع التي لا تراعي حاجيات الشعوب. والحركات لا يكتب لها النجاح والاستمرار إلا إذا كانت أصيلة ومنطلقة من أرضيتها، ومستجيبة لمطالب واقعها، أما عمليات زراعة الحركات فهي عملية ثبت فشلها عبر التاريخ.
* وكيف ستكون استجابتكم للمتغيرات القادمة، أم ستديرون لها ظهوركم؟
- لا يمكن أن ندير ظهرنا للتطورات بل سنكون في قلبها، مساهمين فيها، محاولين التأثير في مساراتها. إن الإسهام في الإصلاح لا يمكن أن يكون بالانسحاب من الواقع، أو سلوك سياسة الكرسي الفارغ، بل بالحضور الفاعل والمستمر.
* لديكم إشكالية داخلية مع واقع غير ديمقراطي من وجهة نظركم، فهل ستستغلون هذه المتغيرات بغية إحداث تغييرات لصالحكم؟
- لقد خطا المغرب خطوات مهمة في طريق الإصلاح السياسي وتطوير وضعية حقوق الإنسان والحريات العامة. لكن لا تزال هناك كثير من الثغرات؛ ولا يزال هناك كثير مما يجب أن يفعل. وقد عبرنا باستمرار عن أملنا في أن تكون هناك خطوات شجاعة ذاتية لإحداث مزيد من الإصلاحات، وبالتالي تفويت الفرصة على أي تدخل خارجي. وطيلة السنوات الأخيرة وحزب العدالة والتنمية يوالي الاقتراحات والنضالات في مواضيع تطوير الديمقراطية، وإعطاء مصداقية للانتخابات المتتالية، ومعالجة اختلالات حقوق الإنسان والحريات العامة وحرية الصحافة، وإصلاح التعليم وقطاع الاتصالات الحديثة، وعلى مستوى العدالة الاجتماعية وغيرها. ونحن واعون أن التطور نحو الأفضل لا يمكن إلا أن يكون تدريجيا، بسبب هشاشة الوضع السياسي في بلداننا.
* لو أتيحت لكم فرصة للاعتراف بكم ضمن "الشرق الأوسط الكبير"، وفتح المجال أمامكم للعمل في حرية، فهل ستقبلون أم سترفضون؟
- غير وارد أن ننتظر الاعتراف من أي كان، فالقوى الشعبية لها اعترافها من جماهيرها، وأي مشروع إصلاحي لا يأخذ بعين الاعتبارات القوى الحقيقية في الواقع... فمآله الفشل. وإذا ذهب المشروع في اتجاه صنع قوى غير حقيقية -وهذا هو الراجح من خلال الانطلاق من بعض النخب التي تكونت في المؤسسات والمراكز التعليمية الأمريكية- فإنه قد حكم على نفسه بالفشل. إن أمريكا، كما يظهر، تسعى أن تفرز ديمقراطية على مقاسها، ثم تخضع لها الأحزاب والقادة، ويخضعون فيها لرؤيتها المجتمعية ولقيمها ومفاهيمها. ولذلك عملت أمريكا خلال السنوات الماضية على تدريب وتدريس أعداد من المثقفين، ليساعدوها على تنفيذ مشروعها.
* ما موقفكم في حال قبولكم، أمام الأنظمة الحاكمة وجماهيركم؟ وما مبرراتكم التي ستقدمونها لهم؟
- نحن لا ننتظر الاعتراف من جهات خارجية، ولكننا قي المقابل لا ندير ظهرنا للحوار في إطار ما يضمن مصالح شعوبنا ودولتنا، وأي خيار آخر يراهن على مشاريع الإصلاح الخارجية باطل.
* كيف ستعيدون هيكلة مواقفكم وبنائكم التنظيمي الداخلي، وكيف ستعيدون رسم علاقاتكم على الصعيد الخارجي وفق عاصفة المتغيرات القادمة؟
- مواقف حزبنا وهيكلته التنظيمية لا نبنيها أو نعيد بناءها انطلاقا من هذه المبادرات التي قد تنجح وقد تفشل. فمواقفنا تحددها توجهاتنا واختياراتنا والمبادئ التي يعتمدها حزبنا في مؤسساته المختصة، وهي تراعي في ذلك مرجعيته ورؤيته للتغيير والمشروع المجتمعي كما يتصوره. وفي إطار هذه المواقف، نستحضر بطبيعة الحال المعطيات والمتغيرات الدولية. ونفس الشيء بالنسبة لتطوير هياكلنا التنظيمية، فهو يرتبط بطبيعة كل مرحلة وحاجياتها، وتحديد تلك الحاجيات يستند عندنا على دراسات وورشات يقوم بها الحزب. وقل الشيء نفسه بالنسبة لعلاقاتنا الخارجية، التي تضبطها أوراقنا التصورية والبرامج التي تصادق عليها مؤسسات الحزب.
* ما تقييمكم للفكرة وما موقفكم بشكل عام منها؟(19/309)
- لا شك أن هناك حاجة ماسة ومستعجلة إلى إحداث إصلاحات واسعة في الأنظمة العربية، وفي الواقع العربي والإسلامي إصلاحات تراعي مطالب المواطن العربي وحاجات بلداننا وشعوبنا. وبمراجعة مشروع "الشرق الأوسط الكبير" نجده يحمل لافتة تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح، وبناء مجتمع معرفي، وإدخال الإصلاحات السياسية والاقتصادية. ولا يمكن إلا أن نعترف أنه اقترح أمورا عديدة الجميع يعترف بحاجتنا إليها، وبكونها جزءا من البرنامج الذي يجب أن يكون أرضية عمل الأنظمة والأحزاب والهيئات المدنية بمختلف توجهاتها. وأكثر من ذلك فإن المشروع يستند إلى الخلاصات التي انتهى إليها تقرير التنمية البشرية العربية الذي صاغه مجموعة من المثقفين العرب.
وهكذا.. فبشكل عام إذا تعاملنا مع المشروع كمضمون بغض النظر عن الجهة الداعية إليه، فإننا نجد أن بعض القضايا التي يطرحها تلتقي مع كثير مما تطرحه وتطالب به كثير من القوى الإصلاحية قي العالم العربي؛ ولذلك وجب الحذر من السقوط في فخ رفض الإصلاح لمجرد أن الولايات المتحدة هي التي طرحت المبادرة. لكن ذلك لا يمنعنا في نقس الوقت من أن نضعه قي سياقه وأبعاده، خاصة أن الولايات المتحدة قد كانت حليفا تاريخيا لكثير من الأنظمة قي المنطقة عندما كان ذلك يخدم مصالحها. ومن ثم نتساءل تساؤلا مشروعا، عما إذا كانت المبادرة هي صورة جديدة من السعي إلى تكريس مزيد من الهيمنة والتبعية والتخلف والتمزق.
إن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بعض مضامين المبادرة. لكن الإصلاح الحق لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا إذا انطلق بمبادرات وطنية تنطلق بها من الذات، وتستجيب لحاجات ذاتية، لا لاستحقاقات متصلة بإستراتيجيات الولايات المتحدة أو غيرها.
============(19/310)
(19/311)
عبد الصمد فتحي: "لا نهوض لأمتنا إلا بالتكتل"
الرباط- عادل الإقليعي**
26/04/2004
مسيرات حاشدة للتعبير عن الغضب العارم ضد الاحتلال الصهيوني
أشار الأستاذ عبد الصمد فتحي، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان بالمغرب، في حوار له مع "إسلام أون لاين.نت"، إلى أن مستقبل الحركة الإسلامية لن يتأثر بطرح "الشرق الأوسط الكبير"؛ ومن ثم نصح الحركات الإسلامية بعدم الانشغال بهذا الأمر أكثر من اللازم، والانشغال أكثر باستكمال التصور والمنهاج. واقترح تدشين ميثاق من قبل جميع الحركات السياسية الطامحة إلى التغيير، ليضع مبادئ وآليات هذا التغيير، بشرط أن يكون الشعب حاضرًا لكل ما يجري. كما نادى إلى استغلال هذه الفرصة، بلم الصفوف، ومراجعة الماضي، وإعادة الحسابات. وكذلك نادى إلى تفاعل المسلمين مع المستجدات، واستحضار المتغيرات الكبرى، وهي ظهور ملامح نظام عالمي جديد، يتمخض عن قوى وتكتلات جديدة متعددة.
*ما رؤيتكم لمستقبل الحركات الإسلامية في المنطقة في ضوء هذا الطرح الأمريكي؟
- إن مستقبل الحركة الإسلامية رهين بمستقبل الإسلام. وبالنسبة لنا، فغد الإسلام قادم؛ آمن بذلك من آمن؛ وكفر بذلك من كفر. إننا على مشارف الخلافة على منهاج النبوة الثانية، كما أخبر بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكما يبشر بذلك عالم الغيب والشهادة. إن هذه الصحوة الإسلامية وهذا المد الإسلامي الذي يملأ صداه سمع الدنيا وبصرها، مؤشر من مؤشرات هذا الغد الموعود. إن مستقبل الحركة الإسلامية لن يتأثر بهذا الطرح، كما لم يتأثر بسابقيه، وعلينا ألا ننشغل بهذا الأمر أكثر من اللازم، بل علينا أن ننشغل بالأساس: بناء الإنسان المسلم الفاعل التاريخي، وإيجاد الطليعة المؤمنة المجاهدة، واستكمال بناء التصور والمنهاج.
*إذا كنتم ترفضون الطرح الأمريكي من حيث المبدأ.. فهل لديكم بدائل متاحة؟
- الأمر لا يتعلق برفض مبدئي، يفهم منه الدفاع عن الأنظمة المستبدة صنيعة الغرب، ولا بقبول مبدئي يوحي بالرهان على أمريكا في التغيير التي تكن العداء للإسلام والمسلمين. إنما نحن بصدد حوار ومناقشة لمداخل التغيير الحقيقية. من هذا المنطلق، أقول إن أي مبادرة للإصلاح والتغيير من أمريكا ستبقى محط شك وريب، ما لم تغير من سياستها الخارجية، وتحكم منطق العدل والإنصاف في التعاطي مع قضايا أمتنا المستضعفة. وإن المدخل لذلك، يكمن في إعادة النظر في روح العداء للإسلام والمسلمين، والحركات الإسلامية. ينبغي على الغرب، وفي مقدمتهم أمريكا، إعادة النظر في كيفية التعامل مع الحركات الإسلامية، من خلال إدراك الأسس التي تقوم عليها.
فالحركات الإسلامية الجادة والأصيلة تؤسس مشروعها المجتمعي على الإسلام باعتباره منهاج حياة؛ يسمو بالفرد والمجتمع إلى تأسيس روابط بين أفراد المجتمع والإنسانية على أساس الحب والإخاء لا الكره والبغضاء، وعلى أساس العزة والكرامة لا الذل والاستسلام، وعلى أساس التعاون والتكامل لا الاستغلال والتبعية، وعلى أساس العدل والإنصاف لا الظلم والاستبداد، وعلى أساس الرحمة والقوة لا العنف وسفك الدماء.
إن خيار العداء والعنف والإرهاب لا ولن يوقف هذا المد الإسلامي الصاعد، إنما يذكي نار الحقد والانتقام، ويفتح المجال للعنف المضاد، فيأتي على الأخضر واليابس. إن أمريكا ليست قدرنا الوحيد؛ فالتغيير الحقيقي ينطلق بالاعتماد على العامل الذاتي، بعد الله سبحانه وتعالى، بتربية الأمة وتحرير طاقاتها لتكون لنا سندا بعد الله عز وجل في عملية الاقتحام.
التغيير الحقيقي يتأتى بجمع الجهود ولمّ الصفوف، في إطار العمل على المكشوف وفي الوضوح، بأن تجتمع القوى السياسية الرامية للتغيير، إلا من استثنى نفسه، لصياغة ميثاق على أرضية جامعة، يحدد معالم التغيير ومبادئه، وأن يصاغ هذا الميثاق على مرأى ومسمع من الشعب ليساهم في التقرير بالمصادقة عليه، ليكون الشعب فاعلا ومشاركا وليس قطيعا مفعولاً به. ثم يشرع في تطبيق بنود الميثاق، والتي من ضمنها وضع دستور من طرف جمعية منتخبة انتخابا حرا، يحدد الأجهزة وآليات العمل، لينطلق البناء بمشاركة كل أبناء الأمة، بدون إقصاء، في إطار تعددية تستوعب الجميع؛ وفي إطار الوضوح الذي من شأنه بناء الثقة. إن نقطة الانطلاقة هي التأكد من إرادتنا الذاتية، ومعالجة أمراضنا الذاتية، وتحرير إرادتنا الذاتية.
*هل تفكرون في التعامل مع هذا الطرح على أنه ورقة ضغط على أنظمتكم لتحسين أوضاعكم أو الاعتراف بكم أو تحقيق مكاسب ما؟(19/312)
- إن الجواب على هذا السؤال يقتضي الجواب على السؤال المركزي الذي طرحناه، وهو: هل الطرح الأمريكي يهدف إلى تحسين وضعية الشعوب، والاعتراف بكل مكوناتها وتحقيق مكاسب لها، على رأسها الحرية والكرامة والديمقراطية والتنمية، بما لا يفقدها هويتها ومقوماتها الحضارية؟ بالنسبة لي الجواب لا، وبالتالي فهامش التناقض بين مصلحة الأنظمة الحاكمة والمصالح الأمريكية جد ضيق؛ فلذلك ينبغي عدم الرهان عليه، بل نتعامل معه في إطار حجمه الحقيقي، بما له وما عليه. إن هذه الفترة الحرجة مناسبة للم الشتات، وتوجيه الجهود، وجمع كلمة كل القوى الداخلية، حيت يراجع كل طرف ماضيه، ويعيد حساباته، ويستحضر أن مستقبل الأمة رهين بمشاركة جميع مكوناتها، ويكون هذا المنطلق في التغيير والإصلاح والبناء، بعيدا عن الانتهازية.
*ألا تخشون لو رفضتم الطرح الأمريكي أن تظهر على الساحة حركات إسلامية "صناعة أمريكية" وفق نموذج "الإسلام الأمريكاني"؟
- الحركة الإسلامية الجادة موجودة مند عقود رغم الحصار والقمع والتضييق، ورغم الكيد والاستضعاف؛ فكل هذه الأمور لم تزدها إلا نموا وانتشارا. وهذا سببه، بعد تأييد الله عز وجل وحفظه، ارتباطها بمصالح الأمة وتبنيها لقضايا شعوبها التي أصبحت تميز بين الأصيل والدخيل. والأنظمة حاولت تفريخ إسلام رسمي، قبل أمريكا ولكنها لم تنجح. فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
* وكيف ستكون استجابتكم للمتغيرات القادمة؟ أم ستديرون لها ظهوركم؟
- على الدعاة إلى الله المقتحمين أن يعرفوا العالم، وأحداث التاريخ، وسببية حركته، والقوى المؤثرة فيه كما هي، لا كما يصورها الطموح الجامح أو الأمل المكبوت أو اليأس اليائس. لذلك لا يمكن أن ندير ظهورنا لما يجري في الواقع من أحداث ومتغيرات، بل علينا التعامل معها ومعرفة كيفية مصانعتها. أوجدنا الله عز وجل في هذه الحياة لا لندير ظهورنا لكل ما يظهر من متغيرات، بل لنتعامل مع كل المستجدات. أوجدنا سبحانه وتعالى، وتحملنا رسالة عظيمة، لا لنكون على هامش التاريخ، بل لنكون فاعلين في صناعته بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
نحن حملة رسالة تبشر الإنسان باسترجاع حق من أهم حقوقه المسلوبة، ألا وهو حق معرفة خالقه عز وجل، وندعو العالم إلى تحقيق السلام والأمن والعدل والكرامة والحرية بين جميع بني الإنسان دون تمييز أو استثناء. وتحقيق هذه الأهداف النبيلة الجليلة التي تتشوق لها الإنسانية جمعاء يتطلب عملا وحكمة؛ ومن الحكمة المرونة ومصانعة الواقع في إطار التكتيك، دون زيغ أو تيه عن المقاصد المنشودة والأهداف الإستراتيجية. لذلك سنتفاعل مع كل المتغيرات، بل سنسعى بإذن الله لنكون فاعلين فيها، بما يوافق وينسجم مع منطق الدعوة الذي قوامه القوة، وليس بمنطق الساحة الذي قوامه العنف، الذي نهانا رسول ا صلى الله عليه وسلم عن نهجه والأخذ به. بالمقابل سنرفض وسنقاوم بكل الوسائل المشروعة كل ما يهدد هوية أمتنا.
*كيف ستعيدون هيكلة مواقفكم وبنائكم التنظيمي الداخلي؟ وكيف ستعيدون رسم علاقاتكم على الصعيد الخارجي وفق عاصفة المتغيرات القادمة؟
- إن هذه المبادرة ليست بالأمر الجديد؛ وليست بمثابة العاصفة التي تستدعي إعادة النظر في المواقف وفي البناء التنظيمي. فهي لم تغير من طبيعة العالم شيئا، ولم تكشف عن أمر جديد. إنما تؤكد تكالب قوى الاستكبار على أمتنا المستضعفة واستهدافها في هويتها ومقوماتها. إن منهاج التغيير يجب أن يستحضر المتغيرات الكبرى؛ وهي ظهور ملامح نظام عالمي جديد، يتمخض عن قوى وتكتلات جديدة متعددة، من مثل تكتل البحر الهادئ الذي تتزعمه اليابان التي تتفوق وتتقدم في بعض الميادين بعقدين من الزمان أو أكثر، ومن مثل وحدة أوربا الغربية التي تتوسطها ألمانيا التي برهنت تكنولوجيتها التي تعتمد الصناعة المدنية على تفوقها، وهناك تكتل جنوب شرقي آسيا، وكذلك تطلع الصين والهند...
هذه المتغيرات ستتوارى معها في الأفق المنظور الهيمنة الأمريكية، بسبب مديونيتها وعجزها المالي وسمعتها الفاسدة؛ ولأن الغلبة في المستقبل للقوة الاقتصادية وليس للقوة العسكرية. ويمكن أن تفتح للمسلمين المكانة الشريفة، بعد أن تزول عنهم أقفال الحكم المتمثل في سلاطين النفط وأضرابهم، والحكم الجبري المتمثل في الزعامات القومية. فلا نهوض لأمتنا إلا بالتكتل، ولا تكتل في ظل سياج القومية، ولا تحرر يرجى منها إلا بالحكم القرآني: حكم الشورى والعدل. ولا قبل للقوة المقتحمة بتحديات الداخل والخارج، إذا لم تتسلح بالإيمان، وتعطي للعامل الذاتي الأولوية في التمحيص والعلاج. إنها تحديات كبيرة، ولكن الله أكبر "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
*ما هو تقييمكم للفكرة؟ وما هو موقفكم بشكل عام منها؟(19/313)
- في نظري أن المبادرة تعلن عن أهداف تبدو في ظاهرها دعوة لمحاربة الاستبداد الذي تعاني الشعوب من قهره وبطشه، ودعوة لمحاربة الأمية والجهل اللذين يعيقان حركة المجتمع، ودعوة لتنمية اقتصادية تخرج المجتمع من واقع التخلف والانحطاط. ثلاثة أهداف لا يمكن لعاقل أن يجادل في أهميتها، غير أن السياق الذي تأتي فيه المبادرة يفرض طرح عدة أسئلة عن خلفيتها وعن حقيقة مضامينها.
فالمبادرة تأتي في سياق يعرف ارتفاع موجة العداء من طرف أغلب أبناء الأمة الإسلامية المستضعفة إزاء أمريكا، بسبب سياستها الخارجية التي تكيل بمكيالين في قضايا أمتنا في فلسطين والعراق وغيرها. سياسة تجعل من المجرم الإرهابي الغاصب للأرض والوطن ضحية، ومن المدافع عن أرضه ووطنه وهويته مجرمًا إرهابيا. سياسة صنعت أنظمة الاستبداد، ودعمتها، ورعتها، وتغاضت عن جرائمها في حق شعوبها لعقود. سياسة دمرت شعب العراق وحضارته بدعوى البحث عن أسلحة الدمار الشامل، فوجد الدمار، ولم توجد الأسلحة إلا تلك التي صنعتها أمريكا. سياسة تتغاضى عن أسلحة الدمار الشامل المعلنة لدى الكيان الصهيوني، وعن جرائم التقتيل والتدمير والتخريب التي تستهدف الشعب الفلسطيني الأعزل.
كيف يمكن الجمع بين هذه الأفعال المؤلمة وتلك الأهداف "النبيلة"؟ إن المقارنة بين الأفعال والدعاوى يطرح أكثر من علامة استفهام على الخلفية ومضامين الأهداف المعلنة لدى كل ذي عقل. لا نقول هذا من باب رفض كل ما يأتي من الآخر، بل نحن مطالبون شرعا بالانفتاح على كتاب العالم وتجارب الإنسانية، بقدر انفتاحنا على كتاب الله المقروء جل وعلا، ومطالبون بالتعاون بين بني البشر، لكن على أي أساس؟
فلمصلحة مَن هذه المبادرة؟ هل لمصلحة الشعوب المسلمة التي منعت النصرة؟ أم لصالح أمريكا لحماية ورعاية مصالحها غير المشروعة في المنطقة؟ أم لصالح إسرائيل التي توفر لها المبادرة إطارا للاعتراف والتطبيع والتمكين من خيرات المنطقة، كما توفر لها فضاء لمسخ الهوية العربية والإسلامية بتسمية الأمور بغير مسمياتها "الشرق الأوسط الكبير"؟.
هل أمريكا جادة في تحقيق الديمقراطية في أوطاننا؟ هل هي على استعداد للقبول بنتائج صناديق الاقتراع، ولو كانت لصالح الحركات الإسلامية وبرامجها ومشروعها المجتمعي، ولو ذهبت بكراسي حلفائها ومن صنعوا على عينيها؟ هل يمكن لأمريكا أن تحترم إرادة الشعوب المسلمة في تحديد نظام حكمها، في حالة اختيارها للإسلام القائم على الشورى والعدل؟
ما المقصود من تحقيق المجتمع المعرفي؟ هل بتمكين الشعوب المسلمة من محاربة الأمية والتسلح بالمعلوميات والعلوم والتكنولوجيا والتقانة المحتكرة من طرف الغرب؟ أم الهدف هو الدعوة لإصلاح التعليم بمحاربة كل ما يمت بصلة لكتاب الله وسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم في برامجنا التعليمية، بدعوى أنهما يربيان على العنصرية والكراهية حتى تنسلخ الأمة عن هويتها وتتجرد من كل مقوماتها؟
وعن أي تنمية اقتصادية يتحدثون؛ هل سيمكنوننا من خيراتنا وسيرفعون أيديهم عن مصادرنا الحيوية؟ وهل سيتراجعون عن بخس أثمان موادنا الأولية وإغلاء أثمان موادهم المصنعة؟ أم سيزيلون مشنقة الديون عن رقاب شعوبنا، ويكسرون قيود المديونية التي يتحكمون في أسعار فوائدها الربوية، والتي تثقل كاهل الأمة عن أي انعتاق أو تحرر اقتصادي؟ ليس العيب أن يقدم لك أحد يد المساعدة أو النصيحة، ولكن هل تنفصل النصيحة والمساعدة عن فعل الناصح والمساعد؟
==============(19/314)
(19/315)
الإصلاح العربي.. بالثورة على الفساد
د. صلاح عبد المتعال*
13/04/2004
مجلس الشعب
إصلاح الشيء (لغة) هو إزالة التلف أو الضرر عنه وجلب المنفعة والسلامة إليه. وإذا كان الفساد هو التلف والعطب في الأمور والخلل والضرر والانحلال في المجتمع؛ فإن الصلاح هو الاستقامة والسلامة من العيوب وزوال العداوة والخصومة والشقاق، والتخفيف من حدة الصراع فيه. لقد ورد المصطلحان (الفساد والإصلاح) في القرآن الكريم في عشرات المواضع من الآيات القرآنية؛ إذ ورد الفعل فسد ومشتقاته الفعلية والاسمية في 44 موضعا، وورد الفعل صلح بمشتقاته الفعلية والاسمية أيضا في 182 موضعا. وهناك من الآيات التي تشير إلى سنن الله في خلقه، بمعنى أنها قوانين اجتماعية حتمية الحدوث فإذا "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس..." (الروم: 41) أي استشرى، فإن عاقبة ذلك وخيمة بسقوط المجتمع وانهيار أركانه واستهواء المستعمر للتسلط عليه ".. إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة..." (النمل: 34)؛ كذلك الإشارة إلى أن الصلاح والإصلاح يدرأ الضرر والهلاك عن الأمة "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون" (هود: 117)، ويجلب الخير والرخاء إليها "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض..." (الأعراف: 96).
الإصلاح أنواع
ويتشكل الإصلاح بمقصد أصحابه فإما أن يكون إصلاحا حقيقيا فتتلاشى التناقضات وتصحح الأوضاع وتستقيم الأمور، أو أن يكون إصلاحا مزعوما هدفه تجميل الصورة أمام الرأي العام فتوضع الرتوش واللمسات الزخرفية ببعض الإجراءات والتغييرات السطحية لأي نقص أو عور في النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، بينما حدة التناقضات البالغة السوء هي التي تبقى على استمرار أصحاب ورعاة هذه النظم المتهالكة بحيث يصيبهم العجز لمواجهة التحديات الراهنة التي ينوء بحملها الوطن العربي.
ورقة الإصلاح العربي التي قدمتها تونس في مشروع عقد القمة العربية هي من قبيل ذلك النوع المزعوم للإصلاح؛ إذ أثارت أزمة مصطنعة لفرض الرأي الأمريكي لأولويات الإصلاح وربطه بالإرادة الأوربية الأمريكية في مشروع شرق أوسطي كبير بما يتيح لإسرائيل التلاعب بمقدرات العرب وإرادتهم السياسية، خاصة بعد تهميش القضية الفلسطينية والغزو الأمريكي للعراق وإبراز قضية الإرهاب في المقدمة ابتغاء إدانة المقاومة المشروعة للطغيان الإسرائيلي في فلسطين وللاحتلال الأمريكي للعراق.
تكريس التبعية
لوحة من ألوان الطيف السياسي بالغة التنافر بين ألوان العمالة السياسية لأمريكا التي تقارب نجمة داود، والعجز العربي والتناقض بين أنظمة الحكم ومصالح شعوبها، والتظاهر بالرغبة في الإصلاح لذر الرماد في عيون الشعوب المقهورة التي استيئست من مطالب الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي، وتمكين الإنسان العربي من حقوقه في العدالة والحرية والمساواة التي سلبت منذ أن تمكنت هذه الأنظمة على مر عقود من القرن العشرين، خاصة بعد أن نالت استقلالها من الاستعمار الأوربي من الخليج إلى المحيط.
ثم تفرط هذه النظم في استقلال شعوبها بتكريس التبعية الاقتصادية والسياسية واستمراء السلطة المستبدة، حيث حرمت مواطنيها من حق المشاركة في صناعة قرارات التنمية الاقتصادية والحرية السياسية في التعبير وتشكيل الأحزاب وتقييد مؤسسات المجتمع المدني وفتح الأبواب لاستشراء الفساد وصناعته بطرق مستحدثة تواكب العصر تعلو على أساليب الجرائم التقليدية ضد النفس والمال، بل تصل بجرائمها إلى حد إفراغ الخزائن من المصارف والبنوك وسلب الأوطان من عصبه الاقتصادي بقروض ومنح مردوده لأصحابها الأمريكان والأوربيين مرة أخرى، مما يغرق الأمة بديون من المليارات التي تربطهم بعجلة الدائن المقرض فتتفاقم التبعية الاقتصادية والسياسية، وتفرض السياسات الإنتاجية وتتضاءل مساحة زراعات المحاصيل الإستراتيجية كالقمح والذرة بالتحديد، وتفرض مشروعات الصناعة الاستهلاكية المعتمدة على الآلات المستوردة بقروضها الربوية المستغلة. وغير ذلك الكثير الذي يفتح الثغرات الكثير لانتشار الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
وتفوح رائحة الفساد بما يزكم الأنوف وذلك على أعلى المستويات السياسية والاجتماعية بين وزراء ووكلائهم وتصدر ضدهم الأحكام. ولا تقف تراكمات الفساد عند حد معين، بل تتكرر دون ضابط أو وازع أو حسم يقطع دابر المفسدين؛ مما يشير إلى أن الظاهر هو قمة الجبل الجليدي من الفساد الذي يخفي تحت مياهه إفسادا لن تنتهي توابعه إلا بإصلاح شامل يبدأ بثورة على الفساد والإفساد.
منظمات الشفافية(19/316)
لقد قامت منظمة الشفافية الدولية TI) - T r anspa r ency Inte r national) بالإعلان عن مؤشر مدركات الفساد (Co r ruption Pe r ceptions Index - CPI) للمنظمة للعام 2003 ويدل مؤشر الفساد في 133 بلدا من البلاد النامية -ومنها الدول العربية- أن 9 من أصل كل 10 دول نامية بحاجة ماسة لدعم عملي لكبح الفساد، وحسب المؤشر الجديد الذي يصنف 133 دولة حسب المستوى المقدر لقبول الرشاوى لدى السياسيين وموظفي القطاع العام فيها.. إنه مؤشر مركب اعتمد على 17 عملية استقصاء أجرتها 13 مؤسسة مستقلة شملت رجال أعمال ومحللي مخاطر من تلك الدول ويركز المؤشر على الفساد في القطاع العام، إذ يعرف بأنه سوء استعمال الوظيفة في القطاع العام من أجل تحقيق مكاسب شخصية.
لقد قامت منظمة الشفافية الدولية المشار إليها بإعداد تقرير علمي عن مدى استشراء الفساد في الدول 133 موضوع الدراسة الميدانية. وتم تحديد مستوى الشفافية الأعلى أي النقاء من الفساد بعشر درجات؛ بمعنى أن دولة كفنلندا حصلت بالفعل على 9.7 من 10 درجات وبذلك هي أقرب إلى الشفافية والنقاء والبعد عن الفساد. أما دولة بنجلاديش فقد حصلت على 1.3 درجة، ومن ثَم فهي بعيدة كل البعد عن الشفافية والأقرب إلى بؤر وانتشار الفساد. وقد بينت هذه الدراسة أن 7 من كل 10 بلدان تحصل على أقل من 5 نقاط على 10 نقاط، بينما تحصل 5 من 10 بلدان نامية على أقل من 3 نقاط على 10.
وإذا بحثنا عن موقع البلدان العربية من الشفافية والنقاء بالبعد عن بؤر وانتشار الفساد كما ورد في التقرير فإن 5 دول فقط من 17 دولة عربية كانت متوسطة في درجة الشفافية (عمان 6.6، البحرين 6.1، قطر 5.6، الكويت 5.3، الإمارات 5.2) من 10 درجات، أما الـ12 دولة عربية الأخرى فكانت أقل من 5 درجات وهي على التوالي تنازليا ( تونس 4.9 ـ الأردن 4.6 ـ السعودية 4.5 ـ سوريا 3.4 ـ مصر 3.3 ـ المغرب 3.3 ـ لبنان 3.0 ـ فلسطين 3.0 ـ الجزائر 2.6 ـ اليمن 2.6 ـ السودان 2.3 ـ العراق 2.2...) من 10 درجات. منها 9 دول يتراوح مستواها المتدني بين (2 - 3) من 10 درجات، مما يضيف إلى جبين أمتنا العربية خجلا فوق خجل، بما يؤشر إلى مزيد من احتمالية الارتباط الإيجابي للعلاقة بين النظم التسلطية وانتشار الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
هذا فضلا عن إفشال الفساد للنمو الاقتصادي وقطع أوصال التنمية المستدامة، والهبوط بالمواطنين إلى مستوى ما تحت خط الفقر ومعاناة الملايين من البؤس، مما يؤدي إلى حالات من اليأس وانتحاء شرائح من الشباب إلى الإرهاب أو الاستغراق في مستنقع التيه والمخدرات، وما يتبع ذلك من جرائم أخرى ضد النفس والمال. ومن يرد المزيد من التفاصيل فليرجع إلى تقرير الشفافية الدولية المشار إليه سلفا لدراسة الفساد على مستوى العالم في تقرير 2003 لهذه المنظمة غير الحكومية ومركزها الرئيسي في برلين ولها 90 فرعا في العالم.
ونستخلص مما سبق أن هذه المؤشرات المشار إليها عن الفساد في الدول النامية عامة والدول العربية، خاصة ما هي إلا الشواهد السطحية إنما الحجم الأكبر هو في الأرقام المجهولة التي تفنن المفسدون من أصحاب المكانة والنفوذ في القيام بها أو ارتكابها بمكر ينفذون به من ثغرات القانون وسوء استخدام السلطة واستغلالها لمصلحة فسادهم والإضرار بأهلهم وشعوبهم.
لن يبدأ أي إصلاح عربي إلا بثورة على الفساد والإفساد الذي يأكل حصاد التنمية أولا فأولا. فهل سيظل الشعب العربي صامتا إلى الأبد وقد أغرقه القهر منتظرا الكاوبوي الأمريكي لينتشله من مستنقع الفساد، ويدله على طريق الإصلاح؟!! كلا إنه زعم يراد به باطل والإرادة العربية الحرة كفيلة بأن تتخلص من فساد القهر الداخلي ودفع الطغيان الأمريكي الصهيوني.
* أستاذ علم الاجتماع بالجامعات المصرية - بريد إلكتروني:
==============(19/317)
(19/318)
الشرق الأوسط: من الاستعمار التقليدي إلى التعريف الأمريكي
مجدي رياض**
17/04/2004
لم يكن مفهوم الشرق الأوسط سوى تعبير عن المنظور الاستعماري في العصر البريطاني، ورؤية العالم ومناطق النفوذ من زاوية المركز الأوربي؛ وفي الوقت ذاته نفي لأي تسمية أو مشروع لتوحيد الوطن العربي؛ ومن هنا كان تعبير الشرق الأدنى مرادفا للدول العربية الواقعة فيما يسمى بالهلال الخصيب، واختلفت دلالة مفهوم الشرق الأوسط قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية عن دلالته بعد الحرب.
وإذا كان المفهوم قد شهد انتشارا متعمدا في العصر الأمريكي فقد اعتراه إضافات عديدة، حتى استقر في المفهوم الأخير تحت عنوان "الشرق الأوسط الكبير". وإلى جانب هذا الاتساع في الدلالة شهد أيضا انقلابا في الأدوار؛ فبينما كان العصر البريطاني يركز على قناة السويس ومصر، أصبح العصر الأمريكي يركز على النفط والخليج. فالتقارير الإستراتيجية الأمريكية -منذ السبعينيات- تتحدث عن خطط التحرك والبدائل المختلفة للسيطرة على منطقة الخليج لضمان إمدادات البترول. وتزايدت هذه الدراسات في إعدادها وحدة لغتها منذ قيام الثورة الإيرانية وإسقاط الشاه؛ وغطت حقبة الثمانينيات، وصولا إلى العمل العسكري في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة؛ ثم في تقديم مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي نجد أبعاده العسكرية والسياسية والاقتصادية في تقرير مجموعة الدراسة الرئاسية المقدم في عام 2000، والذي شمل توصيات بالخطوات التي ينبغي اتباعها بالشرق الأوسط من المجموعة الرئاسية الجديدة!!
الانقلاب الجيوبولوتيكي
إن التركيز على الخليج العربي ودوائره الحيوية والمحيطة به لم تكن رغبة عابرة، ولم يكن صدفة. فمن المعروف أن تأمين الثروة والقوة بالنسبة للولايات المتحدة يرتبط بالتحكم عالميا بسوق النفط ومشتقاته؛ هذا التأمين يشكل أحد المفاتيح الرئيسة في إستراتيجيتها الكونية منذ عام 1945؛ فسيطرتها على تدفق النفط وفر لها الانطلاق الاقتصادي، وتأمين النظام الاقتصادي العالمي وهي نقطة المركز فيه.
لقد كانت الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الثانية مكتفية ذاتيا بالنسبة الطاقة؛ لكنها تحولت الآن إلى المستهلك العالمي الأول؛ حيث تمثل 4.6% من سكان العالم، بينما تستهلك ربع إنتاج النفط في العالم. وفي الوقت ذاته -وكما يشدد بعض المحللين الأمريكيين- فإنها لا تزال تستورد 24% من احتياجاتها من نفط الشرق الأوسط. صحيح أن النسبة أقل من نسبتها قبل حرب أكتوبر1973، ولكنها أكثر بنسبة الثلث قياسا بالسنوات القليلة الماضية؛ وهو ما يعنى بالنسبة للعقلية الحاكمة بواشنطن، وللمخططين الإستراتيجيين بها، عدم السيطرة الجازمة في سوق النفط العالمية.
إن الباحث عن توجهات السياسة الاستعمارية بعد الثورة البترولية أو ما سمي بالانقلاب الجيوبوليتيكي/الإستراتيجي على حد تعبير العالم الرحل د.جمال حمدان في مطلع الثمانينيات -وذلك في كتابه القيم "إستراتيجية الاستعمار والتحرير"- يستطيع بالقراءة لتلك الكتابات القيمة أن يستشف معادلة البترول والخليج، ودخولهما في صلب الإستراتيجية الاستعمارية الأمريكية. فمنذ أن أصبح الخليج المستودع الأول لمخزون البترول بالعالم تحول تدريجيا ليصبح محور السياسات والصراعات. من هنا كانت المعادلة أو المتتالية التكنولوجية الإستراتيجية الجيوبوليتيكية في عصر بريطانيا هي: الفحم، السكة الحديدية، الباخرة، قناة السويس، مصر، الاستعمار القديم، صراع الإمبراطوريات، ولكن هذه المتتالية تحولت في العصر الأمريكي إلى: البترول، السيارة، الناقلات، الخليج العربي، الاستعمار الجديد، صراع الكتلتين. وإذا كان الحديث للدكتور حمدان في بداية الثمانينيات فما بالنا الآن بعد انهيار الكتلة الثانية، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم ولو مؤقتا؟ إن أهمية التنبيه/التحليل الحمداني تكمن في تحديده لاتجاه البوصلة الإستراتيجية الاستعمارية مبكرا، والتي تذبذبت (من الغرب إلى الشرق، من قناة السويس إلى الخليج العربي). وهكذا بعد أن كان الخليج محطة على طريق السويس إلى الهند انزلقت -ولا نقول انزوت- القناة إلى ممر على طريق البترول إلى الخليج.
إن هذا التبدل في اتجاه البوصلة نحو الموقع/الإقليم، وما يفرضه ذلك على الصراع والإستراتيجية، ولانتقال مركز الثقل الإستراتيجي وهو ما يدفع بالضرورة إلى تحجيم أدوار وتضخيم أدوار لإقليم أو دول، وما تحتويه من ممرات صناعية أو بحيرات وخلجان طبيعية. فبعد أن كانت السويس كبيرة والخليج صغيرًا من الوجهة الإستراتيجية، انقلبت الموازين واختلت... فأصبح الخليج كبيرًا جدًا والسويس صغيرة نسبيًا، بل وورث الخليج ومضيقه دور وموقع مصر وقناتها إلى حد بعيد جغرافيا وإستراتيجيًا؛ ومن هنا لم يكن غريبا وقوع ثلاث حروب على ضفاف الخليج وحوله، ولواشنطن يد فيها خفية أو علانية منذ الثمانينيات، وحتى الآن.. هذا إلى جانب حربها بأفغانستان.
إعادة تعريف الشرق الأوسط(19/319)
لقد ارتبط مفهوم الشرق الأوسط بالرؤية الاستعمارية لمصالحها الإستراتيجية، وبتصورها لإعادة صياغة وتركيب المنطقة منذ القرن الماضي وحتى اليوم، ومن ثم جمع مفهوم "الشرق الأوسط" بين الجغرافيا والسياسة، كما يرى الدكتور أحمد صدقي الدجاني، ولم تكن دلالته الجغرافية مستقرة؛ حيث تذبذبت بين الاتساع والضيق حسب المصالح الاستعمارية، والرغبة في تفتيت الأمة العربية والإسلامية.
لقد كتب ونستون تشرشل في مذكراته عن الحرب العالمية الثانية، كما ذكر المفكر ساطع الحصري في كتابه "دفاع عن العروبة" (1955) عن مفهومه للشرق الأوسط؛ وذلك في 26 أغسطس 1942، يقول: إني كنت أشعر على الدوام أن تسمية مصر والمشرق وتركيا باسم "ميدل إيست" (الشرق الأوسط) لم تكن من التسميات الموفقة. فإن هذه البلاد تؤلف الشرق الأدنى، وإيران والعراق تؤلفان الشرق الأوسط؛ وبلاد الهند وبورما وماليزيا تؤلف الشرق؛ أما الصين واليابان فتؤلفان الشرق الأقصى. وقام تشرشل بإعادة تقسيم القيادة العسكرية، في مساء نفس اليوم، إلى قيادة الشرق الأدنى، وتحتوي مصر وسوريا وفلسطين ومركزها القاهرة؛ وقيادة الشرق الأوسط، وتشمل العراق وإيران ومركزها بغداد؛ وبذلك كانت البوصلة البريطانية في التسمية والتقسيم هي العمليات الحربية.
بعد تسع سنوات (أي في عام 1951) وفي مجلس العموم البريطاني وجه أحد النواب سؤالا للحكومة عن البلاد التي تدخل ضمن اصطلاح الشرق الأدنى؛ فأجابه وكيل وزارة الخارجية آنذاك قائلا: "إن تعبير الشرق الأدنى الذي لازم السلطنة العثمانية يعتبر الآن في بريطانيا العظمى مما فات أوانه في اللسان الرسمي، ويستعاض عنه الآن بتعبير الشرق الأوسط. ومجموعة البلاد التي يشار إليها بهذا التعبير تشمل: مصر، العراق، سوريا، لبنان، إسرائيل، العربية السعودية، الإمارات، الكويت، البحرين، قطر، مسقط، محمية عدن واليمن. أي ما يعرف بالوطن العربي مع اقتطاع المغرب العربي الكبير، ومع إضافة إسرائيل بديلا عن فلسطين".
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد ركزت على مفهوم الشرق الأوسط بمعناه الأخير، مع إضافة تركيا وإيران -وذلك في الإعلام وفي المؤسسات الدولية ووزارة الخارجية في كل ما يتعلق بالصراع العربي/الصهيوني، ونجحت في تسييد هذا المفهوم كبديل عن الوطن العربي أو العالم العربي... إلخ- فإنها ومنذ الثمانينيات اتخذت منحى جديدا. فقد قدم "بيتر دويجنان" بالمشاركة مع "إل إتش غان" دراسة عن الشرق الأوسط لصانع القرار الأمريكي، أشارا فيها: إلى أن "لفظة الشرق الأوسط لفظة اعتباطية؛ فهي تشمل بالمعنى الضيق مصر والجزيرة العربية وتركيا وإيران؛ أما بالمعنى الواسع فهي تشمل كافة المناطق الممتدة من شاطئ المحيط الأطلسي، وعبر شمال أفريقيا، وصولا إلى حدود إيران الشرقية".
ولكن أخطر ما في هذا المفهوم الذي تجذر فيما بعد وتوسع بجهود العديدين من المختصين ودوائر صنع القرار يتمثل في ثلاث نقاط:
الأولى: تسفيه وتقليل شأن المفهوم الضيق للشرق الأوسط، وفيما بعد إلغاؤه.
والثانية: الإشارة إلى أن هذه المنطقة الشاسعة تنطوي على اختلافات جغرافية وإثنية واسعة جدا، كما تحوي العديد من المناطق التي لكل منها تراثها التاريخي والحضاري الخاص بها؛ أي القول بعدم وحدته من جهة، وقبوله للتجزئة من جهة أخرى.
والثالثة: الاعتراف بوجود مؤشرات مشتركة بين بلدان الشرق الأوسط، يقع الإسلام في مقدمتها بوضوح؛ فالإسلام هو الذي استحوذ على عالمها، والمنطقة تدين بالإسلام باستثناء بعض الفئات. هذا العامل سوف يتم استخدامه سلبا في منظور صراع الحضارات، ونهاية التاريخ من الزاوية الأيديولوجية الأمريكية، وفي استهداف ضربه، وربطه بالإرهاب في المنظور الإستراتيجي العسكري/ السياسي.
وإذا كانت وثائق وزارة الدفاع/مايو 1995، والكونجرس /مارس 1995 قد تضمنت إستراتيجية الولايات المتحدة بالشرق الأوسط -والتي اختزلت في ضمان تدفق البترول وبسعر مناسب، وضمان حرية الملاحة، والالتزام بأمن إسرائيل وتفوقها النوعي، وزيادة القدرات الدفاعية (لا الهجومية) للدول الصديقة- فإن الدراسات الإستراتيجية الأمريكية منذ العام 1997 قد اعتمدت المفهوم الأوسع لتعبير الشرق الأوسط الكبير؛ حيث إن هذا المفهوم الجديد يضم كلا من تركيا وإيران ودول آسيا الوسطى الإسلامية الغنية بالبترول، والسوق الضخمة المرتقبة للسلع الأمريكية؛ وهو ما أكدت عليه في خطتها المعلنة الآن، المعروفة بمشروع الشرق الأوسط الكبير (بلدان العالم العربي، زائد باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل). ومن هنا فإن التخطيط للاستقرار والأمن في المنطقتين العربية والإسلامية -كما ترى واشنطن- أصبح ضرورة حياتية وإستراتيجية بالنسبة لواشنطن.(19/320)
لقد شدد مفكرنا الحصري على أن الانتقال بين التعريفات في العصر البريطاني لا يعود للتاريخ وللجغرافيا، بل للاحتياجات السياسية والمتطلبات العسكرية للاستعمار الغربي. ونحن نشير بدورنا أيضا إلى أن الانتقال والتوسع في التعريفات بالعصر الأمريكي، بل ومحاولة الاستقرار على النتائج النهائية للمفهوم الشرق أوسط، لا تعود إلى تقسيمات الجغرافيا والتاريخ (أي قوميات أو أقاليم متجانسة)، بل لاحتياجات الأمن والطاقة، ورسم الخريطة الإستراتيجية الأمريكية، بما فيها نفي كل ما يقال عن الدائرة أو الأمة العربية، خاصة في ظل ربط المشرق بتركيا وإيران والعديد من دول آسيا، وفصل المشرق عن المغرب، وربط الأخير بالدائرة الجنوبية للمتوسط، والتقسيم للوحدات القطرية الموجودة باسم الفوارق العرقية أو الدينية؛ وفي الوقت ذاته دمج إسرائيل كأمر واقع، بل وكجزء في هذا التقسيم السياسي العسكري، وهو ما ظهر فيما بعد في حلف بغداد، وظهر حديثا فيما سمي بالسوق الشرق الأوسطية.
ما الجديد في التعريف الأمريكي؟
1 - أنه تعريف غير خاضع لخطوط المعارك الحربية، وتبدلات القتال والمواقع (كما كان في بريطانيا العظمى)، أو كما كان الأمر بالنسبة للحرب الباردة وصراع الكتلتين، بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يعني هذا عدم دخول البعد العسكري في هذا التعريف، لكن التعريفات السابقة ترسم الحدود وفق وجود القوات والعمليات، بينما التعريف الأمريكي يضع الحدود أولاً للمفهوم ثم يجعل القوة العسكرية (وغيرها من الأدوات الاقتصادية والثقافية) تتحرك فوقها، وتقيم عملياتها وقتما تشاء.
2- أنه تعريف يقوم على أساس خريطة بلا تضاريس جغرافية، فلا تحمل عوائق طبيعية.. وبلا تضاريس عسكرية أو بشرية، فلا تسجل عوائق صناعية أو حواجز مانعة؛ ومن ثم الرسم فوقها للأقاليم والحدود التصورية لا التواء فيه، ولا صعوبة للخيال أو الجموح أن يسجل ما يريد أن يتصوره؛ أي الكتابة والرسم والتشكيل فوق صفحات بيضاء وخالصة، ومن ثم مطلوب ملء تلك الصفحات بالثقافة والأفكار والنظام الاقتصادي بل والعسكري وفق المشيئة الأمريكية؛ وهي فرصة قلما توفرت في التاريخ بهذه الصورة، ولا تتحمل التردد أو الانتظار لحظة واحدة من منظور رجال الإستراتيجية الأمريكية، خاصة أن مفهوم الشرق الأوسط بمعناه الواسع/الجديد يمثل جزءا كبيرا من منطقة الارتطام التي يمكن أن ينطبق عليها رؤية ماكيندر منذ أوائل القرن الماضي للصراع بين قوى البر وقوى البحر للسيطرة على العالم؛ ولأن هذه المنطقة أرض الصدام والمعركة وجسر العبور لطرفي الصراع؛ فهي بين فكي الكماشة، وهي ضحية موقعها الجغرافي؛ وهو ما يسهل المهمة الأمريكية للانقضاض عليها والعبور منها للانفراد العالمي أيضا.
3- ولأنها فرصة تاريخية -كما تراها عقول التخطيط الإستراتيجي بواشنطن- فإن الإمساك بها ضرورة، وتشكيلها وفق الاحتياجات الاقتصادية الأمريكية (وفي مقدمتها الطاقة ثم الأسواق) حتمية؛ وبالضرورة والحتمية أن تكون خطوط الطول والعرض في الخريطة الجديدة هي التي توفر سهولة الإمدادات بالطاقة وسرعتها ورخصها، إلى جانب التحكم فيها، خاصة في ظل غياب الموانع والعوائق.
4- ووفق الضرورة والفرصة والاحتياجات، فإن فصل دول من إقليم الشرق الأوسط، أو إضافة دول إليه أمر بديهي؛ بل إن السعي إلى تقسيم دولة ما إلى دويلات أو كانتونات أو مناطق طائفية أو عرقية هو أمر ضروري تحكمه الرغبات والخطة الأمريكية، فضلاً عن أنه تأمين للمستقبل ومفاجآت التاريخ ودروسه؛ هذا إلى جانب سهولة السيطرة لواشنطن وصعوبة المواجهة ضدها.
==============(19/321)
(19/322)
مصر وتركيا و"الشرق الأوسط الكبير"
كيف يرى المصريون والأتراك "الشرق الأوسط الكبير"؟*
القاهرة - محمد جمال عرفة
…
30/03/2004
مظاهرات تركية احتجاجا علي اغتيال الشيخ ياسين
عقدت في الفترة من 22- 23 مارس 2004 بالقاهرة ندوة مغلقة تحت عنوان "الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.. رؤى مصرية وتركية"، نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة مع مركز الدراسات الإستراتيجية بوزارة الخارجية التركية، وشارك فيها حشد كبير من الدبلوماسيين والباحثين والخبراء المصريين والأتراك لبحث العلاقات المصرية التركية وأثرها على أوضاع الشرق الأوسط، ورؤية كل طرف لفكرة "الشرق الوسط الكبير" الذي تسعى واشنطن لفرضها على المنطقة العربية.
شارك في الندوة الناطقة باللغة الإنجليزية من الجانب المصري السفراء: حسام الدين قاسم عيسى مدير إدارة البلقان وجنوب أوربا وتركيا في الخارجية المصرية، وفتحي الشاذلي سفير مصر السابق في تركيا، ونبيل بدر، ورؤوف غنيم. ومن الأكاديميين: د.كمال المنوفي عميد كلية الاقتصاد، د.عبد المنعم سعيد مدير مركز دراسات الأهرام، ود.قدري سعيد، ود.بكينام الشرقاوي، ود.بهجت قوراني، ود.سمعان بطرس فرج الله، ود.مصطفى كامل السيد، ود.مصطفى علوي، ود.حسن نافعة، ود.أحمد عبد الحليم، ود.حسن أبو طالب، ود.إسماعيل صبري عبد الله، فيما أشرفت على الندوة وحاضرت فيها د.نادية مصطفى رئيسة مركز البحوث والدراسات بكلية الاقتصاد.
وشارك من الجانب التركي السفير التركي بالقاهرة كوركماز هكتانير، والسفير مورات بيلهان مدير مركز الدراسات الإستراتيجية التابع للخارجية التركية، ود.ميلهان التونيسيك من جامعة الشرق الأوسط التقنية، ود.كارجي إيرهان، ود.سيما كولايوجلو من جامعة إيزيك، ود.حيدر جونفير قنصل تركيا السابق في الإسكندرية.
وقد أكدت الدكتور نادية مصطفى أن أهمية هذه الندوة تنبع من ضرورة التنسيق والتشاور بين الطرفين المصري والتركي في هذه المرحلة الحرجة التي تسعى فيها الولايات المتحدة لفرض خطتها للشرق الوسط الكبير على الجميع، والتعاون لمواجهة مرحلة قادمة تتسم بالتحدي والتدخل الخارجي.
وقالت لـ"إسلام أون لاين.نت": إن المنطقة العربية والمتوسطية يُفرض عليها الآن إعادة تشكيل وتحالفات جديدة، وهو ما يتطلب التعاون، كما تجابه تحديات متداخلة من قضايا سياسية وثقافية وإقليمية، وقضايا أخرى مزمنة مثل قضية فلسطين، وأخرى ملحة مثل احتلال العراق، وكل هذا يجعل من الضروري أن تنسق مصر مع دول المنطقة على نطاق أوسع مثل تركيا وباكستان وغيرها بشأن ما هو قادم، ولا تكتفي بالتركيز على المنطقة العربية فقط؛ لأن التخطيط الأمريكي يجري لبناء نظام أكبر وأشمل من المنطقة العربية يضم دولا من أقصى الشرق، وأخرى من أقصى الغرب.
وقالت: إن الدبلوماسية المتوازنة الذكية التي انتهجتها تركيا قبل وبعد احتلال العراق تدفعنا -كعرب- لضرورة اكتشاف المجالات والأراضي المشتركة للمصالح.. فلا يجوز أبداً ترك الساحة فارغة لإسرائيل لكي تقيم علاقات أكثر قوة مع تركيا على حساب العلاقات العربية، ولا يجوز أبداً أن نبقى سائرين في ظلال القوى العلمانية الراديكالية التي أسقطت العلاقات التاريخية والثقافية التي جمعت بين مصر وتركيا على مدى قرون من الزمان.
وحول مدى استفادة حكومتي البلدين من مثل هذه اللقاءات الأكاديمية البحثية قالت د.نادية مصطفى: إن المنظم من الجانب التركي هو مركز الدراسات الإستراتيجية التابع لوزارة الخارجية التركية، وهو على علاقة وثيقة بصانع القرار في تركيا، وجزء من عملهم تقديم تقارير لصانع القرار التركي، أما نحن (الجانب المصري) فنسعى بدورنا لنقل أبحاثنا وتقاريرنا إلى الجهات المعنية مثل الخارجية المصرية التي شارك منها بالفعل دبلوماسيون في جلسات الندوة المختلفة.
وقد ناقشت الندوة علي مدار يومين العديد من النقاط في أكثر من جلسة عمل يمكن إلقاء نظرة على بعضها عبر المحاور التالية:
*
ترويج للنموذج التركي
*
العلاقات التركية الإسرائيلية محدودة
*
توصيات لصالح الفلسطينيين
*
مصارحة حول الإصلاح المطلوب
*
أكثر من 35 تحديا للخطة الأمريكية
*
حقيقة الإستراتيجية الأمريكية للمنطقة
ترويج للنموذج التركي
وقد شهدت جلسات الندوة مناقشات مطولة حول مسألة ترشيح أمريكا لتركيا كنموذج علماني للتطبيق في منطقة الشرق الأوسط الكبير، وأبدى الجانب التركي -من خلال كلمات بعض الضيوف- انطباعات بأنهم مع الفكرة الأمريكية للتغيير والترويج لها؛ باعتبار أن نموذجهم يستجيب للفكرة الديمقراطية، ويعد تجربة مثالية للديمقراطية تفصل بينها وبين الدين، وأيدوا التغيير والإصلاح في العالم العربي، مشددين على أن النموذج التركي ليس كما هو مفهوم في العالم العربي "لاديني" وأن العلمانية التركية يفهمها الآخرون خطأ، ولكنها نموذج ديمقراطي، وهم مسلمون مع الإصلاح، ويعتبرون الدين في القلب والعلاقة مع الله، وما عدا ذلك "إسلام سياسي" يجب تحجيم دوره.(19/323)
وظهر من كلمات الطرفين أن هناك فجوة بين فهم كل طرف للنموذج الديمقراطي العلماني المطلوب تطبيقه أمريكيا في المنطقة، وفجوة أخرى في تصور كل طرف لدور الطرف الآخر فيما يخص التنسيق بينهما إقليميا؛ حيث اهتم الجانب التركي -كما أشار السفير مورات بيلهان- بالتركيز على الفصل بين الجوانب الدينية البحتة المتمثلة في العلاقة بين المسلم وربه، والجوانب السياسية المتصلة بالحكم، وقال: إن تركيا لا تسعي لتقديم نفسها كنموذج للمنطقة، ولكن أمريكا هي التي تسعى لتقديمهم كنموذج، وإن نموذجهم ليس دينيا بما فيه نموذج حكومة حزب العدالة الحالية التي أكدوا أنها ليست إسلامية، وفوزها لا يعني -كما تصور البعض- أن هناك إحياء إسلاميا في تركيا، ولكنها -كما قالوا- تسير وفق النموذج العلماني التركي، معتبرين أن مسائل مثل الحجاب واللغة العربية وغيرها لا علاقة لها بالدين، ولكنها ضمن الإسلام السياسي.
وعلى العكس كان التصور المصري يربط بين الدين والدولة، ويركز على الأبعاد الثقافية المتضاربة بين التصور العربي والإسلامي للديمقراطية، والتصور التركي الذي يعتبر مسألة مثل الحجاب ليست حرية شخصية ديمقراطية، ولكنها مسألة إسلام سياسي.
حيث صنف الأكاديميون المصريون النظام التركي على أنه نظام علماني ديمقراطي، ولكن ذو صبغة عسكرية، وقالوا: إن تركيا تواجه 3 أزمات، تتمثل في: أزمة الهوية، أزمة الاستقطاب العلماني/الإسلامي، أزمة عدم الاستقرار السياسي.
أما النظام المصري فهو -تبعا للدستور- يندرج تحت دولة إسلامية، وهو نظام نصف ديمقراطي؛ حيث لا يتواجد مبدأ تدويل السلطة.
وبينما استطاعت العلمانية التركية التأثير على الإسلاميين التركيين استطاع النظام المصري أن يمنع التيار الإسلامي المعتدل من الحصول على الشرعية، خاصة بعد تصفيته للجماعات الإسلامية بالقوة، إلا أنه لا يمكن إغفال الفوارق بين طبيعة الحزب الإسلامي في تركيا (حزب العدالة والتنمية) والإخوان المسلمين بمصر، الذين لا يزالون يلعبون دور المعارض دون التمتع بصلاحيات الشرعية.
كذلك طرح الجانب المصري -كما أوضحت د.نادية مصطفي ود.كمال المنوفي- مخاوف مثقفين مصريين من أن تمثل تركيا خطرا على العرب، وأنها تلعب دورا لصالح الغرب ضد العالم العربي، ودورا آخر معاديا للعرب من خلال التعاون العسكري مع إسرائيل، خاصة أن تركيا تعتبر العلاقات مع العرب "أداة" وليست "هدفا" في علاقاتها الكبرى مع الغرب.
وكانت هناك علامات استفهام من جانب عدد كبير من الأكاديميين المصريين حول طبيعة العلاقات التركية مع إسرائيل، وتحفظات -كما قال د.سمعان بطرس- على النظرة التركية غير المكتملة للإرهاب التي تستبعد الإرهاب الأمريكي والإرهاب الإسرائيلي، كما حدث مع قتل الشيخ أحمد ياسين.
العلاقات التركية الإسرائيلية محدودة
وقد رد الجانب التركي بنفي المخاوف بشأن العلاقات مع إسرائيل، حتى إن غالبية أعضاء الوفد التركي (د.بيلهان ود.سيما ود.ميلهان) ردوا علي تهمة التعاون العسكري التركي الإسرائيلي بنوع من الاهتمام والنفي التام لأهمية العلاقات العسكرية التركية مع إسرائيل، والتقليل من أهمية هذا التعاون "المتواضع" من الأساس كما قالوا، ونفوا بقوة أن يكون هذا التعاون ضد العرب، مؤكدين أن التعاون الاقتصادي مع إسرائيل ضئيل جدا، والتعاون العسكري مقصور على تدريب طيارين.
وفي هذا الصدد قال السفير مورات بيلهان ود.سيما ود.التونيسيك: إن العلاقات التركية الإسرائيلية ليست كما يتخوف منها العرب، وإنها علاقات عادية كتلك التي تقيمها مصر ودول أخرى مع إسرائيل، وإن تركيا لها علاقات تاريخية مع العديد من دول وقارات العالم في آسيا وأفريقيا وغيرها.
وقالوا: إنه ليس كل سياسات إسرائيل بالضرورة توافق عليها تركيا، وإن تركيا تسعى لتوظيف هذه العلاقات مع إسرائيل لصالح الشعب الفلسطيني أيضا، وإن ما يقوم به الإسرائيليون من اغتيالات يحد من فاعلية دور الوساطة التركية بين الطرفين.
وكان الدكتور كمال المنوفي عميد كلية الاقتصاد قد وصف العلاقات التركية مع إسرائيل بأنها علامة استفهام كبيرة، وتترك شعورا سيئا لدى العرب، وطالب بتوحيد الرؤى العربية والتركية من مسائل مثل الإرهاب والاستقرار في الشرق الأوسط والتعاون لمواجهة التحديات الكبيرة أمام البلدين، كما أبدى السفير نبيل بدر تخوفا من هذا التعاون، وطالب بإعادة النظر في العلاقات الإستراتيجية التركية مع إسرائيل، وردت عليه د.سيما التركية مؤكدة بالبراهين الاقتصادية أن العلاقات التركية مع العرب أكبر مما هو مع إسرائيل، وأن التعاون الاقتصادي مع إسرائيل يتأرجح صعودا وهبوطا، وأنها ليست علاقات إستراتيجية.
توصيات لصالح الفلسطينيين(19/324)
وقد عكست توصيات هذه الندوة الرغبة في تحويل المخاوف العربية من التعاون التركي مع إسرائيل إلى ميزة؛ حيث تم الاتفاق على "توظيف" تركيا علاقاتها مع إسرائيل للضغط على الدولة العبرية بما يخدم الشعب الفلسطيني، إضافة إلى الاهتمام بتوضيح طبيعة العلاقات المصرية التركية والتقدم فيها وصحيح المواقف التركية، وصياغة اتفاقيات تعاون ثقافي علمي لدراسة الرؤى الإستراتيجية بينهما.
كذلك تم الاتفاق بين الطرفين المصري والتركي على عقد لقاء سنوي متبادل في كل دولة لدفع عملية التشاور حول تدعيم العلاقات، وتشجيع التبادل الطلابي في مجالات التعليم المختلفة.
مصارحة حول الإصلاح المطلوب
ويعتبر تقريب وجهات النظر والاتفاق على التنسيق فيما يخص علاقات البلدين، ونقل ما يدور في خلد كل طرف للقيادة السياسية في بلد الآخر من أهم عناصر نجاح الندوة عموما؛ حيث أشار المصريون إلى أن النزاع بين النظام الشرق أوسطي في ظل الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية والشراكة الأوربية المتوسطية في ظل قيادة الاتحاد الأوربي سوف يلبس ثوبا جديدا، يعطي لكلٍ من الدورين التركي والإسرائيلي أهمية متصاعدة على حساب الدور المصري، وعلى حساب المساعي التي تبذل من أجل إعادة بناء نظام إقليمي عربي من جديد، وإنه لا يمكن استغناء تركيا عن بعض محددات سياساتها، مثل دور جيشها في تحسين علاقاتها الخاصة مع إسرائيل والغرب، ورغم ذلك فهناك مجالات للمصالح المشتركة.
وبالمقابل شدد الأتراك علي أهمية تفهم العرب لأهمية التغيير والإصلاح وضرورته، وأن ينبع من المنطقة بدل أن يفرض عليها، وقال السفير "بيلهان": إن المنطقة تحتاج إلي التغيير، ومن المهم وضع أجندة لهذا التغيير السياسي حتى لا يتحول الأمر إلى فوضي.
وقال: إن تركيا ستعطي خبرتها في الديمقراطية والتعددية البرلمانية والسياسية للعالم العربي، إلا أنها لا تعتبر نفسها "موديل" أو نموذجا يجب تطبيقه علي المنطقة الشرق أوسطية التي تختلف إثنيا وعرقيا ودينيا وثقافيا عن بعضها البعض، ولكن تنظر لنفسها علي أنها تقدم تجربة ديمقراطية متكاملة تفصل بين الدين والدولة.
وقد ردت د.نادية مصطفى على مسألة النموذج التركي الأمثل (الذي يجمع بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية) قائلة: إن النموذج التركي للعلاقة بين الإسلام والمجتمع ليس هو النموذج الوحيد المطبق في العالم، ولا يصلح وحده بالتالي كنموذج للإصلاح في العالم العربي والمنطقة؛ وهو ما يعني وجود خلاف في الرؤية التركية والمصرية للنموذج الأصلح للتطبيق في المنطقة.
بل وألمحت د.نادية إلى أن هناك تخوفات من أن تستغل أمريكا كلا من تركيا ومصر أو هذا النموذج المطلوب لتحقيق أهداف أمريكية خالصة والضغط على كل بلد.. حيث يمكن مستقبلا الضغط على مصر بمشكلة المياه، والضغط على تركيا بورقة حريات الأقليات مثل الأكراد؛ وهو ما اتفق معه بعض الضيوف الأتراك.
أيضا صارح الجانب التركي الجانب المصري -علي لسان د.ميلهان التونيسك- بأن هناك تحديات تواجه الخطة الأمريكية لنشر الديمقراطية في العالم العربي مثل القضية الفلسطينية والعداء لأمريكا في المنطقة واعتبارها "استعمارا جديدا".
وقال د.بيلهان: إن المنطقة تبدو متجهة بوضوح إلى المقاومة بأكثر مما هي متجهة إلى التغيير الذي ينشده الأمريكان، ولكن إلى أي مدى تستطيع المنطقة أن تقاوم؟
وشرح ذلك بقوله: إن القوى الكبرى في عالم اليوم هي: أمريكا وأوربا وروسيا والهند والصين، وكل منها مشتبك مع العالم الإسلامي بشكل أو بآخر؛ حيث تشتبك أمريكا عبر تفجيرات 11 سبتمبر، وأوربا عبر التفجيرات الأخيرة، والهند عبر مشكلة كشمير المسلمة، والصين عبر مشكلة إقليم تركستان الشرقية (سينجيانج .. أي أن هناك مشكلات دينية لكل طرف مع الأقليات الإسلامية.. ولذلك فمن صالح هذه الدول المختلفة أن تساند مشروع التغيير والإصلاح الأمريكي الأوربي في منطقة الشرق الوسط الكبير.
ووفقا لهذه الحقائق يرى الطرف التركي أن الأفضل للمنطقة هو التوجه للإصلاح الداخلي بدلا من أن يتم فرضه عليها بالتدخل الخارجي.
أكثر من 35 تحديا للخطة الأمريكية
والطريف أن الطرفين المصري والتركي اعترفا بوجود تحديات ضخمة أمام فكرة الشرق الأوسط الكبير الأمريكية وتجاوب الطرفين معها؛ حيث رصد الجانب المصري -على لسان د.عبد المنعم سعيد- 7 تحديات أو مخاطر، ورصد الجانب التركي -على لسان د.سيما- 28 تحديا موجهة بشكل أساسي للجوانب الثقافية والاقتصادية؛ مما دعا د.بهجت قوراني أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية مدير إحدى جلسات المؤتمر للتلميح لفشل الفكرة الأمريكية بسبب هذه التحديات الكبيرة التي أضاف لها السفير فتحي الشاذلي تحديات أخرى عملية من الواقع العملي لا الأكاديمي البحت، مشددا على أن التحديات أكثر من الفرص في المنطقة، وأن القضية هي تحويل التحديات إلى فرص.(19/325)
فقد تحدث د.سعيد عن المخاطر الأمنية والسياسية وتحديات مثل العولمة والشرعية والإصلاحات السياسية والقضية الفلسطينية، وركز على خطورة التحديات الثقافية المتعلقة بالنواحي الاجتماعية للإصلاح، والقيم المختلفة لكل من العرب والغرب والمخاوف العربية من فرض قيم ثقافية شاذة على العالم العربي.
ودعا للاستفادة من تجارب الإصلاح لدى الآخرين مثل الصين والهند، والتركيز على معالجة الخلافات في القيم الثقافية بين الرؤية التركية والأوربية والعربية للإصلاح لإتاحة الفرصة لمزيد من التنسيق بين الطرفين والتعاون بشأن رؤى متوافقة في المنطقة.
أما الدكتورة "سيما كولايوجلو" فوضعت 28 تحديا اقتصاديا وثقافيا أمام الشرق أوسطية مثل البطالة والفقر وقلة فرص العمل والمعتقدات الدينية الخاطئة بشأن بعض العادات كالختان، ونقص معدل الدخل الفردي والفساد، وسيطرة القطاع العام، وقالت: إن منطقة الشرق الأوسط مصنفة كأسوأ 3 مناطق في العالم من الناحية الاقتصادية، وتحدثت عن خلافات كبيرة بين الاقتصادين العربي والتركي تعوق مسألة المقارنة بين النموذجين.
وعلى العكس ترى د.نادية مصطفى أن كلا النظامين يواجه أزمات اقتصادية خطيرة تتمثل في البطالة والتضخم والتدهور الحاد في المستوى المعيشي، وأن هذه الأزمات أثرت بدورها على توجهات السياسة الخارجية للدولتين، ومن ثم فإن البعد البرجماتي (المصلحي) له أهمية كبيرة في هذا المضمار.
حقيقة الإستراتيجية الأمريكية للمنطقة
وقد ظهر أن هناك شبه اتفاق بين الجانبين بشأن حقيقة الإستراتيجية الأمريكية للمنطقة، وأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تفرز إستراتيجية عالمية أمريكية جديدة، ولكن الفكر الإستراتيجي الأمريكي كان قد خطط لهذا من قبل الأحداث التي لم يكن دورها سوى تسليط الضوء على هذه الإستراتيجية الأمريكية، وجعلها أكثر بروزا وظهورا.
والسياسات والدوافع الأساسية للإستراتيجية الأمريكية تدور حول:
1- مكافحة الإرهاب ليس فقط بالآلة العسكرية، وإنما بالسياسات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية.
2- إحكام السيطرة على مصادر النفط الممتدة من وسط آسيا إلى منطقة الخليج.
3- إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية لما يمهد لفرض الهيمنة الأمريكية على العالم بأَسره.
4- منع ظهور القوى الكبيرة (الصين، روسيا، الاتحاد الأوربي)، وطردها من ساحة المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
5- إعادة تشكيل العالم الإسلامي بما يتناسب مع مصالح التحالف الأمريكي الصهيوني.
وفي هذا الصدد تقول د.نادية مصطفى: إن الإستراتيجية الأمريكية تطمح في النهاية إلى تطبيق الأهداف التالية:
1) حماية المصادر النفطية بهدف السيطرة على منطقة الخليج.
2) حماية الأمن الإسرائيلي حتى ولو على حساب عملية السلام، وعلى حساب تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.
3) إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية من خلال بناء تحالفات جديدة، تضم الكويت وقطر والعراق على حساب التحالفات مع مصر والسعودية.
4) ضرب مراكز المقاومة العربية المتبقية من خلال تضييق الخناق الاقتصادي والسياسي على سوريا، واستخدام ورقة الأقليات في السودان وفي سوريا.
وتضيف أنه بعد حرب العراق في مارس 2003 لم تعد الولايات المتحدة في حاجة إلى الحلفاء، والأصدقاء، أو حتى العملاء، وكذلك لم تعد العناصر الثقافية والاجتماعية للتدخل الأمريكي منفصلة عن العناصر العسكرية والاقتصادية. فمن المنظور الأمريكي لم تعد إعادة تشكيل الشرق الأوسط مقصورة على الأسباب العسكرية المباشرة، بل امتدت إلى الأسباب الثقافية والاجتماعية. وصارت العلاقة بين الإسلام والمجتمع والدولة في لب التغييرات اللازمة.
وهو ما يعني أن أحداث سبتمبر أدت إلى تصاعد التدخلات الخارجية بشكل ملحوظ؛ وكذلك إلى تصاعد العلاقة بين الداخلي والخارجي؛ فالخارجي صار داخلياً، والداخلي صار خارجياً، والإقليمي صار دولياً.
وأخيرا: فإن الضعف والترهل في العالم العربي والإسلامي سهل على الإدارة الأمريكية مهمتها؛ الأمر الذي أدى إلى وضع الشرق الأوسط في مقدمة الإستراتيجية الأمريكية العالمية بعد أحداث سبتمبر.
==============(19/326)
(19/327)
مصر وتركيا و"الشرق الأوسط الكبير"
الدور المصري والتركي في ظلال الشرق الأوسط الكبير*
د.نادية مصطفى**
ترجمة: شيرين حامد فهمي***
…
30/03/2004
إن مفهوم "الشرق الأوسط" يستوعب كلا من تركيا ودولا غير عربية، ودولا عربية.. في داخل منظومة واسعة، تشتمل على تفاعلات إقليمية، وليست تفاعلات عربية فحسب. وقد بدأ مصطلح "الشرق الأوسط " في الظهور منذ حوالي قرن، ثم تجددت أهميته الآن بعد عدة انتكاسات أصابت المنطقة العربية والإسلامية مؤخراً.
بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية شهدنا ميلاد النظام "الأتاتوركي" في تركيا، وكذلك ميلاد القومية العربية في الدول العربية؛ الأمر الذي أدى إلى بروز الصراع والتطاحن بين الأتراك والعرب.
وطبعا كان الطرف الثالث -الاستعمار الأوربي- هو المستفيد الأول من تلك الصراعات التي عززها وعمقها كل من: الحرب الباردة وإقامة دولة إسرائيل وتوجهات القوميين العرب الراديكاليين. إلا أنه منذ عام 1991 (في ظل حرب الخليج الثانية ومشروع مدريد للسلام) بدأت العلاقات في التحسن تدريجيا. وقد نستخلص هنا أن التأثيرات والتدخلات الخارجية كان لها باع كبير على المناخ الإقليمي، ومن ثم على العلاقات العربية التركية، وعلى مواقف كل منهما تجاه الظروف والمستجدات الإقليمية.
وإذا قمنا باستطلاع تاريخ الإمبراطورية العثمانية سواء في لحظات قوتها أو ضعفها وجدنا أن التدخلات الخارجية كانت ذات تأثير سلبي على العلاقات العربية التركية. واهتمامنا الحالي ينصب أساسا على "الشرق الأوسط فيما بعد 9-11"؛ حيث تواجه المنطقة في ظل هذا الوقت الحرج ضغوطا مفروضة من قبل القوة الأمريكية المهيمنة وحلفائها، تطالبها بالتغير وبإعادة التشكيل. ومن ثم فنحن أمام تدخل خارجي هائل سيؤثر بقوة وبشدة على التوازنات الإقليمية، وعلى الأنظمة الداخلية. ولذلك فإن إطلاق مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" بعد احتلال أفغانستان ثم العراق ليس إلا خطوة ثالثة من أجل تطبيق الإستراتيجية الأمريكية بعد الحادي عشر من سبتمبر. وستنصب قضيتنا الأساسية في هذه الورقة على تحديد موقف كلٍ من الطرفين: العربي والتركي، تجاه هذه المبادرة الأمريكية.
اتسمت العلاقات العربية التركية في النصف الأخير من القرن العشرين بالتذبذب والتطور المستمر، وهي ظاهرة كانت نتيجة لعاملين مهمين: الدور التركي في الإستراتيجية الأمريكية والتوجه التركي تجاه الغرب من ناحية، والعلاقات التركية الإسرائيلية من ناحية أخرى. وتطور العلاقات بين الطرفين يعكس بوضوح ماهية السياسة التركية تجاه الشرق الأوسط التي نظرت إلى العلاقات مع العالم العربي على كونها أداة، لا على كونها هدفا في حد ذاتها. بلغة أخرى: لقد نظرت تركيا إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة، وإلى تحالفها مع إسرائيل، وإلى اندماجها في داخل أوربا، على كونها متغيرات مستقلة، بينما نظرت إلى علاقاتها مع العرب على كونها متغيرات تابعة.
إن فهم الدور التركي حيال المبادرة الأمريكية التي من شأنها إعادة تشكيل الشرق الأوسط يستلزم التالي:
1) دراسة المحددات الدولية والإقليمية التي تحيط بكل من مصر وتركيا.
2) تحديد مناطق وموضوعات التفاعل والتماس بين مصر وتركيا.
3) دراسة نظرتنا نحن المصريين للتوجهات التركية العامة حيال إعادة تشكيل الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر.
هذه الورقة باختصار تهدف إلى مناقشة المشكلة الآتية: العلاقة بين العناصر الجيوإستراتيجية التي تساعد على إمكانية تصاعد الصراعات والتوترات، والأواصر الثقافية والتاريخية الواحدة التي تساعد على إمكانية ظهور أفق للتعاون.
أولاً: محددات إعادة تشكيل الأنظمة العربية حيال نظام شرق أوسطي بعد 11/9:
1) المحددات الخارجية: الإستراتيجية الأمريكية العالمية (الحرب ضد الإرهاب) : التدخل الأمريكي ذو المشارب المتعددة لإعادة تشكيل المنطقة منذ الحرب الباردة، والإستراتيجية الأمريكية حيال الشرق الأوسط متأثرة من قبل إستراتيجيتها العالمية، ومن ثم كان موقف كل من مصر وتركيا متعلقاً بتطور هاتين الإستراتيجيتين. أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تفرز إستراتيجية عالمية أمريكية جديدة؛ بل إن الفكر الإستراتيجي الأمريكي كان قد خطط من قبل الأحداث التي لم يكن دورها إلا تسليط الضوء على الإستراتيجية الأمريكية، وجعلها أكثر بروزا وظهورا.
وتتلخص السياسات والدوافع الأساسية للإستراتيجية الأمريكية في التالي:
1) مكافحة الإرهاب تبعا للمنظور الأمريكي، وهو غير مقصور على استخدام الآلة العسكرية، وإنما تؤيده السياسات الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية.
2) إحكام السيطرة على مصادر النفط الممتدة من وسط آسيا إلى منطقة الخليج، وإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية لما يمهد لفرض الهيمنة الأمريكية على العالم بأَسره.
3) منع ظهور القوى الكبيرة (الصين، روسيا، الاتحاد الأوربي) ، وطردها من ساحة المنافسة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة تشكيل العالم الإسلامي بما يتناسب مع مصالح التحالف الأمريكي الصهيوني.(19/328)
وكما نرى فإن السياسات الأمريكية حيال الشرق الأوسط تكشف عن مدى التصاق القوة العسكرية والاقتصادية بالسياسة الثقافية والتعليمية.
ولقد اجتمعت الآراء المصرية والعربية على أن الإستراتيجية الأمريكية تطمح في النهاية إلى تطبيق الأهداف التالية:
1) حماية المصادر النفطية بهدف السيطرة على منطقة الخليج.
2) حماية الأمن الإسرائيلي حتى ولو على حساب عملية السلام، وعلى حساب تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.
3) إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية من خلال بناء تحالفات جديدة تضم الكويت وقطر والعراق على حساب التحالفات مع مصر والسعودية.
4) ضرب مراكز المقاومة العربية المتبقية من خلال تضييق الخناق الاقتصادي والسياسي على سوريا، واستخدام ورقة الأقليات في السودان وفي سوريا.
وخاصة بعد حرب العراق في مارس 2003 لم تعد الولايات المتحدة في حاجة إلى الحلفاء والأصدقاء، أو حتى العملاء. وكذلك لم تعد العناصر الثقافية والاجتماعية للتدخل الأمريكي منفصلة عن العناصر العسكرية والاقتصادية. فمن المنظور الأمريكي لم تعد إعادة تشكيل الشرق الأوسط مقصورة على الأسباب العسكرية المباشرة، بل امتدت إلى الأسباب الثقافية والاجتماعية. وصارت العلاقة بين الإسلام والمجتمع والدولة في لب التغييرات اللازمة.
إن أحداث سبتمبر أدت إلى تصاعد التدخلات الخارجية بشكل ملحوظ، وكذلك إلى تصاعد العلاقة بين الداخلي والخارجي؛ فالخارجي صار داخليا، والداخلي صار خارجياً، والإقليمي صار دولياً.
وأخيراً فإن الضعف والترهل في العالم العربي والإسلامي سهل على الإدارة الأمريكية مهمتها؛ الأمر الذي أدى إلى وضع الشرق الأوسط في مقدمة الإستراتيجية الأمريكية العالمية بعد أحداث سبتمبر.
ثانيا- المحددات الداخلية:
كل من مصر وتركيا يواجهان نفس الظروف التالية:
أ ) نوعية العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع:
النظام التركي نظام علماني ديمقراطي ولكن ذو صبغة عسكرية، وهو يواجه 3 أزمات تتمثل في: أزمة الهوية وأزمة الاستقطاب العلماني/الإسلامي وأزمة عدم الاستقرار السياسي. أما النظام المصري فهو -تبعاً للدستور- يندرج تحت دولة إسلامية، وهو نظام نصف ديمقراطي؛ حيث لا يتواجد مبدأ تدويل السلطة. وبينما استطاعت العلمانية التركية التأثير على الإسلاميين التركيين استطاع النظام المصري أن يمنع التيار الإسلامي المعتدل من الحصول على الشرعية، خاصة بعد تصفيته للجماعات الإسلامية بالقوة. إلا أننا لن نستطيع إغفال الفوارق بين طبيعة الحزب الإسلامي في تركيا (حزب العدالة والتنمية) والإخوان المسلمين بمصر الذين لا يزالون يلعبون دور المعارض دون التمتع بصلاحيات الشرعية.
ب ) الموقف الاقتصادي المتدهور:
يواجه النظامان أزمات اقتصادية خطيرة، تتمثل بوضوح في البطالة والتضخم والتدهور الحاد في المستوى المعيشي. وقد أثرت هذه الأزمات بدورها على توجهات السياسة الخارجية للدولتين؛ إذ تستخدمان تلك التوجهات في خدمة الأهداف التنموية المحلية. ومن ثم فإن البعد البرجماتي له أهمية كبيرة في هذا المضمار.
ج) توجهات الدور الإقليمي:
حرص النظامان -وما زالا- على لعب دور إقليمي. وبالإضافة إلى إيران يمثل الثلاثة المراكز الأساسية في العالم الإسلامي، ومن ثم كانت الدول الثلاثة في تنافس دائم مع بعضها البعض. وقد اتسم توجه كلٍ من الدولتين: مصر وتركيا تجاه العالم العربي بالتذبذب، وبالانتقال بين الصعود والهبوط. وبينما كان هذا التذبذب يسير بدرجات مختلفة؛ فإن العلاقات مع الولايات المتحدة كانت هي المؤثرة على هذا التذبذب.
ثالثاً: المؤثرات الإقليمية:
أ ) دور إسرائيل:
لقد استفادت إسرائيل -الدولة الإرهابية- أكبر استفادة من "الحرب على الإرهاب" التي أعلنتها الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر. فقد تعمقت علاقتها مع الولايات المتحدة تعمقا ملحوظا بعد الحرب الأمريكية في أفغانستان، وبعد احتلال العراق، وبات التحالف الأمريكي الإسرائيلي أكثر صلابة؛ مما يغري بتأثير أكبر في المستقبل القريب على التوازنات الإقليمية الجديدة. والأمر الذي يستحق الملاحظة هنا أنه بينما اتجهت العلاقات المصرية الإسرائيلية نحو التصاعد والتأزم -بسبب الهجوم الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة- اتجهت العلاقات التركية الإسرائيلية نحو التحسن.
ب ) محددات إقليمية أخرى:
- سقوط عملية التسوية السلمية ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية على يد التحالف الأمريكي الإسرائيلي، وفرض تسوية بالقوة، تصب في مصلحة التحالف.
- الضغوط الحالية على سوريا.
- مستقبل أمن الخليج والتحالفات الإقليمية في ظل الاحتلال الأمريكي.
- مستقبل الدولة العراقية الجديدة.
- الضغوط الأمريكية الحالية على إيران وأفغانستان فيما بعد طالبان.
- التحديات التي تواجه الدور الباكستاني في ظل الإستراتيجية الأمريكية.
- توابع المشكلة الأمنية في دول الجوار الآسيوي.
- بروز موضوعات ذات طبيعة إقليمية؛ مثل أسلحة الدمار الشامل، وتوزيع المياه، وحقوق الأقليات، ودور حركات الإسلام السياسي.
مواقف مصر وتركيا في ظل عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط:(19/329)
قامت أحداث سبتمبر بفرض تحديات وتدخلات على المنطقة العربية والإسلامية؛ مما سيؤثر حتما على خيارات الدولتين، وعلى نظرة كل واحدة منهما تجاه الأخرى. فكان منظور بعض التوجهات المصرية تجاه تركيا كالآتي:
- أن تركيا دولة غربية وليست إسلامية، أو ربما تكون إسلامية ولكنها تواجه أزمة هوية بسبب المعوقات التي تجابهها على صعيد الامتزاج في داخل القارة الأوربية؛ الأمر الذي سيجعلها تراجع سياستها الخارجية، وتعيد النظر بشأنها.
- أن تركيا إما أنها تعتبر مصدرا للتهديد ضد المصالح العربية وضد الأمن العربي، وإما أنها تعتبر حليفة ممكنة بسبب الإرث الإسلامي الواحد الذي يجمع الأتراك والعرب.
- أن تركيا تمثل نموذجاً للعلمانية الحديثة التي تكون بمثابة جسر بين العلمانية الغربية والإسلام، أو أنها تمثل نموذجا "للإسلام السياسي المعتدل" الذي يُسمى "العلمانية الإسلامية" التي يمكن دمجها في ظل دولة شبه ديمقراطية يسيطر عليها العسكر.
ومن أجل توضيح الدور الذي يلعبه التدخل الأمريكي للتأثير في مواقف الدولتين (مصر وتركيا) لا بد من الإشارة إلى 6 عوامل مهمة:
1) التغير الداخلي على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
2) التنسيق الأمني الإقليمي والتنسيق الاقتصادي الشرق أوسطي بعد احتلال العراق.
3) التحالفات الإقليمية في فترة ما بعد احتلال العراق.
4) انهيار عملية السلام.
5) التحالف الإسرائيلي التركي.
6) حوار أو تصادم الثقافات.
وسنقوم في هذه الورقة بعرض عاملين فقط لضرب أمثلة توضيحية للقراء:
1) التغيير الداخلي وإمداداته الخارجية:
إن التغيير الداخلي سواء سياسياً أو اقتصادياً في كلٍ من مصر وتركيا صار مسألة خارجية. فالدولتان تسيران في منهاج التغيير الداخلي، ولكن عينهما -في اللحظة نفسها- على ردود الفعل الخارجية، وعلى ضغوط الدول الكبرى.
فعلى الجانب التركي نلاحظ الآتي:
محاولة تقديم صورة للإسلام المعتدل الذي يحظى على قبول الولايات المتحدة، والتعامل مع أزمتي حقوق الإنسان والهوية بدون استثارة غضب الغرب، وفي نفس الوقت بدون قطع العلاقات بين "الحزب الإسلامي الحاكم" (العدالة والتنمية) وجذوره الانتخابية والمجتمعية. باختصار: إن التطورات الداخلية الحالية في تركيا تسير تحت ضغط كلٍ من: مستقبل عضوية تركيا في داخل الاتحاد الأوربي، والمواجهة الممكنة مع الهيمنة الأمريكية التي يمكن أن تأتي بمخاطر وتهديدات حقيقية تضر بالمصالح الداخلية.
إن الخبرة السياسية التركية في ظل التاريخ الحديث (منذ الإصلاحات العثمانية في أواخر القرن الثامن عشر حتى التغييرات الراديكالية التي أحدثها أتاتورك) سلطت الضوء على تأثير الأطراف الخارجية. ومما لا شك فيه أن أحداث سبتمبر قد فرضت المزيد من القيود، خاصة على الحزب الإسلامي الحاكم. ومن الواجب علينا هنا في هذا الصدد التذكير بمدى أهمية دراسة طبيعة حزب العدالة والتنمية، وكيف أنه استطاع كسب هذا الكم الكبير من الأصوات، مع قدرته في نفس الوقت على إدارة علاقته مع الولايات المتحدة المعروفة بمواقفها المتحيزة ضد كلٍ من العراق وفلسطين.
أما بالنسبة لمصر التي تعرض نموذجا آخر للعلاقة بين الإسلام والدولة والمجتمع؛ فإن الظروف الحالية تفرض نوعا مختلفا من الضغط الخارجي على الخبرة المصرية في عملية التغيير الداخلي؛ فما زال هناك -حتى هذه اللحظة- تيار إسلامي ضخم يُنظر إليه بعدم الرضا؛ لكونه غير شرعي. وبالرغم من أن الأخير قد بدأ بالفعل في المشاركة مع تيارات سياسية أخرى في مصر لإدخال بعض الإصلاحات المطلوبة حتميا على الصعيد السياسي فإنه ما زالت هناك شكوك حول ردود الفعل الأمريكية.
لم يعد دور "العسكر" في مصر وتركيا مهيمناً، كما كان الوضع من قبل؛ فالدولتان تشهدان حركة واسعة للتعبئة المجتمعية؛ مما يعكس نوعاً من تجديد دور الإسلام في أنشطة المجتمع المدني، سواء اجتماعياً أو تعليمياً. وبينما قامت هذه الحركات المدنية برفض الإصلاحات التعليمية والثقافية -التي تبغي الولايات المتحدة فرضها كوسيلة لمحاربة جذور الإرهاب- كنوع من رفض التدخل الخارجي، إلا أن التيارات السياسية والاجتماعية المختلفة قد اجتمعت كلها على إلزام الخطاب الديني بالتجديد. وحتى الآن لم يُتفق على صيغة مناسبة لتجديد محتوى هذا الخطاب.
بلغة أخرى: إن مستقبل الإصلاحات والتغييرات الداخلية في مصر وتركيا سوف يؤثر على مساحة التوازنات بين القوى السياسية الشرق أوسطية (علماني/إسلامي) ، وسيؤثر أيضاً على طبيعة الديمقراطية التي ستتبناها الأنظمة السياسية. وهذه المساحة سوف تؤثر بدورها على توجهات السياسات الخارجية، وعلى نوعية التحالفات الإقليمية.
2) دوائر السياسة الخارجية: تأثير الإستراتيجية الأمريكية العالمية، وضرورة التغيير الداخلي وتنسيق الأمن الإقليمي:(19/330)
لا جدال أن كلا من البلدين له علاقات خاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ بغض النظر عن الاختلافات في طبيعة ودرجة العلاقات بالنسبة للدولتين. ولا جدال أيضا أن لكل دولة دوائر للسياسة الخارجية، تختلف عن الأخرى، وأن أولويات هذه الدوائر تختلف تبعا للوقت المحاطة به. فعلى الجانب التركي نجد أن هذه الدوائر هي قائمة: الأوربية، الأطلنطية، الشرق أوسطية، وسط آسيا، البلقانية، والإسلامية. وعلى الجانب المصري نجد أن هذه الدوائر هي قائمة: العربية، الإفريقية، المتوسطية، الشرق أوسطية، الإسلامية والجنوبية.
وكلا المجتمعين -المصري والتركي- يواجه أزمة هوية، قامت بإثارة التوترات بين النخب ذات التوجهات الفكرية المختلفة. وهذه الأزمة قامت بدورها بتصعيب وتعقيد خيارات ومواقف السياسات الخارجية.
وتحت تأثير الإستراتيجية الأمريكية العالمية وإملاءاتها لخلق شرق أوسط جديد تغيرت أولويات هذه الدوائر. فعلى الصعيد المصري نجد دائرة "الشرق الأوسط" هي التي اعتلت القمة على حساب الدوائر الأخرى، خاصة الدائرة العربية. وعلى الصعيد التركي نجد دائرة "الشرق الأوسط" تعتلي أيضاً القمة على حساب الدوائر الأخرى، وخاصة الأوربية.
إن التنسيقات الشرق أوسطية (التي تشتمل على تضييق العلاقات مع إسرائيل، وكذلك على تحالف متوازن مع الولايات المتحدة أمام الأزمات العربية) ستكون بمثابة الثمن الذي ستدفعه تركيا في سبيل الحصول على المكاسب على مستوى الدائرة الأوربية. ولكن علينا أن نسأل من الناحية الأخرى: إلى أي مدى يمكن للموقف السياسي الداخلي (حزب العدالة والتنمية) أن يؤثر على التوجهات التركية تجاه المزيد أو التراجع من التحالف مع إسرائيل والولايات المتحدة على حساب توازن العلاقات مع العالم العربي والإسلامي؟
وعلى الجانب الآخر نجد أن الموقف المصري -في ظل الإستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط- سيكون له دور كبير في التأثير على التوجهات المصرية تجاه الدائرتين العربية والإسلامية، وكذلك تجاه الدائرة المتوسطية الأوربية.
إن النزاع بين النظام الشرق أوسطي في ظل الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية والشراكة الأوربية المتوسطية في ظل قيادة الاتحاد الأوربي.. سوف يلبس ثوباً جديداً يعطي لكلٍ من الدورين التركي والإسرائيلي أهمية متصاعدة على حساب الدور المصري، وعلى حساب المساعي التي تبذل من أجل إعادة بناء نظام إقليمي عربي من جديد.
الخلاصة:
يتبقى بعد هذا العرض الموجز عدة تساؤلات، لا بد من طرحها:
هل الظروف التي يمر بها الشرق الأوسط حالياً تشجع على إمكانية الوصول إلى تنسيق بين مصر وتركيا؟ وهل هذا التنسيق سيساعد على إحداث توازن بيّن أمام التدخل الأمريكي، مقللا بذلك من حجم التأثيرات السلبية على المصالح الوطنية لكلٍ من الدولتين، خاصة مصر؟ هل المحددات الخارجية -خاصة الإستراتيجية الأمريكية العالمية- تشكل قيوداً أكثر على مصر من تركيا التي تعتبر الحليف التقليدي للولايات المتحدة وإسرائيل؟ هل ستمنع هذه المحددات تنسيقا مثمرا بين مصر وتركيا؟
وإذا كانت الضغوط والمحددات الخارجية على تركيا ليست بالضخامة التي تعاني منها مصر؛ فهل بإمكان التنسيق المصري التركي أن يُصعد من الخيارات المصرية؟ وإذا كانت مصر قادرة على تحديد المكاسب الاقتصادية المباشرة التي ستجنيها من خلال علاقتها مع تركيا.. فهل سيمكنها ذلك من التأثير على المواقف التركية تجاه الأجندة العربية التي تحتوي على: "العراق بعد الاحتلال"، و"القضية الفلسطينية"، و"الحصار على سوريا"، و"الأمن الخليجي"؟
بلغة أخرى: إذا كان الدور المصري الحالي مكبلا بالقيود والضغوط.. فهل بإمكان التنسيق المصري التركي أن يساعد على بعث الحيوية والفاعلية في الدور المصري من جديد؟
وعلى الناحية الأخرى فإن تركيا لا تشعر أبداً بأن مصالحها المباشرة (الاقتصادية) مع العرب معرضة للخطر؛ ومن ثم فهي لا تشعر بحتمية أو بضرورة مراجعة سياستها تجاه المسائل العربية، خاصة مسألة المياه، أو مسألة تقليص التحالف مع إسرائيل، بينما الأخيرة متواصلة في اعتداءاتها على الشعب الفلسطيني. إلا أننا نجد بعض القوى المصرية غير الرسمية تعارض السياسة التركية، وترى فيها مصدرا للخطر. ومن ثم فعلى الجانب التركي أن يعيد النظر في بعض سياساته؛ من أجل تحقيق المزيد من التنسيق والتربيط مع مصر (فرض بعض الضغوط على إسرائيل بدلا من بيع المياه لها) .(19/331)
إن الخلاصة التي نريد أن نقدمها في النهاية تتلخص في الآتي: إن تركيا تمثل مسألة ضخمة لا يجوز لمصر أن تتجاهلها أو أن تسقطها من اعتباراتها. وبالرغم من ترديد مقولات بعض القوميين العرب الذين يرون في تركيا خطرا مهددا للأمن القومي العربي، وأنه من واجب مصر إما ترك تركيا لإسرائيل، أو النظر إليها باعتبارها "إسرائيل ثانية" لخدمة الغرب في المنطقة، وبالرغم من وجود بعض الآراء المصرية التي ترى استحالة استغناء تركيا عن بعض محددات سياساتها، مثل دور جيشها في تحسين علاقاتها الخاصة مع إسرائيل والغرب، بالرغم من كل ذلك.. فإنه ما زال هناك -على الوجه الآخر- مجالات للمصالح المشتركة التي يمكن تدعيمها، والترويج لها.
ومن ثم فعلى مصر ألا تقنع بمد الاتصالات الاقتصادية والثقافية مع تركيا؛ وألا تقنع بلعب دور في تهدئة الصراعات بين تركيا وبعض الدول العربية مثل سوريا. بل عليها أن تتعدى ذلك كله، من خلال قيامها بمبادرات حقيقية، تعتمد على رؤية إستراتيجية تجاه تدشين وتأصيل العلاقات مع تركيا، بدلا من اقتصارها على اتخاذ مواقف رد الفعل تجاه المبادرات التركية الغربية الإسرائيلية.
إن اعتماد مثل هذه الرؤية سوف يُحول مصر والعرب من مجرد أداة ثانوية للسياسات التركية إلى هدف واضح.
إن الدبلوماسية المتوازنة الذكية التي انتهجتها تركيا قبل وبعد احتلال العراق تؤكد علينا ضرورة اكتشاف المجالات والأراضي المشتركة للمصالح. فلا يجوز أبدا ترك الساحة فارغة لإسرائيل لكي تقيم علاقات أكثر قوة مع تركيا على حساب العلاقات العربية. ولا يجوز أبدا أن نبقى سائرين في ظلال القوى العلمانية الراديكالية التي أسقطت العلاقات التاريخية والثقافية التي جمعت بين مصر وتركيا على مدى قرون من الزمان. علينا أن نقتنع بأن الاختلافات القومية لا تنجب صراعات من نفسها؛ فالأخيرة ليست إلا نتاجاً للحسابات السياسية.
وأخيراً فإن مصر ملزمة باستنفاد الجهد في تعزيز وتدعيم العلاقات مع تركيا، والاستفادة من هذه العلاقات أقصى استفادة؛ وكذلك على تركيا أن تقتنع بأن مصالحها مع العرب ليست أقل شأناً من مصالحها مع الغرب وإسرائيل.
===============(19/332)
(19/333)
أمريكا تبحث عن شريك إسلامي "مودرن"
13/01/2004
د.حمزة زوبع **
على الرغم من الحرب الضروس بين الإسلاميين حول العالم والولايات المتحدة الأمريكية التي ترى في متطرفيهم العدو الراهن، وترى في متشدديهم الخطر المتوقع.. فإن الولايات المتحدة الأمريكية يبدو أنها لم تحسم أمرها بعدُ بالنسبة للسياسيين من التيار الإسلامي؛ فلا هي قررت وضعهم في خندق الأعداء، ولا هي رحبت بهم كقادة المنطقة في المستقبل القريب.
وعلى غير العادة، ورغم التحذيرات الحكومية العربية من أن وصول التيار الإسلامي لسدة الحكم في بعض البلدان العربية يعني زيادة رقعة التصادم مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويعني بالتبعية تهديدا مباشرا لمصالحها في المنطقة وهي مصالح لا تخطئها العين؛ لأنها ببساطة ملء السمع والبصر.. رغم هذه التحذيرات قررت الولايات المتحدة الأمريكية، وبطريق غير مباشر أن تخطو خطوة في اتجاه "جس النبض"، والتعرف على التيار الإسلامي عن قرب، بدلا من اعتمادها على الرواية العربية الرسمية التي طالما ساهمت في توتر العلاقات بين الطرفين؛ وذلك من أجل ضمان الدعم الأمريكي للسلطات الحاكمة في العالم العربي.
مؤتمر بريء أم تآمري؟
حين أعلنت مجلة "الوطن" الكويتية عن المؤتمر الذي عُقد في الكويت (في الأسبوع الأول من الشهر الماضي) حول "دور الجماعات الإسلامية في الإصلاح الاقتصادي في الشرق الأوسط" -وهي مجلة ذات علاقة مع السلطة ومع التيار الإسلامي في نفس الوقت، وهي الدار التي تصدر النسخة العربية لمجلتي "نيوزويك" و"السياسة الخارجية" الأمريكيتين- ثارت شكوك حول سبب انعقاد المؤتمر، وعن الجهة الراعية له، وعن المشاركين الذين كان بينهم ساسة سابقون في الإدارة الأمريكية تجمعهم علاقات بمؤسسة "كارنيجي للسلام الدولي" التي تصدر عنها مجلة "السياسة الخارجية".
وكلها أسئلة تدور حول التفسير التآمري للخطوة؛ وهل هي خطوة حوارية بحثية بريئة، أم خطوة سياسية غير مبرأة من الأهداف والنوايا التي ربما يكون بعضها خبيثا وليس حميدا؟
فعلى سبيل المثال دُعي للمؤتمر ممثلو الجماعة الإسلامية في مصر، والتيار السلفي في كل من الكويت والبحرين، جنبا إلى جنب مع ممثلي الإخوان المسلمين (التنظيم أو الفكرة) في الكويت والأردن واليمن؛ هذا إضافة إلى دعوة ممثلي التيار الشيعي في البحرين والسعودية. وهذا ما زاد من تعقيد المسألة.. فهل جاء الأمريكيون ليسمعوا من يشتمهم ويلعن سياستهم في المنطقة، أم أرادوا أن يكون المؤتمر رسالة للجميع، وهم يتوقعون أن تكون اللقاءات الأولي بمثابة تفريغ لشحنات الغضب، وتنفيسا للغضب الكامن في النفوس بسبب الدعم الأمريكي لبعض الحكومات في المنطقة على حساب التيار الإسلامي؟
وفي اعتقادي أنه لم يكن بمقدور أي دولة اتخاذ نفس الخطوة، والسماح للتيار الإسلامي بكل أطيافه أن يحضر إلى بلد ما في العالم العربي، وأن يحاور، بل وينال من الولايات المتحدة الأمريكية (الحليف القوي) بدون رقابة أو تدخل من أحد. وبالتالي فإن قدرة الكويت على ذلك تحسب للكويت التي جعلت من أرضها ساحة للحوار بين الإسلاميين والمفكرين الغربيين، وعلى رأسهم الأمريكيون. وأعتقد أنه لو كان قد عُقد في أي دولة عربية أخرى لسمعنا اتهامات للتيار الإسلامي بأنه عميل للغرب، وأنه حليف للأمريكان، وأنه متآمر.. وأنه... وأنه...
كما أثيرت الأسئلة حول عدم مشاركة رموز الإخوان المسلمين في مصر؛ بوصفها ذات موقع سياسي وشعبية كبيرة في مصر، وبوصفها البلد الذي ينتسب إليه المرشد العام للإخوان المسلمين. والواقع يفيد بأن الدكتور عصام العريان دُعي للمؤتمر، ولكنه مُنع من الخروج من مصر، كما أنه لم يُمنح تأشيرة من الكويت (حسب جريدة "الرأي العام الكويتية")؛ وعوضا عنه رُشح د.عبد المنعم أبو الفتوح الذي تعرض لنفس ما تعرض له الدكتور عصام؛ أي المنع من السفر، ولم يوفد الإخوان في مصر أي ممثل لهم في المؤتمر!! ليضيف ذلك الموقف غموضا حول رغبة الإخوان في المشاركة في مؤتمر من هذا النوع، وبهذا التنوع، وفي هذا التوقيت. عموما لقد حسم العريان هذا الجدل بتصريحه بأنه كان سيحضر لو مُنح التأشيرة.
البحث عن مفاوض "معتدل"
ولم يكن التفسير التآمري للحدث مقصورا على الإسلاميين؛ بل إن بعض رموز التيار الليبرالي في الكويت عبروا عن تشككهم في المؤتمر. فقال بعضهم: إن هذا المؤتمر مؤتمر ملغوم؛ إلا أن الجميع أقروا بأن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن شريك، أو طرف محاور من جانب التيار الإسلامي، صاحب توجه سياسي وديني معتدل.
والحجة التي طُرحت أن الولايات المتحدة لا تريد أن تترك المنطقة للظروف، ولا تستطيع أن تتحمل مفاجآت من العيار الثقيل -مثل تلك التي حدثت في العراق- حين اكتشفت مؤخرا أن الإسلاميين الشيعة لهم شعبية كبيرة، ولهم تنظيم، ولهم وجهة نظر (دينية) في شكل النظام الذي يجب أن يحكم في العراق بعد زوال الاحتلال.(19/334)
وإذا أضفنا إلى مفاجأة العراق نتائج استطلاعات الرأي الكثيرة التي أجريت في العالم العربي -حول مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية، وحول نواياها في تحقيق ديمقراطية في المنطقة إذا ما اصطدمت نتائج هذه الديمقراطية (المفترضة) بالمصالح الأمريكية في المنطقة- فسنجد أن هناك بالفعل هاجسا لدى الأمريكيين، يدفعهم للتحرك خطوة في اتجاه الجماعات الإسلامية في المنطقة.
ويبدو للبعض أن هذا التحرك -على تواضعه- هو محاولة أمريكية لفض الاشتباك بين المصالح والمعتقدات. فالولايات المتحدة الأمريكية تعرف سلفا أن هناك دورا عقائديا في الصراع؛ ولا يمكن لها مهما فعلت أن تتغلب عليه أو تحيده؛ كما أن لها مصالح لا يمكنها هي أن تتخلى عنها أو تؤجلها، أو تتركها نهبا للضياع أو المفاجآت. وعليه فلقد طرحت في المؤتمر أفكارا (صدرت عن إسلاميين) من قبيل: "لنترك خلافنا العقائدي جانبا؛ فالإسلاميون لن يتخلوا عن فلسطين، ولكن لنتباحث حول علاقات طبيعية تقوم على الاحترام المتبادل".
وبالطبع فإن مثل هذا الطرح قد لا يعجب البعض في الجانبين، لكنه قدم رؤية مختلفة أو طريقا ثالثا لإمكانية التعايش بين الطرفين في حال وصول الإسلاميين للسلطة، رغم تأزم الموقف في فلسطين، وانحياز الأمريكيين للصهاينة بشكل مستفز للمواطن العادي، وليس فقط الإسلاميين.
تحول المؤتمر إلى جلد ذاتي
برز من خلال المؤتمر أن ثمة تفكيرا عميقا يعتمل في صدور ممثلي التيار الإسلامي المشاركين في المؤتمر. فالغالبية رغم أنها نالت من الولايات المتحدة الأمريكية فإنها رأت أن قراءة متأنية للوضع داخل الجماعات الإسلامية مطلوبة منذ وقت طويل؛ وإن كانت الحاجة إليها اليوم أشد. ولكن بعض ممثلي التيار الإسلامي في بعض الدول حولوا القضية من نقد ذاتي إلى جلد ذاتي؛ والبعض رأى أنه يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية أن تدفع باتجاه التغيير في المنطقة بكل ما أوتيت من قوة؛ والبعض ذهب إلى أن مقرطة المنطقة لن تتم بدون دعم أمريكي.
هواجس وشبهات
ولعل من أبرز الهواجس والشبهات التي أثيرت في المؤتمر هو هاجس تسلم الإسلاميين للسلطة، وما الذي يمكن أن يفعلوه؛ ليس فقط بالنسبة لخصومهم، ولكن في العملية الديمقراطية التي قد تأتي بهم. وهذا الهاجس كان مهما وضروريا أن يجيب عليه الإسلاميون، حتى ولو كان السؤال في غير موضعه؛ ذلك لأن الباحثين والمفكرين الغربيين يرغبون في التعرف على مدى التغير الحاصل في الفكر السياسي عن الجماعات الإسلامية، خصوصا في ظل التطورات التي نشأت على فكر هذه الجماعات من رفض مطلق لفكرة الديمقراطية لقبول مشروط. وهذا يعني أن الغرب -وخصوصا مراكز البحث الأمريكية- كان في حاجة لسماع ما سيقوله ممثلو هذه التيارات عن فكرة إلغائهم للآخر حال وصولهم للسلطة.
ولكن المثير أن هذه المسألة طرحت أكثر من مرة، وعلى لسان أكثر من محاور؛ ولعل البعض أفرط في تشككه، حين أعلن أن هناك مخاوف من قيام الإسلاميين بالقضاء على كل مظاهر الفرح والسرور في المجتمعات العربية إن وصل الإسلاميون للسلطة؛ وهو ما دفع ببعض الإسلاميين للرد بسخرية، قائلا: "لا تخف.. سيكون في الدولة الإسلامية وناسة (أي فرح)". ولعل من الهواجس الأخرى هاجس المرأة.
والحقيقة أن التيار الشيعي برز كقائد في هذا المحك؛ وتردد السلفيون كثيرا، بل انقسموا في الرأي، بينما رأى أحد ممثلي الإخوان في الكويت أن العائق "بيئي" وليس شرعيًّا. أما التعامل مع غير المسلمين فقد كان قضية بذاتها؛ وإن حاول البعض تقديم رؤية المواطنة كحل، بينما لم يعلن الجميع الترحيب به.
ولعل الأمر الأكثر خشونة في قضية التعامل مع الإسلاميين -من وجهة نظر الأمريكيين- هو قضية الأحزاب السياسية الدينية؛ فهناك خلط كبير يحتاج إلى جهود للتفريق بين الأحزاب السياسية ذات الخلفية الدينية والأحزاب الدينية، ولم ينجح الإسلاميون في فض الاشتباك، وإزالة اللبس.
تركيا.. هل هي التجربة النموذج؟
لقد طرح أحد الباحثين الأمريكيين -الذي شغل منصبا في حكومة كلينتون- كيف دعمت الولايات المتحدة التيار الإسلامي في تركيا، وأصرت على موقفها من الديمقراطية. وتنبأ بأن دخول تركيا للاتحاد الأوربي سيكون على يد حزب إسلامي، أو حزب ذي صبغة إسلامية، رغم ادعاءات الإسلاميين بأن الغرب ضد الإسلاميين. وهذا يطرح سؤالا: "هل دخول تركيا للاتحاد الأوربي مرهون بوصول الإسلاميين للسلطة، أم بقدرتها على إحداث تغيير ديمقراطي في المجتمع، أم مرهون بإرادة الولايات المتحدة ورغبتها في انضمام تركيا للاتحاد؛ بوصفها الحليف القوي لها في أوربا بعد بريطانيا ودول أوربية أخرى أصغر شأنا؟".(19/335)
والمثير حقا هو هذا التضارب في المواقف الأمريكية؛ فهل رحبت الولايات المتحدة بحزب العدالة مع أنه إسلامي؛ لأنه معتدل، أم لأنه قدم "طمأنات" (وربما تنازلات مهمة) في القضية الشائكة بين المسلمين والغرب (قضية فلسطين)؟ وهل وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم هو النموذج الذي يمكن أن ترتضيه الجماعات الإسلامية في العالم العربي؟ بمعنى آخر: هل الإسلاميون متفقون على رؤية لشكل ونظام الحكم، وطبيعة العلاقات مع الدول الكبرى، في حال وصولهم للسلطة؟ الإجابة: لا..
وأعتقد من هذه الإجابة الأخيرة بقاء الموقف الأمريكي الرسمي من الجماعات الإسلامية "محلك سر" لحين الوصول إلى حلول وسط. وفي نفس التوقيت وبنفس اللهجة -وربما بلهجة أشد وأقسى ووفقا لمعطيات المؤتمر المشار إليه- فإن الجماعات الإسلامية لن تخطو خطوة في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وربما بالغ البعض في موقفه العدائي منها؛ نظرا لأنه عقب المؤتمر بأيام قليلة رفض الأمريكيون رفضا قاطعا إجراء انتخابات في العراق (وهو القطر المفترض أن يكون نموذجا ديمقراطيا يحتذى لبقية الشعوب العربية). وبعد هذا الرفض تم تسريب خبر من وكالة الاستخبارات الأمريكية يقول بأن الإدارة الأمريكية لن تسمح لأي تغيير في المنطقة -وتحديدا مصر والسعودية- لأن ذلك يعني عدم استقرار المنطقة والإضرار بمصالحها.
تغييب الحكومات والمفكرين
مؤتمر بمثل هذه الأهمية يفترض أن يكون للحكومات العربية دور فيه؛ لأن إشكالية التيار الإسلامي ليست مع الولايات المتحدة فقط، بل في جزء منها مع الأنظمة. ولكن هذه الأنظمة يبدو أنها ترفعت عن المشاركة، أو أن المنظمين رأوا ألا يفسدوا المؤتمر بحضور حكومي مبرمج، يردد نفس المقولات والشعارات، أو ربما اعتقدوا أن الحكومات لا دور لها، وأن الأمر مرهون بالإرادة الأمريكية.. من يدري؟
وربما خافت الحكومات أن يدرك الأمريكيون -وعن قرب- حجم احتقان الموقف، وحجم المعارضة التي تلقتها الحكومات جراء مواقفها من التيار الإسلامي وحقوق الإنسان بشكل عام، والديمقراطية في العالم العربي. ولأنها كانت غائبة فقد غيبت معها وسائل إعلامها؛ ولم تقم بتغطية الحدث، ولو كخبر يستحق النشر.
وإذا كان غياب الحكومات مفهوما؛ فلماذا لم يُدعَ المفكرون الإسلاميون من أمثال محمد عمارة والعوا؟ الإجابة هي أن المنظمين ربما ليسوا في حاجة إلى منظرين، بل يبحثون عن قيادات يعرفون أن لها دورا تنفيذيًّا على أرض الواقع.. ربما.
أمريكا تريد أن "تفبرك" شريكا
الولايات المتحدة تبحث عن مفاوض أو محاور إسلامي معتدل، لكنها لا تريد أن يكون هذا الشريك الإسلامي بمواصفات عربية أو إسلامية، بل تريده شريكا أكثر تحررا (أي أكثر تحللا من موروثه الديني والثقافي)، وأكثر تفهما (بمعنى ألا يربط بين التعامل مع أمريكا وموقفها من الكيان الصهيوني).
وفي اعتقادي أن البحث ما زال جاريا، وسيظل جاريا، لا لحين العثور على شخصيات إسلامية بهذه المواصفات؛ ولكن لحين قبول الولايات المتحدة فكرة التعايش مع إسلاميين يحملون مواصفاتهم.
والسؤال هو حول جدية الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك، ومدى قدرتها على المشاركة في مؤتمرات من هذا النوع في المنطقة، أو إقناعها لأصدقائها في السلطة بالسماح بمثل هذه الحوارات، أو استدعاء الكوادر الإسلامية إلى الأراضي الأمريكية للتفاوض معها ومحاورتها. وهنا سنكون على أعتاب موقف أمريكي جاد يمثل تحديا للطرفين؛ وأشك في أن يكون أي من الطرفين لديه القدرة على الدخول في مثل هذا التحدي في الوقت الراهن. فلا الولايات المتحدة مستعدة أن تخسر حلفاء تعبت من أجل تثبيتهم، ولا الإسلاميون مستعدون للقبول بالسراب حتى ولو كان معسولا وجميلا ومغريا.
لماذا الكويت بالذات؟
الولايات المتحدة جاءت لتبحث عن شركاء، وبعض الإسلاميين جاء ليلعنها على الملأ، ويسفه أحلامها، والبعض الآخر قدم تنازلات، ولكن غابت الحكومات كما غاب المفكرون الإسلاميون. والكويت احتضنت الجميع لتثبت أن الإشكالية ليست أحادية الطرف، بل متعددة الأطراف. لكن أليس غريبا وعجيبا أن يعقد مثل هذا المؤتمر على أرض الكويت، ولا يعقد على أرض بلد كبير لديه مشكلة حقيقية مع الإسلاميين! وما أكثر تلك البلدان!!.. مجرد سؤال.
==============(19/336)
(19/337)
هل تفرض واشنطن إصلاحاتها على النظم العربية؟!
14/07/2002
محمد جمال عرفة - القاهرة
الرئيس المصري حسني مبارك
منذ أن فتحت الإدارة الأمريكية ملف السلطة الفلسطينية، وتصاعد الحديث عن "إصلاحات داخلية" ضرورية في أجهزة السلطة، والحديث يتعاظم في الساحة الإعلامية الغربية حول ضرورة انتقال هذه الإصلاحات -على الطريقة الغربية- لبقية الدول العربية مثل مصر والسعودية وسوريا.
والإصلاحات المطلوبة هنا ليست ناتجة عن رغبة غربية في مساعدة الشعوب العربية على نيل حريتها بقدر ما هي الرغبة في تحسين الأحوال السياسية والاجتماعية عموما كي لا ينشأ جيل على غرار بن لادن كما يقولون.
والغريب أنه في الوقت الذي كانت واشنطن تنتقد فيه بعنف النظم العربية، وتصفها صحفها بالديكتاتورية، وتطالبها بإصلاحات على غرار الفلسطينيين (تطوير التعليم، وغلق المدارس الدينية كجزء من تصور الإصلاح الغربي) بما في ذلك إصلاحات سياسية -أصدر برنامج هيئة الأمم المتحدة للتنمية والصندوق العربي للتنمية البشرية تقريرا يوم 3-7-2002 يتهم عددا من الدول العربية بتبديد ثرواتها وحرمان الشعوب من الحريات السياسية الديمقراطية الأساسية.
وطالب معدو التقرير -الذي أعلن في القاهرة، ويتحدث عن 22 دولة عربية يعيش فيها 280 مليون عربي- الزعماء العرب بدراسة هذه النتائج التي توصل إليها برنامج الأمم المتحدة للإنماء في تقرير التنمية العربية لعام 2002 من أجل تجنب حدوث اضطرابات اجتماعية.
حيث أرجع معدو التقرير حالة الفقر العربي إلى ما أسموه "فقر القدرات ونقص الفرص"، وقالوا: إن سبب فقر القدرات هذا يعود لثلاثة نواقص رئيسية هي: نقص الحرية، وهضم حقوق النساء، ونقص المعرفة.
بل إن التقرير قال بوضوح: إن سكان العالم العربي كانوا الأقل استمتاعا بالحرية على الصعيد العالمي في التسعينيات، وإن التصنيف العالمي للحريات الذي يقسم العالم إلى سبع مناطق والذي يستخدمه برنامج الأمم المتحدة لقياس مظاهر متنوعة لنواحي العملية السياسية والحريات المدنية والحقوق السياسية واستقلالية وسائل الإعلام -أظهر أن العالم العربي يتمتع بأدنى مستوى من الحرية، وأن المنطقة العربية تأتي في المرتبة الأخيرة على جميع مناطق العالم السبعة بما فيها أمريكا اللاتينية وآسيا؟!
الغرب للفلسطينيين: لستم وحدكم!
وقد استغل المعلقون الغربيون التقرير بالطبع لتأكيد مقولاتهم عن ضرورة الإصلاحات في العالم العربي ككل، رغم تخوف آخرين -مثل الكاتب الأمريكي جيم هوجلاند- من أن تأتي الديمقراطية العربية بأثر سلبي على الغرب، حيث سيصعد إلى دفة الحكم ممثلو الشعوب الحقيقيون الذي يكرهون الغرب بسبب سياساته الظالمة وغير العادلة؟!
فالكاتب الأمريكي توماس فريدمان كتب تحت عنوان "العرب على مفترق طرق" في صحيفة نيويورك تايمز 3-7-2002 يعلق على مطالبة بوش للفلسطينيين بالإصلاحات بقوله: "المؤسف أنه (بوش) لم يقل إنه ليس الفلسطينيون فقط هم الذين يحتاجون إلى تغيير راديكالي في حكوماتهم بل العالم العربي قاطبة".
أما تقرير الأمم المتحدة فعلق عليه بقوله: إنه "تقرير صريح إلى حد القسوة يحلل الأسباب الثلاثة التي جعلت طريق العالم العربي يهبط إلى الهاوية، وبشكل مختصر يمكن إرجاع هذا الأمر إلى انعدام حرية التعبير والمشاركة في الحياة السياسية، وهضم حقوق النساء، ونوعية التعليم المتدنية".
واعتبر فريدمان أن التقرير ينقل رسالة لأمريكا هي "أننا طالما عاملنا العالم العربي على أنه محطة بنزين غبية وطالما أن الحاكم يضخ لنا النفط ولا يؤذي إسرائيل فإننا لا نكترث بأمر النساء والأطفال هناك حيث يقوم سوء الإدارة وتفشي البطالة والحياة الفكرية الضعيفة بقتل مستقبل العرب". وأضاف: "لقد آن الأوان أن نكف عن الضحك على أنفسنا؛ لأن التخلص من بن لادن وصدام وعرفات لن يغير من الوضع شيئا، يجب علينا أن نشمر عن سواعدنا لمواجهة كافة المشكلات في العالم العربي، وهناك كثير من العرب التحرريين الذين يمكن التحالف معهم، وليس فقط مع هؤلاء المتسكعين الذين أوصلوا البلاد إلى هذا الحال"!
أما روبرت فيسك الكاتب البريطاني صديق العرب فكان أقل حدة، وكتب في تعليق بعنوان "الأمم المتحدة تسلط الضوء على الحقائق المرّة في العالم العربي" في صحيفة الإندبندنت 4-7-2002 يقول: "لن يجد العالم العربي -المحروم من الحرية السياسية، والمعزول عن عالم الفكر، والمضطهد للنساء في مجتمعه، والقامع للعلم والتطور- ما يقوله ضد الاستنتاجات التي توصل إليها تقرير صادر عن الأمم المتحدة يصف بدقة متناهية الحياة القاحلة والمتحجرة في كثير من الأقطار العربية".
ويضيف: "ولكنهم (يقصد الحكام العرب) سيفعلون ذلك! صحيح أن التقرير لا يقول ذلك، ولكن هذه الأنظمة الميتة والقاسية تسترت طويلا تحت قناع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لتتحاشى استقدام الإصلاحات الديمقراطية".
دعوات مصرية للإصلاح!(19/338)
ومثلما التقط الفلسطينيون الخيط الأمريكي الداعي للإصلاح وقالوا: "بيدي لا بيد عمرو"، ودعوا لإصلاحات داخلية حقيقية، معترفين بوجود حاجة قديمة للإصلاح تأخرت، ولا بد من وضع حد للفساد الذي استشرى بين بعض الوزارات والأشخاص على الطريقة الفلسطينية الخاصة -لا الإسرائيلية أو الأمريكية- لوحظ أن كتابا ومفكرين مصريين وعربا تحدثوا بالمثل عن الحاجة إلى إصلاحات داخلية في الدول العربية.
وقال بعضهم بوضوح -أغضب حكومات ومنع نشر آرائهم هذه في صحف رسمية-: إن الإصلاح يجب أن يبدأ من داخل الدول العربية قبل أن يُفرض عليها.
فقد كتب صلاح الدين حافظ نائب رئيس تحرير صحيفة الأهرام مقالا كان من المفترض أن يُنشر يوم 3 يوليه الجاري في جريدة الأهرام تحت عنوان "كيف نجري الإصلاح الديمقراطي بأيدينا؟"، ولكن ما تضمنه كان كفيلا بمنعه من النشر ونشرته صحيفة "العربي" الناصرية يوم 7 يوليه تحت عنوان "المقال الممنوع"!
فقد قال حافظ: "إن هناك ضرورة بل ضرورات لإجراء إصلاح دستوري سياسي في بلادنا يفتح الباب واسعا من الآن فصاعدا لديمقراطية حقيقية وراسخة ومستمرة.. إصلاح نجريه بأيدينا وعن قناعة بأهميته وضرورته الحتمية، وليس استجابة لضغوط أمريكية أو تهديد أجنبي".
وقال: إن "بلدا مثل مصر بكل ما تملكه من إمكانيات مادية وبشرية… ومن موروث تجارب سياسية ونظم حكم تطورت وتقلبت… هي الأكثر استعدادا وتهيؤا للتطور الديمقراطي العميق".
وبعد أن عدَّد حافظ السلبيات من حيث: نقص عملية تبادل المواقع وتداول السلطة، ونقص حرية إصدار الصحف، والقوانين المقيدة للحريات، ونقص الإشراف الكامل على الانتخابات وغيرها، قال: "كيف نجري الإصلاح الديمقراطي المنشود بأيدينا لا بأيدي غيرنا؟".
ثم حدد أربعة أنواع من الإصلاحات تحدث عنها بالتفصيل هي:
- إصلاح قانوني تشريعي كامل وعلى رأسه تعديل الدستور.
- إصلاح سياسي - اقتصادي.
- إصلاح اجتماعي.
- إصلاح ثقافي تعليمي معرفي واسع.
وختم بقوله: "جاء دورنا لكي نستأنف المسيرة الإصلاحية ونعيد بناء الإصلاح الديمقراطي وفق مطالبنا ووفق مطالبنا وحاجاتنا الضرورية" و"أصبح الأمر أمر ضرورات حتمية حاكمة ولازمة. فلنفعل الأصح بأيدينا بدلا من أن يُفرض علينا الأسوأ بأيدي غيرنا"!
وما قاله صلاح حافظ عاد مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين السابق، رئيس تحرير المصور ليقوله بشكل مختصر في مقاله الأخير يوم 12 يوليه 2002 عن "شرعية ثورة يوليو بعد مرور 50 عاما على الثورة".
فبعد أن استعرض إنجازات وسلبيات ثورة يوليه وشرعيتها بعد مرور 50 عاما قال مكرم: إن "جوهر الشرعية الجديدة في استنادها إلى ديمقراطية حقيقية صحيحة تقوم على التعدد الحزبي، ويمارس المجتمع من خلاله انتخابات حرة ونظيفة".
واستطرد يقول: "هل يمكن أن نعتبر إشراف القضاء المصري على الانتخابات النيابية في مصر أول علامات هذه الشرعية الجديدة؟".
وقد تناول كُتاب عرب آخرون هذا الأمر (الإصلاحات العربية) بكثير من التفصيل، وأبدوا ذات المخاوف من فرض أمريكا إصلاحات معينة على هذه الدول ما لم تبادر هي لتنفيذ إصلاحات حقيقية تفيد البلاد، فيما سخر آخرون من المطالب الأمريكية، معتبرين أن الإصلاح سيكون في المحصلة النهائية ضررا على أمريكا؛ لأنه سيأتي بالقوى الشعبية الحقيقية على رأس الحكم، وهذه لن تكون إرادتها مرتهنة للأمريكان لأنهم لا يخشون إلا شعوبهم!
الحزب الوطني المصري بين الجديد والقديم
وقد تزامنت هذه الدعوات الغربية للإصلاح السياسي في العالم العربي مع قيام بعض الدول العربية بخطوات سياسية تندرج تحت مسمى الإصلاح السياسي، مثل إعلان البحرين إجراء انتخابات برلمانية في أكتوبر المقبل 2002، وسعي قطر لتشكيل برلمان منتخب، وإجراء الجزائر انتخابات قيل إنها حرة لأول مرة منذ انتخابات 1990 رغم ما شابها من عيوب.
ومن هذه الخطوات أيضا إعلان الحزب الوطني المصري الحاكم الذي يرأسه الرئيس مبارك القيام بنوع من التطوير عبر انتخابات من القاعدة للقمة، وهو ما قد يوحي بأنه يندرج ضمن خطط الإصلاح التي يثور الحديث عنها.
ولأن غالبية ما قيل عن إصلاحات عربية جاء على لسان كُتاب مصريين، ولم تعلن دول عربية أخرى خطوات سياسية داخلية هامة، إضافة إلى تشديد الرئيس مبارك على إصلاح الحزب الحاكم المصري، فمن الطبيعي أن تتركز الأنظار على مصر أكثر وتجربتها الحالية.
والحقيقة أن خطط تطوير الحزب الحاكم المصري تعود إلى ما قبل إثارة مسألة الإصلاحات في العالم العربي، ولكنها تصاعدت مع تعيين ابن الرئيس المصري جمال مبارك في هيئة المكتب السياسي للحزب العام الماضي، والحديث المتكرر عن قرب تصعيده لقيادة الحزب في أعقاب الانتخابات الحالية الدائرة في مكاتب الحزب الفرعية التي ستختتم بالمؤتمر العام الثامن للحزب برئاسة الرئيس المصري حسني مبارك خلال الفترة من 15 إلى 17 سبتمبر المقبل.(19/339)
كذلك جاء الحديث عن مرور 50 عاما على ثورة يوليو وشرعيتها بعد هذه الأعوام مع تشديد كُتاب ومحللين على أن أحد مبادئ ثورة 23 يوليه الستة الباقية لم يتحقق حتى الآن وهو "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"؛ ليزيد الجدل حول تعميق وتنمية الديمقراطية التي تبدأ بإصلاح الحياة السياسية الحزبية والانتخابات.
بل إن تصريحات الرئيس مبارك الأخيرة لصحيفة الأهرام (13 يوليه 2002 ) التي شدد فيها على أنه لا بديل عن تطوير الحزب الوطني "لأنه مؤمن تماما بأن الحياة السياسية لا بد أن تقوم على بناء ديمقراطي سليم "، إضافة إلى دعوة رئيس تحرير مجلة المصور السابق بالإشارة لها بأن يكون جوهر "الشرعية الجديدة" -كما أسماها- للثورة هو إقامة حياة ديمقراطية حقيقية .. هذه التصريحات ردها بعض المحللين إلى وجود أساس للأقوال التي دارت حول امتداد دعاوى الإصلاح السياسي إلى العالم العربي، وإن كان البعض يرى أن مطالب الإصلاح السياسي نبتت عربيا أولا، ولكن عدم الأخذ بها من قبل الحكومات انتهى إلى أن يرفعها -لأهداف مختلفة بالطبع- الغرب في مواجهة نفس الحكومات!
فالرئيس المصري وجَّه رسالة للقائمين على هذا التطوير في الحزب الحاكم -في حديثه للأهرام 13 يوليه 2002- قائلا: إن "الهدف من التطوير ليس الانتخابات وإنما ما بعدها أي القيام بعمل جاد وإعداد كوادر للمستقبل تملأ الفراغ ، وإتاحة الفرصة أمام الشباب والمرأة "، وقال: "ليس هناك من بديل عن التطوير الجاد للحزب الوطني باعتباره حزب الأغلبية، والقرار في الحزب لا بد أن يحكمه أساس ديمقراطي ".
وجاء تركيز الرئيس على دور الشباب في الحزب ليزيد أسهم الحرس الشبابي الجديد قبالة الحرس القديم وعلى رأسه الأمين العام للحزب د. يوسف والي، وأبرز هذا الحرس الجديد ابن الرئيس المصري (جمال مبارك) الذي ترشحه الشائعات لتولي منصب أمين عام الحزب خلال شهرين؛ إذ قال مبارك إن: "الخريطة السياسية تغيرت فالأغلبية الآن في هرم السكان من الشباب ومن الضروري بالنسبة للحزب أن تتسع قاعدته منهم وعلى مستوى كل القيادات ويصبحوا مشاركين".
ومع أن الرئيس مبارك الذي يرأس الحزب الوطني تحدث عن "تطوير" و"إتاحة الفرصة أمام الشباب"، فقد لوحظ أن نتائج انتخابات القواعد في المحافظات والمدن الصغيرة -كما قال كمال الشاذلي أمين التنظيم بالحزب الحاكم- أسفرت عن فوز 99% بالتزكية دون انتخابات.
وقد انتهى أيضا الفصل الثاني من انتخابات الحزب الحاكم التي جرت على مستوى الأقسام والمراكز والأحياء في 13 يوليه الجاري تمهيدا للفصل الثالث والأخير في سبتمبر القادم باختيار رئيس الحزب لأمناء الحزب الوطني بالمحافظات، وانتخاب هيئات المكاتب على جميع المستويات.
التغيير القادم
وكان جمال مبارك قد بدأت أسهمه تتصاعد منذ عامين تقريبا بسبب تصريحاته المتعددة في وسائل الإعلام؛ وهو ما أثار الشائعات حول توليه الرئاسة، وذلك ضمن عمليات توريث الحكم التي جرت في أربعة دول عربية (سوريا - الأردن - المغرب - البحرين)، بيد أن تصريحات قاطعة للرئيس مبارك وابنه نفت هذه الأنباء تماما.
وعاد جمال مبارك ليحسم المسألة بقوله: إن الرئيس مبارك (الأب) يرفض تماما توليه أي مناصب تنفيذية يرأسها والده، ولكن تعيين جمال في هيئة مكتب الحزب الحاكم أظهر جانبا من الدور المنتظر أن يقوم به داخل الحزب الوطني الحاكم.
وقد ظهرت إرهاصات هذا الدور في الحوار المطول مع جمال مبارك والذي أذاعه التلفزيون المصري يوم 30 يونيه الماضي عشية بدء الانتخابات الداخلية في الحزب الحاكم والمتوقع أن تسفر عن إطاحة عدد كبير من قيادات الحرس القديم، حيث تعهد جمال باعتباره عضو الأمانة العامة والمكتب السياسي للحزب الوطني الديمقراطي بـ"استمرارية حملة التطوير والإصلاحات التي يقودها داخل الحزب"، وحذر القيادات القديمة من المراهنة على أن الموضوع سيهدأ بعد حين. ودعا شباب الحزب إلى المشاركة بقوة في الانتخابات الداخلية للحزب التي انتهت 13 يوليه الجاري.
ومع أن جمال صرح مرارا بأنه مجرد عضو في أمانة عامة تضم 23 عضوا، ومكتبا سياسيا يضم 6 أعضاء، ولجنة لتنفيذ الإصلاحات تضم 4 أعضاء، فإن كلماته اعتبرت أشبه بـ"تفويض كامل" من الرئيس حسني مبارك (رئيس الحزب) لتطهير صفوف الحزب من العناصر التي أساءت إليه طوال العقدين الماضيين.
فليس سرا أن هناك قيادات كبرت في السن، وعفا عليها الزمن، وأخرى تورطت في قضايا فساد مالي وسياسي وأخلاقي شوهت صورة الحزب الحاكم، وتوسعت صحف المعارضة في كشف فضائحها، والأهم -كما ظهر ضمنا في تصريحات مبارك الأخيرة- أن هذه القيادات القديمة فشلت في تأسيس قاعدة شعبية حقيقية لحزب يفترض أنه حزب الأغلبية.
واللافت أن تصريحات جمال الأخيرة ليس مألوفا سماعها من مسؤول في الحزب الحاكم، حيث أقر فيها بأن "الشباب المصري بشكل عام، وليس شباب الحزب فقط، يعاني حالة من السلبية السياسية، ويردد كلاما مثل الانتخابات: مش هتفرق، وبلاش وجع دماغ، عندما يتعلق الأمر بالمشاركة في الحياة السياسية".(19/340)
كما أقر بأن الشباب قد يكون معذورا في سلبيته أحيانا في مواجهة "قيادات لا تريد أن تترك الكرسي"، ولكنه أصر على ضرورة ألا ييأس الشباب وأن يستمر في المشاركة الفعالة؛ لأن ذلك هو الحل الوحيد، حسب تعبيره.
ومن الواضح أن جمال مبارك اكتسب خبرات سياسية واقتصادية مكثفة بالعمل عن قرب مع مساعدين مخضرمين للرئيس مثل الدكتور أسامة الباز مدير المكتب السياسي، بالإضافة إلى عمله كمتحدث رسمي باسم المجلس الاقتصادي الرئاسي المصري ـ الأمريكي، الذي أنشئ في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون لتقوية العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وقد دفعت هذه التصريحات الأوساط السياسية المصرية لتوقع قرب تعيين جمال أمينا عاما للحزب الحاكم أو في منصب يليه مباشرة والإطاحة ببعض الوجوه القديمة في الحزب، خصوصا أن الإصلاحات التي يقودها جمال وأبوه لا تأتي فقط في وقت تتعاظم فيه الدعاوى الغربية بإصلاحات، ولكن في وقت استفحلت فيه بعض الفضائح السياسية والأخلاقية لبعض قيادات الحزب، حتى إن صحيفة مصرية معارضة زعمت تورط قياديين للحزب في إحدى المحافظات في "شبكة منافية للآداب"!
انتخابات الحزب الحاكم قد تسفر بالتالي -كما يقول مراقبون- عن شكل من الإصلاحات وتغيير قيادات من الحرس القديم لصالح الحرس الشبابي الجديد، ولكنها -في رأي معارضين أيضا- قد لا تأتي بجديد سوى تغيير في "الأشخاص" دون "الأفكار"، ولكن الفيصل هو يوم 15 سبتمبر المقبل عندما يتم انتخاب المكتب السياسي للحزب وهيئته التي يكون لها دور هام، ليس فقط في تخطيط السياسات، ولكن أيضا في ترشيح رئيس الجمهورية المصري قبل طرحه في استفتاء عام.
فهل تستغل الأحزاب والقوى السياسية العربية الحاكمة فرصة الحاجة لتغييرات حقيقية في بلادها وتنفذها لصالح شعوبها؟ أم تفرض واشنطن هذه الإصلاحات كما فرضتها على الفلسطينيين؟
وهل صحيح أن الديمقراطية العربية تخدم مصالح أمريكا كما يقولون في الغرب؟ أم أنها ستفتح أبواب جهنم على الهيمنة والسيطرة الغربية في العالم العربي؟!
=============(19/341)
(19/342)
ديمقراطية بلا إسلاميين وإصلاح بلا ديمقراطيين
عبد الفتاح محمد ماضي** …
14/04/2004
لا يمكن للمرء إلا أن يتفق مع الانتقادات التي وجهت إلى المشاريع الأمريكية للإصلاح في العالم العربي، غير أن ثمة أخطاء على الجانب العربي أيضا لا يجوز تغافلها أو التغاضي عنها...
الهدف هو إصلاح ما أفسدته الحكومات
أولاً: يجب أن تؤمن الحكومات، وليس الشعوب، بأن عمليات الإصلاح المنشودة تستهدف في الأساس إصلاح ما أفسدته تلك الحكومات على مدى عدة عقود خلت؛ ففساد السلطة والإدارة والتعدي على حقوق الإنسان، وتغييب الشعوب سياسيًّا واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، وتراجع القيم والمثل الدينية والأخلاقية.. إنما جاء نتيجة لمفاهيم وسياسات خاطئة ومضللة تبنتها السلطات الحاكمة لأسباب متعددة، وأفضت في كثير من الأحيان إلى حالة التخلف السياسي والاقتصادي والتكنولوجي التي تعاني منها جُل الدول العربية.
إيمان الحكومات بهذا قد يترجَم في الواقع العملي في أشياء كثيرة؛ لعل أبرزها أولاً: تركيز الاهتمام على تهذيب وسائط الإعلام ومناهج التعليم والتربية من القيم الهدامة والآليات المضللة، وكذا على السبل الكفيلة بالعودة إلى القيم الأخلاقية والدينية. وثانيًا: كف السلطات الحاكمة عن كل أوجه الفساد المالي والسياسي والإداري، وإتاحة الفرصة أمام الشعوب للمشاركة في عمليات الإصلاح في كافة مستوياتها وأبعادها.
الإصلاح يجب أن يكون عامًّا وشاملا
ثانيًا: يجب على المنادين بالإصلاح داخل وخارج السلطة الاتفاق حول مضامين عمليات الإصلاح تلك. فالإصلاح لا مناص من أن يشمل وضع الآليات الحقيقية الكفيلة بتطبيق المسائل الرئيسية التي أشارت إليها معظم المبادرات المطروحة، ومنها احترام الحكومات لحقوق الإنسان الأساسية، وإطلاقها حرية التعبير عن الرأي، وإلغاؤها للقوانين المكبلة للحريات السياسية والاقتصادية، وتطبيقها حكم القانون وقاعدة الثواب والعقاب على الجميع، والقضاء على الفساد بكافة أشكاله، واستقلالية القضاء، وإصلاح أحوال التعليم والجامعات، وتوسيع سبل المشاركة السياسية بكافة صورها وأشكالها ومستوياتها، وإصلاح الدساتير والمؤسسات القائمة، وضمان حقوق الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية.
لا بد أن يتم ذلك كله دون تجاهل قيم ودين الغالبية العظمى من الشعوب العربية؛ الأمر الذي يجب على علماء هذا الزمان بحثه والخروج بصيغ مبتكرة لا تناقض القيم العليا لهذا الدين، ولا تتجاهل مكتسبات الغير في مجال الحكم وإدارة الدولة. وأقصد بالعلماء هنا علماء الشرع وكذا علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والإدارة؛ فاقتصار ذلك العمل على فريق واحد يؤدي إلى حلول ناقصة في كثير من الحالات.
فمسألة الحريات مثلا لا يجوز أن "تُستنسخ" من التجربة الغربية؛ فلا يمكن مثلا إقرار حريات الشواذ على النحو المعمول به في بعض المجتمعات الغربية، أو إطلاق حرية بيع الخمور؛ فكما تقف قوانين الولايات المتحدة وقيمها حائلا دون ممارسة المسلمين هناك لشعيرة الأضحية في المنازل، أو لتعدد الزوجات مثلاً؛ فلا بد أن تحول قيم المجتمعات العربية وقوانينها دون ما يخالف قيم الإسلام ومبادئه العليا. فأوجه التعبير عن الحرية أمر نسبي تتغير بتغير الزمان والمكان.
وأذكر هنا ما أشار إليه العالم عبد الوهاب المسيري من أن المستعمر الغربي حين ذهب إلى أفريقيا ووجد أهلها -نظرًا للظروف المناخية- يتحررون من الثياب، راح يعلمهم كيف أن التستر بالثياب من مقتضيات اللحاق بالعالم المتحضر، أما اليوم فالتعري والتجرد من الثياب صار سمة رئيسية من سمات الحضارة الغربية ذاتها.
لا إصلاح بدون إسلاميين
ثالثًا: هل ما تريده الحكومات هو ديمقراطية بلا إسلاميين؟ ما أعنيه هنا هو أن ثمة تناقضًا في الخطاب العربي الرسمي حول مسألة نفوذ بعض القوى الإسلامية، ونطاق عمليات الإصلاح المزمعة. ففي مناسبات معينة يعترف بعض المسئولين أن التيارات الإسلامية تسيطر على الشارع؛ نظرًا لتعاطف قطاعات كبيرة من الشعوب معهم من جهة، ولقوتهم التنظيمية من جهة أخرى. أما عند الحديث عن الإصلاح فيؤكد هؤلاء أنه لا مكان لتلك التيارات في أي نظام "ديمقراطي" مستقبلي، مستندين في ذلك إلى ما حدث في الجزائر مطلع التسعينيات. خطأ سياسة الإقصاء تلك (أو "فخ الانتخابات الحرة" كما يسميه بعض الباحثين الغربيين) ينبع من عدة أمور:(19/343)
أولها أن من مبادئ الديمقراطية أن يكون في السلطة من يتمتع بدعم الغالبية وبالقدرات التنظيمية. وثانيها أن دولا إسلامية شهدت انتخابات حرة دون أن تكون الأحزاب الإسلامية عائقًا أمام الديمقراطية. ففي تركيا كانت المؤسسة العسكرية هي التي وضعت دستور 1982 ببنوده المقيدة للحريات، وهي التي أقصت الإسلاميين عن الحكم دون أن يكون هناك أي "فخ". أما في باكستان وبنجلاديش فقد عانت الديمقراطية في الأساس من العسكريين وأجهزة الأمن وليس من الأحزاب الإسلامية، كما أن الإسلام ما كان يومًا عقبة أمام الديمقراطية ولا كان دعامة للحكم في إندونيسيا إبان عهد سوهارتو. وثالثها أن ما حدث في الجزائر إنما كان في الأساس نتيجة إلغاء الانتخابات وتسلط العسكريين على مقدرات الأمور.
لا إصلاح بلا ديمقراطيين
رابعًا: هل يريد البعض إصلاحًا بلا ديمقراطيين؟ وأعنى بالديمقراطيين أولئك الذين يؤمنون بالآليات والمؤسسات المطبقة بالغرب التي تنظم التداول السلمي على السلطة، وتحول دون تدلي الحكام إلى الاستبداد، وتحترم الحقوق الأساسية للإنسان. إن الدعوة إلى إصلاح شامل وعام ينبغي ألا تفهم على أنها دعوة لفتح الباب أمام من لا يؤمن بالديمقراطية لممارسة الديمقراطية. إن من مبادئ الديمقراطية نبذ العنف كسبيل للسلطة والقبول بما يسمى "قواعد اللعبة الديمقراطية"، أي قبول من هم اليوم في الحكم، ومن هم في خارجه، مبدأ التداول على السلطة. ولذا فيجب على بعض القوى السياسية الإسلامية إزالة الغموض الذي يشوب خطابها السياسي، إن أرادت حقًّا المشاركة في الإصلاح.
فالإصلاح بطبيعته يستلزم ترتيب الأولويات، والانفتاح على الغير، وحتمية العمل المرحلي. وعلى هذه القوى أيضًا إدراك أن آليات الديمقراطية ومؤسساتها تلك لا تعني البتة الانتقاص من شأن الإسلام وقيمه، بل على العكس تمامًا..
أولاً لأن هذه الآليات من المكتسبات الإنسانية التي ابتكرها العقل البشري، بل وطبق بعض أوجهها المسلمون الأوائل. وثانيًا لأن من مقتضيات الإسلام اقتباس النافع والأخذ بالحكمة أنى وجدت ما دامت لا تتناقض مع المبادئ والقيم الأساسية للإسلام. وثالثًا لأن هذا ما فهمه ويمارسه بعض الإسلاميين في اليمن والأردن والمغرب وفي إندونيسيا وبنجلاديش وتركيا وإيران، بل وفي المجتمعات الغربية أيضًا.
إن إدراك هذه الأمور يستلزم من الجميع تجاوز منطق التفكيرة الإقصائي والاستعلائي، والتخلي عن عقلية الثنائيات ومحدودية التفكير والانغلاق. إن مساحات الاتفاق بين القوى السياسية المختلفة يجب أن تتسع لتشمل الاتفاق على الأهداف العليا المنشودة، والآليات والمؤسسات الكفيلة بوضعها موضع التنفيذ. فلن يتحقق الإصلاح إذا ظل تفكيرنا محصورًا في ثنائية "ديمقراطية بلا إسلاميين"، أو "إصلاح بلا ديمقراطيين".
============(19/344)
(19/345)
حمزة منصور: الحركة الشعبية مقابل الشرق أوسطية
عمّان - طارق ديلواني
10/04/2004
الشيخ حمزة منصور
أجرت "إسلام أون لاين.نت" حوارًا مع الأستاذ حمزة منصور الأمين العام لحزب جبهة العمل الإسلامي في الأردن، حول مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ فأكد أن الحزب سيحارب المشروع مثلما حارب التطبيع مع الكيان الصهيوني من قبل، داعيًا إلى التركيز على وحدة الصف والكلمة بين العالمين العربي والإسلامي، وإلى تفعيل الجامعة العربية، وكذلك تفعيل وحدة العمل الشعبية في الدول العربية؛ باعتبار أن الثانية مقدمة للأولى.
* إذا كنتم تتقبلون الفكرة.. فكيف يمكنكم التعامل معها؟
- لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نقبل هذا المشروع أو أن نتقبله على الإطلاق، حتى لو استسلمت الحكومات العربية له ولإرادة مطلقيه، ودخلت نفق التبعية لواشنطن.. فواجبنا التاريخي والديني يحتم علينا بذل كل جهودنا، وعلى جميع الأصعدة لهدم كل البنى التي تحقق المصالح الأمريكية على حساب ديننا وعقيدتنا وتراثنا وإرثنا الحضاري. ولو افترضنا أن هذا المشروع تم فرضه على المنطقة بالقوة، فسنتعامل معه كتهديد للأمة، سنحاربه مثلما حاربنا التطبيع مع الكيان الصهيوني والعولمة.
* إذا كنتم ترفضون الطرح الأمريكي من حيث المبدأ.. فهل لديكم بدائل متاحة؟
- نعم لدينا بدائل على المدى البعيد (إستراتيجية)؛ فنحن نؤمن بوحدة العالم الإسلامي، وهذه قضية نعتقد أنها ثابتة ومركزية، ونحن نحارب الشرذمة والتشتت الذي يعاني منه عالمنا العربي والإسلامي، ونؤمن أن الوحدة العربية هي الطريق للوحدة الإسلامية، ونعتقد أن مواجهة مشروع الشرق الأوسط الكبير سيكون بوحدة الكلمة والصف بين عالمنا العربي والإسلامي.
كحزب إسلامي ومهم على الساحة الأردنية، وكممثلين للحركة الإسلامية في الأردن.. نعمل قدر الإمكان على تعزيز التضامن العربي، وتفعيل صيغ العمل المشترك؛ وهذا أساس برنامج عملنا الذي طرحناه كحزب.
نحن أيضًا مع استمرارية وتفعيل الجامعة العربية، ونطالب بالتضامن العربي، ونسعى لتعزيز وحدة العمل الشعبية في البلاد العربية؛ ومن هنا كان -على سبيل المثال- مؤتمر الأحزاب العربية الذي يرأسه الأمين العام السابق لحزبنا الدكتور إسحق الفرحان؛ لأننا نعتقد أن تفعيل الجهات والجهود الشعبية مقدمة لتفعيل التضامن العربي الرسمي.
أطلعنا الحكومة الأردنية على توجهاتنا ورؤيتنا حول مشروع الشرق الأوسط الكبير، وحذرنا من تبعاته وأهدافه، وقلنا: إننا نرفض الإصلاح من الخارج، ونركز على الإصلاح الداخلي عبر إقرار مبدأ تداول السلطة، وإقرار تشريعات أكثر ديمقراطية.
وطالبنا الحكومة الأردنية بقطع علاقتها مع الكيان الصهيوني، والاستناد للعمق العربي والإسلامي؛ لأنه عمقنا الإستراتيجي الحقيقي.
* ما رؤيتكم لمستقبل الحركات الإسلامية في المنطقة في ضوء هذا الطرح الأمريكي؟
- لا شك أن هذا المشروع يحمل في طياته الكثير ضد الحركات الإسلامية التي تقف سدًّا منيعًا أمام أي محاولات للهيمنة على المنطقة. أرى أن مستقبل الحركات الإسلامية سيكون قاتمًا بالنظر إلى أن المواجهة الأساسية بين الهيمنة الأمريكية والعالم العربي والإسلامي ستكون مع القادة الدينيين والتنويريين الذين يأخذون على عاتقهم تنوير الشعب العربي والإسلامي بما يحاك ضده. وأخشى أن يؤدي فرض نظام الشرق الأوسط الكبير بالقوة في بعض الدول العربية إلى اصطدام الحكومات العربية بهذه الحركات، أو تصنيفها عامة على قائمة الإرهاب، أو تجفيف منابعها ومحاربتها.
وأرى أن هذه الحركات أمام تحد كبير على مستوى المنطقة ككل؛ فإما أن تكون بمستوى هذا التحدي، وإما أن تنخرط وتذوب في إطار مثل هذه المشاريع.
* هل تفكرون في التعامل مع هذا الطرح على أنه ورقة ضغط على أنظمتكم لتحسين أوضاعكم أو الاعتراف بكم أو تحقيق مكاسب ما؟
- بداية.. لا يمكن لنا التفكير بمنظور استغلال الفرص السانحة؛ فنحن نتعامل مع هذا المشروع، وننظر إليه باعتبار أن الإدارة الأمريكية تدرك مدى استسلام الأنظمة العربية؛ فتتمادى في فرض هيمنتها واستهتارها بالأمة العربية ككل.
ولا يمكن النظر بأي حال من الأحوال إلى هذا المشروع على أنه ورقة ضغط على حكومتنا لتحسين وضعنا، أو الاعتراف بنا، أو تحقيق مكاسب؛ نحن في غنى عن أي مكاسب تأتي عن طريق الهيمنة الأمريكية.
ولكن أقول: إن هذه مناسبة جيدة للإصلاح، وفتح ملفات الإصلاح في العالم العربي، وأعتقد أن كل نظام عربي فيه بقية من خير، ويمكن أن تنتفض بعض الأنظمة العربية ضد هذا المشروع؛ ونحن بدورنا سنعزز ونبارك هذا الرفض، وسنقف وراء كل من يقول: لا للهيمنة الأمريكية؛ لكننا في الوقت نفسه نُصِرّ على عدم استمرار الوضع العربي الداخلي بهذا الشكل، وأنه لا بد من المراجعة والمحاسبة والمساءلة، ولكن بأيدينا لا بأيدي غيرنا.
* ألا تخشون لو رفضتم الطرح الأمريكي أن تظهر على الساحة حركات إسلامية صناعة أمريكية وفق نموذج "الإسلام الأمريكاني"؟(19/346)
- نحن عندما نرفض أو نقبل فإننا نستند لمبادئنا العقدية، بغض النظر عن المخاوف أو التبعات. ورفضنا لهذا المشروع هو سر قوتنا، أو يمكنك القول: شعبيتنا. وأعتقد أن محاولات تهميشنا عبر استحداث وخلق حركات إسلامية متأمركة ستبوء بالفشل، ولا نخشى ولا نخاف قيام مثل هذه الحركات.
وأود هنا أن أشير إلى أن الشعب الأردني أكثر الشعوب العربية كرهًا لأمريكا، بحسب استطلاع للرأي أجراه البنتاجون الأمريكي قبل نحو عام؛ وأقول: إن الذي يميل للمشاريع الأمريكية هو من يفقد مصداقيته عند الشعوب.
* وكيف ستكون استجابتكم للمتغيرات القادمة أم ستديرون لها ظهوركم؟
- لن ندير ظهورنا لأي شيء، ولن ندفن رءوسنا في الرمل. فنحن حزب سياسي، يعمل وفق القانون، ويؤمن بالإصلاح والتغيير بوسائل سلمية.. لكنني أعتقد أن المرحلة المقبلة ستشهد إقصاء الإسلاميين والعناصر والقوى المؤثرة عن منابر التعبير.
استجابتنا للمتغيرات ستكون من خلال أطر العمل الشعبي؛ مثل اللجنة التنفيذية العليا "لحماية الوطن ومجابهة التطبيع"، ولدينا في الأردن أيضًا لجنة التنسيق العليا لأحزاب المعارضة، ولجنة "نصرة العراق وفلسطين"؛ وأعتقد أن المتغيرات المحتملة ستنسحب على الساحة العراقية والفلسطينية بشكل خاص، والساحة العربية بشكل عام، من حيث التأثير على القيم والاتجاهات، والترويج لتغيير المناهج والتطبيع مع إسرائيل، وقبولها في العالم العربي، وقولبة الإعلام العربي، وزيادة التغريب والغزو الفكري والأخلاقي.
* لديكم إشكالية داخلية مع واقع غير ديمقراطي من وجهة نظركم.. فهل ستستغلون هذه المتغيرات بغية إحداث تغييرات لصالحكم؟
- الإدارة الأمريكية غير جادة في دعوتها للديمقراطية في العالم العربي، وهي معادية للحركة الإسلامية، ولا يجوز لأمريكا أن تتحدث عن الديمقراطية وهي التي داست الديمقراطية في العراق وأفغانستان وجوانتانامو؛ حين تتحدث أمريكا عن الديمقراطية تكون كالمومس التي تتحدث عن عفتها..
وأقول مرة أخرى: إننا لسنا بحاجة إلى الديمقراطية الأمريكية التي يريدون فرضها؛ وإذا لم تأتِ الإصلاحات بشكل طوعي وعن قناعة من أصحاب القضية؛ فهي منقوصة لا حاجة لنا بها؛ ثم إن الديمقراطية بالمقاييس الأمريكية والنموذج الأمريكي تختلف عن الديمقراطية التي ننشدها والتي نستمد أصولها من عقيدتنا ومبادئنا، وأعتقد أن الأردن باتت قريبة من خطوات الإصلاح السياسي الأولى.
* لو أتيحت لكم فرصة للاعتراف بكم ضمن "الشرق الأوسط الكبير" وفتح المجال أمامكم للعمل في حرية.. فهل ستقبلون أم سترفضون؟
- نحن نفرق بين التعامل مع أمريكا والرضوخ للإملاءات الأمريكية؛ فنتعامل مع أمريكا في ضوء مواقفها من مصالح أمتنا، وحينما تتخلص الولايات المتحدة من التبعية للكيان الصهيوني، وتوقف معاداتها لكل ما هو عربي وإسلامي؛ فلا مانع من التعامل معها على قاعدة الاحترام المتبادل.
القبول بإملاءات أمريكا أمر نرفضه بشكل جذري؛ لكننا نقبل التعامل مع الآخر إذا كان الآخر يحترم مصالحنا ومبادئنا.
وهنا أعتقد أنه لا يمكن لمشروع استعماري كمشروع الشرق الأوسط الكبير.. أن يعترف بحركة إسلامية أو بأي حركة تحرر وطني؛ لأن هذا يناقض مضمونه.
* كيف ستعيدون هيكلة مواقفكم وبنائكم التنظيمي الداخلي؟ وكيف ستعيدون رسم علاقاتكم على الصعيد الخارجي وفق عاصفة المتغيرات القادمة؟
- نحن نؤمن بالمتابعة والتقويم المستمر.. ندرس كل مرحلة ونحدد إستراتيجيتنا في التعامل معها تبعًا للمتغيرات؛ فنحن حينما انحزنا للعراق ضد الغزو الأمريكي، وحينما أيدنا سوريا وإيران في وجه الهجمة الأمريكية.. اعتبرنا ذلك جزءاً من تقويم المرحلة؛ ولذلك لا بد من التوقف في كل محطة للتغيير والمراجعة دون أن يكون ذلك على حساب مبادئنا.
* ما هو تقييمكم للفكرة؟ وما هو موقفكم بشكل عام منها؟
- كان حزب جبهة العمل الإسلامي الذراع السياسية للحركة الإسلامية في الأردن وجماعة الإخوان المسلمين في طليعة الأحزاب أو الهيئات التي عبرت عن موقفها من مشروع الشرق الأوسط الكبير. وكان تعبيرنا يتضمن رفضًا وإدانة مطلقين لهذا المشروع، والدعوة لعدم الاستجابة له أو الانسياق في إطاره؛ لأننا نرى في هذا المشروع امتدادًا لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه شيمون بيريز في التسعينيات من القرن الماضي. نحن نرى أن الهدف من هذا المشروع هو إلغاء وطمس هوية الوطن العربي والإسلامي، وإقامة واقع جديد يشارك فيه الكيان الصهيوني الذي سيمثل فيه الصدارة بحكم الدعم الأمريكي اللامحدود له.
ونحن نرى أيضًا أن القضية ليست مجرد إيجاد إطار يشارك فيه الكيان الصهيوني، أو يتم فيه قبول الكيان الصهيوني عربيًّا، بقدر ما هو تغيير ومسخ لهوية المنطقة العربية الإسلامية التي تستند لعقيدة الأمة وإرثها الحضاري والتاريخي.
ولا يمكن لنا التعايش مع كيان عنصري إحلالي، قام أساسه على الاغتصاب، ويحمل مشروعًا للتوسع على حساب المنطقة المحيطة؛ لذلك رفضنا ونرفض هذا المشروع، وقد خاطبنا مؤتمر القمة العربية الذي لم يكن ببالنا أن يفشل قبل أن يبدأ.
================(19/347)
(19/348)
نص مبادرة الإخوان للإصلاح في مصر
القاهرة - حمدي الحسيني - إسلام أون لاين.نت/3-3-2004
فيما يلي نص مبادرة الإخوان للإصلاح التي طرحتها الجماعة اليوم الأربعاء:
بسم الله الرحمن الرحيم
مبادرة المرشد العام للإخوان المسلمين
حول المبادئ العامة للإصلاح فى مصر
إيمانًا وتصديقاً بقول الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) وإحساسًا منا بالمسئولية الشرعية والوطنية والقومية، وقيامًا بالواجب الشرعى حيث يقول رسول ا صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة"
وحيث تشهد المنطقة العربية والإسلامية اليوم محاولات دؤوبة ومستمرة من أجل فرض تغيير عليها من الخارج بالقوة حينًا وبالضغوط الشديدة أحيانًا أخرى .
ويقينًا منا أن هذه المحاولات الخارجية لا تستهدف فى جوهرها ولا أغراضها إصلاحًا حقيقيًا لصالح شعوب المنطقة بل هى تهدف فى المقام الأول والأخير لاستمرار هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وسيطرتها على ثروات ومقدرات المنطقة وتفوق الكيان الصهيونى المغتصب لأرض فلسطين وزرع حكومات أكثر تعاونا معها فى استراتيجيتها العامة .
ولما بدا لنا من عدم تجاوب الحكومة المصرية مع المطالب الوطنية التى عرضها الإخوان المسلمون مع كل القوى الوطنية منذ عام 1987 وحتى اليوم فى أكثر من وثيقة وعريضة، وأن جرعات الإصلاح التى تقوم عليها الحكومات المتتالية بطيئة جدا إلى درجة تأخرت معها مسيرة الإصلاح طوال العقد الماضى بصورة كبيرة: لذا ارتأينا أن نتقدم بهذه المبادرة ،
وبداية لابد لنا أن نؤكد بكل وضوح :
أولا : إن الإخوان المسلمين يرفضون كل صور الهيمنة الأجنبية ويدينون كافة أشكال التدخل الأجنبى فى شئون مصر والمنطقة العربية والإسلامية .
ثانيا : إن الإصلاح الشامل هو مطلب وطنى وقومى وإسلامى، وأن الشعوب هى المعنية أساسا بأخذ المبادرة لتحقيق الإصلاح الذى يهدف إلى إنجاز آمالها فى حياة حرة كريمة ونهضة شاملة وحرية وعدل ومساواة وشورى .
ثالثا : إن البداية يجب أن تكون من الإصلاح السياسى الذى هو نقطة الانطلاق لإصلاح بقية مجالات الحياة كلها والتى تُعانى فى مصر والوطن العربى والإسلامى تدهورا متسارعا يكاد يصل بنا إلى القاع .
رابعا : إن القيام بريادة هذا الإصلاح لا تقوى عليه حكومة ولا أى قوة سياسية منفردة، بل هو عبء يجب أن يحمله الجميع وأن المصالحة الوطنية العامة التى تؤدى إلى تضافر الجهود جميعا هى فريضة الوقت ليس لمجرد الوقوف ضد المخططات الهادفة إلى استباحة المنطقة، بل للنهوض من عثراتنا وعلاج مشاكلنا .
ويرى الإخوان المسلمون أن واجب الوقت يقتضى من كل القوى السياسية والنخب الفكرية والثقافية وكافة المهتمين بالشأن العام أن يلتفوا حول إطار عريض ينطلق من المقومات الأساسية لهذا المجتمع، وأن يتعاونوا فى المتفق عليه - وهو كثير - وأن يتحاوروا حول المختلف فيه - وهو قليل من أجل الصالح العام لهذه الأمة .
إن الثالوث المدمر لهذه الأمة من جمود سياسى، وفساد وظلم اجتماعى، وتخلف علمى وتقنى يهدد مصر الآن فى أمنها الوطنى ومكانتها القومية وريادتها الإسلامية ودورها العالمى.
ومن منطلق أن هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعًا إلى الخير، وإنارة العالم بمبادئ الإسلام هي الغاية العليا لدعوتنا: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ{.
وإيمانًا بأننا ندعو بدعوة الله، وهي أسمى الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام، وهي أقوم الفِكَر، ونقدم للناس شريعة القرآن، وهي أعدل الشرائع }صِبْغَةَ اللَّهِ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ{ فإننا نؤمن بأن العالم كله عامة، ونحن خاصة، في حاجة إلى هذه الدعوة، وإلى كل شيء يمهد لها ويهيئ سبيلها.
ومن منطلق: }إنْ أُرِيدُ إلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ{ نرى أن الغاية لدعوتنا هذه هي الإصلاح الحقيقي الشامل الذي يجب أن نتعاون عليه جميعًا، من خلال القنوات الدستورية والقانونية، لإقامة شرع الله، وفي ذلك صلاح الدنيا والدين، }ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{.
ومن الحق أن نعترف أننا بَعُدْنا إلى حد كبير عن مقتضيات الإسلام الذى يحض على أن نقتبس النافع، وأن نأخذ بالحكمة أنَّى وجدناها، فهى ضالتنا، ولا أمل لنا في تحقيق أي تقدم يُذكَر في شتى نواحي حياتنا، إلا بالعودة إلى ديننا وتطبيق شِرعتنا، والأخذ بأسباب العلم، والتقنية الحديثة، وحيازة المعرفة بأقصى ما نستطيع، في ظل ثوابت هذا الدين العظيم، ومن منطلق مبادئه وقيمه.
ولذلك فإن لنا مهمة محددة، نقدمها كتصور أساسي للإصلاح، من خلال حقنا الأصيل في المشاركة الجادة والفاعلة في الحياة السياسية المصرية، على أساس كوننا جزءًا هامًّا من هذا الشعب الحر الأبيِّ.(19/349)
وتتمثل هذه المهمة إجمالاً في العمل على إقامة شرع الله من منطلق إيماننا بأنه المَخْرَج الحقيقي الفاعل لكل ما نعاني منه من مشكلات داخلية وخارجية - سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية - وذلك من خلال تكوين الفرد المسلم والبيت المسلم والحكومة المسلمة، والدولة التي تقود الدول الإسلامية، وتقيم شتات المسلمين، وتستعيد مجدهم، وترد عليهم أرضهم المفقودة وأوطانهم السليبة، وتحمل لواء الدعوة إلى الله، حتى تُسعِد العالم بخير الإسلام وتعاليمه.
فهذه غايتنا أيها الإخوة والأخوات الكرام، وهذا منهجنا.. وعليه، فرؤيتنا لإحداث هذا الإصلاح، وتحقيق هذه الغاية تتحدد في الخطوط الرئيسية التالية:
أولاً- في مجال بناء الإنسان المصرى:
إننا نؤمن أن الإنسان هو محور هذا الكون فهو الذى خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه الأسماء كلها وسخر له ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه ، وكرمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا ، واصطفى منه رسله وأنزل عليهم كتبه هداية وسعادة ، ومن ثمّ كانت سعادة الإنسان هى هدف كل تنمية وتقدم ورقى ، وكان الإنسان هو وسيلة تحقيق كل تنمية وتقدم ورقى ، لذلك كان لابد من تزكية كل ما يسمو بإنسانية الإنسان ، ويرتفع بخصائصه التى يتميز بها عن غيره من المخلوقات ، ولما كان الإيمان بأركانه وقواعده ، والأخلاق بمكارمها ومحاسنها ، أسمى ما يتصف به الإنسان ، إذ أنها تحيى الضمائر فتمنع المنكر والحرام ، وتحض على المعروف والحلال ، ولا تكتفى بأداء الواجبات ، بل تدفع إلى الإتقان والبذل والتضحية والعطاء ، ولما كان الشعب المصرى كله متدينا بطبعه ، إلا أنه فى الفترة الأخيرة رانت على القلوب غلالة من الغفلة والأنانية وسادت بعض القيم المادية والشهوات الآنية ، فأثرت تأثيرا سلبيا على الشخصية المصرية السوية ، ومن ثمّ كان لا مناص لمن يريد الإصلاح أن يسعى إلى تطهير جوهر هذه الشخصية وإعادة بنائها ولا سيما الأجيال الجديدة منها على أساس من الإيمان والاستقامة والأخلاق ، وإلا كان الإصلاح كمن يحرث فى الماء أو يبنى فى الهواء ، ولذلك فإننا فى هذا المجال نستهدف تحقيق ما يلى :
1. تأكيد احترام ثوابت الأمة المتمثلة فى الإيمان بالله وكتبه ورسله وشرعه .
2. تربية النشء نظريا وعمليا على مبادئ الإيمان والأخلاق الفاضلة .
3. إطلاق حرية الدعوة لشرح مبادئ الإسلام وطبيعته وخصائصه وأهمها شموله لتنظيم كل جوانب الحياة.
4. حث الناس على الالتزام بالعبادات والتمسك بالأخلاق الفاضلة والمعاملات الكريمة بكل الوسائل .
5. تنقية أجهزة الإعلام من كل ما يتعارض مع أحكام الإسلام ومقتضيات الخلق القويم .
ثانيا - فى مجال الإصلاح السياسي:
إننا نؤكد تمسكنا بنظام الدولة نظاما جمهوريا برلمانيا دستوريا ديمقراطيا فى نطاق مبادئ الإسلام .
كما نؤمن بحق الفرد في المشاركة السياسية الفاعلة، كما نؤمن بأن هذه المشاركة أساس لاستقلال القرار السياسي، داخليًّا وخارجيًّا، كما نؤمن بحقنا في علاقات دولية تقوم على الندِّية، وعلى الاحترام المتبادل للحقوق والسيادة الوطنية، واحترام القوانين والمواثيق الدولية، وتأكيد حق الشعوب في تقرير مصائرها، وأن هذا وغيره من جوانب الإصلاح الشامل لا يتحقق إلا من خلال تطبيق الديمقراطية التي نؤمن بها، ونلتزم بأصولها، وندعو الأحزاب والقوى السياسية الأخرى إلى تأييدها كميثاق وطني، تتمثل بنوده فيما يلي:
1. الإقرار التام بأن الشعب هو مصدر جميع السلطات، بحيث لا يجوز لأحد أو حزب أو جماعة أو هيئة، أن تزعم لنفسها حقًّا في تولي السلطة أو الاستمرار في ممارستها إلا استمدادًا من إرادة شعبية حرة صحيحة.
2. الالتزام واحترام مبدأ تداول السلطة، عبر الاقتراع العام الحر النزيه.
3. التأكيد على حرية الاعتقاد الخاص.
4. تأكيد حرية إقامة الشعائر الدينية لجميع الأديان السماوية المعترَف بها.
5. تأكيد حرية الرأي والجهر به، والدعوة السلمية إليه في نطاق النظام العام والآداب العامة، والمقومات الأساسية للمجتمع، ويعتبر حرية التملك واستعمال وسائل الإعلام المختلفة ضرورة لتحقيق ذلك.
6. تأكيد حرية تشكيل الأحزاب السياسية، وألا يكون لأية جهة إدارية حق التدخل بالمنع أو الحد من هذا الحق، وأن تكون السلطة القضائية المستقلة هي المرجع لتقرير ما هو مخالف للنظام العام والآداب العامة والمقومات الأساسية للمجتمع، أو ما يعتبر إخلالاً بالتزام العمل السلمي، وعدم الالتجاء للعنف أو التهديد به.
7. تأكيد حرية الاجتماعات الجماهيرية العامة، والدعوة إليها، والمشاركة فيها في نطاق سلامة المجتمع، وعدم الإخلال بالأمن العام، أو استعمال أو التهديد باستعمال العنف أو حمل أي سلاح.
8. تأكيد حق التظاهر السلمي.(19/350)
9. تأكيد ضرورة تمثيل الشعب عبر مجلس نيابي منتخب انتخابًا حُرًّا، ولمدة محدودة، يُعاد بعدها الانتخاب، مع ضرورة أن تشمل قوانين الانتخاب الضمانات التي تؤكد نزاهتها وصحتها وحيدة القائمين على إجرائها، والإيمان بأن النظام السليم لإدارة الدولة والمجتمع هو نظام الحكم البرلماني الذي يجعل الحزب الحاصل على أعلى الأصوات في انتخابات حرة نزيهة، هو الذي يتولى تشكيل الحكومة.
10. ضمان حق كل مواطن ومواطنة في المشاركة في الانتخابات النيابية، متى توفرت فيه الشروط العامة التي يحددها القانون.
11. ضمان حق كل مواطن ومواطنة في تولي عضوية المجالس النيابية، متى توفرت فيه الشروط العامة التي يحددها القانون.
12. إبعاد الجيش عن السياسة ليتفرغ للدفاع عن أمن الدولة الخارجي، وعدم استعانة سلطة الحكم به بالطريق المباشر أو غير المباشر لفرض إرادتها وسيطرتها، أو التهديد بمنع الحريات العامة الشعبية، وأن يكون وزير الدفاع مدنيًّا سياسيًّا كسائر الوزراء.
13. أن تكون الشرطة وجميع أجهزة الدولة الأمنية وظائف مدنية كما هو نصَّ الدستور، وتحديد مهامها في الحفاظ على أمن الدولة والمجتمع ككل، وعدم تسخيرها للحفاظ على كيان الحكومة، أو اتخاذها أداة لقمع المعارضة، ووضع نظام يحكم عملها، ويحكم قيادتها، وعلى وجه الخصوص منع تدخلها في الأنشطة العامة والانتخابات.
14. تحديد سلطات رئيس الجمهورية، بما يجعله رمزًا لكل المصريين، فلا يترأس أي حزب سياسي، ويكون بعيدًا كل البعد عن المسئولية التنفيذية للحكم، وتحديد مدة رئاسته، بما لا يتجاوز فترتين متتاليتين.
15. إلغاء القوانين سيئة السمعة، وعلى الأخص قانون الطوارئ، وقانون الأحزاب، وقانون المدعي العام الاشتراكي، وقانون مباشرة الحقوق السياسية، وقانون الصحافة، وقانون النقابات، وغيرها من القوانين ، التي أدت إلى حالة الخنق والجفاف والجمود السياسي الذي تعانيه الحياة السياسية المصرية واستبدال ما تدعو الحاجة إليه بما يؤكد حرية المواطن وكرامته وحقه فى الاشتراك فى العمل العام.
16. الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإعادة النظر فى الأحكام الصادرة من محاكم استثنائية عسكرية .
17. القضاء على ظاهرة التعذيب داخل مقار الشرطة، ومقار مباحث أمن الدولة، وتطبيق مبدأ (الشرطة في خدمة الشعب) وتقليص دور الأمن السياسي على حساب الأمن الجنائي وحفظ كرامة المواطن المصري.
18. إلغاء القوانين التى شلت حركة العمل الجاد فى النقابات المهنية والعمالية وتَبَنِّي مشروعات القوانين التي تؤدي إلى إعادة الحياة إلى النقابات والعمل النقابي في مصر، وتُعلي من قيمة أداء المهن الحرة، وتحقق لها المناخ الملائم للمشاركة السياسية والاجتماعية في نطاقها المهني.
ثالثا - في مجال الإصلاح القضائي:
باعتبار أن السلطة القضائية هي صمام أمن المجتمع وأمان المواطن، وأن استقلالها ضرورة أساسية للقيام بوظائفها الحيوية لإقامة مجتمع الحق والعدل، فإننا نؤمن بأن الإصلاح القضائي من أساسيات الإصلاح الشامل، والذي يتمثل -في نظرنا- فيما يلي:
1- كفالة استقلال القضاء بجميع درجاته، وبكل الإجراءات، ووضع كل الشروط لإبعاده عن أية مظنة أو مطمع، واحترام أحكام القضاء وعدم التحايل عليها، وألا يُحاكَم أحد إلا أمام قاضيه الطبيعي، وأن تُلغَى جميع أنواع المحاكم الاستثنائية، ويقتصر اختصاص المحاكم العسكرية على جرائم ومخالفات العسكريين فقط.
2- الفصل بين سلطتَي الاتهام والتحقيق، وأن تكون النيابة مستقلة غير تابعة لوزير العدل، ويحق لكل من تحبسه احتياطيًّا أن يتظلم فورا من قرارها أمام جهة قضائية.
3- تعديل القوانين وتنقيتها بما يؤدي إلى تطابقها مع مبادئ الشريعة الإسلامية، باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع، إعمالاً لنص المادة الثانية من الدستور.
رابعا - في مجال الإصلاح الانتخابى :
- كف يد السلطة والأمن عن التدخل فى أى خطوة من خطوات العملية الانتخابية .
- تتولى أمر الانتخابات وتشرف عليها لجنة أو هيئة مسئولة عن العملية الانتخابية بداية من جداول الناخبين وحتى إجراء الانتخابات والفرز ، وهذه الهيئة تتشكل من القضاة .
- رجال القضاء هم الذين يشرفون على العملية الانتخابية ومجلس القضاء الأعلى هو الذى يختار القضاة المشرفين على كافة خطوات العملية الانتخابية دون أى تدخل من وزير العدل.
- اللجنة تفصل فيما يعترض الدعاية الانتخابية .
- لكافة المرشحين حق الإعلان والدعاية الانتخابية من عقد مؤتمرات وتوزيع مطبوعات انتخابية وتسيير مسيرات وتعليق لافتات .
خامسا - في مجال الإصلاح الاقتصادي:
نحن نؤمن بالنظام الاقتصادي الذي ينبثق من إسلامنا كدين ونظام حياة شامل وكامل، يؤكد على حرية النشاط الاقتصادي، وعلى دور الفرد في هذا النشاط، محترمًا للملكية المتعددة، والتي تشمل كأساس الملكية الخاصة، شريطة قيامها بوظيفتها الاجتماعية، وملكية الدولة بالنسبة للمرافق العامة، والمنشآت الحيوية.(19/351)
وعلى ذلك فنحن نعمل على تشجيع القطاع الخاص، وذلك من خلال برنامج مدروس للخصخصة يتسم بتقييم عادل للمشروعات العامة موضع الخصخصة، وشفافية كاملة عنه، مع الحفاظ على الحقوق الكاملة للعمال ، كما نؤمن بضرورة إقامة المشروعات العامة الكبرى، شريطة دراسة متأنية لجدواها الاقتصادية، والتمويلية والفنية، ومشاركة عامة فى الإحاطة بها ودراستها واعتمادها .
كما نؤمن بضرورة التعاون مع بقية دول العالم لخير البشرية، ومن ثَمَّ نعتمد تحرير التجارة والانفتاح أسلوبًا رئيسيًّا لعلاقاتنا مع الدول الأخرى، في ظل الاعتماد المتبادل، وثورة المعلومات والاتصالات، ولكننا ضد الهيمنة والتبعية التي تهدف إليها حركة العولمة المعاصرة، ومن ثمَّ سوف نعمل على تعظيم إيجابيات اتفاقية الجات، ومنظمة التجارة العالمية، والحد من سلبيات هذه الاتفاقيات.
وعليه يقوم الإصلاح الاقتصادي -في نظرنا- على ما يلي:
1) اعتبار المال الصالح قوام الحياة، ووجوب الحرص عليه ، مع تحريم وتجريم الربا كمصدر للتمويل أو الكسب.
2) إيجاب العمل والكسب على كل قادر.
3) الكشف عن منابع الثروات الطبيعية، ووجوب الاستفادة منها.
4) حرمة المال واحترام الملكيات، وبالذات المال العام.
5) تنظيم المعاملات المالية، والتدقيق في شئون النقد، باتباع سياسات نقدية ومالية وضريبية وتجارية وإنمائية رشيدة.
6) تطبيق النظام الاجتماعي، ومساعدة العاطلين في إيجاد العمل الذي يناسبهم.
7) تقرير مسئولية الدولة في حماية النظام الاقتصادي.
8) حظر استغلال النفوذ، ومحاربة الإثراء غير المشروع.
ووفقا لهذه المبادئ العامة نرى أساسا :
1) العمل على تعظيم الإنتاج بدءا بالضرورات ثم الحاجيات ثم الكماليات ، وذلك عن طريق تشجيع الاستثمار ومنح التسهيلات والإعفاءات لكل مستوى حسب أهميته ، فالإنتاج الغذائى والكسائى والمساكن ومستلزمات الإنتاج يجب أن تحظى بأكبر قدر من الإعفاءات والتسهيلات
2) الاقتصاد فى الاستهلاك بصورة عامة ، وربطه بالإنتاج ، ومنع الإسراف والتبذير والإنفاق الترفى والمظهرى عن طريق :
- إعادة النظر فى النفقات الحكومية ولا سيما ما يتعلق منها بالحفلات والمناسبات ... إلخ
- الاهتمام بضبط كافة السلع المدعمة وضمان وصولها لمستحقيها من أجل ترشيد الدعم.
- ترشيد استهلاك السلع الترفيهية والكمالية
3) التشجيع على الادخار بكل الوسائل الممكنة ومنها على سبيل المثال :
- تنمية الوعى الادخارى لدى الأفراد وتبصيرهم بحق الأجيال القادمة .
- تنويع سبل الاستثمار فى المجالات المشروعة حسب أولويات حاجة الإنتاج وضرورات الاستهلاك.
- استخدام الصناديق الاجتماعية فى إقامة المشروعات الصغيرة وتمليكها للعاملين فيها .
- إيجاد نظام لتسويق منتجات هذه المشروعات داخليا ، وتيسير إجراءات التصدير إلى الأسواق العربية والأفريقية والخارجية .
4) ربط الصناعات الصغيرة المغذية والوسيطة بالصناعات الكبرى لدعمها وتطويرها واستهلاك منتجاتها ، ودعم هيئة الرقابة على الجودة للإلتزام بالمواصفات العالمية لضمان استمرار تسويق منتجات هذه المشروعات وذلك عن طريق :
- تشجيع رؤوس الأموال المصرية والعربية على الاستثمار فى هذا المجال .
- ربط سياسة التعليم والتدريب بخطة إنشاء هذه المشروعات .
- ربط سياسة البحث العلمى بحل مشكلات هذا القطاع وتطويره .
- تشجيع الابتكارات والاختراعات فى هذا المجال .
5) إحداث تنمية زراعية جادة وشاملة ، رأسية وأفقية ، وتوفير التمويل اللازم لتحديث العملية الزراعية ، خاصة لصغار المزارعين ، وإتاحة فرص التسويق التعاونى ، ودعم مستلزمات الإنتاج الزراعى ، وتطوير التصنيع الزراعى .
6) العمل على تشجيع الصادرات ودعم الصناعات التصديرية والعمل على فتح أسواق جديدة ، مع ترشيد الواردات دون مساس بمتطلبات التنمية المتوازنة لقطاعات الاقتصاد الوطنى ، والضرورات الأساسية من مواد غذائية ودواء .
7) عدم الاعتماد على الاقتراض من الخارج لتمويل الفجوة الادخارية (الفرق بين الاستثمار المطلوب والادخار القومى) وذلك من خلال تشجيع الاستثمار المباشر العربى فالإسلامى ، ثم من بقية دول العالم ومؤسساته .
8) تغليظ العقوبات على جرائم الفساد الاقتصادى والمالى من الغش والنصب والاحتكار واستغلال النفوذ والمنصب واغتصاب أموال الدولة وأراضيها والتهرب من الضرائب والعمولات والرشاوى إلى غير ذلك من صور الفساد والإفساد .
سادسا - فى مجال التعليم والبحث العلمى :
التعليم والبحث العلمى هما وسيلتا أى تقدم مأمول ، ولذلك لا تبخل الدول المتقدمة بالمال والتدريب والإعداد وتوفير الأبنية والمكتبات والملاعب والمعامل والأجهزة على أجيالها الراغبة فى التعليم ، ولما كنا نريد أن نلحق بهذا الركب وجب علينا أن نهتم بالتعليم معلما ومنهجا ومعهدا أو مدرسة ولذلك فنحن نسعى لتحقيق ما يلى :
1- تحسين أوضاع المعلمين الوظيفية والمادية حتى يستغنى المعلم بدخله الرسمى من وظيفته عن الحاجة للدروس الخصوصية ، فيستعيد مكانته الأدبية والاجتماعية ، ودوره الغابر كقدوة ومرب للأجيال .(19/352)
2- تطوير مناهج التدريس فى كليات التربية ودور المعلمين والقيام ببرامج التدريب المستمر حتى يتخرج المعلم مؤهلا لوظيفة محبا لها مستشعرا لعظمة مهمته فى الحياة .
3- رفع نسبة الأموال المخصصة للتعليم من الدخل القومى .
4- العمل على معالجة جادة لمشكلة الأميّة بطريقة عملية ونهائية .
5- ترسيخ القيم الدينية والمبادئ الأخلاقية والمثل العليا والإنتماء للوطن .
6- الاهتمام بالرياضات البدنية والتدريب العسكرى ، وتجهيز المدارس بالملاعب والأجهزة الرياضية .
7- اتباع نظام التعليم الإقليمى الذى يزود التلاميذ بما يقفهم على شئون إقليمهم الخاص ويزيد من قدرتهم على استغلالها والانتفاع بها.
8- تطوير مناهج التعليم بما يحقق النهضة المصرية والحفاظ على الشخصية المصرية ومقوماتها ، بما يتفق وثوابت الأمة وخصوصيتها الثقافية وميراثها الحضارى والاهتمام بالعلوم الحديثة مثل الحاسبات والهندسة الوراثية .
9- رفع نسبة المخصص للبحث العلمى من ميزانية الدولة .
10- تحرير مجالات البحث العلمى من سيطرة البيروقراطية .
11- التوسع فى مجال إرسال البعثات إلى الخارج .
12- توفير حياة كريمة ومستوى مادى مريح للعاملين بالبحث العلمى .
13- توفير الإمكانات العلمية من معامل ومكتبات وأجهزة وكيماويات .
14- حصر دقيق للبحوث العلمية والدراسات التى تمت حتى يمكن الاستفادة منها وعدم تكرارها .
15- وضع خطة لكل معهد بحثى بحيث يتعاون العاملون فيه بروح الفريق ، حتى تتكون المدارس العلمية المتكاملة فى التخصصات المختلفة .
16- زيادة الاحتكاك العلمى عن طريق المؤتمرات العلمية وتبادل الزيارات بين الأساتذة والباحثين على المستوى الداخلى والعالمى .
17- ربط البحث العلمى بالإنتاج ، واستحداث أسلوب المشروعات البحثية المتخصصة التى تنفق عليها وحدات الإنتاج .
18- حل مشكلات المجتمع سواء فى المجال الاقتصادى أو الاجتماعى أو التعليمى ..., إلخ عن طريق البحث العلمى والاستغناء عن استيراد الحلول الجاهزة التى قد لا تتناسب مع ظروفنا .
سابعا : فى مجال إصلاح الأزهر الشريف :
إن الأزهر الشريف مؤسسة فريدة فى العالم ، حبا الله تعالى بها مصر ، ولقد قامت على دراسة وحماية ونشر علوم القرآن والشريعة واللغة العربية فى مصر ، وتخرج منها علماء من كل بلاد الإسلام فكانوا خير رسل من مصر لشعوبهم ، بالإضافة إلى دور الأزهر التاريخى المجيد فى حمل راية الجهاد وقيادة المجاهدين أمام كل غزوات الاحتلال الأجنبى على مصر ، فضلا عن صدعه بالحق فى وجوه الحكام الظالمين ، ووقوفه بجانب المستضعفين المظلومين ، كل ذلك جعله قبلة لطلاب العلم من كل أنحاء العالم الإسلامى ، وجعله محل احترام بل تقديس المسلمين من إندونيسيا وحتى المغرب العربى ، الأمر الذى يفرض على كل من يحب مصر والإسلام ويسعى لرفع شأنهما أن يقوى الأزهر ويدعمه ، وأن يتيح له حرية الفكر والحركة والدعوة ، وأن يمده بالمال والرجال الذين يحملون أمانته ويؤدون رسالته ، ومن هذا المنطلق فإننا نسعى لتحقيق الآتى:
1. التوسع فى إنشاء الكتاتيب والحضانات مع التركيز على حفظ القرآن الكريم وجزء من السنة النبوية الشريفة وتعلم الأخلاق الفاضلة .
2. دعم المعاهد الأزهرية بالمعلمين الأمناء الأكفاء ، ووضع المناهج التى تناسب ظروف العصر .
3. دعم الكليات الشرعية بما يؤهل المتخرجين منها للدعوة والتدريس والفتيا والاجتهاد فى علوم الشريعة.
4. الاهتمام بالكليات الأزهرية المدنية حتى تخرج الطبيب والمهندس والمحاسب .. إلخ الداعية الذى يدعو إلى المعروف بلسانه وكيانه وسلوكه كما كان مستهدفا منها .
5. إعادة تشكيل هيئة كبار العلماء بالانتخاب من العلماء .
6. اختيار شيخ الأزهر يكون بالانتخاب من هيئة كبار العلماء ويقتصر القرار الجمهورى على تسمية من ينتخبه العلماء .
7. إعادة أوقاف المسلمين إلى هيئة أوقاف مستقلة عن ميزانية الدولة ، وصرف عوائدها فيما أوقفت عليه ، وبالذات مخصصات الأزهر ومرتبات شيخه وعلمائه وطلبة العلم فيه .
8. إطلاق حرية الدعاة والأئمة والوعاظ فى شرح مبادئ الإسلام وشريعته وقيمه وأخلاقه وتنظيمه لشئون الحياة وحله لمشكلاتها دون تدخل من السلطة الإدارية إلا بما يقتضيه العلم والخلق الإسلامى .
ثامنا - فى مجال مكافحة ظاهرة الفقر :
شاعت ظاهرة الفقر فى مجتمعنا ، إذ وصلت نسبة الفقراء من مجموع السكان طبقا للإحصاءات المتاحة إلى أكثر من 50% ، وعليه ، يتعين أن نوجه اهتمامنا إلى معالجة جادة لهذه الظاهرة ، وذلك من خلال :
* توفير المقومات الأساسية لحياة كريمة لعموم شعبنا وبالذات للطبقات الفقيرة ، وذات الدخل المحدود ، وتشمل هذه المقومات :
- المسكن الملائم الذى تتوافر فيه ضروريات الحياة الكريمة من إضاءة ومياة نقية وصرف صحى ومساحة مناسبة لأفراد الأسرة .
- الغذاء المتوازن بسعر مناسب وبكمية ونوعية تحفظ بنية الجسم وحيويته .
- الملبس المناسب الذى يستر الجسم ويحفظ للإنسان آدميته وكرامته .
- الخدمات الصحية التى توفر رعاية صحية حقيقية من تطبيب ودواء فى متناول هذه الفئات.(19/353)
- الخدمات التعليمية الجادة والمجانية حقا والتى تعمل على رفع المستوى الثقافى لهذه الطبقات .
تاسعا : في مجال الإصلاح الاجتماعي:
نحن نؤمن بأن التماسك والسلام الاجتماعي ضرورة لكل تقدُّم، وهذا يتطلب العمل الجاد والمستمر على القضاء على مظاهر الفقر والحد من آثارها، كما يتطلب القضاء على العشوائيات، ومحاربة الإدمان والمخدرات، ورفع مستوى الفئات المُهَمَّشة، وتضييق الفجوة في توزيع الدخل والثروة، من خلال مؤسسات الزكاة فى ظل نظام إسلامى متكامل.
وعليه فيتمثل الإصلاح الاجتماعي -في نظرنا- فيما يلي:
1- تحقيق الربانية والتدين في المجتمع.
2- الحفاظ على الآداب العامة، وتعزيز مؤسسات النظام الاجتماعي.
3- دعم مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية.
4- رعاية الأسرة، وبالذات (المرأة والشباب والأطفال).
5- محاربة الجرائم والفساد.
6- إحياء نظام الحِسْبة.
7- إقامة العدل الاجتماعي، وتوفير العمل والكسب.
8- العناية بالصحة العامة.
9- إصلاح التربية والتعليم.
10- تنظيم السياحة ، وخاصة السياحات العلمية والثقافية والعلاجية والبعد عن أنواع السياحات المشبوهة.
11- تأهيل العاطلين مهنيًّا، وتوفير فرص العمل المناسب لهم.
12- الحفاظ على كيان الأسرة الشرعية أساسا للمجتمع ومحضنا للنشء ، وبيئة صالحة للتربية، والتصدى لمحاولات الخروج عليها والالتفاف من حولها لإقامة علاقات غير شرعية بكل أشكالها .
عاشرا - فى مجال المرأة :
إن المرأة هى نصف المجتمع وهى القائمة على تنشئة الأجيال رجالا ونساء ، فلا ريب فى استحقاقها أن تكون الجنة تحت أقدامها ، وهى مخلوق طاهر مكرم كرمه الله تعالى كما كرم الرجل (ولقد كرمنا بنى آدم ...) وهى مخلوق عاقل ورشيد وهى مخاطبة بالخطاب الإلهى فى القرآن والسنة كخطاب الرجل ومكلفة مثله ومسئوليتها كاملة ، فمسئوليتها الجنائية والمدنية كالرجل وذمتها المالية كاملة ، وجميع تصرفاتها المالية صحيحة ونافذة دون الحاجة إلى موافقة زوج أو أب أو أخ أو غيرهم، ونطاق قوامة الرجل على زوجته محصور فى مسائل المشاركة الزوجية - فقط - وهى قوامة مودة وتراحم وتشاور فى مقابل مسئوليات يتحملها الزوج ولهذا المقام الكريم نرى :
1. أن من حق المرأة المشاركة فى انتخابات المجالس النيابية وما هو فى مثلها .
2. من حقها أن تتولى عضوية هذه المجالس فى نطاق ما يحفظ لها عفتها وحيادها وكرامتها دون ابتذال .
3. من حقها تولى الوظائف العامة عدا الإمامة الكبرى وما فى حكمها .
4. القضاء على الأمية المتفشية بين النساء ولا سيما فى الريف .
5. تضمين مناهج التعليم ما يتناسب مع طبيعة المرأة ودورها وحاجتها .
6. صيانتها فى كل مكان : فى وسائل الانتقال وفى أماكن العمل .
حادى عشر : في مجال الأخوة الأقباط :
إننا نؤكد أن موقفنا من الأخوة الأقباط موقف مبدئى ثابت مفروض على المسلمين بموجب إسلامهم وإيمانهم مؤكد بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة (قولية وعملية) وهذا الموقف يتلخص فى النقاط التالية :
1. هم جزء من نسيج المجتمع المصرى .
2. هم شركاء الوطن والمصير .
3. لهم مثل ما لنا وعليهم مثل ما علينا .
4. حرية الاعتقاد والعبادة محترمة للجميع ، والتعاون فى كل ما يخدم الوطن ويحقق الخير لكل المواطنين أمر لازم.
5. الحرص على روح الأخوة التى ظلت تربط على مدى القرون بين أبناء مصر جميعا مسلمين وأقباط وإشاعة الأصول الداعية إلى المحبة والمودة .
6. تأكيد الوحدة الوطنية وعدم السماح لأى نشاط يؤدى إلى إثارة مشاعر التفرقة الدينية أو التعصب الطائفى.
7. الحرص على روح الأخوة المصرية التى أظلت أبناء مصر على مر القرون مسلمين وأقباطا وإشاعة الأصول الداعية إلى المحبة والمودة بينهم لتمكين الأمة من العمل المتكامل لبناء مستقبلها وحماية لها من ويلات التعصب الطائفى المقيت وعدم السماح لأى محاولات تؤدى لإثارة مشاعر التفرقة أو التعصب الطائفى بين المصريين .
ثانى عشر - في المجال الثقافي:
نحن نؤمن بضرورة أن تنبثق ثقافتنا من مصادرها الإسلامية، تنمية للفرد والمجتمع، وهذا يتطلب إصلاحا جادا لمفردات الثقافة القائمة ووسائلها من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز، بحيث تتأسس مادتها وتنطلق من المبادئ والقيم الإسلامية، تربيةً للفرد، وتعميقًا لهذه المبادئ والقيم في وجدانه، وذلك لحمايته من التغييب والتغريب، وبما ينأى بها عن مواطن العبث بالمبادئ الأخلاقية والسقوط فى هاوية الفحش والبذاءات وما توافق الناس جميعا على تسميته ببرامج ومسلسلات وتمثيليات هابطة تخدش الحياء وتشيع الفحش ، وتقوية هذه الوسائل بما يجعلها قادرة على مواجهة عصر السماوات المفتوحة والفضائيات الوافدة، والاتصالات والمعلومات فائقة الزخم والسرعة.
وعليه، فيتمثل الإصلاح الثقافي -في نظرنا- فيما يلي:
1- صياغة رشيدة لنظام التعليم.
2- صياغة واعية للإعلام المقروء والمسموع والمرئي.
3- حرية وتدعيم نشر الكتاب.
4 تشجيع الندوات والمؤتمرات والمعارض.
5- تشجيع السياحة العلمية وسياحة المؤتمرات.(19/354)
6- إعادة النظر في دور المجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وكافة المؤسسات الثقافية، بما يكفل الإصلاح الثقافي المنشود.
7- ترشيد دور السينما والمسرح، بما يتفق ومبادئ وقيم الإسلام.
ثالث عشر - في مجال السياسة الخارجية :
ثمة دوائر يجرى العمل فيها فى مجال السياسة الخارجية بما يحقق المصلحة العامة وهى الدائرة العربية ، ويتطلب الأمر دعم الجامعة العربية وتفعيلها ، وتفعيل آليات العمل العربى مثل الدفاع العربى المشترك والسوق العربية المشتركة والوحدة الاقتصادية .
ثم الدائرة الأفريقية ، مصر بلد أفريقى تربطها بدول حوض النيل والدول الأفريقية روابط تنمية هى حريصة عليها .
ثم الدائرة الإسلامية : وهى الدائرة العقائدية ، وتهتم السياسة الخارجية بهذه الدائرة بالسعى لتحقيق الوحدة الإسلامية وتفعيل المؤتمر الإسلامى .
وأخيرا الدائرة العالمية : ترتبط مصر بدول العالم بروابط عديدة ، كما أنها عضو فى الأسرة الدولية والمنظمات الدولية، وهى من ثم تسعى لتأكيد الشرعية الدولية ، كما تسعى لخروج المنظمات الدولية من وصاية القوى الكبرى.
هذه هي الخطوط الرئيسية للإصلاح الشامل والممكن والمأمول، في شتى مجالات حياتنا السياسية والقضائية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتي تمثل الحد الأدنى المطلوب لتحقيق تقدم مستمر لمجتمعنا، وتنمية مستدامة لاقتصادنا، وثقافة واعية لأبنائنا، يمكن - بعون الله وتوفيقه ومؤازرتكم - أن نسهم إسهامًا حقيقيًّا في العمل على تنفيذها على المستوى القومي .
والله من وراء القصد، وهو وحده الهادي إلى سواء السبيل.
محمد مهدى عاكف
المرشد العام للإخوان المسلمين
==============(19/355)
(19/356)
نص المبادرة الفرنسية الألمانية للإصلاح في الشرق الأوسط
22/02/2004
…
محمد جمال عرفة
أولاً- الأهداف:
1 - إن مستقبل منطقة الشرق الأوسط مصدر قلق مشترك نتقاسمه مع شركائنا في المنطقة والشركاء الأطلسيين. نحن على استعداد لدعم بلدان الشرق الأوسط وتشجيعها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن كل مبادرة في شأن الشرق الأوسط ينبغي أن تلبي حاجات المنطقة وتطلعاتها، ونجاحها يتوقف بالدرجة الأولى على هذه البلدان. إن تطلعات المواطنين، وهم في غالبيتهم من الشباب، كبيرة، إذ إن نصف سكان المنطقة هم دون الثامنة عشرة. ويقضي التحدي الحقيقي بتعديل الوضع القائم على أساس شراكة صادقة وتعاون ورؤية مشتركة. إن الحكومات، مثلها مثل المجتمع المدني، شريكة في هذه المهمة.
2 - إن على الاتحاد الأوربي أن يستجيب لهذه الأمور، إذ إن لأوربا مصلحة كبيرة في التطور الإيجابي للمنطقة. فإلى جانب التحديات الأساسية للأمن، هناك الروابط الجغرافية والثقافية والاقتصادية والبشرية بين أوربا والمنطقة والتي تدفع بوضوح في هذا الاتجاه. ويمثل الالتزام الحالي للاتحاد الأوربي تجاه دول البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى والأوسط، أولوية مركزية في إطار العمل الأوربي. وفي هذا الإطار، عمل الاتحاد خلال الاجتماع الأوربي - المتوسطي "يوروميد" في نابولي والقمة الأوربية في بروكسيل في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، على تحديد إستراتيجية تخدم هذه المنطقة.
3 - اقترحت الولايات المتحدة أفكاراً في شأن "الشرق الأوسط الكبير" وسبل مواكبة تحديثه وإحلال الديمقراطية فيه. وعلينا أن نستقبل بإيجابية إمكان عملنا معاً وتنسيق جهودنا. وينبغي على الاتحاد الأوربي أن يتطلع إلى شراكة عبر الأطلسي مع الشرق الأوسط. كما ينبغي عليه أن يحدد مقاربة مميزة تكمل مقاربة الولايات المتحدة، بالاستناد إلى مؤسساته الخاصة وأدواته.
ثانيا - مبادئ العمل:
- إن قوة الدفع ينبغي أن تأتي من المنطقة، إن كل الدول والمجتمعات المعنية عبرت عن حذر جماعي قوي في وجه أي محاولة لفرض "نموذج" من الخارج. سنعمل مع كل البلدان لاستجابة مطالبها فور الإمكان، عبر مشاركتها الوثيقة وفي أبكر مرحلة ممكنة. علينا التحرك عبر الحوار والتحفيز، مع الحكومات وأيضاً مع المجتمعات المدنية بالالتصاق إلى أقصى قدر بحقائق كل بلد.
- لا بد من الأخذ في الاعتبار للمشاعر الوطنية وهوية كل بلد: ينبغي الحرص على تجنب مخاطر المقاربة الشديدة العمومية التي تغيب الخصوصيات الوطنية وتصف الإسلام باعتباره غير قابل للحداثة. ولا بد، بموازاة ذلك، من حضّ البلدان المعنية على التعبير عن آرائها، سواء في إطار الجامعة العربية، أو في المنتديات المخصصة لذلك، من أجل إشهار تطلعاتها.
- التزام على المدى البعيد: إننا منخرطون منذ سنوات عدة في هذا الالتزام. ونحن نعتبر شراكتنا بمثابة التزام بعيد المدى ودائم. إنها مهمة ستستمر عبر أجيال عدة.
- إستراتيجية الأمن الأوربية: إن مقاربتنا تستند إلى الإستراتيجية الأمنية الأوربية التي أقرها الاتحاد الأوربي في كانون الأول (ديسمبر) 2003. وهذا سيشمل الأوجه السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تشكيل مجتمع مدني.
النطاق الجغرافي:
إن هذه الشراكة ينبغي أن تكون مفتوحة أمام كل دول الشرق الأوسط. ونأمل بالانطلاق من المسارات القائمة، مثل نهج برشلونة والحوار المتوسطي. وعلينا تعميق علاقاتنا مع مجلس التعاون الخليجي.
قاعدة العمل:
إن تقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية تتضمن تشخيصاً جيداً، وتشكل بحد ذاتها برنامج إصلاحات. فالحاجة إلى تغييرات في العمق ملموسة عملياً في كل مكان. إن بلداناً عدة بدأت تنفذ إصلاحات ملحوظة، وتميل هذه الظاهرة إلى الاتساع حالياً. وعلى المستوى الإقليمي، تتضمن المبادرة السعودية لكانون الثاني (يناير) 2003 اقتراحات إقليمية وإصلاحات داخلية في كل من البلدان وتشكل، إلى جانب سواها، قاعدة جيدة للمناقشة.
- فاعلية العمل المتعدد الأطراف: لا بد من السعي إلى فاعلية شاملة لعملنا من خلال تعبئة الهيئات المعنية. إن القيمة المضافة لكل من المنظمات والهيئات ينبغي أن تستخدم بأفضل السبل، ومنها خصوصاً الاتحاد الأوربي، والأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي في ما يخص قضايا الأمن والدفاع، إلى جانب المؤسسات المالية الدولية بالنسبة إلى قضايا التطور. إن كلاً من الاستحقاقات المقبلة (القمم الأوربية، قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى، القمة الأوربية الأمريكية، حلف شمال الأطلسي) ستقدم مساهمتها المحددة وتشكل مناسبة لإعطاء قوة الدفع الضرورية في المجالات المحددة.
- تعزيز التزام الاتحاد الأوربي: إن عمله ملحوظ من خلال نهج برشلونة (وبدرجة أقل الحوار بين الاتحاد الأوربي ومجلس التعاون الخليجي)، إن أدوات هذه الشراكة (اتفاقات الشراكة وبرنامج "ميدا" والحوار السياسي) تعمل منذ 8 سنوات وتحظى بإمكانات مالية مهمة. إن هذا المكسب الأوربي ينبغي أن يطور ويتعزز.(19/357)
- مسيرة السلام في الشرق الأوسط: إن الإستراتيجية الأمنية الأوربية تشير إلى أن "تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي تشكل أولوية إستراتيجية لأوربا. وفي غياب مثل هذا الحل لن تكون هناك أي فرصة لتسوية المشاكل الأخرى في الشرق الأوسط". ولهذا السبب، من الضروري إعادة إطلاق نهج السلام في الشرق الأوسط بالتوازي، من أجل التوصل إلى التسوية المنتظرة منذ مدة بعيدة لكل مساراته. ومن الضروري أيضا إنشاء حكومة مسئولة وسيدة في العراق. إن أياً من هاتين المسألتين ينبغي ألا تعرقل تطوير شراكة على المدى الطويل، لكن لا يمكننا توقع النجاح الكامل ما لم تتقدم مسيرة السلام في الشرق الأوسط.
ثالثا - اقتراحات الحل:
على الاتحاد الأوربي أن يعد مقاربة ومساهمة مشتركتين.
1- مبادرة أوربية:
إن المبادرة الأوربية ستحدد في إطار القمم الأوربية واجتماعات مجالس الشئون العامة والعلاقات الخارجية. هناك مساهمة مرتقبة من الأمانة العامة للمجلس والمفوضية. والمقصود بذلك زيادة جهودنا لتعزيز الأدوات القائمة والتي تستند إليها شراكتنا مع بلدان المتوسط وبلدان الخليج، بالتعاون مع بلدان أخرى من الشركاء.
2- مبادئ الاتحاد الأوربي:
- حوار سياسي وأمني في شأن السلام والاستقرار في المتوسط، خصوصاً إجراءات ثقة.
- ديمقراطية وحقوق إنسان ودولة قانون وحرية إعلامية وحكم جيد.
- إصلاحات هيكلية في المجال الاقتصادي.
- تطور اجتماعي، خصوصاً في مجال التعليم والمساواة بين الرجل والمرأة.
- دعم انبثاق مجتمعات مدنية وتطوير تعبيرها وتطلعاتها.
3- أعمال الاتحاد الأوربي:
- إن نهج برشلونة يؤمن سلسلة واسعة من الأدوات الملائمة لتطبيق المبادئ المذكورة سابقاً، بعد التقدم الذي أحرز خلال القمة الأوربية المتوسطية في نابولي في كانون الأول الماضي: اتفاقات الشراكة، مشروع لمنطقة تبادل حر، برنامج "ميدا - 2"، تسهيل الاستثمار والشراكة الأوربية - المتوسطية (فيميب) وأسس أوربية - متوسطية جديدة من أجل الحوار بين الثقافات. إن هذه الأدوات تمزج بين الحوار السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مستويات عدة بما في ذلك المستوى الوزاري، وتحظى بإمكانات مهمة يمكن أن تستخدم للحث على الإصلاح والتغيير. هذا الحوار يمكن أن يتعزز ويتوسع من خلال الجمعية البرلمانية الأوربية - المتوسطية المقبلة. وعلينا أيضا الإعداد لمناقشة صريحة ومنفتحة في شأن تطبيق المكسب الذي تحقق في برشلونة.
- إن "مبادرة الجيران الجدد" أيضا ستساهم في إعادة تنشيط علاقاتنا في المنطقة وفقاً لمبادئ الاتحاد الأوربي.
- سيكون من الضروري تكثيف الحوار السياسي مع مجلس التعاون الخليجي وتسريع المفاوضات بشأن منطقة للتبادل الحر على أساس المبادئ المذكورة سابقاً. إن الوضع مختلف في دول الخليج، ونظراً إلى ثروتها النسبية (باستثناء اليمن) فإن المشكلة لديها ليست التمويل. والتركيز ينبغي أن يتم على صعيد المهارة العملية والمساعدة التقنية التي تحتاج إليها هذه البلدان فعلياً.
- وعلى الاتحاد الأوربي أن يشجع ويدعم المبادرات من أجل التعاون الإقليمي الداخلي، ومنها على سبيل المثال تلك المتعلقة بالدول المتاخمة للخليج، بما في ذلك إيران والعراق. ومن شأن ذلك أن يشكل طريقة لبدء إحلال الثقة مثلاً من خلال إنشاء مائدة مستديرة تتناول مسائل الأمن العملية، مثل المخدرات وتبييض الأموال وحماية البيئة البحرية أو حول مسائل المياه الإقليمية.
مسائل الأمن:
في مجال الأمن، تقود المشكلات الخاصة لكل منطقة إلى اعتماد مقاربة مميزة في منطقة المتوسط (بما فيها الشرق الأوسط) والخليج. ويجب أن يبقى إطارا التعاون مع الاتحاد ومع حلف شمال الأطلسي مختلفين. ويلزم تطوير تبادل وجهات النظر في شأن مسائل الأمن والتعاون في منطقة المتوسط في منتديات الحوار بين الحلف الأطلسي والاتحاد.
* التحركات التي ينبغي للاتحاد الأوربي القيام بها:
- تكثيف المبادرات نحو حوار أكثر فاعلية في إطار "تعاون مرن ومفتوح على قاعدة التطوع".
- متابعة التحرك القائم في مجال محاربة الإرهاب والانتشار النووي ومكافحة الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية.
- التفكير في إطلاق مشروع ميثاق سلام واستقرار في منطقة المتوسط متى يسمح الوضع في الشرق الأوسط بذلك.
في إطار الشرق الأوسط الأشمل يمكن للاتحاد أن:
- يعزز الحوار السياسي والأمن مع دول الخليج.
- إطلاق مبادرة تهدف إلى حض دول الشرق الأوسط ومواكبتها في اختبار هيكلية محلية للأمن يمكنها في مرحلة أولى أن تتناول تجنب النزاعات انطلاقاً من المواضيع التالية: عدم المس بالحدود وحمايتها، إجراءات الثقة والأمن، مكافحة الإرهاب وتهريب أسلحة الدمار الشامل، ومعاودة التفكير في المناطق الخالية من هذه الأسلحة.
- تنظيم ندوات إعلامية - تعبوية لدول المنطقة تتناول الدروس التي يمكن استخلاصها من سياسة منع النزاعات التي طورها الاتحاد الأوربي في مناطق أخرى (ميثاق الاستقرار في البلقان تعزيز القدرات المحلية لحفظ السلام في أفريقيا على سبيل المثال).
فيما يتعلق بالقمم المقبلة:(19/358)
- قمة الجامعة العربية في تونس في 29 و30 آذار (مارس). يجب أن تستخدم الرئاسة والممثل الأعلى والمفوضية اتصالاتهم مع الشركاء العرب (والاجتماع الوزاري مع الولايات المتحدة) من أجل تقديم وجهة نظرنا، والمساهمة في هذه العملية، واستطلاع مدى الاهتمام والتشجيع على المشاركة والمبادرة الذاتية، بهدف إصدار إعلان تونس الذي يؤكد التمسك بالمبادئ الأساسية (الإصلاح والديمقراطية والتحديث) التي تحكم هذه العملية.
- قمة مجموعة الثماني في سي إيلاند من 8 إلى 10 حزيران (يونيو).
توفر هذه القمة فرصة لإعطاء دفع سياسي بتبني "إعلان من أجل مستقبل مشترك"، وأن يأتي، إذا أمكن، كرد على إعلان يصدر عن قمة تونس العربية. ويجب على دول الاتحاد الأوربي الأعضاء في مجموعة الثماني أن تتحدث باسم شركائها في الاتحاد. ويصاغ نص هذا الإعلان السياسي في إطار اجتماعات وزارات الخارجية (اجتماع المديرين السياسيين في 11 آذار/ مارس واجتماع وزراء الخارجية في منتصف أيار/ مايو). ويمكن للإعلان أن:
- يشرح المنطق الذي قاد إلى هذه المبادرة.
- يبرز استناد المبادرة إلى خطوة جماعية.
- يشير، إذا أمكن، إلى قمة الجامعة العربية ويعرب عن تقدير إيجابي للجهود الإصلاحية التي بدأت في المنطقة.
- يستعيد الخطوط الأساسية للمبادرة الأمريكية (الشرق الأوسط الكبير) والاجتماعات الأوربية.
- يشير إلى أن أعضاء مجموعة الثماني مستعدون لتطوير التعاون، كل وفق آلياته، على هذه الأسس مع الدول المهتمة، مع الإشادة بالجهود التي بدأها البعض.
- توجيه نداء إلى المنظمات المعنية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوربي...) لتقديم مساهمتها وفق هذه الأسس.
وفي إطار مواز يعمل خبراء وزارات الخارجية على اقتراح مشروع يأخذ في الاعتبار الاقتراحات الواردة في وثائق الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. ويمكن لهذه الأفكار أن تقدم إلى دول المنطقة في شكل اقتراح داعم لجهود الإصلاح القائمة. ويمكن، تماشيا مع الطابع السياسي لإعلان القمة، ضم اقتراح المشروع الأساسي إلى الإعلان نفسه بصفته خطة تحرك لمجموعة الثماني.
إن علينا تشجيع شركائنا الأمريكيين على تنظيم اجتماع لوزراء خارجية مجموعة الثماني مع نظرائهم من المنطقة، على هامش قمة سي إيلاند، واجتماع منفصل مع جميع أو بعض قادة دول المنطقة، مما يبرز الطابع الجماعي للمبادرة ويكرس في الوقت نفسه انضواء الدول المعنية في هذه المبادرة التي ستتحول عندها إلى شراكة حقيقية، مما قد يعني، بشكل أو بآخر، انطلاقتها الفعلية.
- قمة الاتحاد الأوربي - الولايات المتحدة (موعدها لم يحدد)
تندرج هذه القمة في إطار مبادرة مجموعة الثماني.
سنقدم موقفنا الأوربي خلال الاجتماع الوزاري (الأوربي - الأمريكي) على مستوى وزراء الخارجية الذي يعقد في مطلع آذار (مارس) ونناقش مبادرتنا مع شركائنا في (يوروميد) خلال اجتماع في دبلن يومي 5 و6 أيار (مايو). وسيوضح الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة عندها نقاط مقاربتهما، ويشيران إلى رغبتهما في إقامة حوار، كل بخصوص ما يهمه، مع الدول والمنظمات المهتمة، ويعلنان استعدادهما للتنسيق بشكل وثيق مع المبادرات المعنية بمنطقة الشرق الأوسط.
4 - يمكن، وفق رؤيتنا المشتركة، لحلف شمال الأطلسي أن يطلق في إستانبول سلسلة مبادرات تهدف إلى تعزيز حواره مع منطقة المتوسط وأن يقدم إلى دول الشرق الأوسط اقتراحات في مجال الأمن.
=============(19/359)
(19/360)
أمريكا مغاربيا: الأمن أولا.. الديمقراطية ثانيا
د. خالد شوكات**
…
4/03/2004
شكلت الزيارة التي قام بها الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى واشنطن في فبراير 2004 فرصة أخرى للمحللين السياسيين للوقوف على حقيقة ومصداقية السياسة الخارجية الأمريكية حيال الدول العربية، خصوصا فيما يتعلق بالمشروع الإصلاحي الذي كشفت عن معالمه مؤخرا مجموعة الصقور في البيت الأبيض، والذي كان يهدف -بحسب تصريحات هؤلاء- إلى تغيير الأنظمة القائمة في العالم العربي تباعا، حتى تنسجم مع قيم ومبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ حيث يقول عدد من الساسة الأمريكيين إنهم لا يرون عن الالتزام بها بديلا؛ ويزعم كثير منهم أن ذلك يمثل الشرط الوحيد لنيل الرضا والصداقة في هذا الزمن الجديد.
وكان مرد الأهمية -التي أسبغها المهتمون بالسياسة الخارجية الأمريكية على زيارة الرئيس التونسي للبيت الأبيض- عائدا بالأساس إلى كون نتائج هذه الزيارة ستمثل في الوقت نفسه نتائج الاختبار الثالث لواشنطن في المنطقة المغاربية، بالنسبة لحقيقة موقفها من الديمقراطية، بعد تبين نتائج الاختبارين الأولين اللذين خاضتهما حكومة الرئيس بوش في كل من موريتانيا وليبيا، والتي أبانت عن هوة واسعة بين أقوال واشنطن وأفعالها، وبين تصريحات ساستها المبدئية وسيرة سياستها المتجردة من المصداقية.
لقد كانت ثمة شكوك تراود بعض المحللين في أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تكون في طريقها إلى تبني سياسة خارجية أكثر مبدئية ومصداقية إزاء العالم العربي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، خصوصا في ظل بروز أكثر من صوت أمريكي قوي يؤكد على الصلة الوثيقة بين الإرهاب والأنظمة الديكتاتورية؛ باعتبار الأول نتاجا طبيعيا للبيئات الملائمة التي تفرزها أنظمة الحكم الاستبدادية والشمولية المهيمنة بشكل غالب على العالم العربي.
غير أن الصورة التي تجلت ملامحها في واشنطن إبان زيارة الرئيس بن علي لها قد أثبتت إلى حد بعيد أن السياسة الأمريكية ما تزال بعيدة عن مبدأ الإخلاص لمشاريع التحول الديمقراطي في العالم العربي، وأكثر ميلا لمواصلة السير في نهج السياسات الترقيعية القائمة على معالجة الأخطار المحدقة بالمصالح الأمريكية ضمن مدد زمنية محدودة قد لا تتجاوز غالبا مدة الولاية الرئاسية الأمريكية؛ أي أربع سنوات في أقصى تقدير.
مفهوم سطحي للإرهاب
ولعل أهم نتيجة يمكن الخروج بها من زيارة الرئيس التونسي الأخيرة للولايات المتحدة أن واشنطن ربما تكون حسمت أمرها في اتجاه تبني المفهوم السطحي للإرهاب الذي تبنته قبلها بعض الأنظمة العربية، والذي يرى ببساطة أن الإرهاب هو ذلك العنف الدموي الذي تقف الحركات والجماعات الإسلامية المتشددة وراءه، والذي بلغ ذروته مع تفجيرات 11 سبتمبر وبروز تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن على الصعيد الدولي.
إن من أبرز الأدلة بحسب المحللين على إمكانية اعتناق واشنطن لهذا المفهوم السطحي للإرهاب -الذي يتفق بشكل جلي مع بساطة تفكير الرئيس الأمريكي جورج بوش- منح الأولوية للمعالجة الأمنية والعسكرية على حساب طرق المعالجة الأخرى المقترحة من قبل دوائر أكثر اتزانا وعمقا في رؤيتها لما يتوجب فعله إستراتيجيا لحماية المصالح الأمريكية في البلدان العربية.
لقد منحت القيادة الأمريكية الرئيس بن علي وسامًا رمزيا تقديرًا لجهوده في محاربة الإرهاب وتحالفه مع واشنطن في حربها ضده، في الوقت نفسه الذي صرح فيه مسئولون أمريكيون بأن تونس لم تكن يوما مصدرًا للإرهابيين؛ وهو ما يعني وعي بعض المراكز في واشنطن بأن الحرب التونسية ضد ما وصف بأنه "إرهاب" طيلة عقد التسعينيات كانت حربا مفتعلة في حقيقتها، هدفها الأصلي تصفية خصم سياسي وإقصاؤه بشكل مبرم عن الساحة السياسية بقوة السلطة، أو ما يسميه بعض المحللين والمفكرين بـ"إرهاب الدولة".
ولعل أخطر ما في مسألة تبني واشنطن للمفهوم السطحي للإرهاب -مثلما يؤكد على ذلك عارفون بالشأن الأمريكي- ما سيستلزمه هذا التبني من ضرورة إيمان مركز القرار الأمريكي بالفكرة التي تصب جميع الحركات الإسلامية على اختلاف اتجاهاتها في قالب واحد، والزعم بأنه لا فرق داخل التيار الإسلامي بين معتدل ومتشدد، وبين مؤمن بالنضال السياسي كوسيلة لتحقيق الغايات الفكرية السامية، ومؤمن بالنضال المسلح الذي لا يفرق بين مدني وعسكري، ويعتبر الخصوم والآخرين جميعا ملة واحدة.
إن أوساطا سياسية وفكرية عديدة في المنطقة المغاربية والعربية كانت تتوقع تبني واشنطن لفهم أعمق لظاهرة الإرهاب، تقرن من خلالها بين الأفعال الإجرامية المدانة والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المفرزة لها؛ وهو ما يرتب عمليا صلة إستراتيجية قوية بين الحرب على الإرهاب ودعم التحول الديمقراطي في العالم العربي، وبين التنمية السياسية والقدرة على مقاومة أفكار الغلو والتطرف والنزعات الإرهابية.(19/361)
لقد كانت خيبة الأمل لدى هذه الأوساط شديدة، عندما قرر البيت الأبيض -على نحو ما تجلى في زيارة بن علي الأمريكية- منح الأولوية للمعالجة الأمنية والعسكرية، والاكتفاء حيال الديمقراطية بمجرد مطالب وتصريحات صحفية محتشمة قابلة للتأويل، يدرك المسئولون الأمريكيون قبل غيرهم أن ضيوفهم سيضعونها جانبا بمجرد وضع أقدامهم على سلم طائرة العودة، والاكتفاء بعد ذلك بكلمات التنويه والإشادة بجهودهم المقدرة في حلف واشنطن المقدس ضد الإرهاب.
التطبيع يعفي من الديمقراطية
والبين أن انكشاف العورة الأمريكية حيال الديمقراطية في المنطقة المغاربية -والعربية عامة- قد بدأ قبل أشهر من زيارة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي للولايات المتحدة؛ حيث قام الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيدي أحمد الطايع بانتهاك صارخ، كرس الطبيعة الشمولية لنظامه السياسي، دون أن يبدي المسئولون الأمريكيون أي تحفظ على سلوك الحليف العتيد.
لقد قام نظام معاوية ولد سيدي أحمد الطايع بتزوير الانتخابات الرئاسية، وقد جرى ذلك بشكل فج ومفضوح حسب ما تشير إلى ذلك تقارير المنظمات الدولية والمحلية التي قامت بالرقابة على العملية الانتخابية، فضلا عن الإقدام على سجن الخصوم السياسيين، وفي مقدمتهم المرشح الرئاسي الأبرز "ولد هيدالة"، غير أن واشنطن لم تحرك ساكنا، ولم يقم أحد من مسئوليها بإدانة السلوك المستهتر بقيم الديمقراطية، خلافا لما كان عليه الأمر في جورجيا التي دعم فيها البيت الأبيض الانقلاب الشعبي ضد شيفردنادزه، مثلما دعمت لاحقا عملية التحول نحو الديمقراطية.
ولا يملك المحللون تفسيرا مقنعا حيال السكوت الأمريكي على سلوك النظام الموريتاني، غير إقدام هذا النظام على تحدي المحظور وكسر الإجماع العربي، بإقامة علاقات دبلوماسية مع الدولة العبرية. فالتطبيع مع إسرائيل يعفي أصحابه من واجب التزام قيم الديمقراطية، كما يبطل حق متابعة المنتهكين لحقوق الإنسان والحريات العامة والفردية.
وكانت مصادر موريتانية قد أشارت إلى أن واشنطن لم تكتف -بغض النظر عن سيرة نظام نواكشوط الشمولية- بل تدخلت مخابراتيا وربما عسكريا لصالح الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، عندما كاد انقلاب عسكري جرى في شهر أغسطس 2003 أن يطيح به.
والبين من كل ذلك أن النظام الموريتاني الحالي لن يجد بديلا لدى واشنطن، مهما انحرفت ممارساته وابتعدت عن قيم الديمقراطية، حتى تتبين الأخيرة أن النظام البديل لن يتراجع عن سيرة السلف المتواصلة مع الدولة الصهيونية.
التجرد من السلاح وسيلة..
أما الحالة الثالثة التي أظهرت فيها واشنطن تناقضا بيّنًا بين التصريح والسيرة الواقعية فهي الحالة الليبية؛ حيث بدا الأمريكيون وكأنهم قد وقّعوا اتفاقًا مع نظام العقيد القذافي يقضي بأن تتجرد ليبيا من ترسانة أسلحتها الكمياوية، وتقوم بإنهاء تجاربها في مجال التقنية النووية، في مقابل تعهد واشنطن بالسكوت عن مطالبها في ضرروة إصلاح طرابلس لنظامها السياسي.
وتشير مصادر مطلعة إلى أن مشاورات النظام الليبي مع الدوائر الاستخباراتية الأمريكية والبريطانية قد استمرت لمدة أشهر طويلة قبل صدور إعلان طرابلس ذائع الصيت بالتخلص من أسلحتها الكيماوية ووقف تجاربها ومنشآتها النووية. وكان الطلب الرئيسي لنظام العقيد القذافي لتحقيق الكثير من المطالب الأمريكية هو قبول واشنطن بعدم التدخل لتغيير طبيعة النظام الراهن.
وقد لاحظ المتابعون تراجع واشنطن الواضح -إثر إعلان طرابلس تجردها من سلاحها- عن مطالبة نظام العقيد بإجراء إصلاحات سياسية عميقة، وإحداث مراجعات على أوضاع حقوق الإنسان في البلاد.
وما يمكن أن يخلص إليه المتابع للحالات الثلاث الآنفة أن واشنطن قد منحت مسألة الديمقراطية مكانة ثانية أو ثانوية في سياستها إزاء المنطقة المغاربية -والعربية- فيما يبدو أنها قد منحت الأولوية لثلاثة توجهات أساسية يمكن لسالكها أن يتمتع بإعفاء أمريكي من الالتزامات الديمقراطية والحقوقية. وهذه التوجهات كما يلي: 1- الانخراط في حرب واشنطن ضد الإرهاب. 2- التطبيع مع الدولة العبرية. 3- التخلص من ترسانة الأسلحة النووية والكيماوية.
ولعل التأمل في حالات أخرى كثيرة في العالم العربي والإسلامي ستؤكد النتيجة نفسها، حيث تضغط واشنطن في اتجاه دفع إيران إلى التخلص من سلاحها الحديث ومنشآتها النووية، فيما تعمل على دفع دول أخرى إلى إقامة علاقات مع إسرائيل، بينما تحث ثالثة على تغيير مناهجها التربوية ووضع مؤسساتها الأمنية والعسكرية في خدمة واشنطن وحربها ضد الجماعات الإرهابية، على غرار ما يجري مع السعودية ودول عربية أخرى. ويظل الدليل الأكثر حسما في تقييم حقيقة النوايا والمخططات الأمريكية إزاء الديمقراطية في العالم العربي.. النهاية التي ستختارها واشنطن للدراما العراقية.
==============(19/362)
(19/363)
هاني فحص: الإصلاح يبدأ بتجديد الذات
عبد الرحيم علي
…
04/04/2004
هاني فحص
طالب المفكر الإسلامي اللبناني الكبير السيد هاني فحص بضرورة المبادرة بتجديد الذات العربية الإسلامية على خلفية أصولنا الحضارية ومقتضيات المعاصرة، وأشار فحص في حواره مع شبكة "إسلام أون لاين.نت" إلى أهمية إنجاز المشروع الوطني للدولة الوطنية أولا، قبل الحديث عن المشاريع الجمعية والوحدوية.
موضحا أن الفترة التاريخية التي طالت في مواجهة غير متكافئة مع المستعمر أدت إلى نوع من النمو أو التطور غير المتكافئ في وطننا العربي والإسلامي.
وشدد فحص على ضرورة تطوير أوضاعنا الداخلية، مشيرا إلى أهمية النظر إلى أوربا كفرصة متاحة في هذا المجال، للشراكة والتفاهم.
من هنا نبدأ
وقال فحص إن البداية تكمن في إعادة النظر بنظامنا المعرفي، لخلق نظام معرفي غير ملفق، يمتلك ذاكرة تاريخية ومرونة في الإصغاء لأسئلة العصر.
وتحدث فحص عن أهمية تحويل المنجز الحضاري إلى حالة من الصيرورة، مضيفا أن هذا لن يتم بدون فتح الحوار للجدل بين المعرفة والثروة، وكسر نظام الثنائيات.
وأشار فحص إلى أن دور الدولة تقلص لصالح المجتمع الذي توسع دوره، وأردف: لذا يجب أن يرتقي نظامنا الأهلي إلى مجتمع مدني حقيقي يوازي دور الدولة ولا يتصادم معها أو يلغيها.
وأعرب فحص عن خشيته من أن تكون المجتمعات العربية قد استقالت من التغيير، مضيفا أن قصورنا في إصلاح شأننا هو ما جرأ الآخرين لطرح أطر لتحديثنا ومبادرات لتطويرنا.
ونوه فحص إلى أن الخطر لا يتوقف عند هذا الحد، مشددا على أهمية أن نحتمي بصخور الذات في مواجهة غزو الآخرين لنا، ولكن في الوقت نفسه لا نتخلى عن موضوعيتنا، وأن نرى ما في طرح الآخرين من عموميات ثقافية هي ملك للبشرية جمعاء كالديمقراطية على سبيل المثال.
==============(19/364)
(19/365)
أمريكا للأحزاب المصرية: لن نفرض الإصلاح
القاهرة- عبد الرحيم علي- إسلام أون لاين.نت/ 2-3-2004
مارك جروسمان
كشفت مصادر سياسية مصرية مطلعة أن مساعد وزير الخارجية الأمريكي مارك جروسمان التقى عددا من ممثلي الأحزاب المصرية ومنظمات المجتمع المدني صباح الثلاثاء 2-3-2004 في منزل السفير الأمريكي بالقاهرة ديفيد وولش، لبحث مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" التي طرحتها الولايات المتحدة قبل نحو شهر وتهدف لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية وتعليمية واجتماعية بالدول العربية والإسلامية.
وقالت المصادر التي طلبت من "إسلام أون لاين.نت" عدم الكشف عن هويتها: إن جروسمان أكد خلال اجتماعه بممثلي الأحزاب المصرية ومنظمات المجتمع المدني أن "الإدارة الأمريكية لن تقوم بفرض أية إصلاحات من الخارج على الدول العربية وأن الإصلاح سيكون من داخل هذه الدول".
وشدد جروسمان على أن الولايات المتحدة ترغب في "التعرف على وجهات نظر كل الأطراف السياسية والشعبية في المنطقة وليس وجهة نظر الحكومات فقط".
من جهة أخرى قال المسئول الأمريكي: "إن المبادرة الأمريكية للإصلاح ليست بديلا عن مباحثات السلام في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين"، في إشارة إلى خطة خريطة الطريق المجمدة لتسوية القضية الفلسطينية التي أقرتها اللجنة الرباعية الدولية بعضوية الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة، وشدد على أن إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين له "الأولوية لدى الأمريكيين".
وتركز جانب من تحفظات عدد من الدول العربية على مشروع واشنطن للإصلاح بالشرق الأوسط على تجاهله للصراع العربي الإسرائيلي باعتباره أحد أسباب عدم الاستقرار بالمنطقة.
"الإخوان" لم يمثلوا
ورفضت المصادر المصرية الإفصاح عن أسماء الشخصيات التي حضرت اللقاء، مكتفية بالتأكيد على أن عدد هذه الشخصيات تجاوز العشرين شخصا، وأنه "لم يوجد بينهم أي ممثل لجماعة الإخوان المسلمين في مصر".
ولم يتسن معرفة ما إذا ما كانت السفارة الأمريكية وجهت دعوة لجماعة الإخوان المسلمين لحضور الاجتماع.
كما صرح لشبكة "إسلام أون لاين.نت" الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع بأن السفارة وجهت الدعوة لحزبه لحضور اللقاء، لكن الحزب اتخذ قرارا بعدم الحضور لاعتراضه على المبادرة "من حيث المبدأ".
استطلاع كافة الآراء
وحول الهدف من اللقاء قال فيليب فرين الملحق الصحفي بالسفارة الأمريكية بالقاهرة: إن الهدف من اللقاء هو شرح المبادرة الأمريكية والتأكيد على أن الولايات المتحدة لن تقوم بفرض "إصلاح فوقي على أحد".
وأضاف فرين في تصريحات لإسلام أون لاين.نت الثلاثاء "من المهم لنا كأمريكيين استطلاع كافة الآراء بشأن المبادرة وشرح وجهة نظرنا للجميع بلا استثناء"، مشيرا إلى أن الإدارة الأمريكية قررت مخاطبة الكل حكومات ومواطنين من خلال ممثلي المجتمع المدني في كل بلد على حدة.
وأشار إلى أن لقاء القاهرة ضم عددا من ممثلي الأحزاب المصرية بالإضافة إلى ممثلي المجتمع المدني، رافضا هو الآخر الإفصاح عن أسماء الشخصيات التي حضرت اللقاء.
وشدد على أن السفارة الأمريكية في القاهرة "تعتمد مبدأ عدم الإفصاح عن أسماء الشخصيات الذين يلبون الدعوة لحضور لقاءاتها الخاصة".
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد أعلنت الأحد 29-2-2004 أنها سترسل جروسمان في جولة بالمنطقة تبدأ الإثنين 1-3-2004 لبحث مبادرة الشرق الأوسط الكبير مع "الحكومات والهيئات الخاصة" في مصر والبحرين والأردن والمغرب، بالإضافة إلى تركيا التي تعتبرها واشنطن "نموذجًا إسلاميًّا" يحتذى به.
وتأتي تلك الجولة في أعقاب جولة أخرى في المنطقة قام بها الأسبوع الماضي آلان لارسون وكيل الخارجية الأمريكية للشئون الاقتصادية وشملت مصر والمملكة العربية السعودية، والأردن ، والأراضي الفلسطينية، بهدف استطلاع الآراء بشأن المبادرة المطروحة.
وتعتبر مسودة المبادرة الأمريكية، التي قالت واشنطن إنها ستطرحها خلال اجتماعات حلف شمال الأطلنطي والدول الثماني الصناعية الكبرى المقرر عقدها جميعا في صيف 2004، أن هناك 3 نقاط "عجز" في الشرق الأوسط تتمثل في: "الحريات والمعلومات ووضع المرأة".
وتدعو المبادرة إلى تقديم مساعدات في مجال التعليم المدني وتشكيل هيئات انتخابات مستقلة وتسجيل الناخبين، ولا سيما النساء. كما تطالب بتطبيق إصلاحات تشريعية، مقترحة قيام الغرب بإنشاء أو تمويل مراكز دفاع قانونية لتقديم المشورة في مجال القوانين المدنية أو الجنائية أو الإسلامية، وإفساح المجال لاستخدام محامين.
وتشتمل المسودة المبدئية أيضا على مجموعة واسعة من الأهداف الاقتصادية، منها أن تمول مجموعة الثماني الكبار "مؤسسة تمويل الشرق الأوسط الكبير" بحيث تكون على غرار مؤسسات التمويل الدولية؛ لدعم الأعمال والمشاريع المتوسطة وكبيرة الحجم.
=============(19/366)
(19/367)
وجاء دور التنفيذ: مشروع الشرق الأوسط الكبير*
تركي الحمد …
04/04/2004
منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001 ـ بل وقبل ذلك، ولكن أحداث سبتمبر عجلت بالمشروع ـ كان واضحاً أن هنالك سياسة جديدة للولايات المتحدة بالنسبة للعالم كافة، وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط خاصة. فمع سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفرد الولايات المتحدة بالسيادة العالمية، خطت الولايات المتحدة خطوات سريعة نحو بناء امبراطوريتها العالمية.. هذه الامبراطورية التي بدأت الولايات المتحدة في دخول مرحلتها حقيقة بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتسارعت الوتيرة مع سخونة الحرب الباردة بين عملاقي ما بعد الحرب. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي، تسارعت الوتيرة أكثر، على اعتبار أن النموذج الأميركي في العيش هو الذي انتصر في النهاية. ومع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بدأت الولايات المتحدة بالعمل الفعلي في بناء تلك الإمبراطورية، سواء بالعسكرة المباشرة، كما هو الحال في العراق وأفغانستان ودول أخرى قد تكون مرشحة مستقبلاً، أو بالضغوط الاقتصادية كما هو الحال مع معظم دول العالم حتى قبل سبتمبر، أو بالتبشير الثقافي والسياسي المجرد. المهم في الأمر هو أن الولايات المتحدة عازمة، وخاصة في أعقاب سبتمبر، أن تبني «عالماً على شاكلتها»، أو ما يسميه البعض أمركة العالم، إن لم يكن بالترغيب فلا شك أنه بالترهيب. فأحداث سبتمبر أدت، فيما أدت إليه، إلى السيطرة الكاملة لليمين المسيحي الجديد على مجريات الأمور في واشنطن، وانتصار وجهة نظر أصحاب نظرية «صدام الحضارات»، وهم من يمزج ما بين المصلحة القومية الأميركية والقيم الأميركية، في مقابل أولئك الذين ينادون بحوار الحضارات وتفاهمها، الذين يفصلون ما بين المصلحة والقيمة، أو حتى في مقابل المخططين الاستراتيجيين ما قبل انتهاء الحرب الباردة، الذين كان همهم المصلحة القومية فقط، من دون اعتبار لأي شيء آخر.
والحقيقة أنه كان واضحاً منذ البداية إذاً أن الولايات المتحدة عازمة على بناء الامبراطورية الأميركية الجديدة، كنوع من بعث جديد للامبراطورية الرومانية القديمة، ولكن بتقنية متقدمة هذه المرة، محولة التجربة الأميركية في بناء الدولة ذاتها إلى تجربة عالمية، أي تأسيس ولايات متحدة عالمية، ولكن كان توقع ذلك من التنبؤات التي تقوم على تعدد السيناريوهات المحتملة، التي قد تتحقق وقد لا تتحقق. اليوم، وبعد أن تقدمت الولايات المتحدة بمشروعها، مشروع الشرق الأوسط الكبير، لقمة مجموعة الدول الصناعية الثماني، المزمع عقدها في سي آيلاند، جورجيا، لتبنيه في يونيو المقبل، والربط بين هذا المشروع وخطاب الرئيس بوش في مكتبة الكونغرس في الرابع من شهر فبراير في ذكرى ونستون تشرشل، يبدو وكأن الخطة الأميركية لتغيير الخريطة السياسية، وربما الجغرافية، لمنطقة الشرق الأوسط قد أصبحت مسألة وقت ليس إلا، في ظل يمين ديني يرى أنه بذلك إنما يحقق إرادة الله على الأرض، كما تفعل «القاعدة» والأصولية الجهادية بالضبط، ولكن مع اختلاف في محتوى الإرادة بالنسبة لكل طرف.
فكما أن مفهوم الفسطاطين المتناحرين لدى الأصولية الجهادية قد أدى إلى توتر العالم في أعقاب سبتمبر، فإن الحل العسكري الذي يتبناه اليمين الأميركي الديني الجديد، سيؤزم العالم بدل أن يؤدي إلى استقراره في ظل الباكس أميركانا. مساعدة أميركا دول العالم كي تساعد نفسها، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، هو المدخل المناسب لتحقيق الهدف، وليس الفرض وسياسة القوة العسكرية. فالأمركة عن طريق العسكرة ستؤدي في منطقة مثل منطقتنا مثلاً إلى نمو الأصولية، وهذه بدورها ستزيد من محاولة الأمركة عسكرياً في حال استمرار حكم اليمين الجديد، لتزداد الأصولية، وهكذا دواليك. وإذا كان مطلوباً من دول المنطقة التخلص من الأصولية المغالية من أجل أمن العالم، فإنه من المهم أن تدرك الولايات المتحدة أن الأمركة المفرطة والمرتبطة بالحل العسكري، قد تؤدي إلى عكس مرادها، ويكون العنف المجرد هو النتيجة، فالأصوليون والجهاديون، مسلمين ومسيحيين على الجانبين، خطر على رفاه واستقرار وأمن العالم.(19/368)
بعبارة أخرى، فإنه إذا كانت الأصولية الإسلامية، والأصولية الجهادية تحديداً، هي المسؤولة عن انفجار الأوضاع وتأزمها بين المسلمين وأميركا، فإن الأصولية المسيحية، والأصولية التي تعتقد في الحل العسكري تحديداً، هي المسؤولة عن تزايد المد الأصولي في المنطقة، وذلك حين تحاول أمركة العالم حتى لو كان ذلك بالقوة العسكرية، وفي النهاية فإن كلتا الأصوليتين وجهان لعملة واحدة. والحقيقة أنه لا تثريب على الولايات المتحدة في السعى نحو تحقيق غاياتها بالصورة التي تراها مناسبة، فهي دولة تسعى إلى تأمين مصالحها وأمنها، والتمتع بثمرات القوة والمجتمع المتقدم الذي حققته، ولكن اللوم يكون منصباً على هذه السياسة أو تلك لتناقضها مع حكمة أن أمن الولايات المتحدة ينبع أيضاً من أمن الآخرين، ورفاهها لا يكون إلا من خلال رفاه الآخرين، واستقرارها لا يكون إلا باستقرار الآخرين، ومن هنا يمكن نقد السياسة الأميركية، أما المبدأ فهو حق للجميع، سواء كانت أميركا أو غيرها. فأن تكون الولايات المتحدة اليوم هي القوة الأوحد في عالم اليوم، يفرض عليها مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سياسية في بناء عالم خال من المشاكل. أن تحاول الولايات المتحدة أمركة العالم، على أساس أن ذلك ضمانة لأمنها القومي ومصلحتها الوطنية، سياسة خاصة بها، ولها الحق في أن تفعل ما تشاء من أجل ذلك الهدف، كما هو حق الآخرين أيضا. ولكن كيف تكون الأمركة، وكيف يمكن تحقيق الهدف؟ هذا هو السؤال هنا.
ورغم أن الولايات المتحدة تريد أمركة كل العالم، إلا أنها تتعامل مع منطقة الشرق الأوسط، والشرق الأوسط الكبير، كما يسميه المشروع (كل الدول العربية، بالإضافة إلى تركيا وإيران وباكستان وأفغانستان وإسرائيل) كحالة خاصة، تختلف عن بقية العالم. فهذه المنطقة، وفق المنظور الأميركي، ذات طبيعة مختلفة، فهي عصية على التغيير، مقارنة ببقية مناطق من العالم، كما أنه يُنظر إليها على أنها الحاضن الأول للإرهاب، فكراً وعملاً، والذي هو اليوم العدو الأول لذات الكيان الأميركي، مع استبعاد إسرائيل من هذا المنظور، على أساس أنها امتداد أميركي مهدد في المنطقة، مثلها مثل أميركا ذاتها، ويهدف المشروع إلى صيانة أمنها بالتالي كجزء من الأمن القومي الأميركي. تغيير هذه المنطقة، وفقاً للمنظور الأميركي، يعتبر أمراً ضرورياً من أجل الأمن القومي الأميركي، وهذا التغيير يجب أن يكون على مختلف الأصعدة: سياسياً، ثقافياً، اقتصادياً، واجتماعياً.
لم تكن الولايات المتحدة حقيقة تهتم كثيراً بالأوضاع الداخلية لأية دولة قبل سبتمبر، ولم تكن تهتم إطلاقاً بمثل هذا الأمر قبل انهيار الكتلة الشرقية، إلا في حالات نادرة يكون التدخل فيها ملحاً، كجزء من الحرب الباردة، بدعم لهذا النظام كي لا يسقط في أحضان الشيوعية، أو إسقاط لذاك النظام بعد أن تحالف مع الشيوعية، أو بدا أنه كذلك (مثلاً: ايران 1953، غواتيمالا 1954، 1963، الدومنيكان 1963، 1965، البرازيل 1965، شيلي 1973، وبنما 1989). ولكن بعد سبتمبر، لم يعد الفصل بين الأوضاع الداخلية لأية دولة وسياستها الخارجية أمراً وارداً في المنظور الأميركي، الذي أصبح أسير المنظور المحافظ الجديد الذي لا يفرق بين المصلحة وسيادة القيم الأميركية في الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة، وهي القيم التي اختزلها هذا اليمين إلى قيم محددة مأخوذة من العهد الجديد للكتاب المقدس، ووفق تفسير معين لمثل تلك النصوص، وهو بالضبط ما يفعله الأصوليون على الجانب الآخر، أي في المنطقة الإسلامية، أو منطقة الشرق الأوسط الكبير تحديداً. وربما لو أردنا تلخيص الفرق بين أميركا ما قبل سبتمبر وأميركا ما بعد سبتمبر، لما وجدنا أفضل من مقولة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد، حيث يقول: «إن المهمة هي التي تحدد الحلفاء، وليس الحلفاء هم من يحددون المهمة»، بكل ما تحمله هذه العبارة من مضامين أصولية مسكوت عنها. بل وربما عدنا بجذور هذه المقولة ـ السياسة إلى أميركا ما بعد سقوط الكتلة الشرقية. فلقد كانت أميركا وحلفاؤها، بغض النظر عن أوضاعهم الداخلية، يحددون مهمة التحالف، أما اليوم فإن المهمة، تغيير العالم وفق نموذج معين، هي من يحدد الحليف، وإن لم يكن هناك حليف، فلا يهم، فأميركا قادرة بذاتها وبشكل منفرد على فعل ما تريد، وهذا هو ما حدث في المسألة العراقية مثلاً، وانحسار دور الأمم المتحدة في العهد الأميركي الجديد، أو لنقل الباكس أميركانا.(19/369)
كان واضحاً منذ سقوط الكتلة الشرقية أن أميركا سوف تسعى لجعل العالم «عالماً جديداً»، أي عالماً أميركياً، وتسارع ذلك المنحى بعد سبتمبر كما سبق أن قيل. ولكن المشكلة أن الكثير دول منطقة الشرق الأوسط، والعربية منها على وجه التحديد، لم تدرك هذا المنحى الجديد في السياسة الخارجية الأميركية، أو أنها تجاهلته، واستمرت في التعامل مع الولايات المتحدة وفق المنطق القديم، أي منطق الحرب الباردة المنهار مع انهيار الاتحاد السوفياتي وبرجي التجارة في نيويورك لاحقاً. ولكن السياسة لا تعرف الثبات، وهذا ما أغفله أو تجاهله كثير من الساسة في المنطقة، وعليهم أن يعيدوا حساباتهم في مثل هذه المسألة. فإذا كانت مسؤولية الولايات المتحدة، بصفتها القوة الوحيدة في عالم اليوم، أن لا تفرض سياساتها ورؤاها بقوة البندقية، لأن ذلك قد يؤدي إلى ردة فعل لا تخدم الهدف المنشود، فإن على بقية دول العالم، ودول منطقة الشرق الأوسط تحديداً، مسؤولية أن تعيد حساباتها من جديد بما يخدم شعوبها ومجتمعاتها وإنسانها واستقرار أنظمتها السياسية، وأن لا تصبح نشازاً في عالم يكاد يكون واحداً، إن لم يكن قد أصبح بعد. بذلك فقط يمكن تجنب النتائج الكارثية لسياسات الأصوليين على الجانبين. وبذلك فقط يمكن أن نسهم في بناء عالم تسوده كل القيم التي أرادها الله لخلقه جميعاً.
* نقلا عن جريدة الشرق الأوسط
================(19/370)
(19/371)
مشروع أميركا للديموقراطية في الشرق الأوسط "الكبير" - نعم لكن مع من؟*
منصف المرزوقي …
04/04/2004
لقد تعودنا منذ عشرات السنين على دعم الإدارة الأمريكية لكل الدكتاتوريات العربية ومن بينها دكتاتورية صدّام حسين, فأصبحنا نضحك من سماع أي كلام صادر منها بخصوص دعم الديمقراطية في وطننا العربي, مثلما ما نسخر من وعودها بإحلال سلام عادل في فلسطين. فبالنسبة إلينا يدخل تحيّز أمريكا للاستيطان الصهيوني والنظام الاستبدادي العربي في جملة من ثوابت السياسة الأمريكية.
لكننا قد نخطئ في شكنا هذه المرّة لأن تاريخ هذه السياسة يعلّمنا أن أمريكا تستطيع أن تكون جادّة في فرض الديمقراطية. بالطبع لا علاقة للأمر بموقف مبدئي. فالمنطق القارّ في السياسة الأمريكية أنه لا تردّد في إجهاض الديمقراطية إن خالفت المصالح, مثلما حدث في بداية السبعينات عندما ضربت النظام المنتخب في الشيلي والنظام الإيراني في الخمسينات , كما لا تردّد في فرضها إن كانت تخدم هذه المصالح مثلما حدث في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية قد توصلت إلى استنتاج هام في هذه المرحلة من تطور علاقتها بمنطقتنا العربية والإسلامية, أن الديمقراطية هي التي ستخدم مصالحها أكثر من الدكتاتورية, بعد أن استنفذ النظام العربي الساقط كل طاقاته وأصبح عبأ لا معينا. لننتظر الانتخابات الرئاسية الجزائرية في ابريل المقبل, والتونسية في نوفمبر, حتى نحكم على مدى جدّية هذا التوجّه. لكن فرضا أن هناك نيّة "صادقة" لمراجعة الستراتيجية القديمة فإن الإشكالية الكبرى التي ستواجه هذا المشروع هي مع من ستبني هذه الديمقراطية المنشودة؟
لننظر إلى القوى السياسية في الساحة العربية ومدى إمكانية تقبلها للمشروع االذي لا يتصور أحد تحقيقه بدون طرف عربي يساهم في بلورته على أرض الواقع.
في البداية هناك الأنظمة . إنها لم تستجب يوما لمطالب شعوبها الملحة لتعديل ساعتها واللحاق بركب العصر والخروج بالشعوب والأمة من الانحطاط التي أوصلتها إليه. لكنها رفضت كلّ تغيير جوهري يمسّ بالثوابت والمقدسات: البقاء في السلطة إلى الوفاة وإذا أمكن توريثها, عدم المحاسبة والتحكّم في الإصلاحات بمنهجية الريّ بالقطرة قطرة. نحن إذن أمام أنظمة أثبتت أنها لا تصلح ولا تصلح (بضمّ التاء). هل ستفلح الضغوط المرتقبة, خاصة الاقتصادية منها, لدفع الإصلاحات التي طال انتظارها؟ إن تجربتنا لأنظمة مستعدّة للتضحية بمصالح شعوب برمّتها من أجل بقاء بعض الأفراد في السلطة المؤيدة, تجعلنا نشكّ في رضوخها لضغوط لن تتضرّر منها مصالحها المعفاة من أي عقاب اقتصادي.
إنه من غير الجدّي, بداهة, المراهنة على قدرتها على تبني قواعد لعبة جديدة مآلها طال الزمن أو قصر إزاحة القائمين عليها من السلطة. أما وضع بعض المساحيق على نفس القناع البشع فلن يزيد الطين إلاّ بلّة. ولأننا لا نتصوّر أن أمريكا سترسل جيوشها لفرض رغبتها, فإن المتوقّع أن الدكتاتوريات العربية ستتعامل مع رغباتها كما تتعامل معها حكومة شارون بخصوص الملف الفلسطيني.
ثمة الطرف الإسلامي المتواجد بقوة متصاعدة. وباستثناء بعض الحالات الشاذة التي تحصى ولا يقاس عليها مثل حركة النهضة التونسية , فإنّ أغلب تنظيمات هذا التيار مناهضة للديمقراطية ومناهضة لأمريكا . ولأنها حاملة لبرنامج ورؤيا سياسية على طرفي نقيض من البرنامج الأمريكي فإنها ساعية وستسعى لضربه بكلّ الوسائل.
لم يبق لإنقاذ المشروع سوى الديمقراطيين العرب الذين يتشرّف كاتب هذه السطور بالانتماء إليهم. لكنهم وبغض النظر عن قدرتهم على مواجهة المدّ الإسلامي والحصن الدكتاتوري, آخر من يقبل الانخراط في المشروع الأمريكي وآخر من يستطيع المشروع الأمريكي التعويل عليهم. لنتذكّر أصول هؤلاء الديمقراطيين.
هم لم يولدوا على "العقيدة" الديمقراطية, إنما اعتنقوها بعد أن هاجروا إليها من الإيدولوجيات الكبرى التي كانت تسود وطننا العربي منذ الستينات أي الوطنية والقومية والاشتراكية. حصل هذا بعد اقتناعهم أن الخلل الأساسي في نظامنا السياسي العربي ليس الايدولوجيا وإنما الاستبداد. وثمة قاسم مشترك بينهم على تباين مرجعياتهم هو إيمانهم أن على الديمقراطية أن تكون أداة تحرّرنا من الاستبداد الداخلي والتبعية للخارج, انطلاقا من قناعة راسخة بأن الاستبداد استعمار داخلي والاستعمار استبداد خارجي.
إن وطنيتهم وقوميتهم تجعلهم مثلا من ألدّ أعداء التطبيع مع إسرائيل, خاصة في ظرف الاستئساد الشاروني, ومن ألدّ أعداء الاحتلال الأمريكي - البريطاني للعراق. ثمة أيضا بقايا هامة من ايدولوجيا التحرّر الوطني التي تطبع تفكيرهم وهي تحيّزهم للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لشعوبهم. يعني هذا أنّ ديمقراطيتهم أقرب إلى ديمقراطية الاشتراكيين السويديين والشهيد "أولاف بالم" منها إلى الديمقراطية كما تفهمها الإدارة الأمريكية.
كل هذا يجعل من المستبعد جدّا تلاقي الديمقراطيين الوطنيين مع المشروع الأمريكي.(19/372)
ماذا بقي إذن؟ الديمقراطيون على شاكلة المعارضة العراقية السابقة التي ترعرعت بفضل أموال أجهزة الاستخبارات ودخلت بغداد على ظهر الدبابات؟ إذا تصورت أمريكا أن مثل هذا الطابور الخامس, الذي سيتصدّى له الاستبداد والإسلاميون والديمقراطيون الوطنيون, كلّ لأسبابه الخاصّة , هو القادر على تسويق المشروع الأمريكي فإن حجم خيبة أمل النهاية ستكون بحجم غرور البداية.
إن مقارنة المبادرة الحالية بمبادرة "هلسنكي" التي ساهمت كثيرا في هدّ قلعة الاستبداد الشيوعي وانتصار الديمقراطية, غير واقعية لاختلاف الوضع تماما. فهناك في وطننا العربي بديلان متنافسان للاستبداد هما الديمقراطية والإسلام السياسي. لم يكن في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي في السبعينيات سوى بديل واحد هو الديمقراطية. أما الاختلاف الجوهري الثاني فهو انعدام المصداقية التامّ لسياسة أمريكا في دفع الديمقراطية في عالمنا في الوقت الذي تحتل فيه العراق وتدعم وحشية شارون وتهين مواطنينا في مطاراتها ناهيك عن وصمة "جوانتانامو". إن السياسة الأمريكية هي اليوم, خلافا لعصر هلسنكي, أكبر عنصر تأخير وإرباك وإضعاف لمشروع زرع الديمقراطية في وطننا العربي. بل يمكن القول أن كل سياستها تؤدي على العكس إلى فتح طريق سيارة للقوّة الإسلامية المتشدّدة, وهذا ما رأيناه في العراق وسنراه في أماكن أخرى.
إن مبادرة "هلسنكي الجديدة" جاءت متأخرة وضعيفة وعديمة المصداقية وذات مفعول عكسي ولن تنفع في تسويقها الأموال والفضائيات ووكالات تحسين الصورة. يبقى أن علينا, كديمقراطيين عرب, أن نتعامل من هنا فصاعدا مع العامل الأمريكي كعامل هامّ في تأخير تمكّن الديمقراطية, إن تمكّنت يوما, وذلك عبر تحسين مظهر الاستبداد وتقوية التيار الإسلامي المتشدّد من وإعطاء أبشع فكرة لشعوبنا عن ديمقراطية يرمز لها العملاء. هل سنكون على مستوى هذا التحدّي الضخم أم نسلّم أن الإدارة الأمريكية قد أعطت لديمقراطيتنا الناشئة قبلة الموت؟
* نقلا عن جريدة الحياة 2004/02/22
=============(19/373)
(19/374)
من سايكس بيكو إلى الشرق الأوسط الكبير*
وليد أبي مرشد …
04/04/2004
منذ ان حلت الولايات المتحدة على الشرق الأوسط جارة عزيزة على سورية، تخطت العلاقة السورية ـ الاميركية الشكليات الدبلوماسية الى الاعتبارات الميدانية: تهمة «زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط» صارت تعني زعزعة ما يسمى ـ تهذيبا ـ «بالوجود» الاميركي في العراق. وتهمة اعاقة تطبيق النظام الديمقراطي في الشرق الاوسط صارت تعني معارضة المخططات الاميركية لعراق ما بعد صدام حسين. وتهمة «دعم الارهاب» صارت تعني غض النظر عن تسلل مقاومي «الوجود» الاميركي الى العراق عبر الحدود المشتركة للدولتين.
الاتفاق على المصطلحات السياسية التي تتحكم بدبلوماسية واشنطن في الشرق الاوسط اصبح، بعد 11 سبتمبر (ايلول) 2001، من رابع المستحيلات... فكم بالحري الاتفاق معها على رؤية عربية ـ أميركية مشتركة للشرق الأوسط الجديد؟ ... والمشكلة انه في مفهوم «المحافظين الجدد» يتقرر مصير الشرق الاوسط في لقاءات مغلقة لعدد من منظري اليمين الجمهوري في واشنطن ـ الملقبين بالـ «Think Tank» ـ وفي اروقة الكونغرس المضيافة فوق العادة لعملاء اللوبي الصهيوني لذلك تبدو الرسالة الدبلوماسية الأبرز لقانون «محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان» الذي أقره الكونغرس ليس فقط تكريسه حق الزعامة الأحادية في اتخاذ قرارات أحادية في الشرق الأوسط، بل ابلاغه دول المنطقة ان صيغة «سايكس ـ بيكو» البريطانية الفرنسية الثنائية، التي افرزتها الحرب العالمية الاولى، اندثرت لصالح صيغة أميركية أحادية أفرزتها حرب العراق اسمها مشروع الشرق الأوسط الكبير.
في هذا الاطار، اطار الشرق الاوسط الاميركي «الكبير»، سوف تُزج العلاقة السورية الاميركية. وإذا جاز تلمس ابعادها على خلفية المعطيات الدولية الراهنة فقد يصح توقع مرورها بمرحلتين، احداهما تكتيكية تفرضها هذه المعطيات على المدى القصير، وثانيتهما استراتيجية تستوجبها بوادر الاقامة الاميركية الطويلة بين احضان عرب الشرق الادنى كما يبدو من الالتزام المالي الضخم بما يسمى اعادة إعمار العراق (87 مليار دولار بدون احتساب النفقات العسكرية المتزايدة) والمشاريعالمعدة «لتأهيل» هذه الاقامة ـ تحديدا مشروع الشرق الاوسط «الكبير».
خلال المرحلة الاولى ـ التي قد يحدد فترتها الاستحقاق الرئاسي الاميركي في نوفمبر(تشرين الثاني) المقبل ـ ستكون الادارة الاميركية أكثر حاجة «لتعاون» سوري معها على استعادة الاستقرار الامني في العراق. ومع استمرار انشغال الادارة الاميركية بايران وافغانستان وكوريا الشمالية، يصعب توقع تجاوز حالة التوتر، في العلاقات السورية ـ الاميركية، اطار الدبلوماسية الناشطة، والحارة احيانا، خصوصا في حال تيقن الادارة الاميركية من جدية التزام سورية بضبط الحدود المشتركة مع العراق وإغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية المصنفة «إرهابية» وربما التفاهم معها على جدول زمني لخروج القوات السورية من لبنان.
أما المرحلة الثانية ـ والأدق إذا ما اعيد انتخاب جورج بوش لولاية رئاسية ثانية ـ فرغم خطورتها المحتملة قد لا تشكل مبررا كافيا لان تعتبر واشنطن ان تصعيد ضغوطها الدبلوماسية على سورية الى مستوى الضغوط العسكرية سيكون أكثر جدوى من التفاهم معها على «ثوابت» معينة في الشرق الاوسط الكبير، ففي منظور واشنطن لا تزال سورية إحدى الدول العربية القلائل العلمانية النظام، والدولة التي تجنبت ادارة بوش ادراجها على لائحة دول «محور الشر» رغم كل ما وجهته اليها من اتهامات بتطوير اسلحة دمار شامل، والدولة الوحيدة التي تقيم علاقات دبلوماسية طبيعية مع واشنطن بين كل الدول المصنفة «مارقة»، بدليل تبادلهما التمثيل الدبلوماسي على مستوى السفراء حتى بعد قانون «محاسبة سورية».
وفي هذا السياق قد يساهم انفتاح دمشق على علاقات ودية مع تركيا الاطلسية وعلى استئناف المفاوضات مع اسرائيل الليكودية في امتصاص حرارة النقمة الاميركية عليها مما يفسح في المجال لتوقع تحول أزمة العلاقات السورية الاميركية، في المرحلة الثانية، من أزمة ثقة أميركية في دمشق الى أزمة تأقلم سوري محدود مع الشرق الاوسط «الكبير»... ونادرا ما جدفت سورية عكس التيار الدولي.
* نقلا عن جريدة الشرق الأوسط
==============(19/375)
(19/376)
الشرق الأوسط الكبير
04/03/2004
د. أحمد ثابت **
استخدم مفهوم الشرق الأوسط من قبل القوى الاستعمارية الأوربية إبان الحرب العالمية الأولى بصفة أساسية، وذلك في مواجهة تصاعد تجليات ومظاهر انبعاث الوعي القومي العربي الذي شهد مده وانتشاره لمواجهة نفوذ المشروع القومي الطوراني مع بدء أفول الدولة العثمانية، وما عرف بسياسة التتريك التي أرادت الحركة القومية التركية فرضها على المجتمعات العربية بقيادة حركة "تركيا الفتاة" منذ بدايات القرن العشرين.
وفي نفس الوقت برزت مشروعات مناطق النفوذ البريطانية والفرنسية الاستعمارية واتفاقات ومعاهدات تقسيمها في الوطن العربي بين الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، مثل معاهدة سايكس-بيكو لعام 1916. ولم يكن مفهوم "الشرق الأوسط" يشير في الواقع إلى حيز جغرافي معين ولا إلى تاريخ محدد مشترك لشعوب المنطقة، بل استند بالأساس إلى نظرة السياسات الاستعمارية الأوربية إلى أوروبا كـ"مركز" أو "قطب جاذب" للعالم يقع خارج "الشرق الأوسط"، وبناء على ذلك فقد صكت القوى الاستعمارية الأوربية التعبيرات المختلفة بخصوص مناطق التوسع الاستعماري انطلاقًا من المركزية أو التمحور حول أوربا في عصر الاستعمار التقليدي الذي شكل عالمًا تميز بكونه ذا قطب واحد هو القطب الاستعماري العالمي بدوله المختلفة.
في هذا الإطار شاعت فكرة "الشرق الأوسط" في السياسة البريطانية، وفكرة "المشرق" في أدبيات السياسة الفرنسية. وكلاهما مفاهيم جيو سياسية وإستراتيجية دلت على طبيعة مخططات القوى الاستعمارية الأوربية إزاء "شرقها" هي بالمعنى الجغرافي وعكست إستراتيجيات تقاسم مناطق النفوذ بينها وخصوصًا مع اكتشاف البترول في كل من إيران والعراق وشبه الجزيرة العربية. وهكذا تداخل في المشروع الاستعماري الجغرافيا والتاريخ والأيديولوجيا، وحمل المفهوم في طياته تصورًا لعلاقة الوطن العربي بالعالم الغربي.
وعندما نشأ الكيان الصهيوني في فلسطين بدعم استعماري مباشر صارت "شرق الأوسطية" إلى جانب مركزيتها الأوربية شديدة الارتباط بعلاقة العرب بإسرائيل. ذلك أن إدراك القوتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لخطورة ما عرف بـ"المسألة اليهودية" أي موضوع رفض تجمعات يهودية عديدة في أوربا الاندماج في الحداثة والتحديث والعلمانية الغربية، جعلهما يفكران جديًّا في إقامة "وطن للشعب اليهودي" أو لـ"الأمة اليهودية" حسب تعبير بالمرستون رئيس الوزراء البريطاني في أربعينيات القرن التاسع عشر أو حسب تعبير نابليون بونابرت قبل ذلك أي في أواخر القرن الثامن عشر، تحققان به -أي فرنسا وبريطانيا- هدفين متقاطعين هما تجزئة المنطقة العربية من جهة وحل "المشكلة اليهودية" التي أرّقت أوربا كثيرًا، من جهة أخرى.
ومن ثَم وكما يقول المفكر المصري الأستاذ محمد سيد أحمد: "إن (شرق الأوسطية) في أبعادها التاريخية، لا تقتصر على علاقة ثنائية بين العالم العربي/ الإسلامي من جانب، والعالم الغربي/ المسيحي/ اليهودي (بصفته كلا لا يتجزأ) من الجانب الآخر، وإنما هي علاقة "ثلاثية" تشمل ثلاثة أضلاع في آن واحد: العالم العربي/ الإسلامي والعالم الغربي، والعالم اليهودي/ الصهيوني. ونخطئ كثيرًا لو ضممنا العالم اليهودي/ الصهيوني إلى العالم الغربي على وجه الإطلاق دون إدراك أن هناك أوجه تمايز وتباين في الرؤية والهدف والإستراتيجية بينهما، كثيرًا ما يغفلها العرب وهم مخطئون ويسيئون إلى أنفسهم. ومما تجدر تسجيله أن لإسرائيل رؤيتها الخاصة في هذا الصدد"(1).
إن "شرق الأوسطية" كفكرة تنسب إلى مركز خارج الشرق الأوسط هو أوربا تاريخيًّا وإلى الغرب وفيه الآن الولايات المتحدة - قطبه الأكبر، وهي لم تعبر أبدًا عن نطاق جغرافي تاريخي محدد على وجه الدقة، بل تعرضت للانكماش والتوسع مع تغير المشاريع الغربية والأمريكية تجاه الوطن العربي والعالم الإسلامي. ففي إطار سعي بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة لحصار المد القومي العربي بزعامة جمال عبد الناصر في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، تم توسيع المفهوم ليشمل دولاً إسلامية غير عربية مثل إيران في عهد الشاه وتركيا بحيث يصبح الشرق الأوسط نطاقًا إستراتيجيًّا وأمنيًّا يقوم على سلسلة من الأحلاف مثل حلف بغداد عام 1955، ثم مشروع النقطة الرابعة للرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور لملء الفراغ الإستراتيجي بقيادة الولايات المتحدة مع أفول نجم بريطانيا وفرنسا عام 1957 ثم الحلف الإسلامي عام 1965، وهي الأحلاف الاستعمارية التي هزمت ووئدت مع الصحوة القومية وتأميم قناة السويس المصرية وحركة التحرر الوطني العربي والمد الوحدوي العربي.
وهذه السلسلة أدخلت دولاً عربية تحكمها نظم محافظة موالية للولايات المتحدة مثل الأردن والسعودية وعراق نوري السعيد، وتخرج من نفس النطاق شرق الأوسطي دولاً عربية رغم أنها تقع في قلب هذا النطاق نفسه إذا ما قبلنا مدلول المصطلح جغرافيا، مثل مصر وسوريا والعراق منذ عام 1958 واليمن منذ عام 1962.(19/377)
معنى ذلك أن "الشرق الأوسط" هو تعبير عن منطقة "ذات جغرافيا متغيرة"(2)!!، ويدل على ذلك أن المصطلح صار يعبر عن مدلول جغرافي آخر مغاير بعد هزيمة النظام الناصري والمد القومي العربي عام 1967 على يد إسرائيل والدعم الأمريكي لها، فبعد أن كان يقتصر على مصر وفلسطين والشام، صار بعد عدوان عام 1967 وانشغال الحكومات العربية بمهمة "إزالة آثار العدوان" في إطار قرار مجلس الأمن رقم 242 يشير فقط إلى الحيز الذي تشغله الدول التي دخلت حرب 1967.
ويمكن القول إن الولايات المتحدة في عهد إدارة نيكسون وتحت تأثير سياسة وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر استثمرت إلى حد بعيد سعي الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى تسوية سلمية سريعة ومنفردة مع إسرائيل بعد أن عبر منذ الأيام الأولى لحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 عن عزمه على عدم إطالة أمد الحرب أو عدم توسيع مداها، وذلك في مراسلاته السرية مع كيسنجر، وتم ذلك الاستثمار من خلال نجاح كيسنجر في فك الارتباط بين قضيتي النفط والصراع العربي - الإسرائيلي في إطار مواجهته لتداعيات استخدام سلاح النفط العربي إبان حرب أكتوبر/ تشرين.
ومن جانب آخر وضعت الولايات المتحدة تصورًا للشرق الأوسط في هذه الحقبة يحصره في الأطراف العربية التي تقبل التسوية السياسية للصراع العربي - الإسرائيلي بقيادة منفردة لواشنطن ومعها كل من إسرائيل وإيران الشاه وتركيا، مع التأكيد على أهمية إقامة علاقات اقتصادية وتنسيق أمني بين هذه الأطراف العربية وإسرائيل. وقد تم ذلك جزئيًّا مع توقيع أنور السادات معاهدة "سلام" منفرد مع إسرائيل عام 1979.
التغير بعد الحرب الباردة
طرحت نهاية الحرب الباردة مع زوال الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية ضد الغزو العراقي للكويت وانتصار الولايات المتحدة على المنظومة السوفيتية دون حرب فرصًا عديدة للمضي قدمًا في تطبيق مشروعها المتجدد للشرق الأوسط، وخصوصًا مع قيادتها لما سُمِّي عملية سلام مدريد في أكتوبر 1991 وما بعدها والتي شهدت دخول الأطراف العربية في مفاوضات ثنائية مع إسرائيل، وكذلك المباحثات متعددة الأطراف التي شملت كل الدول العربية تقريبًا حتى تلك التي لم تشارك في الصراع العربي الإسرائيلي أو الحروب العربية الإسرائيلية مثل دول الخليج العربي.
وحاولت واشنطن فرض تصورها شرق الأوسطي بقضايا متداخلة بين بعدها العالمي وبعدها الإقليمي مثل التسلح واللاجئين والمياه والتعاون الاقتصادي، مع السعي لتأسيس نماذج للتعاون والتكامل الاقتصادي والأمني على أسس جيو إستراتيجية، وجيو اقتصادية بهدف تقويض النظام الإقليمي العربي وعلى حساب قضايا ومصادر الصراع الجوهرية وهي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والقضية الفلسطينية، وعلى حساب الانتماءات والروابط العروبية الإسلامية الثقافية/ الحضارية والتاريخية واللغوية.
وفي هذا الإطار تلاقت المصالح الأمريكية والإسرائيلية في إعادة صياغة خريطة المنطقة عبر طرح صيغة ملائمة لإدخال إسرائيل في "منطقة ينزع عنها مواصفات الجغرافيا التاريخية وسمات التاريخ الحضاري والثقافي، ويشدد فيها على الجغرافيا الاقتصادية المعاصرة في نظام السوق العالمية، ليخلق فيها نواة سوق شرق أوسطية تتوسع بالتدريج انطلاقًا من إسرائيل كنواة ودورها كقوة جاذبة ومهيمنة اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وأمنيًّا ومدنيًّا"(3).
وقد تقدم بهذا الطرح "شيمون بيريز" في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" وكذلك بنيامين نتنياهو في كتابه "مكان تحت الشمس"، حيث تم تقديم إسرائيل لديهما كدولة متقدمة مصنعة وسط محيط من "التخلف" العربي، ودولة ديمقراطية بين نظم دكتاتورية، وكقوة عسكرية رادعة تمكنت من جلب العرب إلى طاولة المفاوضات بعد اقتناعهم بأنه لا مجال لهزيمة إسرائيل عسكريًّا!! هذان الكتابان اللذان نشرا عامي 1995 و1996 هما حصيلة فعلية لما طرحته تل أبيب من قائمة مقترحات قدمتها في الاجتماع الأول لما عرف بالمفاوضات متعددة الأطراف في موسكو في يناير/ كانون الثاني 1992، ثم في المؤتمرات الاقتصادية لما عرف بـ"الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" في الدار البيضاء عام 1994 وعمّان عام 1995 والقاهرة عام 1996 والدوحة عام 997.
وتضمنت برامج للتعاون الاقتصادي في قطاعات ومشروعات محددة: المشاركة في الموارد الطبيعية والتكنولوجية والبشرية، التعاون في ميادين البحث العلمي، توسيع أسواق المنطقة، جذب الاستثمارات الخارجية ومن دول النفط العربية، جذب مؤسسات التمويل الدولية للاستثمار في تطوير البنية الأساسية الإقليمية، وتأسيس صندوق إقليمي للتنمية في الشرق الأوسط. كما تقدمت تل أبيب أيضًا بمقترحات للتنسيق الأمني بين الدول العربية وبينها، وصولا إلى إقامة نظام للإنذار المبكر يقوم على جمع وتبادل المعلومات الاستخبارية والأمنية بينها وبين الأطراف العربية، وبما يكفل الحيلولة دون حدوث أزمات مفاجئة وإدارة الأزمة وقائيًّا.(19/378)
وقد تمكنت إسرائيل من تحقيق نجاح جزئي بدعم تام من الولايات المتحدة وتركيا في مجال التطبيع الاقتصادي وتوقيع معاهدة "سلام" مع الأردن في وادي عربة عام 1994 والتوصل لإعلانات أوسلو بين أعوام 1993 و1995 مع سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية، وبادرت دول الخليج العربي وتونس والمغرب بفتح مكاتب تمثيل تجاري لإسرائيل لديها، وزادت وتيرة التطبيع السري والعلني، ومن جانبها أقدمت دول الخليج العربية -تجاوبًا مع الوعود والتهديدات الأمريكية- على إلغاء المقاطعة الاقتصادية من الدرجتين الثانية والثالثة، أي مع الشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل أو لها فروع فيها.
وهكذا يمكن لنا ملاحظة أن "شرق الأوسطية" كمشروع أمريكي إسرائيلي صار يتوسع ليضم مختلف الدول العربية؛ حيث تم إفهام هذه الدول أن التطبيع لا بد أن يتضمن حيزًا أوسع. وهذا الطرح التوسيعي لـ"شرق الأوسطية" شدد عليه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب في كلمته أمام الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدريد عندما قال: "إن هدفنا ليس إنهاء حالة الحرب في الشرق الأوسط، وأن تحل محلها حالة عدم الحرب، إن هذا لن يستمر، لكننا نريد السلام الحقيقي، إنني أتحدث عن الأمن والعلاقات الاقتصادية والتجارية والتبادل الثقافي" (4).
توسع المشروع
ومن اللافت للنظر أن معظم النظم العربية -فيما عدا سوريا ولبنان- سارعت إلى الدخول في هذا المشروع شرق الأوسطي الموسع تحت أوهام عديدة منها أن إدراج إسرائيل في منظومة شرق أوسطية قائمة علي التعاون والتكامل الاقتصادي والمشروعات السياحية والتنموية المشتركة، وخصوصًا بين مصر وإسرائيل والأردن مع ضغط القاهرة وعمّان على السلطة الفلسطينية للانضمام إليها، من الممكن أن يدفع تل أبيب لتنفيذ التزاماتها الواردة في إعلانات أوسلو بشأن القضية الفلسطينية، وخصوصًا أن معظم النظم العربية توافقت ضمنًا مع بعضها البعض من جهة، ومع تل أبيب وواشنطن من جهة أخرى على الحيلولة دون عودة الكفاح المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل.
وبالطبع رفضت تل أبيب وواشنطن هذه "المقايضة" وصممتا على الفصل بين التطبيع الثنائي والإقليمي وبين التسوية السلمية للصراع على الجبهات الفلسطينية واللبنانية والسورية.
لكن ذلك الرفض لم تقابله النظم العربية الداخلة في المشروع شرق الأوسطي بتجميد روابط واتصالات التطبيع مع إسرائيل لإدراكها أن بقاء صلات ما بتل أبيب مدخل مهم للغاية لاستمرار علاقاتها الجيدة مع واشنطن، وحيث حرصت على ألا تشوبها أية شائبة، بل إنها التحقت بـ"التجمع شرق الأوسطي الموسع" بالمفهوم الأمني الذي أرادته له كل من واشنطن وتل أبيب عندما حضرت معظم الحكومات العربية ما سُمِّي "مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب"، والمقصود "الإرهاب" الفلسطيني خاصة بعد عمليات استشهادية عديدة استهدفت تل أبيب وعسقلان في عام 1996، وعقد المؤتمر بعدها مباشرة ومن أجل انتزاع إدانة رسمية عربية لها، وحضرته إلى جانب الدول العربية تركيا ممثلة في رئيسها وكذلك ممثل عن الاتحاد الأوربي والأمين العام للأمم المتحدة. ومن المفارقات أن حكومات مثل مصر والسعودية أطلقت على المؤتمر تسمية طريفة هي "مؤتمر صانعي السلام بشرم الشيخ"!!
لكن "شرق الأوسطية" هذه تعرضت للتوقف مرحليًّا مع مجيء نتنياهو إلى الحكم في إسرائيل في مايو 1996؛ بسبب سياسات الليكود بزعامته المتعسفة والمغالية في القمع الوحشي للشعب الفلسطيني.
التوجه الإمبراطوري الأمريكي
انتهزت دوائر اليمين المحافظ واليمين المسيحي الأمريكية الحاكمة في إدارة بوش الابن هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 والعدوان على العراق واحتلاله والإطاحة بنظام صدام حسين لفرض تصوراتها عما أسمته "الشرق الأوسط الكبير" والذي يقوم على إعادة صياغة كاملة للخريطة الجيو إستراتيجية للمنطقة العربية تتضمن الإجهاز على ما تبقى من بقايا النظام الإقليمي العربي، والعمل على طمس المقومات الثقافية/ الحضارية عروبية وإسلامية للوطن العربي عبر تذويب هذا الفضاء السياسي الجغرافي التاريخي الثقافي المشترك في نطاق إستراتيجي أوسع يمتد من بحر قزوين وشمال القوقاز شمالاً وشرقًا إلى المغرب غربًا.
وقد استندت دوائر اليمين المحافظ واليمين المسيحي وحلفاء إسرائيل ومعها مراكز بحوث مؤثرة في صناعة السياسة think-tanks مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا إلى مزاعم وتصورات غير متناسقة ويسيطر عليها الطابع البراجماتي ومن أهمها أن "الشرق الأوسط" هو منطقة الاضطراب الكبير في العالم ومصدر كبرى المشكلات والتهديدات القديمة والمستجدة للأمن القومي الأمريكي مثل الإرهاب وانتشار أسلحة التدمير الشامل والأصولية والتطرف والهجرة غير المشروعة... إلخ.(19/379)
وساقت أدلة على ذلك منها وجود نظام صدام حسين نفسه، وكون جميع من نسب إليهم القيام بالهجمات على واشنطن ونيويورك من بلدان عربية، وساعدهم آخرون من تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وباكستانيون وغيرهم من شرق الأوسطيين. هذا إلى جانب ما كرره المسئولون الأمريكيون، بدءاً من الرئيس الأمريكي بوش الابن نفسه ونائبه ديك تشيني إلى وزير الخارجية كولن باول إلى مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس إلى وزير الدفاع رامسفيلد وابنته إليزابيث ومستشاره "بيرل" ووكيل الوزارة "دوجلاس فايث" وغيرهم، بناء على بحوث وتقارير قدمتها مراكز بحوث يمينية مرتبطة بفريق بوش مثل "مؤسسة أمريكان إنتربرايز" و"مؤسسة هيريتاج"، ومفادها أن الطابع السلطوي للنظم العربية الحاكمة في دول كبيرة مثل مصر والسعودية وغيرهما إلى جانب مناهج التعليم والسياسات الثقافية والإعلامية والفساد السياسي والمالي، وكذلك غلبة نظم للحكم وأنماط للتفكير غير عصرية، تُعَدّ كلها مسئولة عن شيوع التطرف والإرهاب والتعصب وكراهية الولايات المتحدة والغرب وموجات الهجرة إلى الدول الغربية والحرمان الاقتصادي والاجتماعي.
ومن الملاحظ أن إدارة بوش الابن صممت على أن تقوم الولايات المتحدة بنفسها بهذه المهمة مباشرة وليس عبر إسرائيل.. مهمة إعادة الهيكلة الشاملة للوطن العربي والعالم الإسلامي فيما يعرف الآن بمشروع "الشرق الأوسط الكبير". وكانت إدارة بوش قد خيرت العالم كله بين تأييد ما يسمى الإرهاب أو محاربته، وحاول بوش الربط بين الإرهابيين وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وصمم على أن تحتكر إدارته وحدها تحديد التهديدات المختلفة، ولم يقبل بمشاركة الآخرين بمن فيهم الحلفاء الأوربيون أنفسهم في ذلك التحديد، بل هدّد الجميع بأن من لم ينضم إلى تصوره في هذا الصدد إنما يدخل أتوماتيكيًّا في خانة دعم الإرهاب أو التستر عليه(5).
وذكر بوش أيضًا أن أحداث سبتمبر أثبتت أن المؤسسات القديمة وكذلك التحالفات والقواعد لم تَعُد مناسبة لحماية الشعب الأمريكي، وأنه إذا لم يتمكن من قمع الإرهابيين، فإن ميدان عملهم سوف يتسع، وإذا تمكنوا من الوصول إلى أسلحة التدمير الشامل فسوف تترتب نتائج خطيرة. وخاطب بوش النظم العربية بالذات والعالم عمومًا بأن الولايات المتحدة سوف تتصرف في الوقت وبالطريقة التي تلائمها وتراها مناسبة عندما تتوصل إلى وجود رابطة بين الإرهابيين والتكنولوجيا المدمرة. بل ذكر أنه من الضروري هزيمة أعداء الولايات المتحدة وعدم الاكتفاء بالاعتراض على وجودهم(6).
هلع النظم العربية
ذكرنا أن معظم النظم العربية قبلت الدخول في المشروع شرق الأوسطي عندما كان يقتصر على التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني، بل وتسابقت على المشاركة فيه، لكن عندما توالت تصريحات وأفكار إدارة بوش الابن عن أن الشرق الأوسط الكبير هدفه الرئيسي إدخال الشرق الأوسط في دائرة الدمقرطة العالمية بالمعايير الأمريكية طبعًا التي والذي بدأ منذ إدارة ريجان في بداية الثمانينيات من القرن العشرين إلى بداية عهد إدارة بوش الابن، واقتصر على شرق أوربا وروسيا وأمريكا اللاتينية، فإذا بإدارة بوش الابن تعلن عن تصميمها على ضم الشرق الأوسط إلى دائرة الإصلاح الديمقراطي والسياسي ولو كان ذلك بالقوة، ولو أدى إلى إغضاب الأصدقاء والحلفاء من النظم العربية الموالية التي تعودت على تجاهل الولايات المتحدة لمثل هذه القضايا وتقديم مصلحتها الاقتصادية معها.
ومن هنا عبرت هذه النظم عن غضبها واستيائها من التصميم الأمريكي، وذكرت أن الديمقراطية لا تفرض من الخارج، مع أن غالبية سياسات وقرارات هذه النظم إنما جاءت وطبقت أساسًا بناء على ضغوط وإغراءات خارجية وأمريكية على وجه الخصوص. يمكن تفسير ذلك من قراءة جوهر مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي قدمته إدارة بوش بالفعل إلى قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى القادمة في جورجيا بالولايات المتحدة والتي ستعقد في يونيو/ حزيران 2004 .
وكانت واشنطن قد أجرت مناقشات عديدة مع بعض الوزراء الأوربيين في العاصمة واشنطن بغرض أن يكون الموضوع الرئيسي على جدول أعمال تلك القمة، وحتى يتم التنسيق بين التصور الأمريكي والتصور الأوربي الذي تقدمت به ألمانيا ممثلة في وزير خارجيتها يوشكا فيشر في فبراير/ شباط 2003 إبان القمة الأوربية التي عقدت في ألمانيا والتي دعت إلى إصلاح ديمقراطي في الشرق الأوسط وأساسًا في الدول العربية، ولكن نابع من الداخل إلى جانب مشروع تنمية متكامل وإصلاح عربي وتنمية مستديمة وأثارت المبادرة الألمانية أيضًا أهمية قضية المعرفة(7).
تعمد الرئيس الأمريكي بوش في خطبه منذ نهاية عام 2003 وحتى نهاية فبراير 2004 أن يغفل الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي أو "سلام الشرق الأوسط"، وقصرها على قضية التغيير السياسي في هذه المنطقة التي صارت تضم أفغانستان وباكستان وإسرائيل وتركيا إلى جانب كل الدول العربية.(19/380)
مشروع الشرق الأوسط الكبير عبارة عن أفكار غير معدة جيدًا ومتناثرة ولا تشبه خطة محددة أو مشروعًا متكاملاً، فمن أهم ملامح الجانب المتعلق بالتغيير الديمقراطي الذي تريده واشنطن هو ما تحدث عنه بوش في خطابه في السادس من نوفمبر 2003 عندما وصف المجتمع الديمقراطي الناجح المنشود بأنه مجتمع يضع حدودًا على سلطة الدولة وسلطة الجيش؛ لكي تتمكن الحكومة من الاستجابة لإرادة الشعب بدلاً من الاستجابة لإرادة النخبة فقط، وهو المجتمع الذي يشجع قيام المؤسسات المدنية السليمة وتشكيل الأحزاب ونقابات العمال ووجود الصحف ووسائل الإعلام المستقلة، أما اقتصاد هذه المجتمع فهو قائم على اقتصاد القطاع الخاص ويضمن حق الملكية الفردية ويعاقب الفساد ويخصص الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم للمواطنين ويعترف بحق المرأة، وبدلاً من توجيه مواطنيه نحو كراهية ورفض الآخرين يسعى إلى تحقيق آمال شعبه(8).
وبهذا المعنى أيضًا قدم كولين باول وزير الخارجية مبادرة الشراكة الأمريكية شرق الأوسطية، وإلى جانب القضايا الاقتصادية التي تتشابه مع ما ورد في خطاب بوش سالف الذكر، ذكر باول أن هذه المبادرة صممت لدعم الرجال والنساء والشباب في الشرق الأوسط في سعيهم نحو الديمقراطية والحريات المدنية وحكم القانون، وتحدث عن برامج واشنطن في هذا الصدد والتي تتضمن ما يلي(9):
- مساعدة المنظمات غير الحكومية والأفراد المنتمين إلى جميع الفئات السياسية العاملين في سبيل الإصلاح السياسي من خلال آليات كصندوق ديمقراطية الشرق الأوسط.
- دعم إنشاء مزيد من المنظمات غير الحكومية وشركات وسائل الإعلام المستقلة، ومنظمات إجراء الاستفتاءات ومؤسسات الفكر والرأي وغيرها.
- برامج شفافية النظم القانونية والتنظيمية وتحسين إدارة العملية القضائية.
- التدريب للمرشحين لمناصب سياسية ولأعضاء البرلمانات وغيرهم من المسئولين المنتخبين.
- التدريب والتبادل للصحفيين في الصحف التقليدية والصحافة الإلكترونية.
ورغم أن المبادرة تعرضت لقضية الإصلاح التعليمي، فإنها أشارت فقط لبرامج لتعلم القراءة والكتابة وتحسين سبل اكتساب المعرفة ومنح دراسية للبكالوريوس في الولايات المتحدة، أما هدف تغيير نظم ومناهج التعليم والسياسات الثقافية والإعلامية فقد ورد غالبًا في تقارير كشف النقاب عنها، والغرض من وراء ضغوط وإغراءات إدارة بوش وراء ذلك متعدد من أهم جوانبه العمل على إنهاء الكراهية والتعصب ضد الولايات المتحدة وإسرائيل والغرب عمومًا باعتبار أن هذه النظم والسياسات كما تزعم إدارة بوش هي المسئولة عن تفريخ الإرهابيين وتشكيل وعيهم!!. ثم ذكر بوش في خطب أخرى له أنه مصمم على تقديم الدعم لأنصار الإصلاحات الديمقراطية في البلاد العربية، وامتدح بعض النظم العربية التي أدخلت بعض الإصلاحات الديمقراطية وخص مصر بالتحديد عندما ذكر أنه آن الأوان لكي تقود مصر جهود الديمقراطية بعد أن قادت جهود ما سماه السلام من قبل.
لم يتوقف الأمر عند حد الدعوات، بل عبرت إدارة بوش عن استعدادها لخوض مواجهة عنيفة في هذا المجال، عندما عبرت عن غضبها الشديد من قيام الحكم المصري باعتقال ومحاكمة مدير مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية الدكتور سعد الدين إبراهيم، بل وألمحت إلى تصميمها على تخفيض المعونة الأمريكية لمصر إذا ما استمر إبراهيم في السجن. وعبّر بوش كذلك في خطابه في السابع من فبراير 2004 بمناسبة افتتاح معرض في مكتبة الكونجرس عن حياة القائد البريطاني ونستون تشرشل عن نفس المعنى وبصراحة أكبر عندما ربط بين مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية في العالم العربي، وأوضح أن أمريكا تتبع ما أسماه إستراتيجية لنشر الحرية في المنطقة وبأنها تواجه أعداء الإصلاح وتتصدى لمن أطلق عليهم حلفاء الإرهاب، وأكد على أن أمريكا صارت تطالب أصدقاءها الآن بما لم تفعل من قبل(10).
وذكر أن الديمقراطية ينبغي أن تفرض من الداخل حتى ينفي عن بلاده أنها تفرض الديمقراطية من الخارج، بالطبع يُعَدّ هذا تطورًا بارزًا في موقف إدارة بوش يبدو أنها توصلت إلى أن الديمقراطية لا تفرض من الخارج، وخصوصًا من قوة استعمارية تحتل العراق، بعد سماع نصائح حلفائها الأوربيين. وهو أمر على كل حال يدل على إدراك هذه الإدارة ولو جزئيًّا لهذه الحقيقة وهو ما أقرت به على الأغلب تحت ضغوط داخلية من الديمقراطيين في حمى التحضير للانتخابات الرئاسية القادة في نوفمبر 2004، ولكن هذه الإدارة لم تفعل الكثير في صدد التغيير الديمقراطي الفعلي وبما يقنع ولو جزئيًّا المواطن العربي الذي يرى وحشية قوات الاحتلال الأمريكي في العراق وقوات الاحتلال الصهيوني في فلسطين.(19/381)
الشرق الأوسط الكبير في طبعته الأمريكية الجديدة وهي طبعة يمينية محافظة لا تدرك أهمية إيجاد حلول للصراعات الإقليمية وعلى رأسها الصراع العربي - الصهيوني وضرورة خروجها من العراق كمدخل لتخفيف حدة الاستقطاب، ولا تدرك جسامة التناقض الكائن بين عدم إمكانية التوفيق بين الضربات الوقائية التي تتبناها هذه الإدارة ومتطلباتها الأمنية في إطار محاربة ما يسمى الإرهاب وبين الإصلاح الديمقراطي.
على أننا يجب ألا نغفل التطورات والتفاعلات الجديدة التي طرأت في الآونة الأخيرة، ومن أهمها أن مشروع الشرق الأوسط الكبير لم يَعُد أمريكيًّا محضًا، بل دخل الاتحاد الأوربي على الخط وتحول إلى "شراكة أوربية" مع المبادرة الألمانية التي أقرها الاتحاد في قمته سالفة الذكر والتي ربطت أيضًا بين الإصلاح الديمقراطي والتنمية الاقتصادية والتعاون الإقليمي.
ومن المهم أن تدرك النظم العربية، وكلها سلطوية وتحتل مرتبة متقدمة من بين دول العالم في سجلات ومؤشرات انتشار الفساد وغسيل الأموال القذرة، أن الأمر لم يَعُد يتوقف على إدارة أمريكية قد تأتي إدارة ديمقراطية بدلاً وتعود إلى سياسة عدم إحراج الأصدقاء، فقد انضمت أوربا إلى الموضوع. والنظم هذه مطالبة بالإصلاح الديمقراطي نزولاً على رغبات شعوبها ونضالاتها التاريخية من أجل العدل الاجتماعي والديمقراطية، وجهود مجتمعها المدني وتياراتها السياسية والثقافية، وهو السبيل الوحيد لتحررها من ضغوط أمريكا وأوربا في هذا الصدد، ويبقى السؤال: كيف يمكن أن يكسب العرب معركة الديمقراطية ومعركة التحرر الوطني مجددًا - معًا؟!
الهوامش:
1- محمد سيد أحمد، "الشرق أوسطية: الأبعاد السياسة والثقافية"، في: نادية مصطفى (محرر)، مصر ومشروعات النظام الإقليمي الجديد في المنطقة، أعمال المؤتمر السنوي العاشر للبحوث السياسية، القاهرة: 7-9 ديسمبر 1996، مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة، 1997، ص 205
2- نفس المصدر، ص 208.
3- وجيه كوثراني، "الشرق أوسطية والتطبيع الثقافي مع إسرائيل: البعد التاريخي وإشكالات راهنة"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 23، صيف 1995، ص9.
4- ورد في نشرة الإعلام الأمريكية الصادرة عن وكالة الإعلام الأمريكية في واشنطن، 30/10/1991
5- انظر كمثال:
Madeleine Alb r ight, "B r idges, Bombs, o r Bluste r ", Fo r eign Affai r s, vol.82, no.5, Septembe r /Octobe r 2003
6-انظر كمثال:
Joseph S. Nye, "US Powe r and St r ategy afte r I r aq ", Fo r eign Affai r s, vol.82, no. 4, July/August 2003
7-الأهرام القاهرية، 25/2/2004
8- www.aljazee r a.net
9- ibid.
10- www.aljazee r a.net/p r og r ams/washington/a r ticles
** أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة المصرية
===============(19/382)
(19/383)
مشروع الشرق الأوسط الكبير.. مشروب قديم في آنية جديدة
23/02/2004
السفير د.عبد الله الأشعل
أعلنت الإدارة الأمريكية من خلال الصحف والتصريحات الرسمية يوم 9 فبراير 2004 أنها عازمة على نشر الديمقراطية في "الشرق الأوسط الكبير"، على غرار معاهدات هلسنكي لعام 1975 التي ضغطت من أجل نشر الحريات في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية. كما أعلنت الإدارة الأمريكية أنها ستكشف عن تفاصيل هذه المبادرة في يونيو 2004، خلال قمة الدول الثماني بولاية جورجيا الأمريكية، وغيرها من القمم الأخرى؛ وأن المحادثات الرسمية قد بدأت فعلا مع بعض الحلفاء الأوربيين الرئيسيين في هذا الشأن. وأعلن الرئيس بوش عن فشل السياسة السابقة في دعم الزعماء العرب المستبدين، وأن الشرق الأوسط سيظل مكانا تموت فيه الحريات، ما دام يصدر الركود والاستياء والعنف.
والحق أن الإعلان عن هذه المبادرة لا يعدو أن يكون تكرارًا لنفس المبادرة التي أعلنها كولن باول وزير الخارجية في ديسمبر 2002، ووجدت أصداء سلبية في العالم العربي، ولم تفلح في تخدير العالم العربي قبل أن تقدم واشنطن على غزو العراق بعدها بأسابيع قليلة. كما أن نفس المبادرة التي قدمت مقتطفات عنها بزعم أنها مبادرة جديدة تماما، وأنها تمثل قفزة في التفكير الأمريكي تجاه العالم العربي، هي نفسها التي قدمها الرئيس بوش بالتفصيل في خطابه الشهير يوم 6 نوفمبر 2003 خلال الاحتفال بمضي 20 عاما على إنشاء الهيئة الأمريكية لدعم الديمقراطية؛ وهي الهيئة التي تولت تنفيذ التجارب الديمقراطية الفاشلة في إفريقيا، تنفيذا لمشروع الرئيس بوش الأب الذي أعلن عن قيام نظام دولي جديد قوامه نشر الديمقراطية في العالم؛ وذلك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 5 سبتمبر 1991. فكأن المبادرة الحالية هي -في الواقع- الطبعة الثالثة المنقحة للمبادرات السابقة لعام 2004، مع عدد من الفوارق البسيطة التي يحسن بنا أن نشير إليها، ونحن بصدد تسجيل الفكر السياسي الرسمي الأمريكي؛ وهي ملاحظات تتصل بمضمون المبادرة، والمدلولات السياسة لها، وتوقيت إعلانها.
ما هي هذه الملاحظات؟
الملاحظة الأولى: الإشارة إلى أن المبادرة الجديدة تشمل العالم العربي وجنوب آسيا؛ وهي المناطق الباقية في المساحات الخالية من العالم، والتي لا تزال تغط في سبات سياسي وركود اجتماعي في نظر واشنطن؛ ومن ثم تكمل واشنطن نشر الديمقراطية في العالم، بعد أن بدأته في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية من خلال معاهدات هلسنكي لعام 1975؛ وهذا ليس إلا محاولة من جانب الرئيس بوش لتذكير الأمريكيين بأن الحركة الدولية لحقوق الإنسان -التي استخدمت في إنهاء الشيوعية- سوف تواصل مهمتها؛ ولكن هذه المرة لقمع الإرهاب الذي يولده غياب الديمقراطية. وهذا التحليل صحيح، ولكن يعيبه عدم جدية الإدارة الأمريكية وعدم مصداقيتها.
الملاحظة الثانية: أن الخلط بين العالم العربي والشرق الأوسط ودمجهما فيما أسماه بوش "الشرق الأوسط الكبير" دون تحديد حدوده يشي بأن الخطة معدة للعالم العربي، في موجة جديدة، للانقضاض عليه لصالح المشروع الصهيوني. فلا شك أن الشرق أوسطية، والشرق الأوسط الجديد، ثم الشرق الأوسط الكبير، كلها مشروعات ترتكز على إسرائيل كقاعدة، ثم تنطلق لتطويع المنطقة العربية، كما حدث عندما بدأت مخططها في العراق.
الملاحظة الثالثة: هي أن مشروعات نشر الديمقراطية الأمريكية والغربية في أفريقيا بعد انتهاء الحرب الباردة قد فشلت تماما؛ ولكنها نجحت خلال الحرب الباردة في تفكيك النظم الشيوعية، ثم إلقاء دولها في أتون الفوضى والتدهور السياسي والاقتصادي، رغم أن الإدارة تنشر دائما الدراسات التي توهم بدور أمريكي في إعادة بناء الأمم. وإذا كانت مشروعات نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان قد ارتبطت بعدد من الحوافز، فقد ارتبط المشروع الجديد بفكرة العصا والجزرة، كما ارتبط المشروع بمزاج أمريكي، يقدم القوة العسكرية والإرهاب السياسي على كل الحوافز التي لوح بها.
الملاحظة الرابعة: المبادرة الجديدة تختلف تكتيكيا عن المبادرات السابقة في الشكل من حيث الحديث عن شرق أوسط كبير، وليس عن عالم عربي ديمقراطي. كما أن هذه المبادرة في طبعتها الجديدة تتحدث عن العمل الأمريكي مع الزعماء العرب، وليس رغما عن الزعماء العرب. وهي استجابة ذكية، ولكنها مكشوفة للمخاوف التي عبرت عنها بعض الدول الصديقة والحليفة للولايات المتحدة؛ بعد أن أدركت الإدارة الأمريكية ضعف البنية الأساسية للمعارضة وللشارع العربي عموما، وأن قوة الشرطة أقوى من حماس الجماهير، وأشد تأثيرا في حماية الفساد ومنع الإصلاح. وهو على أي حال موقف أمريكي تقليدي إذا استدعينا من الذاكرة ذلك االفصل الأسود في السياسية الأمريكية الذي كتب عنه الكثيرون في مساندة الديكتاتورية، والانقلابات العسكرية، وتطويع النظم للمصالح الأمريكية بقطع النظر عن وحشية هذه النظم ضد شعوبها.(19/384)
الملاحظة الخامسة: أنه إذا كانت مبادرة 2002 وكذلك مبادرة 2003 قد صدرتا في إطار محاولات الإدارة الأمريكية احتواء الغضب العربي، بسبب الاحتلال الأمريكي للعراق، وصرف الانتباه عن المقاومة العراقية؛ فإن مبادرة 2004 وإن اتصلت بشكل أو بآخر بالملف العراقي فإنها تتوجه بشكل أخص في الواقع إلى الناخب الأمريكي. فإذا كان الرئيس الأمريكي يواجه مرشحا ديمقراطيا (هو جون كيري) مكتسحا للساحة السياسية الأمريكية من الغرب إلى الوسط صوب الشرق أي واشنطن ونيويورك وبوسطن؛ مما ينذر بمواجهة حاسمة بينه وبين الرئيس بوش.. فإن بوش أراد بهذه المبادرة أن يهدئ من روع العالم العربي، وأن يبدي احتراما لرغبات وخصوصيات دول المنطقة، وهو يعلم علم اليقين أن ذلك بيع للوهم وتسويق للسراب؛ لأنه لا يضمن بقاءه في البيت الأبيض لفترة ثانية.
كما أن الإدارة الأمريكية الحالية قد دخلت من الناحية الفنية في مرحلة الشلل أو ما نسميه بمرض الموت السياسي، الذي يمنع من التصرف، إلى أن يموت المريض أو يشفى شفاء تاما؛ فأراد الرئيس بوش أن يقدم ما يظنه جديدا، ويذكر الناخب الأمريكي بأمجاد السبعينيات والثمانينيات في إدارات كارتر وريجان اللذين أسهما -كل بطريقته- في القضاء على الشيوعية؛ حيث غلف الرئيس بوش مشروعه بغلاف مقدس؛ وهو تفاني الشعب الأمريكي في توسيع دائرة العالم الحر، رغم كل التضحيات؛ وأنه ملتزم التزاما تاما بقيادة الثورة العالمية لنشر الديمقراطية التي تؤدي إلى اقتلاع جذور الإرهاب وتحرير العالم؛ مما يضر البشرية.
ونحن نعتقد أن الرئيس بوش يكمل هذه الصورة، عندما طالب دول العالم يوم 12 فبراير الجاري بالامتثال لاتفاقيات منع إنتاج أسلحة الدمار الشامل واستخدامها، والعمل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في هذا الاتجاه. وهذه دعوة طيبة لولا أنه استثنى إسرائيل، كما أنه سبق أن أعلن عن برامج أمريكية في مجال التسلح غير التقليدي؛ وهو ما يجعل دعوته يشوبها العوار وعدم المصداقية.
ستكون المبادرة الأخيرة..
والخلاصة أن المبادرة الأمريكية الجديدة الخاصة بالشرق الأوسط الكبير تعد تلاعبا بأشواق الشعوب العربية التائقة إلى التحرر من النظم المستبدة. كما أنها تعد تلاعبا على المستوى الأمريكي بالاتجاه القومي المتطرف الذي تحدث عنه كروسمان في مقاله القيم في الهيرالد تريبيون يوم 10-2-2004، عندما قارن بين شبكة فوكس للأخبار وما تبثه من أكاذيب تدعم الإدارة الأمريكية، وتعمل في خدمتها، وبين هيئة الإذاعة البريطانية التي تحترم الجمهور، ولو على حساب مصداقية الحكومة البريطانية.
وأخيرا.. فنحن نعتقد أن القيمة الوحيدة لهذه المبادرة هي أنها قد تكون آخر المحاولات الأمريكية في هذا الصدد؛ لما تتسم به من عدم الجدية، ولصدورها عن إدارة تحتضر سياسيا.. وظني أنها لم تقع موقعا مفيدا عند المتلقي الأمريكي.
============(19/385)
(19/386)
إستراتيجية الشراكة: "معا نقمع الإرهاب" (**)
25/02/2004
كولن باول - وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية
* ترجمة وتحرير: سالي هاني
عندما يفكر أغلب الناس في السياسة الخارجية الأمريكية هذه الأيام، فإن أول ما يتبادر إلى أذهانهم هو -فقط- مظاهر الحرب على الإرهاب التي تتجلى في إعادة إعمار كل من العراق وأفغانستان، في مشاكل الشرق الأوسط، في خلايا الإرهاب المختبئة في شرق آسيا، في العلاقات مع أوربا. وأنا أعتبر هذا الحكم المسبق أمراً طبيعياً.
لقد عصف الإرهاب الدولي بالوطن الأمريكي في 11 سبتمبر 2001، ولأسباب موضوعية ومبررة، يريد الشعب الأمريكي مثول المسئولين عن ذلك أمام العدالة، كما يريد كذلك فهم أسباب حدوث هذا الهجوم؛ ويطالب بسياسة خارجية تضمن عدم تكرار ذلك مرة أخرى.
ومن الطبيعي أن تتصدر الحرب على الإرهاب أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، وستظل كذلك لمدة طويلة؛ لأن الإرهاب -المرتبط واقعياً بتزايد أسلحة الدمار الشامل- يمثل الآن التهديد الأعظم لأرواح الأمريكيين. ويعد القضاء عليه أولوية تقود، ليس فقط إلى التحرك العسكري لكسر شوكة الإرهابيين الفرديين والدول الداعمة لهم، لكن تقود أيضاً إلى التعاون متعدد الأطراف لتفعيل قوة القانون.
إلا أن اتساع إستراتيجية الولايات المتحدة قد تجاوز حدود الحرب على الإرهاب، لأن اعتماد إستراتيجية محدودة للتعامل مع الأخطار لن يؤدي إلا إلى الفشل، كما لو كنت تحاول نزح الماء من داخل سفينة مثقوبة؛ بيد أن التركيز الشديد على خطوط المواجهة في الحرب ضد الإرهاب، جعل من الصعوبة على الشعوب إدراك حقيقة الإستراتيجية الأمريكية. ونحن جميعاً نعرف الحكمة القائلة بأنك يمكن أن تقود الفرس إلى مصدر الماء، ولكن لا يمكن أن تجبره على الشرب. وتنطبق تلك الحكمة تماماً على ما يحدث الآن؛ فالإدارة الأمريكية وضعت إستراتيجية خارجية ولكن يبدو أنها غير قادرة على إيصالها للآخرين.
الإستراتيجية الأمريكية مظلومة
ولا يستغرب أن يقوم منتقدو أي إدارة أمريكية بالقول إن الرئيس الأمريكي ليس لديه رؤية للعالم، وليس لديه بالطبع أي إستراتيجية. وتنسب كل أزمة إلى هذا التعليل، وكأن العالم يتشكل وفقاً لرغبات الولايات المتحدة. ومع الأسف فهذا الانتقاد يكاد يصدق في عهد بعض الإدارات الأمريكية، إلا أنه لا يصدق مع إدارة الرئيس بوش الابن. فالرئيس بوش لديه رؤية لعالم أفضل؛ ولديه كذلك إستراتيجية لترجمة هذه الرؤية إلى حقيقة.
وكان أول بزوغ لرؤية الرئيس بوش في سبتمبر 2002، مع صدور إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة NSS (National Secu r ity St r ategy)؛ تلك الوثيقة التي لم تتجاوز أربعين صفحة، ويتحدد خلالها أولويات السياسة الأمريكية في ثمانية محاور، تتضافر جميعها من أجل خلق إستراتيجية شاملة، عميقة وبعيدة المدى، تتيح للولايات المتحدة العديد من الفرص لمجابهة الأخطار التي تواجهها.
وبالتأكيد لا يمكن أن تكون الوثيقة صادقة في كل الخيارات الموضوعة، لكن لا يمكن كذلك التصريح بكل ما تنتوي الولايات المتحدة القيام به من خطط وأفكار. ومع ذلك يعد الأمر مثيراً للاستغراب أن تحظى إستراتيجية السياسة الخارجية بسوء فهم المراقبين الداخليين والخارجيين على السواء. فقد اتهمت إستراتيجية الولايات المتحدة بأنها أحادية التصميم، وأنها غير متوازنة فيما يتعلق بالوسائل العسكرية، وأنها متحيزة تجاه الحرب الاستباقية، وهذا كله غير صحيح.
إلا أنه، ومن السياق العام، يمكن أن نفهم أسباب هذا التحريف والتشويه للإستراتيجية الأمريكية. فقد وضعت إستراتيجية الولايات المتحدة مفهوم "الاستباقية" في الصدارة، عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وذلك لأسباب وجيهة: أولها طمأنة الشعب الأمريكي بأن الحكومة لديها القدرة على الحكم على الأمور بصورة صائبة وحصيفة. بعبارة أخرى، إذا كان لدينا القدرة على تحديد مكامن الخطر، فلا يجب الانتظار حتى تعاود الهجوم علينا مرة أخرى. وثاني هذه الأسباب، هو إبلاغ خصومنا بأنهم بحق في مشكلة كبرى، وأن مزيداً من الهجمات الإرهابية يعني فرصا أكبر للوقوع في الأخطاء. علاوة على ذلك، نجد أن بعض الدول تشارك في الإرهاب ليس لأسباب أيدلوجية، ولكن لأسباب نفعية انتهازية. ويجدر بنا -في هذا الصدد- تنبيه قادة تلك الدول بأن تكلفة ذلك ستكون غالية.
وبالرغم من منطقية السببين السابقين، فإن بعض المراقبين يبالغون في تصوير حجم "الاستباقية" في السياسة الخارجية، ومدى أهميتها في إستراتيجية الولايات المتحدة ككل، بالرغم من أن مفهوم الاستباقية لم يرد ذكره في إستراتيجية الولايات المتحدة NSS سوى مرتين على مدار ثمانية فصول كاملة.
وعلى الصعيد الداخلي، تحزّب البعض ضد الإستراتيجية دون إبداء أسباب محددة، في محاولة لتشبيه ظهور مفهوم "الاستباقية" في مطلع القرن الحادي والعشرين بظهور مفهوم "الصاروخ القعقاع" r ocket r attle في فترة الحرب الباردة.
الشراكة هي شعار إستراتيجيتنا(19/387)
تلزم إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة بتطبيق مبدأ الاستباقية، ولكن تحت ظروف محددة للغاية، أي أن الإستراتيجية لا تعرّف بأنها "استباقية". وفوق كل هذا، فإن إستراتيجية الرئيس بوش ما هي إلا واحدة من إستراتيجيات الشراكة، الساعية لتأكيد الدور الحيوي للناتو وباقي حلفاء الولايات المتحدة بما فيهم الأمم المتحدة. وعليه، يمكن اعتبار "الشراكة" هي شعار إستراتيجية الولايات المتحدة، لأن الشراكة لا تعني التميز عن الآخرين، بل تعني العمل معهم. ومن خلال ذلك، يسعى الرئيس بوش إلى عمل شراكات جديدة، قادرة على مواجهة تحديات بعضها عالمي المنظور، كالشراكة لمكافحة مرض الإيدز، وبعضها إقليمي كمبادرة شراكة الشرق الأوسط؛ والتي تقدم مساعدات من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي في العالم العربي. وتنبني إستراتيجية الرئيس بوش على الترويج للحرية والكرامة عبر العالم كله، وبالطبع نحن نؤيد هذه القيم دائماً وأبداً.
وتحتل مبادرتا "حرية التجارة" و"المبادرة الأمريكية للتنمية الاقتصادية" مكاناً بارزاً داخل إستراتيجية الرئيس بوش، كما تمثل جهود أسلحة الدمار الشامل جزءاً من هذه الإستراتيجية. وتطالب إستراتيجية بوش بلعب دور أكبر في حل الصراعات الإقليمية، تلك الصراعات التي لا تنطوي فقط على تعذيب شعوبها، بل تمتد لتأجيج الصراعات داخل مجتمعات أخرى آمنة، بما يشعل في النهاية فتيل الإرهاب. وهنا يعد دور الولايات المتحدة في حل الصراعات الإقليمية أكثر أهمية من جمع الفلسطينيين والإسرائيليين على مائدة السلام؛ ولا يعنى هذا التخلي عن الصراع في الشرق الأوسط، بقدر ما يعني تغيير وسائل الدبلوماسية الأمريكية في حل الصراع؛ والتي تمثلت في عقد الشراكة الرباعية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوربي، روسيا، والأمم المتحدة).
والأهم من ذلك هو تأكيد الإدارة الأمريكية على ضرورة إجراء إصلاحات جوهرية داخل السلطة الفلسطينية إذا أراد الفلسطينيون تحقيق السلام. وبعد أن بدا واضحاً أن الولايات المتحدة لن تعيق الجهود الإسرائيلية للدفاع عن نفسها ضد الإرهاب الفلسطيني، زادت الأصوات المنادية بالإصلاح داخل المجتمع الفلسطيني، مما أوجد محمود عباس أبو مازن على الساحة، إلا أن جهوده -ومع الأسف- قد أجهضت على يد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والذي ما زال يعيق جهود خلفه أحمد قريع. ولا يبدو الرئيس عرفات متحمساً للسلام بل عائقاً له. وعلى الرغم من إخفاق المحاولات الأمريكية، فإنه قد بدا جلياً للجميع أين يكمن أصل المشكلة.
وقد استرعت الصراعات الإقليمية الأخرى انتباه الولايات المتحدة بنفس قدر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كمعاناة الشعب اللبناني، أزمة السودان، والوضع في جمهورية الكونغو الديمقراطية. ولم تنس أمريكا البلقان، شمال أيرلندا، وتيمور الشرقية. فنحن نعمل على إحراز التقدم في معظم -إن لم يكن كل- هذه المناطق، وذلك بتدعيم ومشاركة الحكومات الساعية للسلام.
حان وقت التعاون.. لنرحم التاريخ
تعد أهمية تنمية علاقات التعاون بين قوى العالم الكبرى مفتاح نجاح إستراتيجية الولايات المتحدة ضد الحرب على الإرهاب؛ صحيح نحن نقر بأن العالم كان وما زال يتغير، لكن المهم هو تحديد أسلوب تغييره. وأرى أن اللحظة الحاسمة، طوال السنوات القليلة الماضية، كانت لحظة هدم سور برلين في 9 نوفمبر 1989، والتي أعلنت نهاية الحرب الباردة، ونهاية الصراع بين الليبرالية والشمولية الذي شكّل أغلب ملامح القرن العشرين. ويرى الرئيس بوش أن المجتمع الدولي لديه اليوم أفضل الفرص -منذ صعود الدولة القومية في سبعينيات القرن الماضي- لبناء عالم تتنافس فيه القوى الكبرى، لتحقيق السلام بدلاً من الإعداد للحرب.
إن التنافس لبسط النفوذ وامتلاك المواد الخام لم يحقق السلام، بقدر ما يمكن أن يحققه استثمار القوى البشرية، الثقة الاجتماعية، والتعاون بين الدول. ويجب ألا تكون مصادر القوى والأمن لدولة ما مصادر تهديد للدول الأخرى. بل إنه لو سارت كل القوى اليوم -بدلاً من إزهاق الأرواح والثروات بمعاداة بعضها البعض- في اتجاه واحد لحل المشاكل المشتركة، فسنرحم التاريخ من كثير من الحماقة البشرية.(19/388)
إن واحداً من المشاكل الشهيرة هو -بالطبع- الإرهاب، وتسعى الإستراتيجية الأمريكية لحل هذه المشكلة من خلال التكامل؛ وتبدو منطقية هذا الاقتراب في حقيقة أن الإرهاب يهدد النظام العالمي نفسه؛ ومن ثم يخلق مصلحة مشتركة بين كل القوى التي تقدر قيم السلام، الرفاهية، ودور القانون. فقد قضى العالم المتقدم آلاف السنين في محاولة للحد من ويلات الحروب، بتحديد الفرق بين المدنيين والعسكريين، الأمر الذي يحاول الإرهاب محوه الآن، إلا أننا لن نسمح باستمراره في هذا، ليس لأننا نريد أن نجعل العالم آمناً من الحروب، ولكن لأن علينا طمأنة الشعوب بأن العالم لم يستبدل أخطار الحاضر بأخطار الماضي. ويعد الصالح العام لكل القوى الكبرى، هو محاربة الإرهاب، وهي الفرصة التي تقدمها الولايات المتحدة الآن من خلال إستراتيجيتها؛ وبالطبع يجب أن تكون البداية من الجانب الأمريكي، ثم الأصدقاء، وعلى رأسهم الناتو.
وقد تنبأ بعض المراقبين بانهيار الناتو بعد الحرب الباردة؛ وتنبأ آخرون بتصادمات وتعارضات بين شقيه الأمريكي والأوربي، إلا أن كلا التنبؤين لم يصدقا؛ فقد استمر الناتو بل واتسعت عضويته ومهامه. صحيح أنه حدثت بعض الاختلافات، إلا أنها اختلافات بين الأصدقاء؛ فالعلاقة عبر الأطلانطية مبنية على المصالح المشتركة، والقيم التي تتخطى اختلاف الأشخاص والأحداث. فأوربا الحديثة والقديمة ما تزال أعز الأصدقاء؛ ولهذا يستمر حديث الرئيس بوش عن الشراكة مع أوربا وليس الاستقطاب. ونحن لا نوافق على ما يدعيه البعض حول ضرورة التعددية القطبية، ليس لأننا لا نهتم بالتنافسية والاختلاف، بل لأنه لا أقطاب بين أفراد الأسرة الواحدة؛ ونحن نؤمن بضرورة الحديث حول التغلب على الاختلافات بدلاً من الاستقطاب.
معانقة القوى الكبرى
نحن نبذل قصارى جهدنا لتحقيق علاقات أفضل مع كل الأمم، صغيرها وكبيرها، حديثها وقديمها، إلا أنه ولأسباب عملية، نهتم أكثر بالعلاقات مع القوى الكبرى، خاصة هؤلاء الذين كانت تجمعنا بهم خلافات في الماضي كروسيا والهند والصين.
وقد تحولت علاقتنا مع روسيا على نحو واضح منذ نوفمبر 1989؛ هذا بفضل جهود الرئيسين بوش وبوتين، وبعد أن أبدت روسيا اهتمامها بمحاربة الإرهاب، والقضاء على الانتشار العالمي لأسلحة الدمار الشامل. كما توسعت العلاقات الاقتصادية، ونحن في انتظار المزيد في المستقبل. وربما تعارضت أيدلوجيات البلدين يوما ما، إلا أن روسيا اليوم أصبحت أكثر ديمقراطية؛ وعلينا أن نتحلى بالصبر، حتى تتمكن روسيا من تنمية مؤسساتها الديمقراطية، والقضاء على الفساد المتجذر للحقبة السوفيتية. صحيح أننا لا نتفق معها في كل شيء -بعد أن اتخذت روسيا موقفاً معارضاً للولايات المتحدة في حربها ضد العراق- إلا أننا نأمل أن تغير روسيا من سلوكها تجاه البرنامج النووي الإيراني؛ وكذا المسألة الشيشانية.
وبينما تستمر روسيا في تحقيق الديمقراطية، تعود ديمقراطية الهند إلى تاريخ استقلالها في 1947؛ هذا مع إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية، بما يجعلها بحق سوقا اقتصادية ناضجة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الهند ما تزال تعاني من بعض التحديات، كالأمية والفقر والانحلال البيئي. وما نريده هو مساعدة الهند للتغلب على هذه التحديات. وبناء عليه، عملنا على توثيق علاقتنا مع الهند؛ وفي نفس الوقت أصبحنا قادرين على تعزيز علاقتنا مع باكستان، في الوقت الذي ما زال فيه الصراع دائراً بينهما حول إقليم كشمير. وخلال عام 2002 بدت الحرب بينهما -وربما باستخدام الأسلحة النووية- وشيكة. وبالتعاون مع شركائنا الأوربيين والآسيويين، يمكن إنهاء تلك الأزمة. وتحاول الولايات المتحدة تحقيق ذلك بأن تصبح الضلع الثالث في مثلث حل الصراع الهندي الباكستاني. ليس معنى ذلك أن تقحم الولايات المتحدة نفسها كوسيط لحل الصراع، ولكنها تحاول استثمار ثقة كلا الطرفين لحل الصراع سلمياً.
وبالرغم مما شاب العلاقات الأمريكية الصينية من توتر في بداية حكم إدارة بوش، فإن العلاقة أضحت الآن الأفضل منذ عهد الرئيس ريتشارد نيكسون منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وقد رحبت إستراتيجية الولايات المتحدة بدور عالمي أكثر قوة للصين. وبالرغم من عدم اتساق المصالح الأمريكية الصينية حول كوريا الشمالية تماماً، فإن كلا الطرفين لا يريد تنامياً نووياً في تلك المنطقة، ولا يتمنى بالتأكيد حرباً كورية أخرى. ومن ثم، عملت الصين والولايات المتحدة على توحيد مصالحهما، وتحويلها إلى تعاون بنّاء لمواجهة تحديات بيونج يانج؛ هذا بالتعاون مع اليابان وروسيا وكوريا الجنوبية في هذا الشأن. وبالرغم من أن الطريق ما يزال طويلاً في التعامل مع أخطار البرنامج النووي لكوريا الشمالية، فإن الرئيس بوش كان -وما زال يؤكد- على عدم اعتزام الولايات المتحدة شن الحرب على كوريا الشمالية؛ لأن الولايات المتحدة لا تريد إلا السلام والأمن.(19/389)
وتعد الفرصة الآن سانحة لكوريا الشمالية، لتبديل سلوكها، وإنهاء برنامجها النووي، والوصول إلى حل دبلوماسي للأزمة؛ وعندئذ سنعلن صراحة أن الدبلوماسية الأمريكية صممت لتحقيق المصالح القومية والعالمية على السواء؛ وسنُري العالم كيف يمكن تنمية القوى الأخرى مع، وليس ضد الولايات المتحدة.
ديمقراطية + صحة + تنمية = سلام
يجب علينا ألا نتعامل مع السلام السائد الآن بين الأمم كمسلمة حتمية؛ فالسلام لن يدوم إذا لم ننمه. وبالطبع علينا تعزيز حقوق الإنسان، الديمقراطية، مساعدة الشعوب للتغلب على الفقر والنهوض بالنظام العالمي للصحة العامة. وتلك هي الأهداف المحورية للسياسة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين؛ فنحن نحارب الإرهاب؛ لأن ذلك أمر حتمي وضروري؛ لكننا نسعى إلى عالم أفضل، ونحن قادرون على ذلك، ونستحق ذلك. وهذا ما يجعلنا نتعهد بتحقيق الديمقراطية، التنمية، الصحة العامة وحقوق الإنسان كبنية صلبة للسلام العالمي.
وقد يكون من الصعب الادعاء بأن السياسة الخارجية لإدارة بوش خالية من الأخطاء، فنحن بشر والبشر خطاءون؛ ولكن عزاءنا أننا نبحث عن مصلحة الشعب الأمريكي، والتي قد تضعنا أحياناً في مواجهة مع الإرهابيين، أو أولئك الذين يريدون لنا الشر؛ وهؤلاء لا نقبل لهم نصيحة، أو تعاونا، أو شفاعة. وفي النهاية.. فإن ما نحتاجه هو التشجيع.
(عن دورية الشؤون الخارجية عدد يناير / فبراير 2004)
==============(19/390)
(19/391)
ماذا وراء "وصفة بوش" الديمقراطية للعرب؟!
11/11/2003
القاهرة - محمد جمال عرفة **
في ديسمبر الماضي 2002 طرح مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية (هاس) خطة أمريكية للديمقراطية في العالم العربي والإسلامي تقوم على تشجيع الديمقراطية في المنطقة العربية، كان ملخصها -وفق خطة هاس- أن إدارة الرئيس بوش "استفادت من عدة دروس، واسترشدت بها في مسعاها الجديد بشأن تلك الدول".. وأن "هجمات سبتمبر ضد مركز التجارة والبنتاجون علمتنا درسا صعبا، وهو أن المجتمعات المقهورة يمكن أن تصبح تربة خصبة للمتطرفين والإرهابيين الذين يستهدفون الولايات المتحدة لدعم أنظمة يعيشون في ظلها".
وفي 3 إبريل 2003 عادت نفس الخطة لتتردد بعدما أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية (بيان حقائق) عن الخطة المسماة "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط"، ركز فيها الرئيس الأمريكي بوش على تقديم معونات مالية (أكثر من ألف مليون دولار سنويا) بهدف تغيير برامج التعليم، والإصلاح الاقتصادي، وتقوية المجتمع المدني في الدول العربية.
ثم جاءت الدعوة الثالثة في 6 نوفمبر الجاري 2003 من الرئيس الأمريكي بوش للعرب للدخول إلى عالم الديمقراطية، وإنهاء عهود الديكتاتورية، وتدخل الجيوش في الحكم؛ لتؤكد أن الخطة الأمريكية مستمرة، وأن هناك إصرارا أمريكيا على تنفيذها لتحقيق الهدف المتعلق بوقف تصدير العنف من هذه الدول -كما يقول المسئولون الأمريكيون- إلى أمريكا؛ حيث حرص الرئيس بوش هذه المرة على تكرار ما جاء في خطة هاس الأولى بشأن العنف.
حيث قال بوش بوضوح -في الخطاب الذي ألقاها أمام المؤسسة الوطنية للديمقراطية في واشنطن-: "طالما أن الشرق الأوسط يبقى مكانا لا تزدهر فيه الحرية سيبقى منطقة ركود واستياء وعنف جاهز للتصدير"، وقال: "إن "فشل الديمقراطية في العراق سيشجع الإرهابيين في العالم بأسره، وسيزيد من المخاطر على الشعب الأمريكي، وسيقضي على آمال الملايين في المنطقة".
واعتبر أن "الكثير من حكومات الشرق الأوسط بات يعي الآن أن الديكتاتوريات العسكرية والحكومات الثيوقراطية تؤدي إلى الطريق المسدود فقط، لكن البعض منها لا يزال يتمسك بعادات قديمة تتمثل بحكم مركزي".
كما أوضح أن على هذه الحكومات أن تحد من نفوذ الدولة والجيش والحرص على تطبيق حكم القانون وبناء مجتمع مدني بما في ذلك وسائل إعلام مستقلة وضمان حرية المعتقد واعتماد اقتصاد السوق ومنح المرأة حقوقها السياسية.
واعتبر أن "شعوب هذه المنطقة كانوا لفترة طويلة ضحايا خاضعين، ويستحقون الآن أن يصبحوا مواطنين فاعلين"، مشددا على ضرورة اعتماد "إستراتيجية للحرية" في المنطقة.
وقال الرئيس الأمريكي: إن العالم العربي لم يلحق بالركب الديمقراطي الذي يجتاح العالم، ودلل على قوله هذا بتقرير التنمية البشرية الثاني الذي أصدره برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة، والذي جاء فيه أن الموجة العالمية للديمقراطية "بالكاد لامست الدول العربية"؟!
"خطة" حسب الحاجة!
ومشكلة الخطط الأمريكية الداعية للديمقراطية في العالم العربي والإسلامي أنها ليست لوجه الله، وأن كل خطة منها صدرت لتلبية حاجة ما، وهو ما يشكك في مصداقية الخطة الأصلية بشأن السعي لتطبيق الديمقراطية في العالم العربي لاتقاء خطر انتقال العنف المتولد هناك من المواجهات بين الحكومات والإسلاميين إلى الخارج كما حدث في 11 سبتمبر.
فخطة "هاس" جاءت كرد فعل مباشر لأحداث 11 سبتمبر، وركزت على الرغبة في المساعدة على تطبيق الديمقراطية سلميا وليس فرضها حتى وصل الأمر للإقرار بحق الأحزاب الإسلامية في الوصول للحكم إذا جاءت بها صناديق الانتخاب!
و"مبادرة الشراكة" شوهها سعي بوش لفرض فكرة "الشرق أوسطية" ضمنها؛ بحيث تصبح الدولة الصهيونية جزءا من الخطة، ويصبح تعامل الحكومات العربية معها فرضا، وإلا حُرم العرب من المشاريع الاقتصادية والفوائد المادية للمبادرة!
أما "خطاب بوش" الأخير الذي فتح فيه النار على الحكومات العربية؛ فجاء ليس فقط ليلبي حاجة أمريكية تتمثل في التغطية على المشاكل الأمريكية مع المقاومة في العراق والسعي لإلهاء العرب بالجدل حول الديمقراطية، ولكن أيضا ليلبي حاجة إسرائيلية تتمثل في الهجوم -من جانب بوش- على أعداء إسرائيل، خصوصا سوريا وإيران، وبالمرة الغمز واللمز في مصر!
حيث حمل بوش على إيران، وحذر من أن قيادتها يجب أن تحذو حذو هذه الدول، "والرد على توق الشعب الإيراني إلى الديمقراطية، وإلا فقدت آخر عناصر شرعيتها"، وذلك رغم أن إيران بها ديمقراطية يشيد بها الجميع وتداول للسلطة.
كما حمل على سوريا والفلسطينيين مركزا على ما أسماه تغاضيهم عن أنشطة الإرهاب، وعرقلتهم الإصلاحات الديمقراطية.(19/392)
فقد ظهر بوش في خطابه هذه المرة كمن يمهد للسياسات الصهيونية ضمنا في المنطقة من خلال شن هجوم على الدول التي تعادي أمريكا وإسرائيل لإلهائها بمسألة الديمقراطية عن مواقفها المناهضة للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، كما أنه سعى لإلهاء هذه الدول بالديمقراطية بحيث تنشغل ببيوتها الداخلية عن مناكفة أمريكا في العراق ومناكفة الصهاينة في حربهم ضد الفلسطينيين!
فتش عن اللوبي الصهيوني
بل إن عددا من المحللين العرب قالوا: إن المبرر وراء خطاب بوش هو نصرة المصالح الصهيونية، ووضْع مزيد من الضغوط على الدول العربية، وقال بعضهم: إنه لا يستبعد أن يكون الإسرائيليون هم الذي نصحوا الرئيس بوش بالإعلان عن اكتشافه الخطير (الديمقراطية)، والدعوة إلى تطبيقها في العالم العربي وإيران، وغيرها من الدول المعادية لإسرائيل ولأمريكا معا!.. كما لم يستبعدوا أيضا أن يكون "اللوبي اليهودي الأمريكي" هو الذي يقف وراء تلك الدعوة التي يهاجم فيها الرئيس بوش الحكومات العربية، وبالذات تلك التي تعادي إسرائيل رغم حاجة الإدارة الأمريكية لهذه الحكومات في مواجهة من يصفونهم بـ"الإرهابيين".
وربما لفت هذا التخبط من جانب الإدارة الأمريكية نظر صحيفة "واشنطن بوست"؛ فكتبت في مقال تحليلي يوم 7 نوفمبر تشير لما أسمته "المعضلة الأمريكية" التي تتمثل في الرغبة في انتقاد ومهاجمة الحكومات العربية غير الديمقراطية.. وفي الوقت نفسه الحاجة إلى دعم هذه الحكومات فيما يسمى الحرب ضد الإرهاب، فقالت: "إن بوش لم يتحدث عن الواقع الصعب الذي سيحد -على الأرجح- من أي تقدم كبير في المستقبل القريب في هذه المنطقة"، و"إن الأولوية الكبرى للولايات المتحدة تبقى مكافحة الإرهاب، وعليها في سبيل ذلك الاعتماد دائما وبقوة على تحالفات مع أنظمة دينية".
صحيح أن بوش انبرى في خطابه للدفاع عن الدين الإسلامي والاتهامات الموجهة له من جانب غربيين بأنه لا يقبل الحكم الديمقراطي، وشدد على أن الديانة الإسلامية "تنسجم تماما مع مبادئ الحكم الديمقراطي، واستشهد بعدد من الدول الإسلامية التي تحكمها أنظمة ديمقراطية، ومنها تركيا وإندونيسيا والسنغال والنيجر.. إلا أنه فشل في الربط بين الإسلام والحكومات العربية عندما تحدث عما أسماه "الحكومات الثيوقراطية" (أي الدينية) في المنطقة قاصدا على وجه التحديد إيران.
والحقيقة أن القراءة الدقيقة لخطاب بوش تثير بالفعل الحيرة، وتدعو للتساؤل عن الهدف الحقيقي من الخطاب؛ فهو هاجم بقسوة غياب الديمقراطية في العالم العربي وانتعاش الديكتاتوريات، وقال بوضوح: إن هذا يضر بمصالح أمريكا؛ حيث سيتحول غضب المضطهدين في هذه الدول نحو أمريكا كما حدث في 11 سبتمبر اعتقادا بأن واشنطن تساند هذه الأنظمة، ولكنه عندما تحدث بالتفصيل عن هذه الدول امتدح دولا غير ديمقراطية في الواقع، وهاجم دولا ديمقراطية!
فالرئيس بوش أشاد بالمملكة العربية السعودية وخطواتها نحو الديمقراطية، وانتقد مصر رغم أن الوضع الديمقراطي في مصر أفضل بكثير من نظيره في السعودية، وهناك نوع من حرية الصحافة وتعدد أحزاب وحقوق جيدة للمرأة، بينما لا توجد أي من هذه الأشياء في المملكة العربية السعودية.
أيضا أشاد بوش بدول ليست ديمقراطية وفق المعايير المعروفة للكلمة، رغم أنها بدأت خطوات إيجابية في هذا الطريق، مثل البحرين وقطر والمغرب وسلطنة عمان، وبالمقابل هاجم إيران بعنف، وتحدث عن فقدان حكومتها الشرعية رغم أنها تطبق معايير ديمقراطية وبها انتخابات حرة.
لماذا الهجوم على مصر؟
والمدهش أن هذه هي المرة الأولى التي يهاجم فيها رئيس أمريكي مصر حليفة الولايات المتحدة منذ السبعينيات؛ حيث قال بوش: "إنه يجب أن تقود (مصر) الطريق إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط"، ودعاها إلى تزعم مجهود الدمقرطة في العالم العربي، كما فعلت بتزعمها عملية السلام العربية الإسرائيلية. قائلا: "لقد مهد الشعب المصري العظيم المعتز بنفسه الطريق نحو السلام في الشرق الأوسط، والآن بات عليه أن يمهد الطريق نحو الديمقراطية".
صحيح أن هناك بوادر أزمة في العلاقات بين الدولتين بسبب الموقف المصري المساند للسلطة الفلسطينية والرافض لزيادة الضغوط على الفلسطينيين لحد تفكيك منظمات المقاومة الفلسطينية، وبسبب الموقف المصري المتعلق بتجميد العلاقات مع الصهاينة وسحب السفير المصري من تل أبيب وعدم تعيين جديد.. ولكن الغضب الأمريكي الأكبر على مصر ربما يأتي من أن العقول المنفذة والمدبرة لهجمات 11 سبتمبر أغلبها لمصريين خرجوا من مصر وتحمّل واشنطن الحكومة المصرية المسئولية عن تصديرهم العنف إلى نيويورك.(19/393)
أيضا هناك حالة من الغضب المصري تجاه السلوكيات الأمريكية المتزايدة باتجاه نصرة شارون على العرب، وإطلاق يده ضد الفلسطينيين العزل، والغضب من السعي الأمريكي للتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية ومنها مصر، كما حدث في قضية ابن خلدون (إحدى لجان الكونجرس الأمريكي وافقت هذا الأسبوع على طلب بخصم مبلغ مليوني دولار سنويا من المعونة الأمريكية لمصر تخصص لمركز ابن خلدون)، وتصريحات السفير الأمريكي غير اللائقة.
وربما لهذا قال وزير الخارجية المصري أحمد ماهر -ردا على خطاب بوش-: "إن مصر لا تحتاج إلى قرار من أحد بديمقراطيتها"، كما هاجمت الصحف الرسمية المصرية (الأهرام وأخبار اليوم) الرئيس بوش شخصيا ووصفته بـ"الجهل" بما يحدث في الدول العربية، ووصفت سعيه لفرض الديمقراطية على العرب بأنه تدخل في شئونها الداخلية.
ويبدو أن المحصلة الأخيرة للغمز واللمز في مصر في خطاب بوش استهدفت البدء بالضغط عليها كونها قائدة العالم العربي، وفي الوقت نفسه السعي لوضع مزيد من الضغوط عليها، خاصة أن هناك عشرات التقارير التي تصدر عن مؤسسات أمريكية لها صلات بمؤسسات الحكم بدأت تعرّض بالحكومة المصرية، وتركز على قضايا توريث الحكم والغضب الأمريكي من رفض مصر الضغط على عرفات (مجلة أتلانتك مونثلي الأمريكية عدد أكتوبر 2003).
وصفة بوش!
وقد سعى الرئيس الأمريكي لوضع ما يمكن تسميته "وصفة بوش"، وكي تسير عليها الحكومات العربية لتنال الرضا الأمريكي حرص على الحديث فيها عن مبادئ عامة للديمقراطية.
ففي وصفه للمجتمع الديمقراطي الناجح، قال بوش: "إن المجتمعات الناجحة تضع حدودا لسلطة الدولة وسلطة الجيش لكي تتمكن الحكومة من الاستجابة لإرادة الشعب بدلا من الاستجابة لإرادة النخبة ليس إلا (كلامه يدعم ضمنا حزب العدالة التركي)، والمجتمعات الناجحة تقوم بحماية الحرية عبر القانون الدؤوب وغير المجتزأ، بدلا من تطبيق القانون بصورة انتقائية لمعاقبة خصومها السياسيين. والمجتمعات الناجحة تسمح بقيام المؤسسات المدنية السليمة، وبتشكيل الأحزاب السياسية، ونقابات العمال، وبوجود الصحف ووسائل الإعلام المستقلة".
وأضاف أن "المجتمعات الناجحة تضمن حرية العقيدة والحق في إجلال الله وعبادته دون خشية التعرض للاضطهاد، والمجتمعات الناجحة تسلم اقتصادياتها للقطاع الخاص، وتضمن حق الملكية الفردية، كما تحظر وتعاقب الفساد الرسمي، وتخصص الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم لمواطنيها. وهي مجتمعات تعترف بحقوق المرأة. وبدلا من توجيه مواطنيها نحو كراهية ورفض الآخرين فإن المجتمعات الناجحة تسعى لتحقيق آمال شعوبها".
"وصفة بوش" تبدو بالتالي خلطة من النصائح الديمقراطية المنقولة من كتب تعليم الديمقراطية، ومن نصائح مستشاريه في اللوبي الصهيوني ومستشاريه بالخارجية الأمريكية.
ويصعب القول: إن هناك من يعارض تطبيق الديمقراطية في العالم العربي، ولكن الازدواجية الأمريكية في المعايير تثير الشك حول الأهداف الحقيقية لإطلاق هذه الوصفة، وهل الهدف هو الضغط على الحكومات العربية لصالح إسرائيل أيضا، أم القيام بعمل إعلامي يغطي على خسائر العراق، ويسهم في مزيد من الضغط على مناهضي السياسة الأمريكية في العراق خصوصا سوريا وإيران؟!
============(19/394)
(19/395)
خطاب بوش في احتفالية مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية*
10/11/2003
الرئيس الأمريكي بوش
الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي بوش يوم 6 نوفمبر 2003 في احتفالية مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية بمناسبة مرور عشرين عاما على إنشائها.
نص الخطاب:
شكرا لدعوتكم إياي للانضمام إليكم بمناسبة مرور عشرين عاما على إنشاء مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية. لقد شهد موظفو هذه المنظمة ومديروها الكثير من التاريخ خلال العقدين الماضيين. لقد كنتم جزءاً من التاريخ. وقد ضاعفتم، من خلال مناداتكم بالحرية وتأييدكم لها، آمال الشعوب في جميع أنحاء العالم وكنتم مصدر فخر كبيرا لأمريكا.
إنني أقدر تقدمة فين القصيرة لي... ولكن الأهم من ذلك هو أنني أقدر الدعوة. إنني أقدر أعضاء الكونجرس الموجودين هنا... من الحزبين... وإنني سعيد لأن جمهوريين وديمقراطيين ومستقلين يعملون معا لدفع عجلة حرية البشر.
أسباب الديمقراطية في العالم
يمكن إعادة جذور ديمقراطيتنا إلى إنجلترا وبرلمانها، كما يمكن إعادة جذور هذه المنظمة (إليهما). لقد ألقى الرئيس رونالد ريجان في شهر حزيران/يونيو من عام 1982، كلمة في قصر وستمنستر قال فيها إن نقطة التحول في التاريخ قد حلت. وجادل بأن الشيوعية السوفيتية قد أخفقت بالضبط لأنها لم تحترم شعوبها، وإبداعيتهم، وعبقريتهم، وحقوقهم. وقال الرئيس ريجان إن عصر الاستبداد السوفيتي آخذ في الأفول؛ وإن لدى الحرية زخما لن يتم إيقافه. وقد انتدب هذه المنظمة ومنحها تفويضها لزيادة زخم الحرية عبر العالم. لقد كان ذلك التكليف مهمًا قبل عشرين عاما؛ وهو بنفس تلك الأهمية اليوم.
وقد رفض عدد من النقاد خطاب الرئيس ذاك. وجاء في إحدى الافتتاحيات التي نشرت آنذاك: "يبدو من الصعب أن يكون المرء أوروبيا رفيع الثقافة وفي نفس الوقت معجبا بريجان".
ووصف بعض المراقبين في أوروبا وأمريكا الشمالية الخطاب بأنه مفرط في التبسيط وساذج وحتى خطر. والواقع هو أن كلمات رونالد ريجان كانت شجاعة ومتفائلة وصحيحة تماما.
وكانت الحركة الديمقراطية العظيمة التي وصفها الرئيس ريجان قد قطعت شوطا كبيرا. ففي أوائل السبعينيات من القرن الماضي، كانت هناك حوالي أربعين دولة ديمقراطية في العالم. وبحلول منتصف ذلك العقد، أجرت كل من البرتغال وأسبانيا واليونان انتخابات حرة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، ظهرت ديمقراطيات جديدة في أمريكا اللاتينية وكانت المؤسسات الحرة قد أخذت في الانتشار في كوريا وفي تايوان وشرق آسيا. وفي مثل هذا الأسبوع من عام 1989، قامت احتجاجات في مدينتي برلين الشرقية ولايبتسِغ (لايبزغ). وما أن حلت نهاية ذلك العام، حتى كانت كل الدكتاتوريات في أمريكا الوسطى قد انهارت. وخلال عام آخر، أطلقت حكومة جنوب إفريقيا سراح نلسون مانديلا. وبعد ذلك بأربع سنوات، انتُخب رئيسا لبلده، فتحول، مثله في ذلك مثل فاونسا (زعيم حركة التضامن أو سوليدارنوش البولندي) وهافيل (زعيم الثورة المخملية التشيكوسلوفاكية) من سجين دولة إلى رئيس دولة. ومع انتهاء القرن العشرين، كانت قد أصبحت هناك مائة وعشرون دولة ديمقراطية في العالم. وأستطيع أن أؤكد لكم أن المزيد منها في طريقه إلى الظهور. كان رونالد ريجان سيسعد لو قُدر له أن يعرف ذلك، وكان سيُصاب بالدهشة.
لقد شاهدنا، خلال أقل من جيل واحد، أسرع تقدم للحرية في قصة الديمقراطية التي تمتد عبر ألفين وخمسمائة عام. وسيقدم المؤرخون في المستقبل تفسيراتهم للأسباب التي أدت إلى حدوث هذا، ولكننا نعرف منذ الآن بعض الأسباب التي سيوردونها.
فليس من قبيل المصادفة أن هذا العدد الكبير من الديمقراطيات ظهر في نفس الوقت الذي كانت فيه أكثر الدول نفوذا هي نفسها ديمقراطية. فقد قطعت الولايات المتحدة تعهدات عسكرية وأخلاقية في أوروبا وآسيا حَمَت الدول الحرة من العدوان وخلقت الظروف التي يمكن فيها للديمقراطيات الجديدة أن تزدهر. ومع توفيرنا الأمن لدول بأكملها، قدمنا أيضا الإلهام للشعوب المقموعة، في معسكرات السجون، وفي اجتماعات النقابات المحظورة، وفي الكنائس السرية. وقد عرف الرجال والنساء أن العالم لا يشاركهم برمته نفس كابوسهم. وعرفوا أن هناك مكانا واحدا على الأقل، بلدا مشرقا مفعما بالأمل، تحظى فيه الحرية بالأمن والتقدير. وكانوا يبتهلون ألا تنساهم أمريكا أو تنسى رسالة تعزيز الحرية في جميع أنحاء العالم.
وسيذكر المؤرخون أن تقدم الأسواق والأعمال الحرة ساعد، في كثير من البلدان، على إيجاد طبقة متوسطة كان لديها ما يكفي من الثقة بحيث طالبت بحقوقها. وسوف يشيرون إلى دور التكنولوجيا في إحباط الرقابة والسلطة المركزية، ويتعجبون من قدرة الاتصالات الفورية على نشر الحقيقة والأخبار والشجاعة عبر الحدود.(19/396)
وسيفكر المؤرخون في المستقبل مليا بحقيقة استثنائية لا يمكن إنكارها: إن الدول الحرة تزداد قوة بمرور الوقت في حين تزداد الدكتاتوريات ضعفا. وقد تصوّر البعض في منتصف القرن العشرين أن التخطيط المركزي وإخضاع المجتمع لتنظيم صارم يشكل طريقا مختصرة لتحقيق القوة القومية. والواقع هو أن الازدهار والحيوية الاجتماعية والتقدم التكنولوجي لشعب ما تتحدد جميعا بشكل مباشر وفقا لمدى حريته. إن الحرية تحترم قدرة البشر الإبداعية وتطلق العنان لها، والإبداع هو ما يحدد قوة وثراء الشعوب. إن الحرية هي خطة الله للإنسانية، وهي في نفس الوقت أفضل أمل للتقدم هنا على الأرض.
وفي حين أن تقدم الحرية اتجاه قوي، إلا أننا نعرف أيضا أنه يمكن فقدان الحرية إن لم يتم الدفاع عنها. ذلك أن نجاح الحرية لا يتحقق بفعل شكل من أشكال الديالكتيك أو الجدل التاريخي. إن نجاح الديمقراطية يقوم على خيارات الشعوب الحرة وشجاعتها وعلى استعدادها للتضحية.
وقد أظهر الأمريكيون بوفرة استعدادنا للتضحية في سبيل الحرية في خنادق الحرب العالمية الأولى، وفي حرب على جبهتين في الأربعينيات من القرن الماضي، وفي المعارك الصعبة في كوريا وفيتنام، وفي مهمات الإنقاذ والتحرير التي قاموا بها في كل قارة تقريبا. ولم تحظ تضحيات الأمريكيين دوما بالاعتراف والتقدير، ولكنها كانت في سبيل ما يستحقها.
وقد أصبحت ألمانيا واليابان دولتين ديمقراطيتين ولم تعدا تشكلان تهديدا للعالم نتيجة لثباتنا وثبات حلفائنا. وقد انتهى مأزق التعادل النووي العالمي مع الاتحاد السوفيتي بشكل سلمي، كما انتهى الاتحاد السوفيتي نفسه. والدول الأوروبية آخذة في التحرك الآن نحو الوحدة، لا منقسمة إلى معسكرات مسلحة آخذة في الانزلاق نحو الإبادة الجماعية. لقد تلقنت كل دولة، أو ينبغي أن تكون قد تلقنت، درسا مهما: إن الحرية تستحق القتال في سبيلها، والموت من أجلها، ومناصرتها، وإن تقدم الحرية يقود إلى السلام.
وينبغي علينا الآن أن نطبق ذلك الدرس في وقتنا الحاضر. فقد وصلنا إلى نقطة تحول أخرى عظيمة، وستحدد العزيمة التي نظهرها شكل المرحلة التالية من الحركة الديمقراطية العالمية.
يجري اختبار التزامنا بالديمقراطية في دول مثل كوبا وبورما وكوريا الشمالية وزمبابوي، بؤر الاضطهاد في عالمنا. ويعيش الناس في هذه الدول في حالة عبودية وخوف وصمت. إلا أن تلك الأنظمة لا تستطيع كبح الحرية إلى الأبد، وسيبرز في يوم ما زعماء ديمقراطيون جدد من معسكرات السجون ومن زنزانات السجون ومن المنفى.
إن الشيوعية والتسلط العسكري وحكم أصحاب النزوات والفاسدين أمور من مخلفات حقبة منصرمة. وسنقف إلى جانب هذه الشعوب المضطهدة حتى يحل أخيرا يوم التحرير والحرية.
ويتم اختبار التزامنا بالديمقراطية في الصين. وقد أصبح لدى تلك الدولة الآن شظية أو جزء صغير من الحرية. ولكن الشعب الصيني سيريد حريته في يوم من الأيام كاملة صِرفة.
لقد اكتشفت الصين أن الحرية الاقتصادية تؤدي إلى الثروة القومية. وسيكتشف قادة الصين أيضا أن الحرية لا يمكن تجزئتها وأن الحرية الاجتماعية والدينية أساسية هي أيضا للعَظمة القومية وللكرامة القومية. وفي نهاية المطاف، سيصر الرجال والنساء الذين سمح لهم بالتحكم بثروتهم على التحكم بحياتهم وبلدهم.
كما يجري اختبار التزامنا بالديمقراطية في الشرق الأوسط، وهو محور اهتمامي اليوم وينبغي أن يكون محور اهتمام السياسة الأمريكية لعقود قادمة. إن الديمقراطية لم تتجذر حتى الآن في الكثير من بلدان الشرق الأوسط، في دول ذات أهمية إستراتيجية عظيمة، ويبرز السؤال: هل تقع شعوب الشرق الأوسط بشكل ما خارج نطاق تأثير الحرية؟ هل حكم على الملايين من الرجال والنساء والأطفال العيش في ظل الاستبداد بسبب التاريخ أو الثقافة؟ هل هم وحدهم دون سواهم الذين لن يعرفوا الحرية ولن يحصلوا إطلاقا حتى على فرصة أن يكون لهم رأي في المسألة؟
أنا شخصيا، لا أصدق ذلك. أنا أومن أن لدى كل إنسان القدرة والحق في أن يكون حرا.
ويؤكد بعض المشككين في الديمقراطية بأن تقاليد الإسلام لا تلائم نظام الحكم التمثيلي. ولهذا الشعور بالتفوق الثقافي، كما وصفه رونالد ريجان، تاريخ طويل.
فبعد استسلام اليابان في عام 1945، جزم خبير مزعوم بشؤون اليابان بأن الديمقراطية "لن تنجح إطلاقا"، على حد تعبيره، في تلك الإمبراطورية السابقة.
وأعلن مراقب آخر أن فرص (نجاح) الديمقراطية في ألمانيا ما بعد هتلر هي، على حد قوله "غير مؤكدة إطلاقا، في أفضل الحالات"، وقد أعلن هذا الادعاء في عام 1957.
وقالت صحيفة صنداي لندن تايمز قبل أربعة وسبعين عاما: إن تسعة أعشار الشعب الهندي "أميون، ليس لديهم أدنى اهتمام بالسياسة"، ولكن الشعب الهندي أظهر التزامه بالحرية، عندما تعرضت الديمقراطية الهندية للخطر في السبعينيات من القرن الماضي، من خلال استفتاء قومي أنقذ طريقة الحكم فيه.(19/397)
وقد ألقى المراقبون شكوكا المرة تلو المرة حول ما إذا كانت هذه الدولة أو ذلك الشعب أو هذه المجموعة مهيأة للديمقراطية، وكأن الحرية جائزة يفوز بها المرء لانطباق معاييرنا الغربية للتقدم عليه. والواقع هو أن الديمقراطية العملية هي السبيل إلى التقدم. فهو يعلم التعاون، وتبادل الأفكار بحرية، وحل الخلافات سلميا. وكما يظهر الرجال والنساء من بنجلادش إلى بوتسوانا مرورا بمنغوليا أن ممارسة الحرية هي ما يجعل دولة ما مهيأة للديمقراطية، وتستطيع كل دولة السير في هذا الطريق.
الشرق الأوسط بحاجة للتغيير
وينبغي أن يكون واضحا للجميع أن الإسلام، الدين الذي يدين به خُمس البشر، منسجم مع الحكم الديمقراطي. فالتقدم الديمقراطي موجود في الكثير من الدول التي يشكل المسلمون غالبية سكانها، في تركيا وفي إندونيسيا، وفي السنغال، وفي ألبانيا والنيجر وسيراليون. إن المسلمين والمسلمات مواطنون صالحون في الهند وجنوب إفريقيا، وفي دول أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية. ويعيش أكثر من نصف مسلمي العالم بحرية وفي ظل حكومات تم تشكيلها بطريقة ديمقراطية. وهم يحققون النجاح في المجتمعات الديمقراطية، لا على الرغم من ديانتهم، بل بسببها.
فالدين الذي يأمر بالمحاسبة الفردية الأخلاقية ويشجع على التقاء الفرد بالخالق هو دين منسجم تماما مع حقوق ومسؤوليات الحكم الذاتي. إلا أن هناك تحديا كبيرا في الشرق الأوسط اليوم. وكما قال تقرير أصدره بحاثة عرب أخيرا، إن موجة الديمقراطية العالمية، "بالكاد وصلت الدول العربية". ويواصل التقرير: "إن هذا النقص في الحرية يقوض التنمية البشرية وهو ظاهرة من أكثر ظواهر التنمية السياسية المتخلفة إيلاما".
وللنقص في الحرية الذي يصفونه عواقب رهيبة بالنسبة لشعب الشرق الأوسط وللعالم. فالفقر متأصل في الكثير من دول الشرق الأوسط وهو آخذ في الانتشار. وتفتقر النساء إلى الحقوق ويُحرمن من تحصيل العلم. وما زالت مجتمعات بأكملها تعاني من الركود، في حين يواصل العالم تقدمه. إن هذه ليست إخفاقات ثقافة أو ديانة؛ إنها إخفاقات عقائد سياسية واقتصادية.
لقد شهد الشرق الأوسط، مع انقضاء الحقبة الاستعمارية، إقامة الكثير من الدكتاتوريات العسكرية. وتبنى بعض الحكام المبادئ الاشتراكية؛ فاستولوا على كامل السيطرة على الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والجامعات. وتحالفوا مع الكتلة السوفيتية ومع الإرهاب الدولي. وتعهد الحكام الدكتاتوريون في سورية والعراق باستعادة الشرف القومي، وبالعودة إلى الأمجاد الماضية. وخلّفوا، بدلاً من ذلك، تركة من التعذيب والقمع والبؤس والدمار.
كما اكتسب رجال آخرون ومجموعات أخرى من الرجال نفوذا في الشرق الأوسط وخارج حدوده من خلال أيديولوجية الإرهاب الثيوقراطي. ويتستر خلف لغتهم الدينية الطموح إلى سلطة سياسية مطلقة. وتظهر زمرهم الحاكمة مثل طالبان طريقتهم في التقوى الدينية من خلال جلد النساء علنا، وقمع أي معارضة أو اختلاف دون رحمة، ودعم الإرهابيين الذين يقومون بالتسليح والتدريب لقتل الأبرياء. لقد وعد نظام طالبان بالنقاء الديني والعزة القومية. وخلف وراءه بدلاً من ذلك المعاناة والمجاعة، نتيجة لتدميره المنظم لمجتمع عامل أبي.
ويدرك الكثير من حكومات الشرق الأوسط الآن أن الدكتاتورية العسكرية والحكم الثيوقراطي (الديني) هما طريق واسع سهل يوصل إلى لا مكان. ولكن بعض الحكومات ما زالت متشبثة بعادات السيطرة المركزية القديمة. وهناك حكومات ما زالت تخشى وتقمع التفكير المستقل والإبداع في الأعمال الخاصة، وهي الصفات الإنسانية التي تؤدي إلى مجتمعات قوية ناجحة. وحتى عندما تتوفر لدى هذه الدول موارد طبيعية ضخمة، فإنها لا تحترم أو تطور أعظم مواردها، سواء الموهبة أو نشاط الرجال والنساء الذين يعملون ويعيشون بحرية.
فبدلاً من التركيز المفرط على الأخطاء السابقة ولوم الآخرين، فإن الحكومات في الشرق الأوسط بحاجة إلى مواجهة المشاكل الحقيقية وخدمة مصالح دولها الحقيقية. إن الشعوب الخيرة والقديرة في الشرق الأوسط تستحق الزعامة المسئولة. لقد كان ولا يزال العديد من مواطني المنطقة مجرد ضحايا وتابعين خاضعين. إنهم يستحقون أن يكونوا مواطنين فعالين.
لقد أصبحت الحكومات في شتى أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تدرك الحاجة إلى التغيير، حيث بات في المغرب برلمان جديد يمثل جميع أطياف المجتمع. وقد حثه الملك محمد السادس على توسيع الحقوق لتشمل النساء.
وهكذا شرح صاحب الجلالة الإصلاحات البرلمانية التي أدخلها: "كيف يستطيع المجتمع تحقيق التقدم في الوقت الذي تنتهك فيه حقوق النساء اللاتي يمثّلن نصف عدد السكان في البلاد وهن أيضا يعانين من الظلم، والعنف والتهميش، متجاهلين بذلك ما منحهن الدين الحنيف من الكرامة والوقار والعدل؟".
وإن العاهل المغربي محق حين قال إن مستقبل الدول الإسلامية سيكون أفضل للجميع بالمشاركة الكاملة من قبل النساء.(19/398)
وفي البحرين، قام المواطنون بانتخاب مجلس النواب هناك للمرة الأولى منذ ثلاثين عاما تقريبا. أما سلطنة عمان فقد وسعت حق التصويت ليشمل جميع المواطنين البالغين. وفي قطر تم إعداد دستور جديد. وفي اليمن يوجد نظام التعددية السياسية الحزبية. ولدولة الكويت مجلس أمة تم انتخابه انتخابا مباشرا. أما الأردن فقد جرت فيه انتخابات تاريخية خلال الصيف الماضي. وتكشف الدراسات التي أجريت حديثا في الدول العربية أن هناك دعما واسعا للتعددية السياسية وسيادة القانون وحرية التعبير. إن هذه هي شروط الديمقراطية الشرق أوسطية والتي تحمل معها بشائر بمجيء تغير عظيم. وعند حدوث هذه التغيرات في منطقة الشرق الأوسط، فإنه يتعين على من هم في السلطة أن يسألوا أنفسهم: هل سيتذكرهم الناس من خلال مقاومتهم للإصلاح أم من خلال عزمهم القيام به؟
وفي إيران هناك مطالبة قوية على نطاق واسع بالديمقراطية، فكما رأينا في الشهر المنصرم حين تجمع الآلاف من الناس للترحيب بعودة شيرين عبادي التي فازت بجائزة نوبل للسلام إلى بلدها. إن على النظام في طهران أن يراعي مطالب المواطنين الإيرانيين بالديمقراطية وإلا جازف بفقدان آخر ادعاء له بالشرعية. (تصفيق).
وبالنسبة للشعب الفلسطيني، فإن السبيل الوحيد إلى الاستقلال، والكرامة والتقدم هو سبيل الديمقراطية. (تصفيق) وإن الزعماء الفلسطينيين الذين يعرقلون الإصلاح الديمقراطي ويقوضونه ويغذّون الكراهية ويشجّعون العنف ليسوا زعماء على الإطلاق، بل إنهم هم الذين يشكلون العقبات الرئيسية أمام السلام وأمام نجاح الشعب الفلسطيني.
وقد اتخذت الحكومة السعودية الخطوات الأولى نحو الإصلاح ومنها خطة لإدخال الانتخابات بصورة تدريجية. ويمكن للحكومة السعودية إبراز الزعامة الحقيقية في المنطقة من خلال منح الشعب السعودي دورا أكبر في المجتمع.
لقد مهد الشعب المصري العظيم المعتز بنفسه الطريق نحو السلام في الشرق الأوسط والآن بات عليه أن يمهد الطريق نحو الديمقراطية.
إن أبطال الديمقراطية في المنطقة يدركون أن الديمقراطية غير كاملة وأنها ليست الطريق إلى المدينة الفاضلة لكنها الطريق الوحيد إلى الكرامة والنجاح القوميين. وإننا حين نشاهد إصلاحات في المنطقة ونشجعها، فإننا نعي أن التحديث ليس كالتغريب. وإن الحكومات التمثيلية في الشرق الأوسط ستعكس ثقافات وحضارات المنطقة. فهم لا يشبهوننا ولا ينبغي أن يكونوا كذلك. قد تكون الدول الديمقراطية ممالك دستورية، أو جمهوريات فدرالية أو أنظمة برلمانية.
مبادئ الديمقراطية
وإن الديمقراطية الفعالة دائما بحاجة إلى الوقت للتطور كما هو الحال بالنسبة للديمقراطية في بلادنا. فقد خضنا مسيرة استغرقت 200 سنة نحو الشمولية والعدل وهذا ما يجعلنا نتحلى بالصبر والتفهم عندما تكون الدول الأخرى في مراحل مختلفة من مسيرتها. ورغم ذلك فثمة مبادئ مركزية مشتركة بين جميع المجتمعات الناجحة في سائر الثقافات.
إن المجتمعات الناجحة تضع حدودا لسلطة الدولة وسلطة الجيش لكي تتمكن الحكومة من الاستجابة لإرادة الشعب بدلا من الاستجابة لإرادة النخبة ليس إلا. والمجتمعات الناجحة تقوم بحماية الحرية عبر القانون الدءوب، وغير المجتزأ، بدلا من تطبيق القانون بصورة انتقائية لمعاقبة خصومها السياسيين. والمجتمعات الناجحة تسمح بقيام المؤسسات المدنية السليمة، وبتشكيل الأحزاب السياسية، ونقابات العمال، وبوجود الصحف ووسائل الإعلام المستقلة.
إن المجتمعات الناجحة تضمن حرية العقيدة والحق في إجلال الله وعبادته دون خشية التعرض للاضطهاد. إن المجتمعات الناجحة تسلم اقتصادياتها للقطاع الخاص وتضمن حق الملكية الفردية. كما تحظر وتعاقب الفساد الرسمي، وتخصص الاستثمارات في قطاعي الصحة والتعليم لمواطنيها. وهي مجتمعات تعترف بحقوق المرأة. وبدلا من توجيه مواطنيها نحو كراهية ورفض الآخرين فإن المجتمعات الناجحة تسعى لتحقيق آمال شعوبها.
هذه المبادئ المهمة يجري تطبيقها في أفغانستان والعراق. فبالقيادة الراسخة للرئيس كرزاي يقوم الشعب الأفغاني بتشكيل حكومة مسالمة وعصرية. وفي الشهر القادم سيشارك 500 مندوب في اجتماعات الجمعية الوطنية في كابول للتصديق على الدستور الجديد لأفغانستان. وتنص مسودة مشروع الدستور على إنشاء برلمان مكون من مجلسين، وهو الذي سيرتب لإجراء الانتخابات الوطنية في العام القادم، كما ينص مشروع الدستور على الاعتراف بالهوية الإسلامية لأفغانستان وفي الوقت نفسه حماية حقوق كل المواطنين.
إن أفغانستان تواجه تحديات اقتصادية وأمنية مستمرة وهي ستواجه تلك التحديات في المستقبل كدولة ديمقراطية مستقرة.
وفي العراق، تعمل سلطة التحالف المؤقتة ومجلس الحكم العراقي من أجل بناء الديمقراطية. وهذه ليست مهمة سهلة بعد ثلاثة عقود من الاستبداد والطغيان. إن الدكتاتور السابق كان يحكم بالترويع والغدر، وخلف عادات الخوف وعدم الثقة المتأصلة بعمق. وتواصل بقايا فلول هذا النظام مع الإرهابيين الأجانب معركتها ضد النظام والتحضر.(19/399)
إن تحالفنا يرد على الهجمات الأخيرة بشن غارات دقيقة تسترشد بما يقدمه العراقيون أنفسهم من معلومات استخبارية. ونحن نتعاون تعاونا وثيقا مع المواطنين العراقيين وهم يعدون دستورهم، ويتجهون نحو إجراء الانتخابات، وتحمل مسؤوليات متزايدة تتعلق بشؤونهم الخاصة.
وكما كان الحال في الدفاع عن اليونان في 1947 ولاحقا في ظروف إمداد برلين من الجو، فإن قوة الشعوب الحرة وعزيمتها هي الآن على المحك أمام عالم يراقب ما نقوم به، ولسوف ننجح في هذا الاختبار.
إن إشاعة الأمن في العراق هي نتاج عمل أياد كثيرة؛ فالقوات الأمريكية وقوات التحالف تقوم بالتضحيات من أجل السلام في العراق ومن أجل أمن الأمم الحرة. ويواجه عمال الغوث من بلدان عديدة المخاطر من أجل مساعدة الشعب العراقي.
قوتنا في خدمة المبادئ
وتقوم مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية بالترويج لحقوق النساء وبتدريب صحفيين عراقيين وتلقينهم المهارات الخاصة بالمشاركة السياسية. والعراقيون أنفسهم، من رجال شرطة وحرس حدود ومسئولين محليين، ينضمون إلى هذا العمل وهم يتشاطرون التضحيات.
وهذا مشروع هائل وعسير، وهو يستحق مجهودنا، ويستحق تضحياتنا لأننا نعرف ما هو على المحك؛ ففشل الديمقراطية في العراق إنما سيجعل الإرهابيين أكثر جسارة حول العالم، وسيزيد الأخطار على الشعب الأمريكي وسيخبو أمل الملايين في المنطقة. والديمقراطية العراقية ستتكلل بالنجاح، ومن شأن هذا النجاح أن يبعث برسالة إلى دمشق وطهران مفادها أن الحرية يمكن أن تكون من نصيب كل أمة في المستقبل. إن تأسيس عراق حر في صميم الشرق الأوسط سيكون بمثابة حدث مفصلي بارز في الثورة العالمية للديمقراطية.
إن تساهل دول الغرب حيال انعدام الحرية، وذرائعها لذلك، في الشرق الأوسط، على مدى 60 عاما، لم يحقق شيئا لجعلنا في مأمن؛ لأن الاستقرار في الأمد البعيد لا يمكن أن يُشترى على حساب الحرية. وطالما ظل الشرق الأوسط مكانا لا تزدهر فيه الحرية، فإنه سيبقى مكانا يتسم بالتشنج ومشاعر الامتعاض والعنف، الجاهزة للتصدير. ومع انتشار أسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن تلحق ضررا كارثيا ببلادنا وبأصدقائنا، سيكون من الطائش لنا أن نقبل بالوضع الراهن.
وعليه، فقد تبنت الولايات المتحدة سياسة جديدة، وإستراتيجية أمامية حيال الحرية في الشرق الأوسط. وهذه الإستراتيجية تتطلب الإصرار والطاقة والمثل العليا ذاتها التي عرضناها من قبل وهي ستؤتي الثمار نفسها. وكما في أوروبا، وفي آسيا وكما في كل منطقة من العالم، فإن تقدم الحرية يؤول إلى السلام. إن تقدم الحرية هو نداء زمننا. وهو نداء بلدنا. فمن "النقاط الأربع عشرة" إلى "الحريات الأربع" ومرورا بالخطاب في وستمنستر وضعت أمريكا قوتنا في خدمة المبادئ. ونحن نعتقد بأن الحرية هي من صنع الطبيعة، ونحن نرى أن الحرية تشكل اتجاه التاريخ. ونحن نعتقد بأن تلبية حاجات البشر والكمال هما ثمرتا الممارسة المسئولة للحرية.
ونحن نؤمن بأن الحرية -الحرية التي نثمنها- لا نستحقها نحن وحدنا، بل إنها حق من حقوق البشرية ومن قدراتها.
إن العمل من أجل نشر الحرية يمكن أن يكون عملا عسيرا، لكن أمريكا أنجزت أعمالا عسيرة في السابق. إن أمتنا قوية ونحن أقوياء في قلوبنا. ونحن لا نقف وحدنا؛ فالحرية تجد حليفات في كل بلد والحرية تجد حليفات لها في كل ثقافة. وفي الوقت الذي نجابه فيه الإرهاب والعنف في العالم، فإن بمقدورنا أن نكون على يقين من أن مصدر الحرية لن يكون غير مبال بمصير الحرية.
ومع كل الامتحانات العسيرة وتحديات عصرنا، فإن هذا العصر هو من دون شك عصر الحرية في المقام الأول. وإنني أدرك أنكم جميعا هنا في مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية تتعاطون تعاطيا تاما مع القضية الكبرى، قضية الحرية، وأنا أشكركم على ذلك. وليبارك الله عملكم وليستمر في مباركة أمريكا.
** نص الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي جورج بوش يوم 6 نوفمبر 2003 الموافق 12 رمضان 1424 هـ في احتفالية مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية بمناسبة مرور عشرين عاما على إنشائها "نقلا عن موقع وزارة الخارجية الأمريكية"
-=============(19/400)
(19/401)
المسلمون في مدرسة الديمقراطية الأمريكية.. بالإكراه!
12/12/2002
…
محمد جمال عرفة **
في غمرة احتفال المسلمين بعيد الفطر السعيد، أطلق مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية تصريحات خطيرة عن الخطط الأمريكية (السرية) التي سبق التنويه عنها عقب 11 سبتمبر لفرض الديمقراطية على العالم الإسلامي، وهذه الخطط تكشف حقيقة النوايا الأمريكية بشأن التغيير في النظم العربية والإسلامية، والأهم أنها تكشف الموقف الأمريكي لو فازت أحزاب إسلامية في الانتخابات التي يفترض أن تنتج عن فرض أمريكا الديمقراطية على الحكومات العربية!
فماذا قال المسئول الأمريكي؟.. وما علاقة هذا ببدء واشنطن مؤتمرات تمهيدية في أمريكا استضافت فيها نساء عربيات لمحاضرتهن عن "الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي"؟! وهل حسمت واشنطن بالفعل موقفها من الأحزاب الإسلامية بحيث باتت غير قلقة لوصولها للحكم؟!
يمكن تلخيص أهم بنود الخطة الأمريكية للديمقراطية في العالم العربي والإسلامي وفقا لخطاب (هاس) على النحو التالي:
1- ستسعى واشنطن لوضع "برنامج سري" (غير معروف لماذا سري؟!) لتشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي.
2- فرض الديمقراطية لن يكون بشكل "ثوري" -وفق التعبير الأمريكي- ولكن بالتدريج وحسب ما يناسب كل بلد!
3- تشجيع الديمقراطية -من وجهة النظر الأمريكية- سيكون بالدعم المالي الذي ستقدمه واشنطن للحكومات بهدف "توسيع دائرة النمو الاقتصادي من خلال انفتاح المجتمعات وإنشاء البنية التحتية للديمقراطية" وفق ما جاء في إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية (نص التقرير الذي وجهه الرئيس بوش إلى الكونجرس في 20 سبتمبر 2002(.
4- أن واشنطن مستعدة للقبول بمعضلة الديمقراطية المتمثلة في وصول حزب إسلامي للحكم عبر انتخابات حرة رغم المخاوف من أن يضر هذا بمصالحها!
5- أن الهدف الأمريكي من تعزيز الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي هو الحفاظ على مصالح أمريكا في هذه البلدان خشية وقوع انفجار متوقع في هذه البلدان التي لأمريكا مصالح حيوية فيها كما حدث في إيران الشاه وغيرها.
لغة المصالح.. ولغة المال!
أما تفاصيل هذه البنود السابقة فيكشف بشكل أكبر عن طريقة التعامل الأمريكية الجديدة مع الحكومات العربية والإسلامية. فقد أكد ريتشارد هاس مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأمريكية أن واشنطن "لن تفرض صيغة جامدة للإصلاح السياسي، لكنها ستعمل مع كل دولة على حدة لصياغة النظام النيابي الذي يناسبها بشكل تدريجي".. وهو ما يعني بوضوح أن واشنطن تسعى لمنع انزعاج زعماء قد تهددهم مثل هذه التطورات؛ وبالتالي ستقبل في مرحلة أولى المجالس النيابية في دول الخليج على سبيل المثال التي لا تعدو أن تكون مجالس شورية لا تشريعية، كما ستقبل -وفق مصالحها مع كل دولة- الشكل (الديمقراطي) الذي ستطبقه كل دولة على حدة!
وقد وضح هذا في قول (هاس) -في كلمته أمام مجلس العلاقات الخارجية بالكونجرس-: "إن مثل هذا التغيير لن يكون ثوريا، وإنه سيحدث بالتدريج".. مع التأكيد على: التزام الولايات المتحدة الصارم بالمشاركة بنشاط أكبر (أي مزيد من التدخل في الشئون الداخلية) في دعم الاتجاهات الديمقراطية في العالم الإسلامي أكثر من ذي قبل!
وكشف هاس عن أن "واشنطن لديها برنامج سري لتشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي من منطلق الفائدة المزدوجة لشعوب تلك الدول وللولايات المتحدة على السواء"!!
وقال إن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول سيعلن خلال الأشهر المقبلة بعض الآليات الخاصة بهذه القضية، ومن بينها زيادة المساعدات إلى الدول العربية عن المخصصات السنوية الحالية التي تبلغ مليار دولار. وتشجيع التطوير في مجالات التعليم والاقتصاد والإصلاح السياسي بصفتها مجالات حيوية هامة.
وقد شرح هاس هذه النقطة بتفصيل أكثر قائلا: "إن الأساس المنطقي الأمريكي في تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي هو في نفس الوقت لمصلحتنا ولمصلحة الغير. فالمزيد من الديمقراطية في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية هو أمر جيد بالنسبة للشعوب التي تعيش هناك. لكنه أيضاً جيد بالنسبة للولايات المتحدة. فالبلدان المبتلاة بالجمود الاقتصادي والافتقار إلى فرص العمل، وبالأنظمة السياسية المغلقة، وبالسكان المتكاثرين بسرعة، تغذي العداوة لدى مواطنيها. ويمكن أن تكون تلك المجتمعات، كما تعلمّنا من التجربة القاسية أرضاً خصبة لتربية المتطرفين والإرهابيين الذين يستهدفون الولايات المتحدة بحجة دعمها للأنظمة التي يعيشون في ظلها.
الأمر الآخر الذي له أهمية معادلة هو أن الهوة المتزايدة بين العديد من الأنظمة الإسلامية ومواطنيها قد تعطّل قدرة تلك الحكومات في التعاون حول قضايا ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. هذه الضغوطات الداخلية سوف تحدّ كثيراً من قدرة العديد من أنظمة العالم الإسلامي على توفير العون، أو حتى الموافقة على الجهود الأمريكية الرامية إلى مكافحة الإرهاب أو التعامل مع انتشار أسلحة الدمار الشامل".(19/402)
وقال إن إدارة الرئيس بوش استفادت من عدة دروس واسترشدت بها في مسعاها الجديد بشأن تلك الدول.. مشيرا إلى أن هجمات سبتمبر ضد مركز التجارة والبنتاجون علمتنا درسا صعبا وهو أن المجتمعات المقهورة يمكن أن تصبح تربة خصبة للمتطرفين والإرهابيين الذين يستهدفون الولايات المتحدة لدعم أنظمة يعيشون في ظلها.
والمشكلة هنا أن واشنطن لا تزال تعتقد أنه بالمال وبلغة المساعدات فقط يمكنها التغيير وتحقيق ما تريد في العالم الإسلامي، بل إن إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكي (نص التقرير الذي وجهه الرئيس بوش إلى الكونجرس في 20 سبتمبر 2002( أشارت في البند السابع إلى (توسيع دائرة النمو الاقتصادي من خلال انفتاح المجتمعات، وإنشاء البنية التحتية للديمقراطية)، أي أنهم يعتبرون الاقتصاد فقط هو المدخل للديمقراطية؛ ولهذا طلبوا في هذه الإستراتيجية من الحكومات الإسلامية: "أن تحارب الفساد، وأن تحترم الحقوق الإنسانية الأساسية، وتطبق حكم القانون، وتستثمر في العناية الصحية والتعليم، وتتبع سياسات اقتصادية مسؤولة، وتوفر المقدرة لممارسة المبادرات الاقتصادية الفردية"، وأتبعوا هذه الفقرة بعبارة تقول: "سوف تُكافأ -حساب تحدي الألفية- الدول التي أظهرت تغييراً حقيقيًّا في سياستها، ويجري تحدي تلك الدول التي لم تطبق الإصلاحات المطلوبة"؟!
أيضا قال هاس - في الخطاب الذي جاء بعنوان "نحو مزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي" والذي وصفه مساعدوه بأنه أكثر الرأي شمولا للفكر أو الخطة الأمريكية بشأن تعزيز الديمقراطية في العالم الإسلامي- إنه لا يمكن إنكار أن تجنب الولايات المتحدة التدقيق في الشئون الداخلية لبعض الدول جاء لضمان مصالح تراوحت بين ضمان تدفق البترول بشكل مستقر واحتواء التوسع السوفيتي والعراقي والإيراني والتعامل مع قضايا تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي ومقاومة الشيوعية في شرق آسيا وتأمين توافر قواعد خارجية للقوات الأمريكية.
واعترف المسئول الأمريكي بأن واشنطن قد أخطأت بعدم إعطاء أولوية كافية في السنوات الماضية، للسعي إلى الديمقراطية، قائلا: "إن هذا أضاع علينا فرصة لمساعدة هذه الدول الإسلامية على أن تصبح أكثر استقرارا وأكثر رخاء وأكثر سلما وأكثر قابلية للتكيف مع الضغوط التي تفرضها العولمة"، على اعتبار أن "الدول التي تعاني من ركود اقتصادي، وعدم توفر فرص العمل والنظم السياسية المغلقة والنمو السكاني المتزايد عادة ما تعاني شعوبها من الإحباط، وعدم الانتماء".
ومع أن هاس أشار إلى "أن الديمقراطية يمكن أن تلقى تشجيعا من الخارج"، إلا أنه أعترف "أنه من الأفضل بناؤها من الداخل لأن فرضها سيكون غير إيجابي وغير قابل للاستمرار".. وقال إنه يجب أن يواكب حماسنا الشديد لتشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي تقديم المساعدات اللازمة والسماع لشكوى هذه الشعوب.
واشنطن لا تعارض الأحزاب الإسلامية؟!
ولعل أكثر ما قاله "هاس" أهميةً هو ما ختم به كلمته أمام أعضاء الكونجرس، إذ كشف عن أن "الولايات المتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية"، وأن "الإدارة الأمريكية تدرك أن تكثيف الديمقراطية في العالم الإسلامي ينطوي على مغامرة بانتخاب قادة (لا تفضلهم) واشنطن إلا أن واشنطن -كما قال- عاقدة العزم على دعم الديمقراطية حتى وإن أدت إلى تولي أشخاص (لا تحبهم) السلطة في بلادهم"!
وشرح (هاس) هذه النقطة بتفصيل أكثر قائلا: "نحن ندرك تماماً عندما نشجع الديمقراطية أن التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرة في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم. لكن السبب لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان الساحقة بل لأنها في الغالب المعارَضة المنظَّمة الوحيدة للحالة الراهنة التي يجدها أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة. بعد الذي قلته، دعونا لا نترك مجالاً لسوء الفهم: الولايات المتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية تماماً كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو اليهودية أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة. إن طريقة استقبالنا لنتائج انتخابات الشهر الماضي في تركيا تبرهن بوضوح على هذه النقطة. لقد عبّر عن ذلك رئيس وزراء تركيا عبد الله غول على أحسن ما يرام، عندما قال بعد إدلاء القَسَم قبيل تسلمه منصبه: "نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون ديموقراطية، ويمكن أن تكون شفافة، ويمكن أن تتماشى مع العالم المعاصر". و"الأمريكيون على ثقة بأن الشعب التركي قادر على إثبات كل هذا ونريد أن نساعدهم في ذلك".
أما لماذا قال هاس هذه الفقرة الأخيرة تحديدا، فيمكن استنتاجه من قوله -عقب زيارة قام بها لمصر وباكستان والسعودية ودول خليجية أخرى في الأشهر الأخيرة- بأن "الناس أبلغوه بأنهم يشعرون بالإحباط لتقصير الولايات المتحدة في التحدث جهاراً باسم الديمقراطية. فسكوتنا في نظرهم يعني الموافقة الضمنية على الحالة الراهنة"!(19/403)
بعبارة أخرى كانت واشنطن في حيرة منذ إطلاق الحديث عن التدخل لتعزيز الديمقراطية في البلدان العربية، وتعيش مأزقا حقيقيا بين (الخطط) التي وضعتها ضمن حملة الرد على اعتداءات 11 سبتمبر ومنها إعادة تأهيل دول عربية وإسلامية ديمقراطيا، وبين (النتائج) التي تبين لها أن هذه الخطط ستضر بمصالحها إذا تم تنفيذها؟!. إذ إنه وفقا لهذه الخطط يرى الأمريكيون أن جوانب كبيرة من مشاعر الكراهية ضد أمريكا بين العرب والمسلمين تعود في جانب منها لغياب الديمقراطية في البلدان العربية وانتشار الفقر، ما يترتب عليه من انتشار العنف الذي يوجه إلى هذه النظم وأمريكا التي (تتغاضى) عن انتهاك الحريات في هذه الدول ورزوحها تحت الفقر، ولكن النتائج التي بدأ الخبراء الأمريكان يحذرون إدارتهم منها -ومنهم (هاس) في خطابه الهام- هي أنه لو تم السماح بالديمقراطية في العالم العربي فسوف ينتج عنها انتخابات حرة، وفوز أنصار التيار الإسلامي المفترض أنهم أعداء أمريكا!
ويبدو أن الجولة التي قام بها هاس مؤخرا لعشرات الدول العربية والإسلامية، فضلا عن ورش العمل التي لم تتوقف في الأجهزة الأمريكية المختلفة لبحث (النتائج) التي سوف تترتب على هذه الخطط على المصالح الأمريكية توصلت إلى قناعة أن التعامل المباشر مع الإسلاميين الأكثر شعبية أو أي قوى شعبية عموما قد يكون أفضل من التعامل مع حكومات لا تعبر عن الشارع العربي بشكل حقيقي، وقد يكون ضررها أكبر، مع الأخذ في الاعتبار مقولة يرددها بعض المحللين، مفادها أن فوز الإسلاميين ليس أمرا مطلقا، ولكنه لأنهم المعارضة الأكثر تنظيما.
وربما أسهمت التجربة التركية في لفت أنظار أمريكا إلى أن الإسلاميين ليسوا كما تصورهم التقارير كلهم بن لادن أو الملا عمر، خصوصا أن الإسلاميين الذين فازوا في 4 دول عربية وإسلامية مؤخرا تحدثوا بشكل أكثر اعتدالا عن الرغبة في التعاون مع أمريكا، وعدم عدائهم للشعب الأمريكي، وقصر خلافهم على سياسات الإدارة الأمريكية نحو قضايا العرب والمسلمين وانحيازها لإسرائيل.
ولا ننسى أن "هاس" نفسه استشهد في تقريره بالتجربة التركية، ورد على من يقولون: "إن الديمقراطية مستحيلة في العالم الإسلامي؛ لأنه لديه القليل من التاريخ أو التقاليد الديمقراطية".. بعبارة "هذا قول أرفضه أيضًا".
مدرسة الديمقراطية الليبرالية تفتح أبوابها!
ومع أن خطط مدرسة الديمقراطية الأمريكية بدأ الحديث عنها بشكل أكثر وضوحا في أول نوفمبر الماضي 2002، بعدما تم الكشف عن تفاصيلها عبر صحف أمريكية، ونقلتها تفصيلا صحيفة "البيان" الإماراتية يوم 3 نوفمبر الماضي، وفي أعقاب تصريحات للرئيس بوش ومستشارة الأمن القومي رايس عن تعليم المسلمين الديمقراطية؛ فقد لوحظ أن الدراسة بدأت بالفعل في أواخر أكتوبر 2002 من خلال برنامج يسمى "برنامج الزائر الدولي" طُبق على 50 سيدة عربية من 14 دولة عربية.
أما لماذا البدء بالنساء؟ فقد شرحه هاس في خطته أمام الكونجرس في الفقرة السادسة من اقتراحاته التي نصت على أن: "النساء عنصر حيوي في الديمقراطية. لا يمكن أن تنجح البلدان إذا حُرم نصف سكّانها من الحقوق الديمقراطية الأساسية. فالحقوق التي تتمتع بها النساء هي عامل حاسم أساسي في الحياة النابضة لأي مجتمع. فالمجتمعات التي يحكمها الرجال والتي تلعب فيها النساء دوراً تابعاً لدور الرجال هي أيضاً مجتمعات يلعب فيها الرجال دوراً تابعاً لدور رجال آخرين؛ حيث يُحال مبدأ الجدارة إلى المقاعد الخلفية، وتسبقه العلاقات الشخصية والمحسوبية ومحاباة الأقرباء".
والبرنامج المذكور الذي شاركت فيها نساء 14 دولة عربية ركز على "بناء الديمقراطية" حتى إن أحد المسؤولين في الخارجية خطب في السيدات العربيات قائلا: "نعلّق آمالا كبيرة عليكن، ونأمل في أن نسمع عن منجزاتكن في المستقبل"، وذكّرهن بأن برنامج الزائر الدولي استضاف أشخاصا عديدين صاروا قادة سياسيين، منهم أنور السادات، ومارجريت تاتشر، وعبد السلام المجالي!
ويبدو أن هذا البرنامج هو الخطوة الأولى ضمن سلسلة خطوات أمريكية لتعليم العرب -والبداية بالنساء- مبادئ الديمقراطية الأمريكية، والسعي لتغيير نظم الحكم في المنطقة العربية طوعا أو كرها؛ بدعوى أن "دمقرطة" المنطقة ستؤدي لمكاسب أمريكية كبيرة، وتحجب عنها مخاطر "الإرهاب" كما حدث في 11 سبتمبر؛ إذ أكد مسؤول آخر في الخارجية الأمريكية -ممن تعاقبوا لإلقاء المحاضرات على السيدات العربيات- لهن: "نعتبر أنفسنا مسؤولين عن تغيير الحكومات التي تهدد الأمن والسلام؛ باعتبارنا أقوى دولة في العالم"!(19/404)
فقد سبق للرئيس الأمريكي جورج بوش التأكيد على أن تطبيق الديمقراطية في العالم العربي أحد أهداف سياسته الخارجية، كما أشارت مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي كوندوليزا رايس في سبتمبر 2002 إلى أن الولايات المتحدة تريد أن تكون "قوة محررة" تكرس نفسها "لإحلال الديمقراطية ومسيرة الحرية في العالم الإسلامي". وأضافت في تصريحات لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية أن المبادئ الجيوإستراتيجية لما بعد الحرب الباردة تحتم على واشنطن النضال من أجل ما وصفته بالقيم الليبرالية الأمريكية الذي يجب "ألا يتوقف عند حدود الإسلام". وقالت: "إن هناك عناصر إصلاحية في العالم الإسلامي نريد دعمها".
ثم حاضرت كوندوليزا رايس في النساء العربيات في برنامج الزائر الدولي -الذي كان تحت عنوان "تمكين المرأة العربية"- عما أسمته "الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي"، وتحدثت عن الخطط الأمريكية في هذا الصدد، ولكن الطريف هنا أن بعض النساء العربيات هاجمن السياسة الأمريكية في فلسطين والعراق أمام رايس، وتلون آيات قرآنية تدعو أمريكا للعدل والبعد عن الظلم مثل: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ"، و"إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"، حتى إن مصرية -لم يعرف من هي- أكدت لرايس أن أمريكا إن عملت بهذا القول فستتربع في قلوب العالم!
وقد ركز هذا البرنامج الذي أشرفت عليه إليزابيث تشيني نائبة مساعد وزير الخارجية وابنة نائب الرئيس ديك تشيني على تعليم النساء العربيات أسلوب الحملات الانتخابية وتمويلها، وشجعتهن على عدم الخوف من أي شيء، وإقامة جماعات الضغط النسائي، والإسهام في بناء المجتمع المدني.
والمشكلة أن المشروع الأمريكي لـ"دمقرطة" منطقة الشرق الأوسط -كما ورد في تقرير صادر عن واشنطن، نشرت تفاصيله صحف أجنبية في نوفمبر الماضي-، وكذلك خطة هاس التي تعد أكثر رسمية.. يقرران أن هناك مصالح إستراتيجية أمريكية تحكم التحرك تجاه دول عن أخرى بصدد تطبيق الديمقراطية، وفرض عقوبات عليها!
فالتقرير الذي نشرته صحف أمريكية في نوفمبر الماضي يقول: "إن العقوبات الاقتصادية أصبحت تتعارض في بعض الأحيان مع المصالح الإستراتيجية العليا التي لا يمكن تجاهلها". وإن ذلك ينطبق بصورة خاصة على العلاقة مع بعض الدول التي تتفاوت فيما بينها في تطبيق المبدأ الديمقراطي، وفي ذات الوقت لا يمكن أن نتجاهل المصالح الإستراتيجية العليا التي تشكل حجر الزاوية للإستراتيجية الأمريكية المقبلة"!
ويقول التقرير: إنه سيتم البدء بالعراق -بالقوة طبعا-، تليه دول الخليج التي ستتأثر بما يحدث في العراق، وستكون سوريا هي المحطة الرئيسية الثالثة بعد منطقة الخليج، وسنحاول أن نحافظ على النظام الجمهوري في سوريا، وتطوير الديمقراطية في داخل الأردن.
أما أخطر ما في هذا التقرير فهو اللعب بورقة الأقليات أو تفتيت بعض الدول، وفصل أجزاء منها بزعم أن هذا سيكون لصالح الاستقرار، والنموذجان المطروحان هنا في التقرير -الذي جرى تسربه علنا على ما يبدو للإعلام لجس النبض- هما مصر والسعودية؛ حيث المطروح بالنسبة لمصر طرح فكرة دويلة قبطية في صعيد مصر؛ حيث يزعم التقرير أن "الدمقرطة" الكاملة والتطور السياسي الأمثل في مصر سيتحقق من خلال إقامة كيان قبطي في مصر حفاظاً على حقوق وحريات الأقباط؛ لأنه لا يمكن أن يكون للأقباط حقوقهم الديمقراطية وتمثيلهم العادل في ظل تلك الأكثرية من المسلمين، وفي ظل نظام الحكم الذي يراعي أوضاعًا كثيرة في هذه المسألة، ويتجاهل عن عمد كل طلبات وشكاوى الأقباط.
"أما في السعودية فالمطروح هو أن تكون هناك دويلة خاصة في المنطقة الشرقية، على أن يتولى إدارة هذه المنطقة شركة أرامكو، وأن تكون هذه المنطقة بمثابة المركز السياسي للإدارة السياسية الأمريكية في المنطقة!".
أما خطاب هاس فقد أشار لهذه النقطة بشكل مخفف نسبيا، عندما قال: "إن هناك عدة نماذج للديمقراطية. ليس على العملية الديمقراطية اتباع نموذج واحد. والحقيقة أنه لا يوجد نموذج ديمقراطي واحد لتقليده، بدءًا من الملكيات الدستورية إلى الجمهوريات الفدرالية وإلى الأنظمة البرلمانية من كل الألوان".(19/405)
ومع أن خطاب هاس والكلمة التي ألقاها وليام بيرنز مساعد وزير الخارجية الأمريكية (في اجتماع لمجلس بالتيمور للشئون الخارجية)، يتحدثان بوضوح عن "الغضب" الداخلي العربي وحالة التململ والقابلية للانفجار ضد الولايات المتحدة؛ فالملاحظة الخطيرة هنا هي أن اللوبي الصهيوني المتعاظم الشأن داخل إدارة بوش يقصر غضب الشعوب على الحكام العرب لنقص الديمقراطية، ويغفل تماما النصف الآخر من العملة، وهو الانحياز الأمريكي الأعمى للدولة الصهيونية الذي وصل لحد قبول سيطرة تل أبيب رسميا على كل القدس، عندما احتج على قرار يدين الممارسات الصهيونية لضم القدس (الشرقية)، كما يتعامى -عمدا- عن فهم مغزى حرق الأعلام الأمريكية يوميا في العواصم العربية والإسلامية، رغم أن هذا هو مفتاح ترحيب شعوب هذه الدول بأي اعتداء على المصالح الأمريكية.
بعبارة أخرى لم يكلف أحد في إدارة تخطيط السياسة الأمريكية بالخارجية الأمريكية نفسه عناء البحث وراء السبب في خروج أول مظاهرات الابتهاج بضربات 11 سبتمبر من داخل المخيمات الفلسطينية في لبنان وفلسطين!
المعضلة بالتالي سوف تستمر.. والعداء لأمريكا سيتصاعد؛ لأن المصلحة الأمريكية من وراء فرض الديمقراطية غصبا على "بعض" البلدان الإسلامية سيكون معيارها الوحيد هو "المصلحة الأمريكية"، وليس لغرض إنساني بحت؛ بحيث تستغلها في إخضاع وضرب نظم تخالفها الرأي، ووضعها ضمن محور الشر أو قائمة الإرهاب(!).
==============(19/406)
(19/407)
نص خطاب هاس الكامل نحو مزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي**
يسرني ويشرّفني أن أكون هنا مساء هذا اليوم. وأن يكون فؤاد عجمي هو الذي قدمني لأمر جيد فعلاً. فؤاد إنسان حكيم وخبير في صناعة الكلام، إذ أنه يوضح في كتبه ومقالاته وتعليقاته ما يبدو غير شفّاف في كثير من الأحيان. إنني مدين له مرّتين لأنه نقل موقع حصته الدراسية مساء هذا اليوم ليكون معنا. الواقع أنه جاء بحصته إلى هنا. وعليه، فإني أتصوّر إذاً أنه مدين لي لأنه لم يعد بحاجة إلى إعداد أي محاضرة لإلقائها في حصته. فبإمكاني القول، والحال هذه، أننا متساوون.
ويسرني أيضاً أن أتكلم في مجلس العلاقات الخارجية. أنا أشعر أنني في بيتي لأني عملت مرة في هذا المجلس. فالمجلس لا يزال مؤسسة الفكر والرأي الرئيسية في هذا الحقل. أقول ذلك بكل إخلاص لأني، عندما عملت في مكان قريب لدى مؤسسة زميلة - وقد يقول البعض إنها منافسة - كنا نقيس النجاح بعدد البحّاثة لدينا الذين يظهرون على صفحات مجلة فورين أفيرز أو يشاركون في فرق الدراسة أو فرق العمل التابعة للمجلس.
ومن دواعي سروري مساء هذا اليوم أن تسنح لي فرصة التحدث معكم حول فرص تعزيز الديمقراطية في العالم الإسلامي. فمساندة وتوسيع رقعة الديمقراطية كانت دائماً مسألة مركزية بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية. فمنذ ظهور نقاط الرئيس وودرو ويلسون الأربع عشرة إلى مشروع مارشال، رأينا في توسع الحرية والديمقراطية مصلحة قومية أساسية. وقد شجعت الولايات المتحدة، في عهد أحدث، بلداناً مختلفة مثل كوريا الجنوبية، والفيليبين، والسلفادور، وجنوب أفريقيا، وتشيلي في مراحل انتقالها إلى الديمقراطية. كما لعبنا دوراً قيادياً في تأييد انتشار الديمقراطية في بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً.
لا تزال الديمقراطية نقطة محورية في السياسة الأميركية اليوم. تؤكد استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة: "أن على أميركا أن تقف بحزم إلى جانب مطالب الكرامة الإنسانية غير القابلة للتفاوض: حكم القانون؛ الحدّ من السلطات المطلقة للدولة؛ حرية التعبير؛ حرية العبادة؛ المساواة في العدالة؛ احترام النساء؛ التسامح الديني والإثني؛ واحترام الملكية الخاصة."
لماذا ركزّت الولايات المتحدة بهذه الكثرة على الديمقراطية؟
ففي الدرجة الأعمق أساساً، نحن نساند الديمقراطية كمسألة مبدئية. فهي في صميم ما نحن عليه كدولة وما نمثله نحن كشعب. عند استلامه ميدالية فيلادلفيا للحرية في 4 أيار/مايو 2002، تحدث وزير الخارجية باول "عن مسؤوليتنا كمواطني أعظم ديمقراطية في العالم، في أن نضمن أن بلدنا هو قوة في خدمة الحرية حول العالم. والحقيقة أن الحقوق التي لا تنازل عنها في الحياة، أي الحرية ونشدان السعادة قد وهبها الله لكل الجنس البشري. فهي ملك كل رجل وامرأة وولد على وجه الأرض." وسوف تساعد الولايات المتحدة الدول الأخرى في تحقيق هذه الطموحات الأساسية لأنها كونية. فهذه القيم ليست مجرد نمط حياة تعتقد أميركا أن من واجبها تصديره.
وثمة أيضاً أسباب عملية تدعو الولايات المتحدة إلى تعزيز الديمقراطية في الخارج، للدلالة على أن الواقعية والمثالية يمكنهما التكامل. فبكل بساطة، سوف نزدهر أكثر كشعب وكدولة في عالم من الديمقراطيات بدلاً من عالم من الأنظمة الاستبدادية والفوضوية.
العالم الديمقراطي هو عالم مسالم أكثر. فنمط الديمقراطيات المتأصلة التي لا تتحارب مع بعضها البعض هو أحد أهم النتائج التي أمكن إثباتها في دراسات العلاقات الدولية. هذا لا يعني أنه لا يمكن أن تكون لنا مصالح متشابكة وتعاون مثمر مع بلدان غير ديمقراطية، كما لا يعني أنه لن تكون هناك خلافات قوية في وجهات النظر مع الديمقراطيات الزميلة. لكن كلما ازداد عدد الديمقراطيات في العالم، كلما اتسعت المناطق في العالم التي من المحتمل أن تسعى دولها إلى حل خلافاتها بالطرق الدبلوماسية.
نحن نرى هذا بكل وضوح في أوروبا. اليوم، وعلى الرغم من تاريخ طويل من الحروب الوحشية التي بلغت ذروتها في حربين عالميتين ذات كلفة بشرية هائلة، لم تعد الديمقراطيات الأوروبية تفكر بمحاربة بعضها البعض. على العكس، يكرس الأوروبيون جهودهم لأجل تحقيق تكامل أكبر. لقد دخلت ألمانيا وفرنسا في حرب ثلاث مرات بين 1870 و1940. واليوم، عندما يقوم خلاف بين فرنسا الديمقراطية وألمانيا الديمقراطية، تتفاوضان بشأنه حول طاولة مؤتمر، وليس في ساحة القتال.(19/408)
الإنتشار السريع للديمقراطية في أميركا اللاتينية الذي طال المنطقة بكاملها تقريباً قد خفف أيضاً إلى درجة كبيرة من إمكانيات الحرب في نصف القارة الغربي عندنا. وفي حين كانت البرازيل والأرجنتين تعززان الديمقراطية لديهما، فإنهما قررتا التخلي عن السعي وراء السلاح الذري. وعندما تم في ليما، عاصمة البيرو، في نفس يوم هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، التوقيع على شرعة الديمقراطية التي أعدتها منظمة الدول الأميركية، تعهدت كل دولة في نصف القارة الغربية، باستثناء كوبا وحدها، تعزيز الديمقراطية في الداخل وتقديم المساعدة لجيرانها إذا ما تعرضت الديمقراطية فيها إلى تهديد أو تداعيات.
وللديمقراطية أيضاً صلة وثيقة بالازدهار. نحن في أعمال السياسة الخارجية نركز غالباً على الاتجاه نحو نمو اقتصاد السوق مع الوقت لإدخال الديمقراطية. ومن المؤكد أن النمو الاقتصادي في كوريا الجنوبية وتايوان وتشيلي قد ساعد على إقامة أسس أقوى للديمقراطية.
كما أنه، من جهة مقابلة، يساعد حكم القانون الشفاف، وتساوي الفرص الأكبر الذي توفره الديمقراطيات، بدوره في تحفيز النمو الاقتصادي والازدهار. لقد أدى انتقال السلطة سلمياً وبطريقة يمكن توقعها إلى المزيد من الانفتاح وتراجع الفساد في المكسيك مما أنشأ الظروف التي تمكن النمو الاقتصادي المستدام من أن يزدهر.
من المهم، قبل الذهاب إلى أبعد من هذا، تعريف الكلمات. فأنا، عندما أتكلم عن الديمقراطية، لا أتحدث عن أشكالها أو مؤسساتها أو انتخاباتها وحسب. فالديمقراطية تقوم في الأساس على توزيع السلطة - في الحكومة وفي المجتمع. ففي الحكومات الديمقراطية، توزّع السلطة بحيث لا يسيطر صوت واحد غير خاضع للمساءلة. الحكومات القومية في الأنظمة الديمقراطية، تتطلب وجود ضوابط وتوازنات، مثلاً، عن طريق المنافسة بين فروع الحكم التشريعية والتنفيذية، وكذلك عن طريق القضاء المستقل. فالحكومة القوية عليها أن تواجه تقييدات المعارضة المنتخبة.
ويمكن أيضاً إدخال الضوابط والتوازنات بين مختلف المستويات الحكومية - القومية والمناطقية، والمحلية. تلك هي الطريقة التي تستمر بها في حالات كثيرة الديمقراطيات المتعددة الإثنيات.
ومن الأمور المركزية لفكرة الديمقراطية أنه يتوجب على القادة إعادة تسليم سلطاتهم المؤقتة. كان جون آدامز رئيساً أميركياً عظيماً لعدة أسباب، لكن لم يكن هناك سبب أهم من قبوله التخلي عن السلطة بطريقة سلمية عندما خسر انتخابات كانت موضع جدل مرير أمام توماس جفرسون. بمعنى آخر، يستأجر القادة الديمقراطيون سلطاتهم بدلاً من امتلاكها - لأن السلطات الممنوحة لهم تأتي من الشعب. فالديمقراطية هي في الحقيقة "من الشعب، بالشعب، وللشعب". فهي تتوقف على الدور النشط للشعب (الأساس في الديمقراطية).
وكما توجد حاجة إلى بعض الضوابط والتوازنات داخل الحكومة، هناك أيضاً حاجة إلى ضوابط وتوازنات بين الحكومة والمجتمع. وهذه أهم بالنسبة للديمقراطية منها للحكومات. فالسلطة يجب أن يشارك فيها مجتمع مدني حيوي وتعددي، مجتمع يمتلك "الحياة المجموعاتية" التي كتب عنها الكاتب الفرنسي دي توكفيل قبل 170 سنة، أي، تشكيلة واسعة من المجموعات الخاصة والمؤسسات الخاصة. وتضم هذه الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، وجمعيات رجال الأعمال، والمدارس، ووسائل الإعلام، المستقلة عن بعضها البعض، وعن سيطرة الدولة. يُزاد على ذلك، أنه لا يجوز استبعاد أي مجموعة أثنية، أو جنس، أو طبقة من الشعب عن المشاركة الكاملة في الحياة السياسية، كما يجب حماية الحقوق الفردية، بما فيها حرية التعبير والعبادة.
بهذا المعنى، حققت الديمقراطية بعض النجاحات الهامة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. فقد بلغت موجة الانتقال إلى الديمقراطية، التي بدأت في البرتغال وأسبانيا في أواسط السبعينات من القرن الماضي إلى أميركا اللاتينية وشرق آسيا في الثمانينات من القرن الماضي، وبلغت ذروتها على أثر انهيار حلف وارسو والاتحاد السوفياتي. أطلق صامويل هنتنغتون ولاري داياموند على هذه الموجة أسم "الموجة الثالثة"، إذ أنها كانت القفزة الثالثة والأهم في عدد الديمقراطيات التي تلت تلك التي ظهرت إثر موجة التحرر من الاستعمار عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن الجدير بالإشارة إليه هو أن 118 ديمقراطية قد دعيت إلى مجتمع الديمقراطيات الوزاري الذي استضافته جمهورية كوريا بين العاشر والثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر هذه السنة. كانت هذه 118 ديمقراطية تظهر فيها أسس حقيقية للديمقراطية، إضافة إلى 21 دولة دعيت بصفة دول مراقبة. الحقيقة أن كوريا الجنوبية هي نفسها إحدى أوائل هذه الدول في حكاية نجاح الموجة الثالثة، ذلك أن رئيسها كان معارضاً خارجياً وهو الآن قائد انتخب بحرية ويستعد للتخلي عن منصبه بعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة.
تجارب العالم الإسلامي(19/409)
حضر عدد من الدول ذات الأكثرية الإسلامية اجتماع مجتمع الديمقراطيات في سيوول، ضم أفغانستان، والجزائر، وبنغلادش، وإندونيسيا، والأردن، والكويت، ومالي، والمغرب، ونيجيريا، وقطر، وتركيا، واليمن. هذه البلدان إما ديمقراطيات أو في طريقها لأن تصبح أكثر ديمقراطية.
إن كون هذا العدد الكبير من البلدان الإسلامية قد دعي إلى سيوول أما كديمقراطيات ناضجة أو مراقبة، يعكس الواقع القائل بان تطورات واعدة تحصل حالياً عبر العالم الإسلامي. أستعمل عبارة "العالم الإسلامي" مع بعض التخوّف لإدراكي للتنوع الكبير للبلدان التي يشملها هذا التعبير كما وباتساعها الجغرافي - من المغرب إلى إندونيسيا ومن كازاخستان إلى تشاد. لكن، ضمن هذا التنوع، ثمة بعض النقاط المشتركة: أي أن المسلمين، متى تتوفر لهم الفرص، يتبنّون القواعد الديمقراطية ويختارون الديمقراطية.
لقد أشار الرئيس بوش إلى هذه النقطة عندما خاطب خريجي كلية وست بوينت العسكرية في الأول من حزيران / يونيو 2002 إذ قال: "عندما تتعلق القضية بالحقوق والاحتياجات المشتركة للرجال والنساء، ليس هناك صدام حضارات. فمتطلبات الحرية تنطبق تماماً على أفريقيا وأميركا اللاتينية وكل العالم الإسلامي. فشعوب الدول الإسلامية تريد وتستحق الحريات ذاتها مثلها مثل الشعوب في كل بلد. ومن واجب حكوماتهم الإصغاء إلى آمالهم."
تدلّ تجاربُ الإصلاحات الديناميكية التي تجري حالياً في العديد من أجزاء العالم الإسلامي أن الديمقراطية والإسلام متلائمان. وأود أن ألقي الضوء على بعض هذه التجارب معترفاً بأن هذا البعض أبعد من أن يشكل لائحة كاملة.
ففي المغرب، أدلى المواطنون بأصواتهم في أيلول/سبتمبر الماضي في أكثر انتخابات حرية ونزاهة وشفافية في تاريخ البلاد، وكوّنوا مجلساً نيابياً منوعاً.
في تشرين الأول/أكتوبر، أدلى مواطنو البحرين بأصواتهم لأول مرة منذ ثلاثين سنة لانتخاب مجلس نيابي جديد. وكانت هذه المرة الأولى أيضاً التي تترشح فيها نساء لمراكز قومية. وفي الأسبوع الماضي، أعلن سلطان عمان قابوس عن منح حق التصويت في انتخابات مجلس الشورى إلى جميع البالغين من سكان البلاد. وفي مطلع هذا العام، أعلنت قطر عن دستور جديد استعداداً للانتخابات النيابية القادمة. ولا تفاخر اليمن اليوم بنظام متعدد الأحزاب وبمجلس نيابي منتخب فحسب، بل وأيضاً بالانتخاب المباشر للمسؤولين في البلديات، وبدءاً من سنة 1999، بالانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية. بعد حرب الخليج، أعادت الكويت الانتخاب المباشر لمجلسها الوطني؛ ويستعد الكويتيون حالياًً للجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في الصيف القادم.
وفي أماكن أخرى، نشاهد عدة عناصر للديمقراطية في بلدان ذات أكثرية إسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا. ونسمع أصواتاً إسلامية مشجعة تدعو إلى التعددّية والديمقراطية، بدءاً من محمد طالبي في تونس إلى نورشوليش مجيد، على مسافة نصف العالم، في إندونيسيا، البلد الإسلامي الأكثر سكاناً. تلك هي فقط بعض الأمثلة عن التّخمرّ الديمقراطي الذي يحصل في أماكن أخرى من العالم الإسلامي، من ألبانيا إلى جيبوتي ومالي والنيجر والسنغال وسيراليون. هذا النقاش لا زال بعيدا عن الحل تماما كما لا زال أمام التجارب التي ناقشتها طريقاً طويلة قبل أن تتثبت فيها الديمقراطية. لكن لا يجوز إغفال التقدم الكبير الذي يحصل.
وعلينا أيضاً الاعتراف بأن المسلمين يشاركون بصورة كاملة وبنشاط في الحياة المدنية للبلدان الديمقراطية حيث لا يشكلّون أكثرية السكان. إن حوالي أربعين بالمئة من المسلمين يعيشون كأقليات بما في ذلك عدة ملايين هنا هم جزء هام ونشيط من الديمقراطية الأميركية. ففي بلدان مثل الهند وفرنسا وجنوب أفريقيا، يدحض المسلمون الإشاعات الكاذبة بأن طريقة الحياة الإسلامية لا تتلاءم مع المشاركة الديمقراطية.
كما أننا ندرك إمكانيات قيام ديموقراطيات أكثر في مناطق أخرى من العالم الإسلامي. دعوني أذكر ثلاثة أمثلة فقط. ففي أوساط الشعب الفلسطيني، نستمع إلى مطالبة قوية بالمؤسسات الديمقراطية. وتعمل الولايات المتحدة إلى جانب الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية لمساعدة الفلسطينيين في إيجاد إطار عمل دستوري جديد وديمقراطية فعّالة. لقد أشار الرئيس بوش إلى "أن نهاية الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مسالمة وديمقراطية قد تبدو بعيدة، لكن أميركا وشركاءنا حول العالم على استعداد للمساعدة، لمساعدتكم على جعل ذلك ممكناً بأقرب وقت ممكن. فإذا كانت الحرية قادرة على أن تزدهر في الأراضي المضطربة للضفة الغربية وغزة، فإنها سوف تلهم ملايين الرجال والنساء حول العالم من المرهقين أيضاً بالفقر والقمع، والمؤهلين بدورهم للفوائد التي تؤمنها الحكومة الديمقراطية."(19/410)
ونرى في إيران مطالبة شعبية بالإصلاحات على نطاق واسع سوف ينتج عنها، على ما نأمل، مزيداً من الديمقراطية ومزيداً من الانفتاح. فشعب إيران يطمح إلى نفس الحريات وحقوق الإنسان والفرص كما الشعوب الأخرى حول العالم. الشعب الإيراني يصارع مسائل صعبة تدور حول كيفية بناء مجتمع حديث للقرن الحادي والعشرين يكون في نفس الوقت مسلما، ومزدهرا وحراّ. ففي الانتخابين الرئاسيين الإيرانيين الأخيرين، وفي حوالي ستة انتخابات برلمانية ومحلية، صوتت الأكثرية العريضة للشعب الإيراني لمصلحة الإصلاح السياسي والاقتصادي.
ويستحق العراق أيضاً أن نذكره في هذا السياق. أميركا صديق لشعب العراق الموهوب ولطموحاته. مطالبنا موجهة فقط إلى النظام الذي يستعبد هذا الشعب ويهدد باقي العالم. عندما سيتحرر العراقيون من ثقل القمع، سوف يصبحون قادرين على المشاركة في تقدم وازدهار عصرنا. الولايات المتحدة وحلفاؤنا على استعداد لمساعدة الشعب العراقي على إنشاء مؤسسات الحرية في عراق حر وموحّد.
نقص الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي
على الرغم من هذه الإشارات المشجعة، ينبغي علينا الإعتراف، واقعياً، بوجود نقص في الحريات في العديد من أجزاء العالم الإسلامي، وعلى الأخص في العالم العربي. يدعم آدريان كراتنتسكي، رئيس مؤسسة فريدوم هاوس بالوثائق في نشرة المؤسسة تحت عنوان "تقرير وضع الحرية 2001-2002 " الفجوة الخطيرة بين مستويات الحرية والديمقراطية في البلدان الإسلامية - على الأخص في قلبها العربي - وفي باقي أنحاء العالم."
الفجوة الديمقراطية بين العالم الإسلامي وباقي أنحاء العالم هائلة. إن واحدة فقط من أصل كل أربع دول ذات أكثرية إسلامية لديها حكومات منتخبة بطريقة ديمقراطية. علاوة على ذلك، تزداد الفجوة اتساعاً بين البلدان الإسلامية وباقي العالم. خلال السنوات العشرين الأخيرة، تمدّدت الحرية والديمقراطية في بلدان في أميركا اللاتينية، وإفريقيا، وأوروبا، وآسيا. وعلى العكس من ذلك، لا يزال العالم الإسلامي يصارع. صحيح أن عدد البلدان "الحرّة"، حسب معايير فريدوم هاوس قد ازداد حول العالم بمعدل ستة وثلاثين بلداً تقريبا خلال السنوات العشرين الماضية، لكن لم يكن بين تلك البلدان أي بلد ذي أكثرية إسلامية.
قد يقول البعض إن هذه الأحكام أحكام غربية وهي بالتالي غير نزيهة. لهؤلاء، أشير إلى وثيقة صَدَرت في الصيف الماضي وأعدّها فريق من أكثر من 30 باحثاً عربياً، أي إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي كتب برعاية برنامج الأمم المتحدة للتنمية والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والذي يصوّر عالما عربيا لا يساير الركب العالم بالنسبة إلى المناطق الأخرى في أمور أساسية تشمل الحريات الفردية، وتعزيز مكانة المرأة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إنه يصف شعوباً غير مزدهرة وغير حرة. ويشير إلى اتجاهات مقلقة، مثل ازدياد أعداد الشباب مضافة اليها البطالة بينهم التي تكاد تبلغ حوالي 40 بالمئة في بعض الأماكن وتنذر بظروف اجتماعية قابلة للانفجار. يواجه العالم العربي مشاكل جدّية يمكن معالجتها فقط على أيدي أنظمة سياسية أكثر مرونة وديمقراطية.
إنهاء الاستثناء الديمقراطي
لا يمكن للمسلمين لوم الولايات المتحدة على افتقار بلدانهم إلى الديمقراطية عندهم. لكن يبقى أن الولايات المتحدة تلعب دوراً كبيراً على المسرح الدولي كما أن جهودنا الرامية إلى تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي قد كانت أحيانا عرجاء وغير كاملة. الحقيقة أن الحكومات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، لم تجعل من الديمقراطية أولوية بشكل كاف في العديد من أجزاء العالم الإسلامي، وعلى الأخص، في العالم العربي.
في بعض الأحيان، تجنّبت الولايات المتحدة النظر بتعمّق في الأعمال الداخلية للبلدان لصالح تأمين دفق متواصل من النفط، ولكبح التوسع السوفياتي والعراقي والإيراني، وللتعامل مع القضايا المتصلة بالنزاع العربي - الإسرائيلي، ومقاومة الشيوعية في شرق آسيا، أو تأمين حق الحصول على القواعد لقواتنا العسكرية. وهكذا، ولإهمالنا تقديم المساعدة لتعزيز المسار التدريجي نحو الديمقراطية في العديد من علاقاتنا الهامة - بخلقنا ما يمكن تسميته "الاستثناء الديمقراطي" - فاتتنا قرصة مساعدة تلك البلدان لكي تصبح أكثر استقراراً، وأكثر ازدهاراً، وأكثر سلاماً، وأكثر تكيّفاً مع ضغوطات عالم في طور التعولم.
ليس من مصلحتنا - أو من مصلحة الشعوب التي تعيش في العالم الإسلامي - أن تواصل الولايات المتحدة هذا الإستثناء. سوف تتعامل السياسة الأميركية بنشاط أكبر لمساندة الاتجاهات الديمقراطية في العالم الإسلامي أكثر من أي وقت مضى. هذه هي رسالة الرئيس الواضحة في وثيقة استراتيجية الأمن القومي.(19/411)
سوف نفعل ذلك مع علمنا التام أن الديمقراطيات غير كاملة. إنها معّقدة. والحقيقة، أن القادة في بعض الدول الإسلامية يقابلون بين الأنظمة الديمقراطية وبين أنظمتهم، وهي أنظمة أكثر نظاماً، ويشيرون بارتياح إلى الاستقرار الظاهري التي تؤمنه أنظمتهم. لكن الاستقرار القائم على السلطة وحدها استقرار وهمي وتستحيل استدامته في نهاية المطاف. لقد شاهدنا في إيران ورومانيا وفي ليبيريا ماذا حصل عندما تنفجر طنجرة الضغط. فالأنظمة الاستبدادية الجامدة لا يمكنها الصمود بوجه صدمات التغيرات الاجتماعية والسياسية أو الاقتصادية، خصوصاً من النوع أو بالوتيرة التي يتميز بها العالم المعاصر.
الدور الذي تلعبه الديمقراطية في تأمين الاستقرار الداخلي بيّنته بوضوح محادثة أجريتها مع مجموعة إسلامية مؤخراً خلال زيارتي للهند. فقد شرحوا لي الأسباب التي تقف وراء غياب الإرهاب لدى المجتمعات الإسلامية الكبيرة في الهند. كان تفسيرهم أن الهند بلد ديمقراطي، وأن المسلمين يشاركون فيه بالكامل، وفي المناسبات التي لا يشاركون فيها، لهم الحق الكامل في اللجوء إلى النظام القضائي.
عندما نجعل من العملية الديمقراطية أولوية كبرى في تعاملنا مع العالم الإسلامي، علينا قبل أي شيء آخر، على غرار الأطباء، احترام حلف هيبوقراط وعدم التسبب بالإيذاء أولاً. فالحماس غير المنضبط لتحسين العالم قد يجعله أسوأ. علينا القيام بهذه المهمة بتواضع مُتفهمين أن رهان الآخرين أكبر من رهاننا. ففي الوقت الذي تتحرك فيه شعوب العالم الإسلامي نحو تطور أكثر انفتاحاً وديمقراطية، يتوجب علينا ليس فقط تشجيعهم ومساعدتهم، بل نحتاج أيضاً إلى الإصغاء إلى الشعوب المعنية مباشرة بشكل أكبر.
الدوافع الأميركية
قد يتساءل الناس عن التوقيت، وبالطبع عن الدوافع، لإثارة هذه القضية في هذا الوقت بالذات. وقد يشير البعض إلى أن حديثي هذا المساء يأتي وسط جهود دولية مضاعفة لجعل العراق ينصاع لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد يرى آخرون في كلامي حول الديمقراطية إما محاولة لإخفاء مصلحتنا في تغيير النظام في العراق، أو كإشارة لعدائنا تجاه شعوب العالم الإسلامي. وبالطبع، سوف يذهب البعض إلى حد القول إن الحديث الأميركي حول الديمقراطية يهدف إلى قلب الأنظمة عبر الشرق الأوسط، أو سوف يستخدم كعملية تأديبية ضد الذين ينظر اليهم كأعداء لأميركا. اسمحوا لي أن أتناول بعض هذه المخاوف.
أولأً، ليس هناك برنامج عمل مخفي. إن الأساس المنطقي الأميركي في تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي هو في نفس الوقت لمصلحتنا ولمصلحة الغير. فالمزيد من الديمقراطية في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية هو أمر جيد بالنسبة للشعوب التي تعيش هناك. لكنه أيضاً جيد بالنسبة للولايات المتحدة. فالبلدان المبتلاة بالجمود الاقتصادي والافتقار إلى فرص العمل، وبالأنظمة السياسية المغلقة، وبالسكان المتكاثرين بسرعة، تغذي العداوة لدى مواطنيها. ويمكن أن تكون تلك المجتمعات، كما تعلمّنا من التجربة القاسية، أرضاً خصبة لتربية المتطرفين والإرهابيين الذين يستهدفون الولايات المتحدة بحجة دعمها للأنظمة التي يعيشون في ظلها. الأمر الآخر الذي له أهمية معادلة، هو أن الهوة المتزايدة بين العديد من الأنظمة الإسلامية ومواطنيها قد تعطّل قدرة تلك الحكومات في التعاون حول قضايا ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. هذه الضغوطات الداخلية سوف تحدّ كثيراً من قدرة العديد من أنظمة العالم الإسلامي على توفير العون، أو حتى الموافقة على الجهود الأميركية الرامية إلى مكافحة الإرهاب أو التعامل مع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
خلال الأشهر القليلة الماضية، قمت بزيارة لمصر وباكستان والعديد من دول الخليج، من بينها العربية السعودية، وسنحت لي الفرصة لمناقشة هذه القضايا مع أناس ينتمون إلى تشكيلة واسعة من الخلفيات والاتجاهات. كان أكثر ما صدمني عدد الذين يشعرون بالإحباط بالنسبة لتقصير الولايات المتحدة في التحدث جهاراً بإسم الديمقراطية. فسكوتنا، في نظرهم، يعني الموافقة الضمنية على الحالة الراهنة. ليس هذا هو الواقع دون ريب، لكن محادثاتي أظهرت، عندما يتعلق الأمر بتنفيذ السياسة الخارجية، كيف يكون خطر الامتناع عن العمل مُساوٍ لخطر القيام بعمل.
قد يقول البعض إن الولايات المتحدة على استعداد فقط لمساندة النتائج الانتخابية التي ترضيها. ليس الأمر كذلك. الولايات المتحدة سوف تساند العمليات الديمقراطية حتى إذا كان الذين منحوا السلطة لا يختارون سياسات نحبذها. لكن دعوني أوضح هذه النقطة. علاقات الولايات المتحدة مع الحكومات، حتى لو انتخبت بنزاهة، سوف تتوقف على كيفية معاملة هذه الحكومات لشعوبها وكيف تتصرف على المسرح الدولي بالنسبة لقضايا تبدأ من الإرهاب مروراً بالتجارة وعدم انتشار المخدرات.(19/412)
نحن ندرك تماماً عندما نشجع الديمقراطية، أن التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرة في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم. لكن السبب لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان الساحقة بل لأنها في الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة. بعد الذي قلته، دعونا لا نترك مجالاً لسوء الفهم: الولايات المتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية تماماً كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو اليهودية أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة. إن طريقة استقبالنا لنتائج انتخابات الشهر الماضي في تركيا تبرهن بوضوح على هذه النقطة. لقد عبّر عن ذلك رئيس وزراء تركيا، عبد الله غول، على أحسن ما يرام، عندما قال بعد إدلاء القَسَم قبيل تسلمه منصبه: "نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون ديموقرطية، ويمكن أن تكون شفافة، ويمكن أن تتماشى مع العالم المعاصر." والأميركيون على ثقة بأن الشعب التركي قادر على إثبات كل هذا ونريد أن نساعدهم في ذلك.
وهناك من سيقول إن الديمقراطية مستحيلة في العالم الإسلامي لأنه لديه القليل من التاريخ أو التقاليد الديمقراطية. وهذا قول أرفضه أيضاً؛ ذلك أنه، حتى زمن غير بعيد، كان عند القليل من أجزاء أخرى من العالم بعض التجارب الديمقراطية. هذا الإدعاء يعكس ما وصفه الرئيس بوش بأنه "تعصب مقنع يقوم على أدنى التوقعات الممكنة". فكما قال مرة سفير عُماني سابق لدى واشنطن: "إن خنق حرية التعبير في تجربتنا القومية، وحرمان شعبنا من الانتخابات الحرة، أو إدارة شؤوننا دون تأمين الإجماع بشأنها، ومنع النشاط السياسي السلمي عن جماهيرنا، ليست هذه خصوصية عربية أو من شروط العقيدة الإسلامية."
دروس تعلّمناها
سوف تعمل الولايات المتحدة بقوة أكثر من أي وقت مضى على تشجيع الديمقراطية بالشراكة مع شعوب وحكومات العالم الإسلامي.
إحدى آليات هذا الهدف سوف تكون شراكة جديدة سيعلن عنها في الأشهر القادمة الوزير باول. وسوف تركز هذه المبادرة على تشجيع التطور في ثلاثة مجالات حساسة بالنسبة للتقدم في العالم العربي: الإصلاحات الاقتصادية، والتعليمية، والسياسية. سوف نؤمن موارد جديدة لهذه الجهود علاوة على المليار دولار أميركي التي ننفقها سنوياً في المساعدة الاقتصادية في العالم العربي. وفي حين سنموّل مشاريع جديدة هادفة إلى توسيع المشاركة السياسية، ومساندة المجتمع المدني وحكم القانون، سوف تُوجّهنا ثمانية دروس تعلمناها في أنحاء أخرى من العالم.
أولاً، هناك عدة نماذج للديمقراطية. ليس على العملية الديمقراطية إتباع نموذج واحد؛ والحقيقة أنه لا يوجد نموذج ديمقراطي واحد لتقليده. فبدءاً من الملكيات الدستورية إلى الجمهوريات الفدرالية وإلى الأنظمة البرلمانية من كل الألوان، يظهر التاريخ تنوع الديمقراطية. فهناك فوارق هائلة عبر العالم الإسلامي ويجب تكييف الأنظمة السياسية لكي تتلاءم مع بيئتها المحلية.
ثانيا، الانتخابات لا تصنع الديمقراطية. فكما رأينا في انتخابات العراق، حيث نال صدام حسين مئة بالمئة من الأصوات، تحاول الأنظمة الأكثر وحشية غالباً إضفاء الصفة الشرعية على حكمها من خلال انتخابات صورية. من هنا، وجب على الانتخابات لكي تعبر بصدق عن رغبات الشعب، أن تكون مندمجة مع مجتمعات توجد فيها مؤسسات مدنية قوية وناضجة وتوزيع للسلطة. تجربة البحرين تصوّر هذه النقطة: فقد جرت الانتخابات هناك بعد أن اتخذت خطوات لإطلاق سراح السجناء السياسيين، وألغيت السلطات الاعتباطية من الدستور، وتم إصلاح القضاء والسماح لوسائل الإعلام بالعمل بصورة مستقلة. وبالمقابل، ألقت تجربة الجزائر، سنة 1991، الضوء على خطورة إجراء الانتخابات في غياب مجتمع تعدّدي.
ثالثاً، الديمقراطية تحتاج إلى وقت. إن زرع الأفكار وتطوير العملية السياسية والمؤسسات والتقاليد يحتاج إلى الوقت. فقياس العملية الديمقراطية لا يقاس بالأسابيع أو الأشهر بل بالسنين والعقود والأجيال. فكما لاحظت مؤخراً كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي: "إستناداً إلى تاريخنا نحن، نعرف في الولايات المتحدة أن علينا أن نكون صبورين ومتواضعين. فالتغيير، حتى عندما يكون المقصود منه الأحسن - كثيراً ما يكون صعباً. والتقدم كثيراً ما يكون بطيئاً".إن ديمقراطيتنا أبعد من أن تكون مثالية، وهي منفتحة دائماً للتحسين، كما دلت على ذلك التعديلات التي أدخلت على دستورنا وكذلك الخطوات التي اتخذت لمنح الأميركيين من أصول إفريقية والنساء كامل حقوق المواطنة.(19/413)
رابعاً، الديمقراطية تعتمد على شعب مطّلع ومتعلم. التعليم يمكّن الشعب من التعرف إلى حقوقه وإلى كيفية ممارستها. فالشعوب المتعلمة القادرة على اتخاذ قرارات تستند إلى معلومات تساعد الديمقراطية على التجذّر. لقد حققت البلدان في العالم الإسلامي تقدماً بارزاً في تعزيزها القراءة والكتابة، لكنها قامت بجهود أقل في إيجاد شعوب واسعة الاطلاع والقراءة. يلاحظ المعلقون المسلمون أن الأنظمة التعليمية لا تُعِدّ الطلاب للنجاح في القرن الواحد والعشرين. يُحدد عبد الحميد الأنصاري، عميد كلية الشريعة في جامعة قطر، المشكلة بصورة مباشرة تماماً: "إن قسماً هاماً من خطابنا التعليمي منقطع عن العلوم الحديثة وهو قائم على نظرة ذات بعد أحادي، مما يخلق عقلية مقفلة ومنحى سهلاً باتجاه التعصّب. فهي تزرع مفاهيم خاطئة تتعلق بالنساء وبالأقليات الدينية أو الإثنية؛ وتسيطر عليها أساليب الحفظ غيباً والتكرارية." التعليم يعني أكثر بكثير من مجردّ الذهاب إلى المدرسة. فالديمقراطيات المزدهرة تتطلب تقاليد المساءلة وليس الحفظ عن ظهر قلب.
خامساً، الوسائل الإعلامية المستقلة والمساءلة أمور ضرورية. للوسائل الإعلامية دور حسّاس تلعبه كعنصر أساسي في المجتمع المدني. تكون هذه الوسائل، في الديمقراطيات، حرة ولا تسيطر عليها الدولة. وهذا يسمح بظهور آراء وأفكار ووجهات نظر متعددة يجري نشرها في ساحة سوق الأفكار. إن أفضل حماية ضد الأفكار التي تنشرها وسائل الإعلام ولا يوافق عليها الناس هو نشر أكبر عدد من وجهات النظر بدلاً من إسكات الأصوات الإعلامية. على وسائل الإعلام المستقلة، في الوقت نفسه، مسؤوليات كما على الحكومات والمواطنين مسؤوليات. فعليها دعم المعايير المهنية والتشديد على تقارير تكون مستندة إلى حقائق. وعليها التثقيف وليس فقط الدعوة للقضايا.
سادساً، النساء عنصر حيوي في الديمقراطية. لا يمكن أن تنجح البلدان إذا حُرم نصف سكّانها من الحقوق الديمقراطية الأساسية. فالحقوق التي تتمتع بها النساء هي عامل حاسم أساسي في الحياة النابضة لأي مجتمع. فالمجتمعات التي يحكمها الرجال والتي تلعب فيها النساء دوراً تابعاً لدور الرجال هي أيضاً مجتمعات يلعب فيها الرجال دوراً تابعاً لدور رجال آخرين، حيث يُحال مبدأ الجدارة إلى المقاعد الخلفية وتسبقه العلاقات الشخصية والمحسوبية ومحاباة الأقرباء.
سابعاً، الإصلاحات السياسية والاقتصادية تقوي بعضها البعض. يساعد تحديث الاقتصاد القائم على قوى السوق في إدخال عناصر الديمقراطية: حكم القانون، وصنع القرار بشفافية، وحرية تبادل الأفكار. ويصح قول الشيء نفسه عن عناصر الديمقراطية التي بدورها تدعم وتُسرّع النمو الاقتصادي. ولا يحتاج ذلك لأن يكون مساراً متتابعاً كمثل تنمية الاقتصاد التي يتبعها التحرير السياسي. فعندما تسير الحرية السياسية والحرية الاقتصادية يداً بيد، تقوم بتقوية بعضها البعض. وتوفر الديمقراطية للشباب طريقاً للتعبير عن طموحاتهم. فالديمقراطية هامة بنفس الدرجة إذ أنها تعزز النمو الاقتصادي بحيث يمكنه توفير الأمل للشباب حين يقدم لهم قطعة من الكعكة الاقتصادية المتنامية.
ثامناً، في حين يمكن تشجيع الديمقراطية من الخارج، لكن الأفضل بناؤها من الداخل. فالديمقراطية عملية يدفعها بالأساس أعضاء المجتمع، أو مواطنوها. وهم فقط يمكنهم تعزيز روح وممارسة التسامح بحيث يتأمن الاحترام لحقوق الأقليات والأفراد. وإذا حاولت الولايات المتحدة أو أي فريق آخر فرض المظاهر الخارجية الديمقراطية على بلد ما، فان النتيجة سوف تكون غير ديمقراطية وغير قابلة للاستدامة. إن الطريقة الوحيدة لتجذّر الديمقراطية هو تركها تنبت في الداخل.
برنامج العمل الديمقراطي وما بعده
ملاحظاتي هذا المساء مُكَرسّة بكل وضوح لمسألة الديمقراطية. غير أن الديمقراطية يمكن أن تكون مظهراً واحداً فقط لسياسة الولايات المتحدة الخارجية. ففي الوقت الذي تقوم فيه قوى الديمقراطية بعمل سحرها على المدى البعيد، نبقى بحاجة إلى التعامل مع قضايا هامة أخرى تصل إلى مكاتبنا كل يوم.
نحتاج إلى مواصلة العمل لأجل وضع حدّ للنزاعات الملتهبة بين إسرائيل والعالم العربي عن طريق تحقيق الرؤيا البعيدة للرئيس بوش حول دولتين ديمقراطيتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن خلال أقل من ثلاث سنوات. كذلك، سوف تواصل الولايات المتحدة العمل للتأكد من أن العراق قد تم تجريده من سلاحه وأن نزاهة الأمم المتحدة لم تمس. وسوف نواصل أيضاً مساعدة أفغانستان والشعب الأفغاني بعد أن تم تحرير بلدهم. ونحن على استعداد لمساعدة الهند وباكستان - يعيش ضمن حدودهما 300 مليون مسلم- على إقامة علاقات طبيعية أكثر بينهما بما في ذلك إيجاد حل مقبول من الطرفين لقضية كشمير.(19/414)
لا تقع مهمة تعزيز الديمقراطية في العالم الإسلامي على عاتق الولايات المتحدة وحدها. سوف نعمل سوية مع حلفاء ديمقراطيين كأوروبا واليابان. وزيادة على ما نفعله كحكومات، هناك دور حاسم قد تلعبه المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات والأفراد. وهناك دور هام مساوٍ سوف تلعبه مجتمعات الأعمال الأميركية التي يمكن أن يكون لها إثر إيجابي هائل من خلال استثماراتها، وممارساتها في التوظيف، ودعمها للتعليم والتدريب.
كما أننا لا ننطلق من العدم. فحكومة الولايات المتحدة تتعامل بعمق وبعدة طرق في مساعدة العديد من البلدان ذات الأكثرية المسلمة في تطوير مؤسساتها الديمقراطية وبنيتها الاجتماعية التحتية الضرورية لكي تتمكن الديمقراطية من التجذر. لقد شجعنا طيلة سنوات، المبادلات التعليمية والثقافية مع شعوب ومؤسسات في العالم الإسلامي لأجل تعزيز مكوّنات المجتمع المدني والحكومات التي تشارك شعوبها. ونساعد الطلاب على تطوير أدوار جديدة لهم كمواطنين من خلال برامج تدريب المدرسّين وكذلك عبر عملنا الخاص بتعليم اللغة الإنجليزية. وتعمل الولايات المتحدة أيضاً بقوة لتشجيع الازدهار الاقتصادي كمحّرك للتغيير الديمقراطي. فالعضوية في منظمة التجارة العالمية تشجع التحرر الاقتصادي والسياسي. والولايات المتحدة مستعدة لتشجيع عملية الاندماج في هذا المجال وهي تدرس إمكانيات عقد اتفاقات للتجارة الحرة كتلك التي أنجزتها مع الأردن والتي تبحثها مع المغرب.
وتعمل الولايات المتحدة أيضاً عبر تشكيلة واسعة من البرامج - بدءاً من برنامج الزوار الدوليين، وصولاً إلى تقديم المنح لمؤسسات التعليم المحلية - بهدف تشجيع التطوير إنتاج الأسس لبناء ديمقراطية تشمل صحافة محترفة متوازنة ومتحررة من رقابة الدولة، ومؤسسات غير حكومية نشطة، وقضاء مستقل. وتعمل المؤسسات الأميركية الممولة من الحكومة مثل المعهد الديمقراطي القومي والمعهد الجمهوري الدولي في العديد من البلدان ذات الأكثرية المسلمة للمساعدة في تعزيز المؤسسات الديمقراطية. لقد خدم الأميركيون كمراقبين في العالم المتحّول نحو الديمقراطية - بما في ذلك العالم الإسلامي - للمساعدة في تأمين انتخابات حرة ونزيهة. وتمول الولايات المتحدة أيضاً قسماً هاماً من نشاطات منظمة الأمن والتعاون لأوروبا في بلدان آسيا الوسطى والقوقاز المسلمة. وتعمل منظمة الأمن والتعاون لأوروبا، بدءاً من تطوير قواعد انتخابية نموذجية إلى تعزيز دور مراقبي حقوق الإنسان وصولاً إلى التدريب الاحترافي للوسائل الإعلامية المستقلة، وذلك لدعم الديمقراطية في تلك البلدان التي استقلت حديثاً.
طريق الديمقراطية طويل، ويعود إلى الشعوب المعنية اجتيازه بأنفسهم. لقد مشينا في هذا الطريق لمدة 220 سنة خلت ولم نصل بعد إلى هدفنا الأخير الذي هو الديمقراطية المثالية.
إلا أن كل خطوة نخطوها تأتي بفوائد - للمواطنين، وللبلدان، وللمناطق، وللعالم. غير أنه لا يزال العديد من المسلمين يسيرون في المؤخرة. يجب أن ينتهي هذا. نحن ندرك أن الولايات المتحدة قادرة ويتوجب عليها أن تفعل أكثر؛ إن تعزيز الديمقراطية، بما في ذلك داخل العالم الإسلامي، هو أولوية بالنسبة للرئيس بوش ولوزير الخارجية باول. نحن الآن بصدد دراسة ما نقوم بعمله حالياً لنتمكن من المساعدة في هذه العملية بطريقة أفضل وأكثر فعالية. وسوف نطلق خلال الأسابيع والأشهر القادمة برامج جديدة مثل المبادرة الأميركية - الشرق أوسطية الهادفة إلى التعاون مع الحكومات والشعوب في العالم الإسلامي.
يبقى أن قرار التحرك باتجاه مسار الديمقراطية يعود، في نهاية المطاف، إلى شعوب العالم الإسلامي. إن من مصلحتهم ومصلحتنا أن يقوموا بذلك. وهذه هي أيضاً الطريقة الوحيدة التي تستطيع فيها هذه المجتمعات، شأنها شأن المجتمعات الأخرى في العالم، الاستفادة على أحسن وجه وإلى أبعد حد من الطاقات الكامنة لدى شعوبها، وتحقيق مستقبل لها يتميز بمزيد من الحرية، ومزيد من السلام، ومزيد من الازدهار.
==================(19/415)
(19/416)
أمريكا والعالم الإسلامي: علاقة متأزمة تنتظر الحسم!
28/11/2002
د. بي.دبليو.سينجر *
ترجمة وتحرير: شيرين حامد فهمي**
الأقليات المسلمة.. بؤرة تحدٍ جديدة
ما زالت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 - وما تبعها من ردود أفعال مختلفة - ترمي "بظلالها المحيرة" على السياسة الخارجية الأمريكية؛ مثيرة عدداً من التحديات التي ستكون -في أغلب الظن- بؤرة اهتمام العلاقات الدولية في السنوات القادمة. تلك التحديات التي تتراوح من الحرب على الإرهاب إلى الدور الأمريكي في عملية السلام الشرق أوسطية، إلى "تصنيع" دبلوماسية أمريكية أكثر جذباً للعالم. وها نحن -للأسف- نجتمع بعد مضي عام كامل على الأحداث؛ لنخطط وندبر.. ولنخرج بالقرارات والسياسات التي نحتاجها لحل هذه التحديات.
وبالرغم من أن العام الماضي قد شهد تفوقاً واضحاً للآلة العسكرية الأمريكية في داخل الأراضي الأفغانية، فإنه شهد في نفس الوقت "تطوراً" سلبيًّا في العلاقات الأمريكية الإسلامية. والعالم الإسلامي هنا لا يقتصر فقط على الشرق الأوسط، وإنما يمتد إلى دول إسلامية أخرى -وكذلك حركات إسلامية- في إفريقيا، أوربا، الجمهوريات السوفيتية السابقة في وسط آسيا، جنوب آسيا، جنوب شرق آسيا وغيرها. وأكبر دليل على هذا "التطور السلبي" يتمثل في نتائج الاستطلاعات التي ظهرت في معظم الدول الإسلامية، والتي دللت على مدى البغض -الذي تشكل لدى المسلمين- تجاه الولايات المتحدة الأمريكية؛ هذا بالإضافة إلى التصاعد المستمر للعنف في منطقة الشرق الأوسط.
وفي قلب هذه التطورات المتدهورة، تطل علينا سلسلة من الإشكاليات dilemmas)) التي -من المفترض- أن تضاعف من تأزم علاقتنا مع المسلمين، سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى الحركات. تلك الإشكاليات لا تنصب فقط فيما يتعلق بالمناطق والأقاليم -من الحرب على الإرهاب إلى حرب العراق المفترضة - بل تمتد وتتمدد إلى ما هو أبعد من ذلك: إلى العلاقات بين العالمين على المدى البعيد. وإلى أن يأتي صانعو القرار بالإستراتيجيات الملائمة لحل تلك الإشكاليات، فإن الأخيرة ستظل عاملاً ضاغطاً ومهيمناً على العلاقات الأمريكية الإسلامية، ليس لعدة سنوات، وإنما لعدة أجيال قادمة.
هذا التقرير لا يقدم أية حلول نهائية؛ وإنما يلقي الضوء على الإشكاليات الأولية التي تواجهها الإدارة الأمريكية في "سياستها الطويلة" تجاه العالم الإسلامي. باختصار إذا أرادت الإدارة الأمريكية أن تطور سياسة فعالة تجاه العالم الإسلامي، فعليها التوصل -وبسرعة- إلى "القرارات الصعبة" التي تحل تلك الإشكاليات.
فما هي هذه الإشكاليات؟
*
الديمقراطية: الكلمة الرهيبة
*
إسرائيل وفلسطين وما وراءهما
*
تحدي "الإصلاح"
*
الأقليات المسلمة
*
الحرب الباردة الجديدة
*
الخاتمة
الديمقراطية: الكلمة الرهيبة
على امتداد عقود عديدة، تمحورت السياسة الأمريكية -حيال العالم الإسلامي- حول "مساومة" أساسية، تنص على الآتي: كلما كانت المصالح الإستراتيجية الأمريكية مستتبة ومستقرة (مثل احتواء الشيوعية، والتدفق المستقر للطاقة)، كانت الإدارة الأمريكية مؤيدة للوضع الراهن في العالم الإسلامي؛ ومن ثم، فلا تسعى إلى "إصلاحه" سياسيًّا أو اقتصاديًّا. وبالطبع تم بناء هذه "المساومة" على أساس أن حكومات العالم الإسلامي هي الفاعل المهم والوحيد؛ وأنها هي الأقدر -من خلال قدراتها السلطوية- على أداء دورها في تلك المساومة.
أما بعد أحداث سبتمبر 2001 فقد صارت "المساومة" محل جدل واضح وعنيف في أوساط صانعي القرار الأمريكي.. وصار السؤال الملح هو التالي: هل أنهت اعتداءات 11 سبتمبر تلك المساومة؟ والحق يقال بأن المصالح الإستراتيجية الأمريكية في العالم الإسلامي قد تغيرت تغيراً جذريًّا بفعل تلك الأحداث؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور تحديات جديدة، قام الإرهابيون بفرضها. هذا بالإضافة إلى اضمحلال قوة الحكومات الإسلامية، وهو ما جعلها أقل قدرة على أداء دورها في المساومة مع الإدارة الأمريكية. باختصار، لم تعد الحكومات الإسلامية هي الفاعل الوحيد، كما كانت من قبل.
إن الفشل المأساوي -الذي تعاني منه الحكومات في العالم الإسلامي- يقع في لب هذه الإشكالية. ففكرة "الحكومة الصحية" التي توفر الخدمات والاكتفاء الاقتصادي لشعبها تكاد أن تكون غير معروفة -أو شبه معدومة- في العالم الإسلامي الحالي. فالنموذج السائد حاليًّا، ليس إلا نموذجاً هشًّا محصوراً في المحاباة والنفاق.(19/417)
لا غبار في أن معظم الدول الإسلامية تقع تحت أنظمة سلطوية من الدرجة الأولى. فبالرغم من أن العقود الأخيرة قد شهدت اتجاهاً عالميًّا نحو الحرية والديمقراطية، فإن العالم الإسلامي ما زال متأخراً عن الركب. فلا توجد دولة عربية واحدة -سواء في الشرق الأوسط أو في شمال إفريقيا- تطبق نظام الانتخابات الشعبية الحرة. الأمر الذي يترتب عليه ضياع حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، مقارنة ببقية العالم. هذا إضافة إلى الفشل الاقتصادي الذي يهيمن على معظم الدول الإسلامية. فعبر الربع الأخير من القرن الماضي، ظل مستوى المعيشة -في أغلب البلدان الإسلامية- إما في تدهور مستمر أو في ثبات مستقر. باختصار شديد، فإنه من الصعب، بل من المستحيل، أن نجد مثلاً واحداً لأي دولة إسلامية يمكن أن تمثل نموذجاً سياسيًّا أو اقتصاديًّا ناجحاً.
هذه الأزمة السياسية/الاقتصادية في العالم الإسلامي خلفت ضغطاً داخليًّا على الحكومات؛ الأمر الذي مهد الفرصة للجماعات المتشددة (الراديكالية) بأن تستغل الظروف أسوأ استغلال. وأكبر دليل على ذلك، ما واجهته الكثير من الدول من تحديات إرهابية، متمثلة في "القاعدة" و"الجهاد الإسلامي المصري".. تلك الجماعات التي أصرت على قلب الحكم. فما كان من رد فعل الحكومات إلا أن انتقلت بالمشكلة إلى الخارج؛ فقامت بنفي تلك الجماعات التي صوبت جام غضبها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية لكونها المفتاح الأساسي -كما تعتقد تلك الجماعات- لإبقاء الحكومات الإسلامية في الحكم.
إن فشل "الدولة" في العالم الإسلامي ساهم -بشكل كبير- في تدعيم شعور بالسخط العام تجاه الولايات المتحدة الأمريكية. فالكثير من المسلمين يرون أن الإدارة الأمريكية تحافظ على الوضع الراهن "المخزي" الموجود حاليًّا في البلدان الإسلامية؛ وأنها تؤيد حالة "انعدام الكرامة" و"الذل" التي تشهدها الشعوب الإسلامية كل يوم نتيجة لتصرفات حكوماتها التي لا تتأخر عن استغلال سلطتها في جميع المجالات. والقضية الفلسطينية خير مثال على ذلك. باختصار، الإدارة الأمريكية يُنظر إليها على كونها الراعي للنظام الظالم؛ وممثلاً أساسيًّا لازدواج المعايير.
إن الشعور العام بالاغتراب في العالم الإسلامي، بالإضافة إلى فقدان التقدم السياسي والاقتصادي قد ساهما في خلق وتمهيد المناخ الذي أفرز هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من ردود أفعال كثيرة في العالم الإسلامي. وحتى لو استطاعت الإدارة الأمريكية اللحاق بزعماء القاعدة والقبض عليهم، فإن العاملين -اللذين سبق وذكرناهما في أول الفقرة- سيزالان موجودين. ومن ثم يصير "الإصلاح" السياسي والاقتصادي في العالم الإسلامي من أولويات الإستراتيجية الأمريكية. وهذا "الإصلاح" يمكن بالطبع أن يحقق أعظم المنافع للحكومات الإسلامية نفسها؛ خاصة إذا أرادت الأخيرة الاحتفاظ بنظامها... إن التحدي الذي يسيطر على أذهان صانعي القرار الأمريكي اليوم يتمثل حقيقة في كيفية كسر تلك الحلقة -التي يسير في فلكها السلطوية والفقر والإحباط والإرهاب- مع الاحتفاظ في الوقت ذاته بالمصالح الأمريكية.
إذا كان غياب الحرية والشفافية يمثل الجذر الأساسي للمشكلة، فإن "الدمقرطة" يمكن أن تكون الطريق الأوحد للمساهمة في التخلص من حالة الاغتراب التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية. إن "الدمقرطة" يمكن أن تساهم في إيجاد حلول لمشاكل كثيرة في العالم الإسلامي؛ منها: ضعف الحكومات النابع من الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة؛ العنف النابع من الصراعات الدائرة مع إسرائيل والهند وغيرها؛ تأييد المتطرفين من قبل العامة التي يتم استبعادها من المشاركة السياسية.
"الدمقرطة" ليست بالمهمة السهلة؛ فهي تستلزم جهوداً مكثفة من قبل الإدارة الأمريكية.. تستلزم وضع أجندة أمريكية جديدة تجاه العالم الإسلامي.. تستلزم "دوراناً للخلف"، وإعادة النظر في العقود الماضية للسياسة الأمريكية. فسياسة "الاستثناء" -التي كانت تطبقها الإدارة الأمريكية سابقاً حيال الحكومات الإسلامية المتحالفة- لن يكون لها مجال في السياسة الخارجية الأمريكية. وإنما سيجيء بدلاً منها سياسات أخرى، تحض على حقوق الإنسان، وتحض على مبادئ الشفافية والإصلاح. ليس هذا فقط، بل ستكون هذه السياسات شرطاً أساسيًّا لتقديم برامج المعونات الأمريكية.
والمعضلة في هذا الأمر -بالنسبة للإدارة الأمريكية- هي أنها في الوقت الذي ستقوم بالضغط فيه على تلك الحكومات الإسلامية، ستكون في أشد وفي أمس الحاجة إلى تلك الحكومات؛ إذ إن الأخيرة تعتبر فاعلاً أساسيًّا، تعتمد عليه واشنطن، في اقتلاع جذور الجماعات الإرهابية. ولنا في النظام السوري -الذي يعتبر بعيداً كل البعد عن النظام النيابي- خير مثال.(19/418)
أما المعضلة الثانية، فتتمثل في كون عملية "الدمقرطة" عملية غير مضمونة. فالتاريخ يشهد على أنها عملية مؤلمة وبطيئة للغاية، فضلاً عن تضمنها مخاطر عديدة تهدد باندلاع أعمال عنف من جانب الجماعات المتطرفة. والسؤال أو الـ dilemma الذي يطرح نفسه هنا هو كالتالي: كيف تدفع الإدارة الأمريكية نحو "الدمقرطة"، بدون التعرض لمخاطر اندلاع العنف الذي يشنه الإسلاميون الراديكاليون؟ فمن خلال "الدمقرطة"، يمكن للإسلاميين الراديكاليين -وللجماعات المعارضة بوجه عام- أن ينفذوا من "ثغرة الحرية" ليستولوا على الحكم، كما حدث في الجزائر؛ الأمر الذي لا يصب نهائيًّا في المصلحة الأمريكية.
وأخيراً، تكمن المعضلة الثالثة في كيفية التعامل الأمريكي مع الأحزاب الإسلامية، التي ستتألق مع هبوب رياح "الدمقرطة". ومن المنطقي أن تبدأ الإدارة الأمريكية في تدشين علاقات جديدة وإيجابية مع هذه الأحزاب، راغبة من وراء ذلك "تحسين" و"تعديل" رؤيتها للولايات المتحدة الأمريكية.
والحق يُقال بأن التفوق العسكري الهائل لدى الولايات المتحدة - الذي ظهر جليا في أفغانستان والذي سيظهر في العراق- لم يقابله، للأسف الشديد، تفوق مماثل في النطاق السياسي. فحتى الآن لم تستطع الإدارة الأمريكية بلورة خطة محكمة عن كيفية التعامل مع الواقع السياسي في الدول الإسلامية، وتعتبر أفغانستان مثلاً حيًّا لذلك.
خلاصة الأمر أن الإدارة الأمريكية ملزمة إلزاماً شديداً بإيجاد سبيل لتدعيم وتشجيع "الأصوات المعتدلة" التي تؤيد الإصلاح والتسامح؛ وذلك من خلال امتصاص كل مصادر الضيق التي تغذي ظهور الراديكاليين. والذكاء هنا أن يتم كل ذلك دون المساس بالمصالح الأمريكية في العالم الإسلامي.
إسرائيل وفلسطين وما وراءهما
كانت السياسة الأمريكية - وما زالت - تتعامل مع القضية الفلسطينية بمعزل عن علاقاتها مع بقية العالم الإسلامي. ولكن من الواضح أن هذه السياسة لن تستمر طويلاً؛ إذ إن ما يحدث الآن في الأراضي الفلسطينية -ويتصاعد بصورة مستمرة- سيكون له أسوأ الأثر على العلاقات الأمريكية الإسلامية. فالتأييد الأمريكي المستمر -سواء على الصعيد السياسي أو العسكري- لدولة مثل إسرائيل، أبرز الإدارة الأمريكية في صورة اللاعب المتحيز ذاتيا ضد الفلسطينيين، بل ضد المسلمين بصفة عامة؛ الأمر الذي أوجد شعوراً عامًّا بالعداء تجاه الولايات المتحدة. وهنا بالضبط تكمن الإشكالية؛ إذ كيف يستطيع صانعو السياسة الأمريكية الملاءمة -أو الموازنة- بين تحالف بلادهم مع إسرائيل، وبين الحفاظ في نفس الوقت على "صورة مشرقة" للولايات المتحدة في العالم الإسلامي؟
وفي لب هذا التحدي الذي يواجه الإدارة الأمريكية، تطل علينا ظاهرة جديدة وهي: تغير السياق السياسي في كثير من الدول الإسلامية. ويرتكز هذا التغير على تحول ديموغرافي واضح؛ يتمثل أساساً في "انتفاخ شبابي" أو "سيولة شبابية" عبر جميع المجتمعات الإسلامية. فالشباب الذكور باتوا يشكلون فئة متزايدة من سكان العالم الإسلامي؛ ومن ثم باتوا يشكلون مصدراً للقلق وعدم الاستقرار. وحاليا تكمن المخاطر في فشل الحكومات الإسلامية في استيعاب هذه الجماعة، ودمجها في الهياكل السياسية والاقتصادية. ولا ننسى طبعاً، أن هذا الجيل الجديد المتصاعد قد أتى في مرحلة اتسمت بالأسلمة المتزايدة؛ مما لم يسمح له بالمشاركة في التاريخ الطويل للعلاقات الوطيدة مع الولايات المتحدة. وتقوم -بالطبع- هذه "السيولة الشبابية" بإثارة العجز الحكومي الذي يزداد وضوحاً مع تصاعد أحداث العنف الإسرائيلي الفلسطيني.
ومما زاد الطين بلة، أن كلاً من الظاهرتين -تصاعد الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني والتحول الديموغرافي - ترعرعا في ظل تطور إعلام جديد في العالم الإسلامي. ففي كثير من الدول الإسلامية، ظهرت منافذ ووسائل جديدة للأخبار -سواء محلية أو عبر قومية- مستبدلة الاحتكار الحكومي لسوق الأخبار. وتعتبر قناة الجزيرة التليفزيونية - التي توفر أخباراً مباشرة من وجهة النظر العربية - ممثلة لهذا التطور الإعلامي.
إن التوسع الكبير - الذي شهدته مصادر المعلومات في العالم الإسلامي - يعتبر ظاهرة إيجابية خلفت مساحة كبرى للجدل والمناظرة والنقد. المشكلة هي -أنه في ظل التصاعد المستمر للعنف في فلسطين- رأت الكثير من القنوات والمنافذ الجديدة أن المبالغة في التقديم أعظم تأثيراً وربحاً من الصحافة المهنية التقليدية. ومن ثم، رأينا آليات التطور الإعلامي الأمريكي تنتقل بحذافيرها إلى الأسواق لإسلامية. فمثلاً، نلمس تزايداً ملحوظاً في برامج الحوار talkshows ، وتألقاً واضحاً لتلك النوعية من البرامج التي صارت متنفساً متعمداً لإخراج ألوان الضيق المختلفة تجاه الولايات المتحدة.(19/419)
وصارت المحصلة -في النهاية- نشوء بيئة اجتماعية في منتهى الخطورة؛ تتألف من "سيولة شبابية" عارمة ومتزايدة، وحكومات ضعيفة، و"انفجار" للوسائل الإعلامية المختلفة، وأخيراً "تغذية" يومية لمشاهد الانتفاضة الدامية. وكل هذه المؤلفات تضافرت بعد ذلك لتنتج اتجاهاً مضادًّا للولايات المتحدة الأمريكية؛ كان له أثر كبير في تقييد حركة الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتحدة. كما كان له أثر في تشريع وتقنين أشكال معينة من الإرهاب، وظهور "الأسلمة" في الشارع العربي والإسلامي.
ومن ثم، تجد الإدارة الأمريكية نفسها محاصرة من قبل العديد من الإشكاليات المتباينة.. كيف تستطيع الإدارة الأمريكية تأييد إسرائيل ومعارضة استخدام العنف الإرهابي ضد المدنيين الإسرائيليين، بدون تسوية علاقاتها مع الحكومات الإسلامية التي تلعب دوراً حيويًّا في الحرب الأمريكية على القاعدة؟ كيف تؤيد تنامي الإعلام الحر المفتوح في العالم الإسلامي، وهي تعلم جيداً أن هذا الإعلام سيضر بجهودها فيما بعد؟ وأكبر دليل على وجود هذه الإشكالية الأخيرة، هو مطالبة الأنظمة العربية والإسلامية الآن بالتدخل في القنوات الإعلامية الجديدة، بعد أن كانت تشجع استقلاليتها عن التدخل الحكومي. وأخيراً كيف تستطيع الإدارة الأمريكية تأييد الأنظمة المسلمة المعتدلة التي تعمل لصالح السلام مع إسرائيل، بدون تعريضها للاتهامات التي ستوجه إليها بصدد إذعانها للمطالب الأمريكية؟
خلاصة الأمر أن تجديد عملية السلام ووضع نهاية للعنف الإسرائيلي الفلسطيني سيساهم في حل الكثير من المشاكل التي تعترض علاقة الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي. بالإضافة إلى تخفيف الحِمل على الأنظمة المحلية، وامتصاص شحنة الغضب المتوجهة ضد الولايات المتحدة عبر المنطقة. والسؤال المحير هنا، هو: كيف تستطيع الإدارة الأمريكية وضع قدمها على هذا الطريق، بدون التنازل عن الأهداف والمصالح الأخرى؟
تحدي "الإصلاح"
تحدٍ آخر يواجه السياسة الخارجية الأمريكية -كما يواجه المنظمات غير الحكومية الغربية- هو: كيفية تدعيم القوى الإسلامية المعتدلة، وقوى المجتمع المدني بشكل عام، في ظل حكومات وأنظمة مهددة بالانهيار، من قبل القوى الإسلامية الراديكالية؟
وتأتي أهمية تدشين مجتمع مدني في العالم الإسلامي، من كونها توفر بدائل حقيقية لكل من "الحكومة السلطوية" والجماعات "الراديكالية". فتشجيع هذا المجتمع يُعتبر خطوة أولى لإحداث التغيير والإصلاح. ولكن -بالرغم من ذلك- يظل التساؤل، حول مدى إمكانية تدعيم قوى المجتمع المدني في العالم الإسلامي، بدون التسبب في إحداث تدخل ضار أو غير مرغوب فيه؟
سؤال آخر يطل علينا، وهو: كيف يمكن للإدارة الأمريكية أن تحدد مدى شرعية جماعات المجتمع المدني؛ أي تلك الجماعات التي ستستخدم المعونات الأمريكية لإنجاز ما يُطلب إنجازه؟ الموضوع لا يتعلق فقط بتوجس الإدارة الأمريكية من فساد تلك المعونات، أو سوء إدارتها من قبل الدول المتلقية؛ ولكن توجسها الحقيقي يكمن في "الأجندات" التي تضعها معظم قوى المجتمع المدني المعروفة في العالم الإسلامي؛ تلك "الأجندات" التي لا تتمشى دائماً مع ما يفضله الغرب ويحبذه. فمثلاً، توجد جماعات تركز أنشطتها على توفير الخدمات الصحية والغذائية للفقراء؛ ولكنها تضع عراقيل كثيرة فيما يخص حقوق المرأة؛ الأمر الذي يضايق المانحين الأمريكيين بشدة.
كيف تستطيع الولايات المتحدة عمل موازنة بين تدعيم المجتمعات المدنية والتدخل الأمريكي غير المرغوب فيه؟ كيف بإمكانها أن تدفع القوى المدنية نحو التغيير الإيجابي، بدون وضعها في قفص الاتهام بالعمالة للأمريكيين؟ باختصار إن الإدارة الأمريكية ملزمة بالابتعاد عن أي صورة تجعل الآخرين ينظرون إليها نظرة "المصحح للإسلام".
ويحتل الإصلاح التعليمي المرتبة الأولى من أولويات الإدارة الأمريكية تجاه قضية "الإصلاح". وقبل الخوض في هذا الأمر، يجب علينا الإعلان صراحة بأن التعليم في العالم الإسلامي بأسره يعاني من مشاكل جمة، جعلته بعيداً كل البعد عن المقاييس العالمية التعليمية. وكانت النتيجة أن ازدادت الضغوط على السيناريو الاقتصادي في العالم الإسلامي؛ الأمر الذي أدى إلى لجم الطموحات والآمال الاقتصادية، وكل هذا ارتبط بتدهور مستمر لفعاليات الحكومات والمجتمعات المدنية.
ونظام "المدارس" في باكستان خير مثال على هذا التدهور التعليمي. المشكلة في هذه "المدارس" -التي نشأت منذ قرون مضت- هي كونها أُسست أصلاً لتعليم العلماء والفقهاء المسلمين؛ وليس لتعليم عامة الشعب. ففي وقت ما كانت هذه المدارس تضم المئات من الطلاب؛ أما الآن فهي تضم عشرات الآلاف من الطلاب الذين يتلقون أدنى درجات التعليم، القائمة على الحفظ والتلقين، دون إعدادهم للتعامل مع العالم العصري المتحضر. وما زاد الطين بلة أن عددا من هذه "المدارس" مرتبط ارتباطاً وثيقاً بجماعات مسلحة خطرة. ومن ثم، فإن النظام التعليمي السائد حاليًّا في باكستان، يعطي لنا إطلالة عامة عن الاقتصاد الباكستاني المتذبذب، وكذلك عن العنف الموجود في المنطقة.(19/420)
إن "المدارس" تشكل تحديًّا واضحاً للسياسة الأمريكية. فهي باختصار، تعرقل الجهود الأمريكية تجاه العالم الإسلامي. فما تبنيه الإدارة الأمريكية بيد "للإصلاح"، تجيء المدارس لتهدمه باليد الأخرى. وبما أن موضوع المدارس يعتبر شأناً داخليًّا محضاً، يقع في نطاق الدولة الباكستانية ذات السيادة، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تتدخل. فمن جهة، هي لا تستطيع أن تغلق هذه المدارس -خاصة أنها مدارس غير حكومية- ومن جهة أخرى، لا تستطيع أن تقيم مدارس بديلة خاضعة للقيم والمعايير الأمريكية.
إن التدعيم الأمريكي للمجتمع المدني في العالم الإسلامي يمكن أن يكون ذات نوايا حسنة؛ ولكنه في نفس الوقت يورط الإدارة الأمريكية في الوقوع في داخل جدالات ومناظرات إسلامية؛ وفي الاهتمامات الأساسية للمجتمعات الأخرى. ومن ثم، فالتحدي الأصلي الذي نواجهه هو: إقامة نظام معين للتأكد من أن عواقب معوناتنا هي عواقب إيجابية. وحتى يتم هذا، فعلى التدعيم الأمريكي أن يصاحبه "قسم المهنة" الذي يقوله الأطباء قبل امتهانهم مهنة الطب: أولاً، لا تلحق ضرراً بأحد.
الأقليات المسلمة
من سخريات القدر، أن المخاوف التي كانت تتأهب لها الإدارة الأمريكية -من الدول "المارقة" أو "محور الشر" - وتعمل لها ألف حساب، أن هذه المخاوف قد تطورت بشكل معين، فصارت تنبع من الدول الصديقة للولايات المتحدة بدلاً من الدول "المارقة". فالكثير من الدول الصديقة باتت تشكل خطراً لا يقل ضراوة عن الدول المارقة. ولم تعد السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط هي نفسها السياسة تجاه العالم الإسلامي؛ كما كان هو الأمر من قبل. باختصار إن الولايات المتحدة تواجه إشكالية في سياسة التوسع: كيف تستطيع أن تتعامل مع شئون المسلمين الذين لا يعيشون في الدول التي ينظر إليها تقليديًّا على كونها إسلامية؟
وفي خضم انشغال صانعي القرارات بالسياسة، يغفل عليهم -للأسف- أخذ إحصائيات مهمة في الاعتبار. فالعرب يشكلون أقل من خمس السكان المسلمين. وكما نعلم أن أكثر الدول اكتظاظاً بالمسلمين (إندونيسيا، باكستان، الهند، بنجلاديش)، لا تقع في نطاق الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، فإن أكثر من ثلث المسلمين يعيشون كأقليات في دول غير مسلمة (في الصين، فرنسا، الهند، الفليبين، الولايات المتحدة… إلخ). وفي الهند وحدها، يعيش حوالي 130 مليون مسلم؛ ومن ثم، فإذا كان الشرق الأوسط عامة، والدول المارقة خاصة، يمثلون أهمية لدينا ولدى قراراتنا، فإن هذا لا يشمل "القصة" كلها. فإذا أرادت الولايات المتحدة إقامة علاقات إيجابية مع العالم الإسلامي "الأوسع" فيجب عليها أن تتبع سياسات "أوسع".
لا شك، في أن الأقليات المسلمة باتت تمثل اليوم أعداداً مهولة، تتزايد حشودها عاماً بعد عام؛ كما هو الحال في البلقان وفي آسيا الوسطى. وقد تعاظم شأن هذه الأقليات بفعل العولمة، وبفعل الاهتمام المتزايد بمكانة الإسلام في النظام العالمي.
العولمة -التي أتاحت انفتاح الحدود على مصراعيها- أدخلت الأقليات المسلمة في لب العالم الإسلامي؛ بل أدخلتها في لب العالم كله. وكانت النتيجة أن صار ألم دولة واحدة يُسمع في باقي الأمة. فما تجابهه الأقليات المسلمة في الفليبين والبلقان وإقليم سينكيانج لم يعد معزولاً، بل أصبح في محور الصراعات. كما سهلت العولمة انتقال العنف من منطقة إلى منطقة، بمنتهى اليسر والسهولة. فحركة التنقل العالمي للمجاهدين القدماء من الحرب الأفغانية الروسية إلى الجزائر، إلى البوسنة، إلى الشيشان، إلى إندونيسيا، إلى الفليبين، إلى طاجكستان.. خير مثال على كيفية ظهور العنف عبر عدة مناطق، في نفس الوقت.
والخطير في هذا الأمر، أن الغرب نفسه صار حاوياً لتلك الأقليات المسلمة المؤيدة للعنف والراديكالية. وأكبر دليل على ذلك، يتمثل فيمن قاموا باعتداءات 11 سبتمبر، حيث إنهم جميعاً من العرب.. إلا أن منظماتهم تقع أساساً في العالم الغربي. فكثير من التخطيطات يُحتمل أن تكون قد تمت على يد أقليات مسلمة تعيش في هامبورج بألمانيا. وكذلك بالنسبة للقاعدة فليست كل خلاياها تتواجد في داخل الدول المارقة؛ بل يتواجد البعض الآخر في عدد من الدول غير المسلمة والحليفة للولايات المتحدة، مثل أسبانيا وإيطاليا؛ بل حتى في الولايات المتحدة نفسها. ومن ثم، تصير الولايات المتحدة ملزمة -هي وحلفاؤها- بمعرفة الأسباب الحقيقية التي لا تجعل فقط التطرف الإسلامي ينمو ويترعرع في المدارس الباكستانية؛ بل التي تجعله يترعرع أيضاً في مساجد بروكسل، وفي أزقة برمنجهام.
إن الدول الإسلامية ليست هي الجبهة الوحيدة لمواجهة الإرهاب. فالقاعدة نفسها صارت تتبع إستراتيجية معينة لتجنيد مسلمين لا يمكن الاشتباه فيهم، بغرض التمويه، مثل ريتشارد ريد "مفجر الحذاء" من بريطانيا؛ وجوزيه باديلا "المفجر القذر" من شيكاغو. ونتيجة لذلك -ورغماً عن النموذج الهوليودي الذي يجسد الإرهابي المسلم في صورة معينة- تصير صورة الإرهابي المعاصر غير مألوفة للإدراك التقليدي.(19/421)
وتظهر مشكلة أو مصيبة أخرى تتعلق بوضع المسلمين في القارة الأوربية. فالوضع الراهن ينذر بزيادة مفرطة للمواليد المسلمين؛ بالإضافة إلى المهاجرين. إن تواجد الإسلام في أوربا سيتعاظم بطريقة مثيرة في ظل الجيل القادم. ففي فرنسا مثلاً، تصل نسبة المسلمين إلى 10% من السكان. وفي ألمانيا، وبريطانيا، وهولندا، يشكل المسلمون نسبة مميزة ومتميزة. ولكن بالرغم من ذلك تفتقد هذه الجماعات التواصل الكافي مع ما حولها؛ ومن ثم تعاني من وطأة المشاكل، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية؛ مثل مشكلة التحيز والعنصرية.
وهنا يأتي التساؤل: هل سيعمل مسلمو أوربا على تقريب العلاقات بين الحكومات الأوربية والإدارة الأمريكية، أم على الإبعاد بينهما؟ وما هي السياسات والإستراتيجيات التي يجب أن تتبعها الإدارة الأمريكية تجاه حلفائها الأوربيين التقليديين، إذا ما تحسن وضع الجماعات الإسلامية في داخل أوربا؟
النقطة المهمة في الموضوع، أنه في ظل العولمة التي نعيشها حاليًّا، تصير الولايات المتحدة مجبرة على توسيع رؤيتها.. فلا تقتصر جهودها على الدول المارقة، وإنما تشتمل على ما هو أكبر من منطقة الشرق الأوسط. فالعالم الإسلامي ليس الجبهة الوحيدة للإرهاب، وإنما تُضاف إليه الجماعات المهاجرة.
الحرب الباردة الجديدة
إن فكرة اتباع الإدارة الأمريكية لإستراتيجية موحدة وكبيرة كانت سائدة في فترة الحرب الباردة. ومع سقوط سور برلين في عام 1989 اندثرت هذه الفكرة وتلاشت تماماً. ولكن يبدو أنها في طريقها إلى العودة ثانية، فبعد أحداث 11 سبتمبر يتوقع الكثيرون بأن السياسة الخارجية الأمريكية ستعود إلى عهدها القديم.
لقد صارت "الحرب على الإرهاب" نسقاً معرفيًّا ينظر من خلاله صانعو السياسة الأمريكية إلى العالم. فربط الأجندة الأمريكية مع الخطر الإرهابي صار سبباً مقنعاً لتبرير عدد كبير من ممارسات السياسة الخارجية. ولا نستبعد أبداً أن تتحول القاعدة إلى "الخطر الأحمر" لهذا العصر.
وبالطبع، يتمثل الجزء الإيجابي في الموضوع أنه يعطي للإدارة الأمريكية "محورا" و"طاقة" كانت تفتقدها في فترة ما بعد الحرب الباردة. ولكن هذا لا ينفي وجود إشكالية من شأنها أن تعرقل تلك الإيجابية. وأصل الإشكالية تدور حول الآتي: كيف يمكن بناء نسق معرفي "للحرب على الإرهاب"، يساعد على توفير إطار إستراتيجي لتوجهاتنا، بدون التورط في الأعمال غير الضرورية؟
فمما لا شك فيه أن اتباع الإدارة الأمريكية للإستراتيجية "الموحدة" سيجعلها عرضة للاستغلال من جانب الكثير من الأنظمة. فمنذ اعتداءات 11 سبتمبر استطاعت العديد من الأنظمة أن تقنع الإدارة الأمريكية بإمدادها بمزيد من المساعدات العسكرية، بهدف مساعدتها على محاربة الأعداء والخصوم المحليين، بغض النظر عما إذا كانت تلك الخصوم مرتبطة بالقاعدة أم لا. والمثال الكلاسيكي لهذا، ما يحدث في نابال، حيث تدفع الإدارة الأمريكية -في الوقت الحالي- أكثر من 10% من الميزانية العسكرية التابعة للنظام النابالي. وهذا بالرغم من أن الأخير لا يحارب جماعة إسلامية راديكالية؛ وإنما يحارب جامعة ماوية متمردة.
صحيح أن تدخل الإدارة الأمريكية في كثير من الدول -خاصة ذات الحكومات الضعيفة التي لا تستطيع السيطرة على تنقل عدوى الإرهاب- يصل إلى الأمر الإلزامي، إلا أن مخاطر التدخل لا يجب أبداً تجاهلها. وأول هذه المخاطر اكتساب أعداء جدد للولايات المتحدة من قبل اللاعبين المحليين. وثانيها هي اتساع بقعة أو مساحة الحرب. وثالثها ازدياد اعتماد الأنظمة المحلية على المساعدات الأمريكية، وهو ما يقلل من شأن تلك الأنظمة في عيون شعوبها. وآخر هذه المخاطر هو تدعيم صورة "الإمبريالية الأمريكية الزاحفة" على العالم الإسلامي، الأمر الذي يتناقض تماماً مع الدبلوماسية الأمريكية.
تحدٍ آخر يظهر أمام الساسة الأمريكيين؛ وهو: هل سيتم التفريق بين الإرهاب وحركات التمرد؟ فقد توجد بعض الجماعات الإسلامية التي ليس لديها أدنى علاقة بالقاعدة، والتي لا تمتلك أي أجندة مناهضة للولايات الأمريكية؟ فهل تتم مساواة هذه الجماعات بالجماعات الأخرى المنتمية لفكر "القاعدة"؟
خلاصة الأمر لا بد من الرجوع إلى دروس الحرب الباردة، والنظر فيها بتمعن. وكما كانت الحرب الباردة حرباً بين فكرين مختلفين -الرأسمالي والشيوعي- فإن "الحرب على الإرهاب" هي أيضاً بمثابة حرب بين الأفكار. وهناك مقارنات بين التقارب الأمريكي الحالي وبين التقارب الأمريكي في أثناء الحرب الباردة. والذكاء هنا هو "إخراج" الإنجازات القديمة، وتحاشي الأخطاء الماضية.
الخاتمة(19/422)
بعد عام من اعتداءات 11 سبتمبر، تظل الإدارة الأمريكية أمامها مهمة في غاية الصعوبة، وهي: الوصول إلى قرارات ملحة ومعقدة لبلورة شكل التعامل مع العالم الإسلامي. وأولى خطوات هذه العملية هي تسمية وتحديد الإشكاليات التي تضر بسياستنا. لا بد من معرفة هذه الإشكاليات، والاعتراف بها من أجل التغلب عليها. وأعظم هذه الإشكاليات: الملاءمة والموازنة بين السعي وراء المصالح الأمريكية الملحة وبين السعي وراء تدعيم "الإصلاحات" التي يمكن أن تساعد على تقليل ظاهرة العنف المتطرف. وتزداد هذه الإشكالية صعوبة عند نشوء "العراك" بين ما هو صالح للأمن على المدى القريب، وبين ما هو ضروري للأمن على المدى البعيد... باختصار على الإدارة الأمريكية أن تواجه "ميراث" خيارات السياسات القديمة.
ومع الإدراك المتعاظم لتلك التحديات -التي ستواجهنا فيما بعد- لا بد من إيجاد "أجندة" للإجابة على هذه الإشكاليات. وهذا سيتطلب تحليلاً متعمقاً لمصالحنا وقدراتنا الأساسية. ومن ثم فعلينا التركيز على بلورة "النهاية" المثلى للسياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي. بمعنى ما هي العلاقة التي تود الإدارة الأمريكية أن تنشئها مع الحكومات والحركات الإسلامية؟
إن تنمية هذه الأهداف الإستراتيجية لا بد من تنفيذها على المستويات العليا لمجلس الأمن القومي، وللهيئات التنفيذية المختصة (وزارة الخارجية، الدفاع، المخابرات) مع وضع إسهامات الأطراف المعنية الأخرى في الاعتبار؛ مثل الخبرات غير الحكومية. ويحتل "التوجيه الرئاسي للأمن القومي" NSPD الجهاز الأساسي في داخل الحكومة الأمريكية الذي سيخول له النتائج النهائية لهذه الأهداف.
ومع تحديد وتدشين الأهداف النهائية يستطيع صانعو القرار بلورة اقتراب أكثر تنظيماً، بهدف التيقن من المتطلبات التي قد تحتاجها الولايات المتحدة للوصول إلى "العلاقة المستهدفة" مع العالم الإسلامي. وهذه العملية من شأنها أن تخلق إجراءات واضحة بالنسبة لأهم موضوعات المنطقة؛ مثل المناخ العام المناهض للأمركة في دول معينة، و"المجتمع المدني"، ودرجات التعاون على مناهضة الأعمال الإرهابية.
أما إذا لم يُكتب النجاح لمثل هذا الاقتراب فيصير لزاماً على صانعي القرار أن يبدءوا -على الأقل- في إقامة مقياس لوزن الآثار المترتبة عن قراراتهم، والآثار على المدى البعيد وعلى المدى القريب، في أثناء مواجهة الإشكاليات السالف ذكرها. ولا ننسى -في خضم كل ذلك- أن نفسح الطريق للاعبين غير الحكوميين، ليدلوا بدلوهم في تحديد الأهداف النهائية، وتقييمها باستمرار بين حين وآخر.
إن درس 11 سبتمبر يملي علينا ألا نؤجل -بعد اليوم- اتخاذ القرارات الصعبة. إن "تراجيديا" سبتمبر منحت لنا تفويضاً لكي نغير في سياستنا الخارجية، ولكي ندشن علاقة إيجابية ومستمرة مع العالم الإسلامي. أما عن كيفية حلنا للإشكاليات المرتبطة ببناء هذه الإستراتيجية فإن هذه الكيفية لن تحدد فقط ما ستسفر عنه "الحرب على الإرهاب"، وإنما ستحدد أيضاً "تراث" هذه الحرب.
================(19/423)
(19/424)
الصحافة الأمريكية: المسلمون لا يعادوننا ولكنهم محبطون!
13/10/2001
صحف أمريكية بتاريخ: 7-10-2001
شعور بالإحباط أم شعور بالظلم؟
تقول صحيفة لوس أنجلوس تايمز في تعليق كتبه جراهام فولر، أحد كبار مسئولي المخابرات المركزية الأمريكية (سي.آي.إيه) السابقين، من الخبراء في شؤون العالم الإسلامي:
منذ 11 سبتمبر سمعنا تكرارًا أن "المسلمين يكرهون قِيمنا الأمريكية"، وتلك نظرة خاطئة وعلى درجة من الخطورة. إن أغلب المسلمين لا يشكون في القيم الأمريكية؛ بل يتساءلون إذا كانت الولايات المتحدة ملتزمة دوما بقيمها وخاصة في نشر الديموقراطية أم لا. ويعجب المسلمون بالديموقراطية الأمريكية؛ إذ يفتقرون إلى الديموقراطية في بلادهم، ويعانون من حكومات ديكتاتورية وحشية. ويأتي الطلاب المسلمون بالملايين إلى جامعات الولايات المتحدة لتحصيل العلم. ولا يروق التحرر الجنسي في الولايات المتحدة لكثير من المسلمين، ولا تروق لهم أيضا فجاجة وسائل الإعلام.
المسلمون محبطون
إن مأساة الشرق الأوسط هي: أن أغلب مواطنيه يشعرون بالإحباط لعدم قدرتهم على التحكم بمصائرهم.
إن أغلب المسلمين يتوقون إلى تغيير أنظمة الحكم في بلادهم وإلى الإطاحة برؤساء فاسدين وفاشلين وعتاة يحكمونهم مدى الحياة، وملكيات لا تستجيب لمطالبهم وليست لديها أية أولويات سوى رفاهة العائلة المالكة.
إن المسلمين لا يعادون قِيَمَنا.. إن لديهم انطباعا بأننا لا نرغب في المشاركة في تلك القيم التي تخرج الغضب إلى العلن، ويقولون بأننا نعمل لقيمنا في بلادنا ولا نعمل على إخراجها. وأن واشنطن تدفع الديموقراطية قدمًا في أمريكا اللاتينية وفي إفريقيا، ونادرًا ما تقوم بذلك في العالم الإسلامي. وعندما نؤيد الديكتاتوريات يحصد المتطرفون نتائج السخط.
الأمريكان: نحن محقون في استخدام القوة
وتحت عنوان "حكومة بوش لم تقدم أي دليل يدين أسامة بن لادن" تقول صحيفة "نيويورك تايمز" في افتتاحيتها:
حتى الآن لم تقدم الولايات المتحدة أي دليل على أن أسامة بن لادن ومنظمة القاعدة هما وراء جرائم الحادي عشر من سبتمبر. وقد تقوم الولايات المتحدة قريبا بضرب أهداف في أفغانستان في ملاحقتها لـ "أسامة بن لادن"، ولكن الأمريكيين ليسوا الوحيدين الذين يتوجب على الحكومة الأمريكية إقناعهم.
إن الولايات المتحدة تنظر في إعلان الحرب على دولة ذات سيادة لا تعترف بأنها أعلنت حربًا علينا. وقبل أن نقوم بذلك علينا أن نوضح للعالم -وخاصة للعالم الإسلامي- أننا محقون في استخدامنا للقوة، وليس لأن حكومة طالبان طلبت تقديم الأدلة، بل لأن ذلك في مصلحة أمننا القومي. وعندما قصفت الولايات المتحدة مصنع الأدوية في السودان عام 1998 -والتي كانت حكومة كلينتون تشك بأنه مصنع أسلحة كيماوية- لم تستطع تقديم أية أدلة على ذلك، وانطلقت المظاهرات المعادية للولايات المتحدة في أنحاء العالم العربي. وهناك خطر وقوع الأنظمة العربية الصديقة للولايات المتحدة في عدم الاستقرار، إذا لم يستطع زعماؤها تقديم دليل مقنع لشعوبهم على انضمامهم للولايات المتحدة في الهجوم على أشقائهم المسلمين.
إن إعلان الأدلة لن يضع مصادرنا المخابراتية في خطر. وإذا كانت هناك خلايا إرهابية تعمل في الولايات المتحدة وأوروبا الآن، فمن غير المحتمل أن تعتمد على مزيد من الاتصالات بأسامة بن لادن لتنفيذ مهامها.
جولة رامسفيلد
وتناولت الصحيفة أيضا جولة وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد ومهمته في عدد من الدول العربية وأوزبكستان، حيث تقول: العمل العسكري قد يبدأ ضد أفغانستان خلال الشهر الجاري، ولكن ذلك ليس مؤكدا.
إن رحلة رامسفيلد -التي يقوم بها هذه الأيام- تشبه رحلة تشيني التي قام بها قبل عشر سنوات أيام كان وزيرا للدفاع قبل حرب الخليج. ولكن القضايا العسكرية والسياسية التي يواجهها رامسفيلد هي أصعب بكثير من التي واجهها تشيني؛ إذ يحاول رامسفيلد بناء تحالف حول هدف لم يتم تحديده بعد، ومن دول تعاني الفرقة، وربما عدم الاستقرار أيضا.
أما المشكلة الإستراتيجية الرئيسية في ذلك، فهي أنه كلما ضغطت الولايات المتحدة على أولئك الزعماء الاستبداديين في الشرق الأوسط للحصول على مساعدتهم ازدادت أوضاعهم خطرا. فإذا ذهبوا بعيدا في تأييدهم للولايات المتحدة، ففي أفضل الأحوال سيتم اعتبارهم عملاء للولايات المتحدة، وفي أسوأ الأحوال ستتم الإطاحة بهم، وسيحل الإسلاميون المتشددون محلهم. وقد تجاهل رامسفيلد باكستان في رحلته هذه، خشية أن تثير زيارته مشاعر الباكستانيين. ويعتقد أن لدى الباكستان أفضل المعلومات عن أسامة بن لادن.
ولدينا نفس المشكلة مع السعودية التي لدينا على أراضيها الجنود والطائرات؛ ولكنها تقدم الأموال لتمويل المساجد والدعاة الذين ينشدون إسلاما متصلبا يُعرَفُ بالوهابية قريبا من إسلام الراديكاليين المتشددين. إن انقسام الولاء السعودي بين الولايات المتحدة وإسلام متشدد لا يسهل علينا اتخاذ خيار إستراتيجي واضح في هذا النزاع الذي يلوح في الأفق.
روسيا واستثمار التحالف(19/425)
وحول دوافع روسيا في الانضمام إلى تحالف أمريكا تقول صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور"
- إن موسكو تستغل الأحداث الإرهابية لتحقيق أربعة أهداف إستراتيجية، وهي:
*
تطالب روسيا بحرية التعامل مع "الإرهاب" في الشيشان، وتعتقد أن لديها فرصة في إقناع العالم بأن الشيشان ليست حركة تحرر وطني بل مجموعات إرهابية.
*
تريد روسيا من الولايات المتحدة الاعتراف بأن دول الاتحاد السوفيتي السابق -في القوقاز وأوكرانيا وفي وسط آسيا- هي مناطق نفوذ روسية.
*
تريد روسيا إخراج دول البلطيق من دائرة احتمال توسع حلف الأطلسي مستقبلا لضمها إلى الحلف.
*
تريد روسيا أن توقف الولايات المتحدة خططها لتطوير نظام حماية بالدفاعات الصاروخية.
=============(19/426)
(19/427)
الإعلان الإمبراطوري الأمريكي**
05/10/2002
ترجمة وإعداد: شيرين حامد فهمي
إسلام أون لاين.نت
"إن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي ستعتمد أساسًا على تعاون أمريكي ملموس مع دول العالم؛ ذلك التعاون الذي سيعكس مزجًا بين القيم الأمريكية من جهة، وبين المصالح القومية الأمريكية من جهة أخرى. وهدف هذه الإستراتيجية هو السعي ليس فقط لجعل هذا العالم أكثر أمنا، ولكن لخلق عالم أفضل من جميع النواحي.."
وردت هذه الفقرة فى مقدمة وثيقة خاصة صادرة في سبتمبر 2002 عن الرئاسة الأمريكية بشأن استراتيجية الولايات المتحدة الأمنية فى المرحلة المقبلة.
وقد حددت الوثيقة محاور هذه الاستراتيجية على النحو التالى:
*
تعزيز الكرامة الإنسانية
*
التحالفات الإستراتيجية للقضاء على الإرهاب
*
نزع فتيل الصراعات الإقليمية
*
منع أعدائنا من تهديدينا
*
تدشين عهد اقتصادي جديد
*
توسيع دائرة التنمية
*
التعاون مع المؤسسات المركزية
*
تطوير مؤسسات الأمن القومي الأمريكي
تعزيز الكرامة الإنسانية
الولايات المتحدة الأمريكية تأخذ على عاتقها الدفاع عن "الحرية" و"العدل"؛ فهذان المبدآن يسعى وراءهما جميع أجناس الأرض. فلا يوجد مجتمع إلا ونجده يأمل ويرغب في "تحرير" أبنائه من الفقر والظلم والعنف. ومن ثم يتحتم على الإدارة الأمريكية أن تقف بكل بصرامة ضد كل ما يهدد وجود الكرامة الإنسانية التي لا يختلف عليها اثنان.
والدستور الأمريكي يتضمن كل ما تتطلبه الكرامة الإنسانية من حرية العبادة، وحرية الكلمة، والعدالة، والتسامح الديني والإثني، واحترام الملكية الخاصة، واحترام المرأة، وتحديد سلطة الدولة، وسيادة القانون.
وخير دليل على ذلك ما نلمسه في التجربة الأمريكية، التي تمثل صرحًا عظيمًا للديمقراطية، حيث تتعايش وتتآلف جميع الأجناس من شتى بقاع الأرض؛ بغض النظر عن دياناتهم وعرقياتهم.
واقتناعًا بمبادئ "الحرية" و"العدل"، قامت الإدارة الأمريكية بتشجيع وتأييد حركات "التغيير" التي تسعى حثيثًا وراء تلك المبادئ، مثلما حدث في أوربا الشرقية بين عامي 1989 و1991، أو مثلما حدث في بلجراد في عام 2000.
ولذا فإن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لا بد أن تنبع من المعتقدات الأمريكية الراسخة في "العدل" و"الحرية". فتلك المعتقدات هي التي ستقود ممارسات الإدارة الأمريكية تجاه العالم بأسره.
وبناء على هذا، ستتخذ الإدارة الأمريكية الخطوات التالية:
- إدانة كل اختراق أو انتهاك يهدد وجود الكرامة الإنسانية؛ وذلك من خلال المؤسسات والمنظمات الدولية.
- استخدام المعونات الخارجية الأمريكية من أجل تدعيم "الحرية".
- تطوير المؤسسات الديمقراطية في إطار العلاقات الثنائية.
- بذل جهود خاصة من أجل تدعيم حرية العبادة، وحمايتها من ضغوط الحكومات القمعية..
التحالفات الإستراتيجية للقضاء على الإرهاب
في خطبة للرئيس جورج دبليو بوش يوم 14 سبتمبر 2002، صرح بأن: "مسئوليتنا تجاه التاريخ تتمثل في الرد على الهجمات الإرهابية، وتخليص العالم منها. فقد ابتدأ الآخر بالصراع؛ ونحن الذين سننهيه؛ وفي الوقت الذي يروق لنا". إن حرب الإرهاب الحالية مختلفة كل الاختلاف عن أي حرب أخرى مرت علينا عبر التاريخ. فالعدو في هذه المرة لا يتمثل في دولة بعينها أو في نظام بعينه؛ وإنما هو غير مرئي؛ ويمتد خطره إلى أمد طويل غير محدد.
وتصير الأولوية الأولى والأسمى للإدارة الأمريكية هي القضاء على المنظمات الإرهابية المعروفة عالميًا، ثم تحطيم قياداتها.. وبعد ذلك خنقها تمويليًا. وبالطبع لن تنسى الإدارة الأمريكية دور أصدقائها الأعزاء -أو شركائها الإقليميين- في المساهمة في تلك المهمة.
ومن خلال ذلك ستتبع الإدارة الأمريكية خطة مدروسة للقضاء على الإرهاب؛ وستتمثل هذه الخطة في التالي:
- التركيز على تلك المنظمات الإرهابية المنتشرة عالمياً؛ وعلى أي إرهابي أو أي دولة داعمة للإرهاب، وداعمة لاستخدام أسلحة الدمار الشامل.
- التخلص من التهديد وإزاحته من قبل أن يصل إلى الأراضي الأمريكية.
- شن "حرب الأفكار" من خلال تشبيه الإرهاب بالرق والاستعباد والقرصنة والقتل الجماعي؛ ومن خلال تأييد الحكومات "المعتدلة" خاصة في العالم الإسلامي؛ وأخيراً من خلال استخدام دبلوماسية فعالة تعمل على تسهيل التدفق الحر للمعلومات والأفكار التي تنادي بالحرية.
وترى الإدارة الأمريكية أن أفضل طرق الدفاع تتلخص في توفير هجوم فعال، وأمن داخلي قوي يمكنه ردع أي هجوم. ولن تنسى - في خضم كل ذلك- أن تستعين بالدول الصديقة، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية في الوصول إلى الهدف المنشود. فالكل سيشارك في مطاردة الإرهابيين؛ وفي إعادة تعمير أفغانستان حتى لا تصير مرة أخرى بؤرة للإرهاب..
نزع فتيل الصراعات الإقليمية
الولايات المتحدة الأمريكية ملزمة -في حالة اندلاع الصراعات الإقليمية- بالعمل مع الدول الصديقة والشريكة في سبيل رفع المعاناة عن الشعوب وإعادة الاستقرار. ومن ثم، فعليها أن تأخذ المبدأين الإستراتيجيين التاليين في الاعتبار:(19/428)
1- استثمار الوقت والثروات في إقامة علاقات دولية، يمكنها أن تسهم في حل الأزمات المحلية فور اندلاعها.
2- مد يد العون إلى تلك الدول غير الراغبة وغير المستعدة لمساعدة أنفسها.
ولدينا مثل حي وواضح في الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث تقوم الولايات المتحدة بالعمل مع دولة إسرائيل -بحكم صلتها الوطيدة بها- وكذلك مع الدول العربية القريبة، من أجل تسوية الصراع. فهي تؤمن بإيجاد دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة، تقف جنباً إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية؛ حيث يظلهما السلام والأمن. وهي على استعداد تام لتقديم كل الدعم لإيجاد الدولة الفلسطينية، ولكن بشرط: وهو أن يبدي الفلسطينيون بالمثل استعدادهم لاعتناق الديمقراطية ومحاربة الفساد والإرهاب.
وإسرائيل -بدون شك- لها دور أساسي في إيجاد تلك الدولة على أرض الواقع. فهي ملزمة بالانسحاب إلى ما قبل حدود 28 سبتمبر 2000، وتنفيذ توصيات لجنة ميتشل، ووقف النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة. وهنا تأتي الفرصة لتدخل الولايات المتحدة، ومطالبة إسرائيل بالامتثال إلى كل ما سبق ذكره.
ولنا في الصراع الهندي الباكستاني مثل آخر، حيث تقوم الإدارة الأمريكية بتوطيد علاقاتها الثنائية مع الهند ومع باكستان في آن واحد؛ مما سهل عليها الأمر بعد ذلك في لعب دور حيوي وبارز في فض النزاعات الهندية الباكستانية التي تندلع من وقت إلى آخر. وكان توطيد العلاقة مع باكستان قائماً على اختيار الأخيرة المشاركة في الحرب ضد الإرهاب، بينما كان توطيد العلاقة مع الهند قائماً على شغف الأخيرة وتحمسها لأن تكون واحدة من أعظم النظم الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين.
وفي أمريكا اللاتينية سعت الولايات المتحدة إلى إقامة تحالفات مع المكسيك والبرازيل وشيلي وكولومبيا.. في سبيل خلق منطقة ديمقراطية حقيقية، يصير فيها التدخل الأمريكي سبباً وحافزاً للأمن والرخاء، وهازماً لجميع مظاهر المخدرات والإرهاب وجماعات العنف غير المشروعة، مثل الحال في كولومبيا.
وأخيراً في أفريقيا ستعمل الولايات المتحدة مع الدول الأخرى من أجل انتشال القارة الأفريقية من المرض والفقر والحرب؛ ومن ثم تأهيلها لتكون تربة خصبة قابلة للسلام والحرية والرخاء. فأفريقيا الحالية -بمرضها وفقرها وجوعها- إنما تهدد قيمة أمريكية أساسية، ألا وهي الحفاظ على الكرامة الإنسانية. كما أنها تنذر باستشراء الإرهاب، وهو ما يهدد الأولوية الإستراتيجية الأمريكية التي تتمثل في محاربة الإرهاب..
منع أعدائنا من تهديدينا
وفي خطبة ألقاها جورج دبليو بوش في نيويورك في يونيو 2002، أوضح قائلاً: "إن الخطر الأعظم على الحرية يتمثل في التقاء الراديكالية بالتكنولوجيا. عندما تجتمع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية -بالإضافة إلى تكنولوجيا الصاروخ الباليستي- في أيدي الدول الضعيفة، أو حتى في أيدي الجماعات الصغيرة، تتحول تلك الدول أو تلك الجماعات إلى قوة خارقة وقادرة على ضرب الدول الكبيرة".
إن التحديات الحالية التي تفرضها "الدول المارقة"، والتي يفرضها الإرهابيون، جعلت البيئة الأمنية أكثر تعقيداً وأكثر خطورة. فأعداء اليوم لديهم القابلية والاستعداد لامتلاك الأسلحة المدمرة التي لا تتوفر إلا للدول العظمى. وفي التسعينيات من القرن الماضي، بدأنا نشهد بروز مجموعة من الدول المارقة التي -رغم اختلافها- تتشارك في العديد من الصفات. فهي:
1- تروع شعوبها.
2- تتجاهل القانون الدولي، وتخرق المعاهدات الدولية، وتهدد جيرانها.
3- تسعى وراء امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
4- تمول الإرهاب في العالم كله.
5- ترفض القيم الإنسانية الأساسية.
6- تكره الولايات المتحدة الأمريكية، وتُبغض كل مواقفها وممارساتها.. ومن أمثال تلك الدول: العراق وكوريا الشمالية.
ولذا ستصير الإدارة الأمريكية ملزمة باتباع إستراتيجية معينة لمواجهة أسلحة الدمار الشامل؛ وهي ستتضمن الآتي:
- بذل جهود إيجابية للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومنع الخطر قبل وصوله إلى الأراضي الأمريكية.
- منع الدول المارقة ومنع الإرهابيين من الحصول على كل من المواد والتكنولوجيا والخبرة الضرورية لأسلحة الدمار الشامل؛ وذلك من خلال الحد من التسلح، والحد من التصدير متعدد الأطراف، والحد من الأخطار.
- إدارة فعالة للتجاوب والتفاعل مع عواقب استخدام أسلحة الدمار الشامل.
فعلى الولايات المتحدة أن تؤهل نفسها للرد على ما ينتج عن استخدام تلك الأسلحة من آثار وعواقب، سواء كان ذلك الاستخدام ضد أهداف أمريكية في الداخل أو في الخارج. كما عليها أن تؤهل نفسها لمساعدة الأصدقاء والشركاء إذا ما تعرضوا للهجوم.
وتبعاً لطبيعة العدو الحالي فإن الإدارة الأمريكية لا تستطيع أن تستمر في الاعتماد فقط على "سياسة رد الفعل" كما كانت تفعل في السابق؛ باختصار..هي لا تستطيع أن تنتظر العدو لكي يبدأ بالضرب أولاً.(19/429)
- الكف عن المفاهيم التقليدية للردع الذي لم يعد يمثل دفاعاً فتاكاً، كما كان الأمر من قبل في أثناء الحرب الباردة. فالردع المعتمد فقط على التهديد بالانتقام، لم يعد ذا تأثير على قادة الدول المارقة الذين يقامرون بحياة شعوبهم وثروات بلادهم. كذلك فإن أسلحة الدمار الشامل -التي كانت في يوم ما تستعمل كملاذ أخير- صارت الآن رهن إشارة الدول المارقة.
- منع الدول المارقة من الانتصار على التفوق التقليدي للولايات المتحدة.
إن عدو اليوم لا يستخدم الأساليب التقليدية في الهجوم؛ لأنه يعلم جيداً أن تلك الأساليب مصيرها الفشل. ومن ثم، فهو يعتمد أكثر على عمليات الإرهاب، وعلى أسلحة الدمار الشامل التي يسهل احتواؤها وتخبئتها. أما هدف هجمات ذلك العدو فيتمثل في القوات الأمريكية والمدنيين الأمريكيين.
وبناء على ذلك، يتحتم على الإدارة الأمريكية أن يكون لديها من الضربات الوقائية ما يدفع عنها تلك الهجمات الإرهابية..
تدشين عهد اقتصادي جديد
مما لا شك فيه أن الاقتصاد العالمي القوي سيؤثر بالإيجاب على الأمن القومي الأمريكي، فإذا نما الاقتصاد العالمي واشتد صلبه من خلال تشجيع "حرية السوق" و"حرية التجارة"، زادت الرواتب والدخول، وزادت فرص العمل؛ الأمر الذي سيسمح للشعوب بانتشال أنفسها من الفقر، من خلال مواجهة الفساد وتدعيم الحياة الحرة.
إن التاريخ يعطي للعالم كله درسًا أساسيًا في الحياة: وهو أن اقتصاديات السوق الحرة (المتحررة من يد الحكومة) أفضل الاقتصاديات لإيجاد الأمن والرخاء. ومن ثم، فإن السياسات التي تشجع "اقتصاد السوق" مناسبة لجميع الدول: الصناعية، والمتخلفة، والنامية.
وعودة الرخاء الاقتصادي في اليابان وأوربا إنما هو أمر أساسي لتغذية المصالح الأمنية الأمريكية. فالإدارة الأمريكية ترغب في إنعاش اقتصاد حلفائها، ليس فقط من أجل سلامة الحلفاء، بل أيضاً من أجل سلامة الاقتصاد العالمي، والأمن العالمي.
إن توفير الاستقرار في الأسواق الناشئة يعتبر أيضاً من أولويات الإدارة الأمريكية، في سبيل تحقيق تنمية اقتصادية عالمية. وهذا الاستقرار لن يتأتى إلا من خلال تدفق رءوس الأموال في الدول ذات الأسواق الناشئة، وهو ما يمهد لها الطريق للاستثمار وتقليل نسبة الفقر. ومن ثم، تعمل الولايات المتحدة على دعم تلك الأسواق، ومدها بالتدفقات الكبيرة لرءوس الأموال، وبأقل خسارة.
ومن أجل دفع "السوق الحرة" إلى الأمام قامت الولايات المتحدة بتقديم الإستراتيجية التالية:
- الأخذ بالمبادرة العالمية: وهذا ما فعلته الإدارة الأمريكية في الدوحة -في نوفمبر 2001- عندما قامت بتدشين مفاوضات عالمية جديدة للتجارة؛ ذات أجندة متميزة في الزراعة والصناعة والخدمات، والتي من المفترض أن يتم العمل بها في عام 2005.
- الأخذ بالمبادرات الإقليمية: حيث قامت الولايات المتحدة بالموافقة على تدشين منطقة تجارة حرة بين الأمريكتين، على أن تبدأ واقعياً في عام 2005.
- الإسراع في اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية: فاعتماداً على اتفاق التجارة الحرة الذي عقد بين الولايات المتحدة والأردن في عام 2001 تستهدف الإدارة الأمريكية -في هذا العام- أن تنتهي من إبرام اتفاقيات التجارة الحرة مع شيلي وسنغافورة. فالهدف هو إقامة اتفاقيات تجارية مع مجموعات مختلفة من الدول الصناعية والدول النامية في شتى مناطق العالم. وسيكون التركيز مبدئياً على أمريكا الوسطى وأفريقيا الجنوبية والمغرب وأستراليا.
- تجديد الشراكة التنفيذية-التشريعية: ستعمل الإدارة الأمريكية مع الكونجرس من أجل تشريع اتفاقيات تجارية جديدة، على المستوى العالمي والإقليمي والثنائي؛ وذلك تحت مظلة قانون "ترويج التجارة".
- تعزيز الترابط بين التجارة والتنمية: إن السياسات التجارية تستطيع أن تساعد الدول النامية في تدعيم كل من الحقوق الملكية، والمنافسة، وسيادة القانون، والاستثمار، ونشر العلم والمعرفة، والتفاعل الإقليمي.. كل هذا سيؤدي إلى توفير الرخاء والتنمية والثقة في الدول النامية.
ومثالا على ذلك تعمل الولايات المتحدة حالياً على تنفيذ قانون "تنمية أفريقيا" الذي سيربط جميع منتجات الدول الأفريقية جنوب الصحراء تقريبا (53 دولة) بالسوق.
- وضع اتفاقيات وقوانين تجارية ضد الممارسات غير العادلة: من أولويات الإدارة الأمريكية حل النزاعات القائمة بينها وبين الاتحاد الأوربي، وكندا، والمكسيك. وأيضاً منع وردع التجسس الصناعي الدولي الذي يجهض المنافسة العادلة.
- مساعدة المصانع المحلية والعمال على التأقلم مع ديناميكية الأسواق المفتوحة: وهو ما يضمن عدم تضرر العمال الأمريكيين بسبب تطبيق بنود التجارة الحرة.
- حماية البيئة والعمال: وذلك من خلال تضمين المسائل المتعلقة بالعمال والبيئة في مفاوضات التجارة الأمريكية؛ ومن ثم إيجاد "شبكة" صحية بين الاتفاقيات البيئية متعددة الأطراف وبين منظمة التجارة الدولية.(19/430)
- تدعيم وتحسين الأمن الطاقي: وذلك من خلال العمل مع الحلفاء والشركاء التجاريين ومنتجي الطاقة على توسعة مصادر وأنواع الطاقة العالمية المتوفرة لدى الولايات المتحدة.
ولا تنسى الإدارة -في خضم التنمية الاقتصادية- أن تضبط تركيز الغاز المتسبب في الاحتباس الحراري الذي سوف ينتج من تلك التنمية؛ ومن ثم احتواءه بدرجة معينة تمنع التدخلات الآدمية الشرسة في المناخ العالمي..
توسيع دائرة التنمية
من أولويات السياسة الأمريكية تجاه العالم إدخال جميع فقراء العالم في دائرة متسعة للتنمية. وللأسف فقد ثبت فشل سياسة المعونات في رفع الفقر عن الدول النامية؛ ذلك لأن نتائج المعونات كانت تُحسب دائماً من خلال الدولارات التي تُدفع من قبل المانحين، بدلاً من أن تُحسب من خلال معدلات التنمية في الدول المتلقية للمعونات. ومن ثم رأت الإدارة الأمريكية ضرورة تغيير أهداف تقديم المعونات، والإستراتيجيات الممهدة لتلك الأهداف. وقد وضعت الولايات المتحدة -بجانب الدول الصناعية الكبرى- هدفاً طموحاً أمام أعينها؛ وهو: مضاعفة حجم اقتصاد أكثر الدول فقراً في العالم، عبر عشر سنوات. وهذه هي الإستراتيجيات التي ستتبعها للوصول إلى ذلك الهدف:
- تقديم المساعدات والمعونات لتلك الدول فقط التي تتبع منهجاً إصلاحياً صحيحاً: فتبعاً لحساب "تحدي الألفية" (Millennium Challenge Account) ستسعى الإدارة الأمريكية إلى دفع بلايين الدولارات لإقامة مشروعات تنموية في تلك البلدان ذات الحكومات العادلة التي تستثمر في شعوبها، والتي تشجع الحرية الاقتصادية.
- تحسين فعالية البنك الدولي والبنوك التنموية الأخرى في رفع المستويات المعيشية: وقد قامت الإدارة الأمريكية- حيال ذلك- برفع الدعم الأمريكي لرابطة التنمية الدولية IDA بنسبة 18% (وهو البنك الدولي الذي يمول الدول الأكثر فقراً)، وكذلك للبنك الأفريقي للتنمية. وكل ذلك يتم على شرط هو: أن تقاس كل المعونات والهبات والقروض والمشاريع على حسب مساهمتها في زيادة الإنتاجية في الدول النامية.
- قياس النتائج للتأكد من أن المعونات التنموية تؤثر بالإيجاب على حياة أكثر الناس فقراً في العالم.
- التركيز على الهبات أكثر من القروض: حيث إن الهبات تمثل أفضل طريق لمساعدة الدول الفقيرة على الاستثمار، خاصة في المجالات الاجتماعية، بدون إثقالهم بضغوط الديون التي تتعاظم يوماً بعد يوم.
وتحت إشراف الولايات المتحدة قامت رابطة التنمية الدولية بالفعل برفع حجم الهبات إلى أفقر دول العالم، بهدف مساعدتها في شتى المجالات: التعليم، والصحة، وأمراض الإيدز، والتغذية، والمياه.
- فتح المجتمعات للتجارة والاستثمار: فحرية السوق والتجارة تمثل دعامة أساسية لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي.
- تأمين الصحة العامة: فبدونها لا تستطيع التنمية أن تحقق مغزاها. ولهذا قامت الإدارة الأمريكية بتأييد التمويل العالمي الجديد المقدم لمرضى الإيدز الذي ينظمه أمين عام الأمم المتحدة كوفي عنان.
- التركيز على التعليم الذي لا تصح الديمقراطية ولا التنمية بدونه: وسترفع الولايات المتحدة إسهاماتها التمويلية في مجال التعليم بنسبة 20% على الأقل.
- استخدام العلم في التنمية الزراعية: بهدف القضاء على المجاعات المنتشرة بين 800 مليون فقير، منهم 300 مليون طفل..
التعاون مع المؤسسات المركزية
في 1 يونيو 2002، ألقى بوش خطبة في نيويورك قائلاً: "منذ صعود الدولة القومية في القرن السابع عشر، ونحن لدينا أحسن فرصة لإقامة عالم تتنافس فيه القوى الكبرى في سلام بدلاً من أن تتنافس في الإعداد للحرب".
إن الولايات المتحدة لن تستطيع تنفيذ إستراتيجياتها بدون إقامة تحالفات مع الدول الصديقة في كندا وأوربا؛ وخاصة الأخيرة التي تحتضن أقوى منظمتين عالميتين في العالم: منظمة حلف شمال الأطلسي التي كانت -وما زالت- نقطة ارتكاز للأمن الأوربي الداخلي؛ والاتحاد الأوربي الذي يمثل شريك الولايات المتحدة في التجارة العالمية.
وقد تعرضت منظمة حلف شمال الأطلسي لهجمات 11 سبتمبر، كما تعرضت لها الولايات المتحدة. ومن ثم يتحتم عليها تطوير هياكل وقدرات جديدة في سبيل النهوض بمهمتها تحت الظروف الجديدة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر.
ومن أجل تفعيل التحالف بين الولايات المتحدة وبين منظمة حلف شمال الأطلسي، ستقوم الإدارة الأمريكية بالتالي:
- توسيع عضوية الحلف لتشمل أكبر عدد ممكن من الدول الديمقراطية التي تكون على استعداد لحماية المصالح الأمريكية والأوربية ومصالحها هي أيضاً.
- التأكد من أن قوات الحلف لديها من المعدات والأسلحة ما يؤهلها لخوض الحرب الحالية.
- الاستفادة من التقدم الأمريكي على المستوى التكنولوجي، لإمداد الحلف بكل ما يحتاجه لتقليل المخاطر والثغرات التي يمكن أن تتعرض لها الولايات المتحدة وأوربا.(19/431)
وعلى المستوى الآسيوي، كانت هجمات 11 سبتمبر سبباً مؤدياً للتحالف الأمريكي الآسيوي. فقامت أستراليا بتدشين اتفاقية الأنزوس لتعلن من خلالها أنها تعرضت بالمثل لهجمات سبتمبر. كما قامت اليابان وجمهورية كوريا -بعد أسابيع من الأحداث- بإمداد الولايات المتحدة بإمدادات عسكرية لوجيستية. وكذلك تلقت الولايات المتحدة مساعدات من تايلاند والفليبين وسنغافورة ونيوزيلندا.
ومن أجل توطيد العلاقات مع الجناح الآسيوي سعت الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ الخطوات التالية:
- تأهيل اليابان لأن تلعب دوراً رائداً في الشئون الإقليمية والعالمية.
- العمل مع كوريا الجنوبية لأخذ حذرها من كوريا الشمالية؛ ولكن في نفس الوقت تأهيل المنطقة للاستقرار على المدى البعيد.
- إقامة تحالف أمريكي-أسترالي يمتد لمدة خمسين سنة.
- الاحتفاظ بالقوات الأمريكية في المنطقة، وهو ما يعكس الانتماء الأمريكي للحلفاء الآسيويين.
- تطوير إستراتيجيات إقليمية وثنائية لإحداث تغيير في هذه المنطقة الديناميكية.
ومع روسيا تقوم الولايات المتحدة بتدشين علاقة إستراتيجية جديدة قائمة على حقيقة مركزية؛ وهي أن الولايات المتحدة وروسيا لم يعودا عدوين إستراتيجيين. وقد تبلورت هذه الحقيقة في أثناء "اتفاقية موسكو" بخصوص الحد الإستراتيجي؛ حيث وعدت روسيا بإقامة علاقات إيجابية، وعلى المدى البعيد، مع المجتمع اليورو-أطلنطي والولايات المتحدة.
وقد قامت الإدارة الأمريكية من ناحيتها بعدة خطوات لتدعيم التحالف الأمريكي الروسي:
1- إرساء التعاون بين الدولتين لمواجهة الإرهاب العالمي.
2- التمهيد لدخول روسيا في منظمة التجارة العالمية.
3- تدشين مجلس "حلف الأطلسي-روسيا" بهدف تعميق التعاون الأمني بين روسيا والحلفاء الأوربيين والولايات المتحدة.
وهذا طبعاً لا ينفي وجود معوقات عديدة، يمكنها أن تثبط من هذا التحالف؛ منها على سبيل المثال:
1- عدم إيمان روسيا الكامل بقيم ومبادئ ديمقراطية السوق المفتوحة.
2- الضعف الروسي الواضح.
3- الرفض الروسي لنشر أسلحة الدمار الشامل.
ولكن بالرغم من ذلك تظل فرص الالتقاء أكبر بين الطرفين.
ومع الهند تجتمع الولايات المتحدة على عدة مصالح مشتركة منها: التدفق الحر للتجارة، ومحاربة الإرهاب، وإيجاد آسيا مستقرة إستراتيجياً، والحرية السياسية، حيث تعتبر الدولتان من أكبر الديمقراطيات في العالم. وبالرغم من عدم اتفاقهما على برامج الهند النووية، فإن الإدارة الأمريكية تنظر اليوم للهند على كونها دولة تتعاظم قوتها يوماً بعد يوم، حيث تتكون معها مصالح إستراتيجية كثيرة.
ومع الصين تسعى الإدارة الأمريكية إلى تدشين علاقة بنيوية بهدف تغييرها، وتنميتها ديمقراطياً. كما يتعاون الاثنان حيث تلتقي مصالحهما عند محاربة الإرهاب الحالي، وعند دفع الاستقرار في الجزيرة الكورية، وعند التخطيط للمستقبل الأفغاني، وعند صد الأخطار البيئية والصحية مثل انتشار مرض الإيدز.
ومن الجدير بالذكر أن المخاطر عبر الدولية التي تتعرض لها الصين، ستجبرها -عاجلاً أو آجلاً- على أن تصير أكثر انفتاحاً، وأكثر تقبلاً للمعايير الديمقراطية.
ولا تنسى الإدارة الأمريكية أهمية الصين الاقتصادية، وكيف أنها ستستفيد من دخول الصين في منظمة التجارة الدولية؛ وهو ما سيخلق فرصاً أكثر للتصدير الأمريكي، ومن ثم فرصاً أكثر للعمل لدى العمال والزراع الأمريكيين، وكذلك الشركات الأمريكية. ولا غرابة في أن تكون الصين هي رابع أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة؛ حيث يبلغ حجم المعاملة التجارية بين الطرفين 100 بليون دولار سنوياً.
وبالرغم من تواجد أسباب كثيرة لعدم الاتفاق بين الطرفين -منها مشكلة حقوق الإنسان، وتأييد أمريكا للمسألة التايوانية- فإن الإدارة الأمريكية عازمة على تضييق الفجوات مع الصين؛ لأن واقع ما بعد 11 سبتمبر يحتم عليها ذلك..
تطوير مؤسسات الأمن القومي الأمريكي
بعد أحداث سبتمبر صارت الإدارة الأمريكية ملزمة بالاحتفاظ بقوة دفاعها أكثر مما سبق. ويقف الدفاع عن الولايات المتحدة في الأولوية العسكرية. ومن ثم، تسعى الإدارة الأمريكية إلى ضمان أصدقائها وحلفائها؛ أثناء أي تنافس عسكري في المستقبل؛ وردع أي تهديدات ضد المصالح الأمريكية، ومصالح الشركاء والأصدقاء؛ وهزيمة أي عدو إذا ما فشِل معه سلاح الردع.
إن الجيوش الأمريكية -التي كانت في يوم من الأيام مبنية بهدف ردع جيوش الحرب الباردة- لا بد أن تتحول الآن فتركز أكثر على كيفية اعتداء العدو، بدلاً من التركيز على مكان وتوقيت الاعتداء. ومن أجل مواجهة تحديات الأمن الحالية -التي تولدت بعد أحداث سبتمبر- ستكون الإدارة الأمريكية في حاجة شديدة إلى قواعد ومحطات في أوربا الغربية وفي شمال شرق آسيا؛ بالإضافة إلى ترتيبات وقتية لنشر القوات الأمريكية على المدى البعيد.
قبل الحرب مع أفغانستان كانت تلك المنطقة بعيدة تماما عن اهتمام الإدارة الأمريكية؛ أما الآن.. فقد تغير الوضع تماماً؛ وصار التركيز على نشر القوات الأمريكية في تلك المنطقة.(19/432)
إن الإدارة الأمريكية ستسعى إلى تطوير دفاعها من خلال الإستراتيجيات التالية:
- القدرة على الدفاع أولاً عن الأراضي الأمريكية.
- التأكد من وصول الولايات المتحدة إلى ساحات الحروب البعيدة.
- القدرة على الدفاع عن البني التحتية الأمريكية في الفضاء الخارجي.
- تجديد وتطوير القوات المسلحة الأمريكية؛ آخذين بأحدث الأساليب التكنولوجية والعلمية.
- تطوير الطريقة التي تُدار بها وزارة الدفاع؛ خاصة من ناحية الإدارة التمويلية، ومن ناحية التوظيف والإقالة.
- توفير عدة اختيارات عسكرية للرئيس الأمريكي، ليختار منها ما يشاء؛ وهو ما يثبط من إمكانيات الهجوم على الولايات المتحدة أو على الدول الصديقة.
- حرمان الأعداء من الحصول على أي أسلحة تفوق الأسلحة الأمريكية.
- تطوير القدرات الاستخباراتية لكي تتلاءم مع العدو الإرهابي الجديد.
- مزج الدفاع مع المخابرات مع تنفيذ القانون.
- الاعتماد على الدبلوماسية للتفاعل مع الدول الأخرى؛ فالدبلوماسيون الأمريكيون يشكلون الخط الأمامي للمفاوضات المعقدة، والحروب الأهلية، والأزمات الإنسانية.
بذل الجهد في توصيل ثقافة عامة عن "أمريكا" لتتعرف كل شعوب الأرض عليها. فالحرب الدائرة الآن هي حرب أفكار؛ ولا بد أن تكون الغلبة للولايات المتحدة..
===============(19/433)
(19/434)
رؤية أمريكية.. لماذا يكرهوننا؟!
20/01/2001م
نكولاس كريستوف ـ كاتب أميركي ـ خدمة «نيويورك تايمز»*
"بعد مرور خمسة أشهر على أحداث 11 سبتمبر ما زال هناك في أمريكا من يسأل عن سر كراهية العديد من دول العالم خصوصا في العالمين العربي والإسلامي لأمريكا؟ ومع أن الكثيرين تحدثوا عن أمور حقيقية مثل مساندة أمريكا لإسرائيل ظلما وعدوانا، فقد لفت هذا المقال أنظار الأمريكان إلى أمور أخرى أهمها أن أمريكا تشجع الحكومات الديكتاتورية وهو ما يُغضب شعوب هذه الدول، كما أنها تتدخل لقمع أي حريات حتى لو كانت حرية نقد أئمة المسلمين لأمريكا على المنابر".
والمقال التالي يوضح جانبا من تفكير أمريكا عن سر كراهية شعوب عديدة في العالم لها:
من بين الأمور التي أفقنا عليها نحن الأميركيين منذ 11 سبتمبر (أيلول) الماضي درجة سخط العالم علينا وامتعاضه منا. ولو اتجهنا من الأرجنتين إلى اليابان، ومن روسيا حتى السنغال، فسنذهل من جموع الساخطين على تنصيب أمريكا نفسها شرطيا للعالم، أو من إسرافها في استخدام النفط العالمي، وتهوينها من شأن الاتفاقات والمؤسسات الدولية. ونحن متهمون كذلك بابتلاء الجماهير المسكينة ببيرغر «البيغ ماك» وببرامج «ويندوز مايكروسوفت» الكومبيوترية وبالنجمة جوليا روبرتس، (هل يمكن اعتبار هذه الأمور في عداد الجرائم حقا؟). وحتى في دول حليفة، ووثيقة الصلة بنا مثل كوريا الجنوبية لطالما كانت هناك نقمة عارمة بين الناس العاديين بسبب العجرفة والعربدة الأميركية المفترضة. وكنت كلما مررت أمام مبنى البلازا في العاصمة سيول تعيدني الذكريات إلى عام 1987 عندما صادفت هناك إحدى المظاهرات المنادية بالديمقراطية، حرقت فيها مجموعات راديكالية من الطلبة العلم الأميركي وسط هتافات تأييد أكثر من 100 ألف مشارك، وهذا كله في بلد روته دماء الجنود الأميركيين الذين قتلوا إبان الحرب الكورية.
على كل حال، تظل النقطة المهمة هنا هي التساؤل عما بوسعنا فعله إزاء هذا الوضع. هنا تبدأ أهمية التجربة الكورية، فبينما زادت مشاعر العداء لأمريكا في كثير من أرجاء العالم، نجد أنها تراجعت في كوريا الجنوبية. وأعتقد أن هناك دروسا مفيدة لهذه التجربة يمكن الاستفادة منها في علاقاتنا مع السعودية ومصر وغيرهما من الدول. وقد سألت "توماس هبارد" السفير الأميركي لدى كوريا عن أسباب تقلص مشاعر العداء لأمريكا هناك، فأجابني قائلا: "لقد تقلصت تلك المشاعر؛ لأن الناس هنا لم تعد تنظر إلى الولايات المتحدة على أنها تدعم الأنظمة العسكرية القمعية في كوريا". وأضاف: "يمكن اعتبار كوريا مثالا على كيفية تبديد التيارات الديمقراطية للكراهية والغضب"؛ ولهذا فإن من الدروس المهمة لهذه التجربة أهمية العلاقات العامة بالنسبة للدبلوماسية، ولا بد من التنويه هنا بأن السفارات الأميركية لم تهتم كثيرا بإيصال وجهة النظر الأميركية إلى شعوب الدول الموجودة فيها، كما لم يكن هناك عدد كافٍ أبدا من السفراء الذين يتحدثون لغة البلاد التي يعملون فيها، من عربية أو كورية أو صينية طليقة، ويشاركون دوريا في البرامج التلفزيونية المحلية لتوضيح المواقف الأميركية إزاء القضايا التي تهم الناس هناك.
وهناك درس آخر يقضي بحاجة واشنطن إلى توثيق علاقاتها مع الشعوب لا مع الأنظمة التي تحكمها بشكل مؤقت فقط. ونحن في ما يخص بعض الدول العربية نكرر الخطأ الذي ارتكبناه في كوريا بالظهور وكأننا نقف إلى جانب الحكام ضد الشعوب. والمفارقة هنا أن البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي تسمع في شوارعه أعلى الأصوات المؤيدة لأمريكا هو إيران التي تعتبر علاقاتنا الرسمية معها هي الأسوأ. آخر دروس هذه التجربة هو أننا سنكون في وضع أفضل عند دعمنا للديمقراطية في تلك البلدان وحتى حق حرق الأعلام الأميركية. فعندما كان مُتاحا للكوريين التنفيس عن غضبهم في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات تبدد الإحباط وانتهى.
باختصار، ربما كان من الأحسن لنا ترك علماء الدين الراديكاليين في السعودية وباكستان يتمتعون بحرية شجبنا.
* الشرق الأوسط 16 / 01 / 2002م
================(19/435)
(19/436)
هذا ما جنته أيدينا
13/10/2001
جون غيراسي- (عن موقع زد ماغ) ترجمة: حسام عيتاني السفير/ 26- 9- 2001
الظلم يجلب غضب الشعوب
لا أستطيع منع نفسي من البكاء فور رؤيتي شخصًا يروي على التلفاز قصة ينفطر لها القلب عن المصير المأساوي لأحبته في كارثة مركز التجارة العالمي، أعجز عن السيطرة على نفسي.
لكنني أتساءل بعد ذلك: لماذا لم أبكِ عندما محت قواتنا خمسة آلاف شخص فقير في حي "إل كوريللو" في بنما بذريعة البحث عن نورييغا، وكان قادتنا يعلمون أنه مختبئ في مكان آخر؟! لكننا دمرنا إل كوريللو؛ لأن السكان هناك من الوطنيين الذين كانوا يريدون خروج الولايات المتحدة من بنما نهائيا. وأسوأ من ذلك، لماذا لم أبكِ عندما قتلنا مليوني فيتنامي أكثرهم من الفلاحين الأبرياء في حرب كان مهندسها الرئيسي وزير الدفاع "روبرت ماكنمارا" يعلم مسبقا استحالة الانتصار فيها؟!
عندما توجهت قبل أيام للتبرع بالدم لاحظت كمبوديًا يتبرع هو الآخر بدمه، وذكّرني ذلك بهذا السؤال: لماذا لم أبكِ عندما ساعدنا "بول بوت" على ذبح مليون آخر من مواطنيه، بإعطائه السلاح والمال؟ ألأنه كان يعارض "عدونا" الفيتنامي (الذي أوقف حقول القتل؟).
وقررت في ذلك المساء التوجه إلى السينما في محاولتي للامتناع عن البكاء. واخترت فيلم "لومومبا" في "منتدى الأفلام". وأدركت هناك مجددًا، أنني لم أبكِ عندما رتبت حكومتنا مقتل الزعيم الوحيد المحترم الذي عرفته الكونغو واستبدلته بالجنرال موبوتو، الديكتاتور الجشع والخبيث والقاتل. كما لم أبكِ عندما دبرت وكالة الاستخبارات المركزية الإطاحة بزعيم إندونيسيا سوكارنو الذي قاتل الغزاة اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، ونصبت مكانه جنرالا آخر هو سوهارتو الذي تعاون مع اليابانيين ولاحق وأعدم نصف مليون "ماركسي" على الأقل؟
لا نبكي إلا لبني جلدتنا
شاهدت التلفاز مجددًا الليلة الماضية، وبكيت بسبب صورة ذلك الأب الرائع، المفقود حتى الآن، وهو يلاعب طفله البالغ من العمر شهرين. لكنني عندما تذكرت المذبحة التي ذهب ضحيتها آلاف السلفادوريين الذين وصف "راي بوتر" بتفصيل شديد مأساتهم في "التايمز"؛ أو اغتصاب وذبح أولئك الراهبات الأمريكيات، من قِبل عملاء حرضتهم ودربتهم ودفعت لهم وكالة الاستخبارات المركزية، لم أذرف دمعة واحدة. بل إنني بكيت عندما سمعت مقدار شجاعة بربارا أولسون - زوجة المراقب العام في وزارة العدل - الذي أحتقر آراءه السياسية، لكنني لم أبكِ عندما اجتاحت الولايات المتحدة الدولة الصغيرة في بحر الكاريبي، غرينادا، وقتلت مواطنين أبرياء كانوا يأملون في تحسين ظروف حياتهم ببناء مطار للسياح، رأت فيه حكومتي إثباتا على بناء الروس لقاعدة عسكرية. لكن البناء أكمل بعدما تأكد بقاء الجزيرة في معسكر الولايات المتحدة!.
لماذا لم أبكِ عندما خطط وأمر "إريل شارون"، رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بذبح ألفي فلسطيني فقير في صبرا وشاتيلا وهو شارون نفسه الذي عمل كغيره من زعماء عصابة أرغون وشترن الإرهابيين بيغن وشامير اللذين قتلا زوجات وأطفال الضباط البريطانيين بتفجير فندق الملك داود؟!
أعتقد أن المرء لا يبكي إلا لبني جلدته. لكن هل يبرر ذلك السعي للانتقام من كل من يختلف معنا؟ هذا ما يبدو أن أمريكا تريد القيام به. حكومتنا ثائرة الآن، وكذلك القسم الأكبر من وسائل إعلامنا. لكن هل نؤمن بأن من حقنا استغلال الفقراء في العالم من أجل مصلحتنا، ولأننا نزعم أننا أحرار وهم ليسوا كذلك؟
إذن، هانحن نمضي إلى الحرب، وكلنا ثقة أننا سنقتفي آثار أولئك الذين قتلوا العدد الكبير من إخواننا وأخواتنا الأبرياء. وسننتصر طبعا ضد أسامة بن لادن، وضد طالبان، وضد العراق، وضد الجميع، وضد كل شيء. أثناء ذلك سنقتل مجددا بضعة أطفال أبرياء.. أطفال لا يملكون ثيابا للشتاء المقبل، وليس لديهم منزل يحميهم، وليس لديهم مدرسة لتعليمهم. لماذا هم مذنبون، ولم تزد أعمارهم بعد عن سنتين أو أربع أو ست سنوات. ربما سيدّعي المبشران الإنجيليان "فالويل" و"روبرتسون" أن موت الأطفال أمر حسن؛ لأنهم لم يكونوا مسيحيين، وربما سيخرج متحدث باسم وزارة الخارجية ليخبر العالم أن هؤلاء الأطفال كانوا من الفقر بحيث أن وضعهم قد تحسن الآن.
متى نتعلم؟
وماذا بعد؟ هل سنتمكن من إدارة العالم وفق ما نريد؟ ومع كل هذه التشريعات التي تسمح برقابة مكثفة علينا، سيشعر مديرو شركاتنا الكبرى بالسرور؛ لأن من كان يتظاهر ضد العولمة أصيب برعب أبدي. انتهت أعمال الشغب في سياتل وكيبيك وجنوا.(19/437)
أخيرا حل السلام إلى المرة المقبلة، من سيكون حينها؟ طفل كبر بعدما نجا من مذبحتنا التي راح ضحيتها أهله الأبرياء في إل كوريللو؟ فتاة من نيكاراغوا علمت أن أبويها الطبيبين قُتلا على أيدي رجال عصابات أطلقنا عليهم تسمية "الكونترا الديموقراطيون". وكانوا يقرءون في كتاب تعليمات وكالة الاستخبارات المركزية أن أفضل طريقة لتدمير الحكومة الوحيدة التي حاولت أن تمنح الفقراء في بلدها فرصة حياة أفضل، هي قتل الأساتذة والأطباء والعمال الزراعيين؟ أو ربما يكون رجل تشيلي يشعر بالمرارة لاقتناعه بأن عائلته بأسرها قد قُتلت بناء على أوامر من وزير خارجية نيكسون "هنري كيسنجر" الذي لم يعرف أبدا الفرق بين الشيوعي والاشتراكي الديموقراطي أو حتى القومي؟ متى نتعلم، نحن الأمريكيين، أنه كلما تابعنا محاولتنا إدارة العالم إلى أن يبلغ الحضيض، ووجهنا دائما بغضب أحدهم؟ ما من حرب قادرة أبدا على وقف الإرهاب طالما أننا نستخدم الإرهاب لتحقيق غاياتنا.
لذلك توقفت عن البكاء؛ لأنني توقفت عن مشاهدة التلفاز. وذهبت في نزهة. وعلى بعد أربعة منازل من بيتي، تجمع حشد لوضع الزهور وإضاءة الشموع أمام المركز المحلي للإطفاء. لقد كان مقفلا. وهو مقفل منذ الثلاثاء لأن رجال الإطفاء -وهم مجموعة رائعة من الشبان الودودين- اعتادوا تحية الجيران بابتسامات واسعة، أسرعوا لنجدة ضحايا البرج الأول فاختفوا معهم لدى انهياره. فبكيت مجددا.
وقلت لنفسي عندما كتبت هذا: لا ترسله للنشر فبعض من تلامذتك وزملائك وجيرانك سيبغضونك وربما آذوك. لكنني أدرت التلفاز مجددا؛ وكان هناك وزير الخارجية باول يقول لي بأنه ما من بأس في الذهاب إلى الحرب ضد أولئك الأطفال، أولئك الفقراء، أولئك الكارهين لأمريكا؛ لأننا متحضرون وهم ليسوا متحضرين. فقررت المجازفة. ربما إذا قرأ هذه المقالة شخص سيتساءل: لماذا في العالم هذا العدد من الناس المستعدين للموت ليذيقونا طعم ما نعطيه لهم؟
==============(19/438)
(19/439)
لماذا فاز الإسلاميون في الانتخابات؟
06/11/2002
محمد جمال عرفة **
قادة الأحزاب الإسلامية يشكرون الله على الفوز
في أقل من شهرين حققت الحركات السياسية الإسلامية فوزًا يتراوح بين الكاسح والمتوسط في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أربع دول عربية وإسلامية، هي: باكستان والمغرب والبحرين وأخيرا تركيا؛ وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول هذه الظاهرة العامة أو الانتصار وفق التسميات المختلفة للمحللين السياسيين، وأصبح السؤال الذي يطرحه الجميع هو: لماذا فاز الإسلاميون؟
فقد فاز حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي في المغرب بـ 52 مقعدا من مقاعد البرلمان الـ 325، أي بنسبة حوالي 20%، وحل في المرتبة الثالثة بفارق يُعدّ على أصابع اليد عن الأحزاب التي تسبقه. وفاز تحالف "الأمل" الذي يضم 6 أحزاب إسلامية باكستانية بـ53 مقعدا من 272 ليحل أيضا في المركز الثالث أيضا بفوارق بسيطة عن الأحزاب التي تسبقه.
وفي أول انتخابات برلمانية تُجرى في البحرين منذ حل البرلمان وإلغاء الدستور عام 1975 فاز المنتمون إلى التيار الإسلامي أيضا بـ19 مقعدا (15 من السُنّة و5 من الشيعة) من أصل 40 مقعدا، ليسيطروا على نصف مقاعد البرلمان تقريبا. وجاءت انتخابات تركيا لتكسر كل الحواجز والتوقعات، ويكتسح حزب "العدالة والتنمية" الذي تأسس منذ عام ونصف فقط ليكتسح كل الأحزاب القديمة والجديدة ويفوز بثلثي مقاعد البرلمان وحده (363 من 550).
الملاحظات الجوهرية التي يجب رصدها هنا تتلخص فيما يلي:
- التيار الإسلامي في البلدان الأربع تميز بعقلانية شديدة، ولم يرفع شعارات عنترية مثلما فعل إسلاميون آخرون في الثمانينيات والتسعينيات (حالة الإنقاذ في الجزائر مثلا)، وإنما تحرك مستندا إلى مطالب الجماهير العادية، والتأكيد على أن حلها متصل بالواقع الإسلامي للمجتمعات العربية والإسلامية، وليس من الخارج.
- هذه الأحزاب الإسلامية الفائزة اختارت اللعب على وتر الاقتصاد والأحوال الاجتماعية في بلادها، وعلى رأسها قضيتا الفقر والفساد الاقتصادي- السياسي-الاجتماعي، حتى إن اثنين من هذه الأحزاب اختارا لنفسيهما من البداية اسما متصلا بهذه القضايا بنفس الاسم في تركيا والمغرب (العدالة والتنمية)؛ حيث تشير الكلمة الأولى إلى الدور الاجتماعي للحزب، وتشير الثانية للدور الاقتصادي، فيما اختار التحالف الباكستاني اسم "تحالف الأمل".
يتصل بالنقطة السابقة تركيز برامج هذه الأحزاب على محاربة الفقر والفساد، مع ملاحظة أن الدول الأربع التي جرت فيها الانتخابات يدور فيها جدل شديد منذ سنوات حول انتشار الفساد بكل أنواعه:
ففي باكستان رفع الإسلاميون شعار محاربة الفساد والفقر بسبب استمرار حالة الفقر والبطالة الحادة، وعدم تحقيق حكومة مشرف أي تقدم فيها رغم المساعدات الأمريكية، وركزت دعاياتهم على رفع شعارات إيجابية بشأن تحسين أحوال الفقراء والأحوال الاقتصادية.
وفي المغرب كان الشعار الأساسي لحملة الإسلاميين الانتخابية هو توفير وظائف للعاطلين، حتى إن عبد الإله بن كيران أحد الأعضاء المؤسسين للحزب قال: "نريد أن نوفر وظائف لملايين من العاطلين".
وهذا هو ما عاد نائب رئيس الحزب الدكتور سعد الدين العثماني ليؤكده بقوله: "إن المواطنين لم يصوتوا على حزب العدالة والتنمية بهذا الشكل من أجل نشر الإسلام، ولكن من أجل إيجاد الحلول لمشاكل التشغيل والبطالة، واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، وزرع الثقة المطلوبة في البلاد، والدفع بكل وسائل التنمية إلى الأمام".
وفي البحرين كان التركيز في الدعاية الانتخابية -خصوصا للمرشحين الشيعة- على التوجه بجدية لمعالجة القضايا الوطنية الملحة، مثل البطالة والإسكان ومحاربة الفساد المالي والإداري والأخلاقي؛ لكي تنصبّ الجهود على توفير البيئة المناسبة لتطوير اقتصاد البلاد، وجلب الاستثمارات، وبالتالي العمل على "حلحلة" المشكلات المزمنة التي تعاني منها قطاعات كبيرة من المحرومين تعيش دون خط الفقر، وتكافح للحصول على مسكن لائق وعمل شريف ورعاية صحية وتعليم لأبنائها.
وفي تركيا لم يرفع حزب العدالة والتنمية شعارات السعي لإصلاح الاقتصاد وتحسين الظروف الاقتصادية فقط، ولكنه تحدث عن برنامج شامل لمحاربة الفقر والفساد معا، على اعتبار أن الثاني هو عنوان الأول. حيث رفع الحزب شعار التخلص من الائتلاف الحكومي السابق "الفاسد سياسيا والفاشل اقتصاديا" والحد من زيادة نسبة البطالة التي وصلت لأرقام مخيفة (مليون عاطل العام الماضي فقط!) وكذا معالجة مشكلة ديون تركيا الخارجية.
-غالبية هذه الأحزاب سعت لدفع تهمة التطرف عنها في ظل القلق العالمي الذي أفرزته هجمات 11 سبتمبر وحرب الإرهاب الأمريكية، وشددت على أن هدفها ليس تطبيق الشريعة مباشرة، ولكن تطبيق قيم عامة هي في الأصل قيم إسلامية، مثل العدالة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروة.(19/440)
- فالباكستانيون رغم حرصهم على تأكيد أن أحد أهدافهم الانتخابية المرفوعة كانت "فض التحالف الباكستاني العسكري مع أمريكا"، فقد حرصوا بشكل أكبر على تأكيد أنهم ليسوا مثل طالبان وحرص "قاضي حسين" أمير حزب الجماعة الإسلامية الباكستاني في حوار مع صحيفة باكستانية نشره موقع التحالف الإسلامي ( MMA) على الإنترنتhttp://www.mma.o r g.pk/، على تأكيد أن التحالف الإسلامي "ليس نسخة" من حركة طالبان بقوله:"We a r e not Taliban's r einca r nation…" ، بل سعى الإسلاميون لتصحيح الصورة التي يرسمها الغرب لهم، والتأكيد على أن الأحزاب السياسية الإسلامية لا تناهض الغرب عموما، ولن تتخذ بالتالي سياسات مناهضة للغرب، وستقيم علاقات ودية مع القوى الأجنبية. بل إن قاضي حسين ألمح -في لقاء مع وكالة الأنباء الفرنسية- إلى أن معارضة التحالف لوجود القوات الأمريكية قابلة للتفاوض بقوله: "سنظهر مرونة، وسنتخذ جميع الخطوات التي تتفق مع المصالح القومية".
- أما المغاربة فشددوا على أن هدفهم هو تطبيق الشريعة بالتدريج، وسارع عبد الإله بن كيران أحد الأعضاء المؤسسين للحزب بنفي التقارير التي وردت في وسائل إعلام أجنبية بأن حزبه سيضغط من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، وشدد في تصريحات لوكالة رويترز على أن الحزب يفضل "التطبيق التدريجي" للشريعة على مظاهر الحياة اليومية مثل حظر المشروبات الروحية ونوادي القمار واليانصيب.
- وكانت الحالة في تركيا أكثر وضوحا بسبب الطبيعة العلمانية للدولة، وطبيعة العلاقة بين التيار الإسلامي والجيش، حيث شدد رئيس الحزب رجب طيب أردوغان على تأكيد أن حزبه ليس إسلاميا، ولكنه محافظ، والقول: "نحن حزب علماني معتدل، لا يحارب الدين".
- وضمن هذا الخطاب المعتدل سعى الإسلاميون للحديث عن المشاركة لا للانفراد بالحكم. ولوحظ أن قسما من هذه الأحزاب الفائزة لم يتحدث مباشرة عن سعيه إلى الحكم، بل وفضل البعض الإعلان علنا (المغرب) أنهم غير جاهزين لهذا، ويفضلون التريث لمزيد من ثقل كوادرهم. وكان هذا واضحا في قول مصطفى الرميد رئيس الفريق البرلماني لحزب العدالة والتنمية من أن حزبه لا يرغب في الحصول على المرتبة الأولى أو أن يشكل هو الحكومة قائلا: "نرفض أن نكون الأوائل في هذه المرحلة، ونرفض أن نكون من يتحمل المسؤولية الأولى في هذا الظرف"، مُرجِعًا ذلك إلى أن الوضع الداخلي والموقف الخارجي لا يسمح بذلك في هذه المرحلة.
وتأتي الملاحظة الأخيرة والجوهرية وهي أن الإسلاميين الذين شاركوا ليسوا هم كل الإسلاميين في كل البلدان الأربع، ففي باكستان شاركت العديد من القوى تحت اسم "إسلامي"، وفي المغرب رفض الفصيل الإسلامي الكبير (جماعة العدل والإحسان) المشاركة في الانتخابات. وفي تركيا شاركت أحزاب إسلامية أخرى من أنصار رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان في الانتخابات، وحتى البحرين شهدت مقاطعة للانتخابات من أربع جمعيات سياسية، منها جمعيتان إسلاميتان هما: جمعية الوفاق الوطني الإسلامية التي تعبر عن التيار السياسي الرئيسي وسط الشيعة، والعمل الإسلامي -شيعية قيد التأسيس- احتجاجا على تعديل أدخل على دستور 1973 يقضي بسلطات تشريعية متساوية للمجلس المنتخب، ومجلس آخر يتولى ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة تعيين أعضائه.
لماذا فازوا؟!
ويبقى السؤال: لماذا فاز الإسلاميون؟! هنا نشير إلى أربعة أسباب -مرتبطة بالملاحظات السابقة- تتردد على ألسنة المحللين، وهي:
أولا: رد فعل لحملة الإرهاب الأمريكية.
وهذا السبب تردده غالبا الأوساط الغربية التي تعتبر أن النشاط الإسلامي الزائد في البلدان العربية والإسلامية ما هو إلا رد فعل احتجاجي على حملة الإرهاب الأمريكية التي تطال المسلمين والدول الإسلامية، وتشبه حربا صليبية جديدة. وفي هذا الإطار لفتت الصحافة الغربية الصادرة 5 نوفمبر (لوموند - ليبراسيون - فايننشيال تايمز- دوتشلاند) الأنظار إلى أن فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية يشكل تحديا كبيرا بشأن قدرته على إثبات إمكانية التوفيق بين الديمقراطية والإسلام، كما أنه يشكل تحديا للاتحاد الأوروبي. وأكدت صحيفة "لوموند" أنه تقع على عاتق الحزب الإسلامي "مسؤولية إظهار توافق الإسلام مع الديمقراطية… وكيفية التكييف بين الإسلام والحداثة".
ولكنَّ محللين عربا يعتبرون أن أحد الأسباب التي تدفع الناخبين لانتخاب الإسلاميين كون الغرب اختار ميدان المعركة "دينيا" أو هكذا ما بات يدركه المواطن العربي والمسلم، وتحدث بوش وأركان حكمه عن حرب صليبية، فلماذا لا يختار العرب والمسلمون من يفهم هذه اللغة ليدير المعركة بكفاءة أكبر؟!
ثانيا: تغلغل النفوذ الغربي في الحكومات العربية الضعيفة:
وهذا السبب مرتبط نسبيا بالسبب الأول، ويعبر عن احتجاج شعبي تجاه أمر خارجي يتعلق بتزايد تغلغل النفوذ الغربي (الأمريكي تحديدا) في الأوساط السياسية العربية الحاكمة، وهو ما يظهر بوضوح في باكستان والبحرين وتركيا التي تستضيف القواعد الأمريكية.(19/441)
وقد زادت حالة العجز الرسمي العربي والإسلامي تجاه ما يحدث في فلسطين، وما يُعد للعراق، فكان من الطبيعي -وفق هذا التحليل- أن يصوت الناخبون بقوة للتخلص من الحكومات التقليدية وإخراجها بعنف، ليس من السلطة، بل من الحياة السياسية النيابية ككل (أحزاب الائتلاف الحاكم التركي لم تحصل على مقعد واحد في البرلمان، والأحزاب الباكستانية التقليدية تقهقرت بشكل غير مسبوق، وبعض أحزاب الائتلاف المغربي الحاكم السابق تعرضت لهزيمة منكرة مثل الاتحاد الدستوري الذي خسر 34 مقعدا دفعة واحدة!).
واللافت هنا أن نسبة كبيرة من الناخبين في بعض هذه الدول كانت تدرك أن تصويتها لصالح الإسلاميين لن يأتي بجديد أو بتغيير حقيقي، ففي المغرب كان التعليق الأساسي الذي أدلى به أكثر من سياسي في الأحزاب المغربية تعقيبًا على نتائج أول انتخابات تجرى في عهد الملك الجديد "محمد السادس"، وحلول حزب العدالة والتنمية الإسلامي في المركز الثالث -هو: "حتى لو فاز الحزب بكل المقاعد فلن يكون له أي تأثير على الحياة السياسية في البلاد!".
وسبب هذا التعليق المتشائم -رغم حالة التفاؤل العامة لإجراء انتخابات تتسم بقدر من النزاهة النسبية- أن الدستور المغربي ما زال يعطي الملك حقوقًا أكبر من الحكومات، بل ويعطيه حق تعيين رئيس الوزراء وأربعة من أهم الوزراء في الحكومة؛ وهو ما يعني أنه يحكم ويملك معًا، ويتحكم في أي حكومة حتى لو شكلها الإسلاميون!.
والأمر نفسه قيل في تركيا رغم اكتساح الإسلاميين، بسبب سطوة الجيش التركي، للحد الذي دفع الإسلاميين أنفسهم لتغيير لقبهم إلى "يمين محافظ علماني"؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستخدموا أي صفة دينة لحزبهم في تركيا. ناهيك بالطبع عما ترتب على هذا من تدني نسبة التصويت في الانتخابات عموما استنادا إلى حالة من التشاؤم وعدم توقع تغيير.
ثالثا: انتشار الفساد والفقر:
وهذا السبب يعتبره البعض سببا رئيسيا لفوز الإسلاميين؛ على اعتبار أنه هدف يمكن تحقيقه ولو جزئيا، خاصة أنه مرتبط بمصلحة النظم الحاكمة والقوى الأجنبية صاحبة النفوذ فيها بعدما نخر سوس الفساد في العظم، وبدأت تنتشر الاحتجاجات الشعبية بما يهدد العروش نفسها والاستقرار السياسي برمته، فضلا عن أنه شعار ترفعه الكثير من الحكومات.
وقد سبقت الإشارة إلى رفع كل القوى الإسلامية لشعارات خاصة بالقضاء على الفقر وتحسين الاقتصاد والقضاء على الفساد، ولكن ما يجب التأكيد عليه أن هذه الشعارات ضاربة الجذور في هذه الأحزاب وليست وليدة الانتخابات فقط. ورجب طيب أردوغان رئيس حزب العدالة التركي اشتهر منذ منتصف التسعينيات عندما كان رئيس بلدية إستانبول بأنه الرجل الذي قاد حملة تنظيف إستانبول، وحسَّن ظروف المرافق الصحية فيها، كما أنه مشهور بأنه الرجل الذي طهَّر المدينة من الفساد وحتى من بيوت الدعارة بفضل خططه في تنفيذ فكرة توفير عمل شريف للعاهرات يغنيهن عن بيع أعراضهن.
وكان دافع الناخبين الرئيسي لاختياره أن ينظف لهم تركيا كلها من الفساد كما فعل مع إستانبول، وأن يطبق برامج اقتصادية جيده تعيد الازدهار الاقتصادي لتركيا، وهو بالمناسبة شعار رفعه هو أيضا في الانتخابات، بل وأكد عليه.
رابعا: اكتساب الإسلاميين خبرات كثيرة سابقة:
وهذا السبب تحديدا لا يمكن إغفاله، وأشار إليه بعض قادة هذه الأحزاب الإسلامية الفائزة، بل اعتبره قادة حزب العدالة والتنمية المغربي أحد أسباب عدم رغبتهم في التسرع بالحكم وتفضيل البقاء في مقاعد المعارضة لمزيد من ثقل الخبرات والكوادر.
فليس سرا أن قادة العدالة والتنمية التركي عركتهم الحياة السياسية، ونالوا خبرات طويلة منذ عودة الديمقراطية والتعددية للبلاد عام 1983 وما قبلها عبر زعيمهم أربكان الذي دخل الحياة السياسية منذ الستينيات، وقد خاضوا من قبل ثلاثة انتخابات تركية فازوا في بعضها وخسروا الأخرى، وفي كل مرة كان خطابهم السياسي يتحسن ويتعلم من تجارب الماضي.
وكدليل نلاحظ أن أردوغان حرص على تأكيد أنه لن يصطدم بالجيش كما فعل أربكان في 28 فبراير 1997، كما أنه شدد على الطبيعة العلمانية لحزبه ، وهو نفس ما فعله الإسلاميون المغاربة الذين شددوا على أنهم مع الدستور المغربي، والباكستانيون الذين تحدثوا عن قبول التعايش مع الوجود الغربي على أرضهم!
ولا يعني هذا تنازلات بقدر ما يمكن أن نطلق عليه "فهما صحيحا للعبة السياسية" وإدارة العلاقات الدولية وفق المضامين الدولية السائدة، فأردوغان عندما قال بأنه سينفذ برنامج صندوق النقد الدولي اشترط أن يرتبط هذا بمصلحة تركيا، وعندما قال بأنه علماني ربط هذا بأن العلمانية لا تحارب الدين، وقادة باكستان عندما أعلنوا التعايش مع الغربيين في بلاهم (كنوع من التعاون الأمني بين الدول) أكدوا رفضهم الوجود الأجنبي العسكري على أرضهم.
ولكن السؤال بعد كل هذا هو: إلى أي حد وأي مدى سوف يتمكن الإسلاميون من التكيف مع الواقع الجديد عقب فوزهم؟! وكيف سيكون حال العلاقة بينهم وبين الجيوش الموالية للغرب في بعض الدول؟(19/442)
بعبارة أخرى: هل تراهن هذه القوى الإسلامية على تغيير تدريجي مع الزمن؟ وهل تنجح في هذا؟ أم أن مصالح القوى الحاكمة خاصة المرتبطة منها بالنفوذ الخارجي المتعاظم ستقف لها بالمرصاد؟ وما هو المستقبل في هذه الحالة؟
=============(19/443)
(19/444)
الشرق أوسطية.. مسمار بوش في المنطقة العربية!
12/05/2003
محمد جمال عرفة **
الشراكة الأمريكية مع العرب لصالح شارون
يبدو أن الرئيس الأمريكي بوش الذي أبدى إعجابه الشديد بوزير الإعلام العراقي "الصحاف"، قرر أن يستلهم طرائف الصحاف، ولكن على طريقة جحا.. تلك الشخصية الفلكلورية صاحبة النوادر والحكايات الضاحكة.. الذي دق مسمارا في مكان يملكه غيره، ثم أخذ يتردد على المكان بين الحين والآخر لزيارة مسماره، وبمرور الوقت ادعى أن المكان ملكه، وحجته في ذلك وسند ملكيته المؤكد هو المسمار!
المسمار الذي بدأ بوش دقه في المنطقة العربية هذه المرة هو ما أسماه يوم 9 مايو الماضي "منطقة للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط في غضون عشر سنوات"؛ بحيث يظل يروج لهذا المسمار الذي يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى؛ حتى تتحقق الأهداف الأمريكية في المزيد من التفكك العربي والتبعية، وعودة فكرة "الشرق الأوسطية" الإسرائيلية الأصل!
فالخطة (المسمار) التي أعلن عنها بوش في خطابه في جامعة كارولينا الجنوبية في كولومبيا ذات بُعد اقتصادي ظاهري، يقترح "إقامة منطقة للتبادل الحر بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط في السنوات العشر المقبلة"؛ بهدف "قهر الفقر، وتعلم النساء والرجال عادات الحرية"، ولكنها تتضمن أبعادًا سياسية خطيرة تصب في النهاية في خانة تحقيق المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة العربية.
ولم ينكر بوش بعض هذه الأهداف أو الشروط لتحقيق الرفاهية الاقتصادية الموعودة، مثل: قيام الدول العربية بما أسماه "إصلاحات ضرورية كمكافحة الفساد والإرهاب، وحماية حقوق الملكية، وتحسين مناخ الاستثمار"، وأن تقر وتعترف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية تعيش بسلام مع جيرانها، مع القيام بتغييرات في النظام القضائي العربي (؟!) فيما تولت مصادر أخرى الكشف عن أهداف خطة بوش الشرق أوسطية، والتي هي أهداف إسرائيلية في المقام الأول، ومحاولة جديدة لإحياء مشروع السوق الشرق أوسطية الذي أعلنه شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، وألف كتابا خصيصا له.
وفي هذا السياق أعلن بوش أن بلاده ستنظم بالتعاون مع مملكة البحرين منتدى لمناقشة "الإصلاحات القضائية" في المنطقة العربية، وعين بالفعل القاضية في المحكمة العليا "ساندرا أكونار" لرئاسة الإصلاحات القضائية في الشرق الأوسط في إطار مبادرته لإقامة منطقة للتجارة الحرة بالمنطقة خلال 10 سنوات.
كما كشفت صحف أمريكية عن أن مشروع الشراكة هذا يتطلب تغييرات في مناهج التعليم العربية، وفي النظم الاقتصادية والقضائية العربية كي تتواكب مع الشروط الأمريكية للشراكة الاقتصادية.
وقالت صحيفة هاآرتس الإسرائيلية يوم 10 مايو 2003: إن من ضمن الشروط الأمريكية لانضمام الدول العربية إلى اتفاقية منطقة التجارة الحرة إنهاء المقاطعة العربية مع إسرائيل؛ تمهيدا للتطبيع الكامل، وإلغاء أو تخفيض الحواجز التجارية في عمليات التجارة والاستثمار مع الشركات الأمريكية، والحصول على عضوية منظمة التجارة العالمية.
وأعلن روبرت زوليك -الممثل التجاري الأمريكي- أن اتفاقيات التجارة الحرة تستلزم قيام الدول بتطبيق برنامج إصلاح اقتصادي كبير، وأن التبادل التجاري الحر في المنطقة يعني تنشيط التبادل التجاري العربي مع إسرائيل (أي إلغاء المقاطعة، وهو ثاني مطلب بعد ذكر هذا المطلب في نص اتفاقية خارطة الطريق)، وقال: إنه سيتم عقد منتدى اقتصادي عالمي في الأردن في يونيو 2003 (منتدى دافوس) يحضره وزير الخارجية كولن باول لهذا الغرض.
ومن الواضح أن خطة بوش تقوم على نفس الأسس القديمة لخطة إسرائيلية قديمة بدأ الحديث عنها منذ مؤسس الدولة الصهيونية "تيودور هرتزل"، واستمرت حتى المشروع الذي أطلقه "شيمون بيريز" في أعقاب توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 حول شرق أوسط جديد يقوم على 3 أسس، هي: التكنولوجيا الإسرائيلية، والمال والأسواق الاستهلاكية، والعمالة العربية الرخيصة!
خطة قديمة.. جديدة!
والواقع أن الخطة التي طرحها بوش ليست جديدة؛ فقد سبق أن أعلنتها وزارة الخارجية الأمريكية في 3 إبريل الماضي، كما نوه لها المسئولون الإسرائيليون، وأكدوا أنها ستوضع موضع التنفيذ فور سقوط نظام الحكم في العراق.
فقد سبق أن أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية يوم 3 إبريل 2003 "بيان حقائق" عن الخطة المسماة "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط"، تتضمن تقديم أكثر من ألف مليون دولار من المساعدات من الحكومة الأمريكية للدول العربية سنويا، وتخصيص 29 مليون دولار كتمويل مخصص لبرامج المبادرة لدعم الإصلاح السياسي.
وحدد البرنامج ثلاثة محاور سوف تتحرك فيها الولايات المتحدة مع الدول العربية، وهي:
1- التعليم: ويركز على ربط التعليم العربي بالبرامج الأمريكية، وتعليم البنات، والتركيز على الإنترنت.
2- الإصلاح الاقتصادي: ويشمل مساعدة المشروعات الصغيرة، وزيادة الشفافية ومحاربة الفساد.(19/445)
3- تقوية المجتمع المدني: ويتضمن مساعدة المنظمات غير الحكومية والأفراد المنتمين إلى جميع الفئات السياسية العاملين في سبيل الإصلاح السياسي من خلال آليات كصندوق ديمقراطية الشرق الأوسط، وبرامج "ستزيد شفافية الأنظمة القانونية والتنظيمية، وتحسن إدارة العملية القضائية".
أيضا كان من اللافت أن يعلن "زلمان شوفال" -السفير الإسرائيلي السابق في واشنطن، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي إريل شارون- قبيل سقوط نظام صدام حسين في التاسع من إبريل 2003.. أن "الأحداث المتسارعة في بغداد، والسقوط القريب لنظام صدام يمكن أن يوجدا الظروف المناسبة لقيام شرق أوسط جديد أكثر سلامًا، نأمل أن يكون له تأثير إيجابي على قوى أخرى إرهابية أو تدعم الإرهاب في المنطقة"، وكأنه يعلم بتفاصيل الخطط الأمريكية!
والأكثر أهمية أن هذه الخطة المتعلقة بإنشاء "شرق أوسط" تنخرط فيه الدولة العبرية يرجع أساسها إلى آباء الصهيونية الأوائل: هرتزل (الذي دعا لضرورة قيام كومنولث شرق أوسطي يكون لدولة اليهود فيه شأن فاعل، ودور اقتصادي قائد)، وبن غوريون (الذي اقترح على الرئيس الأمريكي أيزنهاور إقامة سد منيع ضد التيار القومي العربي، يضم إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا، وذلك في الرسالة التي وجهها إليه عام 1958).
وكان آخرها مشروع "شمعون بيرس" الذي طرحه خلال زيارته للولايات المتحدة في نيسان 1986، على نمط مشروع مارشال لأوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي نتج عنه قيام السوق الأوربية المشتركة. ثم أعيد تسويقه عام 1992 عقب اتفاقيات أوسلو.
ومن الواضح إذن أنه في ظل حالة النشوة الأمريكية عقب احتلال العراق، وفرض أمر واقع جديد في المنطقة العربية.. أن الحاجة نشأت لمد المنطقة بـ"جزرة" تشجع القادة العرب على الانخراط في الخطة الأمريكية للشرق أوسطية، وتوازن "العصا" التي رفعها بوش في وجه هذه الحكومات عقب اجتياح العراق، مهددا المعارضين بالويل والثبور..
وإن هذه الخطة التي توهم الجميع بتدفق الخيرات الأمريكية على المنطقة كلها تستهدف في النهاية توفير الأمن للدولة الصهيونية؛ باعتباره -كما قالت كوندوليزا رايس- مفتاح أمن العالم كله، وتسليمها قيادة المنطقة العربية، خصوصا أن اليمين المسيحي المتصهين هو الذي يهيمن على مقاليد الأمور في الإدارة الأمريكية الحالية، ويتبنى المخططات الإسرائيلية للمنطقة.
=============(19/446)
(19/447)
الإمبراطورية الأمريكية.. ثلاثية الثروة والدين والقوة
29/03/2003
…
سمير مرقص**
الإمبراطورية الأمريكية فاقت التوسع النازي
هل ظهرت النزعة الإمبراطورية الأمريكية الجديدة فجأة ومنفصلة عن سياق قائم؟ وهل كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر هي البداية التي انطلقت من خلالها الولايات المتحدة لتدشين واقع جديد ورسم معالم الإمبراطورية الجديدة؟ وهل ساهمت الإدارة الأمريكية اليمينية في تشكيل معالم تلك الإمبراطورية أم أنها ساهمت فقط في إبرازها وتجسيدها سريعًا على أرض الواقع؟
حتى نجيب على هذه التساؤلات وغيرها علينا أن نتناول عدداً من النقاط التي تساهم في تشكيل الصورة وإبرازها:
*
الإمبراطورية الأمريكية.. خلفية تاريخية
*
الإدارة الأمريكية الحالية
*
الإدارة الأمريكية الحالية وعسكرة العالم
*
الداخل الأمريكي الآن
الإمبراطورية الأمريكية.. خلفية تاريخية
1- أمريكا.. بناء القوة الذاتية:
عكفت الولايات المتحدة الأمريكية منذ استقلالها على بناء قوتها الذاتية، وانطلق هذا البلد -بتعبير بول كيندي- في تقدمه بسرعة صاعقة، مستغلا قلة القيود الاجتماعية والجغرافية، وانعدام الأخطار الخارجية الجسيمة، إضافة إلى تدفق رأس المال الاستثماري وخاصة الداخلي. وقد أدى الازدهار الاقتصادي إلى ازدهار التجارة الخارجية، وهو الأمر الذي دفع إلى الاهتمام بالعلاقات الدولية، وبروز الحاجة إلى تشكل سياسة خارجية أمريكية. فلقد ضغطت الجماعات ذات المصالح لفتح أسواق خارجية فيما وراء البحار. وهكذا فإن تنامي القوة الصناعية الأمريكية والتجارة الخارجية قد خلق الاهتمام بالسياسة الخارجية، وبدء تحديد الدور الأمريكي في إطار العلاقات الدولية.
2- أمريكا: التوسع من الداخل إلى الخارج:
لقد اعتمدت أمريكا في بناء قوتها الذاتية على التوسع من الداخل إلى الخارج، أي داخل أراضيها أولاً، فبعد انفصال أمريكا عن بريطانيا عام 1783 شرعت في قتل أبناء الأرض الأصليين من الهنود الحمر، فعمل المستوطنون الأمريكيون خلال الفترة 1801 - 1845 على السيطرة على جنوب المحيط الأطلسي (فلوريدا) والوسط وشمال الوسط. ثم أحكمت السيطرة على معظم المناطق في الفترة 1846 - 1890 من الوسط والجنوب والشمال، وصولاً إلى أقصى الغرب الأمريكي حتى ساحل المحيط الهادي. وهكذا اكتملت السيادة التامة على كل أراضي العالم الجديد من عام 1853م، والسيطرة الميدانية لا تعني فقط الوجود الفيزيقي البشري، وإنما ثروات وخيرات هذا العالم البكر.
3- التوسع الخارجي وتشكل السياسة الخارجية الأمريكية:
توسعت أمريكا من الداخل إلى الخارج، بعكس التوسع الأوروبي حيث التوسع إلى المستعمرات أولاً ثم نزح الثروات والعودة إلى الداخل لبناء القوة الذاتية. وقد انعكس هذا الاختلاف موضوعيًا على جوهر الرؤية الحاكمة الأمريكية للعلاقات الدولية من جانب، والدور العملي الذي سيتحدد وفقًا لهذه الرؤية من جانب آخر. فالخبرة الأوروبية للتوسع كانت في إطار التوازن الدولي للقوى الأوروبية بحسب معاهدة وستفاليا 1648، بينما الخبرة الأمريكية للتوسع لم تكن في إطار توازن القوى الدولية، وإنما انطلق على قاعدة أن أمريكا؛ القوة البازغة؛ مساوية للنظام الدولي.
بعد أن استكملت الدولة الجديدة السيطرة على كامل "أراضيها"، بدأت في التوسع نحو مجالها الإستراتيجي (أي نحو المحيطين: الهادي والأطلسي)، فنجد أمريكا في اتجاه المحيط الهادي، تسيطر على هاواي وبيرل هاربور في عامي 1842 و1887، ثم جزر الميدواي عام 1867، ثم جزر ساموا عام 1878، ونشبت معركة في الفلبين وقت الحرب الأمريكية الأسبانية، وانتهت بسيطرة أمريكا على تلك الجزر الشاسعة عام 1898.
أما في اتجاه الأطلسي فنجد أمريكا تسيطر على جزر بورتريكو عام 1898 ثم تتحكم في قناة بنما في عام 1903، ثم غزو فنزويلا ونيكاراجوا وهايتي وكوبا والمكسيك.
وهكذا توسعت أمريكا من الداخل إلى الخارج، بعكس التوسع الأوروبي حيث التوسع إلى المستعمرات أولاً، ثم نزح الثروات والعودة إلى الداخل لبناء القوة الذاتية. وقد انعكس هذا الاختلاف موضوعيًا على جوهر الرؤية الحاكمة الأمريكية للعلاقات الدولية من جانب، والدور العملي الذي سيتحدد وفقًا لهذه الرؤية من جانب آخر. فالخبرة الأوروبية للتوسع كانت في إطار التوازن الدولي للقوى الأوروبية بحسب معاهدة وستفاليا 1648، بينما الخبرة الأمريكية للتوسع لم تكن في إطار توازن القوى الدولية، وإنما انطلقت على قاعدة أن أمريكا (القوة البازغة) مساوية للنظام الدولي.
4- جوهر السياسة الخارجية الأمريكية: المصلحة القومية العليا (الثروة - القيم/ الدين - القوة):
إن الإمبراطوريات- بحسب كسينجر- لا تهتم بأن تدير شئونها في إطار نظام دولي، فهي تطمح إلى أن تكون هي ذاتها النظام الدولي. هكذا مارست الولايات المتحدة الأمريكية دورها في العلاقات الدولية منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه توسعها الدولي.(19/448)
يمكن القول: إن جوهر النظرة الأمريكية للسياسة الخارجية وللعلاقات الدولية يقوم على المصلحة الأمريكية القومية العليا بالأساس، والتي تتكون من ثلاثية: الثروة - القيم/الدين - القوة.
إن تحالف الساسة ورجال المال ورجال الدين في أمريكا قد رسم الخلفية الفكرية الحاسمة للمصلحة القومية العليا للولايات المتحدة، التي ألقت بظلالها على سياستها الخارجية ودورها في العلاقات الدولية. ويعبر أحد قادة البحرية الأمريكية عما سبق بقوله: "على الولايات المتحدة أن تنشر نفوذها التجاري في أنحاء الأرض كلها.. والتصدي للأهداف الإمبريالية الأوروبية.. إن مبدأ مونرو يوجب على الولايات المتحدة رفض أي نفوذ آخر.. الأمر محكوم بالمصلحة القومية وحدها، ولا يبدو أن له حدودًا. فعلى الولايات المتحدة الارتقاء إلى مصاف القوى العظمى.. وتكمن المصلحة القومية، من حيث جوهرها المعلن في طلبها بهيمنة أمريكية ممتدة إلى ما بعد البحار..".
إن قراءة كثير من النصوص الواردة على لسان رجال الدين والسياسة والمال تعكس الرغبة للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والدينية على العالم. فالمشروع الأمريكي منذ وقت مبكر "بات هو جذْب كل أنام الكوكب إلى مجتمع مثالي، تشكل على الأرض الأمريكية، وتحقيقه أولاً بالتسامح، ثم بالقوة عند الاقتضاء، وأخيرًا -وهو الأفضل- بالتجارة، إن مهمة أمريكا هي أن تدل بقية العالم على طريق التوبة والتطهير الكبير والإصلاح الاجتماعي، وتراكم الثروة بشتى الطرق".
يعكس ما سبق نظرة للذات "رسالية" و"استعلائية" تجاه العالم الذي لم يزل يعيش في الظلمة بتبني قيمها وبالتجارة طواعية أو بالقوة إذا لزم الأمر. إن الرسالة الأمريكية هي مصلحتها القومية، وتحقيق المصلحة القومية إنما يحقق الرسالة الأمريكية: بالقيم/ الدين، والقوة، والتجارة، إنها استعادة للثلاثية الأوروبية". العسكري والتاجر والمبشر.
بيد أن الثلاثية الأوروبية كانت تعبر عن قوى أوروبية متعددة، أما في الحالة الأمريكية فإنها تعبر عن حاله قوة مطلعة ذات طابع إمبراطوري خارج لعبة التوازن الدولي، وهو فيما يبدو ما حكم الرؤية الأمريكية للعالم على مدى قرنين تقريبًا. إن الإمبراطوريات -بحسب كسينجر- لا تهتم بأن تدير شئونها في إطار نظام دولي؛ فهي تطمح إلى أن تكون هي ذاتها النظام الدولي. هكذا مارست الولايات المتحدة الأمريكية دورها في العلاقات الدولية منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه توسعها الدولي.
5- السياسة الخارجية الأمريكية بين منهجي روزفلت وويلسون:
الإدارة الأمريكية الحالية- ومنذ أن تسلمت مسئولياتها- قد حملت كلا الاتجاهين، وأصبحت تعبيرًا حيًا لليمين ببعديه السياسي والديني. فهي تتمثل المفاخرة الويلسونية باستثنائية أمريكا، وكذلك القوة الروزفلتية لتعميم هذه الاستثنائية. ومن جانب آخر، تعبر هذه الإدارة عن اليمين السياسي بسياساته الاقتصادية والضرائبية والاجتماعية المتشددة، كذلك اليمين الديني برؤاه "المانوية" للعالم القائمة على ثنائية الخير والشر، كذلك الالتزام بتحقيق الإرادة الإلهية في تنقية أمريكا والعالم من الشر
إن المتتبع لمسيرة السياسة الخارجية الأمريكية وإستراتيجياتها المتعاقبة للعالم منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى إدارة بوش الابن سوف يجد أنها تتحدد استجابة لأمرين:
- القوة المتنامية باطراد.
- المصالح التوسعية الإمبراطورية.
وقد تراوحت السياسة الخارجية الأمريكية بين مبدأين:
1- مبدأ "القوة" الروزفلتي.
2- مبدأ "تمثل القيم الأمريكية" الويلسوني.
بالنسبة للمبدأ الأول؛ حيث أرساه تيودور روزفلت بما أسماه سياسة العصا الغليظة، وهي السياسة التي بررت حق الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة دور الشرطي، وبخاصة في أمريكا اللاتينية. إن هذه السياسة كانت تعكس مقدار القوة التي بلغتها أمريكا، فنراه يعتبر أمريكا، ليس فقط، صاحبة رسالة كونية، ولكنها أيضا قوة عظمى، وربما أعظم قوة. وإن هذه الرسالة هي القادرة على حراسة وضبط العلاقات الدولية بحكم القوة التي بلغتها. ويذكر كيسنجر عن روزفلت أنه "رفض التأثير المفترض للقانون الدولي؛ فالذي لا تستطيع الدول حمايته بقواها الذاتية لن يحميه الآخرون، فالحق الذي لا تدعمه قوة شرٌّ بل هو أكثر إيذاء من القوة المنفصلة عن الحق".
لقد طور روزفلت مبدأ مونرو الذي كان يقضي بمنع التدخل من الخارج إلى حماية مصالح الولايات المتحدة الآخذة في الامتداد إلى مناطق خارج حدودها.
بالنسبة للمبدأ الثاني؛ جاء وودرو ويلسون، الذي يتفق أنه وضع مبدأ ضرورة أن تتمثل الأمم الأخرى القيم الأمريكية من خلال منظومة كونية؛ فالمبرر الذي بموجبه وافق ويلسون على المشاركة في الحرب العالمية الأولى كان إعادة تشكيل العالم على صورة أمريكا.(19/449)
قد يبدو أن هناك تناقضًا بين المبدأين، إلا أنه تناقض سطحي، حيث لا يوجد خلاف على الهدف الإستراتيجي البعيد؛ ألا وهو السيادة الأمريكية الكونية. فما رآه البعض أحيانا حول سياسة ويلسون بأنها تهدف إلى النزعة الأخلاقية صحيح شكلا، إلا أنه لا يختلف كثيرًا عن النهج الروزفلتي؛ فلقد وافق على الدخول في الحرب العالمية الأولى، ليثبت "عظمة" أمريكا وتميزها، وأنه ليس من حق أمريكا أن تدخر قيمها لنفسها فقط، كما رأى أن أمن أمريكا لا ينفصل عن أمن باقي الجنس البشري كله، إنها المسئولية عن الآخرين التي اتخذت طابعًا أخلاقيًا، حيث أمريكا لديه (أي ويلسون) أمة صاحبة رسالة، وإن كان هذا لا يمنع من ممارسة القوة.
إن الجانب الأخلاقي في الثلاثية الأمريكية يتسم بالطابع الديني؛ وهو ما جعل للنموذج الأمريكي "رحمة الرسالية"، وذلك يعود لتأسيس القارة الجديدة (أمريكا)، أو "إنجلترا الجديدة" new England على يد البيوريتانيين وهم فئة متشددة بروتستانتية، ولقد كانت لهم رؤية خاصة للعالم وللحياة وللإنسان وخلافة. ولا يمكن إغفال أن أمريكا قد تأسس فيها المجتمع والدين في آن واحد، وهو ما سيدفع إلى أن تتحرك مجموعات بشرية لتنظيم نفسها كحركة سياسية اجتماعية ذات مرجعية دينية، وأن تؤسس كيانات وتحالفات عدة في إطار المجتمع المدني لديها رؤية سياسية، وهو ما اصطلح على تسميتهم باليمين الديني، الذي سيعمل كجماعة ضغط، حتى وصول الرئيس بوش الابن إلى الحكم.
الإدارة الأمريكية الحالية
1- اليمين الحاكم: السياسي والديني:
تراوحت السياسة الأمريكية على مدى القرن العشرين بين هذين الاتجاهين غير المتناقضين، على أنه يمكن القول إن الإدارة الأمريكية الحالية -ومنذ أن تسلمت مسئولياتها- قد حملت كلا الاتجاهين معًا، كذلك أصبحت تعبيرًا حيًا لليمين ببعديه السياسي والديني. فالإدارة الحالية تتمثل المفاخرة الويلسونية باستثنائية أمريكا، وكذلك القوة الروزفلتية لتعميم هذه الاستثنائية. ومن جانب آخر تعبر هذه الإدارة عن اليمين السياسي بسياساته الاقتصادية والضرائبية والاجتماعية المتشددة، كذلك اليمين الديني برؤاه "المانوية" للعالم القائمة على ثنائية الخير والشر، كذلك الالتزام بتحقيق الإرادة الإلهية في تنقية أمريكا والعالم من الشر. ونظرا لأن بوش الابن من أتباع هذا الاتجاه؛ فإن توليه الرئاسة يعني وصول اليمين الديني للمشاركة في الحكم للمرة الأولى. وهكذا باتت الإدارة الأمريكية الحالية تعبيرا عن اليميني السياسي الديني. وتعد الإدارة الأمريكية الحالية هي الإدارة المعنية بمواصلة التوسع الإمبراطوري الذي توقف في فترتي كلينتون، وذلك باحتكار الثروات، وبالحملات العسكرية الرادعة، وبالتبشير الديني القيمي الأمريكي، كما يوضحه الشكل التالي:
وتجدر الإشارة إلى أن رؤية هذه الإدارة لم تكن وليدة الفوز بمقعد الرئاسة، أو حادث الحادي عشر من سبتمبر، وإنما هي تسبق ذلك. وللتدليل على ذلك لا بد من قراءة وثائق الحملة الانتخابية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية من جهة، كذلك الأوراق التي قدمت إلى هذه الإدارة بخاصة حول الشرق الأوسط والعراق في الشهر الأول من توليها مسئولياتها.
2- رؤية الإدارة الحالية للعالم منذ الحملة الانتخابية إلى ما بعد 11 سبتمبر (وثيقة كونداليزا رايس):
الأمر واضح ومباشر في رؤية الحزب الجمهوري، فالمصلحة القومية المباشرة هي الهدف، والقيم تابعة لتحقيق هذه المصلحة. وتحدد كوندوليزا رايس أمرين في غاية الأهمية لتحقيق المصلحة القومية الأمريكية هما:
- دعم السياسات الاقتصادية الدولية التي تفعل مميزات الاقتصاد الأمريكي، وتوسع أطر التجارة الحرة، باعتبارهما أداتين حاسمتين في صياغة السياسية الدولية.
- أن تكون قوة أمريكا العسكرية أكيدة ومصونة، لأن الولايات المتحدة هي الضامنة الوحيدة للسلام والاستقرار الشاملين.
من الأهمية بمكان ولفهم إدارة الرئيس بوش الحالية من حيث رؤيتها التي تحكم نظرتها إلى العالم، والسلوك الذي سوف يترتب على هذه الرؤية -وبخاصة موقفها من "الشرق الأوسط" والعراق- أن نعود إلى حملته الانتخابية، حيث كانت تتولى السيدة كونداليزا رايس مسئولية مستشارة مرشح الرئاسة للشئون الخارجية أثناء الحملة الانتخابية، وقامت بصياغة وثيقة تعكس رؤية مرشح الرئاسة حول رؤية الحزب الجمهوري المستقبلية للعالم في حالة انتخابه. وقد نشرت هذه الوثيقة في مجلة "فورين أفيرز" في عددها الأول من عام 2000 بعنوان: "حملة 2000: النهوض بالمصالح القومية". Campaign 2000: P r omoting The national Inte r ests.(19/450)
ففي هذه الوثيقة يتضح وعي الإدارة الساعية للحكم بأن الولايات المتحدة تعيش مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وأنه ينبغي لفت النظر إلى: "أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وجدت صعوبة بالغة في تحديد مصلحتها القومية في غياب القوة السوفيتية. والواقع أننا لا نعرف ما يجب أن يكون عليه رأينا فيما يلي المواجهة الأمريكية السوفيتية من خلال الإشارات المتوالية إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، إلا أن هذه المراحل الانتقالية مهمة؛ لأنها تقدم فرصا إستراتيجية، وخلال هذا الزمن المرن يمكن التأثير على شكل العالم المستقبلي. ضخامة هذه المرحلة واضحة. فالاتحاد السوفيتي كان أكثر من مجرد منافس تقليدي شامل، بل كان يتوق إلى خلق بديل اشتراكي عالمي للأسواق وللديمقراطية، لقد عزل الاتحاد السوفيتي نفسه، كما عزل عملاءه -غالبًا من غير علمهم- عن شروط الرأسمالية الدولية. وقد زرع في النهاية بذور دماره بنفسه، إذ تحول بسبب انعزاله ديناصورًا اقتصاديًا وتكنولوجياً..".
إن نقطة الانطلاق فيما سبق هو أن هذه الفترة هي فترة انتقالية، على الولايات المتحدة استثمارها لرسم معالم العالم مستقبليا على قاعدة الرأسمالية الدولية ذات البعدين: السوق والديمقراطية، وهي الصيغة التي تروج لها أمريكا تحت لافتة العولمة، على أن يتم ذلك في إطار إعادة تعريف المصلحة القومية الأمريكية بشكل محدد. وتشير السيدة رايس إلى أنه:
"يجب أن تبدأ عملية رسم سياسة خارجية جديدة من الاعتراف بأن الولايات المتحدة تتمتع "بموقع استثنائي".. بعض الدول تملك قدما داخل القطار وقدما خارجه.. بعض الدول ما زالت تأمل في إيجاد طريقة للفصل بين الديمقراطية والتطور الاقتصادي. بعضها يتمسك بأحقاد قديمة كأساليب للالتهاء عن واجب التحديث الذي ينتظرها. لكن الولايات المتحدة وحلفاءها موجودون على الجهة الصحيحة من التاريخ".
إنه الترويج لأمريكا جديدة متوافقة مع "التاريخ" متجاوزة كل من لم يزل متمسكا بالقديم. فالوثيقة تؤكد على طبيعة النظام الاقتصادي الذي يجب أن يتبع في ظل استثنائية الولايات المتحدة، وعلى ضرورة أن يلحق بها الآخرون، وأنه لا يمكن الفصل بين السوق والديمقراطية من جهة، والتحديث واتباع النموذج الأمريكي؛ أي اختيار موقع في التاريخ الذي بات أمريكيا من جهة أخرى.
ويمكن بسهولة ملاحظة: أن هذه الأفكار تنتمي لمدرسة فكرية في السياسة الأمريكية يمكن أن نطلق عليها "الاستشراقية الجديدة" من رموزها برنارد لويس وهنتينجتون، وما أفكارهم إلا تنويعات محدثة للفكر الأمريكي الكلاسيكي فيما يتعلق بالعالم، الذي مثله رؤساء من عينة مونرو وروزفلت وباكسون وويلسون، حيث: استثنائية أمريكا، وضرورة إعلاء المصلحة القومية الأمريكية، وضرورة نشر القيم الأمريكية وإن بالقوة.
وحول القوة تستطرد السيدة رايس وتقول: "إن السياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة جمهورية يجب أن تعيد التركيز على المصلحة القومية وعلى ملاحقة الأولويات الأساسية، وهذه المهمات هي:
1) ضمان أن "القوى" الأمريكية في ظل إدارة جمهورية يجب أن تمنع الحروب وتبرز السلطة وتقاتل في سبيل حماية مصالحها، إن لم تنجح في تعويق الحرب.
2) تعزيز النمو الاقتصادي والانفتاح السياسي عبر نشر التجارة الحرة ونظام مالي عالمي مستقر في أوساط جميع الملتزمين بهذه المبادئ، بما فيها العالم الغربي الذي تم تجاهله كمنطقة حيوية للمصالح الأمريكية القومية.
3) تجديد علاقات قوية ووثيقة مع الحلفاء الذين يشاطرون القيم الأمريكية، ويمكنهم بالتالي المشاركة في حمل عبء نشر السلام والازدهار والحرية.
4) تركيز الطاقات الأمريكية على عقد علاقات شاملة مع القوى الكبرى، وخصوصًا روسيا والصين، وهي علاقات تستطيع أن تصوغ -وسوف تصوغ- طابع النظام السياسي الدولي.
5) التعامل بشكل حاسم مع خطر الأنظمة المارقة (القوى العدائية)، التي تتخذ بازدياد أشكال الإرهاب وتطوير أسلحة الدمار الشامل.
يتضح من المهام السابقة تكرار المفاهيم التقليدية التي تحرص عليها الإدارة الأمريكية المتعاقبة مثل:
- ممارسة القوة لحماية المصالح.
- استقرار النظام المالي العالمي الذي يخدم أهدافها.
- التأكيد على أن هناك "قيما" أمريكية لا بد من نشرها بمعاونة الحلفاء الذين ينتمون لهذه القيم، التي تعني ضمنا أن هناك من ينتمي لقيم أخرى.
- الاهتمام بإعادة صياغة النظام السياسي الدولي إلى جانب أوروبا الحليف الرئيسي لأمريكا؛ كونه ينتمي لنفس المنظومة القيمية (الغربية) من جانب، ومكونا رئيسيا للنظام المالي العالمي من جانب آخر، وروسيا والصين.
- صك تعبير "الأنظمة المارقة" r ouge r egimes، التي لا بد من ترويضها وردعها.(19/451)
وتقدم السيدة رايس نموذج التعامل مع الاتحاد السوفيتي؛ باعتباره نموذجا مثاليًا للسياسة الخارجية الأمريكية، فتقول: "في السبعينيات كان الاتحاد السوفيتي في ذروة قوته، وهي قوة كان أكثر من مستعد لاستخدامها؛ نظرا إلى قاعدته الاقتصادية والتكنولوجية الضعيفة"، تبين أن أمجاد تلك المرحلة ما هي إلا انتصار مكلف جدا، وتحدي الرئيس ريجان للقوة السوفيتية كان حازما، وذا توقيت جيد في آن واحد. وقد شمل تعهدات أساسية وكثيفة مع موسكو حول السلسلة الكاملة للأمور التي استعرضت في جدول يضم أقساما أربعة: ضبط التسلح، حقوق الإنسان، المسائل الاقتصادية، والنزاعات الإقليمية. ثم ركزت إدارة بوش بمزيد من الانتباه على خفض النفوذ السوفيتي في أوروبا الوسطى والشرقية. ومع تزعزع قوة الاتحاد السوفيتي لم يعد هذا قادرًا على حماية مصالحه، واستسلم على نحو سلمي للغرب، وهو انتصار هائل للقوة الغربية، وأيضًا للحرية الإنسانية".
الأمر واضح ومباشر في رؤية الحزب الجمهوري؛ فالمصلحة القومية المباشرة هي الهدف، والقيم تابعة لتحقيق هذه المصلحة. وتحدد كوندوليزا رايس أمرين في غاية الأهمية لتحقيق المصلحة القومية الأمريكية هما:
- دعم السياسات الاقتصادية الدولية التي تفعل مميزات الاقتصاد الأمريكي، وتوسع أطر التجارة الحرة، باعتبارهما أداتين حاسمتين في صياغة السياسية الدولية.
- أن تكون قوة أمريكا العسكرية أكيدة ومصونة؛ لأن الولايات المتحدة هي الضامنة الوحيدة للسلام والاستقرار الشاملين.
وبالنسبة للقوة العسكرية الأمريكية تفصل رايس رؤيتها بالغة الأهمية كما يلي:
"إن الإدارة (إدارة كلينتون) راحت تنشر القوات الأمريكية في الخارج بإيقاع كثيف، بمعدل مرة كل تسعة أسابيع. والى جانب خفضنا نفقات الدفاع إلى حدها الأدنى كنسبة مئوية من ناتج النمو الإجمالي منذ بيرل هاربور، نشرت الإدارة القوات المسلحة بمعدل أعلى من أي وقت خلال الأعوام الخمسين الأخيرة.. وسوف يواجه الرئيس الجديد الآن مهمة طويلة من إصلاح الوضع.. بدلا من الاستمرار في البناء على هيكلية الحرب البادرة. ويجب أن تفعّل الميزات التكنولوجية الأمريكية بهدف بناء قوى أخف وأكثر إهلاكًا.. يجب أن تكون القوات المسلحة الأمريكية قادرة بشكل حاسم على مواجهة ظهور أية قوة عسكرية عدائية في منطقة آسيا، والمحيط الهادي والشرق الأوسط والخليج الفارسي، وأوروبا، وهي مناطق لا تضم مصالحنا فحسب، بل مصالح كل حلفائنا الأساسيين، وقوات أمريكيا المسلحة هي الوحيدة القادرة على تنفيذ مهمة المواجهة والتعويق هذه.. لكن ماذا لو تمت مهاجمة قيمنا في مناطق لا تثير اهتمامنا الإستراتيجي؟ هل يجب على الولايات المتحدة ألا تحاول إنقاذ الأرواح في غياب دافع إستراتيجي قوي؟ بل يجب أن يكون الرئيس الأمريكي الجديد في موقع يتيح له التدخل عندما يكون مقتنعًا بأن الولايات المتحدة مضطرة بدافع الواجب إلى التدخل.. يجب أن يتذكر الرئيس أن القوات العسكرية هي أداة خاصة، وهي مقاتلة والمطلوب منها أن تكون كذلك. إنها ليست قوة شرطة مدنية، وليست حكما سياسيا، ومن الأكيد أنها لم تؤسس لبناء مجتمع مدني.."
في هذا السياق تتحدث الوثيقة عن الأنظمة المارقة ومن بينها "العراق" حيث تقول تحت عنوان: "التغلب على الأنظمة المارقة":
"... في حين يتجه التاريخ نحو الأسواق والديمقراطية، تركت بعض الدول على جانب الطريق. والعراق النموذج الأمثل لتلك الدول. فنظام صدام حسين منعزل، وقوته العسكرية ضعفت إلى حد بعيد، ويعيش شعبه في حالة من الفقر والرعب، ولا يملك موقعًا مفيدًا في السياسة الدولية. لذا فهو مصمم على تطوير أسلحة الدمار الشامل. ولن يتغير أي شيء حتى يذهب صدام. لذا يجب على الولايات المتحدة أن تحشد كل الموارد التي يمكنها حشدها، بما فيها دعم معارضيه، في سبيل إطاحته".
هذه هي الرؤية التي طرحها الحزب الجمهوري حول العالم والعراق أثناء الحملة الانتخابية، وهي تمثل عودة إلى المنهج الروزفلتي في السياسة الخارجية بغطاء ويلسوني؛ حيث المصلحة القومية والقوة والنظام الرأسمالي يمثلون الأسس التي ينبغي أن تقوم عليها سياسة أمريكا الخارجية. ونظن أن الإدارة الحالية تستند على هذه الرؤية في سلوكها وممارساتها وخطابها منذ أن تولت الحكم، وما الحادي عشر من سبتمبر إلا حدث قد ساهم في تسريع التحركات الأمريكية في إعمال هذه الرؤية على أرض الواقع.
3- الإدارة الأمريكية الحالية و"الشرق الأوسط":
".. التطور الأفضل، للمصالح الأمريكية ولشعبي البلدين على حد سواء (العراق وإيران)، هو التغيير السياسي العميق، ويبدو أن التغيير في الأفق في ما يتعلق بإيران، نتيجة ديناميات السياسة الداخلية، أما العراق فمختلف، إذ لا يمكن أن يطرأ تغيير ما هناك إلا من خلال العنف."(19/452)
تاريخيًا لم تهتم الولايات المتحدة الأمريكية "بالشرق الأوسط" إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حين بدأت أمريكا تضطلع بممارسة مسئولياتها كدولة قطبية ذات مصالح كونية، وحين أخذت الحرب الباردة بين القطبين الغربي والشرقي تنتقل إلى منطقة "الشرق الأوسط". بيد أن أمريكا كانت لها علاقات تجارية بالمنطقة منذ منتصف القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى البعثات التبشيرية الأمريكية التي بدأت مع مطلع القرن التاسع عشر، التي ركزت جهودها على المسيحيين الشرقيين. ويمكن القول إن الاهتمام الأمريكي بدأ مع استنزاف قدر كبير من احتياطيات النفط الأمريكي إبان الحرب العالمية الأولى؛ مما استدعى الاهتمام بمنطقة "الشرق الأوسط"، من خلال الدعوة إلى تطبيق سياسة "الباب المفتوح" التي تم بها تحقيق نوع من تكافؤ الفرص الاستثمارية أمام الدول الرأسمالية -بما فيها أمريكا- عن طريق تقسيم الأسواق لضمان تصريف المنتجات والحصول على المواد الخام؛ لإتاحة القدر نفسه من المشاركة أمام المشروعات الأمريكية في عمليات التنقيب عن البترول وإنتاجه وتسويقه.
وفي مواجهة التهديدات السوفيتية لدول "الشرق الأوسط" أصدرت الإدارة الأمريكية عام 1947 ما عرف "بمبدأ ترومان" الذي يعتمد على تقديم مساعدات اقتصادية ومعونة عسكرية أمريكية لدول المنطقة التي تتعرض لتهديد، ذلك فضلاً عن تطويق منابع النفط في "الشرق الأوسط" بالقوة العسكرية، دخل الأسطول السادس الأمريكي عام 1948 لتحقيق وجود بحري أمريكي دائم في حوض البحر المتوسط.
وبتأسيس الكيان الإسرائيلي أصبح لأمريكا حضور حيوي وفاعل في المنطقة يحقق لها أهدافها ومصالحها؛ باعتبارها "عنصر ردع إقليميا". ويمكن إيجاز مصالح أمريكا في هذه المنطقة في الآتي:
- تأمين الحصول على النفط وضمان تدفق الأرصدة النقدية العربية.
- تطويق الأنظمة والحركات الراديكالية.
- المحافظة على أمن إسرائيل ودوام تفوقها.
الإدارة الأمريكية الحالية وعسكرة العالم
1- عناصر الرؤية الحاكمة لعمل الإدارة الأمريكية الحالية:
يمكن القول إن موقف الإدارة الحالية من "الشرق الأوسط" والعراق لا يختلف كثيرًا عن الموقف التاريخي للحزب الجمهوري من الشرق الأوسط، كذلك عن الرؤية التي وعد بها أثناء الحملة الانتخابية، التي عرضناها سابقا. ولم يغير الحادي عشر من سبتمبر من هذه الرؤية، وإنما سرع من إيقاع تحقيقها على أرض الواقع، وجعله أكثر ضراوة.
وللحديث عن رؤية الإدارة الأمريكية "للشرق الأوسط" والعراق لا بد من استعراض ملامح الرؤية الفكرية الحاكمة الأمريكية فيما يتعلق بالعالم، وذلك كما يلي:
1- السيادة الأمريكية على العالم في كل المجالات.
2- تحقيق المصلحة القومية الأمريكية بكل الوسائل.
3- النموذج الأمريكي هو النموذج الذي يجب أن يحتذى.
4- هناك نظرة أحادية للعالم وللتاريخ يجب أن تستوعب قوميا ودينيًا.
5- تطبيق مبدأ الخيار صفر في العلاقات الدولية، حيث لا شيء قابل للمساومة.
6- تقسيم العالم إلى مجالات حيوية.
وسوف تنفذ هذه الرؤية من خلال المحاور الثلاثة التالية:
1- المحور الثقافي- الحضاري- الديني.
2- المحور الجغرافي - السياسي بالسيطرة على الثروات والموارد.
3- استخدام القوة بأنواعها: النووية والكيماوية والبيولوجية.
ونوجز ما سبق في الشكل التالي:
2- العسكرة.. العسكرة:
إن الفكرة واقع عملي منذ اليوم الأول لعمل هذه الإدارة؛ حيث بدأ الحديث عن تنفيذ نظام الدرع الصاروخي الذي يضمن سيطرة كونية: فضائية - أرضية، وتدمير أسلحة الدمار الشامل لدى الآخرين، واعتماد مبدأ الحرب الاستباقية (أي العمل على إجهاض أي فعل موجه ضد أمريكا قبل وقوعه)، والأخذ بممارسة القوة بشكل مطلق، وكان من نتاج ذلك تنامي سطوة وزارة الدفاع الأمريكية في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية، وإعادة تقسيم العالم على أساس عسكري: 6 مناطق عسكرية يتولى مسئولية كل منطقة جنرال عسكري له أن يتصل بالرئيس مباشرة.
وفي أعقاب حادث الحادي عشر من سبتمبر فوضت الإدارة الحالية بالإجماع من قبل الكونجرس بمجلسيه لمواجهة ما يهدد الأمة الأمريكية، وهنا أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن رؤيتها التي تتجاوز الدفاع عن الأمة إلى العسكرة الكاملة للإمبراطورية، وذلك في ورقة بعنوان: "تشكيل الجيش"T r ansfo r ming the Milita r y حيث أشار رامسفيلد الذي قام بإعلانها إلى ضرورة الأخذ بإستراتيجية جديدة تتناسب والمستجدات، وتتجاوز ما كان مطروحًا عقب الحرب الباردة، وكان يسمى "مسرح حربين كبيرتين" Two Majo r - Theate r Wa صلى الله عليه وسلم (19/453)
لقد كانت هذه الإستراتيجية تمكن أمريكا وقواتها العسكرية من خوض حربين في موقعين مختلفين. إلا أن رامسفيلد يؤكد على تجاوز المؤسسة العسكرية عن الإستراتيجية السابقة التي لا تعنى بمواجهة التحدي الذي جد في القرن الحادي والعشرين للدفاع عن الوطن ضد المجهول: غير المرئي، وغير المتوقع. وعليه تم تحويل الإستراتيجية العسكرية القائمة على "مواجهة الخطر" إلى إستراتيجية تعتمد "شحذ القدرات" بمختلف الطرق وفي كل الاتجاهات دون انتظار الخطر؛ وذلك بتوفير الردع في 4 مسارح عمليات في الوقت نفسه، ومساندة ذلك الردع بالقدرة اللازمة لإلحاق الهزيمة الحاسمة والسريعة بعدوين في وقت واحد.
وإلى جانب ذلك تم إقرار إمكانية تنفيذ هجوم شامل كاسح واحد في أي وقت ضد عدو محدد، بما يشتمل عليه هذا الخيار من احتلال عاصمة ذلك العدو وتغيير نظام الحكم فيه.
وفي هذه الرؤية حول مستقبل أمريكا العسكري حدد رامسفيلد إستراتيجية أسماها الخطوات الست، تتضمن ما يلي:
1- حماية الوطن الأمريكي وقواعده عبر البحار.
2- ضمان تأمين القوة الأمريكية في مواقع العمليات البعيدة.
3- حرمان أعداء أمريكا من الملجأ، والتأكد من أنهم يدركون أنه لا يوجد مكان آمن في العالم يحميهم من أن نصل إليهم.
4- حماية شبكة معلوماتنا من أي هجوم.
5- استخدام تكنولوجيا المعلومات لربط القوى الأمريكية المختلفة ببعضها البعض في العمليات الحربية.
6- تحقيق سيطرة غير مقيدة على الفضاء وحماية القدرات الفضائية الأمريكية من أي هجوم عدائي.
3- العراق في ظل العسكرة:
في السياق السابق يأتي التعامل مع العراق؛ حيث جاء في التقرير الرئاسي الذي قدم إلى الرئيس بوش في يناير 2001 الذي سمي: "الإبحار في مياه مضطربة"، حيث تضمن ما يلي:
- دعم مطلق لإسرائيل باعتبارها الركيزة الأولى لضمان الأمن الإقليمي، وكفالة تفوقها النوعي.
- تشجيع التغيير في كل من العراق وإيران مع اختلاف الوسيلة؛ حيث التغيير في إيران يمكن أن يكون بوسائل سياسية، وأما التغيير في العراق فلا يمكن أن يتم بوسائل سياسية.
وحول العراق تحديدا تشير الوثيقة إلى ما يلي:
".. التطور الأفضل للمصالح الأمريكية ولشعبي البلدين على حد سواء (العراق وإيران) هو التغيير السياسي العميق.. ويبدو أن التغيير المتاح في الأفق فيما يتعلق بإيران نتيجة ديناميات السياسة الداخلية، أما العراق فمختلف؛ إذ لا يمكن أن يطرأ تغيير ما هناك إلا من خلال العنف على غرار انقلاب أو ثورة داخلية، وبغية إضعاف النظام وجعله أكثر هشاشة، يجب وضع إستراتيجية شاملة قائمة على خطوات فاعلة للضغط على نظام صدام حسين على كل الجبهات".
".. يجب على الرئيس الجديد إعادة نظر واسعة النطاق في السياسة الأمريكية إزاء العراق؛ بغية توضيح طبيعة التهديد والردود الأمريكية المحتملة. ويجب أن تستكشف هذه المراجعة العناصر اللازمة لكسب دعم دولي على نطاق واسع في اتجاه كبح صدام، واعتماد سياسات أكثر فاعلية ضد نظامه".
"وبشكل عام يجب أن ترد الولايات المتحدة بقوة عسكرية واسعة النطاق إذا ما مارس العراق عمليات عدائية، أو استخدم أسلحة الدمار الشمال ضد بلد آخر، وإذا تابع صدام الإلغاء الوحشي للسلطة الكردية المستقلة في شمال العراق.. فمن الأرجح أن يكون ثمة دعم عالمي أقل للتدخل العسكري، لكن الولايات المتحدة مع ذلك يجب أن تكون مستعدة لاستخدام قوتها، ويجب أن تعمل الولايات المتحدة على كسب اهتمام الأصداء والحلفاء بطبيعة التهديد العراقي. من الضروري دعم استئناف عمليات التفتيش عن الأسلحة، لكن من دون جعل هذه المسألة حجر الأساس في السياسية الأمريكية بإزاء العراق".
وبالأخير أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 20 سبتمبر الماضي إستراتيجيتها للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث جاء فيها نص:
"... الدفاع عن الولايات المتحدة والشعب الأمريكي ومصالحنا في الداخل والخارج من خلال تحديد التهديدات، والقضاء عليها قبل وصولها إلى حدودنا. وبينما ما زالت الولايات المتحدة مستمرة في جهودها لضمان الحصول على دعم المجتمع الدولي؛ فإننا لن نتردد في اتخاذ خطوات من جانب واحد، وتسديد الضربة الأولى.. إن أفضل دفاع هو الهجوم...".
الداخل الأمريكي الآن(19/454)
إن المشهد الحالي في الداخل الأمريكي هو أقرب للمشهد الذي عرفته الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية؛ حيث الخوف من الشيوعية وانتشارها في الواقع الأمريكي؛ الأمر الذي يهدد المشروع الأمريكي، ومن ثم انطلاق الحملة الترويعية، ضد كل من يُشتبه في أنه ينتمي أو يروج لأفكار تقترب من الشيوعية، وهي الحملة التي أطلقها السناتور جوزف مكارثي، الذي يعتبره المؤرخون بداية لتبلور تيار اليمين المحافظ الجديد، التي واصلها السناتور باري جولدووتر الذي قام في عام 1964 بتأسيس كتلة قاعدية في داخل الحزب الجمهوري لدعم سياسيات محافظة جمهورية، ويؤرخ لها الباحثون الأمريكيون بأنها بداية التحول لليمين في أمريكا، ثم مع منتصف السبعينيات بتأسيس مؤسسات بحثية والعديد من الهيئات التي تصب في اتجاه الدعوة للتيار اليميني المحافظ، وأصبحت قادرة على تشكيل الرأي العام، وتعبئة الناس خاصة الطبقات الوسطى الدنيا ذات التوجه المسيحي اليميني، ومن هذه الهيئات:
He r itage Foundation
National conse r vative Political Action
Conse r vative against libe r al legislation (call)
فلقد استطاع الحزب الجمهوري أن يكون ممثلاً لهذين الاتجاهين (اليمين السياسي واليمين الديني).
وقد وصل إلى الحكم ليصل ما انقطع منذ إدارة ريجان، وخلال شهور حدثت واقعة 11 سبتمبر، حيث دعمت اليمين الأمريكي الحاكم، حيث وفرت العدو الذي يضمن لليمين المتشدد أن يحقق كل ما يصبو إليه، ويؤمن وحدة المجتمع الأمريكي، والحصول على تفويض مطلق من الكونجرس لمواجهة التهديدات والأخطار، وإطلاق يد العسكرية الأمريكية، وتفعيل المؤسسة الصناعية العسكرية، ووضع كل التسهيلات -خاصة المالية- لتأمين الدفاع عن الأمة الأمريكية بميزانيات مفتوحة، وبغير عرقلة من أي نوع -خاصة البرلمانية- وحصار الحريات المدنية باسم مواجهة الإرهاب.
لقد أدت التفاعلات إلى ضمان أغلبية جمهورية في الكونجرس بمجلسيه (النواب والشيوخ) للمرة الأولى في تاريخ أمريكا (بالنسبة للحزب الجمهوري)، كذلك التأييد المطلق للحرب من قبل رجال المال والأعمال؛ حيث أجمعت نخبة معتبرة منهم في نوفمبر الماضي -وذلك من خلال دراسة المسارات المحتملة لأسعار النفط وغير ذلك من الأمور- على أن الاقتصاد الأمريكي سينمو في حال أن تحقق الحرب نصرا سريعًا بصورة أقوى مما سيكون عليه لو لم تشن الحرب أساسًا؛ فالحرب القصيرة أفضل من اللاحرب أو عدم تغيير النظام؛ ذلك لأنها ستؤدي إلى إزالة حالة اللايقين السائدة.
إن الجمهوريين -من خلال خبرة تاريخية طويلة- يعرفون أن عسكرة السياسة الخارجية إنما تعني تحقيق أهداف داخلية، وهو ما يضع الديمقراطيين في مأزق بين تأييد الحرب ومعارضتها. والمفارقة أنه بمجرد اقتراب الحرب من موعدها فإن الانقسامات الداخلية تتضاءل، ويلتف المواطنون حول الإدارة الحالية بالرغم من أي شيء. ويشار هنا إلى أن الديمقراطيين قد ظهروا في حالة مضطربة أثناء اللقاء الشتوي الذي عقدته اللجنة الوطنية للحزب نهاية فبراير الماضي، بسبب ضغط الهجوم الجمهوري.
وبالرغم من وجود معارضة فإنها غير منظمة، وليس لديهم رؤية واضحة لإدارة حوار حولها. على العكس فإن الجمهوريين يعرفون بدقة -من خلال التحالف بين الرأسمالية، وخاصة النفطية منها من جهة، واليمين الديني من جهة أخرى- إدارة الأزمة؛ الأمر الذي مكنهم من زيادة ميزانية الدفاع.
إن الإدارة الحالية تعتمد على عنصر التعبئة الجماهيرية وإثارة المشاعر القومية حول أمن أمريكا وحماية الأمة والوطن من قوى الشر، وهي هنا تحاول إيجاد علاقة وثيقة بين مقاومة ما يتهددها بالحرب وتنشيط الاقتصاد الأمريكي الذي سوف ينعكس إيجابًا على المواطنين. وعليه فإن الانتصار العسكري سيؤمن استمرار الإدارة الحالية التي تشعر بأن التوسع الخارجي يعني استمرارية التفوق الداخلي.
خلاصة
وبعد إن ما حاولت أن أطرحه في عجالة هو:
- أن التوسع الأمريكي الإمبراطوري ليس وليد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وإنما هو مرافق لمسيرة أمريكا تاريخيًا من جانب.
- أن القوة أو العسكرة مكون أساسي من مكونات النموذج الأمريكي ثلاثي العناصر، وهو حاضر أيضا عبر التاريخ، بيد أن الإدارة الأمريكية الحالية بسبب طبقتها اليمينية المتشددة: سياسيًا ودينيًا قد جسدت ما سبق بشكل واضح وبارز، ووضعته موضع التحقق، خاصة في مرحلة تاريخية أصبحت فيها أمريكا قوة عظمى، ونموذجا منتصرا، أو بعبارة أخرى: إمبراطورية متمددة.
=============(19/455)
(19/456)
الإعلان الإمبراطوري الأمريكي**
05/10/2002
ترجمة وإعداد: شيرين حامد فهمي
إسلام أون لاين.نت
"إن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي ستعتمد أساسًا على تعاون أمريكي ملموس مع دول العالم؛ ذلك التعاون الذي سيعكس مزجًا بين القيم الأمريكية من جهة، وبين المصالح القومية الأمريكية من جهة أخرى. وهدف هذه الإستراتيجية هو السعي ليس فقط لجعل هذا العالم أكثر أمنا، ولكن لخلق عالم أفضل من جميع النواحي.."
وردت هذه الفقرة فى مقدمة وثيقة خاصة صادرة في سبتمبر 2002 عن الرئاسة الأمريكية بشأن استراتيجية الولايات المتحدة الأمنية فى المرحلة المقبلة.
وقد حددت الوثيقة محاور هذه الاستراتيجية على النحو التالى:
*
تعزيز الكرامة الإنسانية
*
التحالفات الإستراتيجية للقضاء على الإرهاب
*
نزع فتيل الصراعات الإقليمية
*
منع أعدائنا من تهديدينا
*
تدشين عهد اقتصادي جديد
*
توسيع دائرة التنمية
*
التعاون مع المؤسسات المركزية
*
تطوير مؤسسات الأمن القومي الأمريكي
تعزيز الكرامة الإنسانية
الولايات المتحدة الأمريكية تأخذ على عاتقها الدفاع عن "الحرية" و"العدل"؛ فهذان المبدآن يسعى وراءهما جميع أجناس الأرض. فلا يوجد مجتمع إلا ونجده يأمل ويرغب في "تحرير" أبنائه من الفقر والظلم والعنف. ومن ثم يتحتم على الإدارة الأمريكية أن تقف بكل بصرامة ضد كل ما يهدد وجود الكرامة الإنسانية التي لا يختلف عليها اثنان.
والدستور الأمريكي يتضمن كل ما تتطلبه الكرامة الإنسانية من حرية العبادة، وحرية الكلمة، والعدالة، والتسامح الديني والإثني، واحترام الملكية الخاصة، واحترام المرأة، وتحديد سلطة الدولة، وسيادة القانون.
وخير دليل على ذلك ما نلمسه في التجربة الأمريكية، التي تمثل صرحًا عظيمًا للديمقراطية، حيث تتعايش وتتآلف جميع الأجناس من شتى بقاع الأرض؛ بغض النظر عن دياناتهم وعرقياتهم.
واقتناعًا بمبادئ "الحرية" و"العدل"، قامت الإدارة الأمريكية بتشجيع وتأييد حركات "التغيير" التي تسعى حثيثًا وراء تلك المبادئ، مثلما حدث في أوربا الشرقية بين عامي 1989 و1991، أو مثلما حدث في بلجراد في عام 2000.
ولذا فإن إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لا بد أن تنبع من المعتقدات الأمريكية الراسخة في "العدل" و"الحرية". فتلك المعتقدات هي التي ستقود ممارسات الإدارة الأمريكية تجاه العالم بأسره.
وبناء على هذا، ستتخذ الإدارة الأمريكية الخطوات التالية:
- إدانة كل اختراق أو انتهاك يهدد وجود الكرامة الإنسانية؛ وذلك من خلال المؤسسات والمنظمات الدولية.
- استخدام المعونات الخارجية الأمريكية من أجل تدعيم "الحرية".
- تطوير المؤسسات الديمقراطية في إطار العلاقات الثنائية.
- بذل جهود خاصة من أجل تدعيم حرية العبادة، وحمايتها من ضغوط الحكومات القمعية..
التحالفات الإستراتيجية للقضاء على الإرهاب
في خطبة للرئيس جورج دبليو بوش يوم 14 سبتمبر 2002، صرح بأن: "مسئوليتنا تجاه التاريخ تتمثل في الرد على الهجمات الإرهابية، وتخليص العالم منها. فقد ابتدأ الآخر بالصراع؛ ونحن الذين سننهيه؛ وفي الوقت الذي يروق لنا". إن حرب الإرهاب الحالية مختلفة كل الاختلاف عن أي حرب أخرى مرت علينا عبر التاريخ. فالعدو في هذه المرة لا يتمثل في دولة بعينها أو في نظام بعينه؛ وإنما هو غير مرئي؛ ويمتد خطره إلى أمد طويل غير محدد.
وتصير الأولوية الأولى والأسمى للإدارة الأمريكية هي القضاء على المنظمات الإرهابية المعروفة عالميًا، ثم تحطيم قياداتها.. وبعد ذلك خنقها تمويليًا. وبالطبع لن تنسى الإدارة الأمريكية دور أصدقائها الأعزاء -أو شركائها الإقليميين- في المساهمة في تلك المهمة.
ومن خلال ذلك ستتبع الإدارة الأمريكية خطة مدروسة للقضاء على الإرهاب؛ وستتمثل هذه الخطة في التالي:
- التركيز على تلك المنظمات الإرهابية المنتشرة عالمياً؛ وعلى أي إرهابي أو أي دولة داعمة للإرهاب، وداعمة لاستخدام أسلحة الدمار الشامل.
- التخلص من التهديد وإزاحته من قبل أن يصل إلى الأراضي الأمريكية.
- شن "حرب الأفكار" من خلال تشبيه الإرهاب بالرق والاستعباد والقرصنة والقتل الجماعي؛ ومن خلال تأييد الحكومات "المعتدلة" خاصة في العالم الإسلامي؛ وأخيراً من خلال استخدام دبلوماسية فعالة تعمل على تسهيل التدفق الحر للمعلومات والأفكار التي تنادي بالحرية.
وترى الإدارة الأمريكية أن أفضل طرق الدفاع تتلخص في توفير هجوم فعال، وأمن داخلي قوي يمكنه ردع أي هجوم. ولن تنسى - في خضم كل ذلك- أن تستعين بالدول الصديقة، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية في الوصول إلى الهدف المنشود. فالكل سيشارك في مطاردة الإرهابيين؛ وفي إعادة تعمير أفغانستان حتى لا تصير مرة أخرى بؤرة للإرهاب..
نزع فتيل الصراعات الإقليمية
الولايات المتحدة الأمريكية ملزمة -في حالة اندلاع الصراعات الإقليمية- بالعمل مع الدول الصديقة والشريكة في سبيل رفع المعاناة عن الشعوب وإعادة الاستقرار. ومن ثم، فعليها أن تأخذ المبدأين الإستراتيجيين التاليين في الاعتبار:(19/457)
1- استثمار الوقت والثروات في إقامة علاقات دولية، يمكنها أن تسهم في حل الأزمات المحلية فور اندلاعها.
2- مد يد العون إلى تلك الدول غير الراغبة وغير المستعدة لمساعدة أنفسها.
ولدينا مثل حي وواضح في الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث تقوم الولايات المتحدة بالعمل مع دولة إسرائيل -بحكم صلتها الوطيدة بها- وكذلك مع الدول العربية القريبة، من أجل تسوية الصراع. فهي تؤمن بإيجاد دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة، تقف جنباً إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية؛ حيث يظلهما السلام والأمن. وهي على استعداد تام لتقديم كل الدعم لإيجاد الدولة الفلسطينية، ولكن بشرط: وهو أن يبدي الفلسطينيون بالمثل استعدادهم لاعتناق الديمقراطية ومحاربة الفساد والإرهاب.
وإسرائيل -بدون شك- لها دور أساسي في إيجاد تلك الدولة على أرض الواقع. فهي ملزمة بالانسحاب إلى ما قبل حدود 28 سبتمبر 2000، وتنفيذ توصيات لجنة ميتشل، ووقف النشاط الاستيطاني في الأراضي المحتلة. وهنا تأتي الفرصة لتدخل الولايات المتحدة، ومطالبة إسرائيل بالامتثال إلى كل ما سبق ذكره.
ولنا في الصراع الهندي الباكستاني مثل آخر، حيث تقوم الإدارة الأمريكية بتوطيد علاقاتها الثنائية مع الهند ومع باكستان في آن واحد؛ مما سهل عليها الأمر بعد ذلك في لعب دور حيوي وبارز في فض النزاعات الهندية الباكستانية التي تندلع من وقت إلى آخر. وكان توطيد العلاقة مع باكستان قائماً على اختيار الأخيرة المشاركة في الحرب ضد الإرهاب، بينما كان توطيد العلاقة مع الهند قائماً على شغف الأخيرة وتحمسها لأن تكون واحدة من أعظم النظم الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين.
وفي أمريكا اللاتينية سعت الولايات المتحدة إلى إقامة تحالفات مع المكسيك والبرازيل وشيلي وكولومبيا.. في سبيل خلق منطقة ديمقراطية حقيقية، يصير فيها التدخل الأمريكي سبباً وحافزاً للأمن والرخاء، وهازماً لجميع مظاهر المخدرات والإرهاب وجماعات العنف غير المشروعة، مثل الحال في كولومبيا.
وأخيراً في أفريقيا ستعمل الولايات المتحدة مع الدول الأخرى من أجل انتشال القارة الأفريقية من المرض والفقر والحرب؛ ومن ثم تأهيلها لتكون تربة خصبة قابلة للسلام والحرية والرخاء. فأفريقيا الحالية -بمرضها وفقرها وجوعها- إنما تهدد قيمة أمريكية أساسية، ألا وهي الحفاظ على الكرامة الإنسانية. كما أنها تنذر باستشراء الإرهاب، وهو ما يهدد الأولوية الإستراتيجية الأمريكية التي تتمثل في محاربة الإرهاب..
منع أعدائنا من تهديدينا
وفي خطبة ألقاها جورج دبليو بوش في نيويورك في يونيو 2002، أوضح قائلاً: "إن الخطر الأعظم على الحرية يتمثل في التقاء الراديكالية بالتكنولوجيا. عندما تجتمع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية والنووية -بالإضافة إلى تكنولوجيا الصاروخ الباليستي- في أيدي الدول الضعيفة، أو حتى في أيدي الجماعات الصغيرة، تتحول تلك الدول أو تلك الجماعات إلى قوة خارقة وقادرة على ضرب الدول الكبيرة".
إن التحديات الحالية التي تفرضها "الدول المارقة"، والتي يفرضها الإرهابيون، جعلت البيئة الأمنية أكثر تعقيداً وأكثر خطورة. فأعداء اليوم لديهم القابلية والاستعداد لامتلاك الأسلحة المدمرة التي لا تتوفر إلا للدول العظمى. وفي التسعينيات من القرن الماضي، بدأنا نشهد بروز مجموعة من الدول المارقة التي -رغم اختلافها- تتشارك في العديد من الصفات. فهي:
1- تروع شعوبها.
2- تتجاهل القانون الدولي، وتخرق المعاهدات الدولية، وتهدد جيرانها.
3- تسعى وراء امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
4- تمول الإرهاب في العالم كله.
5- ترفض القيم الإنسانية الأساسية.
6- تكره الولايات المتحدة الأمريكية، وتُبغض كل مواقفها وممارساتها.. ومن أمثال تلك الدول: العراق وكوريا الشمالية.
ولذا ستصير الإدارة الأمريكية ملزمة باتباع إستراتيجية معينة لمواجهة أسلحة الدمار الشامل؛ وهي ستتضمن الآتي:
- بذل جهود إيجابية للحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومنع الخطر قبل وصوله إلى الأراضي الأمريكية.
- منع الدول المارقة ومنع الإرهابيين من الحصول على كل من المواد والتكنولوجيا والخبرة الضرورية لأسلحة الدمار الشامل؛ وذلك من خلال الحد من التسلح، والحد من التصدير متعدد الأطراف، والحد من الأخطار.
- إدارة فعالة للتجاوب والتفاعل مع عواقب استخدام أسلحة الدمار الشامل.
فعلى الولايات المتحدة أن تؤهل نفسها للرد على ما ينتج عن استخدام تلك الأسلحة من آثار وعواقب، سواء كان ذلك الاستخدام ضد أهداف أمريكية في الداخل أو في الخارج. كما عليها أن تؤهل نفسها لمساعدة الأصدقاء والشركاء إذا ما تعرضوا للهجوم.
وتبعاً لطبيعة العدو الحالي فإن الإدارة الأمريكية لا تستطيع أن تستمر في الاعتماد فقط على "سياسة رد الفعل" كما كانت تفعل في السابق؛ باختصار..هي لا تستطيع أن تنتظر العدو لكي يبدأ بالضرب أولاً.(19/458)
- الكف عن المفاهيم التقليدية للردع الذي لم يعد يمثل دفاعاً فتاكاً، كما كان الأمر من قبل في أثناء الحرب الباردة. فالردع المعتمد فقط على التهديد بالانتقام، لم يعد ذا تأثير على قادة الدول المارقة الذين يقامرون بحياة شعوبهم وثروات بلادهم. كذلك فإن أسلحة الدمار الشامل -التي كانت في يوم ما تستعمل كملاذ أخير- صارت الآن رهن إشارة الدول المارقة.
- منع الدول المارقة من الانتصار على التفوق التقليدي للولايات المتحدة.
إن عدو اليوم لا يستخدم الأساليب التقليدية في الهجوم؛ لأنه يعلم جيداً أن تلك الأساليب مصيرها الفشل. ومن ثم، فهو يعتمد أكثر على عمليات الإرهاب، وعلى أسلحة الدمار الشامل التي يسهل احتواؤها وتخبئتها. أما هدف هجمات ذلك العدو فيتمثل في القوات الأمريكية والمدنيين الأمريكيين.
وبناء على ذلك، يتحتم على الإدارة الأمريكية أن يكون لديها من الضربات الوقائية ما يدفع عنها تلك الهجمات الإرهابية..
تدشين عهد اقتصادي جديد
مما لا شك فيه أن الاقتصاد العالمي القوي سيؤثر بالإيجاب على الأمن القومي الأمريكي، فإذا نما الاقتصاد العالمي واشتد صلبه من خلال تشجيع "حرية السوق" و"حرية التجارة"، زادت الرواتب والدخول، وزادت فرص العمل؛ الأمر الذي سيسمح للشعوب بانتشال أنفسها من الفقر، من خلال مواجهة الفساد وتدعيم الحياة الحرة.
إن التاريخ يعطي للعالم كله درسًا أساسيًا في الحياة: وهو أن اقتصاديات السوق الحرة (المتحررة من يد الحكومة) أفضل الاقتصاديات لإيجاد الأمن والرخاء. ومن ثم، فإن السياسات التي تشجع "اقتصاد السوق" مناسبة لجميع الدول: الصناعية، والمتخلفة، والنامية.
وعودة الرخاء الاقتصادي في اليابان وأوربا إنما هو أمر أساسي لتغذية المصالح الأمنية الأمريكية. فالإدارة الأمريكية ترغب في إنعاش اقتصاد حلفائها، ليس فقط من أجل سلامة الحلفاء، بل أيضاً من أجل سلامة الاقتصاد العالمي، والأمن العالمي.
إن توفير الاستقرار في الأسواق الناشئة يعتبر أيضاً من أولويات الإدارة الأمريكية، في سبيل تحقيق تنمية اقتصادية عالمية. وهذا الاستقرار لن يتأتى إلا من خلال تدفق رءوس الأموال في الدول ذات الأسواق الناشئة، وهو ما يمهد لها الطريق للاستثمار وتقليل نسبة الفقر. ومن ثم، تعمل الولايات المتحدة على دعم تلك الأسواق، ومدها بالتدفقات الكبيرة لرءوس الأموال، وبأقل خسارة.
ومن أجل دفع "السوق الحرة" إلى الأمام قامت الولايات المتحدة بتقديم الإستراتيجية التالية:
- الأخذ بالمبادرة العالمية: وهذا ما فعلته الإدارة الأمريكية في الدوحة -في نوفمبر 2001- عندما قامت بتدشين مفاوضات عالمية جديدة للتجارة؛ ذات أجندة متميزة في الزراعة والصناعة والخدمات، والتي من المفترض أن يتم العمل بها في عام 2005.
- الأخذ بالمبادرات الإقليمية: حيث قامت الولايات المتحدة بالموافقة على تدشين منطقة تجارة حرة بين الأمريكتين، على أن تبدأ واقعياً في عام 2005.
- الإسراع في اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية: فاعتماداً على اتفاق التجارة الحرة الذي عقد بين الولايات المتحدة والأردن في عام 2001 تستهدف الإدارة الأمريكية -في هذا العام- أن تنتهي من إبرام اتفاقيات التجارة الحرة مع شيلي وسنغافورة. فالهدف هو إقامة اتفاقيات تجارية مع مجموعات مختلفة من الدول الصناعية والدول النامية في شتى مناطق العالم. وسيكون التركيز مبدئياً على أمريكا الوسطى وأفريقيا الجنوبية والمغرب وأستراليا.
- تجديد الشراكة التنفيذية-التشريعية: ستعمل الإدارة الأمريكية مع الكونجرس من أجل تشريع اتفاقيات تجارية جديدة، على المستوى العالمي والإقليمي والثنائي؛ وذلك تحت مظلة قانون "ترويج التجارة".
- تعزيز الترابط بين التجارة والتنمية: إن السياسات التجارية تستطيع أن تساعد الدول النامية في تدعيم كل من الحقوق الملكية، والمنافسة، وسيادة القانون، والاستثمار، ونشر العلم والمعرفة، والتفاعل الإقليمي.. كل هذا سيؤدي إلى توفير الرخاء والتنمية والثقة في الدول النامية.
ومثالا على ذلك تعمل الولايات المتحدة حالياً على تنفيذ قانون "تنمية أفريقيا" الذي سيربط جميع منتجات الدول الأفريقية جنوب الصحراء تقريبا (53 دولة) بالسوق.
- وضع اتفاقيات وقوانين تجارية ضد الممارسات غير العادلة: من أولويات الإدارة الأمريكية حل النزاعات القائمة بينها وبين الاتحاد الأوربي، وكندا، والمكسيك. وأيضاً منع وردع التجسس الصناعي الدولي الذي يجهض المنافسة العادلة.
- مساعدة المصانع المحلية والعمال على التأقلم مع ديناميكية الأسواق المفتوحة: وهو ما يضمن عدم تضرر العمال الأمريكيين بسبب تطبيق بنود التجارة الحرة.
- حماية البيئة والعمال: وذلك من خلال تضمين المسائل المتعلقة بالعمال والبيئة في مفاوضات التجارة الأمريكية؛ ومن ثم إيجاد "شبكة" صحية بين الاتفاقيات البيئية متعددة الأطراف وبين منظمة التجارة الدولية.(19/459)
- تدعيم وتحسين الأمن الطاقي: وذلك من خلال العمل مع الحلفاء والشركاء التجاريين ومنتجي الطاقة على توسعة مصادر وأنواع الطاقة العالمية المتوفرة لدى الولايات المتحدة.
ولا تنسى الإدارة -في خضم التنمية الاقتصادية- أن تضبط تركيز الغاز المتسبب في الاحتباس الحراري الذي سوف ينتج من تلك التنمية؛ ومن ثم احتواءه بدرجة معينة تمنع التدخلات الآدمية الشرسة في المناخ العالمي..
توسيع دائرة التنمية
من أولويات السياسة الأمريكية تجاه العالم إدخال جميع فقراء العالم في دائرة متسعة للتنمية. وللأسف فقد ثبت فشل سياسة المعونات في رفع الفقر عن الدول النامية؛ ذلك لأن نتائج المعونات كانت تُحسب دائماً من خلال الدولارات التي تُدفع من قبل المانحين، بدلاً من أن تُحسب من خلال معدلات التنمية في الدول المتلقية للمعونات. ومن ثم رأت الإدارة الأمريكية ضرورة تغيير أهداف تقديم المعونات، والإستراتيجيات الممهدة لتلك الأهداف. وقد وضعت الولايات المتحدة -بجانب الدول الصناعية الكبرى- هدفاً طموحاً أمام أعينها؛ وهو: مضاعفة حجم اقتصاد أكثر الدول فقراً في العالم، عبر عشر سنوات. وهذه هي الإستراتيجيات التي ستتبعها للوصول إلى ذلك الهدف:
- تقديم المساعدات والمعونات لتلك الدول فقط التي تتبع منهجاً إصلاحياً صحيحاً: فتبعاً لحساب "تحدي الألفية" (Millennium Challenge Account) ستسعى الإدارة الأمريكية إلى دفع بلايين الدولارات لإقامة مشروعات تنموية في تلك البلدان ذات الحكومات العادلة التي تستثمر في شعوبها، والتي تشجع الحرية الاقتصادية.
- تحسين فعالية البنك الدولي والبنوك التنموية الأخرى في رفع المستويات المعيشية: وقد قامت الإدارة الأمريكية- حيال ذلك- برفع الدعم الأمريكي لرابطة التنمية الدولية IDA بنسبة 18% (وهو البنك الدولي الذي يمول الدول الأكثر فقراً)، وكذلك للبنك الأفريقي للتنمية. وكل ذلك يتم على شرط هو: أن تقاس كل المعونات والهبات والقروض والمشاريع على حسب مساهمتها في زيادة الإنتاجية في الدول النامية.
- قياس النتائج للتأكد من أن المعونات التنموية تؤثر بالإيجاب على حياة أكثر الناس فقراً في العالم.
- التركيز على الهبات أكثر من القروض: حيث إن الهبات تمثل أفضل طريق لمساعدة الدول الفقيرة على الاستثمار، خاصة في المجالات الاجتماعية، بدون إثقالهم بضغوط الديون التي تتعاظم يوماً بعد يوم.
وتحت إشراف الولايات المتحدة قامت رابطة التنمية الدولية بالفعل برفع حجم الهبات إلى أفقر دول العالم، بهدف مساعدتها في شتى المجالات: التعليم، والصحة، وأمراض الإيدز، والتغذية، والمياه.
- فتح المجتمعات للتجارة والاستثمار: فحرية السوق والتجارة تمثل دعامة أساسية لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي.
- تأمين الصحة العامة: فبدونها لا تستطيع التنمية أن تحقق مغزاها. ولهذا قامت الإدارة الأمريكية بتأييد التمويل العالمي الجديد المقدم لمرضى الإيدز الذي ينظمه أمين عام الأمم المتحدة كوفي عنان.
- التركيز على التعليم الذي لا تصح الديمقراطية ولا التنمية بدونه: وسترفع الولايات المتحدة إسهاماتها التمويلية في مجال التعليم بنسبة 20% على الأقل.
- استخدام العلم في التنمية الزراعية: بهدف القضاء على المجاعات المنتشرة بين 800 مليون فقير، منهم 300 مليون طفل..
التعاون مع المؤسسات المركزية
في 1 يونيو 2002، ألقى بوش خطبة في نيويورك قائلاً: "منذ صعود الدولة القومية في القرن السابع عشر، ونحن لدينا أحسن فرصة لإقامة عالم تتنافس فيه القوى الكبرى في سلام بدلاً من أن تتنافس في الإعداد للحرب".
إن الولايات المتحدة لن تستطيع تنفيذ إستراتيجياتها بدون إقامة تحالفات مع الدول الصديقة في كندا وأوربا؛ وخاصة الأخيرة التي تحتضن أقوى منظمتين عالميتين في العالم: منظمة حلف شمال الأطلسي التي كانت -وما زالت- نقطة ارتكاز للأمن الأوربي الداخلي؛ والاتحاد الأوربي الذي يمثل شريك الولايات المتحدة في التجارة العالمية.
وقد تعرضت منظمة حلف شمال الأطلسي لهجمات 11 سبتمبر، كما تعرضت لها الولايات المتحدة. ومن ثم يتحتم عليها تطوير هياكل وقدرات جديدة في سبيل النهوض بمهمتها تحت الظروف الجديدة التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر.
ومن أجل تفعيل التحالف بين الولايات المتحدة وبين منظمة حلف شمال الأطلسي، ستقوم الإدارة الأمريكية بالتالي:
- توسيع عضوية الحلف لتشمل أكبر عدد ممكن من الدول الديمقراطية التي تكون على استعداد لحماية المصالح الأمريكية والأوربية ومصالحها هي أيضاً.
- التأكد من أن قوات الحلف لديها من المعدات والأسلحة ما يؤهلها لخوض الحرب الحالية.
- الاستفادة من التقدم الأمريكي على المستوى التكنولوجي، لإمداد الحلف بكل ما يحتاجه لتقليل المخاطر والثغرات التي يمكن أن تتعرض لها الولايات المتحدة وأوربا.(19/460)
وعلى المستوى الآسيوي، كانت هجمات 11 سبتمبر سبباً مؤدياً للتحالف الأمريكي الآسيوي. فقامت أستراليا بتدشين اتفاقية الأنزوس لتعلن من خلالها أنها تعرضت بالمثل لهجمات سبتمبر. كما قامت اليابان وجمهورية كوريا -بعد أسابيع من الأحداث- بإمداد الولايات المتحدة بإمدادات عسكرية لوجيستية. وكذلك تلقت الولايات المتحدة مساعدات من تايلاند والفليبين وسنغافورة ونيوزيلندا.
ومن أجل توطيد العلاقات مع الجناح الآسيوي سعت الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ الخطوات التالية:
- تأهيل اليابان لأن تلعب دوراً رائداً في الشئون الإقليمية والعالمية.
- العمل مع كوريا الجنوبية لأخذ حذرها من كوريا الشمالية؛ ولكن في نفس الوقت تأهيل المنطقة للاستقرار على المدى البعيد.
- إقامة تحالف أمريكي-أسترالي يمتد لمدة خمسين سنة.
- الاحتفاظ بالقوات الأمريكية في المنطقة، وهو ما يعكس الانتماء الأمريكي للحلفاء الآسيويين.
- تطوير إستراتيجيات إقليمية وثنائية لإحداث تغيير في هذه المنطقة الديناميكية.
ومع روسيا تقوم الولايات المتحدة بتدشين علاقة إستراتيجية جديدة قائمة على حقيقة مركزية؛ وهي أن الولايات المتحدة وروسيا لم يعودا عدوين إستراتيجيين. وقد تبلورت هذه الحقيقة في أثناء "اتفاقية موسكو" بخصوص الحد الإستراتيجي؛ حيث وعدت روسيا بإقامة علاقات إيجابية، وعلى المدى البعيد، مع المجتمع اليورو-أطلنطي والولايات المتحدة.
وقد قامت الإدارة الأمريكية من ناحيتها بعدة خطوات لتدعيم التحالف الأمريكي الروسي:
1- إرساء التعاون بين الدولتين لمواجهة الإرهاب العالمي.
2- التمهيد لدخول روسيا في منظمة التجارة العالمية.
3- تدشين مجلس "حلف الأطلسي-روسيا" بهدف تعميق التعاون الأمني بين روسيا والحلفاء الأوربيين والولايات المتحدة.
وهذا طبعاً لا ينفي وجود معوقات عديدة، يمكنها أن تثبط من هذا التحالف؛ منها على سبيل المثال:
1- عدم إيمان روسيا الكامل بقيم ومبادئ ديمقراطية السوق المفتوحة.
2- الضعف الروسي الواضح.
3- الرفض الروسي لنشر أسلحة الدمار الشامل.
ولكن بالرغم من ذلك تظل فرص الالتقاء أكبر بين الطرفين.
ومع الهند تجتمع الولايات المتحدة على عدة مصالح مشتركة منها: التدفق الحر للتجارة، ومحاربة الإرهاب، وإيجاد آسيا مستقرة إستراتيجياً، والحرية السياسية، حيث تعتبر الدولتان من أكبر الديمقراطيات في العالم. وبالرغم من عدم اتفاقهما على برامج الهند النووية، فإن الإدارة الأمريكية تنظر اليوم للهند على كونها دولة تتعاظم قوتها يوماً بعد يوم، حيث تتكون معها مصالح إستراتيجية كثيرة.
ومع الصين تسعى الإدارة الأمريكية إلى تدشين علاقة بنيوية بهدف تغييرها، وتنميتها ديمقراطياً. كما يتعاون الاثنان حيث تلتقي مصالحهما عند محاربة الإرهاب الحالي، وعند دفع الاستقرار في الجزيرة الكورية، وعند التخطيط للمستقبل الأفغاني، وعند صد الأخطار البيئية والصحية مثل انتشار مرض الإيدز.
ومن الجدير بالذكر أن المخاطر عبر الدولية التي تتعرض لها الصين، ستجبرها -عاجلاً أو آجلاً- على أن تصير أكثر انفتاحاً، وأكثر تقبلاً للمعايير الديمقراطية.
ولا تنسى الإدارة الأمريكية أهمية الصين الاقتصادية، وكيف أنها ستستفيد من دخول الصين في منظمة التجارة الدولية؛ وهو ما سيخلق فرصاً أكثر للتصدير الأمريكي، ومن ثم فرصاً أكثر للعمل لدى العمال والزراع الأمريكيين، وكذلك الشركات الأمريكية. ولا غرابة في أن تكون الصين هي رابع أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة؛ حيث يبلغ حجم المعاملة التجارية بين الطرفين 100 بليون دولار سنوياً.
وبالرغم من تواجد أسباب كثيرة لعدم الاتفاق بين الطرفين -منها مشكلة حقوق الإنسان، وتأييد أمريكا للمسألة التايوانية- فإن الإدارة الأمريكية عازمة على تضييق الفجوات مع الصين؛ لأن واقع ما بعد 11 سبتمبر يحتم عليها ذلك..
تطوير مؤسسات الأمن القومي الأمريكي
بعد أحداث سبتمبر صارت الإدارة الأمريكية ملزمة بالاحتفاظ بقوة دفاعها أكثر مما سبق. ويقف الدفاع عن الولايات المتحدة في الأولوية العسكرية. ومن ثم، تسعى الإدارة الأمريكية إلى ضمان أصدقائها وحلفائها؛ أثناء أي تنافس عسكري في المستقبل؛ وردع أي تهديدات ضد المصالح الأمريكية، ومصالح الشركاء والأصدقاء؛ وهزيمة أي عدو إذا ما فشِل معه سلاح الردع.
إن الجيوش الأمريكية -التي كانت في يوم من الأيام مبنية بهدف ردع جيوش الحرب الباردة- لا بد أن تتحول الآن فتركز أكثر على كيفية اعتداء العدو، بدلاً من التركيز على مكان وتوقيت الاعتداء. ومن أجل مواجهة تحديات الأمن الحالية -التي تولدت بعد أحداث سبتمبر- ستكون الإدارة الأمريكية في حاجة شديدة إلى قواعد ومحطات في أوربا الغربية وفي شمال شرق آسيا؛ بالإضافة إلى ترتيبات وقتية لنشر القوات الأمريكية على المدى البعيد.
قبل الحرب مع أفغانستان كانت تلك المنطقة بعيدة تماما عن اهتمام الإدارة الأمريكية؛ أما الآن.. فقد تغير الوضع تماماً؛ وصار التركيز على نشر القوات الأمريكية في تلك المنطقة.(19/461)
إن الإدارة الأمريكية ستسعى إلى تطوير دفاعها من خلال الإستراتيجيات التالية:
- القدرة على الدفاع أولاً عن الأراضي الأمريكية.
- التأكد من وصول الولايات المتحدة إلى ساحات الحروب البعيدة.
- القدرة على الدفاع عن البني التحتية الأمريكية في الفضاء الخارجي.
- تجديد وتطوير القوات المسلحة الأمريكية؛ آخذين بأحدث الأساليب التكنولوجية والعلمية.
- تطوير الطريقة التي تُدار بها وزارة الدفاع؛ خاصة من ناحية الإدارة التمويلية، ومن ناحية التوظيف والإقالة.
- توفير عدة اختيارات عسكرية للرئيس الأمريكي، ليختار منها ما يشاء؛ وهو ما يثبط من إمكانيات الهجوم على الولايات المتحدة أو على الدول الصديقة.
- حرمان الأعداء من الحصول على أي أسلحة تفوق الأسلحة الأمريكية.
- تطوير القدرات الاستخباراتية لكي تتلاءم مع العدو الإرهابي الجديد.
- مزج الدفاع مع المخابرات مع تنفيذ القانون.
- الاعتماد على الدبلوماسية للتفاعل مع الدول الأخرى؛ فالدبلوماسيون الأمريكيون يشكلون الخط الأمامي للمفاوضات المعقدة، والحروب الأهلية، والأزمات الإنسانية.
بذل الجهد في توصيل ثقافة عامة عن "أمريكا" لتتعرف كل شعوب الأرض عليها. فالحرب الدائرة الآن هي حرب أفكار؛ ولا بد أن تكون الغلبة للولايات المتحدة..
============(19/462)
(19/463)
الولايات المتحدة بين نموذج القوة وقوة النموذج
15/09/2002
…
أ.د. نادية محمود مصطفى**
تمثال الحرية.. رمز النموذج الأمريكي
إذا كانت الولايات المتحدة قد قدمت دائمًا نفسها كنموذج القوة العالمية المدافعة عن الحرية والساعية لتحقيق أمن العالم واستقراره وفق منظور مصالحها ووفق منظومة قيمها، فإن السؤال المطروح دائمًا هو: هل هذه القوة العالمية ترتكز على قوة النموذج أم على نموذج القوة؟ وبالطبع قدمت الخبرات الأمريكية الداخلية والخارجية إجابات عدة على هذا السؤال.
فلقد تراجعت في أحيان كثيرة منظومة القيم المعلنة -وعلى رأسها الحرية وحقوق الإنسان- أمام متطلبات المصالح القومية والأمن الأمريكي.
ولعلّ أبرز الأمثلة على ذلك تأتي من تاريخ مساندة الإدارات الأمريكية لنظم تسلطية وعسكرية؛ حفاظًا على متطلبات إدارة الصراع العالمي. وفي المقابل، وإن ظلّت القاعدة الظاهرة -في الداخل الأمريكي- هي الترابط بين الحرية والأمن باعتبارهما دعامتي النموذج الأمريكي، فإن استثناءات عديدة كسرت هذه القاعدة في مراحل فاصلة من تاريخ المجتمع الأمريكي مثل قضية الهنود الحمر السكان الأصليين، قضية السود الأمريكيين، مرحلة الماكارثية.
ومع أحداث 11 سبتمبر ارتَدَت إشكالية العلاقة بين الأمن والحرية في السياسة الأمريكية ثوبًا جديدًا يتسق وطبيعة المرحلة الراهنة من تطور النظام الدولي والسياسات العالمية، ومن تطور السياسات الأمريكية. وهي المرحلة التي تتسم ببروز دور الأبعاد الثقافية والحضارية كمحرك لهذه السياسات والتفاعلات، وكمفسّر لها، وكمحدد من محددات تقسيم العالم؛ ومن ثَم كان لا بد لإشكالية العلاقة بين الحرية والأمن أن تتشكّل بدورها بتأثير هذه الأبعاد بعد أن تشكلت بأبعاد أيديولوجية في مرحلة الحرب الباردة.. ولكن كيف؟
بالنسبة للمواطن الأمريكي العادي أثار الهجوم على مركز التجارة العالمي وعلى البنتاجون الأسئلة التالية: من الذي يكرهنا إلى هذا الحد؟ ولماذا؟ ما الذي يحدث في العالم من حولنا لينعكس علينا على هذا النحو؟ لماذا فشل النظام الأمريكي في الحفاظ على الأمن لهذه الدرجة غير المسبوقة؟ ما هو هذا الإسلام الذي أُلصقَت بأتباعه هذه التهمة؟ وبالنسبة للنظام الأمريكي وللسياسة الداخلية والخارجية الأمريكية كان للهجوم مغزى آخر: فهو ضربة قاتلة ضد أهم رمزين للنموذج الأمريكي (المال، القوة العسكرية)، وبأسلوب جديد غير مسبوق لا بد وأن يثير التساؤل عن مصدر الهجمات: هل هو من الداخل أم من الخارج؟ ويزداد مغزى الهجوم خطورة في نظر إدارة جمهورية في ظلِّ ما هو معروف عن تقاليدها التي تعطي الأولوية لتحقيق الأمن بواسطة القوة العسكرية، وما هو معروف أيضًا عن رافدها اليميني السائد الآن وتحالفه مع اليمين الديني الذي تلعب التقاليد البروتستانتية دورها في تشكيل رؤيته للعالم ودور أمريكا فيه، وذلك على نحو يثير التساؤل حول قدر تأثير الأبعاد الثقافية والحضارية -وفي قلبها الدين- على السياسة الأمريكية، وذلك بالمقارنة باعتبارات المصلحة القومية التقليدية.
وكان لا بد لهذه الدلالات المتعددة أن تنعكس على إشكالية العلاقة بين الأمن والحرية على صعيد رؤية كل من الإدارة من ناحية، وقوى المجتمع المدني والمواطن الفرد من ناحية أخرى.
الدولة مع الأمن والمجتمع مع الحرية
منذ الساعات الأولى بعد الهجوم، ونظرًا للقفزة الهائلة التي احتلتها المواجهة بين الإسلام والغرب، ثار التساؤل: هل ستصبح الحرية وحقوق الإنسان في العالم بصفة عامة، والحريات المدنية للمسلمين والعرب الأمريكيين والأوروبيين بصفة خاصة، ضحية سبل مقاومة هذا الإرهاب في داخل الولايات المتحدة وخارجها؟ وقد تبلور اتجاهان للإجابة عن ذلك:
الاتجاه الأول: مثلته الحكومات الأوروبية والإدارة الأمريكية، التي مضت قدمًا في طريق دعم الإجراءات الأمنية الجديدة في المطارات والمواني، وسنِّ القوانين الجديدة الخاصة بالهجرة واللجوء السياسي، وانتهاج سبل وإجراءات جديدة في مجال الحجز والاستجواب والمحاكمة. وكان الضحايا الأساسيون لهذه الإجراءات من العرب والمسلمين. وفي الوقت نفسه اتسعت دائرة التنسيق الأمني والاستخباري مع السلطات المعنية في عديد من الدول العربية والإسلامية، وبدأت الحرب ضد أفغانستان، وتوالت التهديدات الأمريكية للجميع، وانطلق الضوء الأخضر لإسرائيل لتنفيذ مخططها الإرهابي المنظم ضد الشعب الفلسطيني.
وفي المقابل استمر تأكيد القادة الأوروبيين والأمريكيين في قمة السلطة على أن الحرب ضد الإرهاب ليست حربًا ضد الإسلام والمسلمين، وأن الإجراءات الأمنية الجديدة لا تستهدف كل المسلمين الأمريكيين أو الأوروبيين، ولكن "الأشرار منهم فقط".
أما الاتجاه الثاني: فقدمه مفكرون وبرلمانيون وقادة مجتمع مدني أمريكيون وأوروبيون، وحذَّر مما قد ينال الحريات المدنية باسم "مكافحة الإرهاب"، وأنه يجب البحث في أسباب الإرهاب، ولكن ظلَّ هذا الاتجاه منخفض الصوت غير ذائع الانتشار في الأسابيع التالية مباشرة للهجوم على نيويورك.(19/464)
ويمكنني التوقف عند بعض النماذج التي تناقش بوضوح العلاقة بين الأمن والحرية:
1 - أنقل من كتاب جون إسبوستيو "حرب غير مقدسة: الإرهاب باسم الإسلام" الذي صدر في أبريل 2002م، ما يلي: "كيف يمكن الاستمرار في الحرب ضد الإرهاب دون أن ندفع بصراع شامل بين الثقافات؟ وهذه الحرب لا يمكن استخدامها لتبرير انهيار قيم مهمة في الداخل أو تصبح ضوءاً أخضر للنظم التسلطية في العالم الإسلامي لتقهر قوى المعارضة السلمية أيضًا. إن اتجاه العداء لأمريكا ليس مصدره عداء دينيًّا، ولكن الغضب والإحباط من سياسة الولايات المتحدة".
2 - أسجل ما شاهدته في مساء 15 أغسطس على القناة الأمريكية الإخبارية "سبان-2" من وقائع مؤتمر صحفي تم عقده في نادي الصحافة القومية، ونظمه "ائتلاف قوس قزح" الذي يرأسه القس جي جاكسون الديمقراطي. وهو المؤتمر الذي اشترك فيه ممثلون عن اتحاد المرأة، واتحاد المدرسين، واتحاد العمال، واتحاد الأمريكيين من أصل لاتيني، وكذلك جيمس زغبي ممثلاً للجالية العربية الأمريكية. وقد كان المؤتمر بمثابة وقفة صارمة وحاسمة من جانب المتخوفين من عواقب انتهاك الحريات المدنية الأمريكية، في مواجهة المدافعين باسم الأمن عن الإجراءات الأمنية الجديدة من داخل الإدارة الأمريكية الجمهورية المحافظة.
3 - من بين فيض من مقالات الرأي والتعليقات في صحف مختلفة، يمكنني التوقف عند مقال جوناثان تيرلي -أستاذ القانون الدستوري في جامعة جورج واشنطن- بعنوان: "معسكرات للمواطنين: رؤية أشكروفت المميتة: المدعي العام يظهر نفسه كتهديد للحرية"، وتم نشره في موقع لوس أنجلوس تايمز (14-8-2002م) www.latimes.com ، ويرى المؤلف أن اقتراح أشكروفت بإنشاء معسكرات للمواطنين الأمريكيين "المتوافقين مع العدو" يجرد المواطنين من حقوقهم الدستورية، وأن الأمر يجب أن تتم مناقشته في جلسات استماع في الكونجرس من أجل إعادة النظر في صلاحية أشكروفت لتولي هذا المنصب المهم. فإذا كان تنظيم القاعدة -كما يقول المؤلف- يهدِّد حياة مواطنينا، فإن أشكروفت أضحى تهديدًا واضحًا وحالاً لحرياتنا.
وبعد أن استعرض المؤلف وقائع ونطاق اقتراح أشكروفت مبينًا خطورته -أيًّا كانت مبرراته الخاصة لمواجهة المؤامرات الإرهابية- فهو يقول: "إنه (أشكروفت) يحلم ببلد آمن من نفسه، ولكنْ مسيطر عليه ومحتوى بشدة من خلال أحكام أشكروفت حول معنى الإخلاص. ولمدة أكثر من 200 عام كانت الحرية والأمن يعتبران قيمًا متعايشة. أما أشكروفت ومعاونوه فيرون أن الأمن يجب أن يسبق الحرية، إن أشكروفت يشجِّع المواطنين على قبول حكم أتوقراطي باعتباره الوسيلة الوحيدة لتجنب هجمات إرهابية شاملة، وإن مشكلته الكبرى هي الحفاظ على مستوى من الخوف والفزع قد يدفع بالشعب الحرّ إلى أن يتخلى عن حقوقه الغالية التي حققها له أسلافه.. يأتي في كل جيل أمثال أشكروفت الذين يرون أن القوانين هي عائق وليست حاميًا في أوقات الخطر. وقبل أن نسمح لأشكروفت أن يدمر خريطتنا الدستورية يجب أن نتخذ موقفًا، ويكون لدينا الشجاعة لنقول: كفى"!.
4 - بعض الجمعيات الأمريكية المدنية ركَّزت من جهتها على منحى آخر وبنهج مختلف لمناقشة قضية الأمن وعلاقتها بالحرية. فلم تتخذ منحى الدفاع عن الحريات المدنية في مواجهة تعدي بعض السلطات، ولكن اتجهت للهجوم بشدة على قصور إجراءات أمن حماية الوطن والمواطنين وفشلها في مواجهة هجمات 11 سبتمبر قبل وقوعها، وكذلك اتجهت للهجوم على السرية التي تحيط بالتحقيق في مجريات ما حدث هذا اليوم وقبله، وأخيرًا على ما سُمِّي "الوطنية العمياء" التي قفزت بعد هذا اليوم، والتي ترى أن كل من يهاجم سياسة بوش وإدارته هم معادون لأمريكا.
إذن، وعلى ضوء كل ما سبق، يرى هذا الاتجاه أن إدارة الحرب ضد الإرهاب وعلى النحو القائم من جانب بوش إنما تمزق أمريكا، وتثير كل فئاتها ضد بعضهم بعضا: المواطن ضد المهاجر، الجمهوري ضد الديمقراطي، المسيحي ضد المسلم. ومن بين الممثلين لهذا الاتجاه ما يسمّى "مؤسسة السلام والعدالة". ولقد بثّت من على موقعها على شبكة المعلومات مقالاً تحت عنوان "الحقيقة عن الحادي عشر من سبتمبر: آن الأوان لحكومتنا أن تجيب عن الأسئلة"، وهو مقال معبِّر عن كثير من التساؤلات التي تدور في ذهن الكثيرين والتي لا تتجه بالاتهام المباشر إلى القاعدة وبن لادن، ولكن تتهم -بصورة واضحة- جهات عديدة رسمية وغير رسمية أمريكية.
المؤسسات الإسلامية تندمج في المجتمع المدني(19/465)
أضحت المؤسسات الإسلامية الأمريكية طرفًا فاعلاً في هذا الجدال الفكري والسياسي وما ارتبط به من أنشطة كثيفة ومتنوعة. وعلى رأس هذه المؤسسات تأتي "كير" (مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية)، ولقد قادت هذه المؤسسة منفردة أو بالتنسيق مع نظائر لها حملات طمأنة مسلمي الولايات المتحدة، وتوعيتهم بحقوقهم المدنية والدفاع عنها، كذلك حملات لمواجهة الشبهات ضد الإسلام، وتوعية المجتمع الأمريكي بحقائق الإسلام، ودعوة العرب والمسلمين للرد على مقالات الرأي والمواقف المعلنة التي تحمل روح التعصب وعدم التسامح تجاه الإسلام والمسلمين بصفة عامة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة، وكذلك تنشيط مسلمي أمريكا ودعوتهم للمشاركة المدنية والسياسية الفاعلة لحماية حقوقهم ودعمها.
ولقد أصدرت كير بمناسبة ذكرى مرور عام على أحداث الحادي عشر من سبتمبر تقريرًا وافيًا عن أحوال مسلمي الولايات المتحدة خلال العام، راصدة فيه ما تعرض له المسلمون من انتهاكات للحريات المدنية، وما بذلته كير والمؤسسات الإسلامية الأخرى من جهود لإدارة الصراع الحضاري الموجه ضد الإسلام من جانب بعض قوى اليمين الديني والسياسي المتطرف في المجتمع الأمريكي والإدارة الأمريكية الراهنة. كما أعلنت عن حملة شاملة تدعو فيها المسلمين للمشاركة في جهود تصحيح صورة الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة. وذلك كاستجابة شاملة لاتجاهات الرأي العام الأمريكي الساعية نحو التعرف على الإسلام، ولمواجهة حملة التشويه لصورة العرب والمسلمين. حيث لم يقتصر الأمر بعد 11 سبتمبر على إجراءات أمنية جديدة تُعَدّ -بمقاييس النموذج الأمريكي السائدة داخليًّا- انتهاكًا للحريات المدنية، ولكن اقترن وبصورة واضحة بالحملة على الإسلام والمسلمين. وهي حملة لها سوابق عديدة، إلا أن الحملة الراهنة غير مسبوقة من حيث عمقها ونطاقها، ومن حيث امتدادها إلى الإعلام الغربي بكل روافده، وعدم اقتصارها على دوائر النخب الفكرية والاستشراقية فقط.
بعبارة أخرى، إشكالية العلاقة بين الأمن والحرية في الداخل الأمريكي بعد 11 سبتمبر -التي يقع في قلبها مستقبل وضع العرب والمسلمين في النسيج الاجتماعي والسياسي الأمريكي- لم تكن ذات أبعاد قانونية سياسية فقط، ولكن ذات أبعاد ثقافية حضارية واضحة الدلالة طوال العام المنصرم. وهذه هي الصورة الجديدة التي تأخذها الأزمة الراهنة التي تمر بها هذه العلاقة، بعد أن سبقتها أزمات أخرى -كما في الخمسينيات (الماكارثية)- كان مبعثها صراعات أيديولوجية.
ولذا لا عجب أن نلحظ الآن في الدوائر الأكاديمية بروزًا متجددًا للاهتمام بالعلاقة بين الدين والمجتمع والسياسة بصفة عامة، وفي الولايات المتحدة بصفة خاصة. حقيقة -منذ ما يزيد على العقد من الزمان- نلحظ تجدد الاهتمام بالعلاقة بين الدين ودراسة الظاهرة الاجتماعية في الدوائر الغربية الأكاديمية والفكرية، ولكن تحققت القفزة مع أحداث 11 سبتمبر.
الخلاصة
إن قضية العلاقة بين الأمن والحرية أو بين المصالح والقيم في السياسة الأمريكية ستظل علاقة مطاطة، حيث تلبس السياسة الخارجية الأمريكية دائمًا قناع نموذج القوة وليس قناع قوة النموذج، في حين أن توازنات القوى الداخلية في المجتمع المدني الأمريكي ما زالت قادرة على الحفاظ على قوة النموذج وعافيته في الداخل الأمريكي.
فهل يمكن أن تستمر هذه الازدواجية أم إن عواقب 11 سبتمبر ستطيح تدريجيًّا بنموذج الحريات المدنية تحت مبررات مقتضيات الأمن ومكافحة الإرهاب؟ وبذا تتأكد مخاوف البعض أن ما يحدث الآن في مواجهة المسلمين في أمريكا ليس طارئًا أو ظرفيًّا، ولكن علامة على تحول نوعي سينمو تدريجيًّا ويؤثر على مستقبل الوجود المسلم هناك؟ أم إن قوى المجتمع المدني الأمريكي ستقدر على الموازنة بين اتجاهاتها ومواجهة الإدارة، بحيث تتغلب قيم الحرية والتنوع والتعدد على قيم الأمن والاحتواء؟ وفي هذه الحالة هل سيمتد تأثير هذه التوازنات الداخلية إلى التأثير على توجهات السياسات الأمريكية وبنحو يساعد على تغييرها ليساهم هذا التغير بدور في تجفيف منابع الإرهاب؟ فتلك الأخيرة لا تكمن فقط في أوضاع وظروف الدول العربية والإسلامية -كما تعتقد الإدارة الأمريكية الراهنة- ولكنها تكمن أيضًا في السياسات الخارجية الأمريكية المتراكمة.
وسيظل السؤال التالي مطروحًا: هل التضحية بالحريات المدنية في الولايات المتحدة وهل استمرار التضحية بها في الدول العربية والإسلامية سيحمي مما يسمى "الإرهاب"؟ إن العدالة والحرية هما التربة الصالحة لإنبات بذور الأمن والطمأنينة في ربوع العالم. ولكن ستظل لغة القوة والمصالح والتوازنات وتوجهات الصراع الحضاري والثقافي، هي العائق أمام نمو هذه البذور لتطرح ثمارًا وفيرة، ليس في داخل الولايات المتحدة فقط، ولكن في دولنا العربية والإسلامية أيضًا.
==============(19/466)
(19/467)
الإستراتيجية الأمريكية.. منع الحرب قبل اندلاعها!!*
12/07/2002
…دونالد رامسفيلد**
ترجمة: شيرين حامد فهمي - إسلام أون لاين.نت
رامسفيلد: كيف نحول الجيش الأمريكي؟
اقرأ في هذه الوثيقة:
*خبرات من مزار شريف
*سرعة التعلم
*سحقا للقديم
*إستراتيجية سداسية
*كيف نغيّر الجيش
*دروس حرب أفغانستان
خبرات من مزار شريف
في العام الماضي - وتحديدًا قبيل إجازة عيد الميلاد- قمت بالسفر إلى أفغانستان وإلى الدول المجاورة، حيث سنحت لي الفرصة لكي أقضي وقتًا لا بأس به مع القوات الأمريكية المتواجدة على جبهة الحرب. ومن ضمن الجنود الذين قابلتهم كانت هناك مجموعة متميزة، تلك المجموعة التي انخرطت في الهجوم على "مزار شريف".
وتكتسب تلك المجموعة تميزها من أنها أقدمت سريعًا على التأقلم مع الظروف والأوضاع "الأفغانية" منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها أقدامها أرض أفغانستان. فقد أطلقوا اللحى، وتغطوا بالتلفيعات التقليدية، وركبوا الخيل المدربة على الجري في وسط لهيب الرصاص والنيران. ولم يقتصروا على ذلك، بل استخدموا البغال لنقل أمتعتهم عبر تضاريس جبلية (تُعَدّ من أقسى وأصعب التضاريس في العالم) في ظلام حالك؛ يمرون على حقول الألغام من ناحية، وعلى الطرق الجبلية الملتوية من الناحية الأخرى. ومما يصعّب الأمر أن معظمهم لم يتعود على ركوب الخيل ولم يتعلم ذلك من قبل.
ومن خلال معايشتهم لحلفائهم -القوات المناهضة لطالبان- استطاع هؤلاء الجنود المتميزون أن يتعلموا الكثير عن حقائق الحرب على الأراضي الأفغانية، وهو ما أهّلهم بعد ذلك لتخطيط الهجوم على "مزار شريف".
ففي اليوم الموعود، تسلَّل أحد الجنود من الفرقة الخاصة، واختبأ خلف خطوط العدو، مستعدًّا لإرسال إشارة البدء. وعندما جاءت اللحظة الحاسمة أعطوا الإشارة إلى السلاح الجوي. وفي ثوان معدودة، ومن حيث لا نعلم، انهال كمٌّ عظيم من القنابل، الموجه بمنتهى الدقة، صوب مراكز طالبان والقاعدة.. لقد كان صوت الانفجارات مدويًا؛ وكان التوقيت مُحددًا بمهارة فائقة، لدرجة أن مئات الفرسان الأفغان - كما يصف الجنود الأمريكان - ظهروا من بعد الانفجارات مباشرة؛ خارجين من خلف الدخان، يدهسون "العدو" بخيلهم في وسط سحب الضباب والشظايا الطائرة. لقد أدى الاثنان - الأفغان والأمريكان معًا - الهجوم بمنتهى البطولة.. بطولة الفرسان.
لقد كان أول هجوم يقوده سلاح الفرسان الأمريكي في القرن الحادي والعشرين. والغريب أنه بعد المعركة قام جندي أمريكي ليقصّ علينا قصة محارب أفغاني، جاءه وقد بدأ في إخراج رجله من السروال، "لقد اعتقدت أنه يريد أن يريني بعض الإصابات"، ولكن المحارب أراه شيئاً آخر؛ لقد أراه رِجلاً صناعية.. لقد دخل المحارب الأفغاني المعركة برجل واحدة!!
إن انتصارنا في معركة "مزار شريف" - التي أدت بعد ذلك إلى سقوط طالبان - كان ثمرة التلاحم بين عبقرية القوات الأمريكية المتميزة (التي أظهرت صلابة الترسانة الأمريكية) وبسالة وشجاعة الفرسان الأفغان الذين امتطوا خيلهم برجل واحدة.
في ذلك اليوم المشهود - يوم انتصارنا في "مزار شريف" - الذي شهدته سهول أفغانستان، كانت لحظة التقاء القرن التاسع عشر مع القرن الحادي والعشرين.. أدت إلى التغلب على "عدو خطير".. إنه نصر عظيم.
سرعة التعلُّم
عندما استدعاني الرئيس جورج دبليو بوش للعودة إلى البنتاجون - بعد ربع قرن من الزمان - طلب مني إعداد إستراتيجية جديدة للدفاع، بالرغم من أنه يعرف جيدًا أنني رجل أنتمي إلى العالم القديم. هل يمكن لبوش أن يتخيل، ولو لمدة ثانية، الرجوع ثانية إلى حرب الفرسان؟
ها نحن في عام 2002م، نخوض أول حرب في القرن الحادي والعشرين، مستخدمين الخيل؛ الأمر الذي يعكس أننا بصدد ثورة حقيقية في الشئون العسكرية؛ وأننا في أمسِّ الحاجة إلى إيجاد طرق جديدة في التفكير وأساليب مختلفة في القتال، أكثر من احتياجنا إلى إيجاد أسلحة أكثر تطورًا وتقدمًا.
ففي الحرب العالمية الثانية مثلاً، قامت ألمانيا بإحداث طفرة حقيقية في نظام الحرب، من خلال الضربات الرعدية المفاجئة، أو ما يسمى بالـ Blitzk r ieg. لقد رأى الجيش الألماني أن مستقبل الحرب لا يتعلق بالجيوش الكبيرة؛ إنما يتعلق بقوات صغيرة العدد، ولكنها على درجة عالية من الفعالية، بحيث تكون متخصصة في إحداث ضربات جوية خاطفة.
باختصار، لقد طوَّر الألمان توليفة فريدة من نوعها، تشتمل على دبابات شديدة السرعة، مشاة ميكانيكية، قاذفات انقضاضية. كل ذلك تركز لينصبّ مرة وحدة على العدو.. وهو ما جعل الأثر مريعًا.
إن الجديد في الـBlitzk r ieg لم يتمثل في القدرات الجديدة التي استخدمها الجيش الألماني؛ إنما يتمثل في الأساليب غير المسبوقة وغير المعهودة التي خلطوا فيها التكنولوجيا الحديثة بالتكنولوجيا القائمة حينذاك.(19/468)
وكذلك كان الأمر بالنسبة لمعركة "مزار شريف" التي أظهرت تحولاً ملموسًا في آلية الحرب. فقد قامت قوات التحالف باستخدام جميع الإمكانات العسكرية الموجودة - من أكثر الأسلحة تطورًا، مثل أسلحة الليزر، إلى أكثر الأسلحة قدماً وعتاقة، مثل أسلحة الـ B-52s التي يصل عمرها إلى أربعين عامًا، إلى أكثر الأسلحة بدائية، رجل يمتطي فرسًا، قامت باستخدامها جميعًا في وقت واحد وبطرق غير مألوفة.
وهذا بالطبع ليس معناه أن تصير "تلك التوليفة" نموذجًا يُقتدى به في الحروب القادمة، فالدرس من الحرب الأفغانية ليس الغرض منه هو أن يبدأ الجيش الأمريكي في تخزين المواد الأولية للحرب. وإنما الدرس الذي يجب أن نعيه جيدًا هو: أن الإعداد للمستقبل سوف يتطلب طرقًا جديدة في التفكير، كما سيتطلب تنمية القدرات والإمكانات التي تستطيع أن تتأقلم سريعًا مع التحديات الجديدة والظروف غير المتوقعة. إن القدرة على التأقلم سوف تكون ذات أهمية قصوى، في عالم يتصف بالمفاجأة وعدم الأمان.
في خلال الحرب الباردة واجهنا العديد من المخاطر المتوقعة. لقد كنا نعلم قدرًا كبيرًا من المعلومات عن عدونا وعن قدراته، وعلى هذا الأساس قمنا بتنمية الإستراتيجيات والإمكانات المطلوبة لردع ذلك العدو.. وكانت النتيجة أننا أظهرنا قدرًا كبيرًا من الإنجازات: فأنشأنا ترسانة نووية، ودخلنا عصر الطائرات النفاثة، وبنينا غواصات وسفنا مزودة بالقوة النووية، وأنشأنا أول صاروخ عابر للقارات.. بالإضافة إلى القوات الضخمة التي قمنا بحشدها داخل أوروبا من أجل منع أي اقتحام سوفيتي على الحدود الشمالية الألمانية.
وكذلك انتهجنا إستراتيجية "الاحتواء" من خلال بعث الخبراء العسكريين بهدف زعزعة الحكومات "الببغاوية" الخاضعة للاتحاد السوفيتي، وأيضا من خلال تدعيم الأنظمة الموالية والمهددة من قِبل الاستعمار السوفيتي.
وعلى امتداد نصف قرن أدى ذلك المزج بين كل من الإستراتيجية والقدرات والقوات إلى خلق السلام والإبقاء عليه؛ بالإضافة إلى المحافظة على الحرية. أما الآن.. فقد انقضت الحرب الباردة، واندثر الاتحاد السوفيتي، ومعه البيئة الأمنية التي نشأ عليها شعبنا وترعرع. فكما تعلمنا من أحداث سبتمبر المؤسفة، أصبحت تحديات القرن الجديد مفتقدة لأية توقعات، بعكس القرن الماضي.
من كان يتوقع، منذ شهور مضت، أن يُقدم الإرهابيون على ضرب البنتاجون ومركز التجارة العالمي، تاركين آلاف القتلى والضحايا؟ ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد.. ففي السنوات القادمة سنفاجأ بأعداء جدد، يهاجمون بطرق غير متوقعة. وبما أنهم سيكونون أكثر سيطرة وهيمنة على السلاح، فستكون الخسائر بالتالي فادحة، بل أكثر فداحة من خسائر 11 سبتمبر.
إن التحدي الذي نواجهه في هذا القرن الجديد إنما هو تحدٍّ صعب، بل في غاية الصعوبة. إنه يستلزم منا الدفاع عن بلادنا ضد كل ما هو غير معروف؛ ضد كل ما هو غير مضمون؛ ضد كل ما هو غير مرئي؛ ضد كل ما هو غير متوقَّع. وقد يتبادر للذهن، منذ أول وهلة، أن تدخل هذه المهمة في نطاق المستحيل.. ولكن الحقيقة غير ذلك. فكل ما علينا هو أن ننأى جانبًا عن "الأسلوب المريح" سواء في التفكير أو في التخطيط؛ وأن ننتهج بدلاً منه "الأسلوب غير المألوف" فنركب الصعاب ونخوض المخاطر، ونجرّب كل ما هو جديد حتى يتسنى لنا ردع أعدائنا، بل وهزيمتهم، من قبل حتى أن يظهروا علينا.
سحقًا للقديم
قبل أحداث 11 سبتمبر، كان القادة الأمريكيون، سواء في المجال المدني أو العسكري، منخرطين في خطة "معهودة" للدفاع. ولكن في ظل مراجعة تقرير الدفاع الأمريكي الذي يتم إعداده كل أربع سنوات، بدأت نظرتنا إلى البيئة الأمنية حولنا تصير أكثر إمعانًا وتركيزًا، وهو ما أوصلنا إلى ضرورة تبني إستراتيجية جديدة.
لقد قرَّرنا أن ننأى بأنفسنا عن منظومة "وجود قوتين أساسيتين على مسرح الحرب"؛ التي كانت تنادي إلى الحفاظ على قوتين عظميين للاحتلال، تتمكنان من اقتحام دولتين عدوتين في لحظة واحدة. ولا غبار على أن هذه الفلسفة قد نفعتنا نفعًا كبيرًا في فترة ما بعد الحرب الباردة؛ أما الآن.. فهي تشكل تهديدًا لنا؛ إذ تتركنا مستعدين استعدادًا فوق اللزوم تجاه صراعين محددين، بينما تتركنا على الوجه الآخر غير مستعدين تمامًا لأي من تحديات القرن الحادي والعشرين غير المتوقعة.
ومن أجل ضمان توافر الموارد التي تؤهلنا للتأقلم مع المستقبل، ومن أجل مواكبة التحديات الجديدة التي تهدد أمننا الداخلي، صرنا في أمسّ الحاجة إلى تقييم أكثر واقعية وأكثر اتزانًا لكل ما نحتاجه في حروبنا المستقبلية. فبدلاً من الحفاظ على قوتين للاحتلال، قررنا أن نركِّز أكثر على آلية الردع. كما قررنا الاستغناء عن قوة واحدة من القوتين، حتى نوفر جهودنا ومواردنا "للآخر" الذي هو في طريقه إلى التربص بنا.(19/469)
قرَّرنا كذلك هجْر الإستراتيجية القديمة القائمة على "التهديد"، تلك الإستراتيجية التي ظلت مسيطرة على خططنا الدفاعية لأكثر من نصف قرن.. والبدء في انتهاج اقتراب جديد قائم على "القدرات"، حيث يتصف الأخير بسياسة أقل تركيزًا على من يمكن أن يهددنا، أو أين، وأكثر تركيزًا على كيف يمكن أن يهددنا، وكيف يمكن أن نصده ونردعه.
وقد يشبهنا هذا الأمر بلصوص المنازل. فأنت لا تستطيع أن تعلم من الذي يريد اقتحام بيتك، أو متى سيقتحمه.. ولكن يمكن أن تعرف كيف يمكن أن يقتحم بيتك. فإذا علمت أن بإمكان اللص أن يسرق مفتاحك، فعليك على الفور أن تضع مزلاجًا صلبًا شديد الإحكام على بابك. وإذا علمت أن بإمكانه أن يقتحم النافذة فيكسرها، فعليك أن تضع آلة إنذار. وأنت تعلم بالطبع أنه من الأفضل منع اللص ووقفه من قبل أن يدخل إلى بيتك؛ ولذلك فأنت بحاجة ماسة إلى قوة أمنية، لتحرس المنطقة وتمنع الصبية الأشرار من الاقتراب.
والمنطق نفسه يمكن أن نطبقه على سياسة الدفاع القومي، فبدلاً من حشد القوات المسلحة، وإعداد الخطط لمحاربة هذه الدولة أو تلك، علينا أن نتجه إلى اختبار مواطن ضعفنا.. وأن نسأل أنفسنا، كما قال الملك فريدريك الأعظم في كتابه القواعد العامة للحرب، "ماذا كنت سأفعل لو وضعت نفسي مكان العدو؟". ومن ثَم، نؤقلم قواتنا كأحسن ما يكون، في سبيل التغلب على ذلك التهديد.
نعلم مثلاً أن القوة الأمريكية لا تضاهيها أية قوة في العالم، سواء في مجال الجو أو البحر أو الأرض؛ ولذا يكون من الغباء المفرط أن يتجه العدو المفترض إلى مبارزة الولايات المتحدة مباشرة في أي من تلك المجالات. ولقد أدرك أعداؤنا جيداً من خلال حرب الخليج أن تحدي قواتنا المسلحة لن يأتي عليهم إلا بالهلاك. ومن ثَم فبدلاً من أن يتجه أعداؤنا إلى إقامة جيوش وأساطيل منافسة، سيتجهون أكثر إلى الدخول في تحدٍّ غير متناسق؛ وذلك من خلال البحث عن مواطن ضعفنا، محاولين استغلالها بقدر الإمكان.
إن أعداءنا يعلمون جيداً أن الولايات المتحدة الأمريكية كمجتمع مفتوح تعتبر "هشّة" إلى درجة يمكن أن تعرضها لأشكال جديدة من الإرهاب. فهم مثلاً يشكون أن ممتلكاتنا الفضائية وشبكاتنا المعلوماتية قابلة للاختراق. وهم يعلمون أن اقتحامنا لأي ركن بعيد في العالم، إنما يعتمد على قواعد خارجية هشة. وهم على علم أيضًا بأنه ليس لدينا دفاع ضد الهجمات الصاروخية الباليستية، وهو ما يشجعهم على إيجاد أسلحة تدمير شامل، وإيجاد السبل لنقلها.
ومن هنا فإن علينا نغلق جميع المنافذ التي تمكّن الأعداء منا، وهو ما يحتم علينا إعداد أنفسنا لأنواع جديدة من الإرهاب، التي يمكن أن تتضمن التالي:
الهجوم على الممتلكات الفضائية الأمريكية، الهجوم الشبكي على شبكاتنا المعلوماتية، الهجوم على صواريخنا الباليستية وصواريخ الكروز، وأخيرًا الهجوم على الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. وفي الوقت نفسه، على الولايات المتحدة أن تهتم بتطوير المجالات التي تتميز فيها، مثل قدراتها الحربية في الفضاء والمعلومات، ودقة أسلحتها في الضرب، وقدرتها في استخدام حروب عسكرية بعيدة المدى.
إستراتيجية سداسية
قبل الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن، كنا قد أخذنا في قرارة أنفسنا، أنه من أجل الحفاظ على السلام والدفاع عن الحرية يجب على وزارة دفاعنا أن تحقق ستة أهداف إلزامية:
1) حماية الداخل الأمريكي، وحماية قواعدنا في الخارج.
2) الإبقاء على مستوى قوتنا في الأماكن البعيدة.
3) إفهام أعدائنا أنه ليس لديهم مأوى يحميهم منا؛ فيتأكدون أنه ليس هناك ركن، ولا جبل، ولا كهف سيمنعهم منا.
4) حماية شبكاتنا المعلوماتية من أي اختراق.
5) استخدام التكنولوجيا المعلوماتية لربط القوات الأمريكية المختلفة، وهو ما يؤهلها للقتال معًا في صف واحد.
6) الحفاظ على اتصال سهل وسلس بالفضاء الخارجي، وحماية قدراتنا الفضائية من أي هجوم غاشم.
وكانت تجربتنا في يوم 11 سبتمبر، وما تلاها من الحملة الأفغانية، حافزًا رئيسيًّا لنا لتحريك الدفاع الأمريكي في هذه الاتجاهات؛ ولهذا السبب تم تصميم ميزانية الدفاع لعام 2003م بناء على تقديم هذه الأهداف الستة، على أن تصاحبها زيادة واضحة في التمويل. فقد قمنا برفع حجم التمويل لكل من برامج التحديث التي تدعم التغيير والتطوير، وبرامج التنمية التي تمدنا بقدرات جديدة.
فعلى امتداد السنوات الخمس القادمة سنقوم بزيادة الإنفاق على الدفاع عن قواعدنا الداخلية والخارجية بمعدل 47%، وعلى المشاريع التي لن تمكّن العدو من الاحتماء بأي مأوى بمعدل 157%، وعلى البرامج التي تحمي التكنولوجيا المعلوماتية وتدعمها بمعدل 125%، على البرامج التي تخترق شبكات العدو المعلوماتية وتحمي شبكاتنا بمعدل 28%، وعلى البرامج التي تضمن اختراق قواتنا للمناطق البعيدة بمعدل 21%، وأخيرًا على البرامج التي ستدعم من قدراتنا الفضائية بمعدل 145%.(19/470)
في الوقت ذاته اقترحنا إبطال عدد من الأنظمة التي لا تتواكب مع إستراتيجية الدفاع الجديدة، مثل المدمرةDD-21، وبرنامج البحرية الصاروخي للدفاع، وصاروخ الحفاظ على السلام. كما قمنا بإلغاء الإمكانات التي تستلزم تكاليف ضخمة للإبقاء عليها، مثل مقاتلة F16، و1000 هليكوبتر تعود إلى وقت فيتنام. إن هدفنا ليس تغيير الجيش الأمريكي كله في غضون عام واحد، أو حتى خلال عقد من الزمان. فهذا ليس فيه حكمة أو ضرورة.
كيف نُغيّر الجيش؟
إن تغيير الجيش ليس بحدث، إنما هو عملية دائمة لا تتوقف. ومن ثَم فلن تتواجد أبدًا اللحظة التي نستطيع أن نعلن عندها أن القوات الأمريكية قد تم "تحويلها". إن التحدي الذي نواجهه حاليًا هو كيف ندافع عن مدننا وأصدقائنا وحلفائنا وقواتنا، وكذلك ممتلكاتنا الفضائية وشبكات حواسيبنا من أشكال هجومية جديدة؛ بينما نكون مستعدين لاستخدام قواتنا في أقاصي الأرض للقضاء على أعداء آخرين. وهذا يتطلب طبعًا قوات مشتركة قادرة على الوصول إلى أبعد المناطق وبسرعة فائقة، لتحطم الأعداء تحطيمًا، سواء في الجو أو في البحر. وهذا أيضًا يتطلب قدرًا عاليًا من الذكاء المعلوماتي الذي يستطيع أن يؤهلنا للتصدي لقدرات الأعداء.
إن دورنا لا يتمثل فقط في خوض الحروب وتحقيق النصر، إنما يتمثل في منعها من الأصل. وفي سبيل تحقيق ذلك علينا أن نفتش عن كل الطرق التي تؤثر في مؤسسة اتخاذ القرار لدى أعدائنا المفترضين، علينا أن نردعهم، ليس فقط عن استخدام الأسلحة الموجودة، بل عن تدشين أي سلاح جديد يكون أكثر خطورة مما سبقه. وكما أن تواجد أسطولنا الأمريكي يثني الآخرين عن الاستثمار في إيجاد أساطيل أخرى منافسة، فإن علينا بالمثل أن نطور ممتلكات جديدة تجعل عدونا يعدل تمامًا عن فكرة التنافس معنا.
فمثلاً تنمية دفاعات صاروخية فعَّالة يمكنها أن تثني الآخرين عن الإقبال على شراء الصواريخ الباليستية؛ لأن الأخيرة لن توفّر لهم ما يحتاجونه. وكذلك تدعيم أنظمة الفضاء الأمريكية يمكن أن يثني الأعداء المحتملين عن تطوير أقمار صناعية "مدمرة" للقضاء على شبكات الأقمار الصناعية الأمريكية. وأخيرًا فإن استخدام الأسلحة الخارقة للأرض (مثل التي استخدمت مؤخرًا ضد طالبان والقاعدة في أفغانستان) سيجعل اختباء الإرهابيين تحت الأرض أمرًا مستحيلاً.
وبالإضافة إلى بناء قدرات جديدة يتطلب التغيير العسكري أيضًا إعادة توازن القوات والقدرات المتواجدة على الساحة؛ وذلك من خلال التركيز أكثر على ما ينادي به البنتاجون: ممتلكات ذات "كثافة منخفضة/ طلب مرتفع". فمثلاً، أظهرت التجربة الأفغانية إلى أي مدى يمكن أن تكون "الطائرات بدون قائد" ذات فعالية عظمى، ولكنها أظهرت أيضًا ضعف هذه الطائرات ومدى افتقادنا لها. لقد أدركت وزارة الدفاع منذ حين افتقادها لعدد كبير من الطائرات بغير قائد، لوحدات الدفاع الكيميائية والبيولوجية، لإمكانات الدفاع الجوية. ولكن للأسف بالرغم من هذا النقص الواضح فإن الوزارة أجّلت وأخرت الاستثمارات المطلوبة، وانشغلت بدلاً منها بما هو أقل قيمة.. هذا لا بد أن يتغير.
وبما أننا سنغيِّر أولوياتنا الاستثمارية، فعلينا أن نبدأ بنقل التوازن في ترسانتنا النووية بين القدرات الإنسانية وغير الإنسانية، بين الأجهزة ذات المدى البعيد والأخرى ذات المدى القصير، بين الأجهزة الخفية وغير الخفية، بين الأجهزة الهشة وغير الهشة؛ ولا ننسى أن نحقق وثبة عالية في عصر المعلومات الذي يعتبر هو الأساس لكل جهودنا التحولية.
بعد 11 سبتمبر اكتشفنا أن مسئولياتنا الجديدة في الدفاع عن البيت الأمريكي استنفرت واستثارت ما نعانيه من نقص. لا يجوز لرئيس أمريكي أن يختار بين حماية المواطنين في الداخل، وبين حماية القوات الأمريكية عبر البحار. لا بد أن نفعل الاثنين معًا؛ ولذا فإن فكرة إحداث تحول عسكري في ظل تخفيض الميزانية، تعتبر فكرة خاطئة وغير صحيحة.
وبالرغم من أن تحولنا العسكري يتطلب خلق قدرات جديدة وتوسيع الترسانات الحالية، فإنه يتطلب أيضاً خفض مخزون الأسلحة غير الضرورية. فدولتنا لم تعد بحاجة إلى قوة ضخمة لصد قوات الاقتحام السوفيتي التي كانت منتشرة أثناء الحرب الباردة، فساعتها كان الأمن الأمريكي معتمداً على قوة نووية ضخمة في سبيل البقاء ضد الضربة السوفيتية الأولى. أما الآن فقد تغير أعداؤنا، ومن ثم تغيرت حسابات الردع. فالإرهابيون الذين هاجمونا في 11 سبتمبر، لم يُردعوا على الإطلاق.. لم تردعهم ترسانتنا النووية الضخمة. ومن ثم فعلينا أن نفكّر في سُبل جديدة لردع أولئك الأعداء.
ولهذا اتخذ الرئيس بوش اقتراباً جديداً للردع: اقترابا يجمع بين تخفيض حاد في القوات النووية وبين تطوير القدرات التقليدية والدفاعات الصاروخية لحماية الولايات المتحدة الأمريكية وأصدقائها وقواتها وحلفائها من أي هجمة صاروخية، حتى ولو كانت محدودة.(19/471)
وفي الوقت نفسه، بينما نحن نُخفض من عدد أسلحتنا في الترسانة النووية، فعلينا أن نعيد تحديثها مطورين بذلك أجهزة تقليدية جديدة تكون أكثر ملاءمة لردع الأعداء المحتملين. كما علينا أن نتأكد جيداً من فعالية أسلحتنا النووية ومصداقيتها.
ومن هنا.. يشكل هذا "الثلاثي الجديد" - الذي يشتمل على قوات نووية مُخفضة وقدرات تقليدية مُطورة، وعلى عدد من الدفاعات الجديدة المختلفة - نظرية ردعية جديدة. ولكن وصولنا إلى ذلك الثلاثي يتطلب منا اقتراباً جديداً لموازنة المخاطر. ففي الماضي كان الاقتراب القائم على التهديد يركز أساساً على المخاطر قريبة المدى. أما الآن فبناء جيش القرن الواحد والعشرين يتطلب منا موازنة جميع المخاطر القائمة؛ حتى نصير متأهبين للمخاطر الأقرب مدى.
لا بد أن نغير، ليس فقط قواتنا المسلحة، بل أيضًا وزارة الدفاع التي تسهر على خدمتها؛ وذلك من خلال تشجيع ثقافة الإبداع والتعامل مع المخاطر بحنكة وذكاء. لا بد أن نروِّج لاقتراب يشجع الناس على المبادرة وليس على رد الفعل.. على التعامل كرأسماليين مغامرين أكثر من بيروقراطيين مأمورين؛ على توقع المخاطر قبل ظهورها وإيجاد حلول لردعها، وليس انتظارها حتى تظهر.
وأخيرًا علينا أن نغير، ليس فقط إمكاناتنا وقدراتنا، بل نغير طريقة تفكيرنا في الحرب أيضا. تخيل ولو للحظة أنك استطعت العودة إلى الوراء زمانياً، فقابلت فارساً في محكمة الملك آرثر، وأعطيته M-16. فإذا أخذ السلاح، ورجع على فرسه، واستخدمه ليضرب به رأس عدوه.. فلن يُعد ذلك تحولاً. إنما يحدث التحول الحقيقي عندما يختبئ وراء شجرة ويبدأ في إطلاق النار. إن جميع الأسلحة التكنولوجية في العالم لن تفلح في تغيير القوات الأمريكية المسلحة إلا بعد أن يحدث تغيير مماثل في أسلوب تفكيرنا وقتالنا وممارستنا.
دروس حرب أفغانستان
البعض يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية - في خضم حربها الصعبة والخطيرة على الإرهاب - ليس لديها القابلية لتغيير قواتها المسلحة، على افتراض أن التوقيت غير مناسب. أما أنا فأعتقد أن العكس هو الصحيح. فالوقت الحالي هو أنسب وقت لإحداث تلك التحولات. إن أحداث 11 سبتمبر تخلق بقوة حالة الفعل.
في كل يوم جديد تواجه وزارة الدفاع متطلبات ضرورية قريبة المدى، مما يخلق ضغوطاً كبيرة علينا.. فنضطر في النهاية إلى تركها للمستقبل. ولكن 11 سبتمبر جاء ليعلمنا أن المستقبل يحمل في جعبته الكثير من المخاطر غير المعروفة؛ فيصير عدم استعدادنا لها هلاكاً لنا. والتحدي الذي يواجهنا هو أن الوقت يمرّ أمامنا؛ فلا نستطيع أن نُرجع عقارب الساعة إلى الوراء.
لقد أعدّ البنتاجون نفسه للمهمة. ففي عام واحد - 2001م - استطعنا أن ننتهج إستراتيجية جديدة للدفاع، فقمنا بتبديل هيكل الحرب الثنائية التقليدية باقتراب أكثر اتساقاً مع القرن الواحد والعشرين. لقد انتهجنا إستراتيجية جديدة لموازنة المخاطر، وأعدنا تنظيم البحوث حول الصاروخ الدفاعي وبرنامج الاختبارات، متحررين من قيود اتفاقية الصواريخ الباليستية المضادة. وأعدنا تنظيم الوزارة لتكون أكثر تركيزاً على القدرات الفضائية. كما انتهجنا اقتراباً جديداً للردع الإستراتيجي يقوم على زيادة نسبة الأمن مع تقليل اعتمادنا على الأسلحة الإستراتيجية النووية. كل ذلك فعلناه في أثناء حربنا ضد الإرهاب - وهذا ليس بداية سيئة أبدًا لوزارة مثل وزارتنا، من المفترض أن تكون شديدة الرفض للتغيير.
وطبعًا، في أثناء التغيرات التي يجريها البنتاجون لا يجب أبدًا أن نعتقد أن تجربتنا في أفغانستان هي النموذج للحملة العسكرية القادمة. فإعادة الحرب الأخيرة هي خطأ يتكرر على مر التاريخ العسكري؛ ومن ثَم يجب علينا تجنبه. ولكن بالرغم من ذلك، يمكننا أن نأخذ الكثير من الدروس والعبر من تجاربنا الأخيرة، والتي يمكن أن نستفيد منها للمستقبل:
أولاً: حروب القرن الحادي والعشرين ستستنفذ كل طاقة الدولة: اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا وتمويليًّا وقانونيًّا واستخباراتيًّا. وأخيرًا جميع العمليات العسكرية، سواء المعلن عنها أو غير المعلن عنها. وقد قال كلاوتسفيتز Clausewitz: "الحرب هي تكملة للسياسة من خلال أساليب أخرى". وفي هذا القرن معظم تلك الأساليب ليست عسكرية.
ثانيًا: إن قدرة القوات على التعامل والاتصال مع بعضها البعض على أرض المعركة سيصير عاملاً أساسيًّا للنجاح. ففي أفغانستان رأينا فرق القوات الخاصة الأمريكية تعمل يدًا بيد مع القوات الجوية، والبحرية.. من أجل تعريف الأهداف وضبط توقيت الضربات الجوية. إن الدرس من هذه الحرب يتلخص في كون فعالية القتال تعتمد أساسًا على "الاشتراك والتعاون"، بما يعني القدرة على تنسيق قدرات الفروع المختلفة داخل الجيش، وذلك في أثناء اشتعال الحرب. وتحقيق ذلك التعاون في وقت الحرب يتطلب أيضًا تحقيقه في وقت السلم. فلا بدّ أن نتدرب كما نحارب وأن نحارب كما نتدرب.(19/472)
ثالثًا: إن موافقتنا في هذه الحرب على قبول العون من أي دولة، والسماح للأخيرة بأن تحدد كيف ستكون مساعدتها (بدلاً من أن نكون نحن المحددين) تساعدنا على جني ثمرتين في نفس الوقت: زيادة مشاركة الدول الأخرى، وزيادة فعاليتنا ضد العدو.
رابعًا: الحروب يمكن أن تستفيد من تحالف النوايا والإرادات؛ ولكنها لا يجب أبدًا أن تُحارب عن طريق اللجان. فالمهمة هي التي يجب أن تحدد التحالف، وليس العكس.
خامسًا: إن الدفاع عن الولايات المتحدة يتطلب المنع.. منع الخطر. فمن المستحيل أن نقوم بمدافعة كل تهديد، في كل مكان وفي كل لحظة. إن المدافعة ضد الإرهاب والمخاطر الأخرى تتطلب منا أن نذهب بالحرب إلى العدو. ففي بعض الأحيان يصير أفضل دفاع هو الهجوم الفعَّال.
سادسًا: لا بد أن يفهم العدو جيدًا أننا سنستخدم كل حيلة وسنستنفذ كل فرصة للقضاء عليه.. وأننا على استعداد كامل بأن نقدم كل التضحيات الممكنة والضرورية من أجل تحقيق النصر.
سابعًا: إن جلب القوات الخاصة الأمريكية على أرض المعركة مبكراً - وبطريقة درامتيكية - يزيد من كفاءة الحملة الجوية. فأفغانستان أظهرت لنا أن القنابل الملقاة من السماء تكون أكثر فعالية إذا كنا ملازمين للأرض.. لكي نعطي للمُفجرين التوجيهات اللازمة لأماكن القصف وتحديدها بالضبط.
وأخيرًا: كونوا صرحاء مع الشعب الأمريكي، أخبروهم بالحقيقة وإذا لم تستطيعوا إخبارهم بأمر فقولوا لهم إنكم لا تستطيعون. إن الشعب الأمريكي يدرك جيدًا ما الذي نحاول تحقيقه وما الذي نحتاجه لإنجاز ما نرنو إليه، وأن ذلك لن يكون بالأمر الهين، وأنه سيكون هناك ضحايا. ولا بد أن يعرف جيدًا أنه مهما كانت الأنباء سيئة فسنخبرهم بالحقيقة. فالتأييد الشعبي لا بد أن يكون مزروعًا في أرض الثقة والفهم والهدف المشترك.
إن رجالنا ونساءنا في زيهم الوطني يقومون بمهمة عظيمة في حربهم ضد الإرهاب. فنحن نقدر مجهوداتهم ونفخر بهم. وأفضل طريقة لنريهم من خلالها تقديرنا لهم، هي أن نتأكد من توفر كل الموارد والقدرات لديهم التي لا تؤهلهم فقط لكسب الحرب الحالية، بل تؤهلهم أيضًا إلى ردعها إذا استدعى الأمر ذلك، والقضاء على الطغاة الذين سنواجههم حتما في هذا القرن الخطير.
==============(19/473)
(19/474)
شرطي العالم المتجول في عصر العولمة
14/07/2002
…د. أسامة القفاش-القاهرة **
بوش.. هل ينجح في أن يكون مارشال العالم الجديد؟
في مقال له منشور في مجلة "شئون خارجية" Fo r eign Affai r s عن الإستراتيجية الأمريكية في عدد شهر يونيو 2002، بعنوان "تغيير العسكرية" كتب دونالد رامسفيلد يقول: "عندما اختارني الرئيس جورج دبليو بوش للعودة إلى البنتاجون بعد أن تركته بخمسة وعشرين عاما، وطالبني بأن أجدد إستراتيجية الدفاع كان يعرف أني من محبي الزمن القديم. وأشك أنه كان يظن ولو للحظة أني سأعيد الفرسان. ولكن هذا بالتحديد هو التجديد الذي أعنيه".
هنا لا يسعني إلا أن أتذكر حلقة أمريكية من حلقات "ميستري موفي" Myste r y Movie من بطولة الشرطي المتجول ماكلويد. حيث يدخل المارشال -وهو الشرطي المتجول عبر الولايات على ظهر جواده، في مقابل "الشريف"، وهو شرطي البلدة المستقر- نيويورك بأبراجها وناطحات السحب فيها على ظهر جواده ليقر الأمن فيها ويحل غموض جريمة أقضت مضجع رجال أمنها.
الصورة التي كان يعنيها رامسفيلد هي صورة هجوم رجال القوات الخاصة الأمريكية على صهوات الجياد لاقتحام مواقع قوات الطالبان في "مزار الشريف". كانت القوات الخاصة الأمريكية تقود الهجوم وكان رجال التحالف الشمالي يهجمون. وكان هذا هو الحال نفسه مع ماكلويد، يقود العمليات على ظهر جواده ويقوم رجال الأمن في بنيويورك بتنفيذ خططه.
هذا هو التجديد الذي يريده رامسفيلد في عصر العولمة. دور المارشال المتجول في كل أنحاء العالم الذي يحافظ على الموارد الأمريكية في أراضي الغير، ويدافع عن المصالح الأمريكية، خصوصا عندما تتعارض مع مصالح هؤلاء الذين وضعتهم الظروف على الأرض التي تحتوي تلك الموارد.
كيف ولماذا حدث هذا التغيير؟
كيف تقودنا أمريكا إلى التاريخ وما يسمى العقد الفيتنامية؟ إن تاريخ التدخلات الأمريكية المباشرة الذي وصل ذروته مع حرب فيتنام يقدم لنا دروسا عدة، أهمها أن التدخل لا يجب أن يؤدي إلى تذمر في الداخل، وإلا فلن يحقق الحد الأقصى من أهدافه، وتلك خسارة كبيرة. العقدة الفيتنامية لا تعني أنه تدخل خاطئ، لأن التدخل كسياسة ليس موضع تساؤل من الأساس. إنما نعني أنه يجب تقليل حجم الخسائر البشرية وإخفاء الأمر عن الجمهور الأمريكي، وتهيئته لقبول التدخل بشكل أو بآخر. ولقد كان رامسفيلد صريحا عندما قال عن نفسه إنه من "محبي الزمن القديم" فالتجديد الذي يتكلم عنه يعود في الواقع إلى ربع قرن مضى تقريبا منذ أيام ريجان. كانت حكومة ريجان هي أول حكومة أمريكية تقر التعامل مع "فيتنام" (العقدة وليس البلد) باستخدام الأساليب السابقة:
-كيف يمكن تقليل حجم الخسائر البشرية بالاعتماد على القصف الجوي وباستخدام قوات محلية؟ وهذا ما حدث في نيكاراجوا (الكونترا).
-كيف يمكن إخفاء الأمر عن الجمهور الأمريكي؟ التمويل عن طريق ملتو وبطرق غير مباشرة (فضيحة أوليفرنورث).
-كيف يمكن تهيئة الجمهور الأمريكي بزرع الخوف من عدو وهمي؟ (الإرهاب الدولي- إمبراطورية الشر).
ماذا قدم رامسفيلد في هذا الصدد؟ لا شيء إلا استخدام سلاح الفرسان!! وإن هذا يعني الوصول بالسياسة إلى ذروتها!! الاعتماد على المحليين والتكنولوجيا العالمية. ولتهيئة الجمهور الأمريكي ديباجات الحرية وحقوق المرأة وقهر الإرهاب.
والاعتماد على المحليين واستخدام التكنولوجيا العالمية ليس أمرا حديثا أيضا، فهذا ما حدث في كوريا وفيتنام، المشكلة كانت في حجم القوات الأمريكية ومدى تقدم الأسلحة، وهو التجديد الذي يقصده رامسفيلد، لم يعد الكم هو المهم، ولكن الدور الذي تلعبه تلك القوات لعدة أسباب:
1- تقليلا للخسائر البشرية.
2- تقليلا للتكلفة المادية.
3- الابتعاد قدر الإمكان عن حدوث ردود أفعال جماهيرية مؤثرة في الولايات المتحدة.
مارشال الولايات المتحدة المتحرك عبر العالم هو الدور الذي يلعبه الآن الجندي الأمريكي. إنه ليس قوة احتلال، ولكنه قيادة القوة المحلية. هذا ما حدث في العراق والبوسنة وأفغانستان وهو المطلوب حدوثه في المنطقة العربية ومع العراق وفي فلسطين.
هناك أمر آخر مهم في مسألة استخدام التنمية العالمية، وهو يلقي الضوء على "لماذا". ببساطة لأنها مكلفة أي إنها عالية التكاليف وتمثل عبئا على دافع الضرائب، ولكنها تمثل أرباحا طائلة للشركات الكبرى وهي الشركات التي تمول الحملات الانتخابية وتختار الرؤساء والحكومات.
هذه الشركات هي التي تتعرض الآن للفضائح المالية الكبرى مثل إنرون وزيروكس وورلدكوم وإندرسون وغيرها. هذه الفضائح تطال الإدارة ذاتها فتصلنا الأنباء عن تورط بوش في فضائح مالية إبان فترة رئاسته ولاية تكساس، وكذلك مقاضاة تشيني والكلام عن توم ريدج مسئول الأمن الداخلي الذي أحضره بوش بعد 11 سبتمبر.(19/475)
لقد انخفض مؤشر داوجونز إلى ما تحت 9000 نقطة لأول مرة منذ ما يربو على عامين، والدولار يتراجع بشكل مخيف، حتى إن بوش يلقي خطابا في بورصة نيويورك ليطمئن المستثمرين، والكونجرس يصدر قانونا بتشديد العقوبات على التلاعب في ميزانيات وأرباح الشركات. ورغم أن المحللين الاقتصاديين كانوا يتوقعون هذه الأزمة، فإن حل الأزمة عند الحكومة الأمريكية كان دائما وأبدا هو "حل القوة"، وهو المنطق الذي اعتمد عليه رامسفيلد حين قال: "طوال نصف قرن تقريبا كانت خلطة الإستراتيجية والقوة والقدرات هي التي أتاحت لنا الحفاظ على السلام والدفاع عن الحرية". وحل القوة يتطلب إقناع الجمهور الأمريكي الذي يمثل مشكلة دائما، خصوصا بعد المكاسب المذهلة التي تحققت بعد حركات الحقوق المدنية في الستينيات. إقناع الجمهور يعتمد دائما على منطق الخوف. ويضيف رامسفيلد: "علينا أن نتوقع أنه في الأعوام المقبلة سنواجه أعداء جددا، وسيكون علينا أن نتوقع منهم ضربات غير متوقعة". الخوف من المجهول هو الوسيلة التي تعتمد عليها الحكومة الأمريكية لإقناع الجمهور أو إرهابه في الواقع لرفع ميزانيات الدفاع لتحقيق ما أسماه رامسفيلد "الإستراتيجية المتغيرة ذات الأهداف الستة".
ما هي تلك الإستراتيجية؟
1- حماية الأراضي الأمريكية والقواعد الأمريكية في الخارج. أي بصريح العبارة "الحفاظ على مواردنا في أراضيهم" كما قال روبرستون من قبل.
2- إظهار القوة والحفاظ على هذا المظهر في الأراضي البعيدة. أي سياسة "العين الحمراء" أو الردع قبل التفكير في الجريمة، كما صرح من قبل رامسفيلد في معرض تبريره للمعاملة غير الإنسانية الرهيبة التي يلقاها المعتقلون في جوانتانامو.
3- حرمان "أعدائنا" من الملاذ الآمن، و"التأكد أنهم يعرفون أنه لا يوجد ركن في الأرض يبعد عن قبضتنا، ولا جبل يعلو على طيراننا، ولا كهف يصعب علينا ارتياده، ولا راحلة تحملها بسرعة لا نستطيع الوصول إليها". وبعيدًا عن البلاغة الرامسفيلدية فإن "غطرسة القوة" التي تمثل أيدلوجيا المجموعة الحاكمة في أمريكا الآن تبدو واضحة جلية. لا يوجد مكان في الأرض يبعد عن قبضة الشرطي المتجول المدجج بالسلاح. حتى ولا الفضاء كما في فيلم "رعاة البقر في الفضاء". وهي السياسة التي تطبقها الحكومة الأمريكية الآن بكل دقة.
4- حماية شبكات المعلومات من الهجوم.
5- استخدام تقنية المعلومات للربط بين الأسلحة المختلفة بحيث تحارب بتضامن معا.
أي إن البندين السابقين يتحدثان بوضوح عن كيفية تعظيم الاستفادة من التكنولوجيا العالية، وهو الأمر الأكثر جلاء في البند السادس ألا وهو الحفاظ على السيطرة التامة على الفضاء وحماية "قدراتنا" الفضائية من هجوم الأعداء.
ويخبرنا رامسفيلد بالزيادة في الإنفاق الحكومي على هذه الإستراتيجية ذات الأهداف الستة التي تراوحت بين 27-145% أي بمتوسط يصل إلى 85% زيادة يتم التركيز بها على التسلح وزيادة العنف. في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة الأمريكية المساهمة في برامج مكافحة الإيدز على مستوى العالم!! هذه الزيادات والإستراتيجيات الجديدة لم تكن لتحدث في إطار معاهدات الحد من الأسلحة النووية والإستراتيجية مثل "سولت1"، و"سولت2" ولذا كانت خطوة بوش المهمة في إلغاء هذه المعاهدة، التي يفخر بها رامسفيلد كثيرا ويخبرنا أنها حررت الولايات المتحدة من كل القيود.
سياسة الذراع الطويلة
التحرر من القيود الدولية يشكل جزءًا هاما من الإستراتيجية، فالولايات المتحدة لم توقع على اتفاقية تكوين المحكمة الجنائية الدولية، وترفض تمديد فترة عمل قوات حفظ السلام في البوسنة ما لم تحصل على ضمانات بعدم محاكمة الجنود الأمريكيين المشتركين في أي قوة لحفظ السلام في العالم، أي حصانة كاملة للجنود الأمريكيين وهي ما حصلت عليه من مجلس الأمن. فالشرطي المتجول قد يضطر أحيانا إلى استخدام العنف "وجل من لا يخطئ" للوصول للأهداف العظيمة والسامية التي انطلق من أجلها على جواده!!
المذهل أن الكونجرس الأمريكي يناقش مشروع قانون يتيح للقوات الأمريكية حق التدخل لإنقاذ أي جندي أمريكي قد يتهم ويُحتجز في هذه المحكمة. أي مشروع قانون يتيح غزو أمريكا لهولندا حيث تقع المحكمة.
لم تمر تلك التصرفات الأمريكية "مرور الكرام" فقد أعلنت فرنسا مؤخرا قرارها بالانسحاب من القوة الدولية العاملة في أفغانستان لتعذر التعامل مع القوات الأمريكية، مبقية فقط على طائرات الميراج 2000. أيضا احتجت دول العالم كافة على الموقف الأمريكي الذي يريد لَيّ ذراع الأمم المتحدة برفض تمديد قوات حفظ السلام في البوسنة إلا بعد منح الجنود الأمريكيين الحصانة.
يعتمد التدخل الأمريكي في كل الأحوال هنا على فكرة "الذراع الطويلة" بمعنى أنه لا يجب تقصير القدرات الحربية الأمريكية لأنها تدافع عن أمن العالم، رغم أن العالم لا يريد هذا الدفاع.
كيف نتعامل مع هذا المنطق؟(19/476)
الحقيقة أن الحكومة الأمريكية الحالية تمثل أكثر الحكومات وضوحا بصدد الإعلان الصريح عن سياستها، وتعبيرها الصريح عن تمثيلها لمصالح مجموعات الشركات الكبرى، ومن ثم يمكننا اعتبار هذه الحكومة أكثر الحكومات التي يمكننا التعامل معها، فلا مجال هنا للحديث عن كيل بمكيالين، أو تعبير عن ديباجات لا معنى لها.
نحن نتعامل مع منطق واضح وصريح "سنحمي مصالحنا بالقوة في أي مكان"، وهو منطق الإمبراطوريات في كل العصور. كيف يمكننا التعامل مع هذا المنطق؟ هذا هو السؤال الحاسم، بمعنى آخر: إن كلمات رامسفيلد الأخيرة تنطبق تماما علينا. "علينا أن نخبر الناس بالحقيقة، وعندما لا نستطيع أن نخبرهم بشيء ما فعلينا أن نقول لهم هذا".. التغير يبدأ بنا قبل أن نطلب التغير من الآخر. وإذا كان بوسع القوي أن يكون صريحا، فمن الضروري على الضعيف أن يكون صريحا مع ذاته أيضا.
==============(19/477)
(19/478)
من وثائق الكونجرس.. خطة احتلال منابع النفط
7/2/2001
لواء/ دكتور زكريا حسين
أستاذ الدراسات الإستراتيجية
المدير السابق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا - القاهرة
في ليلة 17/18 من يناير الحالي تمرّ عشرة أعوام على بداية العملية الهجومية "عاصفة الصحراء" التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على رأس ائتلاف عسكري دولي شاركت فيه قوات عسكرية لـ 33 دولة عربية وإسلامية وأوروبية. وقد انتهت العملية العسكرية صباح 28 فبراير عام 1991 بإلحاق هزيمة ساحقة للقوات العراقية.
اقرأ في هذا الموضوع:
*
الذكرى العاشرة للحرب
*
فكرة "تأمين منابع النفط"
*
إستراتيجية استخدام القوة المسلحة
*
حجم القوة المقترحة لإدارة العلميات في الخليج
الذكرى العاشرة للحرب
وفي مناسبة الذكرى العاشرة لهذه الحرب أثيرت قضيتان هامتان:
أولاهما: استخدام قنابل اليورانيوم المستنفد بكمية وصلت حتى 340 طنًّا في هذه الحرب. وقد قدر العالم الإنجليزي "روجر كوجين" أنها سوف تتسبب في إصابة عدد يصل إلى عشرة آلاف فرد بأمراض سرطان الرئة وسرطان الدم، إلى جانب العديد من الأمراض الأخرى، حيث يحتوي المليجرام من اليورانيوم على 2 مليار ذرة، الأمر الذي دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالمطالبة بتكوين لجان متخصصة لمسح أماكن العمليات الحربية التي استخدم فيها هذا السلاح، وإجراء التحاليل الطبية للأفراد الذين تواجدوا في مواقع الإطلاق. وذلك بعد أن أثبت علماء الطاقة الذرية أن هذه الأسلحة تدخل ضمن أسلحة الدمار الشامل؛ وذلك لشدة فتكها بالبيئة وأوجه الحياة على الأرض لفترات قد تتجاوز عشرات السنين.
ثانيهما: نشر دراسات ووثائق أعدتها مكتبة الكونجرس الأمريكي، إضافة إلى تقارير أعدتها وزارة الدفاع الأمريكية عن المحاولات الأمريكية السابقة لغزو الخليج العربي، وقد قام الدكتور "أنتوني كوردسمان" بنشرها كاملة في كتابه "الخليج والغرب" الذي صدر في لندن مع مطلع الألفية الجديدة. ولعل أهم الدراسات في هذا المجال تلك التي قام بها "توماس مورجان" - الذي عُيِّن على رأس لجنة فرعية - لدراسة احتمال القيام بعمل عسكري ضد دول منتجة للنفط في حالة فرضها حظرًا نفطيًّا، وتقييم الخيارات المتاحة أمام السياسية الأمريكية في نشوب مثل هذه الأزمة. وقد قدمت الدراسة إلى لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي في 5 أغسطس 1975
ولعل نشر التقرير السنوي لوزارة الدفاع الأمريكية عن السنة المالية 1976 - والذي قدمه "جيمس شليزنجر" وزير الدفاع الأمريكي في ذلك الوقت - يُعَدُّ من أخطر الوثائق التي توضح تفصيلاً الإستراتيجية العسكرية الأمريكية لتأمين منابع النفط الخليجية. وفي هذا المقال عرض لأهم ما تضمنته هذه الوثائق؛ والتي تم إعدادها منذ عام 1975، وتواكب نشرها والإعلان عنها مع الذكرى العاشرة لبدء عملية تحرير الكويت "عاصفة الصحراء". ولعل طرح هذه الوثائق في هذا التوقيت يفسّر الكثير من توجهات السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط بصفة عامة ومنطقة الخليج بصفة خاصة. هذا ويشمل طرح هذه الوثائق على الآتي:
1.
فكرة تأمين منابع النفط.
2.
إستراتيجية استخدام القوة المسلحة.
3.
حجم القوة المقترحة لإدارة العمليات في الخليج.
فكرة تأمين منابع النفط
طرحت فكرة تأمين منابع النفط في الخليج باستخدام القوات المسلحة الأمريكية في أعقاب الاستخدام السياسي للنفط في حرب أكتوبر 1973… حيث كان للحظر على مبيعات النفط - الذي قررته دول الخليج - انعكاساته الحادة على السياسات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية واليابانية فيما عرف باسم "إستراتيجية الخنق"؛ حيث اجتمع وزراء البترول العرب في دولة الكويت في 17 أكتوبر 1973، وتم الاتفاق على تخفيض الإنتاج الكلي للبترول العربي بنسبة "5%" فورًا، مع زيادة التخفيض بنسبة "5%" شهريًّا حتى تنسحب إسرائيل إلى خطوط ما قبل 4 يونيو 1967.
هذا إضافة إلى قرار ست دول بترولية برفع سعرها بنسبة "70%"، كما قررت بعض الدول العربية حظر تصدير البترول كلية إلى الدول التي يثبت تأييدها لإسرائيل بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان من الطبيعي أن تُتخذ الإجراءات المضادة لمنع تكرار مثل هذه الإستراتيجية مرة أخرى، حتى لو أدى الأمر إلى استخدام القوة المسلحة الأمريكية بغزو منابع النفط. وقد تبلورت هذه الإستراتيجية خلال عدة دراسات قامت بها لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي ووزارة الدفاع الأمريكية. وقد طرحت الدراسات العديد من الخيارات المتاحة أمام السياسية الأمريكية في حالة نشوب مثل هذه الأزمة.(19/479)
ولعل أهم ما يثير الدهشة عند استقراء وثائق الكونجرس الأمريكية لتأمين منابع النفط والتي تم إعدادها عام 1975، أن رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية قد ساهموا بحماس شديد في وضع هذه الإستراتيجية موضع التنفيذ، فقد قام الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" بوضع نواة وهيكل بناء قوة الانتشار السريع الأمريكية اللازمة لوضع هذه الإستراتيجية موضع التنفيذ، وساهم الرئيسي الأمريكي "رونالد ريجان" بالجزء الأكبر من بنائها والتخطيط لاستخدامها، وقام الرئيس الأمريكي "جورج بوش" بالاستخدام الإستراتيجي المخطط لها في عمليات الحشد العسكري في الخليج، والدفاع عن المملكة العربية السعودية فيما أطلق عليه بعملية "درع الصحراء"، ثم أدار ببراعة بناء حشد عسكري - إلى جانب هذه القوة الأمريكية - شارك فيه قوات تابعة لـ"33 دولة" لتنفيذ العملية الهجومية "عاصفة الصحراء" بهدف تحرير الكويت، ثم استقر وضع هذه القوات في تمركز دائم بقوات عسكرية، سواء داخل دول شرق أوسطية - "تركيا وإسرائيل" - أو دول خليجية، وقد حدث ذلك في عهد الرئيس الأمريكي السابق "بيل كلنتون".
ولعل القراءة المتأنية لهذه الوثائق - التي تواكب الإعلان عنها مع ذكرى العاشرة لتحرير الكويت - تشير إلى أن الرئيس العراقي "صدام حسين" بغزوه لدولة الكويت قد هيَّأ أنسب الطرق لتنفيذ الإستراتيجية الأمريكية لتأمين منابع النفط، كما أوجد المبرر المناسب لاستمرار تواجد وانتشار هذه القوة وتنامي مجموعها، واتساع نطاق مهامهما الإستراتيجية - ليس فقط لتأمين منابع النفط - بل لحماية المصالح الأمريكية بشكل عام في منطقة الشرق الأوسط.
إستراتيجية استخدام القوة المسلحة
لقد تحدد الهدف الإستراتيجي لاستخدام القوة المسلحة الأمريكية - بعد دراسة العديد من الاختيارات الأخرى - للاستيلاء على منطقة حقول النفط الرئيسية الواقعة بالمنطقة الشرقية الممتدة بمحاذاة الخليج الفارسي، وتأمين تدفق أهم حقول النفط السعودية والتسهيلات المصاحبة لها، والاحتفاظ بها أو السيطرة غير المباشرة عليها.
هذا وتشمل منابع النفط والتسهيلات المصاحبة لها "أربعة حقول" نفطية متفرقة ونقاط الاختناق في مناطق "دارعين، وبقبق، والظهران، والقطيف"، إضافة إلى "مجمع رأس تنورة، وجويمة، وميناء الدمام، وقاعدة الظهران الجوية، ومضيق هرمز".
وقد ساعد على إعطاء أولوية عالية لاختيار هذا الهدف - دون غيره - عدة اعتبارات، منها: أولاً؛ أن المنطقة الشرقية الواقعة بمحاذاة الخليج الفارسي تضم واحدًا من ثلاثة تجمعات سكانية في المملكة العربية السعودية، ويبلغ عدد سكان المدن الأربعة الموجودة بها (100 ألف نسمة) فقط. وثانيًا؛ أن التجهيزات المادية المصاحبة للإنتاج البترولي السعودي بهذه المنطقة عالية جدًّا، حيث يبدأ إنتاج الحقول الرئيسية من "544" بئرًا عاملة؛ كل منها يصب "12" ألف برميل يوميًّا في المتوسط. وثالثاً؛ أن معظم هذه الآبار تتدفق من تلقاء ذاتها، حيث يقوم ضغط الطبقات الأرضية التحتية بدفع مزيج من الغاز والنفط إلى السطح. ورابعًا؛ أن البترول الخام يتجمع من جميع الحقول في "رأس تنورة" عن طريق خط أنابيب يبلغ طوله "ألف ميل"، حيث تعتمد شبكة الأنابيب على 75 محطة ضخ منتشرة في أماكن مختلفة. وخامسًا؛ أنه توجد ست محطات ضخمة لتوليد الطاقة الكهربائية اللازمة لتوفير القوة الدافعة للنفط في الأنابيب.
كما تحقق محطات الشحن التي تخدم كل حقول النفط السعودية لمسافة 50 ميلاً فقط لمحاذاة الخليج بين رأس تنورة والخبر، ويتم تخزين النفط الخام والمنتجات البترولية المكررة - انتظارًا لشحنها - في أربع مناطق تخزين بها صهاريج ضخمة، في كل من بقيق والظهران ورأس تنورة ومجمع الميناء في جويمة؛ والذي يوجد به 14 حاوية ضخمة كل منها يبلع ارتفاعها 72 قدمًا وقطرها يصل إلى 352 قدمًا. وتستوعب كل واحدة منها مليون وربع المليون برميل بكافة استيعاب إجمالية تصل إلى 22.5 مليون برميل… مما يجعل إمكانية القيام بأعمال تخريب ضدها بالشحنات الناسفة التقليدية إمكانية ضخمة جدًّا تصل إلى حد استحالة تنفيذها.(19/480)
ولقد كان من أبرز عوامل تعزيز هذا الهدف أن النفط كان يشكل في ذلك الوقت 46% من جميع أشكال الطاقة التي كانت تستهلكها الولايات المتحدة الأمريكية؛ وأن الحرب الاقتصادية التي يُعَدّ الحظر النفطي أبرز صورها يمكن أن تهدد معظم المجتمعات المدنية بنفس الدرجة التي تهددها بها "الأسلحة النووية". وإذا حدث نقص خطير من الطاقة - نتيجة لعقوبات اقتصادية تفرضها دول غير صديقة - فإن على الولايات المتحدة استغلال ثلاثة بدائل أخرى: أولها؛ استخدام المخزون الإستراتيجي الأمريكي لتعويض النفط، والذي بلغ إجمالي هذا المخزون من النفط الخام المخصص للأغراض المدنية (225 مليون) برميل في أكتوبر 1974. وقد كانت الواردات في هذا الشهر تقدر بـ (3.9 مليون) برميل يوميًّا، وهذا الاحتياطي يكفي لمدة 65 يومًا فقط إذا توقفت جميع الواردات. والبديل الثاني؛ يتمثل في زيادة الإنتاج الأمريكي من النفط، وهذا البديل لا يحقق سوى زيادة مباشرة ضئيلة، لا تكفي كل المتطلبات من الطاقة. أما البديل الثالث فهو خفض معدلات الاستهلاك، الأمر الذي يمكن أن يعرض نمط الحياة الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية للخطر.
وعلى ضوء ذلك، فإن العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تفرضها الدول العربية المنتجة للنفط على الولايات المتحدة قد يلحق الفوضى بالأوضاع الداخلية الأمريكية، كما يمكن أن تؤدي عمليات الحظر النفطي الجدية إلى تمزيق أوروبا الغربية واليابان التي يُعَدّ اعتمادها على البترول في ذلك الوقت أكبر بكثير من اعتماد الولايات المتحدة عليه. وبهذا النحو، فإن قيام الدول المنتجة للنفط بفرض عقوبات حادة ستصيب المصالح الحيوية بهذه البلدان في مرحلة مبكرة جدًّا. كما ستخنق اليابان ودول حلف شمال الأطلسي؛ وبالتالي ستعاني المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية من جراء ذلك بالتبعية.
ذلك ما انتهت إليه جلسات الاستماع للجنة الفرعية للسياسة الاقتصادية الخارجية التابعة للجنة الشئون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي حول تبعات السياسية الخارجية على أزمات الطاقة، والذي صدر عن مكتب الطباعة الحكومية الأمريكية في إبريل عام 1974.
وعلى ضوء ذلك، فقد تحددت المهام العسكرية - التي يمكن أن تكلف بها قوات الغزو لتأمين مصادر النفط - بالاستيلاء على عدد كاف من الحقول والمنشآت النفطية في حالة سلمية تمامًا، مع الاستعداد لتأمينها لفترة طويلة نسبيًّا. وأن تكون مجهّزة بعناصر الإصلاح المتخصصة والمعدات اللازمة لإصلاح الموجودات والممتلكات التي تكون قد تعرضت للدمار بسرعة؛ مع قيامها باتخاذ الإجراءات اللازمة لتشغيل المنشآت النفطية التي قد تتعرض للدمار دون مساعدة من دول الأوبك.
هذا وقد تعرضت الدراسة المشار إليها إلى حجم التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها القوات المخصصة لتنفيذ المهمة… حيث انتهت إلى أنها يمكن أن تواجه مقاومة مسلحة محدودة على ضوء الإمكانيات القتالية المتواضعة المتوفرة لهذه القوات. ومن أمثلة ذلك: أن تقوم بمحاولة منع السفن الأمريكية من الملاحة في المياه الإقليمية، أو قيامها بشن حرب عصابات بهدف تخريب الموانئ والمطارات والمنشآت النفطية، أو شن حملات إرهابية ضد المصالح الأمريكية في بعض الدول الأجنبية، أو أن تبادر بالاستسلام من أجل التوصل إلى تسوية باعتبار أن القوات المسلحة الخليجية مجتمعة أو منفردة تعتبر قليلة من حيث الكم أو الكيف، إذا ما قورنت بالقوات المسلحة التي تملكها الولايات المتحدة وحلفاؤها من القوى الكبرى.
كما تمت دراسة الإمكانيات السوفييتية للتدخل المضاد باعتبارها القوة العظمى التي يمكن أن تواجه الولايات المتحدة في إطار الحرب الباردة التي كانت دائرة بينها في هذا الوقت… وقد أشارت الدراسة بأن الكرملين سيختار أن يقف موقف المتفرج، أو أن يتدخل بشكل غير مباشر في أسوأ الحالات. هذا إلى جانب التعرض لسلسلة من التصعيد السوفييتي يتدرج في شن هجوم دعائي أو زيادة الدعم العسكري للدولة التي وقع عليها "الغزو" من الدول الخليجية؛ أو تدبير استعراضات للقوة بالقرب من مناطق عمليات الولايات المتحدة الأمريكية أو في أي مكان آخر؛ أو القيام بعمليات إغارة على مناطق عمليات الولايات المتحدة وحلفائها أو في الطريق الموصل إليها. وهذا لا ينفي احتمال شن ضربات جوية ضد المنشآت النفطية أو الاشتباك في قتال بحري في منطقة العمليات أو التصعيد العام، والذي قد يصل إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية وهو أسوأ الاحتمالات على إطلاقها. كما أن احتمال لجوء السوفييت إلى الأعمال الانتقامية النووية بعيد إلى حد كبير. كما وأن الزمن والمسافة والطبيعة الجغرافية الوعرة لهذه المنطقة من أراضي المملكة العربية السعودية تجعل من التدخل المباشر من جانب الجيش الأحمر خيارًا غير مرجح الحدوث.
القوة المقترحة لإدارة العمليات(19/481)
لقد زادت المخاوف الأمريكية من التهديد الإيراني "للخليج"، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" للإعلان في 23 يناير 1980 - في خطاب له أمام الكونجرس الأمريكي - عن نظرية أمن صريحة بالنسبة لمنطقة الخليج تضع كافة الدراسات والوثائق والمناقشات التي تمت - سواء في لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي أو في جلسات الاستماع للجنة الفرعية للسياسة الاقتصادية الخارجية التابعة للجنة الشئون الخارجية بنفس المجلس - موضع التنفيذ؛ والتي عرفت بمبدأ كارتر، الذي ينطوي على شقين… أحدهما شق سياسي، أعلنه الرئيس كارتر رسميًّا؛ فقال: "إن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في المنطقة الخليج سوف تعتبر في نظر الولايات المتحدة هجومًا على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما فيه القوة المسلحة".
أما الشق الثاني، فهو تكملة عسكرية للإعلان السياسي. وقد تمثلت في إنشاء ما يسمى "قوة الانتشار السريع" من خلال تقرير قدمته وزارة الدفاع عام 1988 إلى لجنة القوات المسلحة في الكونجرس، أعدت على أساسه ميزانية هذه القوات لتلك السنة؛ وقد وقف الجنرال كولين باول - رئيس هيئة أركان الحرب المشتركة للقوات المسلحة الأمريكية - يدافع عنها أمام لجنة العلاقات الخارجية في أول مارس 1990، حيث قال: "يجب أن ننظر إلى التاريخ وإلى الحوادث الجارية وعيوننا على المستقبل، ومهما كانت الظروف فإن هدفنا لا يمكن أن يصبح حلّ أو تفكيك القوة الأمريكية. إنني تولّيت منصبي كرئيس لهيئة الأركان في الحرب آملاً أن أساعد في تشكيل القوة الأمريكية لمواجهة تحديات المستقبل، وليس لأقوم بتسريح الجيش الأمريكي، وأُضعف موقف الولايات المتحدة في العالم".
وقد كان القرار الأمريكي هو إنشاء قوة "تدخل سريع" أمريكية، تتمركز في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وتكون جاهزة لكي تحمل جوًّا، وبحرًا إلى منطقة الخليج عن أي طارئ. وبذلك تكون الولايات المتحدة مستعدة، وتكون قواتها مخصصة لحماية الخليج على أراضيها. وقد أطلق على قيادة هذه القوات قيادة المنطقة المركزية. وقد شكلت هذه القوة من 291.600 فرد، ضمت في تشكيلها أربع فرق محمولة جوًّا، ولواء مدرع، ومجموعة بحرية، وقوات من مشاة الأسطول، والقوة الجوية السابعة التي تشمل أسراب القتال، والقاذفات الإستراتيجية والاستطلاع والعلميات الخاصة. وقد تم التخطيط الإستراتيجي لاستخدامها لتأمين منابع النفط في الخليج خاصة في المملكة السعودية. كما تولي قيادتها الجنرال "شوارزكوف" الذي كُلّف بقيادة قوات التحالف الأمريكي، عندما قام العراق بجريمة غزو الكويت وأعطي الدافع والمبررات اللازمة لتحريك هذه القوات لتنفيذ مهامها المخططة في الخليج.
تلك كانت الحقائق في التفكير والتخطيط التي غابت عن الرئيس العراقي "صدام حسين"، والتي تؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت مؤهلة للهدف الذي أخذت على عاتقها تحقيقه… وهو تأمين منابع النفط في منطقة الخليج.
وقد حذّر الرئيس الأمريكي "جورج بوش" في 3 أغسطس 1990 النظام العراقي من أي توسيع لقواته في اتجاه المملكة العربية السعودية أو أي دولة بترولية أخرى. كما درس مع وزير الدفاع الأمريكي عملية دفع قوات "المنطقة المركزية الأمريكية" المخصصة لهذه المهمة إلى المملكة العربية السعودية، وذلك بعد أن تأكدت من كثافة الحشود العراقية على حدود المملكة العربية السعودية، وبطلب من الملك فهد بن عبد العزيز عاهل المملكة السعودية - بعد عرض الصور الجوية عليه في لقاء مع وزير الدفاع الأمريكي في 6 أغسطس 1990 - دعا الملك فهد القوات الصديقة إلى المملكة لتعزيز الدفاع عنها. وفي 7 أغسطس 1990 بدأ تدفق القوات الأمريكية على المملكة العربية السعودية في إطار عملية حشد إستراتيجي وصلت إلى أكثر من ربع مليون جندي في نهاية أكتوبر 1990. وهكذا استقرت القوات الأمريكية في منطقة الخليج تنفيذًا لمخططها الذي بدأت في تدشينه منذ "إستراتيجية الخنق" التي مارستها الدول العربية في عام 1974.
==============(19/482)
(19/483)
التعاون العسكري الخليجي.. أمريكي المضمون
أبو ظبي - سامح راشد
باحث مصري في الشئون الإستراتيجية والخليجية
اجتمع قبل أيام - في السابع عشر من أكتوبر 2000م - وزراء دفاع دول الخليج، في العاصمة السعودية الرياض، وذلك ضمن سلسلة اجتماعاتهم الدورية لبحث شؤون التعاون العسكري بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. تلك الاجتماعات المستمرة منذ سنوات ولم تسفر حتى الآن عن تطورات إيجابية حقيقية نحو التوصل إلى هذا التعاون المفترض، لكن الاجتماع الأخير لوزراء الدفاع الخليجيين يبدو مختلفاً قليلاً عن سابقيه، كونه يأتي في ظل تطورات متلاحقة بالمنطقة في اتجاهات متعددة، ترتبط جميعها بأمن الدول العربية والتوازن الإستراتيجي في المنطقة، منها ما يتعلق بوضعية العراق خليجيًّا وعربيًّا، ومنها ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة من مواجهات ومجازر ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي. واحتمال نشوب حرب يمكن أن تغيّر شكل وجوهر الأوضاع القائمة في المنطقة كلها.
كذلك جاءت اجتماعات وزراء الدفاع الخليجيين بعد خمسة أسابيع من اجتماع رؤساء أركان جيوش دول الخليج، التي انعقدت بالرياض في الثاني عشر من سبتمبر 2000م، وهي اجتماعات دورية أيضاً تمهّد للقاء وزراء الدفاع، والجديد في هذه المرة أن رؤساء الأركان قد أقروا أخيراً بعض المشروعات والخطط المتعلقة بالتعاون العسكري بين دول الخليج، ثم ناقشها وزراء الدفاع في اجتماعهم.
من هنا تأتي أهمية إلقاء الضوء على هذا الموضوع، ليس لمجرد انعقاد لقاء لوزراء دفاع الخليج، وإنما لكونه يعطي مؤشراً مهمًّا على مسار التعاون العسكري والدفاعي بين دول الخليج، والأهم دلالات تطور هذا التعاون بالنسبة لمستقبل التعاون العسكري على المستوى العربي ككل.
فرغم أن اجتماع وزراء الدفاع قد أقر بالفعل ما حمله اجتماع رؤساء الأركان الأخير من نتائج مبشرة تدعو للتفاؤل بشأن تفعيل التعاون العسكري البيني في نطاق دول الخليج، فإن هذه النتائج لا تعني بحال أن تعاوناً عسكرياً خليجيًّا - خليجيًّا قد ظهر فجأة إلى الوجود، أو بعبارة أدق لا يعني ذلك أن جديداً أضيف إلى الحدود الدنيا القائمة من هذا التعاون المأمول.
نتائج الاجتماع الأخير
وقبل الخوض في تفصيلات هذا الموضوع ينبغي أن نتعرف أولاً على نتائج اجتماع وزراء الدفاع الخليجيين الأخير، ووفقاً لما صرح به نائب وزير الدفاع والطيران السعودي الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز الذي رأس الاجتماع لقيام الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع السعودي بجولة آسيوية، فإن الوزراء ناقشوا خطة مشروع تطوير قوة درع الجزيرة وفق ما سبق إقراره برفع حجمها من خمسة آلاف فرد إلى 22 ألف فرد، مضيفاً أن الوزراء استعرضوا مشروع الحزام الأمني أو التغطية الرادارية الموحدة ونظام الاتصالات المؤمنة اللذَيْن قال إنه تم الانتهاء من العمل فيهما بتكلفة 150 مليون دولار وسيفتتحان خلال شهر نوفمبر. ونفى المسؤول السعودي أن يكون الاجتماع قد ناقش موضوع اتفاقية أمنية دفاعية لدول المجلس مكتفياً بالتأكيد على أن دول المجلس متفقة على التعاون في المجالات الدفاعية.
وتحاول بعض الأوساط الرسمية في منطقة الخليج ترويج أن هذه الخطوات المشار إليها تمثل نقلة في اتجاه مزيد من التعاون العسكري بين دول الخليج، في حين أن واقع الأمر يشير إلى محدودية الخطوة بحد ذاتها، فضلاً عن تضاؤل احتمالات تطويرها بما يخدم فعليًّا فكرة وجود تكامل عسكري خليجي أو حتى مجرد تنسيق عالي المستوى في المجال الدفاعي، ناهيك عما أشار إليه المسؤول السعودي ذاته من أن فكرة تطبيق اتفاقية دفاعية أو أمنية خليجية مشتركة لم تناقش.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل من هذه الإجراءات ظلت محل تباين في المواقف وصل أحياناً إلى الخلاف الصريح بين دول الخليج لسنوات، خاصة فيما يتعلق بمسألة تطوير قوات درع الجزيرة وتوسيع حجمها وتسليحها، وربما كان هذا وراء حرص رئيس الأركان السعودي الذي ترأس اجتماعات رؤساء الأركان الأخيرة على تأكيد وجود إجماع بين دول الخليج حول مثل هذه المسائل، ونَفْي أي تحفظات على خطة التطوير هذه، هذا على الرغم من عدم الاتفاق على تحديد مدة زمنية لها.
هل ترغب دول الخليج بالفعل في تعاون عسكري بينها؟
إن حرص رئيس الأركان السعودي على تأكيد الإجماع ونفي وجود تحفظات على أي من المشروعات المشار إليها، يشير بحد ذاته إلى أن هذا الإجماع محل شك، وأن تحفظات حقيقية كانت وربما لا تزال قائمة، ثم يأتي نفي نائب وزير الدفاع السعودي مناقشة فكرة تطبيق اتفاقية دفاع خليجية مشتركة ليثير التساؤل ذاته، هل ترغب دول الخليج بالفعل في تعاون عسكري بينها؟(19/484)
من الطبيعي أن تحمل التصريحات والخطابات الرسمية للمسؤولين في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية حرصاً شديداً وكاملاً ليس فقط على وجود تعاون عسكري خليجي - خليجي، وإنما أيضاً على تفعيل هذا التعاون والارتقاء به إلى أعلى المستويات. وهو الخطاب الذي دأبت الحكومات الخليجية على تبنيه على مدى السنوات الماضية، لكن الإجابة الدقيقة على هذا التساؤل تستلزم مزيداً من التأمل والبحث في المواقف والسلوكيات الفعلية التي تلتزمها دول الخليج وليست تلك التي تعلنها.
لقد أنشئ مجلس التعاون الخليجي أساساً بدوافع أمنية ودفاعية، وبعبارة أوضح، جاءت فكرة إنشائه بعد بروز التهديد الإيراني إثر قيام الثورة الإسلامية، ثم نشوب الحرب الإيرانية - العراقية، ولم تشمل عضوية المجلس العراق تجنباً من ناحية لاستفزاز إيران، وخشية من هيمنة العراق الدولة الكبرى والأكثر ثقلاً من دول الخليج الست جميعاً من ناحية أخرى.
والحال كذلك، فإن التفكير في إقامة قوة أمنية دفاعية تحمي دول المجلس، وتطوير التعاون العسكري الخليجي البيني، كان لا بد أن يحتل مكان الصدارة في اهتمامات المجلس منذ إنشائه، لكن سببين حالا دون ذلك: الأول: هو التركيز على مساندة العراق في حربه مع إيران، وتوجيه قدر كبير من الموارد المالية الخليجية لهذا الغرض، مع بروز اتجاه في ذلك الوقت إلى إمكانية الاعتماد على القدرات العسكرية والبشرية العراقية في الدفاع عن الدول الخليجية باستخدام قدراتها المالية.
السبب الثاني: هو خشية دول الخليج، كلّ دولة من الأخرى، فإقامة كيان دفاعي عسكري، أو نظام دفاعي موحّد، يعني تقديم قدر من التنازل عن سيادة كل دولة، أو على الأقل إخضاع بعض متطلبات أمنها الوطني وخططها الإستراتيجية لاعتبارات إقليمية وليست قُطرية خالصة، ما رفضته بعض الدول، خاصة في ظل التفاوت القائم بينها في رصيد عناصر القوة الشاملة مثل عدد السكان، الوضع الاقتصادي، الموقع الجغرافي، فضلاً عن تفاوت أكثر وضوحاً في الثقل السياسي وحجم الدور الإقليمي.
وكان الإطار المقبول من الجميع هو المجال الاقتصادي، كواجهة يتم التركيز عليها خلال إقامة مؤسسات وهياكل المجلس الرئيسية ليبدو بالفعل مؤسسة تكاملية.
من هنا جاء التباطؤ الشديد في اتجاه دول الخليج إلى إقامة أي نوع من أنواع التعاون العسكري البيني، ولم يكن الاتفاق على تشكيل قوة درع الجزيرة عام 1986م سوى محاولة لإرضاء بعض دول المجلس التي تحرص بالفعل على وجود كيان خليجي موحد في جميع المجالات، لكن عملية تشكيل القوة ذاتها وُوجِهت بعقبات عدة حالت دون تطويرها أو إتمامها على النحو المطلوب، وأبرز هذه العقبات أيضاً محاولة بعض الأطراف الخليجية القوية السيطرة على القوة وجعلها شبه تابعة لها تماماً.
ولم تتغير الأوضاع بعد ذلك إلا إلى الأسوأ، فبكارثة عام 1990م عندما غزا العراق الكويت، تحولت مخاوف دول الخليج من القوة العراقية إلى خطر داهم يطرق أبواب جميع الدول الخليجية، كما كشفت هذه الأزمة عن ضعف شديد في البنى العسكرية والأساسية بهذه الدول، وأنها لا تملك من مصادر القوة سوى مورد النفط، وما يُدِرّه من عائدات مالية تظل في النهاية غير قادرة على الدفاع عن دولها، وبالطبع ليست قابلة للتحول إلى قوة عسكرية تكفل الحد الأدنى من الأمن، وبالتالي فإن إلغاء فكرة الاعتماد على الذات خليجيًّا؛ لتوفير متطلبات الأمن كان طبيعيًّا ولا يقبل الشك أو إعادة النظر فيه.
وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن فكرة توسيع قوة درع الجزيرة في عام 1990م قد نشأت فور وقوع الغزو العراقي للكويت، حيث طالب السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان في القمة الخليجية التي عقدت بالدوحة في ديسمبر من العام ذاته بتحويل "درع الجزيرة" إلى جيش خليجي حقيقي، وتعهد بتبني الفكرة ومتابعة الدراسات الخاصة بها، ولم يلقَ الطرح العُماني أي ترحيب أو مساندة على مدى عام كامل، ثم تكفلت القمة الخليجية التالية في ديسمبر 1991م بوأد الفكرة تماماً مكتفية بالثناء على الحماس العُماني لها! إذن حتى في أكثر الأوقات صعوبة، فإن هواجس الدول الخليجية من بعضها البعض كانت أقوى من رغبتها في التآزر والتعاون لدرء الخطر الخارجي.
وللأسف، تلك الشكوك المتبادلة لا تزال قائمة حتى الآن، فعندما سئل مسؤول خليجي في اجتماعات وزراء الدفاع الأخيرة عن إمكانية أن تعقد دول الخليج صفقاتها التسليحية بشكل مشترك، كخطوة نحو تعاون عسكري حقيقي، كان الرد بأن ذلك الأمر يخضع لسيادة كل دولة، وليس من الوارد أن تتفق دول الخليج على صفقات مشتركة.(19/485)
بالتالي ليس من الوارد بحال أن تكون لدى أية دولة خليجية رغبة حقيقية في وجود تعاون عسكري حقيقي مع بقية الدول الخليجية، إما لعدم رغبتها في ذلك أصلاً؛ لأنه ينتقص من مكانتها وثقلها النسبي، أو لاقتناعها بعدم جدواه وألا طائل من ورائه يُرتجى. ولا يعدو الخطاب الإعلامي والسياسي في هذا الموضوع، سوى سلعة للاستهلاك المحلي، ولإضافة مزيد من المبررات والحيثيات لاستمرار المجلس والحفاظ عليه بعد أن أصبح محل تساؤل وعلامات استفهام لقصوره عن أداء المطلوب منه في مجالات عديدة.
مواقف الأطراف الأخرى
ربما كان الأمر سيختلف قليلاً لو كان القرار خليجيًّا خالصًا، ولو كانت دول الخليج تبني سياساتها وإستراتيجياتها بناء على معطيات ومدخلات خاصة بها فقط، دون تأثيرات أو ضغوط خارجية، بمعنى أنه لو حدث افتراضاً وأتيحت فرصة ولو ضئيلة لإيجاد تعاون أو حتى تنسيق خليجي عسكري، فإن المواقف الخارجية كفيلة بوأد هذه الفرصة في مهدها. وتشمل الأطراف الخارجية هنا ثلاثة مستويات: الخليجي، والإقليمي، والعالمي.
فعلى المستوى الخليجي لا تريد كل من إيران والعراق أن تكون لدول الخليج العربية كلمة موحدة في المجال الدفاعي، وهي مسألة تهمّ طهران في المقام الأول؛ لأن أي إضافة إلى حساب القوة الخليجية تعني انتقاصاً بالقدر ذاته من رصيد القوة الإيرانية في الخليج، وتغيراً في ميزان القوة الإستراتيجية في تلك المنطقة.
لكن ثمَّة تغيرًا طرأ على هذا الموقف الإيراني مؤخراً، حيث بدأت طهران تقتنع بأن التقارب مع دول الخليج أفضل من استعدائها، ومع التحولات التي طرأت على مفاهيم الثورة الإسلامية وتراجع فكرة تصدير الثورة إلى العالم العربي، واستقرار القوات الأمريكية وغيرها في مياه الخليج، وظهور اتفاق (إعلان دمشق) إلى الوجود عام 1991م، بدأت إيران في الترويج لمبدأ أن أمن الخليج لا بد أن يكون بأيدي دوله، وتحاول حالياً ترجمة هذا المبدأ من خلال السعي لإقامة تعاون عسكري ودفاعي بينها وبعض دول الخليج العربية، وتجسدت بالفعل مظاهر لهذه المساعي خاصة مع سلطنة عمان. أي أن موقف إيران تحول من التوجس خشية أي تعاون عسكري خليجي - خليجي، إلى محاولة توسيع هذا التعاون لتنضم هي إليه.
وعلى المستوى الإقليمي، يبرز لنا كل من الموقفين السوري والمصري، وقد حاولت الدولتان في أعقاب حرب الخليج الثانية - من خلال ما عرف باتفاق إعلان دمشق - توظيف محدودية القدرات العسكرية الخليجية بمقايضة الدعم الاقتصادي الخليجي لدمشق والقاهرة، بالقوة العسكرية والزخم البشري الوفير في هاتين الأخيرتين. وبعد أن ظهرت تحفظات إيرانية وأمريكية صريحة ضد دور مصري أو سوري في أمن دول الخليج، أتاح تجميد إعلان دمشق الفرصة لتثبيت الوجود العسكري الأجنبي خاصة الأمريكي منه في مياه وأراضي دول الخليج، ومعروف أن أي دور مصري أو سوري في هذا الاتجاه كان سيطرح علامة استفهام حول ضرورة الوجود الأجنبي. أي يمكن القول إن طرح فكرة قيام مصر وسوريا أو إحداهما بدور أمني في الخليج كان بمثابة عامل تسريع؛ لتكريس الوجود الأجنبي العسكري في المنطقة، نتيجة حرص واشنطن وحليفاتها الغربيات على منع أية فرصة أمام هذا الدور العربي، وكذلك قبل أن تجد طهران مبرراً لتطرح نفسها كبديل إقليمي لهذا الدور العربي.
من هنا فربما ساعد الموقف المصري - السوري على التعجيل بترسيخ الوجود العسكري الأجنبي، وتقنينه من خلال اتفاقيات دفاعية أبرمتها دول الخليج العربية مع القوى الكبرى في العالم. كما ساعد بالقدر ذاته على قطع الطريق أمام إقامة كيان أمني خليجي سواء بالمعنى العربي، أو بالمعنى الإقليمي أي بمشاركة إيرانية.
أما على المستوى العالمي، فمن المعروف تماماً أن مصالح القوى الكبرى في العالم
- تتقدمها الولايات المتحدة الأمريكية - هي التي دفعتها لإرسال جنودها إلى منطقة الخليج؛ ولذا فليس من الوارد إطلاقاً أن تسمح بقيام أي نوع من أنواع التعاون العسكري البيني في هذه المنطقة، بل نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد أبرمت دول الخليج كل على حدة اتفاقاً عسكريًّا ثنائيًّا مع الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا، أو أكثر من دولة في وقت واحد، وليس من الواضح إذا كان هذا التفتيت ناتجًا فقط عن حرص واشنطن ولندن وباريس على ألا تكون لدول الخليج كلمة واحدة مشتركة في تعاونها العسكري مع تلك الدول، أم أنه رغبة خليجية أيضاً، أم السببين معاً. أيًّا كان السبب، لم نرَ مثلاً اتفاقاً عسكريًّا بين واشنطن كطرف، وجميع دول مجلس التعاون كطرف ثان، فربما كان الأمر سيبدو أكثر معقولية أو يمكن تفهمه بدرجة ما، لكن حتى الاتفاقات المعقودة بين دول الخليج والدول الأجنبية هي اتفاقيات ثنائية، لا روابط ولا قواسم مشتركة بينها، وكأن كل اتفاق منها ينافس الآخر أو يحمي هذه الدولة أو تلك من الأخرى، فكيف يمكن تصور وجود تعاون فعلي فيما بينها؟(19/486)
لكن نظراً لرغبة بعض الدول الخليجية في تخفيف حدة الانتقادات التي توجه لها بالتبعية الكاملة للدول الأجنبية في المجال الدفاعي، فإن الحدود الدنيا من أشكال التعاون العسكري التي طالبت بها هذه الدول حظيت بموافقة مشروطة من الأمريكيين، وهو ما تجسد بالفعل فيما اتُفق عليه أخيراً بشأن توسيع درع الجزيرة، وشبكة الإنذار ونظام الاتصالات، فمن ناحية لن يضير توسيع حجم قوات درع الجزيرة واشنطن وحليفاتها الغربيات شيئاً، ومن ناحية ثانية كل من شبكة الإنذار ونظام الاتصالات يخضع لإشراف وتنفيذ ومراقبة الغرب، حيث تنفذ شبكة الإنذار شركة أمريكية، وتتولى تنفيذ نظام الاتصالات شركة سويدية.
بإيجاز، لم تتعدَّ - ولن تتعدى - أية خطوات تتبناها دول الخليج في مجال التعاون الدفاعي والعسكري بينها الحدود التي تسمح بها واشنطن والدول الغربية.
خليجي الشكل.. أمريكي الجوهر
ولا تقف الخطورة عند هذا الحد من عدم السماح بإيجاد كيان أمني أو دفاعي خليجي خالص، بل فيما هو أبعد من ذلك، فما كشفت عنه اجتماعات وزراء الدفاع - ومن قبلها اجتماعات رؤساء الأركان - أن نظام الاتصالات وشبكة الإنذار سيعملان بشكل متكامل بحيث يتم نقل الاتصالات والمعلومات الخاصة بأي هجوم صاروخي على أية دولة أو منطقة داخل نطاق عمل الشبكة فيما بين جميع غرف العمليات التابعة لجيوش المجلس، ثم المرحلة التالية هي قيام شبكة الإنذار بتوجيه الأوامر لنظام دفاعي يتولى إرسال صواريخ اعتراضية، وما ينبغي الالتفات له هنا أن هذه الصواريخ الاعتراضية ستكون جزءاً من منظومة "دفاع صاروخي خليجي أو أي نظام دفاعي صاروخي آخر" وفقاً لما ورد في تصريحات رسمية لمسؤولين خليجيين، أي ببساطة هناك تلميحات واضحة باحتمال إقامة نظام دفاعي صاروخي في منطقة الخليج، وإن لم يتبلور بعد ما إذا كان ذلك النظام خاصًّا بهذه المنطقة تحديداً أو جزءاً من منظومة أشمل. وكان وزير الدفاع الأمريكي وليم كوهين قد عرض خلال زيارة له إلى المنطقة عام 1999م فكرة إنشاء نظام دفاعي صاروخي يغطي منطقة الخليج.
أي أن الخطوات التي قامت أو على وشك القيام بها دول الخليج لإيجاد أي شكل من أشكال التعاون العسكري فيما بينها، لا تأتي في إطار فكر عسكري مستقل أو حتى تبشّر بذلك، بل العكس هو الصحيح، فإن لم يكن لدى دول الخليج علم أو نية مسبقة لأن تصبح هذه الخطوات جزءاً من المنظومة الأمريكية المقترحة، فإنها ستجد نفسها مطالبة بذلك فيما بعد، ولا توجد أية مؤشرات على قدرتها أو حتى رغبتها في تبني اتجاه مغاير.
إذن فالتعاون العسكري الخليجي سيظل دائماً حلماً غير قابل للتحقق، وإذا حدث ذلك، فلن يكون خليجيًّا سوى في شكله وأدواته، وبالطبع في تمويله، بينما هو في حقيقته تعاون خليجي - أمريكي قلباً وقالباً.
==============(19/487)
(19/488)
الانتخابات الأمريكية:مراكز القوى تكسب.. والفقراء يخسرون!!
نبيل شبيب
يقول "كاي فون رومور" من مصرف كاوين في بوسطن: "إن مواقف المرشّحيْن لا تؤثر على أسواق الأسهم المالية إلا هامشيًّا".. ويقول "ماثيو كاسمار" من مصرف دويتشِه بنك في نيويورك: "لن تكون لنتائج انتخابات الرئاسة آثار تستحق الذكر في أسواق الأسهم المالية".. ويقول "بيتر لوشمي" أحد الخبراء بالشئون الأمريكية من جامعة جوتينجن الألمانية: "لا توجد فروق أساسية في السياسات الاقتصادية بين بوش وآل جور"، وقد صدرت هذه الأقوال وأمثالها في الأيام الأخيرة من آب/ أغسطس 2000م، أي بعد انعقاد المؤتمرين العامَّين لحزب الجمهوريين وحزب الديمقراطيين، وظهور الخطوط العامة التي يريد كل من المرشحين لمنصب الرئاسة الأمريكية الالتزام بها، أو يعلن في إطار الحملة الانتخابية الحالية أنه سيلتزم بها.. ولا يُنتظر ظهور تفاصيل كبيرة مختلفة عن هذه الصورة العامة، عندما يتواجه الطرفان ثلاث مرات في المناظرات التلفازية التقليدية قبل الانتخابات، أو عندما يتواجه المرشحان لمنصب نيابة الرئاسة تشيني وليبرمان في مناظرتين مماثلتين على الشاشة الصغيرة.
اقرأ في الموضوع:
أولاً: إحجام الناخبين عن المشاركة
ثانيًا: أرضية مشتركة، وغياب الفوارق بين الحزبين
ثالثًا: تركة كلينتون، والوعود الانتخابية الباهتة
رابعاً: الخاسرون والكاسبون
أولاً: إحجام الناخبين عن المشاركة
ويبدو لمن يرصد التحليلات والمتابعات الإعلامية حول مجرى المعركة الانتخابية الحالية، أن بعض الأقلام التحليلية، في وسائل الإعلام العربية - وسواها أيضًا - تبحث عن كلمة عابرة، أو جملة جانبية، أو شعار حماسي، ثم تضخّم من المحتوى؛ للعثور على فارق حقيقي في الأطروحات الاقتصادية؛ لتلفت الأنظار إليه، فتبرر ضخامة المتابعة لمجرى المعركة الانتخابية، يومًا بيوم، وساعة بساعة، إلى درجة غلبة الاهتمام بها على الاهتمام ببعض القضايا الوطنية، أو القومية أو الإسلامية المشتركة.
وقد انتشرت عمومًا الصيغة القائلة: إن آل جور الأشد نقدًا للشركات، والأكثر تركيزًا على الجوانب الاجتماعية، يمثل المرشح الأفضل بمنظور الطبقات الاجتماعية الأضعف نسبيًّا، مقابل بوش الذي يتوجه نحو إلغاء البقية الباقية من تأثير الدولة على ما يصنع أصحاب المال والأعمال، فهو المرشح المفضل لدى هؤلاء، ولكن هل يمكن القبول بهذه الصيغة على إطلاقها؟..
الجواب يتطلب أكثر من إشارة مبدئية إلى عوامل أخرى عديدة، ترتبط بالانتخابات والمفاضلة بين المرشحين، وبنظام الأحزاب، والانتخابات، وبالبنية الهيكلية لصناعة القرار، وموقع صلاحيات رئيس الدولية فيها، وبدور جماعات الضغوط وفق المصالح المشتركة.. وإذا تجاوزنا تلك العوامل عمومًا؛ فإنه يصعب في إطار الحديث عن النتائج الاقتصادية المترتبة عن وصول أحد المرشحين للسلطة أن نتجاوز ظاهرة انخفاض نسبة المشاركة في التصويت في الولايات المتحدة الأمريكية بالمقارنة مع البلدان الغربية الأخرى ذات الأنظمة الديمقراطية، لا سيّما عند الإشارة إلى الخطأ المتكرر في تعليلها بأسلوب التجميل، كما في القول الشائع: إن عزوف غالبية الأفراد الأمريكيين عن التصويت؛ يعود إلى تمتعهم بالرفاهية حتى بات اهتمامهم بممارسة حق التصويت ضعيفًا، وتكفي نظرة في تفاصيل توزيع الفئات المشاركة في التصويت؛ ليظهر نقيض ذلك، فالفئات المرفَّهة اقتصاديًّا تشارك في التصويت بنسبة أعلى غالبًا، بينما تكاد الظروف المعيشية السيئة فقرًا وتشريدًا وبؤسًا تمثل عاملاً رئيسيًّا في الامتناع عن التصويت يأسًا من احتمال التغيير، أو ربما نتيجة الانشغال عنه أصلاً، فإذا خرجنا عن مفعول العامل الاقتصادي الداخلي في المشاركة، نجد الإقبال على التصويت مقترنًا غالبًا بتعبئة بعض الفئات سياسيًّا، وهو ما يسري على الأقليات مثلاً، ويرتبط بذلك ما يلاحظ حاليًا على الأسباب التي يبديها الناخبون المسلمون؛ لتعليل مواقفهم في إطار الحملة الجارية؛ لتنشيط مشاركتهم في التصويت، وفي التأثير على المعركة الانتخابية، وأغلب تلك الأسباب مرتبط بأوضاعهم القانونية وليس الاقتصادية.
4% نسبة الناخبين الحقيقيين:
لم يصل معدّل الناخبين الأمريكيين إلى خمسين في المائة ممّن يحق لهم التصويت إلا نادرًا، وعلى ضوء التأمّل في ظاهرة المهرجان الإعلامي الدعائي الفريدة من نوعها عالميًّا، والمتجدّدة مع كل جولة انتخابية جديدة، يوجد أيضًا محلّلون يطلقون وصف "الناخبين الحقيقيين" على حوالي 4% (أربعة في المائة) فقط من السكان، وهم أولئك الذين يشاركون بالتبرعات المالية لصالح الحزبين الجمهوري والديمقراطي؛ لتغطية نفقات معاركهما الانتخابية، ثم يوجد من هؤلاء من يمكن تبعًا لذلك إطلاق وصف "كبار الناخبين" عليهم، أي الذين يغطّون زهاء تسعين في المائة من التبرعات، ويمثلون أقل من نصف في المائة - أي خمسة بالألف - من السكان.(19/489)
وإذا نظرنا بهذا المقياس في المعركة الانتخابية الحالية؛ فإننا لا نجد فارقًا كبيرًا بين المرشّحيْن للرئاسة من حيث اهتمام رجال المال والأعمال بهما، فإذا كان التأييد يتناسب طردًا مع نوعية السياسة الاقتصادية المنتظرة من كل منهما، فإنه يمكن تقديره من خلال رصد "حجمه"، وقد كان حتى نهاية شهر حزيران/ يونيو 2000م يعادل 138 مليون دولار لصالح بوش وحزبه الجمهوري، و 119 مليون دولار لصالح آل جور وحزبه الديمقراطي.
ولتقدير مدى ازدياد "رضى" رجال المال والأعمال عن سياسة الحزبين الاقتصادية؛ تحسن الإشارة إلى أن هذه التبرعات، التي تلقاها الحزبان قبل أن تبدأ المرحلة "الساخنة" من المعركة الانتخابية تعادل ضعف ما تلقاه الحزبان في الفترة نفسها من معركة انتخابات الرئاسة الماضية قبل أربع سنوات.
ثانيًا: أرضية مشتركة وغياب الفوارق بين الحزبين
الواقع أن مشكلة البحث عن نقاط الافتراق بين الطرفين على صعيد السياسة الاقتصادية وسواها، لا تطرح نفسها على المحللين والمراقبين الإعلاميين فقط، بل تطرح نفسها على المرشّحين والأجهزة القائمة على تحديد مواقفهما وصياغة خطبهما، وتوزيع مواطن الثقل فيما يظهرانه من اهتمام بهذا الجانب أو ذاك من الميادين السياسية المختلفة، فقد تقاربت سياسات الجمهوريين والديمقراطيين اقتصاديًّا على الصعيد الداخلي والخارجي تقاربًا كبيرًا، وبات التعرّف على الفوارق بينهما عسيرًا دون الانطلاق من الأرضية المشتركة التي تجمعهما، ثم محاولة العثور على تلك الفوارق في التفاصيل فقط.. وهي في إطار التفاصيل أيضًا فوارق محدودة للغاية، تقتصر حتى الآن على بعض ما يطرحانه بصدد صرف الفائض المتوقع من الميزانية المالية، وهذا فيما لا يمس المحاور والمرتكزات الرئيسية للسياسة الاقتصادية داخليًّا أو خارجيًّا على السواء.
الكل رأسماليون:
ومن الضروري هنا أن نثبّت من البداية ما نغفل عنه أحيانًا رغم أنه معروف وظاهر للعيان، وهو أن الحزب الديمقراطي حزب رأسمالي عريق، كالحزب الجمهوري الرأسمالي العريق، ولم تصل الفروق بينهما قطّ إلى المقدار المعروف من الفروق والاختلافات بين أحزاب اليمين واليسار في البلدان الأوروبية، علمًا بأن هذه أيضًا بدأت تتلاقى على منتصف المسافة فيما بينها..
ثم توجد عوامل تاريخية قريبة ألغت الفروق أو قلّصتها، فبعد عهد "رونالد ريجان" الذي مال كل الميل نحو رأسمالية متشدّدة للغاية - وتابعه جورج بوش على ذلك جزئيًّا.. وكلاهما من الجمهوريين - تميّز عهد الرئيس الحالي "بيل كلينتون" من الديمقراطيين بالتوجه نحو الوسط بشكل ملحوظ، مثله في ذلك مثل "توني بلير" من حزب العمال في بريطانيا، و"جيرهارد شرودر" من الاشتراكيين الديمقراطيين في ألمانيا، وذاك ما يحاول هؤلاء وأقرانهم "تسويقه" عالميًّا تحت عنوان الطريق الثالثة، والأصوب وصفها بالطريق الرأسمالية مع بعض أدوات التجميل، ولا يوجد في سائر مواقف آل جور ما يخرج به عن طريق كلينتون اقتصاديًّا، أمّا محاولات التميّز بنفسه عنه فتقتصر على الجانب "الأخلاقي" بعد فضائح كلينتون الجنسية، كذلك فمن الملاحظ على جورج بوش الابن، أنه يسعى للميل بحزبه باتجاه الوسط أيضًا، مما ساهم بدوره في تقليص الفجوات القديمة بين الحزبين على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
التشكيك في السياسة الاقتصادية مرفوض:
ويوجد عامل آخر لا يقلّ أهمية عن "مضامين الخلاف" وهو أن السياسة الاقتصادية تمثل عاملاً حاسمًا في هذه الانتخابات - كسواها - بمقدار ما تتوفّر إمكانيات توظيف الشعارات والعناوين المطروحة في المعركة الانتخابية لكسب أصوات الناخبين.. وهذا ما تقوم عليه الآلة الإعلامية والمالية للمعركة الانتخابية كما هو معروف عن الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن بعيد، وبتعبير آخر وفق الخطط المدروسة من جانب المتخصصين في الحملات الانتخابية، لكسب أصوات فئات بعينها، ونظرًا إلى أن غالبية الشرائح المشاركة في الانتخابات هي - بمنظور العامل الاقتصادي - أقرب من الأصل إلى تمثيل الطبقات الاجتماعية الثرية والوسطى، فليس من مصلحة أي من الحزبين التشكيك في الوقت الحاضر في سياسة اقتصادية أوصلت إلى الوضع الاقتصادي الأمريكي الراهن.. وهو في صالح تلك الطبقات ماديًّا إلى حدّ كبير، وهذا ما تؤكّده المقاييس التقليدية للمدرسة الرأسمالية، أي مقاييس نسب النمو السنوية، في مرحلة متميزة من "الازدهار.. وقوّة الدولار في الأسواق المالية.. وانسياح الشركات العملاقة عالميا".
ثالثًا: تركة كلينتون والوعود الانتخابية الباهتة(19/490)
وقد كانت السياسة المتبعة اقتصاديًّا من جانب كلينتون "الديمقراطي" أقرب إلى مواصلة الخطوط العامة للسياسة المتبعة من قبل سلفيه ريجان وبوش الجمهوريين.. وكثيرًا ما قيل: إن السبب هو وجود غالبية من الجمهوريين في "الكونجرس" الأمريكي، ومن العسير القبول بذلك وحده كتعليل مقنع، فمن المؤكد أن كلينتون - ومن معه - يتبنى النهج الذي طبّقه اقتصاديًّا بحماس ونتيجة اقتناع داخلي، وليس نتيجة ظروف نيابية ضاغطة، وهذا ما يتبيّن مثلاً من تحرّكه عالميًّا على صعيد ما يوصف بالطريق الثالث كما سبقت الإشارة.. وقد جعل منه على أرض الواقع طريقًا تطبيقيًّا وسطًا بين الاتجاه المتشدّد من مدارسها والأقلّ تشدّدًا فحسب.
وإذا خلفه آل جور في السلطة، فلا ينتظر منه أن يصنع جديدًا على هذا الصعيد، رغم تركيزه على "خدمة الإنسان الأمريكي.. وتخفيف الضرائب عن الطبقة المتوسطة.. وتحسين الضمانات الاجتماعية.. وتوفير ظروف أفضل للتعليم.."، فجميع ذلك كان موضع الذكر بصورة أشدّ تأكيدًا وأكثر تفصيلاً على لسان كلينتون في معركته الانتخابية الرئاسية الأولى على وجه التخصيص، ولم يكن موضع التنفيذ لاحقًا، وقد جاءت معركته الانتخابية تلك مع نهاية الحرب الباردة، أي بعد المرحلة التي استغلها كثير من المرشحين الجمهوريين لانتخابات الرئاسة، لتبرير رفع النفقات العسكرية، وتطوير التقنيات الصناعية، وتوظيف "القروض الخارجية" في سياسة المواجهة.. وجميع ذلك على حساب الجوانب الاجتماعية، فوجد كلينتون وحزبه الفرصة مواتية في اتجاه التغيير من خلال رفع راية تلك الجوانب الاجتماعية، فلا يكاد يوجد ما يمكن لحزب الديمقراطيين وآل جور أن يزيدوا عليه شيئًا في الوقت الحاضر.
وعود باهتة لم تتحقق:
بل على النقيض من ذلك، فعدم تحقيق ما وعد به كلينتون قبل ثماني سنوات، يُفقد خلفه من الحزب نفسه مصداقية الوعود التي يطلقها بصورة باهتة الآن، ونقف عند المحطات الرئيسية من ذلك، على ضوء ما يتكرّر ذكره في الحملة الانتخابية الراهنة، ويشير إلى أكبر الفوارق المميزة في نطاق التفاصيل ما بين المرشحين الحاليين للرئاسة:
أولاً - كان على رأس الأهداف والشعارات المرفوعة قبل ثماني سنوات، إصلاح شبكة التأمينات الصحية، ولم يتحقق من ذلك قليل ولا كثير، ولم يَعُد لهذا البند وجود في البرنامج الرسمي لحزب الديمقراطيين، وإن بقي يتردّد في بعض كلمات الدعاية الانتخابية الجارية على لسان آل جور، ولا يتردد على لسان بوش، بينما يقترب الطرفان من بعضهما في قطاع التأمينات الاجتماعية من حيث الهدف المطروح، ويفترقان افتراقًا طفيفًا من حيث الوسيلة إليه هل تكون بمشاركة أكبر من جانب الدولة، أم بتحويل جزء من تلك الضمانات إلى القطاع الخاص.
ثانيًا - وكان في مقدّمة الجوانب الاجتماعية المطروحة قبل ثماني سنوات أيضًا تحسين أوضاع التعليم.. ولم يبق ما يستحق الذكر من ذلك، إنما يقال حاليًا: إن أكبر إنجازات كلينتون كان التعجيل في إدخال الحاسوب والشبكة إلى المدارس الأمريكية، ولكن تحقق هذا الإنجاز بالذات على الأرجح؛ لأنه يَعِد بعائدات ضخمة لصالح الشركات القائمة على الصناعات التقنية والبرمجية، وهو ما يفسر وقوفها وراءه ودعمها العملي والمالي له، بينما ما زالت سائر المشكلات المطروحة قبل سنوات مطروحة الآن أيضًا، وبحدّة أكبر في بعض ميادين التعليم، حتى ارتفع عدد أطفال الأسر التي تستفيد من القانون الاستثنائي للأخذ بمنهج تعليم الأبناء والبنات في المنزل، إلى ضعف ما كان عليه وبلغ 1.5 (مليونًا ونصف المليون) من أصل 50 مليون تلميذ أمريكي.. وهنا أيضًا لم يطرح آل جور جديدًا يختلف به اختلافًا كبيرًا عن سلفه أو عن المرشح الجمهوري بوش؛ إذ يريد آل جور تخصيص جزء من فائض الميزانية المتوقع لدعم تدريس أطفال الأسر الفقيرة في المدارس الرسمية، ويريد بوش تخصيص ذلك لدعم تلك الأسر مباشرة؛ لتنقل أطفالها من المدارس الرسمية إلى المدارس الخاصة..
18 مليون عاطل:
ثالثًا - وربما كان "تخفيض البطالة" أكبر المغالطات المطروحة في الساحة الاقتصادية الأمريكية، قبل الانتخابات ولا يبدو أنه سيطرأ عليها تغيير بعدها؛ إذ لا يطرح الديمقراطيون الموضوع إلا على اعتبار ما تحقق إنجازًا، فلا ينتظر من آل جور إلا أن يسير على خطى كلينتون في هذا المجال، كذلك لا يطرح الجمهوريون؛ لأن الوضع الذي أوجده الخصم السياسي هو الوضع الذي يفضلونه على سواه اقتصاديًّا، ويحقق هدفهم من حيث خدمة مصالح أصحاب المال والأعمال لا العمال.. فلا يتوقع من الجمهوريين أيضًا تغيير السياسة الراهنة، ومع ملاحظة أن قضية البطالة على رأس ما يهمّ الفرد العادي من نتائج الانتخابات، يحسن النظر في "مغالطة تخفيض البطالة"، وبالتالي في الوضع الذي لا يريد الطرفان تغييره على النحو التالي:
1 - في مطالع عهد ريجان النموذجي في تطبيق الرأسمالية المتشدّدة كانت الموجة الأولى لنشر البطالة بإلغاء أكثر من مليون مكان عمل في الشركات والدوائر الحكومية على السواء..(19/491)
2 - ومع بداية عهد كلينتون.. كانت الموجة الثانية التي رفعت الرقم المذكور إلى مليونين ونصف مكان عمل..
3 - وكلّما قيل: إن عهد كلينتون حقق نموًّا اقتصاديًّا مطَّردًا، قيل: إنه خفَّض أيضًا نسبة البطالة تخفيضًا كبيرًا في الوقت نفسه، والغرض من هذا الوصل بين "الإنجازين" لتأكيد أن النمو الذي يعود بالمكاسب العظمى على أصحاب المال والأعمال، لم يكن على حساب الطبقات الأضعف التي تمثل البطالة أشد المحاور تعبيرًا عن فقرها وأزمة أوضاعها الاجتماعية… وليس هذا صحيحًا، فالفارق كبير بين هذين "الإنجازين"..
4 - لقد أعطى النمو الاقتصادي الشركات والمصارف المالية الأمريكية العاملة داخل البلاد وخارجها أرباحًا مادية مباشرة، فضلاً عن مراكز القوى للتأثير على صناعة القرار السياسي والمالي والاقتصادي، مما بلغ مداه في عصر العولمة كما هو معروف، وانعكست آثار ذلك في صور صارخة (انظر الفقرة التالية) على أرض الواقع..
5 - أما البطالة فيعطي صورة واقعية عنها - مثلاً - كتاب "مستقبل الرأسمالية" لمؤلّفه "ليستر ثرو" الذي اختار عام 1995م في منتصف عهد كلينتون، فبين أن البطالة - في هذا العام - وفق الأرقام الرسمية تعادل 5.7 (خمسة وسبعة أعشار) في المائة أي سبعة ملايين ونصف المليون، وأعطت القوانين الصادرة في عهد كلينتون بالفعل فرصة الحصول على مكان عمل، ولكن من الناحية الواقعية كان ذلك على شكل تخيير بين أشد درجات الفقر والجوع والتشرّد وفق المقاييس الأمريكية، وبين العمل بأجر زهيد يسدّ الرمق جزئيًّا، وظروف قاسية لا تلغي الفقر وإن وفّرت للشركات قوى عاملة بتكاليف منخفضة، فيضيف المؤلف ما يتراوح بين 5 و 6 ملايين شخص يعملون دون أن يتوفر لهم حدّ أدنى من معايير العمل المعتبرة، فضلاً عن أربعة ملايين ونصف المليون يعملون أيضًا، ولكن جزئيًّا، لساعات محدودة من النهار، بأجر أدنى لا يكفيهم للمعيشة اليومية.. وبذلك - كما يذكر الكاتب - تصل نسبة البطالة الحقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 14%، أو ما يعادل أكثر من 18 مليون نسمة، وليس سبعة ملايين.
6 - ويبقى التنويه إلى أن المصادر الحكومية الأمريكية أعلنت منذ بداية عام 2000م أنها تتوقع تراجع نسبة النمو الاقتصادي، وارتفاع نسبة البطالة مجددًا، ويصادق على ذلك انخفاض مؤشّر النمو في الشهور الثلاثة الماضية على التوالي.
رابعاً: الخاسرون والكاسبون
لا يطرح بوش وحزبه الجمهوري مثل تلك الشعارات أصلاً، فالمبدأ الرأسمالي الراسخ لديهم، هو أن المدخل إلى تحسين وضع العامل والفقير والمشرّد هو إلغاء الضرائب عن الشركات، أي أصحاب المال والأعمال؛ ليتضاعف حجم أرباحها، فتستثمر بعضها، فتنشأ أماكن عمل جديدة.. ولا ينتظر من الجمهوريين إذن اتخاذ إجراءات أو استصدار قوانين في صالح الطبقات الفقيرة، إلا عن طريق "زيادة ثراء الأثرياء"، ولكن لا نجد صورة أخرى مقابل ذلك عند الحزب الديمقراطي وآل جور، وكما أن نجاح كلينتون في الانتخابات الماضية بعد رفعه شعارات التغيير الاجتماعي، لم يؤدِّ إلى تغيير إيجابي على أرض الواقع، إلا في صالح أصحاب المال والأعمال، كذلك فلا ينتظر من آل جور أن يصنع ذلك وهو يخوض الانتخابات الآن بشعارات مشابهة.. فأقصى ما يمضي إليه هو ما صنعه كلينتون وفق ما أسماه الطريق الثالث، مما تتمثّل حصيلته في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، والتي لا ينتظر تحسّنها مهما كانت نتائج الانتخابات.. وفي مقدّمة ذلك:
- مشكلة التشرّد في أثرى بلدان العالم، وقد بلغ عدد المشرّدين عدة ملايين، وتتوقع المصادر الرسمية وغير الرسمية وصول عددهم إلى سبعة ملايين عام 2005م..
- ويتصل بذلك انتشار الجريمة وآثارها الأسرية، فأربعون في المائة من المشرّدين مدانون بجرائم، ويقضون عقوبة السجن، ويتبع لهؤلاء أكثر من مليون ونصف المليون طفل يعيش كل منهم في أسرة، يقضي الأب أو الأم فيها عقوبة السجن، كما ذكرت صحيفة واشنطن بوسط يوم 31/8/2000م نقلاً عن وزارة العدل الأمريكية.
- ومشكلة الفقر التي وصلت وفق المقاييس الأمريكية، في أثرى دول العالم إلى أكثر من عشرين في المائة من الأطفال، وأكثر من ثلاثين في المائة من السكان بمجموعهم، وبالمقابل، فمن الأوضاع الناجمة عن سياسة كلينتون الاقتصادية ولا يتوقع المساس بها، أنه مقابل تزايد الفقر عمقًا واتساعًا في أنحاء البلاد، ازداد تركيز الثروات الكبرى في أيدي عدد محدود من البشر..
- ذكرت صحيفة نيويورك تايمس بهذا الصدد أن عدد الأسر التي يزيد حجم ثروة كل منها على عشرة ملايين دولار، قد ازدادت خلال التسعينيات الميلادية، وجلّها في عهد كلينتون، إلى أربعة أضعاف ما كان عليه عام 1990م، فبلغ 275 ألفا، ومن ذلك 41 ألف أسرة في نيويورك فقط.
- وتقول الصحيفة نفسها واصفة السلوك الاستهلاكي لأولاد هذه الأسر بأنهم يمثلون في هذه الأثناء "قطاعًا اقتصاديًّا قائمًا بذاته ويتنامى باستمرار".. وبالمقابل ترتفع نسبة الوفيات نتيجة الإدمان في صفوفهم ارتفاعًا ملحوظًا.(19/492)
- وتقول "جان هارفي بيرنيو" أستاذة علوم التغذية بجامعة فيرمونت عن أوضاع "أولاد الأثرياء" الصحية: إن سائر أمراض التخمة انتشرت في صفوفهم انتشارًا واسعًا، وظهرت لديهم أمراض لم تظهر من قبل إلا لدى الأكبر سنًّا كبعض أنواع مرض السكر، ومن المنتظر أن تظهر الآثار الصحية الأبعد مدى خلال عشرين سنة، وقد تسبب أمراضًا وأوبئة تكلف معالجتها المليارات..
- كما يقول المعهد القومي للصحة إن في الولايات المتحدة الأمريكية - مقابل انتشار الجوع فقرًا وتشريدًا - زهاء 4 ملايين نسمة يعانون من التخمة وعدد من الأمراض المترتبة عليها، ويزيد وزن كل منهم عن الحدّ الوسطي بأكثر من 45 كيلو جرام.. وتصل نسبة الوفيات بين هذه الفئة المتخمة عشرة أضعاف المعدّل الوسطي للوفاة بين العامة من السكان.
إن الفئة المستفيدة من السياسة الاقتصادية للحزبين على السواء، هي الفئة الأقوى ماليًّا واقتصاديًّا، وأفرادها هم الذين يموِّلون المعركة الانتخابية، وهؤلاء هم الجالسون على قمّة هرم الثراء أمريكيًّا، وقمة صناعة القرار الاقتصادي واقعيًّا، وقمة التأثير الحاسم والمباشر على البنية السياسية الأمريكية بمجموعها - ومن خلالها عالميًّا، وهذه الفئة كانت في الماضي، ولا تزال إلى اليوم هي الكاسبة في الانتخابات الأمريكية على الدوام.. وبالمقابل كانت الفئات الأضعف اقتصاديًّا هي فئة الخاسرين على الدوام، ولا يخفى أن النتائج على المستوى الدولي واسعة النطاق أيضًا، فالانتخابات الأمريكية أصبحت تعني بالنسبة إلى دول عديدة حدثًا "مصيريًّا" بالنسبة إلى اتجاهات الحكم وممارسات السلطة فيها، كما تعني بالنسبة إلى بعض المناطق ذات العلاقات المتشابكة مع الأمريكيين كأوروبا الغربية، البحث عن نقاط الضعف، ونقاط القوة في الوضع الناشئ عن الانتخابات للتعامل معه تعاونًا حينًا وتنافسًا وصراعًا على النفوذ والهيمنة العالمية حينًا آخر..
وعلى جميع الأحوال يبقى من الثابت أنه مع كل ما يقال عن الميزات الإيجابية القائمة فعلاً في نظام الديمقراطية الغربية على الطريقة الأمريكية، فالواقع التطبيقي يشهد على أن مفعول المال في صناديق التصويت أكبر تأثيرًا من تمثال الحرية على بوابة نيويورك.
============(19/493)
(19/494)
الصواريخ الأمريكية تعجّل الطلاق الأطلسي
15/2/2001
نبيل شبيب - بون
إذا كان تجدّد صراع النفوذ أوروبيًّا، وازدياد أسباب عدم الثقة بين الدول الأوروبية نتيجة الخبرات التاريخية الثقيلة الوطأة عليها - من شأنه أن يفسّر جانبًا من أسباب التعامل الأوروبي الشديد الاضطراب مع أحداث البلقان - فإنّ كثيرًا من تلك الأحداث قد عكست منظور الدعم الأمريكي لروسيا، وبالتالي تعزيز الموقع الأمريكي المهيمن لدى الأوروبيين بالمقابل.
ويوجد عدد من المعطيات الثابتة على هذا الصعيد:
- أوّلها أنّ علاقات موسكو بصربيا لم تكن وحدها كافية لفتح ثغرة أمنية تخترق بها السياسة الأوروبية والأطلسية في البلقان..
- ومنها أن روسيا نفسها كانت في غاية الضعف والانهيار داخليًّا عندما اندلعت حرب البلقان، ولم يكن عسيرًا التدخل أطلسيًّا أو دوليًّا دون توقع رد فعل روسي شديد..
- ومنها أن قضية البلقان بقيت فترة لا بأس بها خارج نطاق التأثير الروسي، فكان التعامل مع أحداثها يجري على أرضية السياسة الأوروبية في مؤتمر لاهاي ثم لندن..
- ومنها أنّ أوروبا نفسها كانت - رغم نزاعاتها على النفوذ في البلقان - كانت راغبة في وضع حدّ للحرب القريبة من عواصمها..
أمريكا فتحت ثغرة لروسيا
وقد طُرحت في حينه أسئلة عديدة عن أسباب التأخر زمنًا طويلاً عن اتخاذ قرار التدخل العسكري غربيًّا أو دوليًّا، رغم وجود دواعيه والقدرة عليه، بأضعاف ما كان في حرب الخليج الثانية. وكان المانع الرئيسي طوال الأعوام الثلاثة الأولى للحرب هو رفض واشنطن للتدخل أو امتناعها عن الموافقة عليه أطلسيًّا. ورغم أنّ السياسة الأمريكية في تلك الفترة كانت تتجه إلى تطوير حلف شمال الأطلسي ليكون أداة أمنية -عسكرية خارج نطاق الأمم المتحدة، فقد كانت واشنطن من وراء العمل على نقل قضية البلقان من ساحتها الأوروبية إلى ساحة الأمم المتحدة، حيث كان من المنتظر تلقائيًّا أن يصبح لموسكو دور مباشر في صناعة قرار الحرب والسلام فيها.. وهو ما يمكن وصفه بالثغرة الرئيسية لعودة موسكو إلى المشاركة في رسم معالم الخارطة الأمنية في أوروبا، وما ساهم بالمقابل في عودة التمسك الأوروبي بحلف شمال الأطلسي والموافقة على إعادة صياغة مهامه الأمنية وفق رغبات قيادته الأمريكية.
أمريكا توقع بين الدول الأوروبية
وعلاوة على تعزيز موقع موسكو أوروبيًّا، ساهمت السياسة الأمريكية في تعزيز مخاوف الدول الأوروبية الغربية بعضها من بعض، وهو ما يمكن التدليل عليه عبر مثالَين يشيران إلى مواقف يصعب تفسيرها على نحو آخر، منها:
التأييد الأمريكي السريع واللافت للنظر في أواخر عهد "جورج بوش" للوحدة الألمانية دون التشاور التقليدي في مثل هذه القضايا مع لندن وباريس، ورغم علنية الاعتراضات والمخاوف البريطانية والفرنسية آنذاك. ثم اتخاذ الرئيس الأمريكي كلينتون - في مطلع عهده ومع ازدياد التساؤلات الأوروبية - عن مستقبل دور ألمانيا الموحّدة، موقفًا استعراضيًّا يصف فيه ألمانيا بالحليف الأول في أوروبا، مثيرًا بذلك حفيظة الحليف البريطاني ومضاعفًا من اعتراضاته كما تشهد مذكرات "مارجريت تاتشر" إلى حدّ كبير .
وفي أثناء تبني ألمانيا دعوة التوسع الأطلسي والأوروبي شرقًا - وهو ما عارضته أمريكا - كان من الحجج الأمريكية التي وردت في لقاء قمة فرنسي - أمريكي الإشارة إلى تعاظم الدور الألماني في أوروبا نتيجة للموقع الجغرافي المتوسط، مما يمكن أن يكون على حساب فرنسا سياسيًّا وأمنيًّا. ومقابل ذلك كانت السياسة الأمريكية ترتكز على التعاون مع ألمانيا في منطقة البلقان كما في ألبانيا، وفي دفعها إلى إقناع فرنسا بالتخلّي عن مواقفها "السلبية" من حلف شمال الأطلسي. مع الإشارة لألمانيا إلى أن التميّز الأوروبي سيعزز المكانة القيادية لصالح فرنسا؛ بينما تعتبر ألمانيا الآن في موضوع الزعامة الأوروبية، اعتمادًا على الطاقة الاقتصادية والمالية وليس العسكرية.
شعرة كوسوفا "تقصم ظهر البعير"
صحيح أن أحداث البلقان كشفت منذ البداية عن نقاط الضعف في البنية العسكرية الأوروبية، ولم تكن مجهولة بطبيعة الحال. ولكن "التجربة" العملية كشفت عمّا يمكن أن تؤدّي إليه في الحالات الجادّة. ولا يقتصر الأمر على نوعيات التسلّح ومستوياته كما يتردّد في الوقت الحاضر؛ ولكن الأهم هو ضعف الثقة بين الدول الأوروبية، وتغليب المصالح المباشرة والذاتية على ما عداها.
فالتحرّك الألماني السريع لصالح كرواتيا وسلوفينيا والمضاد لصربيا، كان يقابله ميل السياسة البريطانية والفرنسية إلى دعم صربيا رغم وضوح ممارساتها العدوانية. وكان هذا الخلاف في مقدّمة ما استغله الأمريكيون ليصلوا في النهاية إلى "حلّ أمريكي" في دايتون من جهة، وكذلك إلى التشكيك المباشر في قدرة الأوروبيين على التميز بأنفسهم أمنيًّا وعسكريًّا خارج نطاق حلف شمال الأطلسي.(19/495)
وكادت تتكرّر الصورة نفسها في كوسوفا، لولا أنّ الحرب الأطلسية ضدّ يوغوسلافيا من أجل كوسوفا وقعت في ظروف أوروبية جديدة، فقد استطاعت الدول الأوروبية الرئيسية تجاوز قدر كبير من مخاوفها تجاه بعضها بعضًا، كما ازدادت اقتناعًا بأنّها لا تستطيع التحرّك دوليًّا دون التكتل سياسيًّا وأمنيًّا. وهو ما انعكس في تنشيط ما بدأ تنفيذه في مطلع التسعينيات الميلادية، مثل تشكيل قوات تدخل سريع على المستوى الأوروبي، وترسيخ أرضية العمل الأوروبي الأمني القائم بذاته في منظمة "الاتحاد الأوروبي الغربي"، فضلاً عن التمسك بسياسة التفاهم مع موسكو على سياسة أمنية أوروبية مشتركة بدلاً من "المواجهة" مع موسكو لفرض تلك السياسة وتحت رداء حلف شمال الأطلسي.
وفي كوسوفا تجاوز استعراض الأمريكيين لموقعهم المهيمن على مجرى العمليات العسكرية نفسها، الخطوط الحمراء بالمنظور الأوروبي، فلم يَعُد الأمر يقتصر على مجرّد احتكار المراكز القيادية الرئيسية أطلسيًّا، أو حتى بعض أنواع التسلّح المؤثر في مجرى المعركة، وإنّما انتقل ذلك إلى مستوى الامتناع عن التعامل مع الدول الحليفة تعامل الأنداد على هذا الصعيد أثناء المعارك نفسها. وقد تسرّب من ذلك الحديث العلني عن مدى الانزعاج الأوروبي من عدم إطلاعهم في الوقت المناسب وبصورة كافية على الصور الاستكشافية المتجمعة لدى الأمريكيين عن طريق أقمارهم الصناعية.
ولعلّ أحد العناصر الرئيسية في قضية الذخائر المشعّة حديثًا، أنّ معظم الأوروبيين منزعجون من جرّاء عدم إطلاعهم بصورة كافية وفي الوقت المناسب على المخاطر المترتبة على تلك الذخائر لاتخاذ الاحتياطات اللازمة. وهو ما ينفيه الأمريكيون، فضلاً عن إصرارهم على استخدامها في المستقبل أيضًا. وهو ما يرفضه الأوروبيون، ليس من زاوية الحفاظ على سلامة جنودهم فقط، وإنّما للخشية أيضًا من عواقب استخدام تلك الذخائر المشعة في مواجهة أزمات على الأرض الأوروبية نفسها، كما في حرب البلقان، ممّا يضاعف مفعول ضغوط الرأي العام على المسؤولين.
في نهاية حرب كوسوفا لم يكن القرار الذي اتخذه الأوربيون في قمة كولونيا عام 1998م بشأن تشكيل قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي جديدًا من حيث المضمون، وإنّما من حيث اللهجة التي استخدمت في صياغة هذا القرار وتعليله، والتي لم تَعُد تراعي الجانب الدبلوماسي تجاه الحليف الأمريكي. وتبديل لهجة الخطاب بين الجانبين هو ما يشير إلى وصول تطوّر علاقاتهما الأمنية في اتجاه الانفصال إلى مرحلة اللاعودة.
"الدرع الصاروخي".. الوصول إلى مفترق الطرق
لا يعني الوصول إلى مرحلة اللاعودة أن الانفصام المنتظر في أرضية العلاقات الأمنية بين الأوروبيين والأمريكيين سيقع بين عشية وضحاها. فكلا الطرفين يدرك ما يمكن أن يسبب ذلك من أضرار على حساب مصالحه ومخططاته الدولية. ولكن يعني أنّ كثيرًا من هذه المخططات المستقبلية بدأ كل من الجانبين يضعه انطلاقًا من مصالحه أولاً، فلا يراعي مصالح الحليف الآخر إلا بمقدار ما تفرضه الضرورة.
وإذا كان هذا يسري على خطوات التميز العسكري الأوروبي السالفة الذكر، فإنّه يسري بالمقابل على مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي أيضًا. وقد كان طُرح في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق "ريجان" طرحًا مختلفًا تمامًا عن الطرح الراهن. واعتبر في حينه وسيلة أطلسية "مشتركة" للضغط على المعسكر الشرقي بأسلوب الردع العسكري وماليًا في الدرجة الأولى، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة بالفعل..
ولكن الطرف الأمريكي تمسّك بالمشروع رغم زوال السبب الرسمي المعلن، والمشترك أطلسيًّا، ولم يمتنع عن تنفيذه في حينه إلاّ لأسباب مالية، وهو ما استدعى تعديله إلى مشروع مصغر، ولكن على أساس التقنية العسكرية نفسها. ثم تأجّل القرار في عهد كلينتون بسبب الإخفاق في بعض التجارب الأساسية للتأكد من هذه التقنية. وتحوّل في هذه الأثناء إلى مشروع عسكري أمريكي محض، وهذا في فترة لم يَعُد الاتحاد الروسي نفسه يملك من القوّة النووية أو الصاروخية الضاربة، ما يمكن أن يشكّل خطرًا كبيرًا على الولايات المتحدة الأمريكية.
ولا داعي هنا للتأكيد أنّ طرح ما أثير تحت عنوان "خطر الدول المارقة" لا يزيد عن كونه فقاعة إعلامية محضة، بعيدة كل البعد عن الواقع فلا تستدعي نقاشًا جادًّا.. وهذا ما يدركه الأوروبيون والأمريكيون على السواء فيما يضعونه لأنفسهم من مخططات وسياسات أمنية وعسكرية. فلم يَعُد يوجد مبرر حقيقي للمشروع الأمريكي سوى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تنطلق بعيدًا عن الاعتبارات الأطلسية ومصالح الحلفاء، وبعيدًا عن أجواء الوفاق الدولي واتفاقاته، لتكون لها من القوّة العسكرية الذاتية ما يجعلها في المستقبل قادرة على فرض إرادتها السياسية والاقتصادية دوليًّا تحت مسمى النظام العالمي الجديد أو العولمة الحديثة.(19/496)
ولذا، فإن المحور الرئيسي في المساعي الأوروبية المبذولة يتركز حاليًا على تعزيز القدرات الذاتية قبل فوات الأوان، وقبل أن يزداد حجم الهوّة الأمنية وغير الأمنية على السواء، الفاصلة بين حلفاء الأمس.. ويسري شبيه ذلك على المساعي الروسية، والمساعي الصينية، وربما مساعي بعض الدول الرئيسية في جنوب شرق آسيا. وما زال السؤال المفتوح متركزًا على المنطقة الإسلامية ومعها منطقة البلدان النامية عموما: هل تبقى هي المنطقة الوحيدة التي لا تكاد تبذل شيئًا يُذكر من الاستعدادات الواجبة ولا الممكنة لمواجهة الهيمنة الأمريكية الأشدّ خطرًا ومفعولاً في المستقبل؟!
===============(19/497)
(19/498)
التحالف الدولي.. ضد مَن ولماذا؟
24/09/2001
أ.د. نادية محمود مصطفى
منذ أن تعرضت الولايات المتحدة الأمريكية للهجوم وهي تستعد للرد. وخلال العشرة أيام الأخيرة (11/ 21-9-2001) تبلورت هذه الاستعدادات في شكل جهود كثيفة لتشكيل ما يُسمى "التحالف الدولي". وتشير متابعة هذه الجهود إلى أن الولايات المتحدة تقرع طبول حرب حضارية شاملة.
فإذا كانت الهجمات على الولايات المتحدة بمثابة أكثر الأحداث أهمية منذ نهاية الحرب الباردة، فإن عواقب هذه الهجمات ستؤثر بعمق على النظام الدولي، وستمثل ساحة مصيرية لاختبار الأبعاد السياسية للنظام الدولي وإعادة تشكيلها، وعلى رأس هذه الأبعاد قيادة الولايات المتحدة للتحالف الغربي، ودورها العالمي كقوة عظمى وحيدة، ووضع الأمة الإسلامية (شعوبا وأنظمة) في ظل هذه القيادة؛ حيث يرجح أن الأمة هي الطرف الأساسي المستهدف بهذه الحرب.
ويمكن تحليل هذه الأبعاد من خلال ثلاثة محاور متراكمة مترابطة، وهي:
*
البعد الثقافي الحضاري في إدراك الغرب لمصادر التهديد التي جسدتها الهجمات.
*
مغزى الجهود الأمريكية المحمومة لتكوين ما يُسمَّى بالتحالف الدولي ضد الإرهاب.
*
النوايا والأهداف الحقيقية وراء استعراض القوة العسكرية الأمريكية المخيف والمثير للشكوك، ووضع هذه القوة بين الأبعاد الأخرى للحرب الحضارية الشاملة.
أولا: البعد الثقافي الحضاري في إدراك الغرب لمصادر التهديد
لم يخل الخطاب الرسمي في الغرب- على الأقل طوال العقد الأخير- من الإشارة إلى المخاطر التي تتعرض لها الحضارة الغربية، الناجمة من أوضاع الجنوب، وعلى رأسها "الحركات الأصولية المتطرفة"، أو "الإرهاب". ومع ضرب قائدة العالم الغربي في 11-9-2001، لم يكن غريبا أو مفاجئا أن الأبعاد الثقافية والحضارية قد غلبت على الخطابات الرسمية وغير الرسمية الأمريكية والغربية عامة.
فنجد أن هذه الخطابات- سواء وردت في تصريحات رسمية، أو تعليقات وتحليلات مكتوبة ومسموعة ومرئية، وعلى رأسها أول تصريحات بورش عقب الهجمات مباشرة وتصريحاته المتوالية خلال العشرة أيام الأخيرة، وخاصة في خطابه أمام الكونجرس- تصف الهجمات بأنها حرب ضد الديمقراطية والحرية؛ ضد العالم المتحضر؛ ضد قيم وقواعد الحضارة الغربية، وبأنها حرب بين الخير والشر، وبين الحرية والخوف.
ومن ناحية أخرى وصفت هذه الخطابات الحرب الجاري إعدادها بأنها حرب القرن الحادي والعشرين لحماية الحضارة الإنسانية ضد أعدائها؛ حرب ضد كل من يرفض قيم الحضارة الغربية ومبادئها في الديمقراطية والحرية؛ حرب ضد عدو جديد بدون وجه وبدون حدود.
مَن إذن يمثل مصدر هذه التهديدات؟ وإلى مَن تتجه الحرب الشاملة ضد الإرهاب؟
فصل تكتيكي
بالرغم من التأكيدات الرسمية الأمريكية والغربية على أنه لا يجب الخلط بين الإسلام والإرهاب، أو بين المسلمين والعرب وبين الإرهابيين، فإنها لم تكن إلا تأكيدات ذات طابع تكتيكي تحركها دوافع عدة، على رأسها القلق تجاه قضية الاندماج الداخلي، سواء في المجتمع الأمريكي أو بعض مجتمعات أوروبية؛ ومن ثم الحاجة إلى تأمين التماسك خلال الأزمة.
ومما لا شك فيه أن قضية التعددية الثقافية والدينية في هذه المجتمعات قد زادت أهميتها وخطورتها في الوقت نفسه، خوفا من أن تصبح مصادر التهديد من الداخل، وليس من الخارج فقط، وخاصة في ظل التساؤلات حول التحديات التي ستفرضها الإجراءات الأمنية والاستخبارية الجديدة على الطابع المدني الديمقراطي لهذه المجتمعات.
ومن ناحية أخرى، كانت هذه التأكيدات تمثل مخرجًا لبعض النظم العربية والإسلامية التي لا بد من تعبئة مشاركتها في التحالف الدولي لتوفير غطاء شرعي عربي وإسلامي لهذه الحرب الجديدة.
وبالرغم من هذه التأكيدات، وجدنا أن العرب والمسلمين هم المتهمون الأساسيون منذ البداية وقبل أن تكتمل التحقيقات وتعلن النتائج. وتثير هذه التحقيقات كثيرًا من علامات الاستفهام في ظل التخبط الذي يحيط بقائمة المشتبه فيهم التي تم الإعلان عنها، وفي ظل استبعاد المراقبين ووسائل الإعلام الغربية، مناقشة احتمالات أخرى حول منفذي الهجمات ومدبريها، والمقصود بذلك بالطبع قوى أخرى، مثل: ميليشيات اليمين المتطرف الأمريكي؛ منظمات الجريمة المنظمة والمخدرات، والموساد… إلخ.
إسرائيل جزء من المنظومة الغربية
وفي المقابل، نجد أن إسرائيل تجتهد لتتطابق مع المعسكر المهدد؛ أي معسكر العالم الحر، الديمقراطي، المتمدين، ولتأكيد أن الصراع العربي- الإسرائيلي ليس مسئولا عن تصعيد العداء للولايات المتحدة، وأن إسرائيل عرضة لـ"الإرهاب الفلسطيني الإسلامي" مثلها مثل الغرب، وأن العرب والمسلمين مصدر التهديد الأساسي للغرب، ناهيك بالطبع عن استغلال ضباب نيويورك وواشنطن لتصعيد العدوان على الشعب الفلسطيني، وانتهاك ما تبقى من ملامح الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة.
هل يعي المسلمون ما يجري؟(19/499)
ومن ناحية أخرى، وإذا كانت النظم والحكومات العربية والإسلامية قد حرصت على الإشارة إلى أن الإرهاب الإسرائيلي ليس أقل خطورة من مظاهر الإرهاب الأخرى، فإن انضمام البعض منها إلى التحالف الدولي لأداء أدوار متنوعة لم يقترن بموقف جماعي واضح يعلن التمسك بمفهوم متفق عليه للإرهاب، ويميز بين الأعمال الإرهابية وأعمال المقاومة ضد الاحتلال، وأعمال الكفاح من أجل التحرير في أرجاء العالم الإسلامي كافة. ولذا لا بد أن نتساءل: هل تعي هذه النظم العربية والإسلامية حقيقة الحرب الحضارية الشاملة التي تغلف ما يسمى بالتحالف الدولي ضد الإرهاب؟ ألن تعني مشاركتها في مثل ذلك التحالف تقسيما جديدا، ونمطا جديدا من التجزئة في العالم الإسلامي؟ ألن يعني إعادة تشكيل التحالفات الدولية الإقليمية والعالمية على أسس جديدة؟
ثانيا: دلالات الجهود الأمريكية لتشكيل التحالف الدولي
يمثل التحليل التراكمي للاتصالات الرسمية الأمريكية: المعلنة وغير المعلنة؛ على مستويات مختلفة؛ سواء مع حلفائها الأوروبيين، أو مع روسيا والصين، أو مع الدول العربية والإسلامية، منذ بداية الأزمة، منطلقا هاما لدراسة إشكاليات وآفاق هيكل النظام الدولي ووضع الولايات المتحدة فيه بالمقارنة بالقوى الدولية الأخرى في مرحلة ما بعد الهجمات على نيويورك وواشنطن. ويمكن تسجيل الملاحظات التالية:
موارد الحرب
أ- يقود بوش حملة كثيفة داخلية لتعبئة كل الموارد الممكنة المالية، والمعنوية، والسياسية وراء هذا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، من أجل حرب وصفها بوش أكثر من مرة بأنها حرب جديدة؛ غير تقليدية؛ لن تكون القوة العسكرية إلا إحدى أدواتها، حيث ستتضافر كل أدوات السياسة الأمريكية في تنفيذها عبر فترة ممتدة.
وبالرغم من بعض الاحتجاجات الأمريكية الداخلية الداعية للنهج السلمي في مواجهة التهديدات، فإن الأصوات الداعية للنهج "الأكثر واقعية" بلغة السياسة الأمريكية هي الأعلى والأكثر انتشارا، في ظل الحديث عن "الصحوة الوطنية الأمريكية". وبالرغم من بعض الانتقادات التي تعالت حول قصور الخدمات الاستخبارية والأنظمة الأمنية الدفاعية، يبدو أن الأمة الأمريكية بكافة روافدها قد قررت- على الأقل حتى الآن- أن تتوحد وراء الإدارة الجمهورية لخوض هذه الحرب الشاملة، باعتبارها الرد الأمثل على ما أصاب الهيمنة الأمريكية من انتهاك.
ولعل الصورة التي عكسها خطاب بوش بالكونجرس في 19-9-2001 تترجم حقيقة هذا الوضع. فإن كلمات بوش القاطعة والحاسمة، التي تجسد كل معاني غطرسة القوة الأمريكية، قد أظهرته بمظهر جديد لم يظهر عليه منذ تولّيه الرئاسة. ومع ذلك يظل الأمن الداخلي الأمريكي هاجسًا يعكر صفو الاستعداد "للتدخل الخارجي". ومن هنا مغزى تكوين ما سُمي "إدارة الأمن الجديدة" في الولايات المتحدة التي سيرأسها حاكم بنسلفانيا. كذلك يظل وضع الاقتصاد الأمريكي المتأرجح يمثل هاجسًا آخر، ليس لأمريكا بمفردها، ولكن للعالم كله.
ولذا يثور التساؤل: كيف ستقوم الولايات المتحدة بتمويل عمليات هذه الحرب الممتدة- وفق وصف بوش- لعدة سنوات قادمة؟ وهل يتم ذلك بكل الوسائل وعبر أرجاء العالم أم ستشارك أطراف أخرى- وخاصة الخليجية- في تحمل بعض الأعباء المالية؟ أم أن هذه الأعباء المالية سيتم توفير الموارد اللازمة لها من خلال التخلي- ولو مؤقتًا- عن تنفيذ أحد أهم خطط الدفاع الإستراتيجي الأمريكي وهي خطة أو برنامج الدرع الصاروخي؛ حيث أعلن مجلس الشيوخ في 20-9-2001 تحويل ميزانية هذه الدرع لميزانية مكافحة الإرهاب. ومن المعروف أن الكونجرس قد خصص 40 مليار دولار لهذه المكافحة.
مساندة مع التحفظ
ب- بالرغم من إدانة كل الدول للهجمات ضد المدنيين الأبرياء، وإدانة الإرهاب الدولي، وتأكيد الحاجة للتعاون الدولي للقضاء عليه، وبالرغم من إعلان دول عديدة مساندتها الكاملة للولايات المتحدة فيما ستقدم عليه ردًا على هذه الهجمات، يمكن أن نلاحظ أمرين، سواء على الصعيد الأوربي أو الآسيوي أو العربي والإسلامي، ولو بدرجات مختلفة:
- الأمر الأول هو نوع من التردد والحذر من مساندة استخدام القوة العسكرية ضد أفغانستان، وذلك استناداً إلى عدة اعتبارات من أهمها ضرورة التأكد من مسئولية أسامة بن لادن، أو الأضرار الشديدة التي ستحيق بالمدنيين الأفغان الذين يرزحون تحت خط الفقر، أو مخاطر الانزلاق الأمريكي في مستنقع أفغانستان، أو مخاطر اتساع نطاق استخدام القوة العسكرية على نحو يهدد بحرب إقليمية.
- والأمر الثاني هو نوع من الاتهام - الضمني أحيانًا والصريح أحيانًا أخرى - بأن السياسات الأمريكية العالمية مسئولة عن إثارة العداء ضد الولايات المتحدة، وأن على الولايات المتحدة أن تتأنى في حساباتها وتحركاتها؛ حفاظًا على السلام العالمي.
الدور الإسرائيلي(19/500)
ج- بالرغم من أن إسرائيل قد أعلنت منذ الساعات الأولى بعد الهجمات، عن الضرورة الملحة لتكوين تحالف دولي ضد الإرهاب، للدفاع عن الحضارة الغربية والعالم الحر، وحيث تصاعدت الأسئلة لاحقا عن كيفية اشتراك دول عربية وإسلامية في تحالف تشارك فيه إسرائيل، فإننا نجد تصريحًا أمريكيًا - على لسان وزير الخارجية - بأن إسرائيل لن تشارك في هذا التحالف. وبالطبع فإن المقصود هو التحالف العسكري لتوجيه ضربة لأفغانستان، وليس التحالف على أصعدة أخرى قائمة بالفعل بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى رأسها التحالف ضد الحركات الإسلامية التي يسميها الطرفان "الحركات الأصولية الإسلامية" أو "الإرهاب الإسلامي". كما أن إسرائيل تشارك أطرافًا أخرى - مثل تركيا، والهند، وروسيا، والصرب- في تحالفات ضد قوى إسلامية أخرى.
ويذكرنا هذا السيناريو بسيناريو التحالف الدولي ضد العراق في 1991. والجدير بالتسجيل هنا أن إسرائيل تجني حتى الآن ثمار تحالف لم تشترك فيه منذ عشر سنوات، وهاهي تجني منذ الآن ثمار تحالف جديد يتم تشكيله؛ ولذا فلا بد أن يكون مثارًا بقوة الآن على الصعيد العربي والإسلامي - ما إذا كان لهذه المشاركة العربية والإسلامية مردود إيجابي على القضايا المصيرية للأمة الإسلامية: الداخلية منها أو الدولية أو البينية.
وفي حين أعلنت إسرائيل وضعها القواعد الجوية الإسرائيلية تحت تصرف الولايات المتحدة، فإن عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية أعلن في 21-9- 2001 أن الدول العربية لا يمكن أن تشارك في تحالف تشترك فيه إسرائيل.
طوعا أو كرها
د- إن الولايات المتحدة ليست بسبيل تعبئة مساندة دولية عارمة نابعة من إرادة حركة في كل الحالات، ولكنها في الواقع تقوم بممارسة ضغوط وتهديدات مباشرة وغير مباشرة على بعض الأطراف، ملوحة أحيانًا بالجزرة، وملوحة أحيانًا أخرى بالعصا؛ ولذا فإن آليات تشكيل هذا التحالف وطبيعته ونتائجه، خلال المرحلة المقبلة، لا بد وأن تثير أكثر من تساؤل حول هيكل النظام الدولي الجديد وحقيقة القوة الأمريكية: هل هي قوة صلدة تستطيع إجبار الجميع على قبول ما تريده؟ أم هي قوة مرنة تستطيع الإقناع بقبول ما تريده؟ بعبارة أخرى: هل ستؤكد أمريكا انفرادها بوضع القوة العظمى الوحيدة؟ أم ستتواتر المؤشرات على تآكل هذا الوضع نتيجة تراكم التحديات له؟
وهنا يمكن توجيه النظر إلى الحالات التالية: حالة باكستان وما يثير وضعها الخاص من إشكاليات أمام قبول رئيسها التحالف المباشر العسكري لتوجيه الضربة ضد أفغانستان، حالة دول مثل مصر والسعودية وإندونيسيا وتعبئة تحالفها غير المباشر الذي يتمثل في التعاون المالي أو الاستخباراتي أساسًا (فضلا عن توظيف القواعد الأمريكية في الخليج)، حالة الصين وروسيا وإيران، وتعبئة عدم المعارضة المفتوحة للعمليات العسكرية أساسًا، حالة الاتحاد الأوروبي وتعبئة تحالفه المشروط. فإذا كانت أوروبا قد سارعت بالإعراب- منذ اليوم الثاني للهجمات- عن تضامنها العسكري الكامل مع الولايات المتحدة، من خلال وضع المادة الخاصة بالدفاع الجماعي لحلف الناتو موضع التنفيذ، فسرعان ما بدأت بعض الشروط تظهر على صعيد اجتماعات الأجهزة الأوروبية الرسمية الجماعية، ومن خلال تصريحات بعض قادتها- خاصة شيراك وباستثناء توني بلير- وتتمثل أهم هذه الشروط في ضرورة أن تكون الأعمال العسكرية الأمريكية محددة، وأن تحوز غطاء شرعيًا من مجلس الأمن.
ولقد أقر اجتماع القمة الأوروبي الاستثنائي في بروكسل في 20-9-2001 هذين الشرطين، كما أقر إجراءات أمنية جماعية جديدة لمكافحة الوجود الإرهابي داخل الدول الأوروبية.
الدلالات بالنسبة للأمة الإسلامية
خلاصة القول بهذا الصدد ودلالته بالنسبة للأمة الإسلامية:
1- أن المرحلة الحالية- في نظر إدارة بوش- تمثل لحظة اختيار صعب وحاسم بالنسبة للجميع، اختيار "أن تكون مع أمريكا أو ضدها"، هكذا قالها بوش، في خطابه أمام الكونجرس. وهي، أكثر من ذلك، لحظة تدشين لمرحلة تقسيم جديدة للعالم. وإذا كانت الدول الكبرى تقدر على المناورة حول شروط هذه الاختيارات، فإن هناك بعض الدول التي تعلن أوضاعها أنه لا سبيل أمامها للاختيار؛ لأن التحالف مفروض عليها أرادت أم لم ترد؛ ولذلك لا عجب أن تجتهد مثل هذه الدول- وهي إسلامية- لإيجاد المبررات لإضفاء شرعية على "اختياراتها"، وعلى رأس هذه المبررات ضرورة الالتزام بمتطلبات "التعاون الدولي" ضد "الإرهاب" وفقًا لمقررات "الشرعية الدولية"، متناسية أنه تعاون في مواجهة دول وشعوب إسلامية ستتعرض لضربات عسكرية بقيادة أمريكية وليس ما يسمى الشرعية الدولية.(20/1)
2- أن كل دولة إسلامية تتبنى موقفها من التحالف بشكل فردي، ولا نجد أية مؤشرات عن مواقف جماعية إسلامية تجاه هذه التطورات الخطيرة التي تمس الأمة الإسلامية بصورة واضحة. فإذا كان الناتو قد اجتمع، وكذلك الاتحاد الأوروبي، بل منظمة الدول الأمريكية، في اجتماعات استثنائية، فلم ترد بادرة عن إمكانية انعقاد قمة طارئة للجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي، هذا بالرغم من أن العرب والمسلمين هم المستهدفون الأساسيون سواء بالإجراءات العسكرية أو الأمنية أو الاقتصادية أو الدبلوماسية.
3- أن الأمر الآن أكثر خطورة مما كان عليه خلال حرب الخليج 1991، أو خلال حرب الناتو ضد الصرب 1999، وهما حدثان- على ما بينهما من اختلافات في السياق المكاني- أثارا الجدل حول مشروعية وشرعية مساندة التحركات الأمريكية تجاههما، فالآن نجد أن الولايات المتحدة خصمًا أساسيًا ومباشرًا، كما أن الائتلاف الجاري إعداده ليس لعقاب دولة مسلمة لاعتدائها على دولة مسلمة أخرى- كما احتجت بذلك الموقف بداية التسعينيات-ولكن الوضع الآن يتصل باستعدادات أمريكية لضرب دولة مسلمة، باعتبارها مؤيدة للإرهاب وفقًا لمفهوم الولايات المتحدة وحلفائها وعلى رأسهم إسرائيل.
لذا لا عجب أن تذرو الرياح بيانات طالبان وقادة الجماعة الإسلامية في باكستان القاضية بعدم شرعية مساعدة الولايات المتحدة ضد دولة إسلامية، كما لا عجب أيضًا أن تذرو الرياح الآراء الداعية الولايات المتحدة لأن تتأنى في اتخاذ قراراتها وأن تتجه نحو خيارات أكثر سلمية ومن هذه الآراء تلك التي صرّح بها الرئيس المصري مبارك، موضحًا أن التهم لم تثبت بعد على أسامة بن لادن وطالبان، ومن ثم فإن الضربة العسكرية الأمريكية يجب أن تتأنى حتى لا تودي بحياة المدنيين الأبرياء.
ثالثا: النوايا والأهداف "الحقيقية" الأمريكية
كانت التحركات العسكرية الأمريكية المنفردة الضخمة في كافة أرجاء العالم، هي بالطبع الاستجابة الطبيعية والمتوقعة من جانب الدولة العظمى، التي تعرض أمنها لاختبار جاد مع الهجمات القاتلة على رمزي قوتها: المال والقوة العسكرية.
ولكن يظل السؤال التالي يفرض نفسه بإلحاح: هل الهدف الوحيد هو الاستعداد لاستئصال أسامة بن لادن وتنظيمه ونظام طالبان الذي يؤويه؟ أم أن هناك أهدافا أخرى حقيقية تستدعي كل هذه الاستعدادات العسكرية الجارية وحشد ذلك التحالف؟
أعتقد أنه لا يجب البحث عن إجابة هذا السؤال المزدوج في اتصاله المباشر بما يُسمى مكافحة الإرهاب، ولكن يجب النظر إليه في سياق الإستراتيجية الأمريكية العالمية بعد نهاية الحرب الباردة، وموضع مكافحة الإرهاب منها، ما يتصل بذلك من أحاديث التدخلات الدولية من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية.
إن الخبرتين السابقتين للاستخدام الأمريكي للقوة العسكرية ضد العراق، وضد صربيا خلال التسعينيات، تقدمان لنا دلالات شديدة الوضوح، وهي أن الولايات المتحدة لا تحرك القوات الضخمة تحت غطاء دولي لتحقيق أهداف محدودة (مثل تحرير الكويت أو حماية ألبان كوسوفا) فقط، ولكن تكون تلك الأخيرة مجرد منطلق لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في المناطق المعنية، ولاختبار التوازنات العالمية حولها، بما يحقق حماية المصالح الإستراتيجية الأمريكية وتحقيق الأهداف المرتبطة بها وتدعيمها.
مناطق وقضايا خطيرة
ولهذا، وعلى ضوء استدعاء دلالات هاتين الخبرتين، يمكن القول بأن العمليات العسكرية المقبلة ضد أفغانستان- أيًا كانت طبيعتها- إنما يحركها ويرتبط بها قضية التوازنات الدولية في آسيا، ووضع العامل الإسلامي في هذه التوازنات؛ ولذا تفرض مجموعة من القضايا نفسها على تحليلنا الراهن، وعلى متابعتنا للتطورات القادمة، مع تنفيذ العمليات وبعدها، وهنا يمكن أن نطرح الأسئلة التالية:
-هل ستقدم جمهوريات آسيا الوسطى وخاصة أوزربكستان وتركمنستان خدماتها اللوجسيتيكية للولايات المتحدة؟ ومقابل ماذا؟ وما أثر هذا على تزايد النفوذ الأمريكي في مقابل الروسي؟ هل يمكن أن تتجدد الحرب الأهلية في طاجكستان تحت اعتبارات المساندة مع حكومة طالبان من جانب الجماعات الإسلامية الطاجكية؟
-هل يمكن أن تتزعزع أوضاع باكستان الداخلية من جرار المواجهة بين النظام الباكستاني والقوى الإسلامية المعارضة للتعاون مع الولايات المتحدة، أم أن المكاسب التي سيحققها الاقتصاد الباكستاني قد تؤثر على إضعاف هذه المعارضة في نظر "الشارع الباكستاني"؟
*
هل ستراقب إيران ضرب نظام طالبان غير الموالي لها؟ وما الفائدة الموجودة؟
*
أين صوت الهند؟
*
هل ستكتفي الصين بإعلان رفضها للخيار العسكري؟ وما الذي يجري في كواليس العلاقات الأمريكية- الصينية، وخاصة مع الإعلان الأمريكي الأخير عن قبولها انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية؟
*(20/2)
هل ستكتفي روسيا بتحذير الولايات المتحدة من الانزلاق في مستنقع أفغانستان أم ستدفعها حساباتها إلى تقديم التعاون الاستخباراتي وغيره للعمليات العسكرية الأمريكية؟ أم ستكون هذه العمليات الأمريكية القريبة من البطن الروسي ذات آثار مباشرة على الأمن الروسي تقتضي من بوتين حسابات أخرى؟
*
هل ستكون العراق واليمن وليبيا أهدافا متزامنة مع الهدف الأفغاني؟
*
ما الآثار المحتملة لقيام نظام أفغاني جديد موال للولايات المتحدة تكونه قوى المعارضة الشمالية.
أبعد من أفغانستان وتوازنات آسيا
وعلى صعيد آخر، فإن التحركات العسكرية الأمريكية لا تستهدف أفغانستان فقط أو التوازنات الآسيوية بصفة عامة، ولكن تمثل استعراضًا هائلاً للقوة العسكرية، وهي القوة التي تمثل إحدى الدعائم الأساسية في الحرب الحضارية الشاملة الجاري إعدادها بقيادة أمريكية، وبمشاركة أوروبية، وبمراقبة عربية وإسلامية ضد ما يُسمى "الإرهاب الدولي" والدعائم الأخرى لهذه الحرب الممتدة والشاملة عديدة ومتنوعة، فمنها الاقتصادية المتمثلة أساسًا في أوراق الضغط المالية والتجارية، ومنها الاستخبارية والأمنية المتمثلة في الإجراءات المتطورة ضد الناشطين الإسلاميين في أوروبا وفي الدول العربية والإسلامية ذاتها، وهي الإجراءات التي تثير في الغرب الكثير من الجدل حول كيفية الموازنة بين حماية الحريات الفردية والحقوق المدنية في ظل الديمقراطية الغربية، وبين منع استغلال تلك الحريات والحقوق لأغراض إرهابية.
كم يتبقى من حرياتنا؟
وإذا كان هذا الجدال يأخذ أبعادًا جديدة الآن في أوروبا والولايات المتحدة بعد الاتجاه لتطوير الإجراءات الأمنية والاستخبارية في المجتمعات الغربية، فإن نظيره في الدول العربية والإسلامية يحمل أبعادًا أخرى يترجمها السؤال التالي: ما القدر المتبقي من مساحة الحركة أمام الناشطين إسلاميًا: سواء المحجوبون عن الشرعية، أو الذين يتمتعون بها، أو المحاصرون؟ هل ستمثل الهجمات ضد الولايات المتحدة وعواقبها بالنسبة لوضع المسلمين داخل وخارج الولايات المتحدة، منطلقا جديدًا للسلطات الرسمية نحو مزيد من الحوار والانفتاح؟ أم نحو مزيد من الصدام والمواجهة والحصار، سواء على الصعيد المشاركة السياسية أو المجتمع المدني أو التوجهات الثقافية والخدمية العامة؟ بعبارة أخرى كيف ستجري إدارة الأبعاد غير العسكرية للحرب الحضارية الشاملة ضد ما يُسمى "الإرهاب" داخل وخارج مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
===============(20/3)
(20/4)
مؤتمر الدوحة.. خطوة أولى لحوار إسلامي أمريكي
04/11/2002
حسام عبد الحميد **
بن جاسم يدعو العرب لكشف علاقتهم بأمريكا
بدعوة من مؤسسة بروكنجز لسياسة الولايات المتحدة تجاه العالم الإسلامي ودعم من الحكومة القطرية، استضافت الدوحة مؤتمر العلاقات الأمريكية بالعالم الإسلامي في الفترة من 19 - 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2002 لدراسة العلاقات السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية المؤثرة بين الطرفين.
وشارك في المؤتمر نحو 60 من علماء وخبراء ومثقفين من الجانب العربي والإسلامي في كل من أفريقيا وآسيا وأوروبا، بالإضافة إلى الوفد الأمريكي الذي اشتمل على مسلمين ومسيحيين ويهود. وعلى مدى 10 جلسات ناقش المشاركون عددًا من الموضوعات المهمة، في مقدمتها "العالم الإسلامي والعولمة"، و"الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، و"أثر وسائل الإعلام الحديثة على العالم الإسلامي"، و"تأثير دول الخليج العربي على العالم الإسلامي".
شهداء أم قتلة؟
وقد بدأت وقائع المؤتمر بجلسة عامة عنوانها "شهداء أم قتلة؟.. مشكلة الإرهاب والانتحاريين"؛ رأس هذه الجلسة "ستيفن كوهين" المحاضر في معهد بروكنجز بواشنطن. وتحدث فيها كل من د. خالد أبو الفضل -من كلية القانون بجامعة كاليفورنيا- وفضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي؛ حيث أكد الأخير قناعته برفض إطلاق صفة الإرهاب على من يمارسون المقاومة ضد إسرائيل، وبالذات الذين يقومون بتفجير أنفسهم، معتبرًا أن هؤلاء شهداء، ورافضًا بشدة وصفهم بالقتلة، منحيًا باللائمة على الجانب الإسرائيلي الذي يمارس أبشع صنوف القتل والإهانة، وارتكاب المذابح ضد الأبرياء والمدنيين الإسرائيليين.
بينما رفض الدكتور خالد أبو الفضل -وهو من أصل مصري- إطلاق صفة شهداء على أصحاب هذه العمليات، لكنه رفض في الوقت نفسه إطلاق صفة قتلة عليهم بشكل عام، وقال: إنه يؤيد العمليات التي توجَّه ضد أهداف عسكرية.
ومن مداخلته قال "ماريان كرامر" من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمعروف باتجاهاته الصهيونية: إنه يرفض طروحات د. القرضاوي، معتبرًا أن مثل هذه الطروحات تستهدف تدمير إسرائيل من خلال دعم وتأييد العمليات "الانتحارية".
لكن الدكتور القرضاوي عقب على هذه الآراء متسائلاً: ما الذي يمكن أن نقدمه أكثر مما قدمنا كأطراف عربية وإسلامية؟ مطالبًا إسرائيل بالانسحاب من الضفة وغزة لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ورفض القرضاوي وجود أي توجه للرمي بإسرائيل في البحر، كما تردد وسائل الإعلام والسياسة الأمريكية الصهيونية. وقد أبهر القرضاوي الحاضرين بطرحه المتزن ودفاعه عن العمليات الاستشهادية.
وفي تعليقه على مداولات هذه الجلسة قال الدكتور "حمد عبد العزيز الكواري" وزير الإعلام القطري السابق: إن الشيخ القرضاوي أقدر الأشخاص على طرح الفكرة الإسلامية بصورة واضحة ومؤثرة؛ لأنه يجمع بين كونه عالم دين، وفي نفس الوقت يعلم ما يدور في العالم، وهما جانبان لا يتوفران في الكثير من علماء الدين.
أما د. أبو الفضل -الذي أثار رأيه تحفظًا شديدًا- فقد قال: إن غير العرب والمسلمين قد بادروا إلى تهنئته بالأداء الجيد، إلا أنه اعترف بأن بقية الحاضرين من العرب وجدوا في حديثه لفًّا ودورانًا دون الوصول لهدف معين لتعودهم على الجدية في الطرح.. فإما إدانة أو تأييد. ونفى أبو الفضل أن يكون قد شعر بالهزيمة أمام الشيخ القرضاوي، وقال: إن رد فعله كان متسمًا بأسلوب الدفاع، وإنه كان يتكلم باسم الإسلام ككل، دون ربط الإسلام بالواقعين الاجتماعي والتاريخي.
عزل أم اندماج؟
أما جلسة "الأسلمة في السياسة.. عزل أم اندماج؟" فقد ركّزت على مناقشة إمكانية السماح للجماعات الإسلامية بالاندماج في العمل السياسي بمجتمعاتها، ومدى نجاح التجارب السابقة؛ حيث تباينت الآراء بين فريق يرى نجاح هذه التجربة كما حدث في اليمن والأردن، وفريق يخشى أن يكون العمل السياسي مجرد واجهة لفرض الشريعة الإسلامية، ومصادرة الأفكار العلمانية.
وقالت جوليان شويدلر، الأستاذة المساعدة في قسم السياسات بجامعة ميريلاند، وهي التي رأست الجلسة: "إن المحور الأساسي تركز حول ما إذا كان يجب السماح للأحزاب الإسلامية في الأنظمة الديمقراطية أم لا؟".
وعرض المشاركون في الجلسة العديد من نماذج الفشل، فيما عرض آخرون نماذج اعتبروها ناجحة، مثل حزب الله، لكن شويدلر قالت: إن الانطباع العام الذي خرج به المشاركون في النقاش هو إمكانية دمج الجماعات الإسلامية في النظام السياسي بشكل عام، رغم وجود بعض التحفظات التي أيدها عدد من المتحدثين.
وعبرت شويدلر عن قناعتها بأهمية دمج هذه الجماعات في العمل السياسي، خاصة أن الاستثناء سياسة سيئة بحد ذاته، ويتعارض تمامًا مع الديمقراطية، مشيرة إلى أن التجارب أوضحت أن التطرف يتخذ أشكالاً أكثر حدة مع الاستبعاد والنفي. واستدلت شويدلر بالأردن واليمن كمثالين ناجحين لإمكانية دمج الإسلاميين في السلطة، دون أن يؤدي ذلك إلى أي مشاكل.(20/5)
لكن متحدثين من سوريا ومصر عبروا عن قلقهم من إمكانية أن تدفع هذه الجماعات بقوة من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، ومصادرة الآراء العلمانية الأخرى. وجاءت وجهة النظر هذه مؤيدة لما ذهب إليه مارتن كرامر -من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى- الذي ظل طوال الجلسة يدافع عن ضرورة استبعاد ممثلي الحركات الإسلامية من الأنظمة.
وقد عارض جميع المتدخلين هذا الموقف، واعتبروا أن فكرة الاستبعاد مناهضة للديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية، وشددوا على أن المهم ليس الدعوة إلى الاستبعاد، وإنما ضرورة إيجاد صيغ ملائمة تسمح باندماج هذه الحركات في الأنظمة السياسية العربية والأنظمة السياسية بصفة عامة.
تأثير دول الخليج
أما جلسة "الخليج وتأثيره على العالم الإسلامي"، فقد ناقشت دور دول الخليج في ظهور ما بات يعرف بالإسلام التطهري، وإمكانية قيام دول الأطراف في العالم الإسلامي بلعب دور أكبر في التأثير على دول المركز من ناحية تشجيع الاعتدال والتسامح.
وعن أهم المحاور التي شملتها الجلسة قال "مارتن آنديك" مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق في إدارة كلينتون: إن المجتمعين ناقشوا ما يسمّى بالإسلام التطهري، الذي تم تشجيعه في هذا الجزء من العالم الإسلامي، مشيرًا إلى أن هذا النوع من الإسلام له تأثير قوي في هذه الدول، موضحًا أن السؤال الذي تم مناقشته بشكل عميق هو: هل يمكن للأطراف أن تؤثر على المركز فيما يتعلق بإدخال المزيد من التسامح والتقليل من التوجه التطهري؟
وفي تعليقه على أهم محاور الجلسة قال الدكتور رشيد تلمساني -من معهد العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر: إن المحور الأساسي تمثل في تحديد العلاقة بين الوهابية والإسلام في منطقة الخليج، ومدى إسهام الإسلام في هذه المنطقة في بروز المجموعات الإرهابية، مشيرًا إلى أن تدعيم المؤسسات الثقافية والعلمية -من قبل المملكة العربية السعودية بصفة خاصة والخليج بصفة عامة- ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في بروز بعض الجماعات الإرهابية، على حد قوله.
وأضاف أن هذه العلاقة لم تشارك في صياغتها الولايات المتحدة وأوروبا اللتان ساهمتا بشكل مباشر في بروز هذه المجموعات، مشيرًا إلى أن أمريكا لم تكن عندها إستراتيجية محددة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية إلا في السنوات الأخيرة.
الديمقراطية في العالم الإسلامي
وفي جلسة حملت هذا العنوان "تباينت الآراء" أشار المشاركون من الجانب الأمريكي إلى أن العالم الإسلامي غالبًا ما يرمي بمسئولية غياب الديمقراطية على الغرب، بكل ما يعني ذلك من استعمار وما تبعه. كما أن ذات العالم يغضب عندما تحاول الولايات المتحدة مساعدته بدعوى التدخل في الشئون الداخلية، ويغضب أيضًا عندما تمسك أمريكا عن مساعدته ويطالب بتلك المساعدة.
وقدّم الدكتور عبد الحميد الأنصاري -عميد كلية الشريعة بجامعة قطر- ورقة حول هذا الموضوع، قال فيها: إن المعوقات الديمقراطية في البلدان العربية لا تعود إلى طبيعة النظام السياسي؛ لأن العالم العربي جرّب ديمقراطيات عديدة في بلدان كثيرة لكنها لم تترسخ، مؤكدًا أن الديمقراطية في الدول العربية لم تصل إلى المستوى المطلوب كممارسة.
وحول إشكالية قبول العرب والمسلمين مساعدة غيرهم على بناء الديمقراطية أو رفضهم لذلك.. قال الدكتور الأنصاري: إنها مشكلة حقيقية، لكن على الولايات المتحدة أن تواصل تشجيعها على "دمقرطة" الحياة العربية بالنصح والإرشاد. لكنه قال: إن المشكلة في النهاية هي مشكلة العرب والمسلمين.. فمتى كان لديهم استعداد للديمقراطية؛ فإنهم سيقبلون مساعدة الطرف الآخر في هذا الاتجاه. وضرب مثلاً بالشخص العاجز عن تكوين وبناء نفسه، رغم أن شقيقه يغدق عليه الأموال من أجل ذلك.
وأعرب الأنصاري عن اعتقاده بأن من واجب الدول الغربية تقديم المساعدة لبناء البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية بالتشجيع وليس بالتدخل المباشر؛ وعلى العالم العربي أن يبدأ في التغيير نحو الأحسن، وأن يبدأ في الاعتراف بأن جزءًا من مظاهر المدنية النسبية التي يعيشها في حياته اليومية أتت بفضل الجهود الغربية. ولا ينفي ذلك أننا قد نختلف مع الغرب في بعض القضايا، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، لكن ذلك الاختلاف يجب ألا يفسد للود قضية.
تأثيرات 11 سبتمبر
وشدد الحاضرون في جلسة تأثيرات الحادي عشر من سبتمبر على ضرورة أن تكون الولايات المتحدة أكثر تفهمًا وأقل تجاهلا للحقائق في العالم الإسلامي. كما طالبوا الدول الإسلامية بالتوقف عن إلقاء اللوم على الغرب في حل مشاكلهم.(20/6)
وركز المشاركون في الجلسة التي تحدث فيها كل من عبد الهادي أبو طالب المستشار السابق للملك الحسن الثاني، ويوسف بن علوي وزير خارجية سلطنة عمان، ومارتن آنديك مدير مركز صباح لسياسة الشرق الأوسط، على ضرورة العثور على الوسائل الكفيلة بتعزيز التفاهم المشترك لتجاوز تبعات هجمات سبتمبر. فقد أكد مارتن آنديك على ضرورة أن تتدخل الولايات المتحدة بشكل أكثر انفتاحاً وفاعلية ورغبة في الاستماع إلى بعض المشاكل والمشاركة في حلها، مبيناً أن هذا هو الحل الوحيد للوصول إلى مستقبل آمن وزاهر.
وقال بعض المشاركين في الجلسة: إن آنديك حاول تحديد السياسات الأساسية للولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر من وجهة نظر محايدة وغير منحازة، كما أنه تكلم بنفس الدرجة من الحيادية عن العالم الإسلامي. لكن هؤلاء قالوا: إن لب المشكلة الآن يكمن في تحول أمريكا إلى القوة العظمى الوحيدة في العالم؛ وهو ما يعني أن أمريكا تستطيع ممارسة هيمنتها وإملاء شروطها، دون أن تواجَه بأي اعتراض من أي طرف، مبيناً أن واشنطن باتت تلعب دور شرطي العالم الآن من حيث تحديد ما هو الصواب وما هو الخطأ.
ضرب العراق
وفي الجلسة الأخيرة من جلسات مؤتمر الحوار الإسلامي الأمريكي تمت مناقشة موضوع العراق، وإمكانية تعرضه لضربة عسكرية أمريكية في ضوء تصاعد التهديدات من قبل إدارة بوش. وقد تحدث "فيل جوردان" المحاضر في معهد بروكنجز، و"جميل مروة" محرر صحيفة الديلي ستار، ورأس الجلسة "جمال السويدي" مدير مركز الإمارات للدراسات الإستراتيجية.
واتفق المشاركون على أن أمريكا قد غيرت من سياساتها بشكل واضح من خلال التزامها بالمظلة الدولية فحسب، بل أيضاً من خلال ما صرح به وزير الخارجية الأمريكي كولن باول بأن الأمر بالنسبة لواشنطن لا يتعلق بتغيير النظام بقدر ما يرتبط بالالتزام بقرارات الأمم المتحدة بشأن عودة المفتشين.
وفي هذه الجلسة تباينت وجهات النظر بين المفكرين الإسلاميين؛ حيث أعرب عدد من المثقفين الخليجيين عن قلقهم إزاء سياسات النظام العراقي، فيما كان المتحدثون من دول غير خليجية أقل توجسًا من صدام. ورغم الخلافات في الرأي بين المفكرين العرب والمسلمين أنفسهم من جانب، وبينهم وبين الأمريكيين من جانب آخر.. فإن بعض الأمريكيين يعتقدون أن الولايات المتحدة لا تريد الحرب مع العراق؛ وإنما ترى أنه لا مفر من هذه الحرب إذا لم يطبق صدام قرارات الأمم المتحدة بشأن أسلحة الدمار الشامل، وهم يرون أن الأهداف ليست إمبريالية. لكن هذا الخلاف بين الجانبين لم يمنعهما من الاتفاق على أن نتائج الحرب ستكون معقدة وصعبة للغاية؛ حتى بالنسبة للمصالح الأمريكية.
وفي ختام أعمال المؤتمر عبر عدد من المفكرين والمثقفين المشاركين عن أهمية مثل هذا المؤتمر في تقريب وجهات النظر، وخلق بيئة حوارية بين العالم الإسلامي وأمريكا يهدف بحث القضايا ذات الاهتمام المشترك، التي تمثل في الوقت ذاته نقاط تماس ما زالت تعرقل أي تطور وتقدم في هذه العلاقات.
وأكد المشاركون أن الحوار هو بديل عدم الحوار؛ وهو البديل الحضاري للفوضى والعنف والأعمال العبثية والإرهابية. وعبر الجانب العربي والإسلامي عن قلقه إزاء السياسات الأمريكية في المنطقة، سواء فيما يتعلق بالعراق والانحياز الأمريكي المتواصل لإسرائيل، مؤكدين أن أي تطور في العلاقات الأمريكية مع الجانب العربي والإسلامي مرهون بإيجاد حل شامل وعادل للصراع العربي الإسرائيلي.
كما أكد المشاركون على أن العلاقات بين أمريكا والدول العربية والإسلامية بحاجة إلى تنظيم سياسي وثقافي وإستراتيجي عام، خاصة في الفترة التي تلت أحداث سبتمبر. كما أكد الجانب العربي والإسلامي على أهمية الإصلاحات، بشرط أن تكون نابعة من رغبة داخلية، وليست إملاءات أمريكية، مشيراً في هذا الصدد إلى أنه ليس من السهولة بمكان تغيير الأنظمة العربية والإسلامية بالقوة.
ووصف كثير من المشاركين مؤتمر الدوحة بأنه الخطوة الأولى لتحقيق فهم أفضل في القضايا الخلافية بين الجانبين؛ لتصحيح المفاهيم الخاطئة لدى هذا الجانب أو ذاك، وتأسيس علاقات إيجابية سليمة. لكنهم أكدوا أن هذا المؤتمر يحتاج إلى مؤتمرات مستقبلية؛ لأن النتائج المرجوة في مثل هذه القضايا لا يمكن أن تتحقق من خلال لقاء أو اثنين.. بل تتحقق من خلال خبرة تراكمية وعلى المدى البعيد.
============(20/7)
(20/8)
الإستراتيجية الأمريكية.. نزوع إمبراطوري ينذر بفوضى دولية
08/10/2002
أحمد منيسي- القاهرة **
بوش وباول.. من يحتوي من؟
ليس ثمة خلاف حول كون الحادي عشر من سبتمبر 2001 يمثل محطة مهمة في تاريخ العلاقات الدولية، وربما يكمن الخلاف فقط في توصيف طبيعة اللحظة التي تمت فيها الاعتداءات على نيويورك وواشنطن في ذلك اليوم؛ حيث ثمة اتجاهان في هذا الصدد:
الأول: يرى أنها لحظة فارقة أدت إلى تشكيل سياسة خارجية أمريكية جديدة ذات معالم مختلفة عن تلك التي كانت قائمة من قبل.
أما الاتجاه الثاني فيؤكد أنها لحظة كاشفة؛ بمعنى أن السياسة الخارجية الأمريكية التي بدأت تتشكل عقب تلك الاعتداءات لم تكن في الواقع جديدة.. فقد كانت أسس هذه السياسة قائمة بالفعل، وكل ما فعلته أحداث 11 سبتمبر أنها عرّت واقع تلك السياسة، وقدمتها للعالم في صورتها الحقيقية خالية من اللمسات ومحاولات التجميل الزائفة، كسياسة تنزع بشدة نحو الهيمنة على مقدرات عالم ما بعد الحرب الباردة.
حدود الحدث
وبعيدًا عن هذا الخلاف فإن ما يهمنا بالفعل أن أحداث 11 من سبتمبر كانت إحدى المحطات الرئيسية في النظام الدولي لعالم ما بعد القطبية الثنائية، وهو ما يسلم به كل من هذين الاتجاهين، وينبع ذلك من حقيقة أن هذه الأحداث قد أنهت ما عُرف بنظرية الاستثناء الأمريكي؛ فطوال التاريخ كانت الولايات المتحدة مجتمعًا محصنًا ضد الاعتداءات الخارجية، فكل الحروب التي خاضتها، وكل الاعتداءات التي طالت مصالحها.. كانت خارج حدودها.. حتى حادثة "بيرل هاربر" الفريدة أثناء الحرب العالمية الثانية وقعت في أبعد ولاياتها، وهي ولاية "هاواي" التي تبعد 3 آلاف كيلومتر عن اليابسة الأمريكية.
ومن ثم فإن أحداث 11 من سبتمبر التي طالت المعركة إلى عمق الأراضي الأمريكية جاءت كالصدمة التي كان لا بد أن يتبعها تغير مهم في مفهوم الأمن القومي الأمريكي، الذي صار غير قادر على حماية الداخل الأمريكي نفسه.
أبعاد التغير
هذه الصدمة خلقت سياسة خارجية أمريكية مسكونة بمحاربة ما يسمي بالإرهاب، الذي انفردت الولايات المتحدة بتحديد مفهومه وآلية مواجهته والنطاقين الجغرافي والزمني لهذه المواجهة. وصار تأمين الخارج لمواجهة هذه "الشرور" هو الهاجس المسيطر على صنع القرار.
وقد أدى هذا الوضع إلى تعزيز التطرف اليميني للحزب الجمهوري الحاكم في الولايات المتحدة، تحت ما بات يعرف بـ"حزب الإمبراطورية الأمريكية"، الذي يستمد توجهاته السياسية من الأصول الفكرية التقليدية للحزب الجمهوري، ومن الخبرة العملية لسياسات الرئيس الأسبق "رونالد ريجان".
ويشمل حزب الإمبراطورية الأمريكية تيارات عريضة في الحزب الجمهوري، وكذلك الحزب الديمقراطي، والعديد من الحركات السياسية والجمعيات وجماعات الضغط.
ولهذا التوجه مفكروه في العديد من المؤسسات الأكاديمية والمؤسسات الصحفية والمنابر الثقافية والفكرية الأخرى.
وأصحاب هذا التوجه يسمون أنفسهم "الوطنيون الأمريكيون"، وهدفهم هو إقرار مبدأ سمو أمريكا، وعدم قابليتها للمحاسبة في النظام الدولي، وهيمنتها التامة على الساحة العالمية، وإخضاعها للقوى الأخرى، حتى ولو تطلب ذلك استخدام القوة العسكرية الفجة بما فيها السلاح النووي.
وقد صاحب هذا التغير بروز دور المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخبارية، على حساب دور الكونجرس. وفي السياق نفسه تراجع مفهوم الأمن الشخصي والحريات العامة لصالح ما سُمي بالأمن المجتمعي.
إستراتيجية جديدة
وقد أفرز هذا التوجه الأمريكي لمحاربة الإرهاب نزوعًا جارفًا نحو الهيمنة، وبات شعار "مكافحة الإرهاب" بعد 11 سبتمبر هو البديل لشعار "مكافحة الشيوعية" زمن الحرب الباردة.
وبدأت السياسة الخارجية الأمريكية تحدث تحولا في السياسة الدفاعية من كونها سياسة تقوم على مبدأ الاحتواء إلى سياسة دفاعية تقوم على مفهوم الهجوم الوقائي.
وفي السياق نفسه وبعيدا عن الوجه السافر لمفهوم الهجوم الوقائي بدأت السياسة الخارجية الأمريكية حملة للتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى؛ مطالبة بإحداث تغيرات في مناهج التعليم بدعوى أنها تشجع على التطرف وكراهية الآخر.
وبدا العالمان العربي والإسلامي هما المستهدفين الأساسيين من هذه الحملة؛ على اعتبار أن المتهمين باعتداءات 11 من سبتمبر هم من هذه الدول، وقد فعلوا هذا بتحريض مبطن من ثقافة دولهم.
وبهذه الخطوة أرادت الولايات المتحدة بتصور خاطئ عن الإسلام مسخ ثقافة هذه الدول، وإفساح المجال لتكريس النموذج الثقافي الأمريكي، الذي يمثل الأساس الأيديولوجي للسياسة الخارجية الأمريكية الجديدة باعتباره الأرقى، مقارنة بالثقافات الأخرى.
وعلى الرغم من الصراع الحالي الذي تشهده الولايات المتحدة بين من يسمون بالصقور والحمائم في إدارة الرئيس بوش، حول هذا التوجه الجديد للسياسة الخارجية الأمريكية.. فإن مؤشرات القوة تبدو لصالح الصقور الذين يدفعون في سبيل تكريس هذا التوجه الإمبراطوري.(20/9)
وقد أدى الانتصار السريع الذي حققته الولايات المتحدة على حركة طالبان إلى تدعيم قناعتها بالاعتماد على مبدأ القوة الفجة كسبيل وحيد لمحاربة ظاهرة الإرهاب، وإعادة ترتيب العالم وفقا للمنظور الأمريكي؛ وهو ما يصب في صالح تصور الصقور.
وعلى خلفية هذا الصراع تبدو الإدارة الأمريكية الحالية منقسمة على نفسها إلى اتجاهين:
الأول: يمثله اليمين من الصقور. ويأتي على رأس هذا التيار ديك تشيني نائب الرئيس بوش، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائبه المتطرف بول وولفوفيتز، وكونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي.
والثاني: يمثله ما يسمى بتيار الواقعية السياسية، وهو تيار صغير جدا يكاد يمثله وزير الخارجية كولن باول منفردا.
ومن المؤكد أن هذا الانقسام يخلق في النهاية سياسة خارجية مضطربة، ولعل الجدل الأمريكي الحالي حول أولوية الحرب ضد العراق تعكس هذا الحال من الاضطراب.
وفي سياق انغماس السياسة الخارجية الأمريكية بعد 11 سبتمبر بمحاربة ما تسميه "الإرهاب" لا تقبل واشنطن من الآخرين سوى الانصياع لها.
وقد كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوش عقب هذا الأحداث واضحًا: "فإما مع أمريكا أو مع الإرهاب".
وفي إطار هذا التوجه أيضًا خطا بوش خطوة أخرى في خطابه الذي ألقاه عن حالة الاتحاد في فبراير الماضي، والذي قسم فيه العالم إلى "أخيار وأشرار" من خلال ما قاله حول "محور الشر".
أخطار جسيمة
ولا شك أن هذا التحول الذي طال السياسة الخارجية الأمريكية يحمل في طياته أخطارًا جسيمة على النظام الدولي القائم؛ حيث أفرز الكثير من المفاهيم الخاطئة والمغلوطة.
فقد حولت الولايات المتحدة حق الدفاع الشرعي عن النفس الذي استخدمته كستار لحربها ضد أفغانستان إلى ظلم وعدوان، وأحدثت في توجهها الجديد خلطًا متعمدًا بين الإرهاب وحركات المقاومة، وكان ذلك بسبب أن هذه المفاهيم قد تمت صياغتها من قِبل طرف واحد، ولتحقيق مصالح طرف واحد هو الولايات المتحدة.
وتنبع مخاطر حدوث انقسام وفوضى في النظام العالم على خلفية تصاعد النزعة الفردية الإمبراطورية الأمريكية، من حقيقة أن الولايات المتحدة إذا كانت قد استطاعت في ظل الشحنة الانفعالية الكبيرة التي أفرزها الهجوم على نيويورك وواشنطن حشْدَ تحالف دولي ضخم للحرب في أفغانستان.. فإن هذا التحالف بدا بعد إسقاط طالبان غير مستعد للانسياق الكامل وراء الرغبات الخاصة للولايات المتحدة لإعادة صياغة العلاقات الدولية، وفقا للمنطق الأمريكي وحده.
ومن الأمثلة الدالة على ذلك: المواقف المتباينة للقوى الأخرى في النظام الدولي إزاء التهديد الأمريكي الراهن بضرب العراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين عَنوة.
حيث إن هناك رفض أوروبي معلن لهذه الخطوة من قبل ألمانيا مثلا، وهناك رفض مضمر من قبل آخرين، وهذا معناه عودة العلاقات الدولية إلى مرحلة الاضطراب من جديد.
ومن المؤكد أن هذه الحالة من الاضطراب على الصعيد الدولي سوف تتصاعد مع تمادي هذه النظرة الأحادية للسلوك الأمريكي على الساحة الدولية، ومع استمرار الولايات المتحدة في اعتمادها على الخيار "صفر" في علاقاتها الدولية، الذي لا يتيح للقوى الأخرى مشاركة القوة الأمريكية، بل يكرس حصول واشنطن على ما تريد مقابل الإذعان التام من قبل هؤلاء الآخرين.
وإذا كان البعض يرى أن هذه السياسة كانت موجودة بالفعل قبل أحداث 11 سبتمبر، وهو ما يعني أن تلك الأحداث بريئة من هذا الانحراف الذي لحق بها؛ فإن هذا القول لا يبدو صحيحًا على إطلاقه، حيث إن هذا النزوع الأمريكي الجارف للهيمنة لم يكن متبلورًا كما بدا حاله عقب هذه الأحداث.
وبالرغم من هذا التشاؤم الذي أحاط بوصول بوش إلى الحكم، تخوفا من إحيائه لنهج إدارة ريجان إبان الحرب الباردة؛ فإن الولايات المتحدة بدت قبل 11 سبتمبر في انتهاج توجه انعزالي ملموس بعيدا عن "شرور العالم"، وهو ما تبخر تمامًا على خلفية هذه الأحداث التي أعادت زرع الوجود الأمريكي المتسلط في كل بقعة على الخارطة الدولية في إجراءات استباقية لتأمين الداخل الأمريكي ضد احتمال تعرضه مجددًا لما حدث في 11 سبتمبر.
وفي النهاية يمكن القول إن هذه التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الأمريكية تصب في صالح تضييق الخناق على الشرعية الدولية، وهو الأمر الذي يبدو واضحًا من تزايد التجاهل الأمريكي للأمم المتحدة، على النحو الذي يدعّم من فرضية شيوع الفوضى في العلاقات الدولية.
==============(20/10)
(20/11)
11 سبتمبر والتحولات في السياسة الخارجية الأمريكية
12/09/2002
أ.د. نادية محمود مصطفى**
الإستراتيجية الأمريكية.. مزيد من الاعتماد على القوة
لا يمكن دراسة التغيرات في السياسة الأمريكية -داخليًّا وخارجيًّا- بانفصال عن طبيعة إدراك أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتحديد مرتكبيها؛ وذلك لاعتبارين:
الأول: طبيعة الحدث ذاته: والذي يمكن تلخيصه في عدة نقاط؛ فهو:
- ضرب لرمزي القوة الأمريكية: الاقتصادية (مركز التجارة العالمي) والعسكرية (البنتاجون).
- ضرب للأمن الأمريكي من الداخل.
- ضرب بأسلوب عولمي تخطى حواجز الدول والحدود.
- هائل الأثر على الداخل الأمريكي، وتصوره عن أمنه، وتصوره عن نفسه، وعن رؤيته للعالم من حوله.
الثاني: أهمية وضرورة تحديد مرتكبي الحدث:
فإلقاء التهمة على العرب والمسلمين له معنى وله عواقب كثيرة، مهما أعلنت الولايات المتحدة أنها لا تحارب الإسلام والمسلمين. كما أن تهمة "الإرهاب" تفسح الطريق لكل شيء، وبكل الطرق؛ ولذا فإن ما بعد الحادي عشر من سبتمبر ليس تغيراً، ولكنه كشف عن تحول تكون بالتراكم والتدريج عبر نحو 15 عاماً سواء تجاه العالم أو تجاه المنطقة العربية. ولكن يظل التساؤل القائم هو: هل ما حدث - وهو جلل بالنسبة للولايات المتحدة- سيدفع بها نحو مزيد من سياسات القوة؟ أم نحو مراجعة هذه السياسات التي كانت محصلتها هي التي قادت إلى ما تعرضت له في الحادي عشر من سبتمبر2001؟ باعتبار أن ما حدث هو عرض وليس سبباً.
يثير ذلك تساؤلا هامًّا: ما رؤية الولايات المتحدة لهذا الحدث؟ وكيف أدركته؟ وكيف فسرته؟ هل رأت أن ما حدث ناجم عن مجرد العداء للغرب ونموذجه وللعالم الحر؟ أم هو رد فعل لسياسات ظالمة سابقة تعرضت لها شعوب عديدة؟ ألم يتطرق التفكير والبحث إلى طرف آخر -غير العرب والمسلمين- قد يكون ضالعاً في الأحداث؟ ولماذا عدم الإعلان عن الأدلة -مع الرفض في نفس الوقت- وبشكل قاطع وصريح لكل تساؤل حول فواعل أخرى غير القاعدة وأسامة بن لادن؟
تحولات الإستراتيجية الأمريكية العالمية
ومن التساؤلات الأخرى المثارة: هل طبيعة حدث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تقتضي تغيرًا عاديًّا في السياسة الخارجية الأمريكية في نطاق العلاقة بين الاستمرارية والتغير اللذين تشهدهما سياسة أي دولة، أم أنه ولَّد تغيرات تؤسس لتحول في الإستراتيجية العالمية للولايات المتحدة وللعالم برمّته، أو تكشف عن تحول جرت صياغته تدريجيًّا، ونعايش الآن مؤشراته وتجلياته الأولى التي ستتدعم فيما بعد؟
وبعيدًا عن رؤية بعض المراقبين التي تميز بين إمكانية وجود تغيرات جوهرية بين الديمقراطيين والجمهوريين في التعامل مع الحدث؛ فإن الشيء المتفق عليه والمتوقع أن التيارين كانا سيختلفان فقط حول سبل إدارة الإستراتيجية العالمية الحديثة وأدواتها، وليس حول جوهرها ومنطقها.. فالسياسة الأمريكية العالمية دخلت تحولاً سواء كان يديرها ديمقراطيون أو جمهوريون. فإذا كانت حرب الخليج 1991 (التي قادها الجمهوريون) قد قدمت مؤشرات على تلك التحولات؛ فإن حرب كوسوفا (التي قادها الديمقراطيون) قدمت مؤشرات أخرى، وتأتي حرب أفغانستان فتقدم مؤشرات ثالثة، والحرب الدائرة في فلسطين تقدم مؤشرات أخرى… وهكذا.
فإن المرحلة التي يعيشها العالم الآن وتشهدها الإستراتيجية الأمريكية العالمية هي مرحلة الأحادية والهيمنة الأمريكية، ولكنها "المتوحشة" المتخلية عن كل قيم وأبعاد النموذج الأمريكي "الإيجابية". والمؤشرات على ذلك عديدة، منها الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب كأولوية للسياسة الخارجية التي يطلق عليها "مبدأ بوش"، وتوسيع هذه الحرب، وإعادة فك الارتباط بالعالم، وتوثيق العلاقة بالحلفاء في إطار المصلحة الأمريكية أساسًا.
وتمثل هذه المؤشرات عناصر التحول في السياسة الأمريكية أيًّا كان الحزب الحاكم في الولايات المتحدة؛ وهو ما يجعلنا نتوقف عند أمرين:
الأول: كان هناك تحول تم الكشف عنه بعد 11 سبتمبر:
فإذا كان الانتقال من إدارة كارتر إلى إدارة ريجان قد شهد انتقادات الجمهوريين والمحافظين منهم للنمط الديمقراطي (خلال مرحلة اندلاع الحرب الباردة الجديدة التي أسست نهاية الحرب الباردة)، فإن إدارة كلينتون قد شهدت جدالاً أيضاً حول التوجه الجديد للإستراتيجية الأمريكية العالمية في مرحلة جديدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. وكان التساؤل الذي ظل قائمًا حول شكل العالم الجديد: هل يكون أحادي القطبية أم متعدد الأقطاب؟ ومع إدارة بوش الابن -قبل الحادي عشر من سبتمبر2001- واجهت إدارة كلينتون السابقة نفس انتقادات ريجان لكارتر. ولكن بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 انكشفت التغيرات عن الكامن التدريجي المتراكم منذ 15 عامًا، وهو الأمر الذي أفرز تحولاً أكد أحادية النظام الدولي، وذلك على ضوء سلوك الولايات المتحدة الخارجي بصفة عامة، وتجاه المنطقة العربية بصفة خاصة.(20/12)
لذلك فإذا كان بعض المحللين يرى أن "الحرب ضد الإرهاب أو توسيعها" تمثل أولوية للسياسة الخارجية الأمريكية، فإنهم يقتطعون الحقيقة؛ إذ لا يشيرون إلى التقسيم الجديد للعالم والمعايير الجديدة لهذا التقسيم، التي تختفي وراء الإعلان عن هذه الحرب. وهي ليست معايير أيديولوجية أو معايير توازن قوى، ولكنها معايير ذات أبعاد ثقافية حضارية لا يستطيع مصطلح "الإرهاب" المطَّاط إخفاءها؛ لأن هذا التقسيم يضع عالم الإسلام والمسلمين في كفة قوى الشر والقوى غير المتحضرة، وهو تقسيم يتأثر باعتبارات ثقافية حضارية يفرزها اليمين الديني الأمريكي الذي يلعب دورًا سياسيًّا محوريًّا في الإدارة الأمريكية الراهنة.
الثاني: أن الاختلافات بين تقاليد الحزبين الجمهوري والديمقراطي الخارجية تهتز الحدود الفاصلة بينها في أوقات الأزمات، وليس هناك أخطر مما واجهته الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولذا كانت هناك حالة من شبه التوحد وراء بوش رغم ظهور استثناءات، ولكن بصوت منخفض.
لذا فمن الآن فصاعدا لا أرى سبباً لانشغال المحللين بهذا الفارق بين الحزبين؛ وذلك لما أضحى عليه التداخل الكبير بين السمات الكبرى لتقاليد كل منهما في إدارة السياسة الخارجية؛ أي التداخل بين استخدام الأداة العسكرية لحماية المصالح الأمريكية المادية المباشرة (الجمهوريون) والاهتمام بالقيم الأمريكية مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن ثم عدم الإفراط في اللجوء للقوة العسكرية كسبيل للتغيير (الديمقراطيون).
وقد ظهر ذلك التداخل تدريجيًّا منذ التدخل في كوسوفا؛ حيث استخدم الديمقراطيون القوة العسكرية لحفظ منظومة قيم -كما أعلنوا-، كما ظهر من قبل من جانب الجمهوريين في حرب الخليج الثانية (1991)، عندما أكدوا أن استخدام القوة العسكرية إنما هو من أجل الشرعية الدولية وبناء "نظام عالمي جديد".
كذلك فإن أنماط استخدام القوة العسكرية في أفغانستان، والسكوت عن استخدامها من جانب إسرائيل في فلسطين، والتهديد بها ضد العراق وغيرها.. ليس انعكاساً للتقاليد الجمهورية في صورتها "النقية"، ولكنها مختلطة بالبعد القيمي وفق المفهوم الأمريكي؛ أي مقاومة قوى الإرهاب (قوى الشر)، التي تهدد منظومة قيم العالم الحر بقيادة أمريكية، ومن ثم يهدد الإرهاب صميم المصالح المادية المباشرة بعد أن ضرب بقوة في صميم العاصمتين الأمريكتين: المالية والسياسية.
وهنا تبرز الخطورة الجديدة في تقاليد السياسة الخارجية الأمريكية؛ أي التداخل بين أبعاد القوة العسكرية وأبعاد المنظومة القيمية، وحيث لم تعد الأخيرة تلبس رداء الأيديولوجيا فقط كما حدث خلال الحرب الباردة، ولكن أضحت تلبس رداء الأبعاد الثقافية الحضارية، وحيث أخذت الولايات المتحدة تستحضر الأساليب اللازمة لحمايتها، فردية كانت أم جماعية، عسكرية كانت أم ثقافية.
==============(20/13)
(20/14)
بأيدينا الأصيلة.. لا بأيديهم المشبوهة
18/9/2003
شيرين حامد فهمي **
الديمقراطية المعكوسة
اكتشفت إليزابيث تشيني فجأة بعد نصف قرن -وهي ابنة نائب الرئيس الأمريكي التي ترأس برنامج تنمية الديمقراطية في العالم العربي التابع للخارجية الأمريكية- أن المنطقة العربية "غير ديمقراطية"، وأنها تحتاج إلى "دمقرطة" عاجلة.
وإليزابيث تشيني لم تأت بجديد؛ فبرنامج "تنمية الديمقراطية في العالم العربي" قد تم الإعلان عنه قبل أكثر من سنة. والحقيقة أن هذا البرنامج -كما يقول الباحث الفلسطيني خالد الحروب- "يمثل نقطة انعطاف أساسية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه موضوع الديمقراطية في المنطقة العربية؛ حيث كانت السياسة السابقة -التي كانت تترك الأمور الداخلية للشعوب والحكومات العربية- مريحة لجميع الأطراف، سواء الحكومات الاستبدادية أو الإدارة الأمريكية، ما عدا الشعوب العربية". باختصار.. إن هذا البرنامج قام بتحويل دفة السياسة الأمريكية من "احترام الخصوصيات الثقافية" إلى التوغل في البنى الداخلية للمجتمعات العربية باعتبارها "المولد الأساسي للإرهاب".
ويقوم أساس البرنامج على "مبادرة شراكة الشرق الأوسط" (MEPI) The Middle East Pa r tne r ship Initiative التي تم الإعلان عنها في ديسمبر 2002؛ والممولة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية. وتعمل هذه المبادرة على: الإصلاح الاقتصادي من خلال تنمية القطاع الخاص وتشغيل الاستثمار؛ والإصلاح التعليمي؛ وتنمية المجتمع المدني، وتفعيل الشفافية good gove r nance))، وتدعيم مشاركة الرجال والنساء في العملية السياسية.
ويلفت السيد ياسين انتباهنا إلى أن الحالة العربية أضحت مشكلة عالمية ! ويكفي للتدليل على ذلك -والكلام لياسين- الإشارة إلى التقرير الصحفي الذي أعده كل من "بيتر سليفن" و"روبين راين" بعنوان: إدارة بوش تعلن أن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط هو المهمة الأخلاقية لهذا العصر؛ حيث اعتمد هذا التقرير على الكلمة التي ألقتها كوندوليزا رايس -مستشارة الأمن القومي الأمريكي- أمام الجمعية الوطنية للصحفيين السود ؛ فأوضحت أن "تطوير الحرية في الشرق الوسط هو التحدي الأمني والمهمة الأخلاقية لعصرنا"، من خلال إيجاد منطقة ذات مجتمعات مفتوحة بطريقة متزايدة، وازدهار اقتصادي، وحكومات تمثيلية .
وكما نلحظ -من كلمات كوندوليزا- فهناك ثلاثة مداخل للاقتراب الأمريكي الحالي من المنطقة العربية:
1- الاقتراب الثقافي الاجتماعي، حيث "المجتمعات المفتوحة بطريقة متزايدة".
2- الاقتراب الاقتصادي الذي يتمثل في "الازدهار الاقتصادي".
3- الاقتراب السياسي، حيث "الحكومات التمثيلية".
ولنأخذ كل اقتراب بالتفصيل، محاولين استشفاف ما يكمن وراءه من أهداف حقيقية، ولكنها غير مكتوبة؛ ومحاولين أيضا رصد الممارسات الأمريكية مع الدول العربية -حتى الآن- في هذا الصدد.
الاقتراب الثقافي الاجتماعي
من الملاحظ أن هذا الاقتراب يقوم بالأساس على تبادل الزيارات الطلابية بين الدول العربية والولايات المتحدة، بهدف "تبادل الآراء الذي يساعد في تخطي سوء التفاهم، كما تقول إليزابيث تشيني؛ والتي تضيف: "إننا في نهاية المطاف نعيش جميعا في عالم أصبح أصغر. وأصبحنا أكثر قربا من بعضنا بعضا، ومن المهم الآن -أكثر من أي وقت مضى- أن يفهم بعضنا بعضا. لذا نأمل أن نتمكن من الاستمرار في تشجيع هذه الأمور من خلال مبادرة الشراكة".
ويشكل التعليم عنصرا أساسيا في الاقتراب الثقافي الاجتماعي. ومن الممارسات الأمريكية في هذا الصدد قيام وزارة الخارجية الأمريكية بإعطاء دروس تعليمية لصحفيي "الشرق الأوسط" في أصول الدقة، والموضوعية، والتوازن في التقارير والإعلام المحلي.
وقد عقدت ورشة عمل بالأردن في أثناء الحرب على العراق، حيث قامت الخارجية الأمريكية بتدريب حوالي 40 أردنيا وفلسطينيا وسعوديا على المهارات الصحفية، والتحليل النقدي، وحرية التعبير. وكذلك قيامها في الجزائر بدعم برامج تنموية -تكلفت أكثر من 500.000 دولار في خلال عام 2002- بهدف تقديم تعليم تطبيقي عن مجال حقوق الإنسان لكل من القضاة والمحامين وممثلي المؤسسات غير الحكومية.
وأيضا قامت بتمويل مؤتمرات للتعليم المدني للنشطين الأردنيين؛ وبتمويل وفد من العلماء الإسلاميين الأردنيين لحضور برنامج "الدين في الولايات المتحدة".
أما قضية المرأة فهي تمثل محورا بارزا في الاقتراب الثقافي الاجتماعي. وأكثر ما لفت انتباهي -عند قراءة ممارسات البرنامج الديمقراطي لوزارة الخارجية الأمريكية- هو شيوع "برنامج الزائر الدولي" Inte r national Visito r P r og r am في معظم الدول العربية إن لم يكن كلها.
ففي الجزائر مثلا، تم إرسال ثمانية جزائريين إلى الولايات المتحدة لتحصيل الخبرة الأولية في حقوق المرأة ودورها في المناصب الحكومية؛ وكذلك تم تشجيع هذا البرنامج في داخل البحرين.
ومن المغرب سافرت خمس ناشطات سياسيات إلى الولايات المتحدة بهدف مراقبة انتخابات الكونجرس الأمريكية التي أجريت في نوفمبر 2002.(20/15)
كما أرسلت السفارة الأمريكية في لبنان خمس ناشطات لبنانيات إلى الولايات المتحدة، ضمن الخطوات المبرمجة لتأهيل المرأة العربية في الدخول إلى الحلبة السياسية.
وفي خريف 2002 قام البرنامج بدعوة أربع ناشطات كويتيات لإشراكهن في التأهيل الإقليمي المسمى بـ "النساء كمشاركات سياسيات".
وكذلك تشكل برامج "التسامح الديني" لتمثل عنصرا آخر في الاقتراب الثقافي الاجتماعي، وتموله المساعدة الأمريكية USAID. وتتجلى تلك البرامج في مصر خاصة، حيث تذاع حلقات تليفزيونية باسم "شارع سمسم"؛ بالإضافة إلى الحوارات الدينية التي تنظمها السفارة الأمريكية بمصر.
ونجد في إيران -مثلا- تأييد الخارجية الأمريكية للحرية الدينية، خاصة للبهائيين. ومما يلفت الانتباه أن لغة "التسامح" لا تنسحب فقط على موضوع الدين، وإنما تنسحب أيضا على موضوع القانون؛ حيث تم إدراج وسائل أكثر ليونة لحل الأزمات، مثل الوساطة، والاستخدام الواسع "للوثيقة الجنائية"، كما هو الجاري تطبيقه في مصر.
وتلخيصا لما سبق، فإن مهندسي الخارجية الأمريكية يرون أن هذه البرامج (الثقافية والتعليمية والنسوية) من شأنها أن تقلل من حدة اليأس المتفشية في المنطقة العربية، ذلك اليأس الذي تراه إليزابيث تشيني مساهمًا بشكل مباشر في "إيجاد تربة خصبة لأيديولوجيات لا تقنع بالتطلع للتعليم الجامعي والوظائف وتكوين الأسر ، بل إلى تفجير أنفسها وقتل أكبر عدد من الأبرياء معهم بقدر الإمكان ".
المدخل الاقتصادي
ترى تشيني أن التطرف والإرهاب ينبعان من الفقر، وأن تحسين الظروف الاقتصادية مرتبط بتحسين الأداء الديمقراطي. ومن ثم فمن المهم للغاية -بالنسبة إلى مستقبل المنطقة- أن يتحول النظام الاقتصادي إلى اقتصاد السوق، وأن يخف تدخل الدولة فيه. وفي الوقت نفسه فقد نفت أن تكون واشنطن تسعى إلى فرض أي سياسة معينة على دول المنطقة.
وأعربت عن اعتقادها بأن ثمة تجانسًا في المصالح بين الدول العربية والولايات المتحدة من أجل حدوث تغيير؛ "لأنه كلما عاش الناس بحرية يتعزز أمننا جميعا"، مؤكدة أن الأمر يتعلق بمصلحة الأمن القومي الأمريكي.
وتضيف تشيني: "نحن نعتقد أن هذه المثل هي الفضلى، والسبب ليس كونها أمريكية، بل لأنه إذا سألنا الناس في أي مكان أو زمان عما إذا كانوا يفضلون التمتع بالفرص لكي يجنوا المال الكافي لإعالة عائلاتهم، أو عما إذا كانوا يفضلون التعبير عن آرائهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، فإن جوابهم سيكون دائما إيجابيا أيا كان المكان الذي يعيشون فيه؛ لذا نعتقد أن هذه القيم عالمية، وأن التاريخ أظهر أن تمازج الحرية والفرص ضروري لنجاح الشعوب، ونرى أن ذلك ضروري كذلك لضمان أمننا جميعا".
وفي هذا الصدد نجد الولايات المتحدة على اهتمام بحقوق العمال؛ فنجدها مثلا تدفع الحكومة الكويتية إلى التركيز على حقوق العمال، خاصة الأجانب منهم، الذين ينتشرون بكثرة في داخل الكويت. وكذلك نجدها تشجع الأحزاب في الأردن على وضع معايير العمل للعمال الأردنيين، خاصة المشتغلين في مصانع الملابس المتزايدة.
الاقتراب السياسي
تستهل إليزابيث تشيني الحديث عن الاقتراب السياسي قائلة: "نحن ننظر في تشكيل حكومة ديمقراطية في العراق يمكن أن تكون كمثال للمنطقة بأسرها. وحاليا تقوم الولايات المتحدة بالآتي: برامج تدعيم دور الصحفيين المستقلين واتحادات العمال، وتعديل عمليات إدارة الانتخابات، وتدعيم حوار إقليمي عن الديمقراطية لأعضاء المنظمات غير الحكومية والحكومات".
وتؤكد تشيني أن الأمر يختلف من دولة إلى دولة؛ فكل دولة لها طبيعة خاصة، ومن ثم فلا بد من الاقتراب منها بالطريقة التي تلائمها. فمثلا في دولة مثل البحرين تم تمويل برامج لتدريب النواب المنتخبين الجدد، وتدعيم المركز الوطني الديمقراطي NDI الذي نظم ورشا للعمل تتمحور حول قضايا المرأة، والمشاركة السياسية، والتدريب النُظمي.
وبالنسبة لدور المرأة خاصة فيركز البرنامج الأمريكي على تدريبها في مجالات عدة، مثل: مهارات التواصل، ومهارات تولي القيادة، وتأمين فرص العمل.
وقد برزت الإصلاحات الأمريكية خاصة في مجال القضاء والقانون، وشملت تلك الإصلاحات المساهمة في خلق نظام قضائي أكثر فعالية -كما حدث في البحرين، والمساهمة في عدم تجديد قانون الطوارئ، وفي تطبيق القانون الليبرالي الجديد للمنظمات غير الحكومية -كما هو الحال في مصر، وشملت أيضا تلك الإصلاحات تمويل برامج للإصلاح القضائي، التي يتضمنها سفر القضائيين وتدريبهم على اللغة الإنجليزية، مثل ما حدث في الأردن.
وأخيرا تلخص تشيني قولها: "علينا أن نعمل جميعا بغية وضع نظام تتوافر فيه الشروط المواتية؛ ليعبر المزيد من الأفراد عن آرائهم ويتمكنوا من المشاركة في العملية السياسية.
لذا سنعمل مع بعض المنظمات غير الحكومية بهذا الهدف، ولكننا نعمل كذلك مع الحكومات نفسها ونجري محادثات معها عن أهمية تلك المسائل، وغالبا ما تكون المرة الأولى التي نتحدث فيها معا عن تلك المسائل، لذا فإنها شراكة نحاول فيها المساعدة لدعم التغيير على مستويات مختلفة".
آفات "البرنامج الديمقراطي"(20/16)
إن إنزال هذا البرنامج على أرضية الواقع -كما يقول الدكتور حسن نافعة- "لا يعني أبدا أن الانتصار النهائي لنظم الحكم الليبرالية على الطريقة الغربية أصبح نهائيا أو محتما".
ويعلق الدكتور نافعة هذا الأمر على سببين:
الأول هو أن التجربة الغربية عددها ضئيل وسط دول العالم، بالإضافة إلى حداثة نضجها. والثاني هو أن البيئة الخارجية للمنطقة العربية مختلفة تماما عن البيئة التي أنضجت التجربة الغربية.
كذلك فإنه لم يثبت حتى الآن -والكلام للدكتور نافعة- وجود "أي دراسة إمبريقية جادة حول علاقة ارتباط دائم بين شكل النظام وبين سلوكه وتصرفاته على المسرح الدولي"، فهتلر مثلا وصل إلى رئاسة ألمانيا من خلال مسلك ديمقراطي، ولكنه بعد ذلك اتجه إلى الفاشية والنازية، سواء في داخل بلاده أو خارجها، "غير أن الغرور وحده هو الذي صور للنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة أن نموذجها (السياسي الاقتصادي الاجتماعي) هو الذي انتصر، وأن العالم لن يكون بوسعه حل المشكلات ومواجهة التحديات التي تواجهه إلا إذا تبنى هذا النموذج طوعا أو كرها".
ومثل الدكتور نافعة يستنكر السيد ياسين هذا البرنامج قائلا: "إذا كنا لا نتردد في الموافقة على تشخيص كوندوليزا رايس للحالة العربية الراهنة بأنها تتسم بالافتقار إلى الممارسات الديمقراطية الحقيقية ، فإننا نرفض تماما المزاعم الأمريكية في كون هدف الولايات المتحدة هو ترسيخ الديمقراطية في الوطن العربي ! ".
ولا يقل خالد الحروب معارضة عمن سبق؛ فهو يصف الوضع الأمريكي الحالي، باعتباره نظاما تحكميا يُدار تحت اسم الديمقراطية، بهدف إجهاض أي تقدم ديمقراطي أصيل. فصارت "مصلحة الأمن القومي الأمريكي" هي الوجهة التي تحدد "السقف" الذي يجب أن يصل إليه الانفتاح السياسي للمجتمعات العربية، وصار هناك "ربط عضوي وتعسفي" بين الشكل السياسي الاجتماعي الذي يجب أن تكون عليه المجتمعات العربية وبين المصلحة الأمريكية العليا؛ وصار مشروع الدمقرطة مدمجا مع مشروع الدعم الأمريكي لإسرائيل.
ملخص القول -كما ينصح الحروب في النهاية- بأن أي مشروع ديمقراطي مقترن بالولايات المتحدة سيخفق في تحقيق الديمقراطية؛ لأنها ستصير مشبوهة، ومن ثم "فإن أفضل خدمة تقدمها الولايات المتحدة للمنطقة هي أن تبقى بعيدة عنها؛ لأن الديمقراطية إذا ولدت بقابلة أمريكية، فإنها ستكون وليدا مشوها مكروها".
والحقيقة أن ما تحاول فعله الخارجية الأمريكية مع المنطقة العربية، يمثل حلقة متصلة تحت عنوان: "أنا والآخر". "فواجب الرجل الأبيض" تجاه "العالم المتخلف" موجود منذ الأزل، وله تاريخ طويل.
فهذا الآخر بالنسبة للرجل الأبيض كان يمثل في البداية "الكافر"، ثم صار يمثل "الهمجي"، ثم "المتخلف"، ثم "الشيوعي"، وأخيرا "الإرهابي". وهو -كما يشير الدكتور علي مزروعي- انتقال من "الديني" إلى "الحضاري" إلى "الاقتصادي" إلى "الأيديولوجي" إلى "الثقافي".
وما نشهده الآن هو اجتياح عظيم للعولمة الأمريكية (عولمة الثقافة وعولمة الاقتصاد) تحت اسم "البرنامج الديمقراطي".
وقضية "أنا والآخر" تجلت بوضوح مع ظهور العولمة، ومع ظهور "القوة الرخوة" soft powe r التي تحدث عنها جوزيف ناي، وأخطر ما في الموضوع هو التصور الأمريكي الحالي، وهو: إن سبب الإرهاب يكمن في جذور الثقافة الإسلامية، والتي يحاولون اقتلاعها واجتثاثها بشتى الطرق، مرة تحت اسم "برنامج الزائر الدولي"، ومرة تحت اسم "مؤتمرات التسامح"، ومرة تحت اسم "الإصلاح القضائي".
"إن جوهر الخطر في مفهوم التحديث -كما يقول الدكتور سيف الدين عبد الفتاح- هو أنه وليد الحضارة الغربية وخبرتها، وأن محاولة تعديتها ليس إلا حالة من حالات التعدية الفكرية، ويعني أننا لم نتغير من الأعماق إلى الدرجة المطلوبة لملاقاة التحدي.
وفي حقيقة الأمر فالمجتمعات الغربية ليست مثلا أعلى أو وحيدا يقاس التقدم بقدر الاقتراب منه.
إن الذي لا يقتفي أثر خطواتك، ويرفض أن يستمر في السير خلفك، قد تفقد تبعيته لك إلى الأبد، وليس أكثر فعالية في ضمان هذه التبعية من أن تحاول إقناعه باستمرار بأنه ليس هناك هدف أكثر جدارة من أن يحاول اللحاق بك".
مراجع:
*
السيد ياسين، "تشخيص الوضع العربي"، الأهرام 14 أغسطس 2003
*
خالد الحروب، الحياة أغسطس 2003
*
حسن نافعة، "تساؤلات حول مستقبل الليبرالية السياسية.. بعد الحرب على العراق"، الحياة 13/8/2003
*
موقع وزارة الخارجية الأمريكية www.stategov.
============(20/17)