با دحدح : نعم هو المشروع الثاني، وتريد أمريكا اليوم أن تقوي هذا المشروع الذي طرحته على الدول الأوروبية... حتى في البلاد العربية الأخرى المرأة فيها تمارس كل ما تمارسه المرأة الغربية تقريبًا بحماية القانون، وفي دول عربية نعرف أنه لا يجوز التعدد الشرعي؛ بل وقدمت هذه الدول أفلامًا أظهرت فيها المرأة عارية تماماً، وظهرت فيها ممارسات جنسية على خشبة المسرح وهذا معروف ومكتوب ومنصوص عليه ومعروفة الأفلام والجوائز التي قدمت، ولا ينتقد هذا العمل الإجرامي اللاأخلاقي ضد المرأة المسلمة وامتهان كرامتها وتشجيعها على الانحلال. إذًا ما هو المطلوب في قضية المرأة السعودية؟ ولماذا التركيز عليها؟ السبب لأنها النموذج الوحيد المخالف للتيار العام، ومخالفته لها أصولها، سواء كانت شرعية أو واقعية أيضًا؛ فالتعليم المختلط يكاد يكون ممارسة طبيعية في العالم العربي والإسلامي.. العمل الذي امتهنت فيه المرأة في صور كثيرة يكاد يكون موجودًا في كل العالم الإسلامي.. المزايا الاجتماعية والمادية التي يكفلها الإسلام للمرأة لا تكاد تكون موجودة بصورة جيدة (لا أقول كاملة). ثم المملكة بجملتها من مكتسباتها الإسلامية ومحافظتها العامة في قضيتين مهمتين: قضية الصياغة القانونية، نحن هنا لدينا نظام البلد القائم على الإسلام ينص على هذه الأمور، وأيضا الوضع الاجتماعي العام. هذه كرست وضعًا مخالفًا لما يريد هؤلاء زرعه، ويجب أن نعرف كذلك هل قضيتنا الآن هي أن كشف الوجه فيه اختلاف فقهي، أم أن القضية هي ستار أكاديمي؟! إن عبارات من يدعون الإصلاح من معسكر أمريكا تقول نريد إصلاحًا وإعطاء دور أكبر للمرأة بما لا يتعارض مع الشريعة، ولا يتعارض مع تقاليدنا الاجتماعية، ولا يتعارض مع الدور الأساسي للمرأة، هذه عبارات لفظية والمهم ليست العبارة بقدر العمل، ويجب أن نعرف كيف يمكن أن نعتني عمليًّا بتحقيق الأهداف المتوخاة بما لا يتعارض مع الدور الأساسي للمرأة؛ كونها زوجة ومربية للأبناء، وقائمة في بيتها . الحقيقة أنهم يرمون بعبارات مطاطة غير قابلة للفهم لأن المرأة المسلمة دورها واضح وجلي في الإسلام وفي مجتمعنا السعودي المسلم، وهذه القضية لا بد أن نطرحها للناس بصدق إن كنتم يا من تنادون بتحرير المرأة عندكم أفكار كونوا أصحاب مصداقية فقولوا ماذا تريدون؟ وما هو النموذج للمرأة الذي تطرحون؟ نحن نريد أن نقدم نموذجنا الموجود في منهج الإسلام.. نعم في التقديم العملي في الجملة هناك أخطاء.
خذ مثالاً آخر وهو الغناء بالنسبة للمرأة؛ أنا لا أتحدث عن أحكام فقهية بشكل عام ..انظر إلى هذا الأمر الذي بدأ منذ سنين، و يوم أن كانت أم كلثوم تغني كانت تلبس من أخمص قدميها إلى رأسها، وأقصى ما في يدها المنديل.. الآن وصلنا إلى أن المغنيات العربيات يغنين وهن بلباس البحر تقريبًا!!
أقول: دقق النظر في هذه القضية، وانظر إلى التدرج فيها، وانظر إلى التدرج الحالي الذي وصلت إليه المرأة من الغناء على المسرح، ثم كان اللباس الفاضح، ثم جاء الفيديو كليب؛ فهل هذا الآن منتقد عند هؤلاء؟! أنا لا أسمع انتقادًا؛ بل يقولون: نحن نريد للمرأة أن تشارك في الفن.. مشاركة الفن نحن نعرفها والناس يعرفونها، وهي أمام أعيننا ليست شيئًا جديدًا. إذًا هل هم يريدون هذا أم شيئًا آخر؟! وضحوا لنا ما عندكم!(18/244)
د.باحارث : السؤال الذي يطرح مع قانون المرأة في العصر الحديث: أين هي المرأة التي تريدون من الفتاة السعودية؟ وهل تريدون أن تكون مثلها؟ أرونا إياها.. سوف يختارون -مثلاً- امرأة من أمريكا أو امرأة من هناك ؛ نقول: لا.. أرونا المجتمع الذي يمثل هذه المرأة، كم عدد هؤلاء النساء القدوات التي تريدون أن يكن مثلها الآن من حولنا، ليس هناك مجتمع قدوة أبدًا لا في الغرب ولا في الشرق، ولا في الدول العربية، ولا حتى في الدول الخليجية، نحن نجد في الحقيقة أنفسنا في نور جميل صالح بين هذه الظلمة الضخمة التي تحف بنا.. نعم القصور موجود ولا ننكره، ولا يمكن أن ينكر أحد هذا القصور، ولكن نحن أفضل الموجود قطعًا أنا أريد أن أضرب مثالاً فقط: المرأة السعودية كم حجم المال الذي يأتي للمرأة السعودية وهي غير مكلفة شرعًا بالإنفاق عن طريق التعليم وعن طريق الطب؟ شيء ضخم جدًّا.. أموال ضخمة جدًّا تصل إلى النساء، وهذا ليس موجودًا في أي مكان في العالم، وأنا أتحدى من هذا المكان أن يأتي أحد ويقول: إن هناك وظيفة في نظام وظيفي يعطي المرأة بقدر ما يعطي الرجل مع نفس الشهادات؛ بل عندنا هنا كثير من النساء بالبكالوريوس يحصلن على رواتب في التعليم لا يعرفها الأستاذ الجامعي، وكلنا يعرف هذا الكلام، وهذا نتحدى به الآن أي دولة في العالم، ثم بعد ذلك نقول للغربيين: أنتم الآن تزعمون تحرير المرأة.. أولاً أنتم قد اتفقتم جميعًا على أن المرأة الآن عندكم مضطهدة تستخدم في وسائل الإعلام وتستخدم في المراقص وتستخدم داعرة وتستخدم في أمهن الوظائف.. وهذه تقارير الأمم المتحدة، والأدلة موجودة! المرأة الراقصة والمرأة المغتصبة والمرأة التي تدير الوظائف ، والرجل تركها ورفع يده عنها، ويكفينا فقط وظيفة السكرتيرة، ومعروف ما معنى السكرتيرة؛ أي بالمعنى الإداري وبالمعنى حتى الأخلاقي، خادمات الفنادق.. خادمات الملاهي.. مضيفات الطائرات.. أهذه هي المرأة التي تريدونها؟ أم أنكم تريدون أن تضربوا المثال بتاتشر؟ كم سوف يكون هناك تاتشر.. هذه بريطانيا لم تظهر فيها تاتشر إلا مرة في تاريخ بريطانيا منذ أن كانت عظمى حتى أصبحت صغرى طوال هذه الفترة لم تنتج إلا امرأة واحدة تفتخر بها!، و هذه أمريكا الآن أكثر من مائتي سنة تعيش ليس فيها امرأة وصلت إلى هذه القمة ولا حتى نائب رئيس؛ فالقضية ليست سهلة بهذا الكلام.. إذا كانوا يريدون منهم تطور باتجاه معين نقول لهم: أعطونا المجتمع الذي اكتمل فيه شكل المرأة حتى نقتدي به؛ فإذا لم تأتونا به فسنظل على حالنا حتى تأتون به.
بالنسبة للانحرافات -أيها الإخوة- الانحراف دائمًا يبدأ يسيرًا سهلاً؛ فنقول: هذا أمر سهل لا خلاف فقهي، ثم يتوسع إلى ما لا قبل للمجتمع به، وهذا الذي يحصل الآن، عندما نقول المرأة تقود السيارة مثلاً نعم تقود السيارة، لكن بعد ذلك سوف تأتينا قضايا ضخمة جدًا . في تقرير للدولة السعودية في كتاب الإحصاء الذي تصدره وزارة الداخلية بعد خطة من الخطط الخمسية حينما كان في تلك الخطة الاستفادة من طاقة المرأة في التنمية؛ فإذا بتلك الخطة بعد خمس سنوات تفجعنا بإحصائية مفادها وجود عدد من النساء ممن وقعن في الجريمة، وهذه بحسب تعليق مقدم هذه الإحصائية أن هذا راجع كما نص في مقدمة الكتاب إلى انفتاح المرأة على العمل.(18/245)
د. با دحدح مبيناً : لدي مقال لمحرر أمريكي يقول: أمامي صورتين على مكتبي: صورة لامرأة أمريكية بلباس البحر، وصورة لامرأة بالبرقع، نظرت إليهما فظللت أفكر وأقارن.... يقول: لم أجد نفسي متحمسا للدفاع عن البرقع؛ لأنه غير موجود في ثقافتي، ولكنني نظرت إليه، فوجدت فيه مزايا أصبحت مشدودًا إليها و الاعتراف بحقيقتها .. يقول: مثل لي البرقع المرأة التي تركز على بيتها وزوجها ا وأطفالها وترعى مملكتها، يمثل البرقع معاني من الحياء. ووجدت النموذج الآخر كالتي تعرض نفسها في السوق ولا أحد يقبل بها، أو كأنها في المزاد العلني. وقد أجرى مقابلات حول نفس الموضوع، وفي تصريح له أشار إلى أن إشكالية الحجاب ووضع المرأة في السعودية التي هي لها صورة معينة في الفكر الغربي والإعلام الغربي لا وجود لها في هذا المجتمع، ولا تمثل شيئًا غريبًا أو شاذًّا في هذا المجتمع، وقال: وجدت النساء السعوديات وهن على هذه الصورة وهن على أحسن وأرقى مستويات التعليم، ويفقهن في الكمبيوتر والاتصالات الفعلية. وجاء أيضا في مقابلة مهمة إذ قالت له إحدى النساء وهي من المتعلمات في الغرب: إن كنت تسألني عن الإصلاح على نمط المرأة الغربية فأستطيع أن أجيبك بكل سهولة أني لا أريد ذلك لا، لا ،لا ..؛ لأنني أجد في بيئتي ومجتمعي ما لا أجده في هذا. وفي الحقيقة هذا التصور الآن بدا ضخمًا وهائلاً، والغرب اليوم يشكو من هذه القضية في مجالات كثيرة؛ فهناك جمعيات لا تحصى في أمريكا للدفاع عن المرأة ضد الاغتصاب وللدفاع عن المرأة ضد الانتهاك والدعارة؛ بل هناك الآن كثير من الجهات تريد أن تفصل المرأة في المواصلات العامة و تريد أن تفصل المرأة في الجامعات وفي قطاع التعليم، وأنا أذكر لك في جريدة التايمز المشهورة منذ عدة سنوات كان عنوان غلافها الرئيس (تشلدرن هاف تشلدرن) والتحقيق يقول: إن بنات عمرهن 11 و12 سنة يحملن ويلدن، وإحصائية قديمة أخرى عن طالبات الثانوية في نيويورك تقول إن نسبة من حملن من سفاح 48%. والآن صدر كتاب اسمه ( موت الغرب) يقول في المقدمة: إن عدد المواليد في 19 دولة أوربية وغربية أقل من عدد الجنائز، ويقول المؤلف: إننا سنموت وننتهي فعليًّا كبشر بمعدلات التناقص هذه الموجودة، فضلاً عن الجانب الأخلاقي، ونشرت هذه الإحصائيات في حلقات متتابعة في مجلة الحرس الوطني عن هذا الكتاب على مدى ثماني أو عشر حلقات؛ فهل يريدون أن تصل إلى هذا المستوى؟!
باحارث: نقطة بسيطة هنا نذكرها.. الموضوع ذو شجون كما يقال ..أحد الإخوة الذين يجيدون اللغة الإنجليزية في أمريكا كان يجلس ليشاهد بعض القنوات في الفترة التي عقد فيها المؤتمر الإسلامي في مصر؛ فإحدى المذيعات وأظنها بريطانية عملت مقابلة مع دكتورة في الجامعة، وهذه الدكتورة كانت ملتزمة بحجابها بالكامل حتى إن وجهها مغطى كما يسمونها (خيمة) وأثناء اللقاء -وهذا على الهواء- سألت المذيعة؛ فقالت أما ترين نفسك وأنتي في هذا التقدم وهذا الانفتاح ثم تصرين على لبس هذا الشكل غير المناسب؛ فالمرأة كانت ذكية جداً وكانت تجيد اللغة الإنجليزية فقالت لها: أنا أسألك سؤالاً: هل تسمحون لأحد من شعبكم أن يسير في الشارع العام عارياً؟ فقالت: لا . فقالت هل تسمحون أن تدخل المرأة (عارية) الكنيسة؟ فقالت: لا. فقالت لها انظري.. نحن قبل 1400 سنة كنا عند أطهر مكان في الأرض عند كعبتنا نسير عراة فتقدمنا إلى هذه المرحلة فبيننا وبينكم 1400 سنة حتى تصلوا إلى مرحلتنا!.
والابتذال الذي تشهده بعض دولنا العربية وصل إلى أن الرقابة تعترض على مشاهد جنسية.
هناك بعض الدعاوى التي حملتها بعض النساء السعوديات في مجتمعنا..البعض منهن خرجن من الوسط الدعوي والأخريات من مشارب متنوعة؛ فكيف تقرؤون هذه المطالب الإصلاحية؟(18/246)
د.باحارث: أنا أحب أن أبدأ بنقطة هي: هل التخصص له اعتبار، أم هو مهمل تمامًا؟ البعض يقول إنه غير مهمل، وإذا جئنا للتخصص الشرعي الفقهي الديني قيل: إن فهم الدين لايحتاج إلى تخصص فإذا كانت كل التخصصات لها اعتبار؛ فهذا له اعتبار، فكون الناس الآن يكتبون يقولون: لا نرى هذا من الناحية الشرعية، وليس هناك ما يدل، وليس هناك دليل..!! كاتب صحفي لا يعرف الأصول ولا الأدلة ولا يعرف قواعد فقهية ولا يعرف أصول فقه ولا يعرف تراث فقهي ولا يعرف إجماع وغير إجماع؛ ثم يصبح مفتيًا وقاضيًا في مسائل شرعية !! هذه أمور غير مقبولة. وقد تطور الأمر إذ إننا الآن بدأنا نقرأ أن هذه الفنانة تقول أنا لا أرى هذا الأمر حرامًا، وأنا أعرف أن هذا ليس فيه كذا..أنا استمعت إلى إذاعة كذا (تعتبر إذاعة سعودية في شهر رمضان المبارك) وكانت المقابلة مع أهل الفن وكيف يقضون برنامجهم اليومي في رمضان في محاولة لصناعة قدوات زائفة.. أنا أقول: إن هذه المسألة من الذي يفصل فيها؟ هل هو كل أحد؟! هذه قضية مهمة!! نحن نقول من الناحية الشرعية: فرق بين قضية أن هناك اختلافًا، وفرق بين اعتبار الاختلاف، وفرق بين تطبيق هذا الاختلاف. مثلاً: هل كل اختلاف معتبر؟ نحن إذا جئنا لمسألة الاختلاف يمكن في كل مسألة أن نأتي باختلاف، وبالمناسبة أكثر من يعرضون للمسائل الشاذة أو المسائل الغريبة سواء كانت في المسائل الفقهية أو في المسائل العقدية يأتوننا برأي شاذ واحد وينقلونه عن كتاب، ويقولون: هذا كتاب علمي معروف ويطنطنون بهذه القضية.. هذه قضية مهمة وعندما يأتينا في القضايا العقدية من لا يفهم العلم الشرعي، ثم يحاول التقول وكأن العالم الإسلامي ليس فيه سوى هذا المثل أو هذه النماذج؛ وبالتالي هذه أيضًا نقطة ابتدائية خطيرة؛ ينبغي معرفتها؛ لأن الصحافة الآن تحاول أن تناقش أي إشكالية؛ والحقيقة أنا أقول إن مهمة الصحافة ليست مناقشة قضايا علمية، وإذا أرادت ذلك؛ فلا بد أن تفتح ملفات طويلة، لكن الصحافة هكذا تريد أن تأخذ قضية كاملة في عمود واحد وتخلص منها إلى نتيجة ..
نقطة أخرى أود أن أشير إليها؛ وهي أن كثيرًا من النساء اللاتي يتصدرن هذه الدعوات نسبتهن في المجتمع نسبة صغيرة؛ سواء قلت لي واحدة ترشحت في الكونجرس؛ فهذه لم تعش في بيئتنا ولا تعرف معالم بناء شخصيتنا، وحتى الأخريات يعشن حياة في أمريكا وأوروبا دهرًا طويلاً من الزمن، وفكرهن وزيارتهن وقدوتهن وهواهن وكل شيء متعلق بالغرب، فهؤلاء كلهن نشأن في بلاد الغرب. وبالمناسبة بعض الأسر السعودية التي كانت ثرية وتقدمت في التعليم قبل أن يصبح التعليم هنا درسوا في الجامعة الأمريكية في مصر والجامعة الأمريكية في بيروت ودرسوا مراحل الدراسة الأولى إلى الثانوية في كلية فكتوريا في الإسكندرية، وهذه كلها مدارس غربية تنصيرية تأقلموا معها. نحن لا نذمهم بمعنى أن نقول إنهم فسقة أو إنهم أصحاب هوى، ولكن نقول إن طبيعة نشأتهم لا تمثل الفكر الإسلامي، وكون الإنسان يصلي لا نستطيع أن ننزع عنه الإسلام، لكن كونه يصلي لا يعني أنه يمثل الإسلام ويفهم الإسلام ويفقه الإسلام!. لقد أصبح كل أحد الآن بالجريدة يكتب كتابة، ويقول هناك أخطاء في تدريس أبنائنا! إذًا ما معنى ذلك؟ هل يعني هذا أن الشذوذ أو أن الرأي المخالف المحجوب هو الذي يصبح الأصل؟ حتى ثقافة الاختلاف لا تعني الإقرار بالخطأ؛ تعني تفهمه أو عذر صاحبه في ذلك، ولا تعني أن يكون الخطأ المحدود الذي تتبناه فئة قليلة من الناس هو الأصل الذي يوازي حكم الأغلبية. أنا لو قلت -مثلاً-: نسبة الذين يقولون في مسألة معينة 10%، ونسبة الآخرين 90% من عموم العلماء هذا لا يعني أن أعطي رأي 10% بنفس القوة التي يأخذها 90% وهذا يقوله العقلاء؛ بل تقوله الديمقراطية اليوم؛ فإذا 51% صوتوا للمشروع فإنها نسبة تفوز على 49% .
بعض اللواتي قدمن مطالب إصلاحية هن من الوسط الدعوي ومن الكاتبات والمثقفات الإسلاميات؛ فهل هناك شك في صدق نواياهن، أم أننا نعيش في مأزق ولابد من الاعتراف بالخطأ؟(18/247)
د.با دحدح :لا شك أن لدينا قضيتين: الأولى؛ هناك أخطاء لا بد أن تدرس، أنا لا أقبل الاعتراف أو الأخذ في الأمور هكذا لمجرد إثارتها عبر مقالة أو رأي غير مستند على أداء بحثي علمي .. لدينا قضية القضاء، وهي إشكالية موجودة وتمثل صعوبة بالنسبة للمرأة، وبدلاً من أن نتكلم عن أصل القضاء الشرعي ومحاولة اجتثاث الشيء من جذوره؛ علينا البحث عن معالجة الأخطاء .. وهذا مهم؛ فوجود الخطأ لا بد أن يدرس ليكون هناك بناء صحيح للإصلاح. الأمر الثاني: الرأي الشخصي لفرد أو امرأة أو اثنين حتى لو كانت داعية أو ملتزمة.. فإن الرأي تقابله أراء أخرى. ثم أيضًا هناك فقه الموازنة في رعاية المصلحة العامة والنظرة الكلية؛ لو كان عدوي الآن يقول كلامًا وهذا الكلام أوافقه فيه ينبغي أن أحسن عرضه بما لا يمكّن عدوي وعبر موافقتي له من أن يصل إلى مآرب أخرى.. هذه القضية قضية وعي، وعلينا أن نعي أن هناك أيضًا ظروفًا بيئية شخصية لبعض الناس؛ تجعل له طرح معين، والظروف الشخصية لا تملي على الناس المشكلة..
أنا اكتب في الإعلام إذًا رأيي ينتشر.. ورأي الغالبيات الآن تشكل من الإعلام ولا يتشكل من الحقيقة، أنا أدعو الناس أن يصوتوا للمرأة السعودية وانظروا ماذا تختار!
يا من تدعون الديمقراطية اتركوا المرأة تصوت على نمط المرأة الذي تريد!!
دكتور علي أنت الآن تتحدث على أن هناك أخطاء، لكن مشكلتنا في عدم الاعتراف بها! الإشكالية هو أن التيارات الأخرى تسابق الزمن بطرح القضايا بحثًا عن الحلول؛ بينما يتلقف الوسط الدعوي وخصوصا المشايخ هذه المبادرات بالصد وادعاء كمالية المجتمع!
د.با دحدح: نعترف ونبادر علميًّا وليس بناء على استباق فهذا الذي يحصل استباق، وأنا أدعو كل صحفي الآن أن يعطيني قضايا محددة طرحت خلال الأشهر الماضية باستثناء قضية القضاء وباستثناء حالات يذكرونها عن أن الرجال يظلمون النساء أو لا يعطوهن حقوقهن.
دفاعكم أمام بريق أطروحات الغربيين قد يسقط نساءنا في تيار التغريب الذي تحذرون منه
د.با دحدح : قد تجذب لكن نحن نطرحها بالمقابل وبهدوء وبعيدًا عن الإثارة المفتعلة، ثم أنت تتكلم بمقياس الإعلام، ونحن نتكلم بالمقياس العلمي الاجتماعي، أنا لا أختلف معك؛ لكن أقول لك كم حجم هؤلاء.. أنا أريد شيئًا علميًّا.. هو لا شك لولا أن هناك أخطاء ما اعترفنا بها ؛ لكن أنا لا أريد أن نعترف بالقضية دون منهج علمي.. أنا أريد أن نعترف بالمنهج العلمي إذا كانوا صادقين في طرح القضية؛ بحيث ندرس استبيانات ونقدم حالات نخرج بنتيجة عملية حقيقية، وهذا صحيح، والآن الناس يقدمون اقتراحات عملية في بعض هذه الجوانب، ولا شك أن هناك قصورًا في المبادرات الإصلاحية؛ لأن الوضع المستقر لا يستفز الناس لأن يقدموا، و أن يكونوا متحمسين جدًّا لإصلاح بعض الأخطاء، وهناك تقصير من الدعاة في المبادرة، وأنا واثق تمامًا وأقول هذا عن يقين، وأستطيع أن أثبته لك من خلال ما كتبه بعض الناس أن الدعاة قد كتبوا في أوقات سابقة ومنذ عشرات السنين عن بعض القضايا وطرحوها في منابر عامة وطرحوها أيضًا في جهات خاصة، ولكن هم ليسوا إعلاميين؛ هم ميدانيون ولا يتفرغون للطرح الإعلامي.
عفواً أستاذ عدنان نحن نريد أن ننتقل لرؤيتك لأسس وضوابط تعتقد بوجوب توفرها في أي محاولة إصلاح وتطوير لدور المرأة في المجتمع السعودي.
د.باحارث: أي إصلاح لا ينطلق من معالم ديننا وما اتفقت عليه الأمة وأجمعت عليه؛ فإنه قطعاً ليس بإصلاح.. صحيح لابد أن ينطلق من معالم ديننا ومما أجمعت عليه أمتنا، أنه حق؛ فهذا هو الانطلاق الذي ننطلق منه، وأي إصلاح يخرج عن هذا فليس بإصلاح، و أريد أن أؤكد في الضوابط على أهمية أن تقبل المرأة بأفضلية الرجل؛ فالله -سبحانه وتعالى- قدم الرجل في أشياء معينة ليست بالتحديد في حدود الذكورة والأنوثة، فالله -سبحانه- قدم الرجال على النساء في نص القرآن وفي التعامل، وجعل للرجال على النساء درجة فطرية، ليس هو من أجل شيء ما وإنما لتنظيم الحياة الإنسانية؛ فالله -سبحانه وتعالى- وزع هذه الملكات بين الرجال والنساء، والمشكلة الآن التي تواجهنا أن المرأة تريد أن تخرج عن هذا الإطار، وتريد المساواة في القوامة بينها وبين الرجل، وهذا لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون؛ لا فطرياً ولا اقتصادياً. قد يختل مقام الرجل اقتصاديًّا حينما تقوم المرأة بالإنفاق، لكن كيف نحاول الاخلال بهذا الميزان فطريًّا؟!(18/248)
فالضوابط هي ما أجمعت عليه الأمة، أما بالنسبة للمسائل الخلافية التي ذكرها الدكتور علي با دحدح إلى عهد قريب قبل أن تأتينا هذه الثورة المعلوماتية وقبل أن تأتينا شبكات الانترنت كان كثير من الناس من الذين لا ثقافة إسلامية عندهم، وكانوا متغربين، كان يصعب عليهم أن يحنوا ظهورهم ويدخلوا لهذه الكتب ويخرجوا منها المسائل الفقهية؛ أما الآن فقد أصبحت القضية عن طريق (السي دي) يكفيه بضغطة واحدة أن يصل للمعلومات الفقهية، ثم يأتي بعد ذلك ويضحك علينا في الجريدة ويأتينا بتلك الأقوال مسرودة؛ وكأنه ذهب وأخذها من هناك؛ نقول هذا العلم لا ولن يبني الشخصية بهذه الطريقة، وإنما يبقى مختلاً حتى يعكف صاحبه على المشايخ.
ما هو المطلوب من المرأة السعودية للمشاركة في أي مشاريع إصلاحية؟
د.باحارث: نوجهها إلى الالتزام بدينها وأخلاقها والآداب الإسلامية، وأن تدفع عن نفسها هذه الهجمة بكل ما تستطيع: أن تكتب بقلمها في الصحافة، أن تتصل ببعض المسؤولين تعطيهم وجهة نظرها، وأن تصرح أن هذا الإصلاح الذي يأتي من الخارج (ولا سيما من الفكر غير الإسلامي أو من الداخلين المستغربين) غير موافق لشريعة ربها.
يناقش مؤتمر الحوار الوطني دور المرأة السعودية في المجتمع ما هي رؤيتكما لعوامل نجاح المؤتمر؟
د.با دحدح: ألا تكون قضية الإسلام والشريعة الإسلامية عبارة ورقة للبحث، وإنما أن نبني هذا الموضوع الحساس والمهم بأصالة شرعية ودراسة علمية تخصصية، حتى إذا خرجنا برؤية أو برأي يكون على أسس صحيحة، وهذه مسألة أولى. المسألة الثانية: تاريخ المملكة تأسيسًا سياسيًّا وتشريعًا قضائيًّا وواقعًا اجتماعيًّا ونهضة تعليمية كانت فيه مكتسبات تتعلق بقضية المرأة بشكل مناسب لا ينبغي إغفالها، ومن الخطر والخطأ أن ننقض كل شيء. نحن عندنا التجربة الفريدة في التعليم غير المختلط من الحضانة إلى الدكتوراه، واستطاعت المرأة السعودية أن تحصل على الدكتوراه داخل المملكة وخارج المملكة بالإشراف وبآليات طورت دون أن نضطر أبدًا إلى أن ندخل إلى حمأة الاختلاط ومشكلاته الكبرى، والإحصائيات في بعض الدول العربية توحي إلى أن نسبة 27% على أقل تقدير من بنات الجامعة متزوجات زواجًا عرفيًّا، هذه التي تريد أن تسلك مسلكا تظنه شرعيًّا فضلاً عن ما هو وراء ذلك، لو تصورنا وجود أخطاء في هذه المسيرة؛ فإن الحل هو علاجها وتطويرها وإعطاؤها أفقًا أوسع دون أن ننقلب عليها. مشكلة ردود الفعل التي تأتي سواء كانت بتوجه يسمى إصلاحيًّا أو غير إصلاحي مشكلتها في أنها تستند على الخطأ اليسير لنقض الأصل كله.. هذه قضية مهمة؛ الوضع النظامي والشرع..كل النصوص النظامية في المملكة العربية السعودية وسياستها الأمنية وسياستها التعليمية وسياساتها الموجودة في الأنظمة تعطي المرأة الجانب المتعلق بالشريعة والحفاظ عليه،
وكما ذكر في الحوار الأول والثاني أننا نلتقي على قضايا أساسية، فنحن وطن واحد ونحن قيادة واحدة لا نزاع فيها؛ كيف نجمع على أننا وطن لا نريد تفتيت وحدته وعلى قيادة لا نشك في شرعيتها، ولا نجمع على أن ديننا هو الشيء الذي لا نزاع فيه، وعلى أن واقعنا الذي انعكس عن هذا الدين ليس فيه مجال للنزاع؟!
النقطة الأخيرة أقولها في هذا الحوار: الحقيقة وهو مشابه للحوارات السابقة ينبغي ألا يأتي أحد للحوار لقضيتين أساسيتين إما تمرير مصالح شخصية وآراء شخصية، وإما للقفز فوق الحواجز والتشويش.. قضية الحوار الأصل أنه يراد منها أن تحقق مصالح وطنية عليا، وعندما يتجرد المحاورون من ذواتهم ومن طموحاتهم ومن رد فعلهم الشخصي؛ فأعتقد أنهم سيحصلون على المطلوب. الأصل في هذه القضايا أن الذين يختارون أو الذين يشاركون يسهمون بقضية تخدم الوطن كله، فينبغي أن يستحضر أمانته أمام الله -عز وجل-، ثم أمانته أمام المسؤولين الذين اختاروه، ثم أمانته في القضايا التي يتحدث فيها. للأسف رأينا في السابق أشياء أخرى كانت عبارة عن مهاترات وطبعًا مشاركة المرأة مهمة، وقولها في مثل هذه القضايا سيكون له قيمته ووزنه المعتبر، والله أعلم.
د.باحارث: أنا حقيقة أريد أن أختم هذه الندوة بسؤال يقول: أين كانت المرأة في العصر الذهبي في الإسلام؟ والإجابة أن المرأة أنجزت في العصور الذهبية؛ فكانت سيدة النساء وسيدة الوزراء. وهؤلاء النساء أين كن في تلك العصور؟ هل كن في الأندية؟ هل كن في الشوارع؟ هل كن حتى في المساجد؟ كانت المرأة في بيتها، وكل ما حققته تعلمته في البيت؛ فأصبحت مسندة عصرها. هذه النقطة التي يجب أن نقولها: أين كانت المرأة في العصر الذهبي؟ كانت في بيتها قطعًا والأدلة على هذا كثيرة جدًّا؛ أما قضية أن المرأة نحتاج لها في النهضة الاقتصادية؛ فنقول: إذا عجز الرجال عن القيام بهذه النهضة؛ فهل تقوم الأيدي الناعمة بهذه النهضة؟ ثم الأزمة التي حصلت في شرق آسيا -وإن كان الغربيون لهم يد في هذه الأزمة التي حصلت- وجدنا الإحصائيات في تلك الفترة أن نسبة النساء العاملات 60%، وكأنها رابط كلما زادت نسبة النساء في العمل كلما كان الضرر أكثر على الجانب الاقتصادي
===============(18/249)
(18/250)
معالجات المسألة الثقافيّة بين قرنين
غازي التوبة 9/6/1427
05/07/2006
زاد الاهتمام بالمسألة الثقافية بعد أحداث 11 سبتمبر2001م، وتكرّر الحديث عن ضرورة إحداث تغييرات ثقافية واسعة في منطقتنا العربية في القرن الحادي والعشرين، وطرحت أمريكا من أجل تحقيق تلك الغاية "مبادرة الشراكة الأمريكية-الشرق الأوسطية" في 12/12/2003م على يد كولن باول وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، كما طرح جورج بوش رئيس الولايات المتحدة "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي ناقشته ووافقت على تبنّيه الدول الصناعية الكبرى الثماني في حزيران (يونيو) من عام 2004م، وقد تضمّن المشروعان السابقان الصادران عن مؤسّسات أمريكية ودولية توجّهات نحو إحداث تغيير في كل تفريعات المسألة الثقافية في منطقتنا من مناهج، وإعلام، ولغات، وطرق تربية، ومدارس، وخطاب ديني الخ...، واستهدف المشروعان إقامة ورش عمل للتدريب على العمل الديموقراطي، والممارسات الانتخابية والنقابية الخ...، واعتمد المشروعان تعميم ثقافة حقوق الإنسان، وحرية المرأة، والمبادئ الديموقراطية الخ...، ورصد المشروعان مبالغ مالية من أجل الإنفاق على مراكز التدريب والتعليم والورش والمؤتمرات والدعاية المرتبطة بهما.
والسؤال الآن: هل الاهتمام بالمسألة الثقافية أمر جديد على المنطقة؟ الجواب: لا، بل هو قديم منذ القرن التاسع عشر، فقد اهتم رفاعة رافع الطهطاوي وهو أول مَعْلَم من معالم النهضة بالمسألة الثقافية، وربما كانت المسألة الثقافية اهتمامه الأول، فقد كتب رسالته المشهورة "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" في صدد الحديث عن التعليم والتربية والمدارس، كما أنشأ داراً للترجمة من أجل نقل جانب من التراث الفرنسي الذي اطلع عليه أثناء مرافقته للبعثة المصرية خلال إقامته في فرنسا.
وأكّدت سيرة محمد عبده (ت 1905م) أبرز رموز النهضة أيضاً الاهتمام بالمسألة الثقافية، فقد كتب مذكّرتين في إصلاح التعليم قدّم إحداهما إلى شيخ الإسلام في استنبول، والثانية إلى اللورد كرومر في مصر، وكتب رسالة في إصلاح الأزهر تناولت المدرسين ونظام التدريس والامتحان وكتب التدريس ورواتب المدرّسين الخ...، وقدّم هذه الرسالة إلى مجلس إدارة الأزهر الذي أصبح عضواً فيه، وكتب مذكّرة في إصلاح المحاكم الشرعية، كما وضع لائحة لإصلاح المساجد وقدّمها إلى مجلس الأوقاف لإقرارها والعمل بها، وأنشأ جمعية إحياء الكتب العربية افتتحها بطباعة كتاب "المخصص" لابن سيده الخ... وألّف محمد عبده كتباً عالجت مختلف النواحي الثقافية والدينية، فألّف "رسالة التوحيد" التي عالجت الجانب العقائدي في تراث الأمّة، كما ألّف "تفسير المنار" الذي عالج التقريب بين الغيب الديني والمادية الغربية الخ...
ثم زاد الاهتمام بالمسألة الثقافية بعد الحرب العالمية الأولى إثر التغييرات الكبيرة التي مرّ بها العالم العربي، ويمكن أن نمثّل على ذلك بطه حسين الذي ألّف كتاباً خاصاً عن الثقافة إثر إعلان استقلال مصر عام 1936م، سمّاه "مستقبل الثقافة في مصر" وقد تحدّث في هذا الكتاب عن التعليم، واللغات الأجنبية، وواجبات المعلّم، وواجبات الدولة تجاه المعلّم، والأزهر، واللغة العربية، والعلوم الدينية الخ...، ثم استلم طه حسين وزارة المعارف في يناير عام 1950م، واستمرّ وزيراً إلى يناير عام 1952م، وكانت فرصة لتطبيق رؤاه الثقافية، وبالفعل من أشهر أفعاله أثناء تولّيه الوزارة، حرصه على تعميم التعليم وتوسيع دائرة المتعلّمين، وإطلاق مقولته المشهورة حيث قال: "التعليم يجب أن يكون بالنسبة للمصري كالماء والهواء".
خلاصة القول: إنّ الاهتمام بالمسألة الثقافية قديم، وقد ساهم في طرح مشاكلها ووضع الحلول لها كل رموز النهضة، ومع ذلك فإنّ النتائج كانت مخيّبة للآمال على مستوى العالم العربي: أُمّية متفشّية بلغت (70) مليوناً في العالم العربي، عدد الاختراعات والابتكارات محدود، المراكز البحثية محدودة، الكتب المترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية قليلة بالمقارنة مع ترجمات دولة كاليونان، الكتب المؤلّفة قليلة بالمقارنة بالكتب المؤلّفة في دولة مثل إسرائيل الخ...
لماذا جاءت النتائج بهذه الصورة مع الاهتمام الواسع المستمرّ بالمسألة الثقافية خلال القرن الماضي؟ لا يكمن النقص والخطأ في الاهتمام بالمسألة الثقافية ومعالجته، ولكن يكمن الخطأ في رؤية الواقع البشري والاجتماعي والنفسي والعقلي المرتبط بالمسألة الثقافية، والإجابة الخاطئة عن أسئلة من مثل: من هو الإنسان الذي نتّجه إليه لمعالجة مشكلته الثقافية؟ ومن هو المجتمع الذي نخاطبه؟ وسنأخذ مثالاً على ذلك طه حسين وكتابه الذي استشهدنا به من قبل وهو "مستقبل الثقافة في مصر".(18/251)
تحدّث طه حسين في بداية كتابه عن العقل المصري، وقرّر أنه متّصل بالعقل الأوروبي، وأنه ليس هناك فرق جوهري بينهما، وأنّ الشعب المصري متأثّر بشعوب البحر الأبيض المتوسّط، واعتبر طه حسين أنّ الإسلام لم يخرج مصر عن عقليتها الأولى، وبأنّ رضا مصر عن الفتح الإسلامي لم يبرأ من السخط، ولم يخلص من الثورة والمقاومة، وبأنها لم تهدأ، ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظلّ ابن طوسون، وفي ظلّ الدول المختلفة التي قامت بعده.
ويتصل هذا الكلام الذي ذكره طه حسين في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" اتصالاً وثيقاً بوجهات نظره الأخرى التي عبّر عنها في منابر أخرى سياسية وأدبية وثقافية؛ إذ دعا فيها إلى القومية المصرية الفرعونية، والتي اعتبر فيها أنّ الشعب المصري يشكّل "أمّة مصرية" مستقلّة، كما اعتبر أنّ مصر هي "الوطن المصري".
لا أريد أن أناقش وجهات النظر السابقة ومدى خطئها وعدم صوابيتها، فقد فعلت ذلك في مكان آخر كما فعل ذلك غيري، ولكني أشير إلى أنّ هذا هو أحد الأسباب الرئيسة الذي جعل الخطط الثقافية لا تنجح ولا تعطي ثمارها؛ إذ كيف تنجح، ونحن لم نعرف ذاتنا معرفة صحيحة؟ فكيف يكون الشعب المصري "أمّة مصرية" بالمعنى الفرنسي للأمّة التي تعتمد العوامل الجغرافية في تكوين الأمّة، وليس جزءاً من أمّة عربية إسلامية؟! وكيف تكون مصر "وطناً" بالمعنى الأوروبي لكلمة "الوطن" وليس جزءاً من الوطن العربي الإسلامي؟ وكيف لم يخرج الإسلام "العقل المصري" عمّا كان عليه قبل الإسلام، ونتجاهل كل الآثار الثقافية والعلمية والتربوية والفنية التي تركها الإسلام في واقع الحياة المصرية؟
هذه هي العوامل التي جعلت معالجات المسألة الثقافية في القرن العشرين لا تعطي ثمارها ونتائجها الصحيحة، فهل المعالجات في القرن الحادي والعشرين ستتجنّب تلك الأخطاء؟ الملاحظ أنّ معالجات المسألة الثقافية في القرن الحادي والعشرين، تقع في الخطأ ذاته الذي وقعت فيها معالجات القرن العشرين، بل ربما في خطأ أسوأ، فهي تنظر إلى المنطقة على أنها جغرافيا ممتدّة فارغة تريد أن تملأها بالمضمون الثقافي الذي تريده، وهي توسّعها مرّة كما في "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، فتجعلها ممتدّة من باكستان إلى المغرب مروراً بأفغانستان وإيران وتركيا و إسرائيل، وهي تضيّقها مرّة أخرى لتجعلها ممتدّة من إيران إلى المغرب كما في التعديلات الأوروبية له.
إنّ تلك الرؤية للواقع البشري تشير إلى أننا لم نستفد من كل التجارب السابقة في القرن العشرين، وإلى أننا ربما سننتهي إلى نتائج أسوأ في معالجات المسألة الثقافية في القرن الحادي والعشرين.
===========(18/252)
(18/253)
الشرق الأوسط بين "الجديد" و "الكبير"
د. غازي التوبة 4/2/1428
22/02/2007
شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل السابق أول من تحدّث عن "الشرق الأوسط الجديد" في عام 1993 بعد توقيع اتفاقية أوسلو في حدائق البيت الأبيض بين إسحاق رابين وياسر عرفات، وكان تصوّر بيريز قائماً على أنّ وحدة اقتصادية ستتحقّق بين المنطقة العربية وإسرائيل، وستجمع هذه الوحدة الاقتصادية بين العبقرية الصهيونية في القيادة، والأيدي العربية الرخيصة المستخدمة في التصنيع، والثروة العربية المتكدّسة من بيع البترول الخ...، وكان التفاؤل سيد الموقف آنذاك، والسبب في ذلك هو الاعتقاد بأنّ اللقاء الفلسطيني-الإسرائيلي كسر آخر الحواجز في الممانعة بين العرب وإسرائيل، ولم يبق إلاّ التداخل والتواصل والتلاحم الخ...، وذهبت الأحلام بعيداً في رسم صورة "الشرق الأوسط الجديد"، وخصّصت لكل دولة ما يجب أن تفعله وتنتجه؛ فإسرائيل ستتخصّص بالإلكترونيات والحاسبات، ومصر بالسياحة الخ...، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، وتعثّر اتفاق أوسلو الذي كان الشرارة في كل تلك الأحلام، والسبب في ذلك أنّ إسرائيل تريد أن يكون لها كل شيء، ولا تريد أن تعطي شيئاً للآخرين، وكانت نهاية الحلم كابوساً مزعجاً، فصانعا الحلم نُحِرا: اسحاق رابين وياسر عرفات، الأول: نحره أهله، والثاني: نحره محالفوه.
ثم صار الحديث عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وطرح بوش هذا المشروع بعد احتلال العراق، ونوقشت بنود المشروع في اجتماع الدول الثمانية الصناعية الكبرى في يوليو 2004 في جزيرة ايلاند، وأبرز ما جاء في المشروع آنذاك هو الدعوة إلى الديموقراطية، والتغيير الثقافي، وحقوق الإنسان، والتأكيد على حقوق المرأة، وإنهاء الأُمّية الخ...، وقد وُضعت برامج تفصيلية تحقّق تلك الأهداف، كما رُصدت ميزانيات مالية من أجل الإنفاق على تلك البرامج بين الدول الثمانية. لكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، بل تحقّقت الفوضى التي أسموها "الفوضى الخلاقة"، وتجلّت هذه الفوضى في أبهى صورة في العراق؛ فالدمار يعمّ كل شيء: البناء والطرق والجسور الخ...، والكل يقتل الكل: السنة والشيعة والأكراد والصابئة الخ...، والجميع يتآمر على تقسيم العراق، ولم تتحقّق ديموقراطية، ولا حقوق إنسان، ولا ارتقاء ثقافي، ولا محو أُمّية الخ...
ثم طلعت كوندليزا رايس علينا بمقولة: "الشرق الأوسط الجديد" أثناء التدمير غير المسبوق للبنان، ورافق مقولتها مقال للضابط الأمريكي السابق رالف بيترز، نزل في مجلة القوات الأمريكية عدد تموز (يوليو) تحت عنوان "حدود الدم"، وهو جزء من كتاب "لا تترك القتال أبداً" يرسم ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي أشارت إليه كوندليزا رايس، وجاء في ذلك المقال أنّ السبب في اضطراب الشرق الأوسط هو عدم تطابق الحدود الجغرافية مع الحدود الإثنية والطائفية والعرقية في المنطقة، والسبب في ذلك أن أوروبا التي قسّمت الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى لم تراع ذلك، وراعت أهواءها وبعض المصالح الخاصة، وأشار المقال أيضاً إلى ضرورة تصحيح الجوانب الحدودية من أجل التوصّل إلى شرق أوسط مستقرّ، واقترح المقال صورة جديدة للشرق تقوم على تفصيلات متعدّدة، منها إقامة ثلاث دول في العراق: كردية في الشمال وسُنّية في الوسط، وشيعية في الجنوب، واقترح أن تلتحق الدولة السُنّية المجتزأة من العراق في وقت تالٍ بسورية، واقترح "مشروع الشرق الأوسط الجديد" تفكيك السعودية، ووضع الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة تحت وصاية دولية، وإلحاق شمالي السعودية بالأردن، وإلحاق جنوبي السعودية باليمن، كما اقترح مشروع الشرق الأوسط الجديد إيجاد دولة شيعية تجمع بين جنوب العراق وتأخذ جزءاً من الإمارات وجزءاً من السعودية، كما استهدف المشروع تغييراً في حدود كل دول الشرق الأوسط كسورية وإيران ومصر وباكستان ولبنان الخ... والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: ما الهدف النهائي من هذه المشاريع المطروحة بين وقت وآخر بدءاً من "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وانتهاء بـ "مشروع الشرق الأوسط الجديد"؟ وما الملامح التي تجمع بينها؟
أولاً: تلتقي هذه المشاريع على أهداف دعائية كبيرة من مثل تحقيق الأمن والسلامة والتنمية والديموقراطية وحقوق الإنسان وإزالة الأُمّية وإقامة العدل الخ...، لكنّ هذه الأهداف تبقى في حدود الدعاية، ولا يتحقّق شيء منها على أرض الواقع، وينطبق عليها المثال الذي راج عن الشيوعية إبّان انتشارها: "اقرأ عن الشيوعية تفرح، جرّب تحزن".
ثانياً: تحرك هذه المشاريع النزعة الطائفية والتفتيت الطائفي، وتستهدف وحدة الأُمّة العربية والإسلامية بحجّة الظلم الذي لحق هذه الطوائف والأعراق خلال التاريخ الماضي، وهذا الاستهداف للإحياء الطائفي يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ويمكن أن نتأكّد من ذلك باستعراض السياسة الأمريكية في مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، فهي لا تمارس هذا الدور من التفتيت الطائفي، مع أنّ تعدّد الطوائف والأعراق والأجناس موجود في تلك المناطق وبصورة أكبر مما هو موجود في المنطقة العربية.(18/254)
ثالثاً: مما زاد في الحرص على تنفيذ مخططات التفتيت الطائفي في المنطقة وجود المحافظين الجُدُد في قيادة أمريكا، ومن الواضح أنهم صهاينة مثل صهاينة إسرائيل إن لم يكونوا أكثر صهيونية؛ إذ يشاركون الإسرائيليين آلامهم وآمالهم وأحلامهم، ويلتقون مع صهاينة إسرائيل في بعض الرؤى الدينية التي يستقونها من المسيحية والصهيونية التي تستمد مادتها من التوراة التي هي جزء من الكتاب المقدّس عند المذهب البروتستنتي الذي يعتنقه المحافظون الجُدُد.
رابعاً: مما يؤسف له أنّ إيران هي الوجه المقابل لأمريكا في استغلال التفتيت الطائفي، وإشاعته، وممارسته، وتعميق جذوره، ويتضح ذلك في العراق حيث تقسيم العراق وحلّ الجيش العراقي فعلان يتعدّيان هدف إزالة نظام صدّام حسين، وهو الهدف الذي سوّغت إيران وأعوانها به التعاون مع أمريكا في احتلالها للعراق عام 2003، ويصبّ هذان الفعلان المشار إليهما في خانة التفتيت الطائفي بالدرجة الأولى، والأمر لا يتوقّف على ساحة العراق بل يتعدّاها إلى ساحات أخرى في العالم العربي والإسلامي.
خامساً: يبقى الحصول على البترول هدفاً رئيسياً ومهماً في كل هذه المشاريع، وذلك لأنّ الصين والولايات المتحدة ستحتاجان إلى 70% من بترول الشرق الأوسط خلال السنوات العشر القادمة.
سادساً: تهدف هذه المشاريع إلى دمج إسرائيل في المنطقة من جهة، وجعلها تعلب دوراً مركزياً من جهة ثانية، وستكون بمثابة القلب له، لذلك تستهدف هذه المشاريع إلى إيجاد إسرائيل العظمى ذات الاقتصاد القوي وذات الجيش المبني على أحدث التطوّرات التكنولوجية، والتي ستقود الشرق الأوسط الجديد، وستشيع الديموقراطية فيه حسب أوهام المشاريع الأمريكية.
سابعاً: إنّ حلم التفتيت الطائفي للمنطقة العربية حلم إسرائيلي قديم، وقد اتضح ذلك في مذكرات بن غوريون منذ قيام إسرائيل، وكلامه عن استدراج الطوائف في لبنان إلى التعاون مع إسرائيل، وقد أصبح الأمر أكثر وضوحاً في الكتاب الذي نشره الصحفي الهندي كارانجيا بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فقد أشار فيه إلى استهداف إسرائيل إقامة دول الطوائف في المنطقة، ويمكن أن يعتبر الدارس لأوضاع المنطقة أنّ عمل إسرائيل واستهدافاتها في التفتيت الطائفي طبيعي، ويتسق مع طبيعتها الديموغرافية، ولكنّ من غير الطبيعي أن ترسم دولة عظمى كالولايات المتحدة إستراتيجيتها انطلاقاً من هذا الأساس
================(18/255)
(18/256)
المرأةُ بينَ التّحريرِ من الحِجابِ والتَّحرُّرِ من الشّرفِ
ماذا يريدُ دُعاةُ النّسويّة من المرأةِ المسلمةِ ؟
فاطمة عطوة 5/6/1425
22/07/2004
احتلت إشكاليّة المرأة وقضاياها مساحة كبيرة في ساحة الحِوار العالميّ الذي يجري هذه الأيّام فوق صفيح ساخن، وهو غالبا حِوار أُحاديّ الجانب ؛ إذ تحاول بعض القوى العالميّة فرض أجندةِ مشاكلِها ورُؤاها علينا باعتبار أننا الآن في مرحلة تراجع حضاريّ هائل، رُبّما لم يسبق لها مثيل على طول فترات تاريخنا، ومن هذه القضايا قضيّة العُنف ضدّ المرأة باعتباره أحد أهمّ أشكال التّمييز ضدّها، وفي هذا السياق يتمّ الخلط بين الحق والباطل، و العادات والدين بصورة غير متجانسة، ولا تهدف إلا إلى تحطيم ما تبقى لدينا من وعي واعتزاز بالذات، ولنأخذ ما اصطلح على تسميته بجرائم الشّرف كنموذج صارخ لهذا الخلط الفاضح في قضيّة العُنف ضدّ المرأة .
الجسد الإنسانيّ بين التّكريم والاستباحة
يقول تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم...) [الإسراء:70]، ويقول عز وجل: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ... ) [لأعراف:26]
ويقول عزّ من قائل: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور:30] ، ويقول: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النّور:31] .
هذه الآيات وغيرها الكثير تحمل الكثير من سِمات المنهج القرآنيّ في التعامل مع إشكاليّة الجسد، وهو منظور يتماشى مع الفِطرة الإنسانيّة السّويّة، حيث يحتل الجسد موقعًا وسطًا؛ فهو حاضر وفاعل في الحياة، ولكن بصورة كريمة تحفظه من الابتذال والامتهان من خلال ستْرِه والاقتصار على دائرة الزّواج لإشباع حاجته الغريزيّة في الجنس الآخر وهو بهذا يبتعد عن الرهبانيّة التي تهمّش الجسدّ وتحاول أنْ تمحو تلك الغريزة التي فطرها الله في البشر، وهو أمر بعيد عن الحكمة، وأثبت الواقع مدى زيفه وتهافته، وكذلك يبتعد عن الإباحيّة المسعورة التي تسود البشر في كل مرحلة تاريخيّة تتسم بالفوضى، وفي كل حضارة توشك على الذبول والاندثار ولكنّ دعاة التهتّك والفساد - في هذه الأيام - لم يكتفوا بفسادهم وانحرافهم وشذوذهم، بل أصرّوا على تصدير هذا الفساد والانحراف إلى كافة أصقاع الكرة الأرضيّة، وفي المركز منه بلادنا العربيّة والإسلاميّة أو ما اصطلحوا على تسميته أخيرًا "بالشرق الأوسط الكبير" ، وهذا التصدير من اللون الإجباريّ حيث لا يُؤخَذ رأي المستوردين في نوعيّة البضاعة الغثّة، التي غلّفوها بشكل أنيق، ووضعوا لها عناوين برّاقة، وعقدوا لها المؤتمرات والمنتديات، وكان شعارهم في كل هذه المؤتمرات والمنتديات شعار قوم لوط (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [النّمل:56]
فلا مكان في عالمهم الملوّث للمتطهرين الشّرفاء، ولا بدّ من شنّ الحملة وراء الحملة؛ حتى ينعدموا، وينقرضوا، ولا يُسمع لهم صوت ينغص على سادة العالم الجدد ما هم فيه من لذّة حيوانيّة .
حملة للقضاء على البَكَارَة ( والتخلّص من إشكاليّات الشّرَف )
ومن تلك الحملات المشؤومة الحملة على البكارة بمفهومها الماديّ ودِلالتها المعنويّة المرتبطة بها، وهي حملة يتزعّمها في الداخل تيّارات نسويّة(1) متطرّفة تقوم بإعادة صياغة الأجندة الغربيّة عن طريق ربطها بالبيئة العربيّة بصورة مفتعلة وغير موضوعيّة ومستغلة في الوقت ذاته إشكاليّات حقيقيّة تواجه المرأة العربيّة والمسلمة .(18/257)
وبداية الحملة بدأت ببعض حوادث فردية وشاذّة قام فيها الأهل بالتخلص من فتاتهم؛ لأن ثمّة شكوكًا أثيرت حول طبيعة سلوكها ومدى التزامها بحسن الخلق، ثم ثبت بعد ذلك في تقرير الطبيب الشرعيّ أنّ الفتاة المجنيّ عليها كانت عذراء ولمْ ترتكب فعلا يستدعي ما حدث لها من إزهاق لروح بريئة .. من هذه الحوادث بدأت الحملة لمواجهة هذه الجرائم التي أَخذت اسمًا إعلاميًا هو "جرائم الشرف" ثم ارتفع منحنى الحملة ليصل إلى نقطة خطيرة ،وهي أنّ الحلّ الوحيد للقضاء على مثل هذه الجرائم العنيفة ضد المرأة هو "إلغاء فكرة الشرف" ذاتها عن طريق أنْ يتساوى الجميع في التخلّص الدليل المادي للشرف " غشاء البكارة " والاكتفاء بالدّلالة المعنويّة للشّرف والبكارة تماما، كالشاب الذي لا يوجد دليل ماديّ على شرفه وبكارته، على اعتبار أنّ الشّرف مسألة ليست مرتبطة بالأنثى فحسب. هذه هي المبرّرات الواهية لتلك الحملة الخبيثة، والتي يقودها تلك النّسويات المتطرّفات، وهن يستخدمن كلّ وسائل الإعلام وكلّ الضغوط الدوليّة لتمرير هذه الأفكار، ومن أخطر الوسائل التي استخدمنها الأدب والأعمال الفنيّة(2) سواء كان هذا الأدب نسويًّا أو ما اصطلح على تسميته "بأدب الجسد"، والعامل المشترك بين كل هذه الأعمال الأدبيّة - دون الولوج بالطبع في تحليل الجانب الفنيّ في العمل - أنّ البيت مكان يشبه السّجن بالنسبة للمرأة، وأنّ الجميع يتكاتف على كبتها وإذلالها داخله، وأنّها لابدّ أنْ تستردّ جسدها أولا كي تتحرّر من هذا السجن .. تقول الدكتورة شيرين أبو النجا معبّرة عن هذا التيار النسويّ المتطرّف : " لقد أرست المنظومة المعرفيّة الذكوريّة قواعد واضحة حدّدت أماكن
تواجد النساء والمساحة الخاصة بهن : المنزل . وهي منظومة تربط المنزل وسلسلة من التداعيات والمفاهيم التي تتمحور حولها حياة المرأة أو بمعنى أدق هي المفاهيم التي تشكل هويّة المرأة : رعاية الأبناء ، شرف البنات ، عمل غير مدفوع الأجر ، السلوك القويم ، طاعة الزوج ، وأخيرًا الإنكار المطلق لتفرّد الذات الأنثويّة، وبذلك يصبح المنزل شرنقة منعزلة داخل حدوده الهندسية، أمّا خارجه فتتشكل السّياسات بمعناها الحِرْفِيّ،وعندما يُقال: إنّ المرأة مكانها المنزل " ملكة متوّجة " فالمقصود هو إقصاؤها عن مساحة كبيرة تتشكل فيها الرّؤى، ويصنع فيها القرار أي مساحة تتمركز فيها القوى(3)".
هذا هو المنزل في الفكر النسويّ المتطرف مكان قبيح لقمع المرأة والسّيطرة عليها، وإلهائها في أمور تافهة، وتربية الأبناء، وطاعة الزوج والسلوك القويم !! وهكذا يتمّ السخرية من مفهوم البيت، ومفهوم التربية ،ومفهوم الشرف بحيث لا تتحقّق حريّة المرأة وفاعليتها إلا خارج البيت تمامًا، كما لا تتحقّق هذه الحريّة إلا بحريّة الجسد، الذي هو ملك خاصّ بالمرأة، ولها وحدها حريّة التصرّف فيه من خلال فكرة التجرِبة والخطأ؛ فالجسد من وجهة هذه النظر النّسويّة هو الأسلوب الأمثل لاكتشاف الذات، وأيّ تحرّر يستبعد حريّة الجسد كاملا فليس بالتحرّر الحقيقيّ، هذا الكلام هو مضمون الكثير من الأعمال الأدبيّة والفكريّة النسويّة التي تشقّ طريقها هذه الأيّام بزَخَم شديد، وهو مضمون فكر عالميّ يتشكل ويراد له أنْ يُفرض بكل الوسائل على إنساننا العربيّ المسلم سواء كان رجلا أم امرأة .
جرائم الشّرف .. رُؤية شرعيّة
يقول تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ...) [النّور:2]
بهذه الصورة القاطعة يساوي الشّرع الإسلاميّ بين الرجل والمرأة في الجريمة المُخِلّة بالشّرف، وبالعقاب الذي يستحقه أيّ إنسان يقارف هذا الفعل .. فالإسلام يريد للإنسان أنْ يحيا حياة نظيفة طاهرة، لذلك أحلّ له الزواج وحرّم عليه الزّنا، لا فرقَ في ذلك بين رجل وامرأة، أو غنيٍّ وفقير، ولم يحمّل المرأة المسؤوليّة وحدها عن هذه الجريمة وما جاء في مثل قول صلى الله عليه وسلم " إنّ المرأة إذا أقبلت ، أقبلت في صورة شيطان وإذا أدبرت ، أدبرت في صورة شيطان " (4) ، وأنّ " النساء حبائل الشيطان" (5)، وغير ذلك من أحاديث فلابدّ من فهمها في سياق كل الأحاديث التي تتحدث عن المرأة في مثل قول صلى الله عليه وسلم " النّساء شقائق الرّجال " (6) فالمرأة أحبولة الشيطان هي التي تترك نفسها للشيطان يختار لها أزيائها ومشيتها وتلك هي المرأة التي علقت عليها السيدة عائشة بقولها: إنّ الرسول لو رأى ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل، في حين أن الرسول قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (7) وليس ثمّة تناقض أو إشكالات فالمرأة أمة الله لا تمنع المسجد؛ لأنّها جزء صالح من نسيج المجتمع، له أنْ يتمتّع بكامل حقوقه الإيمانيّة، أمّا المرأة (أحبولة الشيطان) فهي تُمنع المسجد، و لابدّ من عقابها وازدرائها من المجتمع حتى تعود إلى رشدها ودينها.(18/258)
وهناك الرّجل الشّيطان نفسه ينتهك الحرمات، ويلَغ في الأعراض بلا أدنى إحساس من ضمير، وهو ولاشك عضو مرفوض من مجتمع المؤمنين؛ لذلك رفض الرسول أنْ يتهاون مع الرجل الذي أراد الدّخول في الإسلام بشرط أنْ تترك له حرية الزّنا وأفهمه بمنطق بسيط وواضح أنّ الحُرُمات كلها مقدسة، فهل يرضى أحد أن تنتهك حرمة أمه أو أخته أو زوجه؟
كذلك فالتائب والتائبة متساويان ويتقبلهما المجتمع الإسلامي بكل ترحاب، وهذا ما دفع الرسول صلى الله علبه وسلم أنْ يُعلّق على توبة الغامديّة بقوله: "إنها تابت توبة لو وزّعت على أهل الأرض لكفتهم" (8) هذا هو موقف الإسلام منذ اللحظة الأولى التي يواجه فيها هذا النوع من الجرائم فقبل تقرير حد معين على الزنا قال تعالى : " (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء:15]
ولأنّه من الصّعوبة بمكان أنْ يحبس الرجل طول عمره فكانت عقوبته الإيذاء متروكا لضمير الجماعة المؤمنة (وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا...) [النساء: من الآية16] ، ثم نزلت (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ... )(النور: من الآية2) وزاد بعض العلماء تغريب الشاب سنة كاملة، ولم يضيفوا عقوبة للمرأة وحتى أثناء الجلد يُعَرّى ظهر الرجل، أما المرأة حتى وهي زانية فإنّ سترها واجب وأمّا المحصن والمحصنة فجرت سنّة الرسو صلى الله عليه وسلم العمليّة على رجمهما لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، وإذا اتّهم الزوجُ زوجَته بمثل هذه الجريمة بلا شهود على قوله فسُنّ لذلك الملاعنة التي تفسخ الزّواج، ولم يُسَنّ له قتل الزوجة مثلا، والعقاب في كل هذه الجرائم يتمّ عن طريق السّلطة الشرعيّة، وليس موكولا للأفراد؛ للانتقام بوسائلهم الخاصة كما نرى من بعض الجَهَلة هذه الأيام.
جرائم الشرف .. رُؤية مجتمعيّة .
لكن إذا كان هذا موقف الشّرع من الجرائم الخلقيّة الشهيرة بجرائم الشرف فلماذا يُحَمّل المجتمعُ المرأةَ الوِزْرَ الأكبرَ من هذه الخطيئة؟ ولماذا تظلّ التائبة موضع شكّ ورِيبة واتهام؟ لا بدّ قبل إدانة المجتمع وجلده واتهامه بمجافاة روح الشّرع(الذي ساوى بين الرّجل والمرأة في الجريمة والعقاب مثلما ساوى بينهما في إمكانية اكتساب الفضيلة والتدرج في مراتب السّموّ الرفعة) أقول لا بدّ قبل الإدانة من تفهم الأسباب التي دعت المجتمع إلى ذلك .. فمن ذلك أنّ خوف المجتمع على المرأة أشدّ من خوفه على الرجل؛ لأنّ المرأة هي الخاسر الأكبر من جرّاء هذه العلاقة غير المشروعة فالمرأة لها طبيعة نفسيّة تختلف عن طبيعة الرجل النفسيّة؛ فالصّدمة التي تشعر بها المرأة عندما تدرك حجم الخطأ الذي وقعت فيه،ونظرتها المُزرية لنفسها أمر قد يؤدي بها إلى الانتحار، وهي لا تتحمل العلاقات العابرة التي لا تؤصل لمفهوم الاستقرار والسكن الذي هو أمر غريزي لدى المرأة ،والأخطر من ذلك أنّ هذه العلاقة قد تترك خلفها روحا بريئة تتحمل المرأة وحدها عبء مسؤوليتها؛ فكثير من الفتيات الأمريكيّات -على سبيل المثال- اختفى من حياتهنّ الصّديق الذي شاركهنّ الإثم ساعةً ليتركهنّ وحدهنّ يتجرعن طعم المأساة المرة؛ فهنّ بحاجة إلى المال كي تنفق إحداهنّ على نفسها وطفلها وقد تلجأ للإجهاض الذي قد يودي بحياتهما ... الخ .
فالمجتمع يريد أنْ يحمي المرأة من كل هذه الآلام التي قد تتحملها وحدها؛ فيقسو عليها حتى يجعل وقوعها في الخطيئة أمرًا بالغ الصعوبة .
ومن أسباب تشدّد المجتمع تجاه المرأة،أنّه بذلك يغلق الباب أمام فساد المجتمع كله؛ فلو أنّ جميع النساء ملتزمات فمع من سينحرف الرّجال ؟!
وكذلك من أساب هذا التّشدد أنّ المرأة أقدر بطبيعتها أنْ تتحكم في أحاسيسها وغريزتها، يؤكد ذلك جميع العلماء الذين درسوا الجنس بين الرجل والمرأة وعلى رأسهم فرويد .
وعلى الرغم من ذلك فالمجتمع في مجمله يزدري الرجل المنحرف أشدّ الازدراء، ويرفضه ويندّد به؛ فليس صحيحًا أنّه يتساهل معه، أو يتقبّله ببساطة كما يدّعي البعض؛ فالفارق بين الرجل والمرأة هو اختلاف في درجة العقاب الماديّ والمعنويّ، وليس الهدف من ذلك إبراء مجتمعاتنا من كل نقيصة أو خطأ، ولكنّها محاولة للفهم الصّحيح بعيدًا عن الفهم المتطرّف الذي يلوي أعناق الحقائق للوصول إلى نتائج موضوعة سلفًا.
< a name="1">(1) يتزعّم هذه الحملة في مصر فريدة النّقاش رئيسة تحرير مجلة أدب ونقد اليساريّة.
(2) انظر على سبيل المثال رواية "الباحثة عن الحب"لنوال السّعداوي، وكذلك رواية "زهرة" للكاتبة اللبنانيّة حنان الشيخ.
(3)نسائي أم نسوي ص80 بتصرّف يسير
(4)رواه الترمذي.
(5) من تخريج أحاديث الإحياء عن خالد بن يزيد.
(6) رواه أحمد.
(7) رواه البخاري ومسلم.
(8) رواه مسلم
=========(18/259)
(18/260)
(...) في إسرائيل!
سلمان بن فهد العودة 11/8/1425
25/09/2004
أحداث الساعة تأبين للنظام العربي، وإعلان لخاتمة حزينة لهذه المرحلة بكل تطلعاتها وإخفاقاتها وممانعاتها.
النظام الأمني يتهتك في ظل حضور إسرائيلي مدروس في المنطقة، وتأثير مباشر على مجريات القرار في الولايات المتحدة.
وما خبر اكتشاف الجاسوس الإسرائيلي على أعلى المستويات في (البنتاجون) إلا نموذج لهذا التأثير.
وقد كان لهذه الجاسوسية تأثير حقيقي على قرار حرب العراق وما تلاه, وعلى مجمل السياسات الأمريكية في قضايا الشرق الأوسط، مما يؤكد أن حفظ أمن إسرائيل هو أبرز أهداف تلك الحملة.
بيد أن الإدارة الأمريكية -بجملتها- خاضعة للنفوذ اليهودي، ومرشحو الرئاسة يختلفون في أشياء عديدة, ولكنهم يتفقون على دعم إسرائيل وحمايتها, ويتنافسون في تقديم المزيد للمواطن الإسرائيلي.
ويأبى الإعلام أن يكشف للشعب الأمريكي حقيقة الأمر؛ فالإعلام خاضع هو الآخر للنفوذ اليهودي، كشركة (تايم وارنر) التي تملك عدداً من شبكات التلفزيون بينها (CNN) والمئات من شبكات الإعلان والفرق الرياضية وشبكات للإنترنت واستوديوهات ومؤسسات للإنتاج السينمائي ودور نشر للكتب، كما يسيطر اليهود على غيرها من محطات التلفزة كـ (Fox TV) و(Cbs tv) و(ABC) و (NBC) ومجموعة من الصحف اليومية واسعة الانتشار، ولليهود نفوذ كبير في هوليود وصناعة السينما العالمية.
ولذلك تم التستر على فضيحة الجاسوس في وزارة الدفاع, ولنا أن نتصور لو أن هذا الجاسوس كان عربياً!
لقد دارت التهم حول موظف عادي في سجن (غوانتاناموا) وتم تصعيد الخبر إعلامياً، وتكشفت النتائج عن وهم كاذب أو خداع مدروس.
وهذا يشكل التحدي الخارجي الهائل لما كان يسمى بـ "النظام العربي", فالإرادة -بتقديم الراء- الأمريكية ماضية على كسر أي امتناع عربي أو إسلامي يعكّر على الوجود اليهودي، ويحول دون إتمام صفقة سلام ذليل يفتح لإسرائيل الحدود العربية، ويقيم سفاراتها في العواصم الكبرى, ويقضي على كل وجود عسكري أو أمني يهددها في الحاضر أو المستقبل.
وفي الوقت الذي لا تزال خطة أمريكا في العراق تعاني من الإخفاق, فإن صقور الإدارة يتحرشون -بقوّة- بسوريا وإيران والسودان, ويضغطون على مصر والسعودية ولبنان.
ووضع كهذا يتزامن مع مساندة إعلامية وأمنية للقوى الداخلية المنسجمة مع السياسة الأمريكية؛ فهناك بند خاص لدعم "المثقفين" المتحالفين مع أمريكا, ويخطئ من يظن أن هذه الأساليب كانت حكراً على نظام البعث في العراق، فقد ذكرت (فرانسيس ستوندر) في كتاب (الحرب الباردة الثقافية) أن المخابرات الأمريكية قامت عام1950م بتأسيس منظمة ثقافية باسم (منظمة الحرية الثقافية) تحولت في عام1976م إلى الاتحاد الدولي للحرية الثقافية، وقد قامت هذه المنظمة بإنشاء فروع لها في خمس وثلاثين دولة تم اختيارها بعناية، وقد أصدرت هذه المنظمة أكثر من عشرين مجلة ذات تأثير كبير، وقامت بتنظيم المعارض الفنية والحفلات الموسيقية؛ لكي يتواصل الجميع مع الأسلوب الأمريكي في الحياة، ولخدمة المصالح الأمريكية، وكانت هذه المنظمة التابعة لـ (CIA) تدعم من تسميهم بـ "أصدقاء الحرية" بمبالغ طائلة تتجاوز خمسة ملايين فرنك سويسري شهرياً.
والقنوات الحرة تمارس تبشيراً مكشوفاً بالقيم الأمريكية, أو بـ "اللاقيم" على الحقيقة, وقد يصل بها الحماس إلى أنها لا تستطيع أن تداري انحيازها السافر لكل ما هو ضد العروبة والإسلام!
ولقد أصبح العديد من كتاب الأعمدة يشمتون بالمقاومة الوطنية الصادقة حيث كانت، ويعدّونها عبثاً وهدراً، في الوقت الذي يشيدون به بعملاء الغرب الذين يمنحونهم صفات العقلانية والتطوير والانجاز وإعادة الإعمار!
وضمن هذه الحلقة تتحرك جهود مكافحة الإرهاب لتشويه صورة المقاومة المشروعة، وقطع المساعدات المادية، أو المؤازرة السياسية وعزلها عن ارتباطها التاريخي بالشعوب الإسلامية.
وأمريكا التي تمسك بمعظم خيوط اللعبة توظف المنظمات الدولية لمصالحها الخاصة وتستصدر القرارات التي تشاء, وتغلق أبواب نادي العولمة الاقتصادية في وجه الدول التي تظهر شيئاً من استقلال الإرادة السياسية.
لسنا نستغرب أن يحدث هذا؛ فالذي لا يساعد نفسه لن يساعده الآخرون, والضعيف يظل عُرضة للابتزاز، ويغري الآخرين بهذا، لكن الغرابة في المسارعة العربية في هؤلاء القوم, حيث ترتفع نبرة الحديث عن علاقات طبيعية مع إسرائيل, ويبادر بعض القوم إلى زيارتها, ويسارع آخرون لتعويض اليهود المهاجرين -كحالة ليبيا المنكوبة- ويتوارى آخرون خجلاً من الحديث عن العدو الصهيوني الذي أصبح كياناً ثم دولة, وقد يأتي اليوم الذي تصفه بعض قنوات الإعلام السياسي بالصديق, وإذا لم تُفعّل مداراة للشعور الشعبيّ؛ فإنها تكون قد قطعت قبل ذلك شوطاً بعيداً في تبادل الخبرات الأمنية، والتعاون الاقتصادي، والتطبيع السياسي الهادئ.(18/261)
وقد يأتي اليوم الذي تتحدث فيه تلك الأقنية عن زيارات متكررة إلى "القدس" تحت سمع الكاميرات وبصرها.. ولم لا؟ فنحن في عصر التحوّلات والمفاجآت, وإذا لم يحدث هذا اعتباراً بما جرى في مصر فلتكن اللقاءات المكوكية المتخصصة هي البديل الأجدى لاندماج "إسرائيل" في الشرق الأوسط الكبير!
في النهاية لست متشائماً لأنني أعرف أن الطب نجح في زراعة الكبد والكلية و... و...، ولكنني لا أعرف حتى الآن أن الطب نجح في زراعة " رأس ".
إن أقسى هزيمة تحيق بنا أن نصل إلى شفير اليأس؛ فليكن لنا معتصم بإيماننا بالله ووعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الدائرة على الظالمين المعتدين، ولو فسح لهم في الوقت, والله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته, "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ" [هود:102].
ملاحظة: كتب هذا المقال في نهاية شهر رجب الفرد 29/7/ 1425هـ
=============(18/262)
(18/263)
تقرير "البيان" الاستراتيجي الثاني
قراءة: عماد الخطيب 20/9/1425
03/11/2004
تقدم مجلة "البيان" الشهرية الصادرة عن المنتدى الإسلامي بلندن تقريرها السنوي الثاني لعام 1425هـ والذي كان عنوانه (مستقبل العالم الإسلامي ، تحديات في عالم متغير).
أما التقرير الأول والذي يعد بادرة جديدة حيث طرحت مجلة البيان في الأسواق أحدث إصداراتها : التقرير الارتيادي ( الاستراتيجي ) السنوي ، و الذي جاء ليسد ثغرة هائلة في الوعي العربي ، طالما تسلل منها أعداؤنا ، ليحدثوا نزيفاً في وعي أمتنا ، و أتى التقرير ليفجر إعلاناً مدوياً ، وتطبيقاً عملياً ، لقاعدة هامة ، وهي أن العقل العربي ينبغي أن يكون صياغة إسلامية خالصة ..
ويهدف التقرير في طرحه السنوي إلى :
1 - بحث الخيارات الممكنة والسبل المتاحة لكي تأخذ الأمة الإسلامية وضعها ومكانتها في البيئة الدولية وقدرتها على تحدي القوى والاستراتيجيات العالمية والإقليمية، بل وصولها إلى وضع القوة المهيمنة الأولى على الساحة الدولية مستقبلاً في ضوء اللحظة الراهنة ليس استكباراً أو تجبراً في الأرض؛ بل أداء لمهمتها التي كلفها الله بها في الأرض.
2 - يكون التقرير أداة للتأثير على صانعي القرار أو النخبة القريبة من الدائرة المشتركة في صناعة القرار داخل دوائر الحكم العربية من سياسيين وإعلاميين؛ وذلك يتحقق من خلال إشراك مجموعة من الباحثين المحايدين في مراكز البحوث العربية والذين يرتبطون بدوائر صنع القرار عن طريق التشاور.
3 - تربية وتدريب عناصر على التحليل السياسي المرتبط بالرؤية الارتيادية.
4 - إحياء الحس الارتيادي لدى النخبة من أبناء الأمة.
5 - إبراز جانب النظرية السياسية في المنهج الإسلامي.
هذه هي الأهداف العامة كما جاءت في مقدمة العدد الأول منه . بينما الهدف الخاص لكل تقرير هو تتبع التغيرات العالمية الاستراتيجية بأبعادها السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها التي جرت خلال عام على أوضاع الأمة الإسلامية) وهي تجاهد لتحقيق مكانتها في البيئة الدولية وقدرتها على تحدي القوى والاستراتيجيات العالمية والإقليمية.
ويقوم هذا التقرير بالبحث عن اللحظة التي نعتبرها نقطة فاصلة في العلاقات الدولية والنظام الدولي، وهي لحظة صعود الأمة الإسلامية إلى تبوُّؤ مكانتها على الساحة الدولية؛ في وقت تخترق فيه هذه الأمة والقوى الفاعلة فيها بحُجُب وقيود تحول بينها وبين الصعود؛ فضلاً عن الاستمرار في هذا الصعود. هذه اللحظة أو الثغرة قد تكون حين تنهار قوى عظمى ومهيمنة، أو يقع خلل في ميزان القوى العالمي، أو تحدث أزمة عالمية حادة، اقتصادية أو عسكرية، أو غير ذلك من الظروف الدولية، وهذا ليس ببعيد أو مستغرب، فالأمثلة كثيرة والشواهد القريبة عديدة؛ منها القنبلة النووية الباكستانية.
ففي عام 1974م أجرت الهند اختباراً على قنبلة تبلغ قوتها حوالي 15 كيلو طناً، وقالت إن الاختبار هو انفجار نووي للأغراض السلمية.
في إثر ذلك اجتمع رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار علي بوتو بكبار العلماء، وأخبرهم عن نية الحكومة في تطوير أسلحة نووية.
وفي بداية الثمانينيات شهدت الساحة الدولية الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والذي أشارت المصادر الأمريكية بعد ذلك أنه تم باستدراج أمريكي للروس لإغراقهم في المستنقع الأفغاني، وكانت باكستان لأسباب عديدة هي المعول الأمريكي الرئيس في إسقاط القطب الذي ظل ينافس أمريكا على الهيمنة لعدة عقود. ورأت الولايات المتحدة أن استراتيجية إسقاط الاتحاد السوفييتي مقدَّمة على استراتيجية مكافحة انتشار الأسلحة النووية، والتقط الجانب الباكستاني الفرصة، وأشارت تقارير متعددة إلى حصول باكستان على نموذج قنبلة ذرية من الصين تم اختباره مسبقاً، إلا أن باكستان نفت ذلك. وفي عام 1981م نشرت وكالة أسوشيتدبرس محتويات تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية، جاء فيه: «إن لدينا سبباً قوياً للاعتقاد بأن باكستان تسعى إلى تطوير القدرة على التفجير النووي، وأنها تنفِّذ برنامجاً لإعداد وتطوير نظام إطلاق التفاعل في الأسلحة النووية»، وفي أواخر عام 1981م صدر كتاب بعنوان (القنبلة الإسلامية)، يتحدث عن الجهود الباكستانية الأخيرة لتنفيذ تجربة نووية.
وبعد أن انتهت الولايات المتحدة من إضعاف الاتحاد السوفييتي ثم إسقاطه تضاءلت الحاجة إلى باكستان، وتفرغت لمشكلة قنبلتها النووية، ولكن كانت عجلة المشروع الباكستاني قد وصلت إلى مرحلة لا يستطيع أحد إيقافها، وأفلتت باكستان بقنبلتها النووية.
فهذا النموذج نجحت فيه القوى الإسلامية في تنمية رصيد القوة لدى الأمة الإسلامية، وهذا يجعلنا نرقب الوضع الدولي جيداً، بل نسعى إلى تغييره في اتجاه تصعيد دور فاعل للأمة على الصعيد العالمي.
وبذلك يتتبع التقرير حال الأمة الإسلامية، ومدى ما تمتلكه من أدوات القوة ووسائلها، ووضع القوى الدولية وترتيبها، والعلاقات بينها، والنظريات السياسية التي تقودها؛ محاولاً رصد الفراغ الذي يمكن من خلاله أن تنفذ الأمة والقوى الفاعلة فيها.(18/264)
وبدأ التقرير الثاني كماهو العادة في التقرير الأول بباب النظرية والفكر.
ويتناول الفصل الأول في هذا الباب: مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي من خلال التعريف بالنظام الإسلامي والتنظيمات الإدارية المتعلقة به، وأحكام الخلافة، ومستقبل النظام الإسلامي في واقعنا المعاصر.
أما الفصل الثاني فيتناول قضية الإرهاب وشروط البحث في هذا الموضوع، والجوانب المرتبطة به مثل الإعلام والفكر والسياسة وغيرها.
ويحاول الباحث في الفصل الثالث المشاركة في تأسيس معرفي إسلامي لمفهوم حوار الحضارات الذي كثر الكلام حوله، وتباينت المواقف تجاهه في ظل ظروف هيمنة للحضارة الغربية.
كما خصص التقرير باباً كاملاً لدراسة هذه الحرب من زواياها الاستراتيجية المختلفة، فتحدث الفصل الأول عن مقارنة بين كل من الإعلام الغربي والعربي والصعوبات والتحديات والسلبيات التي أظهرتها تلك الحرب في هذا المجال.
وتناول الفصل الثاني التعريف بأهل السنة في العراق؛ حيث جرى التعريف بأوضاعهم، ورصد الباحث التحديات التي تواجههم على عدة مستويات سواء في ذلك المحيط الدولي أو الإقليمي أو المحلي، ثم وضع حلولاً للتعامل مع هذه التحديات.
أما في الفصل الثالث فيقوم الباحث فيه برصد المتغيرات في المنطقة العربية بعد أحداث احتلال العراق، وحاول الإجابة عن أسئلة تتعلق بمجالات التغيير المتوقعة في المنطقة العربية، وما هي أهداف التغيير المحتمل؟ وما هي عوامل نجاح وإخفاق هذا التغيير المحتمل؟
ثم في النهاية حاول الإجابة عن السؤال المحوري فيما يتعلق بسبل مواجهة هذا التغيير وكيفية التعامل معه.
وفي الفصل الرابع يتناول التقرير الدور الإسرائيلي في العدوان على العراق، ودلالاته الاستراتيجية. ويبحث في الدور الذي قامت به إسرائيل في التحضير للحرب قبل احتلال العراق وبعده؛ وذلك من خلال تحليل الاستراتيجية الإسرائيلية في العالم الإسلامي والعربي بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. كما يبحث في سياسة إسرائيل في دعم الولايات المتحدة في عدوانها على العراق، والمكاسب التي حققتها إسرائيل من الاحتلال الأمريكي للعراق على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
ويبحث الفصل الخامس في تأثير الحرب على العراق على توازن القوى الدولي من خلال تقويم واقع كل قوة كبرى في حدود الدور واحتمالاته المستقبلية، وتأثير ذلك على العالم الإسلامي، ثم مناقشة بعض الخيارات الاستراتيجية للعالم العربي الإسلامي في ظل نتائج الدراسة.
والفصل السادس يركز على المحددات التي يمكن بها توقع مستقبل الاحتلال الأمريكي للعراق والسيناريوهات المستقبلية لهذا الوجود، ثم إمكانية تأثير القوى الفاعلة في الأمة الإسلامية في هذا الوجود ومستقبله.
أما الباب الثاني فيطل على العلاقات الدولية من خلال التركيز على أوضاع البؤر الساخنة التي تواجهها أمتنا:
فالفصل الأول يتناول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم وانعكاسها على العرب.
ويتناول الفصل الثاني الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط؛ وذلك من خلال المشروع الأمريكي المسمى الشرق الأوسط الكبير.
وفي الفصل الثالث من هذا الباب يرصد مسمى (المحافظون الجدد) ذلك المصطلح الذي أخذ يتردد بقوة في الفترة الأخيرة، ويحاول هذا الفصل إزالة الالتباس المتعلق بهذا المفهوم على صعيد النخب الفكرية.
وفي الباب الرابع يحاول الباحث استكشاف التغيرات الطارئة على القضية الفلسطينية خاصة ما يمس منها المقاومة ويستشف أبعادها المستقبلية.
وفي الباب الخامس يناقش الباحث التحديات التي تمس أمن باكستان القومي، والتحديات التي تهدد الهوية الإسلامية التي قامت عليها باكستان والتي على رأسها حصار المحور (الأمريكي - الإسرائيلي - الهندي).
ويتناول الفصل السادس المعادلة الأفغانية والصراع الدولي حولها، وسبل خروج الأمة الإسلامية من المأزق الأفغاني.
ويضع الفصل السابع المسألة الشيشانية بأبعادها المختلفة القديمة والحالية تحت البحث، ويحاول الكشف عن أبرز العوامل المؤثرة في القضية في مراحلها المختلفة والإجابة عن تساؤلات عديدة.
ويسلط الفصل الثامن الضوء على الصراع في إيران بين المحافظين والإصلاحيين أو دعاة التشيع وحاملي لواء الليبرالية.
ويركز الفصل التاسع والأخير في هذا الباب على شكلين من أشكال الترجمة العملية للتناول الغربي لمصطلح الإرهاب الشكل الأول؛ تقزيم العمل الخيري الإسلامي. والشكل الثاني؛ مصادرة الأموال الإسلامية والعربية.
ويبقى في النهاية ملحقان للتقرير:
الملحق الأول: يتعلق بترجمات النشرات الصادرة عن أهم مراكز البحوث والدراسات خاصة في الولايات المتحدة وإسرائيل ومنها ملخصات دراسة الوجه الآخر للحركة الإسلامية لمركز كارينجي للسلام، ودراسة انهيار العرب لمركز ديان، وملخص لتوقعات مركز جافي الإسرائيلي لعام 2003م، وملخص لنشرات مركز استخبارات الشرق الأوسط لنفس العام، وكذلك ملخص لنشرة واشنطن الفصلية للعام نفسه.(18/265)
الملحق الثاني: ويتناول أشهر تسعة كتب سياسية تتعلق بالشأن الإسلامي في العالم التي صدرت في العام الماضي؛ حيث تناولنا تعريفاً بالكتاب والمؤلف، وهي: (مستقبل الإسلام السياسي)، و(ما بعد الحرب في العراق)، و(التصدي للجهاد ووجهاً لوجه مع الإسلام السياسي)، و(نهاية الشر)، و(ما بعد الجهاد)، و (أمريكا وأوروبا في النظام العالمي الجديد)، و(الدور السياسي للدين في الشرق الأوسط)، و(مشكلة القوة الأمريكية).
وبذلك يتتبع التقرير حال الأمة الإسلامية ومدى ما تمتلكه من أدوات القوة ووسائلها، ووضع القوى الدولية وترتيبها، والعلاقات بينها، والنظريات السياسية التي تقودها؛ محاولاً رصد الفراغ الذي يمكن من خلاله أن تنفذ الأمة والقوى الفاعلة فيها.
فالأمة بحاجة حقيقية إلى بعث الاهتمام جدياً بالدراسات المستقبلية في عالمنا الإسلامي؛ ليس بأن تأخذنا ضرورات البريق العالمي؛ فنبدي بشكل مظهري وقشري اهتماماً بالمسمى، دون أن نهتم اهتماماً فعلياً بالجوهر؛ وذلك من باب إبراء الذمة والظهور بمظهر المتقدمين، فنقوم بإضافة كلمة المستقبل إقحاماً إلى بحوثنا ودراساتنا ومقالاتنا، ولكن من خلال جهود علمية مؤسسية تأخذنا إلى نطاق أكثر جدية وفاعلية من مجرد حَدْس الأفراد وتوقعاتهم المعتمدة على قدراتهم الاستشرافية الذاتية؛ ذلك أن للدراسات المستقبلية أساليب منهجية تحتاج إلى درس ومران، وهي فوق ذلك تحتاج إلى قدر من التخيل العلمي المستقبلي، والتحرر الذهني، فضلاً عن قدرة على التدرب الدائم على تنمية عقلية البدائل القادرة على طرح تصورات إبداعية نظرية وواقعية على حد سواء، وهو ما يتطلب ضرورة التحرر من أسر الرؤية اللحظية بما تتطلبه من عدم إهمال للتفاصيل والأحداث والتطورات التي قد تبدو جزئية ومنفصلة، في حين أنها تنطوي على قدر كبير من الأهمية، كما أنها لا تهمل ما قد يراه أغلب الناس ضرباً من العشوائية، في حين أنه ينطوي على انتظام ما بالإمكان دراسته وفقاً لمنطقه الخاص.
==============(18/266)
(18/267)
المبادرة الخامسة : حتمية إنشاء مؤسسات المجتمع المدني
9/1/1428
28/01/2007
المبادرة الخامسة: حتمية إنشاء مؤسسات المجتمع المدني
• هل يؤمن القادة بالعالم الإسلامي بسلطة المجتمع ..؟
• الحق الاجتماعي ..... هل جعلته الحكومات صدقة ..؟
• صوت الشعوب في بعض الدول ...مؤسسة حقيقية أم بهرجة إعلامية ومتاجرة بالحقوق
....!!!!
خلفية المبادرة
المجتمع المدني وفق المفهوم العام يأتي على نقيض المجتمع القروي - الريفي -حيث العلاقات لا تكون إرادية بقدر ما هي طبيعية, ينتمي الفرد إليها بالضرورة ويصعب عليه الانسحاب منها والتنكر لها (القبيلة - العشيرة. . الخ).
ومؤسسات المجتمع المدني تمثل المؤسسات التي ينشئها الناس فيما بينهم في المدينة لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية, فهي إذاً مؤسسات إرادية ينشئها الناس وينخرطون فيها أو يحلونها وينسحبون منها.
تلك المؤسسات مستقلة عن الدولة سواء أكانت اقتصادية (شركات - مؤسسات - مصارف. . ) أو اجتماعية (جمعيات - نقابات - روابط. . ) أو سياسية (أحزاب - مجالس منتخبة -. . ) أو ثقافية (منتديات - صالونات - وسائل إعلام - صحف ومجلات. . ).من هنا فإن مؤسسات المجتمع المدني هي مؤسسات أهلية مستقلة عن تدخل الدولة، ولكنها ليست مستقلة عن إطارها، فهي تتميز بالاستقلالية وروح المبادرة الفردية، والجماعية، والعمل التطوعي والوظيفي المنظم، لخدمة الجماعة من أجل المصالح العامَّة، والدفاع عن الفئات المظلومة والمضطهدة والمهمشة. ولذا فهي تمثل مجتمع من التنظيم المهني والجمعياتي الفاعل والمؤثر، كما يمكن اعتبارها واحدة من الضمانات الحقيقية لاستقرار المجتمع وتحقيق أمنه ورفاهيته.
من هنا فإن إنشاء مؤسسات المجتمع المدني الحقيقية والتي تؤدي دور فاعل في الدول الإسلامية -والعربية بشكل خاص- مسألة جدية وواقعية لا تحتمل التأجيل حيث تؤدي إلى إحياء المجتمع وإبراز طاقاته وبث الحيوية والنشاط في أوصاله.
إن مشكلة بعض الأنظمة العربية التخوف من مؤسسات العمل المدني، لأنها سوف تحرمها من "الامتيازات" الخاصة التي ترفل فيها، والتي تجعلها فوق القانون. لأن الاستبداد هو الذي يمكنها من قمع معارضيها ومنتقديها وإيداعهم غياهب السجون، حتى صارت الشعوب العربية- التي عرفت في الماضي بجرأتها في الحق- تتخوف الآن من إبداء رأي، وهذا أدى إلى شيوع السلبية والانهزامية وتنامي الروح الأنانية. كما أنه ذاته هو ما جرأ، وربما دفع القوى الخارجية إلى مباشرة التدخل المقيت في بلادنا كما حصل في العراق مثلا أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو أمر مرشح للحدوث في دول أخرى حسب رؤية الدول الغربية وخططها المعلنة.
وهذا ما يراه الدكتور عبد الله الحامد ويؤكد أن المجتمع المدني ليس مجتمع الفردية ـ أو الانحصار ضمن تجمعات منغلقة على حقوقها ومصالحها ـ كما يسئ فهمه بعض الناس، بل هو مجتمع التسامح والحوار، والاعتراف بالآخرين الموجودين في الوطن واحترام آرائهم واتجاهاتهم.
أما أهمية دور المؤسسات داخل المجتمع المدني وضرورة المبادرة إليها فيمكن إبرازها في النقاط التالية:
لا يمكن تنبيه الدولة إلى الاختلال بدون مؤسسات المجتمع المدني، لأن السلطة المطلقة ذات ميل طبيعي إلى خرق القوانين التي أصدرتها هي نفسها دون وجود مصلح أو رقيب، لذا يمكننا القول "السلطة بلا رقيب علة بلا طبيب".
مؤسسات المجتمع المدني هي ضمانة الأمن والسلام الداخلي، من خلال إيجاد توازن بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع، إذ بمؤسسات المجتمع المدني تناط مسئولية التوازن والانسجام بدلاً من التناحر والانفصام، فهي تقف في وجه نزوع الدولة إلى بسط هيمنتها، وهي ليست ضد الدولة ولكنها ضد شموليتها واستبدادها.
مؤسسات المجتمع المدني تجسد إرادة الأمة التي ينبغي للدولة العمل على تنفيذها، وتنذر المسؤولين عن السلطة بما يسرى داخل المجتمع من أمراض أو علل، وتعمل على توثيق العلاقة بين الحاكم والمحكوم (تلاحم الجبهة الداخلية).
تلك المؤسسات تنتقل بالإنسان من مجرد "رعية" اعتاد على تنفيذ الأوامر والانصياع المطلق, إلى مواطن يتحدد كيانه بمجموعة من الحقوق والواجبات, هذا المواطن وبهذه الصفات فقط يمكنه أن يمتلك الأدوات اللازمة، ليمارس هذا المواطن مواطنته بشكل ناضج وحقيقي وصحيح.
من أجل ذلك تشتد الحاجة في بلداننا العربية والإسلاميَّة إلى تفعيل وتنشيط قيم المجتمع المدني، وإقامة هياكل مؤسساته، لأن أي دولة لن تسطيع الصمود أمام العولمة الإمبريالية، ما لم تكن فيها مؤسسات راسخة للمجتمع المدني.(18/268)
الدكتور الشيخ ناصر العمر يرى أن الأمر لا يحتمل التأجيل أو التأخير ، ولذا لابد من تنادي المثقفين والعلماء للمسارعة في إيجاد مؤسسات المجتمع المدني، و تفعيل دورها، نظراً لأهميتها في "إنعاش المجتمع المسلم "، ولأنها تشكل "قوة ضغط حقيقية على الحكومات الجاثمة على رقاب الناس". ويبدي الدكتور ناصر أسفه البالغ لنجاح تجربة تلك المؤسسات لدى الدول الأخرى وتأثيرها الشديد على أمريكا والدول الغربيَّة على وجه الخصوص، وانعدام تجربة تلك المؤسسات في المجتمعات المسلمة على الرغم من إمكانياتها الماديّة والبشرية الهائلة.
المحاور الرئيسية للمبادرة
من المؤكد جدا أن للمنظمات والهيئات والنقابات (مؤسسات المجتمع المدني) دوراً أساسياً جداً في المجتمع، لأنها تقوم بدور الوسيط بين الدولة وعامَّة الناس، كما أنها تعد بمثابة ركائز مهمة في وجه تغول الدولة وتسلطها. والمبادرة الحالية لإنشاء تلك المؤسسات يمكن عرضها ضمن المحاور الثلاثة التالية، مع ملاحظة أن بين تلك المحاور تلازم وارتباط شديد.
ضمن المحور الأول يرى مجموعة من الباحثين منهم الدكتور ناصر العمر والدكتور عبد الله الحامد وغيرهم، أن تحقيق هذا المقترح (مؤسسات المجتمع المدني) لأهدافه المرجوة، يستلزم إرساء التالي:
1. استقلالية هذه المؤسسات في وجودها وقراراتها عن المؤسسات الرسمية(الحكومات)، بحيث ترعى حقوق الناس، وتؤمن لهم العمل، لئلا يلجئوا إلى استجداء المتنفذين من أجل إيجاد عمل لهم، وتمارس نوعا من الضغط والتأثير على الحكومات، يوازن ما يقوم به المتنفذون وأرباب المصالح الخاصة في الدولة، الذين يوجهون إصدار النظم والقرارات بما يخدم مصالحهم، كما هو الحال في بعض الدول الإسلاميَّة كالجزائر وتركيا.
2. الرفق في الطرح، والبعد عن مواجهة الدول وعن مجالات العنف، حتى لا تسد الأبواب منذ البداية والعمل على ألا يتولى تلك الهيئات أشخاص معادون للدولة، أو لهم تاريخ في الوقوف في وجهها.
3. ألا تكون تلك المؤسسات إقليمية، من خلال العمل على أن يكون لأهل كل اختصاص أو مهنة هيئة تمثلهم، بحيث تتحول تدريجيا إلى مؤسسة عمل اجتماعي حقيقية.
4. الارتباط المباشر بالشعوب، والبعد عن المظهرية والبهرجة الإعلاميَّة، بحيث تتكفل تلك المؤسسات بالاتصال بشرائح المجتمع المختلفة، وتعيش هموم الناس وآلامهم ومعاناتهم في مدارسهم، ومستشفياتهم، ومصالحهم وسجونهم، كما تخاطب الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة، كالإنترنت والمنبر والصحيفة.
5. الدكتور عبد الكريم بكار يعترف بصعوبة القيام بعمليّة ربط الشعوب العربية بصورة سريعة بمؤسسات العمل المدني، ويحدد بأنه من واجب تلك المؤسسات أن تتمتع بالجاذبية التي تمكنها من شد الناس نحوها وثقتهم بها، وذلك يتم من خلال الاستراتيجيات التالية:
• الثبات على مبادئها من غير انغلاق ولا تحجر.
• الوقوف إلى جانب الأغلبية الصامتة من أبناء الأمة.
• الدفاع عن المظلوم ومساعدته على نيل حقوقه.
• البعد عن الحزبية والفئوية والتعصب، بحيث تعبر المؤسسات عن تطلعات ومشكلات جميع الأمة.
• التمتع بشيء من الجرأة في الطرح حتى تثبت قدرتها على الريادة الاجتماعية.
6. عدد آخر من الباحثين يؤكدون على أن بناء المؤسسات (المجتمع المدني) وتفعيلها في البلاد العربية، لا بد أن يتم بصورة ناضجة، ويمكن أن يتم عن طريق:
• دراسة التجارب السابقة، ومحاولة تلافي الأخطاء التي وقعت فيها.
• قيام كل مهنة بخدمة الأغراض التي قامت من أجلها والحذر من تداخل الأهداف وتقاطع الآليات المستخدمة لكل هيئة.
• تشكيل هويات تلك الهيئات عن طريق الإبراز الإعلامي المكثف للشخصيات المؤهلة لأداء الدور المستقبلي.
• ضرورة أن يتاح لها التمتع بقوة اقتصادية هائلة، من خلال تأمين مصادر دخل ثابتة مرتبطة بالأدوار التي تقوم بها.
فيما يتعلق بالمحور الثاني للمبادرة، وبصورة عمليّة وواقعية، يرى العديد من العلماء والباحثين التي تم استفتاؤهم، وعلى رأسهم الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي، أنّه لابد من اعتماد المرحلية لتأمين وجود مؤسسات المجتمع المدني للدول التي لا تتوفر فيها تلك المؤسسات. هذه المرحلية تستلزم التالي:
1. الإشاعة الفكرية لقضية المجتمع المدني، وبيان أهميته وفائدته للشعب وللدولة.
2. إشاعة مفاهيم (الحق الاجتماعي)، وأن ما يعطاه المجتمع ليس صدقة ولا منة، بل هو حق من حقوقه.
3. إشاعة مفاهيم (الواجب الاجتماعي)، وضرورة مشاركة "الجميع" في خدمة "المجتمع"، وبيان أهمية الإسهام في هذا الجانب بصورة عمليّة.
4. إزالة القداسة الموهومة في أذهان الناس تجاه المؤسسات الرسمية.
5. الاستفادة المبدئية (في الوقت الراهن) من المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية (الجامعات، والجمعيات الخيرية)، لإنشاء هيئات ومؤسسات يمكن أن تصبح بشكل طبيعي نواة لمؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل مفاهيم وأعراف (المجتمع المدني) بالتدريج.(18/269)
6. السعي العمليّ من قبل القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة، لإيجاد أي " منظمة " أو "هيئة " أو "نقابة " أو "اتحاد " أو "مؤسسة ذات طابع مدني "، وتشجيع هذا الاتجاه والإسهام فيه.
المحور الثالث يرتبط بالدول التي توجد فيها مؤسسات (المجتمع المدني) بصورة شكلية، حيث تكون المبادرة الحقيقية في تفعيل دورها وتمكينها من تحقيقها لأهدافها الحقيقية في تنمية المجتمع، وتماسكه وصيانته. ويكون ذلك بالتالي:
1. إعادة النظر في أفكارها ووسائلها والقائمين عليها.
2. ترسيخ أعراف الرقابة المالية والإدارية والمحاسبة عملاً وتطبيقاً.
3. فتح المجال لمشاركة أفراد المجتمع، وتفعيل الوسائل المعينة على ذلك ، والتخلص من السيطرة المزمنة لفكرة (النخبة) و (الصفوة) في هذه المؤسسات.
4. التنسيق والتفاهم مع كافة القوى و المؤسسات بما فيها التي لا تتبنى الاتجاه الإسلامي، وإفادتهم والاستفادة منهم (ضمن ضوابط ومحترزات شرعية).
5. السعي في فتح مؤسسات أخرى يحتاجها المجتمع، أولها تأثير في الأنظمة
==========(18/270)
(18/271)
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 30/11/1425
11/01/2005
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(18/272)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(18/273)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(18/274)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (libe r alism ) ص 525, دار العلم للملايين - بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي - الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.
==========(18/275)
(18/276)
وهذا البلد الأمين (الحلقة الأولى)
سلمان بن فهد العودة 17/1/1426
26/02/2005
"وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ*وَطُورِ سِينِينَ*وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ*لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ*فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ*أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ"[التين:1-8].
أقسم الله سبحانه وتعالى بثلاثة أقسام:
1- التين والزيتون.
2- طور سنين.
3- البلد الأمين.
وإذا أخذنا بالتفسير القائل أن المقصود بقول الله سبحانه وتعالى: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" منابتها في الشام وفلسطين، وقول الله سبحانه وتعالى: "وَطُورِ سِينِينَ" : أنه طور سيناء.
فمعنى ذلك: أن هذا القسم يجمع نبوءات الأنبياء الكرام كلهم، عليهم الصلاة والسلام ويؤكد أن دعوتهم واحدة ودينهم واحد، وهذا يعطي قدراً كبيراً من الأهمية، لبلاد العالم الإسلامي كلها، فالرقعة الإسلامية كلها رقعة اختارها الله سبحانه وتعالى واجتباها واصطفاها وميزها.
ونحن حينما نتكلم عن خصوصية هذا البلد المبارك لا يعني أننا نمارس نوعاً من الإقصاء لبلاد أخرى، فضلّها الله سبحانه وتعالى وكرمها.
ولذلك فالعالم الإسلامي كله مجموعة تتكامل فيما بينها.
والعالم -اليوم- يشهد ما يسمى بـ: صناعة الأحلاف السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، حتى الشركات الكبرى التي تحسب رؤوس أموالها بالمليارات من الدولارات، تسعى إلى مزيد من التحالفات، حتى تأخذ حصة أكبر من السوق العالمية، خصوصاً في عصر العولمة.
إذاً هذا معنى واضح وجلي وجميل في القرآن.
وفي السياق نفسه ذكر الله تعالى البلد الأمين.
والمفسرون وإن اختلفوا حول التين والزيتون وطور سنين فإنا لا نجد اختلافا حول البلد الأمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماه باسمه معرفاً بـ (ال) البلد وهذا ينطلق إلى مكة بمجرد سماعه، حتى لو لم يكن معه شيء آخر.
ثم أشار إليه، فقال: "وَهَذَا الْبَلَدِ" يؤكد أن الحديث عن معهود مرئي مشاهد بالعيان، ثم عرفه ثالثاً بهذا الوصف الجميل الدائم: " الْأَمِينِ".
ولهذا لم يختلف المفسرون في تعريف البلد الأمين ما هو؟
بل لم يختلف المفسرون، حينما أقسم الله سبحانه وتعالى بقوله: "لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ*وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ"[البلد:1-2] أن المقصود به مكة المكرمة.
بل لم يختلفوا عندما قال سبحانه وتعالى "رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ"[النمل:91] أن المقصود بها مكة.
ولذ لما قال صلى الله عليه وسلم يوم النحر :أي بلد هذا؟ أليس البلدة؟ قال الناس كلهم: بلى يا رسول الله.
ففي هذا إشارة إلى:
أولاً:أن دين الإسلام له وضوح وقوة ونصاعة لا توجد في الأديان السابقة كلها وكيف لا، وقد اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون خاتمة الرسالات.
ثانياً:أن موطن هذا الدين الأصلي ومنطلقه ومهبط الوحي وموئل الرسالة له من الخصوصية والتمييز والفضيلة ما ليس لغيره.
وفي الآيات أن الله سبحانه وتعالى جعل مناط التكريم هو الإنسان؛ فإِنَّ الأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ. كما قال سلمان الفارسي رضي الله عنه.
فقداسة هذه الأرض بقداسة إنسانها الذي جعل الله له تكريماً ومزية، كما قال سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"[الإسراء:70].
ثم هناك الكرامة الخاصة للمسلم الذي حفظ الله تعالى دمه وماله وعرضه حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع في خطبته الشهيرة: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، وَأَبْشَارَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟). قالوا: نَعَمْ . قَالَ: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ يُبَلِّغُهُ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ فَكَانَ كَذَلِكَ - قَالَ - لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ).رواه البخاري ومسلم.
وهذا واضح في قوله سبحانه وتعالى -هنا-:"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" وقوله: "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ".
فهذا بلد الإيمان البلد الأمين، بلد الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وهذه دعوة إبراهيم عليه السلام، حينما يقول: "رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"[البقرة:126].
في هذه الدعوة ثلاثة معان:
1- أن يجعل الله سبحانه وتعالى هذا البلد آمناً وإبراهيم نبي من أولي العزم لكن هل كان يدري مدى ما تصل إليه دعوته العظيمة هذه، أن يجعل الله تعالى هذه المهامه التي يخاف فيها الذئب، وكان الناس فيها يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ولم يكن فيها حضارة ولا مدنية ولا تواصل ولا بناء.(18/277)
ثم يأذن الله سبحانه وتعالى أن تتحول إلى واحة من واحات الأمن والإيمان والمدنية حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ...) رواه البخاري.
فيضرب الأمن بجرانه في هذه الرقعة الواسعة والمهيعة الممتدة وتنتهي كل ألوان العدوان التي كانت تمارسها العصابات في الجاهلية وفي غيرها.
2- "وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ"[البقرة:126].
والله أعلم هل كان إبراهيم يتصور ما سوف تبلغه دعوته في هذه الصحراء الجرداء، حيث لا ماء ولا مرعى ولا مظهر من مظاهر الحياة التي توجد في جنان الدنيا ومواقعها إلا أن الله سبحانه وتعالى يأذن أن يوجد فيها أغلى ثروة مادية وهي: (النفط) .
حتى إنني أتذكر قول صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمقَالَ: (فَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَتْ فِي يَدِي ) أي من غير كبير جهد ولا كد، حتى وهو نائم عليه الصلاة والسلام ولم يكن الناس حتى الذين سمعوا كلمات النبي صلى الله عليه وسلم ، يتخيلون حقيقة هذا الرزق وهذه البركة، التي دعا بها صلى الله عليه وسلم لمكة وللمدينة وما حولها، من سعة الرزق والفضل والخير والعطاء.
3- "مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ"[البقر:177] فيأذن الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا البلد موئلاً للإيمان ومهبطاً للوحي ومستقراً للرسالة وهكذا تجمعت هذه الأضلاع الثلاثة: الإيمان والأمن والرزق.
هناك سر كبير، في الجمع بين هذه المعاني ولعلي لا أذهب بعيداً إذا قلت: إن الرزق والأمن ركنان لابد منهما للحياة وقد امتن الله سبحانه وتعالى على العباد كثيراً بأن أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف!
ويأتي الأمر الثالث وهو (الإيمان)، إشارة إلى أن هذه المقدرات هي من أعظم أسباب بقاء الإيمان ونموه.
فالإيمان والتوفيق والعلم والتقدم والحضارة لا يمكن أن تستقر في بلد يعاني المسغبة والجوع والفقر وينشغل الإنسان فيه بلقمة العيش ويخاف على نفسه وأهله.
فكانت هذه هي القاعدة الطبيعية الصحيحة أن يوجد الأمن والرزق، حتى تنطلق دعوة الله عز وجل من هذه البلاد لتشمل أنحاء المعمورة.
وليس غريباً أن نجد ـ اليوم بحمد الله ـ المؤسسات الخيرية والجمعيات التي تنطلق من هذا البلد يداً ممتدةً لكل الجياع والفقراء والأيتام والمحتاجين والجهلة في أنحاء العالم.. تقدم لهم الهداية بيد وتقدم لهم لقمة العيش والغذاء والكساء باليد الأخرى.
ولعل هذا من أسباب حفظ الله سبحانه وتعالى لهذا البلد، وبقاء الخيرية فيه وبقاء الأمن ودفع الله سبحانه وتعالى كثيراً من الغوائل والمشكلات.
وفي صلح الحديبية عندما تعاهدت قريش، مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الزهري: إنه بعد هذا الصلح أمن الناس بعضهم بعضاً، حتى إنه لم يكلم أحد يعقل في الإسلام إلا دخل فيه.
أي: إن قبول الناس للدعوة والخير إذا كانت عقولهم مستقرة وهادئة يكون أسرع وأكبر، بينما إذا كان الإنسان يحاذر خوفاً أو جزعاً أو قلقاً أو جوعاً فإنه لا يستطيع أن يفكر بشكل صحيح ولا أن يسمع الخطاب ولا أن يرد الجواب.
هذه البلاد، التي أذن الله جل جلاله -إلى نهاية الدنيا- أن تكون محضن الحرمين الشريفين اللذين اختارهما الله سبحانه وتعالى اختياراً ربانياً، على علم، "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ"[القصص:68].
مكة المكرمة أحب البلاد إلى الله، كما يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عدي: (والله إنك لخير البلاد وأحب البلاد إلى الله) يقول هذا، وهو يغادرها r قبل الهجرة، فخص جل جلاله مكة المكرمة بالحب، وجعلها مثابة للناس وأمنا، تثوب إليها قلوبهم ولا تقضي منها وطراً، واليوم يشهد العالم كثيراً من التجمعات والمهرجانات للرياضة أو التجارة أو غبرها، ويبذل المنظمون لها الكثير من الجوائز والمغريات والتسهيلات، والتنقلات والرحلات الإضافية و... و... من أجل أن يفلحوا في حشد عدد أكبر إلى مكان المهرجان، أما مكة شرفها الله فإن الأمر منعكس تماماً فالحاجة ملحة إلى أن يتم تنظيم وتفويج الذين يريدون المجيء إلى مكة بدافع إيماني ذاتي ولو أن كل من أراد الحج أو العمرة إلى مكة جاءها؛ لضاق بهم رحب المكان، ولما اتسعت لهم فجاج مكة وشعابها .
فانظر هذه الروح هذه الأفئدة من الناس التي تهوي إلى هذا المكان الطاهر المبارك، وكم هي بحاجة إلى حفظ الأمن وحفظ الطريق، وأن تكون هذه البلدة واحةً آمنةً مطمئنةً، كما أذن الله -تبارك وتعالى- وجعل ذلك من الشريعة، وجعله من القدر.
وقد سماها الله: أم القرى فحولها قرى كثيرة "وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا "[الأنعام:92]، من حولها قرى كثيرة تستظل بظلها.
فلهذه القرى ميزة وخصيصة وكرامة، وهذا البلد إذا كان منطلقاً للإشعاع والنور فأحق البلاد بالنور والإشعاع والخيرية هي البلاد المحيطة به.(18/278)
زد على ذلك إشارة صلى الله عليه وسلم إلى بقاء الإسلام في هذه البلاد، كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا ). و(إِنَّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا) يعني يحن ويرجع وينضم ويجتمع، والحديث في مسلم وغيره.
ففي ذلك إشارة إلى ارتباط، مستقبل وحاضر وماضي هذه البلاد بالإسلام، وأنها قد عجنت جميعاً بها فهذه الأرض يحبها الإنسان بحكم فطرته وطبيعته وحنين الإنسان إلى وطنه.
وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ … …
مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ … …
عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا
لكن هناك عامل، لا أقول إنه إضافي, بل هو أسبقي، أن يحبها الإنسان تديناً، وتهوي أفئدة المسلمين إليها، وربما كان قصارى ما يتمناه الواحد منهم أن يجلس فيها أياماً وليالي آمناً, أو أن يصافح أرضها, أو أن يعيش فيها, أو حتى أن يموت على ثراها الطيب الطاهر إذا حانت له وفاة.
في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "على أنقاب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال"، وفي البخاري من حديث أبي بكرة : "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال"، وفيهما عن أنس -رضي الله عنه- : "ليس بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة"، وهذه أحاديث صحاح تؤكد الحراسة الربانية لهاتين المدينتين المقدستين، وفي بعض ألفاظها أن الله -تعالى- وكل بها صفوفاً من الملائكة يحرسونها.
وهذه وعد أكيد بحفظ هذه الحوزات المباركة من الفتنة العامة.
نعم هي ليست بمعزل عن التأثر بما يحيط بها، حتى في عهد النبوة كان بها المنافقون، لكنها تبقى قوية متماسكة، عصية على ألوان التخريب والتغيير الفاسد، وإن كانت السنة الربانية في الجملة جارية عليها وعلى غيرها، بيد أنها أعصى وأمنع بالقياس إلى غيرها.
ومن هنا نعلم أن الإيمان هو أساس كل مشروع إصلاحي يمكن أن يتم في هذا البلد، فأهله بفطرتهم مسلمون، وهذا يمنح طمأنينة بحصول قدر من التوافق والانسجام والوحدة، حيث تجمعهم كلمة التوحيد وقواعد الإسلام وأصوله العظام.
وهذا يخفف من عوامل الفرقة والتناحر والاختلاف القبلي والمناطقي والفئوي وغير ذلك.
ومن ثم فالانطلاق من هذه القاعدة المهمة في أي مشروع يستهدف رفعة البلد وإصلاحه وحفظه وتقدمه وحضارته هو أمر طبعي ومنطقي، بل هو ضرورة لا محيد عنها.
فالتحديات الخارجية؛ سواء كانت أخلاقية، تعبث بالقيم والمعاني الفاضلة، وتحاول اختراق الأجيال وتغيير أنماطها السلوكية، ونماذجها الأخلاقية، وتشيع لديها ثقافات شاذة كثقافة (الجندر) التي تتبناها مؤتمرات السكان الدولية وهي تقوم على إلغاء التميز الجنسي بين الرجل والمرأة ونحن لا نقول بالتمييز، لكننا نقول بالاختلاف، وليس الذكر كالأنثى.
أو كانت تحديات اجتماعية، توظف الاختلالات الاجتماعية في قضايا المرأة أو العلاقات أو العنصرية؛ لهدف خلط الأوراق وإرباك مسيرة المجتمع.
أو سياسة تنادي بالإصلاح وفق رؤية غربية وعينها على النفط والثروة، أو على المصالح اليهودية المنتفعة من بناء ( الشرق الأوسط الكبير ) الذي يسمح باندماج إسرائيل ضمن حركة تطبيع جادة، تعود بالنفع على اقتصادها، وتزيل الحواجز التاريخية، وتضمن في الوقت ذاته بقاء إسرائيل قوة عسكرية ضاربة في المنطقة بلا منازع.
فالمعتصم هنا - إزاء هذه التحديات كلها وغيرها- هو الانطلاق بحركة تصحيحية صادقة وجادة ذاتية تستلهم التجربة الإسلامية التاريخية، والنجاحات النموذجية الحية، وتقتبس من جذوة الإيمان رسوخاً في ثقتها بدينها وحضارتها واستقلالها، وجرأة في مواقفها وقراراتها مع نفسها ومع الآخرين، وامتناعاً شجاعاً عاقلاً أمام محاولات لي الذراع.
إن الإيمان يمنحنا قوة في مواجهة تيارات التغريب، وقدرة على ابتكار الوسائل والأساليب والبرامج والمشاريع التي تضمن التحديث والتطوير والتقدم والرقي، ومواكبة المستجدات والمتغيرات، دون أن نفرط في قيمنا ومحكمات ديننا.
ويبرز هنا الارتباط العضوي بين التحديات الخارجية والتحديات الداخلية التي هي منفذ كل متربص، وعلى رأسها هذه الفترة أعمال العنف التي تتترس بدوافع دينية، وبالتالي فالخطاب الديني الرشيد المنطلق من حقائق الوحي والتنزيل هو القادر -بإذن الله- على مواجهتها ودحضها.
نسمع حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إخراج المشركين من جزيرة العرب...
فهل هذا الحديث صحيح ؟
نعم فقد رواه الشيخان وغيرهما.
أهو منسوخ ؟
كلا.. فقد قاله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه قبل أن يموت بخمس، فهذا النص الذي يختطفه طرف ما، ويوظفه، ويصعّد به في اتجاه إعلان الحرب على اللحمة القائمة اليوم، وعلى العالم كله.. كيف يمكن إعادته إلى سياقه الصحيح؟
يملك ذلك الفقهاء الذين لديهم القدرة الشرعية والعقلية واللغوية، والذين يقررون:(18/279)
1- أن الأمر النبوي موجه لأصحاب السلطة والقدرة والولاية، وليس لآحاد الناس، وإلا لشاعت الفوضى وانقطع الحبل الواصل بين فيئات المجتمع.
2- أن معنى الإخراج غير القتل، فهو لم يقل: اقتلوا، وعلى فرض أنهم تُركوا دون إخراج بصفة تخالف مراد الشارع فهو أهون من الافتيات على الشريعة بقتل أنفس معصومة.
3- أن المقصود بقاؤهم كطائفة وقوة سياسية لها حقوق المواطنة، ولهذا جاء في الحديث الآخر (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان).
أما بقاء أفراد أو مجموعات بصفة طارئة أو استثنائية فهو حاصل منذ عهد النبوة، وعبر عصور الخلفاء الراشدين، وفي عهد بن أمية وبني العباس والعثمانيين إلى اليوم.
والفاروق الشديد في الحق الذي أجلى اليهود قد أذن لهم بالقدوم إلى المدينة أياماً للبيع والشراء ونحوها، كما في البخاري وغيره.
وبقاء الرقيق والخدم ظل قائماً، حتى إن الذي قتل الفاروق كان غلاماً مجوسياً!
فهل كانت عصور التاريخ كلها متنكرةً للشريعة، وهل نحلم نحن بأن نحقق ما لم يتيسر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين؟
4- أن أوامر الشريعة كلها مرهونة بالقدرة والمصلحة الراجحة، وعدم إمكانية الاستغناء.
5- أن المتيقن من جزيرة العرب: الحجاز، وما وراء ذلك فمختلف فيه، ولا يجزم بأنه مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ترك عمر اليهود بتيماء وما جاورها، لأنها ليست داخلة في هذا المصطلح.
وأجلى أبو بكر قوماً فلحقوا بخيبر.
وفي تحديد المصطلح اختلاف كبير ذكره شرّاح السنة، وأهل المعاجم اللغوية والجغرافية، وهم المرجع في ذلك، إذ لم يحدد الشرع معنى مختلفاً لذلك عما تعرفه الناس.
وشيوع معنى عرفي في ظرف تاريخي متأخر لا يقتضي إسقاطه على النص النبوي المتقدم.
والمقصود أن الاعتصام بالخطاب الديني الرشيد هو الكفيل بدحض ذريعة المتعسفين؛ فإذا توفرت في لغة هذا الخطاب المصداقية والنضج والاستقلالية والهدوء والحضور أمكن أن يكون عصمةً قويةً لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
وهذا التحدي المتمثل بالعنف هو حالة طارئة تتكرر بين الحين والآخر، لكن ثمة تحديات تتمثل في مقتضيات التنمية، والتخطيط السليم، والمحافظة على حقوق الناس، وتوفير ضروريات الحياة، والمجاهدة المستميتة في هذا السبيل، وتعميق انتماء الفرد لوطنه بواسطة التوعية الدائمة، وبإيصال مزايا وخصائص هذا الانتماء له، بالسكن، والوظيفة وتسهيلات الحياة المختلفة.
إن المثل يقول : "الإنسان في حياته مثل راكب الدراجة، إما أن يظل متحركاً أو يسقط". وقول الله أصدق: ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ). وكأن النص يوحي بأن الإنسان لا يظل على حاله فإن لم يتقدم فهو يتأخر. وهذه التحديات جبل الله الحياة عليها منذ مقتل ابن آدم الأول، وهي فرص تثير الاستجابة، وتحقق المزيد من الاهتمام واليقظة والسعي الدائب في الاستدراك.
وثمة تحدٍ آخر وهو الانفجار السكاني، وتزايد نسبة المواليد بصورة لا توجد في أي بلد آخر، حيث أعلى معدل نمو سكاني في العالم هو في مدينة الرياض حيث تتجاوز ( 3.6%) سنوياً وهذا يتطلب حركة سريعة لتوفير الفرص والوظائف والمساكن ومجالات العمل، وتحقيق مستوى جيد لدخل الفرد. ويلح على فتح مجالات واسعة جداً لبناء المواهب وتفعيل الطاقات وتأهيل الشباب والفتيات لخوض الغمار.
يجب أن يكون ثمة التزام تام بتوفير المحاضن التي تستقبل الشباب وترعاهم وتربيهم وتبنى شخصياتهم، وتربطهم بقيم هذا البلد ومبادئه العظيمة التي هي سر وجوده واستقلاله.
وتكفل التنوع، فهذا يريد حفظ القرآن، وهذا يريد الخطابة، وهذا يهوى الرياضة، وهذا للحاسب، وهذا للصداقة والحوار، وهذا للأدب والشعر والقصة، وهذا للرسم...
والإطار العام هو التوجيه والرقابة الهادئة، بدلاً أن يترك هؤلاء للمجالس الخاصة، والاستراحات واللقاءات التي لا حسيب فيها ولا رقيب.
إن لدي سؤالاً ساذجاً، ولكنه صادق: إذا لم توجد هذه المحاضن فإلى أين يذهب أولادنا؟
وقد فتح على الشباب اليوم باب الإشباع الحرام، فالقنوات الفضائية، وخطوط الصداقة الفاجرة، ومواقع الإنترنت الإباحية، والسفرات السهلة الرخيصة، ووسائل التواصل عبر الجوال وجوال الكاميرا، والجوال التبادلي القادم وضعتنا أمام مشكلة حقيقة لا يجوز التغافل عنها.
فإلى متى تظل العقبات واقفة كالرماح في طريق الإشباع الحلال، للذكر والأنثى، فلا مال ولا سكن، ولا تسهيل، وقد يقف الأهل عقبة أمام إتمام الزواج بحجة أو أخرى.
أين (المجلس الأعلى للشباب، أو الأسرة) الذي طال انتظاره؟
وثمة تحدٍ ثالث يتعلق بالتحديث والتطوير، فالعالم اليوم قرية واحدة، بل شقة بل غرفة!
ويعجبني تعبير د. عبد القادر طاش -رحمه الله - حيث يقول : العالم اليوم غابة واحدة!
هناك سطوة من الأقوياء وجبروت.
ولا يمكن مقاومة هذه السطوة إلا بتحديث البنى التحتية من مدارس ومؤسسات صحية وتربوية وتواصلية.
وتحديث الأنظمة والقوانين التي يحتاجها البلد بحيث تسمح للإنسان أن يعرف ماله وما عليه، وأن يطمئن على استثماراته ومشاريعه وحقوقه، لأن العدل والنظام سيد الجميع.(18/280)
ويمكن الاستفادة من الفقهاء والخبراء، ومن التجارب المختلفة والإصرار على مرجعية صارمة للشريعة لا تفريط فيها ولا تنازل عنها.
هناك من يجر هذا البلد إلى الوراء، وهناك من يجره إلى الإمام، وأمام هذه التجاذبات يحتاج الأمر إلى حكمة وروية وترتيب الأولويات والتدارس والشورى والإخلاص هو العصمة (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً حكيما).
===========(18/281)
(18/282)
إدارة المعلومة في الحرب على الإرهاب
د. محمد بن سعود البشر 24/3/1426
03/05/2005
يقول الخبير العسكري الإستراتيجي (كارل فون كلوزويتر ka r l von (Clanscewitz: " الحرب في القرن الحادي والعشرين تعني مواصلة العمل السياسي بوسائل أخرى غير القوة العسكريّة". وهو بمقولته هذه يقرر حقيقة أن طبيعة الحرب في هذا القرن تشهد مرحلة تغيّر جذريّة كما شهدها من قبل المجتمع والسياسة على حد سواء، وجوهر هذا التغير أن الحرب أصبحت تُدار بوسائل أخرى قد تكون أكثر تأثيراً وفاعليّة من السلاح، ومنها وسائل الإعلام، وقد صدّق (روبن براونB r won ( r obin على هذا الاتجاه بقوله: "إن الحرب على الإرهاب التي يشهدها العالم هذا اليوم بقيادة الولايات المتحدة تدور رحاها من خلال وسائل الإعلام". فالطريقة التي تقدّم بها وسائل الإعلام فصول الصراع العسكري الذي تقوده أمريكا تمثل جزءاً هاماً ومحوراً رئيساً في الحرب على الإرهاب، وجوهر هذه الطريقة يتمثل في الاستخدام الذكي والبارع في "إدارة المعلومة" ومعالجتها قبل تقديمها للرأي العام حتى تحقق الأهداف الكبرى لإعلان الحرب، بل وإطالة أمدها، فقد شهد العالم تلاعباً بالمعلومة التي قدمتها وسائل الإعلام الأمريكيّة، والغربيّة تبعاً لذلك، من أجل إقناع الرأي العام الداخلي والعالمي بأن النظام السابق في العراق كان متورطاً في علاقات مع تنظيم القاعدة، وبأنه يمتلك أسلحة الدمار الشامل، وكررت الآلة الإعلاميّة هذه المعلومات من أجل تهيئة الرأي العام العالمي للتدخل في العراق والإطاحة بنظامه السياسي، وإحلال الديموقراطية وإشاعة الحرية والأمن للشعب العراقي وشعوب المنطقة. فكان التدخل العسكري المرتبط برؤية أمريكيّة إستراتيجيّة في المنطقة لم تكن الدعاوى السابقة إلا غطاء ومبرراً لتحقيقها.
ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن الاستخدام المقنن لوسائل الإعلام من خلال الإدارة الذكيّة للمعلومة كان جزءاً هاماً من الصراع العسكريّ الذي تخوضه الولايات المتحدة في المنطقة العربيّة بدعوى الحرب على الإرهاب، وهذه الإدارة الذكيّة للمعلومة تكاملت في صياغتها المفاهيم العسكريّة، والاتجاهات الفكريّة، والدبلوماسيّة السياسيّة لتكون أبلغ في التأثير وأكثر في الإقناع وقد كان.
إطالة الحرب هدف محوريّ هام تسعى الإدارة الأمريكيّة لتحقيقه لتكمل محاولتها المنظمة في إدارة المعلومة فيما تبقى من فصول الحرب على الإرهاب.
وها نحن اليوم نسمع مصطلحات تتردد كثيراً على مسامعنا: الحريّة، حقوق الإنسان، الإصلاح، الشرق الأوسط الكبير، وهي جزء من السيناريو الإعلامي الذي أعده أباطرة "المعالجة المعلوماتيّة" وتنقله إلينا الآلة الإعلاميّة الأمريكيّة لتحقيق ما تبقى من الأهداف الإستراتيجيّة لهذه الحرب. فهل ننتظر حتى تُطبّق مثل هذه المصطلحات المزعومة في منطقتنا على الطريقة التي طُبّقت بها "الديمقراطيّة" في العراق؟!
==============(18/283)
(18/284)
صحافة ضد المقاومة: جريدة الشرق الأوسط أنموذجا (1/3)
د. أحمد بن راشد بن سعيّد * 1/4/1426
09/05/2005
مقدمة
صحيفة الشرق الأوسط واحدة من أبرز الصحف العربية, وتقدم نفسها للعرب وللعالم بصفتها (جريدة العرب الدولية). تتخذ الصحيفة مواقف مثيرة للجدل, لاسيما ما يتعلق بالقضايا الكبرى للعرب كفلسطين والعراق والظاهرة الموسومة بالإرهاب. وتولي في تناولها الإخباري والتحليلي اهتماما كبيرا للحركات الإسلامية والناشطين الإسلاميين, واصفة الظاهرة الإسلامية عموما وبلا تمييز بالتطرف والأصولية, وربما كان هذا الموقف سببا في فقدانها كثيراً من الصدقية والاحترام في أوساط تيارات إسلامية وشعبية عديدة لاسيما في السعودية والخليج. وما زاد الطين بلة احتضان الصحيفة لكتاب رأي من التيار الموصوف بالليبرالي, وضعف الرأي الآخر في الصحيفة, واللغة المتشنجة التي يستخدمها هؤلاء الكتاب في تناولهم للقضايا المتصلة بالإسلام والمنتمين إليه. والصحيفة لا تضيق فقط باتجاهات الإسلام السياسي كما تسميها, ولا بتسييس الدين فقط كما يردد بعض كتابها ومحرريها, بل تضيق حتى بالمظاهر والشعائر الإسلامية كتحفيظ القرآن الكريم, والعمل الخيري والإغاثي, وارتداء الحجاب. وقد اتخذت الصحيفة مواقف مؤيدة للحكومة الفرنسية في حملتها لحظر الحجاب في المدارس الرسمية الفرنسية, واختفى تقريبا أي رأي مضاد, سواء في التناول الإخباري, أو في الرأي والتحليل. عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير الصحيفة تبنى وقتها الموقف الفرنسي, داعيا إلى تفهم "الدوافع الحقيقية للقرار" الذي يرمي إلى "تخفيف مظاهر التدين" وهو ما سيخدم وضع المسلمين الفرنسيين على المدى البعيد كما قال( 15 كانون الثاني / يناير 2004). وفي مقال آخر أكثر وضوحا بعنوان "حاربوا التطرف لا الحكومة الفرنسية" أكد الراشد أن مظهر المسلمين البارز "يوحي بالتطرف فكرا وكلاما ولبسا" وأن على المثقفين العرب محاربة الإرهاب والتطرف بدلا من الطعن في نوايا الحكومة الفرنسية(3 شباط / فبراير 2004).
لكن أبرز ما يثير التساؤل هو موقف الصحيفة من حيث تناولها الإخباري والتحليلي من المقاومة في فلسطين والعراق, البلدين العربيين الواقعين تحت الاحتلال المباشر, وهو ما تناقشه جزئيا هذه الورقة.
المنهج
ستقتصر هذه الورقة على تناول صفحات الرأي في صحيفة الشرق الأوسط للمقاومة في فلسطين والعراق, ولن تتعرض لتناولها الإخباري. تنطلق الورقة من فرضية أن أعمدة الرأي في الصحيفة تقف في مجملها ضد نهج المقاومة وممارستها وثقافتها. وينبثق من هذه الفرضية السؤال التالي: هل أعمدة الرأي في صحيفة الشرق الأوسط تقف ضد نهج المقاومة وثقافتها في فلسطين والعراق؟
للإجابة عن هذا السؤال, فإن الباحث انتقى كاتبين يوميين وكاتبين أسبوعيين من كتاب الصحيفة, وحلل مضمون إنتاجهم في فترة محددة تحليلا كيفيا. الكاتبان اليوميان هما عبد الرحمن الراشد, وأحمد الربعي, والكاتبان الأسبوعيان هما صالح القلاب, ومأمون فندي. لم يكن هناك مفر من اختيار الكاتبين اليوميين المذكورين, لأنهما الوحيدان اللذان يكتبان بصفة شبه يومية في الصحيفة. أما الكاتبان الأسبوعيان فوقع الاختيار عليهما عمدا لاعتقاد الباحث أنهما من أكثر الكتاب تناولا لقضيتي العراق وفلسطين. كانت فترة الدراسة التي وقع عليها الاختيار هي الواقعة بين الأول من تموز (يوليو) و الحادي والثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) عام 2004, وهي الفترة التي اشتدت فيها ضراوة المقاومة العراقية, ولم تتوقف الانتفاضة المشتعلة في فلسطين, رغم استشهاد الشيخ أحمد ياسين, والدكتور عبد العزيز الرنتيسي, و رحيل السيد ياسر عرفات, وما تبع ذلك من ابتهاج إسرائيلي وأميركي محموم ومفتعل بانحسار الانتفاضة, وتراجع خيار المقاومة. شملت الدراسة كل ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط لهؤلاء الكتاب, مما له علاقة بشأن المقاومة في فلسطين والعراق. كان مجموع مقالات عبد الرحمن الراشد التي تم تحليلها 24 مقالا, وكان مجموع ما تم تحليله من مقالات الربعي 28 مقالا, أما صالح القلاب, فبلغ مجموع مقالاته المدروسة 6 مقالات, فيما بلغت مقالات مأمون فندي التي تمت دراستها 5 مقالات.
مناقشة
عبد الرحمن الراشد
ينطلق الكاتب اليومي عبد الرحمن الراشد في كتاباته من تعاطف واضح مع السياسة الأميركية في المنطقة, وفي العراق تحديدا, وهذا التعاطف دفعه لانتقاد المقاومة, والتقليل من شأنها, والسعي لربطها بالعدمية والعبث. ومن منطلق الواقعية يطالب الراشد دائما بالرضوخ والاستسلام وعدم مصادمة العالم, كما يردد كثيرا, والعالم كما يراه هو الولايات المتحدة والدول الغربية.(18/285)
في عموده المنشور في العاشر من تموز(يوليو) ناقش الكاتب الهجوم الذي شنته بعض الصحف البريطانية على الدكتور يوسف القرضاوي, واحتجاجها على السماح له بدخول بريطانيا, وأيد مواقف هذه الصحف قائلا إن ارتباط اسم الشيخ بتنظيم الإخوان المسلمين "جعله ينظر إلى العالم من نافذة الحزب أكثر من واقع الأمة وقدراتها وحاجاتها", وإنه من الشيوخ الذين "يحرضون الشباب على القتال, وهم لم يغادروا بلدانهم, ولا يسمحون لأولادهم بالشيء نفسه". وأضاف قائلا إن القرضاوي "من أكثر الدعاة إلى الحرب والمواجهة, لكنه يعيش في قطر في بيت مكيف". والراشد يقصد بالحرب والمواجهة هنا المقاومة المشروعة في فلسطين والعراق, فهو يرى أنها ضرب من العنف أو الإرهاب الذي يستحق هو نفسه الإدانة والمقاومة. ويؤكد هذا المعنى في كلامه عن القرضاوي, عندما ينتقد موقف الشيخ من اليهود, وينقل عنه قوله: "اليهود كطائفة ظلمهم واضح بين.. ظلم عظيم, وظلم لا نظير له, وظلم مكشوف.. لا نحاور هؤلاء [اليهود] وأيديهم ملوثة بدمائنا". وعلق الراشد على ذلك بقوله إن القرضاوي سياسيا "يمثل أقصى التطرف بكل أسف".
في عموده المنشور في الثاني عشر من تموز (يوليو) كتب الراشد مقالا بعنوان (ليس جدارا عنصريا) انتقد فيه من يقولون إن هدف الجدار الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة هو التمييز العنصري ضد الفلسطينيين, لأن "إسرائيل تستطيع أن تفند دعوى تهمة العنصرية بالتذكير أن أكثر من مليون من "مواطنيها" في داخل إسرائيل هم فلسطينيون, ويعيشون معها نصف قرن, ويحملون هوياتها, وتدعي أن لهم نفس الحقوق الممنوحة لليهودي الإسرائيلي". ودعا الراشد إلى عدم الانشغال بموضوع الجدار, والاهتمام "بتفعيل التفاوض, وإعادة الكرة مرة بعد أخرى".
في مقاله المنشور في 17من تموز (يوليو) انتقد الراشد ما وصفه "بالغضبة المضرية" من نبيل أبو ردينة, مستشار الرئيس ياسر عرفات على تيري رود لارسن, مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط. وأكد أن لارسن ليس تافها ولا مشبوها كما قال أبو ردينة, وأن تقريره عن قرب انهيار السلطة الفلسطينية "يصب حقيقة في صالح الفلسطينيين".
في عموده المنشور في من 26 تموز (يوليو) تحدث الراشد عما يحدث في العراق, منتقدا "المقاومة" ضد الأميركيين, قائلا إن الحرب هناك "بدأت بمقاومة, ثم أصبحت أرضا تجتذب أفراد تنظيم القاعدة الذي يجمع عناصره, وتقدر بالآلاف من المجندين القدامى والجدد".
في 28 من تموز (يوليو) أكد الراشد المعنى ذاته قائلا "إن جزائريين ومغاربة وخليجيين ولبنانيين وفلسطينيين ويمنيين وسودانيين ينشطون في العراق", وإن "هوية جيش المتطرفين" الذي يتشكل هناك لا ينتمي إلى القاعدة وحدها, "بل صار مظلة تضم تنظيمات متطرفة مختلفة تعمل منفصلة في ثلاث قارات, تجتمع الآن ولأول مرة على أرض واحدة. هذه جميعها تلتقي في رؤيتها المناهضة للواقع السياسي معتبرة جميع الأنظمة كافرة, ولا بد من مواجهتها".
في 3 من آب (أغسطس) كان عنوان عمود الراشد "هل هي المقاومة التي عنها تدافعون؟". تساءل الكاتب وأجاب في ثنايا عموده مؤكدا أن المقاومة العراقية "تريد أن تخلق مناخا عاما من الفوضى, وتحيل البلاد إلى قطع متناثرة, تتيح لها فرصة إدارتها مكسرة". وتبنى المقترح الأميركي بإرسال قوات عربية وإسلامية إلى العراق, وقال إن هدف هذه القوات هو "محاصرة الإرهاب, وليس مقاومته عسكريا".
في 15 من آب (أغسطس) كان عنوان عمود الراشد "علاوي أن يكون أو لا". وصف الكاتب جيش المهدي بالميليشيا, ووصف المقاومين في مدينة الفلوجة بأنهم "فرقة الرعب", وقال إن حكومة علاوي تدير "معارك حاسمة" ضد هؤلاء وأولئك, فإما أن تثبت " أن لها سلطة على كل شبر من البلاد, أو ستنتهي محاصرة في العاصمة. وهذا الحسم بالتأكيد في صالح الجميع". وأضاف أنه إذا "فشلت الحملة العسكرية الحالية سنرى عراقا ممزقا, وحركات تنشق عن أخرى.." وأن نجاح الحملة سيخدم كل دول الجوار, ولذا يجب أن تكون "سريعة وحاسمة وبأقل قدر من الأضرار".
في عموده المنشور في 21 من آب (أغسطس) أكد الراشد أنه لا يوجد خيار أمام حكومة علاوي, "إلا أن تثبت قدرتها على الأرض", أو "سينتهي العراق دولة مساحة نفوذها لا تتجاوز المنطقة الخضراء في بغداد".
في 22 من آب (أغسطس) عاد الكاتب إلى الشأن الفلسطيني, وكتب مقالا بعنوان " أنقذوا عرفات". انتقد فيه الرئيس الفلسطيني, مؤكدا أنه "ارتكب أخطاء جسيمة في تاريخه, حروبا في غير محلها, ومغامرات خاطئة, ورفض مشاريع سلام ثمينة". وهي التهم عينها التي ترددها إسرائيل والإدارة الأميركية ضد عرفات.(18/286)
كتب الراشد في 24 من آب (أغسطس) مثنيا على نتائج الاحتلال الأميركي للعراق قائلا إن العراق انتقل بالاحتلال من" عهد صدام المحارب للدين ثلاثين سنة إلى انفتاح كامل يسمح للجميع بظهور حقيقي في الحياة العامة, بما في ذلك المراجع الدينية". كما أثنى الكاتب على الحكومة التي جلبها الاحتلال قائلا إنها "ابتعدت عن الانتماء لأي فريق ديني, بدليل أن معركتها ضد جبهة شيعية في النجف تأتي موازية لمعركتها ضد الجماعة السنية المتطرفة في الفلوجة".
في 28 من آب (أغسطس) احتفل الكاتب بخروج الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من النجف, وكان عنوان عموده "هزيمة الصدر بداية لعهد جديد". قال الكاتب إن خروج الصدر من المدينة الشيعية المقدسة يمثل "نهاية فصل واحد مهم في معركة طويلة لبناء العراق الحديث".
كان عنوان عمود الكاتب في 4 من أيلول (سبتمبر) هو "الحقيقة المؤلمة أن كل الإرهابيين مسلمون". لم يصنف الكاتب ممارسات شارون في الأرض المحتلة في خانة الإرهاب, ولا ممارسات الإدارة الأميركية في أبو غريب وغوانتانامو, وحصر تهمة الإرهاب في المسلمين, تماما كما يرى الساسة الأميركيون والإسرائيليون. يقول الكاتب مرددا المقولات والإدعاءات الأميركية إن "الذين يمارسون عمليات اغتصاب وقتل في دارفور مسلمون". وينتقد الكاتب عمليات المقاومة الاستشهادية في فلسطين بطريقة غير مباشرة, فيقول: "..ومعظم الذين نفذوا العمليات الانتحارية ضد حافلات ومدارس وبيوت ومبان في أنحاء العالم في السنوات العشر الماضية أيضا مسلمون".
ويعلق الراشد على هذه الصورة التي رسمها متعجبا: "يا له من سجل سيىء, ألا يقول شيئا عن أنفسنا ومجتمعاتنا وثقافتنا؟". ويستمر في عملية جلد أو تدمير الذات هذه قائلا: "هذه الصور قاسية ومخجلة ومهينة لنا". ويقترح الراشد وصفة للعلاج تبدأ بالاعتراف بصحة هذه التهم كلها, ثم "مطاردة أبنائنا الإرهابيين" الذين هم "نتاج طبيعي لثقافة مشوهة". ويدعو الكاتب القراء إلى الاستماع للشيخ يوسف القرضاوي, الذي وصفه "بشيخ التلفزيون" زاعما أنه "أفتى جهارا بجواز قتل المدنيين الأميركيين في العراق". ويضيف: "تصوروا عالم دين يحث على قتل مدنيين, شيخ في أرذل العمر يحرض صبية صغارا على قتل مدنيين.. كيف لأب مثله أن يواجه أم الفتى بيرغ الذي ذبح ابنها نحرا لأنه جاء للعراق, للعمل في أبراج هندسية؟ كيف نصدقه عندما يقول لنا إن الإسلام دين رحمة ودين تسامح, وهو يحوله إلى دين دم؟". طبعا الراشد لم يتطرق إلى مذابح الفلسطينيين, ولم يورد اسم شهيد فلسطيني واحد, وهو بالمناسبة لم يعلق على جريمة قتل الشيخ أحمد ياسين, إلا بقوله "دعوا الانتقام" لأنه "عمل أعمى, والحرب لا يكسبها العميان" كما قال(28 آذار/ مارس 2004), ولم يعلق ألبتة على استشهاد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. لم يتذكر الراشد أن للشهداء الفلسطينيين أيضا أسماء تسجل وتعلن, واكتفى فقط بذكر اسم الأميركي بيرغ.
في عموده المنشور في 21 من أيلول (سبتمبر) علق الراشد على منع السلطات الألمانية مؤتمرا فكريا عربيا بدعوى أنه سيجتذب متطرفين معادين للعولمة وللولايات المتحدة وإسرائيل, ورأى أن السبب يكمن في تغير "رؤية العالم تجاهنا, بسبب ما صدرناه لهم من مناظر بشعة تحملها المواقع الإلكترونية من حفلات إعدام, وتبثها محطات تلفزيون من أشرطة تهديد, ومؤتمرات تتدارس بإعجاب ومفاخرة أعمال التدمير". وحذر الكاتب من محاولة من وصفهم بالمتطرفين "ركوب القضية الفلسطينية العادلة, لاستغلالها في قضيتهم الدولية". وختم بالقول: "يخطئ الفلسطينيون والمؤمنون بالحق الفلسطيني عندما يخلطون القضايا, ويورطون قضيتهم في محرقة الإرهاب المحكوم عليها بالفشل". الراشد هنا لم يحدد بالضبط ما يعني بالإرهاب, والذي يبدو أنه يقصد العمليات الاستشهادية في الوطن المحتل, التي يصفها عادة بالانتحارية.
في مقال (البراغماتية السورية) المنشور في 23 من أيلول (سبتمبر) قال الكاتب إن براغماتية النظام السوري ساعدته عبر السنين في الخروج من كثير من المآزق, وإن "سورية البراغماتية هي التي لم تنجر30 سنة إلى مواجهات خاسرة مع إسرائيل". وهكذا حكم الكاتب على أن أي شكل من أشكال المقاومة أو رد العدوان أو محاولة تحرير الأرض هو ضرب من العبث أو الكفاح الخاسر. وختم الراشد عموده بالقول إن دمشق تواجه تهما "يسهل تفعيلها" مثل "إخفاء أسلحة دمار شامل, ووجودها العسكري على أرض دولة أخرى بصورة "غير مشروعة", واستضافتها تنظيمات "إرهابية"...", ما يجعل الخيارات التي أمامها "قليلة وخطيرة".(18/287)
في 30 من أيلول (سبتمبر) انتقد الراشد تصريح وزير الخارجية الفرنسي ميشيل بارنيه الذي دعا فيه إلى إشراك قوى المقاومة العراقية في المؤتمر الدولي حول العراق, والذي التأم في شرم الشيخ بمصر في الثاني والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2004. تساءل الراشد: "كيف يمكن أن تدعى للحضور مقاومة من الأشباح؟ هل سيصلون إلى القاعة ملثمين كما يظهرون على التلفاز مع ضحاياهم المخطوفين, أو المقطوعة رؤوسهم؟". وأضاف مهاجما المقاومة بأطيافها كافة, وبلا تمييز قائلا إن "المقاومة صاحبة السيارات الانتحارية والرؤوس المقطوعة ليست عراقية, وأيضا لا تعترف بالأمم المتحدة إلا كمنظمة للدول الكافرة, ومشروعها لن يتوقف إلا بقطع آخر رأس في العالم, لا العراق وحده". وتبنى الكاتب الخط الأميركي بالكامل بدعوته إلى دعم الحكومة التي نصبها الاحتلال الأميركي في العراق قائلا إن كان العراق " بحاجة إلى مؤتمر, فهو من أجل التأكيد على سلامة نظام شرعي يجمع ولا يفرق".
في 3 من تشرين الأول (أكتوبر) عاد الراشد مجددا إلى الشأن الفلسطيني, منتقدا الانتفاضة التي كانت "حجارة ومقالع من صبية الشوارع, ثم أصبحت صواريخ وسيارات مفخخة يقودها بالغون". يقول الراشد إن الانتفاضة نجحت في صيغتها الأولى, وأحرجت إسرائيل داخليا وخارجيا, لكن "بعد أن خطفت التنظيمات الانتفاضة تحولت إلى حرب مألوفة, كأي حرب أخرى في سيري لانكا وشمال نيجيريا وإيرلندا الشمالية, مواجهات بين طرفين متقاتلين. خسرت الانتفاضة براءتها ودعايتها بعد أن تبدلت مظاهرها الأولى من جنود إسرائيليين يقتلون أطفالا عزل إلى مسلحين فلسطينيين يقتلون أطفالا إسرائيليين". ساوى الراشد في كلامه بين الطرفين, المحتل الإسرائيلي, والفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. ووصف المقاومين الفلسطينيين بالمسلحين, بينما وصف الإسرائيليين الذين يقتلون أطفال فلسطين بالجنود. ومضى الراشد منتقدا القيادات الفلسطينية قائلا إنها أخفقت إخفاقا كبيرا في استثمار الانتفاضة سياسيا, وإنها تنافست على أمر واحد وهو "التبرع بالشهداء مجانا". وأضاف أن الانتفاضة "متناقضة, تظهر محتارة, مرة مثل معارضة عراقية مسلحة, وتارة مثل تنظيم القاعدة".
في 9 من تشرين الأول (أكتوبر) كان عنوان عمود الراشد واضحا في دلالته: "التطرف من الفلوجة إلى طابا". الذي حدث إذن في الفلوجة من مقاومة للغزاة الأميركيين هو تطرف مشابه لتفجيرات طابا. يريد الكاتب أن يشوه وجه المقاومة العراقية بربطها بأعمال غير قانونية, أو مثيرة للجدل, أو موصومة بالتطرف. يقول في خلط واضح للأوراق: "لا يعقل أن نبرر الأعمال الإرهابية في انفجار, ونهاجمها في انفجار آخر, فهي مترابطة فكريا إن لم تكن مترابطة عضويا". ويضيف: "فلا فرق بين هجمات انتحارية في كابل أو الأنبار أو إسلام أباد أو الرياض أو الجزائر أو باريس أو دمشق أو طرابلس أو طابا. كلها تلتقي في حقيقة واحدة, منفذوها عقول متطرفة".
في 30 من تشرين الاول (أكتوبر) استخدم الراشد التوصيفات الأميركية للمشهد العراقي, فوصف المقاومة العراقية بأنها "بعثية", ووصف المقاومين بأنهم "متمردون" و"أصوليون".
في 13من تشرين الثاني (نوفمبر) بدأ الراشد مقالا من 3 حلقات بمناسبة رحيل الرئيس ياسر عرفات. كان عنوان السلسلة "ماذا بعد دفن عرفات؟". تبنى الراشد الرواية الإسرائيلية والأميركية بشأن عرفات قائلا: " عرفات كان طرفا في المشكلة", وغيابه "يمثل فرصة إيجابية". وانتقد الرئيس الراحل بقوله إنه مات عاجزا عن خوض "المعركة الصعبة" لأنه " كان يراعي كل الاحتمالات, وبالتالي اختار أن يخسر الفرص الثمينة من أجل أن يكسب الإجماع الفلسطيني". إذن كان على عرفات أن يكسر الإجماع, ويشق الصف الفلسطيني, ويذهب في طريق التنازلات إلى آخر مدى, وأن يقمع - كما يطالب الإسرائيليون والأميركيون - المنظمات التي ترفض الاستسلام للشروط الإسرائيلية. يطرح الراشد رؤيته أمام القيادة الفلسطينية الجديدة بقوله: "الامتحان الدموي آت للقيادة الفلسطينية التي سيتحدى سلطتها الخارجون عليها, وستواجه عمليات تمرد داخلية, وسيارات انتحارية في تل أبيب والقدس, وقتلى إسرائيليين بالعشرات, وبيانات فلسطينية تتهمها بالخيانة, وبيانات دولية تتهمها بالعجز, ومنظمات فلسطينية تعلن عزمها على قيادة الشأن الفلسطيني, والاقتتال للحصول على شعبية في الشارع الفلسطيني المأزوم والمحبط دائما".(18/288)
في الحلقة الثانية دعا الكاتب الحكومات العربية إلى تأييد القيادة الفلسطينية الجديدة, مؤكدا أنه "مع غياب أبو عمار لم يعد هناك مبرر للتقاعس في دعم السلطة لتصبح قادرة على تقديم الرعاية الإنسانية والخدمة المدنية التي عجزت عنها بسبب ما مرت به من حصار ومقاطعة دولية", وأن "الإخفاق في رفع الحصار عن المدن الفلسطينية وعدم دعم السلطة في رام الله سيتسبب في استنساخ عرفات بآخر". وزعم الراشد أن معظم عمليات القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية و قطاع غزة كانت للانتقام لا للقضاء على خصومها, وهي الذريعة التي طالما استخدمتها إسرائيل ووسائل الإعلام الغربية المتعاطفة معها لتبرير ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية في الأرض المحتلة.
في الحلقة الأخيرة من سلسلة "ما بعد دفن عرفات" كتب الراشد: "اختتمت الحالة العرفاتية بحالة جمود قاتلة, وساحة مكتظة بالانتحاريين, وقطيعة دولية, وبرود عربي, ومؤسسة سياسية معطلة, وخزينة مفلسة, وصراع على السلطة كاد ألا ينتهي". هذا المشهد الذي يرسمه الراشد حول عرفات يؤكد انحيازه المطلق للصورة النمطية الأميركية للمشهد الفلسطيني التي لا يبرز فيها سوى الجمود والفساد والإفلاس وقطعان بشرية فاقدة للأمل ومقبلة على الموت انتحارا. الحقيقة تقول إنه لم تكن هناك قطيعة دولية, بل قطيعة أميركية إسرائيلية, أما البرود العربي الذي أشار إليه الكاتب فكان مجرد ثمرة لهذه القطيعة. هذا لا يعني طهارة الساحة الفلسطينية في عهد عرفات من الفساد, ولكن الراشد لا يرى في المشهد أكثر مما يسمح به المنظور الأميركي والإسرائيلي الذي قرر عزل عرفات, وسعى لتصوير الشعب الفلسطيني بوصفه شعبا كارها للحياة, عاشقا للعدمية والموت الرخيص.
في مقال له بعنوان (شدوا الأحزمة في الأرض المحتلة) منشور في 29 من تشرين الثاني (نوفمبر) أثنى الراشد على الأداء السياسي للقيادة الفلسطينية الجديدة, لكنه أثار مجددا مسألة حركات المقاومة, وعلاقة السلطة بها. يقول: "بقيت ملفات صعبة, لكن ليس صعبا في هذا الظرف التضامني التوصل إلى حلول لها, مثل سحب قرار الحرب من يد الفصائل والتنظيمات الأخرى مثل حماس والجهاد الإسلامي التي تقرر متى وأين وكيف وأين تقاتل. الوقت حان للتنسيق مع السلطة الفلسطينية, والاعتراف بحقها في اتخاذ القرار الاستراتيجي, كالحرب والسلم". ويتساءل الراشد ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية عندما تقرر إيقاف العمليات العسكرية, ثم "تتمرد فصائل على القرار, وتخرق الاتفاق, ويقتل جمع من المدنيين الإسرائيليين؟". ويلجأ الراشد إلى التحريض على فصائل المقاومة متسائلا: "هل ستقبل السلطة بتنظيمات خارجة عن إرادتها, تنفذ عمليات متى ما تريد, وتبني معسكرات كيفما تريد, وتتعامل سياسيا مع جهات خارجية متى ما تريد؟ لا توجد سلطة في العالم تقبل بذلك إلا إذا كانت مجرد دمية لآخرين..لا تملك القيادة الجديدة إلا حسم مسألة المرجعية السياسية الواحدة, ككل نظم العالم, وتفرضها بشكل لا تردد فيه..".
في مقال من حلقتين بعنوان "من ينقذ السنة من السنة", نشرا في يومي 1 و 2 من كانون الأول (ديسمبر) انتقد الراشد المقاومة السنية في العراق متسائلا بتهكم: "هل المسالخ البشرية التي عثر عليها في الفلوجة, وروعت صورها العالم هي بيوت سنية؟ وهل المجالس والعلماء الذين توعدوا أقوى قوة في العالم, ينطقون بالفعل بلسان أضعف فريق في العراق؟". يتجاهل الراشد الصور التي روعت الضمير الإنساني حقا, وهي صور الذبح الجماعي, والإجهاز على الأسرى في المساجد, وسياسة الأرض المحروقة, وحرب الإبادة التي شنتها قوات الاحتلال الأميركية على تلك المدينة العراقية الصغيرة. ويجعل الراشد معيار العدل والحكمة هو الاستسلام للقوي المتجبر, والإقرار بالضعف والخنوع أمام دمويته وإرهابه, عندما يتساءل: هل العلماء الذين توعدوا أميركا ينطقون بلسان السنة الضعفاء؟ من قال إن القوة الأميركية لا راد لقضائها, ولا معقب لحكمها, ومن قال إن السنة هم أضعف فريق في العراق؟
يضيف الراشد شامتا بالسنة العرب:"الفلوجة المعركة رغم ما سببته من أذى كبير, ربما أنقذتهم من متطرفيهم, الذين كانوا يقودونهم نحو الدمار.. تحصنهم في الفلوجة حولها إلى مقبرة لهم.. وما حدث يبرهن كذلك على انعدام خبرة القيادة والمفاوضة عند السنة العرب. وهم بالفعل أناس بلا خبرة سياسية".(18/289)
في الحلقة الثانية من مقاله "من ينقذ السنة من السنة" يواصل الكاتب هجومه على السنة العرب, فيقول إنهم "تحت القصف, وخارج سوق الانتخاب, بسبب عنادهم وجهلهم, وترك زمام قيادتهم للمتطرفين الذين يسكنون بينهم, أو يتحدثون باسمهم, وعلى سنة العراق أن يتذكروا أن متطرفي السنة, لم يفلحوا في البلدان ذات الأغلبية السنية, كما في الخليج ومصر والأردن, حتى يمكن أن يفلح تطرفهم في فعل شيء لصالح العشرين في المائة من سكان العراق". لا يضيف الكاتب جديدا هنا سوى أنه رمى السنة العرب في العراق عن بكرة أبيهم بالتطرف, بما فيهم هيئة علماء المسلمين, أبرز الأصوات الوطنية التي تعارض الانتخابات في ظل الاحتلال, بل ذهب إلى خارج حدود العراق فرمى حركات معارضة إسلامية في بلدان عديدة بالتطرف, وكرر المقولة الدعائية الأميركية القاضية بأن سنة العرب أقلية لا تتجاوز نسبتها عشرين في المائة من سكان العراق.
لا يبدو أبدا أن الراشد يضيف جديدا في طرحه. إنه فقط يعيد إنتاج ما تضخه وسائل الدعاية الأميركية حول الأحداث والأشخاص والظواهر في المنطقة العربية بأسلوب فيه كثير من الغطرسة والضحالة والنمطية.
ضمن إطار مقاله عن (صحافة ضد المقاومة - جريدة الشرق الأوسط أنموذجاً) تناول الكاتب في حلقته الأولى عبدالرحمن الراشد ومقالاته التي تعكس تعاطفاً مع السياسة الأمريكية في المنطقة، واليوم نستكمل معكم الحلقة الثانية من مقال الدكتور أحمد بن راشد بن سعيَّد في حديثه عن أحمد الربعي كنموذج ثان عن كتَّاب الصحافة ضد المقاومة.
أحمد الربعي
غلب الشأن العراقي على كتابات أحمد الربعي, ربما لمجاورة بلده الكويت للعراق, وللتجربة المرة التي عاشتها الكويت بسبب الاحتلال العراقي عام 1990. واتفق الربعي مع زميله الراشد في النظر إلى أعمال الاختطاف وقطع الرؤوس بصفتها نماذج للمقاومة العراقية, ومن ثم تصنيف تلك المقاومة في خانة الإرهاب.
في 5 من تموز (يوليو) تحدث الربعي عن ما وصفه "بالصورة القاتمة" التي ترسمها الفضائيات العربية عن العراق, من "حرب وضرب وعويل وبكاء". وقال إن العراق بلد كبير, ولكن الفضائيات لا تنقل عنه سوى "انفجارات الفلوجة, ومعارك النجف", ومشاهد الملثمين الذين "يتحدثون عن القتل والانتقام ويقطعون رؤوس الناس بالسكاكين".
في 17 من تموز (يوليو) انتقد الكاتب السلطة الفلسطينية لما وصفه "بالحملة الشعواء" التي شنتها على تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط, وقال إن لارسن لم يفعل ما يبرر الهجوم عليه, وإن "جريمته الكبرى هي انتقاده للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, وحديثه عن الفساد في السلطة, ومطالبته بإعطاء صلاحيات أكبر لرئيس الوزراء الفلسطيني". وأضاف: "فلسطين أولا, وبعدها يأتي عرفات وغيره". انضم الربعي إلى الراشد في توجيه سهام النقد إلى عرفات الذي كان يتعرض وقتها لحملة إسرائيلية أميركية تتهمه بالفساد والاستبداد ورفض ما يسمى بالحلول السلمية.
في اليوم التالي, كتب الربعي مقالا بعنوان "القيادة الفلسطينية أولا", كرر فيه الفكرة ذاتها, وأكد أن "ما تفعله القيادة الفلسطينية يطرح مشروع "القيادة أولا", ومصلحة القائد فوق كل مصالح الأمة, وهو أمر مؤسف".
في 20 من تموز (يوليو) واصل الربعي حملته على رئيس السلطة الفلسطينية, وطالبه صراحة بالاستقالة, قائلا: "لقد حان الوقت لرئيس السلطة الفلسطينية أن يرتاح ويريح غيره, فالمرحلة التي يعيشها الفلسطينيون تتطلب وجوها جديدة, ورؤية جديدة, ودماء جديدة. وياسر عرفات, أقدم زعيم عربي, يجب أن يقدم استقالته للمجلس التشريعي الفلسطيني, ويترك للفلسطينيين حق اختيار زعيم جديد في انتخابات نزيهة وبلا تدخلات.. قبل أن يضطر لذلك بضغوطات داخلية وإقليمية. وهو بذلك سيقدم خدمة كبيرة لشعبه".
في 26 من تموز (يوليو) عاد الربعي للحديث عن القضية العراقية, فانتقد بشدة "فضائيات الملثمين", قائلا: ".. يبدو أنه لأول مرة في التاريخ تضع محطات فضائية إمكانياتها تحت خدمة ملثمين لا يعرف أحد من هم, سوى أنهم يمارسون القتل والإرهاب", وأضاف: "إعلام الملثمين هو إعلام لا يحترم المشاهد.. وهو في النهاية تشجيع على القتل".
ويواصل الكاتب خلطه الأوراق, ووضعه كل أعمال العنف في سلة المقاومة, متجاهلا العمليات النوعية والضربات الموجعة التي توقعها المقاومة في صفوف الاحتلال الأميركي, ومركزا فقط على عمليات الاختطاف والاغتيال والإعدام التي تتم بين حين وآخر في العراق. يقول في مقال له منشور في 3 من آب (أغسطس) إن "مشروع الإرهاب في العراق لم يترك بشرا ولا حجرا إلا واستهدفه, ضرب الشرطة والمدنيين, واختطف سائقين فقراء من جنسيات عديدة للابتزاز, وفجر أنابيب نفط ومحطات كهرباء, واغتال شخصيات عراقية عديدة, ولكن مشكلته الكبرى أنه إرهاب بلا أفق سياسي, وبلا حدود دنيا من الأخلاق, وإن تلبس بلباس المقاومة, ووجد من يصفق له في الإعلام العربي خارج العراق".(18/290)
في 9 من آب (أغسطس) انتقد الكاتب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر, قائلا إنه "ينتمي إلى عائلة قدمت الكثير من الشهداء, وسيكون من سوء التقدير أن يعزل الإنسان نفسه, وأن يدخل في حرب ضد الجميع".
في 10 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا بعنوان "الاختطاف تجارة مزدهرة" انتقد فيه مجددا "إعلام الملثمين" الذي يساعد على انتشار عمليات الاختطاف في العراق كما قال.
وفي مقال له بعنوان "استهداف بيوت العبادة", منشور في 14 من آب (أغسطس) تحدث الكاتب عن المعركة بين القوات الأميركية وجيش المهدي, منحيا باللوم ضمنا على جيش المهدي, لتحصنه كما قال وراء المساجد والأماكن الدينية. يقول: "المعركة عند مرقد الإمام الحسين وفي العتبات ليست الأولى, ويبدو أنها لن تكون الأخيرة, فاستخدام المساجد والأماكن الدينية للحروب هو أمر يتعارض مع تقاليد الإسلام, فبيوت الله ليست أماكن للقتال, بل أماكن للسلام والطمأنينة". ويضيف: "هناك حالات كثيرة اختبأ بها إرهابيون في المساجد, وخزنوا أسلحتهم في بيوت العبادة, وهناك من يستخدم المساجد كمواقع للتحريض على القتل والعنف.. ", وهذا العمل "استخفاف بمعتقدات الناس, وهو في النهاية عمل جبان يدل على حالة مرضية أكثر منها حالة سياسية".
في 21 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا بعنوان "ساعات الحسم الأخيرة" قال فيه إنه "ليس أمام الحكومة العراقية من خيار بعد رفض جيش المهدي لكل النداءات والمبادرات السياسية سوى الحسم العسكري, وإلا تحول البلد إلى الفوضى, وتقاسمته الميليشيات المسلحة". وعبر الكاتب عن قلقه على الأميركيين قائلا: " هناك خوف حقيقي من أن يتصرف بعض المراهقين داخل جيش المهدي.. بطريقة تسيء إلى مرقد الإمام علي, وإلى المواقع الدينية الحساسة, بهدف توريط الأميركيين". وختم مقاله بدعوة مقتدى الصدر إلى التخلص من "بعض معاونيه", والموافقة على "الحل السلمي بالشروط الحكومية".
في 28 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا تساءل في مقدمته: "هل يتعلم السيد مقتدى الصدر وجيش المهدي شيئا من تجربة الأسابيع الماضية؟ هل يدركون أن المعارك التي ليس هدف سياسي, وليست ضمن استراتيجيه محددة هي معارك عدمية لا يمكن أن تحقق هدفا؟". ينظر الربعي إلى أي مقاومة للأميركيين بوصفها معركة عبثية لا جدوى منها, ولا سبيل للنصر فيها. ويدعو الحكومة العراقية إلى المزيد من العنف قائلا: "..لا بد من أن تتصرف الدولة مع أية عمليات عنف في المستقبل بكثير من الحسم والقوة, فمن المستحيل الحديث عن إعادة الإعمار تحت تهديد السلاح والقتل, والسيارات المفخخة, واختطاف الأبرياء". يتحدث الربعي عن عنف المقاومة, ولا يشير ألبتة إلى عنف الاحتلال الأميركي, والقصف الهمجي شبه اليومي للفلوجة, والضحايا الذين يوقعهم هذا القصف في مناطق عديدة متفرقة من العراق.
وينضم الربعي إلى زميله الراشد في انتقاد الشيخ يوسف القرضاوي, ويكتب مقالا في 4 من أيلول (سبتمبر) بعنوان "القرضاوي المعتدل", يقول فيه: "كأنه لا يكفينا هذا القتل اليومي.. فيظهر علينا من يفترض أن يكون داعية إسلاميا معتدلا هو الشيخ يوسف القرضاوي ليفتي بجواز قتل المدنيين الأميركيين في العراق, وليقول بلغة عربية واضحة وصريحة: "إن كل الأميركيين في العراق محاربون, لا فرق بين مدني وعسكري, ويجب قتالهم لأن المدني الأميركي جاء العراق لخدمة الاحتلال".. ولأن السيد الشيخ القرضاوي مثل كثير من الشيوخ المتطرفين لا يموتون عادة, ولا يستشهدون, ولا يحدث ذلك لأبنائهم الذين يتعلمون عادة في أحسن جامعات الغرب, فإن مثل هذه الفتوى سيقرؤها شباب مسلم متحمس, وقد يذهب إلى العراق لتنفيذ الواجب الديني الذي دعا إليه الشيخ القرضاوي". ويضيف الكاتب قائلا: "الفرق بين الجنون والعقل, بين التطرف والاعتدال واضح. فالقرضاوي الذي يعيش حياة الرغد والعز في الدوحة يفتي بقتل المدنيين الأميركيين". ينظر الربعي إلى صاحب الرأي الذي يختلف معه بوصفه متطرفا ومجنونا ومتناقضا, وإذا كان ذلك المخالف عالم دين إسلامي أو منتميا لتيار إسلامي, فإن دعاوى التسامح واحترام الرأي الآخر كلها تتهاوى, وتبرز فقط لغة التهكم والتهميش والازدراء.
في 6 من أيلول (سبتمبر) كتب الربعي مقالا انتقد فيه فصائل المقاومة الفلسطينية, لعدم تحديد أولوياتها, وتوحيد مواقفها كما قال. وأكد أن "هناك صراعات بين "حماس" و"الجهاد" من جهة, وبقية الفصائل على خلفية الموقف من التسوية السياسية, وقضية العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين, وهناك خلافات وصراعات حادة بدأت داخل حركة التحرير الفلسطيني (فتح) وصلت إلى درجة التصفيات الجسدية".
ويعود الربعي إلى الشأن العراقي وإلى موضوع المقاومة تحديدا, فيكتب في 20 من أيلول (سبتمبر) متسائلا: "أليس تشجيع القتل في العراق اليوم بحجة العروبة والإسلام والمقاومة هو الذي يؤدي إلى حصد الأرواح البريئة في العراق"؟(18/291)
في 27 من أيلول (سبتمبر) يتهكم الربعي بالمقاومة الفلسطينية, ويكرر وصفه العمليات الاستشهادية بالانتحارية, فيقول: ".. يمارس العرب حالة من الفروسية والبطولات والعنتريات التي ما قتلت ذبابة. فعندما تحدث عملية انتحارية في إسرائيل تعلن ثلاث منظمات فلسطينية مسؤوليتها عن الحادث, وهذا يعني أن هناك اثنتين من هذه المنظمات تمارس الكذب..".
في مقال له منشور في 9 من تشرين الأول (أكتوبر) يؤكد الربعي أن "العنف والقتل في العراق هما الاستثناء" و"الاستقرار هو القاعدة", وأن "أقل المتضررين من العنف هم قوات التحالف, لذلك فإن عنفا بلا قاعدة شعبية هو عنف بلا شرعية, وإن حمل عناوين التحرير والاستقلال والإسلام والوطنية".
في 23 من تشرين الأول (أكتوبر) تحدث الربعي بمرارة عن عمليات اختطاف "الأجانب العاملين في المساعدات الإنسانية" في العراق, متسائلا: "كيف يمكن لنا أن نعتذر باسم أطفال العراق, وباسم سمعتنا وسمعة ثقافتنا؟ كيف يمكن أن نفسر خيبتنا وفعلة التفرج التي نمارسها على المستوى الإنساني؟ أية كلمات يمكن أن نستخدمها لنقول للعالم إننا أبرياء من هذه الجرائم, وهل يمكن أن يكون صوتنا أعلى من صوت القتلة والمختطفين وقطاع الطرق الذين يصفق لهم الكثيرون, ويسمونهم مقاومة؟". مرة أخرى يغض الربعي الطرف تماما عن جرائم الاحتلال الأميركي, وفضائحه وممارساته غير الإنسانية, ويواصل عملية (سلخ الذات), ويترحم على (ثقافتنا) التي أفرزت في رأيه الإرهاب والتطرف.
في مقاله المنشور في 25 من تشرين الأول (أكتوبر) ينتقد الربعي علماء الدين السنة في العراق قائلا: "بعض رجال الدين السنة في ما يسمى بالمثلث السني يتصرفون دون شعور لتلك المناطق عبر تشجيع العنف, لكن الأمل ما زال قائما في صحوة متأخرة لهؤلاء للتفكير من جديد بمستقبل أهلهم ووطنهم".
في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) يحذر الربعي من تكرار ما وصفه بمأساة الأفغان العرب, ويورد مصطلح "العراقيين العرب" للإشارة إلى "العرب المتطرفين الذين ذهبوا إلى العراق تحت شعار الجهاد ضد الكفار", محذرا من أن هؤلاء "لا يحاربون الأميركيين فحسب, بل يفخخون السيارات ضد المدنيين العراقيين. ولذلك, فإن خطرهم في حال عودتهم سيكون أكبر".
في 8 من تشرين الثاني (نوفمبر) يعلق الربعي على الفتوى التي أصدرها عدد من العلماء والدعاة في السعودية حول وجوب الوقوف مع أهل الفلوجة ضد الهجوم الأميركي على مدينتهم. يقول الربعي إن الفتوى الداعية إلى "مساعدة "الفلوجة الصامدة المنصورة" هي تحريض للشباب, وتغرير بهم, لدفعهم إلى طريق الانتحار, وهي دليل على أن عددا من الموقعين على الفتوى, ممن اعتقدنا أنهم عادوا إلى طريق الحق, وقطعوا العلاقة بفكر العنف, قد عادوا إلى طريقهم القديم, يحرضون الناس على الموت تحت اسم الجهاد". مقاومة الأميركيين الغزاة في رأي الربعي ليست سوى انتحار, والدعوة إليها ليست سوى تحريض. وحده الربعي وزملاؤه من المدافعين عن المشروع الأميركي في المنطقة يعرفون "طريق الحق", ويحتكرون تعريف الصحيح والخطأ. يتساءل الربعي في ثنايا مقاله: "ألا يكفينا ما حدث؟ ألا تكفي هذه الجرائم التي ارتكبت باسم الإسلام؟..ألا تكفي حسرة قلوب آباء وأمهات, ذهب أبناؤهم إلى أفغانستان والعراق, فانتهوا في سجن غوانتانامو..؟". يكررالكاتب هنا الرواية الأميركية الرسمية للأحداث, من أن أسرى غوانتانامو قتلة وإرهابيون, مع أن أكثرهم لم تثبت عليه تهمة, وعدد غير قليل منهم كانوا أناسا بسطاء, وموظفي إغاثة إنسانية, وقد انتقدت ظروف اعتقالهم وأسبابه منظمات حقوقية دولية عديدة أبرزها منظمة العفو الدولية, وهيومان رايتس ووتش.
في مقاله المنشور في 17 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتساء ل الربعي: "متى يأتي الزمن النظيف؟", ويضيف: "من حقنا أن نحلم بأوطان هانئة, وأسر مستقرة, وصناعة وزراعة وإنترنت ولحاق بركب الحضارة, بعد أن استهلكنا نظام طالبان وتورا بورا, ومقاومو الفلوجة, والمحللون السياسيون والاستراتيجيون الذين يكذبون علينا كل يوم في القنوات الفضائية".(18/292)
في 20 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتحدث الربعي عن المقاومة الفلسطينية, ويدعوها إلى المصارحة بدل المصالحة كما يقول. يتساءل: "لماذا لا تكون هناك جلسات مصارحة تكون مدخلا إلى المصالحة, أو تكون دافعا لطلاق بائن بين أطراف متناقضة". الساحة الفلسطينية كما يرى الربعي "تضم طرفين أساسيين, طرف لديه مشروع للسلام, له تصور لدولتين متجاورتين, وعاصمتين منفصلتين, وصفقة سلام تاريخية, وطرف آخر لا يؤمن بهذا الكلام, وهو يبحث عن الشهادة, وليس عن إقامة دولة, وهو يرفض التفاوض, ويرفض الدولتين, ويعتقد أنها حرب أزلية بلا سقف, يخوضها بالنصوص الدينية وبالسلاح, ولا مجال فيها لغير ذلك..". ويمضي الكاتب في هجومه على الفصائل الإسلامية المقاومة في فلسطين قائلا: "..من الظلم للشعب الفلسطيني محاولة جمع النار والماء, وتركيب خليط من المتناقضات الإيديولوجية والسياسية". ويختم بقوله: ".. ما دامت جماعة حماس والجهاد ترفضان السلام بالصيغة الفتحاوية, أو صيغة الشعبية والديموقراطية وغيرهما, فما الداعي لتجميع المتناقضات". ليس واضحا من كلام الكاتب ما يرمي إليه سوى رفض فكرة التنوع داخل البيت الفلسطيني, أو الدعوة إلى التناحر بين فصائل المقاومة, أو القطيعة والطلاق البائن بينها على حد تعبيره. وللمرء أن يتساءل بكل براءة: ماذا تريد إسرائيل والإدارة الأميركية أكثر من هذه الوصفة الكارثية للمجتمع الفلسطيني.
يعود الربعي إلى الشأن العراقي في 21 من تشرين الثاني (نوفمبر), فيدعو العراقيين إلى كسر حاجز الخوف, والسعي لبناء عراق مستقر, بعيدا عن "الإرهاب والقتل" كما قال.
في 22 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتحدث الربعي عن قصة اختفاء ابن الشيخ سلمان العودة, وقلق والده من أنه ربما ذهب إلى العراق للجهاد ضد الاحتلال الأميركي, ثم ثبوت أن الأمر كان مجرد "مزحة" فقط. يلتقط الربعي القصة, ليوجه هذه "النصيحة" للشيخ العودة: ".. نتمنى أن يضع الشيخ العودة نفسه بمكان مئات الآباء والأمهات الذين فقدوا أولادهم, وانتهى هؤلاء إلى الفلوجة, أو قتلوا في أفغانستان, أو قبعوا في سجون غوانتانامو". ثم يتساء ل الكاتب: ".. هل كان الشيخ سلمان العودة يوقع البيان الذي وقعه قبل أيام بشأن الجهاد في العراق, لو أنه مر بتجربة ابنه معاذ, وشعر بحجم المرارة والألم؟". ينتقد الكاتب ما يصفه بغسل أدمغة الشباب, ودفعهم إلى حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل, ووقوعهم ضحية "الفكر المتطرف". كما انتقد من يوقعون على بيانات تدعو الناس إلى الجهاد, بينما "يحرصون على إبعاد أنفسهم, وإبعاد أبنائهم, عن دخول تلك المغامرة, وهم يدفعون بأبناء الفقراء إلى الموت, بينما يدرس أولاد هؤلاء في أفضل الجامعات الغربية, ويعيشون حياة هانئة..". ينتقد الكاتب موقف الشيخ العودة ضمنا, مطالبا برفض "العنف والقتل تحت حجج جهادية واهية".
في الشأن العراقي أيضا يتحدث الربعي في مقاله المنشور في 28 من تشرين الثاني (نوفمبر) منتقدا "التوتر والعنف الذي تمارسه قوى الإرهاب في بعض المناطق", وهو ما يستحيل معه إجراء الانتخابات كما قال.
في 14 من كانون الأول (ديسمبر) يناقش الكاتب وضع القيادة الفلسطينية الجديدة, مؤكدا أن نجاح هذه القيادة "يتطلب أولا توقف بعض الفلسطينيين عن عمليات انتحارية لا تخدم قضيتهم, وخاصة ضد المدنيين".
في مقاله المنشور في 21 من كانون الأول (ديسمبر) يعلق الربعي على جريمة التفجير التي نفذت بحق المدنيين في مدينتي النجف وكربلاء, منحيا باللائمة في ذلك على المقاومة العراقية: " لا بد من أن نبارك للمقاومة العراقية الباسلة, ولمن يدعمونها عبر الفضائيات بهذا "الإنجاز" حيث يقتل مدنيون لا ذنب لهم, وحيث يمارس القتلة في العراق جرائمهم, ويرفعون شعارات الإسلام والوطنية وطرد الاحتلال". ويضيف: "إن هؤلاء الذين يقتلون شيعة العراق, هم أنفسهم الذين يقتلون سنة العراق, واستباحوا الفلوجة, وقتلوا الأكراد, وفجروا الكنائس الآمنة".(18/293)
في 28 من كانون الأول (ديسمبر) كتب الربعي مقالا بعنوان "المقاومة العراقية في دمشق" انتقد فيه موقف سورية من احتلال العراق, وتعاطفها مع المقاومة في ذلك البلد. يقول : "إذا أردت أن تعرف ماذا تريد أن تفعل "المقاومة العراقية", فعليك بالإصغاء جيدا إلى الإعلام السوري, أو الإعلاميين المحسوبين على سورية.. آخر ما قالوه في دمشق, تحريض سافر على قتل الشرطة العراقية, واعتبار عصر صدام حسين أفضل من الأوضاع الحالية..". ويضيف: "لا أعرف من الذي يدير ملف العراق في دمشق, ولكني أعرف جيدا أنها إدارة تضر بالعراق, وتضر بسورية.. لقد مللنا ونحن نكرر ضرورة أن تفكر دمشق في مصالحها الوطنية, وأن تخرج من عصر الشعارات والأحلام, إلى فضاء العمل السياسي المحترف..". تزامن هذا الكلام مع حملة أميركية إسرائيلية على دمشق, وبدا أن الربعي يستجيب لأوتار هذه الحملة, ويردد الإدعاءات الأميركية عينها بخصوص الموقف السوري من أحداث العراق. يختم الربعي مقاله متسائلا: "هل نصرخ في واد غير ذي زرع لا يسمعنا فيه أحد؟ ربما..". الأكيد أنه لا يوجد عربي ولا مسلم حقيقي يعير سمعا إلى خطاب التبعية والاستسلام لإرادة العدوان والهيمنة الأميركية
وقفنا في الحلقة الثانية عند تناول الكاتب للنموذج الثاني من نماذج كتَّاب (جريدة الشرق الأوسط) كنموذج (للصحافة ضد المقاومة).. ونتابع معكم اليوم الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة، والتي يتناول فيها الكاتب نموذجين آخرين هما: صالح القلاب، ومأمون أفندي.
صالح القلاب
كتب صالح القلاب عن الشأن العراقي, لكن ما كتبه عن فلسطين كان أكثر, نظرا لارتباط بلده الأردن على المستوى الشعبي والرسمي بالقضية الفلسطينية.
في 25 من آب (أغسطس) ناقش القلاب الوضع في العراق, مقارنا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بزعيم حركة طالبان الملا عمر. يقول: "لنتصور ماذا سيحل بالعراق لو أن حكومة إياد علاوي, التي هي رغم سلبياتها الكثيرة خشبة الخلاص الوحيدة والأخيرة, انهارت في لحظة من اللحظات قبل أن تنجز مهمتها بتسليم البلاد إلى حكومة دائمة منتخبة..". ويحذر قائلا: "..إن انهيار هذه الحكومة, ورحيل القوات المحتلة, سيؤديان حتما إلى حكومة كحكومة "طالبان", وإلى رئيس كالملا عمر. وغير مستبعد إذا انتصر جيش المهدي, وأصبح مقتدى الصدر رئيسا لجمهورية إسلامية عراقية أن ينتقل أسامة بن لادن بإرهابه وقواعده إلى بلاد الرافدين..".
في 8 من أيلول (سبتمبر) كتب القلاب عن ذكرى تفجيرات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة, وقال إن الرئيس بوش كان سيعلن "أمام اجتماع تاريخي للجمعية العمومية للأمم المتحدة قيام الدولة الفلسطينية المنشودة" لولا وقوع الأحداث, وتتابع العمليات "الانتحارية" ضد الإسرائيليين, "التي تلاحقت بطريقة مثيرة للاستغراب". وقد زعزعت هذه العمليات - كما يقول الكاتب - "الموقف الفلسطيني, وعززت الحجة الإسرائيلية القائلة بأن الفلسطينيين إرهابيون, وإنهم جزء من جبهة "طالبان" وأسامة بن لادن وصدام حسين, في حين أن الإسرائيليين مثلهم مثل الأميركيين ضحايا لهذا الإرهاب, وأن حيفا وتل أبيب يحل بهما ما حل بنيويورك وواشنطن". ويصل الكاتب إلى القول بأنه "كان على العرب, والفلسطينيين تحديدا أن يعرفوا أن ما جرى ليس مجرد هدم بناية, وخطف عدد من الطائرات. وكان عليهم أن يبادروا, وعلى الفور, إلى التخلص من الأوهام التي كانت لا تزال عالقة بهم منذ مراحل الحرب الباردة, وأن يعلنوا هم, حتى قبل الولايات المتحدة, ومعها الغرب كله, الحرب على الإرهاب. كما كان عليهم أن يرموا بكل ثقلهم لوقف العمليات الانتحارية التي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى ما وصل إليه". يحمل القلاب العرب والفلسطينيين مسؤولية التدهور والمعاناة في الأرض المحتلة, فالعرب مسؤولون نتيجة لغبائهم وقصر نظرهم وعدم استيعابهم الحرب الأميركية الجديدة على ما يوصف بالإرهاب, والفلسطينيون مسؤولون بسبب دمويتهم وعنفهم غير الأخلاقي الذي يسمونه استشهادا ومقاومة. أما الإدارة الأميركية وإسرائيل فهما بريئتان من كل نقيصة, ولا تقترفان إرهابا بحق الفلسطينيين والعرب.
في ذكرى مرور أربع سنوات على انتفاضة الأقصى كتب القلاب مقالا في 6 من تشرين الأول (أكتوبر) بعنوان: "أربعة أعوام كانت كارثة للفلسطينيين ودمارا لقضيتهم". اختصر العنوان ما أراد الكاتب أن يقوله, لكنه أوضح مراده بجلاء في ثنايا المقال, عندما أكد أن "التغني بصواريخ "القسام" الكرتونية لا فائدة منه, بل إنه يعزز ما تتذرع به إسرائيل لتبرير الجرائم البشعة التي ترتكبها في غزة, وفي كل الأراضي الفلسطينية". وأضاف: ".. الصراع مع عدو تقوده هذه الحكومة, وفي ظل موازين قوى هي هذه الموازين القائمة, لا يدار من خلال المنطق, ولا من خلال الاستمرار في حشد المبررات لتأكيد الحق, بل على أساس الممكن والمتاح..". إذن لا صورايخ القسام "الكرتونية" تفيد, ولا استخدام المنطق في المواجهة ينفع, ولا التذرع بالحق الأخلاقي في إدارة المعركة يجدي. الحل الوحيد هو الانبطاح, ومد العنق لسكين شارون.(18/294)
يقول القلاب إننا إذا انظرنا إلى انتفاضة الأقصى " من زاوية الربح والخسارة بالنسبة للفلسطينيين ومشروعهم الوطني ومصالحهم العليا, فإننا سنجد أنها كانت كارثة ومصيبة, بل وأم المصائب". ينتقد الكاتب الفصائل الفلسطينية المعارضة لأنها تنظر بعين حولاء, ولا تجاري الواقع الدولي, كما يقول. ولو أن هذه الفصائل تدرك الواقع "لما بادرت إلى عسكرة انتفاضة الأقصى, ولما كثفت العمليات "الانتحارية", وغبار ما جرى في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 كان يغطي الكرة الأرضية كلها". ويضع القلاب اليمين الإسرائيلي المتطرف, وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في سلة واحدة, فيقول إنهما رغم تناقضهما فقد "التقيا عند نقطة واحدة, وهي إضعاف القيادة الفلسطينية الممثلة بعرفات وعزلها وذبح عملية السلام". ويضيف: "كان المفترض.. أن تبادر حركة "حماس" وعلى الفور, إلى إيقاف العمليات الانتحارية بمجرد وقوع كارثة الحادي عشر من سبتمبر.. لم تفعل حركة "حماس" هذا, ولم تدرك أنه إذا كانت عسكرة الانتفاضة جائزة قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001, فإنها لم تعد جائزة بعد أن وقع ما وقع, وبعد أن اتضح أن الخيارات الفلسطينية غدت محدودة جدا, فإما في خنادق الحرب على الإرهاب التي أعلنها العالم بقيادة الولايات المتحدة, وإما في خنادق الإرهاب الممثل بالقاعدة وأسامة بن لادن وبكل الدول والتنظيمات المؤيدة للعنف والمساندة له والمتورطة فيه". ينبثق من هذا الكلام أمران. الأول أن العمليات الاستشهادية في فلسطين هي عمليات إرهابية, ويجب التبرؤ منها والتخلي عنها. والثاني أن الإرهاب هو ما ترى الولايات المتحدة أنه إرهاب, وهو تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن. أما الجرائم الصهيونية واحتلال أراضي بلدان مستقلة بالقوة, وقتل وتشريد الآلاف من أهلها, فذلك لا يدخل في تصنيف الإرهاب. يدافع القلاب بشكل أوضح عن السياسة الأميركية عندما يقول إن الأميركيين ".. كان لديهم استعداد للاستمرار في اعتبار الفلسطينيين جزءا من الجبهة المناهضة للإرهاب, لو أن العمليات الانتحارية لم تتواصل بالشكل الذي تواصلت فيه, ولو أن الانتفاضة لم تتخذ هيئة العمليات الانتحارية". ويضيف متحدثا بلسان الشعب الفلسطيني كله: ".. غير صحيح على الإطلاق أن الشعب الفلسطيني.. راض عن هذه المسيرة ويؤيد العمليات "الانتحارية", ويساند تظاهرة صواريخ القسام..".
في مقال له منشور في 3 من كانون الأول (ديسمبر) تحدث القلاب عن اجتماع عقده الملك عبد الله الثاني ملك الأردن مع بعض وزرائه بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة, شدد فيه على "ضرورة الاتصال بالقيادة الفلسطينية, وإبلاغها أن عليها أن تسيطر على الوضع, وألا تسمح بوقوع أية عمليات إرهابية - انتحارية, لأن العالم كله مقبل على مرحلة جديدة, سيكون الفرز فيها بين الإرهاب وضحاياه, ولأنه يجب أن يدرك الفلسطينيون بخاصة, والعرب والمسلمون بصورة عامة خطورة أن يصنفوا على المعسكر الإرهابي". ويضيف الكاتب: ".. لا بد من ممارسة ضغط حقيقي على "حماس", وعلى الدول التي تقف وراءها, لمنعها من القيام بأية عملية "انتحارية" في هذا الظرف الحساس..". ويختم بالقول: "إذا لم تتوقف العمليات "الانتحارية", حتى إن واصلت إسرائيل استفزازاتها, فإنه لن تكون هناك أي فرصة لاستئناف عملية السلام..". وهكذا فالقلاب يصنف العمليات الاستشهادية عمليا في خانة الإرهاب, ويسمي الإرهاب الإسرائيلي المنظم من تقتيل جماعي, واغتيالات للقادة, وهدم للبيوت فوق رؤوس ساكنيها, وتجريف للحقول, ومصادرة للأراضي, وبناء لجدار يلتهم الزرع والضرع, وتشريد وأسر وتعذيب, كل ذلك يسميه استفزازا فقط, ويطالب بتجاهل هذا "الاستفزاز", واستجداء السلام قبل أن يطير من أيدي الفلسطينيين والعرب بسبب جهلهم بالواقع, وعنفهم الأعمى!(18/295)
يعود القلاب للشأن العراقي, فيكتب في 22 من كانون الأول (ديسمبر) مقالا يؤكد فيه أن العراق لم يكن "بحاجة إلى حرق المراحل, والقفز من فوقها, والانتقال فورا من "ديكتاتورية" بغيضة, ونظام شمولي تواصل, على مراحله المختلفة, لأكثر من أربعين عاما, إلى انفلات ديموقراطي..". ويوضح قائلا: ".. جاءت جرعة الديموقراطية أكثر مما يتحمله بلد بقي محكوما بالحديد والنار لأكثر من أربعة عقود متلاحقة, فجاءت النتيجة على ما نراه من فوضى صاخبة, تضرب أطنابها في كل مكان". ويضيف الكاتب في إشارة إيجابية للاحتلال الأميركي: "ربما أراد المعنيون, وعلى رأسهم الأميركيون الذين جاؤوا تحت عنوان: "إسقاط النظام الديكتاتوري, واستبداله بديموقراطية على النمط الغربي", إقناع العراقيين والعرب والعالم كله, بأن الاحتلال ليس دائما بالضرورة ضد مصالح الشعوب, وأن تخليص الشعب العراقي من نظام شمولي وفردي وسفاح, واستبداله بنظام صناديق الاقتراع والحريات العامة, يسوغ رؤية الدبابات الأميركية في الشوارع العراقية. لقد أراد الأميركيون, ووافقتهم على ذلك معظم القوى والتنظيمات التي انخرطت في حرب التخلص من نظام صدام حسين, إقناع العراقيين بالفرق بين ما كانوا عليه, وبين خيارهم الجديد..".
في مقاله المنشور في 29 من كانون الأول (ديسمبر) والذي جاء بعنوان "عام فلسطين وعام القضية الفلسطينية", يدعو القلاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عدم الالتزام بثوابت القضية الفلسطينية قائلا: "لن يكون العام المقبل, وهو أول عام لأبي مازن في مواقع المسؤولية الأولى, سهلا ولا مريحا, لكنه عام واعد. وحتى يصبح هذا العام على غير ما كان عليه العام الماضي الذي هو ثالث ثلاث سنوات عجاف موجعة ومربكة, بل وقاتلة, فإن عليه أن لا يبقى أسيرا للذين يدفعونه إلى الخلف باسم الثوابت التي لم يفرط فيها عرفات". ويطالب الكاتب أبا مازن بما تطالبه به إسرائيل والولايات المتحدة: الوقوف ضد فصائل المقاومة, ونزع سلاحها, وتحقيق الأمن للإسرائيليين, وطمأنة قلوبهم. يقول: "حتى يمكن تجريد اليمين الإسرائيلي من كل أسلحته التي استخدمها على مدى الأعوام الثلاثة الماضية.. فإنه لا بد من إشعار الإسرائيليين بأن هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتوفير الأمن لهم, وأن هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتصبح العمليات الانتحارية من الماضي, وأنه لن يكون هناك سلاح غير السلاح الرسمي الفلسطيني, ولن تكون هناك أي سلطة موازية للسلطة الفلسطينية".
مأمون فندي
انضم مأمون فندي إلى زميليه الراشد والربعي في انتقاد السلطة الفلسطينية لموقفها الغاضب من تقرير (تيري رود لارسن) عن الوضع الفلسطيني. كتب فندي في 19 من تموز (يوليو) مقالاً بعنوان "مصلحة عرفات قبل حرية فلسطين" انتقد فيه القيادة الفلسطينية, مؤكداً أنه "بات واجباً على العرب مجتمعين مواجهتها دونما مواربة, لأن الأمر في الأراضي المحتلة وصل بالفعل إلى درجة الانهيار". وأضاف: "يبدو أن مصلحة عرفات أهم من مصلحة الشعب الفلسطيني. هذا هو تفسيري للغضبة الفلسطينية على ممثل الأمين العام للأمم المتحدة.. كانت في تقرير (لارسن) مرافعة جادة ومقنعة أمام مجلس الأمن في رأيي (غير المتواضع) هي أفضل من كل مرافعات نبيل أبو ردينة وأبو عمار وجماعته من أهل فلسطين". ويتساءل فندي: ".. لماذا كل هذا الغضب العرفاتي على تقرير يصب في المصلحة الفلسطينية؟ الغضبة أساسها أن (لارسن) انتقد السلطة وأداءها, وطالبها بأشياء واضحة هي محل إجماع المجتمع الدولي الآن". ويواصل فندي سخريته المريرة من السلطة الفلسطينية, فيقول: ".. دعونا نواجه الحقائق: النقطة الأولى التي يجب أن يعرفها العرب, هي أن العالم كله الآن لا يثق بعرفات, باستثناء جماعة نبيل أبو ردينة الذين يفسرون العالم بالمقلوب لأبو عمار.. النقطة الثانية هي أن اللاعبين الأساسيين من العرب في الملعب الفلسطيني, وهما مصر والأردن, أيضاً لا يثقان بالرجل.. إذن من بقي مع أبو عمار بعد أن تركه الأميركان والأوروبيون والروس والمصريون والأردنيون؟ بقي معه (لارسن) ممثل كوفي أنان, وهاهم أبو عمار وناصر القدوة وأبو ردينة يخسرون الأمم المتحدة أيضاً". ويصل فندي إلى القول بأن "عرفات لم يعد يعنيه أي شيء سوى "حرية حركته هو".. حرية عرفات الشخص أهم من حرية الفلسطينيين.. ما يقوم به أبو عمار ليس إستراتيجية تحرير, وإنما مناورات بقاء, الأساس فيها شخصه, وليذهب الشعب الفلسطيني والمنطقة إلى الجحيم". ويختم قائلاً: ".. عرفات لا يريد أن يسجن فقط الشعب الفلسطيني معه, هو يريد أن يسجننا جميعاً".(18/296)
في التاسع من آب (أغسطس) كتب فندي داعياً إلى "قيام جماعة التفكير, بدلاً من جماعات التكفير", وقال: "إن التفكير هو الفريضة الغائبة, لا التكفير والتفجير". وأضاف: "لك أن تتخيل هذا العالم كغرفة واحدة, فيها ممثل عن كل الملل والنحل, ممثل عن كل جماعة عرقية ودينية, وبينهم ممثل عن العرب والمسلمين, ترى مع من يتحدث هذا العربي المسلم داخل هذه الغرفة؟". يتحدث فندي بسخرية عن العربي القابع في الغرفة, وقد عزم ألا يحدث أحداً؛ لأنه أعلن الحرب على الجميع. يقول: إن هذا العربي لن يتحدث مع ممثل أميركا, "لأنها دولة إمبريالية, يناصبها العداء, فهي التي تحتل العراق, وتساعد إسرائيل ضد الفلسطينيين, ويعلن عليها العربي المسلم جهادا كجهاد جماعة مقتدى الصدر في النجف, والزرقاوي في الفلوجة وبغداد.. أما إذا صنفنا من هم في الغرفة حسب دياناتهم, فبالطبع لن يتحدث العربي المسلم مع ممثل اليهود الذي يشتبك معه في حرب منذ خمسين عاما..". ويصل فندي إلى التأكيد بأن "العربي المسلم الموجود في الغرفة لن يتحدث مع أحد, ولن يحادثه أحد, لأنه تقريبا معاد للعالم كله..". ويسهب الكاتب ويطيل في بيان هذه "التخيلات", ويمضي متحدثا بلسان العرب والمسلمين: "لقد كفرنا الجميع, وفكرنا قليلا.. كفرنا العالم كله, ورأينا العالم كله بمثابة مؤامرة ضدنا, تخيلنا كل إنسان في العالم وكأنه يصحو في الصباح فقط ليحيك المؤامرات ضدنا..".
في 4 من تشرين الثاني (نوفمبر) كتب فندي مقالا بعنوان "فوز بوش: رسالة أميركا الجديدة" دعا فيه العرب إلى الانقياد لسياسة إدارة بوش في المنطقة. يقول: "فوز بوش هو رسالة أميركية إلى العالم. فحوى هذه الرسالة إلى العالم هو أن الأميركيين يصادقون على رؤية جورج بوش في مكافحة الإرهاب, هذه الرؤية القائمة على محاور ثلاثة: المحور الأول هو القضاء على الجماعات الإرهابية ذات البعد العالمي global r each, المحور الثاني هو ضرب الدول الراعية للإرهاب, أما المحور الثالث فهو تغيير البيئة والمناخ المولد للإرهاب, وفي هذا السياق, يبقى على الدول التي تصنفها أميركا رسميا على لائحة الدول الداعمة للإرهاب, أن تأخذ موضوع استراتيجيه الحرية الأمامية Fo r wa r d F r eedom, والتي تبنتها إدارة جورج بوش مؤخرا, وكذلك موضوع الشرق الأوسط الكبير على محمل الجد". ويوضح الكاتب مراده أكثر بالقول: "ويعني ذلك أن مسألة الإصلاح من الخارج للمنطقة العربية, والضغوط المكثفة تجاهها مسألة حقيقية, وعلى دول المنطقة أن تعيد صياغة سياساتها ومواقفها على هذا الأساس الجديد". يورد الكاتب مفردات الخطاب الأميركي كالإرهاب وحرب الأفكار والحرية والإصلاح والشرق الأوسط الكبير, بوصفها مسلمات وحقائق غير قابلة للنقض, داعيا العرب إلى تبنيها والاستجابة لها, قبل أن يقبلوا بها رغما عن أنوفهم.
في مقال له منشور في 15 من تشرين الثاني (نوفمبر) تحدث فندي عما وصفه "نحو عرفات", ويقصد علاقة علم النحو بحياة الرئيس الراحل ياسر عرفات. يتسم المقال بالتهكم أكثر من اتسامه بالوصف, وينسب كل مسيرة عرفات إلى أفعال النحو وقواعده وحروفه. مثلا يشير في مقاله إلى أن عرفات مات في باريس, ومات كما يقول فعل "معتل الوسط, ويسمى أجوف, مات في المنفى بعد المقاطعة, وأبو عمار لم يكن غريبا على حروف النفي, من لاءات الخرطوم إلى نفيه في الأردن, إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود, ومن نفيه من لبنان إلى تونس عام 1982.. حروف علة, وحروف نفي, وأفعال مقاربة, تلك كانت حياة عرفات..". ويختم مقاله الطويل بالقول إن عرفات كان "جامدا أحيانا, وكان معتلا في آخر حياته, وكان ناقصا في بعض أفعاله..".
في 6 من كانون الأول (ديسمبر) كنب فندي مقالا بعنوان: "إمارة حماس" زعم فيه أن "مقاطعة حماس للانتخابات الفلسطينية تقع ضمن خطة شارون لتفخيخ الوضع الفلسطيني, وإحلال إمارة حماس في غزة محل الدولة الفلسطينية". وينتقل الكاتب فجأة من غزة إلى بغداد, فيربط بين حماس وهيئة علماء المسلمين العراقية قائلا: "مقاطعة حماس للانتخابات الفلسطينية, هي المعادل الموضوعي لمقاطعة هيئة علماء المسلمين والسنة في العراق للانتخابات العراقية". ويضيف: "وفي كلتا الحالتين, يخدم الإسلاميون الاحتلال عمليا, بينما يقاومونه على الفضائيات, وبرمزيات لا تسمن ولا تغني من جوع..". موقف فندي المتحامل على الإسلاميين جعله يصنفهم خدما للاحتلال, بل ويتهمهم بالعداء الفطري للديموقراطية, وهي التهمة عينها التي تلصقها دوائر غربية كثيرة بالإسلاميين. يقول ساخرا: "حماس لديها حساسية تجاه الانتخابات, ومعها كثير من إسلاميي المنطقة, كحساسية مرضى الانفلونزا للسمك والبيض..".(18/297)
بعد ذلك يبدأ الكاتب في صياغة فكرة المقال, وهي في جوهرها تحريضية ضد حماس, والتحذير من هيمنتها على الوضع في غزة, بعد الانسحاب الإسرائيلي منها. يسرد فندي عددا من المظاهر الدالة على نفوذ حماس في القطاع, كالأعلام الخضراء, ومسيرات تشييع الجنائز, وغيرها. وقال إن "هذه السيطرة من قبل حماس في غزة, مرشحة للزيادة, وربما كبديل لسلطة الاحتلال, في غياب دور للأمن الفلسطيني". ويواصل فندي تحريضه الجميع على حماس, مذكرا مصرا بأن حماس حركة إسلامية, وامتداد طبيعي لحركة الإخوان المسلمين. يقول: ".. ستملأ حماس الفراغ الذي يتركه الاحتلال من خلال كتائب القسام, كمقابل للجيش النظامي, جيش حماس السري لضبط الأمن كبديل عن دحلان وجماعته. والتنظيم السري لحماس, هو أقرب إلى التنظيم السري الذي ابتدعته الحركة الأم, وهي حركة الإخوان المسلمين في مصر, وأعتقد أنه واضح لكل من درس ألف باء الحركات الإسلامية أن حماس هي جماعة الإخوان المسلمين - فر ع فلسطين - أو فرع غزة, لأنها تشبهها تماما في الخريطة التنظيمية, وفي البناء الهيكلي, وتتبع نفس التوجه الاستراتيجي". ويمضي فندي محرضا العالم كله على حماس من خلال مقارنتها بحركة طالبان, "وبنفس الطريقة التي حاولت بها حركة الإخوان المسلمين السيطرة على مقاليد الحكم في الجزائر, أو في تونس ( جبهة الإنقاذ هي التي كادت أن تصل إلى الحكم في الجزائر عبر صناديق الاقتراع, وليس الإخوان, والذين سيطروا في النهاية هم العسكر, وهم الذين أجهضوا خيار الشعب), تحاول حماس أيضا السيطرة على النضال الفلسطيني, وإخراج أي قوى أخرى خارج الحلبة, ومن هنا, ومتى ما سيطرت حماس على غزة, فنحن بصدد قيام إمارة حماس في غزة, على غرار إمارة طالبان في أفغانستان..".
ويردف الكاتب قائلا: ".. توحي كل المؤشرات, من الجيش إلى الإعلام إلى الخطاب السياسي للحركة, أنها تتبع أسلوب طالبان في السيطرة على الوضع الفلسطيني برمته, وإزاحة السلطة..". بعد رسم هذه الصورة المثيرة للضحك, يتساءل فندي: "ماذا يعني قيام إمارة حماس في غزة بالنسبة للمنطقة, وبالنسبة لإسرائيل؟". يحاول الكاتب مجددا إثارة حفيظة القيادة المصرية, فيحذر من أن "المتضرر الأول من إمارة حماس ليس إسرائيل, وإنما مصر كجوار لهذه الإمارة الجديدة, بنفس الطريقة التي لم تكن طالبان فيها خطرا على الهند, بل كانت خطرا على باكستان..". ويضيف: "وإمارة حماس لن تقبل بالسلام كما تتبناه خارطة الطريق, فأي دارس لحالة حماس يعرف أنها لا تقبل إلا بفلسطين كلها.. أمل حماس هو تحرير الأرض من البحر إلى النهر. إمارة حماس هي هدية شارون للعالم العربي وهو يخرج من قطاع غزة".
ينتقد فندي المؤيدين لحماس في العالم العربي قائلا إن كثيرين "ممن هم خارج حدود فلسطين يؤيدون سيطرة حماس على الشارع الفلسطيني, ويصفقون لقيام إمارة حماس. ودائما ما أسأل نفسي: كيف يفكر هؤلاء؟". يهتدي فندي إلى تفسيرين لهذا السلوك الشاذ في نظره, الأول أن "هناك الكثير ممن هم في سن الأربعين, وأكبر ممن فاتهم قطار تحزيم أنفسهم بالمتفجرات, قد تضاءلت فرصتهم في أن يصبحوا انتحاريين, ولذلك نجدهم وهم في سن اليأس, يصفقون لأولاد الناس وهم يفجرون أنفسهم". التفسير الثاني أن كثيرين "ممن يحاولون ادعاء الثورية في أرذل العمر, مثل الرجال الذين تصيبهم أزمة منتصف العمر, فتجد بعضهم في سيارة حمراء جالسا إلى جوار فتاة شقراء في عمر بناته. الثوريون في آخر العمر وأرذله هم فئة قريبة من فئة مراهقة العواجيز والتصابي..". ويختم فندي تحليله الفذ بالقول إن قيام "إمارة حماس يعني شيئا واحدا مطابقا لمبدأ شارون في الانسحاب: غزة أولا وأخيرا.. إمارة حماس في غزة هي بداية تدخل خارجي, مثلما هي بداية حرب أهلية فلسطينية".
خاتمة
هناك عدة قواسم يشترك فيها كتاب صحيفة الشرق الأوسط, الذين تمت دراستهم هنا. من أبرز هذه القواسم الهجوم على المقاومة الفلسطينية, سيما التيار الإسلامي في هذه المقاومة. كل الكتاب دعوا صراحة إلى إخضاع فصائل المقاومة الفلسطينية, وقاموا بالتحريض عليها, وقد سفه القلاب استخدام صورايخ القسام لمهاجمة الإسرائيليين, وربط السلاح الاستشهادي بالإرهاب صراحة, بينما استخدم في المقابل وصف "الاستفزاز" للإشارة إلى العدوان الإسرائيلي. الراشد والقلاب انتقدا "عسكرة الانتفاضة", والجميع وصف العمليات الاستشهادية بالانتحارية, وروجوا المصطلحات الأميركية الرسمية المتعلقة بالمشهد الفلسطيني. لقد وضع الكتاب كلهم المقاومة الفلسطينية الإسلامية عمليا في خانة الإرهاب والتطرف.(18/298)
في ما يتعلق بالموقف من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات, فقد اشترك الجميع في توجيه سهام النقد لسياساته ومواقفه. الربعي طالبه بالاستقالة, والراشد دعا العرب إلى دعم القيادة التي خلفته, بدعوى انتفاء موانع مقاطعة القيادة الفلسطينية بعد رحيله. وقد هاجم ثلاثة من الكتاب, وهم الراشد والربعي وفندي موقف عرفات ورموز السلطة من تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط, وأيدوا ما جاء في تقرير لارسن عن وضع السلطة وأدائها.
الراشد والربعي هاجما الشيخ يوسف القرضاوي, لمواقفه الداعية إلى المقاومة في فلسطين والعراق, ووصفاه بالتطرف. كما رددا تقريبا التهم الأميركية الموجهة لسوريا, وحثاها على تفادي الاصطدام مع معطيات الواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال الأميركي للعراق.
الراشد والربعي أيضا دعيا إلى دعم الحكومة العراقية المعينة من قبل الاحتلال. وبينما أثنى الراشد على ما سببه الاحتلال الأميركي من "انفتاح كامل" على الدين, أشاد القلاب "بديموقراطية" الاحتلال, لكنه حذر من جرعاتها الزائدة التي ربما غص بها الشعب العراقي, وناء بحملها.
كان هناك ربط بين المقاومة العراقية والإرهاب في خطاب الكتاب الأربعة, وقد انتقد الجميع حركة مقتدى الصدر, ووقف الراشد والربعي في صف الحكومة العراقية ضد هذه الحركة. ووقف الراشد والربعي تحديدا ضد مقاومي مدينة الفلوجة, ووصماهم بالتطرف. كما انتقدا (وشاركهما فندي) العرب السنة في العراق, لمقاومتهم الأميركيين, ورفضهم المشاركة في الانتخابات. وتعرض العلماء والدعاة السعوديون الذين أفتوا بوجوب نصرة أهل الفلوجة لانتقاد لاذع من قبل الربعي الذي وصفهم بالتحريض على العنف, والتغرير بالشباب.
اتسم خطاب الكتاب الأربعة بالتحريض والتهكم وضيق الصدر بالمختلف والآخر, واتهامه بالتطرف والإرهاب, والدعوة إلى إقصائه وتهميشه, واحتكار الحقيقة المطلقة, وتسفيه ثقافة المقاومة بوصفها تقافة للموت والعدمية والانتحار, والتنكر للهوية الإسلامية التي تلهب جذوة هذه المقاومة, وترسم خطها المستقل. يصدق على هؤلاء الكتاب, وهم أبرز كتاب الشرق الأوسط, وصف "كتاب المارينز" الذين يكتبون وفق إيقاع البنتاغون, ويتحدثون تقريبا بلغة واحدة, في صحيفة تزعم احتفالها بالتنوع, وتمثيل العرب كافة. هؤلاء الليبراليون الجدد لا ينطلقون في كتاباتهم من روح وطنية ولا قومية ولا إسلامية بالطبع, بل يصدرون عن الهوى الأميركي والصهيوني, وهذا ما يجعلهم دائما في الخندق المعادي للمقاومة مفهوما وثقافة وممارسة.
بهذه النتيجة تجيب هذه الورقة عن سؤالها اليتيم: هل أعمدة الرأي في صحيفة الشرق الأوسط تقف ضد نهج المقاومة وثقافتها في فلسطين والعراق؟ الجواب كما يكشف بجلاء طرح الكتاب الأربعة: نعم.
المصادر: أعداد من جريدة الشرق الأوسط, وأشير إلى تاريخ كل عدد داخل النص.
==============(18/299)
(18/300)
إحلال القيم.... الانتخابات نموذجاً
د. إبراهيم الناصر * 17/4/1426
25/05/2005
بسقوط الفكر الشيوعي الذي مثل عقيدة وفكراً (أيديولوجية) لعقود من الزمان، وما تلاه أو سبقه من سقوط منظومات فكرية استظلت بمظلة اليسار تكون الساحة الفكرية الكونية خلصت إلى منهجين أو عقيدتين متقابلتين هما الليبرالية الغربية والإسلام، قدر هذين المنهجين أنهما ضدان لا يتعايشان في مكان واحد، من حيث أن كلا منهما يمثل منهجاً للحياة يشمل تصوراً شاملاً للكون والحياة والإنسان، مبايناً للآخر تماماً، فهما يتنافسان في أن يحقق كلٌ منهما عولمة لمنهجه وإحلالاً لقيمه لدى الآخر والآخرين، تحقيقاً لقول الحق تبارك وتعالى في سورة المائدة عندما ذكر اليهود والتوراة ثم النصارى والإنجيل ثم المسلمين والقرآن المهيمن، قال بعد ذلك: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما أتاكم), ولذا كان من هدي الإسلام مخالفة المشركين عموماً وأهل الكتاب خصوصاً، وعدم التشبّه بهم فيما هو من خصائصهم تحقيقاً للتوحيد وإبطالاً للتنديد.
والنفس البشرية أُلهمت الفجور، كما أُلهمت التقوى أي وجود قابلية النفس البشرية لهما واستعدادها لقبولهما, كما قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وقال عن الإنسان: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) فالإلهام والهداية هما القابلية والاستعداد لدى الإنسان بسلوك طريق الفجور والكفر من خلال الالتزام بالليبرالية أو طريق التقوى والشكر بالتزام طريق الإسلام.
وكون الليبرالية الغربية تتضمن بعض الحقوق الطبيعية الإنسانية مصحوبةً بتلبية رغبات الإنسان وشهواته وجشعه وأنانيته من خلال مبادئها في الحرية والرأسمالية والفردية والحقوق المنفلتة من قيود الشرائع السماوية، يوجد جاذبية إليها ويمد في عمرها؛ لأن الإنسان أُلهم الفجور كما أُلهم التقوى، ومن الفجور التلبّس بقيم الليبرالية وشهواتها، والإنسان إذا لم يحمل الإسلام سيحمل الليبرالية أو غيرها كما قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، وحكم عليه بالخسران إذا لم يؤمن بالله ويلتزم هديه كما قال تعالى: (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) ووصفه بأوصاف السلب والنقص كما في آخر سورة الأحزاب عند عرض الأمانة قال:(وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً)، وقال تعالى (إن الإنسان خلق هلوعاًَ إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين) وغير ذلك من الأوصاف السلبية, وهذه صفات تتوافق مع مبادئ وأهواء الليبرالية الغربية وعموم المناهج الوضعية القائمة على محادّة الله في منهجه والمتعدّية لحدود الله في حكمه وشرعه.
والإنسان بخصاله تلك التي لم يهذبها الإسلام سيجد رغباته بمبادئ الليبرالية الغربية وبيئتها وأهوائها وشهواتها, فهناك إنسان ليبرالي وإنسان مسلم، ولا يوجد مسلم ليبرالي؛ لأن هذا جمع بين الضدين, وهناك منهجان ونظامان للحياة منهج الليبرالية ونظامها، ومنهج الإسلام ونظامه، ولا يوجد منهج ليبرالي إسلامي يكون الإسلام فيه عقائد وعبادات والليبرالية نظام حياة، إلا في أذهان الملبسين الحق بالباطل, المحرّفين للشرائع, المفتونين بحضارة الغرب, الجاهلين بالإسلام وطريقته.
وترويج أن الليبرالية هي بيئة وآليات لا تتعارض مع الإسلام فيه تزوير للحقائق أو جهل بها، وعندما كان أهل الإسلام في قوة إيمان وعزة شأن، كانوا ينشرون مبادئ التقوى والإيمان وقيم الدين في أنحاء المعمورة، وحققوا عولمة لنموذجهم القيمي في مجتمعات كثيرة, وعندما حصل التراجع للمسلمين وانحسر المد الإسلامي بسبب ضعف إيمان المسلمين ونقص دينهم تمكن منهم النموذج الغربي, وفرض العلمنة في معظم مجتمعات المسلمين بقوة السلاح أولاً ثم بنفوذ الفكر، وسعى إلى إحلال قيمه مستفيداً من حالة ضعف المسلمين وانبهار بعضهم به وإعراضهم عن تحذير نبيهم لهم في ذلك عندما قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى قال: فمن), ولو أخذنا الانتخابات بنسختها الغربية كنموذج باعتبارها آلية للديمقراطية الغربية ورمزاً لقيمة غربية, فلن تجد تعليلاً لهذه الدعوة إلى ممارستها بصيغتها تلك في المجتمعات الإسلامية من قبل الغرب - ساسة ومفكرين- إلا هذا التفسير. صحيح أن الساسة الغربيين تحكمهم المصالح على حساب القيم إذا حصل التعارض بينهما، لكن يبقى مبدأ عولمة النموذج وإحلال القيم ثابتاً في مبادئ ودساتير هذه الحضارة؛ فلا غرابة أن يتضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير ومشروع الشراكة الشرق أوسطية منظومة من القيم الغربية في المسألة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأن يهتم الرئيس بوش رئيس الإمبراطورية الأمريكية بانتخابات جزئية في بلد من دول العالم الثالث (الانتخابات البلدية في السعودية)؛ لأنه يمثل حضارة لها رسالة في دعم قيمها كالحرية والديمقراطية، ولو بصياغة لا تتعارض مع أهواء الهيمنة والسلب والنهب للآخرين.(18/301)
هل نستطيع أن نصحح واقعنا ونصلح مجتمعنا بتأسيس قيمي محلي وبفعل ثقافي إسلامي؟ وعندما تقعد بنا حالة الجمود التي تشتملنا وضعف الإبداع الذي يشلّ عقولنا, هل نستفيد من إبداعات الآخرين وطرائقهم بمنهج راشد دون استنساخ، أي بأسلمة النموذج حسب مصطلحات البعض.
إن سُلَّم القيم- بضم السين وفتح اللام المشددة - المعروف لدى علماء الاجتماع يبين حال المجتمع من خلال أفراده عندما تبدأ بعض السلوكيات كظواهر معزولة ثم تنتقل إلى اتجاهات مشهودة ثم تتحول إلى قيم حاكمة، وعند هذه المرحلة يتطبع المجتمع بطبيعة تلك القيم الحاكمة لسلوكه، ولهذا فان المصلحين الواعين لهذه الحقائق يسعون دائماً إلى منع الظواهر والاتجاهات السلبية التي تنشأ في المجتمع من مواصلة تسلّق السلم قبل أن تصبح قيماً، فيسعون إلى ترشيدها وتهذيبها قبل وصولها رأس هرم القيم؛ فيصعب الاقتلاع والتغيير ويحصل التحوّل والتبديل؛ ولذا يصح أن نعدّ صراع التحوّلات في المجتمع أنه صراع قيم, أي إحلال قيم محل أخرى, وهذا الصراع ليس دائماً سلبياً لأنه ليس كل قيمة في المجتمع هي قيمة إيجابية، فالاستبداد في ميادينه المختلفة والفساد المالي والإداري، وبعض قيم القبيلة والعشيرة التي تحكم كثيراً تصرفات الحاكم والمحكوم وبعض القيم الاجتماعية هي قيم حاكمة سلبية، والإصلاح يكون في تغييرها أو تهذيبها كما هي طريقة الإسلام عندما نزل على العرب فغيَّر فيهم قيماً وهذّب أخرى، وهذه مسؤولية المصلحين والمجدّدين من الدعاة والعلماء والمثقفين الراشدين، أما صراع القيم بين دعاة الإسلام ودعاة الليبرالية (العلمانية) فهو في الغالب صراعٌ بين قيم دينية وقيم لا دينية، وفي أحسن الأحوال في المجتمعات المتدينة مثل مجتمعنا هو صراع يبدأ حول الذرائع والمقدمات؛ ولذلك تكثر الدعوة إلى إلغاء باب سد الذرائع، وتتوسع الدعوة إلى باب فتح الذرائع، وهما أصلان محكمان في الشريعة، لكن هاتين الدعوتين في هذين الاتجاهين في هذه المرحلة الاستثنائية تدلان على جهة مؤشر التحوّلات عند أصحابها، والمقصود أن نحذر من إحلال قيم غربية في مجتمعنا على حين غرة أو غفلة أو حسن ظن بمن يسعى إلى ذلك، وليكن لدينا من الفقه بأحوال الواقع ما يجعلنا نميّز بين ما يمكن قبوله وما يجب رفضه، وما يكون مزيجاً من الأمرين فيحتاج إلى ترشيد، والانتخابات هي من النوع الثالث، وقد ذكرت ذلك بأكثر من هذا في ورقة سابقة، ومسؤولية علماء الشريعة ودعاتها وأهل الفكر والنظر في الأمة من المهتمين بالشأن العام يكون في طرح رؤية رشيدة للانتخابات منطلقة من النظر الشرعي أدلة ومقاصد، ومن المواءمة الواقعية، مرونة وملائمة, خاصة إذا كانت البلاد سائرة إلى توسيع هذه الدائرة في ميادين أخرى.
==============(18/302)
(18/303)
دور المرأة في المحن والشدائد
د. ليلى بيومي 5/7/1427
30/07/2006
لا يختلف اثنان أن الأمة العربية والإسلامية تعيش اليوم أصعب فترات حياتها؛ إذ التهديدات الخارجية ومحاصرة الغرب الصليبي لنا، وإعادة احتلال أراضينا بعد أن كنا قد طردناه وحررنا بلادنا من شروره، لكنه بحقده الصليبي، وبتنسيقه مع الصهاينة، عاد إلينا مرة أخرى بشكل أشد شراسة، تحت دعاوى زائفة مثل "الشرق الأوسط الكبير"، وإقامة الأنظمة الديمقراطية والتبشير بالحرية الزائفة.
وفي هذه الظروف، وربما نتيجة لها، تعيش الأمة حالة من التخبط السياسي والاقتصادي والعلمي، يحتاج إلى إصلاح وتنمية وتطوير، وهذا الإصلاح العام في المجتمع الإسلامي يتطلب المشاركة الفعلية للمرأة؛ حيث إنها أكثر من نصف المجتمع، كونها هي مربية الأجيال ومؤسسة المبادئ في نفوس النشء.
وفي نفس الوقت فإن دفع العدوان عن الأمة كما في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والسودان والصومال...الخ يحتاج إلى بذل وتضحية وجهاد.
وهكذا لم يعد لدينا وقت لدعاة العلمانية الذين يدلسون علينا ويوجهون المرأة وجهة غير صحيحة، ونحن، مع ذلك، نعترف أن هناك أفكاراً، ومصالح معينة، وظروفاً تاريخية غير مواتية، أبعدتنا عن الفهم الصحيح لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبعدتنا عن التصور السليم لدور المرأة في مجتمعاتنا؛ إذ تدهورت أوضاع المرأة في مجتمعاتنا -وعبر تاريخنا الإسلامي الطويل- من صحابية جليلة واثقة من تشجيع رسول ا صلى الله عليه وسلم لها، إلى جارية تدب على رؤوس الحكام، ثم إلى دمية تُستعمل في مشروع استعماري محكم.
وربما كانت الظروف الصعبة التي تمر بها بلادنا مدخلاً لأن تحقق المرأة النموذج الرسالي الذي جاء به الإسلام، من خلال مشاركة فاعلة وواعية في إعداد الأجيال الجديدة لتحمل المسؤوليات الجسام، بل ومن خلال المشاركة المباشرة في كل مناحي الحياة، خاصة في هذه المحن والشدائد التي تعيشها الأمة.
المرأة المسلمة حين تقلب الموازين
إن أمتنا اليوم تعيش في حالة هزيمة حضارية وتخلّف على مستوى ضياع الكثير من أراضي المسلمين، واستهداف بلادهم من قبل الاستعمار الجديد، والتجزئة والاستبداد، ونهب ثرواتهم، واختراقهم سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وإعلاميًا وثقافيًا، وبالتالي فإن كل مسلم رجلاً كان أم امرأة مطالب بالاضطلاع بواجبه للخروج من هذه الحالة والانتصار على التحديات وتجاوزها.
ومن نافلة القول التأكيد على أن المرأة المسلمة مطالبة بالجهاد والنضال والمشاركة في معارك الأمة بشرط أن يكون ذلك في إطار الضوابط الشرعية، ولكنني أضيف هنا أن تلك الضوابط الشرعية ليست مطلوبة في حالة المرأة فقط، ولكنها مطلوبة في حالة المرأة والرجل وفي كل موضوع وفي كل قضية.
إن عملية النهوض الإسلامي التي يريد المخلصون منا القيام بها تتعرض لكثير من التشويش والتزييف في محاولة لوأدها، وكلما كثرت أراجيف هؤلاء المشككين وشبهاتهم في قضية ما أدركنا أهميتها وخطورتها، لأنه لولا تلك الأهمية والخطورة لما اهتموا بها.
فهؤلاء المشبوهون مثلاً يثيرون الشبهات حول قضية الجهاد؛ لأنه الطريق الطبيعي والوحيد أمام أمتنا لانتزاع حقوقها واستعادة مكانتها الحضارية وتجاوز التحديات، وهم يثيرون الشبهات حول قضية المرأة في الإسلام؛ لأنهم يدركون أن المرأة المسلمة حين تشارك في الجهاد والنضال الإسلامي العام فسوف تكون عاملاً مهمًا في ترجيح كفة الإسلام على أعدائه في الداخل والخارج، وبالتالي تشكل خطرًا هائلاً على المشروع الاستعماري المعادي للأمة، ورصيدًا ضخمًا للمشروع الإسلامي الذي يستهدف إنهاض الأمة وتجاوز تحدياتها واستعادة سيادتها الحضارية.
وفي هذا الصدد فإننا إزاء تيار رئيس في الأمة الإسلامية المعاصرة يستلهم موقفه الأصيل من الإسلام من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكافة مصادر ووسائل التشريع الصحيحة والمعمول بها، وهذا التيار يعرف للمرأة حقوقها ويدفعها إلى المشاركة الواسعة في معارك الأمة في كل مجال، وعلى جانبي هذا التيار الرئيس هناك تياران هامشيان؛ أحدهما يتمثل في تيار يحبذ الانغلاق والجمود ويخلط بين ما هو شريعة وما هو تقاليد أو عادات، ويريد إخضاع المرأة المسلمة لحالة من السلبية والتهميش والعزلة وحبسها في التقاليد بحسبانها من الإسلام،
والثاني يتمثل في تيار تغريبي مرتبط بالاستعمار يريد أن يحوّل المرأة إلى سلعة تجارية ويجردها من إنسانيتها ويدفعها في طريق الانحلال والتغريب ومعاداة ثقافتها ودينها، ويزعم هذا التيار أنه يريد تحرير المرأة في حين أنه يريد استعبادها وتبعية المرأة والرجل والمجتمع بأسره للاستعمار والخضوع له.
ومن العجيب أن لهذا التيار التغريبي الذي يزعم تحرير المرأة، موقفًا مشينًا من تحرر المجتمع كله من الاستعمار والتبعية، بل إن كل رموز هذا التيار -بلا استثناء- معروفون بعمالتهم للاستعمار والدعوة للخضوع له، ويدعون إلى إلغاء ثقافتنا وهويتنا والانخراط الكامل في ثقافة وهوية الغرب الصليبي.(18/304)
إن الرموز الحقيقية لتحرر المرأة في بلادنا العربية هن اللاتي خُضْنَ المعارك من أجل استقلال بلادهن والدفاع عن الأرض والثقافة والهوية من أمثال للا فاطمة التي قادت انتفاضة مسلحة ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر في أوائل الاحتلال الفرنسي للجزائر، أو شهيدات ثورة التحرير الجزائري 1954 - 1962 أمثال الشهيدة فضيلة سعدان أو أم محمد أو تلك المرأة الفلسطينية التي تشارك في الانتفاضة، أو المجاهدة الفلسطينية الشابة عواطف، أو المرأة السودانية التي تخرج في المظاهرات أو مارست الجهاد ضد التمرد في الجنوب، أو المرأة الأفغانية التي شاركت في تحرير بلادها من الاستعمار الروسي أو المرأة المصرية التي شاركت في الكفاح المسلح ضد الحملة الفرنسية أو شاركت في ثورة 1919 أو تلك التي دخلت السجن دفاعًا عن عقيدتها.
المرأة الفلسطينية نموذجاً
إن المرأة الفلسطينية العادية مارست الجهاد في أعلى صوره؛ إذ سقط العديد من الشهيدات طوال فترات الاحتلال سواء كان ذلك برصاص مباشر من جنود الاحتلال والذين لا يأبهون بقتل النساء، أو عن طريق الغاز الخانق المسيل للدموع أثناء تواجدهن في ساحات المواجهة أو أداء الصلاة في المسجد الأقصى، كما أن المستشفيات لا تخلو من النساء الجريحات من كل الفئات العمرية.
كما لعبت المرأة الفلسطينية دوراً مهما في الجانب الإعلامي والصحفي في إبراز وإظهار الوحشية والقمع اللذين يتعامل بهما جنود الاحتلال الإسرائيلي واستخدام الأسلحة الحية في مواجهة أطفال وحجارة، ونقلت لنا وكالات الأنباء والمحطات التلفازية صوراً لكثير من الفلسطينيات الصحفيات في وسط المواجهات وتحت زخات الرصاص يتابعن أولاً بأول الأحداث في مواقعها، ولا يكاد يخلو تقرير تلفازي مصور عن أحداث هبة الأقصى من مشاهدة لمئات النسوة وهن يعترضن الجنود لدى محاولتهم اعتقال أحد الشبان، كما كانت الصحفيات الفلسطينيات من أوائل الذين قدموا تقارير تلفازية حول المجازر التي ارتكبها جنود العدو الصهيوني وخاصة مقتل الطفل محمد الدرة.
وكما كانت الصحابيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقمن بتطبيب الجرحى وعلاجهم تقوم أيضا المرأة الفلسطينية بشكل تطوعي داخل المستشفيات وخارجها وفي ساحات الانتفاضة بنفس المهمة، من خلال التواجد في نقاط الإسعاف الميدانية التي أقيمت بالقرب من نقاط الانتفاضة، ومن ناحية أخرى تقوم الممرضات بمجهود لا يُستهان به داخل المستشفيات طوال اليوم.
لقد كان أداء المرأة الفلسطينية على سبيل المثال في الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي فازت فيها حماس، أداءً عالياً، استكمالاً لدورها في العمل العام كأسيرة واستشهادية وناشطة اجتماعية، شاركت على مدار العقود الماضية في المشروع النضالي جنباً إلى جنب مع الرجل.
وهكذا فإن من يقول إن الحركات الإسلامية تهضم دور المرأة فهو مخطئ، فالحركات الإسلامية هي من تعطي المرأة حقها أكثر من أي حركات أخرى؛ لأنها تستمد فكرها من الإسلام الذي لم يحرم المرأة من حقها السياسي، وجعل دورها متكاملاً جنباً إلى جنب مع الرجل في كافة مناحي الحياة.
السيدة خديجة ومواجهة المحن والشدائد
السيدة خديجة، أم المؤمنين، - رضي الله عنها - هي أول من عُرفت في الإسلام بالبطولة والشجاعة في الحق، وهي أول امرأة حملت لواء الإسلام، وتحملت في سبيل ذلك ما لا يطيقه إنسان.
بعد الزواج بخير البرية محمد - صلى الله عليه وسلم - بخمسة عشر عاماً نزل الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمنت به، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله، وصدق بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن نبيه- صلى الله عليه وسلم - ، وكان الله يفرّج عنه بها إذا رجع إليها، حيث تثبته وتخفف عنه وتصدقه، وتهوّن عليه أمر الناس.
ولمّا أجبرت قريش بني هاشم عام المقاطعة أن يخرجوا من مكة إلى شعابها، لم تتردد في الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتشاركه أعباء ما يحمل من أمر الرسالة. وعلى الرغم من تقدمها بالسن، فقد نأت بأثقال الشيخوخة بهمة عالية، وأقامت في الشعب ثلاث سنين، وهي صابرة محتسبة للأجر عند الله تعالى. وبهذا فضلت خديجة على نساء أمة محمد كما فضلت مريم على نساء العالمين.
أم سلمة وموقف لا ينسى
قالت له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم انحرِ الهدي، وقصّ الشعر فسيتبعك المسلمون.. ففعل وفعلوا.. وانفكت الأزمة وارتفعت المحنة التي كادت تعصف بقلوب المؤمنين، لولا أن الله تعالى سخر سيدة فاضلة لترتفع المحنة وتزول الشدة على يديها.
إن هذه الواقعة التي يسطرها التاريخ بحروف من نور لأم المؤمنين "أم سلمة" خلال صلح الحديبية، تشير بشكل واضح إلى الدور الكبير الذي تلعبه النساء في أوقات الأزمات والشدائد.
ولا يتسع المجال لاستعراض المزيد من هذه القصص المذهلة، كما أننا لا نحتاج للأمثلة المؤكدة على دور المرأة في الشدائد، فلا تكاد تخلو حياة المرء من امرأة كانت لها وقفات كبيرة الشأن عظيمة المكانة، سواء كانت تلك المرأة أمًا أو زوجة أو حتى ابنة، في المنزل كانت أو في العمل، وعلى المستوى الشخصي أو العام.(18/305)
فعلى المستوى الشخصي، وكمثال بسيط على دور المرأة في المحن والشدائد؛ من الذي يتحمل المسؤولية شبه كاملة في حال ابتُليت الأسرة بطفل معاق، أليست هي المرأة، ومن الذي يتحمل مسؤولية تدبير أمور البيت في حال ضاق الحال بالزوج ولم يستطع الإنفاق على البيت بشكل كاف أو أُصيب بالمرض، أليست هي المرأة؟
ومن النماذج السامقة ما نراه في حالة اعتقال الرجل، - وهذا نشاهده بشكل خاص في فلسطين والعراق - حيث تتحمل المرأة المسؤولية كاملة، وترفض طلب الطلاق على الرغم من الضغوط الخارجية - أحياناً - خاصة من الأهل.
لقد صدق الذي قال "ما من رجل عظيم إلا وراءه امرأة عظيمة"، فالرجل إن لم تتوفر له الراحة والجو الملائم من حيث الهدوء والتشجيع فلن يبدع ويحقق الإنجاز والتفوق، فالرجل الذي يقضي يومه في حل مشاكل بيته ويعيش في اضطراب وقلق بشكل دائم، كيف له أن يجد التركيز ليحقق شيئًا ملموسًا في الحياة.
ولهذا كان خير متاع الدنيا المرأة الصالحة، وبالطبع فإن صلاح دين المرأة يشمل سلوكها وأخلاقها وموقفها من زوجها وتربيتها لأبنائها وصبرها في المحن والشدائد الخاصة بأسرتها أو بأمتها.
أم عمارة نموذج فدائي لا يموت
ونتوقف هنا قليلاً للحديث عن نموذج نسائي فريد، نقدمه لبناتنا ونسائنا في العصر الحديث وهن يعشن مآسي الأمة وإحاطة الأعداء بها، علهن يأخذن منها القدوة والمثل في كيفية مواجهة أعدائنا والدفاع عن مقدساتنا وثرواتنا واستقلالنا الوطني.
إن هذا النموذج النسائي الفريد هو نسيبة بنت كعب، وهي أم حبيب وعبد الله ابني يزيد بن عاصم. لم تكن مشاركتها في غزوة أحد ودفاعها عن صلى الله عليه وسلم أول ولا آخر تضحياتها في سبيل الله. فقد كانت إحدى امرأتين وفدتا مع ثلاثة وسبعين رجلاً إلى مكة للقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبايعته عند العقبة. فهي من المبايعات على طول المدى. فقد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان عند الشجرة التي رضي الله عن كل من بايع تحتها وأثبت ذلك في محكم التنزيل.
وخرجت نسيبة إلى غزوة أحد مع زوجها وولديها فقاتلت قتالاً شديداً وجرحت اثني عشر جرحاً، وأظهرت في قتالها شجاعة نادرة نالت إعجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن رآها من أصحابه تصول وتجول وتضرب بسيفها هنا وهناك ومعها زوجها وولداها يساعدونها في قتال العدو.، وكانت نسيبة تدور تسقي المقاتلين، فلما تحوّل الحال وانهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصفوة الذين أحاطوا به. فلما ولى الناس عن النبي جاء ابن قمئة يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا، فتصدت له أم عمارة ومصعب بن عمير وآخرون ممن أحاطوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فكان ما كان من إصابتها.
ولقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه المسلمة المحتسبة فقال: "ما التفتُّ يميناً ولا شمالاً إلا رأيت أم عمارة تقاتل دوني.
وتمضي الأيام والسنون وترتفع راية الإسلام. ويفتح المسلمون مكة بإذن الله وعونه. ويلحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، وينقلب المرتدون المنافقون على أعقابهم، فكانت معركة اليمامة وهي من أشرس المعارك على المسلمين وفيها قتل ابنها حبيب. فمضت تطلب قتل عدو الله مسيلمة الكذاب، فإذا هو قتيل، وإذا عبد الله ابنها الآخر هو الذي أخذ بثأر أخيه، وخلص الإسلام من رأس الفتن
==============(18/306)
(18/307)
عندما تذهب السكرة ...وتجيء الفكرة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فقد فجَّر العدوان اليهودي على أرض لبنان المسلمة عدداً من القضايا والتساؤلات والاختلافات على ساحات مختلفة، لكون هذا العدوان جاء من طرف متفَق على عداوته ووجوب محاربته، بينما جاءت المواجهة من طرف مختلَف عليه من حيث أمانته على مصالح الأمة العامة، وتزايد الشكوك حول أجندته الخاصة.
وربما يظل هذا الاختلاف قائماً لأمد غير قريب، حتى تُظهر الأحداث الواقعة على الأرض، ما تخفيه الخطط والتدابير، مما هو مغيَّب مستور؛ فهذا شأن الفتن: إذا أقبلت لا يعرفها إلا العقلاء، وإذا أدبرت عرفها كل الناس. والفتنة هنا تتلخص في أن (حزب الله) هو صناعة إيرانية خالصة في أهدافها ووسائلها وإمكانياتها، ولا يكاد يجادل في ذلك إلا مكابر. وقد أدرك العارفون من خاصة وعامة أن الدولة الإيرانية لم تكن يوماً أمينة على مصالح الأمة بشكل عام؛ فالأمانة لا تتجزأ ولا يمكن أن تُخلِص إيران للأمة في لبنان بينما هي تخونها في العراق وأفغانستان، ولا يمكن في الوقت نفسه أن يقاتل الإيرانيون أعداء الأمه - لصالح الأمة - في لبنان، بينما يقاتلون إلى جوار أعدائها في العراق وأفغانستان.
ومما زاد في الفتنة والالتباس أن ما يعرف بـ (المقاومة اللبنانية) اليوم، هي نفسها التي زرعتها إيران وأحلَّتها محل المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان بدءاً من عام 1982م، وشارك الشيعة من خلال (منظمة أمل الشيعية) في حرب المخيمات ومجازر صبرا وشاتيلا، في محاربة الفلسطينيين واقتلاعهم من الجنوب اللبناني بالتحالف مع النصارى والنصيريين الذين يحكمون سورية. واليوم يرفع شيعة لبنان شعار (تحرير جنوب لبنان) على أنقاض شعار (تحرير كل فلسطين) الذي أُنهِيَ بإخراج المقاومة الفلسطينية (حركة فتح) من الجنوب اللبناني بعد تشتيتها في تونس واليمن والسودان؛ حيث لم تعد بعدها إلا رافعة الراية البيضاء مكان راية النضال والفداء، سالكة دروب الاستسلام من مدريد إلى أوسلو. ولم يكن هذا الدور التآمري الواضح ضد الفلسطينيين بالاشتراك مع اليهود والنصارى والنصيرية؛ إلا لقطع الطريق على المشروع الجهادي الفلسطيني السُني، لحساب المشروع اللبناني الشيعي، ليبقى الشيعة في واجهة القضية الإسلامية الكبرى في عالم اليوم، وهي قضية فلسطين. لكن أقدار الله ـ تعالى ـ جاءت على عكس ما يشتهي المتآمرون؛ حيث انبعثت من داخل فلسطين مقاومة جديدة سنية، مارست خلالها منظمة حماس مقاومة حقيقية تحت راية نقية لا تتخفى وراء تقية أو أجندة خفية.
وللحقيقة فإن اختلاف الناس في شأن الحرب التي اندلعت بين دولة اليهود المعتدية وبين (حزب الله) لم يأت من فراغ... فالمتعاطفون معذورون؛ لأنهم لم يروا من كل الدول المحيطة بدولة الأعداء الصهاينة من ينكي فيهم بهذا الشكل من الإقدام والجرأة رغم ما لدول المواجهة تلك من جيوش جرارة على الحدود، تقف وراءها جيوش جرارة أخرى خلف الحدود، لها من الإمكانيات الإضافية ما كان يكفي للتنكيل بهذا العدو الجبان على مدى أكثر من خمسين عاماً أضعاف أضعاف ما حدث على أيدي المقاتلين من شيعة لبنان رغم ضعف قوتهم وضعف معداتهم مقارنه بقوات ومعدات تلك الجيوش.
* أما المحذِّرون المتحفظون فهم يرفضون ابتداءً الطغيان الصهيو أمريكي في المنطقة، ويدركون أبعاد مشروع الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد، ويوجبون مقاومته بكل ألوان المقاومة، ويفرحون بكل نكاية تثخن العدو وتزيد من جراحه وآلامه؛ ويرفضون أيضاً استهداف لبنان بالتدمير الوحشي الذي أهلك الحرث والنسل، كما يرفضون سلبية الأنظمة العربية وعجزها.
* وهؤلاء المحذرون المتحفظون لديهم قناعة راسخة بطغيان اليهود واستكبارهم ونقضهم للعهود والمواثيق، ويدركون أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الأعداء؛ فالضعفاء والعجزة لا مكان لهم في ظل شريعة الغاب.
* ومع تحذيرهم من الانسياق الكامل وراء العواطف والظواهر فإنهم معذورون؛ لأنهم لم يستطيعوا تجاهل الحقيقة القائلة بأن دماء مئة ألف من أهل السنة التي تراق في العراق على أيدي أولياء إيران في العراق لم تلقَ أي إدانة من أولياء إيران في لبنان.
* وهم معذورون كذلك عندما يرون أن هناك مزايدة واضحة على المجاهدين الحقيقيين المخلصين للأمة سواء كانوا في فلسطين أو العراق أو أفغانستان؛ فبينما كان موقف المقاومة اللبنانية الشيعية مخزياً من المقاومة الإسلامية في العراق حتى قال (نصر الله) عنهم إنهم (صداميون تكفيريون)؛ فإنه أيضاً - أي نصر الله وأتباعه - لم يُعرَف لهم موقف تضامني واضح من المقاومة الفلسطينية غير الشعارات والتصريحات التي قصارى ما تفعله في النهاية أن تصور المقاومة اللبنانية على أنها هي القدوة والمثل الأعلى للمقاومة الفلسطينية، كما ردد زعيم (حزب الله) غير مرة.(18/308)
* والمحذِّرون المتحفظون معذورون أيضاً وهم يرون أن (النعرات الطائفية) التي ينادي بعضهم بعدم إثارتها مع (إخوانهم الشيعة) لم يثرها إلا هؤلاء المتشيعون، ليس بالكلمات والتصريحات فقط، وإنما بالاغتيالات والتحرشات والتحالفات مع كل الأعداء ضد مخالفيهم في الفكر والمذهب، دون أن تكون هناك أي مبادرة لإيقاف هذه النعرات من إيران، ولا ممن يأتمر بأمر إيران.
* والمحذرون المتحفظون معذورون كذلك وهم يرون خيوطاً واضحة تربط بين توقيت ما حدث في لبنان، مع توقيت ما يحدث في العراق ولبنان؛ حيث غطت غيوم تلك الحرب على أخطر ملفات المرحلة الراهنة وهي ملف اغتيال الحريري والملف النووي الإيراني وملف (التطهير) العرقي في العراق، وكلها ملفات تصب فقط في مصلحة الطائفة الشيعية إماميةً كانت أو علوية (نصيرية).
* والمحذِّرون المتحفظون أيضاً معذورون وهم يشاهدون ويسمعون ويفهمون بما يصل إلى اليقين، أن منظومة الفكر الشيعي هي منظومة مناوئة لأهل الحق في الأمة بدءاً من أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة وغيرهم من عموم الصحابة رجالاً ونساءً ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ إلى حد تكفيرهم والمناداة بالبراءة منهم ومن تابعيهم، ومن سار على نهجهم من أهل السنة في كل مكان بزعم أنهم (النواصب) أعداء أهل البيت، مع التوعد الشديد والأكيد بالثأر والانتقام منهم رجالاً ونساءً، أمواتاً وأحياءً... هذه المنظومة الفكرية المنحرفة بل الموغلة في الانحراف والابتعاد هي هي... نعم! هي هي المنظومة الفكرية نفسها التي يدين بها ويعمل لها شيعة اليوم ومن ضمنهم منسوبو (حزب الله)، هؤلاء الذين اختطفوا لأنفسهم تسمية قرآنية، حسم القرآن أوصاف حامليها، ملخصاً إياها في قول الله ـ تعالى ـ: ((إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)) (المائدة: 55 - 56).
فالذين (يتولون) الله ورسوله والذين آمنوا - وعلى رأسهم الصحابة - هم حزب الله، ولا يمكن أن ينطبق وصف (حزب الله) على الذين (يتبرؤون) من الذين آمنوا وعلى رأسهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذا منطق القرآن الذي لا يُقْبَل تجاوزه او الجدال فيه.
* والمحذِّرون المتحفظون يخافون على الأمة من أن يتحول الانبهار بـ (بطولات ما يعرف بـ «حزب الله») إلى انبهار بالمنظومة الفكرية التي يتبناها ويعمل لحسابها هذا الحزب؛ وفي هذا ما فيه من خطر يعلم الجميع ضرره الفادح، وهو خطر المد الفكري الشيعي الذي يُتَوَقَّع أن ينتعش بعد انتهاء الحرب؛ حيث ستنحسر آثارها العسكرية عن آثار فكرية سيحرص القوم على استغلالها واستثمارها. والتاريخ يثبت في القديم والحديث أنه ما من بطولة شخصية، حقيقية كانت أو وهمية، إلا وتحولت في الغالب إلى (منظومة) فكرية أو روَّجت لها، هذا ما حدث مع (كمال أتاتورك) الذي مهدت بطولاته المزيفة للقومية الطورانية والفكرة العلمانية في الديار التركية، وهو ما حدث أيضاً مع (جمال عبد الناصر) الذي ساهمت بطولاته الوهمية أو المضخَّمة في دفع فكرة القومية العربية، ويقال مثل هذا أيضاً عن (هتلر) والنازية، و (ستالين) والشيوعية، و (الخميني) والأفكار الثورية الشيعية، ونحو هذا كثير.
* والمحذِّرون المتحفظون، يشفقون على الأمة من أن تقع في إثم خذلان المجاهدين الحقيقيين في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وغيرها؛ أولئك الذين لن يضرهم - بإذن الله - من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قائمون، فهؤلاء هم الأبطال حقاً، وهم أنصار الدين حقاً، وهم حزب الله حقاً، شرعاً وعقلاً؛ لأنهم هم الذين يجاهدون ويبذلون ويضحون، دون حسابات خاصة، ودون تبعية أو عصبيه لأية حمية، عنصرية كانت أو مذهبية، ودون أن تكون وراءهم أيضاً قوة دولية أو إقليمية أو محلية، تقف معهم أو تدربهم أو تسلحهم أو تمولهم، ودون أن يكون لهم ظهير ونصير غير الله تعالى، في عالم يتنكر لهم، وعامةٍ لا تعرف قدرهم، وخاصةٍ قلما تنتصف لحقهم. إن أولئك الأحرار الأبرار، هم أرباب البطولة الحقة الذين أرغموا أنف العدو الكبير - أمريكا - التي تساند العدو الحقير ـ الصهاينة ـ دون أن يكون لهم جيش ولا دولة ولا أرض ولا مصدر دائم للإعداد والإمداد.
* والمحذرون المتحفظون ـ مع ذلك كله ـ يرون المبادرة إلى إغاثة المنكوبين المستضعَفين، ومدّ يد العون للشيوخ والنساء والأطفال، وتخفيف جراحاتهم ومعاناتهم؛ فرفع الظلم مطلوب شرعاً.
ستذهب السكرة وتجيء الفكرة، وعندها:
* سيرى الناس أن هذه الحرب قد خطط لها طرفان رئيسان، هما المستفيدان الوحيدان مما جرى بسببها من دمار وخراب:
الطرف الأول: هم الأمريكيون الذين قال مسؤولوهم: إن هذه الحرب، هي البداية لتشكيل (الشرق الأوسط الجديد) الذي يريدون فيه تأمين قاعدتهم العسكرية الكبرى (في الأرض المحتلة).(18/309)
والطرف الثاني: هو إيران التي أرادت أن تشغل العالم عن مخططها الإجرامي في العراق، وعن برنامجها الرامي إلى امتلاك السلاح النووي في أقرب وقت ممكن؛ حيث اشترت وقتاً ثميناً بهذه الحرب، وتركت للشعب اللبناني دفع فاتورته من دمائه وأمواله واستقراره ومقدراته.
* وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة: سيكتشف الناس أن أحداث لبنان، ما كانت إلا بداية لمرحلة جديدة من مشروع مد شيعي قديم جديد، يريد ضم لبنان إلى هيمنة إيران، مثلما حدث في العراق ليتحقق بذلك ما سبق أن خطط له أصحاب مشروع (إيران الكبرى) الممتدة من البحرين إلى حدود فلسطين، في هلال شيعي يسمح بتطويق الجزيرة العربية مهد الإسلام الصحيح.
* وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة: سيعلم الناس أن هناك مشروعين يتنافسان على قيادة الأمة نحو التغيير: أحدهما: يقوم على الحق والسُّنة، والآخر: يقوم على الباطل والبدعة، وأن المشروع الأول الذي أُسِّس على الحق من أول يوم، هناك إصرار على الإضرار به، والتغطية عليه لحساب (مشروع الضِّرار) الآخر المشيَّد على أنقاض أعراض الصحابة، حَمَلَة الدين، وواسطة الرسالة، وسادة أهل الجنة بعد الأنبياء.
إن الحق أبلج والباطل لجلج، وحُق لقوم جعلهم الله شهداء على الناس ليكون الرسول عليهم شهيداً ألا يضيع الحق فيهم، انسياقاً وراء العواطف، والتفافاً على الصواب، بما يسوِّغ في الناس تعظيم البدعة، وتوهين السنة مع من يحمونها من مجاهدين وعلماء ومصلحين، تطاولت عليهم الألسن التي تقاصرت عن غيرهم من الذين لا يُرجى نفعهم ولا يُتوقع إخلاصهم للسواد الأعظم من الأمة.
فاللهم ألهمنا رشدنا، واهدنا سواء السبيل، وثبتنا عليه حتى نلقاك، غير خزايا ولا مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين... آمين
========================(18/310)
(18/311)
الشرق الإسلامي بين المشاريع الرومانية والأطماع الفارسية
الحمد لله رب العالمين ؛ خلق الخلق بقدرته، وقضى فيهم برحمته وعدله ، لا يقع شيء إلا بأمره، ولا يقضى شأن إلا بعلمه ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)) أحمده على ما هدانا وأولانا ، وأشكره على ما أعطانا وآوانا ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ لم يقدره الخلق حق قدره، ولا عبدوه حق عبادته ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدا عبد الله ورسوله ؛ أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه ؛ فإن العباد مهما بلغوا مفتقرون إلى ربهم ، محتاجون إليه في كل لحظة وحين ، وإذا اشتدت المحن ، وعظم الكرب ، فلا فرج ولا مخرج إلا بالله العليم القدير ((قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فذل فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) (يونس : 32،31).
أيها الناس: لقد أنعم الله تعالى على البشر عامة بدين الإسلام الذي هو الرحمة والعدل ، ثم كانت النعمة الخاصة لمن أسلم دينه لله تعالى، واتبع الحق من ربه، وجانب الباطل بأديانه المختلفة، ومذاهبه المتعددة، فانخلع من أدران الوثنية ، ومن أوضار الأديان المحرفة، وسلم من ظلمات الإحداث والبدعة، فكان إسلامه نقيا صافيا كما شرعه الله تعالى وارتضاه ، وأنزله على رسولهمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتلك نعمة لا يدرك كثير من المسلمين عظمها وقدرها ، فلا يشكرون المنعم علينا بها ((قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) (الحجرات: 17) .
إن العرب في جاهليتهم لم يكونوا شيئا يذكر ، ولا أمة تعرف فتهاب ، ولم يحسب الآخرون لها أي حساب؛ لأنهم كانوا قبائل متفرقة ، وعشائر متناحرة ، يفني بعضهم بعضا في سبيل ناقة عقرت، أو خيل سبقت، أو كلمة قيلت ، وكانت السيادة للفرس والروم.
لقد كانت القبائل العربية المتاخمة لبلاد الفرس أو لبلاد الروم تابعة لإحدى هاتين القوتين العظميين آنذاك ؛ فملوكهم يعينون بقرارات من قصور الأكاسرة والقياصرة ، وأبناؤهم يرمى بهم بين السيوف والرماح لصنع أمجاد ليست لهم ، وإنما هي لملوك الفرس والروم ، فاصطنع الفرس قبيلة لخم اليمانية ومنحوا رؤساءها لقب (الملوك) فكان منهم ملوك المناذرة, واصطنع الروم قبيلة تنوخ العدنانية ومنحوا رؤساءها أيضا لقب (الملوك) فكان منهم ملوك غسان ، وكم أهريقت من دماء لأبناء هاتين القبيلتين وأحلافهما في سبيل عرشي كسرى وقيصر.
والحرب بين فارس والروم قديمة قدم دولتيهما ، تكون الغلبة للفرس تارة، وتارة أخرى تكون الغلبة للرومان.والفرس أسبق في الدولة والقوة من الرومان ، ولما سُبي اليهود بأيدي البابليين ونُقلوا إلى العراق أعادهم أمبراطور فارس قورش الإخميني إلى فلسطين قبل ميلاد المسيح عليه السلام بخمسة قرون وزيادة ، وكان ذلك أول تقارب تاريخي بين الفرس واليهود ، و قبل الميلاد بثلاثة قرون وزيادة قامت للرومان دولة وثنية قوية على يد الإسكندر المقدوني الذي يعده الأوربيون أعظم قائد روماني في التاريخ ، فقضى على دولة الفرس ، وضمها إلى مملكته ، ولكن الفرس أعادوا دولتهم بعد قرن من الزمان ، وقويت دولتهم بعد قرون خمسة في عهد الساسانيين، وظلت الحروب والثارات مشتعلة بين الفرس والروم قرونا تباعا ، وكانت قبائل العرب من حطب حروبهم.
وبعد بعثة صلى الله عليه وسلم شن كسرى الفرس إبرويز حربا ضروسا على الروم استولى فيها على بلاد الشام ومصر , وسلب الرومان صليبهم الأكبر، ونقله من بيت المقدس إلى المدائن عاصمة الفرس , وهذه الحادثة هي التي ذكرت في القرآن ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) .(18/312)
أي: غلبهم الفرس، وسيُغلب الفرس على أيدي الرومان بوعد من الله جل جلاله ، ووقع ذلك ؛ إذ تولى هرقل عرش القياصرة فشن حربا ضروسا على الفرس استرد بها الشام ومصر , وهاجم الفرس في بلادهم ، وكسر قوتهم ، واستولى على أموالهم ، وفرض الجزية عليهم. ووضعت الحرب أوزارها بين الفرس والروم ليبدأ عهد جديد على أيدي المسلمين ؛ إذ بشر صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد الفرس وبلاد الروم فقال عليه الصلاة والسلام : (( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله))[1].
وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم ((لئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى)) .
وبشر عليه الصلاة والسلام أول جيش مسلم يغزو الروم فقا صلى الله عليه وسلم : ((أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم))[2].
وأخبر عن الاستيلاء على قصر كسرى فقال عليه الصلاة والسلام : ((عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى ))[3].
ولما وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والمشركين عقب صلح الحديبية كتب صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم آنذاك يدعوهم إلى الإسلام ومنهم كسرى وقيصر ، فأما كسرى فأخذته العزة بالإثم ، واستكبر ذلك واستعظمه ؛ لما قام في قلوب الفرس من احتقار العرب ، والإزراء بهم، فمزق كتاب صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم أن يمزق الله ملكه كل ممزق.
وأما قيصر الروم فقد مشى من حمص إلى القدس شكرا لله تعالى لما نصره على الفرس ، فورد عليه كتاب صلى الله عليه وسلم وهو في بيت المقدس ، ثم طلب أحدا من العرب يسألهم عن صلى الله عليه وسلم ، فكان المسؤول أبا سفيان قبل أن يسلم ، وجرت المحاورة المشهورة التي أعلن فيها هرقل صدق صلى الله عليه وسلم وقال لأبي سفيان: ( وإن يك ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدميه) وكاد هرقل أن يسلم لولا خوفه على ملكه فخسر الإسلام وما بقي له الملك .
وبعد وفاة صلى الله عليه وسلم ، ووفاة الصديق أبي بكر رضي الله عنه ، وفي خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه كسر المسلمون الروم في وقعة اليرموك وفتحوا الشام وبيت المقدس بقيادة خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما ، وودع هرقل سورية وداعا لا لقاء بعده.
ثم كسر المسلمون الفرس في القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وتتبعهم سعد في مواقع كثيرة إلى أن فتح الله عليه المدائن عاصمة الفرس ، وأخضعها للإسلام ، ودخل سعد قصر كسرى الأبيض الذي بشر صلى الله عليه وسلم بفتحه ، وصلى سعد رضي الله عنه في إيوانه.ثم قضى المسلمون على تجمعات الفرس في نهاوند بقيادة النعمان بن مقرن المزني رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين للهجرة.
وهكذا انتهت الدولتين العظميين آنذاك فارس والروم على أيدي أهل الإسلام ، وأما شعوب هاتين الدولتين ، فكثير منهم دخلوا في دين الله تعالى ، وبقي كثير منهم تحت حكم المسلمين بعقد الذمة ، ثم أسلم أكثرهم لما عرفوا الإسلام، ورأوا عدل المسلمين فيهم ، ورحمتهم بهم ، حتى كانوا أرحم بهم من ساستهم الذين حكموهم من قبل ، وبعضهم هاجروا إلى بلاد لم يصلها الإسلام ، وبعضهم أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وعمل هؤلاء المنافقون الباطنيون على زعزعة المسلمين من داخلهم ببث الفرقة بينهم ، ونشر الأراجيف فيهم.
وذات يوم ظهر الحقد الفارسي المجوسي على عمر رضي الله عنه الذي فتحت فارس في خلافته؛ إذ طعنه غلام مجوسي كان يمسح على رؤوس الصبيان الفرس ويقول : أكلت العرب كبدي، أكل عمر كبدي ، فغدر بالمسلمين وقد أمنوه ، وقتل خليفتهم وهو يصلي بالناس ثم قتل نفسه.
وبعدها بسنوات قلائل أظهر ابن سبأ اليهودي المنافق نقمته على عثمان رضي الله عنه ، وأتبعها بادعاء التشيع لآل البيت ، حتى علا كعبه ، وظهر أمره ، وزاد أتباعه ، فسار على رأس فتنة قتلوا فيها الخليفة عثمان رضي الله عنه ، ومن ثم فرقوا الأمة ، وقسموها إلى طوائف ومذاهب ، واستحسن كثير من الفرس التمذهب بالمذاهب السبئية الباطنية التي تدعي التشيع لآل البيت ؛ بغضا للعرب، ومخالفة لهم ، لا محبة لآل البيت . وتبعهم في ضلالهم هذا كثير من دهماء العرب وجهالهم، وعادت العنصرية الفارسية لأهلها من جديد رغم أن الإسلام ألغى العنصريات والعصبيات الجاهلية، وكانت هذه المذاهب الباطنية قد استمدت أكثر عقائدها من عقائد اليهود ومبادئهم وكان هذا هو التقارب الثاني بين الفرس واليهود.
وبلغ من عصبية الباطنيين وحقدهم أنهم مالئوا أعداء الإسلام على المسلمين طوال تاريخهم ؛ فالعبيديون الباطنيون في مصر والشام سلَّموا رقاب المسلمين للصليبيين في الحملة الصليبية الأولى، ولم ينج من سيوف الصليبيين إلا حاكم بيت المقدس من قبل بني عبيد وحاشيته وأهله ؛ إذ خرجوا من القدس سالمين بأعين الصليبيين الذين قتلوا كافة المسلمين.(18/313)
وإخوانهم القرامطة المجوس هم الذين قتلوا الحجاج في حرم الله تعالى يوم التروية ، وردموا بجثثهم بئر زمزم، واقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم ، وخطب رأسهم أبو طاهر القرمطي المجوسي على باب الكعبة مدعيا الربوبية ، مستهزئا بسورة الفيل ، سائلا عن الطير الأبابيل ، عليه من الله ما يستحق.
ونصير الدين الطوسي والمؤيد ابن العلقمي سهّلا للتتر غزو بغداد والقضاء على الخلافة العباسية في مؤامرة قذرة حفظها التاريخ للباطنيين، والصفويون المجوس استعانوا بأعدائهم الرومان ضد خلافة بني عثمان ، وكانوا من أهم الأسباب التي حالت دون فتح العثمانيين لأوربة الغربية ؛ إذ وقفت جيوش بني عثمان على أبواب فينا بسببهم ، وللفرس المجوس وأتباعهم من الباطنيين العرب صولات وجولات وخيانات أيام الاستعمار الغربي لبلاد أهل الإسلام ، ولا زال كيدهم ومكرهم بأهل الإسلام إلى يومنا هذا ، وظهر لكل الناس في الحملة الاستعمارية الإنجيلية الجديدة دور الفرس في إسقاط العراق وبلاد الأفغان تحت أقدام الاحتلال ، ومفاخرتهم بذلك وإعلانه على الملأ دون حياء ولا مواربة ، ومن ثم عملوا من الجرائم البشعة بأهل الإسلام ما هاب المحتل الصائل أن يعمل مثله ، فهذه حال الفرس المجوس مع المسلمين .
وأما الرومان فقد سيروا للمشرق المسلم خلال مئتي سنة ثماني حملات صليبية كبرى ، وقضوا على الإسلام في الأندلس، وأبادوا المسلمين فيها ، ونصَّروا من سلم من الإبادة والتهجير وعقب سقوط الخلافة العثمانية انتهبوا أمصار المسلمين ، وقسموها بينهم فيما عُرف بالاستعمار والانتداب الأجنبي، وما خرجوا منها إلا وقد سيطروا عليها سياسيا وعسكريا واقتصاديا ، ولا زال هذا دأبهم إلى يومنا هذا.
تلك كانت أبرز العناوين في علاقة المسلمين بالفرس وبالروم وأهم الملامح من تاريخ الصراع الروماني الفارسي الذي يوشك أن يندلع من جديد على أراضي المسلمين ؛ ليكون حطبه بلاد أهل الإسلام وأبناءهم ومقدراتهم ، كما كان العرب في جاهليتهم حطبا لحروب فارس والروم.
حفظ الله بلاد المسلمين من كل سو ومكروه، وأدار الدائرة على أعدائهم ، إنه على كل شيء قدير
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله - أيها المسلمون - وأطيعوه ، واشكروا نعمه ولا تكفروه : ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ )) (الزمر : 65،66) .
أيها الناس: في كل أمة من الأمم ، وفي كل جنس من أجناس البشر أبرار وفجار ، وخيار وأشرار، وكما كان في العرب أبو جهل وأبو لهب كان في الفرس وفي الروم كفار ككفار العرب، وكما كان في العرب مؤمنون صالحون كان في الفرس والروم مؤمنون صالحون، يتقدمهم في الإيمان والهجرة والصلاح: سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، اللذان سبقا إلى الإسلام قبل عزِّ المسلمين ، وقبل ذلة الروم وفارس، فرضي الله عن سلمان وعن صهيب.
بيد أن الدولة الفارسية المستقوية في هذا العصر قد قدمت عصبيتها لعرقها على إسلامها، ولا زالت تفاخر بفارسيتها على لغة القرآن، وتسعى جاهدة لإعادة الأمجاد الفارسية التي قضى عليها الإسلام ، ويكفي فيهم أنهم يفاخرون بالمجوسي الذي قتل عمر رضي الله عنه، ويعدونه من شهدائهم وهو لم يدخل في الإسلام ، ولم يسجد سجدة واحدة لله تعالى. ولا زالوا يزرون بالصحابة رضي الله عنهم ويكفرونهم ويلعنونهم ، وأشد ما تكون نقمتهم على عمر وسعد بن أبي وقاص؛ لأن فتح فارس، وإطفاء النار التي كانوا يعبدها أجدادهم إنما كان في خلافة عمر، بقيادة سعد، رضي الله عن عمر وعن سعد وعن الصحابة أجمعين.وقد تواردت أخبار مذابح جماعية في العراق لكل من كان اسمه عمر ولو كان فاسقا أو زنديقا فضلا عن أن يكون مسلما صالحا.
وإذا كانت قبائل العرب في الجاهلية وقودا لحروب فارس والروم ؛ فإن التاريخ يعيد نفسه في الأحداث المعاصرة؛ إذ أضحت بلاد العرب والمسلمين موقع تصارع وتنافس بين القوتين الفارسية الباطنية، والرومانية الإنجيلية الصهيونية.
وليعلم من اختاروا المذاهب الباطنية من أبناء العرب، وانضووا تحت لواء الأمة المجوسية، وكان ولاؤهم لها أعظم من ولائهم لدولهم ، ليعلموا أن مذهب المجوس يقوم على العنصرية للعرق والجنس فلا مكان لهم فيه ، ومهما قدموا للفرس فلن يحظوا عندهم بشيء؛ لأن أصولهم ليست فارسية، إنْ هم إلا أجراء وعمال ينفذون المخططات الفارسية فحسب ثم يُلفظون كما لُفظت قبائل العرب المنضوية في الجاهلية القديمة تحت اللواء الفارسي ، بل إن في عقائد الفرس الجدد أنهم متى تمكنوا أبادوا غير جنسهم ممن هم يدينون بدينهم ، ويتمذهبون بمذهبهم الباطني ، فاتباع المذهب لا يلغي العصبية، ولا سيما إن كان العرق عربيا ، والعرق عندهم فوق الدين.(18/314)
وليعلم من اختاروا الترويج والتمكين للمشاريع الإنجيلية الصهيونية في بلاد المسلمين تحت ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير أو الجديد ، أنهم مجرد عمال وخدم يجري استخدامهم وانتعالهم ثم استبدالهم، وليسوا أكثر من غساسنة جدد عند رومان جدد ، ولا يزال الرومان يحتقرونهم أبد الدهر.
وما أضحت بلاد أهل الإسلام ومقدراتهم ألعوبة في أيدي الأعداء، وميدانا لتنافس جديد بين الفرس والرومان في هذا العصر إلا بسبب الذنوب والمعاصي التي أورثت المسلمين ذلا وصغارا وتفرقا حتى هانوا على أعدائهم..عصوا الله تعالى فذلوا وهانوا، وتفرقوا واختلفوا فضعفوا واستكانوا ، ولا يزالون متربصين ينتظرون ما تسفر عنه هذه الحروب المشتعلة التي تطحن بلادهم، وتستنزف أموالهم ، وتخرب عمرانهم، وثمراتها لغيرهم، وعلقمها عليهم، ولا حول لهم ولا قوة إلا الانتظار والتربص فهم غير قادرين لا على الفعل، ولا على رد الفعل، ولا على إيقاف الحرب، نعوذ بالله من الذل والهوان ، ولا مخرج من ذلك إلا بالتوبة من الذنوب، واللجوء إلى الله تعالى، وإزالة أسباب الفرقة والاختلاف، وكل ما يجري نحن مسئولون عنه أمام الله تعالى ثم أمام التاريخ بذنوبنا وبما كسبت أيدينا، فتوبوا إلى الله أيها المسلمون لعلكم تحفظون وتنصرون ((عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً)) (النساء :84).
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
[1] متفق عليه.
[2] رواه البخاري .
[3] رواه مسلم .
=====================(18/315)
(18/316)
غزَّة وابن تيمية والنشيد الوطني الصهيوني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه..أما بعد :
1) فقبل ثمانية قرون تقريبا ، مرّ العلامة المحقق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله بغزّة ، وعقد في جامعها ( لعله العمري ) مجلسا علميا كبيرا ، فتعلق أهل غزّة به ، وسأله أميرها المنصوري أن يضع له برنامج عمل سياسي إسلامي ، فأجابه ابن تيمية رحمه الله إلى ذلك ، وحرّر له مشروعا متكاملا في هذا الشأن ، كتبه في ليلة واحدة ، وقدمه له صلاة الفجر ، واشتهر وانتشر تحت مسمى : (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) ، وهو الكتاب القيم المعروف المشهور ، الذي لا تخلو منه مكتبة طالب علم .. تذكرت هذا العالِم وقصته ، وأنا أفكِّر في ذلك الثغر الذي يحمل رقما قياسيا في الكثافة السكانية على مستوى العالم مع صغر مساحته ، وقلَّة موارده ، ومحاصرة أهله .
2) وغزة تاريخ إسلامي عريق دونه الشيخ عثمان الطباع في : إتحاف الأعزة في تاريخ غزة ، .. وغزّة هي غزّة التي عرفناها من قبل في فتوحات الفاروق رضي الله عنه ، ومرت بنا في ترجمة الإمام محمد بن إدريس الشافعي الغزي ، أحد أئمة الفقه الأربعة ، تلميذ الإمام مالك ، وشيخ الإمام أحمد رحمهم الله ..
وإنِّي لأتذكر غزّة بل فلسطين المحتلة كلّها ، كلّما قرأت أو سمعت أو تذكرت آخر سورة آل عمران ، لأنَّها جمعت خصالاً نراها رأي العين في الأسرة الفلسطينية الصابرة ، المصابرة ، المرابطة ، رجلا وطفلا وامرأة وعجوزا .. غزّة التي تكاد تتجاوز حدود المعقول في صمودها واستبسال أهلها وتضحياتهم ، بل تجاوزت حدود المألوف وقاربت تجاوز حدود المعقول ، حين نعلم أنَّ حوامل غزّة يساهمن في المقاومة بتبرعهن بنوع من الأحماض البولية الخاصة بالحوامل ، لأنها توفر لمصانع الأسلحة المحلية للمرابطين مواد أولية ليدافعوا بها عنهن !!
3) تذكرت غزّة وماضيها ، و تذكرت جميع الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان ومزارع شبعا وغيرها ، ثم تذكرت دعوات التطبيع وما يصاحبها من جهد مأزور فيما يشبه التمهيد لتطبيع المسلم عقديا من خلال القدح الجائر والاعتداء السافر على مسلمات العقيدة الإسلامية ، ودلائل النصوص القرآنية القطعية ..
تذكرت تلك الجهود الخاسرة التي يتبنّاها كتّاب الخَوَر المهين في عالمنا العربي ، ما بين قاصد و جاهل ومستغفَل ، للنيل من عقيدة الولاء للمؤمنين وكأنّما هو جهد في تذليل الصعوبات العقدية أمام الغزاة المحتلين والصهاينة الغاصبين ، بوعي أو دون وعي لحقيقة المعركة ، التي يجسدها علناً النشيدُ الوطني للكيان الصهيوني :
" طالما في القلب تكمن .. نفس يهودية تتوق .. وللأمام نحو الشرق .. عين تنظر إلى صهيون .. أملنا لم يضع بعد .. حلم عمره ألفا سنة .. أن نكون أمّة حرّة على أرضنا .. أرض صهيون والقدس .. " .
أقول هذا ، لأنَّنا وجدنا من الكتاب العرب من يتعاطف مع جندي أسره مقاومون شرعيون على أرضهم - وهو الحق الذي تكفله قواعد القانون الدولي - تحت دعاوى الحرص على الفلسطينيين ، في حين أنني سمعت بعضهم من قبل يردد جملة : " إخواننا في فلسطين !! " إخواننا في فلسطين !! " على سبيل السخرية .. مستهجنا تعاطفنا مع إخواننا المسلمين ، داعيا إلى التقوقع في ظل العولمة ونبذ الأممية زَعَم ، وعدم التدخل فيما وراء الحدود . فيا ترى هل يظن هؤلاء أنَّ الجندي اليهودي المأسور ، دون الحدود أو يعلمون أنه وراءها ؟
4) لقد كانت صناديق الاقتراع التي نادى بها دعاة الديمقراطية امتحانا صعبا لهم .. فبعد عدد من النتائج غير المرضية لهم في عدد من البلدان ، حاولوا تدجين الأمة إعلاميا ثم طالبوا بوضع الصناديق لها مرّة بعد مرّة ، وكان مكان اختبارهم الأخير للأمة ، هو أقسى مواقع معاناتها ، فتمَّت : انتخابات المجلس التشريعي في السلطة الفلسطينية ؛ وما إن ظهرت النتائج الأولية حتى تهامس الظلمة من الإفرنج ، فلم نلبث أن سمعنا صراخ (الشرعية الدولية وحقوق الإنسان) - التي طالما يطالبون خصومهم برعايتها ، في مثل حالة الصين وكوريا الشمالية - سمعناها تصرخ في فلسطين تحت أقدام واضعيها ، وتنتهك دون قدرتهم على تبرير منطقي لما يجري منهم تجاهها ، فحوصر الشعب الفلسطيني الذي كانوا يقدّمون صورة الحرص عليه في قالب (الديمقراطية) ، وبلغ الأمر بأدعياء الديمقراطية ، والمتباكين على حقوق الإنسان ، أن يتآمروا على الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة بمنعه من استلام أجرة عَرَق الجبين ، التي يشتري بها - وليس منها - حليب المولود ، وغذاء الطفل ، وقوت الإنسان.
لقد أزالت هذه الانتخابات ، بقايا أوراق التوت عن سوءات دعاة الشرق الأوسط الكبير ، وبصقت في وجوه المبشرين برغده وعدالته وتفوق حقوق الإنسان فيه .
لم لا ؟ ألم ير الناس كيف حوصرت حكومةٌ منتخبة في انتخابات لم يشكك أحد في نزاهتها ، مع محاولاتٍ جرت لتدارك النتيجة ولو في اللحظة الأخيرة .(18/317)
لقد شهد العالم كيف خلت - ولم تكن من قبل كذلك - خزينة المالية الفلسطينية قبيل تسليمها للحكومة المنتخبة بفواق ناقة ، وكأنَّ أموال الأمة وأرزاق الناس ، ومستحقات اليتامى محلّ عبث سياسي .. والإمعان في الحصار بمنع البنوك من التعامل مع الحكومة المنتخبة - التي حصلت على أصوات لم يحصل على مثلها المرشحون في أعرق الأحزاب السياسية الغربية - بعيد إعلان النتائج .
ثم رأى العالم بالصوت والصورة كيف يُجلب قوت الشعب للشعب تهريبا ، عبر منفذ بري حدودي وحيد بين غزة ومصر ، في معاطف وزراءَ في حكومة شرعية !
إنَّ هذا الظلم والجور والتعامل غير الحضاري - ذاته - ذكرني رسالة أبي العباس ابن تيمية رحمه الله إلى ملك قبرص التي يطالبه فيها بإطلاق سراح أسرى المسلمين ، ويحذره فيها من عقوبة الظلم وسنة الله في الظالمين دولا وأفرادا .
5) ظنّ الخصوم أنّ الأمة هزمت واستسلمت ، ولكن الوهم تبدّد ، ولنا في التاريخ معتبر ، فلقد تيقنوا فيما بعد أنَّها لم تمت وإنَّما كانت مسترخية ، وربما كان منها من أخذته سِنة من النوم ، تحت شعارات القومية العربية الزائفة ، والشعارات الثورية الفارغة ، في ظاهرة صوتية لخصتها للجيل الذي لم يشهدها ، تصريحات وزير الإعلام العراقي الذي غطّى غبارُ القصف آثار أقدامه قبل أن يغادر بغداد هاربا و هو يتحدّث عن الصدّ والصمود إلى آخر نطفة دم ..
لقد رُكِلَت الأمة عام النكسة ، فاستيقظت وصحت ، واكتشفت سرّ هزيمتها الحديثة ثم سرّ نصرها القديم الذي قامت عليه دولتها الأولى وما تلاها من دول الإسلام ، وحتى هذه الأحقاب المتأخرة التي تحالف فيها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله ، في دليل مادي ملموس على سبب النصر الإلهي ؛ ولعلّ هذا سرَّ التضايق من الصحوة ، ومن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومن قبلهما ابن تيمية إيَّاه - رحمهم الله - وكأنَّ ظَلَمَة الإفرنج ومساندي المغتصب ، يستشرفون آثار تراث هؤلاء القادة وتجربتهم في مستقبل القضية .. إنَّ ظلمة الإفرنج ومن خُدِع بهم أو وافقهم من بني جلدتنا ، يريدون من الأمة أن تموت لا أن تغرق في النوم فقط ؛ ليسرحوا ويمرحوا خارج وحي الله ، في ليبرالية مخزية ، لا تعرف دينا ولو كان الإسلام ، ولا ثابتا ولو كان عقيدة التوحيد ، ولا أصلاً يقينياً منصوصا ولو كان الولاء في أواسط الحجرات والبراء في أواخر المجادِلة .
وما علم هؤلاء أنَّ من النّوم نوماً كهفياً يصحو فيه المضطهدون على زغاريد النصر ومباهج الاحتفاء .
6) إنَّ من المؤسف أن نرى التطبيع الإعلامي في إعلام العرب والمسلمين يسابق التطبيع السياسي في ظل أجواء لا تسمح لذي حياء أن يتكلم . ولكن يا ترى ماذا يستطيع أن يقول دعاة التطبيع ( الصلح الدائم الذي يتم بمقتضاه الدخول في جملة من الاتفاقات متنوعة الجوانب بما في ذلك الجانب الثقافي والاقتصادي والأمني وغيرها ) مع هذا الكيان الصهيوني الغاصب المحتل ، الذي لم يحترم شيخا ولم يرحم طفلا ، ولم يقدر - ولو إنسانيا - وضع امرأة حامل ! ليضعها وجنينها في عنابر قذرة ، خلف قضبان ظالمة ، ومعاملة جائرة .. ما الذي يمكنهم قوله ، ولِمَ صَمَت بعضهم عن الحديث في الحدث ، وانكفأ بعضهم على إثارة قضايا داخلية محسومة شرعا ونظاما ، وفعل بعضهم الأسوأ بما تقدم ذكره ..
7) وهنا لا يفوتني أن أهمس في آذان المخلصين من الدعاة والكتاب بأنَّنا يجب أن ندرك الفرق بين الصلح مع اليهود في فلسطين بالمعنى القانوني الدولي ، وبين ما قد يضطر إليه الإخوة في الحكومة الفلسطينية الحالية من الدخول في مفاوضات والوصول إلى اتفاق هدنة سواء كان ذلك في العاجل أو الآجل ، فلنفترض أنَّ الإخوة في القيادة الفلسطينية الحالية - وهم ما بين علماء و طلبة علم أو رادّون إليهم - سلكوا هذا المسلك ، فهل يسوغ التثريب عليهم ، فضلا عن تخوينهم والنيل منهم ؟ كلّا فثمة فرق بين مسألة الصلح الدائم الذي أجمع العلماء على منعه ـ العلماء السابقون ـ ، واتفق على تجريمه في قضية فلسطين العلماء المعاصرون ، وبين عقد هدنة مؤقتة أو مطلقة في نظر مصلحي ممن يملك آلة الاجتهاد وتقدير المصلحة المرعية في الشرع .
وبسبب الخلط في فهم هذه المسألة ، غلط بعض الناس على شيخنا العلامة / عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حين نسبوا إليه جواز الصلح مع اليهود بالمفهوم العرفي الدولي (الصلح المؤبّد) مع أنَّه قد أوضح ما عناه وبيّنه بقوله : " الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكا أبديا ، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة ، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة ."( مجلة البحوث الإسلامية : العدد (48) ص : 130-132 ) .
8) قد يصاب بعض الناس من أهل الغيرة والحمية ، وخاصة الشباب بنوع من الإحباط أو اليأس وهم يشهدون هذا الحدث وأمثاله ، وحق لهم أن يتألموا .. ولكن ربما تصرف بعضهم تصرفاتٍ غير مشروعة ، لا يرجعون فيها لعالم معتبر ، ولا سياسي حاذق .(18/318)
ولهؤلاء يقال : السكينة السكينة .. يمكنكم أن تصنعوا شيئا في نصرة المسلمين بطرق مشروعة مرجوة النفع مأمونة العواقب ، إزاء ما يجري من حصار إخواننا في غزة على سبيل المثال .
وإذا ما استبعدنا استخدام جميع الوسائل القانونية المعترف بها في سبيل مطالبة العدو بالعدالة ، ومراعاة القوانين الإنسانية الموافقة للشرع ، على المستوى الرسمي والمؤسسي في العالم العربي والإسلامي - وهي أمور يفقهها أهل الشأن - فإنَّ بإمكاننا كأفراد أن نقوم بجهود نصرة شرعية قانونية مؤثِّرة إن شاء الله تعالى ، ولو لم يكن فوريا .
وهذه بعض الأمثلة للوسائل المشروعة المتاحة أذكرها على سبيل التنبيه لا الحصر :
فالمثال الأول : الدعاء لإخواننا في غزّة والقنوت لنازلتهم ، وقد أفتى بذلك في هذه القضية بالذات سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله لكل من سأله ، واصفا ذلك بأنّه أيسر ما يمكننا تقديمه من نصرة .
كيف وقد وجدنا في الأنباء أنَّ حاخامات يهود يدعون إلى الصلاة من أجل تحرير جندي ظالم ، ويقومون على أرض مطار غزة في محاولة لتثبيت الغزاة الغاصبين ، فما أهوننا إن لم نرفع أيدينا إلى الله عز وجل نطلب منه الغوث لأهلنا في غزة ، ونتضرع إليه طلبا للطفه سبحانه بالأجنة في بطون الحوامل ، والصغار في أحضان الأمهات ، والشيوخ في زنازين الصهاينة ، والمصابين والمرضى في عنابر المشافي وغرف الإنعاش .
والثاني : الكشف الإعلامي للحقائق المتعلقة بأسرانا في فلسطين ، أعداداً وأوضاعا ، وأحوالا ، فليزر من يروم نصرة إخوتنا في فلسطين - على سبيل المثال - مواقع الأسرى على الشبكة العالمية ، وليحكِ منها للناس بعض ما يجد من معاناة امرأة أو طفل أسير أو شيخ قد بلغ من الكبر عتيا ! أو مولود فلسطيني ولد أسيرا في عنابر السجون الصهيونية الظالمة ! فربما رقّ مؤمن فانتصر بالدعاء الذي قد لا يرد ، أو اطلع ذو مالٍ فاتقى الله في ماله وبذل ، أو قرأ خصم فارعوى ورجع ، أو بلغ من هو أوعى من قاريء . ومثله كشف الحقائق المتعلقة باللاجئين الذين يحل محلهم ظلما وعدوانا قطعان المستوطنين في المغتصبات الصهيونية الظالمة .
الثالث : إبراز كل ما يتعلق بجهود المقاطعة الشعبية وأسبابها المشروعة ، من خلال مواقع المقاطعة الشعبية للكيان الصهيوني على الشبكة العالمية وغيرها ، ومنها مواقع عديدة معروفة ومليئة بالحقائق الميدانية ، والمزيد من الأفكار العملية المشروعة التي تحتاج إلى مزيد تفعيل ، لتساهم في بقاء القضية الإسلامية حية في نفوس الأمة ، وتوعية الرأي العام العالمي بها من خلال عرض كل جديد وتوضيحه مدعما بالوثائق والأدلة . وعدم نسيان الحقائق المتعلقة بالجهود الصهيونية في محاولة هدم المسجد الأقصى ، وما يجري منهم تحته من أعمال حفر وتنقيب ، وخلخلة لمبانيه ، وامتهان لأرضه ، وتهديد بذلك على أيدي العصابات الصهيونية شديدة التطرف ، وكذا محاولاتهم السيئة في تغيير التركيبة السكانية في القدس المحتلة .
الرابع : كشف خطوات التطبيع الظالم ، والإفادة في ذلك من إحصائيات المواقع الموثوقة التي أنشأتها المؤسسات الإسلامية والعربية في البلاد التي تضرر أهلها من التطبيع ، ولم يجنوا منه غير الفساد في الاقتصاد والزرع والنسل ، وتيسير الاختراق الصهيوني للبلاد العربية والإسلامية ومؤسساتها الحيوية المهمة . ولنلق الضوء على خطوات التطبيع الإعلامي ، كترداد الأسماء والمصطلحات العبرية ، مثل : (حاجز إيريز) بدل معبر بيت حانون ؛ و(حائط المبكى) بدل حائط البراق ؛ و(إيلات) بدل أم الرشراش ، و(أشكيلون) بدل عسقلان ، و(تل أبيب) بدل تل الربيع .. و (الأراضي الفلسطينية) بدل فلسطين ، إقرارا ضمنيا بأنَّ ما تبقى حق ليهود ! و (إسرائيل) للإشارة للكيان اليهودي الصهيوني المحتل أو للأراضي المحتلة عام 1948م ، والإيحاء بأنَّ هذا الجزء المحتل صار حقاً ليهود ، لا يجوز حتى التفاوض عليه ، بخلاف الأراضي المحتلة عام 1967م فلا زالت تستحق أن يُتفاوض عليها !( ينظر للمزيد : مصطلحات يهودية احذروها - مركز بيت المقدس) .(18/319)
الخامس : المساهمة في إيصال طلبات أُسَرِ الأسرى الفلسطينيين وما يعانيه المأسورون ، إلى منظمات حقوق الإنسان فإنَّ الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر كما في الصحيح ، ومطالبة هذه المنظمات بالمزيد من الجهود في سبيل إحسان معاملة الأسرى وإطلاق سراحهم ، بيانا للحقيقة ، ومحاولة في التأثير على الرأي العام العالمي ، وقطعا للطريق على تباكي الصهاينة أمامها واستعطافهم لها من خلال قضايا نادرة أو مختلقة أو مدعومة بحبل من الناس . وفي هذا مساندة للجهود الرسمية المخلصة ، كالذي جرى في مجلس حقوق الإنسان في الأيام الماضية القريبة ، حين تمكنت الدول العربية والإسلامية الأعضاء فيه من تمرير قرار يؤكد إعادة طرح موضوع الانتهاكات في الأراضي العربية المحتلة على المجلس في المستقبل ، وتنظيم دورة خاصة حول الموضوع ، من خلال التصويت الذي حسم الموقف بعد تباكي اليهود وأعوانهم ، وقد اعترفت سويسرا موطن اتفاقيات جنيف بانتهاك الكيان الصهيوني للقانون الإنساني بإنزال"عقاب جماعي" بالفلسطينيين في غزة ، مع أنها صوتت ضد القرار السابق .
هذه أمثلة لبعض الأمور التي يمكننا أن نقوم بها دون عناء بصورة مشروعة مأمونة .
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين ، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين للقيام بكل ما يطيقون من جهد في نصرة الحق وأهله ، ورفع الظلم عن إخواننا المسلمين في كل مكان .
هذا والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
====================(18/320)
(18/321)
من يجني ثمار الجهاد في العراق ؟؟
للكاتب : عبد التواب يوسف محمد
الحدث
سقطت بغداد وسقطت معها كل أقنعة الزيف والباطل ، ولم يثبت إلا ثلة من الرجال الذين زادهم الصهر لمعاناً وقوة ، فولدت مقاومة عنيدة، ألهبت ظهر المحتل، وألحقت به الخسارة والدمار, فتداعى الحريصون على مصلحة المحتل لاحتواء المقاومة، وجعل المحتل يسرح ويمرح دونما رقيب, فمن تشكيك في مشروع الجهاد، إلى الإدعاء بأن المقاومة تفتقد إلى برنامج واقعي لخروج المحتل, إلى تحميل المقاومة- ظلماً وزراً - ما يدور في العراق من قتل وتنكيل, ناسين أو متناسين أن البلد يرزح تحت نيران الاحتلال.
التقرير
لم يبق في العراق ولا في غيره من يجهل أن الجهاد في العراق أثبت بأن خيار المقاومة هو الطريق الأصوب، لرد العدوان عن الأمة المسلمة .
الكل كان في حالة من الارتباك والذهول، من هول الفاجعة التي حلت بإخواننا في العراق، واحتلال بلد مسلم من قبل الصليبيين، وليت المحتل كان من دولة واحدة، وإنّما من دول متعددة ، الكلّ تجمع على شعبنا وأهلنا في عاصمة الخلفاء، ولكن بدلاً من أن يهبَّ المسلمون لنجدة إخوانهم، انقسموا ما بين مؤيد للاحتلال، ومشارك له فعلياً، وبين مقدم للمساعدة اللوجيستية كما يقولون: (التموين، والمساعدات الطبية،-وربما توفير الطلقات النارية- وفتح المطارات ) ، وبين مكتف بالاستنكار المخجل، الذي يُراد به الاستهلاك المحلي في معظم الأحيان، وليس قناعة بالجهاد الشرعي، بعد أن أصبح كثيرٌ من قادة العالم الإسلامي لا تعدوا معرفتُهم بالإسلام عن بقية زعماء الدول الغربية، وبعد أن وُجد من بين رؤساء العالم العربي من يتُقن الإنجليزية أفضل من العربية بشهادة الغرب .
لكن السؤال هل حققت المقاومة الشرعية في العراق أهدافها المرجوة ؟؟
قد يبدو للبعض لأول وهلة، أن المقاومة في العراق والجهاد ضد المعتدين، لم تأت الثمار المرجوة، فالغزاة المعتدون أذاقوا الويلات والعقاب الجماعي للشعب المسلم الأعزل، فما تعرض له هذا الشعب الأبي لا يحصيه مقال ولا كتاب، وإنما ينبغي إذا أردنا معرفة حجم المأساة، أن تُكوَّن لجانٌ ذات أفرع عديدة، وتخصصات متنوعة، ولكن نذكر بعضا منها، وهي كالتالي:
1- بعد احتلال العراق تم تدمير البُنى التحتية للدولة، وتم تسريح المؤسسات الحكومية، من جيش، وشرطة، وغيرها من مرتكزات وهياكل الدولة، من المؤسسات التعليمية والعلمية .
2- نهب ثروات البلاد النفطية والمعدنية، وغيرها .
3- نهب العملات الأجنبية الصعبة في البنوك العراقية، دعك عن العملة العراقية والذهب التي كانت في البنوك والدوائر الحكومية .
4- سرقة المتاحف الوطنية والتي اشتهر العراق بها من الأشياء الأثرية التي يعود بعضها إلى مئات القرون .
فالمعلومات الموثقة تؤكد أنه في أيام كارنر المندوب السامي - العجل -
الأمريكي الذي سبق بر يمر تم تدمير ونهب أكثر 1200 مصنع عراقي، والعراق معروفا، على مستوى المنطقة بقدرات ونوعية مصانعه، وتم أيضا نهب قصور الدولة بكل ما فيها ، هذه هي الخسائر المادية فماذا عن الخسائر البشرية .
وإليك الأرقام والإحصاءات .
الخسارة البشرية .
ملاحظة لا أحد يستطيع أن يقول كم هو عدد القتلى ؟
لأنّ القتل مستمر، ولا تُوجد إحصاءات دقيقة لسببين .
أولاً: لعدم وجود هيئات دولية تولي أهمية لذلك .
ثانياً: لأن الاحتلال يمنع حتى من الصحفيين ، وغيرهم من الأطباء متابعة ما يجري من المعارك ، فما لم تخطفه كاميرات الصحفيين في سرعة وصدفة - الصحافة ممنوعة في نقل تلك الأمور- فالستر مآله .
إذا الخسارة البشرية تكون محل تخمين ولا أحد يعرف بالضبط العدد الحقيقي :
* تجاوز عدد القتلى حسب بعض المصادر مائة وخمسين ألف منذ زمن بعيد .
* أكثر من مائتي ألف مواطن، رجالاً ونساءً وأطفالاً يقبعون في السجون - عفواً - في زنازين التعذيب وأقبية الممارسات الوحشية .
* تقبع أكثر من تسعمائة سيدة وفتاة داخل زنازين وأقبية التعذيب الوحشية.
* تبدو مجازر الفلوجة المتعاقبة نموذجاً للمذابح الأخرى التي شهدتها وما تزال سامراء، تكريت، القائم، الرمادي والموصل
وكلنا نتذكر ما أصاب مدينة المآذن - الفلوجة - فقد
* انتهكت قوات الاحتلال أعراض 149 امرأة عراقية داخل مساجد الفلوجة، وليس خارج المساجد .
* هدمت ما يقارب من 17 ألف منزل سكني تمت تسويتها بالأرض .
* هدم 45 مسجداً.
* هدم 56 مدرسة.
* 459 محلاً تجارياً .
* استشهاد ما يزيد على 300 مدني عراقي.
وللتستر على الجريمة قامت قوات الغزو وعملائها بطرد الإعلاميين من المدينة، لتتم المجزرة بعيداً عن عيون العالم.
اختصاراً لوقتي ووقت القارئ أقول :
الإبادة الجماعية للشعب المسلم ولكن ماذا في الطرف المقابل ؟
الاعتراف الأمريكي بالخسائر:
* اعترف الأمريكيون بأن الخسائر في الجنود هي 2111 قتيلا - لكن لا أحد يصدق بعد أن افتضح الأمريكيون بكذبة القرن الواحد والعشرين . ( أسلحة الدمار الشامل ) .
ماذا تقول التقارير غير الاعترافات الأمريكية ؟ .
تمحورت تلك التقارير أن عدد القتلى هو 27 ألف جندي أمريكي .(18/322)
وذلك بناء على مراجعة سجلات المستشفيات الألمانية (مستشفي رامستاين الرئيسي في القاعدة الأمريكية) والمستشفيات العراقية والكويتية ذات العلاقة مع الجيش الأمريكي، بان عدد الإصابات من نيسان إلي كانون الثاني، يقدر بواحد وعشرين ألفا، بحيث يكون المجموع الكلي للإصابات منذ بدء الغزو إلي بداية العام 2005، يقارب ثمانية وأربعين ألفا، وباستعمال مؤشر خام بمعدل واحد من القتلى لكل ثمانية جرحي، فان التوزيع يكون ستة ألاف قتيل مقابل اثنين وأربعين ألفا من الجرحى 53 % منهم باتوا خارج الحياة الطبيعية للإنسان، ومثل ما عرف عن تقارير وزارة الدفاع الأمريكية في حرب فيتنام فإنها لا تصرح أكثر من 20% من واقع الإصابات.
لماذا تخفي أمريكا قتلاها ؟؟؟؟
* لأن كثيراً من الجنود هم في الواقع من طلاب الجنسية وليسوا جنوداً في الحقيقة .
* والبعض منهم عنده الإقامة وليس الجنسية .
* وأخيراً إذا عرف أنه مع التستر على الخسائر إلا أن التطوع بالجيش توقف تماماً عُرف سبب الكتمان فكيف لو أذاعوا ما عندهم من الخسائر الفادحة .
* ومثل تقارير فيتنام العسكرية، فإن وزارة الدفاع الأمريكية لا تصرح بأكثر من 20 % من واقع الإصابات الحقيقية، ومرد ذلك أن جيش طلاب الجنسية الأمريكية وحملة البطاقة الخضراء والمتعاقدين مع شركات كلاب الحرب الأمريكية مثل (توبال ريسك، وفيتيل ودانيكرو) ليس لهم حق الإعلان عن موتاهم في الحروب.
وعودة إلى السؤال هل حققت المقاومة الشرعية في العراق أهدافها المرجوة ؟؟
الإجابة على هذا التساؤل يتوقف على إجابة سؤال آخر.
وهو: ما الأهداف من المقاومة ؟؟
نعم إن من ينظر الأمور بمقاس الخسارة والربح الآني، وبالنظرة العددية المجردة، الواحد مقابل الواحد، وبمنطق المادية وحده، دون المقاصد والأغراض ، ودون اعتبار لإفشال المخططات يجد فرقاً قد يبدو أن المقاومة لم تحقق مغزاها .
لكن نظر الأمور بهذه الطريقة فيها شيء من الإجحاف ، كيف وقد سعى القوم - الصليبيون الغزاة - تدمير العراق كمرحلة أولية ومواصلة المسيرة والزحف نحو العواصم الأخرى فها هي الدكتورة - رايس - تقول ملء فيها وأمام عدسات المصورين في بداية الهجوم، وقبل أن يمرغ أنف الاستكبار العالمي بالطين من قبل المقاومة الباسلة ، إن خطة التخلص من الدكتاتوريات قد بدأت ببداية الغزو على العراق ولن تنتهي إلا بإزالة الصداميين ثم الأسديين ثم المباركيين ثم ......"
الهدف من المقاومة .
كان منع الغزاة من تمكّن نهب خيرات البلاد ، وإقامة القواعد العسكرية الدائمة، ومن مواصلة الهجوم على بقية البلاد الإسلامية، والإجبار على الرحيل، وها هي الثمرات قد أينعت، وقد حان قطافها، وها هي أمريكا تلوذ بالفرار، وقد أعرب أعتا رجالها ومجرمو حربها الانسحاب بعد أن لم يكن يخطر على قلب بشر أن الأمريكان ينسحبون، فلولا الله ثم رجال صدقوا ما سمحوا حتى إعطاء ما كان يسمى " بمجلس الحكم " للعراقيين، حتى الذين أتتهم دباباتها، وها هو الكل يستظل بظل المقاومة.
وأخشى ما أخشاه !!!
أن يجني ثمار الجهاد أناس لم يشاركوا في الجهاد ، بل كانوا في الصف المقابل المثبط للمجاهدين كرهاً أو طاوعا ، وقد بدا للعيان مدى استفادة الحكومات العربية التي كانت في قائمة الانتظار لزحف الصليبيين على عروشهم ، وقد كان الحديث يدور حول من هو الثاني والثالث، أي الكل كان في القائمة، وما خطة الشرق الأوسط الكبير الخطة الأمريكية عنا ببعيد، لكن بعد اللطمة الموجعة المفجعة للأمريكان، وبعد استقبالهم بالبنادق بدلاً من الزهور كما أوهم لهم طلائع الخيول التي امتطالها أمثال جلبي، وإياد علاوي ، وبعد أن عايش الجنود الأمريكيون الحقيقة وليس الخيال الذي رسمته أفلام هوليود التي تصور الجندي الأمريكي أن مسدسه ذات الطلقات السبع لا ينفد، وأن غيرهم يلوذ بالفرار، فإذا العبوات الناسفة تميز بذكاء عجيب الدبابة الأمريكية من غيرها، وإذا المقاومون يدافعون عن الأمة والدين بأجسادهم العارية، ووسط تخلي الجميع عنهم، وتبرأ القريب منهم قبل البعيد، ووسط إدانة الجميع لهم، وحبهم للموت بعزة نفس كحب الأمريكان في الحياة والبقاء أو يزيد،
رحم الله الشهداء وأبقى للإسلام رجالاً يذودون عن حماه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
====================(18/323)
(18/324)
أفي جهاد الصليبيين الغزاة شك ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
فضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان وفقه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسأل الله لي ولكم العافية في الدنيا والآخرة وبعد :
فانطلاقاً من قول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) , ومن باب التواصي بالحق ووجوب المناصحة بين المسلمين أكتب لكم بعض التعقيبات والإيرادات على ما طرحتموه وتطرحونه في الحوارات الفضائية والصحفية من بيان موقفكم من قيام المجاهدين السنة في أرض الرافدين برفع راية الجهاد ضد العدو الصليبي المحتل الذي غزا المسلمين في عقر دارهم ، وقصدي من هذه المناصحة بالدرجة الأولى أنتم بارك الله فيكم ؛ فإني أخاف عليكم من تبعات هذه الفتوى في الدنيا والآخرة , وإلا والحمد لله فالسواد الأعظم من المسلمين علمائهم وعامتهم قد أنكروا هذه الفتوى واستغربوا أن تصدر من أمثالكم .
أسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والآن أرجو أن تفتح قلبك لهذه المناصحة وأن تتقبلها بصدر رحب وأن تحسن الظن بمسديها لكم .
فضيلة الشيخ : يرد على فتواكم بعدم مشروعية الجهاد في العراق الإيرادات التالية :
الإيراد الأول : من المعلوم أن الفتوى الشرعية حتى تكون مسددة وصائبة فلا بد لها من ركنين اثنين :
الأول : معرفة الواقعة التي يراد الافتاء فيها من جميع الجوانب .
الثاني : معرفة حكم الله فيها أو في مثلها وحينئذ ينزل الحكم على الواقعة وبهذا يتم إصابة الحق إن شاء الله تعالى ولتطبيق هذه القواعد على ما يدور الآن من جهاد وقتال بين المسلمين وبين الكفرة الصليبين الغزاة و المظاهرين لهم من المنافقين في العراق يتبين لنا ما يلي :
أولاً : توصيف الواقع : والواقع في أرض العراق أنها أرض إسلامية غزيت من قبل الأمريكان الكفرة وحلفائهم من الغرب والشرق واحتلوا هذه الأرض الإسلامية وفتنوا المسلمين أصحاب هذه الديار في دينهم ودمائهم وأعراضهم واقتصادهم .
ومما يتعلق بوصف الواقع أيضاً أن غزو الكفار لأرض العراق سيتعداه إلى الدول المجاورة للعراق فيما لو انتصر الكفار وفرضوا سيطرتهم على العراق - لا قدر الله تعالى - وهذا ما يلوحون به بل يصرحون به أحياناً بما يسمى بـ مشروع الشرق الأوسط الكبير-
ثانياً : معرفة حكم الله عز وجل في مثل هذه الواقعة :
قد حسم علماء الإسلام هذا الأمر بما لا يدع مجالاً للشك ولا للتردد والحيرة حيث قسموا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلى قسمين :
(1) جهاد الطلب : وهو طلب العدو في أرضه وإخضاعه لدين الإسلام وهو فرض كفاية إلا أن يطلب الإمام النفير من عموم المسلمين فعندئذ يتعين ، وكذلك الحال فيما لو حضر المسلم الصف للقتال فلا يجوز له حينئذ النكوص عن القتال ولو كان القتال في أصله كفائياً .
(2) جهاد الدفع : وهو جهاد الكفار الذين هاجموا المسلمين في عقر دارهم وراموا احتلال بلاد المسلمين وفرض حكمهم عليهم .
وهذا النوع من الجهاد هو الذي أفتى فيه أهل العلم بأنه فرض عين على أهل هذا البلد المغزو حسب القدرة المتاحة لهم فإن لم يستطيعوا وجب على من يليهم من بلدان المسلمين نصرتهم وفي ذلك .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وإذا دخل العدو بلاد المسلمين فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب ، إذ بلاد المسلمين كلها بمنزلة البلدة الواحدة )[1] .
وقد نقل رحمه الله تعالى الإجماع على وجوب جهاد الدفع هذا , وأنه لا يشترط له شرط من توفر القدرة التامة والإمكانات , بل إن العدو يدفع حسب الإمكان ؛ يقول رحمه الله تعالى : ( وأما الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً ، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده ) .[2]
ولما سئل رحمه الله تعالى فيما لو تعارض إنفاق المال في الجهاد الذي يتضرر بتركه مع إطعام الجياع أفتى رحمه الله بقوله:( قدمنا الجهاد وإن مات الجياع كما في مسألة التترس وأولى ؛ فإن هناك - التترس - نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله ) .[3]
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمّ وجوباً ، ولهذا يتعين على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه : العبد بإذن سيده وبدون إذنه ، والولد بدون إذن أبويه ، والغريم بغير إذن غريمه ، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق ، ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون ، فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين ، فكان الجهاد واجباً عليهم ، لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع ، لا جهاد اختيار ) [4](18/325)
فهل يدع هذا الكلام الواضح الصريح الذي صرح به هذان العالمان الجليلان في حكم جهاد الدفع من قول لقائل أو فتوى لمفت بأن جهاد الأمريكان الغزاة في العراق غير مشروع
الإيراد الثاني : من حجج المانعين من جهاد المحتلين في العراق عدم مقدرة المسلمين هنالك على قتال الأمريكان وحلفائهم ؛ وذلك لضعفهم وللأضرار العظيمة التي تصيب المسلمين من عدوهم من جراء ذلك .
والجواب على هذه الشبهة من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : سبق كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وتلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى وذلك بقولهما إن جهاد الدفع لا يشترط له شرط بل يدفع العدو الصائل حسب الإمكان ؛ لأنه جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار ، ولا أرى داعياً إلى نقل كلامهما مرة ثانية فليرجع إليه في الفقرة السابقة .
الوجه الثاني : إن القول بأن المسلمين في العراق لا قدرة لهم ولا حيلة لدفع عدوهم الكفار والمحتل كلام يكذبه الواقع ويرده ، فما نراه اليوم ونسمعه من الإثخان الشديد والنكاية العظيمة بالكفرة الغزاة من قبل المجاهدين شيء يثلج صدور كل مسلم صادق محب لدينه وأهل ملته ، وقد اعترف العدو الكافر بهذه المعاناة والإثخان مع محاولته التعتيم الشديد على نقل أخبار قتلاه وجرحاه وخسائره الكبيرة ، فكيف يقال إنه لا قدرة للمسلمين هناك على قتال عدوهم ونحن نرى ونسمع ما يشفي صدورنا من هزائم متلاحقة للكفرة وأذنابهم من المنافقين ؟
الوجه الثالث : لو سلمنا باشتراط القدرة لجهاد المحتل في العراق فما هي حدود هذه القدرة ومن الذي يحددها ؟
وللجواب على ذلك نرجع إلى ما سبق بيانه من أن الفتوى والحكم على الشيء يقوم على معرفة الواقعة التي يراد الحكم فيها ، وعلى معرفة حكم الله في مثلها ، وإذا أردنا أن نطبق هذه القاعدة هنا على مسألة القدرة على قتال الغزاة في العراق فمن الذي يصف لنا هذا الواقع ويحدده بدقة ؟ أهم الذين يعيشون هذا الواقع ويعرفون ما عندهم من القدرة وما عند عدوهم ؛ ويعلمون الملابسات والظروف المحيطة بهم وغير ذلك من المسائل التي لها أثر في إعطاء الوصف الدقيق ؟ أم أن الذي يصف هذا الواقع وبالتالي يفتي فيه هو من يجهل هذا الواقع ممن هو بعيد عن البلد وظروفه ومجريات الأمور فيه ولا دراية له بأحوال المجاهدين وقدراتهم ولا حال عدوهم وما يعاني من مشاكل وورطات ؟ لا شك أن الجواب البدهي الموافق لقواعد الفتوى هو أن الذي يحدد القدرة ووجوبها من عدمها هو من يعيش في هذا الواقع ويراه و يلمسه ، ويعاينه يوماً بعد يوم ، فلا جرم أن كانوا هم أولى من يفتي في ذلك فهم الذين يقاسون حر وجرم العدو الغازي ويلمسون جبنه وخيبته ؛ وثقتهم بالله عز وجل كبيرة في إلحاق الهزيمة به ولو بعد حين .
فليتق الله عز وجل أولئك الظالمون لأنفسهم الذين يفتون في واقع الجهاد وهم بعيدون عنه لا يعلمون عنه إلا نتفاً من هنا وهناك ـ وقد يكون أغلبها من الإعلام المضلل المخذل ـ وليتركوا الحكم على الوقائع لأهلها الذين يعانون حرها وقرها , ويعرفون مدخلها ومخرجها . نسأل الله عز وجل أن يرفع عنهم البلاء وأن يثبت أقدامهم وينصرهم على القوم الكافرين .
الإيراد الثالث : عندما غزا الروس الشيوعيون بلاد الأفغان في العقود الماضية أجمع علماء المسلمين على مشروعية جهاد الشيوعيين هنالك , وهب أغنياء الأمة وأغلب حكامها في مساندة المجاهدين في أفغانستان بالمستطاع من المال والعتاد والرجال ، وبعد أن هزم الله الشيوعيين على أيدي المجاهدين وخرجوا أذلة صاغرين بعد ذلك بسنوات غزا الصليبيون أرض أفغانستان بقيادة أمريكا الطاغية ثم قامت بعد ذلك بغزو العراق واحتلاله والسؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة هو :
ما الفرق بين غزو الشيوعيين لبلاد أفغانستان وبين غزو الأمريكان الكفرة لبلاد الأفغان والعراق ؟
أليس كلاهما عدوين كافرين قاما بغزو المسلمين في عقر دارهم واحتلوا بلادهم ؟
إذن فما معنى كون الجهاد مشروعاً ضد الشيوعيين عندما احتلوا أفغانستان وليس مشروعاً عندما احتل الأمريكان الكفرة أفغانستان والعراق ؟ وما معنى أن يهب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لنصرة إخوانهم المجاهدين في أفغانستان ـ هذا بنفسه وذاك بماله ، وآخر برأيه وخبرته ـ ثم لا نجد هذه المناصرة للمجاهدين في أرض العراق المحتلة إلا من قلة من الناس على خوف ووجل ؟ أليس في هذا تفريق بين متماثلين وتطبيق لمعيارين ؟ وإن لم يكن هذا هو الواقع فما هو الجواب إذن ؟
إني لا أجد جواباً مقنعاً إلا القول بأن أمريكا كانت راضية مؤيدة لذلك الجهاد لأنه ضد أعدائها الروس ، أما في العراق فإن أمريكا هي الغازية وبالتأكيد هي المستهدفة بالقتال والجهاد , هذا هو الجواب المقنع لهذه التساؤلات المحيرة ، ولكن هل هذا الجواب هو المنجي بين يدي الله عز وجل ؟ وهل هو عذر لهذا التخذيل والتعويق والتباطؤ عن نصرة المجاهدين في أرض الرافدين ؟(18/326)
وإهمالاً لهذا الجواب الصحيح سمعت من بعض المنتسبين للعلم جواباً آخر مفاده أن المجاهدين في أرض الأفغان كانت لديهم القدرة وكانوا يُدعمون من المسلمين بكل مكان , بل كانت بعض الدول الكافرة تدعمهم ، أما الجهاد في العراق فليس له القدرة وليس هناك من يدعمه ولا من ينصره كما حصل ذلك في أفغانستان !!
ولا يخفى ما في هذا الجواب من اضطراب وحيدة عن الجواب الصحيح السالف الذكر. إن الأفغان لما بدؤوا الجهاد لم يكن لديهم الحد الأدنى من القدرة , وكانت بدايتهم ببنادق الصيد والأسلحة الشخصية عكس المجاهدين في العراق ؛ فهم منذ بدايتهم وهم يملكون مخازن الأسلحة المتطورة والمتنوعة ولديهم أهل الخبرة في القتال فكيف يقال : إن جهاد الأفغان كان لديه القدرة وهذه بدايتهم ، نعم لقد تلقوا بعد ذلك دعم إخوانهم المسلمين لهم ، فلماذا لا يكون مثل هذا الدعم للمجاهدين في العراق ؟ والجواب هو ما ذكرته آنفاً وهو الجواب الصحيح مهما حاول من يحاول الحيدة عنه ، ولكنه والله لا يعذر عند الله تعالى ولا تبرأ به الذمة .
وأمر مهم لا بد من ذكره هنا :
ألا وهو التأكيد على أن دعم الجهاد في العراق أهم و آكد من دعم الجهاد السابق في أفغانستان ضد الشيوعية ذلك لأن جهاد الصليبين في أرض العراق والنكاية بهم وإلحاق الهزيمة بهم إن هو إلا دفاعاً عن المنطقة الإسلامية المحيطة بالعراق كلها وليس دفاعاً عن العراق وحده ، وانتصار المجاهدين هنالك هو انتصار للمسلمين في البلاد المجاورة كلها ؛ ذلك لأن الكفرة الغزاة قد أعلنوا ذلك في خططهم وطفح على ألسنة قادتهم كطرحهم مصطلح الشرق الأوسط الكبير.
وإن نجاحهم في إيجاد حكومة ديمقراطية - بزعمهم - يعني فرضها بعد ذلك على دول المنطقة ، وقيامهم بالتدخل السافر في خصائص سياسة كل بلد كالجيش والتعليم والإعلام والاقتصاد وضرورة أن يمشي وفق النظرة الأمريكية ، ولو تم انتصارهم في العراق لا قدر الله عز وجل ووجدوا أنفسهم مستقرين مرتاحين لا يزعجهم أحد بقتال ولا جهاد لبدؤوا بتنفيذ مخططاتهم في غزو دول المنطقة سواء بالغزو العسكري السافر أو الغزو المبطن الذي يتدخل في تغيير عقيدة الأمة وهويتها وثقافتها ويجعلها تابعة ذليلة للغرب الكافر .
إذن : فكسر الأمريكان في العراق والإثخان فيهم وجعلهم لا يذوقون الراحة والاطمئنان من شأنه أن يحمي العراق ودول المنطقة كلها من شر هؤلاء الكفرة , ومن شأنه أن يحبط عليهم مخططاتهم ومكرهم ويقطع الطريق عليهم حتى لا يفكروا مرة أخرى بغزو بلاد الإسلام .
أما لو ضعف الجهاد في العراق وخذل أهله كما يفعله الآن - وللأسف - بعض المنتسبين إلى العلم فإن النتيجة وخيمة على المسلمين بعامة وليس على أهل العراق خاصة . فليتق الله عز وجل من ينفر الناس من جهاد المسلمين في العراق ؛ إنه بذلك يقدم خدمة كبيرة للغزاة الكفرة في التمكين لهم وإفساح الطريق الممهد لهم في تثبيت جذورهم في أرض العراق المسلمة , والتي ينطلقون بعد ذلك منها لفرض سيطرتهم العسكرية أو الفكرية التامة على بلاد الحرمين والخليج والشام .
أفيرضي المخذلون للجهاد في العراق بهذه النتيجة المرة ؟؟؟
الإيراد الرابع : لو سلمنا جدلاً بما يقوله المانعون للجهاد في العراق بحجة العجلة والتهور وعدم القدرة أو بحجة الأخطاء التي يرتكبها بعض المجاهدين في قتالهم فما هو الموقف من هؤلاء المجاهدين بعد أن لم يسمعوا ولم يقتنعوا بحجج المانعين حيث بدؤوا جهادهم واشتعل القتال بينهم وبين عدوهم الكافر المحتل ؟
هل يجب والحالة هذه دعمهم ومواصلة توجيههم ونصحهم والوقوف معهم أمام العدو الكافر ؟ أم العكس من ذلك وهو تخذيلهم وتحذير الناس منهم ومن دعمهم ؟ أم اعتزال الفريقين والنظر إلى هذا القتال على أنه قتال فتنة فلا يشارك فيه بيد ولا لسان ولا مال ؟
هذه المواقف ثلاثة نضعها أمام المانعين للجهاد في العراق فما هو الموقف الصائب منها الموافق للشرع ومقاصده ؟(18/327)
إن مما أقره أهل العلم في جهاد الكفار أنهم يرون قتالهم مع البر والفاجر لا يمنع فجور المسلم وفسقه من أن يقاتل معهم , إذا كان العدو كافراً بل حتى لو كان المسلمون المجاهدون أصحاب بدعة غير مكفرة لجاز أو وجب قتال الكفار معهم وبخاصة إذا كان القتال قتال دفع وصد للكفار عن ديار المسلمين ، ولم يقل أحد من أهل العلم بأنه قتال فتنة ؛ لأن قتال الفتنة هذا الذي يكون بين فئتين من المسلمين أما القتال بين الكفار وبين المسلمين فلم يقل أحد من أهل العلم بأنه فتنة ولو كان الصف المسلم متلبساً ببدع غير مكفرة أو فسوق أو أخطاء ، بل يجب والحالة هذه مناصحتهم فيما هم عليه من أخطاء فإن استجابوا فالحمد لله وإن لم يستجيبوا لسبب أو آخر فلا يكون هذا مبررا لاعتزالهم فضلاً عن التنفير منهم أو التحذير من دعمهم أو نصرتهم ، لأن في تخذيلهم أو التخلي عن نصرتهم إعانة ومظاهرة غير مباشرة للعدو الكافر الصائل , وتوهين للصف المسلم وإخفاق له مما قد يقود إلى انتصار الكفار وتمكينهم من بلدان المسلمين ؛ وحينئذ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة . فإذا تقرر هذا مع أهل البدع ، فكيف والحال عند المجاهدين السنة في العراق أنهم ملتزمون بمنهج أهل السنة الجماعة ؟
والمقصود أن يتقي الله عز وجل هؤلاء المخذلون للمجاهدين والمنفرون عن جهاد الكفار بحجة أخطاء المجاهدين أو تسرعهم ، وبما أن سوق الجهاد قد قام بين المسلمين وأعدائهم الكفرة فليس أمام المسلم إلا أن يتولى إخوانه الذين يجاهدون الكفرة الغزاة ولو كان يرى أنهم مخطئون ما دام أن هذا الخطأ لم يخرجهم من الإسلام .
أما أنه ـ لا قدر الله تعالى ـ يضع نفسه في خندق المخذلين لهم المضعفين لشوكتهم ، فما أقرب هذا الخندق من خندق الكفرة المعتدين ؛ لأن فرحهم بذلك سيكون شديداً ،
ويكفي بفرح الكفار وسرورهم بهذه المواقف المخذلة مقتاً وشناعةً ونكراً , فإن المتعين على المسلم أن يقوم بما يغيظ الكفار ويحزنهم لا بما يفرحهم ويسرهم ؛ قال تعالى : (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )) (المائدة: من الآية54) وقال تعالى : (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) (الفتح:29) .
وقال تعالى : (( وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) (التوبة: من الآية120) .
الإيراد الخامس : لا أدري ما هو موقف من يفتي بعدم مشروعية الجهاد في العراق والاستسلام للأمر الواقع وعدم مدافعته .. لا أدري ما موقفه فيما لو غزت أمريكا بلاد الحرمين - لا قدر الله عز وجل - ونصبت فيها أحد عملائها حاكما على المسلمين فهل يرى الاستسلام لذلك والرضى به وعدم مقاومته أم أنه يرى جهادهم ودفعهم قدر الإمكان ؟
فإن كان الجواب بالاستسلام والرضى بالواقع فهو الخزي والعار والشنار وإن كان الجواب هو الجهاد والدفع فقد وقع في التناقض والاختلاف في تطبيق المعايير والتفريق بين المتماثلين إذ ما الفرق بين بلاد الحرمين وبلاد الرافدين أليس كل منهما أرضا من بلاد المسلمين ؟
وأختم هذه الرسالة بتذكير نفسي وتذكير الشيخ العبيكان بضرورة مراجعة النفس ومحاسبتها والحذر من الأهواء الخفية التي قد تخفى على صاحبها فيظن أنه متجرد للحق فتدفعه لمثل هذه الآراء الشاذة وكما أخبر المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه فإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار وإن سلف هذه الأمة وخيارها كانوا يخافون على أنفسهم من النفاق والفتنة على ما وقر في قلوبهم من الإيمان و مجانبتهم لأسباب النفاق وذرائعه وتحريهم للحق والصواب وطلبهم له من مصادره الأصيلة كما أطلب منه الوقوف على تلك الإيرادات السابقة وغيرها من الإيرادات ومراجعة فتواه وعرضها على ميزان الكتاب والسنة بفهم خيار الأمة والتراجع عنها علنا إبراء لذمته أمام الله عز وجل ، أسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويعز جنده كما أسأله سبحانه أي يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
[1]الاختيارات الفقهية ص 447
2 الاختيارات الفقهية ص 309، 310
[3]الفتاوى الكبرى 4/608
[4]الفروسية لابن القيم ص 187
====================(18/328)
(18/329)
من وحي الهجرة
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3108)
محمد أحمد حسين
القدس
7/1/1425
المسجد الأقصى
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها الصامدون في رحاب المسجد الأقصى تفدونه بالمُهج والأرواح، رغم كيد المحاصرين لهذا المسجد ورغم إجراءاتهم التعسفية للحيلولة بين عباد الله وبيوت الله.
مر بالمسلمين خلال الأسبوع الماضي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، التي جعل منها الفاروق عمر مبدأ للتاريخ الهجري للأمة الإسلامية، لما لهذه المناسبة من أثر واضح في مجرى الأحداث ومسار الدعوة الإسلامية، فهل استوعب المحتفون دروس الهجرة، ووقفوا على أهدافها ومراميها، وحققوا التأسي بصاحبها عليه الصلاة والسلام؟! هل أخذوا منها ما يعينهم على إصلاح أحوالهم وتغيير واقعهم وتحسين أوضاعهم؟!
هذه الأوضاع والأحوال التي نفذ من خلالها أعداء الأمة، لبسط السيطرة على ديار المسلمين وفرض ثقافة المحتل على شعوبهم، تحت شعارات تحرير الشعوب ورعاية حقوق الإنسان ونشر العدالة السياسية والاجتماعية بين هذه الشعوب المقهورة، وكأن قهر الاحتلال يقل عن قهر السلطان والاستبداد، إلى غير ذلك من الدعاوى العريضة التي تخفي وراءها الأهداف الحقيقية لهذه الحملة الاستعمارية التي تستهدف ديار المسلمين.
ولعل ما تروّج له أمريكا لما يسمى "مشروع الشرق الأوسط الكبير للإصلاح" يأتي ضمن هذه الحملة، لبث المزيد من السيطرة والنفوذ الأجنبي وتعزيز الوجود الاستعماري، والذي انتشرت جيوشه المحتلة في أقطار كثيرة من دنيا العروبة والإسلام، لتنفيذ سياسات المحتلين، والتمكين للغزو الثقافي الذي يستهدف عقيدة الأمة وفكرها ومقومات نهضتها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لو تمثلت أمتكم روح الهجرة وتضحياتها لما وصلت إلى هذا الحد من استهانة الأمم بها، فروح الهجرة تعني اليقين الجازم بأن الله ينصر دينه ويؤيد رسوله، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40].
ولذلك عاد من كان يطارد رسول الله في الصباح، عاد حارسًا له في المساء بعد أن رأى بأُم عينيه أن الله يمنع رسوله، ولكنه عاد بجائزة عظيمة، إنها سواري كسرى، عاد بسواري كسرى، ليتسلمها سراقة بن مالك في عهد الفاروق عمر، يوم وصل المسلمون إلى مدائن كسرى، وبادت دولة الأكاسرة.
إنها الثقة بالله، واليقين بنصره، حين لا يتوجه المرء إلا لله، فلا ضعيف مع الله، ولا قوي بسواه، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ونقرأ في كتاب الله العزيز قوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، ومن يتابع مراحل الدعوة الإسلامية يرى المسلمين في مكة وقد تعرضوا لكل أصناف البلاء والاضطهاد من قبل كفار مكة، ولم يسلم من أذى المشركين رسول الله ، فصبر هو وأصحابه، وتحمل الأذى، وتسامت هممهم فوق كل بلاء في سبيل الله ونصرة دينه والثبات على الإيمان، حتى ضاق المشركون بهم ذرعًا، وراحوا يبطشون بأصحاب النبي ، ويخططون لقتل النبي نفسه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30].
فأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة حيث دار الهجرة، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، إن المهاجرين في هذه الأيام غرباء في ديار الإسلام.
أيها المسلمون، وبالمهاجرين والأنصار قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة على أسس الإيمان والمؤاخاة وتربية المسجد الذي بناه النبي عليه الصلاة والسلام أول ما نزل المدينة، هذا يؤكد على دور المسجد في إعداد الأجيال الربانية وحملة الدعوة الإسلامية.
وقد نظم نبينا عليه الصلاة والسلام حياة مجتمع المدينة في وثيقة دستورية تحفظ حقوق المسلمين وغير المسلمين في سماحة وعدالة لم تعرفها أحدث القوانين الوضعية، ولم تقترب منها، وكيف لا والرسولل صلى الله عليه يشرع من وحي ربه، والبشر يشرعون من هوى أنفسهم، وينحرفون مع مصالحهم.(18/330)
أيها المسلمون، ولم يمض طويل وقت حتى عاد المهاجرون الذين تركوا الأوطان والأهل والأموال في سبيل الله، نصرة لدينه واتباعًا لرسوله، عادوا براية الحق التي هاجروا تحت لوائها فاتحين منتصرين، ليعلو نداء التوحيد فوق البيت الحرام وتنتهي عبادة الأوثان والأصنام، وإذا بمكة ومن حولها من جزيرة العرب تذعن لراية الهجرة، راية الحق، ويُهدي الله جل في علاه نصره لرسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]، فهلا حقق المسلمون في هذه الأيام وهم يعيشون ذكرى الهجرة النبوية وصف الإيمان الذي ينصر الله أهله، كما نصر الصحابة الكرام بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام ومن سار على نهجه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.
لقد علمتنا الهجرة الشريفة أن الثقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعباده المؤمنين، وصدق الله العظيم: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، جاء في الحديث الشريف عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))، أو كما قال.
التائب من الذنب كمن لا ذنب له. فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد الله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لم تكتف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بما يقوم به جيشها من اجتياح للمدن والقرى وقتل للأبرياء وفرض الحصار على سائر الأرض الفلسطينية، وترويع الآمنين بهدم البيوت، وتجريف الأراضي، وقطع الأشجار لمواصلة بناء جدار الفصل العنصري، إمعانًا في تكريس الاحتلال وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية لإعاقة الحياة العادية للمواطن الفلسطيني، بعزل المُزارع عن مزرعته، والطالب عن مدرسته وجامعته، والطبيب عن عيادته، وأبناء الأسرة والبلدة الواحدة عن بعضهم بعضًا.
لم تكتف هذه السلطات بكل هذه الممارسات الظالمة، بل أضافت إليها سطوًا وقرصنة على أموال البنوك العربية والعبث في محتوياتها وحساباتها ومصادرة أموالها، مرهبة الموظفين والمراجعين، في سابقة خطيرة تستهدف زعزعة الحياة الاقتصادية لأبناء شعبنا التي تزداد حرجًا يومًا بعد يوم، جراء الممارسات الإسرائيلية، مع أن كل هذه الممارسات التي تهدف إلى إذلال شعبنا والتضييق عليه لن تزيد هذا الشعب المرابط إلا إصرارًا على البقاء وتمسكًا بحقوقه الثابتة مواصلاً حياته في رباط وثبات فوق تراب وطنه الطهور.
يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، ومن الممارسات الظالمة ما تفوه به نائب وزير الدفاع الإسرائيلي بوصفه الفلسطينيين والعرب بأنهم يعانون من خلل في صفاتهم الوراثية، يدفعهم هذا الخلل إلى قتل الآخرين، إن أقل ما توصف به هذه التفوهات بالعنصرية والاعتداء على حكمة الله في خلقه وتكريمه لبني الإنسان.
وقريب من هذه التفوهات وفي نفس السياق ما تفوه به أحد الحاخامين اليهود بوصفه للدين الإسلامي بأنه دين متخلف، ودعا إلى فصل المواطنين العرب عن الإسرائيليين لعدم إمكانية التعايش بين الإسرائيليين والعرب في الدولة العبرية على حد قوله وزعمه.
إن هذه التفوهات والتي سبقتها تفوهات كثيرة بوصف العرب بالصراصير أو الأفاعي أو الذئاب تدل بوضوح على العقلية السوداوية تجاه الدين الإسلامي، والعنصرية البغيضة ضد المواطنين العرب من أبناء فلسطين المحتلة.
لقد أقر الدين الإسلامي يهود المدينة على دينهم، وحفظ حقوقهم في الوثيقة التي وضعها النبي لتنظيم حياة مجتمع المدينة في ظل دولة الإسلام الأولى، وعاش غير المسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي في ظل دولة الإسلام يتمتعون بكامل حقوقهم الدينية والمدنية، ولكنها عدالة الإسلام وسماحة المؤمنين.
إنه الإسلام ـ أيها الناس ـ الذي كفل كرامة الإنسان دون النظر إلى دينه وجنسه، فلا عزة للمسلمين بغير الإسلام، ولا سعادة للبشرية المنكوبة بعيدًا عن سلطانه وأحكامه.
ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
====================(18/331)
(18/332)
عزة المؤمن
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3364)
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
30/4/1425
المسجد الأقصى
الخطبة الأولى
وبعد: أيها المسلمون، يقول الله تعالى في محكم كتابه وهو أصدق القائلين: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:138-141].
أيها المسلمون، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: انهزم أصحاب رسول الله يوم أُحد، فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيلٍ من المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه: ((اللهم لا يعلوَنّ علينا، اللهم لا قوّةَ لنا إلا بك، ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر))، فأنزل الله هذه الآيات، وثاب نفرٌ من المسلمين رماة وصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين، حتى هزموهم، فذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ [محمد:35]، يعني الغالبين على الأعداء بعد غزوة أحد.
وفي هذا القول بيان فضل هذه الأمة، لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، حيث قال لموسى عليه السلام: إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى [طه:68]، وقال لهذه الأمة: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ.
أيها المؤمنون، أيها المرابطون، يجيء هذا التوجيه الرباني ليعالج ويواجه الوهن والحزن اللذين يساوران المكث في هذا المقام، يواجههما بالاستعلاء والاعتزاز، لا بمجرد الصبر والثبات، الاستعلاء الذي ينظر من علٍ إلى القوة الطاغية المتجبرة والقيم السائدة والتقاليد والعادات والجماهير المتجمهرة على الضلال.
أيها المسلمون، إن المؤمن هو الأعلى، الأعلى سندًا ومصدرًا، وهو الأعلى ضميرًا وشعورًا وخلقًا وسلوكًا، لأن عقيدته في الله هي بذاتها موحيةٌ بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى والعمل الصالح والخلافة الراشدة، فضلاً على إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة، الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها ومصائبها وحسراتها جميعًا، ويطمئن إليه ضمير المؤمن، ولو خرج من الدنيا بغير نصيب، كما أن المؤمن هو الأعلى شريعةً ونظامًا.
وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديمًا وحديثًا، ويقيسه إلى شريعته ودينه، يراه كله أشبه بمحاولات الأطفال وخطى العميان، إلى جانب هذه الشريعة الغراء والنظام الكامل، وفي نفس الوقت سينظر إلى البشرية الضالة الحائرة من علٍ في عطفٍ وإشفاقٍ عليها، على بؤسها وشقائها، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء والتكبر على الشقوة والضلال.
أيها المسلمون، وهكذا كانوا، المسلمون الأوائل يقفون أمام المظاهر الجوفاء والشعارات البراقة والقوى المتجبرة المتسلّطة والاعتبارات التي تتعبّد الناسَ في الجاهلية، والجاهلية ليست كما يظن البعض أنها فترة من الزمان وقد انتهت، إنما هي حالةٌ من الحالات تتكرّر وتتجدّد في الماضي والحاضر والمستقبل على السواء.
نعم، هكذا وقف المغيرة بن شعبة أمام صور الجاهلية وأوضاعها وتطوراتها في معسكر رستم قائد الفرس المشهور، عن أبي عثمان النهدي قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة، وعبرها إلى أهل فارس، أجلسوه، واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيروا شيئًا من شاراتهم تقويةً لتهاونهم، فأقبل المغيرة بن شعبة، والقوم في غيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة، أي: على مسافة ثلاثمائة أو أربعمائة خطوة، لا يصل أحدٌ إلى صاحبهم حتى يمشي عليها، فأقبل المغيرة، وله أربع ضفائر، يمشي حتى جلس على سرير رستم ووسادته، فوثبوا عليه، وأنزلوه ومغثوه أي: صرعوه، فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قومًا أسفه منكم، إنا معشر العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضًا، إلا أن يكون محاربًا لصاحبه، فظننتكم أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وإن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، ولا نصنعه، ولم آتيكم ولكن دعوتموني، اليوم علمتُ أن أمركم مضمحل أي: زائل، وأنكم مغلوبون.
أيها المسلمون، وتتبدّل الأحوال، ويقف المسلم موقف المغلوب المجرد من القوة المادية، فلا يفارقه شعوره واعتقاده أنه الأعلى، وينظر إلى الآخرين من علٍ ما دام مؤمنًا، فيستيقن أنها فترةٌ وتمضي، وأن للإيمان كرةً لا مفرّ منها، فمهما كانت القاضية، فإنه لا يحني لها رأسًا، ولا يجامل ولا يساوم ولا يتنازل، المؤمن يصغي إلى نداء ربه: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197].(18/333)
كما ويقف المؤمن قابضًا على دينه كالقابض على الجمر في المجتمع البعيد عن الدين وعن الفضيلة وعن القيم العليا وعن كل ما هو طاهرٌ نظيفٌ جميل، ويقف الآخرون هازئين ساخرين بهذا المؤمن وعقيدته وقيمه، فلا يهن المؤمن، وهو ينظر من علٍ إلى هؤلاء الساخرين الضاحكين، وهو يقول كما قال واحدٌ من الرهط الكرام الذين سبقوه في موكب الإيمان في الطريق الطويل، إنه نوح عليه السلام: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]، وهو يرى نهاية الموكب الوضيع ونهاية القافلة البائسة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29].
أيها المسلمون، إن المسلم على الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وليكن للضلال سلطانه وجبروته، ولتكن معه جموعه وجماهيره وحلفاؤه، إن هذا لا يغير من الحق شيئًا، فدولةُ الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، فالمؤمنون دائمًا يتمثلون قول الحق جل وعلا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون، إننا لا نقف اليوم، ولن نقف إن شاء الله تعالى في يومٍ من الأيام موقف المدافع عن هذا الدين وكأنه في قفص الاتهام، فهو أسمى وأرفع من كل ذلك، وأبعد من أن توجه إليه التهم أو تثار حوله الشبهات، فحديثنا من منطلق بيان هدايته ومنهجه وطبيعته؛ لأنه دين الرحمة والعدل والأمن والسلام والطمأنينة، وإن المستقبل له بالرغم من كل المحاولات اليائسة للنيل منه أو لتشويه صورته وطمس معالمه وحضارته من قبل أعدائه، حسدًا من عند أنفسهم، وخوفًا على مبادئهم الهدامة ومعتقداتهم الزائفة وأفكارهم الشيطانية، أو النيل منه من قبل أتباعه الذين لا يفهمونه، وبالتالي لا يحسنون عرضه على الآخرين.
نعم، إن المستقبل والعلو لهذا الدين، إنهم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]، أيريد المشركون إطفاء نور الله وشرعه المنير بأفواههم؟! وهذا تهكّم بهم في إرادتهم إطفاء الإسلام بقولهم عن القرآن الكريم: إنه سحرٌ وشعرٌ وأساطير الأولين، واليوم يقولون عنه: إنه دين الإرهاب، سبحان الله! ما أشبه اليوم بالبارحة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فالشر والإلحاد يعودان من جديد، ولكن بثوبٍ آخر.
أيها المسلمون، وقد شبه الله تعالى من أراد إبطال هذا الدين أو الصدّ عنه بمن أراد إطفاء الشمس الساطعة بفمه الحقير، والله تعالى متمّ نوره أيّ مظهر دينه بنشره في الآفاق وإعلائه على كافة الأديان، كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه الإمام مسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها))، والله تعالى سبحانه وتعالى سيعلي شأن هذا الدين رغم أنف الكافرين المجرمين الحاقدين، فتاريخ الإسلام والمسلمين وما اشتمل عليه من نماذج العدل المشرقة ومن مبادئ حقوق الإنسان واضحٌ معلوم لدى القاصي والداني، ولدى العدوّ والصديق، كما أن تاريخ الآخرين بما اشتهر عليه من جرائم بشعة وأعمالٍ بربرية همجية يشيب لهولها الأطفال وتقشعر منها الأبدان معلومٌ أيضًا، ولم يعد سرًا يتكتم عليه، إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين.
ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فرَج المستغفرين، استغفروا الله.
-------------------------
الخطبة الثانية
وبعد: أيها المؤمنون، إن المسلمين اليوم قد أضحوا أمام فتنةٍ عمياء وشدائد مظلمة، ليس لها من دون الله كاشفة، إنها فتنةٌ أوقد نارها أعداء الإسلام، وما أكثرهم، يريدون بذلك إضعاف شوكة العرب والمسلمين وغزو بلادهم ونهب خيراتهم وثرواتهم والهيمنة عليهم. إن الشعوب العربية والإسلامية تواجه اليوم بغيًا مفضوحًا وعدوانًا سافرًا، لا يستند إلى برهانٍ أو دليل، وما مشروع الإصلاحات التي ينادى بها هنا وهناك، وما مشروع الشرق الأوسط الكبير إلا استكمالٌ لمشروع الهيمنة وفرض السيطرة علينا، وما يحدث اليوم على أرض العراق من جرائم بشعة ومجازر مؤلمة يروح ضحيتها آلاف الأبرياء، ما هو إلا حلقةٌ في سلسلةٍ متواصلةِ الحلقات، تستهدف النيل من المسلمين أينما كانوا، كما أنها تستهدف صمودهم وزرع بذور الفتنة بينهم لإضعافهم. إن هدف المحتلين هو تدمير البنية التحتية للشعب العراقي، حتى لا تقوم لهم قائمة.(18/334)
أيها المرابطون، أما ما يحدث لشعبنا الفلسطيني فهو أمر يصعب وصفه بالكلمات، حيث إنه يتعرض منذ مدة طويلة لحصارٍ سياسيٍ وعسكريٍ واقتصاديٍ واجتماعيٍ وثقافيٍ وديني، كما ويتعرض لجميع أنواع القهر والذل والأعمال التعسّفية على مرأى ومسمعٍ من دول العالم الكبرى وهيئة الأمم ومجلس الأمن ومؤسسات حقوق الإنسان، ولا أحد من هؤلاء يحرك ساكنًا، وليست هذه أول مرة يتعرض فيها شعبنا للحصار والمضايقات، ولكن يبدو هذه المرة أن هذا الحصار أشد وأنكى، والعالم كله على علمٍ بأن شعبنا قد احتلت أرضه، وسلبت حقوقه، وتعرض لنكباتٍ متتالية على مدار السنوات الماضية، وصدرت القرارات المؤيدة لهذا الحق عن المؤسسات الدولية، ولكن مع الأسف بقيت حبرًا على ورق، فمع كل ذلك طرحت عملية السلام على الساحة، فكانت المكافأة ضرب حصارٍ متعدد الأشكال والألوان، وبصورةٍ تتنافى مع أبسط مشاعر الإنسانية، وحرم هذا الشعب من لقمة العيش ومن خيرات بلاده، وهدمت البيوت، وصودرت مساحاتٌ شاسعةٌ من أرضه، ولا يكاد يمضي يوم إلا وتطالعنا وسائل الإعلام بمصادراتٍ جديدة وإنشاء مستوطناتٍ إضافية، ناهيكم عن عمليات القتل والتدمير والاعتقال والترويع التي أصبحت تتكرر بشكلٍ يومي، ثم جاءت عملية بناء الجدار الفاصل حول مدينة القدس بشكلٍ خاص وحول القرى والمدن الفلسطينية بشكلٍ عام، فمدينة القدس أصبحت معزولة تمامًا عن باقي المدن والقرى الفلسطينية التي بدورها تحولت إلى معسكرات اعتقالٍ جماعية.
إن بناء هذا الجدار ضرب حياة الفلسطينيين على جميع المستويات: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وسيحول حياتهم إلى جحيمٍ لا يطاق، فإلى متى يبقى العرب والمسلمون يتفرجون، وكأن ما يجري على هذه الأرض أمرٌ لا يعنيهم؟!
أيها المسلمون، إن إعلان بعض المسؤولين الإسرائيليين بأن البلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك ورأس العمود وغيرها من الأحياء القريبة من القدس ستبقى جزءًا من دولتهم، إنه أمرٌ في غاية الخطورة، وإنه يمثل في حد ذاته انتهاكًا صارخًا لمكانة المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، إن المسجد الأقصى المبارك هو رمز عقيدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فارتباط المسلمين به ارتباطٌ عقدي منذ رحلة الإسراء والمعراج، وسيبقى هذا الارتباط قائمًا إلى يوم الدين، بالرغم من كل ما نشاهده من تغييراتٍ على أرض الواقع، وما نسمعه من تصريحاتٍ تعتبر استفزازًا لمشاعر المسلمين في كل مكان.
========================(18/335)
(18/336)
سنة التغيير
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3369)
محمد أحمد حسين
القدس
7/5/1425
المسجد الأقصى
الخطبة الأولى
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، من سنن الله الاجتماعية أنه تعالى لا يبدل ما بقومٍ من عافية وأمنٍ وعزةٍ ونعمة وسلطانٍ ومنعة إلا إذا كفروا تلك النعم، وارتكبوا المنكرات، وغيّروا حالهم من الطاعة إلى المعصية، ومن اتباع منهاج الله إلى اتباع الأهواء، ومن حاكمية الله إلى سلطان البشر، وقد ورد في الأثر: ((أوحى الله إلى نبيٍ من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يقومون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون))، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الرعد:11].
أيها المسلمون، تعالوا بنا نطبق هذا النص الكريم على حال أمتنا اليوم، لنرى مدى حاجتها إلى تغيير أحوالها، إلى تغيير النوايا والسلوك والأعمال، فقد ربطت مشيئة الله تغيير الأحوال سلبًا أو إيجابًا بنية الأفراد والجماعات والأمم، فإقبال الأمة بنية خالصة لله، مع العمل الصالح والسلوك السوي يرشحها للتغيير نحو الخير والأفضل، لأن الجزاء من جنس العمل، والله يقول: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]، فتغيير الحال لا يكون بالتمني والأماني، ولكن بالعمل الجاد والنية الخالصة والسلوك القويم، فمن أراد أن يصل إلى بر الأمان وشاطئ السلامة فعليه أن يعد الزاد من التقوى والعمل الصالح، وأن يحكم السفينة ويتعهد الراحلة، وإلا كان كما قال القائل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها…إن السفينة لا تمشي على اليبس
لأن بحر أعمالكم هو الذي يقودكم إلى العزة والكرامة.
أيها المسلمون، يا خير أمةٍ أخرجت للناس، هل تدارستم حال الأمم السابقة التي أعرضت عن هدايات الله وخالفت رسله، فأخذها الله بذنوبها، وجعلها عبرةً لكم، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ [الأنفال:54].
ولكم ـ أيها المسلمون ـ أسوةٌ حسنة في حال سلفنا الصالح الذين قبلوا نعمة الله، وحملوا الإسلام الذي رضيه الله لنا دينًا، حملوا الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، فغيّر الله أحوالهم من الضعف إلى القوة، ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الضلال إلى الإيمان، ومن الذل إلى العزة، وغدت دولة الإسلام هي الدولة الأولى في العالم عدة قرونٍ من الزمان، يطمع في عدلها الضعفاء، ويهابها الأعداء، وينتشر سلطانها من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، يحكم خليفتها بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وتطبِّق رايتها شرع الله، في سلوكٍ لا يعتريه الخلل، وعملٍ لا يشوبه الزلل، حنفاء لله غير مشركين به، فأيدهم الله بنصره، وأمدهم بتوفيقه وعونه، ومكن لهم في الأرض، واستخلفهم فيها، أليس الله هو القائل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55]؟!
يقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: (من كان متأسيًا فليتأسَ بأصحاب رسول الله ، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وفي الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى))، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى))، أو كما قال.
فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى واقتدى بهداهم إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
وبعد: أيها المسلمون، يا خير أمةٍ أخرجت للناس، كيف يغير الله حال أمتنا وهي تقيم على المعاصي، انظروا أنى شئتم إلى أحوالنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهل هذه الأحوال مرشحةٌ للتغيير أو تقود الأمة نحو الأفضل؟!(18/337)
إن الأمة تحكم بغير ما أنزل الله، وقد نحي دستور الإسلام الخالد عن سدّة حكمها منذ زوال الخلافة الإسلامية التي حكمت بالإسلام، واتخذت القرآن دستورًا وسنة نبينا هاديًا ودليلاً، وأصبحت أشكال الحكم ومسمياته في دنيا المسلمين لا تقرّ معروفًا ولا تنهى عن منكر، بل تشرع وفق الهوى بعيدًا عن هدايات الله، وتأخذ بالقوانين الوضعية التي تبعد الناس عن روح العقيدة وعن أحكام الشريعة، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
أما اقتصاد المسلمين فيقوم على الربا الذي حرمه الله، وأصبحت المؤسسات الربوية ركيزة من ركائز الاقتصاد الرأسمالي القائم على الربا والاحتكار وجمع الثروة بأية وسيلة، دون النظر إلى آفاتها وآثارها على المجتمع، أصبحت هذه المؤسسات هي المتحكمة في اقتصاد المسلمين، مع أن الله جل وعلا لم يعلن حربًا على ذنب كإعلانه الحرب على الربا والمتعاملين به، يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. فكيف يتغير حال أمة تحارب الله ورسوله بأكل الربا والتعامل به؟!
أما أحوالنا الاجتماعية فحدث ولا حرج عن السفور والتبرج والاختلاط بين الرجال والنساء وتشبه الجنسين بعضهم ببعض، وكأن مقياس الحضارة الاجتماعية أصبح الميوعة والتخنث وتقليد المجتمعات الإباحية التي لا تعرف للفضيلة معنًى ولا للمروءة قيمة، المروءة التي عرفها المسلمون تحافظ على العرض، وترعى الشرف، وتضع المرأة في مكانها اللائق من الصون والكمال والعفة.
أيها المسلمون، وأما أحوالنا الثقافية فقد غزتها أفكار الآخرين وثقافاتهم، التي أخرجت أبناء الأمة عن تميزهم بالشخصية الإسلامية، التي توازن بين أشواق الروح ومتطلبات البدن، لتخرج إنسانًا سويًا في فكره وأخلاقه وعلمه وثقافته، وتشده إلى كوامن الإيمان ونوازع الخير، فهل قامت فلسفة التربية والتعليم في بلاد المسلمين على بناء الشخصية الإسلامية وفق المفهوم الإسلامي أم تركز هذه التربية على سلخ الإنسان المسلم من ماضيه وحاضره، ليلحق بركب المستعمرين الذين يروجون لمشاريع التغيير في ديار المسلمين، بما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الصغير أو الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؟! هذا المشروع الذي يسعى للهيمنة على ديار المسلمين، فقد أعد ليشمل كل بلاد المسلمين التي نعمت حتى أجلٍ قريب بحكم الإسلام، وامتد إليها سلطان المسلمين، وكان خليفتهم يخاطب السحابة قائلا: "أمطري أين شئت، فإن خراجك محمول إلينا".
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، مادام تغيير الأحوال يرتبط بتوجه الأمة ونواياها وأعمالها وسلوكها نحو الخير، فلا بد لأمتنا من سلوك هذا التوجه، ليغير الله أحوالها، ويأخذ بيدها نحو مراقي العزة والفلاح.
جديرٌ بالأمة بعد أن جربت كل المبادئ الأرضية من قومية واشتراكية ورأسمالية أن تعود ثانية إلى رحاب إسلامها، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، وأنزلها المنزلة اللائقة بها بين أمم الأرض كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن الإسلام العظيم الذي وقف في وجه المغول والتتار يوم كان شعار المعركة في عين جالوت "وا إسلاماه"، هو نفسه الذي وحد المسلمين بقيادة الناصر صلاح الدين، وحرر القدس وبلاد الشام من دنس الصليبيين، وهو نفسه ـ أي: إسلامكم ـ القادر إذا توجهت الأمة إليه بتحكيمه والاحتكام لشرعه، أن يقف في وجه المشاريع الاستعمارية، التي تسعى لبسط نفوذها على ديار المسلمين، وهي جادةٌ بالقضاء على حضارتهم وثقافتهم وتفكيك وحدتهم، ووضع حدٍ لنهضتهم وقوتهم، في حربٍ لا تخفي أهدافها، للقضاء على العقيدة الإسلامية والمسلمين، من خلال شعارات براقة ومبادئ هدامة، يدركها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أما أنتم يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، يا من شرفكم الله بالرباط في بيت المقدس وأكنافه، وجعلكم سدنة وحراسًا لمسجدها الأقصى الذي بارك الله فيه وبارك حوله، فعليكم بمزيدٍ من الصبر والثبات والعمل المخلص ذي النوايا الحسنة، وعليكم بالعزيمة الصادقة على وحدة الصف والموقف والكلمة، في مواجهة الأخطار التي تحيط بكم وبقضيتكم وبمقدساتكم وبمقدرات شعبكم، في زمن العجز العربي والصمت الدولي على ما يجري في أرضكم الطاهرة، فإرادة الحرية وإرادة العزة لا يقمعها الحديد، ولا يخمدها البطش، ولا تقهرها السجون، ينشرون كل ما من شأنه أن يفتّ في عضدكم من السماسرة والعملاء والخونة والجواسيس، الذين لا همّ لهم إلا متاع الدنيا الزائل والثمن البخس في مواقفهم الجبانة، التي تمكن للاحتلال والمحتلين.(18/338)
ولا تيأسوا ـ أيها المسلمون ـ من روح الله، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.
دع المقادير تجري في أعنّتها…ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين طرفة عينٍ وانتباهتها…يحوّل الله من حال إلى حال
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
========================(18/339)
(18/340)
الحملات المسعورة ضد الإسلام وأهله
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3630)
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
21/10/1425
المسجد الأقصى
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، يا أحباب محمد عليه الصلاة والسلام، إن الحملة الصليبية المسعورة لم تقتصر في حربها ضد المسلمين فحسب، بل تعدت هذه الحملة الحاقدة ضد ديننا الإسلامي العظيم في هذه الأيام، وهي مستمرة وفي تزايد بهدف تشويه صورة الإسلام، وقد سبق أن نبهنا لخطورة هذه الحملة الصليبية الجديدة منذ سنتين أو أكثر.
فقد صدر مؤخّرا في أمريكا كتاب يحمل عنوان "الفرقان الحق" باللغتين العربية والإنجليزية، وقد وزع على المكتبات الأمريكية والأوروبية وعلى الإنترنت، كما وزع بشكل واسع في المدارس الأجنبية الموجودة في البلاد العربية، وقد وصلت نسخة منه إلى فلسطين. ومع الأسف لم نسمع أي ردة فعل من الأنظمة الرسمية في العالم العربي والإسلامي، فكأن الأمر لا يعنيهم.
هذا الكتاب المزيف الذي أطلق عليه اسم: "الفرقان الحق" هو ليس بالفرقان، وليس بالحق. إن هدفه التشكيك بالقرآن الكريم ودستور المسلمين، وهدفه إبعاد المسلمين عن دينهم، بل إن شياطين الإنس يخططون لأن يكون هذا الكتاب المزعوم بديلا عن القرآن الكريم، وهيهات لهم ذلك، لقد خابوا وخسئوا، لقد خاب ظنهم وطاش سهمهم.
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، لقد صدر فعلا الجزء الأول من الكتاب المزعوم: "الفرقان الحقّ" بالرسم العثماني، وأن عدد صفحات هذا الجزء ثلاثمائة وثمان وستون. وكما يزعم شياطين الإنس بأن الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب المزيف ستصدر تباعا لتصل إلى اثني عشر جزءا. أي: أن كتاب "الفرقان الحق" المليء بالمغالطات والافتراءات والتناقضات يتكون من اثني عشر جزءا. وهو يمثل حربا ثقافية وغزوا فكريا ضد الإسلام والمسلمين بشكل واضح سافر حاقد، كمحاولة يائسة لصرف المسلمين عن القرآن الكريم ولإبعادهم عن دينهم.
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، إن شياطين الإنس القائمين على إعداد ما يسمى بكتاب "الفرقان الحق" قد خططوا لإعلان حرب صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، وذلك بممارسة أشد أنواع القهر السياسي والاقتصادي والعسكري بحق المسلمين المتمسكين بعقيدتهم وديارهم، وإن أمريكا الكافرة المتغطرسة ستحاول أن تعمل خلال الثلاثة الأعوام القادمة على إضعاف الشرق الأوسط الكبير، وذلك بتفريغ المنطقة العربية من القوة العسكرية والاقتصادية وتغيير المناهج التعليمية والتربوية، وبالمقابل تقوية إسرائيل اقتصاديا وعسكريا وإطلاق يدها على البلاد العربية. ويشمل مشروع منطقة الشرق الأوسط أيضا إنشاء قنوات ووسائل إعلام أمريكية في المنطقة كلها تنطق باللغة العربية بهدف إجبار المسلمين للتخلي عن القرآن الكريم والعمل بالكتاب المزعوم "الفرقان الحق".
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، نتساءل: أين ما يسمى بالديمقراطية التي تنتهج بها أمريكا وهي تدعي حرية الرأي والفكر؟! لماذا سيجرون المسلمين حسب مخططاتهم الاستعمارية لترك القرآن الكريم وإلزامهم حسب زعمهم بما يسمى بكتاب "الفرقان الحق"؟! إننا نستذكر محاكم التفتيش التي وقعت في بلاد الأندلس إسبانيا، فكانت وصمة عار في جبين إسبانيا. ثم لماذا تحاول أمريكا تقسيم وتجزئة أقطار إسلامية؟! لماذا تنادي بتقسيم العراق وتقسيم السعودية إلى أجزاء وأجزاء؟! ألا يكفي العالم الإسلامي ما يعانيه من تقسيمات على ضوء اتفاقيات سيكس بيكو، وتريد أمريكا أن تجدد هذه الاتفاقيات الظالمة لتزيد في تقسيماتها؟! ثم لماذا لا تقسم أمريكا نفسها وهي مكونة الآن من إحدى وخمسين ولاية؟!
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، إن شياطين الإنس الذين يعدون ما يسمى بكتاب "الفرقان الحق" يحاولون جاهدين محاكاة وتقليد القرآن الكريم في أسلوبه وشكله وحروفه ورسمه، وقد أخذوا بعض التعابير القرآنية وأسماء السور، وأقحموها في هذا الكتاب المزيّف، وذلك لإقناع المسلمين بأن هذا البديل أفضل من القرآن الكريم.
ويزعم شياطين الإنس بأن القرآن الكريم من وضع البشر، وأنه مزيف، وأنه غير صالح لحياة البشرية في هذه الأيام. كما يزعمون بأن القرآن الكريم يدعو للإرهاب والتطرف حسب تفسيراتهم، وأنه يثير روح العداء بين الشعوب حسب افتراءاتهم.
إن هؤلاء الحاقدين لا يدركون بأن القرآن الكريم جاء لهداية البشرية جمعاء ولإسعادها، وأنه دعا للإيمان والتوحيد وإلى إعمال العقل والتفكير.(18/341)
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، إن شياطين الإنس ينكرون الوحي الذي هو من عند الله العلي القدير، والذي نزل على قلب نبينا الأكرم محمد ، والمعلوم أن الذي ينكر الوحي على سيد الخلق محمد فإنه ينكر الوحي عن سائر الأنبياء والمرسلين.
لقد اغتاظ شياطين الإنس من المسلمين؛ لأن كتاب المسلمين ودستورهم القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في الكون كله الذي لم يطرأ عليه تغير ولا تحريف ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان.
أيها المسلمون، إن مئات الملايين من المسلمين يحفظون القرآن الكريم بقلوبهم وعقولهم، وإن الملايين من مراكز تحفيظ القرآن منتشرة في أرجاء المعمورة، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة النساء: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ويقول تعالى في سورة الإسراء: لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإنس وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، ويقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41، 42].
لا يدركون بأن الله رب العالمين قد تكفل بنفسه بحفظ القرآن الكريم بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. وهذا الحفظ هو مظهر من مظاهر إعجاز القرآن الكريم.
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، لم يكتف الاستعمار الدولي بما يخطط ضد القرآن الكريم، بل إنه يسعى إلى تقويض الأسرة المسلمة وتدمير الأخلاق الإسلامية القويمة، وذلك من خلال عرض بعض المحطات الفضائية لبرامج تلفازية هابطة مدمّرة للقيم والأخلاق، وتسخير الجهود العربية والأموال العربية لهذه المهام الاستعمارية الكافرة، والتي تستهدف الجيل الصاعد من الشباب والفتيات، بالإضافة إلى التدخّل في المناهج المدرسية بهدف نشر الرّذيلة والأفكار المسمومة وما يترتب على ذلك من نتائج سلبية تؤدي إلى بثّ روح الفرقة والهزيمة والتبعية وهدم الأسرة والمجتمع وإلهاء الناس عن القضايا المصيرية للأمة، وعليه يتوجب شرعا مقاطعة هذه المحطات المشبوهة الهابطة الرخيصة، ويحرم شرعا مشاهدة البرامج اللاأخلاقية، كما يحرم التعامل معها والمشاركة فيها، وكم من الملايين من المكالمات الهاتفية التي شارك الشباب والشابات من خلالها في هذه البرامج الهابطة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
-------------------------
الخطبة الثانية
قبل البدء ب-------------------------
الخطبة الثانية أشير إلى مسألة فقهية تتعلق بالمرور بين المصلين: لقد لوحظ مرارا وبخاصة أيام الجمع بأن المصلين يقطعون صلاة بعضهم بعضا، وذلك من خلال المرور بين يدي المصلين، فكأن هذا المرور أصبح شائعا ومألوفا ومعتادا، وكأن الناس يشعرون أنهم في سجن يريدون الهرب منه بسرعة، ولا يدرك هؤلاء المتسرعون الحكم الفقهي حيث نهى الرسول عليه السلام عن المرور بين يدي المصلين من خلال عدة أحاديث نبوية شريفة، وعليه ينبغي للشخص حين الانتهاء من صلاته للسنة البعدية أن يلتفت خلفه قبل الانصراف حتى يتأكد أن الذي وراءه قد انتهى من صلاته أم لا.
يا أبناء الإسراء والمعراج، من المؤسف والمؤلم أن يروج من جديد لما يسمّى بوثيقة جينيف، وسبق أن تعرضنا لوثيقة جينيف قبل عام تقريبا وأخمدت في مهدها، ولكن البعض من أبنائنا أخذوا يدعون لها ويرجون لها من جديد، هذه الوثيقة التي تمثل تنازل فوق تنازل لحقوقنا الشرعية في أرضنا المباركة المقدسة، إنهم يتوهمون بأن الاحتلال الإسرائيلي سيتوقف عن بناء الجدار العنصري اللاأمني، إنهم يتوهمون بأن الاحتلال سيتوقف عن مخططاته التوسعية وعن القتل وسفك الدماء وعن مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، ثم ماذا بقي من الأرض التي سيفاوضون عليها إذا لم يتم الانسحاب؟! ثم من فوضهم ليتحدثوا باسم اللاجئين الفلسطينيين مع التأكيد على أن حق العودة للاجئين هو حق شرعي لا يسقط مع مرور الزمان؟!(18/342)
أيها المسلمون، نتساءل: من أعطى هؤلاء الذين وقّعوا على ما يسمى بوثيقة جنيف اللعينة، من أعطاهم الصلاحية لتسليم حائط البراق لسلطات الاحتلال؟! وهل أن فرض أمر الواقع يغير من الأحكام الشرعية؟! وهل يضيع الحقوق المشروعة؟! إن هذا الحائط هو جزء من سور المسجد الأقصى المبارك، وهو وقف إسلامي من الناحية الشرعية، حتى إن عصبة الأمم المتحدة قبل ما يزيد عن سبعين عاما قد اعترفت بملكية حائط البراق للمسلمين باعتباره وقفا إسلاميا، وكذلك لجنة شو البريطانية أقرت بذلك. فالمؤسسات غير الإسلامية سبق وأن اعترفت وأقرت بأن حائط البراق للمسلمين، فما بال هؤلاء يتنازلون عنه؟! وعليه فإن هذه الوثيقة المزعومة هي غير شرعية ولا نعترف بها لا سابقا ولا لاحقا، كما أن المسلمين يرفضون سائر المبادرات المحلية والدولية التي تمس حق شعبنا في العودة إلى أرضه أو تساوم على القدس ومقدساتها.
أيها المسلمون، سيظل أبناء أرض الإسراء والمعراج أوفياء لبلادهم التي باركها الله وقدسها وقرر إسلاميتها مهما طالت مدة الاحتلال والاغتصاب والاستعمار، هذه الأرض التي ورثناها والتي ارتبطت بقرار من الله رب العالمين وورثناها أمانة غالية عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
ويتوجب على شعبنا الفلسطيني المرابط المزيد من التكاتف والتعاون ورص الصفوف ووحدة الموقف للمحافظة على مقدساته ومقدراته وحقوقه المشروعة ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
=======================(18/343)
(18/344)
الشرق الأوسط الجديد
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4918)
حمود بن غزاي الحربي
الرس
3/7/1427
جامع عبد الله بن عمر
الخطبة الأولى
عباد الله، عند اشتداد المحن وتفاقم الأزمات يذكر العبد أنَّ له ربًا يسمع الشكوى ويرفع البلوى، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، كما قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62].
وعند اشتداد المحن ونزول النوازل بالأمة يجدُ العبدُ المسلم أسبابها وآثارها والمخرج منها في كتاب الله الذي سماه بصائر، فقال في سورة الجاثية: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ [الجاثية:20], أي: معالم يتبصرونها.
إن أهل القرآن يجدون ما يقع الآن في فلسطين ولبنان أو وقع في العراق وأفغانستان في كتاب الله الذي أنزله على قلب رسوله وخليله محمد قبل أربعة عشر قرنا، فأعداء الله ورسوله بالأمس هم أعداءُ اليوم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عباد الله، دماؤنا وأشلاؤنا وأسرانا وقتلانا واستباحة الأوطان والأموال والأعراض مشاهد ألفناها منذ عشرات السنين، ورأيناها منذ غابر الزمن في فلسطين وأفغانستان وفي الشيشان وكوسوفا وفي البوسنة والعراق وفي لبنان وغيرها، منذ متى ودولة يهود تفعل أكثر مما تفعله في لبنان وفلسطين اليوم؟! وينتهي المشهد على مظاهرات ومسيرات، صراخ وعويل وشجب واستنكار، ثم ماذا؟ كامب ديفيد، معاهدات سلام، أوسلو الأولى والثانية، شرق أوسط كبير، ثم شرق أوسط جديد، وهكذا يبدأ المشهد داميًا ثم يسدل الستار على ابتسامات ومصافحات ومعاهدات مليئة بالذلّ والخنوع، وهكذا عاشت أمّة الإسلام في سراديب الظلام طيلة فترة الصراع، وفي أنفاق التيه إلى اليوم، وستبقى حتى تعود إلى ربها وخالقها وتقرأ معالم الطريق من القرآن الكريم وتستبين سبيل المجرمين كما أمرها الله تعالى: لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:37].
عباد الله، لستم بحاجة إلى سماع أعداد القتلى والجرحى في فلسطين ولبنان، فالكل يسمع ويرى، ولن نتحول إلى محللين سياسيين من على منبر الجمعة، فلكل مقام مقال كما يقال، لكننا نودّ أن نقف وقفات قرآنية ونبوية مع هذا الحدث الذي يدرك الرجل الحصيف أنّ له ما بعده على المنطقة بأسرها. وفي القرآن خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحكمُ ما بيننا، لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ورسول الله تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
الوقفة الأولى: يقول تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]، ويقول تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. ويقول رسولنا الكريم الذي لا ينطق عن الهوى في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن ورواه ابن عمر رضي الله عنهما: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
في كل حدث وكل نازلة وكل مصيبة يتحدث الناس عن الأسباب، سواء كانت حربًا أو غرقًا أو زلزالاً، ويقولون كل شيء إلاّ شيئًا وحدًا، ويعرجون على كل سبب إلاّ سببًا واحدًا، هو الذنوب والمعاصي التي غرقت بها الأمة اليوم إلاّ من شاء الله، والإقصاء لهذا السبب إقصاءٌ للعلاج أيضًا. لمَا خالف الرماة أمر رسول الله في أحد كانت المصيبة التي أصابت جيش المسلمين، فتساءل الناس: أنَّى هذا؟! فجاء الرد قاسيا: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ. فكيف بنا نحن اليوم؟! كيف بالعالم الإسلامي الغارق في شهواته وملذاته؟! أليس من العار والشنار على الأمة الإسلامية أن تمزق أشلاؤها وتسبى أعراضها وتهدم مدنها وقراها ويقتل رجالها في فلسطين وفي لبنان وفي العراق وغيرها وعلى بعد مئات الكيلومترات تشارك ثلاث عشرة دولة عربية بمسابقة ملكة جمال العرب لاختيار أجمل فتاة عربية، ويتخلل المسابقة حفل فني ساهر يحييه مطربون ومطربات من لبنان والمغرب وليبيا وغيرها؟!(18/345)
إنّ الأمة ـ عباد الله ـ قبل أن تصاب في جسدها أصيبت في دينها وعقلها وتفكيرها، أمتنا مخدّرةٌ بالفن والرياضة والمسرح، وأنّى لأمة مخدرة بأفيون الشهوات والشبهات أن تنتصر على أعدائها؟! ومن سفاهات الشعوب أن تطالب قادتها وسادتها أن يكونوا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين والشعوب ذاتها غارقةٌُ في وحل الشهوات ومستنقعات الرذيلة ما بين كأس وغانية وسباق محموم لحرب الله تعالى بالرِّبا، ومن استحيا منها تسلل لواذًا إلى الربا بطرق ملتوية وفتاوى مشتبهة, فيا ليت شعري متى نفقهُ هذا السِّر من أسرار المصائب والابتلاءات؟! فإنه ما وقع بلاءٌ إلاّ بذنب، وما رفع بلاء إلاّ بتوبة, وسنظل ـ من وحي القرآن الكريم وسنة سيد الأولين والآخرين ـ نستبعد النصر على يهود في وقتنا هذا، فالنصر ليس عبارة تكتب، ولا شعار يرفع، إنه غالي الثمن، ومن المستحيل أن يتحقق النصر بضعفائنا على يد قوم يلعنون خيارنا، من المستحيل أن يتحقق النصر لأمة عطَّلت الجهاد وسكتت عن الإلحاد ورضيت بالفساد. إنَّ الذين يرفعون راية النصر في المستقبل قومٌ وصفهم الله بقوله في سورة الإسراء: عِبَادًا لَّنَا، حقّقوا العبودية لله تعالى قولاً وعملاً واعتقادًا، لم يتحدث عن دولتهم ولا عن حزبهم ولا عن لونهم، بل وصفهم بالعبودية لله تعالى.
الوقفة الثانية: وأمام الواقع المر الذي تعيشه الأمة في لبنان وفلسطين يتعين القول بأنه ليس من المروءة في شيء الشماتة بدماء تنزف وديار تحرق وبشيوخ وأطفال ونساء يقتلون، ولكن من الحكمة والحصفة عدم الانجرار وراء غبار العاطفة القاتلة. لقد نجح الغرب في تحويل الشعوب المسلمة عند الأزمات إلى متفرجين بكائين بالدمع على إخوانهم في فلسطين وفي أفغانستان وفي العراق وأخيرًا في لبنان؛ مسيرات في الشوارع وملاسنات في الفضائيات ومظاهرات تحرق علم إسرائيل وأمريكا، وأيام معدودة وينتهي الصراخ وتجف المآقي بدموعها وكأن شيئًا لم يكن، بينما يهود لمَّا شُتّتوا خطّطوا عشرات السنين حتى أقاموا دولتهم في فلسطين، مؤتمرات وجمعيات وندوات وضغطٌ سياسي حتى قامت إسرائيل الكبرى، والتي يُخطط لها أن تكون العظمى في الشرق الأوسط الجديد، ولا زالت إسرائيل تُقاضي ألمانيا سنويًا لمذبحة اليهود المكذوبة. المعركة القادمة مع إسرائيل تحتاج إلى عمل منظم يبدأ بالفرد ويمر بالأسر وينتهي بالمجتمع، لا يحتاج إلى حرق أعلام وصراخ وعويل وشجب واستنكار.
الوقفة الثالثة: إنَّ خيارات السلام سقطت ومبادرات الاستسلام فشلت بتوقيع إسرائيل التي غدرت ونقضت العهد، فإلى متى نخدع؟! وإلى متى تخدع الأمة بالتعايش السلمي مع إسرائيل؟! إنَّ المسلم الذي رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولا يدرك ديمومة المعركة وسجال الحرب مع يهود حتى تقوم الساعة كما أخبر بذلك الصادق المصدوق في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلاّ الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
إن تاريخ يهود مليء بالغدر مع أنبيائهم ومع نبينا محمد ، فقد غدر يهود بني قينقاع بعد غزوة بدر، وغدرت بنو النضير بعد غزوة أحد، وغدرت بنو قريضة بعد غزوة الأحزاب، واليوم يعيد التاريخ نفسه، كم هدنة وقعت مع اليهود فكانت كلّ هدنة عهد لحرب لاحقة، ولا يصلح ليهود إلاّ الدم ويقولون: متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريبا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم، فإن كان صوابًا فذلك من الله وكرمه، وإن كان غير ذلك فأستغفر الله، إن الله غفورٌ رحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، r, صلاة زكية طيبة مباركة، وسلم تسليمًا كثيرا.
أما بعد: فعلى ظهر دباباتها وتحت أزيز طائراتها في فلسطين ولبنان وفي العراق وأفغانستان بشّرت أمريكا العالم بميلاد شرق أوسط جديد ينهي حالة الصراع في المنطقة، وكعادة الضعفاء فرح المخلّفون بمقعدهم بهذه البشرى، وظنوا أنها وليدة أزمة ونهاية حرب، وما اعتبروا عبارات أمريكا السابقة: اتحاد دول حوض البحر الأبيض، والسوق الشرق الأوسطية المشتركة، والشرق الأوسط الكبير، واليوم: الشرق الأوسط الجديد، فما هو يا ترى؟!(18/346)
لقد تكلم "هرتزل" مؤسس الدولة اليهودية في فلسطين عن مبادرة "رايز" قبل ستين عامًا في مذكراته عندما طالب بـ"كومونولث شرق أوسطي"، فليست جديدةً كما يظنها البعض، لكننا أمة لا نقرأ، وبعد ذلك ألّف "شمعون بيريس" كتابه الذي سماه: "شرق أوسط مدمجٌ بالتنمية والرفاه", وطرح فيه مشروعه الذي نادت وبشرت به "رايس"، اليوم ثم جاء "هورفينز" ونادى بالمجتمع من أجل السلام، وفي عام اثنين وتسعين وتسعمائة وألف وفي نهاية عهد "بوش الأب" وبداية عهد "كلينتون" بدأ التحضير لهذا الأمر بين "بول وولفر" و"زلماوي خليل زاده" و"لويس سكوتر" وفي عام ستة وتسعين أي: قبل عشر سنوات استكمل دراسته "ريتشارد بيرل" و"دوجلاس فيت" مع مجموعة من المحافظين المتشدّدين في الإدارة الأمريكية، ومن أجله صنعت الأزمة في لبنان حتى تأتي إليه العرب وهي صاغرة.
أما أهدافه فهي باختصار "سايكس بيكو" جديد، يهدف إلى أن يدور المشرق العربي في الفلك الإسرائيلي الأمريكي مقابل دوران المغرب العربي في الفلك الأوروبي، ويدعو إلى التخلي عن اتفاقية "أوسلو" وإسقاط النظام العراقي والسوري وإعادة تشكيل العراق على أساس طائفي وإعادة تقسيم المنطقة وطمس شخصية الإقليم العربي، أي: إقامة كانتونًا سياسيًا تصبح إسرائيل القوة الإقليمية الكبرى التي تسيطر عليها، وفي جانبه الاقتصادي يهدف الشرق الأوسط الجديد إلى ربط شرايين الحياة الاقتصادية العربية المياه النفط السياحة التكنولوجيا بالاقتصاد الإسرائيلي، ودعوة رأس المال العربي للاستثمار في إسرائيل، وإنشاء أكبر بنك شرق أوسطي في "تل أبيب" ترتبط به دول المنطقة.
هذا ما جاءت به "رايس" وتدعو إليه، وهو بنصِّه ما نشر في مجلة الحركة الصهيونية في عام اثنين وثمانين وتسعمائة وألف، سبحان الله! - أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:53].
عباد الله، وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ. لقد دعم الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي دولة يهود قبل قيامها وبعد قيامها وميلادها قارب الستين عاما، لكنها خلال هذه العقود ومع سياسة القَمع والقتل والسجن والتغريب ما ذاق شعبها الراحة والاستقرار خصوصًا في العشر السنوات الأخيرة من عمرها، وها نحن ننتظر وعد الله فيها، والشعوب المسلمة التي أسقطت كلّ مبادرات الاستسلام واختارت ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله ستسقط هذه المبادرة وتحيلها إلى التقاعد المبكر بإذن الله.
اللهم أبرم لأمتنا أمرًا رشدًا يُعزُّ فيه أهل طاعتك...
==============(18/347)
(18/348)
•…مسار المأساة وأسبابها بين الحملتين الصليبيتين الثانية والثالثة ( 1798 م -1990م)
سأعتمد في بناء هذه الفقرة على بعض الكتب البالغة الأهمية التي لخص فيها شيخنا الشهيد عبد الله عزام رحمه الله خلاصة أسباب وطبيعة الإنقلاب الشامل الذي حصل في أحوال العرب والمسلمين خلال هذه الفترة . وهي كتاب ( خط التحول التاريخي) , وكتاب ( أضواء على القومية العربية ) وكتاب ( السرطان الأحمر ) . حيث تشكل مادة هذه الكتب أساسا في فهم أسباب ما نحن فيه مما نعيشه اليوم , وفهم برامج الحملات الأمريكية الحالية , التي سرعان ما يكتشف المرء بقراءته لهذه الكتب :
أن برنامج الأمريكان اليوم مطلع القرن الحادي والعشرين , حول الشرق الأوسط الكبير , وبرامج تغيير المناهج التعليمية والدينية , وبرامج رامسفيلد) ( لحرب الأفكار) .. ما هي إلا عبارة عن تطبيق مكرر- ولكن بحماقة - لبرنامج الإستعمار الأوربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من قبل .
حيث سأنقل مقاطع واسعة منها باختصار وتصرف طفيف, وأضع تلك النقول بين قوسين [ ..] مشيرا إلى مكانها في المصدر وهو: (موسوعة الذخائر العظام فيما أثر عن عبد الله عزام ) , وأضع تعليقاتي وإضافاتي في ثناياها بين قوسين {..}. وقد كفتني كتبه الثلاثة هذه - رحمه الله رحمة واسعة - عن العودة اللازمة لعشرات المراجع التي تغطي تاريخ وأحداث تلك الفترة , وهو أمر غير متيسر لي الآن ونحن نعيش مرحلة المخابئ والمطاردات الأمريكية - أخزاهم الله - .., وأعيد التنويه إلى أن تراث الشيخ عبد الله يحتوي من الكنوز السياسية والفكرية والشرعية ما يجعله ركنا أساسيا للتربية الفكرية والمنهجية للمجاهدين في هذا الزمان . فجزاه الله ما هو أهله .
قال الشيخ عبد الله عزام رحمه الله :
[ لقد شهدت المنطقة الإسلامية خلال القرون الثلاثة الماضية , تغيرا بدأ بطيئا ثم أخذ يشتد تدرجيا حتى إذا بدأ النصف الأول من القرن العشرين بلغ التغيير قمته , وأصبح سبيل التقليد للغرب عارما . حتى أصبح الناظر لأول وهلة يحسب أن هذا السيل الجارف لا يمكن الوقوف في وجهه , وأن محاولة التصدي له هو ضرب من العبث الضائع أو الانتحار الواضح . وكانت معركة التغيير على ثلاثة أطوار:
الطور الأول: اللقاء بين الغرب والشرق في ميدان القتال.
الطور الثاني: المعركة بين الغرب والشرق في ميدان الفكر و الثقافة والدين.
الطور الثالث: المعركة بين أبناء الشرق أنفسهم في ميادين الفكر والدين و السياسة.
(1)…- أما الطور الأول:
فكان للغرب صولات وجولات إبان الحروب الصليبية , ثم انتهت بهزيمته نهائيا وخروجه مهزوما مدحورا .
(2)…- أما الطور الثاني:
فقد اتبع الغرب أساليب عديدة , واستعمل وسائل كثيرة لإماتة المسلمين موتا بطيئا , وكان هدفه في هذا الطور غسل أدمغة المسلمين من إسلامهم وإخراجهم بهدوء من دين الله إلى دين الطاغوت , دون إثارة ضجة ولا صخب.
وتولت الأجهزة الغربية تربية طبقة بديلة لهم في جميع المجالات , وسلمت مقاليد الأمور لهم , وأبعدت الصادقين عن أجهزة التوجيه والبناء وأصبحت دوائر التعليم والإعلام - الصحافة والراديو ومن ثم التلفزيون - بأيدي الطبقة المنسلخة عن الشرق ( المسلم ) المعلنة لولائها للغرب ( الصليبي الملحد ).
ويمكن أن تتخلص مهمة هذه الفترة بكلمة جب - المستشرق الإنجليزي -:
( هذا - التعليم - هو السبيل الوحيد لفرنجة البلاد الإسلامية وتغريبها , لقد كان التركيز قويا لإنشاء الطبقة التي تأخذ نهائيا بوجهة نظر لا سلطان للدين عليها , وحينئذ يمكن الجلاء عن أرضها وتسليمها زمام السلطة فيها لأنها امتداد لفكر المحتل).
وكذلك تمثلها كلمة (لورد ميكالي) رئيس اللجنة التعليمية في الهند -:
(يجب أن ننشيء جماعة تكون ترجمانا بيننا وبين الملايين من رعيتنا وستكون هذه الجماعة هندية اللون والدم إنجليزية الذوق والرأي واللغة والتفكير).
وهي نفس كلمة ( اللورد ليد) - المعتمد البريطاني عن كلية فيكتوريا سنة (1936م):
( ومتى تسنى للجمهور بأن يعرف هذه الكلية يتنبه الآباء أن تعليم أولادهم فيها ينمي فيهم من الشعور الإنجليزي ما يكون كافيا لجعلهم صلة للتفاهم بين الشرقي والغربي).
(3)…- أما الطور الثالث:
(طور الإستقلال الوطني) كما يحلو لهم أن يسموه , ومجيء الأنظمة المحلية , والعسكرية بالذات , فقد كان هذا الطور أشد الأطوار تأثيرا , وفرضت الحضارة الغربية بالقوة العسكرية التي تسمى بالوطنية والتقدمية والشعبية , وهذه الأنظمة التي جاءت بضجة الزفاف الوطني , والتي قدمت إلى الأمة بأهازيج شعبية حماسية , وتحت هذا الضجيج والصخب قام أبناء الوطن - المستغربين - الحاكمين بنصب المشانق وسحق المبادىء و اجتثاث القيم , و إبادة العلماء والمخلصين.
ولقد لقي الصادقون من أبناء جلدتهم الحاكمين - من العذاب والاضطهاد - أضعاف أضعاف ما رأوه أيام الإنجليز والفرنسيين , ويكفي أن نضرب أمثلة لهذا:
ما لقيه الباتان على يد أمان الله خان في أفغانستان .
ما لقيه الأكراد على يد مصطفى كما أتاتورك في تركيا.(18/349)
ما عاناه الإخوان المسلمون على يد عبد الناصر وزبانيته في مصر.
وما يواجهه الصادقون على أيدي الأنظمة العسكرية المنبثة في أرجاء العالم العربي والإسلامي فهي نسق واحد و نموذج واحد في محاربة الحق وأهله ينسجون على منوال سابقيهم ويسيرون على نهجهم.
وإن صورة القسوة والوحشية التي عامل بها الغرب أبناء المسلمين لتبدو هزيلة صغيرة بجانب الصورة التي عاملهم بها الحكام المحليون (الإنجليز السمر).
خطوط التغيير:
هذا وقد سار التغيير في العالم الإسلامي في خطوط ثلاثة متوازنة:
1- الخط الأول: خط الإفساد الأخلاقي.
2- الخط الثاني: خط محاربة مصادر التشريع الإسلامي وتمييع النصوص.
3- الخط الثالث: خط التمزيق الأمة الإسلامية.
أما الخط الأول: الإفساد الخلقي:
فيتخلص في كلمة زويمر - رئيس المبشرين - في مؤتمر القدس سنة (1934م):
(... نريد أن نخرج جيلا لا صلة له بالله , ولا صلة له بالأخلاق التي تقوم عليها الأمم).
فكان التركيز على المرأة وإخراجها , وعمل الإتحادات النسائية والمسرح والغناء والتمثيل ومعاهد الفنون الجميلة , والمعاهد الرياضية للبنات , ونشر العري والمسا بح ودور الأزياء , والصورة العارية , ودكاكين التجميل . حتى أصبحت المرأة كما قال (موروبيرجر) في كتابه - العالم العربي اليوم: ( إن المرأة المسلمة المتعلمة هي أبعد أفراد المجتمع عن تعاليم الدين وأقدر أفراد المجتمع على جر المجتمع كله بعيدا عن الدين).
وقد بدأت ثورة المرأة على الإسلام بوضوح في مصر إبتداءا من منيرة ثابت :( أول صحفية مصرية ) والتي يسمونها (الفتاة الثائرة ) وكانت صديقة لسعد زغلول وتستطيع أن تتدخل في توجيه دفة الحكم.
ثم جاءت هدى شعراوي وقامت في ثورة سنة (1919) بمظاهرة نسائية , وأحرقن الحجاب في الشوارع العامة . وكانت ( صفية زغلول) زوجة سعد زغلول أول زوجة زعيم تظهر سافرة في المحافل العامة وسمت نفسها على الطريقة الإنجليزية باسم زوجها وأطلقت على نفسها لقب (أم المصريين ).
ولقد كان زوجها سعد زغلول زعيما من زعماء الحركة النسائية ويقول: ( لقد شاركت صديقي قاسم أمين في أفكاره التي ضمنها كتابه (المرأة الجديدة).
وصدرت الصحف تدافع عن حقوق المرأة منها (فتاة الشرق) ومجلات (الهلال) و(المقتطف ) و(المصور).
ونادى ( لطفي السيد) بالتعليم المختلط وفرضه على الجامعة المصرية . ولذا فقد أشادت (هدى شعراوي) بهذا الفعل , ثم أ يده طه حسين وسمير القلماوي .. وغيرهم .
وفي تركيا سنة (1929) صدر قرار حرَّم تعدد الزوجات وقضى على الحجاب , ونظام الحريم , وقانون الطلاق وخرجت المرأة في مدن تركيا باللباس العاري.
وفي سنة (1965) أصدر الحبيب بورقيبة قرارات مشابهة في تونس.. وهكذا في باقي البلاد .
أما الخط الثاني: ( التشكيك في مصادر التشريع الإسلامي وتمييع نصوصها )
فقد تمثل في الهجوم على:
القرآن نفسه: وتميز القرآن المكي , والتشكيك بالمدني وسلخ القرآن عن الوحي , واعتبار الوحي انفعالا نفسيا وحالات عصبية.
وكان أول من جاهر من ذراري المسلمين بإنكار ربانية القرآن ورفع عقرته بجحود المصدر الإلهي للقرآن هو( طه حسين) في كتابه ( الشعر الجاهلي ) الذي اتبع فيه مصدر التشكيك الذي ورثه عن ديكارت.
السنة المشرفة: وقد كان التركيز في عدائها لتحطيمها كمصدر أساسي لشرح القرآن وبيان مجمله وتقييد مطلقه وتخصيص عمومه.
وقد جاء الهجوم على السنة من نواح كثيرة أهمها:
التعرض لشخصية الرسو صلى الله عليه وسلم والنيل منها.
التركيز على صحيح البخاري باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله والتشكيك فيه: وقد كتب (أبو ريا - أضواء على السنة المحمدية - ) (وصالح أبو بكر - الإسرائيليات في البخاري -) وكتبت مجلة العربي ( راجعوا البخاري فليس كل ما فيه صحيح).
التركيز على النيل من شخصية أبي هريرة كأكثر روا عن رسول ا صلى الله عليه وسلم - رواية - . والطعن بشخصية السيدة عائشة كمصدر غني من مصادر نقل هذا الدين.
والآن هناك دعوة عريضة تتبناها بعض الأنظمة مثل ( القذافي ) في ليبيا لنبذ السنة نهائيا.
اللغة العربية: باعتبارها لغة القرآن فنادوا:
نبذ قواعد اللغة ( النحو والصرف ) وقد نادى بهذا سلامه موسى , وطه حسين , وتوفيق الحكيم صاحب قاعدة ( سكِّن تسلم ).
العامية بدل الفصحى: ابتداء من ( ونلهلم سبيتا ) ( الألماني: مدير دار الكتب المصرية) , ثم ( ويلمور) القاضي الإنجليزي , و( نليكوكس) - المهندس الزراعي الإنجليزي - وأخيرا جاء سلامة موسى , و قاسم أمين , ثم كتب بالعامية المصرية كل من يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس.
اتخاذ الأحرف اللاتينية بدل العربية: ونادى بهذا عبد العزيز فهمي - مصر - وسعيد عقل - لبنان -.
وأما مصطفى كمال أتاتورك فقد نفذ هذا الأمر بالحديد والنار.
د- ( الدعاية) للشعر المنثور بد الشعر الموزون. {لكون الشعر العمودي أحد أهم أوعية اللغة العربية}.(18/350)
التاريخ الإسلامي: والتركيز على الشبهات فيه وتضخيم مساحة الإختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم. والتركيز على أن الدولة العباسية هي دولة الإماء والخمور والغلمان خاصة في عهد الرشيد {كما روج لذلك} - كتاب الأغاني للأصفهاني - ثم تشويه تاريخ الدولة العثمانية الإسلامية واعتباره نوعا من الإستعمار.
استبدال الثقافة الغربية بالثقافة الإسلامية :
ففي مصر - قائدة العالم العربي - أوصى المؤتمر التبشيري المنعقد سنة (1906) بإنشاء جامعة علمانية تناهض الأزهر الذي ( يهدد الكنيسة بالخطر ) ولتكن هذه الجامعة على غرار الجامعات الفرنسية . فقامت الجامعة المصرية (1908م) واستلم رئاستها بعد فترة لطفي السيد.
وقد ظهرت كتابات تنادي بالذوبان بالغرب مثل كتابات طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) حيث يقول: (علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة , خيرها وشرها , حلوها ومرها , ما يُحب منها وما يُكره , وما يُحمد منها وما يُعاب).
وقد بدأ هذا الخط أيام ( محمد علي باشا ) من خلال كتابة رفاعة الطهطاوي في ( تخليص الإبريز بتلخيص باريز ) واشتدت الدعوة إليه أيام الخديوي إسماعيل وظهر خط إسماعيل في كتابات ( محمد عثمان جلال ) خليفة الطهطاوي . ووضع إسماعيل نظاما للأزهر سنة (1872م) وجاء دنلوب واستلم التوجيه في وزارة المعارف وأقصى الإسلام نهائيا عن المدارس وازدرى الأزهر وحاول الحط من مكانته فكان حامل شهادة اللغة الإنجليزية يأخذ شهريا (12) جنيه وحامل شهادة اللغة العربية يأخذ (4) جنيهات , وأما الأزهري يأخذا (112) قرشا مصريا.
ثم ظهرت مدارس كثيرة في هذا الشأن:
المدرسة الأولى ( مدرسة الذوبان في الغرب نهائيا) وقطع الصلة بالإسلام ومن أبرز الأسماء في هذا الشأن: طه حسين , سلامه موسى , لطفي السيد وصهره إسماعيل مظهر , وعبد العزيز فهمي...
مدرسة الخلط والترقيع ( بين الإسلام والثقافة الغربية ) ويتزعمها (الشيخ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده).
وارتفعت في هذا المجال دعوات وعلت أصوات بشعارات كبيرة منها:
التطوير: ومعناه تمييع النصوص الإسلامية , وإدخال الإلحاد والعلمانية الغربية بالثوب المقنع البراق , ومن هذا القانون تطوير الأزهر الذي صدر أيام عبد الناصر فكان ضربة قاصمة له.
ومعنى التطوير كذلك بناء قنطرة فوق الهوة التي صنعها الإسلام بين الشرق والغرب من أجل الوصول إلى التفاهم والتواصل وبالتالي تؤدي إلى تمزيق العالم الإسلامي كما يقول جب: ( لعل الآراء الجديدة وحاجات الحياة ستنجح أخيرا في تشتيت المجتمع الإسلامي وتمزيق وحدته).
الإتصال بالثقافة اليونانية كأساس من أسس التطوير.
رفع شعار الحرية: وقد قامت الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي بتوفير الحرية الفكرية إذا استعملها الناس ضد الدين.
الدعوة إلى دين عالمي: كما نادى به : (كالغرلي) : ومعنى الدين العالمي إنهاء الإسلام نهائيا وذوبانه في بوتقة اليهودية العالمية.
التقارب بين الأديان: كما نادى بذلك (آصف على قبطي الإسماعيلي) وأصبحت المؤتمر تعقد من أجل هذا الشأن.
الدعوة إلى أنواع للإسلام: كالإسلام الكلاسيكي. والإسلام الحديث كما قال فضل الرحمن الهندي , وبه قال أحمد خان مؤسس الكلية المحمدية الإنجليزية الشرقية ( نشر الإسلام الحديث المتأثر بالمذاهب الغربية ) وكذلك تكرار أسماء الإسلام الهندي والإسلام الباكستاني والإسلام التركي.
العلمانية (secula r ism) ( اللادينية ) وذلك ليصبح الإسلام كالمسيحية تماما لا صلة له بالحياة كما جاء في كتاب ( الإسلام وأصول الحكم ) علي عبد الرازق.
الإصلاح الديني: كما يسمونه , كما حصل في برنامج (التحطيم الكمالي للإسلام) باسم الإصلاح الديني كما يسميه (سميث) و(بروكلمان) وغيرهم من المستشرقين , ومعنى الإصلاح الديني تغيير نصوص الإسلام نصوص جديدة ويبقى عليه اسم الإسلام.
وقد كان الإستعمار والإستشراق والتبشير هذه الأصابع الثلاثة للأخطبوط المعادي للإسلام تسير جنبا إلى جنب.
وقد عقدت الجامعات الأمريكية بالذات عدة مؤتمرات لمحاربة الإسلام على رأسها المؤتمرات التي عقدت في جامعة (برنستون) في أمريكا.
مؤتمر جامعة بن ستون سنة (1947م) واسمه ( الشرق الأدنى مجتمعه وثقافته ).
مؤتمر جامعة برنستون سنة (1953م) واسمه ( الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة)
مؤتمر لاهور الذي عقد سنة (1955م) بترتيب المستشرقين الغربيين وفشل تماما.
الخط الثالث: خط التمزيق للأمة المسلمة:
ومن وسائله:
القومية: العربية والكردية والهندية.
الدعوات العالمية: كالشيوعية.
الدعوات الإنسانية الماسونية - اليهودية - وفروعها مثل نوادي الليونز , و الروتاري , شهود يهوه , بني برث , (أبناء العهد).
الفرق (الكافرة) المنسوبة للإسلام: مثل :
القاديانية - البابية - البهائية - النصيرية- الدروز...] .أهـ .
•…خط التحول التاريخي:(18/351)
[ إن أخطر ما تعرضت له الأمة الإسلامية هو عملية التحول الداخلي أي الهزيمة الروحية والنفسية والعقلية أمام أعدائها , فاستخذت أمام الأصنام , وركعت على أقدام الطغاة , وأصابها الوهن الذي عرفه رسول ا صلى الله عليه وسلم بأنه ( حب الدنيا وكراهية الموت). ففي الحديث الصحيح :الذي رواه أحمد : ( يوشك ـن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . قال قائل : من قلة نحن يومئذ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير. ولكنكم غثاء كغثاء السيل.ز ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم , وليقذفن في قلوبكم الوهن , قيل : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت).
-…فكيف أصبحت (خير أمة أخرجت للناس) غثاءا..؟
-…وكيف أصبح الخير النافع زبدا و جفاءا..؟
-…وكيف خلفت الأسود قرودا..؟
-…وكيف ولدت ليوث الغاب خنازيرا..؟
إن أخطر ما يمكن أن تصاب به الأمم هو هزيمتها في أعماقها . فهذا هو الداء القاتل , إن أشد رمية أصابت الأمة في مقتلها هي فقدان الثقة بنفسها. فالشعوب إنما تنتصر يوم أن تتفاعل بمبادئها و تحيا بعقائدها وتستعلي بدينها . ولن تهزم أمة تلتف على عقيدة صحيحة تعيش من أجلها وتجاهد لإحيائها مهما كان أعداؤها, ومهما تألبت عليها القوى.., وهذا المبدأ هو الذي سطره رب العزة في سبب النصر والهزيمة إذ يقول سبحانه :
? أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ? (آل عمران:165) . فالهزيمة تبدأ داخلية ثم تنعكس على ساح المعركة . والخلل يبدأ في أعماق النفس ثم نرى آثاره اندحارا في ميادين الحياة, سلوكا وأخلاقا ومعاملة . فكيف تمت عملية التحويل ؟!
•…أوربا وحرب الكلمة بدل حرب السيف:
في الحملات الأخيرة على مصر(1249ميلادية ), آخر أيام الأيوبيين وأول أيام المماليك , وقع (لويس التاسع ) ملك فرنسا أسيرا وأودع سجن القلعة. وهناك كان لديه فسحة من التأمل ليضع أسس هامة لتفكير الصليبيين في كيفية غزو المسلمين . وكتب توجيهاته الهامة تلك والتي كان خلاصتها:
( إن المسلمين لا يهزمون ما دامت عقسدتهم قائمة ويجب أن تبدأ الحرب على المسلمين بحرب الكلمة ) .
وهكذا أدرك ملوك النصارى ألا سبيل لهم إلى البقاء. وبدؤوا يعيدون التفكير في طريقة غزوا المسلمين والتعامل معهم.
و كانت حملة نابليون على مصر نقطة بارزة في تحول المعركة وأساليبها , فلقد غزا نابليون مصر (1798م) مدججا بأحدث الأسلحة الفرنسية ومدافعها ورشاشاتها . ودخلت الخيل الأزهر وداست سنابكها الحصير الذي خرج عشرات الألوف من علماء الأمة , فانتفض الأزهر وهب دفاعا عن كرامة هذا الدين وأقض مضجع نابليون وأرق أجفانه ولم يستطع الاستقرار رغم العملاء الذين وقفوا بجانبه كيعقوب القبطي ومن وقف معه الأروام ونصارى الشام وغيرهم . وأخيرا انقض ( سليمان الحلبي ) على ( كليبر ) نائب نابليون الذي خلفه في مصر وقتله.
وكان خروج الفرنسيين من مصر من أبرز المعالم في أوروبا الحديثة , إذ أدت إلى تصميم أوروبا على خوض معركة اللسان بدل معركة السنان . واتجهت إلى نزع هذا الدين من أعماق هذه الأمة ليغرسوا بدله القومية والعصبية وغيرها من الشعارات لمحاولة لملأ الفراغ.
فقد جاء في مؤتمر ( الشرق الأدنى وثقافته ) الذي أقامه مجموعة من المستشرقين في جامعة أمريكية جاء في:
( أننا في كل بلد إسلامي دخلناه نبشنا الأرض حتى نخرج أثار ما قبل الإسلام ونحن لا نطمع أن يرتد المسلم عن عقيدة الإسلام إلى عقيدة ما قبل الإسلام ولكن يكفي تشتيت ولائه ).
وجاء في تقرير أحد معاهد الإرساليات بقلم نبيه أمين فارس :
(بينما كان الشرق الأدنى مطمحا لأفكار بناء الإمبراطوريات كان أيضا مطمح جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق الكلمة ما عجز أجدادهم الصليبيون عن تحقيقه عن طرق السيف ) .
ٍ{ولنضرب مثالا عن ذلك بما بدأ في عقر دار لإسلام ن الإفساد, في مصر والشام}
•…محمد علي باشا ( وريث نابليون ) (1904-1949):
وجاء محمد علي باشا ليعمل ما عجز عن عمله نابليون , وأراد أن يحول مصر قطعة من فرنسا , وبدأ بإرسال البعثات إلى فرنسا لتغسل أدمغة المبعوثين , ومن بين الذين ذهبوا هناك ( رفاعة الطهطاوي ) الذي عاد داعية للثقافة الغربي وكتب ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) ونقل القانون الفرنسي . واتخذ محمد علي باشا رجلا فرنسيا - وهو طبيب - مستشارا له وكان اسم هذا الرجل ( كلوت بك ) وكان لهذا الفرنسي تأثيرا كبيرا في تغريب مصر. وفي عهد محمد علي أدخلت القوانين الفرنسية لتحل تدريجيا محل الشريعة الإسلامية . وكان جلساءه الخاصين من السياح والقناصل والمبشرين . ومن أعمق الآثار السيئة التي حلت أيام محمد علي باشا أنه فتح أبواب مصر والشام - عندما خضعت له - للمبشرين النصارى , فقد كانت موصدة دون هؤلاء بسبب صرامة الدولة العثمانية وحزمها في هذا الموضوع ومنعها للمبشرين.
وكان نتيجة دخول المبشرين للشام أن أنشأوا جامعتين في لبنان:(18/352)
الأولى: الكلية السورية الإنجيلية التي أنشأها البروتستانت ثم أصبح اسمها ( الجامعة الأمريكية ) - بيروت.
الثانية: كلية العزير التي أنشأها الكاثوليك ثم أصبح أسمها ( الجامعة اليسوعية.
ولقد كانت الجامعة الأمريكية نقطة الانطلاق لكثير من الآراء والاتجاهات المنحرفة التي تركت أثارا عميقة في عملية تحويل العالم العربي , ومن هذه الاتجاهات الإتجاه القومي الذي كان يراد له أن يحل محل عقيدة الإسلام في القلوب لملء الفراغ الذي خلفه الإسلام بعد أن انحسر في جميع مناحي الحياة .
جاء في كتاب المجتمع العربي / جامعة بيروت / كلية الآداب:
( إن أول جمعية بدأت تدعو إلى القومية العربية هي جمعية مسيحية أوحى بفكرة تأسيسها رجل يسمى (الياس حبالين) من بلدة ذوق مكايل . وكان أستاذا للغة الفرنسية يدرسها في الجامعة الأمريكية لطلاب صف, فيهم إبراهيم اليازخي ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس وكان الأستاذ معجبا بالثورة الفرنسية) .
وأصبحت القومية العربية بفضل قادتها ودعاتها ومعظمهم من النصارى دينا جديدا حل محل الإسلام كما قال علي ناصر الدين في مقدمة كتبه قصة العرب , هامش ص :38 (العروبة نفسها دين عندنا نحن القوميين العرب المؤمنين العريقين من مسلمين ومسيحيين , لأن كان لكل عصر نبوته المقدسة , فالقومية العربية هي نبوة هذا العصر).
وقدمت لنا الجامعة الأمريكية ومدارسها في المنطقة قادة الأحزاب القومية في المنطقة: فأسس حزب القوميين السوريين: أنطون سعادة ومن بعده أسد أشقر ثم جورج عبد المسيح.
وأسس حزب البعث: ميشيل عفلق النصراني , زكي الأرسوزي النصيري , ورئس حزب القوميين العرب: جورج حبش بتوجيه من أستاذه قسطنطين زريق - الأستاذ في الجامعة الأمريكية.
جاء في البروتوكول الخامس من بروتوكولات حكماء صهيون: ( لقد بذرنا الخلاف بين كل واحد وغيره في جميع أغراض الأمميين الشخصية والقومية خلال عشرين قرنا) .
وقد نجحت الدول الغربية في توجيه محمد على باشا لتأدية أكبر خدمة للغرب ومنها:
1.…زلزلة سلطة الدولة العثمانية الإسلامية على الشرق ومحاربة تركيا في موطن كثيرة.
2.…تنشيط حركة التبشير النصراني في المنطقة.
3.…تحويل مصر وسوريا إلى دول متغربة بتفكيرها وحياتها.
4.…ضرب الحركة الإسلامية التي ظهرت في الجزيرة العربية (الحركة الوهابية).
5.…إدخال القوانين الغربية لتطبيق على المسلمين .
وكل القضايا التي فعلها ( الخمسة المتقدمة ) خطيرة وأحدثت أثرا كبيرا في حياة المسلمين خاصة فيما يتعلق بإدخال الدين الجديد ( دين نابليون ) أي القوانين الفرنسية وخلطها بالقانون الإلهي فأنشأ دينا جديد خليطا من ( الدين الفرنسي والدين الإسلامي ) وكان ساعده الأيمن في تبديل دين الله هو رفاعة الطهطاوي . وأما أستاذه الكبير فهو الدكتور ( كلوت ) الذي وجه الحياة المصرية في أكثر مناحيها . وأما بالنسبة لضرب الحركة والوهابية ( دعوة التوحيد ) في الجزيرة العربية فأرسل محمد علي ابنه إبراهيم باشا سنة (1231هـ) (سنة 1815م) إلى جزيرة وفي سنة (233هـ ) (1817م) فدخل إبراهيم باشا (الدرعية) عاصمة الدعوة. وقضى على الحركة الوهابية.
وقبل أن نطوي صفحة محمد علي باشا لا بد من وقفة عند رفاعة الطهطاوي الذي كان له اكبر الأثر في عملية التحويل.
لقد أقام الطهطاوي ( أحد أعضاء بعثات محمد على إلى باريس ) في باريس من (1826-1831) فرجع وكتب كتابه ( تخليص الإبريز في تلخيص باريز ) الذي كتبه أثناء إقامته في فرنسا وعرضه على أستاذه ( جومار) . وأبدى إعجابه الشديد بفرنسا , وقد قام في تخليص الإبريز بترجمة الدستور الفرنسي وبتمجيد الثورة الفرنسية التي حطمت الكنيسة وأحالتها إلى ركام من مخلفات التاريخ.
وفي زمن الخديوي إسماعيل كان الطهطاوي عضده الأيمن في الإفساد والتغريب وكتب زمنه كتابيه (منهاج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية) و ( المرشد الأمين للبنات و البنين ) وهو يبدي اهتماما ظاهرا بالتاريخ الفرعوني ويسمى رمسيس الثاني ( فرعون سيدنا موسى ) : ( فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها ) . ولا ينقضي عجب المسلم وهو يرى الطهطاوي يعرض نظام الشركات والمصاريف الربوية دون تعليق . ويرى أن الرقص الفرنسي نوع من الشلبنة ( الأناقة والفتوة والرياضة ويعجب بالمرح ويشجع الطهطاوي على اختلاط الجنسين , وتعليم الفتيات دون قيود ولا التزام بحدود شرعية ومنع تعدد الزوجات وتحديد الطلاق وأصبح يردد شعارا جديدا ( أخوة الوطن ) .هذا الشعار الذي أصبح دينا لدعاة القومية والعنصرية فيما بعد.
والطهطاوي شأنه شأن معاصره ( خير الدين التونسي) الذي ألف كتاب ( أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ) هما أول رسل الحضارة الغربية في بلادنا اللذين عملا كطلائع لهدم صرح الإسلام العظيم في نفوس أبنائه.
•…صالون الأميرة نازلي فاضل:(18/353)
كانت نازلي ابنة مصطفى فاضل - أخ إسماعيل باشا - وكان مصطفى وليا للعهد ثم أقصاه إسماعيل فسافر إلى تركيا ثم إلى أوروبا وهناك تربت ابنته نازلي وأتقنت عدة لغات وتزوجت أحد وزراء تونس ثم عادت إلى مصر لتعمل بها من التخريب ما عجزت عنه الدوائر الغربية . ففتحت صالونها ملتقى هواة السلطة ومحط أنظار الذين يحلمون بالعلو في الأرض , لأن الصالون أصبح يحظى برعاية (كرومر) - المعتمد البريطاني في مصر- وكان الرواد الدائمون لهذا الصالون ممن يتطلعون إلى الانتفاع بجاه الأميرة وبمالها.
من بين هؤلاء الذي يعتبرون علية مجلسها:
- سعد زغلول: الذي جاء من الشارع - دون جاه ولا علم ولا مال - وتولى رئاسة مكتبها وبقي حتى سن السادسة والثلاثين لم يتزوج ثم تزوج ( صفية ابنة مصطفى فهمي ) رئيس وزراء الإحتلال البريطاني لبضعة عشرة عاما , والغريب أن هذا الزواج من ابنة رئيس الوزراء التي لا تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها . وأصبحت ( صفية ) فيما بعد تحمل اسم ( صفية زغلول ) وتكنى ( بأم المصيريين ).
ومن رواد الصالون: الشيخ جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده ولقد اطلعت على رسالة بين الشيخين عن الأميرة مما يدمي القلب عن حالة قادة الفكر الإسلامي!! في ذلك الوقت .
ومن رواد الصالون كذلك:
لطفي الخولي . ثم جيء بقاسم أمين الذي رد مرة على أحد الفرنسيين ( دار كور ) , وقد نال هذا الفرنسي من مكانة المرأة في الإسلام . فقام أمين ورد عليه وبين أن الإسلام أعطى المرأة مكانتها اللائقة وحفظ وظيفتها الأساسية واحتشامها بلباسها . وبسبب هذه المقالة أوغر سعد زغلول ومحمد عبده صدر الأميرة نازلي على قاسم أمين لأن كلامه ينال من مقام الأميرة لأنها تدعو إلى العري والتهتك . ثم اقترحوا حلا لرضا الأميرة عليه بأن يكتب كتابا عن المرأة فخرج سنة (1900م) بكتاب ( تحرير المرأة ) الذي اشترك في كتابته قاسم أمين والشيخ محمد عبده . وقبل سنوات اكتشف هذا السر فقد أعلن حفيد محمد عبده أن جده هو كاتب كتاب ( تحرير المرأة ) ومعنى تحرير المرأة : تحريرها من القيم والمبادئ والحياء والخلق.
وبقيت بريطانيا ترعى هذا الصالون ورواده حتى أوصلوهم إلى سدة الحكم:
فقد أصبح محمد عبده مفتيا للديار المصرية , وأصبح سعد زغلول وزيرا للمعارف ثم رئيسا للوزراء وأضحى لطفي السيد ( أستاذ الجيل ) رئيسا للجامعة المصرية وفرض الاختلاط بين الجنسين في الجامعة.
ولطفي سيد : هذا هوا الذي سخر صحيفته المسماة ( بالجريدة ) لتكريس آراء كرومر والدفاع عنها , والدعوة إلى الفرعونية وصياغة شخصية مصرية ذات طابع مميز.
وقد كان صنائع صالون نازلي فاضل يتبنون هذا بفصل مصر عن العالم العربي الإسلامي.
فمثلا سعد زغلول أجاب عن سؤال حول الوحدة العربية قائلا:( إنها وحدة بين أصفار ).
وسار في هذا الخط طه حسين الذي قال : ( إن الدين واللغة لا يصلحان أساسا للوحدة السياسية , وإن المصري فرعوني قبل أن يكون عربيا ) , وقد نشر هذا الحديث ( سلامة موسى ) في صحيفته ( المجلة جديدة ) (1928م) لأنه كان يسير في نفس الخط.
وقال طه حسين ( لو وقف الإسلام بيني وبين فرعونيتي لنبذت إسلامي ) .
وفي سنة (1927م) مات زغلول ليأتي النحاس رئيسا للوفد , حيث فرضته الدبابات البريطانية في 4 فبراير سنة 1942 رئيسا للوزراء رغم أنف الملك فؤاد.
- صفية زغلول ( أم المصريين ) وهدى الشعراوي . ولقد كان لصفية وهدى أثر كبير في إفساد فطرة المصرية الطيبة . أما صفية فكانت تدير عجلة الفساد من فوق سدة الحكم بسبب كون زوجها رئيسا للوزراء, وهي كما ذكرنا ابنة مصطفى فهمي رئيس الوزراء من قبل.
أما هدى شعراوي فهي ابنة سلطان باشا الذي وقف بجانب الإنجليز ضد الثورة العرابية وقد استلم من الإنجليز مبلغا ضخما لقاء عمالته ثم أصابه السرطان وقبل أن يموت زوج ابنته من رجل ثري اسمه ( علي شعراوي ) في الخمسينات من عمره فأصبح اسمها ( هدى شعراوي ) وكان علي شعراوي من عملاء الإنجليز وقد أُخذت هدى إلى أوربا و لدى عودتها من رحلتها , وعلى سلم الباخرة نزعت خمارها ( منديل الرأس ) ووضعته تحت قدميها وقالت: انتهى عصر الظلام إلى الأبد , وشكلت (جمعية السيدات المصريات).
•…كرومر حاكم مصر البريطاني والقس دنلوب:
أما كرومر فهو المعتمد البريطاني الذي يدير مصر منذ الاحتلال سنة 1882 إلى 1906 , وقال الدكتور النشار ( أعلن كرومر منذ مجيئه إلى مصر أنه سيهدم القرآن والكعبة والأسرة الإسلامية والأزهر ) (1).
ركز كرومر في هجومه على الدولة العثمانية وحمل على الإسلام من خلال تركيا التي تمثله ,و نشر الإنجليزية , وحارب العربية , ونادى بفكرة مصر للمصريين , وحط من قيمة الأزهر ورجاله رقى طبقة المتفرنجين , وكان يقول:
" سوف يجد محبو الوطنية أحسن أمل لهم في ترقي أتباع محمد عبده للحصول على مصر مستقلة بالتدرج "(2)
ألف كرومر كتاب ( مصر الحديثة New Egypt) وادعى أن الإسلام مناف للحضارة ويعلم أتباعه الحقد على مخالفيهم !! وهو ينافي العمران ويبيح الطلاق ويحرم الربا والخمر.(18/354)
كان لطفي السيد أحد الذين حملوا لواء الدفاع عن كرومر وسياسته في صحيفته (الجريدة) , وصحيفة المقطم .
أما دوجلاس دنلوب:
فهو أحد سيئات كرومر الكبرى . فلقد شجع كرومر المبشرين في مصر والسودان إلا أنه عندما رأى طريقتهم الساذجة في التعرض للناس في الشوارع خشي أن يؤدي عملهم هذا إلى يقظة الناس ومن ثم تتفجر ثورة وطنية بحمية إسلامية . فحد من نشاطهم , فرفع المبشرون تقرير إلى الحكومة البريطانية فأرسلت بريطانيا عتابا إلى كرومر فرد على المبشرين بأني سأعمل عن طريق راهب واحد أضعاف عملكم , وأحضر دنلوب سنة (1889) وهو راهب تخرج من كلية لاهوت بريطانية وعينه كرومر (1897) سكرتيرا للمعارف . ثم سنة (1906) عين مستشارا لوزارة المعارف , وقد كان دنلوب هو الوزير الفعلي.
وكان ينفذ سياسة كرومر ( عقل بريطاني وأيدي مصرية ) ويرفع شعار سيده :
( متى توارى القرآن ومكة من بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة ) .
وقد حارب دنلوب اللغة العربية والأزهر , وشجع الإنجليزية وأصبح تدريس العلوم والرياضيات والكيمياء والجغرافيا بالإنجليزية وحارب التعليم العالي بحجة أن المصريين لا يصلحون للتعليم العالي وحارب الكتب الإسلامية أو التي فيها عاطفة إسلامية مثل كتب علي مبارك و عبد العزيز جاويش.
وأخطر ما عمله دنلوب , أنه رسم المناهج التي أصبحت مثلا يحتذى للدول العربية وقسم التعليم إلى قسمين :
-…ديني : وجعله خاصا بالأزهر ومعاهده .
ومدني: حارب فيه كل كلمة دينية , ومنع من توظيف خريجي الأزهر - أهل العلم الحقيقي - وإذا احتاج إلى بعضهم كان يدفع للواحد 112 قرشا مصريا في الشهر , هكذا كانت الحال في مصر - رائدة العالم العربي - أواخر القرن التاسع العشر وأوائل القرن العشرين.
ففي السياسة: يرجع الأمر إلى الإنجليز فمعتمدهم هو الحاكم الفعلي للبلد وأما الخديوي فلا يملك من أمره شيئا.
وفي الاقتصاد: خيرات مصر تصب في جيوب الإنجليز.
والأزهر: مقصى عن توجيه دفة الحياة.
الإعلام: الإذاعة مديرها لطفي السيد وأمثاله كما أنه مدير الجامعة , والصحف اليومية والدورية . والمجلات معظمها بي النصارى كالأهرام , والمقطم , والمقتطف , الهلال , ما ينوف على عشرين منها بأيدي النصارى , ووزارة المعارف والمناهج: بيد دنلوب.
والجامعة : بيد لطفي السيد. ثم جاء طه حسين ليواصل الدور من خلال كتبه ( الشعر الجاهلي ) و ( الأدب الجاهلي ) لينكر ربانية القرآن وأطلق كلمته.
( للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ولكنا لا نرى هذين مصدرا تاريخيا موثوقا ) ثم استلم الجامعة , ثم المعارف قال بعضهم " انتهى عهد دنلوب وابتدأ عهد طه حسين " .
وفي أواخر القرن التاسع عشر حصل أخطر حدث في العصر الحديث وهو مؤتمر بال
( 1897م ) الذي عقده هرتزل في سويرا.
•…مؤتمر بال في سويسرا /1897 / :
يكاد كثير من مفسري التاريخ يجمعون أن مؤتمر بال يعتبر أخطر حادث في العصر الحديث , وهو نقطة التحول بالنسبة للعالم الإسلامي , إذ دأبت بعده اليهودية العالمية على تنظيم الخطط وإحكام الأحابيل والشباك التي تصطاد بها المسلمين للوصول إلى أرض الميعاد .
وأما هرتزل فهو صحفي يهودي نمساوي ولد سنة (1860) وفي سنة (1894) حضر محاكمة الضابط اليهودي ( دريفوس ) الذي يحمل الجنسية الفرنسية حيث اتهم هذا الضابط بالتعامل مع ألمانيا وحكمت عليه بجريمة الخيانة عشر سنوات مع تجريده من مناصبه العسكرية , ولقد أثرت المحاكمة في نفس هرتزل . إذ ظن أن دريفوس حكم ظلما بسبب دينه اليهودي وقال - من شاء أن يُنصف في هذا المجتمع فلينتصر - وصمم أن يعمل من أجل إنشاء وطن لليهود , وبعد هذا الحدث بسنة أي سنة (1895م) أصدر كتابه ( الدولة اليهودية ) وهو شبيه بالكتاب الذي أصدره موسى هيس ( من روما إلى القدس ).
وفي سنة (1897) استطاع أن يجمع المنظمات الصهيونية في مؤتمر صهيوني عالمي في بال , وأعلن هرتزل في نهاية المؤتمر أن الدولة اليهودية قامت وحدد لذلك زمنا لا يتعدى خمسين سنة.
وانبثقت عن هذا المؤتمر ( بروتوكولات حكماء صهيون ) التي تعتبر أخطر الوثائق في العصر الحديث , ومعظم التدمير الذي حل بالبشرية في القرن العشرين كانت بسببها.
من نصوص من البرتوكولات:
البرتوكولات الثاني ( لا تحسبوا أن تصريحاتنا كلمات جوفاء . نحن الذين رتبنا نجاح دارون - من قبل - وإن فرويد منا , وإن ماركس و نيتشة منا , وسنبقى ننشر آراءهم لما لها من أثر هدام على الفكر الأممي ) . (الفكر الأممي) يعني فكر الأمم غير اليهودية, وقد أشار القرآن إلى طبيعة اليهود هذه فقال تعالى :
( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 75 ) .
ليس من حرج ولا إثم علينا - اليهود - إذا أسأنا إلى الأمم الأخرى غير اليهودية(18/355)
البرتوكول الثالث: ( سننشر بين الشعوب أدبا قذرا مريضا يهدم الأسرة . وسنستمر بالترويج لهذا الأدب , يجب أن نعمل - لتنهار - الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا.
إن فرويد منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس ويصبح همه ارواء غريزته الجنسية وعندئذ تنهار الأخلاق في كل مكان ونستولي على العالم وهو مخدر).
البرتوكول الرابع: ( سننزع فكرة الله من أذهان المسيحيين ونضع بدلها أرقاما حسابية وضرورات مادية ) .
وخلاصة البرتوكولات تتخلص في كلمة ( أوسكار ليفي ) التي قالها بتبجح وصلف:
( نحن اليهود سادة العالم ومفسدوه ومحركو الفتن فيه وجلادوه ) .
وكانت طريقة اكتشاف البرتوكولات أن روسيا علمت أن اليهود يخططون ضدها فأرسلت لاقتحام مقر حكماء صهيون وبالفعل وبخطة محكمة أوقدوا النيران حول العمارة فهرب اليهود من العمارة فاقتحموها وأخرجوا ما استطاعوا أن يخرجوه من الأوراق ثم أحضرتها روسيا . وقام الدكتور ( نيلوس ) بتحليلها وتوقع نيلوس سقوط القيصرية في روسيا , وسقوط الدولة العثمانية .
وقد كان البرتوكول الرابع عشر يقول :( يجب علينا أن نحطم كل عقائد الأديان)
•…السلطان عبد الحميد يعرقل على اليهود الطريق إلى فلسطين:
إن معظم الأحداث الكبرى التي جرت في المنطقة الإسلامية - العربية خاصة - كانت ترمي إلى الهدف الكبير الذي وضعه هرتزل ومن ورائه اليهود نصب أعينهم وهو الوصول إلى أرض الميعاد كان أمام اليهود عقبة كأداء لا يمكن تجاوزها وهي الدولة العثمانية وعلى رأسها السلطان عبد الحميد الثاني الذي حكم بين (1876-1909)
حاول اليهود أولا إغراء السلطان الصالح عبد الحميد , فالسلطان عبد الحميد وصل إلى الخلافة في وقت كادت الماسونية تأخذ بخناق الدولة .
ولنرجع إلى هرتزل الذي توجه إثر انتهاء مؤتمر بال سنة (1897) لمقابلة السلطان عبد الحميد وأخذ معه حاخام القسطنطينية (موسى ليفي) وعرضوا على السلطان عروضا منها:
5-…إنشاء أسطول عثماني.
6-…دعم سياسة العثمانيين في العالم الخارجي.
7-…مساعدة اليهود للسلطان في تحسين أوضاعه المالية.
8-…إنشاء جامعة عثمانية في القدس.
قال هرتزل " مثلا لو رضي مولانا وباع لنا الأراضي التي ليس لها مالكون في فلسطين بالثمن الذي يقدره" فغضب السلطان وقال:
(إن أراضي الوطن لا تباع , إن البلاد التي امتلكت بالدماء لا تباع إلا بالثمن نفسه )
ولم ييأس هرتزل وقابل السلطان مرة ثانية (1901) وفي هذه المرة عرضوا على السلطان نفسه (150) مائة وخمسين مليونا من الجنيهات الذهبية الإنجليزية فقال ( إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبا - فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي , لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة , فلن أسود صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين).
ولقد كانت المقابلة هذه المرة مع (قره صو) المحامي اليهودي الماسوني الذي أشرف على محفل سالونيك.
ولقد نقلت بعض المصادر أن السلطان صاح في وجه هرتزل (أخرج من وجهي يا سافل) وصاح بالحاجب الذي أدخله قائلا (أما كنت تعلم ما يريده هذا الخنزير مني)
فطار هرتزل مع قره صو إلى إيطاليا وأرسل ( قرة صو ) برقية إلى السلطان.
(ستدفع الثمن هذه المقابلة من نفسك وعرشك).
يقول هرتزل في مذكراته : ( ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذ أية خطوة أخرى في هذا السبيل لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن أي شبر واحد من أرض فلسطين إذ هي ليست ملكا له , بل هي لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها .... وقال عبد الحميد: إن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين تقتطع من إمبراطوريتي. ثم قال: وفر نقودك يا هرتزل فعندما يذهب عبد الحميد ستأخذون فلسطين مجانا ).
وبعد هذا صمم اليهود على الإطاحة بعبد الحميد وفي سنة (1904) فجروا عربة أمام المسجد الذي يصلي فيه السلطان صلاة الجمعة ونجاه الله من الموت وقتل كثير من الناس .
وتكالب الماسون على إقصائه , ودفعت الماسونية بعملائها إلى أن تصدروا المناصب العليا في الدولة أمثال طلعت باشا , أنور باشا - وزير الحربية - أرستيدي باشا - رومي أصبح وزيرا للنافعة , جمال باشا - حاكم الشام - مصطفى كما باشا قائد جبهة الشرق العربي في الحرب العالمية الأولى جاويد باشا (دافيد باشا) - وزير المالية.
(حسين جاهد يالشين) أحد أعضاء لجنة التوفيق الثلاثة (أمريكي وفرنسي وتركي ) بين العرب واليهود وأصبح السلطان يجد نفسه يوما بعد يوم محاطا برجال اشترتهم الماسونية من خلال جمعية ( الإتحاد والترقي ) وأصبحت قبضته تخف تدريجيا حتى استطاعوا أن يجبروه على إعلان الدستور . فأنشأ مجلس المبعوثان ( مجلس النواب ) الذي دخله اليهودي والنصراني والمسلم وجاء ( قره صو) إلى مجلس المبعوثان.(18/356)
وكان إعلان الدستور نصرا للنصارى واليهود في كل الأرض حتى أهدى جورجي زيدان النصراني - دار الهلال - كتابه الإنقلاب العثماني إلى الأبطال !!؟ أعلنوا الدستور سنة (1908) ثم استطاع الماسون أن يحركوا الجيش بقيادة محمود شوكت - العربي واجتمع مجلس النواب لينتزعوا قرارا بالإطاحة بالسلطان . ولقد كانت أصابع ناحوم حاييم ( حاخام القسطنطينية ) بارزة في الأمر , وقدم كتاب الخلع إلى السلطان عبد الحميد ثلاثة.
2-…قره صو .2-أستيدي باشا.3- عارف حكمت الذي كانت أمه خادمة في قصر السلطان فأخذ السلطان ابنها هذا - عارف - وأدخله في البحرية حتى أصبح ياورا في البحرية .
كان إقصاء السلطان عبد الحميد عن الخلافة في نيسان سنة (1909) وكانت هذه أكبر طعنة وجهت للإسلام , وفي تلك الليلة التي نزل فيها السلطان عبد الحميد عن سدة الحكم نستطيع القول بأن:
الإسلام الفعلي أزيل من الوجود والشهود وسقطت فلسطين - حقيقية - في يد اليهود.
يقول أنور باشا - أحد أقطاب الماسونية و الإنقلاب على السلطان عبد الحميد مخاطبا جمال باشا أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا؟
نحن لم نعرف السلطان عبد الحميد فأصبحنا آله في يد الصهيونية واشترتنا الماسونية العالمية , نحن بذلنا جهودنا للصهيونية فهذا ذنبنا الحقيقي.
ويقول برنارد لويس: (لقد تعاون الإخوة الماسون واليهود سرا على إزالة السلطان عبد الحميد لأنه كان معارضا قويا لليهود. إذا رفض بشدة إعطاء أي شبر أرض لليهود في فلسطين.
تركيا بعد السلطان عبد الحميد:
سقط السلطان الصالح عبد الحميد بفعل الماسونية اليهودية وأصبحت تركيا تسير من قبل (جمعية تركيا الفتاة , وجمعية الاتحاد والترقي ) التي أضحت لعبة بيد الماسونية , فقد كانت القومية التركية التي يدعو إليها حزب الإتحاد والترقي بيد اليهود
وهكذا توالت النكبات على تركيا , الخلافة ضعيفة تلعب بها جمعية الاتحاد والترقي - الدعاة القوميون - هؤلاء علمانيون لا متدينون ,المحافل الماسونية تنتشر انتشار النار في الهشيم , الديون تتراكم , ومن وراء ذلك كله الأصابع اليهودية التي صممت الإطاحة بتركيا لتصل إلى أرض الميعاد.
•… مصطفى كمال يحطم تركيا ويلغي الخلافة:
وخرجت تركيا محطمة من الحرب العالمية الأولى و تقاسمت الدول الكبرى ورثة الرجل المريض! كما كانوا يطلقون على تركيا , واستراحت أوروبا من هذا الغول الرهيب الذي كان يقض مضاجعها لقرون طويلة.
وجاء مصطفى كمال بعد هزيمته في جبهته في الشرق العربي وبرزت شخصيته كقائد عسكري من خلال بعض الإشتباكات العسكرية مع اليونان . وانطلقت الأقلام لتبرز مصطفى كمال . وهناك بعض المحللين التاريخيين والسياسيين يرون أن سكوت دول الحلفاء الثلاث التي كانت تعسكر قواتها على مقربة من أرض المعركة كان لخطة وهي إبراز مصطفى كمال من أجل دور الذي ينتظره وهو محاربة الإسلام وإسقاط الخلافة.
وانسحبت دول الحلفاء من تركيا وعندما وقف مجلس العموم البريطاني في وجه كرزون الذي وافق على سحب جيوش الحلفاء من تركيا قائلين ستعود تركيا مرة أخرى لاحتلال أوروبا فقال: اطمئنوا.
(لن تقوم لتركيا قائمة بعد أن جردناها من الإسلام والخلافة).
•…حالة العالم الإسلامي بعد منتصف القرن التاسع عشر( إلى منتصف القرن العشرين).
كان العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين نائما في سبات عميق مستسلما للذل قد استمرأ السياط التي بيد جلاديه تلهب ظهره .
وقد اتفق الغرب الذي يقبض بخناق العالم الإسلامي على أمرين:
أن لا تقوم للإسلام قائمة.
أن تقوم الدولة اليهودية في فلسطين.
والعالم الإسلامي قسمان: العالم الإسلامي العربي. و العالم الإسلام غير العربي.
•…أحوال العالم الإسلام العربي:
أما العالم الإسلامي العربي: فقلبه النابض مصر وهي في قبضة بريطانيا وقد رأينا كيف عاثوا بها فسادا عن طرق أسرة محمد علي وعن طريق صنائعهم فيها , وكانت الأردن والعراق وفلسطين تحت وطأة الإحتلال البريطاني كذلك , ولم يكن حالها أحسن من حال سابقتها مصر.
وأما فرنسا: فكانت تتحكم بسوريا ولبنان والشمال الأفريقي , حيث صممت أن تحول الشمال الأفريقي إلى ماخور كبير من مواخير باريس من تونس حتى طنجة . وفرضت اللغة الفرنسية وأخرجت الظهير البربري (القانون البربري) في 16 مايو سنة 1930 الذي قضى بتنفيذ الأحكام العرفية البربرية وقانون الأحوال الشخصية البربرية بدل الشريعة الإسلامية . وذلك للتفريق بين العرب والبربرية . وتحويل البلد إلى ساحة نزاع عرقي وسلخ المسلمين عن دينهم.
وفي نفس الوقت أثار سعيد عقل , ويوسف السودا , و فيكتو ر خلاط , شبح الفنيقية , وإحياء أسماء هاينبال , وصناعة حزب القوميين السوريين , وإعلان أن لبنان لا ينتمي إلى العرب بل هو جزء من حضارة البحر المتوسط .
وفي مصر: يثير سلامة موسى وطه حسين الفرعونية . وأعلن طه حسين في مستقبل الحضارة في مصر: أن مصر جزء من حضارة المتوسط (الأوروبية) وليست عربية فهي أقرب إلى حضارة إيطاليا وفرنسا واليونان منها إلى جزيرة العرب . ويجب تقليد الأوربيين في مأكلهم ومشروبهم وملبسهم وحياتهم .(18/357)
وأما فلسطين: فهي تحت إدارة المندوب السامي البريطاني- اليهودي ( هر برت صموئيل ) . الذي يمهد لإقامة دولة اليهود فيها . ولذا فإنه يغرق المدن الكبرى بالمسارح والسينما والأندية الليلية بالإضافة إلى التحكم بالمناهج المدرسة العلمانية وإقصاء التربية الإسلامية والتاريخ الإسلامي عن الحياة المدرسية . وكانت الإذاعة بأيديهم.
وأما النصيريون في سوريا: فكانت فرنسا بالإضافة إلى ما تقدم من وسائل بريطانيا في عملية التغيير , كانت ترعى طائفة النصيريين الذين سمتهم العلويين ليختلط أمرهم لدى المسلمين . وهذه الطائفة الذين كانوا قد اتخذوا من بينهم إلها وهو (سليمان المرشد) وقد كان راعيا للبقر واتخذ رسولا اسمه (سليمان الميدة) كان يعمل راعيا للجمال , وسليمان المرشد هذا من قرية (جوبا يرغال) شرقي اللاذقية , وكان المستشار الفرنسي يسجد له مع الساجدين ليزيد أتباعه غيا . وقد صنع له جلبابا فيه مصابيح كهربائية تضيء فيسجد له الأتباع !.
•…أحوال بقية المسلمين في العالم الإسلامي:
أما عن المسلمين في بقية العالم الإسلامي فحدث عنهم ولا حرج , فزيادة عن الجهل المطبق الذي يتضور فيه غالبية المسلمين , شجعت الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا الطرق الصوفية المنحرفة التي لا تفهم من الإسلام إلا العزلة السلبية والصبر على الإتسعمار , لأنه ابتلاء من الله . و التمسح بالقبور وإقامة الأضرحة ورفع الرايات فوقها من أجل التبريكات , و إشغال الشعب بعيد ميلاد المشايخ وتتويجهم ثم الدعوات حول قبورهم والحلف بأسمائهم وإهداء الزهور على أنصابهم.
وزيادة على هذا فقد ابتدعت نبوات جديدة وظيفتها إلغاء الجهاد , وترسيخ الولاء لبريطانيا.
1- ففي الهند: أبرزت (ميرزا غلام أحمد) القادياني. وهذا المتنبىء ولد سنة (1840) في قاديان / وأصيب في شبابه بالهستيريا.. وفي سنة (1884) أعلن حرمة الجهاد ضد الإنجليز في كتابه (براهين أحمدية) .
وفي المرحلة الثانية: أعلن تشبهه بالمسيح سنة (1891) وأصدر ثلاثة كتب (فتح الإسلام توضيح مرام, إزالة أوهام).
وقال: أنه المسيح الموعود.
وفي المرحلة الثالثة أعلن أنه نبي سنة 1900, وقد ادعى أن الله جمع جميع الأنبياء في شخصه.
قال بشير محمود ( أحد الدعاة القاديانيين ): (غلام احمد أفضل من بعض أولي العزم من الرسل ) !!.
ولقد تبعه الكثيرون ليبايعوه على الولاء لبريطانيا. يقول محمود أحمد ( خليفة ميرزا غلام احمد في رسالته : ( هدية لسمو الأمير ويلز نجل جورج الخامس سنة 1931) :
( أنا أرحب بك وأؤكد لك أن الجماعة الأحمدية وفية لبريطانيا وستبقى وفية - إن شاء الله - وإن منهج هذه الجماعة منذ تأسيسها أن تطيع الحكومة القائمة بريطانيا وهذا شرط البيعة فيها ) .
جاء في كتاب ( ترياق القلوب ) لميرزا غلام أحمد : ( لقد قضيت عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية و نصرتها, وألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر الإنجليز من الكتب والنشرات ما لو جمع لملأ خمسين خزانة . وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وكابل ) .
2- البابية والبهائية في إيران :
وهذا دين آخر رعته بريطانيا وحرصت على نشره روسيا من أجل تمييع العقيدة الإسلامية. و البابية مؤسسها شيعي يدعى ( ميرزا علي محمد الشيرازي ) تلقب بالباب واشتق اسمه من الحديث الموضوع ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) . وادعى النبوة أولا , ثم ادعى أنه المظهر لله , ثم أسس تلميذه ( البهاء ) دين البهائية .
وفي سنة 1848 عقد البهائية مؤتمر بدشت , وأعلنت البابية نسخ الشريعة الإسلامية بالبابية . ثم أعدم البهاء , وتفرقت جماعته إلى فرق ( في نواحي إيران ) .
ولا يفوتنا أن ننبه إلى أن النواة الأولى لأتباع الباب كان لليهود فيها عدد كبير منهم ... وقد كان قسم من أعمال السفارة الروسية في طهران منحصرا في تهيئة الألواح و تنظيم أعمال البابية .
وقد مرت دعوة البهاء بثلاثة أطوار, الأول ادعى فيه أنه عيسى عليه السلام , ثم ادعى النبوة ثم ادعى الألوهية...
•…مدرسة مد الجسور نحو الغرب:
لقد اشرنا أكثر من مرة إلى أن الغرب آثر أن لا يستعمل القوة إلا في حالات الضرورة القصوى لأنه أدرك أن بإمكانه أن يصنع من خلال ربائبه من أبناء البلد أضعاف ما تحققه جنده وأساطيله الجوية والبحرية.
ولقد رأى الإنكليز- بالذات - أن من أفضل الطرق لضرب جذورهم في أرض المسلمين هو إقامة مدارس تقوم بردم الهوة بين الغرب المشرك والشرق المسلم بتمييع الحواجز وإزالة الفواصل وتقريب الشقة بين الإيمان الناصع والكفر الصريح بتلبيس الأمور واختلاط الشارات وهدم الفوارق بين المسلمين والكافرين (1). ومن هذه المدارس :
مدرسة محمد عبده في مصر.
مدرسة أحمد خان , وعلى طريقته وحيد الدين خان . ( في الهند ) .
مدرسة محمد عبده في مصر :
يختلف المفسرون لأحداث التاريخ حول شخصية محمد عبده وفي تحليل مواقفه السياسية وصلته بالاحتلال البريطاني (2):(18/358)
فمنهم من يغالي فيه و يرى فيه المصلح الذي أيقظ مصر من سباتها العميق , وأنه بذل وسعه في إصلاح الأزهر ., وأنه كان لا يستطيع مواجهة بريطانيا فاضطر إلى مهادنتها من أجل حماية الأوقاف الإسلامية والقيام بالإصلاح الجذري للأزهر و العلماء. ومن هؤلاء تلميذه محمد رضا , ومحمد البهي..
ومنهم من يرى أنه قام بدور كبير في خدمة بريطانيا أكثر من العلمانيين الصرحاء, وذلك لأنه مد الجسور بين النفسية المصرية الإسلامية والنفسية الإنجليزية الحاقدة , واستطاع أن يقنع الكثيرين أنه لا بد من التعاون مع بريطانيا.
ومن أصحاب هذا الرأي الشيخ عليش شيخ الأزهر الذي كفر محمد عبده .
ومهما يكن من أمر فهناك قضايا كبرى لا نستطيع إغفالها في حياة محمد عبده:
1- دخوله الماسونية وهذا أثبته له حتى تلميذه وأثبت حصوله على أوسمة في الماسونية من الملحق الثقافي الأمريكي في المحفل الماسوني اللبناني.
2- وقوفه بجانب كرومر ضد الخديوي عباس.. ومكانته الرفيعة لدي الإنكليز وتدخلهم لدعمه في كل ملمة به. كما خصوه بمنصب الإفتاء في مصر وحصروه فيه.
3- كان محمد عبده من رواد صالون الأميرة نازلي كما أسلفنا . وقد حفظت صور لمحمد عبده يخالط فيها بعض نساء الإفرنج وغيرهن من خليعات مصر في ذلك الزمان.
4- كان كرومر يقول للخديوي عباس :
( إسمح لي أن أقول أنه مادام لبريطانيا العظمى نفوذ في مصر, فإن الشيخ محمد عبده يكون هو المفتي حتى يموت).
وقد جاء في كتاب كرومر ( مصر الحديثة):
( إن محمد عبده كان مؤسسا لمدرسة حديثة قريبة الشبه من تلك التي أسسها السيد أحمد خان في الهند مؤسس جامعة عليكرة ).
يقول المستشرق الإنكليزي ( هاملتون جب) في كتابه : ( أين يتجه الإسلام) :
( ومن ناحية أخرى نجد أن الشيخ محمد عبده قد صنع جسرا فوق الهوة التي تفصل التعليم التقليدي الجاف عن التعليم المصري الخاضع لمذهب العقليين الذي غزا الشرق والغرب ) .
لا أشك أن تفسير محمد عبده للقرآن والذي نقله تلميذه محمد رضا يدل على الهزيمة الروحية أمام ضغط الغرب الجاثم على صدور المسلمين واستحياء من المستشرقين . حيث أول الملائكة بالقوى الطبيعية , وفسر سجودهم لآدم بتسخير قوى الأرض له , وأول الجن بالميكروبات , و الطير الأبابيل بمخلوقات من جنس البعوض والذباب , والحجارة مت سجيل بالجراثيم ..!
فأين كان محمد عبده من قوله تعالى :
( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) (هود:113) .
مدرسة أحمد خان بهادور في الهند :
لقد أقلق بريطانيا وجود علماء صادقين مجاهدين في شبه لقارة الهندية من أمثال الشيخ ( أحمد بن عرفان الشهيد(1842) الذي ألهب شعلة الحماس والجهاد في نفوس المؤمنين في الربع الأول من القرن التاسع عشر. ولذلك لجأت إلى تربية صنائع دينية تمسح من الأذهان فكرة الجهاد فاخترع تعددا من المدارس مثل :
القاديانية , وقدمت ميرزا غلام أحمد على أنه نبي ينسخ الجهاد .
أحمد خان . العلماني الذي نادى بإلغاء الجهاد أيضا.
وقد ولد أحمد خان هذا سنة 1817في دهلي, ثم عمل في خدمة بريطانيا أمينا في الحكم الجنائي 1837. ولدى قيام المسلمين بالجهاد سنة 1857, وقف أحمد خان ضد الثورة الإسلامية , وخلص كثيرا من البريطانيين من القتل , ودفع مبلغا ضخما من ماله لإنقاذهم , وألف كتابا عن أسباب الثورة أنحى فيه باللائمة على المسلمين الجهلة .
وقد منحته بريطانيا وسام نجمة الهند . وفي سنة 1875 أنشأ ( الكلية الشرقية الإنجليزية ) في عليكرة . واسمها الآن ( الجامعة الإسلامية ) . وهلك سنة 1898 .
ومن أهم محاولات أحمد خان :
إنشاء دين جديد تنصهر فيه الأديان الثلاثة ( الإسلام , النصرانية , اليهودية ).
محاولة إثبات صحة الأناجيل, وكتب في هذا كتابا سنة 1862أسماه تبيان الكلام .
نادى بالمذهب الطبيعي الدهري , وقال أن جميع الأنبياء كانوا طبيعيين لا يعتقدون بالإله- والعياذ بالله- ولقب نفسه بالطبيعي.
زعم أنم النبوات تكتسب بالرياضة الروحية . إلغاء فريضة الجهاد .
مدرسة وحيد الدين خان في دلهي بالهند :
وقد أشد وحيد خان بسلفه أحمد خان . وكان من أفكاره التي جاءت في كتبه :
1- الدعوة إلى إنشاء مركز عالمي عصري بشرط أن يبتعد عن السياسة بكل شكل .
2- ترك الدنيا لأهلها وتذكير الناس بالموت فقط .
3-إلغاء الجهاد والدعوة لترك مواجهة الغرب , والدعوة إلى الإستكانة والذل والصبر .
4- أن الأنبياء بعثوا للمؤمنين الفاسدين .
المستشرق الإنكليزي ( جب) يكتب عن العالم الإسلامي سنة 1932:
خلال الثلث الأول من القرن العشرين, نجح اليهود وحلفاؤهم الغربيين في مجالات شتى في العالم الإسلامي..(18/359)
فقد أسقطوا الخلافة العثمانية , وزجوا بتركيا في الحرب العالمية الأولى, فحطموها وتقاسموا ممتلكاتها , وقد وقف الزعماء العرب بسذاجتهم إلى جانب الحلفاء والإنجليز خاصة ضد إخوانهم المسلمين الأتراك العثمانيين, ظنا منهم أنهم سف يساعدوهم على قيام مملكة عربية مستقلة !ولمن الحقائق التي سبق أن أشار إليها القرآن كانت غير ذلك ! يقول لورنس ( رجل الإستخبارات البريطاني) الذي رتب الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين لمساعدة بريطانيا التي أغدقت الوعود الكاذبة للشريف حسين والي مكة والحجاز آنذاك . يقول: ( كنت أعلم أننا إذا كسبنا الحرب فإن عهودنا للعرب ستصبح أوراقا ميتة, ولو كنت ناصحا شريفا للعرب لنصحتهم بالعودة إلى بيوتهم , لقد كان قادة الحركة العربية يفهمون السياسة الخارجية فهما عشائريا بدويا, وكان البريطانيون والفرنسيون يقومون بمناورات جريئة اعتمادا على سذاجة العرب وضعفهم وبساطة قلوبهم وتفكيرهم , وكان لهم ثقة بالعدو . إنني أكثر ما أكون فخرا أن الدم الإنكليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي خضناها , لأن جميع الأقطار الخاضعة لنا لم تكن تساوي في نظري موت إنكليزي واحد )..
لقد قال ويزمن بعد ذلك : ( لقد قدم لورنس خدمات جليلة لليهود )!
ثم بدأ الغرب عن طريق التعليم ينفث الم في أوصال هذه الأمة , فأفسد الناشئة , وأفسد النساء وحطم المكونات الأسرية , وأدخل أندية الماسون و الروتاري في نخبة المجتمعات .. ونشر الفسوق عبر المسرح والسينما ووسائل الإعلام ..
يقول المستشرق الإنكليزي جب في كتابه وجهة العالم الإسلامي :
[ عن (التعليم) (1):
إن هذا هو السبيل الوحيد لفرنجة بلاد المسلمين وتغريبها , لقد كان التركيز قويا لإنشاء الطبقة التي تأخذ نهائيا بوجهة نظر لا سلطان للدين عليها , وحينئذ يمكن الجلاء عن أراضيها وتسليمها زمام السلطة فيها لأنها امتداد لفكر المحتل .] !
ويقول :
[ إن المدارس والمعاهد لا تكفي فليست إلا الخطوة الأولى ويجب صرف الاهتمام إلى خلق رأي عام بالاعتماد على الصحافة , فهي أقوى الأدوات الأوربية وأعظمها نفوذا في العالم الإسلامي , و مديرو الصحف القومية معظمهم من التقدميين والصحف تتميز بنزعة علمانية غالبة كما يرى .] !
ويضيف بأن التعليم والصحافة قد ترك المسلمين لا دينيين إلى حد بعيد :
[ إن العالم الإسلامي سيصبح خلال فترة قصيرة لا دينيا في كل مظاهر حياته .]
ويبدي جب تخوفه من ناحيتين :
1-…المعاهد الدينية .
2-…الحركات الإسلامية : التي يرى أنها تتطور بسرعة مذهلة مدهشة , وتنفجر انفجارا مفاجئا قبل أن يتبين المراقبون من إماراتها ما يدعوهم إلى الريبة في أمرها .
و يقول: [ إن الحركات الإسلامية لا ينقصها إلا الزعامة وظهور صلاح الدين .] !
•…زعيم المبشرين ( زويمر ) يصف المسلمين الذين يريدهم الغرب سنة 1933 (1):
يقول زويمر مخاطبا المبشرين في مؤتمر القدس سنة 1933:
[ ** .. إن مهمتكم هي إخراج المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله , وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها , وبذلك تكونون أنتم طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية. هذا ما قمتم به خلال الأعوام المئة السابقة خير قيام .
** لقد قضينا في هذه الحقبة من الدهر منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية , ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية , تلك التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية .
** أنتم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل تمهيد .
** إنكم أعددتم شبابا في ديار الإسلام لا يعرف الصلة بالله , ولا يريد أن يعرفها , وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية . وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراد له الإستعمار , لا يهتم للعظائم , ويحب الراحة والكسل , ولا يصرف همه في الدنيا إلا في الشهوات , فإذا جمع المال فللشهوات , وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بأغلى ما يملك .] !
ويقول زويمر :
[ إن السياسة الاستعمارية لما قضت منذ1882م على برامج التعليم في المدارس الابتدائية , أخرجت منها القرآن , ثم تاريخ الإسلام , وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة , ولا هي مسيحية , ولا هي يهودية . ناشئة مضطربة , مادية الأغراض, لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقا , فلا للدين , ولا للكرامة , ولا للوطن حرمة ] ! أهـ.
لقد وصف( زويمر) الجيل خلال القرن التاسع عشر والثلث الأول القرن العشرين وصفا دقيقا . ولكنه خاب فأله فيما بعد , ولم يصدق ظن (جب) , الذي رأى أن الشرق المسلم سيصبح علمانيا عن قريب .
لقد كان الله - عز وجل - لهم بالمرصاد .( فقد نهضت الصحوة الإسلامية بمدارسها المختلفة , ثم أفرزت الصحوة الجهادية , وعادت الأمة تلتمس الخلاص في طريق القرآن ).(18/360)
? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ? (لأنفال:36) ]. أهـ (1) دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 2 / ص 349)
===============(18/361)
(18/362)
•…هزائم العرب والمسلمين وتفككهم و مسيرهم نحو قعر الهاوية خلال النصف الثاني من القرن العشري:
وهكذا شهد النصف الثاني من القرن العشرين استقلال الدول العربية والإسلامية , وكان استقلالا شكليا مبرمجا لم يكن في حقيقته أكثر من عملية تحول في أسلوب المحتلين المستعمرين إلى ما عرف باسم الإستعمار الحديث . حيث فتت الإستعمار العالم العربي إلى نحو 22 دولة , وفتت العالم الإسلامي إلى ما بلغ بمجموعه أكثر من 55 دولة , وقد تسلط على حكم تلك البلاد بترتيب دقيق ومباشر من الإستعمار , نماذج متعددة من أنظمة الحكم , فكان منها الأسر الو راثية المالكة , ولاسيما في مناطق الثروات الطبيعية الكبيرة الهامة ولاسيما مناطق النفط . وكان منها الأنظمة الديكتاتورية العسكرية القمعية , ولاسيما في مناطق الحركة والنشاط والوعي والثقافة , كما في بلاد العراق والشام ومصر . وكان منها أنظمة ديكتاتورية تسترت بالنظام الليبرالي الغربي ..وغير ذلك .
ولكن كل تلك الأنظمة ساست شعوبها بالقمع والظلم والقهر , ومارست عليهم سياسات الإفقار والتجهيل, والسير بهم نحو دروب الفسوق ونشر الفواحش , والتيه والضلال ..
كما حكمت كل تلك الأنظمة بلا استثناء - بالقوانين الوضعية المستوردة من بلاد الغرب المستعمر كلا أو جزءا ..
وخلال تلك الأعوام انحط العالم الإسلامي إلى أسفل قائمة الدول المتخلفة التي تعاني من كم هائل ومتنوع من الأزمات ..وبسبب ذلك , وبسبب ما أوجد الغرب في تلك البلاد من التيارات الفكرية والسياسية المتعددة المشارب والأهواء بين فلسفات الشرق الشيوعي الاشتراكي الملحد .., و هرطقات الغرب الإباحي الليبرالي المتهتك ..قام صراع مرير على السلطة في كثير من تلك البلاد , وتمكنت كتل سياسية مناوئة للأنظمة الحاكمة من الوصول للحكم , وقدمت نماذج مغايرة عنها لم تكن أقل منها كفرا وظلما وتيها وانحلالا , واستمر مسلسل الضياع والأزمات .
كما دخلت كثير من الأنظمة المصطنعة حروبا إقليمية فيما بينها , ولم يحل الدين الواحد , ولا حتى روابط القومية بين الحكام وبين قيام تلك الحروب . فحرب بين إيران والعراق , وبين العراق والكويت , وبين اليمن والسعودية , وبين السعودية ومصر . وحروب بين ليبيا وتشاد وبين الجزائر والمغرب , وبين سوريا والأردن وبين سوريا وقوى متعددة في لبنان , ونزاعات حدودية بين إمارات الخليج , بين السعودية وقطر ,وبين قطر والبحرين , وقتال ضار بين النظام الأردني والفلسطينيين , وبين النظام السوري والفلسطينيين , وبين القوى اللبنانية المختلفة والفلسطينيين , وتهديدات كادت تشعل الحرب بين سوريا وتركيا, وبين سوريا والعراق , وبين السودان واريتريا , وبينها وبين تشاد ...إلى آخر تلك الصراعات والحروب التي أهلكت مئات آلاف الأرواح وأفقرت البلاد والعباد ولم يكن منها صراع واحد يمكن اعتباره على حق وباطل , أو أن فيه رائحة من دواعي القتال الشرعي .. وإنما قتال على نزوات الملوك والحكام , لتكون العزة لفلان أو لعلان , من الجرابيع الحاكمة في بلاد المسلمين . وفي ظل هذه الأوضاع طمع الأعداء فينا , فاحتل اليهود ثلثي فلسطين سنة 1948 , بخيانة قيادات الجيوش العربية السبعة . ثم احتل سنة 1967 ما تبقى من فلسطين و القدس الشرقية والمسجد الأقصى المبارك , بالإضافة إلى أراض من سوريا ومصر ولبنان والأردن تزيد مساحتها على 5 أضعاف مساحة فلسطين , كل ذلك بسبب خيانة الأنظمة في كل من سوريا البعث و النصيرية , ومصر عبد الناصر والقومية العربية , ونظام الماسوني العريق الملك حسين في الأردن . وفي سنة 1973 حول النظام النصيري في سوريا , ونظام الخائن أنور السادات النصر العربي اليتيم الوحيد ضد اليهود إلى هزيمة عسكرية ثم سياسية, في حرب رمضان الشهيرة بعد عبور القوات المصرية التاريخي لقناة السويس تحت صيحات الله أكبر . والزحف الرائع للقوات السورية التي وصلت بحيرة طبريا وأنزلت قواتها في مرتفعات الجولان ..
ومنذ الاتفاقات الخيانية للرئيس السادات سنة 1980 ثم اتفاقيات فصل القوات بين سوريا الأسد النصيري وإسرائيل , ثم ما تلا ذلا من الخيانات التي تولى كبرها ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية ثم ما سمي بالسلطة الوطنية الفلسطينية , خسر العرب كل شيء بما فيها أرضهم ومقدساتهم بل وكرامتهم , أما م إسرائيل المدعومة من أمريكا وأوربا .. وأما في العالم الإسلامي فقد قضمت قوى الكفر المختلفة كثيرا من بقاعه واحتلتها ..فاحتلت الهند كشمير , واحتفظت روسيا القفقاس والجمهوريات وسط آسيا , وفقد المسلمون استقلالهم وأكثر بلادهم في دول أوربا الشرقية , وكذلك في العديد من الدول الأفريقية وجنوب شرق آسيا ..(18/363)
وأما منذ 1990 , ومنذ تسلمت أمريكا راية العدوان وتحكمت في العالم واتخذت من الشرق الأوسط ( الكبير ) وهم معظم العالم العربي والإسلامي مجالا لغزواتها وطموحاتها الإمبراطورية ونهبها الاستعماري , فقد وصل العالم العربي والإسلامي إلى قعر الانحلال والتفكك والهزائم وكان فاتحة ذلك , احتلال أفغانستان ودخول القوات الأمريكية اليهودية الصليبية المشتركة عاصمة الرشيد (بغداد ) في ابريل 2003.
وبالاختصار, فقد سجلت العقود السبعة الأخيرة تاريخا أسودا محزنا للعرب والمسلمين امتلأت فيه الأرض بين جور الحكام وعدوان المستعمرين جورا وظلما وبلاءا وظلمات وهزائم وبلاءات لا يعلم مداها إلا الله .
•…جذور البلاء و أسباب الهزيمة :
قال الشيخ عبد الله عزام طيب الله ثراه : [
لقد لخص رب العزة جل جلاله- أسباب الهزيمة في سطر واحد .
فقال تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ ? (المجادلة:20) وقال تعالى : ? وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ? (الشورى:30). وقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ? ( آل عمران:149) . وقال تعالى :? وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ? (هود:113) . وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد :
( بعثت بالسيف حتى يعبد الله وحده , وجعل رزقي تحت ظل رمحي , وجعل الصغار و الذلة على من خالف أمري , ومن تشبه بقوم فهو منهم ) .
إذن فخلاصة أسباب الهزيمة :
-…عصينا الله فهزمنا .
-…نسينا الله فنسينا .
-…تحدينا الله فأذلنا .
وأضاف رحمه الله :
وأنا أسوق لك بعض أخبار العالم العربي خلال الستينيات و السبعينيات للإثبات :
اختطف الجيش السوري , مدير مخابرات إربد( شمال غرب الأردن ) , فبادره مدير استخبارات درعا (جنوب غرب سوريا ) بشتم آل البيت , فقيل له ألا تستثني الرسول الكريم : فأجاب هو على رأس القائمة.
قال أحد ( الملاعين ) قادة المنظمات الفلسطينية في الأردن , قبل فتنة أيلول الأسود : ( لو امتدت إلينا يد الله لقطعناها ) تعالى الله عما يشركون .
عرضت في مصر سنة 1967 مسرحية اسمها ( أصل الحكاية) ألفها ( بكر الشرقاوي) , وكان بطلها (الله سبحانه ) وتقول المسرحية أن الإنسان خلق قبل الله . تعالى الله عما يلحد الجاحدون .
الدبابات المصرية التي دخلت سيناء في حرب 1967 كان مكتوبا عليها ( ناصرنا ناصر ) ! أي الذي سينصرنا هو ( جمال عبد الناصر) ! بينما كتب اليهود على دباباتهم نصوصا من التوراة .
بتاريخ (24/1/1965) دخلت الدبابات لأول مرة في تاريخ دمشق مسجد بني أمية بالمصلين فاستشهد منهم مائتان وأغلق الجامع أياما لإزالة ما علق بستائره ومحرابه من دماء المسلمين.
وفي ذلك اليوم قال مذيع دمشق ( إننا لن نسمح لمن كانوا يعيشون في هذه البلاد قبل ألف وأربعمائة سنة أن يفرضوا علينا أنظمتهم القديمة وأن يضعوا لنا أسس حياة نعيشها في هذه العصر).
في مدينة جنين /الضفة الغربية/ فلسطين قامت مظاهرة خرجت من مدرسة جنين الثانوية وهجموا على دار الإخوان وأخرجوا المصاحف والتفاسير و مزقوها و داسوها بالأقدام على طول الشارع العام وذلك في شهر نيسان سنة (1967) قبل الهجوم بشهرين.
عندما أعدم جمال عبد الناصر المفكر الإسلامي سيد قطب - رحمه الله - وزع أهل مدينة نابلس / فلسطين الكنافة احتفاء بهذا النصر.
قالت لي إحدى المثقفات وهي تناقشني: عمر بن الخطاب لم يعمل مثل عبد الناصر فغضب زوجها وقال: والله إن محمدا لم يعمل مثل عبد الناصر.
كانت كلمة (سر الليل) في بعض قواعد الجبهة الديمقراطية في الأردن سنة (1969) ؛ سب الرب , وشتم الدين , وعلى سبيل المثال قاعدة (حرثا).
في تجمع للفدائيين في قرية (الرام/ إربد/ الأردن) سنة (1969) عندما كان الشباب المسلم (الإخوان المسلمون) يؤذنون للصلاة يصطف مقابلهم الجبهة الشعبية الديمقراطية / نايف حواتمة والجبهة الشعبية / جورج حبش ينشدون:
إن تسل عني فهذي قيمي أنا ماركسي لينيني أممي
وقد رأيت هذا بنفسي.
1)…( ليلي خالد) تسمى مجموعتها مجموعة (جيفارا) وتعلن في صحيفة لبنانية أنها (ماركسية) وأنها أكبر من أن تؤمن بالله لأنها سخافة.
2)…أعلنت ( فدوى طوقان ) في صحيفة إسرائيلية أنها تنكر وجود الله: فتقول لها الكاتبة الإسرائيلية ( لهذا بنينا وهدمتم ... وغلبنا وانهزمتم)
3)…يقول سعد جمعة: (في يدنا وثائق تثبت أن المخابرات الأمريكية والبريطانية كانت وراء إنقلاب البعث في العراق في (17) أيلول سنة (1968) وكان همزة الوصل مع المخابرات الأجنبية هو العميل الشهور ( لطفي العبيدي) وكان العبيدي على اتصال مستمر بعدد من البعثيين وفي طليعتهم أحمد حسن البكر).(18/364)
4)…يقول هيكل في عدد الأهرام (15/1/1971) : وهو يستعير لسان الأديب الفرنسي مالرو: ( لدي تصور عن انتشار الإسلام في مصر بسرعة , وإن مصر دائما تبحث عن فرعون يمثل سمو روحها ... إن الإسلام لم ينتشر بسرعة بعد الفتح العربي , لكنه انتشر بسرعة بعد الخلافة حين أصبح الخليفة - بالسلطان الزمنية والروحية في يده - فرعونا يلبس بدل التاج عمامة )
5)…كتبت جريدة البعث العراقي - في أول مرة استلم فيها البعث لعراق عن ميشيل عفلق ( الله العائد ) وقال شاعرهم:
ياسيدي ومعبدي وإلهي حسبي ألم فتاتكم حسبي.
6)…قال إبراهيم خلاص في مجلة (جيش الشعب السورية) في (25/4/1967) (قبل الهزيمة بشهر واحد):
( والطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هي خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن: أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال الإستعمار والمتخمين وكل والقيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمي محنطة في متاحف التاريخ ) .
7)…كتبت عناصر الوحدات والسرايا والحزبيون - التابعون للسلطة في سوريا - لافتات تقول مايلي: (يسقط الله) (الأسد ربنا)
(لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث)
كان هذا في رجب سنة (1400هـ) الموافق أيار سنة (1980م).
وأظن أن هذا النقل من هذا الغثاء يكفي.
وأنقلك إلى صفحة أخرى عن أعدائنا - ليهود -.
1-…تقول ابنة دايان في كتابها ( جندي من إسرائيل ): لقد كانت فرائصنا ترتعد عندما سمعنا أن العدو على الجبهة الجنوبية ولكن عندما جاء الحاخام وصلى بنا تبدل الخوف أمنا.
(وتقول: إن مراسيم الطقوس 0 في التوراة - أن يقدم للجنود يوم السبت معلبات , وعندما أحضروا لنا طعاما طازجا مطهيا قبل المعركة - يوم السبت - (3/6/1967) رفض الجنود الأكل فأفتى لهم الحاخام الأكبر جواز هذا أثناء الإستنفار).
2-…تقول جولدا مائير ( إن أساس قوتنا الوحيد هو ارتباط كل يهودي في الدنيا بنا ارتباط العقيدة )
3-…حضر ابن غوريون وزلمان شازار تشييع جنازة تشرشل وكان اليوم - السبت - فسارا على أقدامهما حوالي 6 كم لأن ركوب السيارة ممنوع عندهم يوم السبت , مع أنهما قد بلغا من العمر عتبا.
4-…كتب ابن غوريون إلى ديجول - رئيس وزراء فرنسا - سنة (1967) يقول: ( إن سر بقائنا بعد التدمير البابلي والروماني وحقد المسيحيين الذين أحاطوا بنا ألف عام يكمن في صلاتنا الروحية بالكتاب المقدس , وعندما جاءت اللجنة الملكية البريطانية في آخر سنة (1926) لتدرس مستقبل الانتداب قلت لها: الانتداب الخاص بنا هو التوراة , لقد استخرجنا منه قوتنا لنقاوم عالما عاديا ولنستمر في الإيمان بعودتنا إلى بلادنا ).
5-…وفي الصفحات الأخيرة من مذكرات وايزمن - وهو ما يعتبر توصية عامة لإسرائيل - هدفنا هو بناء حضارة تقوم على المثل الصارمة للآداب اليهودية عن تلك المثل يجب أن لا نحيد .... فإذا استهدف اليهود في نشاطهم قيما حقيقية ... عندما يطل الله بعطف على أبنائه الذين عادوا بعد تيه طويل إلى بيتهم ليخدموه وعلى شفاههم مزمور , محيين بلادهم القديمة وجاعليها مركز حضارة إنسانية).
6-…عندما دخل دايان القدس سنة (1967) قال: يا لثارات خيبر , وقال الجنود الإسرائيليون وأنا سمعت أصواتهم مسجلة من الإذاعة الإسرائيلية: محمد مات ..محمد مات.. وخلف بنات.
7-…لقد رفض الحاخام أن يكتب عقد قران (ابنة ابن غوريون) رئيس وزراء إسرائيل لأن أمها ليست يهودية , والتوراة تعتبر النسب للأم .
8-…يقول بيغن أثناء لقاء مع السادات حول الضفة الغربية : ( أنا رجل مؤمن بالتوراة , رباني الأب الروحي جابوتنسكي - كما ربى حسن البنا عندكم سيد قطب , وأنا أعتبر الانسحاب من الضفة الغربية مخالفة للتوراة ولمبادئي الروحية )
حدثني هذا الإخوة عن إخواننا في المنطقة المحتلة سنة (1948) الذين قاموا بترجمتها من العبرية.
قال ابن غوريون عندما دخل القدس سنة (1967) (هذا أعز يوم علي منذ دخولي أرض الميعاد)
بعد احتلال القدس (1967) جاء ليفي اشكول يحمل ورقة صغيرة كتب فيها أمانيه ووضعها في شق من شقوق حائط المبكى ( حائط البراق للمسلمين ) كما تفعل العجائز عندنا.
11-…في مقابلة إذاعية مع جندي إسرائيلي في جبهة السويس صيف سنة (1969) يقول المذيع له: أنت شاب في العشرين من عمرك وقد قدمت إلى إسرائيل بعد حرب الأيام الستة من كاليفورنيا فما الذي حفزك ؟ قال الشاب : لقد حفزني ديني ودفعني إيماني للمجيء إلى الأرض المقدسة لأحقق رسالة الأنبياء والسعادة التي أحسها في الدفاع عن معتقداتي الدينية لا تعدلها سعادة في الدنيا.
12-…لقد أحيت إسرائيل اللغة العبرية - لغة التوراة - بعد أن درست منذ ثلاثة آلاف عام - فأسماء: الهستدروت , الكنيست , إيلات أصبحت هي أسماء مؤسسات ومدن.(18/365)
13-…هل عرفت بعد هذه المقارنة لماذا انتصر اليهود ؟ ولا يغر البعض قوله: أننا مسلمون أفضل من اليهود على أية حال , فقد كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم : ( أما بعد , فإني أوصيك ومن معك من الأجناد يتقوى الله على كل حال , فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو .... فإن ذنوب الجيش أخوف من عدوهم , وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ... فإن استوينا وإياهم في المعصية كان لهم فضل في قوة ... وإن الله سلط المجوس الكفار على اليهود وهم أهل الكتاب ).] أهـ .(1)
انتهى النقل من كلام الشيخ عبد الله عزام رحمه الله .
*************
•…النظام العالمي الجديد 1990وانطلاق الحملات الصليبية الثالثة بقيادة أمريكا
استتب الأمر للغرب بالسيطرة على مقدرات العالم الإسلامي. ونجحت خطته في تولية أوليائه مسؤولية رعاية شؤونه دون أن يتكبد أي خسائر. وامتصت الاحتكارات الأمريكية والأوربية الكبرى زبدة خيرات بلادنا وثرواتها دونما رقيب ولا حسيب ودون أي بادرة مقاومة. وانهار الإتحاد السوفييتي بعد غلطته التاريخية في أفغانستان كما رأينا. وأعلن رؤساء حلف الناتو أنهم اختاروا الإسلام عدو استراتيجيا بديلا.. وآتت الحملات الدولية والإقليمية لمكافحة الإرهاب بعيد الجهاد الأفغاني ضد الروس أكلها. وتشتت كوادر التيار الجهادي وتنظيماته وتحقق للغرب ما يريده من تفكيكها وحوصرت الصحوة الإسلامية السياسية و دجنت أحزابها وادخلت في متاهات اللاجدوى ودروب الإنحراف... واستتب الوضع لإسرائيل وانخرط الثوريون الفلسطينيون في مسارات أوسلو! وأفتى علماء المسلمين الكبار بشرعية الوجود الأمريكي في الجزيرة العربية! كما أفتو بشرعية التطبيع مع الإحتلال اليهودي لفلسطين وبيت المقدس!!
فلم يكن هناك فيما يبدو أي سبب ظاهر يدعو الغرب للعودة إلى أسلوب الحملات العسكرية على المسلمين. ولكن المفاجأة كانت في أن الغرب بقيادة أمريكا وتبعية بريطانيا وأوربا الناتو وروسيا قد قرروا الزحف عسكريا على العالم الإسلامي عامة وعلى الشرق الأوسط خاصة, فيما يبدو وكأنه عملية إعادة احتلال مباشر جديد, وسيكس بيكو أمريكية بريطانية صليبية جديدة.
فلماذا أقدم الغرب على هذه الخطوة؟ علما أن غنائمه كانت تصل باردة بلا عناء ولا دماء يتكفل بإيصالها زعماء العرب والمسلمين!
في رأيي يعود ذلك إلى عدة أسباب. منها ما يتعلق بالصليبيين وقيادتهم الجديدة أمريكا وحلفائها. ومنها ما يتعلق باليهود ومشروعهم الصهيوني في إسرائيل. ومنها ما يتعلق بما استجد من ظروف عالمنا الإسلامي وصحوته الجهادية. واختصر ذلك في النقاط التالية:
•…أسباب الحملات الصليبية الثالثة على العالم الإسلامي منذ 1990:
أولا: الاسباب المتعلقة بالروم الجدد (أمريكا - أوربا - روسيا):
1.…التدهور الاقتصادي والركود والتضخم وتراجع الواردات المالية في العالم الصناعي الغربي بشكل حاد, نتيجة أسباب كثيرة أهمها تقلص العائدات الاستعمارية من العالم الثالث نتيجة صحوة الشعوب وإدراكها لقيمة ثرواتها ونشوء بعض الأنظمة الوطنية التي تعمل على سد أوجه الفقر في بلادها ووقف نزيف النهب من مخزونها الوطني نحو الغرب الإستعمار . كما عانت الحضارة الغربية نتيجة الترف ورفاه العيش من تراجع القطاع المنتج في المجتمع في مجالات الزراعة والصناعات الأساسية على حساب توسع هائل في مجالات الشرائح المستهلكة غير المنتجة من الحرف الكمالية. (الفنون - الأمن - البحوث - التجار - الرياضيين........الخ) كما تراجع الميزان التجاري نتيجة عجز الدول الفقيرة عن استهلاك ما تنتجه الدول الغنية وانخفاض قدرات الشراء لديها وبالتالي انخفاض قدرة الغرب الصناعي على التصريف. كما أن هناك عاملين قاتلين نخرا في بنية الحضارة الغربية اقتصاديا واجتماعيا, أطنب كثير من البحاثة والكتاب الغربيين فيهما مؤخرا بجرأة وصراحة ودقوا لها ناقوس الخطر وهما ( تفشي الربا في كل مفاصل الاقتصاد الغربي) وكذلك ( عمل المرأة في مجالات عمل الرجال وإخلائها لموقعها في المنزل) فقد تحقق للاقتصاد الغربي بسبب ( الربا) ما بشر الله من أعمل به من( المحق) كما قال تعالى : ( يمحق الله الربا ) . فالاقتصاد الغربي ومعظم العالمي يصير إلى (المحق) عمليا. كما خلف عمل المرأة انتشار البطالة في أوساط الرجال . وكذلك أدى إلى دمار البنية الاجتماعية للأسرة وتراجع الاقتصاد. كل هذا وغيره جعل الدول الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا بحاجة إلى رفع وارداتها الاستعمارية لسد عجزها الاقتصادي عن طريق السيطرة على منابع الثروة ولاسيما منابع الطاقة (البترول والغاز) في الشرق الأوسط الخليج العربي الفارسي ومحيط بحر قزوين. وحتى تستطيع أمريكا أن تسيطر على عصب الاقتصاد العالمي وبالتالي تستنزفه لصالح اقتصادها.
2.…سحر القوة الذي سيطر على الإدارة الأمريكية وجنون الحلم الإمبراطوري:(18/366)
تضخمت القوة العسكرية الأمريكية بشكل هائل , حتى غدت بمفردها أكبر من مجموع قدرات الناتو وروسيا مجتمعة بحسب تقارير مراكز الدراسات الاستراتيجية العالمية. كما تقدمت قدراتها التكنولوجية بشكل مذهل جعل منها قوة أسطورية لا تنازع ولاسيما في مجال القدرات الجوية والصواريخ العابرة والسيطرة على أنحاء الأرض بالقدرات التجسسية الهائلة للأقمار الصناعية وقدرتها على توجيه الرمايات الصاروخية والجوية والبحرية. وبامتلاكها لأضخم ترسانة نووية في العالم..... كل ذلك ولد بشكل طبيعي لدى الإدارة الأمريكية الحلم بالانفراد بحكم العالم وقد طفحت كتابات منظريها بذلك حتى قبل القضاء على الاتحاد السوفييتي ربما بعقدين من الزمن حيث تبنوا ونظروا للإنفراد بحكم العالم والتخطيط لأن يكون القرن الحادي والعشرون قرنا أمريكيا وأن تقود أمريكا حضارة الروم وترث أمجادها وتغزو العالم. وكان من الطبيعي أن تفكر أمريكا من أجل تركيع حلفائها ودحر خصومها بالإمساك بشريان الحياة وعصب الحركة للعالم الصناعي وذلك باحتلال منابع النفط وامتلاكها مباشرة. والسيطرة على المعابر الاستراتيجية للعالم ونشر قواتها في كافة أرجائه ومنع نهوض أي قوة مناوئة لها وامتلاكها لأسلحة دمار شامل استراتيجية.
هذه القناعات التي تبلورت أواخر القرن العشرين لدى مجموعة من المنظرين والساسة في الحزب الجمهوري ممن أسموا أنفسهم ( المحافظون الجدد). والذين تبنوا لسوء الحظ عقائد الحلم الصهيوني وقيام إسرائيل واجتماع اليهود فيها كمقدمة لنزول المسيح بعد حرب كونية مع المسلمين.... إلى آخر ترهاتهم التي تختلط فيها أساطير الدين بأحلام الاستعمار.
3.…سعي الدول الأوربية وروسيا لمعاونة أمريكا خوفا وطمعا بالإضافة للدافع العقدي الصليبي المتجذر لدى جميعهم : فالخوف من أن تمتلك أمريكا وحدها فعليا منابع الطاقة ومصادر القوة وأن تتحكم بها. وطمعا في ما يمكن أن تجره لها المشاركة من مكاسب ترقع بها اقتصادها المنهار. جعلها تشارك جميعا في حرب الخليج الثانية بفاعلية. وبلغت نسبة المشاركة الأوربية ما لا يقل عن 25% في حين شاركت بريطانيا وحدها بـ15% وزادت نسبة الأمريكان في القوات التي بلغت مليون جندي على 55% .حيث أسفرت حرب (عاصفة الصحراء) أو (تحرير الكويت) كما أسموها عن تدمير العراق وجيشه وترسيخ أقدام بريطانيا وأمريكا في قلب المنطقة العربية والإسلامية سنة 1991. كما شاركت أوربا وفرنسا وبريطانيا والفاتيكان بصورة رئيسية بالحرب الصليبية على المسلمين في البوسنة (1994-1996) من أجل توحيد الدين في القارة الأوربية الساعية إلى الوحدة على الهوية الصليبية. أما روسيا فقد تولت فصلا صليبيا مستقلا في الشيشان القفقاس منذ (1994) وإلى اليوم حيث ما زال المسلسل الدموي يجري بمشاركة أوربية أمريكية بالدعم بالصمت أو بالمواقف السياسية و الإعلامية . إلى أن حملت أمريكا حملتها الكبرى على العراق في حرب الخليج الثالثة التي أسموها (حرية العراق !) والتي قامت بها أمريكا وبريطانيا بمشاركة لوجستية فاعلة من قبل كامل دول الناتو رغم الموقف الفرنسي الألماني والروسي المعارض الذي ما لبث أن لحق بالركب الاستعماري من أجل حصة في كعكة العراق حيث اعترفوا بالإجماع بحالة الاحتلال الأمريكي للعراق في مجلس الأمن ثم تابعوا التدحرج نحو المسار الأمريكي على استحياء خف مع الوقت ليصير إلى الوقاحة الصريحة. وهكذا حضرت الحملات الصليبية بسبب هذا الدافع الذاتي .
ثانيا : نضوج المشروع الصهيوني واقتراب اليهود من موعد هدم المسجد الأقصى و اعلان مملكة إسرائيل الكبرى بحسب الأحلام التلمودية :
لم يخف كبار زعماء الصهاينة في كتاباتهم ومقابلاتهم حلمهم الأكبر وهو إقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل. ولم يستحوا من إعلان عزمهم على هدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه. كما لم يخفو عزمهم على إقامة دولة يهودية صرفة وما يقتضيه ذلك من طرد ما تبقى من المسلمين والعرب من أرض فلسطين.(18/367)
وبعد أن دجنت إسرائيل بالتعاون مع أمريكا أنظمة الحكم في الجوار أو ما يسمى بدول الطوق وتمكنت بواسطة السادات من تفكيك الجيش المصري واختصاره لأقل من الثلث عدديا وتسليحا وبعد أن كفل لهم الملك الحسين الخائن حاكم الأردن وولده من بعده أطول حدود لهم مع الجوار. وتكفل النصيرية في سوريا أيضا بتفكيك الجيش السوري أكبر جيوش المنطقة وأشدها تسليحا تدريجيا, وضمن نصارى لبنان أمان حدودها الشمالية. انتقل اليهود لمرحلة فرض التطبيع السياسي والإقتصادي والثقافي على الدول العربية بل وطمحوا لأن يشمل ذلك العالم الإسلامي. ولم يبق في المنطقة من القوى العسكرية العربية إلا العراق ومن القوى الإسلامية إلا الباكستان فوضع اليهود نصب أعينهم هدف تدمير الجيش العراقي أولا. ثم الباكستاني ولما كانوا لا يستطيعون ذلك بأنفسهم كان لا بد من استقدام الجيوش الصليبية ولاسيما الجيش الأمريكي ليقوم بالمهمة كما أن اليهود بما فطروا عليه من ذل ومسكنة وخوف وجبن لا يطمئنون لجيشهم المتفوق عددا وتسليحا على مجموع ما تبقى من قوة عسكرية في دول الجوار حتى مع وجود أكثر من 250 رأس نووي جاهز لتدمير ما يريدونه من أهداف من حولهم. فهم يخشون أن تتمرد الشعوب العربية والإسلامية على صنائعهم الحاكمة في عواصم العرب والمسلمين ويجدون أنفسهم بملايينهم الستة محاطون بمئات ملايين الشعوب الغاضبة التي تناصبهم العداء وتحمل من الأحقاد المقدسة ما يكفي لسحقهم إن اتيحت الفرصة لتلك الشعوب. ولذلك عمل اليهود على استقدام جيوش النصارى لترابط في المنطقة وتبقى وتعمل على تفتيت دولها إلى كيانات أصغر وتفتعل حروبا داخلية مذهبية وعرقية تضمن الاستقرار والسيادة والتفوق العسكري بل تضمن أن تكون إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تمتلك جيشا في المنطقة. ولم يكن هذا الهدف صعبا على الصهاينة بعد أن أدت دسائسهم ومكرهم وأعمال الاختراق والتجسس وشراء الذمم والتغلغل بالأسلوب اليهودي على مدى نصف قرن. أدت إلى سيطرة اليهود على حكومة أمريكا وحكومات معظم دول الناتو. وتشير الإحصائيات إلى نسبة عالية مخيفة من الوزراء وأعضاء الحكومات وأعضاء البرلمانات والأجهزة النافذة والأحزاب السياسية الرئيسية وكافة وسائل الإعلام العالمية وأجهزة السينما والإنتاج التلفزيوني والصحف ... كلهم يهود أو أولاد أو أزواج ليهوديات . وهذا يعني يهود يتهم بحسب عقيدة التي تعتبر أبن اليهودية يهودي.. هذا فضلا عن سيطرتهم التامة على النظام المصرفي والمؤسسات المالية الكبرى في العالم وتحكمهم في الأمم المتحدة وما ينبثق عنها من مؤسسات ... لقد وصل اليهود إلى ما ذكره القرآن من العلو الكبير وها هم يفسدون في الأرض كيف يشاؤون .. واستطاع أحبار اليهود المتسللون إلى النصرانية ولاسيما للمذهب البروتستانتي السائد في أمريكا وبريطانيا .. أن يخترعوها ويؤسسوا في أمريكا مذاهب ومنظمات كنسية صليبية متطرفة تقوم على ازدواجية المصدر العقدي بحيث تكون العقيدة في الولايات المتحدة الصهيونية وآمال إسرائيل وأحلامها وأفضلية شعبها المختار. حتى بلغ أنصار هذه المنظمات والكنائس عشرات الملايين و صارت مواردها المالية بالمليارات وما أصبح تملكه من شبكات التلفزيون ووسائل الإعلام ما يجعلها إمبراطورية طاغية مكنت اللوبي الصهيوني من أن يتلاعب بالكونغرس والانتخابات الأمريكية كيفما أحب .. وهكذا ظهر المنظرون الجدد في السياسة الأمريكية في الحزبين الديمقراطي والجمهوري وخاصة في الثاني وتولوا دعم برامج إسرائيل التي اقتربت من تحقيق أهدافها.... وهكذا ساق اليهود الجيش الأمريكي وجيوش أوربا الصليبية ليحتلوا الشرق الأوسط و يفتتحوا ذلك بتدمير آخر الجيوش المتبقية وهو الجيش العراقي عبر حرب 1991 وحرب 2003. فيثأروا لليهود من العراق وأرض بابل بحسب معتقداتهم ويثأروا لمرحلة الأسر البابلي ويذيقوا أحفاد أولئك الأجداد أبشع ألوان الذل والهوان كما ضمنوا تفكيك العراق وسحق قدراته.. وتجدد الضغط باتجاه سوريا التي ألغي فيها نظام التجنيد الإلزامي لأول مرة في تاريخها منذ الاستقلال مما سيقلص عدد الجيش السوري الذي يناهز مليون جندي إلى أقل من 20% منه ليقوم على المتطوعين الذين تتكون غالبيتهم الساحقة من النصيرية وأبناء الأقليات الدينية الأخرى ويبقى المسلمون السنة وهم الغالبية الساحقة من سكان سوريا أكثرية غير مسلحة يسلخ اليهود وعملاؤهم جلدهم متى شاؤوا. كما تتجه أنظار أمريكا علنا لتفكيك وتقسيم تركيا و الباكستان والسعودية ومصر.. وتنشر في الشرق الأوسط الادنى وهو ما يسمونه منطقة العمليات الوسطى أكثر من 1.5 مليون جندي أمريكي يرابط نحو مليون منهم في البلاد العربية من بغداد إلى طنجة منهم نحو الثلثين في منطقة الشرق الأوسط !!! وهكذا كانت الاسباب الصهيونية أساسية في حضور الصليبيين. وإعلام بوش هذه الأيام إطلاق مشروع ما أسماه (الشرق الأوسط الكبير)..
ثالثا: أسباب متعلقة بظروف العالم الإسلامي:(18/368)
كما سيأتي التفصيل في الفصلين التاليين عن مسار الصحوة الإسلامية الجهادية. فقد أدى نشاطا لصحوة الإسلامية التي سارت في محاور ثلاثة دعوية/ سياسية / جهادية مسلحة. إلى أن تكون شبحا مرعبا يهدد مصالح الصليبيين والمشروع الصهيوني في المنطقة. فقد انتشرت الأحزاب التي تبني المشروع الإسلامي واستطاعت أن تكون كتلا نيابية كبيرة في عدد من برلمانات الدول العربية و الإسلامية . بل بعضهم أن يشكل الحكومات كما في تركيا أو كاد كما في الجزائر .. كما أدى النشاط الدعوي لمختلف مدارس الصحوة إلى أسلمة قطاعات كبيرة من المجتمع ولو عاطفيا. ولكن الأخطر من ذلك أن قمع السلطات لمختلف مجالات الصحوة السلمية والذي كان ترتيبا لحصار الصحوة أدى إلى امتداد الصحوة الجهادية وازدياد منجزاتها وخبراتها ولاسيما بعد نضوج كوادرها وتضخمها من خلال تجربة الأفغان العرب الأولى في أفغانستان (1984-1992). فقد شكلت الظاهرة الإسلامية تهديدا حقيقيا للأنظمة العربية والإسلامية وأصبح الصليبيون غير مطمئنين إلى حسن أداء تلك الأنظمة التي أقاموها في المنطقة ولا إلى مصيرها ورغم نجاح هذه الأنظمة في قمع كافة مدارس الصحوة وإيصالها إلى الفشل في تحقيق أهدافها وإدخالها في ضحضاح الأزمة عمليا, إلا أن الغرب بما درس من تكويننا الحضاري يعلم مدى خطورة الجذوة الكامنة تحت الرماد الساكن حاليا, ورأى أن وجوده العسكري الفعلي هو خير ضامن لمصالحه. وأن عليه أن يقوم بتنفيذ سيكس بيكو جديدة تقسم المقسم و تجزئ المجزأ من هذه الكيانات وتضمن بحسب ما يتخيل مصالحه بنفسه وبحراسة حراب جنوده.
وهكذا تضافرت الأسباب الثلاثة لأن تزحف تلك الحملات الصليبية الثالثة وتجتاح الشرق الأوسط من جديد.
•…محطات الحملات الصليبية الثالثة (1990-2003):
1- حرب العراق الأولى (عاصفة الصحراء - حرب تحرير الكويت):
افتتحت أمريكا حملاتها الصليبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي (1990) مباشرة بتنفيذ برنامجها الذي أعدت له من أواسط السبعينات وشكلت من أجله آنذاك قوات التدخل السريع للسيطرة على منابع النفط وتحدثت العديد من الدراسات والكتب في حينها عن سيناريوهات افتعال تهديد لدول الخليج إما من العراق أو إيران لتبرير التدخل الأمريكي.
وفعلا وكما صار معروفا في وسائل الإعلام فقد تم استدراج صدام حسين عن طريق السفيرة الأمريكية في بغداد وإغرائه باحتلال الكويت. وكان الجيش العراقي قد بلغ مستوى رفيعا بعد حرب الخليج الأولى مع إيران (1979-1987). ومنذ ذلك الحين ضربت القوات الأمريكية والبريطانية بجرانها في المنطقة. وكما ذكرت آنفا في مطلع البحث فقد قدمت حكومات الدول العربية وعلى رأسها السعودية ودول الخليج والمغرب و الباكستان وسوريا والأردن ومصر وتركيا مشاركة فعالة. فقاتلت جيوشها الجيش العراقي تحت القيادة الأمريكية. ولكن العامل الأبرز في تحولات معادلة القوى في الحملات الصليبية الثالثة كان في دخول الأجهزة الدينية الرسمية ومؤسسات علماء السلطان وقسم كبير من قيادات الصحوة الإسلامية إلى جانب هذا الحلف بقيادة أمريكا. حيث دفع بهم الحكام الخونة إلى إصدار الفتاوى التي تضفي الشرعية على حضور الصليبيين وتمركزهم في جزيرة العرب وسيطرتهم على عقر دار المسلمين. ولكن أدهى ما في هذا الأمر هو انزلاق المدجنين والفاسدين من بعض قيادات الصحوة إلى التوقيع على فتاوي تشرع لذلك وذلك نتيجة دخولهم عبر بوابات الديمقراطية ليصبحوا جزءا من السلطات الرسمية في حكومات الردة. فكانت هذه الفتنة جزءا من الثمن الذي يدفعه المتخوضون في مستنقعات السياسة اللاشرعية أنهم تجاوزوا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ومن أتى أبواب السلاطين افتتن ) (وما أزداد عبد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا ).
وسحقت القوات الأمريكية الجيش العراقي وخلفت أكثر من 300 ألف قتيل بين المدنين والعسكريين ودمرت البنية التحتية للعراق التي بنيت عبر نصف قرن من الإستقلال ثم ضربت الحصار القاتل على العراق لمدة ثلاثة عشر عاما قتلت خلالها أكثر من مليون ونصف المليون طفل من أطفال العراق عدا ما قتلت من ذويهم نتيجة النقص الحاد في الغذاء والدواء.
وهكذا أهلت أمريكا العراق للحرب التالية التي أجهزت عليه فيها في مارس وابريل 2003.
وبعيد الحرب العراقية الأولى مباشرة و كإجراء احتياطي ضد المقاومة المفترضة التي ستنشأ كرد فعل على هذه الحملات الصليبية , والتي من المفترض أن تقوم بها أوساط الحركات الجهادية وشباب الصحوة الإسلامية, أطلقت أمريكا حملتها لمطاردة الجهاديين ورموز الصحوة الجهادية تحت دعوى مكافحة الإرهاب. وتصاعدت وتيرة المؤتمرات الأمنية العالمية و الإقليمية خلال ولاية كلينتون الذي خلف بوش الأب لتتابع أمريكا هجماتها على العالم الإسلامي فتتابع حصار العراق وتتولى إجبار الدول العربية والإسلامية على مشاريع التطبيع مع اليهود وتتولى بنفسها مكافحة (الإرهاب الإسلامي) كما وصفوه.
2- المذابح الصليبية للمسلمين في البلقان و القفقاس (1994-1997):(18/369)
في زحمة زخم الهجمة الأمريكية الصليبية على العالم الإسلامي ومزاعم مكافحة الإرهاب والأصولية الإسلامية. استغل الروس الظروف العالمية في مواجهة المسلمين وشنوا حربهم الدموية على الشيشان حيث ارتكبت أبشع المجازر وتعرض المسلمون الشيشان لحرب إبادة ما زالوا يقدمون قرابينها بالآلاف إلى اليوم...
كما شن الصرب والكروات بدعم من الفاتيكان ودعم وسكوت الدول الأوربية حرب إبادة على المسلمين في البوسنة ثم كوسوفو.. حيث ارتكبت أبشع المجازر التي راح ضحيتها مئات الألوف من المسلمين تحت سمع وبصر الأمم المتحدة بل في داخل محمياتها كما حصل في مذبحة (سيربينتسا) حيث انسحبت قوات الحماية الفرنسية الموكلة بحراسة محمية للأمم المتحدة لتفسح المجال لمليشيات الصرب أن تقتل أكثر من 8000 مدني بوسني مسلم أكثرهم من النساء والأطفال والعجائز في أكبر سلسلة مذابح إبادة جماعية في أوربا منذ الحرب العالمية الثانية .
3-…حصار الإمارة الإسلامية في أفغانستان ثم تدميرها سنه (2001):
لم يرق للأمريكان وأوربا الناتو التي خططت ونفذت الحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين في أفغانستان (1992-1996) من أجل تنفيذ برنامج الأمم المتحدة الذي يقضي بأن يحكم الصليب الأحمر الغربي بعد المطرقة والمنجل الأحمر الشرقي أفغانستان وبعد حرق ما تكدس في أفغانستان من سلاح وخبرات جهادية في تلك الحرب الأهلية , لم يرق لهم أن يفاجئهم القدر بظهور طالبان وتمكنها من تحكيم الشريعة وإقامة إمارة أفغانستان الإسلامية. كما لم يرق لهم أن تسفر حملات مكافحة الإرهاب العالمية لكوادر التيار الجهادي والأفغان العرب عن عودتهم إلى أفغانستان وتشكيلهم إلى جانب طالبان بؤرة قضت مضاجع أمريكا والغرب ونوابهم من الحكام المرتدين.
فبدأت أمريكا وأوربا عمليات الحصار الاقتصادي والسياسي على الإمارة الإسلامية منذ نشأتها وتتابع ذلك في عهد كلينتون الذي اختتمه بقصف 75 صاروخ كروز على بعض معسكرات المجاهدين العرب والطالبان واستمر الحصار في عهد بوش الابن الذي أطلق صيحته بأنه مكلف من قبل الرب برسالة إصلاح العالم وأنه متوجه لقيادة حملة صليبية ومكافحة الإرهاب الإسلامي حيث افتتح حملته تلك بعد أحداث سبتمبر بغزو أفغانستان وتدمير الإمارة الإسلامية إبادة ما استطاع إبادته من اللاجئين العرب والمسلمين إلى أفغانستان في ديسمبر2001 .
4-…حرب احتلال العراق ( مارس 2003) . والزحف الأمريكي على الشرق الأوسط :
وقد تكلمنا عنها فيما سبق بما يغني عن الإعادة .
•…حالة المرجعيات في العالم الإسلامي ووقوف التيار الجهادي وحيدا في مواجهة الحملات الصليبية الثالثة :
أما المرجعية السياسية للمسلمين:
فكما مر معنا فقد دمرها الإستعمار الصليبي منذ إسقاط الخلافة ولم تقم لها بعد ذلك قائمة . بل إن الذي حصل أن حكام بلاد المسلمين صاروا جزءا من معادلة القوى إلى جانب الصليبيين وقد ازداد هذا فظاعة خلال الحملات الصليبية الثالثة.
وأما المرجعية الدينية:
فقد تولت الحكومات الخائنة العميلة تصفيتها في كافة بلدان العالم العربي وأكثر العالم الإسلامي كما مر معنا في الفقرات السابقة. وقد حاولت الصحوة الإسلامية أن تقدم بديلا وتتسلم زمام المرجعية. خصوصا أن علماء مرموقين وقادة بارزين مؤهلين وقيادات عديدة من مختلف مدارسها لمعت وتأهلت ولكن ولأسباب عديدة سنتناولها في الفقرات التالية بالتفصيل لم تستطع الصحوة أن تقدم بديلا عن المرجعية الكلاسيكية المتمثلة بأئمة المذاهب الأربعة والمراجع الفقهية وأئمة الطرق الصوفية. ولم تستطع بالخلاصة أن تكون مرجعية شعبية وتمتلك طاعة الشارع المسلم وتبعيته...
وهكذا لم يكن هناك مرجعية دينية مؤهلة لمواجهة الحملات الصليبية الثالثة.
وأما المرجعية الاجتماعية:
فقد كنا قد تحدثنا عن تفككها منذ منتصف القرن العشرين نتيجة الإستعمار ونتيجة التطور الاجتماعي نحو التصنيع والهجرات نحو المدن الكبرى وتفكك الروابط القبلية. فتابع ذلك سيره بتسارع كبير.. وتراجع دور البوادي والأرياف في السياسة لصالح المدن الكبرى والحياة المدنية التي لا تقيم وزنا لهذه الروابط. وباستثناء بعض البلدان الإسلامية كأفغانستان واليمن .. وبعض البلدان الأخرى. كانت هذه المرجعية أضعف من أن تمارس دورا في المواجهة. وقد كان من سياسة الحكام جميعا قتل هذه المرجعية ونزع سلاح القبائل والعشائر وسياسات التفرقة بينها وأضعاف كل منها على حدة ..وبطبيعة الحال كانت هذه المرجعيات دائما تبعا للمرجعية الدينية أو للدينية والسياسية معا. ولذلك كانت هذه المرجعية غائبة عن ساحة المواجهة أيضا شأنها شأن سابقاتها في هذه المواجهة الأخيرة
إذن من وقف للحملات الصليبية الثالثة منذ 1990 وإلى 2001 ؟؟ :
في الحقيقة وباختصار..(18/370)
لقد قدمت الحملات الصليبية الثالثة بعد أن صفت من أمامها كل إمكانيات المقاومة . فقد قضت على المرجعيات كلها تقريبا . وقضت إلى حد بعيد على مقومات نشوء المقاومة والمواجهة في الشعوب العربية والإسلامية. ولئن كانت الحملات الثانية قد قدمت على بصيرة وخبرة من تجارب قرنين من الزمن خلال الحملات الأولى وعلى دراسات وأبحاث لهذه الأمة على كافة الأصعدة عبر 500 سنة بعدها. فإن هذه الحملات الصليبية اليهودية الأمريكية الجديدة تأتي على خلفية كل ذلك بالإضافة إلى تجارب الحملات الثانية وما وفرته خدمات طبقة المرتدين من الحكام وعملائها من المستغربين عبر نصف قرن أو أكثر من الزمن.
كما توفرت لها كل إمكانيات النجاح. ولئن كان هناك شيء من التوازن في معطيات المواجهة على الأرض بين قوات الحملات الصليبية الأولى وحتى الثانية وبين قوات المجاهدين التي واجهتها عددا وعدة , فإن تقهقر المسلمين إلى حضيض التخلف في معظم الميادين. ونهوض الحضارة الأمريكية تكنولوجيا عسكريا إلى قمة التطور, وما سبق من تدمير نوابهم الحكام لكل إمكانيات المقاومة جعل الساحة عمليا شبه خالية في هذا الصراع وصارت المواجهة اليوم غير متوازنة البتة.
وأما خلاصة نبضات المقاومة للحملات الصليبية الثالثة وأعوانها المرتدين والمنافقين خلال (1990- سبتمبر2001) فيمكن ذكر أهمها بحسب التسلسل الزمني بحسب ما أتذكره الآن على الشكل التالي :
•…حركة الجهاد المسلح في الجزائر (1991- 1995) والتي تم القضاء عليها خلال السنتين التاليتين من خلال عمل استخباراتي ناجح وبالغ التعقيد من التعاون بين المخابرات الجزائرية والفرنسية وبعض المخابرات العربية حيث أخرج الجهاد عن مساره ودمره بعد أن عزله عن جمهوره بسبب انحرافه ( يمكن لمن أراد تفاصيل عن تلك التجربة العودة إلى كتاب - شهادتي على الهاد في الجائر - للمؤلف ).
•…المواجهات الجهادية المسلحة التي قامت في ليبيا ضد نظام القذافي (1993-1995) والتي كان أبرزها محاولة الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا والتي تمكن النظام من تحديد نشاطها العسكري في داخل ليبيا وتحولت إلى العمل التنظيمي الدعوي السري والنشاط في المهجر.
•…حركة نفاذ الشريعة شمال غرب باكستان سنة (1996) والتي قضت عليها الحكومة الباكستانية أمام تخاذل الشارع الإسلامي وتخلف حركات الصحوة في باكستان عن نصرتها.
•…حركة جيش عدن أبين في اليمن بقيادة الشهيد أبو الحسن المحضار رحمه الله والتي قضي عليها في مهدها (1998).
•…حركة الشباب الجهادي في جبال النبطية شمال لبنان بقيادة الشهيد أبو عاشة اللبناني والتي قضي عليها في مهدها (1999).
•…حركة طالبان التي انطلقت سنة 1994 وأقامت الإمارة سنة 1996 وسقطت أواخر 2001 وكانت بمن لحق بها من التجمعات الجهادية العربية والباكستانية والوسط آسيوية أهم الظواهر الجهادية خلال العقد المنصرم.
•…الإنتفاضة الفلسطينية المسلحة التي انطلقت سنة 2000 وما زالت إلى الآن وهي من أهم فصول المواجهة والمقاومة الجهادية للحملات الصليبية اليهودية الثالثة.
•…عدد من المحاولات الجهادية المحدودة والمبادرات الفردية التي قام بها المجاهدون ضد مختلف أشكال تواجد الصليبيين في العالم العربي والإسلامي والتي حصلت في بلدان مختلفة خلال العقد المنصرم ومن ذلك بعض عمليات المقاومة المتواضعة في السعودية ضد الأمريكان والتي كان أهمها تفجيرات الرياض و الخبر.
•…عمليات المقاومة والدفاع عن النفس التي قام بها حطام التيار الجهادي في مواجهة حملة المطاردات بعد سبتمبر في مختلف دول العالم ولاسيما في مواجهة الكارثة التي نفذتها الحكومة الباكستانية خلال ملاحقة الناجين على أراضيها والتي أسفرت عن مقتل عشرات المجاهدين العرب وأسر ما يزيد على 600 منهم سلمتهم إلى أمريكا ليستقروا في معتقل غوانتانامو التاريخي. وغيره من السجون الأمريكية في أماكن عدة..
•…حركات الجهاد التي نشرت في وسط آسيا ضد الحكومات الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفييتي ولاسيما في طاجيكستان ( 1993/2001) ثم ما تلاها في أوزبكستان (1997/2001) .
•… وكذلك جهاد المسلمين في تركستان الشرقية(1996/2001) ضد الحكومة الصينية
•…هذا بالإضافة إلى حركات المقاومة والمواجهة التي تمت ضد القوى الصليبية في ساحات الجهاد المختلفة خلال هذه الفترة مثل الجهاد الذي حصل في البوسنة (1994/1996) وكذلك في الشيشان خلال نفس الفترة وما تلاها والذي ما زال مستمرا. وكذلك المواجهة البطولية التي قام بها المجاهدون في الصومال . وكذلك حركات الجهاد القديمة والمستمرة خلال هذه المرحلة في الفلبين وكشمير و ارتيريا وبورما واندونيسيا وغيرها من الجبهات التي اشتعلت أو كانت مشتعلة واستمرت ضد الصليبيين وغيرهم من الكفار المستعمرين.(18/371)
•…بالإضافة لبعض العمليات التي قام بها تنظيم القاعدة ضد التواجد الأمريكي في المنطقة والتي كان أهمها عمليات تفجير سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام ونسف البارجة الأمريكية كول في عدن . ثم كان آخرها العمليات الاستشهادية في نيويورك وواشنطن (11- سبتمبر2001) والتي افتتحت فصلا جديد من المواجهة بين الصليبيين والمسلمين وغيرت وجه التاريخ ومعطيات الصراع .
وبالنظرة الدارسة لمعادلة الصراع بين المسلمين والحملات الصليبية الثالثة منذ 1990 وإلى احتلال العراق 2003 نجد أن معادلته قد أخذت الشكل التالي :
أمة اليهود(على رأسها إسرائيل) + أمة النصارى(على رأسها أمريكا وبريطانيا ودول الناتو وروسيا) + طوائف حكام الردة في العالم الإسلامي + قوى المنافقين وعلى رأسها المؤسسة الدينية الرسمية وعلماء السلطان ومن فسد من قيادات الصحوة في بلادنا × التيار الجهادي المسلح جماعات وأفراد ?
هزمت قوى المقاومة.. وحصر التيار الجهادي.. وشلت الصحوة الإسلامية..
وخرجت الأمة من المعركة.
•…وقفه تأملية مع معادلات الصراع بين المسليمن والحملات الصليبية الثلاثة:
وجدنا أن معادلات الصراع كانت مع تلك الحملات على الشكل التالي:
الحملات الصليبية الاولى ( 1050/1291 ) : وكانت معادلاتها:
أمة الصليب × أمة الإسلام ? انتصرت أمة الإسلام (1)
الحملات الصليبية الثانية (مرحلة الإستعمار القديم) (1800/1970):
أمة الصليب + أمة اليهود × أمة الإسلام ? انتصرت أمة الإسلام (2)
الحملات الصليبية الثانية (مرحلة الإستعمار الحديث) (مرحلة الإستقلال ):
أمة الصليب + أمة اليهود + طوائف الحكومات المرتدة × الصحوة الإسلامية ?
هزمت الصحوة الإسلامية وخرجت الأمة من المعركة (3)
الحملات الصليبية الثالثة (المرحلة الأمريكية) (1990-2003) :
أمة اليهود(على رأسها إسرائيل) + أمة النصارى(على رأسها أمريكا وبريطانيا) + طوائف حكام الردة في العالم الإسلامي + قوى المنافقين وعلى رأسها المؤسسة الدينية الرسمية وعلماء السلطان ومن فسد من قيادات الصحوة في بلادنا × التيار الجهادي المسلح جماعات وأفراد ?
هزمت قوى المقاومة .. وحصر التيار الجهادي .. وشلت الصحوة .. وخرجت الأمة من المعركة (4)
وإذا أردنا أن نضع بعض الملاحظات التوضيحية لمزيد من الفهم لهذه المعادلات التاريخية الرهيبة وما نستخلصه منها من دروس عظيمة كي ندرك أسباب الهزيمة ونتلمس مقومات النصر حيث حصل كي يتكرر معنا بإذن الله نجد من ذلك :
1.…إن أول ما تطالعنا به هذه المعادلات من حقائق أن خلاصتها أننا انتصرنا في المعادلتين (1) و(2) وانهزمنا في (3) وانسحقنا في (4) وواضح تماما أننا انتصرنا عندما واجهت الأمة عدوها عسكريا رغم الفارق الهائل في العدد والعتاد, وفي واقعنا المعاصر الحالي أمثلة متكررة على هذا كما حصل في أفغانستان عندما واجهت الأمة عدوها بكامل طبقاتها وتكرر ذلك بشكل جزئي في الشيشان وفي البوسنة رغم أننا في زمن الهزيمة والتراجع.
وكذلك توضح المعادلات أننا انهزمنا عندما واجهت شريحة محدودة العدو ووقفت الامة تتفرج عليها وانسحقنا عندما خرجت معظم هذه الشريحة من المواجهة بل وانضم قسط
من الأمة إلى العدو ولم يبق في المواجهة إلا حفنة قليلة من الجهاديين. وكأن المعادلات يمكن اختصارها ببساطة بمعادلتين:
أمة الإسلام × أمم الكفر …… ? انتصرنا
نخبة من الأمة × أمة الكفر + منافقي الأمة ? انهزمنا
فأول الدروس المستفادة من هذه العبرة والمعادلات هو أن علينا أن نعيد الأمة إلى المواجهة بحيث (تعود المواجهة معركة أمة وليست صراعات نخبة) كما هو حاصل الآن. وأول ما يستلزم هذا أن تقنع النخبة الأمة بأن من وقف مع العدو ليس منها وإنما من العدو (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وأن مواجهته من صميم الجهاد وليست فتنة.
2.…أن الأمة قد تحركت لما توفرت لها المرجعية الشرعية القدوة التي تحركها في حين لم تستطع الصحوة ولا نخبتها الجهادية أن تشكل مرجعية تقنع الأمة بالتحرك معها وأن على أي نخبة ستتصدى للمقاومة أن تعمل على أن تشكل مرجعية تشمل قيادات الجهاد وعلمائه ومفكريه ورموزه وأن تلف الأمة من حولها.
3.…أن العدو قد انهزم أمامنا في ساحات المواجهة العسكرية ولكنه انتصر علينا عندما مهد لغزوه بغزو فكري حضاري وفكك البنى التحتية التي تولد بذور المقاومة في الأمة وأن علينا أن نبدأ بترميم هذه البنية بالإضافة لما يجب من إطلاق المقاومة كما اشرنا آنفا. (راجع / مستويات المقاومة المقدمة
4.…أن اليهود قد دخلوا الحملات الصليبية الثانية كعنصر مساعد في الإستعمار القديم. ولكنهم تحولوا إلى طليعة قائدة ومحركة للحملات الصليبية الثالثة. ويجب علينا أن نواجههم بهذه الصفة ونعطي تدمير طليعتهم إسرائيل وأداتهم أمريكا أولوية تناسب حجم دورهم وخطره في المرحلة القادمة.(18/372)
5.…تبين المعادلتين (3) (4) أن المرتدين قد حسموا المعركة لصالح العدو الصليبي اليهودي عمليا, وذلك بخداع الأمة بانتمائهم المزيف للمسلمين وهويتهم الوطنية المزورة. فيجب على طلائع الجهاد والمقاومة وإعلامهم الموجه وقياداتهم المفكرة والمنظرة لمستقبل العمل أن تعيد إبراز دور المحرك الأساسي للمرتدين وهم الصليبيون وتحريك المقاومة تجاههم لأن ذلك سيعيد إدخال الأمة في المعركة ويقنعها بقتال المرتدين تبعا للصليبيين على أنهم جزء من العدو الحقيقي والأساسي وأنهم ليسوا أكثر من مجرد ستار له.
6.…تبرز المعادلة الأخيرة دور أمريكا كقوة قائدة للحملات وككتلة رئيسية في الوزن العسكري مما يعطي مواجهتها أولوية كبرى كما يلفت النظر بفهم التناقضات الداخلية داخل الحلف الصليبي وما بين محاوره الثلاثة ( أمريكا - بريطانيا / أوربا الغربية /روسيا) إلى ضرورة العمل على فك هذا الحلف والإنفراد بالمحور الصهيوني الأمريكي ما أمكن ذلك وسيأتي تفصيل على هذا في النظرية السياسية من الفصل الثامن إنشاء الله.
7.…من خلال المتابعة نجد أن الشعوب الأوربية كلها قد وقفت وراء جيوشها وملوكها داعمة مؤيدة في الحملات الصليبية الأولى وكذلك في الثانية. ولكن انتشار مفاهيم التواصل الحضاري وحركات السلام في كثير من شرائح المجتمع الأوروبي وازدياد المعرفة بالإسلام في أوربا جعل جماهير غفيرة مليونية العدد تقف موقف المعارضة والشجب لتلك الحملات حتى في بريطانيا. في حين وقفت الغالبية الساحقة من المجتمع الأمريكي المتصهين وراء رئيسها الصليبي المتهود بوش وعساكره وهذا أمر يجب التفكير فيه ونحن نصيغ نظريات المقاومة القادمة.
8.…إن نظرة في الصورة الأخيرة للمعادلة نجدها قد عادت إلى صيغتها أيام الاسلام الاولى لتكون :
يهود + نصارى + مشركين + مرتدين + منافقين × المؤمنين المجاهدين
وهكذا نعود كما بدأنا, ويعود الإسلام وأهله المؤمنون المصابرون غرباء كما بدؤوا غرباء.. فطوبى للغرباء من الأولين والآخرين ونسأل الله أن يجعلنا منهم.
9.…الملاحظة الأخيرة . وهي في غاية الأهمية وتشكل ركنا أساسيا في فهم طبيعة صراعنا الحالي ويجب أن تكون ركنا أساسيا من العقيدة الجهادية للمقاومة في هذا الزمن وهي الفقرة الهامة التالية :
•…دور المنافقين من علماء السلطان . والفاسدين من قيادات الصحوة الإسلامية في هزيمة الأمة المسلمة وطليعتها المجاهدة أمام الأعداء:
أمام الحملات الصليبية المعاصرة خلال الإستقلال ولاسيما بعد الحملة الصليبية الأمريكية الجديدة.
فكما مر معنا في الفصل السابق عن كيفية نشوء مدرسة علماء السلطان في التاريخ الإسلامي منذ تحول الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض ثم الجبري ثم قيام حكم الطواغيت. وكيف اتبع المسلمون سنن من كان قبلهم من اليهود و النصارى. وأصبحت السلطة فيهم كما كانت عبر التاريخ في كل الممالك الضالة تقوم على (الحاكم والكاهن والأعوان) . فقد اصطف علماء السلطان على أبواب سلاطين بني أميه منذ النصف الثاني للقرن الأول الهجري ولم يمض على وفاة رسول ا صلى الله عليه وسلم إلا خمسين سنة. وسجلت لنا أقوال علماء الحق الذين اعتزلوا أبواب الأمراء بعض النصوص في نهي أولئك والتشنيع عليهم وتحذير العامة من فسادهم ؟.. فقد قام في مقابلة ذاك الفريق التعيس من علماء السلطان علماء للحق صدعوا به واحتسبوا على الأمراء وقاموا بحق الله في الحكام والمحكومين. وما زالت هذه الطائفة تقل في حين تتوسع فرقة علماء السلاطين مع الوقت و تفسد دورها مع ازدياد وتطور فساد الملك من العضوض إلى الجبرية إلى ملك الطواغيت إلى أن قامت اليوم فئة علماء الإستعمار وفقهاء البنتاغون وجهز آلات حرب الأفكار من علماء مكافحة الإرهاب تحت قيادة رامسفليد.. ! ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وقد كان دور هذه الفئة الخبيثة من علماء السلطان محدودا في تأييد الحملات الصليبية الأولى حيث وقفت الأمة ومرجعياتها الدينية في وجه ذلك الغزو الصليبي. واقتصر دور الفاسدين منهم على تأييد الملوك والأمراء الذين خانوا أمتهم وتعاونوا معهم من أمثال الصالح اسماعيل أيوب ملك دمشق الذي والى الصليبيين وأدخلهم أسواق دمشق وباعهم السلاح وملكهم بعض حصون المسلمين وكذلك بعض أمراء الأندلس الذين تعاونوا مع النصارى وملكوهم حصون المسلمين وتعاونوا معهم.وقد ذكرت وثائق التاريخ طرفا من ذلك من مثل ما قاله الإمام ابن حزم الذي عاش ذلك الحين في القرن الخامس الهجري أي الحادي عشر الميلادي . قال ابن حزم عن أمراء الأندلس في زمانه , في كتابه ( التلخيص في وجوه التخليص ) :(18/373)
[ فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة . وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى . لوجوه كثيرة يطول لها الخطاب . وعمدة ذلك ؛ أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه , أولها عن آخرها محارب لله ورسول صلى الله عليه وسلم , ساع في الأرض بالفساد . للذي ترونه عيانا من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضادهم . وإباحتهم لجندهم قطع الطريق. ضاربون للجزية والمكوس والضرائب على رقاب المسلمين . مسلطون لليهود و النصارى على قوارع طرق المسلمين . معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله . غرضهم منها استدامة إنفاذ أمرهم ونهيهم .
فلا تغالطوا أنفسكم , ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه , اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع. المزينون لأهل الشر شرهم . الناصرون لهم على فسقهم .
فالمخلص لنا منها ؛ الإمساك بالألسنة جملة وتفصيلا إلا عن أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر وذم جميعهم . والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية لأمورهم لبادروا إليها .فنحن نراهم يستمدون النصارى, ويمكنون لهم من حرم المسلمين , وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعا, فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس .
لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفا من سيوفه . فمن عجز عن ذلك رجوت أن تكون التقية تسعه . وأن ينكر بقلبه . هذا مع أنه لو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غلبوا على أمرهم ) أهـ .
وهكذا لم يغفل الاستعمار الصليبي الذي قاد الحملات الصليبية الثانية منذ القرن السابع عشر وإلى منتصف القرن العشرين دور هذه الشريحة الخبيثة في إسناد احتلاله وإجهاض المقاومة وتجفيف جذورها في الأمة. فكما لم يهمل ملوك وسلاطين المسلمين في تلك الحقبة دورهم في تركيع الشعوب واستعبادهم وانتزاع طاعة الناس لهم. لم يهمل المستعمر ذلك .. فقد استطاع الإنجليز في كل مكان احتلوه من العالم الإسلامي تجنيد بعض العلماء و. بعض الصوفية أئمة الطرق لهم في مصر والسودان وشبه القارة الهندية وغيرها. فقد كتب (كرومر) المندوب البريطاني المشرف على استعمار مصر كثيرا من الرسائل إلى محمد عبده (شيخ الأزهر) في حينها وأثنى عليه وعلى تعاونه. ولما مات محمد عبده كتب (كرومر) إلى حكومته ينعي فيه أخلص أصدقاء بريطانيا في مصر!! حيث كان لمحمد عبده وأستاذه الأفغاني من قبل دورا بارزا في حركة التغريب والغزو الفكري في أوساط المسلمين بل وصل الحد إلى أن يكونوا أعضاءا في أول محفل ماسوني في الشرق الأوسط !!
بل ذهب الإنجليز لأبعد من استخدام علماء السلطان , فلقد استحدثوا مذاهب جديدة من العدم وأوجدوا لها ملايين الأتباع مع الوقت في شبه القارة الهندية مثل مذهب القاديانية. والبهائية وسواها.. الذي كان أهم أهداف استحداثه أنه يسقط الجهاد ضد الإنجليز.. كما استطاعت فرنسا تجنيد بعض علماء الشام وشمال إفريقيا وأئمة بعض الطرق الصوفية الذين أفتوا بأن(فرنسا قدر الله). ومن يحاربها فهو كمن يحارب قدر الله ويرفض ما قدر وكتب على المسلمين!
كما لعب بعض علماء المسلمين وشيوخ الطرق في وسط آسيا والممالك الإسلامية في القفقاس وما حولها دورا بارزا في النفاق للقياصرة وللثورة البلشفية وللينين ولستالين ذاته... والوثائق متوفرة لمن أراد جمعها وليس هنا محل الاستقصاء.(18/374)
فلما رحل الإستعمار وقامت الحكومات الوطنية والأحزاب السياسية المحلية صار لكل حزب شيوخ وعلماء دين في حملاتهم الانتخابية وقوائمهم من المرشحين. وصار لكل حكومة منذ ذاك الوقت وزراء أوقافها ومراجع إفتاء تنافق لها .. ومما نذكره في سوريا أن (أحمد كفتارو) وزير الأوقاف الحالي وطيلة حكم النصيرية في سوريا منذ 1970 وإلى اليوم (أي طيلة عهد حافظ أسد وابنه بشار). كان سنة 1954 يقود الحملة الانتخابية (لخالد بكداش) مؤسس الحزب الشيوعي السوري واللبناني. الذي أدخل الإلحاد والشيوعية إلى بلاد الشام. فقد قاد حملته الانتخابية في المساجد! في مواجهة الحملة الانتخابية للإخوان المسلمين ومرشحها الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله. فقد كان يخطب اثر صلاة الجمعة في المسجد الأموي ليثني على خالد بكداش الذي يصلي سنة الجمعة البعدية ثمان ركعات! فيما ينتظر الناس والشيخ فراغه من النوافل حتى يبدؤوا الحملة الانتخابية.. فتأمل !! وهكذا كان لحزب البعث علماء سلطة في سوريا حتى وقف الشيخ الدكتور العلامة (سعيد رمضان البوطي) في محاضرة في استانبول في تركيا يقول لما سألوه عن مذبحة حماة التي راح ضحيتها زهاء 50 ألف مسلم من الشعب المسلم السني على أيدي الجيش النصيري وقائده حافظ أسد. قال البوطي: (لقد تترس بهم المجرمون (يقصد المجاهدين لما انتفضت المدينة مع المجاهدين) فحل لولي الأمر أن يقتلهم)! ومشاهد البوطي كثيرة يطول ذكرها هنا حتى كان آخرها أنه أم صلاة الجنازة عند موت حافظ أسد وخنقته الدموع وهو يدعو رافعا صوته لينقل التلفزيون الرسمي دعاءه (الجهري!) في صلاة الجنازة فقال : ( اللهم إنا - أي هو ومن يصلي خلفه من الإستخبارات وكبار النصيرية والبعثيين - أنه - أي حافظ اسد- قد لقيك يشهد أن لا إله إلا أنت وان محمدا عبدك ورسولك اللهم اجمعنا (أي الحفل الكريم وإمامهم البوطي) معه في الفردوس الأعلى !!!!!!!! . وللبوطي هذا صولات وجولات في دعم الحكومات
اللبنانية (النصرانية) والأردنية (الماسونية) وبعض حكام دول الخليج. وكان له مقام رفيع في الندوة الحسنية عند الملك الحسن الثاني في المغرب. وكتاب البوطي العجيب (الجهاد كيف نمارسه وكيف نفهمه) الذي توصل فيه إلى أن المجاهدين للحكام في هذا الزمان ليسوا شهداء حق ولا بغاة حتى!! وإنما مفسدون في الأرض حكمهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض !... وكان من آخر مآثره وقوفه بشراسة مع حكومة الجزائر ضد الانتفاضة الجهادية الرائدة في الجزائر قبل أن تستولي الاستخبارات على قيادتها وتصبغها بالتكفير! ولم يعجبه ولا حتى الجبهة الإسلامية للإنقاذ فحمل عليها واعتبرها خارجة على الحكومة الشرعية!!.
وفي مصر كان لعبد الناصر في مصر بعض شيوخ الأزهر الذين أفتوه بقتل سيد قطب وإخوانه وبعدم جواز توبتهم بعد أن قدر عليهم. وكان للسادات من بعده في مصر فقهاء للتطبيع والسلام مع اليهود مثل الشيخ الشعراوي الذي كتب القصائد في مدح فاروق ثم كتب الشعر في الثناء على إنقلاب عبد الناصر ضد الملك فاروق ! وامتدح الأخير! ثم ألَّه السادات وكان هو الذي رد على من عارض السادات بعد زيارته الخيانية للقدس بقوله بأن الرئيس هو بمنزلة من لا يسأل عن ما يفعل وهم يسألون!! فأنزله منزلة الرب سبحانه وتعالى عما يجحد الجاحدون ! ثم نافق الشعراوي لمبارك حتى قبيل أن يلتئم عليه قبره بأيام في واقعة مشهودة .. وهو الذي قرأ البيان الذي وقع عليه ستة من العلماء منهم شيخ الأزهر ومفتي الدولة ووزير الأوقاف والشيخ محمد الغزالي والشيخ القرضاوي وجاء فيه أن ما يجري من أعمال عنف ضد الحكومة ليس جهادا وإنما إرهابا محرما وقالوا بالحرف :( ذلك بأننا لا نعلم بأن حكام مصر قد ردوا لله حكما ) ! وكان ذلك في عهد حسني مبارك الذي ورث العرش الفرعوني فورث معه من ضل من سحرة مصر وكهانها. فلم يرو أنه رد لله حكما في (مصر) ! البلد المسلم الذي تدفع فيه العاهرات ضريبة الدخل بموجب القانون لوزارة المالية باعتبارهن من مرافق السياحة!!.وأما سلسلة الطنطاويات من فتاوى شيخ الأزهر الأخير (سيد طنطاوي) فأشهر من أتذكر وأكثر من أن تحضر. وكان آخرها دعمه لفرنسا في منع المسلمات من لبس الحجاب..!
كما كان لآل سعود في السعودية هيئة كبار العلماء والدعوة والإرشاد, والقضاء الأعلى وغيرها من المؤسسات الدينية الرسمية التي كان لها مآثرها منذ أسسها الملك فيصل. وقل مثل ذلك عن علماء المغرب الأقصى الذين يركعون ويسجدون للملك و يتعذرون بدعوى سجود الملائكة لآدم وأنه سجود شكر وليس سجود عبادة وكيف لا يسجدون كما سجد الملائكة لآدم والملائكة خير منهم والملك من أولاد آدم - على الأرجح - !(18/375)
ولا ننسى شهادة أبو شقرة العالم (السلفي) في الأردن. الذي قال أنه نظر في حال الأمة فوجد أن مجدد القرن الخامس عشر الهجري هو جلالة الملك الحسين المعظم حفظه الله. ولا ندري كيف حل الإشكال مع علماء السعودية الذين عقدوا مؤتمرا في الذكرى المئوية لدخول الملك عبد العزيز الرياض مع أعوان الإنكليز ووجدوا أن المجدد هو الملك عبد العزيز آل سعود! وهكذا قل مثل ذلك عن كافة الدول العربية و الإسلامية وموقف علماء السلطان مع ملوكهم ورؤسائهم وأمرائهم وعن تسويغهم لحكمهم بغير ما أنزل الله وما يسومون الناس به من العذاب والمكوس وصولا إلى موالاتهم لليهود والنصارى..
ولكن الأنكى من الدور البشع الذي لعبه علماء السلطان إلى جانب حكومات الطواغيت والحملات الصليبية الثانية والثالثة , هو الدور المفاجئ الذي لعبه بعض الفاسدين من قيادات الصحوة الإسلامية ذاتها. فإذا كان العلماء المنافقون قد لعبوا دور مفتي السوء إلى جانب السلطة, فقد دخل بعض قيادات الصحوة أولئك في السلطة ذاتها وصاروا من أركانها بدعوى المصلحة وفن الممكن. كما سنرى في الفصل القادم إنشاء الله. وهكذا وبصفتهم يمثلون الدين والعمل الإسلامي وينتمي بعضهم إلى قطاع العلماء. فتكامل البلاء بهم ليكوّنوا مع علماء السلطان والمؤسسة الدينية الرسمية عكاز الكهانة إلى جانب الحكام.
ولكن الدور الأخبث لطائفة علماء السلطان برز مع قدوم الحملات الصليبية الثالثة بقيادة أمريكا منذ 1990 على الشرق الأوسط. فلما زحفت إلينا جحافل الأمريكان و الأوربيين وحلفائهم المرتدين وعساكرهم. تولى علماء السلطان وفقهاء الضلالة والفاسدين في الصحوة كسح الألغام أمام تلك العساكر وتحطيم أي إمكانية مقاومة قد تنشأ ونزع غطاء الشرعية عنها سلفا. وقد تولى تنظيم ذلك النظام الحاكم في السعودية وجهازه الديني الذي بادر إلى إطلاق فتاوى جواز الاستعانة بالكفار للضرورة من قبل أولياء الأمور الشرعيين وإضفاء الشرعية على ما حصل. وبذلك قطعوا الطريق على من يفكر بالجهاد. وشكل مؤتمر مكة 1990 الذي دعي له 413 شخصية من كبار علماء المسلمين وقيادات الصحوة والرموز الدينية من كافة دول العالم الإسلامي الثمانية والخمسين . وحضر منهم 398 شخصية .فأصدروا بيانا ختاميا شرع للوجود الأمريكي والتعاون معه ضد العراق بصفتها استعانة شرعية. ثم تتالى البلاء لتصدر الفتاوى من السعودية بجواز التطبيع مع اليهود حيث تولى مفتي الديار الشيخ ابن باز إصدار الفتوى التي لا يعبر عن مدى فداحتها إلا أن نعلم أن ( بيريز) رئيس وزراء إسرائيل في حينها لما ذكرها أمام أعضاء الكنيست وقفوا يصفقون لها وأثنى (بيريز) على الشيخ المعتدل ودعا شباب المسلمين لإتباع آراء هذا الشيخ الجليل وعدم السعي وراء آراء أمثال حزب الله المتطرف.. فتأمل إلى أين وصلت الفتنة والبلاء!
وعلى مدى عقد أسود من الزمن (1990/2000) تولى الجهاز الديني الرسمي وعلماء السلطان وعملاء الصحوة الإسلامية في السلطات المرتدة الحاكمة وبرلماناتها ووزاراتها مكافحة التيار الجهادي جنبا إلى جنب مع مشروع مكافحة الإرهاب الذي قادته أمريكا وانعقدت من أجله عشرات المؤتمرات الأمنية في العالم وفي بلاد العرب والمسلمين. مما أدى إلى تشريد الجهاديين وتمزيقهم شر ممزق.
ولما قامت دولة الشريعة في أفغانستان على يد طالبان (1994/2001) تولت هذه المرجعيات الدينية العميلة إسقاطها جنبا إلى جنب مع الجهود الأمريكية الصليبية بدافع من حكامهم. وحتى في المسائل الصارخة الحساسية لم يستح أولئك العلماء والقادة العملاء أن يسدوا خدماتهم الجليلة تلك. ومن أوضح وأفظع الأمثلة على ذلك أنه لما اتخذ أمير المؤمنين في أفغانستان (ملا محمد عمر) قرارا بهدم الأصنام الأثرية العملاقة لبوذا,هرع فريق من هؤلاء العلماء ورموز الإسلام , وكان على رأسهم الشيخ القرضاوي إلى أفغانستان بدفع من حكامهم المدفوعين من أسيادهم , بتحريك من المنظمات الصليبية الدولية , للحيلولة دون هدم الأصنام !وكانت فضيحة للجهاز الديني الرسمي في العالم العربي والإسلامي ولاسيما في السعودية ومصر. الذين اتخذوا من تلك الفعلة المجيدة لطالبان قضية لتشويههم والعمل على إسقاطهم . وهو ما حققته أمريكا أواخر 2001 بمشاركة فعالة من حكومة باكستان ودول الخليج وهياكلها الدينية المنافقة.
ولما قامت بعض الأعمال الجهادية المحدودة بعيد حرب العراق الأولى 1991 وإلى سنة 2000 ضد الصليبين الغزاة , أصدرت هيئة كبار العلماء أقبح الفتاوى بالحكم على المجاهدين بالإفساد في الأرض وأن عقابهم القتل والقطع والنفي . فدعوا الناس لحربهم وتوعدوهم بعدم دخول الجنة التي صارت ملكا لباباوات المسلمين القابعين في السعودية يوزعون أملاكها على الناس , ويحددون من يروح ريحها ومن لا يروح , كما فعل باباوات النصارى في العصور الوسطى!(18/376)
ولما جاءت أحداث سبتمبر 2001 وتذرعت بها أمريكا وزحفت على أفغانستان وأسقطت الإمارة الشرعية فيها ثم أطلق جورج بوش حملته الصليبية تحت شعار مكافحة الإرهاب. هب الهيكل المنافق من علماء المسلمين وكثيرون من قيادات الصحوة لينضموا إلى تلك الحملة بكل جدارة وإخلاص وتفاني.
ويكفي كي يمتلئ القلب حزنا والنفس كمدا أن تتابع البرامج الدينية وخطب الجمعة عبر الفضائيات اليوم من المسجد الحرام إلى المسجد النبوي إلى المسجد الأزهر إلى كبريات المساجد في عواصم بلاد العرب والمسلمين لتشهد الدور الرائد الذي تؤديه المؤسسة الدينية الرسمية وما تقدمه من خدمات جليلة لأمريكا . حتى أصبح لبرامج مكافحة الإرهاب وصب جام الغضب والتضليل والتهمة بالانتماء للخوارج وعصابات الإجرام والمخدرات .... على كل من تسول له نفسه مقاومة أمريكا في غزوتها الصليبية ومقارعة حكام بلادنا المرتدين الذين يقودون طلائع حملتها. ولا يتسع المكان للشواهد هنا وقد جمعت كثيرا منها مع مسودات بحث كنت أعده قبل سقوط كابل وكان بعنوان (الفرقان بين علماء الرحمن وعلماء السلطان) ونماذجهم منذ علماء بني أمية إلى فقهاء البنتاغون اليوم . وأسأل الله أن يعينني على جمعه مرة أخرى وإخراجه.
وألخص الدور الذي لعبه وما يزال يلعبه علماء السلطان والفاسدون من قيادات الصحوة إلى جانب الحملات الصليبية الحديثة في أربعة أهداف أساسية بالإضافة لخامس أشد شرا منها على المدى البعيد وهذه الأهداف هي:
1- الحكم بإسلام الحكام المرتدين الحاكمين لبلاد العرب والمسلمين رغم تشريعهم من دون الله وحكمهم بغير ما أنزل الله وولائهم للأعداء الكفرة وسهرهم على مصالحهم والقتال دفاعا عنهم إلى جانب عساكرهم وتحت قيادتهم , فضلا عما يرتكبوه من ألوان الكفر والفساد واعتبار كل ذلك فسوقا وظلما لا يعدوا أن يكون كفرا أصغرا لا يخرجهم من ملة المسلمين. وبالتالي الحكم بشرعيتهم كأولياء أمور لهم على الرعية المسلمة كافة حقوق الطاعة والولاء والتعاون .
2- الحكم بمشروعية الإحتلال الصليبي الأمريكي وغيره لبلاد المسلمين بدعوى أن ذلك استنصارا مشروعا بهم تبرره الضرورة . والإفتاء بمشروعية التطبيع مع اليهود . وإسباغ الشرعية على احتلال فلسطين بدعوى أن كل ذلك قد تم بموجب اتفاقيات ومعاهدات سياسية وعسكرية واقتصادية تمت بين الكفار وأولياء الأمور الشرعيين. بما فيهم عرفات وسلطته صاحبة أوسلو و مدريد وخارطة الطريق.
3- تحريم المقاومة للمحتلين الصليبيين واليهود , بوصفها إرهابا للمستأمنين والمعاهدين, وخروجا على أولياء الأمور الشرعيين . وسحب الشرعية بذلك عن أي شكل من أشكال جهادهم.
4- الحكم على المجاهدين و المقاوميين بأنهم مفسدون في الأرض . وإباحة قتلهم وسجنهم وتعذيبهم ومطاردتهم من قبل أولياء الأمور( المسلمين!)
( الشرعيين!) وأسيادهم (المستأمنين!) و(المعاهدين!) الذين صاروا بكامل عتادهم ومئات آلاف من جنودهم وطائراتهم وقنابلهم الذكية وصواريخهم المدمرة (ذميين!) . وتحريم خفر ذمة ولي الأمر الذي أمنهم وجاء بهم من أجل مصلحتنا ونصرتنا!. فكيف يخيفهم الإرهابيون!!
5- أما الخامسة الفاجعة الأخبث من كل هذا والأبعد أثرا في تحطيم جذور الإسلام والمقاومة عند المسلمين؛ فهو ما يقوم به علماء النفاق وفقهاء البنتاغون والقيادات الفاسدة في الصحوة من إفساد عقيدة المسلمين بدعوى (الوسطية) و ( الإعتدال) و(الإسلام العصري المنفتح) و(حوار الحضارات) و( الشفافية) و (الحكمة في الدعوة) و... و....وغيرها من الشعارات الزائفة التي يتم عبرها (أمركة الإسلام) اليوم.
وقد تولت الفضائيات التي تنتشر سمومها القاتلة انتشار السرطان في جسد الأمة وكذلك أجهزة الإعلام و النشر الأخرى هذه الدعاوى التي أصبح الإعراض عليها جريمة تدل على أن صاحبها من الإرهابيون! ويأخذ عليها بالنواصي والأقدام , وأقل عقوباتها الإعدام .
وهذا البند موضوع يستأهل أن تكتب فيه الكتب الكثيرة لغزارة مادته وكثرة شواهده وليس كتابنا محل ذلك, فحسبنا الله ونعم الوكيل فقد اتسع الخرق على الراقع. بل تاه المرقعون وسط مئات الخروق التي تغوص الأمة في أنحائها والله المستعان. دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 2 / ص 429)
=================(18/377)
(18/378)
•…من تكتيكات ( حرب الأفكار ) الأمريكية :
لقد اشتملت هذه الحرب على زخم إعلامي وفكري هائل. فكان من ذلك افتتاح عدة محطات إذاعية باللغة العربية ولغات المسلمين . موجهة وممولة من قبل الحكومة الأمريكية مباشرة.
ثم دخلت أمريكا مجال القنوات الفضائية باللغة العربية وبطاقم إعلامي عربي محترف من المنافقين والمرتدين والعملاء. فافتتحت قناة ( الحرة ) .
كما ألزمت أمريكا الحكومات العربية والإسلامية بتغير مناهج التربية والتعليم , وفرض رقابة صارمة لحذف كل ما من شأنه أن يزكي روح المقاومة في الأمة . كما صدرت أوامر أمريكية لحكوماتنا , بالتزام لائحة توجيهات تشمل حصار المساجد والدروس والخطب والتعليم الديني . وتتضمن تفاصيل من الإلغاء والتضييق والتشويه والتحريف..
ومصيبة المصائب أن أمريكا تستعمل كثيراً من قطاعات العلماء ورموز الصحوة الإسلامية بفعل ضغوط الحكومات . وتستعمل هذا القطاع الإسلامي المحترف في معركة الأفكار لتشويه الدين وإتلاف مقومات المقاومة والجهاد فيه عن طريق الفتاوى العميلة المشوهة تحت مسمى مكافحة الإرهاب والتطرف . وعن طريقة بث أفكار الخنوع والذوبان في الفكر والحضارة الأمريكية, تحت مسميات كثيرة . منها : الإعتدال , والوسطية , والتعاون والحوار مع الآخر... وغير ذلك من دعاوي الدعاة على أبواب جهنم الذين يلبسون لباسنا ويتكلمون بألسنتنا من أنباء جلدتنا.
وفي وسط هذه الفتن الطامة الطاغية , يمكن تلخيص حالة العقيدة القتالية لدى المسلمين من خلال رصدها لدى ثلاثة شرائح هي:
- العقيدة القتالية الجهادية لدى عامة المسلمين.
- العقيدة الجهادية لدى مدارس وقطاعات الصحوة الإسلامية.
- العقيدة الجهادية لدى الجهاد يين اليوم بعد أحداث سبتمبر والعراق وما استجد من ظروف . ونتناول ذلك باختصار . ثم أنتقل إلى لب الباب الأول وهو:
نظرية العقيدة الجهادية والمنهج في دعوتنا : دعوة المقاومة الإسلامية العالمية.
أولاً: أما عن العقيدة القتالية لدى قطاعات الشعوب العربية والإسلامية اليوم :
فإنه لم يبق لدى معظم شرائح الأمة , بسبب تتالي العقود على سياسات القمع والخوف والتجهيل . ومحاربة الإسلام و تغيب شرائعه . والتي مارستها الحكومات عبر وسائل الإعلام , ومناهج التربية التي تعتمد الإفساد والعلمنة , والقضاء على ما تبقى من مكونات الدين والعقيدة لدى شعوبها في الغالبية الساحقة لبلاد المسلمين.
وبسبب ما ران على قلوب الأكثرية من الوهن (حب الدنيا وكراهية الموت). لم يبق من العقيدة الجهادية لدى مختلف طبقات الأمة , إلا العواطف وبعض آثار ما تبقى من عقيدة الجهاد لدى النذر اليسير من الأمة..
ولكن حملات أمريكا علينا منذ عقد من الزمن وتتالي استفزازاتها وما فعلته في العراق ثم أفغانستان ثم العراق ثانية.. وما تطرحه اليوم من برامج الإحتلال والعدوان على كافة الصعد. مستهدفة الجميع حكاماً ومحكومين , دولاً وجماعات , أحزاباً حاكمة أو معارضات. ودعمها اللامتناهي لإسرائيل وما تثيره القضية الفلسطينية ومجرياتها منذ لانتفاضه خاصة.
جعل أساسيات العقيدة الجهادية تعود للأمة. حيث يشهد رجل الشارع العادي صحوة فطرية طبيعية لا يمنعها من توليد الأعمال والأفعال , إلا سياسات القمع والخوف والأنظمة البوليسية في كل مكان.
ولكن المبشرات تبدو أكبر بفضل الله, ثم بفضل حمق أمريكا وحلفائها الصليبيين , ومن ورائها قوى بني صهيون. إن تلك المبشرات تلمس اليوم في كل مكان.
وعلى العكس مما تظنه أمريكا. فإن حملاتها لتغير المناهج وأصول التربية والتعليم ومحاربة التدين . قد جلبت ردة الفعل هائلة حتى في صفوف وأوساط العلمانيين , الذين لا يجدون لهم اليوم مادة وهوية للمواجهة بدوافع النخوة والشرف , إلا الإسلام ورايته وهويته . إنه مكر الله .
إن روح العقيدة الجهادية تتسرب إلى الأمة بشكل يبعث على الأمل . بل على الاعتقاد بقرب التحرك نحو الإنتصار. فإن الجماهير تتململ .
لقد سلبت أمريكا دنياهم التي ابتلوا بحبها , وحببت إليهم الموت كحالة أفضل من ظروف الحياة التي تعدهم إياها. وهكذا تحل لنا أمريكا عقدة حب الدنيا وكراهية الموت !
إن أمريكا تساعدنا اليوم على بغض الدنيا وحب الموت. ويجب أن نشكرهم :
فلا جزاهم الله خيرا . وسلطنا عليهم موتا زؤاما .
وعندما سيصل هذا الإحساس ليكون جماهيرياً .ستلقى الجماهير عن كاهلها الوهن . وستسير الأمور بشكل عكسي. وعندها تعود المهابة منا إلى صدور أعدائنا . ولا نعود غثاء كغثاء السيل لا قيمة لنا. وإنما جماهير مؤمنة تتحرك بالقوة الدافعة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثانياً: وأما عن حالة العقيدة القتالية الجهادية في أوساط الصحوة الإسلامية:(18/379)
لقد خلعت مختلف أوساط الصحوة الإسلامية غير الجهادية على اختلاف مدارسها وعلى مدى عقود متلاحق على طريق التسيس, خلعت كل مقومات العقيدة الجهادية عملياً. ولكن ومنذ قيام النظام العالمي الجديد . ولاسيما بعد سبتمبر وإعلان الحملات الصليبية بعد احتلال العراق على الشرق الأوسط الكبير وهو عملياً العالم الإسلامي. منذ ذلك الوقت تشهد الصحوة الإسلامية غير الجهادية حالة فرز وانقسام حادة.
فالأقلية الصالحة من أهل الخير من علماء وقادة ورموز صحوة , استفزهم الهجوم و أحيا فيهم مكان الدفاع والغيرة . فمالوا للفكر المقاوم , وإن كان على استحياء . ولكنها صحوة داخل الصحوة تبشر بخير. ولكن أكثرية وللأسف تتحول للعمل كبيادق منافقة من حيث تدري أولا تدري . في خدمة برنامج رامسفيلد لحرب الأفكار.
ويكفي للدلالة على ذلك ولمعرفة الأسماء والهيئات والأشخاص التي تشن الغارة على الإسلام من داخل صفه, أن نقتفي أثر وسائل الإعلام المختلفة من إنترنيت وفضائيات وصحف ومجلات ومؤلفات . لتتابع سيل عمل كتيبة حرب الله ورسوله والطليعة المقاومة في هذه الأمة . تحت دعاوى الحوار والاعتدال والوسطية ونبذ الإرهاب.
لقد وصل الهجوم والسموم لكل مناحي ومبادئ هذا الدين . تحليلاً للحرام . وتحريماً للحلال وحربا الله ورسوله وهكذا تبنى مساجد الضرار بتخطيط رامسفيلد و كونديليسا .
إن مساجد الضرار النفاق تبني محاريبها من جديد . وترفع مآذنها من جديد. إرصاداً لمن حارب الله ورسوله. لتحارب أصحاب مسجد قباء , الذين أسسوا بنيانهم على تقوى من الله ورضوان من أول يوم..
إن رحى المعركة الداخلية تدور اليوم. وستكون ضارية مع طلائع رامسفيلد المعممة من أصحاب اللحى المنمقة والبطون المكورة التي ملأها سحت الدولارات رغباً , وروعتها سياط الحكام و وعيدهم رهباً..
وأما عن حالة العقيدة الجهادية في التيار الجهادي بعد سبتمبر:
فالحال يبشر بالخير الكثير . ولكن هناك إشكاليات تحتاج للكثير من الجهد والعمل .
أما بشائر الخير؛ فإن العدوان الأمريكي جعل كفة الطروحات الجهادية ترجح . وجعل الجماهير المؤيدة للمقاومة أوسع . وهذا يسهل على دعوة الجهاد قيامها بالحشد.
وأما الإشكالات فعدة أمور:
أولها وأخطرها أن حرب أمريكا على أفغانستان ثم على التيار الجهادي برمته قد كبدت التيار الجهادي خسائر بشرية فادحة قتلاً أو أسراً. فإن معظم الكادر الأساسي منه قد قضى في سبيل الله , وقد سبقت الإشارة لذلك. ولم يبق من حملة رايته ودعوته , ومن كتابه ومنظريه خاصة إلا النزر الأقل من القليل. حيث تقع على كاهلها مهمة إحياء دعوة الجهاد . ونشر مبادئ العقيدة الجهادية . وإعادة نشر مناهجها.
كما أن التراث الجهادي المكتوب على قلته بالإضافة للتراث الفكري للصحوة الإسلامية الذي يشكل مرجعاً فكرياً وفقهياً للفكر الجهاد من أمثال مؤلفات سيد قطب رحمه الله .وغيره كمؤلفات أخيه الأستاذ محمد قطب وبعض مؤلفات آخرين مما كتب في الستينات والسبعينات . يتعرض اليوم للهجوم وللمصادرة من المكتبات ووسائل النشر. كما يتعرض للطعن والتشويه .
وكذلك فكر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلماء المدرسة النجدية , وما بني عليها من تراث المخلصين من دعاة بلاد الحرمين.. كل ذلك يتعرض اليوم للمصادرة والتغييب . والطعن والتشويه .
بل إن الأمر يذهب بعيداً . فد طال الهجوم اليوم تراث أمثال الإمام ابن تيميه وابن القيم ومدرستهم . وغير ذلك على مستوى كل ما من شأنه إن يوفر مادة للعقيدة الجهادية .
إنهم يطاردون حتى بعض النصوص القرآنية في كتب المدارس الابتدائية. إنهم صرحوا في بعض دراساتهم بأنهم لن يسمحوا بتدريس سورة ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون..) لأنها تقول في نهايتها ( لكم دينكم ولي دين ) . وهذا يشجع الإرهاب . كيف ؟! الجواب بسيط : فاليوم ليس هناك إلا دين واحد , دين بوش الذي يريد أن يفرض نفسه على العالم رباً واحداً أحداً لا يقبل معه شريكا .. و خسئ الكلب .
وعلى الناس القرار : إلا معه أو عليه. هكذا قرر المجرم .
فالعقيدة الجهادية مهددة في التيار الجهادي بغياب روادها من جهة و بتغيب أدبياتها وما يدعمها من المكتبة الإسلامية من جهة أخرى.
وهناك مشكلة ثالثة. وهي أن الفكر الجهادي , بني على الحاكمية ومبادئ المفاصلة مع كل أركان الجاهلية. من أجل إطلاق تنظيمات جهادية نخبوية تحارب أنظمة.وكان له فقهه وأدبياته .وهو تراث يجب الحفاظ عليه , ولكن مع الانتباه لأمر هام :
إن معركتنا اليوم مختلفة , فهي معركة دفع صائل الأعداء الكفار مع أوليائهم بطريقة أممية ومقاومة شعبية إسلامية عالمية. وهذا مجال لم يكتب له إلا القليل و يحتاج اليوم فكره ونظرياته وفقهه وأحكامه وأدبياته.
فمن يقوم بهذا وقد عضت السيوف رجال التيار الجهادي ومضوا إلى ربهم شهداء . وسحبت السلاسل إلى غوانتانامو الأمريكية والكثير من ( الغوانتانامويات ) في البلاد الأوروبية , بل والعربية والإسلامية المجاهدين بالآلاف وبعشرات الآلاف !.(18/380)
إن الثغرة شاغرة.. ونسأل الله أن يقبض لها فرسانها. فمن هنا البداية. يجب طرح عقيدة جهادية تناسب مرحلة المقاومة. دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 3 / ص 412)
==============(18/381)
(18/382)
العقيدة هي كل لا يتجزأ
ابتداءً نقول بأن العقيدة هي كل لا يتجزأ. وما هذا التقسيم الدراسي إلا لتسهيل الفهم , والتميز بين أقسام العقيدة , وتبيان ترابط تلك الأقسام.
(فالعقيدة الجهادية القتالية) , هي فرع من كل هو ( العقيدة الإسلامية ) . والتي تشتمل بإيجاز على كل أركان الإسلام والإيمان . والتسليم بقواعد الشريعة والدين . والطاعة والانقياد لحكم الله ورسوله . وكل ما نشأ عن هذا الانقياد والتسليم . من الإيمان بالقلب, والإقرار باللسان , والعمل بالجوارح . و ما يتبع ذلك من التصرفات والأفكار والأحاسيس . فكل ذلك من العقيدة . وكذلك ما يترتب عليها من السعي في فعل المأمور. وترك المحظور برضى وتسليم .
ولما هممت أن أقدم للعقيدة الجهادية , بنبذة عن العقيدة بشمولها . رأيت أن اقتطف مما كتبه الشيخ عبد الله عزام. فإن من منهجي في الكتابة أني إذا توصلت لمفهوم , أو كتبت شيئا , ثم رأيت لمن سلف إيجازاً حسناً , أن استغني عنه به ) .
فقد عرَّف شيخنا وأستاذنا الجليل أبو محمد عبد الله عزام غفر الله له و رحمه الله تعالى رحمة واسعة . فقال في كتيبه الموجز القيم (العقيدة وأثرها في بناء الجيل) :
[العقيدة: هي الضابط الأمين الذي يحكم التصرفات , ويوجه السلوك , ويتوقف على مدى انضباطها وإحكامها كل ما يصدر عن النفس من كلمات أو حركات . بل حتى الخلجات التي تساور القلب , والمشاعر التي تعمل في جنبات النفس , والهواجس التي تمر في خيال. هذه كلها تتوقف على هذا الجهاز الحساس.
وباختصار فالعقيدة هي دماغ التصرفات, فإذا تعطل جزء منها أحدث فساداً كبيراً في التصرفات. وانفراجاً هائلاً عن سوي الصراط ....]
ثم قال: [ وعلى هذا فإن كل الإنحرافات التي نعانيها في سلوكنا , أفراداً وجماعات, راجعة بكليتها إلى الإنحراف في التصور العقدي . فالناس في هذه الأيام بحاجة إلى بناء العقيدة من جديد . وإلى تصحيح التصور الإعتقادي . فلا بد من إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية. ولا بد من أن تستقر عظمة الله عز وجل في الأعماق . وأن يعمر النفوس حبه. ولا مناص من أن تحيا القلوب وهي تستشعر هيبته وجلاله. ويقوم هذا الدين على:
1- حقيقة الألوهية .
2- حقيقة العبودية .
3- الصلة بين العبد وربه .
وهذه أمور ثلاثة لا بد من استقرارها في النفوس:
- معرفة الله وقدره .
- معرفة العبد وحده .
- والصلة بين الخالق والمخلوق .
وعلى هذا فإنه من العبث تتبع فروع الشرع , وطلبها من شخص لا ترسخ في قلبه حقيقة هذا الدين. ولا تستقر في كيانه عظمة الله التي تهيمن على كل سكنه و نأمة وحركة في هذا الكون . والحق أن الناس غابت عنهم حقيقة هذا الدين العظيم . ومثل كثير منهم - حتى الذين يقيمون الشعائر التعبدية - كمثل الأعمى الذي أمسك بذنب الفيل , ويحسب أنه أمسك بين يديه جسم الفيل ...].
(ثم قال): [ وقد أصبح اليوم لدينا شيئا مألوفا , أن نرى شخصاً يداوم على العبادات وهو في نفس الوقت يزاول أعمالاً تخرجه من إطار هذا الدين . كالاستهزاء بسنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بفرضية وردت في محكم التنزيل. وهولا يعلم أنه بالاستهزاء إنما يهزأ من أوامر الله ويسخر منها. وهذا الذي اتفق أهل الذكر من هذه الأمة ؛ أنه يعني ردة المستهزئ . وخروجه من الإسلام . ومن هذا القبيل سب الدين , أو سب الله أو رسوله, فمن فعلها حكم عليه بالردة ...].
(ثم قال): [ أعود لأقرر الحقيقة الكبرى . أن الناس لا يعرفون حقيقة هذا الدين ويخلطون بين مناهج متعددة في حياتهم , قسم ضئيل من منهاج حياتهم من دين الله, وأما معظم المنهاج الذي يوجه حياتهم , فهو من صنع هواه أو هوى غيره من البشر. ?أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ? . (الفرقان /43-44) .
وعلى هذا فإني أرى أن التركيز على مسائل فرعية من الشريعة بالنسبة للناس أمر غير منطقي , بل محاولة عابثة لاستنبات البذور في الهواء . ولا يمكن أبداً بتجميع أغصان نضرة مع بعضها في الهواء . أن يتكون منها شجرة ذات جذور ضاربة في أعماق الأرض.
لا بد من سلوك المنهاج الرباني الذي رسمه الله لهذا الخلق. فلابد من زرع البذرة في التربة, ثم تعهدها حتى تستوي قائمة على أصولها. ثم تمتد بفروعها وأفنانها . وهكذا بالنسبة لبقية هذا الدين العظيم, لابد من اقتفاء السبيل الذي رسمه الله لهذا الكائن حتى يحمل هذا الدين . لا بد من بناء الأساس بغرس البذرة في أعماق الأرض . أي غرس العقيدة في أعماق القلب.(18/383)
والعقيدة هي الأساس المكين الذي ترتكز عليه فروع هذا الدين كله. ومن العبث محاولة إشادة بناء ضخم بلا أساس . ومن هنا: فإن محاولة تتبع فروع الشريعة بالتفصيل والتعليل , هو اشتغال بالمهم عن الأهم. ولا يمكن أن تؤتي المحاولة أكلها التي نرجوا, والثمار التي نأمل . ومن الأولى أن نتبع المنهاج الرباني في بناء هذا الدين للنفس البشرية. وذلك بترسيخ العقيدة أولاً في الأعماق. ثم مطالبة النفس بعدها بأوامر الشريعة كلها. إذ أن المنهاج الرباني في تربية النفس جزء من العقيدة ذاتها .
ولا ننسى أن الداعية إلى رب العالمين, لابد أن يتمثل فيه المنهاج الإلهي كاملاً, ولا بد أن يكون مصحفاً يمشي على الأرض, يتحرك فيتحرك بحركته القرآن . فالداعية يطالب بالشريعة كاملة. ولكنه في الوقت نفسه , لا يطالب الناس بفروع الشريعة قبل أن يعلمهم هذا الدين, ويشد أنظارهم إلى إطاره الكامل الشامل , وبعد أن يرسموا في أذهانهم الصورة الكاملة . يدخل معهم داخل الإطار ليعلمهم تفاصيل هذا الدين وتفريعاته . وهكذا قام الإسلام أول مرة في النفوس البشرية, وهكذا يقوم في كل مرة يحاول فيها بناء هذه النفوس بالإسلام. ولا مناص من اقتفاء هذا السبيل ولا مفر من انتهاجه. فكما أن هذه الأوامر والنواهي فريضة من عند الله , واتباعها فرض لازب في رقابنا , فكذلك اقتفاء المنهج الرباني في بناء النفس فرض كذلك . وكل محاولة لإقامة هذا الدين بغير هذا المنهج الرباني لابد أن تبوء بالفشل . وذلك لأن هذا الدين لا يكون ولن يكون إلا كما أراد الله. ولن يبنى إلا بنفس المنهج الذي رسمه رب العالمين. وكل منهج بشري نستعمله لإيصال حقيقة هذا الدين إلى الناس هو فاشل لا محالة. وهو عبث و ملهاة ولعب.
لابد من إتباع المنهج الرباني القيم الذي رسمه رب العالمين. وسلكه سيد البشرية صلى الله عليه وسلم لإيصال دين الله إلى قلوب البشر ولابد من البدء بالعقيدة. من تعريف الناس بإلههم الحق, وبحقيقة وجودهم على هذه الأرض , والمهمة المنيطة بهم إبان مرورهم بهذه الدنيا. من المسؤول عنهم؟ أي منهج يجب أن يحكمهم؟ صلة هذا الإنسان بالكون من حوله , مكانة هذا الكائن من الكون , وبعبارة أقصر إقرار جلال الله ورهبته وهمينته في أعماق قلب الإنسان وطريقة الوصول إلى رضاه.
ومن ثم وفي هذا الوقت , فإني لا أرى تتبع الجزئيات من هذا الدين في سلوك الناس. كالشرب باليمين, وترك التدخين , والشرب جالساً, إلى غير ذلك من هذه التفاصيل التي لا تحتملها ولا تطيق الدوام عليها إلا نفوس بنيت على العقيدة, وجبلت بعظمة الإيمان . لا بد أن نبدأ مع النفس البشرية من حيث هي , بحيث نلتقطها من هذا الحضيض الذي هبطت إليه. ثم نسير معها صعدا نعطيها الإيمان جرعة جرعة. نواكبها في نموها ونقيل عثراتها. ونردها من هنا ونهذ بها من هناك, حتى تشب قائمة على عمودها , صلبة لا تهزها الزلازل والأعاصير. وهنا فقط نطلب منها كل ما يريده الله منها, فتنفذ وهي راضيه مستسلمة مطمئنة أن الخير كله فيما نفذت . لأن الخير كله منحصر في منهج الله والشر كله الشر في الخروج عن منهاج الله .
? فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ? (طه 126/124) .
وأعود فأذكر أن النفوس التي تقدم الإسلام للناس , لا مناص لها من أن تكون شريعة تدب على الأرض, وتأخذ بالعزائم . ولا بد لها من أن تكون المرآة الصافية التي تعكس حقيقة هذا الدين أصوله وفروعه, إذ لابد لها من أن يكون لحمها و دمها هو هذا الدين الذي إليه تدعوا, والمنهاج الذي تهتف بالناس أن ينهجوا. ? هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ? (ابراهيم:52) ...] .
( ثم يقول) :
[ فالعقيدة تمثل الأساس للبناء, والعمارة الضخمة لابد لها من أساس مكين وقاعدة صلبة حتى يستقر فوقها البناء. وهنا يبرز عامل آخر ينبثق عن هذه الحقيقة, وهي أنه لابد من بناء الأساس قبل الشروع برفع البناء , و إلا فسينهار البناء كله. لابد من البداية مع أي نفس ندعوها إلى هذا الدين أو نريد تربيتها على أساس الإسلام من الإيمان أولا , وقبل كل شيء, خاصة في هذا العصر الذي بهت فيه مفهوم العقيدة في نفوس أبناء هذا الجيل المنتسب إلى الإسلام , لابد من انتهاج نفس الطريق الذي انتهجه رسول ا صلى الله عليه وسلم من تثبيت العقيدة في النفس ثم مطالبتها بالفروع .لابد أن نعرف الناس بربهم وعظمته و هيمنته على الكون, فهو مالك الملك, وهو الذي بيده ملكوت كل شيء. وهو القاهر فوق عباده, وهو الذي إليه يرجع الأمر كله, وهو الخالق الرازق.. لابد من هذه البداية. أما أن نبدأ فنطالبهم بتطبيق فروع الشريعة وهم لم يعرفوا صاحب الخلق والأمر, فهذا عبث ومحاولة لاستنبات البذور في الهواء.] .أهـ. انتهى النقل من كلامه رحمه الله تعالى.(18/384)
والآن وبعد أن أسهبت في النقل لأقدم لموضوع العقيدة الجهادية بهذه الكلمات التي عبر بها شيخنا الشهيد عما أردت التعبير عنه بأفضل بيان يحمل في طياته أنفاس وأسلوب الشهيد المعلم سيد قطب - رحمه الله - الذي تمتلئ كتاباته بهذه المعاني و الاصطلاحات .. وما أريد أن أعقب به هنا.. لربط الفرع بالأصل . أي ربط ( العقيدة الجهادية القتالية) التي نحن بصددها في هذا الباب , بالعقيدة الكلية , وهي (عقيدة الإسلام ) بشمولها وكمالها.
أقول أن هذا الربط بين الأصل والفروع . أدركه العدو في هذا الزمان أكثر من إدراك أكثر أهل الملة الإسلامية له. فقد علم وهو يشرع بالغزو والاحتلال أنه ستكون (مقاومة) , وهذا بدهي.. وعلم أن أهم جهات المقاومة وأشدها وأعصاها على المواجهة , هي المقاومة النابعة من ( العقيدة الجهادية القتالية ) لدى المسلمين عامة , والإسلاميين خاصة, و الجهاديين على وجه الخصوص .
ولأن هذا العدو المعاصر ذكي محترف للعدوان على مر العقود والقرون , ولأنه يقيم أعماله على الدراسات الاستراتيجية وآراء الأخصائيين ؛ فقد علم هذه المعادلة وفهمها بعمق على بساطتها , فهما أعجم وللأسف على أكثر المسلمين , بل حتى على أكثر قواد الصحوة وعلماء هذا الزمان من المسلمين .
وهذه المعادلة التي فهمها العدو هي ببساطة:
( المقاومة هي وليدة عقيدة جهادية , والعقيدة الجهادية القتالية هي فرع من شجرة العقيدة الإسلامية الشاملة ) .
ولذلك يعمل العدو اليوم من أجل أن لا تنضح ثمرة المقاومة , على أن يجفف غصن العقيدة الجهادية وذلك بقطع جذور العقيدة الشاملة , كمنهج اعتقاد وعمل وإحساس, كمنهج فكر و حركة لدى أهل ملة الإسلام المعاصرين .
فأعلن بوش و وزير دفاعه ما أسموه (حرب الأفكار) و(الحرب الاستباقية الفكرية) بعد الحرب الإستباقية العسكرية. وجاءنا بمشاريع (تغير المناهج) , وتعديل أساليب التربية والتعليم , العام والديني , وضبط خطاب المساجد وطرق التربية فيها . ثم أتبع ذلك بمشروع لخصه الإستراتيجيون الأمريكان في أكثر من 1000 ورقة , وعنونوه باسم ( مشروع الشرق الأوسط الكبير . والذي يضع قواعد التغيير الشامل في العالمين العربي والإسلامي على كل الصعد , السياسية والاقتصادية , والثقافية والدينية , والتاريخية واللغوية, والاجتماعية و الفنية ... و مكوناتنا الحضارية كأمة , شعوبا و حكاما ومحكومين .
ومن هنا يجب أن ندرك وهذا ما أشرت إليه بمقدمة هذا الجزء الثاني من الكتاب وكذلك في مقدمة الجزء الأول عن(محاور المقاومة ومستويات المقاومة) . وأعيد هنا ما له علاقة بالفقرة وهو قولي :
لابد لكي تحصل المقاومة التي نطمح إليها , من نموا لعقيدة الجهادية القتالية . ولا يمكن لهذه أن تنبت إلا في نفوس قد امتلأت إيماناً بالمناحي الشاملة للعقيدة الإسلامية . والتي أساسها الانقياد التام لمعني لا إله إلا الله , بالمفهوم المحدد لمعنى محمد رسول الله . فاستعدت كي تبني منهج حياتها , بكل التسليم والانقياد و الرضى لمعني هذه الشهادة . مدركة تماماً معني قوله تعالى: ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ? (الأحزاب:36). وقوله تعالى : ? فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? (النساء:65) . إن على علماء الأمة وقيادات الصحوة , أن يعملوا على ترسيخ أسس العقيدة الشاملة الكاملة لدفع المسلمين إلى التمسك بأصول دينهم , عقيدة وسلوكاً . وإبراز ملامح عقيدتهم الجهادية وإزكائها. دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 3 / ص 417)
=============(18/385)
(18/386)
خلاصة واقع الحملات الأمريكية و الواقع العربي
ثانياً: خلاصة واقع الحملات الأمريكية و الواقع العربي والإسلامي والدولي إزاءها :
إن الأساس في وضع أركان الإستراتيجية العامة للمقاومة ونظريتها السياسية . هو معرفة ملامح الإستراتيجية المعادية . و تركيبة أطرافها ومعرفة معطياتها . ثم معرفة تركيبة أنصارنا ومن معنا في الصف المقاوم . ولقد تعرضنا من خلال الفصول السابقة ( في الجزء الأول ) لكثير من جزئيات واقع الأمة الإسلامية . وفي هذه الفقرة نعرض لثلاث نقاط مهمة يشكل فهمها أساس منطلقات وضع أركان النظرية السياسية لدعوة المقاومة.
(1) - طبيعة الحملات الأمريكية ومحاورها وأهدافها ووسائلها:
المستخلص من سيل الكتب والدراسات والتصريحات والوثائق التي تملأ وسائل الإعلام المختلفة اليوم ؛ أن الحملات الصليبية اليهودية الجديدة تأخذ بعداً حضارياً متكاملاً يهدف إلى إزالة مكونات الأمة الحضارية الإسلامية على كافة الأصعدة.
•…ففي الجانب العقدي:
تهدف ( الحملات الصهيونية- الأمريكية ) , إلى تبديل ملامح الدين الإسلامي ومعتقداته الأساسية , وتحريفها وإبعاد المسلمين عنها , بحيث تقدم لهم نموذجاً عن إسلام أمريكي عصري علماني , لا يعدو كونه أقرب إلى الشكليات والعادات وبعض الشعائر.. , مع تبديل المعتقدات الأساسية . وإلغاء القضايا الرئيسية المتعلق بالهوية الدينية , والولاء والبراء , والكيان السياسي , والشخصية المسلمة, والحياة الإسلامية على كل صعيد ...الخ .
وأهم وسائلها في ذلك الإعتماد علي طليعة من علماء السلطان , وبعض الفاسدين من رموز الصحوة الإسلامية . لتجنيد فصائل من (علماء الإستعمار) و( دعاة البنتاغون) . ووضع برنامج طموح بالتعاون مع الحكومات في العالم الإسلامي لتخريج دفعات من العلماء والدعاة ( المهجنين فكريا ) و( المستنسخين أمريكيا ) . عن طريق ما يسمي دورات إعادة التأهيل الشرعي لخطباء المساجد والأئمة والوعاظ والمشايخ .
وكذلك عن طريق إنشاء مؤسسات أسلامية تحت مسميات شتى تدعو لذوبان الشخصية الإسلامية وتحريف الدين تحت شعارات (الحوار ) و( الوسطية ) و( خطاب الآخر ) و( إعادة صياغة الخطاب الديني)... على أساس أنها من مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية. وقد بلغت الوقاحة والسفه بالأمريكيين أواسط سنة (2004 ) أن يصلوا في طموحاتهم المريضة في تغيير الدين الإسلامي , إلى جمع عدد من العلماء والمختصين من أو بعض المرتدين من أجل اختصار القرآن !! , فأخرجوا قرآنا جديدا مختصرا بعد أن حذفوا من القرآن كل آيات الجهاد والولاء والبراء , وما يدعو إلى كراهية الكفار ومفارقتهم وجهادهم !! بدعوى أن ذلك أساس الإرهاب في الدين الإسلامي . وأسموا القرآن الجديد المختصر ( فرقان الحق ) ..!!!! وكأنما قرآننا الكامل المحفوظ بحفظ الله رغم أنوفهم هو فرقان باطل ! حاشاه , وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا . ولك أن تتصور إذن إلى أي مدى يذهب البعد العقائدي لهذه المعركة.
•…وفي الجانب الفكري والثقافي:
تهدف الحملات إلى علمنة العقل العربي والإسلامي وتفكيكه , و إعادة صياغته على الطريقة الأمريكية. بحيث يخلق أجيالاً من الممسوخين الذين لا هوية دينة ولا فكرية لهم , ولا يربطهم بجذورهم التاريخية والثقافية أي رابط . ويقودهم مجموعة من العملاء , الذين لا ينتمون إلى أمة الإسلام إلا بالأسماء والأشكال . ولكنهم صهاينة متأمركون في الفكر والثقافة والمعتقدات . ولهذا الهدف والبرنامج تفاصيل كثيرة وبرامج أصبحت مشهورة , تحت شعار حرب الأفكار والمناهج التي تشنها أمريكا على المسلمين وحضارتهم وشعوبهم لفصلهم عن تلك المكونات الحضارية .
•…وفي البعد السياسي:
تهدف الحملات إلى تفكيك الكيانات السياسية القائمة في العالم العربي والإسلامي . وإعادة صياغاتها عن طريق اللعب بالخرائط السياسية , والنظم الحاكمة القائمة , و التركيبة السكانية طائفياً وعرقياً . كما تهدف إلى فرض نموج من (الديمقراطية الاستعمارية) المبتكرة . التي تمزح بين مبادئ ذات (أصول ديمقراطية) و(أوضاع استعمارية) ( وأساليب قمعية تعسفية لحكومات ديكتاتورية ) !!. وذلك بفرض جملة من السياسات, لإبعاد كل أشكال المعارضات الدينية والقومية والوطنية والسياسية من طريقها , وجعلها غير فاعلة. بحيث تزيل أمريكا بعض الأنظمة التي أقامتها أو دعمت وجودها سابقا .. وتطيح ببعضها وتبقى بعضها , وتعيد تشكيل وإنشاء أنظمة أخرى مكانها . بما يمكنها من تنفيذ برنامجها في منطقتنا عبر مشروعها الذي أسمته:
( الشرق الأوسط الكبير) الممتد من تخوم الصين إلى سواحل الأطلسي , ومن ضفاف البحر الأسود وقزوين وإلى بحر العرب وصحراء أفريقيا الكبرى.. أي بالمختصر.. العالم العربي ومعظم الإسلامي .
•…وفي البعد الاقتصادي:(18/387)
تهدف أمريكا إلى السيطرة التامة على اقتصاديات وموارد تلك المنطقة ولاسيما الطاقة, وخاصة البترول والغاز . مما يسمح لها بالتحكم باقتصاديات حلفائها وإجبارهم على العمل ضمن برنامجها . كما تهدف إلى ربط اقتصاد المنطقة بعجلة اقتصادها واقتصاد إسرائيل . من خلال ما تسميه اتفاقيات الشراكة , وإقامة المناطق الحرة , والمشاريع الإقتصادية المشتركة ... والحيل الاقتصادية الاستعمارية الاحتكارية الأخرى.
•…وفي البعد الاجتماعي:
تهدف الحملات إلى تفكيك المكونات الاجتماعية للعرب والمسلمين , وإعادة صياغتها على صعيد الأعراف والتقاليد والسلوكيات ... من خلال برامج الإعلام , وهجوم الفضائيات وشبكات الانترنيت , وما تبثه من خلالها وتلعب بفعله بعقول الناس لتمسخهم وتعيد استنساخهم بحسب النموذج الغربي الأمريكي. عبر نشر ثقافة الدعارة والسفور والاختلاط والغناء وفنون الرذيلة .. تحت مسميات الحرية والترفيه ومساواة الجنسين وتحرير المرأة ...إلخ . وقد أطلق الأمريكيون على مخططهم هذا اسم برامج إعادة صياغة المجتمعات !!
•…وفي البعد التربوي والتعليمي:
تشن أمريكا على العالم العربي و الإسلامي اليوم , حملة ضارية في المجال التربوي والتعليمي والفكري والثقافي . حملة أشد شراسة من حملتها العسكرية وأكبر ميزانية وأعقد في مخططاتها وشبكاتها وخفاء أساليبها.
فقد أدرك الصليبيون واليهود كما قدمت في مقدمة الكتاب تحت عنوان - محاور المقاومة - أدركوا أن جذور المقاومة تأتي من دين الأمة و موروثها العقدي والفكري والثقافي والأخلاقي . وأن وسيلة تغذية هذا الموروث والحفاظ عليه تأتي من خلال مادة التربية والتعليم وأساليبها.. فركزت أمريكا وحلفاؤها الهجوم في هذا المنحى . مستخدمة نفس استراتيجية (البناء والهدم ) التي أسلفنا ذكرها . فهي تعمل على هدم موروثنا الفكري التربوي , معلى ببناء فكرها ونظرياتها وأساليب حضارتها وحياتها في أمتنا .
أو هكذا تحاول أن تعمل , وقد عملت لهذا عن طريق فرض مشاريع تغير مناهج التعليم على وزارات التربية والتعليم في العالم العربي والإسلامي , بكافة مراحلها من الابتدائية إلى العليا وركزت خاصة على تخريب مناهج في مواد التاريخ , والتربية الوطنية , والتربية الإسلامية , واللغة العربية , والعلوم السياسية والاجتماعية , ومواد الأخلاق ...إلخ . كما سعت إلى منع التعليم الديني المتخصص والتضييق عليه , وفرض سيطرة الحكومات على المساجد والدروس والخطب.. الخ .
•…وفي البعد العسكري للحملات :
تعمل الحملات الأمريكية على فرض سيطرتها العسكرية على المنطقة التي أسمتها الشرق الأوسط الكبير عبر الاستراتيجية التالي:
1- حضورها العسكري المباشر عن طريق الاحتلال لبعض المناطق كما أفغانستان والعراق , ومناطق أخرى تخطط لغزوها مثل سوريا وإيران والسودان ومصر وأجزاء من جزيرة العرب ...
2التعاون في جزيرة العرب حاليا , وكذلك في تركيا ومصر وشمال أفريقيا ودول وسط آسيا..حيث يوجد في ما تسميه منطقة العمليات الوسطى , والتي تضم العالم العربي ومعظم الإسلامي , أكثر من مليون وتضف المليون جندي أمريكي عدا قوات الحلفاء من الناتو وغيره .
3 - حضورها العسكري المباشر عن طريق القواعد البرية والبحرية والأساطيل التي تحيط بمجموعها بكافة هذه المنطقة وتشكل مع قواعدها الثابتة في قلب العالم العربي والإسلامي احتلالها وسيطرتها في المنطقة .
4- رفع إمكانيات الجيش الإسرائيلي ليكون قوة استراتيجية ضاربة متفوقة شبه وحيدة في المنطقة .
5- تفكيك الجيوش العربية والإسلامية المحيطة بإسرائيل , عن طريق تدميرها كما في العراق أو تفكيكها كما جري لجيوش مصر والأردن وسوريا وغيرها التي تحولت لمهام الأمن لقمع شعوبها .
6- إدخال الجيوش القائمة القوية المتبقية في المنطقة في خدماتها اللوجستية كما يفعل الجيش الباكستاني في ساعة كتابة هذه السطور ليلة 21-3- 2004 في مجازره التي يضرب بها المجاهدين العرب والأوزبك والتركستان و الشيشان ومن آواهم في منطلق قبائل وزيرستان .. وكما تقدم باقي الجيوش التركية وغيرها في المنطقة خدماتها طوعاً أو كرهاً.
•…وفي البعد الأمني :
يمكن تلخيص الإستراتيجية الأمنية لأمريكا في آخر ما وصلت إليه بالنقاط التالية:
1 - نشر الوحدات الأمنية من مختلف أجهزة الإستخبارات والأمن الأمريكية مثل (CIA) و (FBI) وغيرها مما أستحدثته اليوم . بشكل مباشر عبر المكاتب المعلنة الرسمية في العواصم العربية والإسلامية . وعن طريق المكاتب السرية , تحت أغطية مختلفة . وعن طريق الأقسام الأمنية في سفاراتها في المنطقة.
2 - وضع كامل أجهزة استخبارات الأنظمة العربية والإسلامية في المنطقة في خدمتها المباشرة. وتوكيلها بالأعمال القذرة من الاعتقال والتعذيب والقمع والتصفية.(18/388)
3 - وضع القوات الأمنية لعشرات الدول الحليفة المباشرة وغير المباشرة في العالم بأسره في خدمة برنامجها الأمني . وإجبار تلك الدول على تنفيذ برنامجها ولوائحها الأمنية . واعتقال من تشاء وتسليم من تشاء , حتى رغم أنف الحكومات وأجهزتها القضائية حتى بعد تبرئة ساحتهم , كما حصل في اعتقال الجزائريين الستة من المجاهدين العرب في البوسنة بعد تبرئة المحكمة البوسنية لهم! و خطفهم وأخذهم إلى غوانتانامو رغم أنف حكومة البوسنة , ورغم الرأي العام العالمي الأبله المأسور لوسائل الإعلام الصهيونية الدولية !.
4 - عقد الاتفاقيات والأحلاف والمؤتمرات الأمنية الدورية و الطارئة في كل أنحاء الأرض .
5 - إلغاء الملاذات الآمنة للإسلاميين المطاردين من فبل بلادهم أو من قبلها . وإجبار الدول على تسليمهم . أو طردهم لتطاردهم بدورها و تختطفهم .
6 - تجفيف المنابع المالية للجماعات الجهادية وكل مؤسسة إسلامية تعتبرها إرهابية أو داعمة للإرهاب . وذلك في محاولة لإدخال المجاهدين وأسرهم في حلة الجوع والخوف والفاقة . وشل قدرتهم على العمل والحركة .
7 - تدمير القواعد العسكرية المتمركزة , والخطوط الظاهرة لبؤر المقاومة. عن طريق القصف الجوي والصاروخي , أو تكليف قوات عميلة للجيوش أو الميليشيات المحلية بالزحف عليها وتصفيتها .
8 - تصفية رؤوس المقاومة ورموز الجهاديين اغتيالاً وخطفاً.
9 - اعتقال العناصر الجهادية من كل مكان , وتسليمها لأمريكا أو لبلادها أو سجنها محلياً.
10 - ممارسة سياسة( الضربات الاستباقية) وإجهاض الخلايا المفترضة للإرهاب كما يدعون . بحيث تدمر أمريكا وتصفي أي مؤسسة أو شخصية تظنها أو تتهمها بأنها معادية .
11 - إعتماد الردع والإرهاب المعاكس.. باستخدام التكنولوجيا المهيمنة و إمكانيات الدولة العظمى.
12 - تجنيد العملاء في أوساط الإسلاميين وزرعهم في ساحات المقاومة المفترضة.
13 - إطلاق (حرب الأفكار) كما أسماها رامسفيلد , والهدف منها تدمير الخلفيات الفكرية والدينية والثقافية التي تغذي الاستعداد للمقاومة , وزرع مفاهيم الاستسلام للعدو في الأمة بدلا عنها .
( هذا في الإتجاه الهجومي وأما في الاتجاه الدفاعي فيمكن إضافة البنود التالية : )
14 - التوسع في إصدار التشريعات القانونية لمكافحة الإرهاب داخل أمريكا وفي بلاد الحلفاء, بصرف النظر عن الحقوق المدنية وحقوق الإنسان .
15 - استحداث أجهزة أمنية داخلية جديدة وإعطائها وزارة جديدة في أمريكا .
16 - الإحتياطات الدفاعية الداخلية , والإجراآت الأمنية التي تبلغ حد الهوس عندهم . وإجراء المناورات الأمنية على هجومات مفترضة , حتى بأسلحة الدمار الشامل .
17 - الضغط على الجاليات العربية والإسلامية , وحصارها أمنيا واختراقها وتوظيفها.
18 - توظيف المنظمات الدولية والمتفرعة عن الأمم المتحدة في برنامجها لمكافحة الإرهاب , مثل إلزام الدول الأعضاء كافة برفع التقارير عن إنجازاتها في مكافحة الإرهاب , وتقديم كشوف عن مجريات النظام البنكي و حوالات الأمول في بلادها , مع التهديد بالعقوبات للدول المتهاونة .
19 - وأخيرا ما اقترحته الزنجية الشمطاء والحية الرقطاء ( كونديليسا رايس ) من فكرة تشكيل ميليشيات محلية من القوى الصديقة في كل مناطق العالم لتكون ذراع أمريكا المحلية في مكافحة الإرهاب . وذلك لسد العجز الظاهر في القوة البشرية الأمريكية وعجزها عن سد احتياجات الحلم الإمبراطوري .
هذه باختصار ما يمكن تسميته : [ استراتيجية إرهاب الدولة العظمى . القطب العالمي الأوحد : أمريكا] حتى الآن . أخزاهم الجبار المنتقم .
وبها نختم المحاور العامة لهذه الحملات التي تتحرك بنظرية صراع الحضارات , حيث أعلنوا أنهم وضعوا هدف إزالة الحضارة الإسلامية طريقا للبقاء وتوحيد الصفوف . دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 4 / ص 251)
==================(18/389)
(18/390)
هـ - حلفاء أمريكا وعملائها داخل الصف العربي والإسلامي:
وهؤلاء أخطر الحلفاء لأنهم في صفنا الداخلي . ويتكون هذا المعسكر من المرتدين والمنافقين . ويحتوي على الطيف الخبيث التالي ؛ نذكرهم بحسب تدرج أهمية دورهم لصالح العدو:
1 - الأنظمة .. الحاكمة في الدول العربية والإسلامية:
فنتيجة للفساد التاريخي لهذه الأنظمة , وواقعها المرير , وكونها حصرت همها في البقاء في السلطة بأي ثمن , فقد أصبحت ألعوبة بأيدي الإدارة الأمريكية . وليس هنا مجال الاستفاضة في شرح مناحي فساد هذه الأنظمة وعمالتها للأعداء , فذلك يطول وهو مشتهر على كل حال . وباختصار نقول لقد رهنت هذه الأنظمة إرادتها وتصرفاتها بإرادة أعداء الإسلام , ولاسيما أمريكا . ففتحت لهم أراضيها برا وبحرا وجوا , يقيمون فيها القواعد , وينطلقون منها لحرب المسلمين وإبادتهم . وأمدتهم بالنفط والطاقة لإدارة آلتهم الحربية , وضخت ثروات المسلمين في خزائنهم و بنوكهم . وجعلت أجهزتها الأمنية واستخباراتها وسجونها روعا قذرة لخدمة مخططات أمريكا في حرب الإسلام والمسلمين وطليعتهم المجاهدة المقاومة . ووقفت معها باختصار بكل أجهزتها السياسية والعسكرية وسواها , ضد شعوبها ورغما عنهم . ولم تسمح لتلك الشعوب , بممارسة أي نصرة لقضاياهم , ولإخوانهم المسلمين . وحرمتهم حتي من أبسط أشكال الاعتراض والتعبير عن رأيهم في كل هذا الظلم والظلمات .
2- المنافقون من علماء السلطان وفقهاء الاستعمار والفاسدون من قيادات الصحوة الإسلامية:
يمثل هذا الفريق باختصار السياج الشرعي الذي يسبغ الشرعية على كل ما يلاقيه المسلمون من ظلم وعنت . بدءا من أم البلايا , وهي حكمهم بشرائع أعدائهم بغير ما أنزل الله , وانتهاء بإسباغ الشرعية على احتلال بلاد المسلمين واعتبار عساكر الأعداء مأمنين لا يجوز شرعا الاعتداء عليهم , ومرورا بدعم مشاريع التطبيع مع اليهود , وأخيرا وليس آخرا التحرك بكل جد وحماس في برامج أمريكا لحرب الأفكار . لمكافحة المسلمين والمجاهدين والمقاومين شرعيا باسم الدين , وفكريا باسم الإسلام . لسحب الشرعية عن الجهاد والمقاومة , بعد أن أسبغوها على الإحتلال وأحلافه من الحكام المرتدين . وقد سبق في فصول الكتاب عن هذا ما يغني عن التكرار هنا . وأخطر ذلك وأشده إجراما برامجهم البعيدة المدى للتأصيل لتحريف الدين , وإعادة تقديمه وفق المواصفات الأمريكية لمكافحة الإرهاب . التي تعتبر أصل ذلك يبدأ من نصوص القرآن والسنة وتراث الأمة التي أجمعت عليه عبر القرون من الحاكمية والولاء والبراء وأسس التوحيد .
3- الأقليات العرقية والدينية في العالم العربي والإسلامي:
استطاعت أمريكا , مستفيدة من تراكمات المشاكل والظلم الذي وقع على كثير من الأقليات , مثلها مثل باقي شرائح الأمة من جهة . ومن تراكمات الأحقاد التاريخية بغير حق لدى بعض الأقليات في الكثير من الحالات الأخرى , استطاعت أن تشكل رأس الحربة العسكرية والسياسية التي تتحرك على الأرض بشكل متناسق مع قوات أمريكا وحلفائها , كما حصل من الأقليات الفرسوانية والتركستانية والشيعة الهزارة أثناء غزوها لأفغانستان . وكما حصل باستخدامها الأكراد وسواهم من الأقليات أثناء غزوها للعراق.. وكما تجهزهم ليتحركوا اليوم في سوريا وتركيا وإيران . وكما يحصل من القوى المسيحية الصليبية السياسية والعسكرية في لبنان.. وكما تحاول فرنسا وأمريكا تحريك النعرات القومية البربرية في شمال أفريقيا... وهكذا دواليك , كما تحاول أن تلعب على وتر القنبلة الموقوتة بين السنة والشيعة في منطقة الشرق الأوسط ولاسيما في الخليج والشام . حيث وفر الجهل حينا والأحقاد التاريخية حينا آخر فرصة لها لتدمير وحدة الأمة من داخلها وهو أهم عوامل نصرها في هذه المواجهة , بعد أن وفر القوميون العرب , والشعوبيون المتعصبون من الأقليات من العلمانيين مادة هذا السم القاتل لتمزيق شمل الأمة عبر عقود متعاقبة .
4 - المهاجرون المستغربون من أصحاب الجنسيات المزدوجة والولاء الأمريكي:(18/391)
وهذه الشريحة من التكنوقراط وحملة الشهادات العلمية والدراسات العالية.. من أهم وأخطر الشرائح. فقد نشأت هذه الطبقة من المهاجرين وأبناء المهاجرين من الجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا بسبب الظروف السياسية والاقتصادية في العالم العربي والإسلامي.. وقد تلقفت أجهزة الاستخبارات الغربية عشرات الآلاف من هؤلاء وأبنائهم واختارت فهم من سيكونون رجال السياسة والقيادة في شتى المناحي في بلادهم.. ومن أوضح النماذج على هؤلاء أمثال رجل الأعمال والنفط الأفغاني البشتوني الأمريكي الجنسية ( حامد كرزاي) رئيس أفغانستان المهاجر إلى أمريكا و(... وزاده) سفير أمريكا الأفغاني - الفرسواني الأصل , الأمريكي الجنسية أيضا , وهو مهندس (مؤتمر بون) الذي رسم مخطط احتلال أفغانستان سياسياً. ومثل كبار المعارضين العراقيين من أمثال اللص الدولي المحترف (أحمد الجلبي) , ورفاقه الآخرين مثل (العلاوي) و(بحر العلوم) وغيرهم من الذين قضوا شطر عمرهم في أمريكا والغرب. ومنهم اليوم المعارضين الليبيين وكبار رموزهم في أمريكا . وكذلك المعارضة السورية والإيرانية .. التي تصنع على عجل اليوم في أمريكا..والنماذج كثيرة بعد أن وفرت أنظمة الظلم والإستبداد جاليات من المسلمين بعشرات الملايين في بلاد الغرب منذ قامت هذه الأنظمة . والبرنامج أصبح واضحاً مكروراً معروفاً ورجاله وأدواته كذلك.
5- العملاء المتأمركون من التيار العلماني داخل العالم العربي والإسلامي :
أفرز الهجوم السياسي الأمريكي على العالم العربي والإسلامي تحت زعم الإصلاح والديمقراطية نوعا من المعارضات السياسية التي تبنت مشاريع الديمقراطية والإصلاح السياسي الأمريكي, من العلمانيين المستغربين , أو المتأمركين بالأحرى الذين يرحبون صراحة ودون أي مواربة باستنساخ النموذج الأمريكي لنظم الحياة بأي طريقة ولو كانت على الدبابة الأمريكية بحسب النموذج العراقي . وقد استأسد هؤلاء المعارضون حتى على الأنظمة السياسية المنغلقة كما في مصر ودول الخليج وغيرها بعد أن لمسوا الحماية الأمريكية وخور الأنظمة التي تعد أيامها المتبقية ! وهذا الصنف مع سابقه هم الذين تعدهم أمريكا لحكمنا في مرحلة ما بعد زوال الأنظمة الحالية .
6 - طبقة المنتفعين من الإستعمار ماديا من كبار رجال المال والأعمال في بلادنا:
تنشأ مع هذا الهجوم الأمريكي الشامل اليوم , والذي يتضمن مشاريع مؤامرة اقتصادية كبرى , طبقة من التجار وأصحاب رؤوس الأموال في العالم العربي والإسلامي. من الذين يدخلون شركاء في المشروع الاستعماري الأمريكي عبر مخططات الشراكة .. والمناطق الحرة.. والمشاريع الإقتصادية الأمريكية والغربية الكبرى. وغالب هؤلاء من رجال السلطة والسياسة , ورؤساء المجتمعات العربية والإسلامية , من رؤساء القبائل أو الإقطاعيين , أو الرأسماليين الذين تتناسب و تتداخل مصالحهم مع أهداف ومصالح المشروع الأمريكي في أسموه الشرق الأوسط الكبير.
7 - الطبقة المنحلة الفاسدة من فساق عوام المسلمين :
وأكثر هؤلاء من الشرائح الشعبية في عامة الأمة العربية والإسلامية , من الممسوخين فكرياً والمهزومين حضارياً , الذين ربطوا عقولهم بمنابع البث الفكري والثقافي لأجهزة الإعلام الأمريكية والغربية, وتربوا على برامج (الفيديو كلوب ) و( ستار أكاد مي ) و فضائية (روتانا) وأمثالها ... حيث تهتم القوى الاستعمارية برسم مخططات تغريب كبرى لتوسيع هذه الشريحة عن طريق افتتاح الجامعات والمراكز العلمية والثقافية والبعثات إلى أمريكا لمدد طويلة لتأهيل كادر عميل كاهل علمياً وفكرياً وثقافياً.ليكون منهم جمهور المصفقين في حفلة الزار الأمريكية التي تدق طبولها في طول بلادنا وعرضها اليوم . دعوة المقاومة الإسلامية العالمية - (ج 4 / ص 270)
==============(18/392)
(18/393)
أمريكا ومشروع التقسيم في العراق
موسوعة الخطب والدروس - (ج 123 / ص 1)
هواجس أم تصميم
محمد الزواوي
كما دخلت الإدارة الأمريكية في أزمة جديدة بعد المواجهة الإيرانية في مجلس الأمن، مع تملُّك إيران لجزء كبير من مفاتيح اللعبة في العراق، وبات ظاهر الوجود الأمريكي في العراق أنه يمثل مأزقاً للإدارة الأمريكية، وأنها دخلت مستنقعاً لا تستطيع الخروج منه، وأن الوضع ينتقل من سيئ إلى أسوأ، ولكن مسؤولي التخطيط الاستراتيجي في الإدارة الأمريكية يرون عكس ذلك.
فالاستراتيجيون ينظرون إلى العالم بخرائطه كنقاط مضيئة من النفط والذهب والموارد والمصادر الطبيعية، ثم بعد ذلك ينظرون إلى تلك الأراضي وسكانها وسبل السيطرة عليهم، وينظرون إلى الاختلافات العرقية والمذهبية والقبلية وكيفية استغلالها سواء بالتحريش بينهم أو نصرة طرف على الآخر، أو عن طريق السيطرة على الأطراف معاً. ولا أعتقد أن الاستراتيجيين الأمريكيين يرون نقطة أكثر إضاءة على الخريطة من شمال العراق الغني بالموارد الطبيعية.
فشمال العراق من أغنى مناطق العالم بالثروة النفطية، مثل آبار الموصل وكركوك وخانقين، وتقدر كمية المخزون الاحتياطي
المسلمون والعالم ـ أمريكا ومشروع التقسيم في العراق هواجس أم تصميم؟
للسنة الرابعة للحرب على العراق وسقوط بغداد، وما يزال القادة العسكريون الأمريكيون يطالعوننا بتصريحات يؤكدون فيها على عدة أشياء: لا لتقسيم العراق، لا للقواعد الأمريكية الدائمة، لا للانسحاب السريع قبل تجهيز الجيش العراقي، لا للتخفيض الكبير لعدد الجيش الأمريكي بالعراق. ولكن من ينظر إلى الأوضاع على الأرض يعلم أن الولايات المتحدة لن تستطيع المضي قُدُماً في وجودها بالعراق على هذا الوضع المضني والمرهق لجيشها، في ظل انحسار الدعم الشعبي بالداخل الأمريكي، والروح المعنوية المتدنية للجنود الذين لا يرون نوراً في نهاية النفق المظلم.
لحقول النفط في كركوك وحدها بأكثر من 10 مليارات برميل، بقدرة إنتاجية تصل إلى ما مقداره 750 ألف برميل إلى مليون برميل يومياً، وفي عام 2002م كان خط الأنابيب ينقل نحو مليون برميل من النفط الخام يومياً من حقول كركوك النفطية إلى ميناء جيهان التركي، كما كان الاستيلاء على مدينة كركوك من أهم أهداف قوات الاحتلال الأمريكي بمشاركة الميليشيات الكردية منذ بدء العمليات العسكرية في شمال العراق.
كما يوجد العديد من الأنهار ومصادر المياه العذبة التي تعد محورية وهامة لكل دول المنطقة، ويتوقع أن تكون مصدراً للصراع في القرن الحالي، كما تحوي المنطقة العديد من الثروات الأخرى مثل النحاس والكبريت والكروم والملح، كما أن شمال العراق الذي يسيطر عليه الأكراد يمثل فراغاً استراتيجياً كبيراً للإدارة الأمريكية من الحماقة ألا تسيطر عليه؛ فالأكراد يقبعون وسط محيط معاد من تركيا وإيران وسورية، وسيرحبون بشدة بأن يدخلوا في «الحماية الأمريكية»، وهو ما خططت له الإدارة الأمريكية منذ البداية.
وقد أشار العديد من المراقبين والمحللين إلى أن الإدارة الأمريكية «فشلت في التخطيط لمرحلة ما بعد غزو العراق»، ولكن الأيام أثبتت أن هذا منافٍ للحقيقة؛ فالولايات المتحدة خططت تحديداً لهذه المرحلة وبكل دقة وتصميم، واستطاعت الوصول إلى هدفها الأسمى في العراق بعد احتلالها، هذا الهدف هو إيجاد مناخ من الفوضى وَضَعَ بيئةً يكون الكل فيها خاسراً في العراق، من انتشار الفوضى والسلاح واليأس بين جميع أطراف المعادلة العراقية. وليس خافياً على ذي لُبٍّ المصلحة الأمريكية في تدمير الأضرحة والمزارات الشيعية؛ فهذا هو المناخ المناسب لإشعال حرب أهلية في العراق، هذه الحرب التي من شأنها تعميق فكرة انفصال تلك الأطراف بعضها عن بعض، وتحقيق حكم ذاتي لكل من السنة والشيعة والأكراد، ومن هذه النقطة سوف تبدأ الإدارة الأمريكية في الدخول في المرحلة الجديدة، في دويلات ما بعد العراق.
فتقسيم العراق سيكون بمنزلة طوق النجاة للإدارة الأمريكية في العراق؛ وقد لا يكون هناك ترحيب بالقوات الأمريكية في المناطق السنية، أو حتى في المناطق الشيعية بسبب المواجهة النووية مع إيران والأبعاد الاستراتيجية الأخرى للمد الفارسي في المنطقة، وسمعة إيران والشيعة في العالم الإسلامي على المدى البعيد. وفي ظل وجود تركيا وإيران وسورية الذين يعارضون وجود دولة كردية، فسوف تكون الولايات المتحدة هي خير نصير «للمظلوم الضعيف المضطهد الشعب الكردي» الذي يطالب بحق من حقوق الإنسان، ألا وهو «حق تقرير المصير، وحق الانفصال» كما حدث في تيمور الشرقية التي انفصلت عن إندونيسيا بنفطها ومواردها، وسنغافورة التي انفصلت عن ماليزيا بحق تقرير المصير، وسترحب أمريكا بوجود قواعد دائمة لها في المنطقة الكردية بشمال العراق، كما أن الأرقام تؤكد أن المنطقة الكردية هي أكثر مناطق العراق أمناً للأمريكان، وتشهد المنطقة أقل العمليات العسكرية ضد الاحتلال ووجوده بالعراق.(18/394)
وخُطَطُ تقسيم العراق ليست وليدة اليوم أو العام الماضي أو حتى الأيام التي سبقت غزو العراق، ولكن تقسيم العراق كان مطروحاً على الأجندة الأمريكية منذ عهد طويل، ومنذ صدور وثيقةClean B r eak الشهيرة عام 1996 التي كانت تهدف إلى تأمين «الدولة الصهيونية»، كما نادى بتقسيم العراق العديد من المفكرين والمؤرخين الصهاينة، أمثال (بيني موريس) و (روبرت بلاكويل) و (برنارد لويس) وغيرهم كثير، والذين كانوا يطالبون بتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه بريطانيا عندما كانت تحتل العراق؛ فقد صرح المؤرخ الصهيوني (بيني موريس) في عدد من الإذاعات الأمريكية قبيل الحرب على العراق أن «العراق دولة مصطنعة رسمها الإنجليز وخلطوا فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها». كما اعتبر المؤرخ اليهودي الأمريكي (برنارد لويس) العراق دولة مصطنعة، وأن احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، بإعادة تقسيمه عرقياً وطائفياً.
كما اتخذت الولايات المتحدة خطوات أخرى من أجل تحقيق هدفها في تقسيم العراق، بالرغم من أن كل التصريحات العلنية من الإدارة الأمريكية كانت تنفي تقسيم العراق، وأن أمريكا تريد الحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه، ولكن الدستور العراقي الجديد الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر 2005م ليجسد مفهوم التقسيم من خلال تسمية الدولة بالدولة الاتحادية أو الفيدرالية، قد جاءت عبارة (اتحادي) 61 مرة في هذا الدستور، كما فرق ما بين الدستور الاتحادي ودستور الأقاليم، بالرغم من تأكيده على عدة عبارات مثل: الهوية الإسلامية، والحفاظ على سلامة أراضي العراق، والالتزام بميثاق الجامعة العربية، إلى آخر هذا الكلام الذي لا يهم أمريكا في شيء؛ فما كان يهم الولايات المتحدة فيه هو عبارة واحدة فقط: وهي أنه دستور اتحادي؛ مما يجعل الباب مفتوحاً أمام الانفصال بعد أن تتشكل هوية كل «اتحاد» وإقليم على حدة، وصياغته لقوانين وتنظيمات خاصة به وبإدارة ثرواته.
كما يحمل هذا الدستور في طياته بذور الفرقة والخلاف، بأن وضع بعض العبارات غير الواضحة من أجل أن تكون هناك مقدرة على إشعال الخلافات في أي وقت، مثل تلك الفقرة في المادة (109) التي تقول: «تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة؛ على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قِبَل النظام السابق والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمِّن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون»، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الأكراد بالمطالبة بما يرون من حصة تعويضاً لهم وإنصافاً لشعبهم، وهو ما يمكن أن يكون فتيل أزمة في أي وقت من الأوقات.
وكافة التقارير تشير إلى وجود حالة من الرغبة الكردية الشعبية في الانفصال، ويظهر ذلك من خلال تصريحات كافة الأكراد حول العالم الذين يطالبون بحقهم في تقرير المصير والعيش في ظل دولة بثقافة ولغة كردية خاصة بهم، ويقولون إنهم لديهم كافة مقومات وجود الدولة؛ ولكنهم نسوا الإشارة إلى أن اللبنة الأخيرة في تلك الدولة الكردية أنه يجب أن تكون الحماية الأمريكية لهم، والذي لن يكون بلا مقابل بالطبع؛ وبذلك ستستطيع أمريكا أن تفرض إملاءاتها على الدولة الكردية، وستقوم شركات السلاح الأمريكية بإنشاء خطوط إنتاج كاملة لتوفير حاجات الدولة الناشئة التي تقع في بيئة معادية، كما أن «الدولة الصهيونية» لن تكون بعيدة عن تلك المعادلة.
فالكيان الصهيوني من أكبر المستفيدين من وجود دولة كردية في تلك المنطقة، كما أشارت صحيفة (هآرتس الصهيونية) بتاريخ 16/5/2005 أن هناك أنبوباً نفطياً مقترحاً سينقل النفط من كركوك والموصل إلى ميناء حيفا عبر الأردن، وطلب مسؤول كبير في البنتاجون من وزارة الخارجية الأمريكية بحث تكلفة ضخ النفط من كركوك إلى حيفا، وترميم خط النفط الذي كان يستعمل قبل عام 1948 في نقل النفط، وصرح مسؤول صهيوني أن القرار ينتظر موافقة الأردن، الذي سيحصل على حصة مقابل اختراق الأنبوب لأراضيه.
كما ستنتظر «الدولة العبرية» أول ضربة من مِعْوَل التقسيم الذي سوف يحدث شرخاً عميقاً في المنطقة العربية، هذا الشرخ الذي سيمتد إلى دول الجوار وربما إلى كافة دول المنطقة، وسيظل هذا الشرخ يتشعب ويتسع ويؤدي إلى تمحور دول واستقطاب كيانات بناء على ضربة المعول الأولى تلك، مما سيغير من الصورة التي عليها المنطقة العربية في عالم اليوم، بوجود دولة أخرى شيعية من ورائها مد فارسي، مما سيجعل المواجهة حتمية بين السنة والشيعة، وهو المطلب الأسمى لأمريكا و «الصهاينة»، كما كانت الحرب العراقية الإيرانية هي الأوزة التي تبيض ذهباً للإدارة الأمريكية، وكان (رامسفيلد) ذاته هو الممول الرئيس لتلك الحرب بالأسلحة الكيماوية وغير التقليدية.(18/395)
ويمكن لأمريكا في هذا الوقت أن تظل على الحياد، وأن يكون أملها هو حماية تلك الدولة الكردية المستضعفة، كما سوف تستطيع الولايات المتحدة أن تهدئ مخاوف الأقطاب العالمية الأخرى، مثل الصين التي تعتمد على النفط الإيراني والذي سيظل يتدفق بلا توقف، وسوف تظل أمريكا حريصة على إرضاء كافة الدول الكبرى التي سترضى بقسمة من الكعكة العراقية، وعلى مستوى شعوب العالم ستكون لأمريكا «قضية أخلاقية» أخرى، غير تلك الخاصة «بتحرير الشعب العراقي»، فتلك القضية سوف تصبح إعانة الشعب الكردي الصديق على نيل استقلاله وحق تقرير مصيره.
وقد بدأ التحضير الإعلامي الأمريكي والبريطاني لقضية التقسيم منذ وقت طويل، ومؤخراً كتبت (جاريث ستانسفيلد) في «الصنداي تيليجراف» البريطانية مقالاً صباح الأحد 19 مارس 2006 بعنوان: «هل ينقذ التقسيم العراق من نُذُر حرب أهلية؟» تقول فيه: «ومهما كانت الأسباب؛ فما من شك في حرج الموقف الذي يقف فيه العراق الآن. وبالرغم من الجدل الدائر بين السياسيين والأكاديميين بشأن ما إذا كانت هناك حرب أهلية تدور في العراق بالفعل، فإن الحقيقة هي أن العنف يظل موجوداً، ولا يزال هناك قدر كبير من الأمل بين عامة العراقيين»، وهذا الأمل فيما تراه هو التقسيم.
وكتبت الصحيفة ذاتها خبراً ينقل عن (رامسفيلد) قوله: «نحن نحاول معرفة ماذا سنفعل إذا سقط العراق في دوامة حرب أهلية»، ثم يضيف: «مجتمع الاستخبارات يفكر بشأن هذا ويحلله». وبالطبع فإن مجتمع الاستخبارات هذا لم يبدأ اليوم ولا أمس، ولكنه بدأ منذ وقت مبكر للغاية، قبل غزو العراق بعدة سنوات، وتم تتويجه بمباحثات سرية مع الجانب الإيراني، وقد خرجت الكثير من التصريحات الإيرانية التي تصب في هذا الاتجاه أيضاً على لسان (عبد العزيز الحكيم الطبطبائي) وغيره، وقد صرح المذكور في 11 أغسطس 2005 في خطابه بمدينة النجف بمطالبته بإقامة إقليم فيدرالي يضم جنوب ووسط العراق.
ولا ريب أن أمريكا تدرس الآن كافة الحلول والخيارات الممكنة مع إيران؛ فما كان إرسال الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن إلا مقدمة للضغط على إيران قبل إجراء أي مفاوضات بشأن العراق، وربما تضغط أمريكا على إيران بأن تجمد الأخيرة برنامجها النووي نظير سماح أمريكا بقيام دولة شيعية في العراق المقسَّم، ونظير السماح لإيران أيضاً باستمرارها في ضخ النفط وتصديره إلى الصين، وبهذا تكون أمريكا قد ضربت عصفورين بحجر واحد: تجميد النووي الإيراني، وبسط نفوذها العسكري على المنطقة من خلال الدولة الكردية، وإرضاء الصين أحد أهم الأقطاب العالمية.
ويبدو أن الجانب الإيراني قد وصلته الرسالة الأمريكية من خلال الاجتماعات السرية بينهما؛ فقد صرح السفير الإيراني في أنقرة (فيروز دولت أبادي) لصحيفة «ميلليت» التركية بتاريخ 5 أبريل 2006 أن هدف الولايات المتحدة من مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتأسيس دول عرقية صغيرة تخضع للسيطرة الأمريكية، وأوضح السفير الإيراني أن مشروع كردستان الكبير تم طرحه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن السياسات الرامية لتنفيذ هذا المشروع «لا تزال سارية حتى الآن»، وأضاف أن أمريكا تتحرك لإقامة دولة كردية مستقلة على أن تقوم بعد ذلك باستقطاع جزء من الأراضي التركية والإيرانية لضمها لهذه الدولة.
كما أن أمريكا لن تجد فرصة لتأديب سورية أفضل من إقامة الدولة الكردية في المنطقة، كما أن تأليب أكراد سورية سيكون من أهم وسائل زعزعة النظام في البلاد، ولن تعدم أمريكا «جلبي» آخر، كردياً سورياً هذه المرة ليكون رأس الحربة في المنفى لزعزعة النظام، أو استغلال الآخرين لتحقيق مصالحها التي بدأت أبعادها تتضح في المنطقة. وسيكون لدى أمريكا العديد من الخيارات الاستراتيجية لتضخيم وتعزيز تلك الدولة الكردية التي ستنشأ عملاقة بعد الدعم الأمريكي لها وبسبب مصادرها الطبيعية الهائلة، وستكون بمثابة الدولة الأم: داعمة لكافة الأكراد في دول الجوار.
أما تركيا والتي صرحت مراراً وتكراراً بأنها لن تسمح بقيام دولة كردية في المنطقة فلن تستطيع مواجهة دولة تدعمها الولايات المتحدة دعماً مباشراً، كما أن الولايات المتحدة من خلال قنواتها الدبلوماسية تمتلك ورقة دخول تركيا للاتحاد الأوروبي؛ فهي كدولة رائدة في حلف شمال الأطلنطي «الناتو» تمتلك زمام دول أوروبا، ولا يخرج عن فلك أمريكا سوى فرنسا وألمانيا، وتستطيع طمأنة مخاوف تركيا بأنها لن تسمح للأكراد بانتزاع شبر من أراضيها، كما ستغض أمريكا الطَّرْف عن أية عمليات قمعية للجيش التركي لتطهير أراضيها من الأكراد الذين سيفرون إلى الدولة الجديدة، وبذلك تنعم تركيا ـ ولو مؤقتاً ـ بأمن قومي داخلي خالٍ من الانفصاليين الأكراد.(18/396)
وربما تمتلك أمريكا الكثير من أوراق اللعبة في المنطقة بوضع أقدامها في أفغانستان والعراق، من خلال قواعد عسكرية وجوية في الخليج العربي وتركيا، وكلها نقاط تماس تستطيع أمريكا استغلالها استراتيجياً بصورة جيدة، سواء كان ذلك وسيلة للضغط، أو حتى وسيلة لإلهاب المنطقة في حالة حدوث أي مواجهة عسكرية مع إيران، مثل قيام «الدولة الصهيونية» بقصف المفاعلات الإيرانية بمساعدة أمريكية؛ فأمريكا تستطيع تأليب تركيا والخليج العربي كله على إيران في حالة قصف إيران لأي من القواعد العسكرية في تركيا أو الخليج، مما سيجعل الجميع يفكرون ألف مرة قبل الدخول في خيار عسكري مع الولايات المتحدة.
إن الولايات المتحدة تسير بخطى ثابتة تجاه إنشاء الدولة الكردية في المنطقة، وتنتظر ضربة المعول الأولى لتقسيم العراق ورفع علم كردستان لتشكيل ما يمكن وصفه بـ «إسرائيل الثانية». ولا يزال المجتمع المخابراتي والاستراتيجي وقوافل التضليل الإعلامي يعملون على تحقيق هذا الهدف بأجندة واضحة تمضي بخطى متأنية، وبأساليب مغرقة في الخداع الاستراتيجي، وبتصريحات علنية ترفض أفكار التقسيم والقواعد على لسانَيْ وزير الدفاع ووزيرة الخارجية، بل على لسان الرئيس الأمريكي ذاته، الذي لا يزال يلعب باقتدار دور الببغاء الأبله الذي يقف على قمة جبل الجليد الأمريكي الذي لا يظهر منه شيء إلا قمته وفوقها هذا الببغاء الملون، الذي ينقل تلك الخطابات التي تُطلب منه لتوصيل رسائل تضليلية بعينها، والذي لا يفتأ يؤكد على ما يُطلَب منه تأكيده.
وتسير المخططات الأمريكية في المنطقة على وعي وإدراك تام من جانب إيران وتركيا وربما سورية أيضاً، ولكن يظل البعد العربي غائباً عن تلك المعادلة بسبب طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد العربية، ولا تزال المنطقة تغط في سبات عميق، حالة من النوم الإرادية أو الإجبارية، ولكنها لا تزال حالة سبات عميق، وتغافل تام عن أهم قضايا الأمن القومي العربي، وملاحقة للأهداف الشخصية والإقليمية وتغليب الخلافات البينية على المصلحة العليا للأمة العربية والإسلامية، في ظل حالة من التصفيق الحاد والانحناء إعجاباً وإكباراً بسياسات (بوش) التي تحرِّم سحب القوات الأمريكية من العراق بدعوى أن ذلك سيمثل خطراً على الأمة العربية، و «سيخلق حالة من الفوضى في المنطقة
===========(18/397)
(18/398)
عندما تذهب السكرة ... وتجيء الفكرة
موسوعة الخطب والدروس - (ج / ص 1)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فقد فجَّر العدوان اليهودي على أرض لبنان المسلمة عدداً من القضايا والتساؤلات والاختلافات على ساحات مختلفة، لكون هذا العدوان جاء من طرف متفَق على عداوته ووجوب محاربته، بينما جاءت المواجهة من طرف مختلَف عليه من حيث أمانته على مصالح الأمة العامة، وتزايد الشكوك حول أجندته الخاصة.
وربما يظل هذا الاختلاف قائماً لأمد غير قريب، حتى تُظهر الأحداث الواقعة على الأرض، ما تخفيه الخطط والتدابير، مما هو مغيَّب مستور؛ فهذا شأن الفتن: إذا أقبلت لا يعرفها إلا العقلاء، وإذا أدبرت عرفها كل الناس. والفتنة هنا تتلخص في أن (حزب الله) هو صناعة إيرانية خالصة في أهدافها ووسائلها وإمكانياتها، ولا يكاد يجادل في ذلك إلا مكابر. وقد أدرك العارفون من خاصة وعامة أن الدولة الإيرانية لم تكن يوماً أمينة على مصالح الأمة بشكل عام؛ فالأمانة لا تتجزأ ولا يمكن أن تُخلِص إيران للأمة في لبنان بينما هي تخونها في العراق وأفغانستان، ولا يمكن في الوقت نفسه أن يقاتل الإيرانيون أعداء الأمه - لصالح الأمة - في لبنان، بينما يقاتلون إلى جوار أعدائها في العراق وأفغانستان.
ومما زاد في الفتنة والالتباس أن ما يعرف بـ (المقاومة اللبنانية) اليوم، هي نفسها التي زرعتها إيران وأحلَّتها محل المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان بدءاً من عام 1982م، وشارك الشيعة من خلال (منظمة أمل الشيعية) في حرب المخيمات ومجازر صبرا وشاتيلا، في محاربة الفلسطينيين واقتلاعهم من الجنوب اللبناني بالتحالف مع النصارى والنصيريين الذين يحكمون سورية. واليوم يرفع شيعة لبنان شعار (تحرير جنوب لبنان) على أنقاض شعار (تحرير كل فلسطين) الذي أُنهِيَ بإخراج المقاومة الفلسطينية (حركة فتح) من الجنوب اللبناني بعد تشتيتها في تونس واليمن والسودان؛ حيث لم تعد بعدها إلا رافعة الراية البيضاء مكان راية النضال والفداء، سالكة دروب الاستسلام من مدريد إلى أوسلو. ولم يكن هذا الدور التآمري الواضح ضد الفلسطينيين بالاشتراك مع اليهود والنصارى والنصيرية؛ إلا لقطع الطريق على المشروع الجهادي الفلسطيني السُني، لحساب المشروع اللبناني الشيعي، ليبقى الشيعة في واجهة القضية الإسلامية الكبرى في عالم اليوم، وهي قضية فلسطين. لكن أقدار الله ـ تعالى ـ جاءت على عكس ما يشتهي المتآمرون؛ حيث انبعثت من داخل فلسطين مقاومة جديدة سنية، مارست خلالها منظمة حماس مقاومة حقيقية تحت راية نقية لا تتخفى وراء تقية أو أجندة خفية.
وللحقيقة فإن اختلاف الناس في شأن الحرب التي اندلعت بين دولة اليهود المعتدية وبين (حزب الله) لم يأت من فراغ... فالمتعاطفون معذورون؛ لأنهم لم يروا من كل الدول المحيطة بدولة الأعداء الصهاينة من ينكي فيهم بهذا الشكل من الإقدام والجرأة رغم ما لدول المواجهة تلك من جيوش جرارة على الحدود، تقف وراءها جيوش جرارة أخرى خلف الحدود، لها من الإمكانيات الإضافية ما كان يكفي للتنكيل بهذا العدو الجبان على مدى أكثر من خمسين عاماً أضعاف أضعاف ما حدث على أيدي المقاتلين من شيعة لبنان رغم ضعف قوتهم وضعف معداتهم مقارنه بقوات ومعدات تلك الجيوش.
3 أما المحذِّرون المتحفظون فهم يرفضون ابتداءً الطغيان الصهيو أمريكي في المنطقة، ويدركون أبعاد مشروع الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد، ويوجبون مقاومته بكل ألوان المقاومة، ويفرحون بكل نكاية تثخن العدو وتزيد من جراحه وآلامه؛ ويرفضون أيضاً استهداف لبنان بالتدمير الوحشي الذي أهلك الحرث والنسل، كما يرفضون سلبية الأنظمة العربية وعجزها.
3 وهؤلاء المحذرون المتحفظون لديهم قناعة راسخة بطغيان اليهود واستكبارهم ونقضهم للعهود والمواثيق، ويدركون أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الأعداء؛ فالضعفاء والعجزة لا مكان لهم في ظل شريعة الغاب.
3 ومع تحذيرهم من الانسياق الكامل وراء العواطف والظواهر فإنهم معذورون؛ لأنهم لم يستطيعوا تجاهل الحقيقة القائلة بأن دماء مئة ألف من أهل السنة التي تراق في العراق على أيدي أولياء إيران في العراق لم تلقَ أي إدانة من أولياء إيران في لبنان.
3 وهم معذورون كذلك عندما يرون أن هناك مزايدة واضحة على المجاهدين الحقيقيين المخلصين للأمة سواء كانوا في فلسطين أو العراق أو أفغانستان؛ فبينما كان موقف المقاومة اللبنانية الشيعية مخزياً من المقاومة الإسلامية في العراق حتى قال (نصر الله) عنهم إنهم (صداميون تكفيريون)؛ فإنه أيضاً - أي نصر الله وأتباعه - لم يُعرَف لهم موقف تضامني واضح من المقاومة الفلسطينية غير الشعارات والتصريحات التي قصارى ما تفعله في النهاية أن تصور المقاومة اللبنانية على أنها هي القدوة والمثل الأعلى للمقاومة الفلسطينية، كما ردد زعيم (حزب الله) غير مرة.(18/399)
3 والمحذِّرون المتحفظون معذورون أيضاً وهم يرون أن (النعرات الطائفية) التي ينادي بعضهم بعدم إثارتها مع (إخوانهم الشيعة) لم يثرها إلا هؤلاء المتشيعون، ليس بالكلمات والتصريحات فقط، وإنما بالاغتيالات والتحرشات والتحالفات مع كل الأعداء ضد مخالفيهم في الفكر والمذهب، دون أن تكون هناك أي مبادرة لإيقاف هذه النعرات من إيران، ولا ممن يأتمر بأمر إيران.
3 والمحذرون المتحفظون معذورون كذلك وهم يرون خيوطاً واضحة تربط بين توقيت ما حدث في لبنان، مع توقيت ما يحدث في العراق ولبنان؛ حيث غطت غيوم تلك الحرب على أخطر ملفات المرحلة الراهنة وهي ملف اغتيال الحريري والملف النووي الإيراني وملف (التطهير) العرقي في العراق، وكلها ملفات تصب فقط في مصلحة الطائفة الشيعية إماميةً كانت أو علوية (نصيرية).
3 والمحذِّرون المتحفظون أيضاً معذورون وهم يشاهدون ويسمعون ويفهمون بما يصل إلى اليقين، أن منظومة الفكر الشيعي هي منظومة مناوئة لأهل الحق في الأمة بدءاً من أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وحفصة وغيرهم من عموم الصحابة رجالاً ونساءً ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ إلى حد تكفيرهم والمناداة بالبراءة منهم ومن تابعيهم، ومن سار على نهجهم من أهل السنة في كل مكان بزعم أنهم (النواصب) أعداء أهل البيت، مع التوعد الشديد والأكيد بالثأر والانتقام منهم رجالاً ونساءً، أمواتاً وأحياءً... هذه المنظومة الفكرية المنحرفة بل الموغلة في الانحراف والابتعاد هي هي... نعم! هي هي المنظومة الفكرية نفسها التي يدين بها ويعمل لها شيعة اليوم ومن ضمنهم منسوبو (حزب الله)، هؤلاء الذين اختطفوا لأنفسهم تسمية قرآنية، حسم القرآن أوصاف حامليها، ملخصاً إياها في قول الله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56].
فالذين (يتولون) الله ورسوله والذين آمنوا - وعلى رأسهم الصحابة - هم حزب الله، ولا يمكن أن ينطبق وصف (حزب الله) على الذين (يتبرؤون) من الذين آمنوا وعلى رأسهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ هذا منطق القرآن الذي لا يُقْبَل تجاوزه او الجدال فيه.
3 والمحذِّرون المتحفظون يخافون على الأمة من أن يتحول الانبهار بـ (بطولات ما يعرف بـ «حزب الله») إلى انبهار بالمنظومة الفكرية التي يتبناها ويعمل لحسابها هذا الحزب؛ وفي هذا ما فيه من خطر يعلم الجميع ضرره الفادح، وهو خطر المد الفكري الشيعي الذي يُتَوَقَّع أن ينتعش بعد انتهاء الحرب؛ حيث ستنحسر آثارها العسكرية عن آثار فكرية سيحرص القوم على استغلالها واستثمارها. والتاريخ يثبت في القديم والحديث أنه ما من بطولة شخصية، حقيقية كانت أو وهمية، إلا وتحولت في الغالب إلى (منظومة) فكرية أو روَّجت لها، هذا ما حدث مع (كمال أتاتورك) الذي مهدت بطولاته المزيفة للقومية الطورانية والفكرة العلمانية في الديار التركية، وهو ما حدث أيضاً مع (جمال عبد الناصر) الذي ساهمت بطولاته الوهمية أو المضخَّمة في دفع فكرة القومية العربية، ويقال مثل هذا أيضاً عن (هتلر) والنازية، و (ستالين) والشيوعية، و (الخميني) والأفكار الثورية الشيعية، ونحو هذا كثير.
3 والمحذِّرون المتحفظون، يشفقون على الأمة من أن تقع في إثم خذلان المجاهدين الحقيقيين في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان وغيرها؛ أولئك الذين لن يضرهم - بإذن الله - من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قائمون، فهؤلاء هم الأبطال حقاً، وهم أنصار الدين حقاً، وهم حزب الله حقاً، شرعاً وعقلاً؛ لأنهم هم الذين يجاهدون ويبذلون ويضحون، دون حسابات خاصة، ودون تبعية أو عصبيه لأية حمية، عنصرية كانت أو مذهبية، ودون أن تكون وراءهم أيضاً قوة دولية أو إقليمية أو محلية، تقف معهم أو تدربهم أو تسلحهم أو تمولهم، ودون أن يكون لهم ظهير ونصير غير الله تعالى، في عالم يتنكر لهم، وعامةٍ لا تعرف قدرهم، وخاصةٍ قلما تنتصف لحقهم. إن أولئك الأحرار الأبرار، هم أرباب البطولة الحقة الذين أرغموا أنف العدو الكبير - أمريكا - التي تساند العدو الحقير ـ الصهاينة ـ دون أن يكون لهم جيش ولا دولة ولا أرض ولا مصدر دائم للإعداد والإمداد.
3 والمحذرون المتحفظون ـ مع ذلك كله ـ يرون المبادرة إلى إغاثة المنكوبين المستضعَفين، ومدّ يد العون للشيوخ والنساء والأطفال، وتخفيف جراحاتهم ومعاناتهم؛ فرفع الظلم مطلوب شرعاً.
ستذهب السكرة وتجيء الفكرة، وعندها:
3 سيرى الناس أن هذه الحرب قد خطط لها طرفان رئيسان، هما المستفيدان الوحيدان مما جرى بسببها من دمار وخراب:
الطرف الأول: هم الأمريكيون الذين قال مسؤولوهم: إن هذه الحرب، هي البداية لتشكيل (الشرق الأوسط الجديد) الذي يريدون فيه تأمين قاعدتهم العسكرية الكبرى (في الأرض المحتلة).(18/400)
والطرف الثاني: هو إيران التي أرادت أن تشغل العالم عن مخططها الإجرامي في العراق، وعن برنامجها الرامي إلى امتلاك السلاح النووي في أقرب وقت ممكن؛ حيث اشترت وقتاً ثميناً بهذه الحرب، وتركت للشعب اللبناني دفع فاتورته من دمائه وأمواله واستقراره ومقدراته.
3 وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة: سيكتشف الناس أن أحداث لبنان، ما كانت إلا بداية لمرحلة جديدة من مشروع مد شيعي قديم جديد، يريد ضم لبنان إلى هيمنة إيران، مثلما حدث في العراق ليتحقق بذلك ما سبق أن خطط له أصحاب مشروع (إيران الكبرى) الممتدة من البحرين إلى حدود فلسطين، في هلال شيعي يسمح بتطويق الجزيرة العربية مهد الإسلام الصحيح.
3 وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة: سيعلم الناس أن هناك مشروعين يتنافسان على قيادة الأمة نحو التغيير: أحدهما: يقوم على الحق والسُّنة، والآخر: يقوم على الباطل والبدعة، وأن المشروع الأول الذي أُسِّس على الحق من أول يوم، هناك إصرار على الإضرار به، والتغطية عليه لحساب (مشروع الضِّرار) الآخر المشيَّد على أنقاض أعراض الصحابة، حَمَلَة الدين، وواسطة الرسالة، وسادة أهل الجنة بعد الأنبياء.
إن الحق أبلج والباطل لجلج، وحُق لقوم جعلهم الله شهداء على الناس ليكون الرسول عليهم شهيداً ألا يضيع الحق فيهم، انسياقاً وراء العواطف، والتفافاً على الصواب، بما يسوِّغ في الناس تعظيم البدعة، وتوهين السنة مع من يحمونها من مجاهدين وعلماء ومصلحين، تطاولت عليهم الألسن التي تقاصرت عن غيرهم من الذين لا يُرجى نفعهم ولا يُتوقع إخلاصهم للسواد الأعظم من الأمة.
فاللهم ألهمنا رشدنا، واهدنا سواء السبيل، وثبتنا عليه حتى نلقاك، غير خزايا ولا مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين... آمين
=============(18/401)
(18/402)
عولمة الغضب
موسوعة الخطب والدروس - (ج / ص 1)
د.عبد العزيز كامل
منذ زمن ليس بالطويل، يلحظ من يراقب العلاقة بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني، أن هناك استدراجاً واستغضاباً واستفزازاً متعمداً للمسلمين، يتنامى ويتنوع بصورة مطردة، في شكل غزوات عسكرية، أو حملات ثقافية وإعلامية، أو محاصرات اقتصادية، وأخيراً... تهجمات دينية. وأصبحنا لا نكاد نرى مكاناً في العالم الإسلامي غير مستهدف بجل أو كل تلك التحديات.
وتتجاوز حملة الاستغضاب والاستدراج لتخرج من النطاق الجغرافي للعالم الإسلامي لتنتقل إلى المسلمين المواطنين أو المستوطنين في أكثر بلدان العالم الغربي بغرض إشعار كل مسلم في العالم أنه تحت المواجهة، بشكل أو بآخر، إما أمنياً أو اقتصادياً أو حضارياً أو عسكرياً أو سياسياً أو ثقافياً..!
من اللافت للنظر أيضاً أن من يستغضبون عموم المسلمين اليوم، ليسوا من أبناء طائفة واحدة من النصارى، حتى يقال إن بينهم وبين المسلمين ثأراً أو قضية، ولكن عداء أولئك يصدر من جميع طوائفهم، بروتستانتية كانت أو كاثوليكية أو أرثوذكسية، مع قدر غير قليل من التعاون الجلي والخفي مع اليهود؛ فهؤلاء جميعاً مع اختلاف بعضهم مع بعض إلى حد أنهم يلعن بعضهم بعضاً، ويكفِّر بعضهم بعضاً؛ إلا أنهم يجتمعون في هذا المسار، مسار التحدي والاستكبار على المسلمين. فمن جرائم البروتستانت المتواترة والمتكاثرة من الأمريكيين والبريطانيين والأستراليين والدانماركيين والنرويجيين، إلى جحود الكاثوليك من الفرنسيين والإيطاليين والأسبان، إلى أحقاد الأرثوذكس من الروس والصرب، إلى تعاون كل هؤلاء وتواطئهم مع حثالات اليهود في الشرق والغرب؛ فالهجمة اليوم عامة، وهي مستأنفة تمثل امتداداً لهجمات استعمارية بروتستانتية وكاثوليكية وأرثوذكسية ويهودية طالت غالب أوطان المسلمين على مدى ما مضى من قرن ونصف. والآن تمتد لتشمل العالم الإسلامي دفعة واحدة لإغضابه دفعة واحدة، ودفعه إلى الارتباك والارتجال.. طمعاً ـ ربما ـ في إحداث (فوضى خلاَّقة) دولية.!... إنها عولمة من نوع جديد: عولمة للغضب.. تهدف إلى تدويل الغضب الإسلامي بعد إيقاظه!
لقد نجحت عولمة الغضب في صهر العالم الإسلامي كله في بوتقة غضبية واحدة، بعد تلك الجريمة النكراء الشنعاء التي تطاول فيها سفهاء الروم من سكان أوروبا على النبي الكريم المرسل إلينا وإليهم وإلى الناس أجمعين صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ـ فلأول مرة في التاريخ المعاصر، تحدث على مستوى المسلمين (انتفاضة عالمية) تعم كل مكان في الأرض، لتشمل كل نَسَمَة مسلمة تشهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة، ولأول مرة يجري التعامل مع (العالم الإسلامي) على أنه شيء واحد، في مقابل (العالم الغربي)، فتصدر التصريحات وتلقى البيانات وتوجه الكلمات والوساطات إلى: (العالم الإسلامي) وليس إلى بلد معين أو منظمة معينة أو تجمع إقليمي معين؛ فهل كان هذا مقصوداً..؟! هل أراد هؤلاء أن يكرسوا هذا التقابل المتناقض بين (عالمين)، ليكون ذلك من الآن فصاعداً لغة التخاطب بين العالم الإسلامي والعالم الغربي؟!
لقد عاش العرب والمسلمون في السنوات الأخيرة وهم يتصورون أن الصراع اختُصر مع أمريكا وحليفتها (إسرائيل) وأن الغرب ليس أمريكا فقط، فإذا هم اليوم (يفاجَؤون) بأن الغرب عالم واحد وموقف واحد، ويناصر بعضه بعضاً {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] فهل نحن بصدد دخول عملي في (عولمة) للصراع مع المسلمين، أو ما يطلقون عليه صراع الحضارات؟! وهل هو تدشين مبكر لملاحم عالمية جديدة لا يعلم مداها إلا الله..؟!
الذين بشروا بـ (صراع الحضارات) يعلمون أن هذا الصراع، هو تاريخ البشرية في الماضي والحاضر والمستقبل؛ حيث كان جزء كبير منه صراعاً بين الحق والباطل، ولهذا لم يكن صراع الحضارات أو الثقافات أو الأديان شراً كله، بل كان في أحيان كثيرة طريقاً وحيداً، يُكْرَه عليه المؤمنون لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإفاضة البلاغ للعالمين، ودفع شر الأشرار وبأس الكفار بجهاد وجلاد الأخيار {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
والفساد اليوم يهدد الأرض كلها بحماقات الغرب المحادِّ لله ورسله... فساد في الاعتقاد وفساد في الأخلاق وفساد في الإعلام وفساد في المجتمعات وفساد في الأسر وفساد في العلاقات وفساد في البيئة، ومع هذا يراد (عولمة) كل هذا الفساد بالقوة؛ لأنه يمثل نموذج الحضارة الأخير الذي ينبغي إخضاع كل الحضارات له، ولو أدى ذلك إلى صدامها وصراعها.
أليس هذا ما تؤمن به وتدعو إليه وتسير فيه الصقور والنسور الحاكمة في أمريكا وبريطانيا وأستراليا وفرنسا وإيطاليا... وأخيراً.. (الدجاج المتوحش) في كل من الدانمرك والنرويج وإسبانيا...؟! دعك من الشعوب، في التهائها وغفلاتها، فهي تُستَغَل وتُستغفَل من كبرائها وزعمائها، لتساق إلى أتون مواجهة، قد لا ترضى بها ولا توافقها عليها.(18/403)
لقد تنامى التحذير من تفجير (صدام الحضارات) بعد الأحداث الأخيرة التي اندلعت في العالم بسبب الرسوم المسيئة، ونحن في حاجة إلى أن نعيد قراءة الأطروحة، أو النظرية المسماة بذلك الاسم، لنتدبر شأننا، وننظر إلى مواضع خطانا، ونحكم بعين البصيرة على هذه النظرية الخطيرة التي احتفى بها الغرب، أهي أسطر في كتاب فكري... أو تخطيط لانقلاب كوني؟
صراع الحضارات: نظرية أم إستراتيجية؟
صاحب هذه النظرية: (صموئيل هنتنجتون) أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد الأمريكية، وقد صاغ أطروحته لأول مرة في شكل مقالة نشرت في صيف عام 1993 م في دورية (فوريجن أفيرز)، وكان ذلك بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة التي رأى الغرب بعدها أن عدوه الشيوعي قد توارى، ليبدأ البحث عن عدو جديد، ثم ألَّف هنتنجتون كتاباً في الموضوع ذاته بعنوان (صدام الحضارات... إعادة صنع النظام العالمي) والعنوان نفسه يشي بأن الأمر ليس مجرد نظرية، بل هو إستراتيجية (عملية). فقد تضمن أفكاراً هي أقرب إلى الخطط، وفرضيات يراد تحويلها إلى حتميات.
ولْنُعِد التأمل في أهم مرتكزات ومنطلقات ذلك الكتاب/النظرية/الإستراتيجية:
1 ـ الدين هو أهم العوامل التي تميز بين الحضارات، وهو العامل الأهم في صراعات المستقبل.
2 ـ القرارات التي تصدر عن المنظمات الدولية ينبغي أن تخدم مصالح الغرب، ولكنها تقدم في صورة إرادة المجتمع الدولي.
3 ـ المجتمعات الإسلامية لا تحدد هويتها إلا بالإسلام (الأصولي)، ورفض العلمانية الغربية هو أكبر الحقائق الاجتماعية في بلاد المسلمين طوال القرن العشرين.
4 ـ الكتل الاقتصادية الإقليمية المتنافسة هي صيغة الاقتصاد العالمي في المستقبل.
5 ـ الصراعات العسكرية بين الحضارات الإسلامية والغربية استمرت عدة قرون وسوف تستمر وتزداد في المستقبل، وقد تكون أكثر قساوة.
6 ـ الازدياد السكاني للعالم الإسلامي سيسبب المشاكل لأوروبا بسبب الهجرات المتزايدة صوب الغرب.
7 ـ أطراف العالم الإسلامي هي مناطق صدام بين الإسلام وغيره من الأديان: في الجنوب (جنوب السودان ـ نيجيريا ـ الصومال ـ إريتريا ـ إثيوبيا) في الشمال: (البوسنة ـ كوسوفا ـ ألبانيا «مع الصرب» ـ أرمينيا «مع أذربيجان» ـ روسيا مع «أفغانستان» ـ باكستان «مع الهند» ـ الفلبين «مع الجنوب الإسلامي الفلبيني»، فحدود العالم الإسلامي حدود دامية.
8 ـ حروب المستقبل ستشهد تحالفاً وتضامناً بين حضارات ضد حضارات.
9 ـ الحضارة الغربية تعيش مرحلة القمة الآن، اقتصادياً وعسكرياً.
10 ـ الغرب سيسيطر على بقية العالم عن طريق المؤسسات الدولية.
ثم يخلص الكاتب إلى توصيات، قال إن على الغرب أن يتبناها لمواجهة صراعات المستقبل. وقد قسم السياسات الموصى بها إلى قسمين:
سياسة على المدى الطويل، وسياسة على المدى القصير.
أما على المدى القصير، فقد قدم التوصيات التالية:
ـ على الغرب أن يسعى إلى تعاون أوثق داخل دول الحضارة الغربية، وخاصة بين دول أوروبا وأمريكا الشمالية.
ـ ضرورة السعي لدمج دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية في المجتمع الغربي واستغلال التقارب الثقافي (الديني) في هذا.
ـ السعي للحفاظ على علاقات تعاونية أوثق بين كل من روسيا واليابان.
ـ منع تطور الصراعات المحلية داخل الحضارة الغربية إلى صراعات كبيرة.
ـ العمل على الحد من توسع القوة العسكرية للدول الإسلامية والكونفوشية (الصين وكوريا وفيتنام واليابان).
ـ عدم السعي إلى تخفيض القوة العسكرية الغربية، مع أهمية الاحتفاظ بقوة عسكرية في شرق وجنوب آسيا (إندونيسيا ـ باكستان ـ أفغانستان ـ الخليج).
ـ استغلال الخلافات بين الدول الإسلامية والكنفوشية والهندوسية.
ـ دعم الجماعات المتعاطفة مع القيم والمصالح الغربية (الليبراليين) في دول الحضارات الأخرى.
ـ تقوية دور المؤسسات الدولية التي تعكس مصالح الغرب وقيمه وتمنحها الشرعية.
أما على المدى الطويل، فملخص مقترحات «هنتنجتون» هو: أن على الحضارة الغربية أن تحتفظ بقوتها العسكرية والاقتصادية، وتعمل في الوقت نفسه على مقاومة محاولات الحضارات الأخرى في السعي للحصول على أسباب القوة الاقتصادية والعسكرية، مع أهمية أن تفهم دول الحضارة الغربية المنطلقات الدينية والفلسفية التي تدفع الحضارات نحو مصالحها.(18/404)
عندما نعيد قراءة أحداث الأعوام القليلة الماضية، وخاصة منذ بدأت الألفية الثالثة، نكاد نرى مجموع أفكار صراع الحضارات في خلفية الأحداث جميعاً، وخاصة فيما يتعلق بالعالم الإسلامي أو ما اصطلحت أمريكا على تسميته مؤخراً بـ «الشرق الأوسط الكبير»، حيث اندلعت حروب عسكرية، ودشنت حملات أمنية وإعلامية، وهجمات ثقافية على خلفيات حضارية أو دينية صريحة مثل: اجتياح أفغانستان وما تبعه من دعم لعصابة الإفساد الحاكمة هناك، والتواطؤ في الجرائم اللاإنسانية التي ارتكبت في سجن يانجي، وبعده في معتقل جوانتنامو، ثم ما حدث في العراق ولا يزال يحدث بعد الغزو الذي استند الى كذب صريح على العالم كله، أدخل العراق بعده في دوامة الفوضى الشاملة، وكذلك ما تسرب من أنباء عن مقتل ما لا يقل عن 120 ألفاً من المدنيين أثناء غزو العراق، وقبلهم 20 ألفاً من القتلى المدنيين في غزو أفغانستان، وقبلهم قتل ما يزيد عن مليون طفل عراقي أثناء الحصار، ولا ننسى قضية الشيشان التي قايضوا عليها روسيا، وبلاد البلقان المسلمة التي طردوا منها الصرب ليحتلها (ناتو) الغرب، والسودان المستهدف بالتقسيم المصلحي بين الفرقاء الغربيين، وفلسطين التي يستكثرون عليها بعدما يقرب من ستة عقود من الاحتلال، مجرد سلطة (حكم ذاتي) نظيف ونزيه اختاره الشعب، لا لشيء إلا لأنه يحمل قضية (الإسلام) في برنامجه الانتخابي (الديمقراطي).
وكانت أحداث أزمة (الرسوم المسيئة) للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم ما تلاها وواكبها من نشر صور ولقطات إذلال وامتهان كرامة الإنسان على يد الأمريكيين والبريطانيين في السجون والثكنات العسكرية في العراق، آخر حلقات ذلك المسلسل الهجومي الصِدامي المتواصل.
ليست مصادفات:
لا يمكن لعاقل أن يفسر ذلك التسلسل العدائي بالمصادفات أو محض الاتفاق، ولا يمكن كذلك أن يتفهم ذلك الإجماع المتواطئ ـ مؤخراً ـ من أكثر دول الغرب على العناد والاستفزاز بإعادة نشر الرسوم المسيئة، والإصرار على عدم الاعتذار بصورة واضحة، إيغالاً في التحدي الجماعي لمجموع شعوب العالم الإسلامي؛ حتى إن مسؤولي الاتحاد الأوروبي، عدُّوا مقاطعة الدانمرك اقتصادياً، مقاطعة لدول الاتحاد الأوروبي كلها. وتوحيد أوروبا لموقفها يجيء لتعجيز أو تشتيت الموقف الإسلامي الموحد، بتكثير عدد الدول التي سيتعين على المسلمين مقاطعتها اقتصادياً بسبب اتخاذ موقف الدانمرك نفسه أو الوقوف معها.
يساورني شك يكاد يقترب من اليقين، بأن تحريك فتنة الأزمة الأخيرة، إنما تلعب فيه أصابع ماهرة في خبثها، وبعيدة في مراميها، ولا أستبعد منها اليهود وإن كنت لا أُغفل غلاة النصارى من ذوي الاتجاه اليميني الديني الإنجيلي، ومنم الحزب الحاكم في الدانمارك، بمعنى أن الأحداث ليست مجرد تفاعلات وتداعيات؛ فالفريقان اللذان يكادان يتطابقان في أهدافهما ووسائلهما وعقائدهما، يتركان كل حين آثاراً تشير إلى تعمد التصعيد.
وعلى وجه الخصوص فإن بصمات اليهود ـ قتلة الأنبياء ـ في الحملة على سيد الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا تكاد تخطئها العين، وهناك قرائن واضحة تدل على أن ظل اليهود ليس بعيداً عن أجواء تلك الأزمة؛ فالصحيفة الدانماركية التي تولت كبر هذه الفتنة ونفخت في كيرها ـ وهي صحيفة (يولاند بوسطن) ـ يتوسط عنوانها الرسمي نجمة داوود اليهودية بلون أصفر يميزها عن الحروف الإنجليزية في الكلمتين المكتوبتين باللون الأسود، مع شيء من التحوير في تلك النجمة، وإذا صح أن رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية وكذا رئيس تحرير الصحيفة النرويجية اللتين نشرتا الرسوم الشائنة، هما من أعضاء المؤتمر اليهودي العالمي الذي يدير شؤون الفتن في العالم، يكون الكثير من ملامح ومعالم الصورة قد بدأ يتضح. ويتضح أكثر إذا عُلم أنهما من الناشطين مع مركز (سايمون فيزنتال) اليهودي في أمريكا، والمختص بوضع الاستراتيجيات الدولية لخدمة أهداف اليهود والدفاع عنها.(18/405)
إن أول من بدأ جرائم الاعتداء العلني على شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنوات الأخيرة هم اليهود، حيث أقدمت امرأة يهودية إسرائيلية على نشر رسوم لها، رسمت فيها ـ قاتَلها اللهُ ولعنَها ـ صورةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة خنزير، وكتبت على جسده باللغة العربية اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمحت بعض الصحف بنشرها، لتنشر بعد ذلك في بعض صحف العالم، وقد ثارت وقتها ضجة من الاحتجاج الاسلامي في أنحاء متفرقة من العالم، وكعادته انبرى بعض الغربيين يؤيدون والبعض الآخر يفلسفون، وآخرون يعتذرون، ليسكِّنوا الحمية ويميِّعوا القضية، وكان على رأس هؤلاء وقتها الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، لكن بلاد كلينتون نفسها ـ الولايات المتحدة ـ تسلمت من اليهود راية التحدي لمقدسات المسلمين بعد ذلك، عندما أقدم جنودها مرات متعددة على دعس المصحف الشريف وتمزيقه بل... التبول عليه (قاتلهم الله ولعنهم). ثم جاء حمار بشري في شكل وزير إيطالي هو (ربرتو كالديرولي) وزير (الإصلاح) في إيطاليا ليرتدي قميصاً عليه الرسوم المسيئة متحدياً جميع المسلمين في العالم، وقبل ذلك كان أحد مهاويس أمريكا وهو الصحفي (ريتش لوري) قد طالب بضرب مكة بقنبلة نووية! وذلك في مقال نشرته له مجلة (ناشيونال ريفيو)، وقد كرر الدعوة نفسها السيناتور الأمريكي (توم تانكريدو)!! وكأن القوم يتناوبون على امتهان مقدساتنا ودوس كرامتنا.
وفي تناغم أخير مع السلوك الشائن في أمريكا وأوروبا، أقدم مجند يهودي إسرائيلي ـ بعد جريمة الدانمارك ـ على كتابة شتائم نابية على جدران أحد المساجد في إحدى مدن فلسطين في 15 فبراير 2006، يسب فيها رسول - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ وقحة؛ فلما ثار المواطنون المسلمون وتظاهر بعضهم احتجاجاً؛ تدخلت الشرطة الإسرائيلية، فأطلقت عليهم النيران الحية! ثم تكررت الفعلة الشنعاء بعد ذلك بثلاثة أيام من جندي آخر في مسجد آخر!!
إن هذه الشرارات الصغيرة الحقيرة، هي التي تنشئ النيران الكبيرة الخطيرة، وهذا هو ما يراهن عليه مشعلو الفتن وسماسرة الحروب؛ فقد يصدر تصريح، أو يبدر تصرف أو ينشر مقال أو رسم أو مشهد مسيء، فإذا هو يضيء سماء العالم الاسلامي بوهج الغضب وشهب التثوير، وهم يعلمون أننا لسنا بحمير حتى نستغضَب فلا نغضب أو نستثار فلا نثور.
إن هؤلاء الساعين الى إيقاد نار الحروب يريدونها محرقة عالمية، ولولا أن الله ـ تعالى ـ يطفئ من نارهم ما يشاء، لقلنا: على الأرض العفاء، منذ زمن طويل {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، إننا لا نستند في ترجيح تعمد الاستغضاب الصهيوني ـ يهودياً كان أو نصرانياً ـ إلى ظن أو تخمين، بل نستند الى يقين نطق به القرآن المبين، في قول الله ـ تعالى ـ عن عداوتهم وجراءتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى الدين الذي جاء به، كفراً وحسداً، لا جهلاً وغفلة: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46]، وهم لن يطعنوا في ديننا فقط؛ بل سيقاتلوننا عليه في حروب دينية صريحة، كما حدث كثيراً في التاريخ {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]. ولليهود والمشركين الدور الأساس في ذلك: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]؛ فهم العدو الأول للمسلمين في الزمان كله والمكان كله، منذ مبعث النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -. ولا نستطيع هنا أن نتجاهل أن الحزب الحاكم في مملكة الدانمارك هو حزب يميني ديني بروتستانتي متشدد، والصحيفة التي أشعلت الفتنة هي صحيفة صادرة عنه.
وهذه الحملة المشتركة بقيادة المغضوب عليهم للضالين قد تجر العالم ـ كما جروه من قبل إلى صدامات دولية، تكون ساحتها على أرض المسلمين، وبأموال المسلمين، وأرواح المسلمين.
الأحقاد الدينية ... على درب المحرقة الكبرى:(18/406)
لا تزال البشرية في البدايات المبكرة للألفية الثالثة، التي يعتقد المتشددون الإنجيليون وغلاة البروتستانت ـ تبعاً لعقائد يهودية ـ أنها لا بد أن تشهد بداية النهاية لأيام (العامة) أو الكفار أو الكُفريم أو (الجويم) بتعبير التوراة المحرفة التي يقرؤونها ويتعبدون بها، حيث ستأتي بعد أيام (العامة) تلك، أيام (الخاصة) التي تخص الشعوب المختارة وحدها من الأنجلوساكسون وحلفائهم من اليهود، لضمان سيادتهم على العالم لألف سنة قادمة؛ وهذا هو جوهر (العقيدة الألفية)، التي ترجمت في السنوات الأخيرة إلى برامج عملية، وإستراتيجية عالمية للولايات المتحدة، أطلقوا عليها مشروع (القرن الأمريكي) أو (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين). ليبدأ هذا القرن أمريكياً يهودياً غربياً، تمهيداً لـ (الأيام الأخيرة) أو بالتعبير العبري التوراتي (أحريت أياميم) والذي ستعقبه مرحلة (يوم هدين) بالعبرانية أو (يوم الدين) بالعربية. ولا بد ـ قبل أن يأتي (يوم هدِّين) أو يوم القيامة الكبرى ـ من التمهيد للألف السعيد بإقامة قيامة صغرى، تكون سبباً في هلاك غالبية سكان الأرض، أو بالتحديد: (ثلثا سكان العالم)(1) من غيرهم. والأسباب التي ستؤدي لإقامة هذه القيامة الصغرى عندهم لا تُنتظر، بل تُدبر وتصنع!!
هل نفتري عليهم....؟! هل نبالغ في تقدير خطورة أحلامهم التدميرية الإرهابية العالمية..؟! لا... وسأذكر بعض الأدلة من كتبهم (المقدسة) بنصوصها وتأويلاتها التي تصنع وجداناً عدائياً لسائر البشر، وخاصة ـ أكرر ـ: (وخاصة): العرب والمسلمين والكنفوش (الصينيون والكوريون والفيتناميون واليابانيون)(2) الذين تجمعهم عند هؤلاء تسمية التوراة: (يأجوج ومأجوج) حيث سيتكتل هؤلاء في الأيام الأخيرة ـ كما يعتقدون ـ في (محور الشر) الذي ينطلق من الشرق لينازل محور الخير أو العالم الغربي، في وسط العالم أو (الشرق الأوسط) وبالتحديد في (فلسطين) التي أرادوا محو اسمها لتصبح فقط (إسرائيل) كما سمتها التوراة المحرفة.
3 تقول التوراة التي يدين بها أكثر من ملياري نصراني، ونحو (16) مليون يهودي في عالم اليوم:
3 (في الأيام الأخيرة، عندما تتجمع إسرائيل من الأمم، سوف تتسبب في أمرٍ ما، هذا ما سوف يحدث، إنني سوف أضع صنارة في أفواه القوى المؤتلفة).
3 وجاء فيها أيضاً: (بعد أيام كثيرة، تُفتقد في السنين الأخيرة، تأتي إلى الأرض المستردة من السيف، المجموعة من جبال إسرائيل التي كانت خربة للذين أخرجوا من الشعوب وسكنوا آمنين كلهم، وتصعد وتأتي كزوبعة، وتكون كسحابة تغشى الأرض أنت وكل جيوشك، وشعوب كثيرون معك).
3 وجاء فيها: (ويكون في ذلك اليوم، يوم مجيء جوج على أرض إسرائيل... يقول السيد الرب: يكون سيف كل واحد على أخيه، وأعقبه بالوباء وبالدم، وأمطر عليه وعلى جيشه وعلى الشعوب الكثيرة الذين معه مطراً جارفاً وحجارة برد عظيم وناراً وكبريتاً)(3).
3 أما التلمود الذي يمثل شروح التوراة، والذي يعد عند التوراتيين أقدس من التوراة نفسها فيقول: (قبل أن يحكم اليهود نهائياً، لا بد من قيام حرب بين الأمم، يهلك خلالها ثلثا العالم، ويبقون سبع سنين، يحرقون الأسلحة التي اكتسبوها بعد النصر)(4).
3 وجاء في بروتوكولات حكماء صهيون: (إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة، لم ير العالم لها مثيلاً من قبل، والوقت متأخر بالنسبة لعباقرتهم)(5).
3 أما الإنجيل الذي يدين به نصارى العالم بكل طوائفهم، فإنه يزيد في تحديد المعلومات عن هذا الصدام الأخير، فيشير إلى موقع المعركة الكبرى، أو المحرقة الكبرى ويشير الى اسمها ووصفها؛ فقد جاء فيه ـ كما يقولون على لسان عيسى ـ عليه السلام ـ وهو يصف مجيئه المفاجئ في آخر الزمان تمهيداً للألف السعيد: (ها أنا آتي كلص، طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلاَّ يمشي عرياناً فيروا عريته، يجمعهم إلى الموضع الذي يدعى بالعبرانية هرمجدُّون)(6).
لن أطيل في تفصيل هذه المعتقدات الأشبه بالخرافات؛ فقد فصلت فيها في بعض كتبي، وبينت أنها وإن كانت أشبه بالأساطير، إلا أنها أساطير مدججة بالجيوش والأساطيل، تقف وراءها أحلاف عظمى، تملك القوة ولا تملك الحكمة، ولها ترسانات ضخمة من كل أسلحة الدمار التقليدي وغير التقليدي. وهذه الأساطير ينظر لتفعيلها العديد من المفكرين والاستراتيجيين الذين يغلِّفون أفكارهم الخرافية بأغلفة أكاديمية، تتحدث عن احتمالات وسيناريوهات الحرب العالمية الثالثة، التي أثبتت الحربان العالميتان قبلها، زيادة احتمال وقوعها.(18/407)
لا أريد أيضاً أن يُفهَم من كلامي أني أجزم أن أحداث فتنة (الرسوم المسيئة) بالذات، والتي أرجح تدبير وتنسيق المواقف فيها؛ قد جاءت كلها على خلفية تلك المعتقدات، لكني أؤكد، أن ما حدث وما يمكن أن يحدث هو مقدمة شحن لعواطف الدين والعقيدة عند الشعوب المستهدفة بصدام الحضارات أو الثقافات، وهذه الأحداث فرصة سانحة، لن يفوِّتها الحاقدون على البشر، المعظمون لأنفسهم والمقدسون لذواتهم دون بقية الخلق: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]، هؤلاء البشر ممن خلق الله، ينحدرون مع الأيام، استجابة للشيطان، حتى يصبحوا جزءاً أصيلاً من رعيته، المكونة من أتباعه وذريته، وصدق الله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} [الأعراف: 179].
وهذه الأنعام التي تطاولت على خير الأنام محمد ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ تستكثر كبراً وعتواً، أن يمس أحد «مقدساتهم» وثوابتهم، وعلى رأسها «حرية التعبير» التي تستلزم عندهم «حرية التعيير»، وتتضمن حرية التغيير بالقوة وغير القوة لثوابت ومقدسات الغير!
أما ثوابتهم هم، ومقدساتهم هم، ومسلَّماتهم هم؛ فالويل، ثم الويل لمن يتعداها أو يعاديها، وأبرز مثال على ذلك ما يسمونه: (معاداة السامية)(1)... وما ينتج عنها مما يصفونه بـ (المحرقة الكبرى) أو (الهولوكست)، التي تتكسر عندها كل أدوات التعبير، ولا تقبل عند المساس بها التأسفات أو المعاذير!
من يجرؤ على الكلام؟
بهذا العنوان، صدر كتاب عام 1985 لمؤلفه السيناتور الأمريكي السابق: (بول فندلي) ذكر فيه أن هناك إرهاباً يمارس على حرية النقد والتعبير، يمارسه اليهود وأشياعهم داخل الأروقة السياسية في أمريكا، يقدح في كل دعاوى الحرية والديمقراطية في الغرب؛ فهي حرية ذات حدود مرسومة، وسقوف معلومة، يحرم تخطِّيها، ويجرَّم من يقع فيها.
فدعاوى الغربيين اليوم أن حرية التعبير والرأي عندهم لا حدود لها، يدحضها سلوكهم عند أي تصرف أو سلوك أو تفكير أو تعبير يتعرض بالعداء لـ (السامية)!
ومن أبرز التجليات المجسدة لقضية (معاداة السامية)، قضية المحرقة اليهودية، أو (الهولوكست). والهولوكست، كلمة يونانية، تعني (القربان الكامل) إشارة إلى القرابين التي كانت تُقَدَّم تعبُّداً، كي تُحرق في المعابد بشكل كامل، حيث لا ينال أحد من البشر منها شيئاً. وقد أشاع اليهود هذا التعبير كمصطلح يرمز إلى ما حدث لهم على يد الزعيم الألماني (أدولف هتلر)، حيث صوَّروا ما فعله ضدهم من انتقام وحرق في السجون أنه أكبر محرقة في التاريخ.
لقد مارس اليهود كمّاً كبيراً من التهويل والتزييف لحقائق تلك المحرقة، بغرض تضخيم أموال التعويضات التي طلبوها ـ ولا يزالون ـ عوضاً عما لحق بهم من (أعداء السامية). وفلسفة (الهولوكست) أو المحرقة اليهودية، كانت تنطوي على إبراز حقيقة مفادها أن (المسيحيين) يكرهون اليهود، وعليهم أن يثبتوا عكس ذلك، ولن يثبت عكس ذلك إلا بدفع التعويضات والتجاوز عن مساءلة اليهود وفق أي قوانين أو معايير دولية أو محلية في أي بلد يسكنونها؛ لأنه (يكفيهم) ما كابدوه من تعنت هتلر معهم، حيث لم يدفعه إلى ذلك إلا (معاداة السامية)! إنهم يقولون: إن العالم كله يكرههم ويريد قتلهم، ولهذا فيجب ألا تكون الأمم المتحدة عوناً مع العالم عليهم. وتماشياً مع هذا الابتزاز اليهودي فإن الصحافة في العالم الغربي، تصور دولة اليهود دائماً على أنها محاصرة ومضطهدة من طوفان عدائي محيط بها، يريد إدخالها في محرقة أخرى(2).
وبالرغم من حداثة حادثة المحرقة اليهودية نسبياً في التاريخ؛ فقد استطاع اليهود أن يحرِّفوا و يزيِّفوا تفاصيلها، ثم يجعلوا هذا التزييف والتحريف أمراً ثابتاً بل مقدساً، لا ينبغي لأحد أن يشكك فيه أو حتى يناقشه وإلا كان معادياً للسامية، ومن ثم معرضاً نفسه للعقوبات القانونية. لقد عبثوا بالأرقام الدالة على عدد الذين أحرقهم هتلر؛ فالمحققون الأكاديميون والمحايدون أثبتوا ـ وفقاً لمصادر اليهود أنفسهم ـ أنه كان في أوروبا كلها في الفترة التي حدثت فيها المحرقة، ثلاثة ملايين وعشرة آلاف وسبعمائة واثنان وعشرون يهودياً فقط (722.010.3) بمن فيهم يهود ألمانيا، فكيف يتم حرق ستة ملايين يهودي على يد هتلر داخل حدود ألمانيا..؟!(18/408)
واليهود يغالطون، فيتحدثون عن (ضحايا) المحرقة، فيدخلون فيها كل يهودي «تأذى» من تلك المحرقة، ولو كان ذلك بدموع ذرفها، أو دولارات خسرها، فيوصلونهم إلى ستة ملايين!! ويردد العالم «الحر» بغبائه ذلك الدجل، لا بل يحاسب بقية العالم بمقتضاه!! وقد أشاع اليهود أيضاً أن سكان فلسطين من الإسرائيليين، أكثرهم من الناجين من المحرقة! فهم على هذا يستحقون هم وأولادهم وأحفادهم من العالم كله والعالم الغربي على وجه الخصوص، ألاَّ يقطع عنهم المعونات والتعويضات، وألاَّ يتردد في معاقبة من يعاديهم بشتى أنواع العقوبات.
لقد قتل هتلر من الغجر والشيوعيين أكثر مما قتل من اليهود، بل تسبب في الحرب العالمية الثانية التي قُتل فيها نحو خمسين مليوناً من البشر، منهم 17 مليون سوفييتي، وتسعة ملايين ألماني، وعشرات الملايين من السلافيين والغجر والبولنديين ومختلف دول آسيا وأفريقيا، ولم يتحدث أحد عن هذه المحرقة الحقيقية التي لم يكن ظل اليهود بعيداً عنها.
معاداة السامية، وشجاعة الجبناء:
صدرت في العديد من الدول الأوروبية قوانين تحرم وتجرم كل من يشكك في الرواية اليهودية عن (الهولوكست) بل كل من يحاول كشف الحقيقة عنها، (من هذه الدول فرنسا الحرة) التي لاحقت بموجب هذا القانون المفكر الفرنسي (روجيه جارودي) الذي أعلن إسلامه عام 1981م؛ فقد اتُّهم بمعاداة السامية بسبب تشكيكه في المحرقة، وإثباته أن عدد الضحايا اليهود في المحرقة، يبلغ 900 ألف إلى مليون ومئتي ألف، وليسوا ستة ملايين كما يدعي اليهود، لقد حوكم جارودي وحكم عليه بالسجن، وصودر كتابه الذي تجرأ فيه على الكلام وهو كتاب: (الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل)!
ـ وحوكم كاتب سويدي آخر، وهو (رينيه لويس) بمقتضى القانون السويدي الذي يحرم معاداة السامية؛ لأنه شكك في قصة المحرقة، وحُكم عليه بالسجن لمدة 17 عاماً، ولا يزال في سجنه حتى اليوم.
ـ واعتقل الكاتب البلجيكي (سيغفريد فيريبكيه) في أحد مطارات هولندا، بسبب تشكيكه في المذكرات التي تُدَرَّس في الكثير من مدارس الدول الأوروبية عن المحرقة.
ـ وفي عام 2000 م، صدر كتاب في الولايات المتحدة الأمريكية للكاتب الأمريكي (فينكلشتاين) اسماه (صناعة الهولوكست)، فضح فيه الممارسات اليهودية التي تتاجر بما وصفه (الآلام الإنسانية) لإشباع أغراض مادية، فثارت ضجة بسبب الكتاب، حتى إنه كان الموضوع الأول الذي وضع للنقاش في احتفالات أوروبا (السنوية) بـ (عيد المحرقة)!
ـ وحوكم الكاتب الألماني (أرنست ذوندل) في 15 نوفمبر 2005، بتهمة التشكيك في المحرقة، وطرد من كندا بسبب نفيه وقوع ما يسمى بـ (أفران الغاز).
ـ وفي 16 نوفمبر 2005، تم ترحيل عالم الكيمياء الألماني (جيرمان رودلف) من أمريكا إلى ألمانيا؛ لأنه أعد بحثاً كيميائياً أثبت فيه أن صنف الغاز الذي تحدث اليهود أن هتلر استخدمه ضدهم في أفران الغاز الحارقة، غير موجود أصلاً بالخواص التي ذكرها اليهود، وقد حكم على هذا الباحث بالسجن لمدة عام وشهرين، عقاباً له، لا على حرية الرأي فحسب، بل على حرية التفكير والبحث!
ـ واعتقل المؤرخ البريطاني (ديفيد ارفنج) في النمسا، وهو في طريقه لإلقاء محاضرة في إحدى جامعاتها، بتهمة أنه سبق أن ألقى محاضرة هناك عام 1989م، شكك فيها في المحرقة، وكان قد ألف كتاباً بعنوان (حروب هتلر) في الموضوع نفسه، وقد بدأت محاكمته مؤخراً في 20/2/2006، وهو في العام السابع والستين من عمره، مما جعله يتراجع عن آرائه في محاولة منه لتفادي هذا الحكم، وحكم عليه رغم ذلك بالسجن ثلاث سنوات!
في مقابل ذلك، كانت السويد قد دعت الكاتب الهندي المرتد (سلمان رشدي) صاحب كتاب (آيات شيطانية) لزيارة عاصمتها، وعندما جاء احتفت به كل وسائل الإعلام، وأتاحت له كامل الحرية في مخاطبة الشعب السويدي النصراني عن آرائه في الدين الإسلامي، بينما حجبت تلك (الحرية) نفسها عن ضيف آخر في التوقيت نفسه، وهو الكاتب الفرنسي المعروف بالعداء للصهيونيين (فوريسون) ومنعته من المحاضرة، بل سمحت ـ من باب حرية التعبير ـ بالتظاهر ضده!!(18/409)
الذين تحدثوا عن جرم التشكيك في حرق اليهود؛ لم يتحدثوا عن مئات الملايين التي أبادها الأمريكيون ـ حلفاء اليهود وأشباههم ـ فقد أبادوا نحو ستين مليوناً من الهنود الحمر في الأمريكتين الشمالية والجنوبية، وأبادوا في عملية إحلال العبيد من الأفارقة مكانهم، أكثر من مائة مليون أفريقي، قضوا في عمليات الحشر الوحشي في سفن الشحن التجارية، ومع هذا لم يتحدث أحد عن هذا (الهولوكست) الأمريكي، بل تحدثوا عن أمريكا «محررة» العبيد!! ويتحدثون اليوم عن (حرية التعبير) التي يُستثنى منها التعرض لليهود، ويريدون ـ وهذا هو الأدهى ـ (عولمة) القوانين القاضية بتجريم التشكيك في المحرقة، فعلى عادة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في محاسبة ومعاقبة كل من يخالف سياساتها ويتعرض لمصالحها ومصالح ربيبتها وحبيبتها (إسرائيل) بإصدار القوانين في ذلك، وعلى غرار (قانون محاسبة سورية) و (قانون محاسبة السودان) و (قانون محاسبة إيران) وأخيراُ (قانون محاسبة مصر)!... صدر في أكتوبر عام 2002 قانون في الولايات لمحاسبة ومعاقبة كل من يعادي اليهود، ويحمل القانون اسم (قانون محاسبة أعداء السامية).
ولم يتوقف الأمر على تصدُّر أمريكا لحماية (جناب) إسرائيل من التعدي أو التحدي، ولو بفكرة أو تصريح أو كتاب أو مقال على مستوى العالم، حتى دفعت الأمم المتحدة... (ممثلة العالم) في طريق إصدار قانون مماثل، ففي أول نوفمبر من عام 2005، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً ينص على رفض الأمم المتحدة لأي إنكار لحقيقة المحرقة كحدث تاريخي، سواء بشكل كلي أو جزئي، واعتبر القرار مثل هذا التصرف أمراً ممنوعاً ويعرض صاحبه للمساءلة، ودعا القرار إلى ضرورة (تثقيف) شعوب العالم عن المحرقة، واختار يوم 27 يناير من كل عام ليكون يوماً عالمياً لتخليد ذكرى ضحايا المحرقة!!
وفي السياق نفسه، أقامت الحكومة الإسرائيلية في 19 مارس 2005، معرضاً في تل أبيب عن المحرقة، ودعت إليه آلافاً من الشخصيات، من رموز الفكر والسياسة والفن، وقد لبوا الدعوة، وكان على رأسهم (الأمين) العام للأمم المتحدة: كوفي أنان، الذي عبر عن تضامن العالم الذي يمثله، مع اليهود!
وماذا بعد...؟
إن (عولمة الغضب) تسير في اتجاهات متعددة وليس في الاتجاه الإسلامي فقط؛ فإصرار الخبثاء من فجار الكفار على المزيد من استغضاب المسلمين كل حين، يبدو أنه يلعب على أوتار الأفعال المحسوبة، بانتظار ردات الفعل غير المحسوبة، ليبدو المسلمون في النهاية هم المجرمون، وهم الإرهابيون، وهم الفوضويون، وتثور في المقابل موجات غضب مضادة في الغرب، تنعكس مزيداً من التضييق على المسلمين، ومحاربة لهم في أمنهم واستقرارهم ومقدساتهم ومقدراتهم، يمكن استغلالها ـ وهذا هو الأخطر ـ في تدبير (فوضى خلاَّقة) على مستوى العالم، لا يوجد من المسلمين من هو مستعد لمواجهتها وإحباط كيدها.
لكننا لا نريد أن يظل أعداؤنا وأعداء الإنسانية أشباحاً وهمية؛ فالجرم موجود، والفاعلون معروفون، والشركاء مستعلنون، وإذا كان البرلمان الأوروبي قد أعلن في 15/2/2006 تضامنه مع الدانمارك واعتبر أن استمرار مقاطعتها، هو مقاطعة للاتحاد الأوروبي كله، إرهاباً وإرعاباً للمسلمين وكسراًً للحصار الاقتصادي ضد من أجرموا في حقهم؛ فعلى المسلمين أن يقولوا كلمتهم بلسان إسلامي واحد، ويقولوا إن الاعتداء على مقام نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو اعتداء على كل مسلم في أعز شيء عنده، ومن ثم، فإن كل مسلم من حقه، بل من واجبه رد الاعتداء، في حدود المشروع والمقدور؛ لأن من أَمِن العقوبة أساء الأدب، وأي إساءة للأدب أسوأ من التطاول على سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -؟ والمقاطعة الاقتصادية هي أحد الحقوق أو الواجبات في نصرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي يجب أن تؤدي دورها كاملاً، كما أدت الإساءة ـ كما أراد أصحابها ـ دورها كاملاً.
لكن المقاطعة وحدها لا ينبغي أن تكون آخر المطاف في ظل إصرار المعتدين على إفشالها وإرباكها، وقد أفاض العلماء والدعاة والمفكرون في تعديد الأشكال والأنواع التي تندرج تحت صنف مواجهة التحدي، لكن تحدياً آخر لم يتطرق إليه أحد فيما أعلم، وهو من سينظم هذه المواجهة، سواء كانت مقاطعة اقتصادية أو غيرها مما تفرضه تداعيات الأزمة أو ما يمكن أن يأتي بعدها؟ من سيضع ضوابطها، ويحدد أوقاتها، ويتابع فعالياتها؟ في ضوء الفرقة والشتات الذي تعانيه الأمة على مستوى نخبها قبل شعوبها؟!(18/410)
إن هذا هو التحدي الأكبر الذي تواجهه النخب العلمية والدعوية والفكرية والسياسية في الأمة، وإذا كانت تلك النخب غير قادرة اليوم على أن توحد صفوفها ـ ولا أقول رأيها ـ لتقود الشعوب في وجه مثل هذه التحديات الجديدة الكبرى، فلتترك الجماهير المسلمة تعبر عن مكنون الخير في الأمة في مواجهة التحدي؛ ولتدع لها (حرية التعبير) لكن بالضوابط والشروط بحيث لا تخرج عن الشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد أثبتت تجارب السنوات القليلة الماضية أن (الفطرة) التي تحرك تلك الجماهير، هي أذكى وأجدى من كثير من التنظير الناشئ عن حسابات حزبية أو آنية أو أمنية؛ فـ (عولمة الغضب) لا نتوقع لها نهاية قريبة... حتى لو انتهت أزمة الرسوم المسيئة
==============(18/411)
(18/412)
أسلمة الديمقراطية .. حقيقة أم وهم ؟ (1/2)
بقلم محمد بن شاكر الشريف
"...فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة ..."
عقيب الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي وسقوط دولته، كان هذا إعلانا بغياب القوة الرئيسة المنافسة لليبرالية الغربية، وكان في الوقت نفسه إعلانا بانتصار الليبرالية الغربية وتربعها على القمة العالمية، ومن تلك اللحظات بدأت الدعوة إلى الديمقراطية على أنها السند الشرعي لأي نظام تقوى وتنتشر، على أساس أن مرحلة الديمقراطية تمثل أفضل نظام سياسي يمكن أن تتوصل إليه البشرية، وأن التاريخ قد توقف عند هذا الحد فيما يعرف بـ"نهاية التاريخ" (كما يذكر فوكوياما) .
من هنا بدأت أغلبية الدول تسارع إلى هذا الخيار لعدم قدرتها على مناوأة الدولة العظمى المتسيدة للنظام العالمي الجديد والداعية إلى تغليب نظرتها الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي فقدت فيه تلك الدول الحماية التي كانت تتمتع بها من الاتحاد السوفييتي الزائل، ويظن كثير من الناس أن دعوة أمريكا إلى تبني النموذج الديمقراطي وفرضه على العرب والمسلمين كان نتيجة مباشرة لما اشتهر بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، فقد أظهرت أمريكا بعد هذا الحدث رغبة عارمة في نشر الديمقراطية في بلاد العرب والمسلمين على أنها العلاج الأكيد والناجع - من جهة مصلحتها - لهمجية العرب والمسلمين - بزعمها - .
فوجئت أمريكا في تلك الأحداث بهجمات عنيفة دامية، حيث هوجمت قلاعها الاقتصادية والعسكرية ، مما دعاها لإعلان حربها العالمية على الإرهاب، والتي كان منها الدعوة لنشر الديمقراطية حسب ما جاء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وتبنيها لدعاوى الإصلاح، وقد فرح بذلك الكثير من الإسلاميين ورأوا فيها الفرصة الكاملة للوصول إلى الحكم لتنفيذ مشروعهم السياسي، على أساس أن نشر الديمقراطية صار مطلبا أمريكيا يخدم مصلحة أمنها القومي ولذلك فهي تدعم ذلك التوجه وتعززه، وبذلك زاد زخم الحديث عن الديمقراطية، وعن توافقها مع الإسلام، وأن الإسلام قد سبق الديمقراطية وقرر أهم خصائصها، وإذا كان هذا الحديث ليس بالجديد كلية إلا أن زخمه قد زاد بعد الحملة الأمريكية ووجد له أنصارا كثيرين .
موقف بعض الإسلاميين من الديمقراطية :
الطور الأول من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) يزعم أن جوهر الديمقراطية موجود في الإسلام، وأن الإسلام قد سبق بما أتت به الديمقراطية، أو أنه يمكن أن تتوافق الديمقراطية مع الإسلام، وأن ما يُرى بينهما من اختلاف من الممكن إزالته، يقول خالد محمد خالد بعدما ادعى أنه يوجد لحكام وقادة غير مسلمين لكنهم ديمقراطيون شواهد قريبة من سلوك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : "من أجل هذا قلنا وسنظل نقول إن الديمقراطية إسلام" ويقول : "كان عرضنا هذه المشاهد - وهي قليل من كثير - تبيانا لديمقراطية الحكم في الإسلام، واكتشافا للتخوم الواسعة المشتركة بين الإسلام كدين وبين الديمقراطية كمنهج ونظام" .
ويقول الشيخ يوسف القرضاوي : "الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام" ، وكلام كثير جدا من مثل هذا .
وأما في وقتنا الحاضر بعد ظهور اعتراضات كثيرة من الناحية العقدية على الديمقراطية وهي واضحة وقوية، فقد نحا الطور الثاني من الفكر الإسلامي (الديمقراطي) إلى الفصل بين الفكر التنظيري الديمقراطي، وبين آليات الديمقراطية، فابتعد عن القبول بالأسس النظرية التي تقوم عليها الديمقراطية، لما تشتمل عليه من مصادمة صريحة للمقررات العقدية الإسلامية، بينما قبل الآليات الديمقراطية، على أساس أن الآليات هي مجرد وسائل عملية لا تنطوي على فكر أو عقيدة، بل هي آليات محايدة يستخدمها المسلم كما يستخدمها الكافر، كالسيارة التي يستخدمها المسلم في الذهاب إلى المسجد ويستخدمها النصراني في الذهاب إلى الكنيسة، وهكذا .
من أجل هذا رغبتُ في كتابة هذا المقال لبيان حقيقة الديمقراطية وهل حقا أتى بها الإسلام، أو أنه من الممكن إزالة ما بينهما من تعارض مع احتفاظ كل منهما بخصائصه المميزة، أو أنه يمكن التخلص من الأساس النظري لها وعدم التقيد به والاستفادة مما فيها من آليات مجردة عن أصولها المذهبية، وهذا أوان الشروع في المقصود :
ماذا تعني كلمة الديمقراطية ؟ :
الديمقراطية كلمة لا تينية وهي مكونة من شقين : الشق الأول demos وتعني الشعب ، والشق الثاني c r atie وتعني حكم أو سلطة، فاللفظ على ذلك يعني حكم الشعب، أو الحكم للشعب، "وإذا كان للديمقراطية مصطلحات عديدة ... إلا أن لها مدلولا سياسيا والذي شاع استعماله في كل الأدبيات والفلسفات القديمة والحديثة وأنها مذهب سياسي محض تقوم على أساس تمكين الشعب من ممارسة السلطة السياسية في الدولة" ، فالكلمة العليا والمرجعية النهائية إنما هي للشعب ولا شيء يعلو فوقه، فهي "تعني أن يضع الشعب قوانينه بنفسه، وأن يحكم نفسه بنفسه، ولنفسه" .(18/413)
والحكومة التي تقبلها النظرية الديمقراطية "هي الحكومة التي تقر سيادة الشعب وتكفل الحرية والمساواة السياسية بين الناس وتخضع فيها السلطة صاحبة السلطان لرقابة رأي عام حر له من الوسائل القانونية ما يكفل خضوعها لنفوذه" .
وقد تبلورت هذا الفكرة فيما بعد تحت مصطلح السيادة، وقد عُرِّفت السيادة :بأنها سلطة عليا مطلقة لا شريك لها ولا ند متفردة بالتشريع الملزم، فيما يتعلق بتنظيم شئون الدولة أو المجتمع، فلها حق الأمر والنهي والتشريع والإلزام بذلك، لا يحد من إرادتها شيء خارج عنها، ولا تعلوها أو تدانيها سلطة أخرى ، والسيادة في الفكر الديمقراطي إنما هي للشعب وتتمثل ممارسة الشعب للسيادة في ثلاثة جوانب رئيسة :
1- إصدار التشريعات العامة الملزمة للجماعة التي يجب على الجميع الالتزام بها وعدم الخروج عليها، وهذه تمارسها السلطة التشريعية .
2- المحافظة على النظام العام في ظل تلك التشريعات، وهذه تمارسها السلطة التنفيذية .
3- حل المنازعات سلميا بين المواطنين انطلاقا من هذه التشريعات، وهذه تمارسها السلطة القضائية ، ويتبين من ذلك أن السلطة التشريعية هي أم السلطات الثلاث .
تطور الديمقراطية باختلاف الأزمان والبيئات :
وليس من شك في أن الديمقراطية تطورت مع الزمن تطورا كبيرا ولم تبق على شكلها الأول الذي ظهرت به أول مرة في أثينا ، فقد كان الشعب الذين يحق لهم الحكم في بداية الفكرة قليلا بالنسبة للعدد الفعلي، فقد أخرج منه الأرقاء كما أخرج منه النساء، كما اشترط لذلك بعض الشروط كامتلاك نصاب مالي معين، والتمتع بكفاءة أو وجاهة في المجتمع، وبمرور الزمن تغير كثير من كل ذلك، إلى أن وصل إلى حق الاقتراع العامة .
كما اختلفت الصورة التي تمارس بها الديمقراطية فبعد أن كانت الديمقراطية تباشر من قبل الشعب بلا واسطة فيما عرف بالديمقراطية المباشرة، احتاجوا مع تطور الأوضاع، والانتقال من دولة المدينة - صغيرة المساحة قليلة العدد - إلى الدولة القومية - ممتدة المساحة كبيرة العدد - وقيام عوائق في سبيل العمل بالديمقراطية المباشرة، إلى تغيير الصورة من الديمقراطية المباشرة إلى الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، التي ينوب فيها عن الشعب أفراد يختارهم الشعب ليحكموا بدلا عنه، كما ظهر التزاوج لاحقا بين الصورتين فيما سُمي بالديمقراطية شبه المباشرة، وذلك للتغلب على بعض السلبيات من إلغاء الديمقراطية المباشرة كليا، حيث تكون هناك موضوعات يحكم فيها الشعب حكما مباشرا، وموضوعات أخري يحكم فيها الشعب حكما نيابيا .
كما تعددت أشكال الحكومات ، فهناك النظام الرئاسي ، حيث تتركز السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويكون هناك فصل شبه حاد بين السلطة التنفيذية "رئيس الجمهورية"وبين السلطة التشريعية "البرلمان" .
وهناك النظام البرلماني ، حيث تتركز السلطة في يد مجلس "برلمان" منتخب من الشعب، وهو الذي يعين الوزارة، ويوجد هنا تداخل بين أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية .
وهناك نظام حكومة الجمعية ، حيث تتركز السلطة في يدجمعية منتخبة من الشعب وهي تجمع في يدها سلطات واختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية .
ومع كل هذه التطورات والتغيرات في الأشكال والصور، ظلت الديمقراطية تحافظ على أمر جوهري لم تحد عنه أبدا، وهو الأمر الذي تكون اسمها منه وهو أن الحكم للشعب، فلا شيء يعلو عليه، وكل سلطة في المجتمع فإنما تستمد منه، فالشعب (السياسي) كله له الحكم : فالأغلبية لها حق التفرد بالحكم، والأقلية لها حق المعارضة للأغلبية .
تأثير الفكر الديمقراطي على الدساتير العربية :
وقد ظهر هذا واضحا في دساتير البلاد العربية التي كتبت في بدايات القرن العشرين وما تلا ذلك ففي الدستور المصري المادة رقم 3 : "السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها" ، وفي المادة 86 : "يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع" .
وفي الدستور السوري المادة رقم 2 في الفقرة الثانية : "السيادة للشعب، ويمارسها على الوجه المبين في الدستور" ، وفي المادة رقم 5 : "يتولى مجلس الشعب السلطة التشريعية على الوجه المبين في الدستور" .
وفي دستور السودان الانتقالي لسنة 25 في الباب الأول الفقرة الثانية : "السيادة للشعب وتمارسها الدولة، طبقا لنصوص هذا الدستور والقانون" .
وفي الدستور الأردني مادة 24 : "الأمة مصدر السلطات" ، ومادة 25 : "تناط السلطة التشريعية بمجلس الأمة والملك" .
وفي الدستور التونسي مادة رقم 3 : "الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور" ، وفي المادة 18 : "يمارس الشعب السلطة التشريعية بواسطة مجلس نيابي" .(18/414)
وفي الدستور الجزائري مادة رقم 6 : "الشعب مصدر كل سلطة، السيادة الوطنية ملك للشعب وحده" ، وفي المادة رقم 7 : "السلطة التأسيسية ملك الشعب، يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها" ، وفي المادة 98 :"يمارس السلطة التشريعية برلمان يتكون من غرفتين وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه" .
وفي الدستور المغربي مادة رقم 2 : "السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة المؤسسات الدستورية" .
وفي الدستور القطري مادة 59 : "الشعب مصدر السلطات ويمارسها وفقا لأحكام هذا الدستور" ، وفي المادة 61 : "السلطة التشريعية يتولاها مجلس الشورى على الوجه المبين في هذا الدستور" .
وفي الدستور الكويتي مادة 51 : "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة وفقا للدستور" .
وبقية الدساتير لا تخرج عن ذلك من حيث المضمون وإن اختلفت الصيغ، كما أن هذه الدساتير تنص على أن نظام الحكم نظام ديمقراطي، وهي الصيغة السياسية لمصطلح السيادة الشعبية .
وهذه الخصيصة التي تميزت بها الديمقراطية على تعاقب الدهور تعد أكبر اختلاف حقيقي بين الإسلام وبينها، فإن قاعدة الإسلام هي توحيد الله تعالى، والتي تعني أن يكون المسلم عابدا لله وحده، وذلك بالاحتكام إلى ما شرعه الله تعالى في أموره كلها من صلاة وصيام وحج، ومعاملات بين الناس وخصومات، وفي شئونه كلها.
فقد ورد في مواضع عديدة من كتاب الله قصر الحكم عليه سبحانه فقال تعالى : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام :62 ] ، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [يوسف : 4، وقال تعالى : { َفالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء :59] فلم يُحكم الله تعالى في موارد النزاع أحدا غير الكتاب والسنة، وقال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [النساء :65 ] فأوجب تحكيم الرسو صلى الله عليه وسلم في كل ما يشجر بين المسلمين، وأمر رسوله أن يحكم بين الناس بما أنزله عليه فقال تعالى : {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة :48] ، وقال تعالى في الآية التي تليها : {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة :49] .
فالحق عند المسلم هو ما أمر به الله تعالى ورسول صلى الله عليه وسلم أو دعا إليه، والباطل هو ما نهى الله عنه ورسول صلى الله عليه وسلم ، فالله تعالى هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يُلزم، وهو الذي يعاقب على المخالفة ويثيب على الطاعة، فالسيادة الكاملة إنما هي لله تعالى وحده، وقد قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : (السيد الله) .
بينما الحق في الديمقراطية هو ما أمر به الشعب، والباطل هو ما نهى عنه الشعب، وإرادة الشعب هي معيار الخطأ والصواب، فما أقرته وقبلته فهو الصواب وما تركته ولم تقبله فهو الخطأ، فالإرادة الشعبية معصومة، ومن هنا فإن الديمقراطية قد رفعت الشعب إلى المنزلة التي لا تليق إلا بالله تعالى، وهذا الفرق لا يستطيع أن ينكره أحد، إلا عن طريق الكذب والتضليل لخداع الناس وإيهامهم، وتعريفات الديمقراطية في بلد المنشأ تدل على ذلك، بل ابتعاد الديمقراطية عن الدين هو أحد مسوغات الدعوة إليها .
والديمقراطيون الحقيقيون لا يعدون هذا عيبا أو نقصا يحاولون التبرؤ منه، بل هو عندهم من مميزات الديمقراطية، فكما يبين أحدهم أنه يستحيل تعريف الديمقراطية "دون تحرير الذهن من الأحكام المسبقة مهما كانت، أي إعطاء مسئولية القرار للشعب دون تقيد مسبق بأي قيد نصي أو تشريعي أو فقهي، فالناس وفق هذا المنطق هم الذين يملكون حق السيادة والمرجعية في شئونهم التعاقدية الوضعية" ، وبهذا يتم فك أي ارتباط إيجابي بين الديمقراطية وبين الدين، فالديمقراطية تبعد الدين عن التدخل في الحياة العامة للمجتمع، وهي بذلك تكون الوجه السياسي للعلمانية، وهذا لا شك اختلاف جذري بين الإسلام والديمقراطية ولا يمكن تقريب الديمقراطية من الإسلام إلا بالتخلي عن هذا الوصف الجوهري في الديمقراطية، لكن إذا أمكن التخلي عن هذا الوصف في محاولة التقريب، هل يظل ما بقي منها باسم الديمقراطية ؟(18/415)
في حين لا يمثل الشعب أية مرجعية في الحكم، هذا ما تأباه قواعد اللغة ويأباه العقل والمنطق، ولا يمثل الإبقاء على الاسم في هذه الحالة إلا القبول بالتبعية الفكرية، واختزال الفكر الإنساني كله في الفكر الغربي .
لكن هل استطاعت الديمقراطية أن تحقق هذا الذي زعمته وادعته ؟
يقسم الفكر الديمقراطي الشعب إلى فئتين :إحداهما يمكن تسميتها بالشعب السياسي، وهو الذي تكون له السيادة، والفئة الثانية هي المتبقية من مجموع الشعب، وهي التي لا دخل لها بهذه السيادة، وهذه الفئة تغيرت بتغيير الأزمان، فقد كانت في أول الأمر تشمل الأرقاء وتشمل النساء والأطفال غير البالغين، والرجال غير المتعلمين، والفقراء، وغير النبلاء في المجتمع، وهم يمثلون الأغلبية العددية في المجتمع، وقد كان النظام الذي يمنع كل هذه الفئات من السيادة ينظر إليه على أنه نظام ديمقراطي، مما يبين أن السيادة الشعبية كانت مجرد شعار لا رصيد لها يسندها من الواقع، ثم بمرور الزمن تغيرت هذه الفئة، لكنها ما زالت حتى الآن تشمل الصبيان الذين لم يبلغوا سنا معينة (18عاما) إضافة إلى المحكوم عليهم في بعض القضايا التي تحددها القوانين .
وإذا تجاوزنا هذه النقطة وانتقلنا إلى الدستور الذي يعد أعلى وثيقة قانونية في النظام الديمقراطي يلتزم بها الجميع ويحنون هاماتهم لها، واتخذناه مثالا للحديث، نجد أن الشعب لم يكن هو الذي وضع هذه الوثيقة، وإنما وضعها مجموعة من الناس ممن تخصصوا في الأمور القانونية والمسائل السياسية، وهي لا شك مجموعة صغيرة جدا جدا بالمقارنة إلى عدد الشعب (السياسي) مما يعني أن السيادة الشعبية لم تكن هي التي صاغت أعلى وثيقة قانونية يتحاكم إليها في البلاد، ولو قيل : لكن هذا الدستور لا يُقَر إلا بعد الموافقة عليه من الشعب عن طريق التصويت وأخذ الآراء، فإن ذلك أيضا لا قيمة له لعدة أمور :
أولا: تشتمل هذا الوثائق على مسائل فنية تخصصية لا يدركها إلا المتخصصون وهم قلة قليلة في أي مجتمع، فموافقة غيرهم عليها ليس له قيمة حقيقية ، وكذلك اعتراضهم لا قيمة حقيقية له، فإن الموافقة أو الاعتراض الناشئين عن مجرد الرغبة أو الاستجابة للدعابة ووسائل الإعلام، من غير علم حقيقيي بالمسألة والقدرة على تبيان ما فيها من إيجابيات أو سلبيات لا يساوي شيئا في ميزان تقويم الآراء .
ثانيا : لو تجاوزنا هذه النقطة فإنه دائما ما لا يحصل إجماع على تلك الوثائق، بل يقبلها طائفة ويرفضها آخرون، ذلك أنه في ظل عدم وجود مرجعية متفق عليها بين الناس ويخضعون لها - خارجة عن الإنسان نفسه - فإنه يستحيل أن يتفق الناس كلهم أو أغلبهم على رأي واحد في عشرات بل مئات المسائل المهمة، وإذا أُقرت هذه الوثائق لكون الموافق عليها أكثر من المعترض، فمعنى ذلك أن هناك مجموعة كبيرة من الشعب (السياسي) وهي قد تصل إلى الثلث أو قريب من النصف (على حسب الأغلبية المعتد بها في هذه المسائل)، لم يكن لنصيبها من السيادة الشعبية أثر في إقرار هذه الوثيقة، على أن موافقة الموافق لا تعني بالضرورة موافقة حقيقية، إذ ربما تكون الموافقة نتيجة ضغوط من أطراف خارجية، أو تدخل الإعلام الموجه الذي يقوم بدور كبير في صناعة وتشكيل آراء الناس وتصوراتهم، أو نتيجة الاتفاق على تقسيم المغانم بين الفئات المؤثرة في التصويت، وأقرب مثال لذلك ما حدث في إقرار الدستور العراقي الذي وضع بعد الاحتلال .
بل إن الأساس الذي يعتمد عليه في بيان الأغلبية المعتد بها، هل هو الأغلبية المطلقة (أي ما زاد على 5% ولو كان بصوت واحد) أو أغلبية الثلثين أو غير ذلك، هو نفسه يحتاج إلى إجماع الشعب (السياسي) حتى يمكن أن يؤسس عليه ما يأتي بعده، وإلا لم يكن هناك أي معنى للحديث عن السيادة الشعبية المتخذة عن هذا الطريق، وهذا الإجماع نادر الحدوث، وعادة ما لا يحدث أبدا .
ثم إن الذين يحق لهم الدخول تحت مسمى الشعب السياسي، كثير منهم لا يشارك في عمليات الانتخاب والتصويت، مما يجعل الأغلبية عند حدوثها هي أغلبية من شارك في التصويت لا أغلبية الشعب السياسي، ولو أننا أخذنا مثالا قريبا من انتخابات قد جرت في مصر فقد فاز الرئيس المصري بالانتخابات بنسبة تجاوزت الثمانين في المائة لكن لو نظرنا كم فردا اشترك في الإدلاء بصوته ممن يحق لهم المشاركة، لم نجده يتجاوز نسبة الـ (24%)، حسب الإحصاءات الرسمية، وما يجري في كثير من الدول لا يختلف عن هذا .
ثالثا : ولو تجاوزنا هذه النقطة ونظرنا إلى الدستور الذي تم إقراره، فإنه بعد جيل أو جيلين يكون الذين أقروا هذا الدستور جيفا تحت التراب، وهذا يعني إثبات السيادة والإرادة لأناس أموات، وهو ما يعني في الوقت نفسه، أن الأحياء محكومون بإرادة الموتى، وليس بإرادتهم، فأين السيادة الشعبية في هذا .
رابعا : ولو تجاوزنا مرة أخرى هذه النقطة، فإن الأطفال الذين كانوا أطفالا وقت كتابة الدستور وإقراره، قد صاروا بعد زمن رجالا لهم جزء من السيادة، فأين تأثير هذه السيادة على الدستور والقوانين المنبثقة عنه في إدارة البلاد .
وفي تحديد الشعب نفسه :(18/416)
ما الذي يجعل العربي والكردي في العراق يمثلون شعبا واحدا، وكذلك الكردي والتركي في تركيا يمثلون شعبا واحدا، والعربي والبربري في الجزائر يمثلون شعبا واحدا، كل فرد منهم له جزء من السيادة، بينما العربي الأردني أو المصري أو السوري المقيم في بلد عربي آخر لا يعد من شعب ذلك البلد، ومن ثم لا يمثلون شعبا واحدا ؟ ولا شك أن هذا المقيم في بلد ما تجري عليه أحكام هذا البلد، وهو في الوقت نفسه لا يعد من الشعب فليس له أية حقوق في ممارسة الحكم فيه، (وهذا أمر يقره الفكر الديمقراطي) ما يعني أنه ليس له نصيب في السيادة الشعبية، وهنا تخفق الديمقراطية في تقديم التفسير المقنع لرضوخ هذا المقيم أو إجباره على الالتزام بأحكام البلد الذي يقيم فيه، من غير أن يكون له نصيب من السيادة أو ممارسة الحكم فيه .
وبالانتقال من كل ذلك نجد أن المؤهلين لممارسة الحكم باقتدار حقا، ليسوا هم الشعب كله، بل هم مجموعة أناس معينين محدودين، مما يجعل الحكم محصورا فيهم إلى حد كبير، وبذلك يتحول دور الشعب من كونه الممارس للحكم، إلى الاقتصار على اختيار القادة الأكفاء ليقوموا بممارسة الحكم، وهو لا يمارس هذا الحق إلا مرة كل عدة سنوات عندما تحين مواعيد الانتخابات، وفي كل هذا قضاء على قضية السيادة الشعبية، وهو ما يؤول في النهاية أن تكون الديمقراطية بحق هي حكم الأقلية وليس حكم الأكثرية .
فالديمقراطية وإن كانت قد انطلقت من نقطة أن الحكم للشعب لكنها انتهت واقعا وفعلا لحكم الأقلية، الأقلية الغنية المثقفة المنظمة التي استطاعت أن تحول القضية لصالحها فيما يطلق عليه حكم النخبة "ففي الأنظمة الغربية لا يحكم الشعب كما تفترض النظرية، ولكن الذي يحكم هي تلك الأقلية التي تسمى النخبة، ومن ثم ففي الغرب نخبة ديمقراطية تحكم بسبب ما يتوفر لها من قدرة على التحكم في الموارد الطبيعية ومصادر الثروة والقوة، وبحكم بعض المزايا الموروثة وغيرها من العوامل "ويحق لنا بعد ذلك كله أن نقول : إن اعتبار الشعب هو الذي يحكم في النظام الديمقراطي، يعد من الخدع الكبرى في تاريخ الأنظمة السياسية" .
هذا العيب الجوهري في الديمقراطية الذي يجعل السيادة للشعب - وهو الأمر الذي تشبثت به ولم تستطع تحقيقه في واقعها، وذلك لعدم واقعيته - هو نقطة الضعف القاتلة لها في شريعة الإسلام، وهو ما دعا الكثيرين ممن يريدون جعل الديمقراطية من مكونات النظام السياسي الإسلامي أو إدخالها فيه - وذلك بغرض الخروج من حالة الاستبداد التي تعيشها كثير من شعوب الأمة الإسلامية - إلى تجاوز هذه النقطة تحت الدعوة إلى الاستفادة من آليات الديمقراطية، دون التمسك بالأساس النظري لها أو الاعتماد عليه، على أساس أن هذه النظرة المذهبية أو الفلسفية للديمقراطية كانت مرتبطة بزمن النشأة وظروفها، وقد تجاوزتها الديمقراطية في تطبيقاتها المعاصرة، ولم تعد تعول على هذا الأساس، أو ترتبط به .
فهم يرون أن الديمقراطية كفلت الكثير من الحقوق والحريات التي تتحقق بها إنسانية الإنسان كحرية التنقل، والاستقلال في الرأي والتفكير، والمشاركة في القرار السياسي وفي اختيار الحكومة، وفي القدرة على الإنكار على الحكومات، وتغييرهم عند الخروج عن الجادة، وفي حق التملك وحق الأمن وغير ذلك، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون، ويرون أن هذه الأمور لا ترتبط بالأساس النظري للديمقراطية الذي قامت عليه الديمقراطية، بل هي آليات تنظيمية، وطرائق عملية للحفاظ على حقوق الناس وحرياتهم، وتأمين تداول السلطة بينهم بطريقة سلمية، كما أنها من الأمور المشروعة في الإسلام .
لكن هنا نقطة مهمة غابت عن أصحاب هذا الرأي، الذين يحاولون سلخ الديمقراطية من أصلها وذلك أن هذا رأيهم ولا يعبر عن الشعب السياسي كله، فالشعب السياسي حسب الفكر الديمقراطي يدخل فيه المواطن المسلم كما يدخل فيه المواطن الكافر، والمسلمون منهم المسلم حقيقة ومنهم غير ذلك كالعلمانيين والحداثيين والقوميين وغيرهم، وهؤلاء يصرون على ارتباط الديمقراطية بأصلها الذي خرجت منه، ولا سبيل - ديمقراطيا - بإلزامهم بغير ذلك .
ولا شك أن العمل الديمقراطي القائم على الأساس الفلسفي للديمقراطية يتناقض مع المقررات الإسلامية كما ظهر، فإن جعل التشريع بيد الشعب هو إلغاء لشريعة الله تعالى وهذا ما لا يقول به مسلم أو يقبله، ولعل في ظهور هذا العيب الواضح في الديمقراطية، ما يدعونا إلى عدم الوقوف أمامه ويكفي فيه ما تقدم، ويبقى الحديث عن التصور الذي يتناول الديمقراطية بوصفها آليات، أو منهج عمل، من غير استناد إلى فكرة أو تصور مذهبي أو فلسفي، وهذا هو موضوع المقال القادم إن شاء الله .
============(18/417)
(18/418)
الإصلاح على الطريقة الأميركية
- الإصلاح الأميركي قادم بسرعة الصاروخ، والكل في المنطقة يتأهب وشعاره «كن مستعداً لتنفيذ الأوامر». ففي الأسابيع الماضية، حاول عمرو موسى ورفاقه من وزراء الخارجية العرب، إصلاح جامعة الدول العربية أو ترميمها، أو نفض غبار احتلال العراق عنها، لكنه لم يصل إلى علاج ناجع ريثما يأتي الترياق من واشنطن.
- انعقد مؤتمر في مكتبة الإسكندرية في 12/3، تحت عنوان «قضايا الإصلاح العربي»، وألقى فيها الرئيس مبارك كلمة شدّد فيها على التحديث والتطوير، وحضر بعض المؤتمرين دون تمكنهم من الاطلاع على وثيقة «الشرق الأوسط الكبير» فبدأ في البحث عنها ليتمكنوا من نقدها، علماً أنها محور النقاش، وشارك في المؤتمر 170 شخصية من الناطقين بالعربية، وتحدثوا عن الإصلاح السياسي، والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ومشاركة المرأة والشباب في الحياة السياسية، وتحدثوا عن تداول السلطة سلمياً، والتعددية، ومنح المجتمع المدني دوراً أكبر.
- وأخيراً، بدأت الأنظمة العربية، بعد صدور الأوامر الأميركية، بالحديث في أمور كان الحديث فيها من الممنوعات، والأنظمة الآن في سباق مع الأوامر، لكي تقول للناس إنها قامت بمحاولات لتجميل صورتها، ليس امتثالاً لأوامر واشنطن، بل طوعاً واستباقاً للضغوط، لكن الصورة واضحة، والناس يعرفون كل ما يدور حولهم، وليسوا جهلاء، ولن تتركهم أميركا حتى تمرّغ كرامتهم في الوحل، والأيام القادمة حافلة بالأحداث المذلّة بسبب الهجمة الأميركية المتغطرسة.
- وفي 12/3 تحولت أعمال شغب بين جمهوري فريقي (الفتوة) من دير الزور، و(الجهاد) من مدينة الحسكة، إلى أعمال تخريب وعنف في مدينتي القامشلي، ودمشق، واعتدى خلالها متظاهرون على ممتلكات عامة، ورفعوا شعارات سياسية، وحرقوا ممتلكات، وكسروا سيارات خاصة، أو سيارة إسعاف، ومحلات ومؤسسات عامة. وتعليقاً على ذلك نقول دون الدفاع عن أحد من الحكام، أو هجوم على أحد من هواة كرة القدم، بل حزناً على هذه الأمة التي تساق سوقاً إلى المخططات المرسومة من قبل العدو الأميركي.
- لقد حدثت في منطقتنا في العقود الأخيرة أحداث زلزلت المنطقة زلزلة شديدة، ولا داعي لذكرها، إذ الكل يعرفها، لكنها لم تحرك الشارع في سوريا، لكن لعبة كرة قدم حركته تحريكاً يثير الريبة والشك، في أن له تداعيات ترتبط بالضغوط الخارجية، فقبل أيام قليلة تحرك أنصار حقوق الإنسان في تظاهرة في دمشق، وكان بينهم دبلوماسي أميركي، ثم تحرك أنصار «عون» في بيروت في يومين متتاليين، ثم تحركت خلال 24 ساعة أحداث القامشلي ودمشق، والاعتداء على السفارة في بروكسيل، والاعتداء على شاحنة مدنية في بغداد، كل ذلك ترافق مع تحريك قانون محاسبة سوريا!!
================(18/419)
(18/420)
الترابي.. في مواجهة أمطار غزيرة ....!
نعم ...هى طريقته التى تميزه عن غيره من السياسيين والمفكرين, فتصنف
عند البعض بأنها ''ميزة افضلية '' على الآخرين, وبعض آخر ينظر اليها كواحدة من الاسباب التى تعيق انطلاقه السياسى وتجعله يبدد مكاسبه السياسية بسهولة ويسر, على ما انفق فيها من جهد وسعى..!
الدكتور حسن عبد الله الترابي.. يلقى آراءه وافكاره المثيرة للجدل والاشتباك فتقوم الدنيا عليها احتجاجاً وتجلس مختصمة بين رافض ومؤيد..والرجل لايدير رأسه الى الوراء, اذ انه يمضى من محطته تلك , ليثير قضية أخرى فى محطة جديدة..!
فقبل ان تزول آثار حديثه السياسي عن محاولة اغتيال الرئيس المصرى حسنى مبارك وما صاحبها وتكتمل دائرة ردود فعل ما قال,اذا بالترابي ينتقل بقاطرته الى مجالات الفقه ,فتتعدى ردود فعلها النطاق المحلى لتأتى الردود من مجمعات الفقة من المملكة العربية السعودية ومن الشيخ يوسف القرضاوى وحزب العمل الاسلامى بالاردن .وقبل هؤلاء تصدر بيانات الحركات السلفية بالخرطوم التى لا تبدأ بالشيخ محمد عبد الكريم الذى اعتقل فى مستهل التسعينات بعد اصداره لشريط كاسيت حمل عنوان ''اعدام زنديق'' -ويقصد الترابي- ولا تنته البيانات بفتاوى الشيخ سليمان ابو نارو زعيم فصيل من جماعات الاخوان المسلمين المنقسمة على نفسها عدة مرات..وبين هؤلاء تقف الكيانات الدينية الرسمية على حياد متأهبة للحديث اوللصمت معاً...!
سرقة الكاميرا
وبهذه المزية يستطيع الترابي على قول أهل الدراما ان يسرق الكاميرا من القضايا والاشخاص فلا يغادر مانشتات الصحف ولا شاشات الفضائيات ولا مجالس المدينة الا ليأتى اليها أكثر اثارة!
آراء الترابى التي اطلقها عن امامة المرأة للصلاة وعن جواز تزويجها من المسيحى واليهودى وعن ان شرب الخمر لا يصبح امراً قانونياً الا اذا تحول لعدوان وان شهادة المرأة تعادل شهادة الرجل وقد تفوق، وكون الحجاب يقصد به خمار المرأة الذى يغطى صدرها فقط .. وألا عودة اخرى للمسيح وان انتظار المهدى لا جدوى منه...فهى أغلبها آراء ادلى بها الترابي من قبل, لكنه قام بذلك فى دوائر شبه مغلقة, ولم يتسرب منها الا القليل منقولةً عنه من شانئيه ,الامر الذى كان يضع الفتاوى بين الشك واليقين. ورغم ذلك فقد كانت تتشكل حول فتاويه امواج من ردود الفعل تتراوح بين النقد والتجريح والعتاب والقبول...!
هجمات سابقة
من قبل قوبلت هذه الآراء بنقد شرس من الدكتور عصام احمد البشير، في أواخر السبعينات ولكن دكتور عصام عاد ووافق الترابي فى بعض آرائه وسكت عن البقية.. وتصدى لآراء الترابي زعيم انصار السنة الشيخ المرحوم بن باز.. واعتبرها الداعية السعودى سفر الحوالى في شريط تعليمى مسجل انها العلمانية فى ثوبها الجديد... واخرج فى مستهل التسعينات الشيخ القادم من المملكة العربية السعودية بعد ابعاده من هنالك محمد عبد الكريم- رئيس الرابطة الشرعية للدعاة- شريطه الشهير ''اعدام زنديق'' الذى قام بمنتاجه فنياً احد اعضاء حركة الجهاد المصرية, وتردد ان الاجهزة السودانية قد قامت بتسليمه للسلطات المصرية بعد ان كان محبوساً لسنوات هو وعبد الكريم بسجن كوبر..واثناء الخلاف الذى نشب بين الشيخ الترابي والرئيس البشير فيما عرف صحفياً بصراع القصر والمنشية قامت مجلة ''الدستور'' السودانية بنشر مادة الشريط على صفحاتها , الامر الذى اعتبره البعض محاولة لوضع الترابي فى مواجهة صدامية مع المجموعات السلفية تصرفه عن منازلة القصر الجمهورى بالبرلمان فى ما عرف وقتها بأزمة التعديلات الدستورية..!
وفى منتصف التسعينات قبل اضعاف وضع الترابي داخل السلطة, كان قد تعرض الدكتور جعفر شيخ ادريس- اشرس الناقدين للترابى- لاعتداءات لفظية وتعبيرية لاذعة بمسجد جامعة الخرطوم, من عدد من شباب الاسلاميين بعد الهجوم الذى شنه ادريس على الترابي وافكاره معاً في الصحف والندوات... وانتقل الرد على شيخ ادريس الى قاعة الشارقة بجامعة الخرطوم حيث الدكتور امين حسن عمر والاستاذ المحبوب عبد السلام والدكتور التجاني عبد القادر تصدوا دفاعاً عن الترابي وآرائه وهجوماً على شيخ ادريس ,الذى وصف من قبل المحبوب ''بطائر البطريق'' فى عدة مقالات نشرها الاخير بصحف الخرطوم..!!
اين هؤلاء؟(18/421)
وما تجدر ملاحظته ان الترابي كان لا يرد معقباً على منتقديه, ويترك ذلك اما للمحبوب عبد السلام او امين حسن عمر او الدكتور التجاني عبد القادر وفى مرات الاستاذ احمد كمال الدين المحامى او الاربعة معاً.. وتمر الآن كثير من المياه تحت الجسر, حيث لم يعد الدكتور امين حسن عمر وان كان على وفاق مع الترابي فى أغلب آرائه لكنه لم يعد له حماسة الدفاع، بعد انقسام الرابع من رمضان, وذهاب امين بعيداً عن الترابي... اما الدكتور التجاني عبد القادر فهو بالولايات المتحدة الامريكية في عالمه الاكاديمي منكفياً عليه, و المحامى احمد كمال الدين المقيم حالياً بدولة البحرين تشغله الكتابة عن ازمة دارفور عن اشياء كثيرة, فهو يغرد قريباً من سرب حركة العدل والمساواة, نعم ..لم يعد الا المحبوب عبد السلام وحده يطارد ناقدى الترابي وافكاره ويتصدى لهم بحجج نصية وتفسيرية مساقة بأسلوب صحفي جاذب... ولكن ذلك لا يكفى فى صد الهجوم على الترابي الذى يأتيه من عدة جبهات.. حيث لم يقصر الامر على المجموعات السلفية ومشايعيها فقط..حيث هنالك هجمات متكررة ظلت تأتى للترابى من اعداء آخرين وهم من المدرسة الصوفية على اختلاف طيفها حيث اصدر الشيخ علي زين العابدين كتاباً تحت عنوان (الصارم المسلول في الرد على الترابي شاتم الرسول) ..وهنالك كتاب آخر اصدره شيخ صوفى من موريتانيا وهو من اصل سعودي الشيخ ابراهيم ملا خاطر وكان تحت عنوان (سهام الاصابة على من انكر حديث الذبابة) أضف إلى كل هؤلاء مجموعات من العلمانيين تكفيهم الشماتة عليهم...!
امطار غزيرة
اذاً هى حرب على جبهات عديدة تواجه الترابي في كل مرة يتم فيها الاتحاد عليه بين اعداء استراتيجيين لبعضهما(السلفيون والصوفية)..وعلى غير بعيد تنتظر الحكومة فى شقها الايمن المؤتمر الوطني على ضفة النهر....!
كثافة الآراء الفقهية التي اطلقها الترابي اخيراً وتتابعها الزمنى المتقارب.. جعلت المراقبين يبحثون عن دلالة للتوقيت او ان كانت ترقد تحت هذه الآراء بعض من اجندة سياسية...؟
هنالك تفسيرات مختلفة:
اولها/ ان هذه الآراء للترابي آراء قديمة ولكن لتقدير منه او لتدبير ممن هم معه في ايام جبهة الميثاق والجبهة الاسلامية والانقاذ لم يكن يصرح بها في دوائر مفتوحة تحسباً لخسائر سياسية قد تترتب عليهم, عندما تستغل جماهيرياً ضدهم من قبل الخصوم..وهنا يفسر التوقيت على وجهين:
1/ ان الترابى تخلص من عبء الحسابات السياسية واصبح يتحرك بطاقة وطلاقة المفكر.. الذى كانت تقيده التقديرات السياسية!
2/او انه وصل لقناعة بلوغه سقف تجربته السياسية حاكماً ومعارضاً وحتى لا تنحسر عنه الاضواء, اراد الانتقال الى مربع آخر وهو مربع الفقة كي يحتفظ بنجوميته هنالك...!
ثانياً/هنالك من يرى في التوقيت محاولة للدخول للملعب السياسي عبر باب جديد..بمعنى ان الترابي ادرك بان سبباً اساسياً من اسباب اقصائه من السلطة هو العامل الخارجي, فاراد عبر اطلاق هذه الفتاوى على العلن ان يقدم نفسه فى نسخة جديدة للغرب على مقاس احتياجه الراهن- في الوجه الثقافي والاجتماعي - لفتاوى جديدة تدعم مشروع الشرق الاوسط الكبير..ومن هنا خرجت اشاعة ان اتصالاً هاتفياً قد تم بين الترابي والرئيس الامريكي جورج بوش...!
ثالثاً/ ترجع مصادر مقربة للترابي توقيت اطلاق الفتاوى الى تأملات وقراءات قام بها الشيخ ابان فترة اعتقالاته الاخيرة جعلته يستوثق اكثر من سلامة آرائه.. ويضيف اليها آراء جديدة...!!
كيف النهاية؟
اخيراً تبدو المواجهة مع الترابي فى سبيل ان تنتقل من مواجهة فكرية وصحفية (عبر الصارم المسلول وسهام الاصابة) الى مواجهة اعتدائية كما يلوح البعض او قانونية وهى ما طالبت به الجماعات السلفية بالخرطوم والتي اصدر ابرز قادتها الشيخ محمد عبد الكريم من قبل شريط ''اعدام زنديق''...
------
بقلم ضياء الدين بلال نقلا عن الرأي العام
===============(18/422)
(18/423)
الحوار بين الحضارات
د. خالد بن عبد الله القاسم 25/7/1427
19/08/2006
أولاً: الإسلام دين الحوار:
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:
ثالثاً: آداب الحوار:
وقبل الدخول في حوار الحضارات نمهد بتعريف الحوار والحضارات.
أما الحوار في اللغة من الحور وهو الرجوع ويتحاورون أي يتراجعون الكلام(1).
وقد ورد في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم كلها تظهر الاختلاف بين المتحاورين ومحاولة إقناع بعضهم بعضاً، الأول ورد في قصة أصحاب الجنة "فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً" [الكهف:34]، والثاني فيها أيضاً "قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً" [الكهف:37]. والثالث في أول سورة المجادلة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا" [المجادلة:1]. ونفهم من هذه المواضع الثلاثة أن الحوار مراجعة الكلام وتداوله بين طرفين مختلفين.
ويتفق الحوار مع الجدل والمناظرة والمحاجة في كونه مراجعة الكلام وتداوله بين عدة أطراف إلا أن الجدل يأخذ طابع القوة والغلبة والخصومة وهو مأخوذ من معناه اللغوي حيث يسمى شدة القتل جدل، والجدال من الإبل الذي قوي ومشى مع أمه(2).
ولفظة الجدل مذمومة في غالب آيات القرآن الكريم، حيث وردت في تسعة وعشرين موضعاً(3)، مثل قوله سبحانه: "مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً" [الزخرف:58]، ولم يمدح الجدل إلا إذا قيد بالحسنى وجاء ذلك في موضعين، في قوله سبحانه: "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [العنكبوت:46]، وقوله سبحانه وتعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وأما الحضارة فهي في اللغة من الحضر وهي الإقامة في المدن والقرى وهي ضد البداوة، قال القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا(4)
وفي العصر الحديث أطلق البعض هذا المصطلح على كل نتاج مادي لأمة من الأمم من عمران ومخترعات وابتكارات وتنظيمات. وتوسع النطاق ليشمل بالإضافة على النتائج المادية القيم الدينية والثقافية(5).
وعليه فكل أمة تشترك في هذه المعاني لها حضارة تخصها، فهناك الحضارة الإسلامية، والحضارة الأوروبية الغربية المسيحية، والحضارة الأوروبية الشرقية المسيحية، والحضارة الهندية، وحضارة الشرق الأقصى(6) وغير ذلك.
أولاً: الإسلام دين الحوار:
الحوار منهج قرآني, فقد كلم الله ملائكته واستمع منهم "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" [البقرة:30] وكذلك رسله "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" [المائدة:116]، وحتى مع الكافرين "قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [طه:125-126]. وحتى مع إبليس "قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف:12]. والقرآن مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" [إبراهيم:10] .
وتأمل حوار إبراهيم عليه السلام مع مدعي الربوبية "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 258].
وحوار موسى مع فرعون مدعي الألوهية والربوبية في سور عديدة في القرآن وكذلك بقية الرسل عليهم صلوات الله وسلامه حيث يحاورون أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شبهاتهم.
وهذا القرآن يحكي حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع امرأة "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" [المجادلة: 1].
وحضارتنا الإسلامية على مدى التاريخ هي حضارة الحوار فقد حاور علماء المسلمين كافة أهل الملل والنحل بالمنهج القرآني والدعوة إلى الخير(7).
ثانيًا: أهم أهداف الحوار في الإسلام:(18/424)
1 - الدعوة إلى الإسلام, وعبادة الله وحده لا شريك له وهذا أسمى هدف "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] ومعرفة الله هي أعظم حقيقة وعبادته هي الحكمة من خلق البشر "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات: 56], ويترتب عليها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة " فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" [طه: 123, 124].
ويدخل في ذلك إبراز محاسن الإسلام والرد على شبهات أعدائه وإيضاح الحقيقة العظيمة في الحكمة من خلق البشر وما يُراد منهم وما يراد بهم وما مصيرهم.
فالحوار مطلب إسلامي لكي نقوم بواجبنا تجاه الأمم الأخرى ليس لافادة أنفسنا فحسب بل لفائدة الأمم الأخرى أيضًا لنوصل إليها الخير الذي أمرنا به.
فالأمة الإسلامية هي صاحبة الرسالة الأخيرة, وعليها واجب البلاغ، قال تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
2- تحقيق وظيفة الإنسان في الأرض وهي الخلافة وعمارة الأرض "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" [البقرة: 30] (8).
3- تبادل العلوم النافعة، وحل الإشكالات القائمة والتعاون على الخير "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [المائدة: 2].
وليس من أهداف الحوار موالاة الكفار ومودتهم من دون المؤمنين، فقد جاءت النصوص القطعية في النهي عن ذلك، قال الله تبارك وتعالى: "لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ" [آل عمران: 28].
كما أن الحوار لا يهدف إلى التنازل عن شيء من ثوابتنا العقدية أو الشرعية، أو المشاركة في الدعوات المغرضة لوحدة الأديان التي تساوي الإسلام بغيره وخلط الحق بالباطل، أو مشاركة الكفار في باطلهم، وقد نهى الله نبيه عن ذلك فقال سبحانه: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1-6]، وقال أيضاً: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم: 9] وقال سبحانه: "وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً" [الإسراء: 74] كما يجب التفريق بين الكفار المحاربين الذي يجب معهم الجهاد في سبيل الله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ" [الممتحنة: 1]، وقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [التوبة: 73]، والمسالمين الذين قال الله فيهم: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].
ثالثاً: آداب الحوار:
من أهم آداب الحوار:
1- حسن القصد من الحوار: وذلك بالإخلاص لله والرغبة في طلب الحق، قال تعالى: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [البينة: 5].
2- العلم: فلا حوار بلا علم، والمحاور الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، وقد ذم الله سبحانه وتعالى المجادل بغير علم "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ" [الحج: 8]، وذم أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم كما في قوله تعالى: "هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [آل عمران: 65-66].
العلم عام في كافة مواضع الحوار، فيشمل العلم بالإسلام وعقيدته وحضارته والعلم بالمحاورين وخلفياتهم وكافة ما يحتاج إليه في الحوار.(18/425)
فالمحاور المسلم داع إلى الله يجب أن تكون دعوته بعلم وبصيرة كما قال سبحانه "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" [يوسف: 108].
فالعلم بالإسلام وحضارته وشبهات المخالفين في غاية الأهمية في حوار غير المسلمين لإقناعهم ورد شبهاتهم فضلاً عن عدم الانخداع والتأثر بها.
3- التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام، حيث أن أهم ما يتوجه إليه المحاور التزام الحسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" [سورة الإسراء: 53] "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ" [سورة النحل: 125] (9).
وعلينا أن ننأى بأنفسنا عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
4- التواضع واللين والرفق من المحاور وحسن الاستماع وعدم المقاطعة والعناية بما يقوله المحاور، فهو أدعى للوصول إلى الحقيقة واستمرار الحوار، وهذا ما علمناه القرآن، فقد أمر الله نبيه موسى وأخاه هارون عليهما السلام عند مخاطبة فرعون الذي طغى وتجبر وادعى الألوهية والربوبية، فقال سبحانه : "فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى" [طه: 44].
5- الحلم والصبر، فالمحاور يجب أن يكون حليماً صبوراً، فلا يغضب لأتفه سبب، فإن ذلك يؤدي إلى النفرة منه والابتعاد عنه، والغضب لا يوصل إلى إقناع الخصم وهدايته، وإنما يكون ذلك بالحلم والصبر، والحلم من صفات المؤمنين قال تعالى: "وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [أل عمران: 134]. وعندما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: (لا تغضب) (10) وكررها مراراً.
ومن أعلى مراتب الصبر والحلم مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن ذلك له أثره العظيم على المحاور، وكثير من الذين اهتدوا لم يهتدوا لعلم المحاور واستخدامه أساليب الجدل، وإنما لأدبه وحسن خلقه واحتماله للأذى ومقابلته بالإحسان، وقد نبه الله عز وجل الداعين إليه إلى ذلك الخلق الرفيع وأثره وفضل أصحابه، فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" [فصلت: 33-35].
6- العدل والإنصاف؛ يجب على المحاور أن يكون منصفاً فلا يرد حقاً، بل عليه أن يبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره وهذا الإنصاف له أثره العظيم لقبول الحق، كما تضفي على المحاور روح الموضوعية.
والتعصب وعدم قبول الحق من الصفات الذميمة في كتاب الله فإن الله أمرنا بالإنصاف حتى مع الأعداء فقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: 8]، ومن تدبر القرآن الكريم وذكره لأهل الكتاب وصفاتهم الذميمة يجد أن المولى عز وجل لم يبخسهم حقهم، بل أنصفهم غاية الإنصاف، ومن ذلك قوله تعالى: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً" [آل عمران: 75]، وقوله تعالى: "لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" [آل عمران:113]. يقول ابن القيم:
وتعر من ثوبين من يلبسهما *** يلقى الردى بمذمة وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه *** ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة *** زينت بها الأعطاف والكتفان(11)
ويأمر الله بمحاورة أهل الكتاب بلغة الإنصاف والعدل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً" [آل عمران: 64].
والإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا تفاضل لعرق كما حكى الله عن اليهود قولهم: "نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" [سورة المائدة: 18] أو لون كما يدعى العنصريون البيض في أوروبا، أو طبقية كما هي عند الهندوس، وإنما بصلاحهم، ولنتأمل آية قرآنية مفتتحة بالمبدأ ومقررة وجود الاختلاف ومبينة أهمية التعارف وخاتمة بميزان التفضيل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].(18/426)
وهذا الاختلاف من آياته سبحانه "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22].
فالإسلام يقرر أن الاختلاف حقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [المائدة: 48].
فوجود الاختلاف أمر واقع وله حكم إلاهية ويجب التعايش وفق ما أمر الله من الدعوة والنصيحة(12).
وأخيراً هذه نظرتنا للحوار والاختلاف، ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح.
إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه(13).
أن الحوار لا يحقق أهدافه مع المجازر المستمرة في فلسطين والاحتلال في العراق وأفغانستان؛ بل كيف تتفق لغة الحوار ع الجدار العنصري في الأرض المحتلة على الرغم من إدانة العالم في الأمم المتحدة (باستثناء بعض دول الغرب المنحازة للصهيونية).
أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين.
كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال(14).
إن الغرب مطلوب منه قبل أن يتحدث عن الحوار ونشر الديموقراطية (والشرق الأوسط الكبير) إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تقليص الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة, وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر، وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن إشعال الفتن في تلك البلدان.
بعد ذلك يُقال أننا نرفض الحوار والتسامح؛ ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والساعي لتشويه ديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية.
________________________________________
(1) لسان العرب، ابن منظور (4/217-218).
(2) لسان العرب، ابن منظور (11/103).
(3) انظر: أصول الحوار، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1987م، ص: 9. وانظر: الحوار مع أهل الكتاب، د. خالد بن عبدالله القاسم، دار المسلم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص: 104.
(4) لسان العرب، (4/196).
(5) انظر: الحضارة والعالم الآخر، د. عبدالله الطريقي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص: 16-17.
(6) انظر: الحضارة، حسين موسى، عالم المعرفة، 1998م، ص: 220.
(7) انظر: موقف الإسلام من الحضارات الأخرى، د. محمد نورد شان، بحث مقدم إلى ندوة الإسلام وحوار الحضارات، غير منشور، مكتبة الملك عبد العزيز، الرياض - السعودية، محرم 1423هـ، ص: 6.
(8) انظر: مدخل إسلامي لحوار الحضارات، لمحمد السعيد عبد المؤمن ص(11-12)، بحث مقدم لندوة الإسلام وحوار الحضارات، مكتبة الملك عبد العزيز، 1423هـ غير مطبوع.
(9) أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبدالله بن حميد، ص: 13.
(10) أخرجه البخاري، ك الأدب، باب الحذر من الغضب، رقم (5765).
(11) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، ابن القيم، دار المعرفة، بيروت، 1345هـ، ص: 19.
(12) انظر: مجلة العرفة، العدد 101 شعبان 1424هـ، موضوع قيم الإسلام، الحوار الانفتاح على العالم، ص: (18 - 26).
(13) انظر: من أجل حوار بين الحضارات (9) روجيه جارودي دار النفائس، الطبعة الأولى 1411هـ.
(14) انظر: حوار الحضارات، محمد خاتمي (50) ضمن كلمة الرئيس الإيراني في اليونسكو (بتصرف) في فرنسا 30/10/91 دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1423هـ.
=============(18/427)
(18/428)
الليبراليون الجدد في حِقبة ما تحت الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني * 30/11/1425
11/01/2005
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.(18/429)
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(18/430)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.(18/431)
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..
________________________________________
* رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (libe r alism ) ص 525, دار العلم للملايين - بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي - الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.
============(18/432)
(18/433)
تفكيك إيران صراع السحالي والملالي
أحمد فهمي
ماذا يحدث لو تفككت إيران إلى كيانات أو دويلات صغيرة يحكمها نظام واحد ضعيف من وراء ستار أو أنظمة متعددة ؟ .. لا أشك في أن هذا السؤال قد تشارك في الإجابة عليه والتخطيط له خبراء عديدون في الإدارة الأمريكية ، سواء في أروقة الخارجية أو المخابرات أو البيت الأبيض ، ورغم أن كل المؤشرات العدائية التي تبديها الولايات المتحدة تجاه إيران تبدو منصبة على تغيير النظام وإتاحة الفرصة لنظام ليبرالي علماني مكان نظام الملالي ، إلا أن الحقيقة بعيدة تماما عن هذا الهدف المرحلي ، فالولايات المتحدة تخطط في أطروحتها لنظام عالمي جديد لتفكيك الدول التي تشكل خطرا عليها أو على " إسرائيل " ولو بصورة غير مباشرة "*"
والخطر الذي يمثله نظام طهران على الأطروحة الأمريكية لا يتمثل في التوجه المعلن للعداء بين الدولتين ، بل هو يتركز في الأساس في كون إيران دولة ذات طموح أيديولوجي عقدي يمنعها عن الاستسلام الكامل للرغبات الأمريكية التي لا تتناسب حتى مع الأنظمة الحليفة لأمريكا في المنطقة ، فالإدارة الأمريكية تخطط لما هو أبعد من تحالف مؤقت بينها وبين بعض دول الشرق الأوسط الكبير ، إنها تريد أن تعيد رسم الحدود وتفكيك دول قائمة وتأسيس دول جديدة وفق أسس وقواعد تضعها هي ، وتسعى من خلالها إلى إذابة البروزات والمعوقات الدينية والعرقية والسياسية ، وإعادة توزيعها في أطر سياسية تضعف قدرتها على الانتفاضة أو الثورة ، والدافع الرئيس لهذا التوجه الأمريكي بخلاف الرغبة في السيطرة ، هو : إعادة صياغة المذاهب الفكرية والأيديولوجية والأهداف القومية والدينية بصورة مشفرة لا تستقبل إلا بث البيت الأبيض الأمريكي فقط ..
ولو نظرنا برؤية جغرافية إلى البقعة الكبيرة التي تضم أربع دول متجاورة : أفغانستان وإيران وباكستان والعراق ، فسنجد عددا من القواسم المشتركة بين هذه الدول :
1- الدول الأربع يتألف سكانها من عدة أعراق وطوائف مختلفة ومتباينة ومتصارعة ، قد تبلغ مستوى مأساويا كما في أفغانستان ، وقد تبدو متماسكة مؤقتا كما في إيران ..
2- تحظى كل من الدول الأربع بميزات استراتيجية أو اقتصادية أو جغرافية أو دينية أو عسكرية ، تجعل منها دولا ذات تأثير بالغ فيما حولها ..
3- يتركز في هذه الدول الثقل الشيعي الأكبر عالميا ..
4- النجاح في تفكيك هذه الدول - كما حدث في العراق وأفغانستان - ينتج عنه حقائق سياسية بالغة الخطورة أهمها : أنه لا يمكن بحال إعادة تأسيس الدولة المنهارة بعد تفككها عرقيا وطائفيا إلا إذا توفرت عدة عوامل لا تجتمع عادة إلا مرات نادرة في التاريخ ، والنتيجة الثانية أن الولايات المتحدة ستسيطر على بقعة جغرافية هائلة صالحة في معظم أجزاءها لممارسة النفوذ السياسي ونشر التواجد العسكري ، والنتيجة الثالثة أن الحصار وعدوى التفكيك سيكون من نصيب الدول العربية في المرحلة التالية ..
5- يبدو التدرج واضحا في تراتبية التفكيك الأمريكي لهذه الدول ، فأولا كانت أفغانستان هي الأضعف والأخطر لتواجد نظام إسلامي ممثل في طالبان التي فتحت أرجاء البلاد لتنظيم القاعدة ، ثم كانت العراق الدولة التالية لتوفر مسوغات كافية لبدء الغزو ، ومن ثم فإن إيران تبدو عدوا محتملا أكثر من غيرها ، ويقدم نظام الملالي صورة دعائية سيئة كافية لترويج العداء في الغرب ضد إيران ، وأخيرا تأتي باكستان الحليفة ، والتي لن يحين دورها إلا بعد انتهاء دورها أو دور مشرف في تقديم كافة سبل الدعم للحرب الأمريكية ضد " الإرهاب " ..
وسوف تركز هذه الدراسة التي نعرضها في سلسلة من المقالات بمشيئة الله تعالى على الشأن الإيراني باعتباره في بؤرة الأحداث في الوقت الحالي ، ونظرة سريعة على التركيبة الإيرانية الداخلية تقدم لنا هذه المعلومات :
يتكون المجتمع الإيراني من عدة أعراق : الفرس بنسبة 51% ، الآذاريون 24% ، الجيلاكي والمازنداراني 8%، الأكراد 7%، والعرب 3%، والبلوش 2% ، والتركمان 2% ، أما اللغات فهي : الفارسية ، التركمانية ، الكردية ، اللورية ، البلوشية ، العربية ، أما طائفيا ، فالنسبة الرسمية : شيعة 89 % ، مسلمون سُنة 10% ، بينما تصل مصادر غير رسمية بنسبة السنة إلى نحو 20 % ..
ومشكلة الدولة متعددة الأعراق والطوائف أن هذا التعدد يضعف من الحس الجمعي بقيم ومصالح مشتركة ، وما لم يتوافر قمع سياسي أو عسكري فإنه لا يمكن توحيد البلد تحت حكم نظام واحد ، وعبر التاريخ كانت هناك صورتان فقط توحدت فيها الأعراق والطوائف ، الأولى عندما ينصهر الجميع في بوتقة الإسلام - السني - في ظل حكم إسلامي ، والثانية حدثت ويمكن حدوثها لكن لفترة مؤقتة وبنسبة نجاح ناقصة ومشوهة ، وذلك عندما تعيش الأعراق والطوائف في ظل حكم ديمقراطي حقيقي ، لكن هذا النموذج في حال تطبيقه بمثالية يكون أثره كما قلنا ناقصا ومشوها ، فكيف عندما يطبق بصورة جزئية ناقصة أو مشوهة ؟ ..(18/434)
وتعاني إيران حاليا من صراع متبادل بين عدة أطراف ، فهناك الصراع الشيعي الشيعي بين المحافظين والإصلاحيين ، أوالصراع بين الليبراليين العلمانيين والدينيين ، وهناك الصراع مع الأكراد ، ومع السنة ، ويعاني المجتمع الإيراني من تمزق هائل بين مختلف الأطراف التي تبدو إلى الآن متوازنة في درجة قوتها ، وإن كان معدل تنامي الرفض للدولة الدينية في نموذجها الإيراني يبدو ملمحا إلى المصير الحتمي بنشأة صراع داخلي قد يصل إلى مستوى انتفاضة شعبية شاملة أوحرب أهلية ..
ومن الظواهر اللافتة التي تؤكد هذا التوجه الجرأة الإعلامية المتزايدة على نقد نظام الملالي ، وكان المثال الأبرز مؤخرا الفيلم الشهير " مارمولك " أو " السحلية " وهو فيلم يقدم رؤية تفكيكية ساخرة لنموذج رجل الدين الذي يحكم إيران ، ويدعو الفيلم في فكرته الفلسفية إلى الربط بين خلفية النشأة والحياة لرجل الدين وبين مظهره الخارجي ، ويقدم نتيجة منطقية مؤداها أن هذا النموذج المشوه لا يصلح لحكم إيران ، وقد شاهد الفيلم حتى الآن عدد يقدر بالملايين ، وفي دور السينما فقط شاهده أكثر من نصف مليون إيراني ، وتباع أقراص DVD على الأرصفة في طهران ، وشوهد عد كبير من الملالي يقف في طوابير ليشاهد الفيلم في دور السينما ..
وقد أبرز الفيلم الفجوة الهائلة التي تنمو في أوساط الإيرانيين من حيث النظرة إلى رجل الدين الشيعي ، فهناك فريق المتدينيين الذي يعتبر هؤلاء " ملالي " يستحقون التبجيل والتقديس والطاعة ، والفريق الآخر من الشعب متأثر بالثقافة الغربية يعتبرهم " سحالي " يستحقون السخرية والإبعاد عن حكم البلاد والعباد ، فهو إذن صراع بين رؤيتين وبين ثقافتين ، يحمل كلاهما جمهور شيعي ، صراع بين السحالي والملالي ..
ونحن عندما نتهم الولايات المتحدة بالسعي لتفكيك إيران واقعيا وسياسيا ، فذلك ليس نقلا حرفيا من مصادر أمريكية تعترف بذلك رسميا ، وإنما هو استنباط واستشراف للأطماع الأمريكية الاستعمارية من خلال دلائل ومؤشرات لا يمكن التغاضي عنها ، ويجب أن نضع في اعتبارنا أن تفاعل المقاومة في العراق يمثل عقبة كبرى في سبيل تنفيذ الرؤية الأمريكية ، وأن إيران لها مصلحة عظمى في إغراق أمريكا في المستنقع العراقي لأنها تعلم جيدا أنها - وليس سوريا - تأتي تاليا على القائمة الأمريكية ، ولكن هذا الارتباك الأمريكي في العراق لا يعني أن إدارة بوش لا لا تمضي قدما في تهيئة الميدان الإيراني لمرحلة الصراع المقبلة ، فهناك ملامح كثيرة للتدخل الأمريكي الخفي في إيران سعيا لتفكيك النظام بدون تدخل عسكري ، على الأقل في المراحل الأولية ..
ونحاول في هذه الدراسة أن نفكك الواقع الإيراني - نظريا - لنتمكن من فهم المخطط الأمريكي لتفكيك إيران واقعيا ، وسوف تتضمن الدراسة المحاور التالية :
1- الشعب الإيراني ينقسم إلى فسيفساء قابلة للانهيار في أي لحظة ، فهناك فسيفساء التوجهات السياسية والمذاهب الاجتماعية وفسيفساء الأعراق وفسيفساء الأديان ..
2- هناك فئات متغربة تنمو بقوة في أوساط الشباب وترتبط في جذورها وروافدها الفكرية مع الثقافة الغربية أكثر من ارتباطها مع ثقافة الملالي والثورة الإسلامية ..
3- فساد الملالي المالي والأخلاقي ( الخمس والمتعة ) واستغراقهم في الصراعات الحزبية والنخبوية ..
4- الصراع السياسي بين المحافظين والإصلاحيين وآثاره على المدى البعيد ، وأهمها فرز الشعب الإيراني ضد نظام الملالي ..
5- المحافظون يفتتون بأنفسهم مشروعية الثورة الإسلامية بالتدريج ..
6- أين أهل السنة في هذه التركيبة المعقدة ..
7- هناك فئات من الشعب لا تزال تؤيد نظام الملالي وتدعمه بقوة انطلاقا من تعصب للمذهب الشيعي ..
8- تنامي الدور الخارجي - الأمريكي - في التأثير في الشؤون الداخلية الإيرانية ( مثال : قدرة النظام أصبحت محدودة في قمع أي انتفاضة شعبية ، إذ كثيرا ما تتخذ الإجراءات القمعية كذريعة للتدخل في الدولة من قبل القوى الدولية ) ..
9- ما هي احتمالات نجاح المخطط الأمريكي ، وماذا يحدث لو تفككت إيران ؟ ..
---------------------
"*" ( راجع في ذلك مجلة البيان عدد مقالة : الدول الإسلامية بين التفكيك والتقسيم ، للكاتب )
==============(18/435)
(18/436)
الدول الإسلامية بين التفكيك والتقسيم
أحمد فهمي
تحت عنوان: «تعديلات في الكتب المدرسية في العراق» نشرت صحيفة الحياة رسماً ساخراً يبدو فيه مدرس عراقي في فصله؛ ممسكاً بكتاب يقرأ منه لتلامذته متوتراً: «وهنا دَخَلَ الرئيس بوش وحرر ليلى من براثن الذئب!»، ويظهر وراء النافذة جندي أمريكي متلصص، يرمز إلى فعل المراقبة.
هذا الرسم يعبّر عن الوضعية التي تريد الإدارة الأمريكية أن تصل إليها في الدول الإسلامية كافة، فالرئيس بوش لم يأت فقط لكي يحرر الشعب العراقي من براثن صدام؛ بل أيضاً ليحرر ليلى من براثن الذئب، وليلى هنا ترمز إلى كل شأن داخلي وخصوصية إسلامية، والذئب يرمز إلى المارقين المعارضين للحرية على الطريقة الأمريكية.
وتأتي سياستا التفكيك والتقسيم للدول الإسلامية في مقدمة الوسائل المعتمدة لتحقيق تلك الغاية، وهناك مدخلان لمتابعة تفاصيل هذه المؤامرة المزدوجة.
أولهما: عن طريق رصد ومتابعة الدراسات والبحوث والتقارير والتصريحات التي تتسرب ـ أو تُسرب ـ من المراكز البحثية، والمؤسسات السياسية، وجهات الضغط اليهودية، وهي طريقة حصرية لا شك، وتقدم لنا رؤية شاملة، ولكن يعيبها أنها تدخلنا في متاهة من الخيارات والسيناريوهات المحتملة؛ كونها تبدأ من نقطة مبكرة في العقل الأمريكي، ورغم احتياجنا إليها إلا أن هناك طريقة أخرى من شأنها موازنة هذه الرؤية الأكاديمية.
ثانيهما: عن طريق تتبع وتحليل الأداء السياسي والعسكري الأمريكي في العالم الإسلامي؛ على الأقل في الأعوام القليلة الماضية. والسياسة الأمريكية تتميز باتباعها لأسلوب «الأنماط الحاكمة»؛ بمعنى التقيد بسلوك نمطي ـ سابق ـ في المواقف اللاحقة، أو بمعنى اعتبار كل قرار لها بمثابة بروفة للقرار التالي، فعلى سبيل المثال: احتلال «بنما» كان تجربة للإنزال البري في حرب الخليج، وحرب أفغانستان كانت بروفة لحرب العراق، على الأقل من منظور عسكري، وهكذا. وسوف نتبع في هذا المقال الطريقة الثانية.
? الاستراتيجية الأمريكية.. وسياستا التفكيك والتقسيم:
أولاً: تعريفات:
التقسيم السياسي للدول؛ مصطلح معروف ومتداول ومعناه ظاهر للأفهام. أما التفكيك؛ فنعني به في هذه الدراسة ما يأتي: سعي قوة خارجية إلى سلب قدرة نظام ما على نَظْم القوى السياسية الداخلية - عرقية أو طائفية أو سياسية - في عقد واحد ينبثق من عقيدته السياسية.
وبمعنى آخر؛ فإن التفكيك مرادف لانفراط العقد الداخلي، وتداعي مركزية النظام وسيطرته على القوى الداخلية. وينبغي الانتباه إلى أن التفكيك بهذه الوضعية لا يماثل الانهيار، بل هو مرحلة سابقة عليه، وفي حال نجحت القوة الخارجية في إحداثه؛ فإنها يمكن أن تحافظ على الاستقرار الداخلي بإعادة تركيب القوى الداخلية وفق نظم خاص بها.
ثانياً: الأهداف الأمريكية في العالم الإسلامي:
لماذا تريد الولايات المتحدة أن تفكك أو تقسم الدول الإسلامية؟ الإجابة عن ذلك تتضح من خلال خمسة أهداف، اثنان منها يتعلقان بالدولة الصهيونية، ويتحددان وفق مصالح دينية وسياسية مختلطة، وهذه الأهداف هي غاية ما يريده الأمريكيون، وليست أهدافاً مرحلية:
1 - تدشين القوة الأمريكية كإمبراطورية معاصرة تسيطر على دول العالم التي لا تعتنق الحضارة الغربية.
2 - ضمان أن تفقد الدول الإسلامية أي قدرة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو ثقافية على مواجهة أو تهديد أمن «إسرائيل» وسلامتها، والفقد هنا ينبغي أن يكون شاملاً ودائماً.
3 - التهيئة لدولة «إسرائيل» الكبرى وإقامتها وفق الحدود والتعاليم التوارتية، أو قوة «إسرائيل» العظمى وفق الحدود الحالية، وفي النطاق العربي والإسلامي.
4 - يتعلق بالإرهاب؛ الوصول بالدول الإسلامية إلى حالة العجز الكامل عن تخريج حركات إسلامية «متطرفة وإرهابية» حسب المفهوم الأمريكي، عن طريق إصابة الشعوب بالعقم الديني والثقافي والسياسي؛ بما يقلل من أي احتمال لانبعاث إسلامي يهدد المصالح الأمريكية.
5 - ضمان استمرار الدول الإسلامية مصدراً مأموناً للمواد الأولية وفي مقدمتها البترول، وسوقاً استهلاكية مفتوحة للمنتوجات الأمريكية.
ثالثاً: أمريكا تجدد الرؤية الاستعمارية:
استعمار العالم الإسلامي في القرنين السابقين من قِبَل الأوروبيين؛ مرَّ بأربع مراحل متتابعة استغرقت منهم عشرات السنين، وهي: الاحتلال العسكري ـ التغيير الداخلي بما يتلائم مع ثقافة المحتل ومصالحه ـ تعيين نظام هش يدير البلد بإشراف مباشر من المحتل ـ الانسحاب وفسح المجال لنُظُم عميلة أو معادية للإسلام.
هذه المراحل هي نفسها التي طبقها الأمريكيون في أفغانستان والعراق، ويخططون لتطبيقها في دول أخرى، مع فروقات مهمة، وهي:
- الزمن الإجمالي للمراحل ـ ما عدا الانسحاب ـ لم يستغرق أكثر من أشهر معدودة، وهو ما فاق قدرة الكثيرين على الاستيعاب، وخاصة الذين لم يفقهوا بعد أساليب الاستعمار القديم.
- أن الانسحاب يُفترض به أن يكون اختيارياً وليس جبرياً بعد أن تكتمل خيوط المؤامرة، ويثبت النظام البديل جدارته، كما أن الاستقلال في هذه الحالة لن يكون تاماً.(18/437)
- هذه الرؤية الأمريكية تتميز أيضاً بأن لديها القدرة على ابتكار مسوِّغات فورية للبدء في أولى مراحل الاستعمار؛ ما يعني أن فترة التحضير قد تُدغم في أسابيع قليلة؛ ما يعني كذلك أن الرؤية اليومية قصيرة الأجل للأحداث، والتي تقدمها وسائل الإعلام العربية للرأي العام الإسلامي، يمكن أن تقوي البصر تحت القدمين، ولكنها تسبب العمى فيما وراء ذلك!
- حسب مفهوم الاتعاظ بالغير؛ فإنه يمكن في حالات معينة تجاوز المرحلة الأولى، والانتقال المباشر إلى المرحلة التالية وفق آلية سوف نتناولها بالتفصيل لاحقاً، وهو ما اخترنا له اصطلاحاً تسمية «التفكيك السياسي».
رابعاً: التفكيك السياسي وليس التقسيم؛ هو المرحلة المقبلة:
تقسيم بعض الدول الإسلامية هو وسيلة ـ أمريكية ـ وليس غاية، والغاية ما ذكرناه سابقاً، وإن كان التقسيم وسيلة جذرية لتحقيق المقصود؛ إلا أنها تبقى غير عملية في كل وقت لأسباب كثيرة:
- هناك دول إسلامية غير قابلة للتقسيم؛ من حيث عدم وجود تمايز عرقي أو طائفي داخلها.
- كثير من الدول القابلة للتقسيم لا يشترط أن يتوفر فيها عوامل أساسية ـ مُحفزة ـ؛ توفرت في النموذجين العراقي والأفغاني ـ الأكثر عرضة لخطر التقسيم ـ؛ مثل القمع الداخلي، وتمايز الأقليات جغرافياً، أو حتى توفر معارضة سياسية ناشطة ذات مطالب انفصالية واضحة.
- في بعض الحالات، مثل السودان، يكون التقسيم مطلباً مرفوضاً، فقد أبدى جون جارانج ذو التبعية الأمريكية رغبة واضحة في الحفاظ على وحدة السودان، وهذا يعني أن تقسيم الدين يأتي في مرتبة متقدمة على تقسيم الدولة في المفهوم الأمريكي.
- التقسيم بدون إعدادت مسبقة قد يؤدي إلى حالة من الفوضى يعتبرها الأمريكيون المجال الخصب لنشأة الحركات «الإرهابية» في زعمهم؛ حيث تكثر الكيانات ذات السيطرة المركزية المحدودة، كما أنه يتطلب تغطية عسكرية مكثفة قد لا تتوفر في ظل التجربتين الأفغانية والعراقية، كما أن الدول الغنية بمواردها مثل العراق؛ لن يستقيم الانتفاع بثرواتها في ظل فوضى سياسية وعسكرية.
- لا توجد سيناريوهات مقنعة إلى الآن لتنفيذ انتقال تعسفي من مرحلة الدولة الواحدة إلى كيانات متعددة، وهو ما يقوي الحاجة إلى مرحلة انتقالية تحقق جل فوائد التقسيم دون التعرض لمفاسده.
وكان التفكيك السياسي - بدون احتلال عسكري - هو المرحلة الملائمة للواقع الإسلامي، وخاصة أنه أسلوب يناسب الدول كافة؛ كونه: يتضمن ليس فقط الدول ذات التمايز العرقي والطائفي؛ بل ذات التمايز السياسي والقبلي أيضاً، كما أنه يوفر القوة العسكرية لمناطق أخرى، ولا يسبب التورط فيه أزمات داخلية أمريكية.
لكن في المقابل يبقى التفكيك مرحلة انتقالية لما بعدها، يعني التقسيم إلى دول وكيانات صغيرة، أو إعادة رسم الحدود بين الدول الحالية. وننبه إلى أمر مهم، وهو أن الأمريكيين لا ينظرون في هذا الصدد إلى أي دولة بوصفها واقعاً، وإنما بوصفها قدرة؛ بمعنى أنه قد تكون دولة ما حليفة لهم في الوقت الحالي، وهذا واقع، ولكن الدولة نفسها بوصفها قدرة تصنف خطراً محتملاً على المصالح الأمريكية لمجرد كونها إسلامية، واحتمالات التفكيك والتقسيم تعنى - فقط - بقدرة الدولة، وليس واقعها، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير كثير من المتناقضات في الأداء السياسي الأمريكي، بل والأوروبي مع دول مثل تركيا.
? آلية التفكيك السياسي في الدول الإسلامية:
تملك الولايات المتحدة أوراق ضغط كثيرة على الدول الإسلامية، بعضها للأسف سُلمت من قِبَل هذه الدول عن طواعية؛ لذا تبقى المسؤولية موزعة بين طغيان الأمريكيين، وتخاذل المسلمين.
ويمكن بلورة مراحل التفكيك السياسي وصوره في النقاط الآتية:
أولاً: القوة العسكرية:
وهي الوسيلة الآكد في هذا المجال، ولكن الإشكالية الأزلية في العمل العسكري ليست هي تحقيق المكاسب، وإنما الحفاظ عليها بعد ذلك، وفي العراق وأفغانستان يمكن تلمس الخطوات الإجرائية التي قامت بها الإدارة الأمريكية: إيجاد المسوِّغ لضربة عسكرية ـ تنفيذ عملية احتلال قوية وسريعة ـ إقامة نظام سياسي داخلي صوري، على رأسه عملاء سابقون للمخابرات الأمريكية؛ أمثال قرضاي والجلبي والجعفري؛ لذا فتش دائماً عن المعارضين المدعومين أمريكياً، فهم رؤساء المستقبل.(18/438)
وبعد ذلك يؤسس الأمريكيون توازناً داخلياً يكون الوجود الأمريكي العسكري حجر الزاوية فيه، بل يتحول ـ كما في العراق ـ إلى مطلب لفئات كثيرة داخلياً وخارجياً، وقد مر بنا كيف أن بعض الإسلاميين يطالبون أمريكا بعدم الرحيل قبل أن تستقر الأوضاع، وهذه قمة البراعة السياسية الأمريكية، والتي تكتمل بكون الانسحاب الأمريكي في حال تحققه يعني تدشين مرحلة التقسيم فعلياً على أرض الواقع، وبأيدي العراقيين أنفسهم، يعني بأسلوب ديمقراطي، وهو ما يتجنب كثيرون الخوض فيه، وإلا فماذا يمكن أن يحدث لو قرر الأمريكيون الانسحاب فوراً من أفغانستان والعراق؟ وهو ما ينقلنا إلى سؤال أصعب: هل بقاء الأمريكيين في هذه المرحلة أفضل أو انسحابهم؟ ومحاولة الإجابة عن هذا التساؤل هي الفتنة التي وقع فيها بعض الإسلاميين في العراق ـ كما سبق ـ، والسر يكمن ليس في معرفة الجواب؛ بل في تحديد السؤال الصحيح.
ثانياً: التفريغ السياسي:
هناك مفهوم سياسي يمكن أن نطلق عليه «تزاحم القوى»، يمكنه تفسير ديناميكية التوازن بين القوى السياسية الإقليمية والمحلية، ومن ثَمَّ تفسير طريقة التفكيك السياسي لأي دولة، ويفيد هذا المفهوم أن: منطقة النفوذ التي تتنازل عنها قوة دولية أو إقليمية أو محلية ـ جبراً أو طوعاً ـ لا تبقى أبداً فارغة، بل تُشغل على الفور من قِبَل قوة أخرى فاعلة؛ لكي يتحقق التوازن وفق الوضع الجديد.
وهذا المفهوم يستخدم ـ بتوسع ـ من قِبَل الأمريكيين في إحداث تفريغ سياسي داخل الدولة الإسلامية المستهدفة عن طريق ممارسة ضغوط على نظامها السياسي الحاكم؛ بحيث يتخلى عن بعض نفوذه، وفي مقدمة ذلك العقد الذي تنتظم فيه القوى السياسية المحلية؛ بحيث تحدث خلخلة سياسية تتيح للأمريكيين الدخول كشريك رئيس في اللعبة السياسية الداخلية، ويُستخدم النفوذ الأمريكي من قِبَل أطراف مختلفة في تدعيم مواقفهم في مواجهة النظام الحاكم، ويعاد رسم الخريطة السياسية من جديد بعد إضافة الشريك الأمريكي.
ويمكن فهم الأمر بطريقة أخرى، فمن المفترض أن أي دولة لها أهداف استراتيجية كبرى يكون العمل على تحقيقها مهمة النظام الرئيسة، وهذه الأهداف مثل: تحقيق الاستقرار والتقدم، والتحول إلى قوة إقليمية، والحفاظ على الوحدة الداخلية، وتطوير القوات المسلحة، ونصرة القضايا العربية، ومنها أيضاً حماية النظام لنفسه، وهو أمر معتبر، والذي يحدث أن الضغوط الأمريكية ـ ومنها إشاعة مخططات التقسيم وترويجها ـ تؤدي تدريجياً إلى اختزال الأهداف الاستراتيجية للنظام، حتى لا تترك له غاية إلا حماية نفسه، وذلك يعني فراغاً سياسياً داخلياً كبيراً لا بد أن تشغله قوى أخرى، ويعني أيضاً سهولة توجيه النظام لخدمة المصالح الأمريكية، والمتأمل في حال أغلب الدول الإسلامية يلحظ بسهولة أنه لم يعد لها أدوار خارجية مؤثرة، وتآكل دورها الإقليمي إلى حد كبير، وطرأ خلل واضح على مفهوم العلاقة بين الدولة والنظام؛ متمثلاً في سؤال: هل النظام يحفظ الدولة، أو أن الدولة تتولى حماية النظام؟
ثالثاً: تحفيز الأقليات:
كثير من الدول الإسلامية ذات تمايز عرقي أو طائفي أو قبلي، ويعتبر وجود الأقليات أحد عوامل التوتر وعدم الاستقرار الدائمين في أي دولة، ومدخل رئيس لأعدائها في محاربتها. وتحرص أجهزة المخابرات الأمريكية على ترسيخ علاقات قوية مع جميع الأقليات في الدول الإسلامية، في السر والعلن، حسب كون المعارضة خارجية أو داخلية، وتعتبر الأقليات أحد وسائل الضغط السياسي لخلخلة النظام في الدولة وإضعاف مركزيته، ويمكن تقسيم الأقليات باعتبار تأثيرها إلى: أقليات ناشطة، وأقليات نائمة، والأولى تتميز بحركة سياسية قوية، ومطالب واضحة، وعلاقات راسخة مع الأمريكيين، ويصل نفوذها في بعض الدول درجة مواجهة السلطات، والاتصال بالمسؤولين الأمريكيين عند حدوث أي أزمة، ويصح أن يطلق عليها دولة داخل الدولة، ومثل هذه الأقلية تصبح عنصراً مهماً في تفكيك الدولة، وفسح المجال للنفوذ الأمريكي.
أما الأقليات النائمة؛ فليس لها مطالب واضحة، ولا نشاط سياسي قوي، ويحاول الأمريكيون في الفترة الأخيرة الاتصال بممثلين لهذه الأقليات في دول مختلفة، والعمل على إيقاظها وتحفيزها، للاضطلاع بدور مستقبلي.
رابعاً: العد التنازلي:
وهو مرحلة متقدمة من الضغط السياسي، تصبح فيها الأزمة مع الأمريكيين أزمة وجود، بالنسبة إلى نظام الدولة الإسلامية بالطبع، وتعطي الإدارة الأمريكية تحذيرات واضحة، ومهلة محددة أحياناً لتنفيذ المطالب.(18/439)
وقد تعرضت لهذا الأسلوب بالتحديد أربع دول إسلامية (أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا)، في اثنتين منها (أفغانستان، العراق) وصل العد إلى الصفر، وفي واحدة منها (ليبيا) تدارك النظام نفسه وأوقف العد على الطريقة الأمريكية، وفي الأخيرة (سوريا) يبدو الحال متأزماً، وخاصة أن الخيارات الأمريكية كثيراً ما تحصر الدولة المهددة بين: سُمٍّ وسيف، وفي النموذج السوري؛ جاء الهجوم «الإسرائيلي» قرب دمشق ليعلن بصراحة أن لا قابلية لوجود دولة البين بين؛ فإما التحول إلى نموذج صدام الرافض وتحمل العواقب، وإما التحول مائة وثمانين درجة بطريقة درامية.. كما فعل القذافي.
خامساً: الشرعية التاريخية:
يعتقد الغربيون بقوة في قدرة المرجعية التاريخية على التأثير في الواقع، وبصفة عامة؛ فإن أي قوة سياسية في أي بلد تتخذ من إحدى نقاط التاريخ محوراً ومرجعية لها، ففي مصر ـ مثلاً ـ يرى الليبراليون أن فترة حكم الوفد والانتخابات الديمقراطية فترة ذهبية، ويرى الناصريون أن فترة حكم عبد الناصر ينبغي أن تكون مرجعاً محورياً للأمة كلها، والإسلاميون يتخذون من الخلافة العثمانية أقرب مرجعية تاريخية لهم، وتسعى كل قوة إلى العودة بالواقع لمطابقة مرجعيتها التاريخية، ويتسلل الأمريكيون من هذه الرؤية التاريخية؛ لتسويغ تفكيك بعض الدول الإسلامية، حيث تفترض أن وضعاً ما في التاريخ المعاصر لهذه الدولة هو وضع طبيعي، ويكون هذا الوضع عادة تفكيكياً قبل التوحد، فتعتبر هذه المرحلة من التاريخ هي المرجع، وأن الواقع ينبغي أن يدور لمطابقتها مرة أخرى، ولا شك أن ذلك سوف يكون لحساب أطراف دون أخرى.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية استخدام هذه المرجعية التاريخية في كل من أفغانستان والعراق، عن طريق الملك ظاهر شاه، والشريف حسين.
سادساً: الضربات العسكرية الخاطفة:
دشنت الحكومة (الإسرائيلية) أسلوباً جديداً في هذا المجال، وذلك بضربتها الجوية الخاطفة لمخيم «عين الصاحب» في سوريا، وهذه الخطوة ربما يكون الدافع الرئيس لها هو النيابة عن الإدارة الأمريكية المتورطة عراقياً في معاقبة بعض الدول المشاغبة، لكن بأسلوب «الأنماط الحاكمة» الأمريكي الذي سبق الحديث عنه، وبذلك تكون هذه الضربة نمطاً حاكماً لما يليها بالصورة الآتية: ضربة لمخيم فارغ ـ ضربات داخل دمشق لمراكز الفصائل الفلسطينية ـ ضربة جوية للمفاعل الإيراني ـ ضربات جوية لتحييد القدرة النووية الباكستانية، وقد تستغرق هذه التتابعية أشهراً أو سنوات، لكن ما يهمنا هنا أن هذه الضربات تنشئ نوعاً من الاضطراب السياسي الداخلي؛ لأن النظام المستهدف يتم ضربه دون أن يقدر على الرد؛ لأنه يعلم أنه يُستدرج إلى حتفه، ومن ثَمّ تتزايد حالة الاحتقان الداخلي، وتضعف سيطرة النظام.
وهذا الأسلوب يعتبر حلاً بديلاً ـ أو مؤقتاً ـ للخطة الأمريكية الأصلية، والتي سربها الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك المرشح الأمريكي الديمقراطي لانتخابات الرئاسة القادمة، في كتاب له؛ أنه بلغته معلومات منذ عام 2001م، وقبل هجمات سبتمبر، بوجود خطة أمريكية لاحتلال خمس دول بعد العراق؛ هي: سوريا وليبيا ولبنان والصومال وإيران.
وتبقى قدرة الأمريكيين والإسرائيليين على إيجاد المسوّغات لتوجيه مثل هذه الضربات عاملاً محدداً، ويلاحظ مؤخراً أن هناك نشاطاً غير معتاد في توجيه باقة متنوعة من الاتهامات لمختلف دول المنطقة، وهذا بدوره يثير حالة من القلق والتوقعات غير المرغوب فيها.
? من يحمل الهم الإسلامي؟:
هناك إجراءت لا بد أن تُتخذ، وهناك ردود أفعال لا يمكن أن تغيب في مواجهة مؤامرة تفكيك العالم الإسلامي وتقسيمه، والخطاب هنا موجه إلى أربع فئات على وجه التحديد: الحكومات ـ الشعوب ـ التيارات الإسلامية ـ المقاومة.
أولاً: الحكومات:
يرى كثيرون أن الخطاب الموجه للحكومات في هذا المجال خطاب عبثي، لعدة أسباب، لعل من أبرزها اختلاف المنطلقات والرؤى والأهداف، ولكن مع ذلك يظل توجيه الخطاب إليهم لازماً.. ولو باعتبار وعظي.
وتتبدى ملامح العجز لدى كثير من حكومات الدول الإسلامية في أمرين رئيسين:
- السعي إلى امتلاك القوة العسكرية.
- القدرة على استخدام القوة سياسياً وعسكرياً.
أما أولهما؛ فقد تراجعت في أغلب الدول جهود السعي إلى امتلاك قوة عسكرية بارزة، خاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وفي العالم العربي ـ تحديداً ـ قلَّ أن تجد دولة تعقد صفقة عسكرية ملفتة، تُحدث نقلة نوعية في الميزان العسكري مع العدو الصهيوني، ولا ينبغي أن نُخدع بالمليارات التي تدفع لشراء مجموعة طائرات الإف، فهذه الأسراب الحاشدة تنتظر تمام التطبيع والسوق الشرق الأوسطية؛ لكي تتولى «إسرائيل» مهمة تحديثها وتطوير أنظمتها أسوة بما يحدث مع الهند وتركيا، بل إن أهم المنتوجات التي سيتم تبادلها مع اليهود في هذه المرحلة: المنتوجات العسكرية الأمريكية بما فيها قطع الغيار اللازمة، والتي صُنعت في المصانع «الإسرائيلية».(18/440)
وطيلة أكثر من ثلاثة عشر عاماً لم نسمع أن دولة عربية واحدة تجاوزت الحدود في هذا المجال، أو ضُبطت لها صفقة صواريخ متطورة، أو حاولت امتلاك أحد أسلحة الردع الشامل.
أما بالنسبة للقدرة على استخدام القوة المتاحة عسكرياً أو سياسياً؛ فذاك من مواطن الضعف البارزة عربياً وإسلامياً، نتيجة الفوضى الحادثة في منظومة الأهداف الاستراتيجية للنظام، والرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان له عبارة معروفة، يقول: «إن أمن أي دولة يتوقف على عزمها على استخدام القوة أكثر مما يتوقف على رغبتها في التفاوض». ونضرب مثالين على ذلك بدولتين إسلاميتين:
فباكستان تملك قوة ردع هائلة، وصناعة عسكرية متطورة، ولكنها تحولت بين يدي نظام برويز مشرف إلى عامل ضعف وانهزام، وصرنا أمام حالة سياسية فريدة من نوعها: نظام باكستان ينهزم في مواجهة الضغط عليه لامتلاكه السلاح النووي؛ بدلاً من أن يضغط هو بالسلاح نفسه لتحقيق مطالبه وتخفيف الضغوط! وفي برنامج وثائقي قدمته البي بي سي عن إرهاصات حرب أمريكا على أفغانستان؛ صرح مسؤولون أمريكيون بارزون: أن أربعة ـ فقط ـ من الضباط الكبار في الجيش الباكستاني كانوا سيتسببون في إخفاق ذريع لخطة بوش لو أصروا على موقفهم الرافض لتقديم الدعم لقواته العسكرية، ولم تكن أمريكا تملك في مواجهة باكستان أكثر من تفعيل الحصار الذي تفرضه عليها أصلاً منذ التفجيرات النووية. والكيان المحاصر يتحتم عليه البحث عن مخرج لفك حصاره، وليس البحث عن جحر يفاقم أزمته! وهذا الفهم البسيط لهذه الإشكالية يغيب عن دولة نووية، ولكن تستوعبه حركة مقاومة مثل حماس؛ حيث يتصرف قادتها بناء على حقيقة مهمة، وهي أن العدو قد فقد كل وسائل الضغط في مواجهتهم، ومن ثَمَّ لا مسوِّغ للانكماش.
وفي المقابل.. فإن نظام صدام حسين الذي كان قد فقد أسباب قوته؛ يجاهر باستخدام القوة، ويهدد بدحر الأعداء وقهر المعتدين، في حين تبين لاحقاً أن صدام يعجز حتى عن مجرد الذود عن ولديه، فصدام كان يهدد بقوة لا يملكها، ومشرف كان يملك قوة لا يستخدمها، وبقية الدول الإسلامية حالهم بين هذا وذاك!
ثانياً: الشعوب الإسلامية:
كانت الحكومات والحركات والتنظيمات تمارس من قبل أدوارها في آفاق بعيدة نوعاً ما عن الاهتمامات الشعبية اليومية، ولكن اليوم تغير الحال، وتدنت السُّقف حتى لامست الرؤوس، ولم يعد هناك مجال للحركة دون استئذان، ولكن الشعوب لا تبالي، وهذا يعني أن جهود أدلجة الفساد والفسق والفواحش من قِبَل علمانييِِ النظام والفوضى؛ قد لاقت نجاحاً كبيراً في تشويه الشخصية الإسلامية، وتحولت المأساة الإسلامية إلى خبر يومي متكرر لا تتغير فيه إلا الأسماء والأرقام، وصارت العقلية الجماهيرية تنتعش يسيراً ببعض الدماء الرطبة، ولا تشعر بأطنان الدماء اليابسة، تتفاعل بحرقة مع مشهد الدرة، ثم لا تتأثر بمئات الدر التي يهراق دمها يومياً، تثور وتغضب من زيارة شارون للأقصى، ثم لا تشعر بفتح شارون باب الزيارة أمام مئات من اليهود، يقول بعض الناس إن ثورة الجماهير في وقتنا الحالي ربما تكون علامة مرضية أكثر منها صحية. والحال هكذا، حيث الثورة لا تعني إفاقة بقدر ما تعني نجاح وسائل الإعلام في استثارة المشاعر.
والحاصل أن قدرة الشعوب على حمل الهمّ الإسلامي لا تعدو ـ آنياً ـ كونها قدرة تشجيعية تفتقر إلى من يطورها ويوجهها؛ بما يعني أن الشعوب لا تسابق، لكنها ميدان للسباق، وهذه حقيقة مهمة ومؤثرة.
ثالثاً: التيارات الإسلامية:
مَرَّ بنا أن الأمريكيين قدّموا رؤية جديدة للاستعمار، اختزلت مراحله الزمنية بصورة غير مسبوقة، ومع تداول احتمالات التفكيك والتقسيم لدول إسلامية كبرى؛ فإن مواجهة هذا الخطر برؤى فكرية صيغت قبل عشرات السنين؛ يُعَدُّ تقصيراً في حق الدين والأمة، والعبء الأكبر في ذلك يقع على عاتق الإسلاميين، والمطلوب صياغة فكر استباقي في مقابل الفكر الارتدادي الذي تروِّجه تيارات مختلفة، فكر يكون من أهم ملامحه استيعاب جميع المتغيرات، وأهمها أنه يواجه استعماراً متعدد المراحل، ومنها قدرته على الاستفادة من أخطاء الماضي في مواجهة الاستعمار، والتعلم من تجربة سرقة علمانيي مرحلة الاستقلال لمجهودات الحركة الإسلامية.
هذا الفكر ينبغي أن يقدم للأمة رؤية موحدة، وخيارات متعددة، تستبق الأحداث وتخرج من أسر ردود الأفعال، وتتجهز لما هو آت؛ حتى نتجاوز مرحلة الصدمة التي يتعرض لها الإسلاميون في كل هجمة من قِبَل الأعداء.(18/441)
إن متابعة أداء الإسلاميين في الفترة الأخيرة، خاصة في أعقاب الحرب على العراق؛ لا تعطي صورة متفائلة، فبينما لا يزال الجدل محتدماً حول جدوى العمل السياسي في ظل أنظمة غير ديمقراطية؛ يفاجئنا بعض الإسلاميين في العراق بتسويغ العمل السياسي في ظل المحتل الصليبي، ومن لوازم ذلك: تجريم كل حركات المقاومة للاستعمار القديم والجديد، والسلوك الأعجب تمثل في رد الفعل لدى الإسلاميين، والذي تراوح بين اللامبالاة، وبين اعتبار ذلك شأناً عراقياً، وأهل بغداد أدرى بدروبها! وبذلك فإن الإسلاميين يواجهون مؤامرات التفرقة؛ بتجزئة المواقف، وأقلمة الثوابت، وإعادة إنتاج الأخطاء القديمة، وإنه من أكبر الخلل حالياً أن يقال عن فعل إسلامي في بلد ما إنه شأن داخلي، والدول الإسلامية قد تحولت بأسرها إلى سفينة واحدة، ليس انطلاقاً من مفهوم ديني ـ للأسف ـ، ولكن وفق مخططات التآمر الأمريكي، فكيف يليق بنا مع هذا أن نصف أفعالاً جوهرية بأنها شؤون داخلية؟!
وفي مجال التوحد بين التيارات الإسلامية لم تُقدم إلى الآن استراتيجية فعالة، وبات كثير من الإسلاميين يَعُدُّون من ضمن الثوابت التراكمية: استحالة أن يتم التوحد أو على الأقل تضافر الجهود وتنسيقها عن طريق التواصل بين قادة التيارات المختلفة جغرافياً ومنهجياً، ولكن كان هذا في الماضي، فهل قُدمت رؤية جديدة لتمهيد هذا الطريق؛ ومعلوم ما يمكن أن يترتب عليه من نتائج فعالة؟
وقد يرى بعضهم أن إقامة كيانات جديدة يكون هدفها لمّ الشمل، وتوحيد الرؤى؛ هو إجراء كاف، ولكن الأمر أعجل من ذلك، وخاصة أنه قد بدرت بوادر غير محمودة العواقب لتوجهات من قِبَل بعض الحركات الإسلامية التي تبدي تأثراً إيجابياً في مواجهة الجائزة التي يلوّح بها الأمريكيون على طريق العمل السياسي ـ نموذج حزب العدالة والتنمية التركي ـ في ظل نظام علماني مطلق ـ النموذج التركي ـ، وهذه البوادر منها: التبرؤ الفكري والمنهجي من قطاعات عريضة من الإسلاميين ـ بديلاً للتوحد ـ وترسيخ نظرية الشأن الداخلي في التعامل مع الفصائل الإسلامية ـ بديلاً للشراكة ـ، وللأسف هذه هي نوعية الفكر الاستباقي التي تمت صياغتها حتى الآن في الأوساط الإسلامية!
أمر أخير يحتاج إلى مراجعة، وهو حتمية تخلص الإسلاميين من رؤية الحل الواحد التي يتقيدون بها، والتي توقع العمل الإسلامي في وضعية الأزمة عندما يتبين عدم ملائمة الرؤية لتطورات الأحداث، ونوضح أكثر فنقول: إن تقويمنا لحالة التفكيك والتقسيم بأنها مصيبة كبرى قد تلحق المسلمين؛ لا يعني عدم بلورة رؤية مناسبة للعمل في ظل وضعية كهذه بافتراض حدوثها.
رابعاً: المقاومة:
ثلاث دول إسلامية.. المقاومة فيها تقف حاجزاً في طريق إكمال مؤامرة التفكيك والتقسيم: أفغانستان، العراق، فلسطين. ففي باكستان تتمثل المهمة الرئيسية لنظام مشرف حسب الرؤية الأمريكية في التعامل مع منظومة: المقاومة ـ البعد الديني لدى الباشتون ـ الحدود الأفغانية، وفي حال قُضي على المقاومة، وكُللت مساعي مشرف بالنجاح في علمنة الباشتون وتأمين الحدود؛ فإن الغاية من بقائه تتلاشى، ويتم الانتقال إلى المرحلة التالية، وهي تقسيم الدولة الباكستانية، وقد تحدثت دراسات أمريكية عن توقع ذلك مع العام 2010م.
وفي العراق وفلسطين؛ تفعل المقاومة الشيء نفسه ـ عن قصد أو بدون قصد ـ، حيث أدت المقاومة الفعالة إلى وقف هذه الخطط التي تحدث عنها كلارك سابقاً وتأجيلها، وربما إلغائها، وهذا يلفت الانتباه إلى أن تأثير المقاومة خارج حدودها أصبح أكبر بكثير من تأثيرها داخل الحدود، ولذا ينبغي أن يتقرر في حسّ هذه المقاومة وفي عقلية منظريها ومخططيها؛ أنها تقوم بدورين متلازمين: السعي إلى طرد المحتل من بلدهم ـ إرهاق وتعطيل قوات المحتل عن متابعة مخططها في المنطقة. وقد يعتقد البعض تماثل الدورين، ولكن عند التدقيق ـ وليس هذا مجال بحثه ـ يتبين الفارق!
أمر آخر يلزم المقاومة في العراق، وهو إيجاد غطاء سياسي، أو عمل سياسي متزامن مع المقاومة، وفي أفغانستان ـ بعد البروز الأخير لطالبان ـ وفي فلسطين يتوفر هذا الغطاء أيضاً؛ لذا تتمكن المقاومة من حصاد مجهوداتها وتضحياتها، وقد تسربت مؤخراً أنباء عن محاولات أمريكية للاتصال بحركة طالبان وإغرائها بالسيطرة على بعض المناطق، كما أنه من أهم الأسباب التي دفعت الكيان الصهيوني لمحاولة تصفية الجناح السياسي لحماس؛ أنه كان فعالاً في توظيف مكاسب المقاومة لصالح الحركة والقضية الفلسطينية، لكن الأمر يختلف في العراق، في غياب عمل سياسي، حتى على مستوى أهل السنة عامة، والعمل السياسي الأبرز كان المشاركة في مجلس الحكم، وتبدو الأزمة فاعلة لو افترضنا انسحاب القوات الأمريكية بتأثير المقاومة، فمن سيحصد مكاسب المقاومة؟
? خاتمة:(18/442)
تحدث مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ قبل عشرات السنين عن القابلية للاستعمار بوصفها داءً خبيثاً يُطوّع البلاد الإسلامية لمحتليها، والمؤسف أنه بعد نحو خمسين عاماً من الاستقلال عن الاستعمار القديم؛ تبدي كثير من الدول استعداداً واضحاً للتفكك بيد الاستعمار الجديد، وحتى في حال تعطل مخططات الاستعمار لا يبدو عليها تأثر إيجابي، وتظل تسير في الطريق بفعل القصور الذاتي؛ رغم أن النتائج الاستراتيجية للحرب الأمريكية على العراق تدعو إلى التفاؤل بتضاؤل التهديد الأمريكي، ومن أبرز هذه النتائج:
- تعجز الولايات المتحدة تماماً عن احتلال بلدين احتلالاً عسكرياً شاملاً في وقت واحد بقوات برية حاشدة.
- لا تستطيع القوات الأمريكية ـ بوضعها الحالي ـ أن تشن حربين شاملين على بلدين مختلفين في الوقت نفسه، وحتى الآن تبدو قدرتها على شن حرب جديدة دون تحقيق حد أدنى من الانتصار في حربها الأخيرة أمراً مشكوكاً فيه.
- قدرة مقاومة محدودة في عددها وعدتها على تعطيل مخطط استراتيجي لدولة عظمى.
- تأكدت في الحرب الأخيرة مقولة: إن الأمريكيين يندفعون لتنفيذ مخطط ما؛ تحت ضغط مجموعة متداخلة من المصالح الفردية والجماعية والرؤى؛ بطريقة تمنعهم من تدبير رؤية تخارجية على المستوى نفسه من التخطيط.
- من مظاهر الخلل الرئيسة في النظام السياسي الأمريكي: قصر فترة الرئاسة ـ أربع سنوات ـ؛ أي أن قرارت الرئيس الأمريكي تخضع لتعقيدات الربح والخسارة بصورة كاملة في فترة السنة والنصف الأخيرة، وتتميز الفترة الأولى بالقدرة على اتخاذ قرارات جذرية وجريئة؛ بينما تصبح قرارات الفترة الأخيرة محسوبة بدقة شديدة.
هذه النتائج من شأنها أن تحدث حالة من الاطمئنان في الأوساط السياسية، ولكن بدلاً من ذلك أحدثت حالة من القلق؛ لأن العقول تفككت منذ زمن، وتثاءبت على مصالح وقتية، تجعلها تظل ساكنة في انتظار التعافي الأمريكي؛ بما يذكِّر بحالة المسلمين أيام الغزو الصليبي الأول.. حينما كان العلج الرومي يأمر ضحاياه المعدّين للذبح بانتظاره ريثما يتفرغ لهم، وكانوا - للأسف - ينتظرون..
============(18/443)
(18/444)
حاجة البشرية جمعاء إلَى الإسلام
عرضت الولايات المتحدة على مجموع الدول الصناعية الثماني مشروع «الشرق الأوسط الكبير» لدرسه، وبلورة موقف موحد منه خلال قمة الدول الثماني، التي ستعقد في حزيران المقبل في "سي أيلاند"، في ولاية جورجيا الأميركية، وتعمل واشنطن للحصول على تأييد كل من هذه الدول لمبادرتها. وقد تلقت هذه الدول المشروع الأميركي من غير أن تشترك في صناعته. أما حكام المسلمين، فقد فاجأهم هذا المشروع، وتملكهم خوف كبير منه لأنه يطال رؤوسهم.
لقد استند المشروع الأميركي على تقرير التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002م و2003م الذي تصدره الأمم المتحدة والذي يصف الوضع الحالي، في منطقة الشرق الأوسط، بأنه سيء في المجال الاقتصادي، والثقافي، والإعلامي، والسياسي وأنه «إذا استمر على المسار ذاته، فإن المشكلة ستتفاقم، وسيشكل ذلك تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني».
ويمثل هذا المشروع رؤية الولايات المتحدة لاستعمار منطقة الشرق الأوسط الذي وسّعته في مشروعها ليشمل إلى جانب الدول العربية كلاً من (إسرائيل)، وتركيا، وإيران، وباكستان، وأفغانستان وهي الدول التي تحصر فيها أميركا الخطر الإسلامي. وهي طرحته من أجل الحفاظ على مصالحها الأمنية باعتبار أن وضع المسلمين «المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية سيشهد مزيداً من التطرف، والإرهاب، والجريمة الدولية، والهجرة غير المشروعة». هذا وقد أرادت من الحلف الأطلسي أن يكون الذراع العسكرية الأمنية لتنفيذ هذا المشروع، وصرحت بأن النموذج الإسلامي_التركي أي نموذج اليهودي مصطفى كمال هو المثال.
إن الحل الذي خلصت إليه أميركا، في مشروعها هذا، هو الإصلاح. ولكن أي إصلاح؟ إنه الإصلاح الذي يرمي إلى ضرب الإسلام، تحت حجة ضرب الإرهاب ومنع التطرف الذي ترى أميركا أنهما إسلاميا الهوية والانتماء. نعم إنه الإسلام الذي يتحرك الجميع من أجل ضربه: أميركا و(إسرائيل) وأوروبا، وحكام المسلمين.
أما أميركا فإنها تعتبر الإسلام عدوها الاستراتيجي الأول، وتضع الخطط لمحاصرته، وتشويه صورته، وإبعاده عن ساحة الصراع، وتجمع الدول حولها من أجل قيادتها في هذا الصراع، وتريد بالمقابل من المسلمين أن يواجهوها بالحوار.
ويقف إلى يمينها، ويسارها، وأمامَها، ووراءها، ومن فوقها، ومن تحتها، شياطين اليهود، ينفثون فيها روح الحقد والكراهية ويوقدون نار الحروب ضد الإسلام والمسلمين.
أما أوروبا فإنها تعتبر نفسها في حالة من الصراع الحضاري مع الإسلام ولكنها تحاول أن تجعله مقنَّعاً وتعمل على إظهار نفسها بعيدة عن الموقف الأميركي السافر. وهي تلتقي مع أميركا في توصيف المشكلة وأسبابها من غير أن تلتقي معها في المعالجة، وهي لها مشروع استعماري يختلف عن المشروع الأميركي، تسميه «الشراكة الأوروبية المتوسطية». وليس أدل على دخولها الصراع الحضاري مع المسلمين من مسألة منع الحجاب الذي بدأ في فرنسا ثم في بلجيكا، وألمانيا، والحبل على الجرار.
أما الحكام المفروضون على المسلمين، الذين يختلفون على كل شيء، فإنهم اتفقوا على أن وضع المنطقة يحتاج إلى إصلاح، ولكن ليس من الخارج، لأنه سيطيح بهم. إن هؤلاء الحكام ليسوا ضد المبادرة الأميركية، ولا ضد ما جاء فيها من حرب على الإسلام والمسلمين، فهم قد سبقوا أميركا في ذلك، ولا ضد ما تمثله من استعمار يتجدد على مختلف الصعد،... إنهم كانوا وسيقنعون أميركا أنهم ما زالوا خير أداة لها لتنفيذ كل ما تريده، إنهم ضد أمر واحد فقط، هو أن يأتي الموس على ذقونهم، إنهم لا يهمهم سوى شيء واحد: الكرسي. لذلك تراهم يتحركون بحركات ظاهرها الإصلاح، وحقيقتها البقاء على الكرسي.
إن ما وصل إليه المسلمون من سوء حال يشهد به الجميع إنما هو من صنع أيدي من يريد الإصلاح: الغرب وصنائعهم من الحكام. إن النظام الرأسمالي، الظالم، الجشع، المفروض على المسلمين، وعلى العالم، هو الذي أفقر المسلمين، بل العالم كله.. فالعالم كله مدين للدول الرأسمالية عن طريق مؤسساتها الربوية من مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ما يقضي على كل أمل بالتنمية التي يدّعي الجميع، نفاقاً، أنهم يسعون إليها، ومثله نظام التجارة العالمية، والدعوةُ إلى الخصخصة والعولمة وإدماج الشركات الرأسمالية الكبرى مع بعضها حتى تصبح كل واحدة منها كالغول يبتلع كل الخيرات، ولا يبقي للآخرين إلا الفتات. إن أميركا وأوروبا بنظامهم الرأسمالي هم أساس المشكلة ولُبُّها، وما هؤلاء الحكام الرخيصون إلا أدوات بيد الغرب ضد أمتهم، وليس لهم في هذا الصراع إلا هم واحد، وهو أن يرضى عنهم الغرب ليبقيهم في نادي الرؤساء كما يقول أحدهم.(18/445)
نعم إن المسلمين يحتاجون إلى حل، وإن أوضاعهم السيئة التي وضعهم الآخرون فيها تحتاج إلى تغيير، وليس إلى إصلاح، وهذا التغيير لا يمكن أن يأتي من الغرب، ولا من المبدأ الرأسمالي الجشع، بل إن المبدأ هذا هو نفسه بحاجة إلى تغيير... إن الحل لا يأتي إلا من الإسلام وحده، الذي يحرّم الاحتكار والربا، ويمنع المغامرة بأموال الناس عن طريق البورصات واللعب بأسعار العملات بعد ربطها بالدولار أو باليورو، ويمنع تلك التجمعات الضخمة من الشركات التي تشكل حالة من استغلال الشعوب وخيراتها.
إن الإسلام هو الحل الصحيح للمسلمين، ولغيرهم، وليس من حل صحيح غيره. ولكن كيف يحقق المسلمون ذلك؟
إن السبيل إلى إيصال الإسلام إلى العالم كله، ليكون رحمة لهم، لا يكون إلا باتباع سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في تحقيق ذلك، فهو صلى الله عليه وسلم أقام المجتمع الإسلامي أولاً، ولم يخرج بدعوته وبجهاده إلى دول العالم إلا من خلال دولة أقامها في المدينة، وأقام أنظمتها، وأعد القوة، ومن ثم أطل إلى العالم ليس بالسيف فقط، بل بالحق، والسيف لم يكن إلا من أجل إزالة الحواجز التي تقف في وجهه وتمنع إيصاله للآخرين. فإذا وصل إلى الآخرين واستناروا بنوره وعاشوا في ظله، فإنه لا يُكرِههم على اعتناقه.
إننا ندعو المسلمين أن يسيروا على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهل من المسلمين من يجرؤ على قول غير ذلك... إن الجهاد في سبيل الله، وإقامة الأنظمة الإسلامية المتعلقة بجميع شؤون الحياة، وإقامة الحدود... كل ذلك مطلوب وفرض ولكنه لا يتحقق من غير دولة. هذا ما يريده الله تعالى، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم . قال تعالى: { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } قرآن كريم
==============(18/446)
(18/447)
حزب الله يقاتل اليهودمحاولة للاستنتاج .. ولا تثريب.
د. لطف الله خوجه 4/8/1427
28/08/2006
مختصر الأحداث.
ما حزب الله ؟.
متى يقع الكفر؟.
هل نؤيد حزب الله ؟.
مختصر الأحداث.
حزب الله يقاتل اليهود.
حزب شيعي يتصدى لدولة إسرائيل.
يرميها بصواريخ الكاتيوشا، ذات التأثير الضعيف؛ حيث يطلق المائة، فلا تقتل إلا واحدا أو اثنين، وأحيانا لا شيء. وقد تتلف بعض الأبنية، وهي تثير الرعب في اليهود، وتشفي بعض ما في الصدور.
أما اليهود فإنهم دمروا لبنان، كما لم تدمر من قبل، وقتلوا المئات من: الأطفال، والنساء، والشيوخ، والضعفة، وشردوا مئات الآلاف من بلدانهم. والكل شاهد هذا.
فهذا القتال حقيقي، لا شك ولا ريب. والدليل: القتل، والدمار، والنزوح الجماعي.
اليهود يدعون أن قضيتهم عادلة؛ يقاتلون من أجل استرداد أسيرين أسرهما حزب الله.. بينما الوقائع تؤكد أنها حرب مبيتة، مخطط لها، ضحيتها شعب لبنان، وأرض لبنان، والمنطقة كلها.
وقف منها العالم مواقف:
- فمنهم المراقب المتفرج، الذي لا يأبه لما يحدث، فمنها دول كبرى، ومنها صغرى.
- ومنهم المشارك المعين، الممتنع والرافض إيقاف الحرب، المفشل لكل خطة في هذا الصدد.
- ومنهم المتأسف، يدعو لوقف الحرب، لكنه مكبل، لا يقدر على شيء.
- والمسلمون منصرفون عن الأمر، حتى إنهم لم يجتمعوا لأجل هذا البلد المسلم.
ثم إن كثيرا من أهل السنة، علماء وعوام، خرجوا مؤيدين، مساندين حزب الله، فكتبوا، وتظاهروا، ونددوا بالعدوان. وثمة منهم من أبدى رأيا معارضا في هذا الحزب؛ منع من تأييده، وحث على التنبيه على مخالفاته للإسلام والسنة، لاعتبارات: عقدية. تاريخية. واقعية.
هذه خلاصة هذا الحدث. وما يعنينا هنا هو: محاولة حسم هذا الخلاف، وتوضيح المواقف.
* * *
ما حزب الله ؟.
حزب الله طائفة شيعية:
- اثنا عشرية؛ نسبة إلى اثني عشر إماما من آل البيت، ينتسبون إليهم.
- إمامية؛ لقولهم بأن الإمامة ركن الدين.
- جعفرية؛ نسبة إلى الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين.
أهل السنة يسمونهم: رافضة. وهم يرفضون هذه التسمية.
فهم في الاعتقاد موافقون لشيعة إيران، والمعروف السائد: أنه صنيعة إيران، وهي الممولة والموجهة له.
وهذه نظرة لجملة من أصول الاعتقاد عند الشيعة الاثني عشرية، التي لا يزالون يؤمنون بها:
أولا: الإمامة ركن الدين الأعظم.
الإيمان بالإمام جزء من عقيدتهم، وركن أساس من أركان الدين، ومن أصبح بلا إمام فهو ضال.
ويرون بطلان إمامة من تقدم عليا رضي الله عنه، وأنه كان الأحق بها نصا، لولا أنها سلبت بمؤامرة دبرها أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما. كذا قالوا .!!.
ثانيا: تصورهم للإمام ووظائفه.
يعتقدون في الأئمة أنهم أشخاص غير عاديين، كانوا قبل العالم، أنوارا، ولهم ولاية تكوينية.
فالإمام مهيمن على شؤون الكون، ومجرياته، والكل خاضع له، ويعلم أمور الغيب، وهو معصوم من الخطأ، في كل أفعاله، وأقواله، ونتيجة لذلك: فإنهم يسألونه حوائجهم، ويستغيثون به في الكرب.
فاعتقادهم هذا في الأئمة أوقعهم في أعمال شركية، في الدعاء، وعند القبور، كما في النجف وكربلاء، وكما سمع الناس وشاهدوا في القنوات الفضائية، من استغاثة عوام الشيعة المهجرين في لبنان بالحسين وزينب، من إجرام اليهود الصهاينة.
والشيعة لا يخفون هذا، بل ينظرون له، ويبررون له، كما حدث وشاهد وسمع الجميع في مناظرات المستقلة، التي كانت عن التجديد، بين الشيخ عدنان العرعور وحسين الأسدي؛ الذي كان يشرعن ويحسن دعاء الحسين والاستغاثة به من دون الله تعالى.
ثالثا: قولهم بالتقية.
التقية معناها عندهم: كتمان الحق، وستر الاعتقاد، ومكاتمة المخالفين؛ أي عدم الإفصاح لهم.
هذا المبدأ أساس علاقتهم بأهل السنة بالأخص، ويروون فيه آثارا منسوبة إلى جعفر الصادق، كقوله:
- "تسعة أعشار الدين في التقية".
- "لا دين لمن لا تقية له".
- "التقية ديني ودين آبائي".
- "من صلى وراء سني تقية، فكأنما صلى وراء نبي".
رابعا: تحريف القرآن.
المعروف عنهم قولهم: أن القرآن محرف، أسقطت منه بعض السور، وكثير من الآيات في فضائل آل البيت، والأمر باتباعهم. وقد اتهموا الصحابة بفعل ذلك. وأن القرآن لم يجمعه كله إلا الأئمة، وأنه مثل هذا القرآن ثلاث مرات، ليس فيه منه حرف واحد. وقد ألف حسين بن محمد النور الطبرسي كتابا سماه: "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب".
هناك فئة نفت التحريف منذ فترة مبكرة، في القرن الرابع والخامس، وهذا ما يردده المعاصرون، إلا أنهم لا يقولون بكفر من يقول بالتحريف؛ أعني كفر الفعل لا الفاعل. وهذا ما حمل جمعا من السنة على تلقي هذا النفي بكثير من الحذر، بل وعدم الاطمئنان في أحيان عديدة.
خامسا: تكفير الصحابة، ورد السنة.
ادعوا على الصحابة: أنهم اغتصبوا الإمامة من علي رضي الله عنه. وعليه فقد نصوا على تكفيرهم إلا جماعة، منهم: علي، وأبو ذر، وسلمان.
وطائفة من المعاصرين يجتنبون تكفيرهم، لكن يضللونهم. ففي كل حال عندهم: الصحابة ضالون.
وعليه: فإنهم يردون السنة؛ كونها جاءت من طريق الصحابة رضوان الله عليهم.(18/448)
سادسا: مخالفتهم لأهل السنة.
هذه المخالفة مسطرة في كتبهم، ويكفي دليلا على أن المخالفة بين السنة والشيعة عقدية، أصلية:
- اتخاذ الشيعة بيوتا للعبادة غير المساجد، سموها بالحسينيات، يضاهون بها بيوت الله تعالى.
- واتخاذهم بقعا كالنجف وكربلاء، ضاهوا بها البيت الحرام حرمة، وشرفا، بل زادت، يحجون إليها، ويتخذونها أعيادا، ومناسك.
فهذه جملة من الأصول التي يخالف فيها الشيعة - وحزب الله من هذه الطائفة - أهل السنة.
وبها يتضح أن الخلاف كبير، وفي الأصول، وعلماء السنة متفقون على:
- أن القول بتحريف القرآن، كفر مخرج من الملة.
- وأن دعاء غير الله تعالى شيئا لا يقدر عليه إلا الله تعالى، كفر مخرج من الملة.
- ونسبة تصريف الكون وتدبيره إلى مخلوق، كفر مخرج من الملة.
- وادعاء أن أحدا يعلم الغيب المطلق، كفر مخرج من الملة.
كما أنهم متفقون على:
- الترضي عن الصحابة جميعا، وتعديلهم، وأنهم خير الناس بعد رسول ا صلى الله عليه وسلم
- وأنه لا بيوت للعبادة غير المساجد، ولا يحج ولا يعظم سوى مكة، ثم المدينة والأقصى.
فهؤلاء إذن وقعوا في أعمال تخرج من الإسلام بالكلية، لكن المسألة المهمة هنا، هو:
- هل الشيعة كلهم وقعوا في هذه الأمور ؟.
- وهل الذين وقعوا أقيمت عليهم الحجة، حتى يكفروا بأعيانهم ؟.
* * *
متى يقع الكفر؟.
أما عن الأول:
فمن الصعب أن يقال: كل شيعي، هو يعتقد تلك المعتقدات.
إن ذلك لا يثبت إلا بمعرفة ما لدى كل شيعي:
- فالشيعة طوائف، قد تختلف فيما بينها، وإن اشتركت في أكثر الأصول.
- وأكثر الشيعة أخذوا تشيعهم وراثة. لا يدركون كثيرا من أصوله، وتفاصيله.
- ومن الشيعة من لا يؤمن بتلك المعتقدات أصلا، أو بكثير منها، إما فطرة، وإما لاطلاعه على فسادها، ومعرفته بالحق، لكنه يكتم إيمانه، خشية وخوفا.
ولذا فلا تثبت هذه المعتقدات لأحد منهم، إلا بإثباته على نفسه؛ بتصريح منطوق، أو مكتوب.
وبما أنه لم يحصل مثل هذا الإثبات والإقرار لكل فرد شيعي، فالقول الموافق لأصول الحكم على الآخرين: عدم الحكم على كل شيعي بنسبة تلك المعتقدات إليه، بمجرد انتسابه إلى طائفة الشيعة.
والموافق للأصول أيضا: الحكم على: الأفكار، والمعتقدات، والحزب والطائفة. من خلال: المؤلفات، والتصريحات، ونحو ذلك. التي تبين المذهب والاتجاه. فيقال: هؤلاء المنتمون لهذا الحزب، أو المنضوون تحت هذا اللواء.. هذه معتقداتهم.
فيكون حكما عاما، أما الخاص فيحتاج إلى زيادة فحص ودراسة. فالحكم على الأعيان بحكم ما: كالكفر، أو البدعة، أو الفسوق. لا يكون إلا بعد إقامة الحجة؛ بإثبات الشروط وانتفاء الموانع.
أما عن الثاني:
فالذي يمكن قوله: أنه ليس كل شيعي أقيمت عليه الحجة، لأسباب، منها:
1- تقصير أهل السنة في إيصال الحق إليهم.
2- تجهيل رؤوس ومشايخ الشيعة لعوامهم، وضرب نوع من الحصار العلمي عليهم.
3- تربية العامي منهم منذ الصغر على كره أهل السنة، حتى يتطبع به، بعد أن يفهّم زورا وافتراء أن أهل السنة يكرهون أهل البيت، ويعادونهم.
4- ربط المذهب الشيعي بتكتلات قبلية، أو اجتماعية، أو أسرية؛ ليتعذر على من عرف بطلانه الخروج عنه، خشية من منافرة تلك التكلات، وهذا لا يقوى عليه كل أحد، مما يولّد أناسا يبطنون السنة، ويظهرون التشيع.
فهم في الأعذار بين: جاهل جُهّل عمدا، ومن لبّس عليه فلم يعرف الحق، ومكره يكتم إيمانه.
وفي هذا الحال من الظلم تكفير كل واحد منهم، قبل معرفة ما لديه من قول وعذر.
فهم مسلمون من حيث العموم؛ لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون إلى القبلة، ويؤمنون بأركان الإسلام، والإيمان في الجملة ابتداء. فيثبت لهم بها اسم الإسلام.
أما ما يقعون فيه من الشركيات والكفريات، فقد يعذرون للموانع الآنفة، فالله تعالى رحيم لا يؤاخذ الناس بما جهلوا، أو ضلوا فيه عن غير عمد، أو أكرهوا عليه.
ومن أوجب الواجبات على أهل السنة: تبصيرهم بالحق، ونقض الشبهات التي تزرع في عقولهم، وإزالة تشويه السنة من نفوسهم.
* * *
هل نؤيد حزب الله ؟.
هذا السؤال لم يكن ليطرح لولا التباين بين السنة والشيعة في: المعتقد، والتاريخ، والمصالح.
والقسمة المتوقعة والواقعة هنا هي: التأييد، وعدم التأييد.
- فالقول بالتأييد يرتكز على مبررات:
الأول: أنها أرض إسلامية اعتدي عليها. والدفاع عن الأرض واجب.
الثاني: أنهم مسلمون؛ فهم يشهدون الشهادتين، وأهل قبلة. والمسلم له النصرة.
الثالث: أنهم ظلموا بالعدوان الإسرائيلي. والسعي في إزالة الظلم واجب.
الرابع: أنهم يقاتلون أكبر أعداء الإسلام والمسلمين. والتنكيل بالعدو مطلب.
الخامس: إفشال المخطط الصهيوني بإيقاع حروب بين أبناء المنطقة، بقصد الهيمنة.
- والقول بعدم التأييد يرتكز كذلك على مبررات:
الأول: التباين العقدي.
الثاني: صون دماء أهل السنة وأموالهم من عدوان الشيعة، إذا ما قدروا عليهم.
الثالث: إفشال المخطط الفارسي الصفوي للهيمنة على المنطقة.
وقبل الخوض في دراسة هذه المبررات واختبار ثبوتها من عدمه، من المطلوب تحديد مفهوم التأييد.(18/449)
التأييد هو الدعم والمساندة، فالمعاني المحتملة للتأييد يمكن تقسيمها حسب ما يلي:
- أولا: التأييد الدفاعي. وذلك برفض العدوان، والسعي في إيقافه، وغوث المنكوبين.
- ثانيا: التأييد الصامت. وذلك بالسكوت عن المخالفات العقدية، والتجاوزات العملية.
- ثالثا: التأييد المثالي. وذلك بتمني انتصارهم، والدعاء لهم، ومدهم بالمال، والقتال معهم.
وبالنظر إلى هذه المعاني، فلو أخذنا مبررات المؤيدين، فإنها بمجردها، مسوغة، لا بل موجبة؛ فلا يطلب للتأييد أكثر من كون المؤَيد:
- مسلما، مظلوما، يقاتل عدوا للإسلام والمسلمين ينكل به، ويشفي صدور المجروحين.
- والأرض المعتدى عليها إسلامية خالصة.
- والمقصود إفشال خطط الصهيونية للهيمنة الكاملة على المنطقة.
وكل هذه المبررات موجودة في حرب حزب الله لليهود. فإذا حكمنا بالنظر إلى هذه المبررات مجردة، فالتأييد واجب.
ولو أخذنا مبررات المعارضين، فإنها أيضا بمجردها صحيحة، مسوغة، لا بل موجبة لعدم التأييد، فأي فائدة من تأييد يفضي إلى: التلبيس على الحق، وتشيع السنة، وتسلط الشيعة الفرس.
فأولها التباين العقدي، وهو ثابت كما تقدم بيانه، ومن قال غير هذا، فيحتاج أن يدرس كتب الشيعة والسنة عبر القرون، ومواقف بعضهم من بعض، ولوضوح التباين، فلا نحتاج أن نشغل أنفسنا بالرد على المنكرين؛ إذ إنكارهم الواضحات أمر معيب !!.
فالتباين العقدي مع التأييد يفضي إلى: التعمية عن الحق، وتشيع السنة؛ إذ التأييد والحالة هذه، قد يفهمه كثير من الناس على: أنه تصويب وشهادة بحسن المعتقدات. وربما جرهم ذلك إلى التشيع، خصوصا مع حالة الإعجاب ببطولات الحزب في قتاله اليهود.
وهذا منزع صحيح لعدم التأييد؛ إذ يجب بيان الحق، وصون السنة من التشيع.
وثانيا: عدوان الشيعة على السنة، كلما تمكنوا:
- كما يحصل في العراق، وهو معروف.
- وحصل في لبنان، لما حاصرت حركة أمل الشيعية، فقتلت آلاف الفلسطينيين في المخيمات.
- وكذلك اضطهاد السنة في إيران.
ويلحق بهذا المبرر مبرر آخر هو: المخطط الفارسي للهيمنة على المنطقة.
ففي مثل هذا الحال، المنطق والعقل يقول: ليس من الحكمة تأييد من إذا قدر عليك، لم يرع فيك حرمة نفس، ولا مال، ولا دين، ولا أرض، كما حصل للسنة بعد الثورة الإيرانية.
فمن المهم إفشال هذه الخطط للتسلط الفارسي، صونا للسنة في نفوسهم، وأموالهم، وديارهم.
وهذا أيضا منزع صحيح لرفض التأييد؛ لأنه من الإعانة على النفس، وذلك لا يجوز.
* * *
وهكذا هي المبررات صحيحة في نفسها. فإذا تقابلت تعارضت، فكيف العمل حينئذ ؟.
لا تحسم القضية إلا بالمقابلة، ثم الموازنة، ثم الترجيح. فإما أن يظهر قول على الآخر، فيكون هو الصواب، أو يتساويا، فحينئذ فالمسألة محل النظر والاجتهاد، لا يلام من نظر فاجتهد، فاختار أحدهما. فهذا حكم الترجيح؛ إذ الترجيح يكون بين الأقوال المتقاربة.
والسؤال المهم هنا؛ لمعرفة الراجح من القولين، هو: هل الأحوال المرتبطة بهذه الحادثة بعينها، تحقق مبررات المؤيدين أم المعارضين ؟.
- هل تأييد حزب الله يتسبب في: التلبيس على الحق، وتشيع السنة، وتسلط الفرس ؟.
- أم عدم التأييد هو المتسبب في: احتراب داخلي، يساعد على المخطط الصهيوني في المنطقة ؟.
للوقوف على الجواب، نرجع إلى مفهوم التأييد، ونستعرض أنواعه، ونسلط عليها أدوات الفحص والدراسة، لنرى ماذا يمكن أن تحقق من المصالح، وما يمكن أن تجلب من المفاسد ؟.
النوع الأول: التأييد الدفاعي.
أي الدفاع عن الضعفاء. فالتأييد بهذا المعنى هل سيفضي إلى شيء من المفاسد التي حذر منها المعارضون ؟.
هذا النوع يتضمن: رفض العدوان، والسعي في إيقافه، وغوث المنكوبين. وهذه أمور لا يختلف أحد على أنها حق لكل إنسان، مظلوم، حتى لو لم يكن مسلما. والظالم نفسه إذا عاد مظلوما فله النصرة، ولا يكون ظلمه مانعا، لقوله تعالى: "ولا يجرمنكم شنئآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله..".
فتأييدهم بهذا المعنى هو المصلحة لا ريب، وهو الدعوة، والحكمة، والموعظة الحسنة. فنخرجها إذن من دائرة الخلاف، ونضعها في دائرة الاتفاق، ولننتقل إلى النوع الثاني.
النوع الثاني: التأييد الصامت.
وهو بمعنى السكوت عن معتقداتهم، وعن فعالهم بالسنة، والسكوت على قسمين: دائم، ومؤقت.
فأما السكوت الدائم، فهو تضليل عن الحق؛ فمتى يبين الحق مع سكوت دائم؟.
وقد أخذ الله العهد والميثاق على أهل العلم: أن يبينوا الحق للناس، وإلا عذبهم، فقال تعالى: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون".
"إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون * إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم..".
فهذا خلصنا منه، وهو منزع صحيح لرفض التأييد؛ إذ كان مداره عليه. فما القول في القسم الثاني؟.
القسم الثاني: السكوت المؤقت. وهو لمراعاة المصلحة، إن ترجحت بالسكوت.(18/450)
ولا نظن في أحد من أهل العلم والفقه والرأي إلا موافقته على: أن السكوت المؤقت يحتاج إليه في بعض الأحيان، حتى مع الكفار. والنصوص في هذا المعنى كثيرة لا تخفى، قال تعالى:
"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة".
"من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم".
وفي ضوء ثبوت شرعية السكوت المؤقت عن بيان الحق، من حيث الأصل: فمن الجائز السكوت المؤقت عن أخطاء الشيعة، وأفعالهم، إذا ترتب عليه مصلحة تعود على المسلمين (= منع الاقتتال بينهم. كف العدوان. النيل من العدو اليهودي، تحرير الأرض الإسلامية، إفشال المخطط الصهيوني). أما إن ترتب عليه ضرر (= تضيع الحق، تشيع السنة، تسلط الفرس الشيعة) فقد يقال: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وحينئذ نرجع إلى تعارض الأدلة وتقابلها، لكن والحالة هذه:
هل يمكن أن يترتب ضرر على السكوت المؤقت ؟.
هذا سكوت غير مطلق، ولا دائم، فما يخشى من التعمية عن الحق منفي؛ إذ النقد لمعتقدات وأعمال الشيعة قائم قبل وبعد الحدث، وحتى في الأثناء، لمن ابتغى البحث في المظان من المؤلفات في الفرق والعقيدة. وبهذا يضمن بيان الحق، وصيانة السنة. مع التنبيه حين التأييد:
إلى أنه بالإجمال ثمة خلاف جذري عقدي بين الفريقين، ليس الوقت ملائم لتفصيله؛ إذ هناك ما هو أهم، وهو: كف العدوان، وإحباط مخطط تفتيت المنطقة.
وهكذا تصبح المسألة من هذا الوجه محل النظر والاجتهاد، بحسب ما يتأتى من مصلحة.
فالتأييد بهذا المعنى فيه مصلحة، وهو الأقرب، ومفسدته بعيدة نوعا ما، فلنخرج هذا النوع أيضا من دائرة الخلاف، إلى دائرة الاتفاق، ولننتقل إلى النوع الثالث.
النوع الثالث: التأييد المثالي.
وهو أعلى أنواع التأييد. فهل هذا النوع يفضي إلى شيء من المفاسد ؟.
هذا النوع يكون: بإعلان المساندة، وبالدعم المالي، وتمني النصرة والدعاء، والقتال. وإذا تذكرنا:
- أنهم مسلمون، وهم مظلومون، يقاتلون عدوا ينكلون به.
- والأرض إسلامية خالصة، والدفاع عنها واجب، بكل ما يستطاع.
- وثمة هدف لإيقاع المنطقة في حرب أهلية، ودينية، بقصد الهيمنة.
فكل هذه أسباب مشروعة للتأييد المثالي.
وقتال السنة إلى جنب الشيعة عدوا مشتركا ليس بجديد على التاريخ الإسلامي، فقد كان سيف الدولة الحمداني يقود الجيوش الإسلامية في حرب الروم، وهو شيعي إمامي. فالقتال هنا ليس لحساب جهة ما، إنما لأجل الأرض أنها إسلامية، حصل العدوان عليها. فلنذكر هذا جيدا !!.
وأما المفاسد التي يخشى منها، وهي: التلبيس على الحق، وتشيع السنة. فذلك يمكن الاحتماء منه بالطريقة التي ذكرت سابقا، وهي البلاغ، البيان، والدعوة. فهذه لا تنقطع أبدا، ولو توقفت لوقت.
وأما عن المخطط الفارسي، فهذا إن ثبتت صلته بهذا الحدث (الحرب بين حزب الله وإسرائيل)، فكذلك يدفع بالبيان، والبلاغ، وإيضاح الأمور بحقائقها؛ أي يكون العمل على أصعدة:
- تأييد المقاومة، لأنها تحمل كثيرا من أسباب التأييد.
- فضح المخطط الفارسي، وعدم السكوت عنه، وتحذير المسلمين منه.
- العمل المضاد؛ لإفشال هذا المخطط، مثل دعوة الدول السنية الكبرى أن يكون لها دور موازٍ للدور الإيراني؛ تأثيرا، وتخطيطا، ومنعة
حزب الله يقاتل اليهود
محاولة للاستنتاج .. ولا تثريب.
د. لطف الله خوجه 11/8/1427
04/09/2006
مخطط فارسي، أم صهيوني ؟.
تراشق !!.
نقد لا يوقد حربا.
مخطط فارسي، أم صهيوني ؟.
وجود مخطط فارسي للهيمنة في المنطقة أمر معروف لكل: مراقب، ومحلل، وسياسي.
فالإشارات والعلامات لا تخفى:
- بدءا باحتلال الجزر الإماراتية الثلاثة.
- ثم السعي لامتلاك السلاح النووي.
- إلى التدخل في العراق، ومحاولة صياغتها لتكون مقاطعة تابعة.
- واختراق سوريا ونشر التشيع فيها بشكل غير مسبوق.
- والقدرة على تحريك السلم والحرب في لبنان.
- ثم مناوراتها الاستعراضية في الخليج العربي.
كما لا يخفى على متابع، الخطة الخمسينية، التي صدرت عن الدوائر الإيرانية؛ للهيمنة والتسلط على منطقة الشرق الأوسط، وكل ما حدث بعد ذلك من تحركات إيرانية ، إنما يصب في صالح هذه الخطة وتنفيذها. فالثورة في حالة تصدير حتى هذا الوقت، لكن في صورة مغايرة للبدايات، حيث الشعارات الثورية، والحروب، والإثارة. هي اليوم تمضي في خطى أكثر تأثيرا، بعد أن تعلم قادة الثورة من الدرس، فقلبوا المعركة من نطاق الثورة إلى الفكر، والسياسة، والتخطيط البطيء الطويل.
والمخطط الصهيوني كذلك ثابت، لا يجهله أحد، فهو معلن بالقول وبالفعل:
- فدعوات الشرق الأوسط الكبير، والجديد.
- واحتلال أفغانستان والعراق تحت ذريعة الحرب على الإرهاب.
- وتهديد سوريا المستمر، ومحاولة إخضاعها بالقوة.
- وضرب المقاومة في فلسطين ولبنان.
أمور تبين ما وراءها، فالصهيونية لها غرض الهيمنة المطلقة على المنطقة.
فالمخططان ثابتان، والسنة العرب بالأخص معنيون بهذه المخططات، التي تحاك ضدهم.(18/451)
وليس المهم سرد تفاصيلهما، إنما معرفة أيهما المرتبط بهذا الحدث؛ الحرب بين حزب الله واليهود ؟.
فإذا أخذنا في الاعتبار سرعة رد إسرائيل، ودخوله الحرب مباشرة بعد أسر الجنديين، وتلقيه من الدعم التام والمساندة التامة من الولايات المتحدة الأمريكية، ودخول الأخيرة الحرب بصورة واضحة هذه المرة، بإفشالها كل المساعي لوقف إطلاق النار، كما حدث في مؤتمر روما ومجلس الأمن، بل وإصرارها العلني على مواصلة الحرب. ومهما كان من انحيازها لإسرائيل في السابق، إلا أنها لم تبلغ هذه الدرجة، فقد كانت هذه المرة في صورة الذي يقود المعركة، ويحرك الآلة العسكرية الإسرائيلية.
كل هذه دلالات على أن الحرب مبيتة، مخطط لها سابقا، اختير لها هذا التوقيت، واتخذت حادثة أسر الجنديين كذريعة مبررة.
وإذا أضيف لها الحرب التي سبقت ضد الفلسطينيين، بالذريعة ذاتها؛ تخليص الجندي الأسير، فبها يعلم أن المقصود هو: القضاء على كل أشكال المقاومة ضد إسرائيل، ووضع نهاية لها. لترتيب المنطقة من جديد، ضمن مشروع هيمنة صهيونية مطلقة.
وإذا انتقلنا إلى المقابل، فالسؤال الذي يرد هنا:
لم بادر حزب الله إلى أسر الجنديين في وقت، كانت فيه إيران تواجه معضلة إحالة ملفها النووي إلى مجلس الأمن، لتواجه عقوبات الحصار الاقتصادي، والسياسي، والعسكري..؟.
هل كان لأجل صرف الأنظار عن هذا المشروع زمنا، تستطيع فيه إيران إتمام مشروعها؛ ليصبح واقعا، تضطر الدول الكبرى للتعامل معه على هذا الأساس؛ لتعطى الوصاية على المنطقة، مقابل ضمانها مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
إن لإيران الدور الأول في بروز هذا الحزب، وبقائه. فهي الممد له بالعون والمال، والعتاد، والرجال أيضا، والحزب يرجع إليها، ويعتد بمرجعيتها.
ودخوله في هذه الحرب، مع حيازته لهذا الكم الهائل من الصواريخ، الجاهزة، فيه دلالة على استعداده لحرب قريبة، فهل كان على علم بأن إسرائيل ستبادر إلى الهجوم والقتال، ليعد عدته، أم كان يعد العدة ليجرها إلى حرب مشغلة ؟.
فالحدث قد يرتبط بهذا أو ذاك، وارتباطه بالأول أظهر، لعلانية التصريحات، ووضوح المواقف الأمريكية الإسرائيلية. وارتباطه بالثاني أخفى؛ لغموض الموقف الإيراني وحزب الله وعدم تصريحهم بطبيعة العلاقة بينهما في هذه الحرب.
وفي هذا المقام، يستحضر المعارضون الثورة الإيرانية، وما وقع فيها من نكث الشيعة بوعودهم للسنة، بعدما شاركوهم الثورة، وما تلاه من اضطهاد السنة، حتى إن طهران لا يوجد فيها مسجد واحد إلى اليوم. وقد فرح كثير من السنة بالثورة وأيدوها، قبل أن تتبين لهم أهدافها الثورية الفارسية.
وهم يخشون أن يكون هذا الحدث، وهذا التأييد تكرارا للصورة نفسها، دون اعتبار ولا اتعاظ.
والذي يبدو أن الحدثين مختلفين:
- فالثورة كانت انقلابا على الحكم، وأي مساندة للانقلابيين فإنها تعني تمكينهم من الحكم والسلطة، وهذا ما حدث بعد ذلك.
- أما هذا الحدث فليس انقلابا، بل أرض إسلامية اعتدى عليها الكافر، فدمرها وقتل المسلمين فيها، وهجر مئات الآلاف.
فاختلفت الصورتان، فلا يصح قياس هذا على هذا إذن.
فالتأييد غايته: غوث المظلوم، ودفع الظلم، والنكاية بالعدو، وإفشال المخطط الصهيوني، وتحرير الأرض. وهذا الهدف واضح، والمصلحة ظاهرة. أما التسلط الفارسي، فهو وإن لم يكن خافيا على أحد، فربطه بهذا الحدث خفي غير جلي، ويمكن تلافي المفاسد بخطوات أخرى، غير منع التأييد، كما مر سابقا.
وهكذا من خلال هذا التحليل والدراسة، نجد الجواب لكل دليل معارض:
- فالتأييد الدفاعي لا يختلف عليه أحد.
- والتأييد الصامت، يمكن بالصمت المؤقت.
- والتأييد المثالي، فلأجل الأرض الإسلامية، والمسلمين الضعفاء.
وما يخاف من المفاسد، يمكن دفعه بالعمل المضاد، ليس فقط بالامتناع عن التأييد، فهذا هو المنهج العملي في مثل هذه القضايا، وهذه هي المرونة في الحركة، والعمل، والإصلاح.
* * *
تراشق !!.
اختلف الناس في هذه القضية، وقال كل رأيه، ثم بدأ التراشق بين الطرفين ؟!!.
فالمؤيدون نعتوا المخالفين لهم: بأنهم في أوهام، لا يدركون أبعاد السياسة، مستغرقون في التحليل العقدي، لديهم تأزم نفسي، ينظرون بمنظار ضيق غير شمولي، يلجئون إلى التاريخ، لا يرون العالم إلا من خلال عقائدهم، وأنهم وحدهم على الحق.
وغير المؤيدين ينعتون المخالفين: بأنهم ما وعوا الدرس، ولم يتعظوا بما سبق، وما يحدث في العراق، وأن هذا من تمييع الحق، وتمكين الأعداء. وأنه كان الأولى بهم السكوت إذ لم يدركوا أبعاد المؤامرة.
ولو تريث الفريقان، لوجدا المبررات صحيحة من الطرفين.
وهي متقابلة، تحتاج إلى موازنة؛ لترجيح الصواب منها، وطرح الآخرى.!!!.
وحقيقة المشكلة لدينا: أن الترجيح يأتي دائما بالظن، لا بالدراسة، والتتبع، والفحص!!(18/452)
ومن حاول الدراسة، فدراسته فردية، لا تقوم بها مؤسسات مختصة بالشئون السياسية، وهذا أمر يفتقر إليه أهل السنة، فلو كانت لديهم لجان ومؤسسات مختصة بدراسة السياسة الإيرانية خصوصا، والشيعة عموما؛ لأسعفت بدارساتها، حيال هذه الأحداث، الباحثين والعلماء، مما يمكّنهم أن يبنوا عليها حكما شرعيا مؤصلا، قريبا من الصواب، إن لم يكن الصواب نفسه.
لكن في مثل هذه الأوضاع المختلطة التي نعيشها، من غياب الهوية السنية، الجامعة لنشاطات السنة، المحققة لمصالحهم، فإن الجهود الفردية ستحل محلها. ترافقها مشكلة أخرى هي: عدوان الخائضين بعضهم على بعض، بالتسفيه، والطعن، والاستهجان، والاستخفاف، وكل ذلك ينافي أخوة الإسلام. وهكذا تجدنا في كل مسألة نازلة طارئة، نختلف اختلاف الخصوم والأعداء.
فلو أننا إذ فاتنا العمل والنشاط المؤسسي، تراحمنا فيما بيننا، فأظهرنا جدلا محترما:
- يتبع أصول الحوار وآدابه، بطرح الأدلة، وتتبع المستندات، ودراستها، وتحليلها، واعتبار ما يمكن اعتباره، وطرح ما يمكن طرحه.
- مستخدمين في ذلك أدوات الترجيح بمنهجية علمية، من: ثبوت دليل، وصحة دلالة، ومناسبة للواقعة، وقياس صحيح. واعتبار الزوايا الأخرى، من: سياسية، واقتصادية، وتاريخية..
- وكل داخل في الجدل لديه القدرة والاستعداد على إعادة النظر في رأيه. لا، بل الرجاء في أن يجد الحق عند صاحبه؛ ليعمل به.
لكان في هذا تعويضا عن الفراغ الكبير، الذي تركه العمل المؤسسي في بنية الحركة السنية، ولكان فيه بديلا عن العمل الجماعي، لكننا أبينا إلا أن نجعلها كما قال القائل: "حشفا وسوء كيلة"؟!!. فكل معجب برأيه، ولا يملك لأخيه إلا لسانا شديدا، شحيحا على الخير؟!!.
نحتاج إلى أن تعلم أصول الحوار، والبحث، والمناظرة، والجدل بالحكمة، والموعظة الحسنة. ولا أكاد أستنثي. فالكل، إلا القليل، وقع في هذا الخطأ.
* * *
- إذا أتى المؤيد بمبرر فيه: أنهم مسلمون. قال المعارض: لكنهم مخالفون في أصول من العقيدة.
- وإذا قال الأول: إنهم مظلومون. قال الآخر: لكنهم يعتدون ويظلمون السنة.
- وإذا قال: إنهم ينكلون باليهود. قال: لكن لهم مخطط للهيمنة.
وهكذا كل يذكر قضية صحيحة، يقابلها الآخر بأخرى مثلها. وليست نقطة الخلاف في هذه الأمور، إنما في المقابلة بينها، والموازنة، ثم الترجيح. فإن ثبت: أن تأييدهم ينفع فما المانع من تأييدهم ؟.
وإذا ثبت العكس: أن تأييدهم يضر، فلم نؤيد عملا فيه ضرر علينا ؟.
فكما رأينا المسألة، ليست محسومة ابتداء، كما جهد الفريقان على تصويره، بل هي مشروطة، والفقه كل الفقه، في إدراك هذا الشرط، إثباتا أو نفيا. فمتى ثبت الشرط، أو انتفى فعلى المخالف التراجع.
وهذا الكلام متعلق بهذا الحدث، وحكم الحدث المعين لا يعمم، وإن كانت أطراف الصراع هي نفسها، فإن وحدة الأطراف لا يلزم منها وحدة الحكم، وإلا لما جاز للمسلمين أن يحاربوا الكافرين تارة، ويصالحوهم تارة، ويهادنوهم تارة.
والحقيقة أن ترجيح أحد القولين على الآخر، فيه كثير من المغامرة، لغموض جوانب من القضية، وعدم توفر المعلومات الصحيحة، بصورة واضحة، لأسئلة حاسمة في الموضوع.
فلو أخذنا قضية الهيمنة الفارسية، وهي حقيقة في أصلها، وإنما البحث في ارتباطها بهذا الحدث، ففي ارتباطها تتعارض الأدلة وتتقابل؛ فالتأييد يقوم على نفي الارتباط، وأدلته ما يلي:
1- أنهم مسلمون، مظلومون، يقاتلون عدوا للإسلام والمسلمين.
2- أن الحزب والشيعة لم يكونوا يتوقعون هذا الرد من إسرائيل، ولو عرفوا ما أسروا؛ لتكون عقوبتهم: تدمير قراهم بالكامل، وتهجير أتباعهم كلهم إلا قليلا.
3- أنه من الواضح من إصرار أمريكا على استمرار إسرائيل في القصف والعدوان: أنها حرب مبيتة؛ لخلق منطقة جديدة، سموها شرق أوسط جديد.
فهذه إشارات وعلامات تنفي: أن تكون مخططا فارسيا. ومن ثم فلا خوف من أطماع إيرانية شيعية، وإن كان من مبررات عدم التأييد ما هو قائم (تضييع الحق، وتشيع السنة؛ إعجابا ببطولات حزب الله). فيبقى مبرر، ويسقط مبرر، ويمكن علاج المبرر القائم ببيان الحق بلطف ورفق، بالتأييد مع الأشعار أنه لأجل منع الظلم، ومنع الاحتراب بين السنة والشيعة، وليست شهادة على حسن المعتقدات، أو الثقة الكاملة.
وفي المقابل تقوم فكرة المعارض على تأكيد الترابط بينهما، وأدلته ما يلي:
1- أن الحزب والشيعة نالوا ثقة الناس، وإعجابهم، وهذا مكسب كبير لهم، فهذه الحرب أفادتهم كثيرا، ويمكن لهم أن يسخروها في مخططاتهم.
2- أن هذه الحرب صرفت الأنظار زمنا عن مشروع إيران النووي، التي هي ماضية فيه.(18/453)
3- أنها فتحت جبهة جديدة، وثغرة في جدار دولة إسرائيل، وقد تضطر معها أمريكا لاحقا إلى التفاوض مع إيران وحزب الله لإيقاف الحرب؛ التي دمرت اقتصاد إسرائيل، وهجرت كثيرا من شعبها، وفق صفقة يكسب منها حزب الله موقعا أقوى في لبنان، وإيران موقعا أقوى في المنطقة، وهذا غير مستبعد في عالم لا يعرف إلا لغة القوة، وفي السياسة لا مانع من خضوع قوة كبرى لأخرى أضعف منها، إذا أدركت أن لها مصالح لا تتحقق إلا بنوع من الخضوع المؤقت، والولايات المتحدة تميل إلى الشيعة أكثر من ميلها إلى السنة، ولا يستبعد مثل هذا الحدث.
فهذه إشارات وعلامات تثبت مخاوف المعارضين للتأييد، وهي ليست محض خيال، فعلى المؤيدين أن يتأملوها مليا، ويدرسوها جليا.
والمهم هنا ليس الترجيح وحده، إنما أيضا التأكيد: على أن كل فريق عليه أن يفيد من الآخر، فالواضح أن كلا عنده شيء، ليس عند الآخر، فمن جمع جمع، ومن فرق تفرق.
* * *
نقد لا يوقد حربا.
بقيت الإشارة إلى مسألة طرقت ضمن أهداف المؤيدين، هي: أن بالتأييد نمنع الشحن الطائفي، والاحتراب بين المسلمين.
وبعيدا عن هذا الحدث الذي نحن بصدده، فهذه المسألة تحتاج إلى نظر وتأمل؛ فالمفهوم الواضح، الذي لا يراد غيره: أن نقد الشيعة وبيان مخالفاتهم، وأفعالهم يفضي حتما إلى احتراب بين السنة والشيعة.
وهذه نتيجة لا يسلم بها..!!.
فلو كان كل نقد عقدي يفضي إلى احتراب، لوجدتَ كافة فرق النصارى محتربة، وكافة فرق اليهود كذلك، وديانات الهند، وكذا الدول المتعددة الديانات. لكن ذلك لم يكن لازما، وإن كان حدث في وقت من الأوقات، إلا أنه لم يكن لمجرد الاختلاف، بل لأن هنالك عناصر كانت تحرض على الاقتتال. فعلم من ذلك: أن النقد العقدي والفكري المجرد من دون تحريض، سيقف عند مجرد النقد، والتخطئة، بل والتضليل. لكن لا يصل إلى الاقتتال والاحتراب، ما لم ينشأ عنصر يحرض على ذلك.
وهذا ما نريد قوله: نقد وتخطئة، لكن من دون تحريض على عنف، حتى ما دون القتل. فليس ثمة طريق للإصلاح، سوى البلاغ، قال تعالى: "وما على الرسول إلا البلاغ المبين".
ومن العجيب: أن الذين يطالبون بالكف عن الكلام في معتقدات الشيعة نقدا، أو غيرهم، بدعوى الكف عن الشحن الطائفي، والاحتراب. تجدهم في مقام آخر: مدافعين عن حرية الرأي، وإبداء وجهة النظر في أفعال الآخرين، تصويبا أو تخطئة، بل وتضليلا، ما دام أنه لم يتجاوز إلى العنف.
يقولون هذا في كافة الأمور، فإذا ما جاءوا إلى الاعتقاد والدين، طالبوا بالكف، حتى لا تحدث فتنة، وكأن الفتنة لا تكون إلا مع النقد الديني، دون سائر النقود ؟!!.
والحق: أن الإنسان، والمسلم والسني من باب أولى، لا يحب القتل والقتال، والعنف والعدوان، ويدفعه ما استطاع، بكل الحيل والوسائل، كما أن كل مؤمن يحب الله تعالى، فهو لا يرضى أن يسكت عن ضلال الناس، بعد أمر الله تعالى له أن يبلغ الناس الحق، الذي تعلمه، وهو سائله عنه.
فهو يعمل على الجمع بين الأمرين: تبليغ الحق الذي معه، وإن أغضب ناسا وأسخطهم، رحمة بهم، وقياما بالحق الذي أوجبه الله عليه؛ وفي الوقت نفسه لا يتخذ هذا التبليغ والتصويب لأخطاء الآخرين ذريعة إلى التحريض على الاحتراب والقتال.
كلا، بل قدوته في ذلك صلى الله عليه وسلم الذي كان يبلغ: الأمم، والأقوام، والأفراد دين الله تعالى، دون عدوان، أو قتال، إلا إن اعتدي عليه.
* * *
إن هذه المسألة شائكة، وقد جاء الخوض فيها بقصد الوصول إلى جواب، فكان هذا البحث المختصر، وعسى أن يكون قد أصاب، وتلك منة الرحمن على عبده، وإلا فالخطأ من الإنسان ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله برئيان من هذا القول، ويكفي أنه قد تقرر فيه:
أنه لا تثريب على من رجح الرأي الآخر، وقال به.
والله أعلم.
==============(18/454)
(18/455)
دور الرسالة الإعلامية في توحيد المسلمين حول قضاياهم الكبرى
(فلسطين نموذجاً)
نزار محمد عثمان*
أولاً: العولمة والتحدي الإعلامي:
مدخل:
يتميز عصرنا الذي نعيشه عصر العولمة بسقوط الحدود الزمانية والمكانية، وتلاشي المسافات؛ حيث تحول العالم إلى قرية صغيرة أصبحت فيها العلاقات البشرية أكثر تنظيمًا وسرعة، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التفاعل البشري والانفتاح الثقافي والتنازع الحضاري.
كما يتميز بالتطور الهائل في تكنولوجيا الانتقال والاتصال، حيث وصل الإنسان إلى القمر، وأرسل أجهزة إلى المريخ جمعت صوراً لسطحه وعينات من تربته، واخترعت أدوات جديدة للتواصل بين أعداد أكبر من الناس كما في شبكة الإنترنت، والأقمار الصناعية والمحطات الفضائية، التي أصبح الانسان قادراً عبرها على أن يرى ويسمع ما يدور في أرجاء العالم.
هذه الثورة التقنية العلمية الهائلة، نسبة لميلادها وتطورها في كنف الحضارة الغربية أفرزت تحديات كبيرة على كافة الأصعدة ـ خاصة الصعيد الإعلامي ـ حيث أصبح الإعلام العالمي أداة فعالة للنظام العالمي الجديد تعمل على تمكينه من بسط سيطرته، ونشر حضارته، والعمل على تشكيل العالم وفق الطريقة التي يريد، عبر إحكام السيطرة على المؤسسات الدولية وأجهزة الإعلام العالمية من صحف وإذاعات وقنوات فضائية ونحوه.
دور الرسالة الإعلامية الغربية في إضعاف الوحدة الإسلامية:
لعله بات من مكرور القول ترديد أن المسيطرين على الإعلام العالمي اليوم ـ على اختلاف منابره ـ يسعون بكل ما أوتوا من قوة لإبقاء الأمة الإسلامية في حالة الضعف والضياع والانقسام التي تعيشها، كما يسعون لإجهاض كل محاولة لتوحيد الأمة عبر مخطط إعلامي متكامل يراعي الجودة في خطوات العملية الإعلامية فيهتم بالمرسِل والمستقبِل كما لا يهمل الرسالة ولا وسيلة إيصالها. فنجده في اهتمامه بالرسالة يراعي أن تحقق مقاصده وتوافق مخطاطته، ويتفنن في محاولة إخراجها في قالب محايد تارة وقالب منحاز تارة أخرى، وفي كل الأحوال تبقى الرسالة الإعلامية العالمية متسمة بالأتي:
- التضليل وإلباس الحق ثوب الباطل، وإظهار الجاني بمظهر الضحية، والعكس صحيح؛ ومن ذلك ما يشاع من ربط الإسلام بالإرهاب، وما يبث ويتناقل من حب اليهود للسلام!.
- البعد عن الدقة والعلمية عند الحديث عن المسلمين فتجدهم يروِّجون لممارسة حكومة السودان للرق في الجنوب، والتطهير العرقي في دارفور ونحو ذلك.
- التطفيف، وازدواجية المعايير، وسياسة الكيل بمكيالين، إذ يعتبر الإعلام العالمي الحركتين الإنفصاليتين في أندونسيا وجنوب السودان حركات تحررية مشروعة بينما حركتي المجاهدين في كشمير وحنوب الفلبين حركات إرهابية غير مشروعة(1).
- الانحياز التام ضد الفكرة الإسلامية الصحيحة، والسعي الدؤوب لزرع بذور التفرقة بين المسلمين، هذا الكيد الذي لم ينقطع منذ أيام عبد الله بن أبي بن سلول، مروراً بكتاب الوزير الروماني (ت. ج. دجوفارا)، الذي ظهرت طبعته الأولى باللغة الفرنسية عام 1914م، بتقديم لويس رينو الأستاذ في كلية الحقوق وكلية العلوم السياسية، عن مدى جدّية الأوروبيين واهتمامهم بالقضاء على وحدة الأمة الإسلامية، في ظل كيان الدولة العثمانية. وعنوان الكتاب ((مائة مشروع لتقسيم تركيا))، بالاعتماد على أوراق وأراشيف وزارات خارجية الدول الأوربية، وتبلغ صفحات الكتاب 650 صفحة من القطع المتوسط(2)، مروراً بالترويج لاتفاقيات سايكس بيكو، وسان ريمو، واتفاقيات باريس، والتي قُسمت بموجبها البلاد العربية والإسلامية إلى مناطق نفوذ واستعمار بين الدول الأوربية إلى تصريحات المستشرق اليهودي المعاصر (برنارد لويس) التي يقول فيها: ((إن المنطقة الممتدة من باكستان حتى المغرب ستبقى في حالة اضطراب إلى أن يعاد النظر في الخريطة السياسية لدولها))(3) والتي ظهرت آثارها الآن في كشمير والسودان وغيرها من دول العالم.
لماذا الرسالة الإعلامية؟ ولماذا فلسطين نموذجاً؟
العملية الإعلامية متعددة المحاور، مختلفة الجوانب، كثيرة التفاصيل غير أنه يمكن أن نميّز فيها أربعة عناصر رئيسة هي: المرسل، المستقبل، الرسالة، وسيلة إيصال الرسالة، وكل عنصر من هذه العناصر تحته فروع كثيرة، ودراسة دور الإعلام في وحدة المسلمين يتطلب أن لا نهمل أحد هذه العناصر، الأمر الذي يؤدي إلى إطالة قد لا تتناسب مع الموجهات المقررة لهذه الورقة، لذلك وقع الاختيار على أهم مكونات العملية الإعلامية: الرسالة الإعلامية دون سواها.
من جانب آخر فإن موضوع وحدة المسلمين من "أمهات الموضوعات" التي تحوي معالم عديدة، وشعباً كثيرة، رأينا أن نلجها من مدخل قضايا المسلمين الكبرى التي لا تختلف فيها الآراء ولا تتعدد حولها التوجهات، فاختيرت فلسطين نموذجاً، لأنّ قضية فلسطين تقع في وجدان كل مسلم يشعر بانتمائه لهذه الأمة وينبض قلبه بالإيمان الصادق ويجيش صدره بعزة الإسلام، ذلك أن فلسطين تحوي القدس التي لها مكانتها الدينية المرموقة التي اتفق عليها المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم.(18/456)
فالقدس هي القبلة الأولى التي توجه إليها الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه منذ أن فرضت الصلاة في ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة قبل الهجرة بثلاث سنوات وظلت القدس قبلة المسلمين بعد هجرتهم إلى المدينة المنورة ستة عشر شهراً حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة قال تعالى: (و من حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره)(4).
كما أنّ القدس هي منتهى الإسراء ومنطلق المعراج إلى السماء وفيها أمّ الرسو صلى الله عليه وسلم الأنبياء في المسجد الأقصى ـ على أرجح الأقوال ـ وفي ذلك دليل على ختم الإسلام للنبوات وشموله للرسالات السماوية السابقة، وبدء الإسراء من المسجد الحرام وانتهاؤه بالمسجد الأقصى فيه ربط للمسجدين لن يزول مهما فعل اليهود، يقول سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)(5)، ثم إن المسجد الحرام هو ثالث الحرمين الشريفين: الأول هو المسجد الحرام في مكة، والثاني هو المسجد النبوي في المدينة، وثالثهما هو المسجد الأقصى في القدس قال صلى الله عليه وسلم ((لا تُشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا))(6).
والقدس قبل هذا كله أرض النبيين ودار المرسلين ومأوى الصالحين،أرض المحشر والمنشر، مُهَاجر الخليل إبراهيم، وديار أيوب ومحراب داود، وعجائب سليمان ومهد عيسى عليهم جميعاً السلام.. أرض البركة التي وصفها الله بأنها مباركة في خمسة مواضع في القرآن(7) هي:
- قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله..)(8).
- قوله تعالى: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين)(9).
- قوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا..)(10).
- قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها)(11).
- قوله تعالى: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير..)(12).
إن القدس في الاعتقاد الإسلامي سامية المكانة، عالية المنزلة، عزيزة الحمى.. لذلك اختيرت في هذه الورقة لتمثل قضايا المسلمين الكبرى.
ثانياً: الرسالة الإعلامية وتوحيد المسلمين حول قضاياهم الكبرى:
وفقاً لما يراه عدد من المختصين(13) يمكن أن يلعب الإعلام دوراً كبيراً في توحيد المسلمين حول قضاياهم المصيرية ـ والنموذج المختار هنا هو قضية فلسطين ـ وذلك عبر السعي لإحداث تغيير إيجابي في:
- الجانب المعرفي
- المواقف والاتجاهات
- التنشئة الاجتماعية
وسنفرد هذه المحاور بشيء من التفصيل:
(أ) دور الرسالة الإعلامية في التغيير المعرفي:
في ظل واقع التشتت العربي والتفرق الإسلامي والاستكبار الأمريكي والتجاهل العالمي يمكن للإعلاميين أن يقوموا بدور كبير في إحداث تغيير معرفي يهدف لجمع الصف وتوحيد الكلمة حول:
(1) التصور الصحيح للوحدة الإسلامية:
ويتشكل هذا التصورفي عدة نقاط أهمها:
1. الروابط الاجتماعية بين البشر كثيرة، جمعها قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبييله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين)(14) فحوت الآية: الرابطة العائلية،والرابطة القومية، ورابطة الإقامة (الوطن)، ورابطة المصلحة، والرابطة الاسلامية، وبيَّنت أن الرابطة العقدية هي التي ينبغي أن يقدمها المسلمون في فلسطين وغيرها، ويبذلوا في سبيلها الغالي والمرتخص وإلا فلنتربص حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين.(18/457)
2. الوحدة الإسلامية لا تعني أن تتطابق المجتمعات الإسلامية ولا تختلف عن بعضها في كثير أو قليل؛ ليس هذه مقصود الوحدة الإسلامية، بل لم يكن المسلمون كذلك عندما كانوا قلة قليلة، قامت على أكتافها دولة المدينة، "فلم يكن المهاجرون والأنصار متفقين في كل شيء بل وجد الفرق بين اللهجتين المكية والمدنية، وبين الأسلوبين اللغويين: المكي والمدني، وما يراه الدارسون للسيرة النبوية من الاتحاد الكلي فيما بين المجتمعين المكي والمدني، والمدنيتين: المكية والمدنية، ليس من الصحة في شيء، فإن الدراسة الحديثة للسيرة النبوية تقرر أن اختلافاً واضحاً كان يوجد بين المدنيتين، وكان أهل مكة ـ ولا سيما قريشاًـ يحملون الشعور الزائد بالتفوق، يدل على ذلك ما دار بين القرشيين الثلاثة وبين الأنصار، في غزوة بدر الكبرى، حين قالوا للأنصار الذين خرجوا لمبارزتهم: "مالنا بكم من حاجة" ثم نادى مناديهم: "يا محمد أخرجوا إلينا أكفاءنا من قومنا"، فلما برز لهم عبيدة وحمزة وعلي رضي الله عنهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا: "نعم أكفاء كرام" مما يدل على نخوتهم القبلية وأنهم كانوا يعتزون بقبيلتهم وجنسهم، ولا يرون غيرهم أكفاءً لهم في قليل أو كثير. ولم تكن القضية قضية المهاجرين والأنصار فحسب بل كانت الأنصار تتوزعهما القبيلتان العظيمتان: الأوس والخزرج اللتان كانت بينهما معارك وحروب في الماضي القريب، هذا بالإضافة إلى أن الحياة المكية كان عمادها التجارة، على حين كانت الحياة المدنية تتوقف على الزراعة، والفلاحة، والغرس والتشجير، كما كان هناك فرق بين الحياتين بالنسبة إلى المعاشرة العائلية والحياة الأسرية ـ كما أشار إلى ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إحدى المناسبات ـ، ومع كل هذا، لا يعرف التاريخ أنه قامت أخوة من قبلُ أو وجدت آصرة في مثل هذا التنسيق والدقة والوضوح على مجرد أساس الوحدة في العقيدة والغاية، قامت هذه الأخوة فيما بين المؤمنين المخلصين الذين كانوا يتمتعون بالثبات على وحدة العقيدة ووحدة الهدف، وكان ذلك قوة جديدة أنشئت لانقاذ العالم المنهار وتخليص الإنسانية من بؤسها وشقوتها"(15).
3. إن الإعلام مطالب بأن يقتبس من دولة المدينة النور الذي جعلها تشع إيماناً وأمنا، وحضارة ورقياً، وقوة ومنعة، وأن يذكِّر المسلمين بقوله تعالى: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، وكما قال أهل التفسير فإن هذا الموضع هو الموضع الوحيد الذي طالب فيه القرآن المسلمين بالتأسي بالكفار، الذين يوالي بعضهم بعضا.
4. لم يؤتَ المسلمون في فلسطين إلا من قبل التفرق، فعندما كان المسلمون تحت ظل خلافة إسلامية لم يستطع العدو إليهم سبيلاً ولكن بعد أن سقطت الخلافة استطاع العدو أن يحتل فلسطين، ولن ترجع فلسطين للمسلمين بغير وحدة جامعة.
5. قضية فلسطين هي قضية الأمة الإسلامية ومن الخطأ الجسيم أن يظن بعضهم أن قضية فلسطين شأن فلسطيني يخص الفلسطينيين وحدهم، والأصل أنهَّا قضية الأمة عربيِّها وعجميِّها، ويتعين علي الجميع العمل على حلها، ذلك لجملة أسباب منها:
أ- فلسطين أرض عربية إسلامية لها مكانتها المقدسة السامية التي تستوجب على الجميع العمل على حل قضيتها.
ب- قضية فلسطين تعتبر قاسماً مشتركاً بين كل التيارات العربية والإسلامية فهي همٌّ إسلامي وهاجس وطني وأرق قومي.
ت- المشروع الصهيوني لا يرمي إلى احتلال فلسطين وحدها بل يهدف إلى إسرائيل الكبرى التي تمتد من الفرات إلى النيل ويهدد الأمة بأسرها فالخطر يطال الجميع.
6. مواجهة المشروع الصهيوني المتعدد الأذرع تتطلب العمل على الأصعدة كافة: اقتصادياً وثقافياً وسياسياً وإعلامياً ـ صحافة وإذاعة وتلفزيون ومسرح ـ واجتماعياً وهذا لا يتم إلاَّ بتضافر الجهود، وتوحيد الصفوف، ومشاركة علماء الأمة ومفكريها وقواها الحية من فصائل جهادية وتنظيمات سياسية وتجمعات قومية في هذه المعركة.
7. الوحدة والتجمعات التي تقام على غير الرابطة العقدية ليس لها من حظ الوحدة إلا الاسم، الذي لا يقدِّم ولا يؤخر، والذي ربما يكون سبباً للاختلاف والتفرق، وقد جرَّبت أمتنا الوحدات القومية، والنزعات الوطنية، والولاءات الحزبية، فما زادتها إلا خبالاً على خبال، والإعلام مطالب بأن يردد مع الشيخ الندوي: "إنه لو تطلبت مصالح الأمة أن تمُحى هذه الأحزاب والجماعات كما تُمحى العبارة الخاطئة لأكون أول من يتشرف بهذه السعادة ويحوز هذه الكرامة"(16).
إن التصور الصحيح لقضية الوحدة الإسلامية رغم تنوع المجتمعات واختلافها يُعدُّ مقصداً رئيساً للإعلام الهادف المسؤول، وسنداً متيناً للعمل الجهادي في فلسطين وسائر بقاع المسلمين.
(2) بيان الموقف الصحيح من الأحداث الجارية:
من الأهداف المعرفية المهمة التي يجب أن تعمل الرسالة الإعلامية على حشد الناس حولها وتجميع الصف عليها؛ توضيح الموقف الصحيح من الأحداث الجارية، حتى يكون الناس على بصيرة من أمرهم، ولا تخدعهم الآلة الإعلامية الغربية؛ فتزلَّ أقدام بعد ثبوتها.(18/458)
وفي قضية فلسطين يمكن للرسالة الإعلامية أن تعلب دوراً رائداً في تصحيح الموقف من قضايا كثيرة أهما السلام المزعوم الذي يقتضي تسلُّم الفلسطينيين جزءاً من أرض فلسطين مقابل اعترافهم بالكيان الصهيوني، يمكن للرسالة الإعلامية أن تديم الطرق على هذا الموضوع مبينة أنه سراب خادع لن يدوم طويلا للأسباب الآتية:
- الشعوب المسلمة ممثَّلة في تجمعاتها القومية والوطنية والإسلامية أجمعت على رفض هذا السلام المزعوم وعده استسلاماً لا سلاماً، وتنازلاً عن حقوق ضخمة لا يملك أحد حق منحها لليهود.
- فلسطين ليست ملكاً للفسلطينيين بل ملك للأجيال المسلمة إلى قيام الساعة والتنازل عن شبر منها لا يجوز.
- اليهود لن يسلِّموا شبرا من أرض فلسطين للفلسطينيين إلا وهم مكرهون ومتى زال الإكراه عادوا للتوسع واغتصاب الأراضي.
- السلام يخدم أهداف الكيان الصهيوني في المرحلة الراهنة ويساعده على وأد الانتفاضة الفلسطينية وإثارة النزاعات بين أهلها، كما يحملهم على الإقرار بحق المغتصب وتبعيتهم له، كما لا يخفى أنّ هذا السلام الموهوم يعمل على اختراق العالمين العربي والإسلامي.
- يجب التأكيد على خطورة الاعتراف بالكيان الصهيوني، وبيان خطل مقولة أنّ السلام هو الخيار الاستراتيجي الأوحد لحل القضية، وتثبيت خيار المقاومة والجهاد بشتى صوره وأشكاله.
(3) دحض شبهات الأعداء:
لقد دأبت الرسالة الإعلامية الغربية في إثارة الشبهات حول الإسلام والمسلمين بشتى السبل، ومختلف الطرق، لذلك وجب على الرسالة الإعلامية الإسلامية أن تعطي هذه الشبهات حقها من النظر بالرد عليها ودحضها، على أن لا تستغرقها الردود أو تلهيها عن دورها في تصحيح التصورات، والتأصيل للمواقف المتجددة.
وقد التبس على كثير من الناس ـ في الشأن الفلسطيني ـ أمر الصراع بين المسلمين واليهود حتى أصبح بعضهم يصدق أنّ لليهود حقاً تاريخياً ودينياً في فلسطين، هذا الاعتقاد الخاطئ يوجب بذل جهدٍ إعلامي مقابل يعمل على توعية الشعوب العربية والمسلمة بالحقائق التالية:
أولاً: فرية الحق التاريخي:
لا حق لليهود في القدس ولا في فلسطين إذ إنَّ القدس عربية إسلامية فالمعروف تاريخياً أنّ الذي بنى القدس هم اليبوسيون وهم العرب القدامى الذين نزحوا من شبه الجزيرة العربية مع الكنعانيين. وسكنوها إلى أن جاء إبراهيم عليه السلام مهاجراً من وطنه الأصلي بالعراق غريباً ووُلد له إسحاق عليه السلام الذي وُلد له يعقوب عليه السلام الذي ارتحل بذريته إلى مصر (معنى هذا أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام دخلوا غرباء إلى فلسطين وخرجوا غرباء لم يمتلكوا فيها شيئاً).
كذلك مات موسى عليه السلام ولم يدخل أرض فلسطين وإنما دخل شرق الأردن(17) والذي دخلها بعده يشوع (يوشع) وبقي فيها حتى الغزو البابلي الذي سحقها سحقاً ودمَّر أورشليم وأحرق التوراة. "فلو جمعت كل السنوات التي عاشوها ـ أي اليهود ـ في فلسطين غزاة مخربين ما بلغت المدة التي قضاها الإنجليز في الهند أو الهولنديون في إندونيسيا"(18) فمن أين لهم الحق التأريخي فيها؟
والأدلة التاريخية تؤكد أنّ أكبر رقعة استطاع الكيان الصهيوني السيطرة عليها في أي وقت من الأوقات لم تكن في العصور القديمة وإنما في العصر الحديث عند احتلالها مجمل أرض فلسطين ومرتفعات الجولان وجنوبي لبنان وأرض سيناء وكان ذلك للمرة الأولى عام 1967 م(19). إن الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين فرية شوهاء وكذبة بلقاء، لا تقوم على ساق ولا تنهض بها حجة وهي أوهى من بيت العنكبوت.
ثانياً فرية الحق الديني:
القول بأنّ لليهود حقاً دينياً في فلسطين لا يقوى أمام التحقيق العلمي وإعلان أنّ تأسيس الكيان الصهيوني تحقيق للنبوءة التوراتية التي تقول "إنَّ الله وعد إبراهيم عليه السلام بأن يعطي لنسله أرض فلسطين وكذلك وعد ابنه إسحق وحفيده يعقوب ـ الذي سموه إسرائيل ـ وسمَّوا فلسطين أرض الميعاد.. كل ذلك وهم كبير.. فإنّ أولى الناس بإبراهيم هو الرسو صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه كما ورد في القرآن: (إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتّبعوه وهذا النبيّ والذين آمنوا)(20). فالإمامة لا تنتقل بالوراثة (قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)(21).
ثم أليس إسماعيل جدُّ نبينا عليه السلام من نسل إبراهيم؟ فلماذا فَهِم اليهود أنّ النبوءة لا يدخل فيها إسماعيل عليه السلام وهو الابن البكر لإبراهيم عليه السلام.. إنّ منطق استيلاء اليهود على فلسطين لا يسنده شرع ولا يقرُّه دين وكل تبرير لهم ما هو إلا اختلاق وكذب.
(4) فضح مخططات الأعداء:
إن واقع العجز العربي والوهن الإسلامي والمكر العالمي فتح الباب على مصراعيه لعدد من مخططات الأعداء لتجد لها موطئاً في أرض المسلمين، لتُعمل معولها في مجتمعاتهم هدماً وتشتيتاً وتمزيقا، وحرصاً على وحدة المسلمين لزم أن يراعي الإعلاميون في رسالتهم الإعلامية أن يفضحوا هذه المخططات، ويسعوا إلى تعريتها حتى يحذرها الناس.(18/459)
وأكبر مخططات الأعداء في الشأن الفلسطيني هو المشروع الصهيوني الذي يراد له أن يتمدد وينتشر ليُحكم السيطرة على المنطقة كلها اقتصادياً وثقافياً وأمنياً وسياسياً.. تحقيقاً لفكرة إسرائيل الكبرى.. قاعدة الحضارة وقائدة الديمقراطية.. مستخدمين في ذلك سلاح الإعلام والسلام والتسوية والتطبيع ونحوه من الوسائل.
إنّ التهوين من خطر المشروع الصهيوني دفنٌ للرؤوس في الرمال.. فقد هوّن البعض من خطره قبل خمسين عاماً، وقال كيف يمكن لدويلة صغيرة أن تهيمن على منطقتنا وأمتنا، وهاهي الدويلة الصغيرة تفرض وجودها على الحكومات العربية والإسلامية وتملى شروطها وتهدد وتتوعد.. وهاهي أمتنا تدين وتشجب وتستنكر ولا تكاد تتجاوز ذلك.
يجب على الإعلاميين فضح المشروع الصهيوني وتعريته.. وذلك بـ:
- فضح اليهود وطبيعتهم
- مواجهة التطبيع وأخطاره
أولاً: فضح اليهود وطبيعتهم
على الإعلاميين أن يعرِّفوا الشعوب بعدوها.. مستندين على القرآن الكريم وما فيه من وصف مفصل لليهود، وعلى السنة المطهرة، ثم كتب اليهود المقدسة عندهم كالتوراة وأسفار الأنبياء والتلمود والماشناه، وكتب التاريخ، وكتابات المعاصرين عنهم ـ المسلمين وغير المسلمين ـ المكتوبة باللغة العربية أو غيرها من اللغات مثل كتاب أحلام الصهيونية وأضاليلها للمفكر الفرنسي المسلم "رجاء جارودي"، ومن الواقع المعاش فبين أيدينا تجارب كثيرة في الحرب والسلم وسلسلة من الهدنات والاتفاقات والمعارضات كلها تبين أنّ اليهود لا يعرفون غير منطق القوة وأنهّم لا أيمان لهم ولا عهد ولا ذمة وأنّ أبرز صفاتهم هي العنصرية فهم يرون أنفسهم شعب الله المختار وما سواهم أميين ليس عليهم منهم شيء والعنف والطبيعة العدوانية متأصلة فيهم فقلوبهم قاسية كما وصفهم القرآن الكريم وتطلعاتهم التوسعية لإسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات ومن الأرز إلى النخيل لا تخفى بل هم يريدون السيطرة على العالم كله، ثم كذلك من صفاتهم التحرر من الأخلاق وعدم ثباتها واستخدام المعايير المزدوجة: معيار مع النفس ومعيار مع الأغيار (الأميين) (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون)(22)، وهم يرون أنّ الغاية تبرر الوسيلة ويحترمون العهود والمواثيق متى ماكانت في صالحهم ويتجاهلونها متى مالم ترُق لهم وهم أحرص الناس على حياة وأكثر الناس شحاً وحباً للمال.. كل هذه المعاني وما شاكلها تحتاجها الشعوب المسلمة لتعرف عدوها وتقدره قدره وتعد العدة المناسبة لدفعه.. وهذا هو واجب الإعلاميين.
ثانياً: فضح التطبيع وخطورته:
أخذ التطبيع مع العدو الصهيوني صوراً عديدة منها:
- التطبيع الدبلوماسي: ومن ذلك الاعتراف بدولة لليهود في فلسطين، وتبادل البعثات الدبلوماسية معها واعتبارها دولة جوار وإشراكها في البيئة والمياه.
- التطبيع الاجتماعي: ومن ذلك دمج اليهود في المجتمعات العربية والمسلمة عن طريق السياحة والرحلات ونحوه.
- التطبيع الثقافي والإعلامي: ومن ذلك دخول اليهود في المجتمعات العربية والمسلمة عن طريق المؤتمرات والندوات والمعارض والمهرجانات والسينما والمسرح والصحافة والإعلام والجامعات ومراكز البحث العلمي.
- التطبيع التربوي: ومن ذلك توجيه المناهج الدراسية والبرامج التعليمية ـ في بعض الدول العربية ـ عن طريق حذف كل ما يتعلق باليهود ويكشف حقدهم وتآمرهم على الأمة.
- التطبيع الاقتصادي: ومن ذلك فتح الأسواق العربية والإسلامية لبضائع الكيان الصهيوني.
إن الشعوب العربية والمسلمة ترفض التطبيع الظاهر والخفي كما ترفض الاعتراف العلني والضمني بالكيان الصهيوني، وواجب الإعلاميين أن يحافظوا على هذه الجذوة متقدة ويقاوموا كل سعي نحو التطبيع مع العدو وذلك بالآتي:
(1) دعوة الشعوب لمقاطعة الكيان الصهيوني اقتصادياً وذلك بمقاطعة السلع والبضائع القادمة منه، وذلك لحرمتها لأنّ أرباحها تقوي اليهود على إخواننا في فلسطين، وواجبنا أن لا نعينهم على ذلك، كذلك تجب مقاطعة البضائع الأمريكية شجباً لموقف الإدارة الأمريكية المتذيل أبداً للصهاينة والداعم للعدوان على مقدّساتنا، وكذلك الشركات التي يقف من خلفها اليهود في كل بلاد العالم.
(2) وقف التعامل مع الكيان الصهيوني دبلوماسياً وتجارياً وثقافياً ونحوه.
(3) إعلان أن السفر إلى الكيان الصهيوني لا يحلُّ لمسلم ولو بدعوى الصلاة في المسجد الأقصى فإنما يشد المسلم رحاله إلى هذا المسجد حينما يتحرر من سلطان اليهود(23).
(4) مقاومة الغزو الثقافي للكيان الصهيوني ومقاومة التبشير بسياسات التطبيع وخاصة التطبيع التربوي وما يتضمنه من تغيير في المناهج التعليمية إرضاءً لليهود، ومقاومة كل محاولة لاختراق العقل العربي والإسلامي.
(5) رفع الروح المعنوية للشعوب المسلمة:
إن الأمة الإسلامية أمة قوية: عقدياً واقتصادياً واجتماعياً بدليل أن النظام العالمي الجديد لا يرى عائقاً يحول دون إكماله لبسط نفوذه سوى الإسلام، لذلك أجلب بخيله ورجله محذراً من خطره.(18/460)
والرسالة الإعلامية منوط بها أن تنهض بعبء تذكير المسلمين بعظم الثروة التي يمتلكون والتي تتمثل في الكتاب الخالد (القرآن)، والمثال العملي لتطبيقه (سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم )، والتاريخ الناصع (سيرة السلف الصالح والأئمة المصلحين، والقادة الفاتحين)، والموقع الجغرافي المتميز، والثروات المتعددة (بشرية، زراعية، حيوانية، مائية، معدنية، بترول..)، إن التذكير بهذه الثروات يعد عاملاً مهما في استعادة الأمة لسيادتها وريادتها.
والرسالة الإعلامية منوط بها أن تذيع المبشرات ـ من القرآن والحديث واستقصاء التاريخ ـ بانتصار الإسلام والمسلمين، وتشيع التوعية بأنّ الأمة الإسلامية قد مرَّت عليها أعوام حالكة من قبل مُنِعَت فيها الجمعة والجماعة في المسجد الأقصى، ولم يُرفع فيه أذان ولم تقم فيه صلاة لمدة واحد وتسعين عاماً غير أنّ الله هيأ قادة مصلحين "ظهروا ونبغوا في أحوال غير مساعدة وفي أجواء غير موافقة بل وفي أزمنة مظلمة حالكة وفي بيئات قاتلة فاتكة وفي شعب أصيب بشلل الفكر وخواء الروح وخمود العاطفة وضعف الإرادة وخور العزيمة وسقوط الهمة ورخاوة الجسم ورقة العيش وفساد الأخلاق والإخلاد إلى الراحة والخضوع للقوة واليأس من الإصلاح"(24). تماماً في ظروف كالتي نعيشها الآن فعملوا على البناء في مجالات عدة: البناء للشخصية المسلمة والبناء للنظام الإداري والبناء للأمة المتوحدة ونحوه حتى استطاعوا استرداد المسجد الأقصى من قبضة الصليبيين. إن الشعوب المسلمة تحتاج إلى أن تبصّر بسيرة أبطال الإسلام الذين استردوا البيت المقدّس من قبضة الصليبيين مثل "عماد الدين زنكي" و"نور الدين محمود زنكي" و"صلاح الدين الأيوبي" وسائر الأبطال الذين بذلوا الغالي والمرتخص وحققوا النصر المؤزر.
إنّ مدارسة سير العلماء الصالحين والأبطال الفاتحين تنفخ العزم في الروح وتجدد الثقة في النفس وتحفز الجوارح للعمل.
(ب) دور الرسالة الإعلامية في تغيير المواقف والاتجاهات:
إن تأثير الإعلام على كثير من القيادات السياسية في العالم أمر مقرر مألوف، ودوره في كثير من القرارات الحاسمة في تاريخ الأمم والشعوب مثبت معروف، وقبلاً قال الأمين العام السابق للأمم المتحدة إن وكالة الأنباء التلفزيونية هي العضو رقم 6 في مجلس الأمن!
دور الرسالة الإعلامية الغربية:
لقد أدرك أعداء الأمة أهمية الإعلام في تغيير المواقف والاتجاهات، واستخدموه لتحقيق مآربهم فلم ينجحوا في تغيير رأي شعوبهم فحسب بل نجحوا في تشكيل الرأي العالمي كذلك؛ نقلت صحيفة الصنداي تايمز في أحد أعداد عام 1981م عن الصحفية الأمريكية اليهودية: سارة إيهرمان أن مؤسسة الضغط اليهودية إيباك قد تمكنت باستخدام الوسائل الإعلامية من تغيير الرأي العام الأمريكي خلال 48 ساعة فقط عقب قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي. وتدَّعي الصحيفة بكل فخر نجاح الضغط الإعلامي في تحويل الرأي العام الأمريكي من الموقف الغاضب جداً ضد إسرائيل إلى تقبل وجهة النظر اليهودية، بل والقناعة بأن ضرب المفاعل كان عملاً شجاعاً من أجل سلام العالم.
وبيَّنت دراسة متخصصة عن القضية الفلسطينية والإعلام الأمريكي، قام بها ر. س. زهارنة الأثر الكبير للرسالة الإعلامية في كسب التأييد لإسرائيل؛ حيث تعقّب دور أكبر المجلات الأمريكية بل والعالمية ـ مجلة التايمز ـ في تغيير اتجاهات ومواقف الشعب الأمريكي حتى أصبح في غالبه يرى أن للإسرائليين حقاً مشروعاً في فلسطين؛ ذكر الباحث أن مجلة التايمز تدرجت بقرائها عبر المراحل التالية:
- منذ عام 1946 وحتى 1949م بدأت بتغيير كلمة "الفسلطينيين" إلى كلمات أخرى من مثل "سكان فلسطين" و"عرب فلسطين" وذلك لإخفاء الهوية الحقيقية للسكان الأصليين في المنطقة.
- ثم تغيَّرت هذه المصطلحات خلال الفترة من 1950م إلى نهاية الستينيات إلى: "العرب غير الأردنيين" و"العرب الإسرائيليين" و"الأردنيين".
- وصاحَبَ ذلك تطور آخر وهو التركيز على خصوصية العلاقة بين أمريكا وإسرائيل لدرجة أن مجلة التايمز قامت بنقل الموضوعات الخاصة بقضية إسرائيل من صفحات القضايا الدولية في المجلة إلى الصفحات المحلية. واستمر هذا التغيير منذ ذلك الحين.
- أما من ناحية اللقاءات الصحفية فقد كان أغلبها يتم مع مسؤولين أمريكيين أو إسرائيليين مما جعل الطرح الصحفي دائماً متحيزاً للجانب الإسرائيلي من النزاع، وكان لتصوير الفلسطينيين أنهم من العرب أثر إعلامي قوي في أمريكا بين مختلف فئات الشعب الأمريكي لاستغلال الكراهية المترسخة نحو العرب من جراء سنوات من الإعلام السلبي، إضافة إلى تصوير إسرائيل كياناً صغيراً في مقابل عدو ضخم هم العرب، بدلاً من التركيز على المجازر الوحشية التي ارتكبتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
دور الرسالة الإعلامية الإسلامية:
يمكن لإعلامنا أن يلعب دوراً كبيراً في تغيير المواقف والاتجاهات وذلك عبر:
(1) توحيد الخطاب الإعلامي وتصحيحه ومن ذلك:(18/461)
- البعد عن استخدام المصطلحات التي تتضمن اعترافاً بالكيان الصهيوني أو تمييعاً للقضية، واستبدالها بمصطلحات أخرى، تحمل صبغة إسلامية، ورؤية إيمانية ومن ذلك استبدال مصطلح: أزمة الشرق الأوسط بأزمة المشرق الإسلامي، لأن مصطلح الشرق الأوسط لم يكن له جذور في الاستخدام العربي والإسلامي، بل كان تعبيراً عن تقسيمات للعالم في إطار الحقبة الاستعمارية، كما أنه لم يظهر إلا في فترة تدهور دولة الخلافة في شكلها الأخير (الدولة العثمانية)، وأنه لم يصبح قابلاً للاستخدام على نطاق واسع إلا بعد انهيار الدولة العثمانية، هذا بالإضافة إلى أن الكيان الصهيوني لا يستخدمه بوصفه تعبيراً جغرافياً بل بوصفه مفهوماً شاملاً لتغيير هوية الصراع، ولإعادة ترتيب المنطقة، بإدخال هذا الكيان ضمن منظومة المنطقة، وبوصفه مصطلحاً تحته مفهومات أخرى متعددة مثل التعاون الإقليمي والسوق الشرق أوسطية، والشرق الأوسط الكبير(24).
- استبدال الأسماء اليهودية لمعالم المدن الفلسطينية بالأسماء الإسلامية فنقول: حائط البراق بدلاً من حائط المبكى، وفلسطين المحتلة بدلاً من يهودا والسامرة والجليل، والمصلى المرواني بدلاً من إسطبلات سليمان، وقبة الصخرة بدلاً من قدس الأقداس، والبلدة القديمة بدلاً من الحوض المقدس، وحارة المغاربة وحارة الشرف بدلاً من حارة اليهود، وجبل بيت المقدس بدلاً من جبل الهيكل.
- استخدام المصصلحات الإسلامية التي تشعر بحالة الصراع مع اليهود، فنقول: العمليات الاستشهادية بدلاً من العمليات الانتحارية، الأسير الفلسطيني بدلاً من المعتقل الفلسطيني، والمغتصبة اليهودية بدلاً من المستوطنة اليهودية، والمغتصِب بدلاً من المستوطِن، وتحرير كل شبر من أرض فلسطين المحتلة بدلاً من دحر الاحتلال.
- البعد عن المصطلحات اليهودية واستبدالها بالمصطحات الإسلامية: فنقول فلسطين بدلاً من أرض الميعاد، وفلسطينيي مناطق الـ 48 بدلاً من عرب إسرائيل، وأسطورة المحرقة النازية بدلاً من الهولوكست، والحقوق الفلسطينية بدلاً من المطالب الفلسطينية.
- البعد عن المصطلحات الغربية التي تسئ إلى المقاومة الفلسطينية وتصفها بالعنف والإرهاب والدموية وتتجاهل أن هذا حق مشروع في الدفاع عن النفس ورفع الظلم واسترداد الحقوق.
(2) دعوة القيادات العربية والرسمية إلى وقف التطبيع مع الكيان الصهيوني.
(3) دعوة القيادات العربية والرسمية إلى تبني الخيار الصحيح والناجع في التعامل مع العدو الصهيوني والذي تبنته حركات المقاومة الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي، وكتائب الأقصى) وهو خيار المقاومة والصمود وتعبئة الأمة.
(4) محاولة تأثيم الضمير الإنساني العالمي لسكوته عن الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وغضه الطرف عن الصلف اليهودي، وتحري مخاطبة المنظمات الإنسانية العالمية بأسلوب مؤثر جذاب بغية توجيهها والتأثير عليها لنشر رسالة إعلامية تخدم الهدف الإسلامي.
(5) توضيح أنّ الإرهاب هو ما يقوم به الكيان الصهيوني وليس ما تقوم به الحركات الجهادية من مقاومة مشروعة ومتعيِّنة للاحتلال الغاشم.
(6) تحميل أمريكا مسؤولية ما يحدث للشعب الفلسطيني وفضح تحالفها مع العدو خصماً على حقوق أمتنا، واستخدامها المعايير المزدوجة التي تتبناها دوماً لصالح بني صهيون.
(7) مطالبة المنظمات الدولية أن تتحرى العدل في قراراتها، بعيداً عن اختلال الموازيين الذي يؤدي إلى فقدان مصداقيتها.
(8) فضح أكاذيب وادعاءات اليهود حول أسطورة المحرقة النازية والمذابح التي تعرضوا لها، والعمل على إظهارهم على حقيقتهم العدوانية الإرهابية ونزع قناع البراءة والمسكنة والاستضعاف عنهم.
(ت) دور الرسالة الإعلامية في التنشئة الاجتماعية:
ويمكن أن تتم عبر عدة أمور منها:
(1) إشعار الأجهزة الإعلامية بمسؤوليتها تجاه إبقاء قضية وحدة الأمة الإسلامية حول قضاياها الكبرى ـ خاصة فلسطين ـ حاضرة في أذهان الناشئة، والسعي لتنبيه قطاعات المجتمع كافة بمسؤوليتها في هذا الصدد.
(2) دعوة القيادات العربية والرسمية إلى إعطاء أمر وحدة الأمة حول قضية فلسطينية حقها في مناهج التعليم ووسائل الإعلام عبر التركيز على:
- أساس الصراع مع اليهود وخلفياته الفكرية والتاريخية والسياسية.
- مراحل تطور القضية الفلسطينية.
- أهمية القضية ومكانتها في أولويات العمل الإسلامي.
- جرائم اليهود ضد الشعب الفلسطيني.
(3) السعي لإنفاذ برنامج إعلامي ثقافي متكامل عبر الأجهزة الإعلامية المختلفة (المقروءة، والمسموعة، والمرئية) يهدف إلى:
- توعية أبناء المسلمين بأهمية فلسطين، وربطهم بها والتركيز بشكل خاص على القدس والمقدسات الإسلامية (المسجد الأقصى، قبة الصخرة والحرم الإبراهيمي..) واستغلال المناسبات الدينية كالإسراء والمعراج وذكرى إحراق المسجد الأقصى وقيام الانتفاضة الإسلامية والأحداث الطارئة الهامة على الساحة الفلسطينية لمناصرة القضية الفلسطينية.(18/462)
- العمل على المحافظة على جذوة الانتفاضة مشتعلة وعلى تطويرها وذلك باستثارة الحماس في الشعوب وقطع الطريق على حلول التسوية والاستسلام ودراسة الانتفاضة السابقة والأسباب التي أدت إلى إجهاضها.
- السعي لإيجاد مؤسسات الدعم لقضيتنا المحورية كجمعيات المناصرة للشعب الفلسطيني وهيئات الدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية ونحوه.
- حث الشعوب على تقديم الدعم المادي والمعنوي لقضية أمتنا وجمع الأموال لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني.
- السعي لحشد الكفاءات والطاقات السياسية والإعلامية لدعم قضية الأمة المركزية في الجانب السياسي والإعلامي وذلك بالتعبير بمختلف الوسائل الممكنة عن معارضة الخطوات التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية والتفريط بمقدساتها وفي الجانب الجهادي بدعم حركات المقاومة الإسلامية والتشجيع على كفالة عائلات الشهداء والمعتقلين ودعم مشاريع البنية التحتية للحركات والتنظيمات داخل الأرض المحتلة وتأكيد مشروعية جهادها ومقاومتها للاحتلال ومواجهة محاولات إلصاق تهمة الإرهاب بها.
- مخاطبة المؤسسات الرسمية والحكومية وحضُّها على التراجع عن خيار التسوية السياسية ومبدأ الأرض مقابل السلام وتوضيح عدم جدوى هذه التسوية سيما وقد تكشفت الحقيقة العدوانية والتوسعية المتعنتة للكيان الصهيوني. والعمل على إنهاء القطيعة بين التجمعات السياسية المتعددة (لتحقيق التصالح الوطني)، وبين الأنظمة الحاكمة وشعوبها لتحقيق وحدة الجبهة الداخلية وإحياء التنافس السلمي المشروع عبر إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وكفالة الحريات وحشد طاقات الأمة وتجميعها حول هذه القضية.
خاتمة:
إنَّ الإعلاميين اليوم أمام مسؤولية عظيمة تتطلب منهم النظر في ثوابت التأريخ وسنن الكون ومعطيات الواقع وحقائق الغيب واستنطاق الوحيين لتقديم رسالة إعلامية فاعلة تعمل على توحيد الأمة والرجوع بالشعوب إلي الحركة وفق منهج الله في طريق الجهاد والمقاومة لترتفع راية الدين وتُمكن قيم الصدق والعدالة ويُستعاد الحق وتحرر الأرض، ويؤذن المؤذن (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)(25).
----------
(1) انظر "رسالة من مكة.. عن أي شئ ندافع"، الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، ص 57.
(2) التطلع للوحدة، حسن الصفار، ص 13.
(3) هل الإسلام هو الهدف، محمد السماك،، مجلة (الوعي الإسلامي) الكويتية، ص42، عدد 338، شوال 1414هـ.
(4) سورة البقرة: 150.
(5) سورة الإسراء: 1.
(6) متفق عليه.
(7) انظر القدس قضية كل مسلم د. القرضاوي ص 11.
(8) سورة الإسراء: 1.
(9) سورة الأنبياء: 71.
(10) سورة الأعراف: 137.
(11) سورة الأنبياء: 81.
(12) سورة سبأ: 18.
(13) انظر "التأثير الإعلامي في الظواهر الاجتماعية بين السلب والإيجاب"، ورقة بحثية لـ د. أحمد حسن محمد، ص 1-2. وانظر مقال "حملة سبتمبر عملية اقتلاع حقيقي"، د. محمد الحضيف، موقع لها أون لاين.
(14) سورة التوبة: 24.
(15) الطريق إلى السعادة والقيادة للدول والمجتمعات الإسلامية، أبو الحسن الندوي، ص40-42 بتصرف يسير.
(16) المرجع السابق، ص 24.
(17) القدس قضية كل مسلم د. القرضاوي ص 60.
(18) المرجع السابق ص 64.
(19) انظر تاريخ اليهود لأحمد عثمان 1/136، القدس قضية كل مسلم ص 64.
(20) سورة آل عمران: 68.
(21) سورة البقرة: 124.
(22) سورة آل عمران: 75.
(23) القدس قضية كل مسلم - ص 182.
(24) أبو الحسن الندوي - مقدمة مذكرات الدعوة والداعية ص4.
(25) مصطلح الشرق الأوسط من التعبير الجغرافي إلى البديل، بحث نشر ضمن التقرير الارتيادي الأول لمجلة البيان، طلعت رميح، ص 368-369.
(26) سورة الأنعام: 45.
================(18/463)
(18/464)
صحافة ضد المقاومة جريدة الشرق الأوسط أنموذجا (1/3)
د. أحمد بن راشد بن سعيّد * 1/4/1426
09/05/2005
مقدمة
صحيفة الشرق الأوسط واحدة من أبرز الصحف العربية, وتقدم نفسها للعرب وللعالم بصفتها (جريدة العرب الدولية). تتخذ الصحيفة مواقف مثيرة للجدل, لاسيما ما يتعلق بالقضايا الكبرى للعرب كفلسطين والعراق والظاهرة الموسومة بالإرهاب. وتولي في تناولها الإخباري والتحليلي اهتماما كبيرا للحركات الإسلامية والناشطين الإسلاميين, واصفة الظاهرة الإسلامية عموما وبلا تمييز بالتطرف والأصولية, وربما كان هذا الموقف سببا في فقدانها كثيراً من الصدقية والاحترام في أوساط تيارات إسلامية وشعبية عديدة لاسيما في السعودية والخليج. وما زاد الطين بلة احتضان الصحيفة لكتاب رأي من التيار الموصوف بالليبرالي, وضعف الرأي الآخر في الصحيفة, واللغة المتشنجة التي يستخدمها هؤلاء الكتاب في تناولهم للقضايا المتصلة بالإسلام والمنتمين إليه. والصحيفة لا تضيق فقط باتجاهات الإسلام السياسي كما تسميها, ولا بتسييس الدين فقط كما يردد بعض كتابها ومحرريها, بل تضيق حتى بالمظاهر والشعائر الإسلامية كتحفيظ القرآن الكريم, والعمل الخيري والإغاثي, وارتداء الحجاب. وقد اتخذت الصحيفة مواقف مؤيدة للحكومة الفرنسية في حملتها لحظر الحجاب في المدارس الرسمية الفرنسية, واختفى تقريبا أي رأي مضاد, سواء في التناول الإخباري, أو في الرأي والتحليل. عبد الرحمن الراشد رئيس تحرير الصحيفة تبنى وقتها الموقف الفرنسي, داعيا إلى تفهم "الدوافع الحقيقية للقرار" الذي يرمي إلى "تخفيف مظاهر التدين" وهو ما سيخدم وضع المسلمين الفرنسيين على المدى البعيد كما قال( 15 كانون الثاني / يناير 2004). وفي مقال آخر أكثر وضوحا بعنوان "حاربوا التطرف لا الحكومة الفرنسية" أكد الراشد أن مظهر المسلمين البارز "يوحي بالتطرف فكرا وكلاما ولبسا" وأن على المثقفين العرب محاربة الإرهاب والتطرف بدلا من الطعن في نوايا الحكومة الفرنسية(3 شباط / فبراير 2004).
لكن أبرز ما يثير التساؤل هو موقف الصحيفة من حيث تناولها الإخباري والتحليلي من المقاومة في فلسطين والعراق, البلدين العربيين الواقعين تحت الاحتلال المباشر, وهو ما تناقشه جزئيا هذه الورقة.
المنهج
ستقتصر هذه الورقة على تناول صفحات الرأي في صحيفة الشرق الأوسط للمقاومة في فلسطين والعراق, ولن تتعرض لتناولها الإخباري. تنطلق الورقة من فرضية أن أعمدة الرأي في الصحيفة تقف في مجملها ضد نهج المقاومة وممارستها وثقافتها. وينبثق من هذه الفرضية السؤال التالي: هل أعمدة الرأي في صحيفة الشرق الأوسط تقف ضد نهج المقاومة وثقافتها في فلسطين والعراق؟
للإجابة عن هذا السؤال, فإن الباحث انتقى كاتبين يوميين وكاتبين أسبوعيين من كتاب الصحيفة, وحلل مضمون إنتاجهم في فترة محددة تحليلا كيفيا. الكاتبان اليوميان هما عبد الرحمن الراشد, وأحمد الربعي, والكاتبان الأسبوعيان هما صالح القلاب, ومأمون فندي. لم يكن هناك مفر من اختيار الكاتبين اليوميين المذكورين, لأنهما الوحيدان اللذان يكتبان بصفة شبه يومية في الصحيفة. أما الكاتبان الأسبوعيان فوقع الاختيار عليهما عمدا لاعتقاد الباحث أنهما من أكثر الكتاب تناولا لقضيتي العراق وفلسطين. كانت فترة الدراسة التي وقع عليها الاختيار هي الواقعة بين الأول من تموز (يوليو) و الحادي والثلاثين من كانون الأول (ديسمبر) عام 2004, وهي الفترة التي اشتدت فيها ضراوة المقاومة العراقية, ولم تتوقف الانتفاضة المشتعلة في فلسطين, رغم استشهاد الشيخ أحمد ياسين, والدكتور عبد العزيز الرنتيسي, و رحيل السيد ياسر عرفات, وما تبع ذلك من ابتهاج إسرائيلي وأميركي محموم ومفتعل بانحسار الانتفاضة, وتراجع خيار المقاومة. شملت الدراسة كل ما نشرته صحيفة الشرق الأوسط لهؤلاء الكتاب, مما له علاقة بشأن المقاومة في فلسطين والعراق. كان مجموع مقالات عبد الرحمن الراشد التي تم تحليلها 24 مقالا, وكان مجموع ما تم تحليله من مقالات الربعي 28 مقالا, أما صالح القلاب, فبلغ مجموع مقالاته المدروسة 6 مقالات, فيما بلغت مقالات مأمون فندي التي تمت دراستها 5 مقالات.
مناقشة
عبد الرحمن الراشد
ينطلق الكاتب اليومي عبد الرحمن الراشد في كتاباته من تعاطف واضح مع السياسة الأميركية في المنطقة, وفي العراق تحديدا, وهذا التعاطف دفعه لانتقاد المقاومة, والتقليل من شأنها, والسعي لربطها بالعدمية والعبث. ومن منطلق الواقعية يطالب الراشد دائما بالرضوخ والاستسلام وعدم مصادمة العالم, كما يردد كثيرا, والعالم كما يراه هو الولايات المتحدة والدول الغربية.(18/465)
في عموده المنشور في العاشر من تموز(يوليو) ناقش الكاتب الهجوم الذي شنته بعض الصحف البريطانية على الدكتور يوسف القرضاوي, واحتجاجها على السماح له بدخول بريطانيا, وأيد مواقف هذه الصحف قائلا إن ارتباط اسم الشيخ بتنظيم الإخوان المسلمين "جعله ينظر إلى العالم من نافذة الحزب أكثر من واقع الأمة وقدراتها وحاجاتها", وإنه من الشيوخ الذين "يحرضون الشباب على القتال, وهم لم يغادروا بلدانهم, ولا يسمحون لأولادهم بالشيء نفسه". وأضاف قائلا إن القرضاوي "من أكثر الدعاة إلى الحرب والمواجهة, لكنه يعيش في قطر في بيت مكيف". والراشد يقصد بالحرب والمواجهة هنا المقاومة المشروعة في فلسطين والعراق, فهو يرى أنها ضرب من العنف أو الإرهاب الذي يستحق هو نفسه الإدانة والمقاومة. ويؤكد هذا المعنى في كلامه عن القرضاوي, عندما ينتقد موقف الشيخ من اليهود, وينقل عنه قوله: "اليهود كطائفة ظلمهم واضح بين.. ظلم عظيم, وظلم لا نظير له, وظلم مكشوف.. لا نحاور هؤلاء [اليهود] وأيديهم ملوثة بدمائنا". وعلق الراشد على ذلك بقوله إن القرضاوي سياسيا "يمثل أقصى التطرف بكل أسف".
في عموده المنشور في الثاني عشر من تموز (يوليو) كتب الراشد مقالا بعنوان (ليس جدارا عنصريا) انتقد فيه من يقولون إن هدف الجدار الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة هو التمييز العنصري ضد الفلسطينيين, لأن "إسرائيل تستطيع أن تفند دعوى تهمة العنصرية بالتذكير أن أكثر من مليون من "مواطنيها" في داخل إسرائيل هم فلسطينيون, ويعيشون معها نصف قرن, ويحملون هوياتها, وتدعي أن لهم نفس الحقوق الممنوحة لليهودي الإسرائيلي". ودعا الراشد إلى عدم الانشغال بموضوع الجدار, والاهتمام "بتفعيل التفاوض, وإعادة الكرة مرة بعد أخرى".
في مقاله المنشور في 17من تموز (يوليو) انتقد الراشد ما وصفه "بالغضبة المضرية" من نبيل أبو ردينة, مستشار الرئيس ياسر عرفات على تيري رود لارسن, مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط. وأكد أن لارسن ليس تافها ولا مشبوها كما قال أبو ردينة, وأن تقريره عن قرب انهيار السلطة الفلسطينية "يصب حقيقة في صالح الفلسطينيين".
في عموده المنشور في من 26 تموز (يوليو) تحدث الراشد عما يحدث في العراق, منتقدا "المقاومة" ضد الأميركيين, قائلا إن الحرب هناك "بدأت بمقاومة, ثم أصبحت أرضا تجتذب أفراد تنظيم القاعدة الذي يجمع عناصره, وتقدر بالآلاف من المجندين القدامى والجدد".
في 28 من تموز (يوليو) أكد الراشد المعنى ذاته قائلا "إن جزائريين ومغاربة وخليجيين ولبنانيين وفلسطينيين ويمنيين وسودانيين ينشطون في العراق", وإن "هوية جيش المتطرفين" الذي يتشكل هناك لا ينتمي إلى القاعدة وحدها, "بل صار مظلة تضم تنظيمات متطرفة مختلفة تعمل منفصلة في ثلاث قارات, تجتمع الآن ولأول مرة على أرض واحدة. هذه جميعها تلتقي في رؤيتها المناهضة للواقع السياسي معتبرة جميع الأنظمة كافرة, ولا بد من مواجهتها".
في 3 من آب (أغسطس) كان عنوان عمود الراشد "هل هي المقاومة التي عنها تدافعون؟". تساءل الكاتب وأجاب في ثنايا عموده مؤكدا أن المقاومة العراقية "تريد أن تخلق مناخا عاما من الفوضى, وتحيل البلاد إلى قطع متناثرة, تتيح لها فرصة إدارتها مكسرة". وتبنى المقترح الأميركي بإرسال قوات عربية وإسلامية إلى العراق, وقال إن هدف هذه القوات هو "محاصرة الإرهاب, وليس مقاومته عسكريا".
في 15 من آب (أغسطس) كان عنوان عمود الراشد "علاوي أن يكون أو لا". وصف الكاتب جيش المهدي بالميليشيا, ووصف المقاومين في مدينة الفلوجة بأنهم "فرقة الرعب", وقال إن حكومة علاوي تدير "معارك حاسمة" ضد هؤلاء وأولئك, فإما أن تثبت " أن لها سلطة على كل شبر من البلاد, أو ستنتهي محاصرة في العاصمة. وهذا الحسم بالتأكيد في صالح الجميع". وأضاف أنه إذا "فشلت الحملة العسكرية الحالية سنرى عراقا ممزقا, وحركات تنشق عن أخرى.." وأن نجاح الحملة سيخدم كل دول الجوار, ولذا يجب أن تكون "سريعة وحاسمة وبأقل قدر من الأضرار".
في عموده المنشور في 21 من آب (أغسطس) أكد الراشد أنه لا يوجد خيار أمام حكومة علاوي, "إلا أن تثبت قدرتها على الأرض", أو "سينتهي العراق دولة مساحة نفوذها لا تتجاوز المنطقة الخضراء في بغداد".
في 22 من آب (أغسطس) عاد الكاتب إلى الشأن الفلسطيني, وكتب مقالا بعنوان " أنقذوا عرفات". انتقد فيه الرئيس الفلسطيني, مؤكدا أنه "ارتكب أخطاء جسيمة في تاريخه, حروبا في غير محلها, ومغامرات خاطئة, ورفض مشاريع سلام ثمينة". وهي التهم عينها التي ترددها إسرائيل والإدارة الأميركية ضد عرفات.(18/466)
كتب الراشد في 24 من آب (أغسطس) مثنيا على نتائج الاحتلال الأميركي للعراق قائلا إن العراق انتقل بالاحتلال من" عهد صدام المحارب للدين ثلاثين سنة إلى انفتاح كامل يسمح للجميع بظهور حقيقي في الحياة العامة, بما في ذلك المراجع الدينية". كما أثنى الكاتب على الحكومة التي جلبها الاحتلال قائلا إنها "ابتعدت عن الانتماء لأي فريق ديني, بدليل أن معركتها ضد جبهة شيعية في النجف تأتي موازية لمعركتها ضد الجماعة السنية المتطرفة في الفلوجة".
في 28 من آب (أغسطس) احتفل الكاتب بخروج الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من النجف, وكان عنوان عموده "هزيمة الصدر بداية لعهد جديد". قال الكاتب إن خروج الصدر من المدينة الشيعية المقدسة يمثل "نهاية فصل واحد مهم في معركة طويلة لبناء العراق الحديث".
كان عنوان عمود الكاتب في 4 من أيلول (سبتمبر) هو "الحقيقة المؤلمة أن كل الإرهابيين مسلمون". لم يصنف الكاتب ممارسات شارون في الأرض المحتلة في خانة الإرهاب, ولا ممارسات الإدارة الأميركية في أبو غريب وغوانتانامو, وحصر تهمة الإرهاب في المسلمين, تماما كما يرى الساسة الأميركيون والإسرائيليون. يقول الكاتب مرددا المقولات والإدعاءات الأميركية إن "الذين يمارسون عمليات اغتصاب وقتل في دارفور مسلمون". وينتقد الكاتب عمليات المقاومة الاستشهادية في فلسطين بطريقة غير مباشرة, فيقول: "..ومعظم الذين نفذوا العمليات الانتحارية ضد حافلات ومدارس وبيوت ومبان في أنحاء العالم في السنوات العشر الماضية أيضا مسلمون".
ويعلق الراشد على هذه الصورة التي رسمها متعجبا: "يا له من سجل سيىء, ألا يقول شيئا عن أنفسنا ومجتمعاتنا وثقافتنا؟". ويستمر في عملية جلد أو تدمير الذات هذه قائلا: "هذه الصور قاسية ومخجلة ومهينة لنا". ويقترح الراشد وصفة للعلاج تبدأ بالاعتراف بصحة هذه التهم كلها, ثم "مطاردة أبنائنا الإرهابيين" الذين هم "نتاج طبيعي لثقافة مشوهة". ويدعو الكاتب القراء إلى الاستماع للشيخ يوسف القرضاوي, الذي وصفه "بشيخ التلفزيون" زاعما أنه "أفتى جهارا بجواز قتل المدنيين الأميركيين في العراق". ويضيف: "تصوروا عالم دين يحث على قتل مدنيين, شيخ في أرذل العمر يحرض صبية صغارا على قتل مدنيين.. كيف لأب مثله أن يواجه أم الفتى بيرغ الذي ذبح ابنها نحرا لأنه جاء للعراق, للعمل في أبراج هندسية؟ كيف نصدقه عندما يقول لنا إن الإسلام دين رحمة ودين تسامح, وهو يحوله إلى دين دم؟". طبعا الراشد لم يتطرق إلى مذابح الفلسطينيين, ولم يورد اسم شهيد فلسطيني واحد, وهو بالمناسبة لم يعلق على جريمة قتل الشيخ أحمد ياسين, إلا بقوله "دعوا الانتقام" لأنه "عمل أعمى, والحرب لا يكسبها العميان" كما قال(28 آذار/ مارس 2004), ولم يعلق ألبتة على استشهاد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. لم يتذكر الراشد أن للشهداء الفلسطينيين أيضا أسماء تسجل وتعلن, واكتفى فقط بذكر اسم الأميركي بيرغ.
في عموده المنشور في 21 من أيلول (سبتمبر) علق الراشد على منع السلطات الألمانية مؤتمرا فكريا عربيا بدعوى أنه سيجتذب متطرفين معادين للعولمة وللولايات المتحدة وإسرائيل, ورأى أن السبب يكمن في تغير "رؤية العالم تجاهنا, بسبب ما صدرناه لهم من مناظر بشعة تحملها المواقع الإلكترونية من حفلات إعدام, وتبثها محطات تلفزيون من أشرطة تهديد, ومؤتمرات تتدارس بإعجاب ومفاخرة أعمال التدمير". وحذر الكاتب من محاولة من وصفهم بالمتطرفين "ركوب القضية الفلسطينية العادلة, لاستغلالها في قضيتهم الدولية". وختم بالقول: "يخطئ الفلسطينيون والمؤمنون بالحق الفلسطيني عندما يخلطون القضايا, ويورطون قضيتهم في محرقة الإرهاب المحكوم عليها بالفشل". الراشد هنا لم يحدد بالضبط ما يعني بالإرهاب, والذي يبدو أنه يقصد العمليات الاستشهادية في الوطن المحتل, التي يصفها عادة بالانتحارية.
في مقال (البراغماتية السورية) المنشور في 23 من أيلول (سبتمبر) قال الكاتب إن براغماتية النظام السوري ساعدته عبر السنين في الخروج من كثير من المآزق, وإن "سورية البراغماتية هي التي لم تنجر30 سنة إلى مواجهات خاسرة مع إسرائيل". وهكذا حكم الكاتب على أن أي شكل من أشكال المقاومة أو رد العدوان أو محاولة تحرير الأرض هو ضرب من العبث أو الكفاح الخاسر. وختم الراشد عموده بالقول إن دمشق تواجه تهما "يسهل تفعيلها" مثل "إخفاء أسلحة دمار شامل, ووجودها العسكري على أرض دولة أخرى بصورة "غير مشروعة", واستضافتها تنظيمات "إرهابية"...", ما يجعل الخيارات التي أمامها "قليلة وخطيرة".(18/467)
في 30 من أيلول (سبتمبر) انتقد الراشد تصريح وزير الخارجية الفرنسي ميشيل بارنيه الذي دعا فيه إلى إشراك قوى المقاومة العراقية في المؤتمر الدولي حول العراق, والذي التأم في شرم الشيخ بمصر في الثاني والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 2004. تساءل الراشد: "كيف يمكن أن تدعى للحضور مقاومة من الأشباح؟ هل سيصلون إلى القاعة ملثمين كما يظهرون على التلفاز مع ضحاياهم المخطوفين, أو المقطوعة رؤوسهم؟". وأضاف مهاجما المقاومة بأطيافها كافة, وبلا تمييز قائلا إن "المقاومة صاحبة السيارات الانتحارية والرؤوس المقطوعة ليست عراقية, وأيضا لا تعترف بالأمم المتحدة إلا كمنظمة للدول الكافرة, ومشروعها لن يتوقف إلا بقطع آخر رأس في العالم, لا العراق وحده". وتبنى الكاتب الخط الأميركي بالكامل بدعوته إلى دعم الحكومة التي نصبها الاحتلال الأميركي في العراق قائلا إن كان العراق " بحاجة إلى مؤتمر, فهو من أجل التأكيد على سلامة نظام شرعي يجمع ولا يفرق".
في 3 من تشرين الأول (أكتوبر) عاد الراشد مجددا إلى الشأن الفلسطيني, منتقدا الانتفاضة التي كانت "حجارة ومقالع من صبية الشوارع, ثم أصبحت صواريخ وسيارات مفخخة يقودها بالغون". يقول الراشد إن الانتفاضة نجحت في صيغتها الأولى, وأحرجت إسرائيل داخليا وخارجيا, لكن "بعد أن خطفت التنظيمات الانتفاضة تحولت إلى حرب مألوفة, كأي حرب أخرى في سيري لانكا وشمال نيجيريا وإيرلندا الشمالية, مواجهات بين طرفين متقاتلين. خسرت الانتفاضة براءتها ودعايتها بعد أن تبدلت مظاهرها الأولى من جنود إسرائيليين يقتلون أطفالا عزل إلى مسلحين فلسطينيين يقتلون أطفالا إسرائيليين". ساوى الراشد في كلامه بين الطرفين, المحتل الإسرائيلي, والفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. ووصف المقاومين الفلسطينيين بالمسلحين, بينما وصف الإسرائيليين الذين يقتلون أطفال فلسطين بالجنود. ومضى الراشد منتقدا القيادات الفلسطينية قائلا إنها أخفقت إخفاقا كبيرا في استثمار الانتفاضة سياسيا, وإنها تنافست على أمر واحد وهو "التبرع بالشهداء مجانا". وأضاف أن الانتفاضة "متناقضة, تظهر محتارة, مرة مثل معارضة عراقية مسلحة, وتارة مثل تنظيم القاعدة".
في 9 من تشرين الأول (أكتوبر) كان عنوان عمود الراشد واضحا في دلالته: "التطرف من الفلوجة إلى طابا". الذي حدث إذن في الفلوجة من مقاومة للغزاة الأميركيين هو تطرف مشابه لتفجيرات طابا. يريد الكاتب أن يشوه وجه المقاومة العراقية بربطها بأعمال غير قانونية, أو مثيرة للجدل, أو موصومة بالتطرف. يقول في خلط واضح للأوراق: "لا يعقل أن نبرر الأعمال الإرهابية في انفجار, ونهاجمها في انفجار آخر, فهي مترابطة فكريا إن لم تكن مترابطة عضويا". ويضيف: "فلا فرق بين هجمات انتحارية في كابل أو الأنبار أو إسلام أباد أو الرياض أو الجزائر أو باريس أو دمشق أو طرابلس أو طابا. كلها تلتقي في حقيقة واحدة, منفذوها عقول متطرفة".
في 30 من تشرين الاول (أكتوبر) استخدم الراشد التوصيفات الأميركية للمشهد العراقي, فوصف المقاومة العراقية بأنها "بعثية", ووصف المقاومين بأنهم "متمردون" و"أصوليون".
في 13من تشرين الثاني (نوفمبر) بدأ الراشد مقالا من 3 حلقات بمناسبة رحيل الرئيس ياسر عرفات. كان عنوان السلسلة "ماذا بعد دفن عرفات؟". تبنى الراشد الرواية الإسرائيلية والأميركية بشأن عرفات قائلا: " عرفات كان طرفا في المشكلة", وغيابه "يمثل فرصة إيجابية". وانتقد الرئيس الراحل بقوله إنه مات عاجزا عن خوض "المعركة الصعبة" لأنه " كان يراعي كل الاحتمالات, وبالتالي اختار أن يخسر الفرص الثمينة من أجل أن يكسب الإجماع الفلسطيني". إذن كان على عرفات أن يكسر الإجماع, ويشق الصف الفلسطيني, ويذهب في طريق التنازلات إلى آخر مدى, وأن يقمع - كما يطالب الإسرائيليون والأميركيون - المنظمات التي ترفض الاستسلام للشروط الإسرائيلية. يطرح الراشد رؤيته أمام القيادة الفلسطينية الجديدة بقوله: "الامتحان الدموي آت للقيادة الفلسطينية التي سيتحدى سلطتها الخارجون عليها, وستواجه عمليات تمرد داخلية, وسيارات انتحارية في تل أبيب والقدس, وقتلى إسرائيليين بالعشرات, وبيانات فلسطينية تتهمها بالخيانة, وبيانات دولية تتهمها بالعجز, ومنظمات فلسطينية تعلن عزمها على قيادة الشأن الفلسطيني, والاقتتال للحصول على شعبية في الشارع الفلسطيني المأزوم والمحبط دائما".(18/468)
في الحلقة الثانية دعا الكاتب الحكومات العربية إلى تأييد القيادة الفلسطينية الجديدة, مؤكدا أنه "مع غياب أبو عمار لم يعد هناك مبرر للتقاعس في دعم السلطة لتصبح قادرة على تقديم الرعاية الإنسانية والخدمة المدنية التي عجزت عنها بسبب ما مرت به من حصار ومقاطعة دولية", وأن "الإخفاق في رفع الحصار عن المدن الفلسطينية وعدم دعم السلطة في رام الله سيتسبب في استنساخ عرفات بآخر". وزعم الراشد أن معظم عمليات القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية و قطاع غزة كانت للانتقام لا للقضاء على خصومها, وهي الذريعة التي طالما استخدمتها إسرائيل ووسائل الإعلام الغربية المتعاطفة معها لتبرير ممارسات الاحتلال الإسرائيلي العدوانية في الأرض المحتلة.
في الحلقة الأخيرة من سلسلة "ما بعد دفن عرفات" كتب الراشد: "اختتمت الحالة العرفاتية بحالة جمود قاتلة, وساحة مكتظة بالانتحاريين, وقطيعة دولية, وبرود عربي, ومؤسسة سياسية معطلة, وخزينة مفلسة, وصراع على السلطة كاد ألا ينتهي". هذا المشهد الذي يرسمه الراشد حول عرفات يؤكد انحيازه المطلق للصورة النمطية الأميركية للمشهد الفلسطيني التي لا يبرز فيها سوى الجمود والفساد والإفلاس وقطعان بشرية فاقدة للأمل ومقبلة على الموت انتحارا. الحقيقة تقول إنه لم تكن هناك قطيعة دولية, بل قطيعة أميركية إسرائيلية, أما البرود العربي الذي أشار إليه الكاتب فكان مجرد ثمرة لهذه القطيعة. هذا لا يعني طهارة الساحة الفلسطينية في عهد عرفات من الفساد, ولكن الراشد لا يرى في المشهد أكثر مما يسمح به المنظور الأميركي والإسرائيلي الذي قرر عزل عرفات, وسعى لتصوير الشعب الفلسطيني بوصفه شعبا كارها للحياة, عاشقا للعدمية والموت الرخيص.
في مقال له بعنوان (شدوا الأحزمة في الأرض المحتلة) منشور في 29 من تشرين الثاني (نوفمبر) أثنى الراشد على الأداء السياسي للقيادة الفلسطينية الجديدة, لكنه أثار مجددا مسألة حركات المقاومة, وعلاقة السلطة بها. يقول: "بقيت ملفات صعبة, لكن ليس صعبا في هذا الظرف التضامني التوصل إلى حلول لها, مثل سحب قرار الحرب من يد الفصائل والتنظيمات الأخرى مثل حماس والجهاد الإسلامي التي تقرر متى وأين وكيف وأين تقاتل. الوقت حان للتنسيق مع السلطة الفلسطينية, والاعتراف بحقها في اتخاذ القرار الاستراتيجي, كالحرب والسلم". ويتساءل الراشد ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية عندما تقرر إيقاف العمليات العسكرية, ثم "تتمرد فصائل على القرار, وتخرق الاتفاق, ويقتل جمع من المدنيين الإسرائيليين؟". ويلجأ الراشد إلى التحريض على فصائل المقاومة متسائلا: "هل ستقبل السلطة بتنظيمات خارجة عن إرادتها, تنفذ عمليات متى ما تريد, وتبني معسكرات كيفما تريد, وتتعامل سياسيا مع جهات خارجية متى ما تريد؟ لا توجد سلطة في العالم تقبل بذلك إلا إذا كانت مجرد دمية لآخرين..لا تملك القيادة الجديدة إلا حسم مسألة المرجعية السياسية الواحدة, ككل نظم العالم, وتفرضها بشكل لا تردد فيه..".
في مقال من حلقتين بعنوان "من ينقذ السنة من السنة", نشرا في يومي 1 و 2 من كانون الأول (ديسمبر) انتقد الراشد المقاومة السنية في العراق متسائلا بتهكم: "هل المسالخ البشرية التي عثر عليها في الفلوجة, وروعت صورها العالم هي بيوت سنية؟ وهل المجالس والعلماء الذين توعدوا أقوى قوة في العالم, ينطقون بالفعل بلسان أضعف فريق في العراق؟". يتجاهل الراشد الصور التي روعت الضمير الإنساني حقا, وهي صور الذبح الجماعي, والإجهاز على الأسرى في المساجد, وسياسة الأرض المحروقة, وحرب الإبادة التي شنتها قوات الاحتلال الأميركية على تلك المدينة العراقية الصغيرة. ويجعل الراشد معيار العدل والحكمة هو الاستسلام للقوي المتجبر, والإقرار بالضعف والخنوع أمام دمويته وإرهابه, عندما يتساءل: هل العلماء الذين توعدوا أميركا ينطقون بلسان السنة الضعفاء؟ من قال إن القوة الأميركية لا راد لقضائها, ولا معقب لحكمها, ومن قال إن السنة هم أضعف فريق في العراق؟
يضيف الراشد شامتا بالسنة العرب:"الفلوجة المعركة رغم ما سببته من أذى كبير, ربما أنقذتهم من متطرفيهم, الذين كانوا يقودونهم نحو الدمار.. تحصنهم في الفلوجة حولها إلى مقبرة لهم.. وما حدث يبرهن كذلك على انعدام خبرة القيادة والمفاوضة عند السنة العرب. وهم بالفعل أناس بلا خبرة سياسية".(18/469)
في الحلقة الثانية من مقاله "من ينقذ السنة من السنة" يواصل الكاتب هجومه على السنة العرب, فيقول إنهم "تحت القصف, وخارج سوق الانتخاب, بسبب عنادهم وجهلهم, وترك زمام قيادتهم للمتطرفين الذين يسكنون بينهم, أو يتحدثون باسمهم, وعلى سنة العراق أن يتذكروا أن متطرفي السنة, لم يفلحوا في البلدان ذات الأغلبية السنية, كما في الخليج ومصر والأردن, حتى يمكن أن يفلح تطرفهم في فعل شيء لصالح العشرين في المائة من سكان العراق". لا يضيف الكاتب جديدا هنا سوى أنه رمى السنة العرب في العراق عن بكرة أبيهم بالتطرف, بما فيهم هيئة علماء المسلمين, أبرز الأصوات الوطنية التي تعارض الانتخابات في ظل الاحتلال, بل ذهب إلى خارج حدود العراق فرمى حركات معارضة إسلامية في بلدان عديدة بالتطرف, وكرر المقولة الدعائية الأميركية القاضية بأن سنة العرب أقلية لا تتجاوز نسبتها عشرين في المائة من سكان العراق.
لا يبدو أبدا أن الراشد يضيف جديدا في طرحه. إنه فقط يعيد إنتاج ما تضخه وسائل الدعاية الأميركية حول الأحداث والأشخاص والظواهر في المنطقة العربية بأسلوب فيه كثير من الغطرسة والضحالة والنمطية.
صحافة ضد المقاومة: جريدة الشرق الأوسط أنموذجا (2/3)
د. أحمد بن راشد بن سعيّد * 8/4/1426
16/05/2005
ضمن إطار مقاله عن (صحافة ضد المقاومة - جريدة الشرق الأوسط أنموذجاً) تناول الكاتب في حلقته الأولى عبدالرحمن الراشد ومقالاته التي تعكس تعاطفاً مع السياسة الأمريكية في المنطقة، واليوم نستكمل معكم الحلقة الثانية من مقال الدكتور أحمد بن راشد بن سعيَّد في حديثه عن أحمد الربعي كنموذج ثان عن كتَّاب الصحافة ضد المقاومة.
أحمد الربعي
غلب الشأن العراقي على كتابات أحمد الربعي, ربما لمجاورة بلده الكويت للعراق, وللتجربة المرة التي عاشتها الكويت بسبب الاحتلال العراقي عام 1990. واتفق الربعي مع زميله الراشد في النظر إلى أعمال الاختطاف وقطع الرؤوس بصفتها نماذج للمقاومة العراقية, ومن ثم تصنيف تلك المقاومة في خانة الإرهاب.
في 5 من تموز (يوليو) تحدث الربعي عن ما وصفه "بالصورة القاتمة" التي ترسمها الفضائيات العربية عن العراق, من "حرب وضرب وعويل وبكاء". وقال إن العراق بلد كبير, ولكن الفضائيات لا تنقل عنه سوى "انفجارات الفلوجة, ومعارك النجف", ومشاهد الملثمين الذين "يتحدثون عن القتل والانتقام ويقطعون رؤوس الناس بالسكاكين".
في 17 من تموز (يوليو) انتقد الكاتب السلطة الفلسطينية لما وصفه "بالحملة الشعواء" التي شنتها على تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط, وقال إن لارسن لم يفعل ما يبرر الهجوم عليه, وإن "جريمته الكبرى هي انتقاده للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات, وحديثه عن الفساد في السلطة, ومطالبته بإعطاء صلاحيات أكبر لرئيس الوزراء الفلسطيني". وأضاف: "فلسطين أولا, وبعدها يأتي عرفات وغيره". انضم الربعي إلى الراشد في توجيه سهام النقد إلى عرفات الذي كان يتعرض وقتها لحملة إسرائيلية أميركية تتهمه بالفساد والاستبداد ورفض ما يسمى بالحلول السلمية.
في اليوم التالي, كتب الربعي مقالا بعنوان "القيادة الفلسطينية أولا", كرر فيه الفكرة ذاتها, وأكد أن "ما تفعله القيادة الفلسطينية يطرح مشروع "القيادة أولا", ومصلحة القائد فوق كل مصالح الأمة, وهو أمر مؤسف".
في 20 من تموز (يوليو) واصل الربعي حملته على رئيس السلطة الفلسطينية, وطالبه صراحة بالاستقالة, قائلا: "لقد حان الوقت لرئيس السلطة الفلسطينية أن يرتاح ويريح غيره, فالمرحلة التي يعيشها الفلسطينيون تتطلب وجوها جديدة, ورؤية جديدة, ودماء جديدة. وياسر عرفات, أقدم زعيم عربي, يجب أن يقدم استقالته للمجلس التشريعي الفلسطيني, ويترك للفلسطينيين حق اختيار زعيم جديد في انتخابات نزيهة وبلا تدخلات.. قبل أن يضطر لذلك بضغوطات داخلية وإقليمية. وهو بذلك سيقدم خدمة كبيرة لشعبه".
في 26 من تموز (يوليو) عاد الربعي للحديث عن القضية العراقية, فانتقد بشدة "فضائيات الملثمين", قائلا: ".. يبدو أنه لأول مرة في التاريخ تضع محطات فضائية إمكانياتها تحت خدمة ملثمين لا يعرف أحد من هم, سوى أنهم يمارسون القتل والإرهاب", وأضاف: "إعلام الملثمين هو إعلام لا يحترم المشاهد.. وهو في النهاية تشجيع على القتل".
ويواصل الكاتب خلطه الأوراق, ووضعه كل أعمال العنف في سلة المقاومة, متجاهلا العمليات النوعية والضربات الموجعة التي توقعها المقاومة في صفوف الاحتلال الأميركي, ومركزا فقط على عمليات الاختطاف والاغتيال والإعدام التي تتم بين حين وآخر في العراق. يقول في مقال له منشور في 3 من آب (أغسطس) إن "مشروع الإرهاب في العراق لم يترك بشرا ولا حجرا إلا واستهدفه, ضرب الشرطة والمدنيين, واختطف سائقين فقراء من جنسيات عديدة للابتزاز, وفجر أنابيب نفط ومحطات كهرباء, واغتال شخصيات عراقية عديدة, ولكن مشكلته الكبرى أنه إرهاب بلا أفق سياسي, وبلا حدود دنيا من الأخلاق, وإن تلبس بلباس المقاومة, ووجد من يصفق له في الإعلام العربي خارج العراق".(18/470)
في 9 من آب (أغسطس) انتقد الكاتب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر, قائلا إنه "ينتمي إلى عائلة قدمت الكثير من الشهداء, وسيكون من سوء التقدير أن يعزل الإنسان نفسه, وأن يدخل في حرب ضد الجميع".
في 10 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا بعنوان "الاختطاف تجارة مزدهرة" انتقد فيه مجددا "إعلام الملثمين" الذي يساعد على انتشار عمليات الاختطاف في العراق كما قال.
وفي مقال له بعنوان "استهداف بيوت العبادة", منشور في 14 من آب (أغسطس) تحدث الكاتب عن المعركة بين القوات الأميركية وجيش المهدي, منحيا باللوم ضمنا على جيش المهدي, لتحصنه كما قال وراء المساجد والأماكن الدينية. يقول: "المعركة عند مرقد الإمام الحسين وفي العتبات ليست الأولى, ويبدو أنها لن تكون الأخيرة, فاستخدام المساجد والأماكن الدينية للحروب هو أمر يتعارض مع تقاليد الإسلام, فبيوت الله ليست أماكن للقتال, بل أماكن للسلام والطمأنينة". ويضيف: "هناك حالات كثيرة اختبأ بها إرهابيون في المساجد, وخزنوا أسلحتهم في بيوت العبادة, وهناك من يستخدم المساجد كمواقع للتحريض على القتل والعنف.. ", وهذا العمل "استخفاف بمعتقدات الناس, وهو في النهاية عمل جبان يدل على حالة مرضية أكثر منها حالة سياسية".
في 21 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا بعنوان "ساعات الحسم الأخيرة" قال فيه إنه "ليس أمام الحكومة العراقية من خيار بعد رفض جيش المهدي لكل النداءات والمبادرات السياسية سوى الحسم العسكري, وإلا تحول البلد إلى الفوضى, وتقاسمته الميليشيات المسلحة". وعبر الكاتب عن قلقه على الأميركيين قائلا: " هناك خوف حقيقي من أن يتصرف بعض المراهقين داخل جيش المهدي.. بطريقة تسيء إلى مرقد الإمام علي, وإلى المواقع الدينية الحساسة, بهدف توريط الأميركيين". وختم مقاله بدعوة مقتدى الصدر إلى التخلص من "بعض معاونيه", والموافقة على "الحل السلمي بالشروط الحكومية".
في 28 من آب (أغسطس) كتب الربعي مقالا تساءل في مقدمته: "هل يتعلم السيد مقتدى الصدر وجيش المهدي شيئا من تجربة الأسابيع الماضية؟ هل يدركون أن المعارك التي ليس هدف سياسي, وليست ضمن استراتيجيه محددة هي معارك عدمية لا يمكن أن تحقق هدفا؟". ينظر الربعي إلى أي مقاومة للأميركيين بوصفها معركة عبثية لا جدوى منها, ولا سبيل للنصر فيها. ويدعو الحكومة العراقية إلى المزيد من العنف قائلا: "..لا بد من أن تتصرف الدولة مع أية عمليات عنف في المستقبل بكثير من الحسم والقوة, فمن المستحيل الحديث عن إعادة الإعمار تحت تهديد السلاح والقتل, والسيارات المفخخة, واختطاف الأبرياء". يتحدث الربعي عن عنف المقاومة, ولا يشير ألبتة إلى عنف الاحتلال الأميركي, والقصف الهمجي شبه اليومي للفلوجة, والضحايا الذين يوقعهم هذا القصف في مناطق عديدة متفرقة من العراق.
وينضم الربعي إلى زميله الراشد في انتقاد الشيخ يوسف القرضاوي, ويكتب مقالا في 4 من أيلول (سبتمبر) بعنوان "القرضاوي المعتدل", يقول فيه: "كأنه لا يكفينا هذا القتل اليومي.. فيظهر علينا من يفترض أن يكون داعية إسلاميا معتدلا هو الشيخ يوسف القرضاوي ليفتي بجواز قتل المدنيين الأميركيين في العراق, وليقول بلغة عربية واضحة وصريحة: "إن كل الأميركيين في العراق محاربون, لا فرق بين مدني وعسكري, ويجب قتالهم لأن المدني الأميركي جاء العراق لخدمة الاحتلال".. ولأن السيد الشيخ القرضاوي مثل كثير من الشيوخ المتطرفين لا يموتون عادة, ولا يستشهدون, ولا يحدث ذلك لأبنائهم الذين يتعلمون عادة في أحسن جامعات الغرب, فإن مثل هذه الفتوى سيقرؤها شباب مسلم متحمس, وقد يذهب إلى العراق لتنفيذ الواجب الديني الذي دعا إليه الشيخ القرضاوي". ويضيف الكاتب قائلا: "الفرق بين الجنون والعقل, بين التطرف والاعتدال واضح. فالقرضاوي الذي يعيش حياة الرغد والعز في الدوحة يفتي بقتل المدنيين الأميركيين". ينظر الربعي إلى صاحب الرأي الذي يختلف معه بوصفه متطرفا ومجنونا ومتناقضا, وإذا كان ذلك المخالف عالم دين إسلامي أو منتميا لتيار إسلامي, فإن دعاوى التسامح واحترام الرأي الآخر كلها تتهاوى, وتبرز فقط لغة التهكم والتهميش والازدراء.
في 6 من أيلول (سبتمبر) كتب الربعي مقالا انتقد فيه فصائل المقاومة الفلسطينية, لعدم تحديد أولوياتها, وتوحيد مواقفها كما قال. وأكد أن "هناك صراعات بين "حماس" و"الجهاد" من جهة, وبقية الفصائل على خلفية الموقف من التسوية السياسية, وقضية العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين, وهناك خلافات وصراعات حادة بدأت داخل حركة التحرير الفلسطيني (فتح) وصلت إلى درجة التصفيات الجسدية".
ويعود الربعي إلى الشأن العراقي وإلى موضوع المقاومة تحديدا, فيكتب في 20 من أيلول (سبتمبر) متسائلا: "أليس تشجيع القتل في العراق اليوم بحجة العروبة والإسلام والمقاومة هو الذي يؤدي إلى حصد الأرواح البريئة في العراق"؟(18/471)
في 27 من أيلول (سبتمبر) يتهكم الربعي بالمقاومة الفلسطينية, ويكرر وصفه العمليات الاستشهادية بالانتحارية, فيقول: ".. يمارس العرب حالة من الفروسية والبطولات والعنتريات التي ما قتلت ذبابة. فعندما تحدث عملية انتحارية في إسرائيل تعلن ثلاث منظمات فلسطينية مسؤوليتها عن الحادث, وهذا يعني أن هناك اثنتين من هذه المنظمات تمارس الكذب..".
في مقال له منشور في 9 من تشرين الأول (أكتوبر) يؤكد الربعي أن "العنف والقتل في العراق هما الاستثناء" و"الاستقرار هو القاعدة", وأن "أقل المتضررين من العنف هم قوات التحالف, لذلك فإن عنفا بلا قاعدة شعبية هو عنف بلا شرعية, وإن حمل عناوين التحرير والاستقلال والإسلام والوطنية".
في 23 من تشرين الأول (أكتوبر) تحدث الربعي بمرارة عن عمليات اختطاف "الأجانب العاملين في المساعدات الإنسانية" في العراق, متسائلا: "كيف يمكن لنا أن نعتذر باسم أطفال العراق, وباسم سمعتنا وسمعة ثقافتنا؟ كيف يمكن أن نفسر خيبتنا وفعلة التفرج التي نمارسها على المستوى الإنساني؟ أية كلمات يمكن أن نستخدمها لنقول للعالم إننا أبرياء من هذه الجرائم, وهل يمكن أن يكون صوتنا أعلى من صوت القتلة والمختطفين وقطاع الطرق الذين يصفق لهم الكثيرون, ويسمونهم مقاومة؟". مرة أخرى يغض الربعي الطرف تماما عن جرائم الاحتلال الأميركي, وفضائحه وممارساته غير الإنسانية, ويواصل عملية (سلخ الذات), ويترحم على (ثقافتنا) التي أفرزت في رأيه الإرهاب والتطرف.
في مقاله المنشور في 25 من تشرين الأول (أكتوبر) ينتقد الربعي علماء الدين السنة في العراق قائلا: "بعض رجال الدين السنة في ما يسمى بالمثلث السني يتصرفون دون شعور لتلك المناطق عبر تشجيع العنف, لكن الأمل ما زال قائما في صحوة متأخرة لهؤلاء للتفكير من جديد بمستقبل أهلهم ووطنهم".
في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) يحذر الربعي من تكرار ما وصفه بمأساة الأفغان العرب, ويورد مصطلح "العراقيين العرب" للإشارة إلى "العرب المتطرفين الذين ذهبوا إلى العراق تحت شعار الجهاد ضد الكفار", محذرا من أن هؤلاء "لا يحاربون الأميركيين فحسب, بل يفخخون السيارات ضد المدنيين العراقيين. ولذلك, فإن خطرهم في حال عودتهم سيكون أكبر".
في 8 من تشرين الثاني (نوفمبر) يعلق الربعي على الفتوى التي أصدرها عدد من العلماء والدعاة في السعودية حول وجوب الوقوف مع أهل الفلوجة ضد الهجوم الأميركي على مدينتهم. يقول الربعي إن الفتوى الداعية إلى "مساعدة "الفلوجة الصامدة المنصورة" هي تحريض للشباب, وتغرير بهم, لدفعهم إلى طريق الانتحار, وهي دليل على أن عددا من الموقعين على الفتوى, ممن اعتقدنا أنهم عادوا إلى طريق الحق, وقطعوا العلاقة بفكر العنف, قد عادوا إلى طريقهم القديم, يحرضون الناس على الموت تحت اسم الجهاد". مقاومة الأميركيين الغزاة في رأي الربعي ليست سوى انتحار, والدعوة إليها ليست سوى تحريض. وحده الربعي وزملاؤه من المدافعين عن المشروع الأميركي في المنطقة يعرفون "طريق الحق", ويحتكرون تعريف الصحيح والخطأ. يتساءل الربعي في ثنايا مقاله: "ألا يكفينا ما حدث؟ ألا تكفي هذه الجرائم التي ارتكبت باسم الإسلام؟..ألا تكفي حسرة قلوب آباء وأمهات, ذهب أبناؤهم إلى أفغانستان والعراق, فانتهوا في سجن غوانتانامو..؟". يكررالكاتب هنا الرواية الأميركية الرسمية للأحداث, من أن أسرى غوانتانامو قتلة وإرهابيون, مع أن أكثرهم لم تثبت عليه تهمة, وعدد غير قليل منهم كانوا أناسا بسطاء, وموظفي إغاثة إنسانية, وقد انتقدت ظروف اعتقالهم وأسبابه منظمات حقوقية دولية عديدة أبرزها منظمة العفو الدولية, وهيومان رايتس ووتش.
في مقاله المنشور في 17 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتساء ل الربعي: "متى يأتي الزمن النظيف؟", ويضيف: "من حقنا أن نحلم بأوطان هانئة, وأسر مستقرة, وصناعة وزراعة وإنترنت ولحاق بركب الحضارة, بعد أن استهلكنا نظام طالبان وتورا بورا, ومقاومو الفلوجة, والمحللون السياسيون والاستراتيجيون الذين يكذبون علينا كل يوم في القنوات الفضائية".(18/472)
في 20 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتحدث الربعي عن المقاومة الفلسطينية, ويدعوها إلى المصارحة بدل المصالحة كما يقول. يتساءل: "لماذا لا تكون هناك جلسات مصارحة تكون مدخلا إلى المصالحة, أو تكون دافعا لطلاق بائن بين أطراف متناقضة". الساحة الفلسطينية كما يرى الربعي "تضم طرفين أساسيين, طرف لديه مشروع للسلام, له تصور لدولتين متجاورتين, وعاصمتين منفصلتين, وصفقة سلام تاريخية, وطرف آخر لا يؤمن بهذا الكلام, وهو يبحث عن الشهادة, وليس عن إقامة دولة, وهو يرفض التفاوض, ويرفض الدولتين, ويعتقد أنها حرب أزلية بلا سقف, يخوضها بالنصوص الدينية وبالسلاح, ولا مجال فيها لغير ذلك..". ويمضي الكاتب في هجومه على الفصائل الإسلامية المقاومة في فلسطين قائلا: "..من الظلم للشعب الفلسطيني محاولة جمع النار والماء, وتركيب خليط من المتناقضات الإيديولوجية والسياسية". ويختم بقوله: ".. ما دامت جماعة حماس والجهاد ترفضان السلام بالصيغة الفتحاوية, أو صيغة الشعبية والديموقراطية وغيرهما, فما الداعي لتجميع المتناقضات". ليس واضحا من كلام الكاتب ما يرمي إليه سوى رفض فكرة التنوع داخل البيت الفلسطيني, أو الدعوة إلى التناحر بين فصائل المقاومة, أو القطيعة والطلاق البائن بينها على حد تعبيره. وللمرء أن يتساءل بكل براءة: ماذا تريد إسرائيل والإدارة الأميركية أكثر من هذه الوصفة الكارثية للمجتمع الفلسطيني.
يعود الربعي إلى الشأن العراقي في 21 من تشرين الثاني (نوفمبر), فيدعو العراقيين إلى كسر حاجز الخوف, والسعي لبناء عراق مستقر, بعيدا عن "الإرهاب والقتل" كما قال.
في 22 من تشرين الثاني (نوفمبر) يتحدث الربعي عن قصة اختفاء ابن الشيخ سلمان العودة, وقلق والده من أنه ربما ذهب إلى العراق للجهاد ضد الاحتلال الأميركي, ثم ثبوت أن الأمر كان مجرد "مزحة" فقط. يلتقط الربعي القصة, ليوجه هذه "النصيحة" للشيخ العودة: ".. نتمنى أن يضع الشيخ العودة نفسه بمكان مئات الآباء والأمهات الذين فقدوا أولادهم, وانتهى هؤلاء إلى الفلوجة, أو قتلوا في أفغانستان, أو قبعوا في سجون غوانتانامو". ثم يتساء ل الكاتب: ".. هل كان الشيخ سلمان العودة يوقع البيان الذي وقعه قبل أيام بشأن الجهاد في العراق, لو أنه مر بتجربة ابنه معاذ, وشعر بحجم المرارة والألم؟". ينتقد الكاتب ما يصفه بغسل أدمغة الشباب, ودفعهم إلى حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل, ووقوعهم ضحية "الفكر المتطرف". كما انتقد من يوقعون على بيانات تدعو الناس إلى الجهاد, بينما "يحرصون على إبعاد أنفسهم, وإبعاد أبنائهم, عن دخول تلك المغامرة, وهم يدفعون بأبناء الفقراء إلى الموت, بينما يدرس أولاد هؤلاء في أفضل الجامعات الغربية, ويعيشون حياة هانئة..". ينتقد الكاتب موقف الشيخ العودة ضمنا, مطالبا برفض "العنف والقتل تحت حجج جهادية واهية".
في الشأن العراقي أيضا يتحدث الربعي في مقاله المنشور في 28 من تشرين الثاني (نوفمبر) منتقدا "التوتر والعنف الذي تمارسه قوى الإرهاب في بعض المناطق", وهو ما يستحيل معه إجراء الانتخابات كما قال.
في 14 من كانون الأول (ديسمبر) يناقش الكاتب وضع القيادة الفلسطينية الجديدة, مؤكدا أن نجاح هذه القيادة "يتطلب أولا توقف بعض الفلسطينيين عن عمليات انتحارية لا تخدم قضيتهم, وخاصة ضد المدنيين".
في مقاله المنشور في 21 من كانون الأول (ديسمبر) يعلق الربعي على جريمة التفجير التي نفذت بحق المدنيين في مدينتي النجف وكربلاء, منحيا باللائمة في ذلك على المقاومة العراقية: " لا بد من أن نبارك للمقاومة العراقية الباسلة, ولمن يدعمونها عبر الفضائيات بهذا "الإنجاز" حيث يقتل مدنيون لا ذنب لهم, وحيث يمارس القتلة في العراق جرائمهم, ويرفعون شعارات الإسلام والوطنية وطرد الاحتلال". ويضيف: "إن هؤلاء الذين يقتلون شيعة العراق, هم أنفسهم الذين يقتلون سنة العراق, واستباحوا الفلوجة, وقتلوا الأكراد, وفجروا الكنائس الآمنة".(18/473)
في 28 من كانون الأول (ديسمبر) كتب الربعي مقالا بعنوان "المقاومة العراقية في دمشق" انتقد فيه موقف سورية من احتلال العراق, وتعاطفها مع المقاومة في ذلك البلد. يقول : "إذا أردت أن تعرف ماذا تريد أن تفعل "المقاومة العراقية", فعليك بالإصغاء جيدا إلى الإعلام السوري, أو الإعلاميين المحسوبين على سورية.. آخر ما قالوه في دمشق, تحريض سافر على قتل الشرطة العراقية, واعتبار عصر صدام حسين أفضل من الأوضاع الحالية..". ويضيف: "لا أعرف من الذي يدير ملف العراق في دمشق, ولكني أعرف جيدا أنها إدارة تضر بالعراق, وتضر بسورية.. لقد مللنا ونحن نكرر ضرورة أن تفكر دمشق في مصالحها الوطنية, وأن تخرج من عصر الشعارات والأحلام, إلى فضاء العمل السياسي المحترف..". تزامن هذا الكلام مع حملة أميركية إسرائيلية على دمشق, وبدا أن الربعي يستجيب لأوتار هذه الحملة, ويردد الإدعاءات الأميركية عينها بخصوص الموقف السوري من أحداث العراق. يختم الربعي مقاله متسائلا: "هل نصرخ في واد غير ذي زرع لا يسمعنا فيه أحد؟ ربما..". الأكيد أنه لا يوجد عربي ولا مسلم حقيقي يعير سمعا إلى خطاب التبعية والاستسلام لإرادة العدوان والهيمنة الأميركية.
|1|2|
________________________________________
* أستاذ الإعلام السياسي المشارك - جامعة الملك سعود - الري
صحافة ضد المقاومة: جريدة الشرق الأوسط أنموذجاً(3/3)
د. أحمد بن راشد بن سعيّد * 15/4/1426
23/05/2005
وقفنا في الحلقة الثانية عند تناول الكاتب للنموذج الثاني من نماذج كتَّاب (جريدة الشرق الأوسط) كنموذج (للصحافة ضد المقاومة).. ونتابع معكم اليوم الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة، والتي يتناول فيها الكاتب نموذجين آخرين هما: صالح القلاب، ومأمون أفندي.
صالح القلاب
كتب صالح القلاب عن الشأن العراقي, لكن ما كتبه عن فلسطين كان أكثر, نظرا لارتباط بلده الأردن على المستوى الشعبي والرسمي بالقضية الفلسطينية.
في 25 من آب (أغسطس) ناقش القلاب الوضع في العراق, مقارنا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر بزعيم حركة طالبان الملا عمر. يقول: "لنتصور ماذا سيحل بالعراق لو أن حكومة إياد علاوي, التي هي رغم سلبياتها الكثيرة خشبة الخلاص الوحيدة والأخيرة, انهارت في لحظة من اللحظات قبل أن تنجز مهمتها بتسليم البلاد إلى حكومة دائمة منتخبة..". ويحذر قائلا: "..إن انهيار هذه الحكومة, ورحيل القوات المحتلة, سيؤديان حتما إلى حكومة كحكومة "طالبان", وإلى رئيس كالملا عمر. وغير مستبعد إذا انتصر جيش المهدي, وأصبح مقتدى الصدر رئيسا لجمهورية إسلامية عراقية أن ينتقل أسامة بن لادن بإرهابه وقواعده إلى بلاد الرافدين..".
في 8 من أيلول (سبتمبر) كتب القلاب عن ذكرى تفجيرات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة, وقال إن الرئيس بوش كان سيعلن "أمام اجتماع تاريخي للجمعية العمومية للأمم المتحدة قيام الدولة الفلسطينية المنشودة" لولا وقوع الأحداث, وتتابع العمليات "الانتحارية" ضد الإسرائيليين, "التي تلاحقت بطريقة مثيرة للاستغراب". وقد زعزعت هذه العمليات - كما يقول الكاتب - "الموقف الفلسطيني, وعززت الحجة الإسرائيلية القائلة بأن الفلسطينيين إرهابيون, وإنهم جزء من جبهة "طالبان" وأسامة بن لادن وصدام حسين, في حين أن الإسرائيليين مثلهم مثل الأميركيين ضحايا لهذا الإرهاب, وأن حيفا وتل أبيب يحل بهما ما حل بنيويورك وواشنطن". ويصل الكاتب إلى القول بأنه "كان على العرب, والفلسطينيين تحديدا أن يعرفوا أن ما جرى ليس مجرد هدم بناية, وخطف عدد من الطائرات. وكان عليهم أن يبادروا, وعلى الفور, إلى التخلص من الأوهام التي كانت لا تزال عالقة بهم منذ مراحل الحرب الباردة, وأن يعلنوا هم, حتى قبل الولايات المتحدة, ومعها الغرب كله, الحرب على الإرهاب. كما كان عليهم أن يرموا بكل ثقلهم لوقف العمليات الانتحارية التي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى ما وصل إليه". يحمل القلاب العرب والفلسطينيين مسؤولية التدهور والمعاناة في الأرض المحتلة, فالعرب مسؤولون نتيجة لغبائهم وقصر نظرهم وعدم استيعابهم الحرب الأميركية الجديدة على ما يوصف بالإرهاب, والفلسطينيون مسؤولون بسبب دمويتهم وعنفهم غير الأخلاقي الذي يسمونه استشهادا ومقاومة. أما الإدارة الأميركية وإسرائيل فهما بريئتان من كل نقيصة, ولا تقترفان إرهابا بحق الفلسطينيين والعرب.(18/474)
في ذكرى مرور أربع سنوات على انتفاضة الأقصى كتب القلاب مقالا في 6 من تشرين الأول (أكتوبر) بعنوان: "أربعة أعوام كانت كارثة للفلسطينيين ودمارا لقضيتهم". اختصر العنوان ما أراد الكاتب أن يقوله, لكنه أوضح مراده بجلاء في ثنايا المقال, عندما أكد أن "التغني بصواريخ "القسام" الكرتونية لا فائدة منه, بل إنه يعزز ما تتذرع به إسرائيل لتبرير الجرائم البشعة التي ترتكبها في غزة, وفي كل الأراضي الفلسطينية". وأضاف: ".. الصراع مع عدو تقوده هذه الحكومة, وفي ظل موازين قوى هي هذه الموازين القائمة, لا يدار من خلال المنطق, ولا من خلال الاستمرار في حشد المبررات لتأكيد الحق, بل على أساس الممكن والمتاح..". إذن لا صورايخ القسام "الكرتونية" تفيد, ولا استخدام المنطق في المواجهة ينفع, ولا التذرع بالحق الأخلاقي في إدارة المعركة يجدي. الحل الوحيد هو الانبطاح, ومد العنق لسكين شارون.
يقول القلاب إننا إذا انظرنا إلى انتفاضة الأقصى " من زاوية الربح والخسارة بالنسبة للفلسطينيين ومشروعهم الوطني ومصالحهم العليا, فإننا سنجد أنها كانت كارثة ومصيبة, بل وأم المصائب". ينتقد الكاتب الفصائل الفلسطينية المعارضة لأنها تنظر بعين حولاء, ولا تجاري الواقع الدولي, كما يقول. ولو أن هذه الفصائل تدرك الواقع "لما بادرت إلى عسكرة انتفاضة الأقصى, ولما كثفت العمليات "الانتحارية", وغبار ما جرى في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 كان يغطي الكرة الأرضية كلها". ويضع القلاب اليمين الإسرائيلي المتطرف, وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في سلة واحدة, فيقول إنهما رغم تناقضهما فقد "التقيا عند نقطة واحدة, وهي إضعاف القيادة الفلسطينية الممثلة بعرفات وعزلها وذبح عملية السلام". ويضيف: "كان المفترض.. أن تبادر حركة "حماس" وعلى الفور, إلى إيقاف العمليات الانتحارية بمجرد وقوع كارثة الحادي عشر من سبتمبر.. لم تفعل حركة "حماس" هذا, ولم تدرك أنه إذا كانت عسكرة الانتفاضة جائزة قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001, فإنها لم تعد جائزة بعد أن وقع ما وقع, وبعد أن اتضح أن الخيارات الفلسطينية غدت محدودة جدا, فإما في خنادق الحرب على الإرهاب التي أعلنها العالم بقيادة الولايات المتحدة, وإما في خنادق الإرهاب الممثل بالقاعدة وأسامة بن لادن وبكل الدول والتنظيمات المؤيدة للعنف والمساندة له والمتورطة فيه". ينبثق من هذا الكلام أمران. الأول أن العمليات الاستشهادية في فلسطين هي عمليات إرهابية, ويجب التبرؤ منها والتخلي عنها. والثاني أن الإرهاب هو ما ترى الولايات المتحدة أنه إرهاب, وهو تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن. أما الجرائم الصهيونية واحتلال أراضي بلدان مستقلة بالقوة, وقتل وتشريد الآلاف من أهلها, فذلك لا يدخل في تصنيف الإرهاب. يدافع القلاب بشكل أوضح عن السياسة الأميركية عندما يقول إن الأميركيين ".. كان لديهم استعداد للاستمرار في اعتبار الفلسطينيين جزءا من الجبهة المناهضة للإرهاب, لو أن العمليات الانتحارية لم تتواصل بالشكل الذي تواصلت فيه, ولو أن الانتفاضة لم تتخذ هيئة العمليات الانتحارية". ويضيف متحدثا بلسان الشعب الفلسطيني كله: ".. غير صحيح على الإطلاق أن الشعب الفلسطيني.. راض عن هذه المسيرة ويؤيد العمليات "الانتحارية", ويساند تظاهرة صواريخ القسام..".
في مقال له منشور في 3 من كانون الأول (ديسمبر) تحدث القلاب عن اجتماع عقده الملك عبد الله الثاني ملك الأردن مع بعض وزرائه بعيد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة, شدد فيه على "ضرورة الاتصال بالقيادة الفلسطينية, وإبلاغها أن عليها أن تسيطر على الوضع, وألا تسمح بوقوع أية عمليات إرهابية - انتحارية, لأن العالم كله مقبل على مرحلة جديدة, سيكون الفرز فيها بين الإرهاب وضحاياه, ولأنه يجب أن يدرك الفلسطينيون بخاصة, والعرب والمسلمون بصورة عامة خطورة أن يصنفوا على المعسكر الإرهابي". ويضيف الكاتب: ".. لا بد من ممارسة ضغط حقيقي على "حماس", وعلى الدول التي تقف وراءها, لمنعها من القيام بأية عملية "انتحارية" في هذا الظرف الحساس..". ويختم بالقول: "إذا لم تتوقف العمليات "الانتحارية", حتى إن واصلت إسرائيل استفزازاتها, فإنه لن تكون هناك أي فرصة لاستئناف عملية السلام..". وهكذا فالقلاب يصنف العمليات الاستشهادية عمليا في خانة الإرهاب, ويسمي الإرهاب الإسرائيلي المنظم من تقتيل جماعي, واغتيالات للقادة, وهدم للبيوت فوق رؤوس ساكنيها, وتجريف للحقول, ومصادرة للأراضي, وبناء لجدار يلتهم الزرع والضرع, وتشريد وأسر وتعذيب, كل ذلك يسميه استفزازا فقط, ويطالب بتجاهل هذا "الاستفزاز", واستجداء السلام قبل أن يطير من أيدي الفلسطينيين والعرب بسبب جهلهم بالواقع, وعنفهم الأعمى!(18/475)
يعود القلاب للشأن العراقي, فيكتب في 22 من كانون الأول (ديسمبر) مقالا يؤكد فيه أن العراق لم يكن "بحاجة إلى حرق المراحل, والقفز من فوقها, والانتقال فورا من "ديكتاتورية" بغيضة, ونظام شمولي تواصل, على مراحله المختلفة, لأكثر من أربعين عاما, إلى انفلات ديموقراطي..". ويوضح قائلا: ".. جاءت جرعة الديموقراطية أكثر مما يتحمله بلد بقي محكوما بالحديد والنار لأكثر من أربعة عقود متلاحقة, فجاءت النتيجة على ما نراه من فوضى صاخبة, تضرب أطنابها في كل مكان". ويضيف الكاتب في إشارة إيجابية للاحتلال الأميركي: "ربما أراد المعنيون, وعلى رأسهم الأميركيون الذين جاؤوا تحت عنوان: "إسقاط النظام الديكتاتوري, واستبداله بديموقراطية على النمط الغربي", إقناع العراقيين والعرب والعالم كله, بأن الاحتلال ليس دائما بالضرورة ضد مصالح الشعوب, وأن تخليص الشعب العراقي من نظام شمولي وفردي وسفاح, واستبداله بنظام صناديق الاقتراع والحريات العامة, يسوغ رؤية الدبابات الأميركية في الشوارع العراقية. لقد أراد الأميركيون, ووافقتهم على ذلك معظم القوى والتنظيمات التي انخرطت في حرب التخلص من نظام صدام حسين, إقناع العراقيين بالفرق بين ما كانوا عليه, وبين خيارهم الجديد..".
في مقاله المنشور في 29 من كانون الأول (ديسمبر) والذي جاء بعنوان "عام فلسطين وعام القضية الفلسطينية", يدعو القلاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عدم الالتزام بثوابت القضية الفلسطينية قائلا: "لن يكون العام المقبل, وهو أول عام لأبي مازن في مواقع المسؤولية الأولى, سهلا ولا مريحا, لكنه عام واعد. وحتى يصبح هذا العام على غير ما كان عليه العام الماضي الذي هو ثالث ثلاث سنوات عجاف موجعة ومربكة, بل وقاتلة, فإن عليه أن لا يبقى أسيرا للذين يدفعونه إلى الخلف باسم الثوابت التي لم يفرط فيها عرفات". ويطالب الكاتب أبا مازن بما تطالبه به إسرائيل والولايات المتحدة: الوقوف ضد فصائل المقاومة, ونزع سلاحها, وتحقيق الأمن للإسرائيليين, وطمأنة قلوبهم. يقول: "حتى يمكن تجريد اليمين الإسرائيلي من كل أسلحته التي استخدمها على مدى الأعوام الثلاثة الماضية.. فإنه لا بد من إشعار الإسرائيليين بأن هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتوفير الأمن لهم, وأن هناك إمكانية فعلية وحقيقية لتصبح العمليات الانتحارية من الماضي, وأنه لن يكون هناك سلاح غير السلاح الرسمي الفلسطيني, ولن تكون هناك أي سلطة موازية للسلطة الفلسطينية".
مأمون فندي
انضم مأمون فندي إلى زميليه الراشد والربعي في انتقاد السلطة الفلسطينية لموقفها الغاضب من تقرير (تيري رود لارسن) عن الوضع الفلسطيني. كتب فندي في 19 من تموز (يوليو) مقالاً بعنوان "مصلحة عرفات قبل حرية فلسطين" انتقد فيه القيادة الفلسطينية, مؤكداً أنه "بات واجباً على العرب مجتمعين مواجهتها دونما مواربة, لأن الأمر في الأراضي المحتلة وصل بالفعل إلى درجة الانهيار". وأضاف: "يبدو أن مصلحة عرفات أهم من مصلحة الشعب الفلسطيني. هذا هو تفسيري للغضبة الفلسطينية على ممثل الأمين العام للأمم المتحدة.. كانت في تقرير (لارسن) مرافعة جادة ومقنعة أمام مجلس الأمن في رأيي (غير المتواضع) هي أفضل من كل مرافعات نبيل أبو ردينة وأبو عمار وجماعته من أهل فلسطين". ويتساءل فندي: ".. لماذا كل هذا الغضب العرفاتي على تقرير يصب في المصلحة الفلسطينية؟ الغضبة أساسها أن (لارسن) انتقد السلطة وأداءها, وطالبها بأشياء واضحة هي محل إجماع المجتمع الدولي الآن". ويواصل فندي سخريته المريرة من السلطة الفلسطينية, فيقول: ".. دعونا نواجه الحقائق: النقطة الأولى التي يجب أن يعرفها العرب, هي أن العالم كله الآن لا يثق بعرفات, باستثناء جماعة نبيل أبو ردينة الذين يفسرون العالم بالمقلوب لأبو عمار.. النقطة الثانية هي أن اللاعبين الأساسيين من العرب في الملعب الفلسطيني, وهما مصر والأردن, أيضاً لا يثقان بالرجل.. إذن من بقي مع أبو عمار بعد أن تركه الأميركان والأوروبيون والروس والمصريون والأردنيون؟ بقي معه (لارسن) ممثل كوفي أنان, وهاهم أبو عمار وناصر القدوة وأبو ردينة يخسرون الأمم المتحدة أيضاً". ويصل فندي إلى القول بأن "عرفات لم يعد يعنيه أي شيء سوى "حرية حركته هو".. حرية عرفات الشخص أهم من حرية الفلسطينيين.. ما يقوم به أبو عمار ليس إستراتيجية تحرير, وإنما مناورات بقاء, الأساس فيها شخصه, وليذهب الشعب الفلسطيني والمنطقة إلى الجحيم". ويختم قائلاً: ".. عرفات لا يريد أن يسجن فقط الشعب الفلسطيني معه, هو يريد أن يسجننا جميعاً".(18/476)
في التاسع من آب (أغسطس) كتب فندي داعياً إلى "قيام جماعة التفكير, بدلاً من جماعات التكفير", وقال: "إن التفكير هو الفريضة الغائبة, لا التكفير والتفجير". وأضاف: "لك أن تتخيل هذا العالم كغرفة واحدة, فيها ممثل عن كل الملل والنحل, ممثل عن كل جماعة عرقية ودينية, وبينهم ممثل عن العرب والمسلمين, ترى مع من يتحدث هذا العربي المسلم داخل هذه الغرفة؟". يتحدث فندي بسخرية عن العربي القابع في الغرفة, وقد عزم ألا يحدث أحداً؛ لأنه أعلن الحرب على الجميع. يقول: إن هذا العربي لن يتحدث مع ممثل أميركا, "لأنها دولة إمبريالية, يناصبها العداء, فهي التي تحتل العراق, وتساعد إسرائيل ضد الفلسطينيين, ويعلن عليها العربي المسلم جهادا كجهاد جماعة مقتدى الصدر في النجف, والزرقاوي في الفلوجة وبغداد.. أما إذا صنفنا من هم في الغرفة حسب دياناتهم, فبالطبع لن يتحدث العربي المسلم مع ممثل اليهود الذي يشتبك معه في حرب منذ خمسين عاما..". ويصل فندي إلى التأكيد بأن "العربي المسلم الموجود في الغرفة لن يتحدث مع أحد, ولن يحادثه أحد, لأنه تقريبا معاد للعالم كله..". ويسهب الكاتب ويطيل في بيان هذه "التخيلات", ويمضي متحدثا بلسان العرب والمسلمين: "لقد كفرنا الجميع, وفكرنا قليلا.. كفرنا العالم كله, ورأينا العالم كله بمثابة مؤامرة ضدنا, تخيلنا كل إنسان في العالم وكأنه يصحو في الصباح فقط ليحيك المؤامرات ضدنا..".
في 4 من تشرين الثاني (نوفمبر) كتب فندي مقالا بعنوان "فوز بوش: رسالة أميركا الجديدة" دعا فيه العرب إلى الانقياد لسياسة إدارة بوش في المنطقة. يقول: "فوز بوش هو رسالة أميركية إلى العالم. فحوى هذه الرسالة إلى العالم هو أن الأميركيين يصادقون على رؤية جورج بوش في مكافحة الإرهاب, هذه الرؤية القائمة على محاور ثلاثة: المحور الأول هو القضاء على الجماعات الإرهابية ذات البعد العالمي global r each, المحور الثاني هو ضرب الدول الراعية للإرهاب, أما المحور الثالث فهو تغيير البيئة والمناخ المولد للإرهاب, وفي هذا السياق, يبقى على الدول التي تصنفها أميركا رسميا على لائحة الدول الداعمة للإرهاب, أن تأخذ موضوع استراتيجيه الحرية الأمامية Fo r wa r d F r eedom, والتي تبنتها إدارة جورج بوش مؤخرا, وكذلك موضوع الشرق الأوسط الكبير على محمل الجد". ويوضح الكاتب مراده أكثر بالقول: "ويعني ذلك أن مسألة الإصلاح من الخارج للمنطقة العربية, والضغوط المكثفة تجاهها مسألة حقيقية, وعلى دول المنطقة أن تعيد صياغة سياساتها ومواقفها على هذا الأساس الجديد". يورد الكاتب مفردات الخطاب الأميركي كالإرهاب وحرب الأفكار والحرية والإصلاح والشرق الأوسط الكبير, بوصفها مسلمات وحقائق غير قابلة للنقض, داعيا العرب إلى تبنيها والاستجابة لها, قبل أن يقبلوا بها رغما عن أنوفهم.
في مقال له منشور في 15 من تشرين الثاني (نوفمبر) تحدث فندي عما وصفه "نحو عرفات", ويقصد علاقة علم النحو بحياة الرئيس الراحل ياسر عرفات. يتسم المقال بالتهكم أكثر من اتسامه بالوصف, وينسب كل مسيرة عرفات إلى أفعال النحو وقواعده وحروفه. مثلا يشير في مقاله إلى أن عرفات مات في باريس, ومات كما يقول فعل "معتل الوسط, ويسمى أجوف, مات في المنفى بعد المقاطعة, وأبو عمار لم يكن غريبا على حروف النفي, من لاءات الخرطوم إلى نفيه في الأردن, إلى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود, ومن نفيه من لبنان إلى تونس عام 1982.. حروف علة, وحروف نفي, وأفعال مقاربة, تلك كانت حياة عرفات..". ويختم مقاله الطويل بالقول إن عرفات كان "جامدا أحيانا, وكان معتلا في آخر حياته, وكان ناقصا في بعض أفعاله..".
في 6 من كانون الأول (ديسمبر) كنب فندي مقالا بعنوان: "إمارة حماس" زعم فيه أن "مقاطعة حماس للانتخابات الفلسطينية تقع ضمن خطة شارون لتفخيخ الوضع الفلسطيني, وإحلال إمارة حماس في غزة محل الدولة الفلسطينية". وينتقل الكاتب فجأة من غزة إلى بغداد, فيربط بين حماس وهيئة علماء المسلمين العراقية قائلا: "مقاطعة حماس للانتخابات الفلسطينية, هي المعادل الموضوعي لمقاطعة هيئة علماء المسلمين والسنة في العراق للانتخابات العراقية". ويضيف: "وفي كلتا الحالتين, يخدم الإسلاميون الاحتلال عمليا, بينما يقاومونه على الفضائيات, وبرمزيات لا تسمن ولا تغني من جوع..". موقف فندي المتحامل على الإسلاميين جعله يصنفهم خدما للاحتلال, بل ويتهمهم بالعداء الفطري للديموقراطية, وهي التهمة عينها التي تلصقها دوائر غربية كثيرة بالإسلاميين. يقول ساخرا: "حماس لديها حساسية تجاه الانتخابات, ومعها كثير من إسلاميي المنطقة, كحساسية مرضى الانفلونزا للسمك والبيض..".(18/477)
بعد ذلك يبدأ الكاتب في صياغة فكرة المقال, وهي في جوهرها تحريضية ضد حماس, والتحذير من هيمنتها على الوضع في غزة, بعد الانسحاب الإسرائيلي منها. يسرد فندي عددا من المظاهر الدالة على نفوذ حماس في القطاع, كالأعلام الخضراء, ومسيرات تشييع الجنائز, وغيرها. وقال إن "هذه السيطرة من قبل حماس في غزة, مرشحة للزيادة, وربما كبديل لسلطة الاحتلال, في غياب دور للأمن الفلسطيني". ويواصل فندي تحريضه الجميع على حماس, مذكرا مصرا بأن حماس حركة إسلامية, وامتداد طبيعي لحركة الإخوان المسلمين. يقول: ".. ستملأ حماس الفراغ الذي يتركه الاحتلال من خلال كتائب القسام, كمقابل للجيش النظامي, جيش حماس السري لضبط الأمن كبديل عن دحلان وجماعته. والتنظيم السري لحماس, هو أقرب إلى التنظيم السري الذي ابتدعته الحركة الأم, وهي حركة الإخوان المسلمين في مصر, وأعتقد أنه واضح لكل من درس ألف باء الحركات الإسلامية أن حماس هي جماعة الإخوان المسلمين - فر ع فلسطين - أو فرع غزة, لأنها تشبهها تماما في الخريطة التنظيمية, وفي البناء الهيكلي, وتتبع نفس التوجه الاستراتيجي". ويمضي فندي محرضا العالم كله على حماس من خلال مقارنتها بحركة طالبان, "وبنفس الطريقة التي حاولت بها حركة الإخوان المسلمين السيطرة على مقاليد الحكم في الجزائر, أو في تونس ( جبهة الإنقاذ هي التي كادت أن تصل إلى الحكم في الجزائر عبر صناديق الاقتراع, وليس الإخوان, والذين سيطروا في النهاية هم العسكر, وهم الذين أجهضوا خيار الشعب), تحاول حماس أيضا السيطرة على النضال الفلسطيني, وإخراج أي قوى أخرى خارج الحلبة, ومن هنا, ومتى ما سيطرت حماس على غزة, فنحن بصدد قيام إمارة حماس في غزة, على غرار إمارة طالبان في أفغانستان..".
ويردف الكاتب قائلا: ".. توحي كل المؤشرات, من الجيش إلى الإعلام إلى الخطاب السياسي للحركة, أنها تتبع أسلوب طالبان في السيطرة على الوضع الفلسطيني برمته, وإزاحة السلطة..". بعد رسم هذه الصورة المثيرة للضحك, يتساءل فندي: "ماذا يعني قيام إمارة حماس في غزة بالنسبة للمنطقة, وبالنسبة لإسرائيل؟". يحاول الكاتب مجددا إثارة حفيظة القيادة المصرية, فيحذر من أن "المتضرر الأول من إمارة حماس ليس إسرائيل, وإنما مصر كجوار لهذه الإمارة الجديدة, بنفس الطريقة التي لم تكن طالبان فيها خطرا على الهند, بل كانت خطرا على باكستان..". ويضيف: "وإمارة حماس لن تقبل بالسلام كما تتبناه خارطة الطريق, فأي دارس لحالة حماس يعرف أنها لا تقبل إلا بفلسطين كلها.. أمل حماس هو تحرير الأرض من البحر إلى النهر. إمارة حماس هي هدية شارون للعالم العربي وهو يخرج من قطاع غزة".
ينتقد فندي المؤيدين لحماس في العالم العربي قائلا إن كثيرين "ممن هم خارج حدود فلسطين يؤيدون سيطرة حماس على الشارع الفلسطيني, ويصفقون لقيام إمارة حماس. ودائما ما أسأل نفسي: كيف يفكر هؤلاء؟". يهتدي فندي إلى تفسيرين لهذا السلوك الشاذ في نظره, الأول أن "هناك الكثير ممن هم في سن الأربعين, وأكبر ممن فاتهم قطار تحزيم أنفسهم بالمتفجرات, قد تضاءلت فرصتهم في أن يصبحوا انتحاريين, ولذلك نجدهم وهم في سن اليأس, يصفقون لأولاد الناس وهم يفجرون أنفسهم". التفسير الثاني أن كثيرين "ممن يحاولون ادعاء الثورية في أرذل العمر, مثل الرجال الذين تصيبهم أزمة منتصف العمر, فتجد بعضهم في سيارة حمراء جالسا إلى جوار فتاة شقراء في عمر بناته. الثوريون في آخر العمر وأرذله هم فئة قريبة من فئة مراهقة العواجيز والتصابي..". ويختم فندي تحليله الفذ بالقول إن قيام "إمارة حماس يعني شيئا واحدا مطابقا لمبدأ شارون في الانسحاب: غزة أولا وأخيرا.. إمارة حماس في غزة هي بداية تدخل خارجي, مثلما هي بداية حرب أهلية فلسطينية".
خاتمة
هناك عدة قواسم يشترك فيها كتاب صحيفة الشرق الأوسط, الذين تمت دراستهم هنا. من أبرز هذه القواسم الهجوم على المقاومة الفلسطينية, سيما التيار الإسلامي في هذه المقاومة. كل الكتاب دعوا صراحة إلى إخضاع فصائل المقاومة الفلسطينية, وقاموا بالتحريض عليها, وقد سفه القلاب استخدام صورايخ القسام لمهاجمة الإسرائيليين, وربط السلاح الاستشهادي بالإرهاب صراحة, بينما استخدم في المقابل وصف "الاستفزاز" للإشارة إلى العدوان الإسرائيلي. الراشد والقلاب انتقدا "عسكرة الانتفاضة", والجميع وصف العمليات الاستشهادية بالانتحارية, وروجوا المصطلحات الأميركية الرسمية المتعلقة بالمشهد الفلسطيني. لقد وضع الكتاب كلهم المقاومة الفلسطينية الإسلامية عمليا في خانة الإرهاب والتطرف.(18/478)
في ما يتعلق بالموقف من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات, فقد اشترك الجميع في توجيه سهام النقد لسياساته ومواقفه. الربعي طالبه بالاستقالة, والراشد دعا العرب إلى دعم القيادة التي خلفته, بدعوى انتفاء موانع مقاطعة القيادة الفلسطينية بعد رحيله. وقد هاجم ثلاثة من الكتاب, وهم الراشد والربعي وفندي موقف عرفات ورموز السلطة من تيري رود لارسن مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط, وأيدوا ما جاء في تقرير لارسن عن وضع السلطة وأدائها.
الراشد والربعي هاجما الشيخ يوسف القرضاوي, لمواقفه الداعية إلى المقاومة في فلسطين والعراق, ووصفاه بالتطرف. كما رددا تقريبا التهم الأميركية الموجهة لسوريا, وحثاها على تفادي الاصطدام مع معطيات الواقع الجديد الذي فرضه الاحتلال الأميركي للعراق.
الراشد والربعي أيضا دعيا إلى دعم الحكومة العراقية المعينة من قبل الاحتلال. وبينما أثنى الراشد على ما سببه الاحتلال الأميركي من "انفتاح كامل" على الدين, أشاد القلاب "بديموقراطية" الاحتلال, لكنه حذر من جرعاتها الزائدة التي ربما غص بها الشعب العراقي, وناء بحملها.
كان هناك ربط بين المقاومة العراقية والإرهاب في خطاب الكتاب الأربعة, وقد انتقد الجميع حركة مقتدى الصدر, ووقف الراشد والربعي في صف الحكومة العراقية ضد هذه الحركة. ووقف الراشد والربعي تحديدا ضد مقاومي مدينة الفلوجة, ووصماهم بالتطرف. كما انتقدا (وشاركهما فندي) العرب السنة في العراق, لمقاومتهم الأميركيين, ورفضهم المشاركة في الانتخابات. وتعرض العلماء والدعاة السعوديون الذين أفتوا بوجوب نصرة أهل الفلوجة لانتقاد لاذع من قبل الربعي الذي وصفهم بالتحريض على العنف, والتغرير بالشباب.
اتسم خطاب الكتاب الأربعة بالتحريض والتهكم وضيق الصدر بالمختلف والآخر, واتهامه بالتطرف والإرهاب, والدعوة إلى إقصائه وتهميشه, واحتكار الحقيقة المطلقة, وتسفيه ثقافة المقاومة بوصفها تقافة للموت والعدمية والانتحار, والتنكر للهوية الإسلامية التي تلهب جذوة هذه المقاومة, وترسم خطها المستقل. يصدق على هؤلاء الكتاب, وهم أبرز كتاب الشرق الأوسط, وصف "كتاب المارينز" الذين يكتبون وفق إيقاع البنتاغون, ويتحدثون تقريبا بلغة واحدة, في صحيفة تزعم احتفالها بالتنوع, وتمثيل العرب كافة. هؤلاء الليبراليون الجدد لا ينطلقون في كتاباتهم من روح وطنية ولا قومية ولا إسلامية بالطبع, بل يصدرون عن الهوى الأميركي والصهيوني, وهذا ما يجعلهم دائما في الخندق المعادي للمقاومة مفهوما وثقافة وممارسة.
بهذه النتيجة تجيب هذه الورقة عن سؤالها اليتيم: هل أعمدة الرأي في صحيفة الشرق الأوسط تقف ضد نهج المقاومة وثقافتها في فلسطين والعراق؟ الجواب كما يكشف بجلاء طرح الكتاب الأربعة: نعم.
المصادر: أعداد من جريدة الشرق الأوسط, وأشير إلى تاريخ كل عدد داخل النص
==============(18/479)
(18/480)
غفلنا عن الكراع فطمعوا في الذراع !!!
حطين
ما أصدق هذا المثل على واقعنا اليوم .. فتنازلاتنا غير منتهية .. والمطلوب منا أن نركع .. بل وننبطح لهذه اللعينة أمريكا فمن ديمقراطيتها المقيتة المتمثلة باحتلال بلاد المسلمين بدعاوى أوهى من بيت العنكبوت ومعاملتها للأسرى المنطلقة من عقلية رعاة البقر السادية إلى تلك الأحذية الأمريكية الكثيرة في طول البلاد الإسلامية وعرضها من الخونة إلى إقحام نفسها في أخص خصوصياتنا " التعليم و المناهج ، الجمعيات الخيرية ، المراكز الصيفية ، الحلقات ، المرأة وقضاياها القرآن بنكهة أمريكية ، حقوق الإنسان ..."
وآخر هذه المهازل وليس لهم آخر حول اللغة العربية ، وحتى لا أطيل على قارئ هذه السطور المقال - فأنا على يقين أن به من الحنق والغيظ ما بي ..
وأن الضغط أوشك أن يولد الانفجار وعسى أن يكون قريبا - ..
أترككم مع هذا المقال والذي نُشر في مجلة الدعوة .. العدد 1955
ما أشبه الليلة بالبارحة !!
د. محمد سالم
عندما بدأت هجمة الاستعمار الغربي على الشرق الإسلامي مع بداية القرن الثامن عشر ،
بعد أن ضعف شأن العرب والمسلمين ..
أراد المستعمرون هدم كل عوامل تماسك العرب المسلمين وكان أهم هذه العوامل وحدة الدين واللغة ..
إلا أنهم أخفقوا في هدم وحدة الدين عند المسلمين رغم محاولاتهم المتتابعة وبمختلف الوسائل والإمكانيات..
أما عن محاولاتهم لهدم وحدة اللغة فقد ظهرت الدعوة في أواخر عام 1881م إلى كتابة العلوم باللغة العامية
التي يتكلمها الناس في حياتهم العامة ..
وفي عام 1902م ألف القاضي " ولمور " أحد القضاة الإنجليز في مصر كتاباً أسماه " لغة القاهرة"
اقترح فيه كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية ..
ولكن سرعان ما انتبه الناس لما جاء في الكتاب بعدما أشادت به مجلة " المقتطف " وراحت تروج لما جاء فيه ،
وردت الصحف المصرية على ذلك مشيرة إلى موضع الخطر من هذه الدعوة التي لا تقصد إلا محاربة الإسلام في لغته ..
وراح شاعر النيل حافظ إبراهيم يكتب قصيدته المشهورة التي يقول فيها متحدثا بلسان العربية :
رجعتُ لنفسي فاتهمتُ حصاتي وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمتُ فلم أجزع لقول عداتي
ولدتُ ولمّا لم أجد لعرائسي رجالا وأكفاءً وأدتُ بناتي
وسعتُ كتاب الله لفظا وغايةً وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ
فكيف أضيقُ اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعاتِ
أيطربكم من جانب الغرب ناعبٌ ينادي بوأدي في ربيع حياتي
ولو تزجرون الطير يوما عرفتم بما تحته من عثرة وشتاتِ
أيهجرني قومي - عفا الله عنهم - إلى لغة لم تتصل برواةِ
سرت لوثةُ الإفرنج فيها كما سرى لعاب الأفاعي في مسيل فراتِ
ولاشك من أن حافظ إبراهيم نجح في التأثير على المستمع حين تحدث على لسان اللغة مصورا حالها وما وصل إليه مآبها، وما دبر لها من مؤامرات تؤدي إلى قتلها .
كذلك نجح في مناداة اللغة لأبنائها كي يتمسكوا بها ، وفي إقناعهم بقدرتها على الوفاء بكل متطلبات العصر ، وهي التي وسعت كتاب الله .
وفي عام 1926م دعا المهندس الانجليزي " وليم ولكوكس " إلى هجر اللغة العربية مشيرا إلى تركيا التي استبدلت بالحروف العربية الحروف اللاتينية بعد انهيار الخلافة العثمانية..
والغريب أن أحد أعضاء مجمع اللغة العربية في مصر التقط الخيط ، وراح يقترح في سنة 1943م
كتابة العربية بالحروف اللاتينية ..
ويتضح من ذلك أن المستعمرين منذ زمن وجدوا من هدم اللغة العربية هدماً لإحدى الدعائم المهمة من تماسك الشعوب العربية..وتمسكهم بدينهم الإسلامي، وأن من سار في ركب المستعمر كان ذلك تملقاً للمستعمر لمصلحة سياسية، وحقداً على كتاب الله ودينه..
وبعد أن سكتت تلك الدعوة زمنا ..
طالعتنا مؤخراً الإدارة الأمريكية بإعداد مشروع هدفه تغيير شكل حروف اللغة العربية واستبدال اللغة اللاتينية بها تحت مسمى تحديث الثقافة العربية.. واعتبار هذا المشروع جزءاً من خطة الإصلاح في المنطقة العربية..
ضمن إطار مشروع " الشرق الأوسط الكبير " ..
مقدمو المشروع - وهم عدد من الخبراء المختصين - يقولون :
إن الهدف من هذا المشروع هو تحقيق تفاهم أفضل، ولغة مشتركة بين اللغة العربية وغيرها من اللغات الأخرى.
ويرى المشروع الأمريكي أن " المشكلة ليست في أن يقرأ غير العربي النصوص والأفكار والكتابات العربية باللغة اللاتينية
ولكن الأساس في هذا المشروع هو أن يتحدث العرب هذه اللغة الجديدة ويطبقونها عملياً في كل كتاباتهم ..
حيث إن الهدف الرئيس من هذا المشروع هو أن يتم تطوير دراسة مادة اللغة العربية في كل المدارس العربية والإسلامية..
وأن يتم إلغاء المناهج القائمة حالياً في هذه المدارس التي تعتمد على دراسة قواعد اللغة والصور الجمالية وإبداعاتها والكلمات والنصوص المتشابهة مثل الشعر القديم الذي ينتهي بحروف واحدة ..
وأحياناً فإن مناهج التعليم لهذه اللغة تتضمن توجيهات ومبادئ دينية قد لا تتفق على بناء التواصل مع الآخرين من غير العرب.. " !!
فما أشبه الليلة بالبارحة ..!(18/481)
ويبدو أن الأصدقاء الأمريكان لا يعلمون أن العربية تتميز عن اللاتينية بعنصر جوهري يدعها في مأمن من أن يجري عليها ما جرى على تلك ..
وذلك أن العربية لغة دين سماوي ذي خطر .. وبها كُتبت أصول هذا الدين تشريعاً وحكمة وثقافة..
وعلى رأس هذه الأصول : القرآن مُعْتمد المسلم ومرجعه في شؤونه الدينية وعقيدته الروحية ..
وقد قُدِّس نص القرآن كما أُنزل بالعربية الفصحى، فبقيت ملازمة له، تكاد تُقدَّس معه نصوصها..
ولمَّا كانت العقائد الدينية راسخة في القلوب، على الرغم مما يقال من أن تطور المدنية سيقضي على تأثير العقيدة، فإن العربية باقية بقاء الإسلام.. ...
___________
لقد أوكل الله لأهل الكتاب بحفظ كتبهم فضاعت .. وتكفل بحفظ كتابه فهو محفوظ بإذن الله ..
" إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ "
ولكن ما هو دور أبناء العربية تجاه هذه الحملة على العربية لأجل فصلنا عن مصادر التشريع والحضارة والتاريخ ؟!!
http://www.anashed.net/audio/shakwa/tahon_al_7yah. r m
______________________
حول القرآن الأمريكي الجديد !!!
بقلم د. صلاح عبد الفتاح الخالدي
صار كثير من المسلمين المتابعين على علم بالقرآن الأمريكي الجديد «الفرقان الحق»، الذي ألفته لجنة أمريكية إسرائيلية، واعتمده أصحاب القرار في أمريكا، والذي يراد له أن يكون هو القرآن المعتمد في الدول العربية والإسلامية، في القرن الحادي والعشرين، ليحل محل القرآن الكريم، الذي أنزله الله الحكيم!
وقد صدر الجزء الأول من هذا القرآن الأمريكي في مطلع هذا العالم 2004 وينوون إصدار احد عشر جزءاً تباعاً، أي أن «الفرقان الحق» -كما أسموه- مكون من اثني عشر جزءاً .. وسيكتمل تأليفه خلال أربع سنوات، كما يخططون..
وهم يحاربون به القرآن الكريم، ويهاجمون سوره وآياته، وأحكامه ومبادئه وتشريعاته وتوجيهاته وأفكاره وحقائقه.. صدر الجزء الأول من «الفرقان الحق» في مطلع هذا العالم، عن دارين للنشر في أمريكا هما: واين برس، وأوميجا، ويباع في المكتبات المختلفة هناك كما يباع على الانترنت في موقع «أمازون»..
والكتاب مكون من (366) صفحة مقاس 15*20سم، وعدد سوره سبع وسبعون سورة ومن أسماء تلك السور: الفاتحة، المحبة، المسيح، الثالوث، المارقين، الصلب، الزنا، الماكرين، الرعاة، الإنجيل، الأساطير، الكافرين، التنزيل، التحريف، الجنة، الأضحى، العبس، الشهيد..!!
والكتاب مطبوع باللغة العربية واللغة الإنجليزية، وكتب مقدمته اثنان من أعضاء اللجنة المكلفة بتأليفه، رمز لهما باسمي «الصفي والمهدي» والذي سمى نفسه المهدي هو من اصل عربي فلسطيني، واسمه «الدكتور أنيس سوروس» وصرح باسمه الحقيقي في موقع «أمازون» على الانترنت. بعد يومين من أحداث (11 سبتمبر 2001) ألقى أنيس سوروس محاضرة حاقدة في جامعة «هيوستن» دعا فيها إلى إبادة المسلمين، لأن الإسلام دين إرهاب وسفك دماء وان القرآن هو المصدر الأول للإرهاب، وانه يجب القضاء على هذا القرآن للقضاء على الإرهاب! واقترح على الحكومة الأمريكية طرد أي مسلم من أمريكا، وتجميع كل المسلمين في منطقة الشرق الأوسط، ثم إبادتهم بالقنابل النووية، وطلب الدعاء إلى الله كل ليلة سبت لإزالة الإسلام والقرآن..وكانت محاضرته في الجامعة في غاية العنصرية والحقد والشتم، مما اضطر رئيس الجامعة إلى الاعتذار عنها في اليوم التالي!!
وتقوم المنظمات اليهودية الكثيرة في أمريكا بالترويج للفرقان الحق، ونشره وتوزيعه على مختلف المراكز هناك، وتوزيعه على مراكز مختارة منتقاة في العالم العربي والإسلامي، وإعطائه لشخصيات مختارة في هذا العالم، لكنهم لا يريدون نشره على مستوى واسع في العالم العربي والإسلامي في هذه المرحلة على الأقل!
وقد ذكر وليد رباح رئيس تحرير صوت العروبة، التي تصدر في أمريكا، حادثة جرت له في مطلع هذا العام، تتعلق بنشر ذلك «الفرقان الحق» حيث اتصل به أمريكي عرف على نفسه بأنه «القسيس الياهو»(!!)
- والياهو اسم يهودي وليس نصرانياً- وسلمه نسخة من «الفرقان الحق» وطلب منه نشر سوره على صفحات جريدته «صوت العروبة» مقابل مليونين من الدولارات، وهو مبلغ كبير قدمه رشوة له!! فأعلن وليد رباح موافقته على النشر بشرط أن يوافق القسيس الياهو على الاشتراك في مناظرة حول القرآن و«الفرقان الحق» الذي يروجه. يكون هو الطرف الأول فيها، ويكون الطرف الثاني أي شيخ يختاره هو من المشايخ العاملين مع الجالية العربية والإسلامية في أمريكا!! فانسحب الياهو غاضباً حسيراً لأنه يعلم نتيجة المناظرة مسبقاً!!..
وقد خاطبت اللجنة الأمريكية الإسرائيلية بالفرقان الحق الذي ألفته العرب والمسلمين، وقالت في مقدمته: «إلى الأمة العربية خاصة، والى العالم الإسلامي عامة: سلام لكم ورحمة من الله القادر على كل شيء. يوجد في أعماق النفس البشرية أشواق للإيمان الخالص. و السلام الداخلي، والحرية الروحية، والحياة الأبدية.. وأننا نثق بالإله الواحد الأوحد بأن القراء والمستمعين سيجدون الطريق لتلك الأشواق من خلال «الفرقان الحق»!!.
=============(18/482)
(18/483)
قانون الأخلاق
زهير سالم
من أين تنبع الأخلاق ؟
سؤال قديم متجدد طرحه الفلاسفة والمفكرون وعلماء السياسة والاجتماع. أجاب عليه الرسل عليهم السلام، واختلف فيه البشر ومايزالون..
في الرؤية (الحداثية) المنبتة عن الجذور الإنسانية المهومة في آفاق الرغبة المنفلتة تنبع الأخلاق من (المجتمع).
فلكل مجتمع أن يصوغ قيمه وقوانينه الأخلاقية، ثم يفرضها على أبنائه، وعلى الآخرين إن كان يمتلك القوة المادية التي تخوله ذلك.
فمهما قلنا إن الحرب على أفغانستان والعراق كانت بوشية، ومهما حاولنا أن نحيد الإنسان الأمريكي عن معادلة إمبراطورية الشر في سعيها لفرض قيمها على الشعوب الأخرى، ومنها شعوبنا في إطار مشروع (الشرق الأوسط الكبير) ؛ فإن هذه الحروب قد نالت موافقة الكونغرس الأمريكي، ومجلس العموم البريطاني على حد سواء. وهي حسب المنطوق الديموقراطي الرأسمالي، بوجهيها (العنيف) و(الديبلوماسي) حرب أخلاقية خيرة تعبر عن رؤية أكثرية متحضرة ومقتدرة.
المثل الذي ضربناه في هذا السياق مثل صارخ فاقع، ولكنه في الوقت نفسه صالح لبيان خطورة ما يطرحه البعض حول تحطيم كل الثوابت في حياة الأمم، والجري دائماً وراء رأي الأكثرية واعتباره المرجعية الأولى والأخيرة.. قد تشرب الأكثرية يوماً من نهر الجنون، وقد تصاب بعمى الألوان، وقد تغشى بصيرتها الرغبة أو الغضب ؛ وهنا تبرز الثوابت كعاصم ومستند تضع خطاً أحمر أمام غرور الإنسان واندفاعه وصلفه..
الشرائع الربانية أكدت على أن هذه الخطوط الحمراء تنبع من الشريعة نفسها (الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه..). والفلاسفة والمفكرون تحدثوا عن القانون الطبيعي (قانون الفطرة) في أصل الخلق. القانون الذي يجعل قطك حين تطعمه يأكل لقمته بجانبك، ويجعله حين يخطف تلك اللقمة من بين يديك يمضي بها بعيداً.
في شرعة الإسلام أخذت كل المقاييس أبعادها. فسبقت الشريعة إلى تحديد الحسن والقبيح والخير والشر.. وحين تختلط الأمور على الفرد في بعض الأحايين، رد الإنسان إلى الحقيقة الفطرية تعزز الحقيقة الشرعية: (استفت قلبك.. وإن أفتوك وأفتوك) وقال له ثانية (والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس).
ثم أعطى الجماعة (الأكثرية) دورها في تحديد بعض المساحات الخيرة والشريرة.. فسمى ما تعارف عليه الناس وألفوه (معروفاً) وما أعرضوا عنه واستهجنوه (منكراً).
حقيقة أن الضمير الفطري ضمير رباني، وليس ضميراً اجتماعياً فقط هي تلك التي يغالط فيها المغالطون، وهي ركيزة أساس في التفريق بين مجتمعات الرغبة والهوى ومجتمعات السداد والرشاد.
===============(18/484)
(18/485)
مبادرة الشرق الأوسط الكبير
• الرئيس الأميركي بوش يطرح مبادرة جديدة أطلق عليها مبادرة الشرق الأوسط الكبير، ويريد خلالها إجراء تعديلات جوهرية في منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، ويريد إشراك دول الغرب معه في المساعدة على تحقيق أطماعه في صياغة الشرق الأوسط إذا استطاع ذلك، أو بقي في السلطة لرئاسة ثانية.
• قبل بوش الإبن طرح بوش الأب (النظام العالمي الجديد) وفي أيام كلنتون ظهر مصطلح (العولمة) وفي الفترة نفسها نزل إلى السوق مصطلح (الشرق أوسطية) التي تضم إسرائيل في مشاريع الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية، وكتبت الأقلام وأسهبت في كل هذه المصطلحات التي دخلت بازار السياسة، والتهى بها الكثيرون من أصحاب الأقلام المخلصة أو المأجورة، ولن تتوقف جعبة الأميركيين عن طرح الألغاز والأُحجيات التي تجعلنا ننشغل فيها بعض الوقت ريثما (يفبركون) أو يصنّعون مصطلحاً جديداً.
• سوف يرى الناس في الأشهر القادمة هجمة أميركية وعربية تجاه المرأة وإخراجها من بيتها (المقصود المرأة المسلمة)، وسوف يزداد البكاء عليها وعلى حقوقها، وسوف تؤلف الكتب، وتعقد عشرات المؤتمرات، وسوف يتصدر هذه المؤتمرات والندوات بعض النساء المتأمركات لأن صورة المسرح الأميركية يلزمها تطعيم الصورة ببعض النساء حتى يقولوا (للسيد بوش) ها نحن عند حسن ظنك بنا، وهذا نوع من الانسلاخ والانسحاق أمام الجلاد لم يسبق لها مثيل.
• سوف يرى الناس أيضاً مزيداً من الذين يتغنون بالديمقراطية، ويتباكون على الأقطار التي لم تسارع في ركوب القطار الأميركي المليء بصناديق الديمقراطية المعلبة الجاهزة على الطريقة الأميركية، وسينافق المنافقون، وسوف يتدفق سيل الانتهازيين في جرأته على الباطل، وسيصنّف الناس على الطريقة الأميركية: «من ليس معها فهو ضدها». وسوف يطير بعض الجبناء إلى واشنطن والبيت الأبيض ليقولوا لساكنيه { نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } . لكنهم سيرتدون خائبين كما هي عاقبة الخونة دائماً وأبداً
===============(18/486)
(18/487)
مشروع الشرق الأوسط الكبير!
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
ضجّت وسائل الإعلام كلُّها بالمشروع الذي طرحه بوش، والذي يدعو فيه إلى تغيير واقع هذه المنطقة أو إلى عملية إصلاح لها، المنطقة التي غيّر بوش اسمها، فأسماها " الشرق الأوسط الكبير "، ووضع لها حدوداً تمتدُّ من المغرب الإسلامي إلى الشرق الإسلامي.
منذ العصور القديمة وهذه المنطقة ساحة صراع كبير بين مختلف الأمم والشعوب. منذ عهد السوماريين والبابليين، وعهد اليونان والرومان، وعهد الفرس، وعهد الفراعنة، أمم كثيرة كانت تزحف عليها من الشرق أو الغرب. لقد كان موقعها الخطير أحد أسباب هذا الصراع، فهي تملك منافذ للشرق والغرب والشمال والجنوب، منافذ للأطماع كلها والعدوان، أو منافذ للخير والحق.
وعلى سنن لله ثابتة ماضية، تظهر أمة وتقوى، ثمَّ تضعف وتغيب ويأتي غيرها، فللأمم آجال محدّدة على قضاء لله نافذ وقدر غالب وحكمة بالغة كآجال الإنسان. وكل دولة يمتدُّ طمعها إذا قويت واشتدَّ بأسها، ثمَّ تسعى إلى صورة من صور " العولمة " لتخضع أوسع مساحة من الأرض لنفوذها وسيطرتها ومصالحها:
( ولكلّ أمةٍ أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون )[ الأعراف : 34 ]
ومع ثبات هذه السنَّة الربَّانيّة ووضوحها، إلا أنَّ الناس لم تعتبرْ، وظلّت الأطماع والجري اللاهث وراءها هو الدافع إلى الامتداد، دون أن يأخذ الناس عبرة من الأحداث، أو من رسالة الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله في كلّ أمة ومع كل عصر برسالة الإسلام، بالدين الحقِّ الواحد. الدين الذي خُتم برسالة صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي أُنزل عليه وحياً من عند الله:
( ولقد بعثنا في كلّ أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم مَنْ هدى الله ومنهم مَنْ حقّتْ عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين )[ النحل :36 ]
حتى جاءت الرسالة الخاتمة للإسلام، دعوة ربَّانيّة للعالمين، للناس كافَّة، تحمل المنهج المتكامل لتُصلح به حياة البشرية كلها، تحمل المنهج الحقّ للإصلاح كله، لإصلاح الفرد والبيت والمجتمع والأمة والبشرية كلها، تحمل المنهج الحقّ لكلّ زمان ومكان، ولمعالجة كلِّ مشكلة صغيرة أو كبيرة:
(ما كان محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتَمَ النبييّن وكان الله بكلِّ شيءٍ عليما )[ الأحزاب : 40 ]
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مصدِّقاً لما بين يديه من الكتاب ومُهَيْمِناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبعْ أهواءهم عمَّا جاءك من الحقِّ لكلٍّ جعلْنا منكم شِرْعةً ومِنْهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدةً ولكن ليَبْلُوَكُمْ في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون )[ المائدة : 48 ]
وانطلق الإسلام برسالته الخاتمة من مكة المكرّمة والمدينة المنوّرة، ليملأ الأرض نوراً، وليُخْرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد. وامتدّ الإسلام بقدر الله حتى شمل الأندلس غرباً والصين شرقاً. وأُلْجمتْ كثير من الشهوات والمطامع وأهواء الدنيا. ثم نهضت قوى كثيرة تصدُّ عن سبيل الله، وتُصارع دعوة الإسلام تحت شعارات مختلفة ورايات متعددة، ابتلاء منه سبحانه وتعالى وتمحيصاً لخلقه كلهم، فرداً فرداً وشعباً شعباً.
وإذا كان سلطان الإسلام قد تراجع اليوم، فإن الدعوة الإسلامية مازالت ماضية في الأرض، لتكون حُجّة للصادقين وحُجّة على المستكبرين. وامتدَّ الصراع قروناً طويلة، وما درى كثير ممن يحاربون الإسلام أنَّ هذا الدين هو دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، ودين موسى ودين عيسى، عليهم السلام جميعاً، دين واحد وربٌّ واحد لا شريك له.
وإذا كان هنالك من بدَّل وغيَّر في دعوة الله، وأغرته شعارات القوة المندفعة من ديمقراطية وعلمانيّة وغيرهما، فما زال في الأرض قلوب صدق إيمانُها وصفا توحيدها، وأبتْ أن تحرّف دين الله أو تبدّل فيه أو تتبع ما تشابه منه أو تفسد التأويل.
ولحكمة أرادها الله جعل في الغرب قوة مسيطرة، وعلى رأسها أمريكا التي بلغت من القوة المادية والتطور العلمي ونموّ العتاد والسلاح العسكري شأناً نفخ فيها الكبر والغرور حتى استكبرتْ وطغتْ. ولحكمة أرادها الله كان المسلمون اليوم في أضعف حالاتهم التي مرَّوا بها في التاريخ، في تمزَّق، وقلة عدة وسلاح، وتخلّف علمي وصناعي، لا عذر لهم به، ولكنه بما كسبت أيديهم. ودفع هذا الحال كثيراً من المسلمين إلى التنازل عن ديار ومبادئ في مسلسل طويل، حتى فجع المسلمون بهزائم متتالية وهوانٍ كبير.
في هذه اللحظات تطلع أمريكا منتفخة الأوداج كبراً وغروراً لتتحدث بكل جرأة عن ضرورة إصلاح منطقة " الشرق الأوسط الكبير ". مصطلح جديد يخفي الحقيقة والاسم الصحيح " العالم الإسلامي ". ويريد بوش أن يجري إصلاحاً في هذه المنطقة ليَهبها الديمقراطية والحريّة والعدالة حسب ادعاءاتهم!(18/488)
ليست هذه أول مرة يُطْرح للعالم الإسلامي مصطلحات نابعة من أطماع وروح عدوانيّة. ففي عهد الخلافة العثمانية كانت تسمى قضية العالم الإسلامي " بالمسألة الشرقية "، تسمية طلعت من أطماع روسيا وأوروبا ومؤامراتهم الممتدة. ثمّ سُمِّيتْ المنطقة في العصر الحديث " الشرق الأوسط " تسميةٌ نابعة من أطماعٍ وشهواتٍ وعدوانٍ، وشاعت هذه التسمية حتى اليوم، وحتى جاء الرئيس بوش ليوسع المصطلح، ويُضيف عليه كلمة " الكبير "، إمعاناً في الدلالة على العالم الإسلامي كلّه.
مهما تعدّدت التسميات فالأرض واحدة، والميدان واحد، والأطماع واحدة، والعدوان الظالم واحد ممتدٌّ مع التاريخ، يُمحّص الله من خلاله عباده.
إنه لأمر عجيب أن يظنَّ بوش أنَّ العالم كله غافل لا يعي، ينسى التاريخ القريب والبعيد. يدّعي " بوش " أنه يريد أن ينشر الديمقراطية وزُخرف الحرية المزعومة. لقد ادعى هذا عند قراره غزو العراق. وهذه هي ساحة العراق شاهدة على ما قدم من تدمير وقتل وفتن لا تكاد تنتهي، وظلم تجاوز كلّ الحدود. وبالرجوع إلى تاريخ الديمقراطية الأمريكية في مختلف أنحاء العالم ابتداء من أمريكا اللاتينية ومختلف أقطارها، إلى أفريقيا، وإلى آسيا، لا تجد إلا الفواجع والمآسي والتدمير وقتل الإبادة، حتى انتزعت هذه الديمقراطية كلَّ بسمة على وجه طفل، أو فرحة في قلب أم، أو كرامة في حياة إنسان، وغرست مكانها الدموع والأنين والدماء والأشلاء والإذلال.
أين نجد الديمقراطية؟! أنجدها عندما أدار بوش ظهره وسدّ أذنيه لصيحات الملايين في جميع أنحاء العالم ترفض غزو العراق؟! لقد تولى السلاح الفتاك، سلاح التدمير الشامل إجابة تلك الصيحات حين سحقت كل استغاثة، وأبادت حضارة العراق في أيام معدودات، وتركت الناس دون كهرباء ولا ماء ولا بترول، ومنهم مَنْ أصبح دون مأوى!
أين نجد الديمقراطية؟! هل نجدها في الكذب والإصرار على الكذب فيما يتهمون هذا القطر أو ذاك، وفيما اتهموا العراق بسلاح التدمير الشامل واتخذوا ذلك ذريعة لارتكاب جريمة وحشية في أرض العراق وشعب العراق وعمائر العراق؟! هل الديمقراطية في تاريخها الحديث كله إلا كذب وخداع، وكبر وظلم، وعدوان وطغيان، واستبداد.
هذه هي الديمقراطية التي جعل منها " فوكوياما " نهاية التاريخ! ولو سماها نهاية العدالة والحرية واختفاءهما لكان أقرب إلى الصواب!
الديمقراطية، بغض النظر عن الأصل الوثني للفظة اليونانية، فإنها اليوم نظام ابتدعه كبار المجرمين في النظام الرأسمالي، يمارسون فيه أبرع أسلوب للظلم ليؤمِّنوا لأنفسهم حصاد الأرباح من كلّ نشاط اقتصاديّ ، ويُخدّرون الشعوب بزُخرف كاذب من الحريّة، وبإلقاء الفُتات إليهم، وبنشر الفاحشة والخمور والمخدرات، بتخدير مباشرٍ وغير مباشرٍ. لك أن تبدي رأيك كما تشاء في الجو الديمقراطي، وأما القرار فيُتّخذ في عتمات الكواليس وظلام الزوايا، ويشغلون الناس عن مصالحهم الحيوية بإثارة الفتن بعد الفتن.
إنَّ جرائم الديمقراطية كما نشاهدها على مساحة الكرة الأرضية جرائم ممتدة أوسع امتداد. فلماذا كانت هذه الجرائم؟! إنها شهوة النهب والطمع! إنهم يعبدون مصالحهم من دون الله. ومع كل إعلان للإصلاح أو التغيير، كان بوش وغيره يعلنون أن الإصلاح سيتمُّ لتأمين مصالح أمريكا، والتغيير لتأمين مصالحها، والحروب لتأمين مصالحها، تُعلن ذلك دون أن تُعْلن مرة واحدة عن مصلحة الإنسان، عن مصلحة الشعوب. ولو حدث أن أخطأت وادَّعتْ أنَّها تسعى لمصلحة إنسان أو شعب، فسرعان ما تثبت الأحداث أنَّ ذلك كان زُخرفاً كاذباً، وخداعاً جليّاً.
والذي يؤلم النفس أن نرى أمريكا تحمل رسالة الديمقراطية بزخرفها الكاذب وممارستها المدمّاة وتسعى كما تدّعي إلى نشرها في العالم، وفي الوقت نفسه نرى الأمة التي اختارها الله لتحمل رسالته إلى الناس كافة، إلى العالمين ممزقة مشتّتة القوى، تخلَّى الكثيرون منها عن حمل هذه الأمانة، تخلَّوا عن نشر دين الله، الإسلام كما أُنزل علىمحمد صلى الله عليه وسلم ، في الأرض كلها، حتى تكون كلمة الله هي العليا. عجباً كل العجب! أيحمل أُناس الباطل اليوم ويزيّنه شياطين الإنس والجنّ ويزخرفونه ويدعون إليه ويسعون لنشره في العالم كله، ونرى أُناساً بين أيديهم الحقّ يتخلَّون عن دعوته، وينصرفون إلى الدعوة إلى الديمقراطية والعلمانية؟!(18/489)
واقع المسلمين اليوم يشكو من نواحٍ متعددة من الخلل ومن تخلّفٍ علميٍّ وصناعيٍّ، لا بدَّ للمسلمين أن يُعالِجوا هذا الواقع الذي أورثنا الهزائم والمذلة والهوان. وإنَّ علاج واقع المسلمين متوافر بأيدي المسلمين، فلسنا بحاجة إلى وصاية أمريكا وغيرها علينا لتدَّعي أنها تريد " الإصلاح " ! إنَّ أمريكا خير لها أن تلتفت إلى واقعها فهو بحاجة ماسَّة إلى الإصلاح من جميع جوانبه. إن أمريكا بحاجة ماسَّة إلى الإسلام! ونحن لسنا بحاجة إلى ديمقراطيتها! ليس واقع منطقتنا وحده يحتاج إلى إصلاح، إنَّ واقع البشرية اليوم كلّه يحتاج إلى إصلاح، لإخراجه من ظلمات الفتن والفساد والصدّ عن سبيل الله. إنَّ العالم كلّه بحاجة إلى إصلاح عاجل، وإن أول مجتمع يحتاج إلى الإصلاح أمريكا نفسها، وقد طغى فيها الفساد ولم يستطع الزخرف أن يُخْفيَه.
إذا كنَّا نؤمن بالله حقاً، ونؤمن بأن منهاج الله حق كامل من عند الله، فيجب أن نؤمن أن الله أرحم بعباده من أن يبعث لهم برسالة خاتمة لا تعالج مشكلاتهم ونواحي خللهم. بل لقد أنزل الله سبحانه وتعالى الكتاب على عبده صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً للعالمين، شفاء ورحمة للمؤمنين. فالعلاج والإصلاح والتطوّر والتقدّمُ، والتجديد وكلّ ما يرجوه المؤمنون من عزّة وسؤدد هو بين أيديهم في الكتاب والسنّة، جعلها الله مصدر كلّ خير للبشرية كلّها.
إنَّ كثيرين من المسلمين الذين ينادون بالديمقراطية ويدعون إليها، يقومون بذلك ظنّاً منهم أنَّ فيها الحريّة والعدالة والمساواة، كما أعلن ذلك داعية مسلم في أحد المؤتمرات. ولو أن رجلاً غيرَ مسلم ادَّعى ذلك لوُجدَ له عذر، أما المسلم فما عذره ؟! فإذا كان الإسلام، دينُ الله، لا يوجد فيه الحريّة والعدالة والمساواة، فلم أنتم مسلمون ؟! وإذا كان الإسلام فيه الحريّة والعدالة والمساواة، كل ذلك رحمة من ربِّ العالمين، فلمَ تُعطون هذا الشرف للديمقراطية زوراً وبهتاناً، وتنزعونه من الإسلام ظلماً وعدواناً ؟!
إذا كان المسلمون لا يشعرون بحقيقة الحرية والعدالة والمساواة، فليس ذلك لأن هذه القيم غير موجودة في الإسلام، ولكنه لأننا لم نحسن تطبيق الإسلام. وإذا أساء بعضنا تطبيق الإسلام فما ذلك إلا لخلل في الإيمان وخلل في العلم، ولأخطاء جسيمة يرتكبها المسلمون.
إنَّ ما نلقاه اليوم هو بما كسبت أيدينا، فالله حق لا يظلم أحداً. ولكنها سنن ربانية ثابتة ماضية في حياة الناس. ولو أخذ المسلمون بهذه السنن الثابتة واتبعوا منهاج الله لكانوا أعزَّ أمّة على الأرض. وحسبُ المسلمين أنَّ لهم من الله قوةً ومدداً ليست لغيرهم إذا صدقوا وآمنوا والتزموا.
ولكننا نحن ظلمنا أنفسنا، وارتكبنا من التنازلات ما وفَّر للأعداء الفرصة لأن يجرؤوا علينا، ويُعلنوا يوماً حرباً على حجاب المرأة المسلمة، ويوماً يدَّعون الإصلاح بنزع الإسلام من الحياة إن استطاعوا، ويوماً بالاحتلال، ويوماً بالفتن بعد الفتن.
إنَّ سبيل الإصلاح واضح ممتدٌّ أمامنا.إنه نابع من منهاج الله إذا التجأنا إلى الله حق اللجوء، وإذا حاسبنا أنفسنا على ميزان منهاج الله، لنعرف أخطاءنا ولنعرف سبيل علاجها.
إن الإصلاح الذي نرجوه، لا ينحصر في تحسين واقعنا المادي. فتحسين الواقع المادي وحده قد تختلف السبل إليه بين أمواج المصالح والأهواء. ولكن الإصلاح الذي نرجوه هو الإصلاح الذي ننجو به من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة، ولننال القوة والعزة على أساس ذلك. فلهذا الإصلاح سبيل واحد فقط، لا يمكن أن تتعدد السبل له.
لا يملك المسلمون اليوم إلا أن يجهروا بدين الله الحقّ كما أُنزل علىمحمد صلى الله عليه وسلم ، دون أيّ تحريف أو تأويل أو تبديل، ليبلّغوه للناس كافّة، للبشرية كلّها، حتى تكون كلمة الله هي العليا. لا بدَّ أن يوقف المسلمون جريهم اللاهث وراء زخارف كاذبة من مصطلحات الاشتراكية والديمقراطية والعلمانية، وغير ذلك من المصطلحات التي أخذت تتبدّل كما تتبدَّلُ " نماذج " الملابس! لا بدَّ أن يوقف المسلمون مسلسل التنازلات التي طال أمره وأورثنا المذلّة والهوان والصغار. لا بدَّ للمسلمين اليوم أن يربطوا إصلاح الواقع المادّي بإصلاح سبيلهم إلى الدار الآخرة في أيّ تصوّر أو عمل أو موقف، ولا يكونوا كالذين يؤثرون الدنيا على الآخرة:
( الذين يستحبّون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد )[ إبراهيم : 3 ]
لا بدَّ أن ينهجوا هذا النهج وأن يبذلوا من أجله البذل الذي يستحقُّه كما أمرهم الله سبحانه وتعالى.
مهما كان الطريق طويلاً، فإنه الطريق الوحيد لبلوغ الإصلاح الذي نرجوه. وإن هذا الإصلاح يبتدئ من أنفسنا، وفي أنفسنا، ثمَّ يمتدُّ إلى ميادين الحياة كلّها، لتصبح ساحة عبادة لله، ووفاء بالأمانة، وقيام بالخلافة، وعمارة للأرض بحضارة الإيمان.
( وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلكم تتقون )[ الأنعام : 153 ]
وكذلك :( … وتوبوا إلى الله جميعاً أيَّها المؤمنون لعلَّكم تُفْلحون )[ النور : 31 ](18/490)
===============(18/491)
(18/492)
معالجات المسألة الثقافيّة بين قرنين
غازي التوبة 9/6/1427
05/07/2006
زاد الاهتمام بالمسألة الثقافية بعد أحداث 11 سبتمبر2001م، وتكرّر الحديث عن ضرورة إحداث تغييرات ثقافية واسعة في منطقتنا العربية في القرن الحادي والعشرين، وطرحت أمريكا من أجل تحقيق تلك الغاية "مبادرة الشراكة الأمريكية-الشرق الأوسطية" في 12/12/2003م على يد كولن باول وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، كما طرح جورج بوش رئيس الولايات المتحدة "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي ناقشته ووافقت على تبنّيه الدول الصناعية الكبرى الثماني في حزيران (يونيو) من عام 2004م، وقد تضمّن المشروعان السابقان الصادران عن مؤسّسات أمريكية ودولية توجّهات نحو إحداث تغيير في كل تفريعات المسألة الثقافية في منطقتنا من مناهج، وإعلام، ولغات، وطرق تربية، ومدارس، وخطاب ديني الخ...، واستهدف المشروعان إقامة ورش عمل للتدريب على العمل الديموقراطي، والممارسات الانتخابية والنقابية الخ...، واعتمد المشروعان تعميم ثقافة حقوق الإنسان، وحرية المرأة، والمبادئ الديموقراطية الخ...، ورصد المشروعان مبالغ مالية من أجل الإنفاق على مراكز التدريب والتعليم والورش والمؤتمرات والدعاية المرتبطة بهما.
والسؤال الآن: هل الاهتمام بالمسألة الثقافية أمر جديد على المنطقة؟ الجواب: لا، بل هو قديم منذ القرن التاسع عشر، فقد اهتم رفاعة رافع الطهطاوي وهو أول مَعْلَم من معالم النهضة بالمسألة الثقافية، وربما كانت المسألة الثقافية اهتمامه الأول، فقد كتب رسالته المشهورة "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين" في صدد الحديث عن التعليم والتربية والمدارس، كما أنشأ داراً للترجمة من أجل نقل جانب من التراث الفرنسي الذي اطلع عليه أثناء مرافقته للبعثة المصرية خلال إقامته في فرنسا.
وأكّدت سيرة محمد عبده (ت 1905م) أبرز رموز النهضة أيضاً الاهتمام بالمسألة الثقافية، فقد كتب مذكّرتين في إصلاح التعليم قدّم إحداهما إلى شيخ الإسلام في استنبول، والثانية إلى اللورد كرومر في مصر، وكتب رسالة في إصلاح الأزهر تناولت المدرسين ونظام التدريس والامتحان وكتب التدريس ورواتب المدرّسين الخ...، وقدّم هذه الرسالة إلى مجلس إدارة الأزهر الذي أصبح عضواً فيه، وكتب مذكّرة في إصلاح المحاكم الشرعية، كما وضع لائحة لإصلاح المساجد وقدّمها إلى مجلس الأوقاف لإقرارها والعمل بها، وأنشأ جمعية إحياء الكتب العربية افتتحها بطباعة كتاب "المخصص" لابن سيده الخ... وألّف محمد عبده كتباً عالجت مختلف النواحي الثقافية والدينية، فألّف "رسالة التوحيد" التي عالجت الجانب العقائدي في تراث الأمّة، كما ألّف "تفسير المنار" الذي عالج التقريب بين الغيب الديني والمادية الغربية الخ...
ثم زاد الاهتمام بالمسألة الثقافية بعد الحرب العالمية الأولى إثر التغييرات الكبيرة التي مرّ بها العالم العربي، ويمكن أن نمثّل على ذلك بطه حسين الذي ألّف كتاباً خاصاً عن الثقافة إثر إعلان استقلال مصر عام 1936م، سمّاه "مستقبل الثقافة في مصر" وقد تحدّث في هذا الكتاب عن التعليم، واللغات الأجنبية، وواجبات المعلّم، وواجبات الدولة تجاه المعلّم، والأزهر، واللغة العربية، والعلوم الدينية الخ...، ثم استلم طه حسين وزارة المعارف في يناير عام 1950م، واستمرّ وزيراً إلى يناير عام 1952م، وكانت فرصة لتطبيق رؤاه الثقافية، وبالفعل من أشهر أفعاله أثناء تولّيه الوزارة، حرصه على تعميم التعليم وتوسيع دائرة المتعلّمين، وإطلاق مقولته المشهورة حيث قال: "التعليم يجب أن يكون بالنسبة للمصري كالماء والهواء".
خلاصة القول: إنّ الاهتمام بالمسألة الثقافية قديم، وقد ساهم في طرح مشاكلها ووضع الحلول لها كل رموز النهضة، ومع ذلك فإنّ النتائج كانت مخيّبة للآمال على مستوى العالم العربي: أُمّية متفشّية بلغت (70) مليوناً في العالم العربي، عدد الاختراعات والابتكارات محدود، المراكز البحثية محدودة، الكتب المترجمة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية قليلة بالمقارنة مع ترجمات دولة كاليونان، الكتب المؤلّفة قليلة بالمقارنة بالكتب المؤلّفة في دولة مثل إسرائيل الخ...
لماذا جاءت النتائج بهذه الصورة مع الاهتمام الواسع المستمرّ بالمسألة الثقافية خلال القرن الماضي؟ لا يكمن النقص والخطأ في الاهتمام بالمسألة الثقافية ومعالجته، ولكن يكمن الخطأ في رؤية الواقع البشري والاجتماعي والنفسي والعقلي المرتبط بالمسألة الثقافية، والإجابة الخاطئة عن أسئلة من مثل: من هو الإنسان الذي نتّجه إليه لمعالجة مشكلته الثقافية؟ ومن هو المجتمع الذي نخاطبه؟ وسنأخذ مثالاً على ذلك طه حسين وكتابه الذي استشهدنا به من قبل وهو "مستقبل الثقافة في مصر".(18/493)
تحدّث طه حسين في بداية كتابه عن العقل المصري، وقرّر أنه متّصل بالعقل الأوروبي، وأنه ليس هناك فرق جوهري بينهما، وأنّ الشعب المصري متأثّر بشعوب البحر الأبيض المتوسّط، واعتبر طه حسين أنّ الإسلام لم يخرج مصر عن عقليتها الأولى، وبأنّ رضا مصر عن الفتح الإسلامي لم يبرأ من السخط، ولم يخلص من الثورة والمقاومة، وبأنها لم تهدأ، ولم تطمئن إلا حين أخذت تسترد شخصيتها المستقلة في ظلّ ابن طوسون، وفي ظلّ الدول المختلفة التي قامت بعده.
ويتصل هذا الكلام الذي ذكره طه حسين في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" اتصالاً وثيقاً بوجهات نظره الأخرى التي عبّر عنها في منابر أخرى سياسية وأدبية وثقافية؛ إذ دعا فيها إلى القومية المصرية الفرعونية، والتي اعتبر فيها أنّ الشعب المصري يشكّل "أمّة مصرية" مستقلّة، كما اعتبر أنّ مصر هي "الوطن المصري".
لا أريد أن أناقش وجهات النظر السابقة ومدى خطئها وعدم صوابيتها، فقد فعلت ذلك في مكان آخر كما فعل ذلك غيري، ولكني أشير إلى أنّ هذا هو أحد الأسباب الرئيسة الذي جعل الخطط الثقافية لا تنجح ولا تعطي ثمارها؛ إذ كيف تنجح، ونحن لم نعرف ذاتنا معرفة صحيحة؟ فكيف يكون الشعب المصري "أمّة مصرية" بالمعنى الفرنسي للأمّة التي تعتمد العوامل الجغرافية في تكوين الأمّة، وليس جزءاً من أمّة عربية إسلامية؟! وكيف تكون مصر "وطناً" بالمعنى الأوروبي لكلمة "الوطن" وليس جزءاً من الوطن العربي الإسلامي؟ وكيف لم يخرج الإسلام "العقل المصري" عمّا كان عليه قبل الإسلام، ونتجاهل كل الآثار الثقافية والعلمية والتربوية والفنية التي تركها الإسلام في واقع الحياة المصرية؟
هذه هي العوامل التي جعلت معالجات المسألة الثقافية في القرن العشرين لا تعطي ثمارها ونتائجها الصحيحة، فهل المعالجات في القرن الحادي والعشرين ستتجنّب تلك الأخطاء؟ الملاحظ أنّ معالجات المسألة الثقافية في القرن الحادي والعشرين، تقع في الخطأ ذاته الذي وقعت فيها معالجات القرن العشرين، بل ربما في خطأ أسوأ، فهي تنظر إلى المنطقة على أنها جغرافيا ممتدّة فارغة تريد أن تملأها بالمضمون الثقافي الذي تريده، وهي توسّعها مرّة كما في "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، فتجعلها ممتدّة من باكستان إلى المغرب مروراً بأفغانستان وإيران وتركيا و إسرائيل، وهي تضيّقها مرّة أخرى لتجعلها ممتدّة من إيران إلى المغرب كما في التعديلات الأوروبية له.
إنّ تلك الرؤية للواقع البشري تشير إلى أننا لم نستفد من كل التجارب السابقة في القرن العشرين، وإلى أننا ربما سننتهي إلى نتائج أسوأ في معالجات المسألة الثقافية في القرن الحادي والعشرين.
============(18/494)
(18/495)
تحرير المرأة في عصر "الشرق الأوسط الكبير"
إعداد محرر صفحة الإسلام وقضايا العصر
14/06/2004
المشروع الأمريكي عبر هجماته/مبادراته "الإصلاحية" للشرق الأوسط، احتوى على قضية مركزية وهي المرأة. وهذا يطرح تساؤلات مهمة حوله، يجعل من الضروري الالتفات إليها تأملا ومناقشة، فحين نجد أنفسنا بين مطرقة المشاكل الحقيقية التي نعاني منها وسندان الهيمنة الأمريكية التي علينا رفضها.. ماذا نفعل؟ خصوصا أننا أمام تحديات جديدة تنقلنا من نفق التقاليد غير الإسلامية إلى حافة هاوية "الفردية" المتمركزة حول الجسد. وما الذي يمكن أن تضيفه أمريكا في مبادرتها "الشرق الأوسط الكبير" لقضية تحرير المرأة؟ وكيف تخرج المرأة العربية من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل في كل ما يدور حولنا من أحداث؟ وكيف يمكن تفهيم أولئك الذين لا يزالون يدورون في فلك "الجسد/الفتنة" حين يختزلون تحرير المرأة - داخليّا وخارجيّا - في "العري"؟ وكيف يمكن النظر إلى التعديلات التي طاولت -ولا تزال- المرأة الخليجية؟.. أسئلة مهمة تناقشها هبة رؤوف عزت(**) خلال هذا الحوار.
* تعيش المرأة العربية مأزقا خطيرا يتمثل في شعورنا - نحن النساء - بأن هناك مشكلة حقيقية تعاني منها المرأة العربية .. وهي مشكلة الفقر والجهل والبطالة والتمييز.. وهي مشاكل يشترك معنا في كثير منها كثير من الرجال، ولكن تتركز مشكلتنا في ذلك الاستخدام السيئ من قبل قوى خارجية (كأمريكا) وقوى داخلية (أنظمتنا العربية) لهذه المشاكل لمصلحتها. فنجد أنفسنا بين مطرقة المشاكل التي نعاني منها وسندان الهيمنة الأمريكية التي علينا رفضها ... ماذا نفعل حيال هذا الأمر؟
- لا توجد حلول فورية لتغيير أوضاع الفقر والجهل والبطالة والتمييز الجاهلي (التقليدي والمستورد) ضد المرأة؛ فالتغيير يأخذ وقتا ويحتاج إستراتيجيات ولن نستطيع تغييره، ولن تستطيع أمريكا تغييره ببيانات أو مشروعات أو تصريحات.
أعتقد أننا بحاجة حقيقية أولا لمعرفة الواقع، وهذه مهمة تقوم بها -بنشاط- هيئات دولية تدرس وتجمع الإحصاءات وتحلل البيانات، ولا تقوم بها هيئاتنا الإسلامية التي تنصرف إلى كتابة المقالات وإعداد الدراسات النظرية والانتقاد القوي لأطروحات الاستعمارية دون رصد حقيقي وواقعي للتحولات التي تشهدها تلك المرأة العربية.
ويجب التذكير بأن هذه المرأة التي نتكلم عنها، تشكل الفتيات النسبة الغالبة في تكوينها، وأن النسبة المتزايدة هي من سكان الحضر والمدن، ونحن أمام تحديات جديدة تنقلنا من نفق التقاليد غير الإسلامية التي بها تمييز ضد المرأة، إلى حافة هاوية "الفردية" المتمركزة حول الجسد؛ سواء لإعادة صياغة التصورات حول معنى الحرية أم بتفكيك البنى الاجتماعية والمؤسسات المختلفة الجماعية.
بين المطرقة والسندان يمكن أن يكون هناك عجينة لينة قابلة للتشكيل، ويمكن أن يكون هناك كتلة صلبة من الحديد تكسر المطرقة والسندان، والفعل الذي يتم السؤال عنه - في نظري - هو الفعل اليومي، والفعل المتراكم والفعل الممكن الذي يدفع سقف المستحيل، وربما في لحظة معينة تصبح مواجهة الإمبراطورية عن طريق الأفعال الصغيرة أكثر تأثيرا من الخطاب الضخم الذي لا يدل الناس على آليات يومية بسيطة.
ماذا نفعل؟ أنا شخصيا بالأمس كنت في لقاء أشارك فيه بتقرير عن أوضاع المرأة العربية، مع إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، التي لا أرى من المفيد تركها للهيمنة الأمريكية؛ لأنها ليست ملكا خاصا لأمريكا، لكنني اليوم طوال الصباح كنت في اجتماع مع مجموعة من النشطاء نسعى لتجاوز الاختلافات الأيديولوجية وتسجيل منظمة أهلية ضد الفساد في مجتمعي، فالانعزال في دوائر مغلقة لا يفيد، وإنما حركة واسعة لكل واحد منا في مجاله ثم التشبيك والتنسيق حتى يتراكم الفعل.
لننظر حولنا.. في أسرتنا وفي الحي وفي مجال العمل، ولنفكر: كيف يمكن الدفاع عن حقوق المضطهدين وتحسين أوضاع الناس بآليات بسيطة؟ باختصار: ما هو الفعل الممكن الذي يبني زخما لتغيير ديمقراطي يومي يحترم إنسانية الإنسان؟. إننا لا نستطيع أن نواجه الهيمنة الأمريكية ومشاريع الشرق الأوسط الكبير - أو الصغير - ببشر لا يشعرون بآدميتهم، وإذا شعروا بها لا يتشاطرونها مع الآخرين بشكل عادل وكريم!.
لكن مع هذا نحتفظ دائما بالأمل وشعلة النشاط في القلب؛ لأن الله غالب على أمره، ونحن حتى الآن لم نستوف شروط النصر؛ لأننا أهملنا (اقرأ)، وأهملنا (وقل اعملوا)، ولم نبذل كل الوسع بعد.
* لكن ما هي الإضافة الأمريكية في مبادرتها "الشرق الأوسط الكبير" لقضية تحرير المرأة، خصوصا أن الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة قد غطت الجانب النظري والتنفيذي لما يخص الجوانب المختلفة لقضية المرأة؟.
- الخطط الأمريكية قديمة والتدخل الأمريكي جارٍ على قدم وساق منذ فترة طويلة، والتعليم تم إعادة هيكلته لخلق كوادر ـ رجال ونساء ـ تقبل القيم الاستهلاكية، هذه هي الإضافة المستمرة التي يتم تجديد إستراتيجياتها كي نصبح سوقا بلا ثقافة ولا هوية تستطيع المقاومة.(18/496)
إن ما تود الولايات المتحدة الأمريكية الآن تحقيقه هو تجاوز مرحلة خلق النخب التي تحدث منذ مائة عام أو يزيد عبر التعليم وبرامج التدريب وطرح الرؤى والأفكار واختراق المجتمع المدني، إلى أن يصبح هذا المد الاستهلاكي عامّا وجماهيريا.
وأعتقد أن أخطر ما يمكن أن يحدث للمرأة العربية في المستقبل هو إبعادها عن الثقافة الإسلامية، في الطبقات الوسطى والعليا، ووضع هؤلاء النساء في مواقع صنع القرار فتتم سرقة واختطاف رؤى التحرير والمساواة للمرأة لتخرج خارج إطار النضال الديمقراطي، وهذا حدث بالفعل في بعض البلدان ومنها مصر، فقد تم تأميم الحركة النسائية بالمعنى الذي كان سائدا في الستينيات والسبعينيات، والتي كانت ذات توجه يساري لكنه كان وطنيا وعروبيا.
أما الآن، فالاتجاه إلى الفكر والخيال النسوي، وفصل جهد تمكين النساء عن معركة الديمقراطية الواسعة حتى يظن الناظر إلى الخريطة العربية أن النساء قد حققن مكاسب وهو ليس صحيحا خاصة حين تتولى المناصب القيادية نساء من نفس النخبة السائدة المتأسسة على روابط قبلية أو فئوية أو عرقية أو طبقية.
إن إعادة تشكيل النخبة وإعادة تشكيل الثقافة عبر تهميش التعليم الوطني العام والاحتفاء بالتعليم الأجنبي في المراحل ما قبل الجامعية والجامعية: مسألة حاسمة في خلق أجيال مستفيدة من الاندماج في دوائر الأعمال الأجنبية بأوطاننا وتوسيع هامش الفئات التي تحمل هوية هجينة ملتبسة، وحين يتم الدفع بها إلى مواقع صنع القرار لن تكون أولوياتها وطنية، وقضية المرأة لا تنفك عن كل هذه التحولات.
والجديد ليس اختراعا لمفهوم أو لقضية، بل تحويل المسارات وتغيير الأشكال والتكتيكات، وهنا يجب أن نتابع أوضاعنا جيدا ونرصد تحولات المجتمع والثقافة؛ لأنها أخطر من تصريحات السياسة أو خطب الأنظمة في المناسبات المختلفة.
التغيير من أسفل وضرب البنية التحتية الاجتماعية على هذا النطاق هو الجديد والمتجدد.
* كيف تخرج المرأة العربية من موقع المتفرج إلى موقع الفاعل في كل ما يدور حولنا من أحداث؟
- "التسلط الذكوري" أحيانا يكون ضاغطا جدّا جدّا، لكنه - أحيانا - أسطورة نبكي بسببها دون أن نرى مصادر القوة في بنيتنا التقليدية الأسرية. أعتقد أنه في ظل أكثر العلاقات استبدادا مع الذكور في الأسرة أو الدائرة الاجتماعية يمكن التماس مسارات للتمكين وللفعل، بالنسبة للسيدات العاديّات مثلا.
السياسة ليست الوصول إلى سدة الحكم، بل هي المشاركة في التأثير على توزيع الموارد المادية والمعنوية في المجتمع بشكل يسمح بعدالة أوسع، في تقاسم السلطة، والثروة. وعلى ذلك فإن كل امرأة يمكنها أن تؤثر في تلك المعادلة، لكننا إما أن نحبس أنفسنا في البيوت، أو نتطلع لرئاسة الوزراء!
في حين أن الفعل المدني الأهلي اليومي قد يكون أكثر تأثيرا وأوسع مدى من الانضمام إلى أي من الأحزاب أو الخروج إلى الترشيح في الانتخابات على أهمية كل هذه الأشكال.
وبالنسبة للأم، من المفيد أن تعلم أنها يمكن أن تكون مسئولة ومشاركة في المجتمع، بل ومؤثرة في السياسات العامة من خلال "الحضور المستمر" في حياة أسرتها، والخروج لمتابعة مصالح تلك الأسرة.
ويمكن لي التمثيل هنا بالتعليم والصحة. في مدرسة أولادي مجلس للآباء، وهو غير يوم لقاء الآباء بالمدرسين، ورغم أن المرأة المصرية في الطبقة الوسطى يمكنها الحركة والمشاركة فإننا يوم الاجتماع الأول لمجلس الآباء في مدرسة بها ألف تلميذ لم يحضر سوى عشرة، منهم ثلاث نساء. وقد استوقفني هذا الأمر؛ فقد كنت دائما أدعو إلى المشاركة السياسية القوية للمرأة والتي أعتقد أنها واجب شرعي وليس ترفا، ولي في ذلك كتابات عديدة شرعية وسياسية، لكنني وجدت نفسي في موقف أتساءل فيه: كيف يمكن أن تشارك المرأة في الجدل الديمقراطي وفي الشأن العام السياسي وفي الدفاع عن حقوقها وحقوق الإنسان وفي المطالبة بتوزيع أكثر عدلا للسلطة وللثروة إذا كانت لا تخرج أصلا لمتابعة السياسة التعليمية في داخل مدرسة أولادها؟
ولا أظن أنه في أي مجتمع ذكوري سيمنعها أحد من ذلك. لكن المشكلة أن المرأة لا تريد أن تكون أكثر فاعلية وأكثر مسئولية في أحيان كثيرة لأسباب مختلفة، منها ما هو مرتبط في بعض المجتمعات العربية بالرفاهة الزائدة، ومنها ما هو مرتبط في مجتمعات أخرى بالفقر، ومنها ما هو قرين السلبية واستمراء دور الضحية المقهورة.
دعوني أؤكد لكم أنني قابلت كثيرا من النساء هن شعلة من النشاط والفعل والمشاركة، رغم أنهن أميات لا يقرأن ولا يكتبن لكنهن على علم باحتياجات المجتمع الصغير الذي يمارسن فيه دورا فاعلا، كما أنهن يدركن الأمومة بشكل إيجابي ونشيط.
إن المرأة في أشد أوضاع التسلط الذكوري قادرة على توسعة هامش الحرية والفعل والتواصل مع ثقافتها من أجل التغيير واستكشاف مواطن الضعف في تلك البنى الذكورية والضغط عليها، وأزعم أن هناك أفقا دائما للتغيير، وأزعم أيضا أن الله أرحم بكل امرأة من أن يجعلها عاجزة تماما عن أي فعل.(18/497)
لكن المهم أن تنظر كل واحدة إلى مساحات الممكن وتوسع هامشها بدلا من أن تتطلع إلى المستحيل وتظل تتباكى على أنها مقهورة، وأنا أعتقد أن تغيير الخطاب يجب أن يتأسس على ربط اليومي بالمدني، وإتاحة الفرصة لأشكال مختلفة من الفعل وعدم التعميم في تجارب التمكين الفردي والجماعي وتبادل التجارب في نفس الوقت.
ويمكن تبادل الأفكار ونشرها عبر الشبكة، أو الاندراج في برنامج للتعليم المستمر، أو مراسلة "إسلام أون لاين.نت" في قضايا تهمك وجمع المعلومات من على الشبكة في هذا المجال أو الانضمام إلى ساحة من ساحات الحوار الثقافي حول قضية ما.
هناك آفاق كثيرة وهناك دائما.. الإمكانية. دعونا نفكر كيف يمكن أن نتحرك خطوة ولو صغيرة إلى الأمام، وكيف يمكن أن نساعد على رؤية بصيص أمل.
* الغرب واليهود يريدون أن يشاهدوا المرأة العربية والمسلمة تمشي في الشارع شبه عارية - إن لم نقل: عارية - أهذا هو الإصلاح الذي يريدون؟.
- لا شك أن هناك اختلافا في منظومة القيم، والعري جزء من الحرية الفردية في الثقافة الغربية، رغم أنه عندهم أيضا له مساحات وحدود، وهناك تقنين لحقوق الجسد أو - على الأقل - مسيرة من السعي لتوسعة التقنينات.
الأطروحة الغربية تقوم على أولوية الوجود في المجال العام كمؤشر على الفاعلية والقوة، في حين أننا في تصورنا الإسلامي نعتقد أن المجال العام المدني وأيضا المجال الاجتماعي الأسري لا يقل أهمية، وأنه أيضا مساحة حرة حتى إن كان فيها في جانبٍ مساواة، وفي جانب آخر توزيع لبعض (وأكرر: بعض) الأدوار.
حين جاء رسول ا صلى الله عليه وسلم برسالة هي رحمة للعالمين لم تكن قريش يعجبها أن تخرج المرأة، وكان الدور الأسري للمرأة القرشية هو الدور الأول وربما الوحيد، ونذكر أن الموسرات كن يستأجرن الرجال من أجل المتاجرة في أموالهن كما فعلت خديجة رضي الله عنها، لكن المرأة في المدينة كانت تشارك في المجال العام زراعة وتجارة، وكن متواجدات بالرأي وبالحضور في خارج أدوارهن الأسرية، رغم أنهن كن أمهات رائعات ـ لكن زوجات قويات.
التحول الاجتماعي الذي أدى إليه النهج النبوي لم يدفع باتجاه نموذج المرأة القرشية أو المكية، بل دفع باتجاه نموذج المرأة في المدينة، وإن شئت فعد إلى سيرة أم سليم التي هي أم أنس بن مالك، تر نموذجا فريدا لامرأة قوية ومؤمنة صلبة كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يحب زيارة بيتها، بل ودعوة الصحابة إليه للطعام، ويحتفي بمشاركتها في مجالس النساء في المسجد تسأل وإن أحرجت أسئلتها عائشة!
لم يقل أحد حينئذ إن الخروج يعني السفور، وهذه النقلة تمت مصادرتها تاريخيا حين مُنعت النساء من المساجد في المرحلة الأخيرة من عصر الخلفاء، على اختلاف بعدها تاريخيّا في درجة مشاركة المرأة في المجال العام والسياسي والاقتصادي في المجتمعات الإسلامية بعد الفتوح بحسب الثقافة الأصلية للبلدان.
هذه المقدمة ضرورية حتى لا يكون رد فعلنا تجاه "تحرير المرأة" الغربي والهجمة الأمريكية على المنطقة على هذا المسار هو أن نخون تصوراتنا الإسلامية، ونخون الله ورسوله بالتضييق على النساء بزعم أن أي مساحة للفعل توافق المخطط الأمريكي.
إن سد الذرائع لا يجب أن يؤدي إلى سد الشرائع. ويعنيني أكثر من الذي تريده أمريكا: ماذا نريد نحن؟ في زمن خرجت فيه المرأة للتعليم والعمل ولديها مساحات من الحرية، هل ما يقدمه الخطاب الإسلامي هو مشروع يحترم المرأة - أمّا وفتاة وامرأة عاملة وناشطة في المجتمع - ويدفعها إلى أن تدافع لا عن حريتها فقط وإنما عن حرية الأوطان، وحرية أبنائها السياسية في المستقبل واحترام حقوقهم في فرص متكافئة في التعليم والعمل من أجل مستقبل أفضل لأغلبية الشعوب وليس لأقليات فيها؟
هل تأتي قضية الكرامة والحماية من التمييز والتحرش وضمان الحقوق النقابية والمكتسبات القانونية للأمهات العاملات وللطالبات وللنساء العاملات في المجال المدني والأهلي على رأس قائمة الهموم، أم ندور فقط حول قضية السفور والحجاب، وكأن الحجاب هو قرين الحجب لأن الخروج هو قرين السفور والانحلال؟!
القضايا لا تعالج هكذا، وأخشى ما أخشاه أن تكون الهجمة الأمريكية معوقا للتجديد الإسلامي الشرعي المنضبط المستقيم، ويكون رد فعلنا هو غلو وتبسيط، نكون نحن الخاسرين فيه وليس أمريكا، بل أزعم أنه سيحول دون أن نطور مشاريع ناجحة للمقاومة والتعبئة.
خريطة القضايا واسعة، وتعميق التصورات مهمتنا معا، فلنفكر سويّا في كيف نضبط مساحات الحرية حتى لا نرى العري في شوارعنا، ولكن دون أن نختزل فكرة الحرية إلى الجسد. ثم كيف نضبط مساحات الحرية بحرية وبمراهنة على الفطرة السوية داخل نفوس الغالبية كما كان يعلمنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله؛ لأن الإفراط في استدعاء القانون أو استدعاء الدولة يفتح مجالا لها في مساحات المجتمع فتدخل لتصادر الحرية على جميع المستويات.
وفي عصر العولمة كيف يمكن أن نصوغ رسائل واضحة ومركبة في نفس الوقت تكون أفقا للكرامة للناس فنكتسب الأنصار، ونفتح دوائر لا يمكن أن يفتحها خطاب الإدانة.(18/498)
الاجتهاد هنا فريضة؛ لأن سياقات المدن وجسور الاتصال لا ينفع معها كثير من طرقنا في التناول. والتحدي هو كيف نستطيع تطوير رؤانا بشكل واثق للتعامل مع تلك المستجدات؟
ربما نحتاج إلى أن نتبادل الأفكار أكثر، فالمسافة لم تعد فارقة لهذه الدرجة؛ لأن قانون المدنية الحديثة يحكم الأمكنة.
* هل الإصلاحات - فيما يخص المرأة الخليجية - هي إصلاحات وهمية ومنساقة لرغبات أمريكا فقط، دون رغبة حقيقية من النظام هناك في إصلاح وضع المرأة؟
- إن وضع المرأة الخليجية لن يتحسن فعلا إلا في ظل تحول ديمقراطي واجتماعي عميق، وأخشى أن بعض الإصلاحات الجزئية قد تستغل لحجب الإصلاح العميق المطلوب في دول الخليج. ولا أقصد فقط الثقافة التي تقوم - حتى الآن - على إقصاء المرأة من المجال العام، بل أقول أيضا: الثقافة الاستهلاكية لمجتمعات نفطية، وهي ثقافة تنذر بأن خروج المرأة من بيتها - غالبا - لن يكون لدعم قضايا العدل الاجتماعي والمشاركة السياسية، بل سيكون في دعم دوائر الأعمال في اقتصاد يزداد ارتباطا باقتصاد السوق العالمية.
أعتقد أن تحريك الماء الراكد في وضع المرأة في الخليج مهم، خاصة أن من الإسلاميين هناك من يقفون ضد حصول المرأة على حقوق سياسية مكفولة لها في الشرع، وليس عندي أي استعداد للمداهنة أو التلطف في هذه المسألة، والحالة الكويتية نموذج في كيف تحولت قضية المرأة إلى ورقة في النزاع السياسي رغم أن الإسلاميين أولى بأن يكونوا هم طليعة التغيير الاجتماعي لصالح المرأة؛ لأن النساء حين لا يجدن خطابا إسلاميّا رشيدا منصفا فإنهن سينتقلن إلى مساحات أخرى تقدم عدالة ومشاركة حتى إن كان الثمن هو التحرر الوطني ذاته، وهذا في أي مجتمع.
لا أحد يستطيع أن يعرف نوايا التغيير، لكننا نستطيع أن نضبط مساراته إذا شئنا أن نشارك بقوة في صياغته بدلا من التساؤل ونحن جلوس نضرب أخماسا في أسداس.
* ما المقصود بتحرير المرأة في مفهومكم؟
- إن الحرية تصور مرتبط بالإطار المرجعي؛ فهي في فكرة التنوير بدأت تحررا للفكر من الكنيسة وليس من الدين، ثم تطورت إلى تحرر من الدين، يكفي أن نقارن هنا بين فكر جون لوك المؤمن وفكر روسو العلماني المتطرف، وفي هذا السياق كان تحرير المرأة - في بداياته - حصولها على حقوقها الاجتماعية والاقتصادية في ظل التحول الرأسمالي الصناعي حيث كانت النساء والأطفال يعانون من ظروف غير إنسانية في داخل الآلة الاقتصادية (وهو ما أنشأ النقد الماركسي للرأسمالية).
وكانت قيمة المساواة هي الحاكمة، ثم ما لبث الفكر النسوي أن تطور عبر أجيال مختلفة وتفرقت سبله لنجد فيها المتطرف الذي يرى الرجال مصدر الشر والعنف، والنساء مصدر السلام والرحمة، في رؤية أقرب إلى العنصرية النسوية المعادية للرجال، أما الأسرة فمبكرا تفككت بعد أن سحبت الدولة وظائفها، ثم اختلت العلاقات بداخلها لصالح فك الارتباط ما بين الحب والزواج والجنس والإنجاب، ولذلك أبعاد طبية وأبعاد نفسية وأبعاد اقتصادية ليست بعيدة عن صعود ثم هبوط نموذج دولة الرفاهة.
من المهم أن نفهم سياقات فكرة تحرير المرأة وعلاقتها بالاقتصادي والسياسي. ويمكنني بإيجاز أن أقول: إن الحرية عندي مقترنة بالعدل، يتم تسكينها في أبنية اجتماعية تتوازن فيها الحقوق والواجبات، وتبني هذه الوحدات مجتمعا يحترم العدل في المال والشورى في الأمر، وبذلك تنبني علاقة مركبة بين الشخصي والأسري والاجتماعي، والمدني والسياسي، في شكل دوائر متتالية وأيضا متقاطعة، وتوجد منظومة من القيم الأخلاقية على مستويات شتى تضم هذه الدوائر حتى لا تتشظى.
هذا أقرب إلى متن شديد التركيز - على نهج علماء السلف - يحتاج إلى هامش طويل لشرحه، يدخل فيه تفصيل معنى القوامة والاستخلاف والولاية وإنسانية المرأة في علاقتها بأنوثة المرأة وتداخل الأدوار وتفاعل المساحات وتنوع مضمون القيم ودلالتها حين تنتقل من المستوى الفردي إلى المستوى الجمعي وهكذا.
ولكون الإجابات الموجزة في مثل هذه القضايا المركبة عادة تكون مضللة تماما، لا بد من مطالعة - على سبيل المثال - دراسة لي حول القوامة في صفحة (الإسلام وقضايا العصر) على الموقع هنا لتعطيك نموذجا لكيفية تناول المفاهيم واستكشاف مساحتها ثم علاقتها بمفاهيم أخرى في أنساق فكرية وأيديولوجية مختلفة تقاربا أو ربما تنافرا.
===============(18/499)
(18/500)
ماذا يريد مشروع الشرق الأوسط الكبير من المرأة المسلمة ؟
د.لينه الحمصي
دكتوراة في الفقه الإسلامي ومقارنة الأديان
في خضم أمواج القنابل والقاذفات الصاروخية الأمريكية والاسرائيلية بالاشتراك مع بعض الدول الأوروبية الموجهة صوب منطقة الشرق الأوسط ، يبرز الحديث عن المشروع الأمريكي الصهيوني المسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير .
هذا المشروع الذي يحمل في ظاهره التقدم والمدنية والرقي والحضارة إلى بلدان الشرق الأوسط ، أو هكذا يراد تصويره ، إلا أنه في باطنه ومن وراء الكواليس يعمل على غزو المنطقة سياسياً وثقافياً واقتصادياً ، وتهديم وتقويض ما تبقى فيها من قيم دينية وأخلاقية ، ليتم بناؤها من جديد على مقاسات لاتتناسب مع هوية المنطقة ولا مع حضارتها ولا مع قيمها ، ولكنها على كل حال تتناسب مع الرؤية الهمجية الاستعمارية ، التي تخطط فيما تخطط لاستعمار المنطقة بكل ما تحتمله كلمة استعمار من احتمالات وأبعاد ، وسلب كل ما يمت إليها بصلة جذرية من تاريخ وحضارة ودين ، ضمن أجندة مخططاتها الواضحة الأهداف التي لاتخفى على كل ذي لب عاقل مبصر ...
فماذا في هذا المشروع الخطير ، الذي قد يفوق أو يضاهي القنابل النووية والصواريخ الذرية في خطرها وشرها ...؟
الحديث عن هذا المشروع يقتضي منا الحديث عن الوجه المخملي ، وعن الوجه الآخر ، الذي يختفي وراء هذا القناع المزيف ...
الوجه المخملي للمشروع ، يتحدث عن مد يد المعونة إلى منطقة الشرق الأوسط التي تصنف ضمن دول العالم الثالث ، أو الدول النامية كما يقال ، من أجل رفع مستواها والسير بها قدماً على سلّم الحضارة ، ويركز هذا المشروع على ضرورة الإصلاح عبر ثلاثة محاور ، محور الحرية ، وضرورة نشر الديمقراطية ، ومحور المعرفة ، وضرورة إجراء الإصلاح في المجال التعليمي وتغيير المناهج التعليمية ، ومحور تمكين النساء ، وأهمية تعزيز مكانة المرأة في المجتمع ، وتمكينها من أداء دورها في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
مطالب قد تبدو للوهلة الأولى أن القصد منها حسن النية في مساعدة منطقة الشرق الأوسط ، إلا أن الحقيقة المختفية وراء هذا الوجه المخملي تفضح تلك النوايا الخبيثة ...
فمقولة الديمقراطية التي تريد أمريكا وربيبتها الصهيونية نشرها في بلاد الشرق الأوسط تخالف السياسة الفعلية التي تتبعها أمريكا في تلك المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية ، والمتمثلة في دعم الأنظمة الدكتاتورية المستبدة ، ومن ثم ضربها فيما بعد بحجة أنها دكتاتورية ، لمقاصد تبيّتها أمريكا ضمن سياستها البعيدة المدى أو القصيرة المدى ، في نهب موارد بلدان المنطقة وشعوبها ، والأمر الذي يثير الغرابة هو اعتراف بعض الكتاب الأمريكيين منهم الكاتب الأمريكي ( كورنل وست ) بزيف الديمقراطية الأمريكية ، وهذا الاعتراف وإن جاء متأخراً ، إلا أن قيمته مستمدة من كونه اعترافاً من الداخل الأمريكي ، الذي باتت تحكمه قوانين السيطرة والمال ومصالح الشركات الكبرى والبيوتات المالية الضخمة ، ومصالح الصهيونية العالمية في نهاية المطاف .
ويرى هؤلاء الكتّاب أن العبارة التي صرّح بها مؤخراً الرئيس جورج دبليو بوش« إما أن تكون معنا أو تكون ضدنا » لم تكن مجرد قول أو زلة لسان ، وإنما هي نتيجة للفكر الذي أوجدها وصاغها وحوّلها إلى منهج عمل للإدارة الأمريكية ، الهدف من ورائها سلب حريات الشعوب الأخرى ، طالما أن هذه الشعوب الأخرى تخالف السياسة الأمريكية التي لاتخطئ ولا تخيب في الرؤى أو المنهج ، حسب رأيه طبعاً .
وبالتالي تم تكوين إيديولوجية أمريكية جديدة غلافها الديمقراطية وفحوى محتواها الديكتاتورية ، تعمل على تصدير الفوضى والدمار ومئات الأطنان من القنابل والصواريخ وآلاف القتلى والجرحى والمشردين إلى تلك الشعوب الضعيفة المنكوبة ، التي لم يكن لها من ذنب إلا مخالفتها للمفاهيم الأمريكية ..
أما الحديث عن تطوير المناهج ، فالواقع يبرز أن الهدف الأمريكي الحقيقي من هذه الكلمة هو تغيير المناهج لاتطويرها ، والقصد من هذا أولاً وأخيراً هو حذف مقاطع من القرآن الكريم تتعلق بالجهاد الإسلامي ضد المستعمرين المعتدين ، بحجة أن هذا إرهاب ، إضافة إلى إلغاء أحاديث نبوية وحقائق تاريخية للحجة ذاتها ، بل لقد تعدى الأمر في بعض الدول العربية التي انساقت لهذا المشروع ، أن أصبحت تدرّس قواعد اللغة العربية بالانكليزية ، لأن اللغة العربية التي نزل بها القرآن تعلم الإرهاب .
ولا تغيب عن أذهاننا المقولات الفكرية التي تتبناها السياسة الأمريكية الحالية ، والتي تتحدث ، حسب ما سماه هنتنغتون ، عن « صراع الحضارات » ، والتي تخلص إلى نتيجة هامة ، تتلخص في أن الحضارة الأمريكية هي الحضارة القوية ، المخوّل لها - بناء على هذه المقولة - أن تهصر كل الحضارات وتدحرها ، أو في أقل الدرجات أن تقولبها على قالب يتناسب مع الفكر الأمريكي والرؤية الأمريكية والرغبة الأمريكية .(19/1)
وهذا بالضبط ما ألمح إليه والد الرئيس الحالي لأمريكا الرئيس بوش في عام 1992 م ، بعد أن أنجزت أمريكا مهمة إخراج القوات العراقية من الكويت حيث قال : « إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية والسلوك الأمريكي ونمط الحياة الأمريكية والثقافة الأمريكية ».
ويأتي الحديث عن المرأة وتمكينها وتحريرها حسب هذا المشروع في إطار لامع براق ، يؤكد على أهمية رفع التهميش والاضطهاد والتمييز ضد المرأة العربية والمسلمة في الشرق الأوسط ، وضرورة تمكينها وتفعيل دورها وتعزيزه على جميع المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية .
ولكن : هل فعلاً يطمح الغرب عموماً ، وأمريكا خصوصاً ، إلى تمكين المرأة العربية وتحريرها وتفعيل دورها ، أم أن هذا يندرج تحت مقولة : كلام حق أريد به باطل ؟
وماذا يريد الغرب من وراء هذه المطالب ، وما هي مصلحته ؟
لاشك أن الواقع الملموس في العراق المحتل من قبل أمريكا خير شاهد على كذب هذه الادّعاءات وعوضاً عن أن تعمل أمريكا على تمكين المرأة العراقية وتفعيل دورها ، ورفع الاضطهاد عنها ، ساهمت بشكل مؤكد في زيادة الاضطهاد والعنف الواقع عليها ، وفي زيادة التفقير والتجهيل والتهميش ...
إذاً ما تريده أمريكا والغرب من إطلاق هذا المشروع هو شيء آخر يتخفى تحت هذه الشعارات البراقة ...، يتلخص في ضرب مواطن القوة التي تحول دون اختراق المجتمعات الإسلامية ، ولا شك أن الأسرة الإسلامية المتماسكة هي أهم مواطن هذه القوة . ولسنا مفتئتين أبداً حين نستخلص هذه النتيجة ، فكل المؤشرات الواضحة وغير الواضحة ، تدل على أن الغرب يريد أن يسوّق إلينا قسراً قوانيناً تهدم كيان الأسرة ، بحجة أنه يريد أن يسوق إلينا الحضارة والديمقراطية .
نلمح هذا واضحاً في محاولته لفرض قرارات المؤتمرات العالمية بخصوص المرأة واتفاقية رفع التمييز ضد المرأة ( السيداو ) بجميع آلياتهما وفعاليتهما ، من رفعٍ لقوامة الزوج عن زوجته ، وإباحة الشذوذ الجنسي والاعتراف بحقوق الشاذين ( المثليين ) ، والتأكيد على حرية المراهقين الجنسية ، وتوفير الإجهاض الآمن لهم ، وتأمين وسائل منع الحمل ... إضافة إلى محاولة بسط النفوذ حتى على قانون الأحوال الشخصية المستمد من الشريعة الإسلامية ، بحجة أن في هذا القانون مواداً تتعارض مع كرامة المرأة ورفع التمييز ضدها ...
والمحزن المبكي في هذا الهزيمة النفسية التي لحقت بالشرق أمام الحضارة المادية الغربية ، الأمر الذي أفقد بعض المسلمين توازنهم ، وتعالت الصيحات للركض وراء الحضارة الجديدة بعجرها وبجرها ، منادين باستبدالها بتلك التعاليم ، التي مضى عليها 15 قرناً من الزمان ، والتي أكل عليها الدهر وشرب حسب رأيهم ...
وإلى هؤلاء نقول : ليس كل جديدٍ يؤخذ ولا كل قديمٍ ينبذ .
ونقول لهم : دع عنك قول عصابة مفتونة يجدون قديم كلِّ أمرٍ منكراً
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عمّرا
من كل ساعٍ في القديم وهدمه وإذا تقدم للبناية قصّرا
ونقول لهم أيضاً :
نحن مع تمكين المرأة وإصلاح حالها ونصر قضاياها ، نحن مع رفع الاضطهاد والتمييز ضدها ، نحن مع تغيير بعض قوانين الأحوال الشخصية المجحفة بحق المرأة ، ولكننا نريد هذا الإصلاح بناء على قيمنا وثقافتنا وتعاليم ديننا وثوابتنا الإسلامية ، وليس بناء على مايريده الغرب ولا بناء على ثقافة الغرب وقيمه ورؤيته .
هنالك سؤالان يطرحان نفسيهما بقوة :
السؤال الأول : هل وصلت الدول الغربية أصلاً إلى رؤية سليمة وعادلة وشاملة بخصوص حقوق المرأة ، لتصدّر إلينا هذه الرؤية وتلزمنا بها ؟
السؤال الثاني : هل الصورة التي تعيشها المرأة المسلمة اليوم هي الصورة الإسلامية التي أمر بها القرآن الكريم وسنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم
نجيب عن السؤال الأول فنقول : « نساء الغرب يصرخن أنقذونا من العبودية »
هذا هو العنوان العريض لما سنطرحه ، أما العناوين الفرعية فهي كالتالي :
* الإعلام الغربي المغرض يصوّر لنا حال المرأة هناك تصويراً زائفاً خادعاً ، يظهر فيه المفاتن والمحاسن ، ويخفي الكثير الكثير من المخازي والمآسي التي ترزح تحت نيرها المرأة الغربية ...
* تقول إحدى الباحثات الأمريكية ، وهي تصوّر ذكورية المجتمع الغربي واضطهاده للمرأة : عندما نتحدث عن المرأة فكل الدول هي دول نامية ...
* باحثة أخرى ألّفت كتاباً أسمته « أسطورة تحرير المرأة في الغرب » استعرضت فيه العديد من الصور القاتمة ، التي تضطهد المرأة وتكبّلها بسلاسل الذل والعنف والتمييز بينها وبين الرجال ، مسلطة الضوء على المفارقات المضحكة بين قرارات المؤتمرات والاتفاقيات العالمية وبين الواقع المؤلم الذي تعيشه المرأة الأمريكية .
* ولهؤلاء الذين تهمهم الإحصائيات ولغة الأرقام نورد مايلي :
المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية :
أصدرت الشرطة الفيدرالية الأمريكية تقارير عن العنف ضد المرأة الأمريكية :
* 79% من الرجال في أمريكا يضربون زوجاتهم ضرباً يؤدي إلى عاهة .
* 17% منهن تستدعي حالاتهن العناية المركزة .(19/2)
* وهناك زوجة يضربها زوجها كل 18 ثانية في أمريكا .
كما بينت دراسة أخرى أن 41% من النساء أكّدن أنهن ضحايا العنف الجسدي من قبل أمهاتهن ، و 44% من جهة آبائهن .
أما نسبة اغتصاب الأنثى في أمريكا ، فيغتصب يومياً في أمريكا 1900 فتاة ، 20% منهن يغتصبن من قبل آبائهن .
أما عن قتل النساء في أمريكا فإنه يقتل كل يوم عشر نساء من قبل الزوج أو الصديق .
بلغت نسبة الطلاق في أمريكا 60% من عدد الزيجات .
المرأة في فرنسا :
هنالك مليونا امرأة معرضة للضرب سنوياً .
95% من ضحايا العنف في فرنسا هن من النساء ، 51% منهن تعرضن للضرب من قبل أزواجهن .
أمينة سر الدولة لحقوق المرأة (ميشيل أندريه) تقول : "حتى الحيوانات تعامل أحيانًا أفضل من النساء، فلو أن رجلاً ضرب كلبًا في الشارع سيتقدم شخص ما يشكو لجمعية الرفق بالحيوان ، ولكن لو ضرب رجل زوجته في الشارع فلن يتحرك أحد".
نشرت جريدة السفير اللبنانية نتائج التحقيق الوطني في فرنسا عام 2001 م :
أن امرأة فرنسية من أصل 5 كانت عام 2000 م تتعرض لضغوط أو عنف جسدي أو كلامي في الأماكن العامة .
وأن 48 ألف امرأة تعرضت للاغتصاب عام 1999 م ، وأن أماكن العمل هي المجال الأول للضغوط النفسية .
أكثر من 40% من الولادات تسجل خارج مؤسسة الزواج .
وصلت نسبة المراهقات الحوامل إلى 30 فتاة من كل 1000 أعمارهن بين 15 - 19 سنة .
تشير الإحصائيات أن معدل الزواج في تراجع مستمر ولا تسجل فروق في هذا بين فرنسا والسويد والنرويج .
أما في بريطانيا فالحال أسوأ . إذ تشير الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني البريطاني أن نصف الأطفال في بريطانيا تحمل بهم أمهاتهم خارج العلاقة الزوجية ، بينما كانت النسبة تصل إلى الثلث فقط قبل عشر سنوات .
77% من الأزواج يضربون زوجاتِهم دون سبب.
أكثر من 50% من القتيلات كن ضحايا الأزواج أو الشريك .
ارتفع العنف في البيت بنسبة 46% خلال عام واحد إلى نهاية آذار 1992 م .
أحياناً يصل الأمر ببعضهم إلى حدّ إطفاء السجائر على جسد زوجته أو شريكته أو تكبيلها بالسلاسل والأغلال ، ثم إغلاق الباب عليها وتركها على هذه الحال ساعات .
- وأمام هذه الإحصائيات والأرقام الرهيبة ، التي تبرز لنا الصورة الحقيقية لما هي عليه المرأة في الغرب نقف مدهوشين لنقول :
أين هي قرارات مؤتمر بكين 1995 م وماقبله من مؤتمرات المرأة العالمية التي قامت بها الأمم المتحدة
لرعاية شؤون المرأة وتمكينها وتحريرها ؟!
لماذا لم ينته العنف الواقع على المرأة الغربية واضطهادها رغم قرارات اتفاقية السيداو عام 1981م والإعلان العالمي لمناهضة العنف على المرأة عام 1993م ؟
ماذا تفعل القوانين الصارمة والمدروسة ، التي صيغت لرفع الاضطهاد عن المرأة ؟
ألم تحلّ الملاجئ المحدثة لإيواء النساء المعنفات ، والتي تبلغ في أمريكا وحدها 1400 ملجأ ، قضية هاتيك النساء ؟
ألا يفرض هذا الواقع المؤلم للمرأة الغربية على المحللين الاجتماعيين والنفسيين الوقوف مراراً وتكراراً ، والتريث أمام تلك الظاهرة ، لمحاولة استشفاف الأسباب القريبة والبعيدة ، التي تجعل القوانين في واد والواقع في واد آخر ؟
ألا يوصلنا هذا إلى أهمية التربية الإيمانية والروحية للأفراد ، والتي يفترض بها أن تكون حارساً من الداخل ، تحيي الضمير الإنساني ، وتشجع على الالتزام الحقيقي والتغيير الفعلي ، قبل الحديث عن القوانين والقرارات على أهميتها ...
أما السؤال الثاني الذي طرحناه سابقاً : هل صورة المرأة المسلمة اليوم هي الصورة الإسلامية التي أمر بها القرآن الكريم وسنة المصطفى عليه السلام ؟
فإن الجواب عنه يتلخص بحرفين اثنين لاثالث لهما : لا ...
نعم ... تعيش المرأة المسلمة في معظم الأحيان حالة من السلبية والتقاعس ، كما تقبع تحت أنواع من الظلم والاضطهاد ... والسبب الرئيس في هذا هو الفهم الخاطئ للدين .
وإن مسؤولية النهوض من هذه الكبوة تقع على عاتق الرجل والمرأة على السواء ، فحين ندرك أن الدين ليس صلاة وصياماً وحجاً وزكاة فقط ، بل إن مشاركة المرأة السياسية دين ، ومشاركتها الاقتصادية دين ، ومشاركتها الاجتماعية والثقافية دين ، وأن دورها لايقتصر فقط على إنجاب الأولاد وتربيتهم على أهميته ، عندها فقط نستطيع أن نرتقي بالمرأة إلى الصورة الحقيقية التي رسمها لها القرآن الكريم ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم
وهذا ما أدركه السفير الألماني في اليمن « مراد هوفمان » الذي أعلن إسلامه ، وقال في كتابه « الإسلام كبديل » :
«صححوا أوضاع المرأة المسلمة عندكم فإنها تنفر الأوروبيين من الإسلام ».
ومع هذا الوضع غير المرضي للمرأة المسلمة اليوم ، والذي يحاول الغربيون استغلاله لتشويه صورة الإسلام ، فإني أقول :
إن وضع المرأة المسلمة اليوم ، رغم ترديه وتقهقره ، فإنه أفضل حالاً من وضع المرأة الغربية ، وإذا كان ولابد لأحد الطرفين الشرقي أو الغربي من أن يأخذ بيد الآخر ، فإننا الأجدر والأفضل رغم سوء أحوالنا ...
وأخيراً أقول للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط :
كفاني الله شرك يابن عمي فأما الخير منك فقد كفاني(19/3)
============(19/4)
(19/5)
المدارس الأجنبية في بلادنا ... غزو آن له أن ينتهي
د. ليلى بيومي
25/8/1427
في تقرير لروبرت ساتلوف مدير قسم السياسة والتخطيط في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى قال: " المدارس الأمريكية في البلاد العربية والإسلامية ليست مجرد صروح تعليمية رفيعة المستوى، بل هي سلاحنا السري في معركة أمريكا الأيديولوجية لأمركة المجتمعات العربية والإسلامية "
وفي مقالته يكشف روبرت ساتلوف النقاب عن وجود 185 نوع من المدارس الأمريكية منتشرة في 132 دولة , من بينها 50 مدرسة ( بفروعها ) في البلدان العربية والإسلامية، وأنها تخضع مباشرة لإشراف وزارة الخارجية الأمريكية من خلال مكتب خاص يسمى مكتب المدارس الأمريكية عبر البحار!
ويركز ساتلوف على اعتماد المدارس الأمريكية على مبدأ الاختلاط بين الذكور والإناث في جميع المراحل الدراسية، وعلى الدور الذي تقوم به في فرض نمط الحياة الأمريكية على طلابها من العرب والمسلمين من خلال الترويج للثقافة الأمريكية وأسلوب الحياة الأمريكية بين طلابها وطالباتها العرب والمسلمين.
هذه شهادة من أهلها نقدمها إلى قومنا في البلاد العربية والإسلامية الذين يرفضون صيحات التحذير من تلك المدارس التي تقوم بدور موجه لتغيير أنماط الفكر والسلوك لدى أبنائنا ومن ثم لدى الشباب
هذه شهادة من أهلها نقدمها إلى قومنا في البلاد العربية والإسلامية الذين يرفضون صيحات التحذير من تلك المدارس التي تقوم بدور موجه لتغيير أنماط الفكر والسلوك لدى أبنائنا ومن ثم لدى الشباب ويعتبرون ذلك انسياقاً وراء مفهوم المؤامرة الذي يجعلنا نعلق كل مشاكلنا على شماعة الغرب لنخلي مسؤوليتنا عنها.
إن التعليم هو أحد المحاور الرئيسة في تكوين الشخصية وصبغها بالشكل الذي تنمو عليه، وهو الذي يعمل على صياغة العقول والنفوس منذ الصغر.
وعلى سبيل المثال فإن المدارس البروتستانتية الأمريكية التي انتشرت في بلادنا مثلت في مجموعها منظومة تعليمية عملت على ربط أبناء هذه المدارس بالشكل الديني (البروتستانتي) وفيما بعد بمنظومة الحياة الأمريكية.
لذلك نجد نظام التعليم بها يصنع في عقول التلاميذ نوعا من الإكبار إن لم يكن التقديس للمنظومة الأمريكية، سواء في القيم أو العادات أو حتى في النمط الاستهلاكي؛ ومن ثم نجد أن أغلب المنتجات الأمريكية تستند في ترويجها إلى تلاميذ هذه المدارس الذين يزرعون في من حولهم حب التشبه بهم، فيمتد الترويج لما هو أمريكي بين الجميع.
وسائل ومضامين مسمومة
يقول د. إبراهيم الريس أستاذ مناهج التربية : إن خطورة هذه المناهج الأجنبية التي تدرس في المدارس الأجنبية في البلدان العربية أنها تحمل لنا وسائل وأدوات ومعاني مسمومة ومضامين ذات أبعاد إيديولوجية وسياسية تخالف تقاليدنا ومعلوماتنا ومعارفنا , بل ووصل الأمر في بعض الدول العربية للاستعانة بأمريكيين وأجانب لوضع المناهج الدراسية العربية، مما أثار انتقادات بشأن حذف مقررات دينية معينة أو سور قرآنية عن اليهود (لتسهيل التطبيع)، غير حذف بعض المعارك والبطولات العربية باعتبارها عنف لا مبرر له للطلبة!.
أما أخطر ما في هذه المناهج الأجنبية فهو تكريس وترسيخ معنى ذهني خطير في عقول الأجيال وهو ضرورة فصل الدين عن الدولة بمعانٍ مختلفة ومتداخلة وخفيةٍ والاتجاه بفكر هذه الأجيال إلى نهج الدولة العلمانية، وهذا الاستيراد الآلي غير المدروس والذي تتلقاه عقول أبنائنا على أرض هذه الدولة جاء في ظل غياب هيئة رقابية وطنية عليا مختصة، وعلى دراسة دقيقة بأمر هذه المناهج الأجنبية وفرزها وفق الأسس والضوابط الخاصة بتقاليد وأخلاقيات كل دولة، وليس هذا غريبًا، خصوصًا أن غالبية هذه المدارس والجامعات الأجنبية لا تخضع مناهجها للمراقبة من قبل وزارات التعليم في الدول العربية، وقد نتج عن ذلك حالات غريبة لتدريس كتب ومواد تخالف تاريخ وتقاليد وعادات المجتمعات العربية.
وعلى سبيل المثال فإن المدارس البروتستانتية الأمريكية التي انتشرت في بلادنا مثلت في مجموعها منظومة تعليمية عملت على ربط أبناء هذه المدارس بالشكل الديني (البروتستانتي)
فبجوار ما سبق كشفه من كتب تدرس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، تم كشف كتب أخرى مشبوهة تدرس في المدارس، ففي إحدى المدارس الأجنبية تم الكشف عن كتاب في مادة التاريخ كان يدرس للطلاب تاريخ قيام دولة إسرائيل، كما أن بعض المدارس تتعمد ألا تقدم شيئًا عن تاريخ الدول العربية والإسلامية ولا لغتها، وإذا تم تدريسها في بعض من تلك المدارس الأجنبية فإنه يدرس من وجه نظر أجنبية.
وهذا الأمر- كما يقول د. إبراهيم الريس- قد يؤدي في المستقبل إلى نتائج خطيرة وإلى تجزئه ثقافية في فكر المجتمع وإلى نوع من الاختراق الثقافي والاجتماعي والطائفي والسياسي والاقتصادي، وإلى نوع من التآكل الفكري والحضاري لكل مقومات الوطن الحضارية والتاريخية والدينية، وبالتالي اقتلاع كل الجذور التي صنعتها مؤسساتنا الاجتماعية والتربوية الوطنية في فكر المجتمع.
ليسوا أبرياء(19/6)
ويذهب الخبير التربوي الدكتورعماد حسين إلى إن القائمين على التعليم الأجنبي من الأجانب لم يأتوا إلى بلاد المسلمين أبرياء من الهدف، وبالتالي لابد أن نبحث عن الأهداف التي تركوا بلادهم وأهلهم من أجلها، لا توجد أعمال خيرية في العلاقات الدولية، ولذلك فإن هناك أهدافا غير بريئة من وراء وجود المدارس الأجنبية في أراضي المسلمين.
والمستعمرون أنفسهم اعتبروا السياسيات التعليمية أحد أهم المحاور التي يجب السيطرة عليها؛ ولذلك وجدنا دانلوب في مصر يقوم بوضع برامج تخدم إنجلترا، والسلطة الفرنسية في الجزائر منعت التعليم باللغة العربية، وأغلقت كافة المدارس الإسلامية بما يتيح لثقافتها أن تسود.
القادمون إلى بلادنا من الغرب يحملون أهدافا تركوا من أجلها راحتهم وبلادهم، وعلى هذا فهم قد تفرغوا للقيام برسالة يؤمنون بها، وهي ألا يتكرر مشهد الفتوحات الإسلامية مرة ثانية، سواء ما حدث في العهد الأول من الدولة الإسلامية، أو ما حدث على يد الدولة العثمانية من محاصرة العواصم الأوربية تحت راية الإسلام، وبالتالي فهم يهدفون بشكل أساسي إلى تمييع المعاني والعقائد الإسلامية؛ حتى لا يتكرر مثل هذا الجيل مرة ثانية؛ ولهذا فإن ما يتوجه إليه الغرب الآن من توجيه قدراته نحو المناهج والمدارس الإسلامية ليس إلا حلقة جديدة في هذا المخطط.
مأوى للتبشير والاستعمار
أما أخطر ما في هذه المناهج الأجنبية فهو تكريس وترسيخ معنى ذهني خطير في عقول الأجيال وهو ضرورة فصل الدين عن الدولة بمعانٍ مختلفة ومتداخلة وخفيةٍ والاتجاه بفكر هذه الأجيال إلى نهج الدولة العلمانية،
يذهب د. محمدي سلامة أستاذ التاريخ إلى أن المدارس الغربية في البلاد العربية والإسلامية مأوى للتبشير والاستعمار معاً، وهي تجعل من نفسها داعية لدين غير دين البلاد، كما تجعل من نفسها حكومة داخل حكومة البلاد، وفي ذلك إهدار للاستقلال، ومدعاة للفساد.
إن الأمم الحريصة على توحيد كلمتها وتوحيد آمالها، تصب أبناءها في قالب واحد، حتى يكونوا متفقين متساندين، أما هذه المدارس فتجعل أبناء البلاد شيعاً كل طائفة تصطبغ بصبغة خاصة، وهنا تتضارب الميول، وتتنازع الآمال، ويكون أبناء البلد الواحد، بعضهم أعداء بعض وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى.
ويضيف د. محمدي أن من الخطأ أن يُسلِم الوالد ولده إلى المدرسة التبشيرية لتأخذه عدة سنوات، فتتسلمه ولداً صحيحاً بعقيدته وثقافته ودينه، ثم بعد حين ترده إلى أهله وأمته وبلاده ولداً مزيفاً، ما كان فيه قد أُخِذَ منه، وما أعطيه ففاسد لا جدوى منه ولا منفعة.
وليس من المعقول ولا من الجائز أن تستورد أمة لها شخصيتها ورسالتها، ولها عقائدها ومناهج حياتها، ولها طبيعتها ونفسيتها، ولها تاريخها وماضيها، ولها محيطها الخاص وظروفها الخاصة، أن تستورد نظاماً تعليمياً من الخارج، ولا أن تكل وظيفة التعليم والتربية وتنشئة الأجيال، وصياغة العقول إلى أناس - مهما بلغوا من البراعة في التدريس، وإتقان اللغات والفنون- لا يؤمنون بهذه الأسس والعقائد، ولا يتحمسون لشرحها وتعضيدها.
ازدواج لهوية الطفل
ومن جانبه يؤكد الأستاذ الدكتور يونس الحملاوي الأستاذ في جامعة الأزهر والأمين العام للجمعية المصرية لتعريب العلوم : أن التعليمَ باللغات الأجنبية للأطفال دون سن الثانية عشرة يؤدي إلى حدوث التشويش اللغوي لديهم فتختلف عليهم الحروف العربية والحروف الأجنبية، وتوجد دراسات أخرى حول قضية الازدواج اللغوي وخطورة هذا الازدواج على هوية الطفل وانتمائه الحضاري؛ لأن فرنجة اللسان قد يستتبعها فرنجة العقل والسلوك، وهنا مكمن الخطورة، وتؤكد تلك الدراسات على ضرورة أن يتعلم الطفل في بدايات حياته باللغة العربية حتى إذا أتقنها اتقانًا تامًّا نبدأ في تعليمه اللغات الأجنبية حتى لا يُعاني الازدواج اللغوي.
ومخاطر التدريس باللغات الأجنبية ليست مقصورة على مستوى ما قبل الجامعة، ولكن هناك مخاطر التدريس داخل جامعاتنا العربية باللغات الأجنبية، وهي مخاطر واضحة على كفاءة العملية التعليمية وكفاءة الخريجين وإهدار الأموال على تعليمٍ يعطي مردودًا متدنيًا إلى جانب العدوان على اللغة العربية وإهانتها في وطنها فلا توجد دولة في العالم تقوم بتدريس العلوم التطبيقية بغير لغاتها القومية، فاليابانيون يدرسون تلك العلوم باليابانية والصهاينة بالعبرية والألمان بالألمانية.. وهكذا، جامعاتنا فقط هي التي لا تعرف أهمية اللغة العربية وتشعر بالدونية أمام اللغات الأجنبية.(19/7)
كما أن استمرار التدريس باللغات الأجنبية يجهض أي مشروع لإنتاج المعرفة والإبداع في المجالات المختلفة؛ لأن هناك حقيقةً تربويةً ونفسيةً تؤكد أن الإنسان لا يستوعب العلم ولا يستطيع أن يُبدع إلا من خلال لغته القومية، والمتأمل في المستوى العلمي للخريجين من الكليات التطبيقية يفاجأ بتدني هذا المستوى وعدم قدرتهم على الاستيعاب وضعفهم في اللغتين العربية والأجنبية معًا، وهناك دراسات مصرية وأردنية وسعودية تشير إلى أن كفاءة التعليم والتعلُّم باللغة الوطنية تفوق بكثير التعليم والتعلم باللغة الأجنبية، وهذه الدراسات موجودة ومنشورة.
وجهة نظر مخالفة
إلا أن هناك وجهة نظر أخرى تتبناها د. كوثر كوجك خبيرة المناهج التي ترى أن التعليم الأجنبي مدخل معقول للتغلب على مشكلات التعليم الحكومي، وأننا يجب أن نختار بين تعليم أجنبي حديث فيه بعض السلبيات التي قد تؤثر في الهوية والثقافة واللغة العربية، وتعليم حكومي مليء بالسلبيات ولا يواكب العصر , وتقول إن الكثيرين يصورون التعليم الأجنبي على أنه كلَّه شرور، والهدف منه تغريب المجتمع والأمة، وإبعادنا عن الدين الإسلامي، وفي هذا مبالغة - بحسب قولها - لأن المتأمل للتعليم الأجنبي يجد أن له إيجابيات ، واختيار التعليم الأجنبي قد يعكس رغبة جدية في النهضة، ومواكبة العصر، والإفلات من حالة التخلف. كما ترى أنه من المهم في هذه الحالة التأكيد على دور وسائل التنشئة الاجتماعية الأخرى لتفادي ما يحدث من خلل ومن سلبيات، ونعني بشكل خاص التربيةَ الأسرية، ودور المؤسسات الإعلامية والتعليمية والدينية , وقد يكون لوجهة نظر الدكتورة كوثر صدى لدى بعض المشجعين للثقافة الانفتاحية الغير مقيدة بضوابط البيئة الإسلامية وقيمها , إلا أن هذا الكلام لا يمكن أن يعدو الحديث النظري الخالي من التدقيق والبحث العلمي حيث ثبت بما لا يدع مجالا للشك الدور السلبي والتغريبي الخطير الذي تقوم به هذه المدارس التي يغلب عليها الفكر التبشيري المتحرر
أهداف تربوية مختلفة
ترى د. بثينة عبد الرءوف رمضان أستاذة التربية أن المدارس الخاصة التي تقوم بتطبيق نظام تعليمي أجنبي انجليزي أو أمريكي أو فرنسي أو كندي تقوم بتدريس مناهج تختلف حسب البلد التابعة له وتحقق الأهداف التربوية للبلد الأصل، ومعظم هذه المدارس ارتبط دخوله إلي مصر في الماضي بفترات الاستعمار، والمدارس التي تقوم بتدريس المنهج الأمريكي هي الأكثر انتشارا في بلد مثل مصر. إن هناك اختلافا بين كل من نظام التعليم الأمريكي والتعليم المصري من حيث مرجعية الأهداف، وهذا يعني أن هناك اختلافا في النتائج، والتي يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط، أولا، دخول الأطفال في سن مبكرة إلي المدارس الأمريكية يؤدي إلي صراع داخل الفرد لتشكيل الهوية. ثانيا: تسهم المناهج الأمريكية في نقل القيم الأمريكية بما يؤدي إلي ضعف الولاء والانتماء للمجتمع المصري. ثالثا: تعلم المدارس الأمريكية علي تهميش الثقافة الوطنية واللغة القومية.
اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان إدراك هويته، فإذا فقدت الأمة لغتها فقدت هويتها. ومن حق الشعوب تعلم اللغات الأجنبية بما لا يؤثر علي اللغة الأم وينعكس سلبا علي الهوية القومية. إن عصر العولمة يتطلب معرفة بمختلف اللغات مع ضرورة الاحتراس من أضرارها. وتعلم التلاميذ اللغات الأجنبية في سن مبكرة لا ينبغي أن يكون علي حساب اللغة الأساسية لتلك الجماعات والأمم. فاللغة الأساسية هي التي تؤثر في وجدان الشخص، أما اللغات الأجنبية علي أهميتها فلا تؤثر في وجدانه. إن اللغة تمثل حلقة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل.
تفكيك ثقافي
أما د. حامد عمار - شيخ التربويين المصريين- فلا يستبعد، بل يرجح، من المنظور الثقافي، أن التعليم الأجنبي أو باللغة الأجنبية قد يراه الغرب وسيلة لتكوين عقلية وثقافة تخفف ما يزعمونه من أن نظم تعليمنا ومناهجها وأجواءها مصادر لتوليد العنف الذي قد يشتط ليصل إلي مرحلة يسمونها الارهاب, وبذلك يصبح التعليم الجديد أداة للاندماج في ثقافة الغرب وقيمه والتقدير الوافر لها ولفرصها في العمل. ويكفي هنا أن نشير إلي دعاوي اليمين المسيحي الصهيوني في أمريكا، وإلي تنظيرات هنتنجتون وفوكوياما في اعتبار الإسلام العدو الحالي لحضارة الغرب في صراع الحضارات بعد زوال الاتحاد السوفييتي عدوهم السابق.
وثمة علاقة بين اتفاقية الدول الثماني الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فيما عرف بمشروع الشرق الأوسط الكبير، من أجل إعادة تشكيل خريطة المنطقة، وتفكيك الروابط والوشائج التاريخية والثقافية بين الدول العربية، وإذ تعتبر تدريس اللغة العربية والتعليم من خلالها عقبة في تحقيقه. وينبغي العمل علي استبداله بلغة أجنبية، بما يعين علي التخلخل الثقافي، بل ذوبان ما تبقي من عوامل التواصل والارتباط في دائرة الوطن الغربي.(19/8)
وباختصار فإن موجة التعليم باللغة الأجنبية، إنما تتجه في تعليمها إلي الخارج، إلي السوق العولمي إلي إنتاج الفرد السوقي، لا المواطن العربي المسلم. يتم ذلك في مؤسسات وثقافات تتسرب دون وعي يقظ منا لأهدافها المستترة تحت مظلة نشر العلم والمعرفة الجديدة لصالح سياقنا الإنمائي والحضاري والديمقراطي. وهو شعار حق يراد به باطل من حيث مخاطره والتي قد تؤدي إلي ذوبان هويتنا الحضارية، بل وانسلاخ أجزاء الوطن العربي من ثقافتها وتراثها الحي ولغتها ومصالحها.
==============(19/9)
(19/10)
ثلاث رسائل
د.عبد الله قادري الأهدل
الرسالة الأولى: إلى الشعب العراقي:
أيها الشعب المسلم الشجاع الأبي، لقد ابتليت بمحن كثيرة من حكم كثير من أبنائك، وآخرهم النظام الذي أطيح به قبل عام.
ولكن البلاء الأشد جاء من بعض أبنائك الذين باعوك وباعوا وطنك وعزتك وخيرات واقتصادك ومقدساتك وعرضك، عندما ذهبوا يستجدون البيت الأبيض، ليزيح النظام السابق، ويعتلون هم كرسي الحكم في العراق، على سُلَّمٍ أجنبيٍّ، هو الدبابة الصليبية الأمريكية، لأن غالبهم كانوا يعلمون أن الشعب لا يمكن أن يقبل عملاء أعدائه الذين يتخذون أولئك العملاء همزة وصل تسقط عند الدرج، أو محللين كمحلل المطلقة ثلاثا لمن طلقها...
وكان أولئك العملاء يظنون أنهم سينعمون تحت مظلة الجيش الأمريكي، بحكم مستبد جديد، اسمه الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، ويصدرون القوانين والأنظمة باسمهم، بعد أن يتلقوا التوجيهات بها من ولي الأمر الحقيقي!
ولم تخف على عقلاء الشعب وأحراره قبل الاحتلال وبعده، أهداف الحملة الأمريكية الظالمة، وهي السيطرة على العراق والشعوب العربية والإسلامية، واستغلال خيرات المنطقة، وإيجاد الفرقة والشقاق بين أهلها، ومحاربة الإسلام باسم الإرهاب، وتمكين الدولة اليهودية من السيطرة على الشرق الإسلامي، باسم الشرق الأوسط الكبير، كل ذلك تحت الشعارات الكاذبة السابقة.
واليوم يا شعب العراق، ظهر للعالم كله سوء النوايا المبيتة ممن باعك من أبنائك، وممن قتلك وشردك وانتهك مقدساتك وعرضك، ودمر كل مرافقك، إضافة إلى السيطرة على خيراتك.
وعندما سقط تمثال حاكم العراق السابق في وسط بغداد، كان كل من له عقل رشيد سليم، يعلم أن احتلال العراق ليس نزهة يتمتع بها العدو المغتصب، لأن العراق هو العراق في القديم وفي الحديث، وإلي ذلك أشار الكاتب، بهذا العنوان صباح سقوط بغداد:
و بقي العراق!
ولقد أثبت الشعب العراقي أنه باق، لم تخضع الأسلحة الفتاكة ولا الجيوش المتوحشة، والمشاهد هو البرهان...
اعتدى العدو الأجنبي الظالم على الشعب العراقي في بلده، فوقف وقفة المعتدى عليه المظلوم، خذله إخوانه وأهله المحيطون به، فلا نصير له إلا ربه، ثم إيمانه وجهاده وصبره ومصابرته، وتلك هي أسس عوامل نصره...
واليوم عرف المعتدون أنهم في ورطة لم يكونوا يتوقعونها، ولم تنبئهم بها استخباراتهم وأقمارهم التجسسية، لأن القوة العراقية لم تكن تحت ضوء الشمس حتى تنقل لهم استخباراتهم وجواسيسهم صورها، وإنما كانت في نفوس العراقيين وقلوبهم، فأبانت عن نفسها في وقتها!
اليوم عادت الطائرات الحربية والصواريخ والأسلحة الثقيلة تدمر على أهل العراق بيوتهم، وتقتلهم قتلا جماعيا في شوارعهم وأسواقهم ومنازلهم ومستشفياتهم ومساجدهم، لا تفرق بين كبير وصغير وامرأة ورجل... وهم يناشدون إخوانهم العرب والمسلمين والجامعة العربية وهيئة الأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي أن يستنكروا [فقط] ظلم حكام أمريكا وعدوانهم، فلم يجدوا من تلك المؤسسات من يستجيب لندائهم...
اليوم نقول لك يا شعب العراق، لا تنتظر من أولئك كلهم نصرا، فقد سبقك الشعب الفلسطيني الذي ينادي هذه النداءات منذ أكثر من خمسين عاما، ولم يتلق إلا الخذلان، لأن أمريكا قد قالت لهم جميعا، كما قال فرعون: "أنا ربكم الأعلى"
ولم يبق لك أيها الشعب إلا توكلك على ربك واللجوء إليه ونصح كل رجل وكل امرأة وكل طفل، أن يتقربوا إلى الله بالصلاة والدعاء ليلا ونهارا، بأن ينزل الله عقابه بالمعتدين الظالمين، وهذا ما يجب أن يفعله جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا بيد أن يستجيب الله دعاء المظلومين، وينصرهم على الظالمين، كما نصر رسله على أممهم المعتدين، من نوح - عليه السلام - إلى محمد صلى الله عليه وسلم ... وفي قصصهم القرآني آيات وآيات:
"وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" "وانصرنا على القوم الكافرين" وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) وقال لمعاذ العالم الصحابي الجليل: (واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) وفي الاتحاد السوفييتي عبرة...
فأكثروا من دعاء الله والاستعانة به، واتخذوا ما تملكون من أسباب الدفاع عن نفوسكم ودينكم وذريتكم وأموالكم، وأبشروا بنصر ربكم، فأنتم بلادكم وعدوكم زبد طارئ عليكم:
"فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ" [الرعد (17)]
الرسالة الثاني: إلى الشعوب الإسلامية وحكامها:(19/11)
أيتها الشعوب الإسلامية، إن العدو الصليبي الجديد، والعدو اليهودي الأثيم، مصممان على هذه الحملة الظالمة المتجبرة على عدوانهما عليكم وعلى دينكم الذي سموه "العدو الأخضر" بعد قضائهم على الاتحاد السوفييتي الذي كانوا يسمون "العدو الأحمر" ولسنا في حاجة إلى إقامة البينات على هذا التصميم وهذا العدوان، فسماؤنا، وأرضنا ورمالنا وصحارينا وودياننا وجبالنا، وبحارنا وأنهارنا، ومساجدنا وعلماؤنا ونساؤنا وأطفالنا، ومستشفياتنا، كلها تؤذن وتسمعنا أذانها كل حين، بهذا العدوان السافر...
وإن ما يقع في فلسطين والعراق وأفغانستان، في طريقه إلى كل بلد إسلامي، وبخاصة البلدان العربية، التي هي أرض الرسالات وقلب الأمة الإسلامية، ولولا أن الله وفق الشعب العراقي المسلم الشجاع، أن يقف أمام المعتدين هذا الموقف الجهادي العظيم، لكان المعتدون قد ألحقوا به شعوبا أخرى مجاورة...
وهذا يوجب على علماء الأمة الإسلامية وحكامها ومفكريها وعقلائها، أن يتنبهوا لهذا الخطر الداهم، ويبصروا الأمة بالعواقب الوخيمة التي ستنزل بهم إذا استكانوا وتنازعوا فيما بينهم ذلك التنازع الذي ذكر الله - تعالى - ما يترتب عليه، من الذل والهوان وذهاب القوة: " وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " [الأنفال (46)]
فنحن جميعا في سفينة النجاة أو الهلاك، سفينة النجاة إذا تعاونا على البر والتقوى وتناصحنا فيما بيننا تناصح صدق ووفاق، لا كلام ألسن ونفاق، فلا نجاة إلا بالنصح والصدق والوئام...
وسفينة هلاك إذا نحن نأينا بأنفسنا عن النصح والتعاون على البر والتقوى، وبقينا ننظر إلى هذا السيل الجارف الذي يريد أن يحطم كل السدود التي تغرقنا وتغرق سفينتنا، أشد مما أغرق سيلُ العرم أهلَ سبأ، وذلك الزلزال المدمر الذي سيعم تدميره ولا يخص:
"وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " [الأنفال (25)]
ارجعوا إلى ربكم، وفتشوا عن عيوبكم، وأصلحوا شأنكم، أنفسكم واقضوا على كل فساد حل بدياركم، ما دام في الوقت سعة، ولا تنتظروا ما ينادي به عدوكم من الصلاح، فهو لا يريد إلا مزيدا من فساد هذه الأمة.
اعرفوا الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، ولا تستجيبوا لما يريده بكم عدوكم، من التفريق بينكم، واتخاذه بعضكم سلما للسيطرة عليكم، كما فعل بغيركم قبلكم...
وتذكروا هذا المثل العظيم الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم ، في حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما -، عندما قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو: أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) [صحيح البخاري (2/882)]
الرسالة الثالثة إلى الشعب الأمريكي
أيها الشعب الأمريكي تنبه لسياسة زعمائك الخارجية الخرقاء التي جعلت تتعجب من سكوتك على عدوان زعمائك ودعمك لهم بالضرائب التي أثقلت كاهلك، وهم يستغلونها في ظلم الشعوب والعدوان عليهم، وقتل أبنائهم وتخريب ديارهم، والسيطرة على مصالحهم بدون حق..
إنهم يخدعونك أيها الشعب ويزينون لك الباطل، ويسمون الظلم عدلا والاستعباد حرية، وإخافة الناس وإرهابهم أمنا واستقرارا.
إنهم يدفعون بأبنائك إلى الحروب الظالمة، ليعيدوهم إليك في نعوش أو معوقين فقدوا العيش الرغيد الذي كانوا يتمتعون به بجوار أسرهم في ربوعك.
أترضون أيها الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأبناء والبنات، أن تروا أقرباءكم يحترقون في دباباتهم وفي طائراتهم التي يصطادهم فيها المظلومون في الأرض والجو، أترضون أن تستقبلوا أقرباءكم في النعوش وقد ودعتموهم أحياء؟
أترضون أن تروا أبناءكم يقتلون النساء والشيوخ والأطفال في منازلهم؟
ألا ترون أنه من الجنون والحمق والخرق، أن تختاروا لقيادتكم من يقودكم إلى دماركم وهلاككم؟
ألا تعتبرون بالاتحاد السوفييتي الذي اعتدى وظلم وتجبر، وكان غنيا قويا، فتمزق إلى دويلات وأصبح ضعيفا فقيرا؟
إن شعوب العالم مهما ضعفت لا بد أن تدافع عن نفسها، ولو بأسنانها و أظفارها، وإن هذه الشعوب التي كانت ترى في الشعب الأمريكي شعب النظام والقانون والعدل والديمقراطية والتسامح، أصبحت ترى فيه الفوضى والظلم والاستبداد والتعصب البغيض، بسبب مواقف قادته.
إن علماء المسلمين وزعماءهم لا يقرون العدوان على أبنائكم ومؤسساتكم في بلادكم، وقد أنكروا ما حصل في 11 سبتمبر، ولكن الظلم الذي يصدر من قادتكم على الشعوب الإسلامية في فلسطين والعراق وغيرهما، يثير في كثير من أبناء الشعوب الإسلامية الغيرة والحقد ويتصرفون تصرفات من قبل أنفسهم تصرفات لا يستطيع كثير من آبائهم ولا أسرهم ولا حكوماتهم أن يحولوا بينهم وبين تلك التصرفات.(19/12)
ولكنكم تستطيعون أنتم أن تعيدوا احترام أبناء الشعوب الإسلامية لكم وتوقفها عن محاولة الهجوم عليكم في بلادكم وفي خارجها، إذا توقفتم عن دعم ظلم زعمائكم لتلك الشعوب، فلم تنتخبوا من يعتدي عليها ولا من يقف مع الظالمين اليهود على المظلومين في فلسطين وفي غيرها...
لقد كان أبناء الشعوب الإسلامية لا يرضى غالبهم بأمريكا بديلا في طلب العلم وفي السياحة وفي التدريبات المتنوعة، وفي التجارة والاقتصاد وغيرها...
وقد خسرتم اليوم أموالكم وأبناءكم وأصدقاءكم، فهل يليق بكم أن تستمروا في دعم زعمائكم الذين جلبوا لكم تلك الخسارات، وجعلوكم تعيشون في رعب ممن لم يستطيعوا السيطرة على أنفسهم بعد أن حصل العدوان على بلدانهم...
إننا ندعوكم إلى التفكير في مصالحكم ومصالح أبنائكم وشعبكم، وأمنكم، ونعتقد أن هذا الشباب الذي يقوم بهجماته عليكم في الداخل والخارج، سيقف عن تلك الهجمات وسيسمع ويطيع للمفكرين والعقلاء الذين ينصحونه اليوم فلا يبالي بهم.
18/2/1425هـ ـ 8/4/2004م
http://saaid.net المصدر:
============(19/13)
(19/14)
إطلالة على أحداث لندن
تاريخ النشر : 07-16-2005 |
لا تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً ولا راهباً في صومعته ولا تقطعن شجرة ولا تحرقنّ بيتاً، هذه هي المعاني التي تمثل القواعد العامة للتعاطي مع ما يطلق عليهم اليوم اصطلاحاً "المدنيين"، وهي تمثل مجموعةً من الأحكام الشرعية التي تركها النبي الكريم لإرشاد المسلمين في كيفية تعاطيهم في حروبهم مع أعدائهم في ميادين القتال وساحات المعارك، ما يجعل استهداف "المدنيين" أشد حظراً خارج دائرة الحرب.
جعلت ذلك مدخلاً للحديث في الموضوع بغية وضع الأمور في نصابها، ولحسم قضية عدم جواز استهداف المدنيين لا في الحرب ولا في السلم. أما بالنسبة للحدث بحد ذاته فإن هناك مجموعة من المعطيات لا بد من التوقف عندها لبلورة قراءة متعمقة للحدث.
فالتفجيرات التي تستهدف المراكز المدنية في بريطانيا عموماً منبعها الجيش الجمهوري الأيرلندي بالعادة، وليس للمسلمين سابقة واحدة فيها، وأما ردة فعل المسلمين كمتهمين بشكلٍ تلقائي عند وقوعها هذه المرة، إنما هو نتيجة لذلك النجاح الذي حققته حكومات الغرب من خلال أجهزتها المختلفة ووسائل إعلامها المحترفة بالتلبيس على الرأي العام العالمي في القضايا الدولية، وبجعل المسلمين المشتبه الأول الجاهز للبس التهم. ما صنع عقدة المرادفة، بأن المسلم هو مذنب إلى أن يثبت العكس!
وهناك حالة من الانصياع لهذا المفهوم حتى عند المسلمين، الأمر الذي يدلل على مدى الهزيمة النفسية التي يحيونها للأسف الشديد. وهو ما يفسر تعاطي المسلمين مع كل حدث يقع في هذا الكون بعقدة ذنب مستديمة، وعليهم ذرف الدموع وكيل الاعتذار والشجب والاستنكار، والويل لمن لا يفعل ذلك منهم!؟
فمع المسلمين لا داعي للتحقيق والبحث عن الأدلة لإثبات أنهم مذنبون، ويكفي أن يقوم بلير بالإشارة إلى ذلك ضمناً كما جاء في خطابه فور سماعه بالحادث، مع أنه لم يتم بعد إسعاف الجرحى في حينها.
وبذلك أجج بلير الرأي العام على المسلمين، بإلقائه التهمة الجاهزة جزافاً عليهم، مع عدم نسيانه طبعاً إظهار "انسانيته" بأنه ليس كل المسلمين مجرمين! - يا سلام - ، وذلك بدلاً من أن يدعو إلى تهدئة الأمور بانتظار التحقيقات والتحذير من خطورة إطلاق أحكامٍ متسرعة، حتى تهدأ النفوس وتظهر الحقائق، فكان كمن يصب الزيت على النار، ما قد يفسر بأن هناك أجندة ما معدة سلفاً، يراد تجيير الحدث لتحقيقها، فبلير ليس بالرجل الساذج ليقع في مثل تلك الخطيئة، ما يلمح إلى أن وراء الأكمة ما وراءها!
وأما ما ادعاه توني بلير بأن من يقف وراء تلك التفجيرات إنما يريد أن يغير قيم المجتمع البريطاني، فإنه محض تغذية للحالة العدوانية اتجاه المسلمين، إذ أن من المعلوم أن أعمال العنف لا تغير قيما بل ترسخها بالعادة، وكل ما تحدثه مجرد خوف وقلق، فالقتل والتفجير يستعملان للترويع، وهما ليسا برسالة فكرية لإحلال قيم مكان أخرى، وكأنما أراد بلير من وراء ذلك ايجاد مزيد من الضغوط النفسية على المسلمين إضافة إلى تجييش الرأي العام البريطاني خلفه، بغية قطع الطريق أمام هجوم متوقع على سياساته والحط من قدره، ما يخشى معه من تأليب الرأي العام عليه وعلى حكومته، خاصة أنه كان قد قاد حرباً في العراق لا تتمتع بأدنى شعبية، وهو حليف استراتيجي للإدارة الأميركية الأكثر بغضا في العالم.
كما أن بلير يعي تماماً أنه مع شركائه في المعسكر الغربي، هم من يريدون تغيير قيم المسلمين ومفاهيمهم عن الحياة وينادون بذلك صراحةً، بل ويلزمون الأمة الإسلامية بتغيير أفكارها ومناهجها وطريقة عيشها ويعتبرون ذلك شرطا لِتُقبل في ملتهم، سواء في العالم الإسلامي من خلال تطبيق منظومة دمقرطة الشرق الأوسط الكبير على الطريقة الأميركية، أو في بلاد الغرب من خلال عملية دمج المسلمين ضمن قيم ومفاهيم ووجهة نظر الغربيين الخاصة بهم عن الحياة.
وأما بالنسبة لتشديد الحملة على الإرهاب كما جاء في خطاب بلير، فإنها باتت نكتة سمجة، وسيمفونية مملولة بعد أن استُعمِلت "عمال على بطال"، وقد تم استهلاكها إلى آخر رمق في السنوات التي تلت أحداث 11 سبتمبر، بخاصة أن تلك الحملة قد حولت أفغانستان إلى أكبر منتج للسموميات المخدرة في العالم، بعد أن قضت عليها حكومة طالبان إلى حدٍ بعيد باعتراف من هيئة الأمم المتحدة، بل وأعادت أمراء الحرب ليسوموا أرض الأفغان سوء العذاب، كما حولت أرض العراق إلى بحيرة من الدماء، وقسمت البلد فعليا، وأججت فيه حرباً طائفية تؤذن بشّرٍ لا يطاق، كان العراق تحديداً أبعد ما يكون عنها. كما لم تحقق تلك السياسات العنجهية من قبل بوش وبلير الأمن في العالم، بل بات القلق والاضطراب هو سيد الموقف.(19/15)
وأما بالنسبة للادعاء بأن تنظيم القاعدة هو من يقف وراء الأحداث الأخيرة، خصوصاً بعد نشر بيان منسوب له يدعي ذلك، فإن هناك ثلاث نقاط تدحض صحة نسبة ذلك الزعم: أولاً، الخطأ اللغوي في نص الآية في ختام البيان، وهذا أمر لا يستهان به عندهم. ثانياً اشتمال الخطاب على نداء إلى "الأمة العربية"، وهذا مفهوم يتناقض مع العقيدة الإسلامية، ويعتبر استعماله من المحظورات في أدبيات القاعدة بل ردة عن الإسلام، لأنه يغذي النفس القومي الجاهلي ويدعو إلى العصبية القومية المقيتة، والثالث الاسم الغريب المركب للجماعة الذي صيغ باسمه البيان، والذي لا تقدم على فعله جماعة لها باع في العمل الحركي. ما يشير إلى أن هناك محاولات لإلصاق الموضوع بالقاعدة وتلبيس المسلمين التهمة بغض النظر عن الحقيقة.
على كلٍ صحيحٌ أن السياسات الخرقاء التي يتبعها الغرب في العالم قد تجعل التفسير الأسهل لما حدث أنه مجرد ردة فعل على سياسات قادته الإجرامية التي اقترفوها وما يزالون في أماكن شتى، ما حدا بعمدة لندن كين ليفينغستون إلى قوله كنا نعلم ان هذا اليوم سيأتي ! كما ذكر النائب في البرلمان البريطاني غالاوي أن أطفال لندن هم كأطفال الفلوجة ، وكذلك كان رأي روبرت فيسك الصحفي البريطاني الشهير، وهو ما تنطبق عليه الرواية الشهيرة عن الجنرال الفرنسي الذي وطأ رقبة مقاوم جزائري إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر حيث أطلق النارعلى رأسه ما تسبب بتناثر بعض رذاذات الدم على ثوب الجنرال الذي ركل الجثة بقدمه قائلاً لقد أوسخت ثيابي أيها الوغد، بمعنى أن تلك النتيجة متوقعة لتلك المقدمات، إلا أنّ الأخذ بعين الاعتبار بعض المعطيات من الواقع نفسه قد ترشد إلى تفسيرٍ آخر:
فقد تم الأعلان يوم الحادث ومن عدة مصادر، أن السفارة الإسرائيلية في لندن قد تلقت تحذيرات جدية بتهديدات متوقعة قبل وقوع التفجيرات بساعات من قبل السلطات البريطانية، ثم تم نفي تلك الأخبار لاحقاً، والمثير حقاً أن شارون قد أعطى تعليماته عقب ذلك إلى وسائل الإعلام اليهودية في "إسرائيل" بعدم تسليط الضوء على تفجيرات لندن وإقفال الموضوع، ما يثير علامات استفهام جدية!
كما أن الاحتقان داخل أوروبا نفسها قد وصل ذروته قبل انعقاد قمة الثماني في اسكولتندا، بين كل من المانيا وفرنسا وبريطانيا، والأهم هو ذلك الصراع الدولي القائم بين ضفاف الأطلسي - أوروبا وأميركا- وانعكاساته على القضايا الدولية وهو أمر بادٍ للعيان، خصوصاً إثر إصرار الأخيرة على التهام كعكة العراق بمفردها، وتسلطها على السودان للاستئثار بثرواته المكتشفة حديثاً، هذا فضلاً عن تأزم العديد من القضايا الدولية وعدم معالجة العالقة منها، كمشكلة الاحتباس الحراري والمحكمة الجنائية الدولية وأزمة التسوية في فلسطين والمستنقع الذي غرقت فيه أميركا في العراق، والصورة الشنيعة التي تشكلت في أذهان البشرية عنها بفضل معسكرات الاعتقال والتعذيب، والاختراقات الواضحة والفاضحة لحقوق البشر.
ومن الجدير ذكره هنا، إن غالبية الجماعات العسكرية، مخترقة ومكشوفة ومتابعة عن كثب، فضلاً عن أنها تتميز بقلة وعيها السياسي، ما يعني إمكانية استغلالها، كل ذلك وغيره، يجعل الحديث عن التفجيرات الأخيرة أكثر تعقيدا مما يطرح، وأبعاده أكبر من أن تُلخص في أن القاعدة ضربت من جديد، وأن الموعد القادم قد يكون في الدانمرك أو في غيرها.
هذا هو ما ينبغي أن يعيه المتابعون، بخاصة المسلمون، الذين يراد لهم أن يغرقوا في زوايا ضيقة يتم تعليبهم فيها، ما يفقدهم القدرة على التمييز ويمنعهم من إبصار الأمور كما يجب، مما يؤدي إلى شلهم عن اتخاذ مواقف سليمة، كما يؤصل الشعور بالعجز فيهم، ويدفعهم إلى التبرء من بعضهم، ويجعلهم رهن ما يصاغ لهم من سياسات ماكرة.
11/7/2005م
المهندس حسن الحسن
نائب ممثل حزب التحرير في المملكة المتحدة
==============(19/16)
(19/17)
رايس تفضح عملاء أميركا في الشرق الأوسط
تاريخ النشر : 06-23-2005 |
في محاضرة ألقتها في الجامعة الأمريكية في القاهرة بعيد ظهر الأحد 19/06/2005م أمام قرابة ألف مصري وجهت لهم الدعوات من قبل السفارة الأمريكية بالقاهرة. أقرت رايس بان الولايات المتحدة أخطأت عندما سعت على مدى ستين عاما إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية ولم ننجز أيا منهما .
هذا بالضبط ما كان قد قاله بوش أثناء إلقاءه كلمة يوم 09/03/2005م أمام كلية الحرب التابعة لجامعة الدفاع القومي في واشنطن، حيث تعهد «بأن يكون نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط هوما يميز فترة رئاسته الثانية، وأكد الرئيس الأميركي جورج بوش أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لم تعد تستهدف دعم الأنظمة الشمولية بحجة الحفاظ على الاستقرار، معتبراً أن الأنظمة القمعية «لن تكون جزءاً من المستقبل، بل هي جزء من ماض فقد صدقيته».
بهذا يكون بوش بعبقريته السياسية الفذة والتي فاق بها عبقرية وزيرة خارجيته رايس قد سبق إلى كشف عمالة الأنظمة الدكتاتورية، أنظمة العسكر والحكم البوليسي في الشرق الأوسط.
من المعلوم أن ما تواجهه المنطقة الشرق أوسطية منذ خمسينات القرن الماضي من حكم تعسفي قمعي لم يكن إلا بفضل أميركا التي حاولت أن تثبت عملاءها على كرسي الحكم في حمى الصراع الأوربي الأميركي خاصة الأنجلوأميركي على الشرق الأوسط لنهب ثرواته الطبيعية والتحكم بموقعه الإستراتيجي بما فيه المضائق والممرات البحرية، وأما الآن فأميركا بعد أن ثبتت نفوذها واستعمارها في الشرق الأوسط ترى أن تثبته أكثر وأكثر خاصة بعد أن أصبحت إرهاصات النصر للإسلام محسوسة لدى أميركا وغير أميركا من دول الكفر.
وفي بيان لأهمية دور مصر في مشروع تثبيت القيم الأميركية المسمى " الشرق الأوسط الكبير"، لترسيخ النفوذ الأميركي والهيمنة الأميركية بتحويل الاستعمار السياسي والاقتصادي إلى استعمار فكري وكذلك رسالة تشجيع واضحة للحركات التي ظهرت فجأة ودون سابق إنذار بأن أميركا معكم وترعاكم قالت رايس في شرم الشيخ إن «مصر دولة مهمة للغاية والرئيس (حسني) مبارك بدأ هذه العملية واتخذ الخطوة الأولى التي تعد جوهرية في أن تكون هذه الانتخابات حرة وعادلة وتوفر الفرص للمعارضة في أن تكون لها مساحة في وسائل الإعلام وأيضا بأن يكون هناك تنافس في هذه الانتخابات، واعتقد أن الأصدقاء المصريين يفهمون ذلك، وأرى أيضاً أنهم سيتحملون هذه المسؤولية نظراً لأن العالم كله يراقب ما يجري حالياً في مصر نظراً إلى أهميتها في المنطقة، ولقد ناقشنا ذلك وأتمنى أن أرى هذه الانتخابات».
وبخصوص فرض القيم والأفكار والمفاهيم الحضارية الغربية بنمط أميركي فقد قالت رايس أيضا في شرم الشيخ أن الولايات المتحدة «لا تمثل حكماً ولكنها تتحدث عن القيم والمبادئ والمعايير التي نؤمن بها»، وأضافت «أعتقد أنها أمور كونية وعالمية واعتقد أن الشمولية موجودة في هذه المنطقة فمن على وجه الأرض لا يريد أن يصل إلى ما نأمل أن نحققه من قيم؟...... واعتقد انه على مدار التاريخ فإن الولايات المتحدة تدعم هذه القيم، وبالتالي لا بد أن نؤكد حقيقة أن الأمر يستغرق بعض الوقت». وأقرت رايس بأن «العملية ليست باليسيرة لكننا لن نتوقف عن العمل لمصلحة هذه القيم والمبادئ».
وفي إطار فرض القيم الأميركية تحدثت رايس في محاضرتها في الجامعة الأميركية، فتحدثت مطولاً عن المرأة وقالت إن النجاح الحقيقي للديمقراطية يعتمد على بناء الشخصية العامة والفضائل الشخصية... وهناك من يقول إن الديمقراطية هي للرجال فقط... وفي الواقع فإن العكس هو الصحيح... فنصف الديمقراطية ليس ديمقراطية كما قالت واحدة من المسلمات اللاتي يلعبن دورا قياديا، أن المجتمع مثل الطير له جناحان، والطير لا يحلق إذا كان أحد جناحيه مكسورا. وقالت «إن المرأة تلهمنا جميعاً، ففي الكويت على سبيل المثال احتجت المرأة حتى حصلت على حقها في التصويت ووافق مجلس الأمة الكويتي على ذلك».
وأما أن الهدف الأميركي هو فرض الاستعمار الفكري الذي سينتج الاستعمار الحضاري، وأن أميركا ترغب بفرض الحضارة الغربية على النمط الأميركي بحذافيرها فأتضح جليا عندما حاولت رايس في محاضرتها تلك أن تدافع عن الحضارة الغربية في ظل ما أصبح معروفا من أن الحضارة الغربية أنتجت الشذوذ الجنسي والتفكك الأسري والانهيار الاجتماعي والانحلال الأخلاقي والجريمة المنظمة المعروفة بالمافيا، فرأت رايس الدفاع عن الحضارة الغربية بقولها " أن هناك من يقول إن الديمقراطية تدمر المؤسسات الاجتماعية وتؤدي إلى تآكل المستويات الأخلاقية، ولكن الواقع عكس ذلك تماما".(19/18)
وفي اعتراف واضح بل فضح لتلك الحركات التي باتت فجأة تدعو إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط ومصر خاصة، بأنها تتلقى الدعم من أميركا حالها حال الحكام الحاليين في معظم البلاد العربية والتي باعترافها واعتراف بوش من قبل مدعومة من أميركا، فقد قالت رايس في المحاضرة إن الإدارة الأميركية لا تفرض الديمقراطية بل تدعمها لأن الديمقراطية لا تأتي من الخارج، ووجهت نداءً ملحاً من أجل تغييرات ديمقراطية في الشرق الأوسط. وقالت إنها تساند التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب في المنطقة ولم يعد الخوف من التغييرات مبرراً لعدم إقرار الحرية والديمقراطية، وقالت إن الرئيس الأميركي جورج بوش جعل إحلال الديمقراطية في العالم العربي إحدى أولوياته لمواجهة الإرهاب والتطرف.
ومن كلامها عن بوش فإن الهدف من وراء حمى الإصلاح والدمقرطة الأميركية، هو وبكل بساطة نشر الديمقراطية الغربية بما فيها من قيم وأفكار ومفاهيم حضارية غربية منحطة لتثبيت النفوذ الأميركي في المنطقة الشرق أوسطية، من أجل محاربة ما أسمته أميركا الإرهاب، وإن كانت أميركا تقصد لمحاربة الإسلام، لمنعه من أن يعود نظاما سياسيا مطبقا في دوله تحمله هدى ونور للبشرية، فتخرج العباد من جور الأديان إلى عدل الإسلام.
بقلم: شوقي سليمان
www.al-aqsa.o r g
=============(19/19)
(19/20)
الشرق الإسلامي بين المشاريع الرومانية والأطماع الفارسية
الحمد لله رب العالمين ؛ خلق الخلق بقدرته، وقضى فيهم برحمته وعدله ، لا يقع شيء إلا بأمره، ولا يقضى شأن إلا بعلمه ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)) أحمده على ما هدانا وأولانا ، وأشكره على ما أعطانا وآوانا ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ لم يقدره الخلق حق قدره، ولا عبدوه حق عبادته ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمدا عبد الله ورسوله ؛ أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه ؛ فإن العباد مهما بلغوا مفتقرون إلى ربهم ، محتاجون إليه في كل لحظة وحين ، وإذا اشتدت المحن ، وعظم الكرب ، فلا فرج ولا مخرج إلا بالله العليم القدير ((قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فذل فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) (يونس : 32،31).
أيها الناس: لقد أنعم الله تعالى على البشر عامة بدين الإسلام الذي هو الرحمة والعدل ، ثم كانت النعمة الخاصة لمن أسلم دينه لله تعالى، واتبع الحق من ربه، وجانب الباطل بأديانه المختلفة، ومذاهبه المتعددة، فانخلع من أدران الوثنية ، ومن أوضار الأديان المحرفة، وسلم من ظلمات الإحداث والبدعة، فكان إسلامه نقيا صافيا كما شرعه الله تعالى وارتضاه ، وأنزله على رسولهمحمد صلى الله عليه وسلم ، وتلك نعمة لا يدرك كثير من المسلمين عظمها وقدرها ، فلا يشكرون المنعم علينا بها ((قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) (الحجرات: 17) .
إن العرب في جاهليتهم لم يكونوا شيئا يذكر ، ولا أمة تعرف فتهاب ، ولم يحسب الآخرون لها أي حساب؛ لأنهم كانوا قبائل متفرقة ، وعشائر متناحرة ، يفني بعضهم بعضا في سبيل ناقة عقرت، أو خيل سبقت، أو كلمة قيلت ، وكانت السيادة للفرس والروم.
لقد كانت القبائل العربية المتاخمة لبلاد الفرس أو لبلاد الروم تابعة لإحدى هاتين القوتين العظميين آنذاك ؛ فملوكهم يعينون بقرارات من قصور الأكاسرة والقياصرة ، وأبناؤهم يرمى بهم بين السيوف والرماح لصنع أمجاد ليست لهم ، وإنما هي لملوك الفرس والروم ، فاصطنع الفرس قبيلة لخم اليمانية ومنحوا رؤساءها لقب (الملوك) فكان منهم ملوك المناذرة, واصطنع الروم قبيلة تنوخ العدنانية ومنحوا رؤساءها أيضا لقب (الملوك) فكان منهم ملوك غسان ، وكم أهريقت من دماء لأبناء هاتين القبيلتين وأحلافهما في سبيل عرشي كسرى وقيصر.
والحرب بين فارس والروم قديمة قدم دولتيهما ، تكون الغلبة للفرس تارة، وتارة أخرى تكون الغلبة للرومان.والفرس أسبق في الدولة والقوة من الرومان ، ولما سُبي اليهود بأيدي البابليين ونُقلوا إلى العراق أعادهم أمبراطور فارس قورش الإخميني إلى فلسطين قبل ميلاد المسيح عليه السلام بخمسة قرون وزيادة ، وكان ذلك أول تقارب تاريخي بين الفرس واليهود ، و قبل الميلاد بثلاثة قرون وزيادة قامت للرومان دولة وثنية قوية على يد الإسكندر المقدوني الذي يعده الأوربيون أعظم قائد روماني في التاريخ ، فقضى على دولة الفرس ، وضمها إلى مملكته ، ولكن الفرس أعادوا دولتهم بعد قرن من الزمان ، وقويت دولتهم بعد قرون خمسة في عهد الساسانيين، وظلت الحروب والثارات مشتعلة بين الفرس والروم قرونا تباعا ، وكانت قبائل العرب من حطب حروبهم.
وبعد بعثة صلى الله عليه وسلم شن كسرى الفرس إبرويز حربا ضروسا على الروم استولى فيها على بلاد الشام ومصر , وسلب الرومان صليبهم الأكبر، ونقله من بيت المقدس إلى المدائن عاصمة الفرس , وهذه الحادثة هي التي ذكرت في القرآن ((الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) .(19/21)
أي: غلبهم الفرس، وسيُغلب الفرس على أيدي الرومان بوعد من الله جل جلاله ، ووقع ذلك ؛ إذ تولى هرقل عرش القياصرة فشن حربا ضروسا على الفرس استرد بها الشام ومصر , وهاجم الفرس في بلادهم ، وكسر قوتهم ، واستولى على أموالهم ، وفرض الجزية عليهم. ووضعت الحرب أوزارها بين الفرس والروم ليبدأ عهد جديد على أيدي المسلمين ؛ إذ بشر صلى الله عليه وسلم بفتح بلاد الفرس وبلاد الروم فقال عليه الصلاة والسلام : (( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله))[1].
وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم ((لئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى)) .
وبشر عليه الصلاة والسلام أول جيش مسلم يغزو الروم فقا صلى الله عليه وسلم : ((أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم))[2].
وأخبر عن الاستيلاء على قصر كسرى فقال عليه الصلاة والسلام : ((عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى ))[3].
ولما وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والمشركين عقب صلح الحديبية كتب صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم آنذاك يدعوهم إلى الإسلام ومنهم كسرى وقيصر ، فأما كسرى فأخذته العزة بالإثم ، واستكبر ذلك واستعظمه ؛ لما قام في قلوب الفرس من احتقار العرب ، والإزراء بهم، فمزق كتاب صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم أن يمزق الله ملكه كل ممزق.
وأما قيصر الروم فقد مشى من حمص إلى القدس شكرا لله تعالى لما نصره على الفرس ، فورد عليه كتاب صلى الله عليه وسلم وهو في بيت المقدس ، ثم طلب أحدا من العرب يسألهم عن صلى الله عليه وسلم ، فكان المسؤول أبا سفيان قبل أن يسلم ، وجرت المحاورة المشهورة التي أعلن فيها هرقل صدق صلى الله عليه وسلم وقال لأبي سفيان: ( وإن يك ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدميه) وكاد هرقل أن يسلم لولا خوفه على ملكه فخسر الإسلام وما بقي له الملك .
وبعد وفاة صلى الله عليه وسلم ، ووفاة الصديق أبي بكر رضي الله عنه ، وفي خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه كسر المسلمون الروم في وقعة اليرموك وفتحوا الشام وبيت المقدس بقيادة خالد وأبي عبيدة رضي الله عنهما ، وودع هرقل سورية وداعا لا لقاء بعده.
ثم كسر المسلمون الفرس في القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وتتبعهم سعد في مواقع كثيرة إلى أن فتح الله عليه المدائن عاصمة الفرس ، وأخضعها للإسلام ، ودخل سعد قصر كسرى الأبيض الذي بشر صلى الله عليه وسلم بفتحه ، وصلى سعد رضي الله عنه في إيوانه.ثم قضى المسلمون على تجمعات الفرس في نهاوند بقيادة النعمان بن مقرن المزني رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين للهجرة.
وهكذا انتهت الدولتين العظميين آنذاك فارس والروم على أيدي أهل الإسلام ، وأما شعوب هاتين الدولتين ، فكثير منهم دخلوا في دين الله تعالى ، وبقي كثير منهم تحت حكم المسلمين بعقد الذمة ، ثم أسلم أكثرهم لما عرفوا الإسلام، ورأوا عدل المسلمين فيهم ، ورحمتهم بهم ، حتى كانوا أرحم بهم من ساستهم الذين حكموهم من قبل ، وبعضهم هاجروا إلى بلاد لم يصلها الإسلام ، وبعضهم أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وعمل هؤلاء المنافقون الباطنيون على زعزعة المسلمين من داخلهم ببث الفرقة بينهم ، ونشر الأراجيف فيهم.
وذات يوم ظهر الحقد الفارسي المجوسي على عمر رضي الله عنه الذي فتحت فارس في خلافته؛ إذ طعنه غلام مجوسي كان يمسح على رؤوس الصبيان الفرس ويقول : أكلت العرب كبدي، أكل عمر كبدي ، فغدر بالمسلمين وقد أمنوه ، وقتل خليفتهم وهو يصلي بالناس ثم قتل نفسه.
وبعدها بسنوات قلائل أظهر ابن سبأ اليهودي المنافق نقمته على عثمان رضي الله عنه ، وأتبعها بادعاء التشيع لآل البيت ، حتى علا كعبه ، وظهر أمره ، وزاد أتباعه ، فسار على رأس فتنة قتلوا فيها الخليفة عثمان رضي الله عنه ، ومن ثم فرقوا الأمة ، وقسموها إلى طوائف ومذاهب ، واستحسن كثير من الفرس التمذهب بالمذاهب السبئية الباطنية التي تدعي التشيع لآل البيت ؛ بغضا للعرب، ومخالفة لهم ، لا محبة لآل البيت . وتبعهم في ضلالهم هذا كثير من دهماء العرب وجهالهم، وعادت العنصرية الفارسية لأهلها من جديد رغم أن الإسلام ألغى العنصريات والعصبيات الجاهلية، وكانت هذه المذاهب الباطنية قد استمدت أكثر عقائدها من عقائد اليهود ومبادئهم وكان هذا هو التقارب الثاني بين الفرس واليهود.
وبلغ من عصبية الباطنيين وحقدهم أنهم مالئوا أعداء الإسلام على المسلمين طوال تاريخهم ؛ فالعبيديون الباطنيون في مصر والشام سلَّموا رقاب المسلمين للصليبيين في الحملة الصليبية الأولى، ولم ينج من سيوف الصليبيين إلا حاكم بيت المقدس من قبل بني عبيد وحاشيته وأهله ؛ إذ خرجوا من القدس سالمين بأعين الصليبيين الذين قتلوا كافة المسلمين.(19/22)
وإخوانهم القرامطة المجوس هم الذين قتلوا الحجاج في حرم الله تعالى يوم التروية ، وردموا بجثثهم بئر زمزم، واقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم ، وخطب رأسهم أبو طاهر القرمطي المجوسي على باب الكعبة مدعيا الربوبية ، مستهزئا بسورة الفيل ، سائلا عن الطير الأبابيل ، عليه من الله ما يستحق.
ونصير الدين الطوسي والمؤيد ابن العلقمي سهّلا للتتر غزو بغداد والقضاء على الخلافة العباسية في مؤامرة قذرة حفظها التاريخ للباطنيين، والصفويون المجوس استعانوا بأعدائهم الرومان ضد خلافة بني عثمان ، وكانوا من أهم الأسباب التي حالت دون فتح العثمانيين لأوربة الغربية ؛ إذ وقفت جيوش بني عثمان على أبواب فينا بسببهم ، وللفرس المجوس وأتباعهم من الباطنيين العرب صولات وجولات وخيانات أيام الاستعمار الغربي لبلاد أهل الإسلام ، ولا زال كيدهم ومكرهم بأهل الإسلام إلى يومنا هذا ، وظهر لكل الناس في الحملة الاستعمارية الإنجيلية الجديدة دور الفرس في إسقاط العراق وبلاد الأفغان تحت أقدام الاحتلال ، ومفاخرتهم بذلك وإعلانه على الملأ دون حياء ولا مواربة ، ومن ثم عملوا من الجرائم البشعة بأهل الإسلام ما هاب المحتل الصائل أن يعمل مثله ، فهذه حال الفرس المجوس مع المسلمين .
وأما الرومان فقد سيروا للمشرق المسلم خلال مئتي سنة ثماني حملات صليبية كبرى ، وقضوا على الإسلام في الأندلس، وأبادوا المسلمين فيها ، ونصَّروا من سلم من الإبادة والتهجير وعقب سقوط الخلافة العثمانية انتهبوا أمصار المسلمين ، وقسموها بينهم فيما عُرف بالاستعمار والانتداب الأجنبي، وما خرجوا منها إلا وقد سيطروا عليها سياسيا وعسكريا واقتصاديا ، ولا زال هذا دأبهم إلى يومنا هذا.
تلك كانت أبرز العناوين في علاقة المسلمين بالفرس وبالروم وأهم الملامح من تاريخ الصراع الروماني الفارسي الذي يوشك أن يندلع من جديد على أراضي المسلمين ؛ ليكون حطبه بلاد أهل الإسلام وأبناءهم ومقدراتهم ، كما كان العرب في جاهليتهم حطبا لحروب فارس والروم.
حفظ الله بلاد المسلمين من كل سو ومكروه، وأدار الدائرة على أعدائهم ، إنه على كل شيء قدير
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله - أيها المسلمون - وأطيعوه ، واشكروا نعمه ولا تكفروه : ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ )) (الزمر : 65،66) .
أيها الناس: في كل أمة من الأمم ، وفي كل جنس من أجناس البشر أبرار وفجار ، وخيار وأشرار، وكما كان في العرب أبو جهل وأبو لهب كان في الفرس وفي الروم كفار ككفار العرب، وكما كان في العرب مؤمنون صالحون كان في الفرس والروم مؤمنون صالحون، يتقدمهم في الإيمان والهجرة والصلاح: سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، اللذان سبقا إلى الإسلام قبل عزِّ المسلمين ، وقبل ذلة الروم وفارس، فرضي الله عن سلمان وعن صهيب.
بيد أن الدولة الفارسية المستقوية في هذا العصر قد قدمت عصبيتها لعرقها على إسلامها، ولا زالت تفاخر بفارسيتها على لغة القرآن، وتسعى جاهدة لإعادة الأمجاد الفارسية التي قضى عليها الإسلام ، ويكفي فيهم أنهم يفاخرون بالمجوسي الذي قتل عمر رضي الله عنه، ويعدونه من شهدائهم وهو لم يدخل في الإسلام ، ولم يسجد سجدة واحدة لله تعالى. ولا زالوا يزرون بالصحابة رضي الله عنهم ويكفرونهم ويلعنونهم ، وأشد ما تكون نقمتهم على عمر وسعد بن أبي وقاص؛ لأن فتح فارس، وإطفاء النار التي كانوا يعبدها أجدادهم إنما كان في خلافة عمر، بقيادة سعد، رضي الله عن عمر وعن سعد وعن الصحابة أجمعين.وقد تواردت أخبار مذابح جماعية في العراق لكل من كان اسمه عمر ولو كان فاسقا أو زنديقا فضلا عن أن يكون مسلما صالحا.
وإذا كانت قبائل العرب في الجاهلية وقودا لحروب فارس والروم ؛ فإن التاريخ يعيد نفسه في الأحداث المعاصرة؛ إذ أضحت بلاد العرب والمسلمين موقع تصارع وتنافس بين القوتين الفارسية الباطنية، والرومانية الإنجيلية الصهيونية.
وليعلم من اختاروا المذاهب الباطنية من أبناء العرب، وانضووا تحت لواء الأمة المجوسية، وكان ولاؤهم لها أعظم من ولائهم لدولهم ، ليعلموا أن مذهب المجوس يقوم على العنصرية للعرق والجنس فلا مكان لهم فيه ، ومهما قدموا للفرس فلن يحظوا عندهم بشيء؛ لأن أصولهم ليست فارسية، إنْ هم إلا أجراء وعمال ينفذون المخططات الفارسية فحسب ثم يُلفظون كما لُفظت قبائل العرب المنضوية في الجاهلية القديمة تحت اللواء الفارسي ، بل إن في عقائد الفرس الجدد أنهم متى تمكنوا أبادوا غير جنسهم ممن هم يدينون بدينهم ، ويتمذهبون بمذهبهم الباطني ، فاتباع المذهب لا يلغي العصبية، ولا سيما إن كان العرق عربيا ، والعرق عندهم فوق الدين.(19/23)
وليعلم من اختاروا الترويج والتمكين للمشاريع الإنجيلية الصهيونية في بلاد المسلمين تحت ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير أو الجديد ، أنهم مجرد عمال وخدم يجري استخدامهم وانتعالهم ثم استبدالهم، وليسوا أكثر من غساسنة جدد عند رومان جدد ، ولا يزال الرومان يحتقرونهم أبد الدهر.
وما أضحت بلاد أهل الإسلام ومقدراتهم ألعوبة في أيدي الأعداء، وميدانا لتنافس جديد بين الفرس والرومان في هذا العصر إلا بسبب الذنوب والمعاصي التي أورثت المسلمين ذلا وصغارا وتفرقا حتى هانوا على أعدائهم..عصوا الله تعالى فذلوا وهانوا، وتفرقوا واختلفوا فضعفوا واستكانوا ، ولا يزالون متربصين ينتظرون ما تسفر عنه هذه الحروب المشتعلة التي تطحن بلادهم، وتستنزف أموالهم ، وتخرب عمرانهم، وثمراتها لغيرهم، وعلقمها عليهم، ولا حول لهم ولا قوة إلا الانتظار والتربص فهم غير قادرين لا على الفعل، ولا على رد الفعل، ولا على إيقاف الحرب، نعوذ بالله من الذل والهوان ، ولا مخرج من ذلك إلا بالتوبة من الذنوب، واللجوء إلى الله تعالى، وإزالة أسباب الفرقة والاختلاف، وكل ما يجري نحن مسئولون عنه أمام الله تعالى ثم أمام التاريخ بذنوبنا وبما كسبت أيدينا، فتوبوا إلى الله أيها المسلمون لعلكم تحفظون وتنصرون ((عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً)) (النساء :84).
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
[1] متفق عليه.
[2] رواه البخاري .
[3] رواه مسلم .
============(19/24)
(19/25)
أفي جهاد الصليبيين الغزاة شك ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
فضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان وفقه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأسأل الله لي ولكم العافية في الدنيا والآخرة وبعد :
فانطلاقاً من قول صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) , ومن باب التواصي بالحق ووجوب المناصحة بين المسلمين أكتب لكم بعض التعقيبات والإيرادات على ما طرحتموه وتطرحونه في الحوارات الفضائية والصحفية من بيان موقفكم من قيام المجاهدين السنة في أرض الرافدين برفع راية الجهاد ضد العدو الصليبي المحتل الذي غزا المسلمين في عقر دارهم ، وقصدي من هذه المناصحة بالدرجة الأولى أنتم بارك الله فيكم ؛ فإني أخاف عليكم من تبعات هذه الفتوى في الدنيا والآخرة , وإلا والحمد لله فالسواد الأعظم من المسلمين علمائهم وعامتهم قد أنكروا هذه الفتوى واستغربوا أن تصدر من أمثالكم .
أسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم والآن أرجو أن تفتح قلبك لهذه المناصحة وأن تتقبلها بصدر رحب وأن تحسن الظن بمسديها لكم .
فضيلة الشيخ : يرد على فتواكم بعدم مشروعية الجهاد في العراق الإيرادات التالية :
الإيراد الأول : من المعلوم أن الفتوى الشرعية حتى تكون مسددة وصائبة فلا بد لها من ركنين اثنين :
الأول : معرفة الواقعة التي يراد الافتاء فيها من جميع الجوانب .
الثاني : معرفة حكم الله فيها أو في مثلها وحينئذ ينزل الحكم على الواقعة وبهذا يتم إصابة الحق إن شاء الله تعالى ولتطبيق هذه القواعد على ما يدور الآن من جهاد وقتال بين المسلمين وبين الكفرة الصليبين الغزاة و المظاهرين لهم من المنافقين في العراق يتبين لنا ما يلي :
أولاً : توصيف الواقع : والواقع في أرض العراق أنها أرض إسلامية غزيت من قبل الأمريكان الكفرة وحلفائهم من الغرب والشرق واحتلوا هذه الأرض الإسلامية وفتنوا المسلمين أصحاب هذه الديار في دينهم ودمائهم وأعراضهم واقتصادهم .
ومما يتعلق بوصف الواقع أيضاً أن غزو الكفار لأرض العراق سيتعداه إلى الدول المجاورة للعراق فيما لو انتصر الكفار وفرضوا سيطرتهم على العراق - لا قدر الله تعالى - وهذا ما يلوحون به بل يصرحون به أحياناً بما يسمى بـ مشروع الشرق الأوسط الكبير-
ثانياً : معرفة حكم الله عز وجل في مثل هذه الواقعة :
قد حسم علماء الإسلام هذا الأمر بما لا يدع مجالاً للشك ولا للتردد والحيرة حيث قسموا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلى قسمين :
(1) جهاد الطلب : وهو طلب العدو في أرضه وإخضاعه لدين الإسلام وهو فرض كفاية إلا أن يطلب الإمام النفير من عموم المسلمين فعندئذ يتعين ، وكذلك الحال فيما لو حضر المسلم الصف للقتال فلا يجوز له حينئذ النكوص عن القتال ولو كان القتال في أصله كفائياً .
(2) جهاد الدفع : وهو جهاد الكفار الذين هاجموا المسلمين في عقر دارهم وراموا احتلال بلاد المسلمين وفرض حكمهم عليهم .
وهذا النوع من الجهاد هو الذي أفتى فيه أهل العلم بأنه فرض عين على أهل هذا البلد المغزو حسب القدرة المتاحة لهم فإن لم يستطيعوا وجب على من يليهم من بلدان المسلمين نصرتهم وفي ذلك .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( وإذا دخل العدو بلاد المسلمين فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب ، إذ بلاد المسلمين كلها بمنزلة البلدة الواحدة )[1] .
وقد نقل رحمه الله تعالى الإجماع على وجوب جهاد الدفع هذا , وأنه لا يشترط له شرط من توفر القدرة التامة والإمكانات , بل إن العدو يدفع حسب الإمكان ؛ يقول رحمه الله تعالى : ( وأما الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً ، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده ) .[2]
ولما سئل رحمه الله تعالى فيما لو تعارض إنفاق المال في الجهاد الذي يتضرر بتركه مع إطعام الجياع أفتى رحمه الله بقوله:( قدمنا الجهاد وإن مات الجياع كما في مسألة التترس وأولى ؛ فإن هناك - التترس - نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله ) .[3]
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمّ وجوباً ، ولهذا يتعين على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه : العبد بإذن سيده وبدون إذنه ، والولد بدون إذن أبويه ، والغريم بغير إذن غريمه ، وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق ، ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون ، فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين ، فكان الجهاد واجباً عليهم ، لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع ، لا جهاد اختيار ) [4](19/26)
فهل يدع هذا الكلام الواضح الصريح الذي صرح به هذان العالمان الجليلان في حكم جهاد الدفع من قول لقائل أو فتوى لمفت بأن جهاد الأمريكان الغزاة في العراق غير مشروع
الإيراد الثاني : من حجج المانعين من جهاد المحتلين في العراق عدم مقدرة المسلمين هنالك على قتال الأمريكان وحلفائهم ؛ وذلك لضعفهم وللأضرار العظيمة التي تصيب المسلمين من عدوهم من جراء ذلك .
والجواب على هذه الشبهة من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : سبق كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وتلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى وذلك بقولهما إن جهاد الدفع لا يشترط له شرط بل يدفع العدو الصائل حسب الإمكان ؛ لأنه جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار ، ولا أرى داعياً إلى نقل كلامهما مرة ثانية فليرجع إليه في الفقرة السابقة .
الوجه الثاني : إن القول بأن المسلمين في العراق لا قدرة لهم ولا حيلة لدفع عدوهم الكفار والمحتل كلام يكذبه الواقع ويرده ، فما نراه اليوم ونسمعه من الإثخان الشديد والنكاية العظيمة بالكفرة الغزاة من قبل المجاهدين شيء يثلج صدور كل مسلم صادق محب لدينه وأهل ملته ، وقد اعترف العدو الكافر بهذه المعاناة والإثخان مع محاولته التعتيم الشديد على نقل أخبار قتلاه وجرحاه وخسائره الكبيرة ، فكيف يقال إنه لا قدرة للمسلمين هناك على قتال عدوهم ونحن نرى ونسمع ما يشفي صدورنا من هزائم متلاحقة للكفرة وأذنابهم من المنافقين ؟
الوجه الثالث : لو سلمنا باشتراط القدرة لجهاد المحتل في العراق فما هي حدود هذه القدرة ومن الذي يحددها ؟
وللجواب على ذلك نرجع إلى ما سبق بيانه من أن الفتوى والحكم على الشيء يقوم على معرفة الواقعة التي يراد الحكم فيها ، وعلى معرفة حكم الله في مثلها ، وإذا أردنا أن نطبق هذه القاعدة هنا على مسألة القدرة على قتال الغزاة في العراق فمن الذي يصف لنا هذا الواقع ويحدده بدقة ؟ أهم الذين يعيشون هذا الواقع ويعرفون ما عندهم من القدرة وما عند عدوهم ؛ ويعلمون الملابسات والظروف المحيطة بهم وغير ذلك من المسائل التي لها أثر في إعطاء الوصف الدقيق ؟ أم أن الذي يصف هذا الواقع وبالتالي يفتي فيه هو من يجهل هذا الواقع ممن هو بعيد عن البلد وظروفه ومجريات الأمور فيه ولا دراية له بأحوال المجاهدين وقدراتهم ولا حال عدوهم وما يعاني من مشاكل وورطات ؟ لا شك أن الجواب البدهي الموافق لقواعد الفتوى هو أن الذي يحدد القدرة ووجوبها من عدمها هو من يعيش في هذا الواقع ويراه و يلمسه ، ويعاينه يوماً بعد يوم ، فلا جرم أن كانوا هم أولى من يفتي في ذلك فهم الذين يقاسون حر وجرم العدو الغازي ويلمسون جبنه وخيبته ؛ وثقتهم بالله عز وجل كبيرة في إلحاق الهزيمة به ولو بعد حين .
فليتق الله عز وجل أولئك الظالمون لأنفسهم الذين يفتون في واقع الجهاد وهم بعيدون عنه لا يعلمون عنه إلا نتفاً من هنا وهناك ـ وقد يكون أغلبها من الإعلام المضلل المخذل ـ وليتركوا الحكم على الوقائع لأهلها الذين يعانون حرها وقرها , ويعرفون مدخلها ومخرجها . نسأل الله عز وجل أن يرفع عنهم البلاء وأن يثبت أقدامهم وينصرهم على القوم الكافرين .
الإيراد الثالث : عندما غزا الروس الشيوعيون بلاد الأفغان في العقود الماضية أجمع علماء المسلمين على مشروعية جهاد الشيوعيين هنالك , وهب أغنياء الأمة وأغلب حكامها في مساندة المجاهدين في أفغانستان بالمستطاع من المال والعتاد والرجال ، وبعد أن هزم الله الشيوعيين على أيدي المجاهدين وخرجوا أذلة صاغرين بعد ذلك بسنوات غزا الصليبيون أرض أفغانستان بقيادة أمريكا الطاغية ثم قامت بعد ذلك بغزو العراق واحتلاله والسؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة هو :
ما الفرق بين غزو الشيوعيين لبلاد أفغانستان وبين غزو الأمريكان الكفرة لبلاد الأفغان والعراق ؟
أليس كلاهما عدوين كافرين قاما بغزو المسلمين في عقر دارهم واحتلوا بلادهم ؟
إذن فما معنى كون الجهاد مشروعاً ضد الشيوعيين عندما احتلوا أفغانستان وليس مشروعاً عندما احتل الأمريكان الكفرة أفغانستان والعراق ؟ وما معنى أن يهب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها لنصرة إخوانهم المجاهدين في أفغانستان ـ هذا بنفسه وذاك بماله ، وآخر برأيه وخبرته ـ ثم لا نجد هذه المناصرة للمجاهدين في أرض العراق المحتلة إلا من قلة من الناس على خوف ووجل ؟ أليس في هذا تفريق بين متماثلين وتطبيق لمعيارين ؟ وإن لم يكن هذا هو الواقع فما هو الجواب إذن ؟
إني لا أجد جواباً مقنعاً إلا القول بأن أمريكا كانت راضية مؤيدة لذلك الجهاد لأنه ضد أعدائها الروس ، أما في العراق فإن أمريكا هي الغازية وبالتأكيد هي المستهدفة بالقتال والجهاد , هذا هو الجواب المقنع لهذه التساؤلات المحيرة ، ولكن هل هذا الجواب هو المنجي بين يدي الله عز وجل ؟ وهل هو عذر لهذا التخذيل والتعويق والتباطؤ عن نصرة المجاهدين في أرض الرافدين ؟(19/27)
وإهمالاً لهذا الجواب الصحيح سمعت من بعض المنتسبين للعلم جواباً آخر مفاده أن المجاهدين في أرض الأفغان كانت لديهم القدرة وكانوا يُدعمون من المسلمين بكل مكان , بل كانت بعض الدول الكافرة تدعمهم ، أما الجهاد في العراق فليس له القدرة وليس هناك من يدعمه ولا من ينصره كما حصل ذلك في أفغانستان !!
ولا يخفى ما في هذا الجواب من اضطراب وحيدة عن الجواب الصحيح السالف الذكر. إن الأفغان لما بدؤوا الجهاد لم يكن لديهم الحد الأدنى من القدرة , وكانت بدايتهم ببنادق الصيد والأسلحة الشخصية عكس المجاهدين في العراق ؛ فهم منذ بدايتهم وهم يملكون مخازن الأسلحة المتطورة والمتنوعة ولديهم أهل الخبرة في القتال فكيف يقال : إن جهاد الأفغان كان لديه القدرة وهذه بدايتهم ، نعم لقد تلقوا بعد ذلك دعم إخوانهم المسلمين لهم ، فلماذا لا يكون مثل هذا الدعم للمجاهدين في العراق ؟ والجواب هو ما ذكرته آنفاً وهو الجواب الصحيح مهما حاول من يحاول الحيدة عنه ، ولكنه والله لا يعذر عند الله تعالى ولا تبرأ به الذمة .
وأمر مهم لا بد من ذكره هنا :
ألا وهو التأكيد على أن دعم الجهاد في العراق أهم و آكد من دعم الجهاد السابق في أفغانستان ضد الشيوعية ذلك لأن جهاد الصليبين في أرض العراق والنكاية بهم وإلحاق الهزيمة بهم إن هو إلا دفاعاً عن المنطقة الإسلامية المحيطة بالعراق كلها وليس دفاعاً عن العراق وحده ، وانتصار المجاهدين هنالك هو انتصار للمسلمين في البلاد المجاورة كلها ؛ ذلك لأن الكفرة الغزاة قد أعلنوا ذلك في خططهم وطفح على ألسنة قادتهم كطرحهم مصطلح الشرق الأوسط الكبير.
وإن نجاحهم في إيجاد حكومة ديمقراطية - بزعمهم - يعني فرضها بعد ذلك على دول المنطقة ، وقيامهم بالتدخل السافر في خصائص سياسة كل بلد كالجيش والتعليم والإعلام والاقتصاد وضرورة أن يمشي وفق النظرة الأمريكية ، ولو تم انتصارهم في العراق لا قدر الله عز وجل ووجدوا أنفسهم مستقرين مرتاحين لا يزعجهم أحد بقتال ولا جهاد لبدؤوا بتنفيذ مخططاتهم في غزو دول المنطقة سواء بالغزو العسكري السافر أو الغزو المبطن الذي يتدخل في تغيير عقيدة الأمة وهويتها وثقافتها ويجعلها تابعة ذليلة للغرب الكافر .
إذن : فكسر الأمريكان في العراق والإثخان فيهم وجعلهم لا يذوقون الراحة والاطمئنان من شأنه أن يحمي العراق ودول المنطقة كلها من شر هؤلاء الكفرة , ومن شأنه أن يحبط عليهم مخططاتهم ومكرهم ويقطع الطريق عليهم حتى لا يفكروا مرة أخرى بغزو بلاد الإسلام .
أما لو ضعف الجهاد في العراق وخذل أهله كما يفعله الآن - وللأسف - بعض المنتسبين إلى العلم فإن النتيجة وخيمة على المسلمين بعامة وليس على أهل العراق خاصة . فليتق الله عز وجل من ينفر الناس من جهاد المسلمين في العراق ؛ إنه بذلك يقدم خدمة كبيرة للغزاة الكفرة في التمكين لهم وإفساح الطريق الممهد لهم في تثبيت جذورهم في أرض العراق المسلمة , والتي ينطلقون بعد ذلك منها لفرض سيطرتهم العسكرية أو الفكرية التامة على بلاد الحرمين والخليج والشام .
أفيرضي المخذلون للجهاد في العراق بهذه النتيجة المرة ؟؟؟
الإيراد الرابع : لو سلمنا جدلاً بما يقوله المانعون للجهاد في العراق بحجة العجلة والتهور وعدم القدرة أو بحجة الأخطاء التي يرتكبها بعض المجاهدين في قتالهم فما هو الموقف من هؤلاء المجاهدين بعد أن لم يسمعوا ولم يقتنعوا بحجج المانعين حيث بدؤوا جهادهم واشتعل القتال بينهم وبين عدوهم الكافر المحتل ؟
هل يجب والحالة هذه دعمهم ومواصلة توجيههم ونصحهم والوقوف معهم أمام العدو الكافر ؟ أم العكس من ذلك وهو تخذيلهم وتحذير الناس منهم ومن دعمهم ؟ أم اعتزال الفريقين والنظر إلى هذا القتال على أنه قتال فتنة فلا يشارك فيه بيد ولا لسان ولا مال ؟
هذه المواقف ثلاثة نضعها أمام المانعين للجهاد في العراق فما هو الموقف الصائب منها الموافق للشرع ومقاصده ؟(19/28)
إن مما أقره أهل العلم في جهاد الكفار أنهم يرون قتالهم مع البر والفاجر لا يمنع فجور المسلم وفسقه من أن يقاتل معهم , إذا كان العدو كافراً بل حتى لو كان المسلمون المجاهدون أصحاب بدعة غير مكفرة لجاز أو وجب قتال الكفار معهم وبخاصة إذا كان القتال قتال دفع وصد للكفار عن ديار المسلمين ، ولم يقل أحد من أهل العلم بأنه قتال فتنة ؛ لأن قتال الفتنة هذا الذي يكون بين فئتين من المسلمين أما القتال بين الكفار وبين المسلمين فلم يقل أحد من أهل العلم بأنه فتنة ولو كان الصف المسلم متلبساً ببدع غير مكفرة أو فسوق أو أخطاء ، بل يجب والحالة هذه مناصحتهم فيما هم عليه من أخطاء فإن استجابوا فالحمد لله وإن لم يستجيبوا لسبب أو آخر فلا يكون هذا مبررا لاعتزالهم فضلاً عن التنفير منهم أو التحذير من دعمهم أو نصرتهم ، لأن في تخذيلهم أو التخلي عن نصرتهم إعانة ومظاهرة غير مباشرة للعدو الكافر الصائل , وتوهين للصف المسلم وإخفاق له مما قد يقود إلى انتصار الكفار وتمكينهم من بلدان المسلمين ؛ وحينئذ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة . فإذا تقرر هذا مع أهل البدع ، فكيف والحال عند المجاهدين السنة في العراق أنهم ملتزمون بمنهج أهل السنة الجماعة ؟
والمقصود أن يتقي الله عز وجل هؤلاء المخذلون للمجاهدين والمنفرون عن جهاد الكفار بحجة أخطاء المجاهدين أو تسرعهم ، وبما أن سوق الجهاد قد قام بين المسلمين وأعدائهم الكفرة فليس أمام المسلم إلا أن يتولى إخوانه الذين يجاهدون الكفرة الغزاة ولو كان يرى أنهم مخطئون ما دام أن هذا الخطأ لم يخرجهم من الإسلام .
أما أنه ـ لا قدر الله تعالى ـ يضع نفسه في خندق المخذلين لهم المضعفين لشوكتهم ، فما أقرب هذا الخندق من خندق الكفرة المعتدين ؛ لأن فرحهم بذلك سيكون شديداً ،
ويكفي بفرح الكفار وسرورهم بهذه المواقف المخذلة مقتاً وشناعةً ونكراً , فإن المتعين على المسلم أن يقوم بما يغيظ الكفار ويحزنهم لا بما يفرحهم ويسرهم ؛ قال تعالى : (( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )) (المائدة: من الآية54) وقال تعالى : (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) (الفتح:29) .
وقال تعالى : (( وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) (التوبة: من الآية120) .
الإيراد الخامس : لا أدري ما هو موقف من يفتي بعدم مشروعية الجهاد في العراق والاستسلام للأمر الواقع وعدم مدافعته .. لا أدري ما موقفه فيما لو غزت أمريكا بلاد الحرمين - لا قدر الله عز وجل - ونصبت فيها أحد عملائها حاكما على المسلمين فهل يرى الاستسلام لذلك والرضى به وعدم مقاومته أم أنه يرى جهادهم ودفعهم قدر الإمكان ؟
فإن كان الجواب بالاستسلام والرضى بالواقع فهو الخزي والعار والشنار وإن كان الجواب هو الجهاد والدفع فقد وقع في التناقض والاختلاف في تطبيق المعايير والتفريق بين المتماثلين إذ ما الفرق بين بلاد الحرمين وبلاد الرافدين أليس كل منهما أرضا من بلاد المسلمين ؟
وأختم هذه الرسالة بتذكير نفسي وتذكير الشيخ العبيكان بضرورة مراجعة النفس ومحاسبتها والحذر من الأهواء الخفية التي قد تخفى على صاحبها فيظن أنه متجرد للحق فتدفعه لمثل هذه الآراء الشاذة وكما أخبر المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه فإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار وإن سلف هذه الأمة وخيارها كانوا يخافون على أنفسهم من النفاق والفتنة على ما وقر في قلوبهم من الإيمان و مجانبتهم لأسباب النفاق وذرائعه وتحريهم للحق والصواب وطلبهم له من مصادره الأصيلة كما أطلب منه الوقوف على تلك الإيرادات السابقة وغيرها من الإيرادات ومراجعة فتواه وعرضها على ميزان الكتاب والسنة بفهم خيار الأمة والتراجع عنها علنا إبراء لذمته أمام الله عز وجل ، أسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويعز جنده كما أسأله سبحانه أي يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .
[1]الاختيارات الفقهية ص 447
2 الاختيارات الفقهية ص 309، 310
[3]الفتاوى الكبرى 4/608
[4]الفروسية لابن القيم ص 187
===========(19/29)
(19/30)
ريح الجنة تهب من الفلوجة
هبي ريح الجنة, نسمات الفجر تعانق أرواح الشهداء في الفلوجة, نداء «الله أكبر الله أكبر حي علي الجهاد» يعلو من فوق مآذن المساجد, تتدفق أنهار من دماء الشهداء لتروي الأرض السوداء بالعراق بلاد الرافدين وحواضر الخلافة ومزاهر آل البيت الطاهرين.
الفلوجة, تلك المدينة الباسلة المحاصرة, تضرب أروع الأمثلة في التضحية دفاعًا عن الإسلام والعرض والوطن. إنهم فتية آمنوا بربهم يرتقون منازل الشهداء الصادقين, أَبَوٍا إلا حرية الوطن, ورفع راية الجهاد, والدفاع عن الإسلام, اتهمهم الجزار الأمريكي المخادع الكذاب بالإرهاب, وقامت عصابات الخيانة والغدر ومرتزقة الكفر وأعداء الإسلام بقيادة المجرم سانشيز - قائد القوات الأمريكية في العراق, والسفاح القاتل بريمر - سفير دولة الحرية المكذوبة والديقراطية القاتلة رئيس ما يسمي سلطة الائتلاف بالعراق - برمي المدينة الباسلة الصابرة بالقنابل والصواريخ بطائرات إف 16 وإف 18, والأباتشي, وقصف المساجد وتدميرها علي عباد الله, مما أدي إلي استشهاد أربعين مصليًا داخل المسجد الكبير في الفلوجة, وتدمير المستشفيات ومنع المصابين من تلقي العلاج, وقد وصل عدد الشهداء حتي كتابة هذه السطور لأكثر من خمسمائة شهيد وألف جريح بجراحات خطير.
إن أهل الفلوجة الصامدين فرحون مستبشرون بنصر الله, ونراهم يدافعون ببطولة فذة عن ديارهم رافعين شعار النصر أو الشهادة, ومع كل رمية نداء: الله أكبر الله أكبر الله أكبر, {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال:17], وتتهاوي علي طلقات مدافعهم الإيمانية الطائرات فتحترق الدبابات الأمريكية بمن فيها, فجعل الله أرض الفلوجة نارًا تحرق أقدام الأعداء, وسماء الفوجة فخًا لاصطياد طائراتهم وحتي الهواء شواء يلفح وجوههم وأدبارهم.
لقد أثبتت الانتفاضة المباركة في العراق, عراق العزة والنصر والبطولة, في الفلوجة وبعقوبة والرمادي والموصل وكركوك والبصرة والكونة والنجف وكربلاء وعاصمة الرشيد بغداد, أنه بعد عام من الاحتلال, مافتئ أهل العراق يدافعون عنه ببسالة ويصلون جنود الاحتلال نارًا موقدة, ونجد أعداء الله: أمريكا وحلفاءها يعضون أصابع الندم علي الوحل الذي هم فيه, وكما كانت أفغانستان سببا في انهيار الاتحاد السوفيتي ستكون العراق ومعها فلسطين وشباب الأمة الإسلامية والعربية المجاهد - أبناء خالد بن الوليد وسيف الدين قطز وصلاح الدين الأيوبي وعز الدين القسام وحسن البنا وأحمد ياسين - سببًا بفضل الله أولاً في انهيار وزوال مملكة الشر والظلم أمريكا وحلفائها, أبرزهم دولة البغي والاحتلال الصهيوني في فلسطين.
وستُهزم أمريكا ويزول مشروع الشرق الأوسط الكبير, وستنطلق رايات الإسلام ولن تقف عند أسوار بغداد والقدس وإنما ستعلو فوق عواصم الإسلام كافة, معلنة إنهاء الظلم وإقامة دولة السلام العالية بإذن الله, وإن غدًا لناظره قريب: {وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} [الأنفال:10].
============(19/31)
(19/32)
الجامعة العربيّة وظاهرة القِمم
نايف ذوابه 11/2/1426
21/03/2005
على طريقة الإنجليز في استباق الأحداث و ركوب الموجة؛ فإنهم بدهائهم المعهود، أدركوا بعد الحرب العالمية الثانية أن عهد الاستعمار القديم قد ولّى، وأن أمريكا -التي تحلّب ريقها على ثروات الشرق بعد دخولها الحرب العالميّة الثانية- قد دخلت منافسًا خطيرًا لهم بما تملك من إمكانيات اقتصاديّة وعسكريّة هائلة، فضلاً عن الدعاية القويّة التي دخلت بها على المستعمرات البريطانيّة والفرنسيّة، ومنها: حقّ الشعوب في تقرير المصير، والحريّة، وحقوق الإنسان، وأمريكا بلد الازدهار والرفاهية؛ بمعنى أن أمريكا أصبحت قبلة لمن ينشدون الحرية والتقدّم والازدهار والتحرّر من الاستعمار!!
لهذا رأت إدارة المستعمرات البريطانية ومعها وزارة الخارجية توظيف نضال العرب الوحدوي لصالحها، مستفيدة من وجودها في كل من مصر وسوريا وفلسطين والعراق والأردن والخليج العربي، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنها تريد أن تحرف مسيرة الوحدة عن مسارها الصحيح، لا سيما أنه كان هناك في العالمين العربي والإسلامي من لا يزال يتحرق أسفاً على زوال دولة الخلافة الإسلامية( الدولة العثمانيّة)، ويفكّر في إعادتها في أماكن أخرى غير تركيا، ومن يرجع لقصيدة شوقي في رثاء الخلافة بعد أن هدمها مصطفى كمال أتاتورك، يدرك أي حزن جاشت به نفوسهم على ضياعها، ويدرك عمق الرابطة التي كانت تربط المسلمين بدولتهم، ويدرك أي إخلاص كان المسلمون يخلصون فيه لرمز وحدتهم، ومناط عزتهم، والتي أصبحوا بغيابها كالأيتام على مآدب اللئام؛ رغم أنها كانت في حالة احتضار، ولم تكن المثل الأعلى لما ينبغي أن تكون عليه دولة الخلافة الإسلاميّة قوّة وهيبة ووعيًا ونقاءً والتزامًا صحيحًا بالإسلام؛ لكنها -على أية حال- كانت كالأسد المهيب الرابض في عرينه الذي يعيش على ذكرياته المهيبة، وكان أعداؤها يخشون غضبة المسلمين إذا مُسّت خلافتهم، كما أن ذكرياتها المهيبة في نفوس أعدائها كانت تحول دون هدمها والقضاء عليها؛ فهي الدولة التي وقف جنودها على أسوار فينّا عاصمة النمسا؛ فضلاً عن أن الموقف الدولي لم يكن يسمح بزوالها نتيجة الصراع المرير بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي، وقد استفادت دولة الخلافة العثمانيّة من هذا التوازن في الموقف الدوليّ، مما حافظ على وجودها وحال دون غيابها.
ولقد ناضلت الدولة العثمانية نضالاً شرسًا ومشرّفًا للحفاظ على فلسطين، وكلمات خليفة المسلمين عبد الحميد- رحمه الله - ما زالت تدوّي في سماء فلسطين بعد أن ألحّ عليه زعماء اليهود ليمنحهم وطنًا قوميًّا فيها؛ ورغم كل المحن التي كانت تمر بها الدولة العثمانيّة، ورغم الديون التي كانت تثقل كاهلها، فإنه أبى " هذه الأرض ليست ملكي؛ إنها أرض آبائي و أجدادي، ولعمل المبضع في جسدي أهون عليّ من أن أتنازل عن شبر واحد من أرض المسلمين!!"
في هذه الأجواء وُلدت جامعة الدول العربية؛ إذ حاولت بريطانيا إيقاف تقهقرها أمام الزحف الأمريكي في المنطقة، والاحتفاظ بما أمكن من نفوذها فيها؛ لذا أعلن أنطوني إيدن وزير خارجيّة بريطانيا في أيار مايو1941م ما يلي:
"يسعى العديد من المفكرين العرب إلى تحقيق درجة أكبر من الوحدة بين الشعوب العربيّة عما هو متحقّق حتى الآن، وهم في تطلعهم إلى الوحدة العربيّة يأملون الحصول على دعمنا، ويصعب ألاّ نستجيب لمطلب أصدقائنا، ويبدو أنه من الطبيعي والصحيح العمل على تقوية الروابط الثقافيّة والاقتصاديّة بين البلاد العربيّة فضلاً عن الروابط السياسيّة، وإن حكومة جلالته سوف تقدّم من جانبها كلّ تعضيد من هذا القبيل يلقى تأييد الرأي العام العربيّ".
وهكذا وُلدت فكرة جامعة الدول العربيّة بفكرة بريطانيّة خبيثة، وبريطانيا نفسها هي التي مزّقت أوصال المسلمين، وقطّعتهم إربًا إربًا، وأشرفت على إنشاء جيوش تحرس الحدود المصطنعة التي أقامها المستعمر الكافر، وتحميها، وأصبح كل من يحمل فكر الوحدة متّهماً، وأصبح طريدًا تتقاذفه الحدود الوهميّة، ومطلوبًا لدى الأجهزة الأمنيّة التي كانت أكثر قسوة عليه من الاستعمار نفسه!!
وفرضت القوى الأجنبيّة على كل دولة علمًا، وجعلت لها نشيدًا وطنيًا، وأشارت على وكلائها بأن يحفظ التلاميذ هذا النشيد، مع أنه رمز فرقتهم، ودليل هوانهم، وسمٌّ يجري في عقيدتهم وأفكارهم!!
وهكذا كان تصريح "إيدن" يهدف إلى تكريس التجزئة تحت شعار الوحدة، وكانت الفكرة الإنجليزيّة الخبيثة في حقيقتها قطعًا للطريق على الوحدة الحقيقيّة!!
وكانت الجامعة العربيّة جزءًا من المؤسسة الرسميّة العربيّة، لا مؤسسة شعبيّة, ولا تجسّد طموحات الشعوب؛ لأنها وُلدت من رحم النظام العربي الرسمي، وكانت في خدمته، واعترفت في ميثاقها بواقع التجزئة، وحافظت عليها، ووفّرت شرعيّة لها، كما وفرت شرعيّة - في أحيان أخرى- للتدخل الأجنبي في البلاد العربيّة، وبمعنى آخر كانت الجامعة العربيّة ضرورة من ضرورات النظام الرسمي الدولي وفي خدمته .(19/33)
وهكذا أصبحت الجامعة العربيّة ميدانًا للتنافس بين القوى الدوليّة لتسخيرها للترويج للأفكار التي تريد القوى الدوليّة صناعة رأي عام لها، وكان من الطبيعي لأمريكا -بالذات- التي أصبحت تهيمن على المنطقة، وتروّج لأفكار الشرق الأوسط الكبير الذي يجري فيه دمج إسرائيل في المنطقة، أن تسخّر الجامعة متى شاءت وأن تشلّ قدرتها متى تشاء - ونظام التصويت في الجامعة يخدمها وهو ضرورة الإجماع على أي قرار هام يُتخذ فيها - وهكذا فإنه يستحيل اتخاذ قرار ذي بال فيها ما دام موضع خلاف، فأصبحت عاجزة عن حل أي خلاف مهما كان، وما القضية الفلسطينيّة والأزمة العراقيّة الكويتيّة، والخلاف المغربيّ الجزائري- بخصوص قضية الصحراء الغربية-، والخلاف القطري البحريني... إلا أمثلة على شلل الجامعة، وإفلاسها السياسي وضعفها، وأنها ليست سوى صورة خاوية للنظام العربيّ، و المسمّى "العمل العربي المشترك"!!
وليس سرًا ولا مبالغة أن أيّ مؤتمر من مؤتمرات القمة العربيّة تأتي أجندته جاهزة من الولايات المتحدة التي هيمنت على كل شيء في المنطقة، ويأتي في صورة: "ما تتوقع الولايات المتحدة " أن يبحثه مؤتمر القمة العربي، و"ما تتمنى" أن يتخذه من قرارات، ويسبق المؤتمر ترويج لذلك، كما يُروّج الآن لما يُتوقّع أن يبحثه مؤتمر الجزائر القادم يومي الثلاثاء والأربعاء القادمين 22/3/2005 وَ 23/3/2005 في تصريحات لمسوؤلين كبار ورؤساء دول تردّدوا على واشنطن أو تلقّوا تعليمات من سفاراتها من تطوير للمبادرات العربيّة للسلام والإسراع في عملية التطبيع ما دام السلام هو الخيار الإستراتيجي، أي السير في عملية تطبيع سريعة ولو كان ذلك قبل التوقيع إثباتًا للنوايا الطيبة نحو إسرائيل المغلوب على أمرها!! و يتطلب ذلك تجاهل حق العودة للفلسطينيين، وعدم التطرّق لموضوع القدس والاستيطان، وغيرها من المواضيع الشائكة على طاولة المفاوضات، والدعوة إلى ضرورة تطبيق سوريا للقرار الدولي 1559، ثم ما قامت به مصر من رعاية لقاء الفصائل الفلسطينية للاتفاق على هدنة طويلة مع إسرائيل، كل ذلك سيُبحث وسيُوفّر له غطاء عربي يمنحه الشرعيّة فضلاً عن الاستمرار في الحديث عن عملية الإصلاح السياسي في المنطقة؛ وبذلك تزداد الضغوط على سوريا، وتزداد الضغوط على الفلسطينيين، وطبعًا كل ذلك في خدمة أمريكا، وخدمة إسرائيل، وخدمة المشروع الذي يجري صهر المنطقة فيه، وهو مشروع الشرق الأوسط الكبير، وقد جاءت البِشارة على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي سلفان شلوم بأن هناك ثماني دول عربية جديدة على وشك إقامة تمثيل دبلوماسي مع إسرائيل، أو إعادة التمثيل الدبلوماسي معها!!
============(19/34)
(19/35)
في العصر الأمريكي .. لا مكان للأمم المتحدة!
حوار / السيد عبد الفتاح 12/2/1426
22/03/2005
الدكتور سعيد اللاوندي خبير العلاقات الدولية في حوار مع ( الإسلام اليوم) :
- الموساد الإسرائيلي أحكم قبضته على العراق.
- مشروع الشرق الوسط الكبير مؤامرة ضد العرب والمسلمين.
- تل أبيب هي المستفيد الوحيد من اغتيال الحريري.
- شارون لا يريد سلاماً مع الفلسطينيين.
- أحداث دار فور ليست بعيدة عن المشروع الاستعماري الأمريكي.
أكد الدكتور سعيد اللاوندي خبير العلاقات السياسية الدولية أن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تتبناه الولايات المتحدة ما هو إلا مؤامرة أمريكية إسرائيلية ضد العرب والمسلمين، وأنه يهدف إلى تذويب الهوية العربية والإسلامية للمنطقة وتحويل العرب إلى أقلية في المنطقة. كما أكد على أن هناك نوعاً من الانسجام الكبير بين السياسة الخارجية الأمريكية والإسرائيلية يصل إلى حد التطابق.
وقال الدكتور سعيد اللاوندي في حواره مع (الإسلام اليوم) أن ما يحدث حالياً مع سوريا ولبنان ما هو إلا تطبيق حرفي لمشروع الشرق الأوسط الكبير . وتطرق اللاوندي في حواره إلى التغلغل الصهيوني في العراق وفي دار فور . كما أشار خبير العلاقات السياسية الدولية إلى انتهاء دور الأمم المتحدة تماماً في ظل عصر القوة الوحيدة عصر الولايات المتحدة.
حول قضايا الساعة الراهنة (الإسلام اليوم) التقت الدكتور سعيد اللاوندي فكان هذا الحوار ..
ما تعليقكم على الأزمة السورية و اللبنانية المثارة حالياً؟
ـ لا يدهشني ما يجري حالياً مع سوريا؛ لأننا شعوب بلا ذاكرة، بمعنى أننا لو تذكرنا أدبيات ومفردات مشروع الشرق الأوسط الكبير لتبين لنا أن سوريا هي المحطة الثانية بعد العراق، ثم إيران وحتى السعودية مدرجة ضمن مفردات المشروع، ولا تُستثنى مصر؛ لأنه بحسب وصف أحد الصقور الجارحة في الإدارة الأمريكية الذي قال: " أما مصر فهي درة التاج" أي أنها ستكون الختام في إطار تنفيذ هذا المشروع.
وأرى أن الولاية الثانية لبوش يمكن أن نسميها باطمئنان ولاية مشروع الشرق الأوسط الكبير, بمعنى أنها معنية بتنفيذه، ولذلك كانت إرهاصات التصعيد مع سوريا في نهاية الولاية الأولى له، ومع ولايته الثانية وصل التصعيد إلى ذروته فكانت البداية بموافقة الكونجرس على إصدار قانون محاسبة سوريا, وها نحن اليوم أمام المطلب الثاني وهو خروج سوريا من لبنان.
ولكن هل تغيب إسرائيل عن هذا كله؟
في الحقيقة إننا أمام درجة قصوى من التماهي بين السياستين الخارجية الإسرائيلية والأمريكية، بمعنى أن " شارنسكي" وهو وزير المغتربين وشؤون القدس في حكومة شارون هو الملهم الأساسي للرئيس الأمريكي، والذي اعترف بذلك عندما أشار إلى أن كتاب شارنسكي "دفاعاً عن الديمقراطية" يكاد يكون دستور حياة بوش!
وإذا استحضرنا ما قاله سلفان شالوم وزير خارجية إسرائيل من أن خطة إسرائيل التي تعمل عليها منذ سنوات كانت هي تعبئة المجتمع الدولي وحشده ضد سوريا لإخراجها عنوة من لبنان.
وإذا وضعنا في الاعتبار هذه العبارة لتبين لنا أن المخطط الخاص بالشرق الأوسط الكبير هو مخطط أمريكي إسرائيلي بالدرجة الأولى.
وماذا ترى الوضع بعد الانسحاب السوري من لبنان ؟
الأبواب مفتوحة أمام كافة الاحتمالات. فإسرائيل تضع عينها على جنوب لبنان، وليس سراً أنها تربطها علاقات قوية ببعض العناصر اللبنانية ذات النفوذ، ولست أبرئها أيضاً من اغتيال الحريري؛ لأن أكثر الأطراف استفادة من ذلك هي إسرائيل بقدر ما أن أكثر الأطراف خسارة هي سوريا.
وأعتقد أن العلاقات السورية اللبنانية قد أصابتها إسرائيل في مقتل, واليوم تجد لبنان نفسها بين أمرين أحلاهما مر:
فإما تكرار اتفاقية 17 أيار " مايو" مع إسرائيل أو قبول توطين اللاجئين الفلسطينيين وهو ما يفتح المجال أمام حدوث صبرا وشاتيلا مرة أخرى .
والنقطة الأهم هي أن المطامع الإسرائيلية لم تتوقف بعد؛ فالهدف النهائي هو القضاء على حزب الله, لذلك فالمطالب الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية تتمحور حول نزع أسلحة حزب الله تحت دعاوى اعتباره قوة سياسية، وليس مليشيات، وهو غير ذلك فهو مقاومة مشروعة ضد إسرائيل.
سيناريو العراق في سوريا
هل من الممكن أن يتكرر السيناريو العراقي مع سوريا وتوجّه لها أمريكا ضربة عسكرية؟
ليس على المدى المنظور، ولا أعتقد إمكان توجيه ضربة عسكرية؛ لأسباب منها أن سوريا لم تماطل بل نفذت كل ما طُلب منها. كما أن هناك شعوراً ومسؤولية عربية بتجنيبها مصير العراق، وفي هذا الإطار استضاف الرئيس المصري مبارك على عجل الرئيس السوري في شرم الشيخ، ثم ذهب إليه بعد ذلك في دمشق وبين المرتين لم تتوقف دبلوماسية الهاتف. كذلك فلا ننسى ملف إيران وتسخين الأجواء معها قد يجعل مسألة ضرب سوريا غير وارد على الأقل في المدى المنظور.
كيف تنظرون إلى الوضع الراهن في العراق؟(19/36)
ما يحدث في المشهد العراقي اليوم يكاد يكون مرسوماً بدقة من جانب المحافظين الجدد؛ فالهدف هو تفتيت العراق وإفساح المجال أمام النعرات الطائفية وإحداث فتن بين السنة والشيعة، وهو ما حدث بالفعل . فالسنة لا وجود لهم على الخريطة السياسية والشيعة بحكم الأغلبية حظوا بِ(140) مقعداً في البرلمان والأكراد مطالبهم الاستقلالية لا ينكرها إنسان . وفي اعتقادي أنه سوف يكون هناك صياغة لدستور مشابه للدستور اللبناني, ففي الأخير يجب أن يكون الرئيس مارونياً ورئيس الوزراء سنياً، ورئيس مجلس النواب شيعياً.
يبدو أننا أمام مشهد مماثل في العراق, فالرئيس من المحتمل أن يكون كردياً ورئيس الوزراء شيعياً ورئيس مجلس النواب سنياً. بمعنى آخر كنا نتحدث في السابق عن " لبننة" كوسيلة من وسائل نشر الفوضى وعدم الاستقرار في بلد معين، وها نحن نجد أنفسنا أمام " عرقنة"، فالمشهد العراقي رغم المزاعم الأمريكية ليس في صحّة جيدة، والفتن والمتحركات أكثر من الثوابت.
الموساد في العراق
ماذا تقول عن التواجد الإسرائيلي في العراق؟
أنا أرى أن الواهمين وحدهم هم الذين يعتقدون أن إسرائيل " بريئة" من كل الجرائم التي حدثت وتحدث في العراق, وهناك رجال الموساد الذي يحكم قبضته الحديدية على أنحاء العراق شمالا وجنوباً, ولا ننسى الإسرائيليين الموجودين تحت غطاء شركات المقاولات والتجارة والأمن الخاص التي تدسّ أنفها في كل شيء.
كما تؤكد مصادر صحفية أن رئيس الموساد زار العراق سراً، وتفقد خلالها المحطة الاستخبارية المقامة في بغداد, وتشير المصادر نفسها إلى أن هناك محطات أخرى على الحدود الإيرانية والسورية وفي مناطق الأكراد, وأن هناك تدريباً لعناصر عراقية في هذه المحطات؛ فعناصر الموساد موجودة بكثافة في شمال العرق وقد كشفت تركيا ذلك موضحة أن هناك عملاء إسرائيليين يقومون بتدريب أكراد .ولا شك أن هذا الوجود الاستخباراتي يدعمه في خط مواز تغلغل يهودي في قطاعات الاقتصاد العراقي المختلفة إلى حد أن المواطن العراقي باتت عينه تألف السلع الإسرائيلية التي تغمر الأسواق .فالشركات الإسرائيلية كثيرة وفي مجالات عدة ومنها شركة " دان" لبيع الحافلات والسيارات القديمة و" رينكس" المنتجة للقمصان الواقية من الرصاص و" شريونيت موسيم" للأبواب المصفحة و" عيتس كرمائيل" للأبواب ومنتجات أخرى و" تامي فور "لأجهزة تنقية المياه و" طمبور"للدهانات، و" ترليدور" للأسلاك الشائكة، و" تنور غاز" للمطابخ، و" جاية كوم" للهواتف، و" سكال" للمنتجات الإلكترونية، و " نعان دان" لمعدات الري، و" سونول "للوقود، و" دلتا" للمنسوجات.
غياب عرفات خسارة لإسرائيل
ننتقل للملف الفلسطيني و بعد الخطوات الأخيرة هل تتوقع نجاح عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية؟
ما زلت مقتنعاً أن الطرف الذي خسر كثيراً برحيل عرفات هو الطرف الإسرائيلي، وذلك لأن إسرائيل غير جادة في السير في طريق السلام، وفي زمن عرفات كانت تزعم أنه ليس الشريك المناسب لإقامة سلام معهم, وكانت هذه الحجة تجعلها تملك حق القتل وسفك الدماء والاغتيالات وتجريف الأراضي وهدم المنازل. بمعنى آخر كانت تواصل سياسة إرهاب الدولة على الشعب الفلسطيني.
ولكن عندما جاء أبو مازن، ورفع شعار رفض عسكرة الانتفاضة، وتحدث عن هدنة، ونفذ جانباً مما كانت تطلبه منه أمريكا خصوصاً فيما يتعلق بفصل السلطة السياسية عن الأمنية، وإدانة العنف ضد إسرائيل, هنا وجدت إسرائيل نفسها في مأزق حقيقي؛ لأنها لم تعد تستطيع الاستمرار في إرهاب الدولة, وعندما هيأت مصر اجتماعات شرم الشيخ وجدت إسرائيل نفسها مجبرة على الوفاء بما وعدت به. صحيح أن ما قدّمته قليل وقام بالتسويف والمماطلة إلا أن واشنطن يبدو أنها حريصة على إحداث درجة من درجات الهدوء في الملف الفلسطيني الإسرائيلي لكي تتفرغ لباقي الملفات مع سوريا ولبنان وإيران وحزب الله.
وكيف تقرأ الوضع في السودان؟ وما دور إسرائيل فيما يحدث هناك؟
بالنسبة للسودان لو استحضرنا المدى الجغرافي في مشروع الشرق الأوسط الكبير نتأكد أن أحداث دار فور ليست بعيدة عن هذا المشروع الاستعماري الكبير الذي تقوده أمريكا.
وبالتأكيد أن أصابع إسرائيل تعبث في دار فور منذ زمن وعبر سفاراتها في أفريقيا تقود أكبر (مافيا) لتجارة السلاح مع المتمردين في دار فور وغيرها.(19/37)
وعلينا أن ندرك أننا أمام نيران يتم الإعداد لها منذ فترة، وسوف تشتعل إن عاجلاً أو آجلاً لتلتهم الأخضر واليابس في المنطقة. وهناك تعبئة دولية من خلال الأمم المتحدة لتوجيه اتهامات إلى السودان بأنها تمارس حرباً عرقية وحول هذه النقطة يجري ماء كثير في النهر؛ فالاتحاد الأوربي يؤكد أن السودان بريء، بينما الأمم المتحدة لا تكفّ عن توجيه الإدانات للنظام السوداني الذي يتهم من جانبه أوروبا وأمريكا بأنهما يشعلان النيران .. تبقى نقطة أخيرة وهي أن دارفور منجم نفط ويورانيوم، وهناك استثمارات صينية في هذه المنطقة لذلك اشرأبّت أعناق الدول الكبرى نحو دار فور انطلاقاً من مشاريعها ومطامعها الاستعمارية, والمؤلم أن أوروبا التي تنادي بحقوق الإنسان وحرية التعبير إلا أنها كانت من أكثر المناطق استعداداً لإرسال قوات للتدخل السريع في دار فور، وهو مؤشر يؤكد أن هذه المنطقة في جنوب القارة ليست مجرد صحراء قاحلة كما يبدو.
وفاة الأمم المتحدة
أعلنت في أحد كتبك عن وفاة الأمم المتحدة فما الذي دعاك للقول بذلك؟
الحقيقة لست أدري لماذا يبكي البعض أو يتباكي على الأمم المتحدة التي تعصف بها أهواء السياسة الدولية, وتكاد تحوّلها إلى رماد تذروه الرياح لتلحق بسابقتها عصبة الأمم، والتي كتبت شهادة وفاتها بنفسها عندما عجزت عن منع قيام الحرب العالمية الثانية. وها هو المشهد يكاد يتكرر بدقائقه حيث تبرز فيه الأمم المتحدة وكأنها "خيال ظل" أمام صلف القوة الأمريكية الباطشة التي لا تقبل إلا صورة الانصياع الكامل وإلا فالقرار بالحتم سيكون انفرادياً. وإذا علمنا أن الولايات المتحدة تدأب منذ فترة على إفساح المجال أمام ذراعها الحديدي القوي علي حساب تقليص دور الأمم المتحدة, لأدركنا أننا نقترب من لحظة الحقيقة التي تُعلن فيها وفاة الأمم المتحدة.
وهناك من يرى أنها ماتت بالفعل في سراييفو؛ لأنها كانت ضعيفة ولا تملك من أمر نفسها شيئاً وأجهزتها مشلولة وآلياتها البيروقراطية ثقيلة وسكرتيرها العام متردد. ومن ثم فحصاد عملها كان صفراً في هذه الأزمة وما تلاها من أزمات مثل الأزمة العراقية التي كشفت بما لا يدع مجالاً للشك هشاشة هذه المنظمة.
إذن فهي ليست موجودة. وإن كان لابد من الاعتراف بوجودها قبل ذلك فهي على الأقل أصبحت في حكم الميتة أو المتوفّاة!فلقد انتهى في صبيحة يوم 12 سبتمبر 2001 أي في اليوم التالي لأحداث 11 سبتمبر عصر القانون الدولي, وبدأ فعلياً عصر قانون الدولة الأقوى " الولايات المتحدة". وحسبما قال "جون بولتون"أحد صقور الخارجية الأمريكية " ليس هناك شيء اسمه الأمم المتحدة ..هناك مجتمع دولي تقوده الولايات المتحدة"!!
يكاد يكون هناك إجماع عالمي على كراهية الولايات المتحدة فهل عرفت أمريكا لماذا يكرهها العالم؟
على عكس ما تشتهي الإدارة الأمريكية فإن مشاعر الغضب والحقد ضد أمريكا والأمريكيين قد تصاعدت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، ولم تعد مقصورة على العالم العربي والإسلامي, فالثابت أن هذه الكراهية امتدت بعد 11 سبتمبر وسقوط بغداد لتشمل العالم كله. لتظهر أمريكا كوحش كاسر لا تشغله سوى مصلحته الشخصية. والمدهش حقاً أن هذا الأسلوب الاستفزازي الذي برعت فيه إدارة بوش لا يؤدي إلا إلى تأجيج مشاعر الكراهية ضد أمريكا والشعب الأمريكي . ورغم ذلك يخرج علينا بوش بتساؤل غريب يقول فيه: لماذا يكرهنا العالم مع أننا شعب طيب؟ وعلى الرغم من ذلك فإنني أرى أن أمريكا غير جادّة بالفعل في بحثها عن أسباب كراهية العالم لها, وإلا فلماذا تصر على استعداء الآخرين واستفزازهم . كذلك فإن سياسة الكاوبوي التي يتمسك بها في صلف مقيت صقور الإدارة الأمريكية هي أحد أسباب اشتعال نيران الكراهية -بحيث بات يُستعاض -كما تقول صحيفة لوموند الفرنسية- عن كلمة " أمريكي " بكلمة " الشخص الكريه".
وفي محاولة منها لتحسين صورتها السيئة هذه لم تتردّد الإدارة الأمريكية في إنفاق مئات الملايين من الدولارات لتغيير صورتها في أذهان الآخرين, ولذا فقد استحدثت إدارة جديدة في وزارة الخارجية الأمريكية تُعرف باسم دبلوماسية العلاقات العامة، و ومهمة هذه الإدارة هي تبييض وجه أمريكا خصوصاً في مواجهة موجات الكراهية التي طوقت الآفاق باعتراف الأمريكان أنفسهم، ولكنني أؤكد أن الولايات المتحدة لن تنجح في ذلك مادامت مصممة على اتباع نفس سياساتها وأساليبها مع الجميع.
أنت ترى أن مشروع الشرق الأوسط الكبير هو مؤامرة أمريكيّة ضد العرب أليس كذلك؟(19/38)
بكل تأكيد هذا المشروع يعتبر مؤامرة ضد العرب والمسلمين, وكيف لا يكون كذلك وهو في الأصل مشروع إسرائيلي يستهدف السيطرة على المنطقة " أرضاً وسماءً ". والحق أن مشاريع " التذويب" و" السلب" و" الهيمنة" الخاصة بالشرق الأوسط لم تتوقف منذ عقود بدعوى تنمية الشرق الأوسط اقتصادياً. ولا يخفى على لبيب أن الهدف الأكبر من وراء كل هذه المخططات الأمريكية الإسرائيلية هو تذويب العرب في محيط أوسع بحيث تبهت ملامح " الهوية" العربية والإسلامية للمنطقة بعد أن تتحول شعوبها إلى أقلية لا تمثل أكثر من 40% من إجمالي شعوب الشرق الأوسط الكبير
==============(19/39)
(19/40)
تقرير التنمية .. تقييم جيد لكن أين الحل؟!
ياسر الزعاترة 14/3/1426
23/04/2005
من المؤكد أن التقرير الثالث للتنمية الإنسانية العربية هو الأفضل بين التقارير الثلاثة التي صدرت حتى الآن، ولعل ذلك هو سبب التحفظ الأمريكي عليه، فيما يبدو أن موجة النقد التي تعرض لها كل من التقريرين السابقين هي التي وقفت بشكل أساسي خلف التوازن الذي يتسم به التقرير الجديد.
لم يقل أحد بأن المشاركين في هذه التقارير كانوا عملاء للولايات المتحدة، حتى بعد أن جرى استخدام ما فيهما في سياق تبرير استهداف العراق والأمة عموماً، ومع أننا نملك مبرر الشك في كل ما يتم تمويله من الخارج إلا أننا لا نجد غضاضة في الإشارة إلى بعض الإيجابيات هنا أو هناك. وقد كان اعتراضنا منصباً على الرؤية الغربية التي حكمت التقريرين السابقين، الأمر الذي يبدو أنه سينسحب على التقرير الرابع حول "تمكين المرأة"، والذي يرجح أن يحظى بالكثير من الرفض في الأوساط الإسلامية عموماًُ.
عودة إلى التقرير الجديد الذي يمكن القول أنه قدم توصيفاً معقولاً لمشكلة الحرية والتعددية في العالم العربي، لاسيما ما يتعلق باللعبة الديمقراطية الجديدة التي أعادت إنتاج الدولة الشمولية بطريقة مبتكرة من دون تغيير شيء في الجوهر، إذ قدم التقرير تفاصيل حول الآليات التي اتبعتها وتتبعها الأنظمة في سياق إبقاء الأوضاع القائمة على حالها على مختلف الأصعدة التي تتعلق بالحرية والتعددية وتداول السلطة.
والحال أنا لا نختلف كثيراً مع ما ذهب إليه التقرير على هذا الصعيد، فضلاً عن أحوال الدول التي لا زالت تدار بالطرق القديمة، بل لقد قلناه حرفياً وقاله سوانا في عشرات المقالات والدراسات، من دون أن يجري إغفال العامل الخارجي، أكان ما يتعلق بقضية فلسطين واحتلال العراق، أم دور الخارج المتعلق بدعم الديكتاتورية من قبل القوى المهيمنة في العالم، وهو أمر لم يعد التصريح به يتطلب الكثير من الجرأة بعدما اعترف به الأمريكان أنفسهم في سياق الحديث عن سياساتهم الجديدة في المنطقة، ولعل ذلك هو السبب في عدم الاحتجاج على هذا البعد في التقرير مع التركيز على مسألتي فلسطين والعراق.
في سياق التوصيات قدم التقرير منها ما يكفي لإصلاح الحياة السياسية في الدول العربية، مع أن ذلك لا يشكل وصفة ضرورية للتنمية إن لم يترافق مع خطوات حقيقة تؤدي إلى تفعيل التعاون العربي وإقامة السوق العربية المشتركة. وهنا تحديداً يبرز السؤال الثاني المتعلق بموقف الخارج، الولايات المتحدة تحديداً، وما إذا كانت ستسمح بتطور من هذا النوع يمكن أن يضع الأمة العربية على طريق القوة بعد امتلاك السيادة الحقيقية؟
والحال أن قراءة مضامين مشروع الشرق الأوسط الكبير، كما تبشر به الدوائر الأمريكية، إنما تشير إلى أن الصورة المطلوبة للعالم العربي تبدو أسوأ بكثير من صورته الحالية، تحديداً فيما يتعلق بالوحدة والتضامن، لأن الشرق الأوسط الكبير لم يعد كبيراً إلا بعد إضافة الدولة العبرية إليه، وهي التي ينبغي أن تصبح سيدة الجميع بلا منازع، ولن يحدث ذلك من دون تكريس سياسة الشرذمة على مختلف الأسس الطائفية والعرقية والمذهبية.
قبل سؤال الموقف الأمريكي من مسألة الوحدة التي لا تملك التنمية أفقاً من دونها، ينهض سؤال الموقف من تحرير الشارع العربي من سطوة الأنظمة واستعادته للحد المعقول من الحرية والمشاركة السياسية، وهنا يمكن القول إن دولة "الثقب الأسود" التي تحدث عنها التقرير، والتي يقول إنها قد "اعتمدت إلى حد كبير على أجهزة التحكم والدعاية، إضافة إلى تحييد النخب بالترغيب والترهيب، والمسارعة إلى عقد الصفقات مع قوى الهيمنة الأجنبية أو الإقليمية أو إلى التكتل فيما بين الدول لتعزيز وضع النخب الحاكمة ضد القوى الصاعدة". هذه الدولة لا يبدو أنها في طور الاستجابة لنصائح التقرير الجيدة، ليس لأنها لا تحب ذلك فحسب، بل لأنها تدرك أن الموقف الأمريكي منها لا يتحدد بناءً على موقفها من الحرية والتعددية الحقيقية، بل على موقفها من المطالب المتصلة بقضيتي العراق وفلسطين والدور الإقليمي للكيان الصهيوني، ومعها ما يتصل بالاملاءات الأخرى المهمة لتحقيق المصالح الأمريكية ذاتها. وفي العموم فإن عاقلاً لن يصدق أن واشنطن عازمة بالفعل على دفع عجلة الديمقراطية في الوطن العربي، لسبب بسيط هو إدراكها لما يعنيه ذلك من صعود قوىً أكثر عداءً لسياساتها، لاسيما وهي تدرك قبل ذلك أن مقولة الدكتاتورية كسبب للإرهاب هي محض إجابة زائفة هدفها التهرب من الأسباب الحقيقة التي يغضب الاعتراف بها سادة القرار السياسي من أتباع الدولة العبرية في الأروقة الأمريكية.(19/41)
مطالب الإصلاح الأمريكية هي وسيلة الابتزاز الجديدة التي اكتشفها المحافظون الجدد وسيستخدمونها بعناية خلال المرحلة المقبلة، وهي وسيلة أثبتت نجاعتها إلى الآن، أما لعبة الديمقراطية لمن يطيعون الأوامر فيمكن تخريجها بذات الطريقة المتبعة، أي هياكل ديمقراطية مفرغة من مضمونها الحقيقي. وإلا فكيف يمدح السيد بوش تقدم الإصلاحات الديمقراطية في دول يمكن القول إن حال الحرية فيها قبلها كان أفضل بكثير؟!
لمواجهة هذا الموقف وللإجابة على جدلية "بيدي لا بيد عمرو"، أي الإصلاح المفروض من الخارج في مقابل ذلك النابت من الداخل يقول التقرير: "والتحدي الذي يواجه قوى النهضة في الوطن العربي هو كيفية التعامل مع هذا البديل (ضغط الخارج) بما يعزز مسار الإصلاح من الداخل، ويقلل ما أمكن من مساوئ هذا البديل الجوهرية".
هذا البديل الثالث، بحسب التقرير، هو الذي سيجنب البلاد العربية مساراً بائساً يتمثل في لجوء البعض إلى "الاحتجاج العنيف"، الذي "تتزايد معه فرص الاقتتال الداخلي، وقد يفضي إلى تداول قادم للسلطة يتأتى عن العنف المسلح، بما ينطوي عليه من خسارة إنسانية لا تقبل مهما صغرت".
لا ندري هل يتحدث التقرير عن المدى القريب أم المتوسط أم البعيد، ذلك أن قدرة الاحتجاج العنيف على إحداث تغيير في العالم العربي لا تبدو واقعية، ليس فقط بسبب الموقف الحالي لقوى الهيمنة الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بل أيضاً لأن الدولة الأمنية غدت راسخة وليس ثمة قوة محلية تستطيع مواجهتها والانتصار عليها من دون دعم شامل من قبل الجماهير كما حصل في إيران.
أما ضغط الخارج، فهدفه الابتزاز كما أشرنا من قبل، وسينحاز للحكومات القائمة إذا ما وجد أن بديلها هو القوى الشعبية الأكثر رفضاً لسياساته. وتبقى الوصفة التي رجحها التقرير ممثلة في المواءمة بين المسارين، والتي ترد عليها فقرة أخرى أوردناها من قبل، وتتحدث عن قيام الأنظمة بـ "تحييد النخب بالترغيب والترهيب، والمسارعة إلى عقد الصفقات مع قوى الهيمنة الأجنبية والإقليمية".
هكذا ينتهي التقرير من دون تقديم حل ناجع ومقنع، اللهم سوى نصائح موجهة للأنظمة، تماماً كما كان الحال في التقريرين الماضيين، لاسيما الثاني المتعلق بالمعرفة، لكن المسار الأفضل يبقى هو ذاته الذي آمن به المصلحون المنتمون إلى أمتهم، والذي يمكن إدراجه ضمن المسار الوسطي الذي أشار إليه التقرير، والمتمثل في استمرار النضال الشعبي ضد الدكتاتورية في الداخل إلى جانب النضال ضد الهيمنة الخارجية على القرار السياسي العربي، وهو ما يأمل المخلصون بألا تواجهه الأنظمة بذات الردود التقليدية، أي التنازل للخارج والتحالف معه من أجل الهروب من طموحات الحرية مع المحافظة على الهوية العربية الإسلامية التي تنشدها الشعوب
=============(19/42)
(19/43)
حقيقة التغيّر في الموقف الفرنسيّ من سوريا
علي حسين باكير * 16/3/1426
25/04/2005
يثير الموقف الفرنسيّ من التطورات الحاصلة في المنطقة مؤخّراً تساؤلات عديدة، و يطرح شكوكاً مشروعة حول طبيعة هذا الموقف خاصة في شقّه المتوافق جداً مع توجّهات الولايات المتّحدة الأمريكيّة لا سيما أنّ فرنسا كانت و حتى وقت قريب جداً تقود المحور الروسي-الفرنسي-الألماني في مواجهة الولايات المتّحدة الأمريكيّة و مخطّطاتها, فماذا جرى حتى تتبدّل الموازين، و تنقلب المواقف ؟ و هل هذا الموقف الفرنسي حالياً هو موقف آنيّ أم إستراتيجية حُسم أمرها بعد الفشل في مواجهة التعنّت الأمريكي و نجاح بوش في ولاية ثانية؟
في الحقيقة تبرز في هذا الإطار قراءتان مختلفتان للموضوع:
القراءة الأولى: ترى أنّ فرنسا كانت تتوقع من حلفائها التاريخيين في المنطقة، و في مقدّمتهم سوريا تنسيقاً و تعاوناً أكبر في مواجهة الموقف الأمريكي, و في هذا السياق تفاجأت فرنسا من التحركات الدبلوماسيّة السوريّة بعد الحرب على العراق مباشرة، و التي كانت حسب وجهة نظرها تقرّباً من واشنطن على حساب فرنسا خاصّة إثر تسرّب معلومات مؤكّدة إليها عن اجتماعات سوريّة - أمريكيّة على مستويات مختلفة عسكريّة و اقتصاديّة و سياسيّة مما يخالف الاتّفاق الضمني بين باريس و دمشق. و جاءت عملية اختطاف الرهينتين الفرنسيتين (الصحفيين) آنذاك لتؤكّد وجود خلاف كبير بين سوريا و فرنسا, و لجأت فرنسا في إطار المساعي لإطلاق سراحهما إلى كل من مصر و الأردن و قطر فيما أهملت سوريا على الرغم من معرفتها بقدرة السوريين على تقديم المساعدة بشكل أكبر في هذا الملف. أكثر من ذلك فقد اتّهمت جهات داخل فرنسا سوريا بالقيام بالعملية لكبح التقارب الفرنسي الأمريكي, و في هذا الإطار حاول شيراك إفشال مهمات وسطاء فرنسيين توجّهوا لسوريا للترتيب لعملية الإفراج عن المعتقلين مع الجهات السورية, و هو ما اعتبرته القيادة السورية إشارة سلبية جداً من السلطة الفرنسية.
و بالتالي رأت فرنسا أنّه إذا كان حلفاؤها في المنطقة يتواصلون مع أمريكا مباشرة فما مصلحتها هي في استبقاء العداء مع واشنطن ؟ لكنّنا نتحفّظ كثيراً على هذه القراءة و نراها منقوصة و تضليليّة، كما أنّها -إن صحّت- يمكننا تفهّم الموقف السوري فيها في التعامل و التعاون مع الأمريكيين خاصّة وأنّ مفاتيح اللعبة أصبحت مع الولايات المتّحدة في الملف الفلسطيني، و الملف العراقي بعد أن أصبحت أمريكا جارة لسوريا، و على حدودها
القراءة الثانية تقول: إنّ فرنسا شيراك تأثّرت بالأوضاع الداخلية التي شهدت تنامياً للوبي الصهيوني الموالي لإسرائيل و المعادي لسوريا داخل حزبه، و سمّت بعض المصادر اسم "سيرج داسو" و اللوبي الاقتصادي الإعلامي الذي كان أحد عناصر الضغط في تحوّل الموقف الفرنسي من سوريا, أضف إلى ذلك أنّ فرنسا أعادت مراجعة حساباتها بعد الغزو الأمريكي للعراق، فوجدت أنها خسرت و بكل المقاييس.
ففي موضوع العراق, خسرت فرنسا معركة العراق مع أمريكا؛ فقد كانت فرنسا للعراق الشريك التجاري الأوّل, كما أنّ الديون العراقيّة لفرنسا كانت كبيرة جدّا ناهيك عن الشركات الفرنسية العاملة في العراق, و هذا يعني أنّ الهجوم الأمريكي على العراق أدّى إلى فقدان فرنسا لنفوذها في هذه المنطقة إضافة إلى أموالها و مصالحها. وأدركت فرنسا أنّ سيطرة أمريكا على منابع النفط بشكل مباشر- و التي كان العراق خارج إطارها إلى ما قبل الاحتلال- سيعني قدرة الولايات المتّحدة على التحكّم باقتصاديّات الدول الأوروبيّة و نموّها، خاصّة وأنّها تستهلك نسبة كبيرة من نفط المنطقة.
حتى بالنسبة إلى حلفاء فرنسا في المحور الفرنسي الألماني الروسي, فقد كانت فرنسا الخاسر الوحيد بينهم؛ فروسيا أصبحت محور استقطاب لحلفائها القدامى و آخرين جدد في المنطقة كسوريا و إيران و تركيا، و استفادت من صفقات عسكرية و تجارية و اقتصادية، و بالتالي عزّزت موقعها في المنطقة في حين لم تتلق ألمانيا ضغوطاً كبيرة كونها أقل تأثيراً في المنطقة، في حين كان نصيب فرنسا خسارة مواقعها القديمة (العراق) و (سوريا و لبنان) و توتّرت علاقاتها مع تركيا، و صبّت أمريكا جامّ غضبها عليها، و حرمت شركاتها من الاستثمار في العراق ، و شنّت حرباً سياسية و إعلامية ضدّها.
أضف إلى ذلك أنّ الولايات المتّحدة استطاعت أن توجد خطًّا من داخل أوروبا موالياً لها، و هو ما أدّى إلى انشقاق في الاتّحاد الأوروبي و إلى إضعافه و إثارة الخلاف بين أعضائه، و أفقد فرنسا الكثير من سطوتها و فعاليتها كقائدة للاتّحاد الأوروبي.(19/44)
و بناء على هذه القراءة ترى فرنسا أنّ أولويتها هي استعادة العلاقات الحسنة مع الولايات المتّحدة خاصّة، و أنّ عليها التعامل مع حقيقة أنّ جورج بوش قد تمّ انتخابه لولاية ثانية في محاولة منها لإنقاذ ما تبقّى من مصالحها في المنطقة، و للاستفادة من المكاسب الأمريكيّة، و بالتالي يجب التضحية بأحد الأوراق الفرنسية لكي تثبت ولاءها لأمريكا، فكانت سوريا و لبنان على أمل أن تكسب فرنسا إيران، و لا تضحّي بها في هذا الإطار. و تربح فرنسا في نفس الوقت طالما أنّها في الصّف الأمريكي.
و تبدو هذه القراءة أوضح خاصّة أنّ التقارب الفرنسي بدا كأنّه إستراتيجية مدروسة و ليس تكتيكا أنيًّا، و ذلك عبر رصدنا للخطوات التدريجيّة التي قامت بها فرنسا على الشكل التالي:
أّولاً: صنّفت فرنسا و معها الاتّحاد الأوروبي حركات المقاومة الفلسطينيّة و من بينها تحديداً حماس و الجهاد بأنّها حركات إرهابية مع ما يترتب على هذا التصنيف من نتائج على كافّة الصعد، و جاء ذلك لإرضاء أمريكا و تجنّباً لسخطها في إطار ما يُسمى الحرب على الإرهاب فهل اختلفت فرنسا في خطوتها هذه عن أمريكا و إسرائيل؟
ثانياً: فقد حضرت فرنسا في قمّة الثماني الكبار (G8)، التي عُقدت في 9/6/2004 في سي آيلاند بولاية جورجيا الأمريكيّة، حيث شاركت في صفقة غير أخلاقية اقتضت بأن تقوم الولايات المتّحدة بتعديل مشروع الشرق الأوسط الكبير بما يتناسب مع مصالح و وجهات النّظر الأوروبيّة مقابل أن توافق فرنسا على تمرير مشروع القرار الأمريكي الذي طرح على مجلس الأمن آنذاك في قرار 1546 و الذي يقول بانتهاء الاحتلال الأمريكي للعراق، مع العلم أنّ فرنسا كانت تدرك جيّداً أنّ الاحتلال لم ينته و أنّ أمريكا مازالت موجودة، ثالثاً: ففي 2 سبتمبر/ أيلول 2004، وبعد مناقشات سرية، توصلت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مجتمعتين إلى بلورة صيغة القرار 1559 في مجلس الأمن الدولي، بمعنى أنّ فرنسا شاركت بتمرير القرار ضدّ سوريا و لبنان "الصديق التقليدي لفرنسا!!"، وهو يهدف إلى ابتزاز السوريين للموافقة على كافة الشروط الأمريكية فيما يتعلّق بالعراق و الحرب على الإرهاب و خاصّة ما يتعلّق بإستراتيجيّة أمريكا للدفاع عن إسرائيل مهما كلّف الثمن، كما يهدف القرار إلى كسر شوكة اللبنانيين و تحجيم انتصارهم في تحرير أرضهم، فهل كانت فرنسا تجهل كل ذلك؟! أنسيَ السيّد شيراك ما قال في آخر كلمة له أمام البرلمان اللبناني منذ عدّة أشهر: "إن خطوات إعادة الانتشار وفقاً لاتفاق الطائف ومرجعيته الدولية تعني أن الانسحاب العسكري السوري غير ممكن بأي صورة قبل تحقيق السلام الشامل في المنطقة"؟!
فما الذي تغيّر منذ ذلك الوقت و حتى الآن, أهي مصلحة لبنان و سوريا التي تغيّرت أم أنها مصلحة فرنسا التي تغيّرت؟* باحث في العلاقات الدوليّة مقيم في لبنا
==============(19/45)
(19/46)
الحكيم والحرب الطائفية في كل المنطقة!!
ياسر الزعاترة / عمان 29/5/1426
06/07/2005
معلوم أن عبد العزيز الحكيم هو شقيق محمد باقر الحكيم ووريثه في قيادة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، ذلك التنظيم الذي تأسس في إيران خلال الثمانينات وله سجله المعروف في التعاون مع الإيرانيين ضد العراق خلال الحرب بين البلدين، وفي الآونة الأخيرة قامت جهات في المخابرات العراقية بتسريب أشرطة مصورة لعدد من مسؤولي المجلس، من بينهم فاعلون في حكومة الجعفري، وهم يمارسون التحقيق والتعذيب بحق المعتقلين العراقيين لدى السلطات الإيرانية!!
في الأسبوع الماضي أصدر الحكيم بياناً وزع على الصحافيين على هامش حفل تأبيني أقيم إثر تفجيرات في مناطق متفرقة أودت بحياة عدد من الناس في الكرادة والشعلة، وفيه يقول "ندعو جميع العرب والمسلمين إلى الوقوف بمسؤولية وحزم مع أبناء الشعب العراقي وضد أولئك الذين يصدرون الإرهاب إلى العراق، وليعلموا أن نشوب الحرب الطائفية في العراق يعني إشعال الحرب في كل المنطقة".
ما يجب أن يقال هنا هو أن الشق الثاني من كلام الحكيم يبدو صحيحاً تماماً، إذ أن اشتعال الحرب الطائفية في العراق قد يشعلها في كل المنطقة، لكن ما يجري في العراق ليس كذلك في واقع الحال، والحكومة التي يشارك فيها الحكيم هي التي تهدد بإشعال تلك الحرب وليس الآخرين، وبالطبع من خلال ممارسة التطهير العرقي والعقوبات الجماعية بحق مناطق بأكملها هي من دون مواربة مناطق العرب السنة.
ما يجب أن يتذكره الحكيم هو أنه إذا كان الشيعة غالبية في العراق وبوسع من يزعمون النطق باسمهم في ضوء مساعدة الأمريكان، ومن ثم سيطرتهم على الجيش وأجهزة الأمن أن يفرضوا ما يشاؤون من عقوبات على العرب السنة، فإنهم يظلون أقلية في العالم العربي والإسلامي، مع أننا نؤمن بأن حكومة الجعفري والحكيم لا تمثل الشيعة حقيقة التمثيل، بدليل أن من بينهم رموزا وقوى وفعاليات معتبرة ترفض التمديد لقوات الاحتلال وتصر على رحيلها. ونشير هنا إلى "وثيقة الجلاء" التي وقعها 83 نائباً، معظمهم من النواب الشيعة في الجمعية الوطنية، إضافة إلى ممثلين عن التيار الصدري والمشاركين في المؤتمر التأسيسي لمقاومة الاحتلال الذي تتصدره هيئة علماء المسلمين وتشارك فيه قوى وفعاليات شيعية معروفة مثل التيار الخالصي والبغدادي، وتطالب الوثيقة برحيل الاحتلال عن العراق.
من المستغرب أن يرى الحكيم، كما جاء في ذات البيان المشار إليه، أن ما يجري في العراق هي حرب ضد "المدنيين الأبرياء من أتباع آل البيت"، ليس لأن في ذلك ما فيه من تحريض على الفتنة فحسب، بل أيضاً لأننا ورغم معارضتنا لأية عمليات يمكن أن تطال المدنيين الأبرياء، إلا أننا لا نرى أن توصيف الحكيم صحيحاً ، فلو أراد المسلحون قتل الآلاف بالسيارات المفخخة لما كان ذلك صعباً لأن التجمعات المدنية متاحة على الدوام، لكنهم يستهدفون قوات الأمن والحرس الوطني التي تداهم المناطق وتقتل الناس، تماماً كما يفعل المحتلون، وفي كل الأحوال فإن المسلحين لا يسألون رجال الأمن إياهم عما إذا كانوا من الشيعة أم من السنة.
الواقع أن ثمة رؤية سياسية خلف ما يجري، لا يقلل من قيمتها خلافنا أو اتفاقنا معها. خلاصة تلك الرؤية هي الحيلولة دون نجاح الحكومة التابعة للاحتلال وذات النفس الطائفي الواضح في بسط الأمن والسيطرة على البلد، ومن ثم منح الأمريكان قواعد عسكرية يتحكمون من خلالها بالبلد وسياساته المحورية، والنتيجة هنا هي إنجاح المشروع الأمريكي (مشروع الشرق الأوسط الكبير) ومنحه فرصة التمدد في المحيط العربي والإسلامي.
من يديرون المعركة في العراق ومن يدعمونها لا يستهدفون إبادة الشيعة، حتى لو انطوى خطاب الزرقاوي على قدر كبير من العدائية لهم، بل الهدف هو الحيلولة دون حكومة طائفية في العراق تحوّل العرب السنة إلى ضحايا المرحلة الجديدة - حسب فهم هؤلاء - وبالطبع ضمن روح ثأرية تحاسبهم على ذنوب صدام حسين. أما الهدف الثاني، وربما الأهم فهو الحيلولة دون نجاح المشروع الأمريكي في المنطقة ككل .
المعركة كبيرة لأنها تمس الأمة ودينها وهويتها، وفي العموم فإن المشروع الأمريكي لا يستهدف السنة فحسب، فإيران الشيعية مستهدفة وحزب الله الشيعي مستهدف أيضاً، فيما سوريا التي يراها البعض (علوية)، توجد على رأس قائمة الاستهداف.
من هنا فإن التحذير من الحرب الطائفية ينبغي أن يتوجّه للجميع وخاصة بعض رموز السلطة الحالية ، ولو خرجت قوات الاحتلال من العراق اليوم وتم توافق وطني على وضع سياسي عادل في البلاد لما عمل الزرقاوي على إفشاله، ومن السذاجة أن يعتقد أحد أن دولة الخلافة الراشدة ستقوم في العراق المدجج بالانقسامات العرقية والمذهبية وفي ظل الوضع العربي والإقليمي وميزان القوى الدولي الراهن، لكن الجميع سيفخر بالتأكيد بأن يقال إن المجاهدين العرب قد ساهموا في إفشال واحدة من أشرس الهجمات على الأمة في تاريخها.(19/47)
الكرة الآن في ملعب قادة الائتلاف الشيعي وعلى رأسه من منحه الغطاء، أعني السيد السيستاني، وإذا لم يبادروا إلى صياغة معادلة توافق وطني عمادها انسحاب قوات الاحتلال من البلاد وإعادة السيادة الحقيقية وترتيب الأجواء لصيغة سياسية عادلة تشمل الجميع فإن النزيف سيستمر إلى زمن قد يطول، أكان بذات الصيغة القائمة أم وصولاً إلى الحرب الأهلية التي تأكل الأخضر واليابس.
لكن عجز القادة العراقيين عن فعل شيء على هذا الصعيد لا يجب أن يمنع رموز الأمة من الشيعة والسنة في العالم العربي من التحرك وتقديم مبادرة عمادها خروج الاحتلال والتوافق على صيغة عادلة لعراق موحد وكامل السيادة .
============(19/48)
(19/49)
المغاربيون والتطبيع العسكري في الناتو!
الرباط/ إدريس الكنبوري 25/10/1425
08/12/2004
العلاقات بين دول المغرب العربي الخمس والدولة العبرية ليست بنت الساعة، بل تمتد تاريخياً إلى فترات متقدمة من القرن الماضي، حتى إن المراقب قد يتساءل عن المفارقة الموجودة بين بعد المنطقة عن مسرح الشرق الأوسط جغرافياً، وبين تسارع وتيرة التطبيع بين دولها الخمس، وبين الدولة العبرية.
فقد قطعت كل من المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس خلال العقدين الماضيين أشواطاً كبيرة في التطبيع مع إسرائيل، وكان توقيع اتفاق أوسلو عام 1993م بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية بمثابة آلة الضخ في وتيرة التطبيع تلك، إذ سارعت بعض تلك الدول إلى إقامة علاقات ديبلوماسية مكشوفة مع الدولة العبرية مثلما فعلت كل من المغرب وموريتانيا، ولم تتوقف تلك العلاقات على المستوى الديبلوماسي بل طالت المستويات الاقتصادية والتجارية، وأخيراً وصلت إلى مستوى التعاون العسكري داخل نادي حلف شمال الأطلسي.
واللافت في هذه المعادلة أن الاختراق الإسرائيلي للمنطقة ظل يتصاعد بالتوازي مع الاختراق الأمريكي ورغبة واشنطن في التمدّد في المنطقة وإقامة شبكة من المصالح السياسية والاقتصادية والتجارية، وجعل المنطقة بوابة استراتيجية للتمدّد في العالم العربي.
إسرائيل والنادي المتوسطي
في 17 نوفمبر الجاري شاركت أربع دول مغاربية هي المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا، إلى جانب بلدين عربيين مشرقيين هما مصر والأردن ـ المرتبطين باتفاقيتي سلام مع الدولة العبرية عامي 1978م و1994م، هما اتفاقيتا"كامب دفيد" و"وادي عربة"ـ في أول قمة لرؤساء أركان ووزراء دفاع بلدان حلف الأطلسي في بروكسل ببلجيكا، ضمن ما يسمى بـ"مجموعة الحوار المتوسطي" التي تتشكل من البلدان العربية المذكورة إلى جانب الدولة العبرية. وتُعتبر تلك القمة الأولى من نوعها التي تجمع أعضاء الحلف مع بلدان الحوض المتوسطي، وتأتي تمهيداً للقمة التي ستنعقد في 8 ديسمبر القادم في العاصمة البلجيكية تحت عنوان"مستقبل علاقة الحوض المتوسطي مع حلف الناتو"، لكنها تعتبر الأولى التي يتم فيها إشراك الكيان الصهيوني منذ الإعلان عن انطلاق مشروع"الحوار المتوسطي" الذي دعا إليه الحلف عام 1994م.
المفاجأة أن هذا اللقاء جرى بعيداً عن الاهتمام الإعلامي الذي كان يتوجب أن يلقاه لدينا نحن في العالم العربي، وبالأخص في منطقة المغرب العربي التي أصبحت في الآونة الأخيرة مسرحاً لعديد من المناورات الأمريكية والصهيونية، الرامية إلى تطويعها والتأسيس لمشروعها الاستراتيجي الجديد لما بعد احتلال العراق في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. فقد تزامنت تلك القمة مع التحضير لعقد"منتدى المستقبل" في الرباط في منتصف الشهر القادم، وهو المنتدى الذي يُعد الخطوة الأولى في إطلاق مسلسل الإصلاحات التي دعا إليها مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا في العالم العربي والإسلامي قبل عام، بما يشير إلى أن هناك مرحلة جديدة وفاصلة تبدأ في المنطقة عنوانها الأبرز اختراق أمريكي ـ إسرائيلي أكبر.
حماية عربية لإسرائيل؟
منذ الإعلان عن مشروع الحوار المتوسطي عام 1994م، وانطلاق المفاوضات لإقناع الدول العربية والمغاربية للانضمام إليه، كان الهدف المرسوم لحلف شمال الأطلسي هو التركيز على الضفة الجنوبية للمتوسط وقضايا الإرهاب الدولي والسلام والتعايش. وقد أصبح ذلك المشروع يكتسي أهمية أكبر لدول الحلف والولايات المتحدة الأمريكية بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ورفع واشنطن لافتة "محاربة الإرهاب الدولي"، منذ ذلك الوقت برز الحوض المتوسطي كواجهة أمامية لتطبيق الاستراتيجية الأمنية الجديدة للحلف، والتي جرى تسطيرها في قمة روما بإيطاليا قبل عامين.
الدول العربية المشاركة في الحوار المتوسطي ليس أمامها سوى التصديق على الاستراتيجية الأمنية الجديدة لحلف الناتو والسير على خطوطها، في ضوء المفهوم الجديد للتحديات الأمنية بالنسبة لبلدان الحلف ما بعد مرحلتي نهاية الحرب الباردة وتفجيرات 11 سبتمبر، الأمر الذي يُلقي عليها أعباء أمنية، على رأسها ضمان الحماية لأعضاء الحلف كلما كانت هناك تهديدات تواجهها، باعتبار أن ذلك هو أحد المبادئ الكبرى التي حددتها قمة روما.
وقد جرى الحديث في اللقاء الأخير بين أعضاء الحلف وبلدان الحوار المتوسطي ـ ومن ضمنها إسرائيل ـ عن إمكانية مشاركة هذه الدول في أي قوات عسكرية يرسلها الحلف إلى العراق وفلسطين، لاستتباب الأمن في الأولى وضمان انسحاب إسرائيلي هادئ في الثانية، في حال ما إذا نفّذ شارون خطته الانسحاب من غزة.
ويبدو أن القضية لا تقتصر على التعاون العسكري والأمني بين البلدان العربية المشاركة في الحوار المتوسطي وبين بلدان حلف الناتو، وإنما تتعداه إلى التوافق حول مبدأ ضمان أمن إسرائيل والتوقيع بالمصادقة على واقع الاحتلال الأمريكي والبريطاني في العراق، وذلك هو النفق الذي يتم جر الدول العربية الست إليه.
============(19/50)
(19/51)
" دافوس" شرم الشيخ .. تكريس سياسات الهيمنة
القاهرة / عاصم السيد 1/5/1427
28/05/2006
جاء انعقاد منتدى (دافوس) الاقتصادي مؤخراً في مدينة شرم الشيخ المصرية متزامناً مع العديد من الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية التي تمر بها مصر، والمنطقة العربية، ويمر بها العالم أجمع.
فعلى المستوى الإقليمي والعربي جاء منتدى (دافوس) هذا العام في ظل قضية الحصار الجائر وحرب التجويع الأمريكية- الصهيونية على الشعب الفلسطيني؛ بسبب تمسكه بثوابته وبخياره الديمقراطي ممثَّلاً في حركة المقاومة الإسلامية حماس، كما يأتي في ظل توتر وعدم استقرار في العراق، الذي يدخل عامه الرابع تحت الاحتلال الأمريكي البريطاني . وعلى المستوى الدولي فقد جاء المنتدى في ظل حالةٍ من التشاؤم التي تسود الاقتصاد العالمي بسبب السياسات الأمريكية، سواءٌ على المستوى التجاري وقضية الأسواق (بسبب إصرار واشنطن على فرض إجراءاتٍ حمائية على أسواقها) أو مستوى البيئة، مع رفض الولايات المتحدة (تحت تأثير ضغط لوبي المجمع الصناعي- العسكري الأمريكي) الموافقة على التوقيع على بروتوكول (كيوتو) الدولي، الذي يحدّ من الانبعاثات الكربونية السامة في الجو. أمَّا في مجال الطاقة فقد تواكب انعقاد المنتدى مع ارتفاع أسعار النفط إلى مستويات جنونية مرشحة للارتفاع أكثر.
قضايا قُتلت بحثاً
وقد لاحظ المراقبون أن الموضوعات التي تمت مناقشتها في دورة شرم الشيخ كانت نسخةً مكررةً من الدورة الماضية تقريبًا التي عُقدت في الأردن.
فلم يخرج الحديث عن قضايا العولمة ، وحرية التجارة ، والمساواة ما بين بلدان العالم الثالث والمتقدم، فيما يتعلق بحرية الحركة في الأسواق العالمية دون إجراءاتٍ حمائية، على عكس ما تُصِرّ عليه وتفعله الولايات المتحدة حتى مع حلفائها الأوروبيين، كما سبق القول.
وكان هناك أيضاً كلام معاد عن الهجرة غير المشروعة وأهمية التمكين للمرأة، والتصدي لتجارة الرقيق الأبيض في هذا الإطار، إلى جانب مجموعة من التصورات حول قضية التنمية البشرية والاقتصادية في العالم الثالث، مع أهمية وضع أولويات لقضايا حقوق الإنسان والمرأة ، والبيئة والصحة والتعليم والتنمية الاجتماعية، والتصدي لملفات القضاء على الفقر والجريمة المنظمة وغسيل الأموال والمخدرات؛ بهدف تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي.
والقضية الرئيسة التي حملها (كلاوس شواب) رئيس المنتدى للمشاركين في شرم الشيخ هي:
"إن الوقت قد حان لإحداث التغيير في الشرق الأوسط"، خاصة وأن هناك شبه إجماع بين قادة وشعوب بلدان المنطقة على أن الإصلاحات السياسية والاقتصادية هي الطريق الوحيد لزيادة معدلات النمو ورفع مستوى المعيشة.
أما جلسات المنتدى التي استغرقت ثلاثة أيام فقد ناقشت قضايا الحكم الرشيد والمواطنة ، والديموقراطية والسلام والأمن والهوية الثقافية، والتجارة وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. كما عُقدت جلسات خاصة حول تأثير الأوضاع السياسية الراهنة في الحوار بين الشعوب، وتحديات العولمة، والتجارة العالمية، وسبل معالجة آثار الحوادث الإرهابية الأخيرة، والرسولم الدنماركية، وأعمال العنف المضاد في مستقبل الحوار بين الثقافات.
واحتلت قضية البطالة وإيجاد فرص عمل جديدة للشباب الخريجين أهمية قصوى في أعمال المؤتمر، وطبقاً لبيانات المؤسسات الدولية، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحتاج إلى إيجاد (80) مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2020 من أجل إبقاء معدلات البطالة على ما هي عليه حالياً، بينما المطلوب (100) مليون وظيفة جديدة لتخفيض نسبة البطالة إلى مستويات مقبولة بالمعايير العالمية.
والسبيل الوحيد لمواجهة هذه الأوضاع هو تحسين مناخ الأعمال في بلدان المنطقة، وسد الهوة بينها وبين الدول الغنية في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة؛ إذ يبلغ حجم الاستثمارات العالمية نحو (650) مليار دولار، بينما لا يتعدى نصيب الدول النامية منها بما فيها الصين والهند 28%، في حين لا يتجاوز نصيب بلدان القارة الإفريقية نحو 1,2% من إجمالي الاستثمارات العالمية.
وتم عقدت ورش عمل على هامش منتدى (دافوس) شرم الشيخ حول تنمية قطاع السياحة في دول المنطقة ، وزيادة قدرته على المنافسة عالمياً، وتحديث القطاعات المالية والمصرفية ، والاستفادة من الفوائض المالية الضخمة الناجمة عن ارتفاع أسعار البترول في رفع معدلات النمو. كما تم تخصيص ورشة عمل لقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ناقشت سبل زيادة تنافسية شركات المعلومات والاتصالات في دول المنطقة، وحضرها رؤساء كبرى شركات التكنولوجيا العالمية.
مناوشات كلامية
ولم يخل منتدى (دافوس) شرم الشيخ من مناوشات كلامية بين المسؤولين العرب والأمريكيين حول الحصار الغربي الظالم على الفلسطينيين، وتأثيره السلبي على تنامي الكراهية بين الشعوب كما شهد منتدى (دافوس) شرم الشيخ توبيخ مسؤولين عرب لمسؤولين أوروبيين، بسبب أزمة الرسوم الدانمركية المسيئة للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظل غياب رئيس الوزراء الدنمركي المتعمد، خشية من توبيخه ومطالبته بالاعتذار.(19/52)
وكان الحوار بين الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ومساعد وزيرة الخارجية الأمريكي روبرت زوليك، على هامش المنتدى، مناسبة لتوجيه الانتقادات اللاذعة حول سياسة الولايات المتحدة بالمنطقة، والازدواجية التي تتعامل بها مع الملفات الفلسطينية والعراقية والإيرانية.
التماهي مع الأجندة الأمريكية
ولم يكن صعباً أن يلاحظ المتابعون لمنتدى (دافوس) شرم الشيخ أن هناك تعمداً أن تكون المواقف والسياسات المعتمدة والمتبناة داخل المنتدى تسير وفق اتجاه واحد هو اتجاه التوافق مع وجهات النظر الأمريكية والصهيونية.
ومن أولى الأولويات المطروحة قضية الإرهاب، وجعل مكافحته أولوية قصوى لكل بلدان المنطقة، وقضية إيران ومساعيها لامتلاك التقنية النووية، وأيضاً ملف التيار الإسلامي ومعالجاته المطروحة، وربطه دائمًا بملف مكافحة الإرهاب، والتعامل مع التيارات الإسلامية بالردع والعنف.
أما قضية القضايا فهي دمج الكيان الصهيوني في المنطقة وتوفير كل السبل لضمان أمنه وهيمنته على المنطقة وإقامة علاقات طبيعية بينه وبين كل الدول العربية.
الترويج للشرق الأوسط الكبير
ومن عام 2002 وحتى عام 2006 استضافت المنطقة العربية أربعة اجتماعات إقليمية، ثلاثة منها عُقدت في الأردن، والرابع في مصر، واختيار الدولتين جاء على أساس دورهما الرئيس في قيادة الدول العربية في اتجاه مشروعات التسوية مع العدو الصهيوني، وكانت تهدف في الأساس إلى دمج المنطقة العربية في الاقتصاد العالمي وبحث مستقبل 'الشرق الأوسط الكبير' الذي تسعى واشنطن لترويجه في المنطقة، فضلاً عن بحث مستقبل عملية السلام بين الدول العربية والكيان الصهيوني.
وعلى الرغم من أن منتدى (دافوس) للشرق الأوسط طرح نفسه على أساس أنه منتدى اقتصادي، إلا أنه هيمنت عليه الأجندة السياسية من أول يوم، بداية من بحث مد قناة بين البحر الأحمر والميت، وهو مشروع مشترك بين الأردن وإسرائيل، وإقامة منطقة تجارة حرة بين أمريكا والعرب.
كما شهد المنتدى، مثل سابقيه في الأردن، تداخلاً حاداً بين السياسي والاقتصادي؛ إذ عُقدت محادثات اقتصادية وسياسية بين القادة الأمريكيين والعرب والإسرائيليين المشاركين في المنتدى .
=============(19/53)
(19/54)
المصالحة مع الذات لمواجهة التحدي الخارجي !
ياسر الزعاترة 23/2/1426
02/04/2005
كتبنا وسنظل نكتب عن الاستهداف الأمريكي لسوريا، وانتصرنا لها وسنظل نفعل في سياق المعركة اللبنانية مع الذين استقووا بالخارج عليها، وقبل ذلك كنا معها في مواقفها من الصراع مع الصهاينة، تلك التي كانت في عمومها الأقرب إلى نبض الشارع العربي، لكن ذلك لم يكن لينسينا ذلك الجانب المتعلق بشؤون الداخل السوري الذي آن له أن يشهد نقلة إلى الأمام تضع الجماهير في صلب المواجهة مع الاستهداف الخارجي كي لا تتكرر التجربة العراقية، يوم كانت الجماهير في انتظار أي شيطان يأتي من الخارج ليخلصها من حكم بالغ في القمع إلى درجة لا يمكن لأحد أن يبررها، حتى لو كان له موقفه من أشكال الخروج المختلفة على النظام من قبل الشيعة والأكراد، بل وبعض السنة ممن كانت لهم محاولاتهم الانقلابية على النظام أيضاً.
ما يجب أن يقال ابتداءً هو أن مواقف حزب الله، ومجمل تيار الموالاة من الوجود السوري في لبنان ومن القرار 1559، وتأثير ذلك على ميزان القوى في اللعبة اللبنانية لصالح دمشق، كل ذلك لن يغير من حقيقة أن المعركة لا تزال في بداياتها، وأن تواصلها ليس موضع شك لدى المراقبين العارفين بالسياسة الأمريكية في عهد المحافظين الجدد.
نذكر بذلك لأن الولايات المتحدة لم تكن معنية في يوم من الأيام بمنطق العدل وسؤال الأغلبية والأقلية كي تقنعها مسيرات الموالاة بأن اللبنانيين يريدون علاقة خاصة مع السوريين، أو أنهم يرفضون قرار مجلس الأمن الدولي، فهي معنية أولاً وأخيراً بمصالح الدولة العبرية ثم مصالحها تالياً، لاسيما ما يتعلق بآليات خروجها من المأزق العراقي وصولاً إلى تمهيد الطريق من أجل إنجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير.
نعيد التذكير بهذا الجانب كي لا يعتقد البعض أن المعركة قد انتهت، أو على وشك الانتهاء، وأنه لا قيمة لنصيحة تتعلق بالداخل السوري، وهو ما لا يبدو منطقياً بحال من الأحوال، ونتذكر كيف استجاب العراق لكل شروط ومتطلبات التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل وقدم جميع التسهيلات المتعلقة بهذا الشأن، لكن ذلك لم يجد نفعاً في مواجهة نوايا إمبريالية لا حدود لجشعها وغطرستها.
ما يجري مع سوريا اليوم هو تكرار لذات السيناريو العراقي، ولا مجال أمام دمشق سوى الالتحام بجماهيرها وإجراء تغييرات حيوية تدفع باتجاه تحسين شروط المواجهة مع المخططات الخارجية التي تهب عليها مثل عاصفة هوجاء.
صحيح أن المعطيات العامة تبدو مختلفة من زاوية الداخل والخارج، إذ لا مجال لمقارنة الوضع السوري بالعراقي، لا من زاوية تعقيدات الداخل، ولا من زاوية القدرة على إدارة المعركة بقدر من الحكمة، فضلاً عن طبيعة التهم الموجهة إلى دمشق واحتمالات التدخل العسكري المباشر. لكن ذلك لا يغير من جوهر الملاحقة التي تتم فصلاً إثر آخر، وبوتيرة متسارعة وإصرار واضح.
ما ينبغي أن يقال ابتداءً هو أن إصلاح الوضع الداخلي السوري ليس في حاجة إلى استهداف خارجي يستدعي تمتين الجبهة الداخلية، فالدولة الأمنية التي تتعامل مع مواطنيها بمنطق العصا الثقيلة لم تعد مقبولة في هذه المرحلة، وإذا كان الإسلاميون السوريون قد أخطأوا في تقدير الموقف والتبعات عندما تورطوا في المواجهة المسلحة مع الدولة في الثمانينات، تلك التي تمت بغير رغبة ولا تخطيط منهم كما دلت معطيات كثيرة، فإن ذلك، على أهميته، لا ينبغي أن يكون مبرراً لاستمرار النهج الأمني الذي كان سابقاً على تلك المواجهة، فكيف وهم قد عادوا واعترفوا بخطأ ما جرى، وإن بشكل غير مباشر، وقدموا برنامجاً سياسياً متقدماً، فيما وقفوا من استهداف بلدهم مواقف وطنية مشهودة ولا زالوا يقفون؟
لقد حصل ما هو أسوأ من ذلك في الجزائر، كما حصل في مصر أيضاً، فيما وقعت مواجهات في الأردن مع منظمة التحرير، بل وحرب أهلية في لبنان أيضاً، لكن ذلك لم يدفع إلى تكريس النظام الأمني المطلق، بل كانت مصالحات بصرف النظر عن تقييمها من زواياها المتعددة.
من المؤكد أن سوريا الأسد الابن هي غير سوريا الأسد الأب، إذ أن تغييرات ما قد حصلت في بنية الدولة، لكن ما ينبغي التذكير به بالمقابل هو أن زمن الابن يختلف عن زمن الأب، في حين لا يبدو من العسير القول إن نهج الدولة الأمنية لا زال سارياً إلى الآن، ولا حاجة إلى تقديم الأدلة على ذلك، فهم يعرفونها كما نعرفها ويعرفها المواطن السوري في الداخل، فضلاً عن مئات الآلاف من السوريين في الخارج ممن لا يزالون محرومين من زيارة بلدهم فضلاً عن الحصول على أوراق ثبوتية غير مزورة!!
إن أحداً لا يطالب بتحويل سوريا إلى السويد أو سويسرا بين عشية وضحاها، لكن معارضة تعض على جراحها وترفض وضع يدها في يد أعداء بلدها وتملك كل هذا الحس الوطني الذي تبدى خلال السنوات الأخيرة، مثل هذه المعارضة تستحق ما هو أفضل مما لاقته إلى الآن، الأمر الذي ينطبق على المواطن السوري الذي لا زال يعيش هواجسه التقليدية في التعامل مع الدولة وأذرعها الأمنية.(19/55)
مرة أخرى نؤكد أننا نقول ذلك من منطلق الخوف على سوريا في مواجهة مخططات تستهدفها وتستهدف الأمة من ورائها، فيما نؤمن أن الإنسان السوري، والعربي والمسلم عموماً يستحق من أنظمته ما هو أفضل على مختلف الأصعدة
=============(19/56)
(19/57)
بعد عشر سنوات..ماذا حقق مشروع برشلونة؟
إدريس الكنبوري/ الرباط 25/10/1426
27/11/2005
قبل عشر سنوات انطلق ما بين بلدان الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة، واثنتي عشرة دولة من جنوب المتوسط- حوار متعدد الأبعاد انتهى إلى إرساء مشروع أُطلق عليه مشروع برشلونة الأورومتوسطي، نسبة إلى عاصمة كاتالانيا الإسبانية التي احتضنت المؤتمر الأول للشراكة الأورومتوسطية في نوفمبر من عام 1995. ومنذ ذلك الوقت بدأ الحديث عن مشروع الشراكة هذا، وانتهى ما كان معروفاً في السابق بالحوار العربي الأوروبي الذي خلص إلى الإحفاق قبل ذلك بوقت طويل؛ بسبب العجز الأوروبي عن منافسة الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، وبسبب عدم استعداد العالم العربي للمراهنة على أوروبا، بينما هو يتسابق إلى وضع كامل البيض في السلال الأمريكية، مستعيداً مقولة السادات الذي كان يقول بأن 99% من أوراق الحل في الشرق الأوسط توجد بيد الولايات المتحدة.
وتُعدّ مدة عقد من الزمن من عمر هذا المسار بين الشمال والجنوب كافية لاستخلاص أهم ما طبع تلك المرحلة، والتأمل في المردود السياسي والاقتصادي للتجربة، وما إن كانت قد حققت أهدافها التي رسمتها في البداية، وجوانب الاستفادة العربية منها.
عودة إلى الجذور
بدأ المشروع الأورومتوسطي الذي انطلق في النصف الأول من تسعينيّات القرن الماضي في سياق حزمة من التحولات الدولية والإقليمية التي أفرزتها مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، وبروز طموح أمريكي للعب دور أكبر على المستوى الدولي، يوازيه تطلّع أوروبي إلى مزاحمة الزعامة الأمريكية من خلال السعي إلى المزيد من الارتباط، وإنشاء عملة نقدية موحدة، والتوسع شرقاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية.
وقد أُريد لمشروع برشلونة أن يكون تتويجاً لطموح أوروبي في لعب دور أوسع في العالم العربي والضفة الجنوبية للمتوسط، انطلق منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. ولكن التحديات والاضطرابات التي كانت تعيشها بلدان المنطقة في النصف الأول من التسعينيات أقنعت الزعماء الأوروبيين بضرورة المسارعة إلى إيجاد إطار يجمعها ببلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، من بين تلك التحديات وعلى رأسها بالدرجة الأولى المسألة الأمنية التي ظهرت مع الأزمة الجزائرية في بداية التسعينيات، وظهور المد الإسلامي في المنطقة؛ إذ باتت أوروبا متخوفة من أن تتسع دائرة ذلك المد
ليشمل باقي بلدان المنطقة، وبروز مشكلة الهجرة السرية التي كانت حتى ذلك الوقت ظاهرة جديدة، وكذلك المسألة السكانية بين ضفتي المتوسط التي كان الأوروبيون يرون فيها قنبلة موقوتة تهددهم ، تزداد مخاطرها مع ظروف الفقر وانعدام فرص التنمية الحقيقية في بلدان الجنوب، وما يعنيه ذلك من انعكاسات على الأمن والاستقرار في بلدان الشمال، وهذا ما يفسر تركيز إعلان برشلونة الأول على قضايا الأمن والتعاون الأمني بين الضفتين، ووضع سياسة أمنية مشتركة بين الجانبين. وإلى جانب هذه التحديات والاضطرابات كان هناك أيضاً التوجس الأوروبي من الدور الأمريكي في المنطقة بعد مؤتمر الدار البيضاء عام 1994 حول الشرق الأوسط وشمال إفريقية، وبعده مؤتمر عمان. فقد بدا للأوروبيين أن الأمريكيين يحثون الخطا لجني ثمار الفراغ الذي خلفته مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وشيوع الحديث عن نظام دولي جديد يجري البحث في سيناريوهاته المختلفة وأهم الفاعلين داخله.
ميزان غير متكافئ
وتظهر لنا قراءة هذه الجذور التي كانت خلف قرار الاتحاد الأوروبي بإنشاء إطار للشراكة مع دول الجنوب نوع التوازن الذي ساد وظل سائداً طيلة المرحلة الفائتة من عمر المشروع الأورومتوسطي ما بين بلدان الضفة الجنوبية والضفة الشمالية. ذلك أنها تبرز لنا بداية أن الأوروبيين كانوا واعين بما يريدون من مشروع الشراكة، ويتوفرون على أجندة خاصة بهم، ويحدّدون أهدافهم ضمن سياقين، الأول: تحصين القلعة الأوروبية في مواجهة بلدان الجنوب التي تسير بشكل لا يقدم أي تصور واضح لما يمكن أن يكون عليه مستقبلها، بالنظر إلى استشراء الفساد فيها ، ووجود فجوة بين الحكام والشعوب ، وانتشار الفقر والبطالة مما يهدد استقرارها على المدى المنظور.
والثاني: الوقوف في وجه التقدم الأمريكي الذي كان يسعى هو الآخر إلى وضع أسس علاقة جديدة مع بلدان المنطقة، بدأت مع مؤتمر الدار البيضاء، وتجلت بوضوح لدى الإعلان عن الشراكة الأمريكية ـ المغاربية عام 1998، أو ما سُمّي وقتها بمشروع "إيزنستات"، نسبة إلى نائب كاتب الدولة الأمريكي في التجارة وقتذاك.(19/58)
أما على الجانب الآخر، فلم يكن هناك تنسيق بين بلدان الضفة الجنوبية من شأنه أن يشكل عامل توازن مع الأوروبيين، ويحدد أجندة خاصة بها بالتوازي مع الأجندة الأوروبية. فالاتحاد المغاربي كإطار إقليمي وحيد يجمع أكثر البلدان الاثني عشر التي وقّعت على إعلان برشلونة كان إطاراً جامداً بسبب الخلافات المغربية ـ الجزائرية، والخلافات الليبية ـ المغاربية على خلفية تخلي الأعضاء الآخرين في الاتحاد عن دعمهم لها في ملف (لوكيربي) وطائرة (يوتا) الفرنسية، وفوق ذلك تم استبعادها من المشاركة في قمة برشلونة نظراً لوجودها تحت طائلة العقوبات المفروضة عليها من
الأمم المتحدة منذ العام 1992، وحضرت فقط بصفة مراقب ، فشاركت كل دولة من الدول الأربع المتبقية ( المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس ) منفردة لا كجزء من إطار إقليمي مشترك. ومن جهة ثانية تم إقحام إسرائيل في مشروع الشراكة المتوسطية من طرف الأوروبيين ، كدليل على رغبتهم في لعب دور في مسلسل السلام في المنطقة، وكان ذلك أحد عناصر الهدم المبكرة في ضوء الإخفاق المتكرر لمشاريع التسوية السياسية، وعدم حصول ميل عربي ـ علني على الأقل ـ إلى التطبيع مع الدولة العبرية وقتها. كل هذه المعطيات جعلت مسلسل برشلونة حوارًا ناقصاً بين طرفين يوجدان في وضعية غير متكافئة، طرف يستمع فقط ، وآخر يتحدث أو يملي.
ثلاثة مسارات
تمحور مشروع الشراكة الأورومتوسطي كما صاغه إعلان برشلونة عام 1995 حول ثلاثة مسارات: المسار السياسي والأمني، من خلال السعي إلى إقامة منطقة مشتركة للسلام والاستقرار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ويرتبط بهذا الهدف تقوية التعاون الأمني بين الأطراف، وتنسيق السياسات لمحاربة الإرهاب والعنف والجريمة المنظمة والقيام بإصلاحات سياسية.
ثم المسار الاقتصادي والتجاري والمالي الذي يرمي إلى بناء منطقة مشتركة للازدهارمن خلال حل معضلة المديونية التي تثقل كواهل بلدان الجنوب، وتشجيع التعاون بين الأطراف، ومساعدة الأوروبيين لدول الجنوب من أجل تحقيق النهوض الاقتصادي، وإيجاد فرص الشغل، وإدخال الإصلاحات الهيكلية على مؤسساتها الاقتصادية، وتعديل القوانين الموجودة لجلب الاستثمار، عبر آلية أطلق عليها برنامج "ميدا" للدعم المالي، ويسعى هذا المسار إلى إنشاء منطقة للتبادل الحر بحلول عام 2010. أما المسار الثالث والأخير فهو الجانب الثقافي والاجتماعي، ويرتبط بذلك إصلاح البرامج التعليمية، وتنمية الموارد البشرية، وإيجاد ثقافة للتسامح واحترام الهوية الثقافية للدول.
وبالرغم من أنه أريد لهذه المسارات الثلاثة أن تسير متلازمة مع بعضها، إلا أن الواقع أظهر في السنوات القليلة التالية للتوقيع على إعلان برشلونة، وطيلة المؤتمرات التي عُقدت حتى اليوم ( مالطا 1997، شتوتغارت 1999، مرسيليا 2000، فالنسيا 2002، نابولي 2003 واللوكسمبورغ 2005) أن الأوروبيين غير مستعدين للوفاء بالوعود التي قطعوها على أنفسهم أمام بلدان الجنوب، سواء من خلال عدم الجدية في التعاطي مع أزمات الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية تحديدا ؛ إذ بقيت علاقة أوروبا بالمنطقة قاصرة على الدعم المالي دون لعب أي دور سياسي، وفي حالات كثيرة كانت تتهرب من إدانة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ولا تتخذ قرارات واضحة وصريحة، أو من خلال ضعف المعونات المالية المرصودة ضمن برنامج (ميدا) التي لم ترق إلى طموح بلدان الضفة الجنوبية؛ إذ لم تكن تمثل قيمة ما يقدمه هذا البرنامج في الفترة ما بين (1995 -2000) سوى خمسة
مليارات يورو، وظل نفس الغلاف المالي تقريباً مخصصاً للمرحلة الثانية من البرنامج للفترة ما بين (2000 -2006)، مما أعاق -بحسب العديد من المهتمين الأوروبيين أنفسهم- تحقيق أهداف مشروع برشلونة فيما يتعلق ببلدان الجنوب، الأمر الذي دفع الأوروبيين إلى إعادة النظر في البرنامج، فأعلن وزير الخارجية الإسباني (ميغيل أنخيل موراتينوس) لوكالة (أوروبا بريس) قبل أسبوع أن الاتحاد الأوروبي سيرفع الدعم المالي المخصص ضمن برنامج (ميدا) للفترة ما بين (2007 -2013) إلى (1500) مليون يورو، الأمر الذي يؤكد أن الأوروبيين ـ بعد عشر سنوات من انطلاق المسلسل ـ باتوا يدركون محدودية الشراكة كما تم وضعها في إنفاذ أهدافها المرسومة.
الأجندة الأمريكية في مقابل الأجندة الأوروبية
لقد شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2001 منعطفاً حاسما بالنسبة لمسار الشراكة الأورومتوسطية، وللسياسات الأوروبية حيال الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط الذي أصبح أكثر فأكثر جسراً لعدم الاستقرار ومنطقة مليئة باحتمالات التهديد المستقبلي.(19/59)
خلطت السياسة الأمريكية التي قادها اليمين الأمريكي المحافظ الأوراق في المنطقة وفي الكثير من مناطق العالم، إذ سعت الإدارة الأمريكية بزعامة الجمهوريين والمحافظين الجدد إلى تشكيل تحالف دولي ضد الإرهاب، "تحالف الراغبين" في الالتحاق به حسب مقولة الرئيس الأمريكي جورج بوش، كان أحد أهدافه -وبشكل واضح- إبعاد أي نفوذ أوروبي في المنطقة المتوسطية وباقي جهات العالم، والتمكن من جر الأوروبيين وراء واشنطن تحت لافتة محاربة الإرهاب، واسترجاع النفوذ الأمريكي في أوروبا إبان مرحلة الحرب الباردة حينما كانت الإدارة الأمريكية تسير أمام الأوروبيين بدعوى محاربة الشيوعية وتتزعم حرب النجوم ضد الاتحاد السوفياتي. فظهر التنافس على أشده بين الاتحاد الأوروبي ممثلاً في الثنائي الفرنسي ـ الألماني؛ إذ أدرك البلدان أن واشنطن تحضر من وراء رفع شعار محاربة الإرهاب المزعوم خططاً جديدة تنفرد بوساطتها بمقاليد الأمور في السياسة الدولية. وصار التنافس أكثر شراسة عندما هاجم وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد قبيل الحرب على العراق كلاً من برلين وباريس، واصفاً إياهما بـ"أوروبا العجوز" التي لا تحتاج إليها واشنطن بقدر ما تراهن على البلدان الأخرى الملتحقة حديثاً بالاتحاد الأوروبي كقوى صاعدة وحليف قوي للأمريكيين.
في أعقاب تلك الأحداث وضعت الإدارة الأمريكية مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا عام 2002، الذي شمل هو الآخر البعد الاقتصادي والسياسي والثقافي والأمني، وفق تقسيم معين لبلدان العالم العربي والإسلامي. وقد لقي هذا المشروع في بدايته ردود فعل أوروبية غير مرحبة، خاصة
من لدن فرنسا وألمانيا، وتم وضع ورقة أوروبية حول الإصلاحات السياسية في العالم العربي ودمقرطة الأنظمة العربية، وأخيراً انتهى الأمر عند نقطة تقاطع بين الأوروبيين والأمريكيين الذين اضطروا ـ لتحصيل الدعم الأوروبي ـ إلى إدخال تعديلات على ورقتهم، وعقد أول مؤتمر لتسويق المشروع في العاصمة المغربية الرباط.
وقد أظهر مشروع الشرق الأوسط الكبير أن العالم العربي والإسلامي أصبح مرتهناً بين نوعين من الأجندة: الأجندة الأمريكية التي تتجلى في مشروع الشرق الأوسط الكبير، والأجندة الأوروبية الممثلة في مشروع الشراكة الأورومتوسطية، وبالقدر الذي كان الأول يتقدم بخطوات محسوبة عبر إجراءات أقدمت عليها الإدارة الأمريكية مع عدد من البلدان العربية والإسلامية من المغرب إلى باكستان، شملت كافة الجوانب من الأمن والتعليم إلى الاقتصاد والتحالفات العسكرية، مرفقة بضغوط خفية أو ظاهرة، كان المشروع الثاني يتراجع تدريجياً ليصبح مجرد ذكرى، وتحولت اللقاءات التي كانت تُعقد في إطاره إلى شكل من الندوات أو حلقات النقاش أو لقاءات المجاملة.
الأمن أولاً... الأمن أخيرا ً
من الواضح أن السنوات العشر الماضية لم تكن في مستوى توقعات بلدان الجنوب التي راهنت عليها في البداية؛ إذ بالرغم من الخطابات الأوروبية المتكررة استمرت الفجوة الواسعة بين بلدان الضفتين نسبة إلى الدخل الفردي وحجم النمو الداخلي، وأخفقت هذه الدول في التوصل إلى صيغة للتنسيق أو التعاون الاقتصادي فيما بينها كما هو محدد في إعلان برشلونة الذي يتحدث عن تكامل اقتصادي جنوب ـ جنوب قبل الدخول في مرحلة 2010، وكمثال على ذلك فإن المبادلات بين بلدان الاتحاد المغاربي الخمس، وهي المغرب وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا ، لا تتجاوز 3% من حجم مبادلاتها مع الخارج. واستمر الوضع في بلدان الجنوب خلال هذه الفترة مستقراً في مكانه تقريباً؛ إذ لم تتجاوز نسبة النمو 3.9% ما بين (1995 -2003)، أما نسب البطالة فلا تزال تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي، ولا تزال بلدان الجنوب بعيدة عن طموح الوصول إلى (90) مليون منصب شغل في أفق عام 2020. ولكن المفارقة في مسلسل الشراكة أن الأوروبيين في الوقت الذي يتحدثون فيه عن تنمية الجنوب يغلقون الباب أمام منتجاته الفلاحية في اتفاقيات التبادل الحر، ويدعمون الفلاحة الأوروبية، مما يكشف أن الأوروبيين لا يضعون في أولوياتهم النمو الاقتصادي لبلدان الجنوب بقدر ما يهتمون بالجانب الأمني فحسب، ويتساءل بعض الخبراء الأوروبيين: إذا كانت أوروبا قد
أخفقت طيلة السنوات الماضية في منح شيء للجنوب عندما كان الاتحاد يتشكل من (15) دولة، فكيف تستطيع فعل ذلك اليوم بعد أن أصبحت منشغلة بالبلدان العشرة من شرق أوروبا واتسعت إلى (25) دولة؟(19/60)
ويظهر جلياً أن مرحلة ما بعد تفجيرات الدار البيضاء ومدريد واستانبول ولندن وعمان قد دفعت الاتحاد الأوروبي إلى الإقرار بأن الأولوية للأمن وتحصين ذاته في مواجهة المخاطر المحتملة، فالأوروبيون اليوم باتوا منشغلين أكثر بقضيتين: قضية الأمن والإرهاب، وقضية تدفق المهاجرين غير الشرعيين. وإذا كانت تفجيرات بعض العواصم الأوروبية تعطي مصداقية لهذا الاهتمام بنظر الأوروبيين، فإن ما حصل من مآس على الحدود بين سبتة ومليلية المحتلتين في شهر أغسطس الماضي وفي جزيرة لامبيدوسا الإيطالية، وما حدث في بعض الأحياء الشعبية بالعاصمة الفرنسية قبل أيام- يزيد في قناعة الأوروبيين بمخاطر الهجرة غير المتحكم بها، ويحفزهم إلى إيجاد سياسات للتصدي لهاتين القضيتين، بينما على بلدان الجنوب الوقوف في الطابور، بانتظار أن تسحقهم مقتضيات التبادل الحر عام 2010، إذ لا أحد ـ وعلى رأس هؤلاء الأوروبيون أنفسهم ـ يستطيع الزعم بأن الخمس سنوات المتبقية ستكون كافية لدول الجنوب من أجل حسم قضايا ثقيلة مثل: رفع نسبة النمو، ومحاربة البطالة، وجذب الاستثمار، وتأهيل الاقتصاد الداخل
=============(19/61)
(19/62)
محنة أهل السنة ...هل تكون العراق بوابة للاختراق الشيعي الإيراني!
سعد بن عبدالله البريك 9/9/1426
12/10/2005
مع يقيني بأن الشيعة ليسوا سواء، وأن شيعة الفرس ليسوا كشيعة العرب، وأن شيعة العرب طرائق قدداً، إلا أن تصريحات وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل بخصوص الأوضاع السياسية الحالية في العراق جاءت بمثابة (صيحة نذير) توقظ العقول من سبات الغفلة عن التصدي للمخططات الإستراتيجية للمستفيدين من تفاقم الفرص في المنطقة، والذين وجدوا في الساحة العراقية مرتعاً خصباً برعاية أمريكية ومباركة بريطانية، وتوجّس متردّد من الدول الفاعلة في أوروبا وآسيا.
وبينما يجهل أو يتجاهل المعنيون بالوضع من قريب أو بعيد خطورة الطموحات المذهبية في العراق، وما حوله على مستقبل استقرارهم وأمنهم القومي -لا سيما في الخليج- جاء التحذير من السعودية على لسان وزير الخارجية السعودي ليقرب صورة مآلات الصراع الحالي في العراق بكل أدواته السياسية والعسكرية والفكرية على العراق نفسه وعلى المنطقة برمتها.
وفي هذا السياق أعرب مجلس الوزراء السعودي "عن أمله في أن يدرك الجميع أن مصلحة المنطقة هي في بقاء العراق كياناً سياسياً عربياً إسلامياً موحداً ممثلاً لجميع أبنائه وطوائفه، وبمنأى عن التدخل في شؤونه الداخلية".
والمتتبع للوضع العراقي، وما يجري في أروقته السياسية سواء على صعيد التشكيل الإداري والسياسي للحكومة العراقية الحالية، أو على صعيد ارتباطها الفكري والعقدي والسياسي مع إيران أو على صعيد تنسيقها مع إدارة الاحتلال الأمريكي، أو على صعيد الممارسات العسكرية (الحكومية العراقية-الأمريكية) في المدن والشوارع العراقية أو على صعيد محاولات بناء دولة العراق الحديث بدستور جديد...يُدرك -بجلاء - طبيعة المخطط الذي يجري تنفيذه بخطوات مدروسة في اتجاه التمهيد النفسي والسياسي لقيام دويلات متفاوتة القوى، وصالحة للتوظيف السياسي بل والعسكري أيضاً لتحقيق الحلم الإستراتيجي الأمريكي الكبير ( الشرق الأوسط الكبير).
التحذير الذي أطلقه وزير الخارجية السعودي أشار إلى أهم محاور الخطورة في الوضع العراقي الحالي، وما قد يتمخض عنه...فقد حذّر من حدوث حرب أهلية عراقية طاحنة ستدمر العراق (المدمر أصلاً) ...وتدفع المنطقة إلى كارثة ...وتجر العرب إلى الصراع....كما حذّر من عواقب التغلغل الإيراني في العراق ..وخطورة بنود الدستور العراقي الذي يهيئ الجو القانوني والسياسي لتقسيم العراق!
وبعيداً عن أسلوب التعميم وانطلاقاً من تصريحات وزير الخارجية سعود الفيصل، نستعرض في هذا المقال في "حلقته الأولى" حقيقة التغلغل الإيراني في العراق، وعلاقة ذلك بما يحدث في مدن أهل السنة من تقتيل وإبادة على يد الميلشيات الشيعية الحزبية والقوات العراقية الحكومية تحت غطاء عسكري وسياسي وإعلامي.
وقبل ذلك، إذا استطلعنا ردود الفعل من التحذير السعودي نجده قد حظي باهتمام بالغ من قبل الأوساط السياسية في العالم، وكان من الطبيعي جدا أن تعتبره أمريكا في البداية تصريحاً "غير مسؤول"!!، ليس لأنه مخالف للواقع أو مفتقر للمصداقية والعقلانية في التحليل وبعد النظر، ولكن لكونه يحمل في طياته تعريفاً بالوضع المتردي الذي تشهده أمريكا في العراق والمتمثل في مغامراتها (التكتيكية) الطائشة مع الشيعة هروباً من جحيم المقاومة..!!! لكن الوسط السني الذي عانى الأمرّين من جراء الوضع السياسي الحالي في العراق، ويتوقع الأسوأ من كل المعطيات السياسية في المرحلة المقبلة (مرحلة ما بعد الدستور)، كان له موقف آخر من تصريحات الفيصل، فقد جاءت ردود الفعل من قبل التكتلات السنية في العراق مرحبة بالتحذير السعودي حيث صرح المكتب السياسي للحزب الإسلامي العراقي في بيان له على موقعه على الإنترنت أن: "تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بشأن العراق، والتي حذر فيها من أن العراق يتجه نحو التفكك، تحمل وصفاً دقيقاً لحالة العراقيين، وتنم عن تقدير واقعي للمخاطر التي تحيق ببلادهم"، وأن تصريحاته: "تحمل وصفاً دقيقاً لحالة العراقيين الذين حز في نفوسهم أن يُتركوا في أتون المؤامرة وحدهم كل هذه الفترة"، وأن "أبناء العراق يتطلعون إلى أشقائهم العرب جميعاً، وبالأخص في المملكة العربية السعودية ليعينوهم على تجاوز المحنة، وتحقيق التوافق، ونبذ الفرقة فيما بينهم". وأن "نصرة العراقيين في هذا الظرف العصيب واجب تقتضيه أخوة الإسلام والعروبة خصوصاً، وهم يواجهون مؤامرة عاتية على عقيدتهم وهويتهم وتتواطأ عليهم إرادة الغزاة مع إرادة القوى الشعوبية الحاقدة". وفي السياق ذاته ثمّن مجلس الحوار الوطني التحذيرات السعودية واصفاً إياها بأنها "أشاعت ارتياحاً في أوساط الشعب العراقي المظلوم". ومتمنياً من "باقي الأشقاء والمسلمين أن يقتدوا بمبادرة الأمير سعود الفيصل، ويمزّقوا جدران الصمت على مؤامرة ذبح العراق التي ستنعكس تداعياتها -إذا مرت لا سمح الله- على عموم الوضع العربي والإسلامي في المنطقة".(19/63)
وردود الفعل هذه من قبل أكبر التكتلات السنية في العراق تعكس عمق الأزمة التي يعيشها أهل السنة في العراق؛ فهم الخاسر الوحيد والأول على الصعيد المحلي إذا ما نجحت الحكومة في إقرار الدستور، وقبل ذلك عليهم يقع مسلسل الإبادة والتهميش والتطهير الطائفي في كل شبر يمثله السنة على أرض العراق السنية، وهم أيضاً من سيدفع فاتورة التقسيم في حال وقوعه، لكنهم وفي حال وقوع كارثة التقسيم أو أماراتها ومقدماتها فلن يكونوا هم الخاسر الأخير، وإنما ستُجرّ المنطقة كلها إلى صراع لا تُحمد عقباه!!
وإن أسئلة كثيرة وتساؤلات مثيرة لتفرض نفسها على كل متتبع لأحداث الشارع العراقي الآخذة في الاستفحال والتعقيد. لماذا تواطأت القوات الأمريكية والحكومة العراقية على إبادة أهل السنة في العراق دون غيرهم من طوائف العراق؟ ولماذا تكون الإبادة قبيل أهم المنعطفات السياسية كالانتخابات ومشروع الدستور؟ وما سر علاقة الميلشيات العميلة لإيران وميلشيات الأحزاب والتكتلات الشيعية بالحكومة العراقية في الإبادة الطائفية التي تجري في مدن أهل السنة في العراق؟ ولماذا يرفض أهل السنة مشروع الدستور الجديد وتصرّ الطوائف الأخرى على تمريره بدعم أمريكي وإيراني متّحد؟ وما هي عواقب إقرار الدستور على العراق وعلى أهل السنة فيه، بل وعلى الخليج والمنطقة عموماً؟وهل لهذه الأحداث علاقة بمشروع إستراتيجي أمريكي (جديد) أو (قديم) في المنطقة؟ وما سر الانعطاف السياسي الأمريكي في تحالفه المكشوف مع شيعة العراق، ومن ورائهم إيران؟ أهو خيار مدروس سلفاً قبل احتلال العراق أم تكتيك فرضته معطيات الوضع الراهن الناجم عن شموخ المقاومة؟ وفي الإجابة عن هذه التساؤلات تتضح صورة الوضع برمته بكل خلفياته ومآلاته المتوقعة!
أما فيما يخص "مشروع إبادة أهل السنة في العراق"، فقد أصبح حقيقة جلية يعيشها العراق واقعاً ملموساً محسوساً، وتتناقل كل الإذاعات العالمية ووكالات الأنباء أخباره اليومية من قصف عشوائي بالمقاتلات الحربية وطائرات وصواريخ الآباتشي على منازل العزل، وتقتيل جماعي على يد الميلشيات الشيعية المنظمة، وتهجير من المدن والقرى واعتقالات جماعية، واختطافات سرية، ومداهمة للبيوت والمساجد، واختطاف العلماء وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في أبشع صورها بكل أنواع التعذيب والتنكيل في الفلوجة والسماوة وتلعفر والرمادي والموصل وبغداد والحديثة والبصرة وغيرها، حتى أصبحت أخبار التنكيل وإبادة أهل السنة في العراق مستفيضة لدى الرأي العام العالمي، وعارية عن كل المسوّغات التي تردّدها الحكومة العراقية والاحتلال الأمريكي؛ لتسويغ حربها على أهل السنة، حتى إن الناطق باسم هيئة علماء المسلمين مثنى حارث الضاري وصف ما تقوم به القوات العراقية بـ"الإرهاب" ضد أهل السنة، كما وصفت بيانات هيئة علماء المسلمين في العراق عمليات الحكومة العراقية بـ"إرهاب المؤسسات الأمنية"، وكذلك صرح الأزهر في بيان له بأن الذي يحدث في العراق هو إرهاب تمارسه أمريكا في أرض الواقع، وأصبحت صحف الاحتلال نفسها في بريطانيا وأمريكا تتناول موضوع الانتهاكات الوحشية لقوى الأمن العراقي وميليشياتها في تقارير لا تقبل التأويل بل، وتستغرب من صمت الحكومات عن ذلك.
فقد وصف تقرير لصحيفة (الأبزيرفر البريطانية) بتاريخ 5/7/25 بأن عنف القوات العراقية "أصبح أكثر سخونة وبدرجة كبيرة، وتبدو وكأنها استعمال لحرب العنف المضاد القذرة!"، وأن "ما يصدم المرء هنا هو أن ما حدث وما يحدث، يمر تحت أنوف الرسميين البريطانيين والأمريكيين"، وأن "هناك سؤال عن المدى الذي ذهب إليه القمع"، و"إن من غير الطبيعي أن تبقى الحكومات ساكتة". ولم يكن الكاتب الأمريكي والصحافي المستقل (ستيفن فينسنت) إلا ضحية من ضحايا المؤامرة الطائفية، فقد عثر عليه مقتولاً بعد أربعة أيام من نشر المقال الذي انتقد "تنامي الأصولية الشيعية في البصرة"، بحسب تصريحات السفارة الأمريكية بالعراق نفسها.
وكان (فينسينت) قد اختطف من فندقه بعد أن كتب المقال في صحيفة (نيويورك تايمز)، واتهم مسؤولين بريطانيين بالسماح للأحزاب الشيعية بالتسلل إلى شرطة البصرة، وكان قد قضى شهرين كاملين في جمع معلومات شديدة الخطورة في هذا الشأن، وعزم على إخراجها في كتاب يكشف طبيعة المؤامرة.
وقد كانت صرخة وفد "القوى العراقية المناهضة للاحتلال" في رسالته التي وجهها للأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بتاريخ (8-12-24) تعبيراً يشكل إجماعاً عراقياً (يشمل حتى بعض الشيعة المعتدلين) على النوايا الأمريكية بزرع فتيل فتنة طائفية؛ إذ جاء في الرسالة:
معالي الأستاذ عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية المحترم
تحية طيبة وبعد:(19/64)
"تعلمون سيادتكم أن الاحتلال الأمريكي قد انتهك سيادة العراق وسلامته الإقليمية، وشكل تحدياً خطيراً ليس لاستقلال وسيادة ووحدة أراضي العراق ورفات أبنائه فحسب، بل ولاستقرار وأمن دول المنطقة وللعلاقات الدولية المبنية على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. ومنذ احتلالها للعراق مارست قوة الاحتلال الأمريكية سياسة تهدف إلى بذر الفتنة الطائفية والعرقية بين أبنائه والسعي لإعادة تركيب المؤسسات السياسية والإدارية العراقية على قواعد استحدثتها للتقسيم العرقي والطائفي والمذهبي، وطمس الهوية الحضارية والثقافية والوطنية للشعب العراقي، وإضعاف انتمائه الوطني والقومي والديني ...."، إلى آخر ما تضمنته الرسالة.
هذا من حيث المؤشرات العامة على وجود حرب طائفية مقننة ضد أهل السنة بشهادات غربية ومحلية، أما على الصعيد الميداني للأحداث، فلا أعتقد أن أحداً يشكك في طبيعة المجازر التي وقعت على مسمع ومرأى من العالم طيلة وجود الاحتلال، وعلى الأخص في المناطق السنية؛ فالدمار الذي شهدته الفلوجة على مرأى ومسمع من العالم لا يزال شاهداً بمقابره الجماعية بما فيها ملعب كرة القدم الذي يغطي تحت أديمه حوالي سبعمائة شهيد شاهد على المجزرة التي لحقت بأهل السنة هناك. وما شهدته تلعفر مؤخراً شاهد آخر على تواصل "مشروع الإبادة لأهل السنة في العراق" وما بين الفلوجة وتلعفر مشاهد أخرى لا تقل ضراوة في التقتيل والتهجير والبطش والاغتصاب وكل أشكال الإذلال!!
ولسائل أن يسأل: أليس كل ذلك من أجل مكافحة الإرهاب؟ والجواب ما يجيب به شهود العيان الرسميون في العراق، وليس تصريحات الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكي، ولا الناطق باسم البنتاغون الأمريكي، ولا ما تروّجه الحكومة العراقية، وإعلام المليشيات الشيعية، ولا حتى المحلل السياسي على قناة الجزيرة. فحينما أعلن الزرقاوي أن أمريكا تدعم الميلشيات الإيرانية للتنكيل بأهل السنة لاشتراكهما في مصالح إستراتيجية في العراق لم تكذبه كل التكتلات السنية المعترف بها رسمياً في العراق، ليس تأييداً لخطه وبرنامجه في المقاومة، ولكن لأنها الحقيقة المرة التي جاءت على لسانه، ولا يمكن بأي حال إنكارها! بل إن وزير الدفاع العراقي السابق حازم الشعلان كشف حقائق غاية في الخطورة بحكم اطلاعه شخصياً على حقيقة سير العمليات العسكرية في العراق ومشاركته في الحكومة، فقد كشف في عمان في مقال نشرته الشرق الأوسط بتاريخ 18 شعبان من هذا العام أن: "الكثير من المسؤولين في الجمعية الوطنية يعملون الآن لصالح المخابرات الإيرانية". وأطلق رئيس الجمهورية نفسه إثر خلافات مع رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري مفاجأة لم تكن في الحسبان، كشف فيها التنكيل المتعمد من قبل الحكومة العراقية -المدعومة أمريكياً وإيرانياً- بشأن أهل السنة، وإن كان لم يشر إلى التدخل الإيراني، مما يعكس خطورة الوضع إلى حد لا يمكن معه السكوت!! فقد نشرت جريدة الحياة قبل أيام قليلة مطالبة الزعيمين الكرديين رئيس الجمهورية جلال طالباني، ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لرئيس الوزراء إبراهيم الجعفري بإنهاء حد لـ"الجرائم الكيفية بحق السنة العرب".
وهذه الشهادة على وجود التنكيل (المُسيّس) بأهل السنة في العراق من قبل أعلى مسؤول في الدولة يصدق كل أرقام القتلى والجرحى والمعتقلين وانتهاكات حرمات المساجد وتحويلها إلى حسينيات شيعية، وكل أشكال الإبادة في المناطق التي يتواجد بها أهل السنة سواء كانوا أكثرية أم أقلية..كما أن هذه المطالبة بالحد من الجرائم ضد أهل السنة من قبل أعلى مسؤول في الدولة خارج الانتماء العربي والسني وحليف للاحتلال، بل ومتهم بالتنكر (للعراقية) نفسها من قبل الكثير من الجهات.. تؤكد أن مزاعم الحكومة العراقية والاحتلال من أن أهل السنة يشكلون قاعدة للإرهاب إنما هي مزاعم لذرّ الرماد في العيون، وضمان غطاء إعلامي مقنع لتبرير مسلسل الإبادة العرقية.
واللافت للأنظار أن أمريكا -وبعد أن أفادت أن تصريحات الفيصل غير مسؤولةـ عادت وصرحت على لسان وزير خارجيتها لشؤون الشرق الأوسط دافيد ويلش: أنه يتفهم قلق المملكة إزاء "الاختراق الإيراني"، معتبراً أن انتقادات وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الأخيرة لواشنطن "لها ما يبررها"، ورغم أنه نفى تورط أمريكا في التحالف مع الحكومة الإيرانية في ذلك، إلا أنه أقر بوجود خطر إيراني، وبخاصة في جنوب العراق "سببه ضعف البنية السياسية والعراقية التي تسمح بتغلغل خفي للنفوذ الإيراني".(19/65)
لكن وضع العمليات العسكرية والتسهيلات اللوجيستية والسياسية للميلشيات والتكتلات الشيعية تؤكد ضلوع أمريكا في مسلسل تهميش وتغييب أهل السنة من الوجود السياسي في العراق لصالح التمكين للطائفة الشيعية، ما دامت تخدم الإستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة عموماً. ومما يبعث على العجب إصرار من يغرد خارج السرب على قناته المسيّسة في برنامج "لقاء خاص"، حيث يرى أن لا دليل حتى الآن يثبت تدخل إيران في شؤون العراق، وأن قيام دولة شيعية في العراق لا يمثل أي مشكلة، وهذا التصريح بقدر ما يعبر عن قصوره السياسي في إدراك أكثر الحقائق السياسية على أرض العراق وضوحاً يعبر أيضاً عن قصوره في تصور مخاطر الامتداد الفكري والسياسي لإيران في المنطقة، اللهم إلا إذا كان يملك من الضمانات الأمريكية والإيرانية ما يجعله بمنأى عن ذلك، فحينئذ يمكن الحكم على هذا القصور بالبراءة التامة لكن التهمة بالتخذيل على وزن (التطبيع) لن تزول.
ويبقى السؤال مطروحاً: إذا لم يكن مسلسل التطهير لأهل السنة له علاقة بالحرب على الإرهاب في العراق، فإلى أي شيء يهدف ؟!
مهما تكن المسوّغات التي يسوقها الاحتلال وأذنابه الذين يسوّقون بقاءه فإن جرائمه المتواصلة ضد سنة العراق أضحت من الوضوح في النهاية! فالهدف الأول والأخير من التنكيل المتعمد الذي لقيه أهل السنة هناك بشهادة واستنكار الساسة العراقيين أنفسهم: هو تهميش الطائفة السنية من المسرح السياسي الحالي، وتحجيم دورها إلى حد يضمن معه الاحتلال وأعوانه تحقيق الإستراتيجية الاستعمارية الرامية إلى تقسيم البلد، وتجريد السنة من كل مقومات القوة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في إطار إستراتيجية أمريكية تهدف إلى إحداث توازنات جديدة في المنطقة تمهيداً لنشأة الشرق الأوسط الكبير.
فالسيناريو الذي مرت به عملية الاستفتاء على الدستور كان فصلاً آخر من فصول محنة أهل السنة في العراق؛ فقد تمت إبادتهم سياسياً بعدما استنزفت الآلة العسكرية ومعها بعض الميلشيات الشيعية مدنهم وبيوتهم بكل أنواع التنكيل.
كانت ولادة الدستور العراقي عبارة عن فصول متتالية متكاملة أتت في إطار مؤامرة تاريخية محبوكة كان المستهدف في كل فصولها بالتحديد هو "سنة العراق". فالمراحل التي مرت بها عملية فرض الدستور أو بلغة سياسية أدقّ "تمريره" بالرغم من كل تعقيداتها وتداعياتها وتسارع أحداثها تظل خريطتها واضحة للمحللين، وتشير إلى أهداف وإستراتيجيات وتكتيكات وأدوات محددة، تظهر في صلب الخريطة وكل مساحتها .ومهما تكن التسمية التي انتقاها الاحتلال لفرض الدستور، فإن مصطلح الإقرار الذي تم توظيفه لا يعكس بأي حال الرفض المطلق الذي لقيه الدستور من طرف سنة العراق جميعهم .فالإقرار يعني موافقة السنة أو سكوتهم عليه، وهو ما لم يحصل مطلقاً أثناء عمليتي الصياغة والاستفتاء.
فقد تم "تمرير الدستور" في إطار "مسرحية " تستحق التأريخ! لعب فيها كل من الاحتلال ومؤازروه دور علاقة تجسد فيها عنصر التضحية والولاء والمغامرة والتفاني والتحدي والارتباط وتجاوز كل القوانين والأعراف والقيم.
تمت هذه العلاقة التاريخية بين الاحتلال ومعاونيه في الداخل، ولا أحد يدري حتى الآن: أهي علاقة (متعة) تمت باتفاق بين الطرفين على أساس جدول زمني لإنهائها (أم رغبة في زواج بنية الطلاق من طرف الاحتلال) !! لكن ما لا يشك فيه كل المراقبين أن مصلحة الطرفين (أو الأطراف) هي محور التلاقي في هذه العلاقة، وأنها علاقة لا تحمل في طياتها حتى الحد الأدنى من مقومات البقاء لأمد طويل .
وها نحن نرى بعد مخاض سياسي وعسكري مرير - لم ينته بعد- ولادة دستور عراقي تاريخي من علاقة محرمة مفضوحة!
فكيف تم تمرير "الدستور العراقي" سياسياً وعسكرياً وإعلامياً؟ ومن هم ممثلو الأدوار الرئيسة في مسرحيته؟ وما الأهداف السياسية والإستراتيجية للاحتلال من هذا الدستور؟ وهل لهذا الدستور أي سقف حد أدنى من الشرعية والمشروعية في أي قانون دولي؟(19/66)
في البدء نود أن نعطي للقارئ الكريم صورة عامة سردية عما أُطلق عليه (عملية "إقرار" أو تمرير الدستور). فحينما نتحدث عن الدستور العراقي فنحن نقصد بالتحديد الحديث عن مضامينه ذات البعد السياسي ..فالدستور في حد ذاته يمثل المرجعية القانونية العليا للدولة، وبالتالي فإنه الأساس لكل سياساتها الداخلية والخارجية، وإذا نظرنا إلى مضامين الدستور العراقي الجديد فإننا نجده بالإضافة إلى افتقاره للمشروعية الدينية: أرضية قانونية صالحة لتحويل العراق إلى فدراليات متعددة بمجرد إقراره !وبمعنى مبسط فإن الدستور العراقي يجوز ويسمح قانونياً بإمكانية تقسيم العراق إلى دويلات مستقلة باسم شيء يسمونه "الفدرالية" وهي -وإن تكن إطاراً سياسياً يجمع الشعب الواحد ذا الطوائف المتفرقة- إلا أنها في حالة العراق إطار سياسي يفرق الشعب الواحد ذا الطوائف المجتمعة. ولذلك يعدها المراقبون أول فدرالية معكوسة في التاريخ. هذا التقسيم هو الإستراتيجية الأولى في مخطط الاحتلال حتى قبل غزو العراق, ولأجل تحقيق هذه الإستراتيجية كان لا بد من رسم أهداف مرحلية دقيقة ترسم الخريطة القانونية التي يمكن أن ترشد الاحتلال إلى الوصول إلى إستراتيجية التقسيم في النهاية؛ لأجل ذلك كان لا بد من تحقيق الهدف الأول، و هو إيجاد أرضية قانونية للتقسيم مهما كلف الثمن، وتلك الأرضية لن تكون إلا بالدستور العراقي الذي يضمن للطوائف والإثنيات حق الاستقلال والانفصال، وفي الوقت نفسه يضمن للاحتلال هدفه الإستراتيجي الأول في المنطقة، وهو التقسيم، وبضمانه يستطيع ضمان باقي الأهداف الإستراتيجية الأخرى في المنطقة.
لكن "عملية تمرير الدستور" وحدها تحتاج من الاحتلال إلى إجراءات عديدة سياسياً وعسكرياً؛ فليس من السهل تمرير دستور يسمح بتقسيم بلد (قسمة ضيزى) دونما تجاوز كل أشكال المعارضة داخلياً على مستوى الأطياف السياسية الشيعية العربية والسنية والكردية سواء منها ذات الأجندة السياسية أو الخيار العسكري، وأيضاً على المستوى الإقليمي المتمثل في دول الجوار، لاسيما الدول الفاعلة فيه كالسعودية وإيران وتركيا وسوريا، وعلى المستوى الدولي المتمثل في الأمم المتحدة والمنظمات القانونية الدولية والرأي العام العالمي.
لكن الحقيقة أن الاحتلال لم ينظر قط إلى عملية كتلك نظرة قاصرة بل جنّد لها جندها، وسعى لها سعيها على كل صعيد، وهيّأ لها ظروفها وحسب لها حساباتها، وغامر بالبقية الباقية من مصداقيته المهزوزة على الصعيد السياسي والقانوني والإنساني ليحققها بأي ثمن. فكانت إستراتيجية التقسيم هي المحور الذي يدور عليه الدستور، ومن أجل ذلك كان المسار السياسي لأمريكا منذ سقوط بغداد عبارة عن "تكتيكات" دارت في فلكها أجندة الأحزاب، والمكونات السياسية في العراق منذ دخول الاحتلال وإلى يومنا هذا.
وهنا نتساءل: ما هي التكتيكات التي انتهجتها أمريكا لتمرير الدستور؟ صحيح أن ولادة الدستور العراقي من الأب غير الشرعي(قانون الإدارة المؤقت) كانت في العراق، لكن أطوار نشأته فيما قبل الولادة كانت استثنائية بكل ما يعنيه مصطلح الاستثناء من معنى!! وكما سبق أن أشرنا فإن الحديث عن الدستور العراقي بشكله الحالي هو في العمق حديث عن التقسيم ليس إلا! في اعتقادي أن الدستور العراقي هو نفسه نص مشروع التقسيم، ولذلك فإن الحديث عن هذا هو حديث عن ذاك، ومن هذا المنطلق فإن نشأة الدستور العراقي مرّت بأطوار يمكن تسميتها بالأطوار الثلاثة:
الطور الأول: طور الفكرة، وقد تم في أروقة تل أبيب. نعم في تل أبيب، وهي المرحلة التي نشأت فيها الرغبة في تقسيم العراق بالصورة نفسها التي يصفها الدستور العراقي الآن، وهي التي عبّر عنها (عوديد ينون) في مقال كتبه حينما كان مستشاراً لرئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن تحت عنوان:"إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، وصرّح فيها أن العراق هو العدو الأكبر لإسرائيل لذا يجب تقسيمه إلى ثلاث دول، دولة كردية في شمال العراق، وأخرى شيعية في الجنوب، وثالثة سنية في الوسط !"
ومن هنا فإن فكرة الدستور الذي يؤدي إلى التقسيم كانت جزءاً من مخططات اليهود، وهذا ليس بمستغرب على أمة وصفها الله بموقدي الفتن :(...كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ...)[المائدة: من الآية64]. فمصلحة إسرائيل في تقسيم العراق محققة على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي.
الطور الثاني : طُوّر الإعلان عن فكرة التقسيم في مراكز التخطيط والقرار الأمريكي؛ فقد تمت إعادة صياغة فكرة (عوديد ينون) على لسان رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (ليزلي غيلبLeslie elb's ) فقد نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية في 25/11/2003 مقالاً تحدّث فيه عن حل الثلاث دول، واقترح فيه تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات هي :الشيعة في الجنوب، والأكراد في الشمال، والسنة في الوسط.(19/67)
وقد صرح في اقتراحه بأن الهدف من ذلك هو إضعاف السنة على حساب تقوية الشيعة والأكراد؛ ليصبح أهل السنة في العراق "أولاد العم الفقراء" على حد تعبيره، ولم تسلم السعودية نفسها من مخططه. ولا بد أن نشير هنا إلى أن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي هو أحد مراكز التخطيط الإستراتيجي في أمريكا، والذي يجمع داخله كلاً من المخابرات الأمريكية، ووزارة الخارجية الأمريكية، وكبار أصحاب الشركات العملاقة، وهو ما يعني أن مثل هذه الاقتراحات التي تُعطى لها صفة العلانية في أشهر الصحف الأمريكية تعكس مخططاً كان يجري حبكه في أروقة البيت الأبيض قبل احتلال العراق بكثير. وتعليقاً على هذه التصريحات جاء مقال تحت عنوان: والآن... يبدأ طرح تقسيم العراق... لـ "إضعاف السنة"! في جريدة الحياة بتاريخ 28/11/ 2003 يربط بين القضية الفلسطينية ومقال) ليزلي) هذا .. مما يؤكد أن مشروع التقسيم الذي لن يُكتب له وجود إلا بدستور يؤيّده -مرتبط في العمق بصراع اليهود مع المسلمين؛ فالتقسيم من خلال الدستور العراقي ما هو إلا حلقة في سلسلة ذاك الصراع، وعيّنة من أجنداته الجديدة.
ولم تكن العاصمة لندن بعيدة عن مرحلة نشأة الدستور في هذا الطور؛ فقد كان لها الدور الكبير في تفعيل مبادرات التقسيم والترويج لدستور عراقي يسمح بذلك بعد الاحتلال؛ لذلك فقد دعمت كل أشكال المعارضة المتبنية لفكرة التقسيم؛ فكان "إعلان شيعة العراق" في لندن والذي ضم معظم أطياف الشيعة، وصرح فيه موفق الربيعي بإصرار الشيعة على مبدأ الفدرالية (الغطاء السياسي للتقسيم)، وأن أي دستور لا يتضمن ذلك لن يُقبل قائلاً: تشهد الساحة السياسية حركة ساخنة فيما يتعلق بالوضع الداخلي للعراق ومستقبله السياسي؛ إذ يجري الكلام عالياً حول تغيير النظام الحاكم وضرورة إزالته من السلطة. وفي هذا السياق بات من المهم جداً تكرار التأكيدات السابقة بأن الوصول إلى صيغة سليمة لمستقبل العراق ومقبولة من قبل الشعب العراقي، لا بد أن تنطلق من المبادئ العامة التي حددها (إعلان شيعة العراق) والتي تنحصر في الأسس الثلاثة التالية:
1ـ الديموقراطية.
2ـ الفدرالية.
3ـ إلغاء سياسة التمييز الطائفي."انتهى"
وها نحن نرى اليوم ثمرات إعلان شيعة العراق متمثلة في الغياب التام للديموقراطية، والحضور التام للتمييز الطائفي ضد السنة، والتمرير التام لمشروع التقسيم المنصهر في الدستور تحت مظلة الفدرالية !
الطور الثالث: طور المخاض، وهو الطور الذي بدأ بفترة ما بعد سقوط بغداد" وتولي الحاكم الأمريكي (بول بريمر) إدارة شؤون العراق بقانون إدارة الدولة المؤقت، وما تلا ذلك من انتخابات وتشكيل الجمعية الوطنية العراقية؛ فالحكومة الانتقالية، وفي هذه المرحلة بالذات كان تركيز الاحتلال كله على التنظيمات الشيعية الصفوية، وكذلك الأكراد لإبرام اتفاق نهائي يتم على أساسه تنفيذ (السيناريو) الكامل لتمرير الدستور وإيجاد دولة عميلة لأمريكا كما صرح بذلك "جيمس كوجان" في مقالة نشرها بمركز البحوث العالمية في أمريكا, ولا عجب في ذلك؛ فالتاريخ يعيد نفسه؛ فدور الخيانة العلقمية العظمى الذي مارسه ابن العلقمي بتواطئه التاريخي مع هولاكو في احتلاله لبغداد لا يزال التشيع الصفوي يمارسه مع هولاكو العصر (أمريكا)، وإذا كان نصير الدين الطوسي هو السند الشرعي والمرجعية في فتوى احتلال المغول لبغداد فإن بعض المراجع الشيعية الإيرانية في العراق بمن فيهم (السيستاني العراقي- الفارسي) هم من يمارس دور الطوسي اليوم في تأييد خطوات الاحتلال من بداية الغزو وحتى إقرار الدستور.
وباستكمال الأطوار الثلاثة بدأ الاحتلال وأذنابه بتمهيد الطريق لولادة الدستور العراقي الجديد في إطار فصول "مسرحية التمرير".
فالفصل الأول: ابتدأ بلجنة صياغة الدستور، فكان التركيز على هوية اللجنة من أولويات الاحتلال في تحقيق أهدافه. وإذا تتبعنا خيوط المسألة فسنجد أن حسم الأمر في هوية اللجنة قد تم سلفاً بمقتضى قانون إدارة الدولة، فعن ذلك القانون الاستعماري تمخضت الانتخابات بمواصفاتها المفتقرة إلى أدنى شروط النزاهة، مما دفع أهل السنة في العراق إلى مقاطعتها ليأسهم التام من كسب أي استحقاق سياسي، وفي تلك الأثناء كانت الطائرات الأمريكية -ومعها جحافل المتحالفين مع الاحتلال داخل العراق - تدك مدن السنة وبيوتهم بيتاً بيتاً باسم "مكافحة الإرهاب" لإثناء السنة عن المشاركة السياسية، وعن تلك الانتخابات انبثقت الجمعية الوطنية العراقية، ثم بعدها الحكومة الانتقالية في الثامن والعشرين من أبريل بأغلبية شيعية كردية، ومن هذه الأغلبية الشيعية الكردية تمخضت لجنة صياغة الدستور لتكتبه بمداد شيعي أمريكي كردي تناغمت فيه مصالح الأطراف الثلاثة على حساب سنة العراق.(19/68)
ويجمع السياسيون وخبراء القانون الدولي على أن الطريقة التي تم بها اختيار لجنة الصياغة ليست من القوانين والأعراف الدولية في شيء؛ فهي تُعدّ طريقة غير مشروعة وغير شرعية بكل المقاييس؛ إذ لا بد من وجود "مجلس تأسيسي منتخب" يمثل العرقيات والطوائف لأجل مهمة واحدة هي صياغة الدستور، ولا يجوز قانونياً أن يكون معيناً من السلطة، كما وقع للجنة صياغة الدستور العراقي، وهذه هي الطريقة التي صاغت بها أمريكا ذات النظام الفدرالي دستورها، وكذلك اليابان وإيطاليا وغيرها، وهكذا هو مسطر في القوانين الدولية ومبادئ علم السياسة؛ لأن الدستور يعكس في النهاية أهداف من وضعه.
وبالرغم من سماح الاحتلال وأذنابه لسنة العراق بالمشاركة في لجنة الصياغة بطريقة شكلية فقد تم تجاهل كل مطالبهم، بل وقُتل منهم اثنان من الأعضاء القانونيين في اللجنة وهما: د.ضامن حسين العبيدي ود. مجبل الشيخ عيسى. مما دفع بسنة العراق إلى تعليق المشاركة حتى يُفتح تحقيق دولي في قضية الاغتيال، وأنى له أن يُفتح !!
لقد كانت رحى الاحتلال السياسية ماضية في تفتيت السنة وتهميشهم من المشاركة، فيما كانت رحاه العسكرية تطحن بكل ترساناتها في شوارع ومدن السنة بلا حسيب أو رقيب، وكانت النتيجة أنْ صيغ الدستور على ما أراده الاحتلال، ومن معه ليتم الإعلان عن بداية الفصل الثاني من مسرحية التمرير في عملية الاستفتاء.
محلياً -في العراق- تم الرفض الكامل للدستور بعد صياغته من طرف سنة العراق بكل أطيافهم السياسية، اللهم ما عدا الانتكاسة التاريخية التي صرح بمقتضاها الحزب العراقي الإسلامي تأييده للدستور مجازفاً بحقوق إخوانه السنة.
وإقليمياً نعتت كل من السعودية وسوريا وتركيا الدستور العراقي بالممهد للتقسيم، والمؤجج للحروب الأهلية، وأوروبياً صرح الاتحاد الأوروبي بأن الدستور العراقي ليس نموذجياً، أما أمريكياً فقد أجمعت مراكز البحوث الأمريكية على أن الدستور العراقي غير قابل مطلقاً لأي تطبيق عملي، وأن صياغته تمّت تحت ضغوط أمريكية، وأنه يفرق المجموعات العرقية في البلد، حتى وصف (جيمس كوجان) الدستور العراقي في مقالة نشرها مركز البحوث العالمية بأنه: "وصفة لحكم استعماري", وبأنه من بدايته إلى نهايته يرسّخ الأطماع الأمريكية الاستعمارية في الشرق الأوسط، وأن هذا الدستور تم باتفاق مع الأكراد و الشيعة لاسيما "حزب الدعوة الإسلامي والمجلس الأعلى للثورة "بهدف إيجاد دولة عميلة لأمريكا. وأما صحيفة (نيويورك تايمز) فوصفت الدستور الحالي بأنه "لا يشجع على فرص عراق موحد ومسالم " أي أنه يشجع على التقسيم. ووصفت صحيفة(بوسطن غلوب) العملية الدستورية بأنها: "جاءت مخيبة للأمل وعملت على تفرقة البلد". ويُجمع خبراء القانون على أن لا شرعية للدستور الذي جرى" تمريره" لأنه:
أولاً: مرجعية لجنة صياغته نفسها غير شرعية؛ لأنها من وضع الاحتلال، وهو من وضع قانون الإدارة المؤقت، ومنه انبثقت لجنة الصياغة، وينص قانون جنيف لعام 1949م على أنه"لا يحق للاحتلال أن يتعرض للدستور" وها هو قد تعرض!!
ثانياً: إن لجنة صياغة الدستور لم يتم انتخابها على أساس الطوائف الممثلة للعراق.
ثالثاً: ثبوت تدخل الاحتلال في كل مراحل الصياغة بشكل مباشر، لعب فيه دور الوصي الآمر، والمحدد لزمن الصياغة ومكانها وأعضائها وشكلها النهائي، دون مراعاة للمتطلبات القانونية في ذلك.
رابعاً: القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ينصان على أن لا شرعية لأي انتخابات تحت الاحتلال؛ لعدم وجود الإرادة والسيادة وحق تقرير المصير المغيّبة في إطاره.
وبالرغم من عدم شرعية الدستور وعدم مشروعية عملية الاستفتاء برمتها في إطار الاحتلال بإجماع أهل القانون. وبالرغم من كل محاولات التضييق و"الإرهاب" الذي مورس على أهل السنة لتمريره فإن عملية الاستفتاء كشفت عن فصل آخر من فصول المسرحية التي لعب أدوارها الاحتلال وأتباعه من الشيعة والأكراد، فماذا جرى في أثناء الاستفتاء؟
الفصل الثاني: وفيه تم التلاعب بالنتائج فقد استفاد الاحتلال من تجربة
الانتخابات في أسلوب تجاوز المعارضة السنية وكل معارضة إقليمية أو دولية، ولم يعد يشعر بالحرج السياسي والقانوني في تمرير أي أجندة سياسية تخدم مشروعه هذا.. وهذا ما جعله أكثر جرأة في عملية تمرير الدستور وأكثر تحدياً لكل القوانين والمواثيق الدولية بدءاً من ديباجة صياغة الدستور ومروراً بتحديد مدتها الأقصر في التاريخ، وانتهاء بتزوير نتائج الاستفتاء.
لنتذكر جميعاً أن أول إعلان حاسم عن وفاة ياسر عرفات كان على لسان البيت الأبيض؛ فقد كان أول من أعلن عن وفاته، وهو لا يزال راقداً في فرنسا؛ إذ خرج بوش يترحم عليه قائلاً: "ليرحمه الله"، في وقت كان الأطباء الفرنسيون والعالم يجهلون نبأ موته وسط تضارب قاتم للأنباء!!(19/69)
وأثناء عملية الاستفتاء على الدستور العراقي وقع الشيء نفسه، و بالطريقة نفسها، فقد أعلن بوش على لسان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس أن الدستور العراقي تم إقراره؛ إذ صرحت بأنه "وعلى الأرجح، تمّ قبول مسودة الدستور العراقي الجديد". وفي تعليقاتها كرّرت رايس ثلاث مرات أنّ الدستور تمّ قبوله حتى قبل إعلان النتائج!! فيما كان الشعب العراقي والعالم يجهل نتائج الاستفتاء، في إشارة واضحة لكل الأطراف المعنية داخلياً وخارجياً بأن الدستور" سيمرّ يعني سيمرّ"!! أحبّ من أحبّ وكره من كره!! وفي رسالة واضحة أيضاً للمفوضية العليا بتزوير نتائج الاستفتاء كما فهم ذلك سنة العراق، وصرح بذلك رئيس مجلس الحوار الوطني صالح المطلك.
أما على صعيد الساحة العراقية وبعيداً عن جدال أرقام ونسب التصويت فقد شهدت عملية الاستفتاء تجاوزات فادحة مكشوفة أعلن إثرها سنة العراق بكل قياداتهم السياسية نداء استغاثة للمجتمع الدولي بأن "الاستفتاء" يتم تزويره. فقد صرح صالح المطلك رئيس "مجلس الحوار الوطني العراقي" (يضم عدداً من القوى السنية) أثناء عملية الاستفتاء أن نتائج محافظة ديالا تعرّضت للتزوير، وقال في تصريح لقناة (العربية) ما نصه: "ما حصل في ديالا -على سبيل المثال- اللي يخلينا نقول: إنه ما يجوز تتكرر هذه الممارسات "أن قوات الدولة" داهمت مراكز الاقتراع وسحبت صناديق الاقتراع بالقوة من المفوضية، وهذه المعلومة جاءتني من ممثلينا هناك، ولم أعتمد على الممثل واتصلت بالموظفين التابعين للمفوضية العليا لكي أتأكد من الموضوع، وأجابوني بنفس الطريقة أن الصناديق أُخذت منهم بالقوة من قبل قوات الدولة، إذاً كيف تريد أن أقول: إنه لا يوجد هناك تزوير؟ لم أُخذت هذه الصناديق بالقوة؟"
وبعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء قال المطلك في تصريح لوكالة (رويترز): إن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أذعنت للضغوط الأمريكية، وتلاعبت في نتائج استفتاء الدستور لصالح زعماء الشيعة والأكراد المسيطرين على الحكومة العراقية الانتقالية.
أما هيئة علماء المسلمين في العراق (أعلى مرجعية للسنة في العراق) فقد أعلنت رفضها لنتيجة الاستفتاء على مسودة الدستور العراقي، التي أعلن إقرارها، موضحة أنها لم تُفاجأ بنتيجة الاستفتاء. ووصفت مشروع التصويت في بيان لها بالمؤامرة الكبرى، ودعت كل القوى الوطنية إلى رفضه بكل الوسائل، وقال الشيخ عبد السلام الكبيسي الناطق الإعلامي باسم الهيئة: "إن الدستور هو دستور احتلال"، مؤكداً أنه سيزول مع زوال الاحتلال عن الأرض العراقية.
ووصف حسين الفالوجي (وهو من الشخصيات السنية البارزة) الاستفتاء: بأنه استفتاء تلاعبت به واشنطن. واتهم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي وصفها بأنها غير مستقلة وتخضع لسيطرة الأمريكيين المحتلين بتزوير الاستفتاء وقال: كلنا يعلم أن هذا الاستفتاء زوّرته المفوضية العليا غير المستقلة للانتخابات.
ولكن تلك التصريحات ما كانت لتُسمع في ظل الغطاء الإعلامي والرعاية الأمريكية لسير عملية الاستفتاء؛ فقد جاءت محاكمة صدام لتشغل أنظار الشعب العراقي والعالم 180" درجة" عن كل شيء إلا عن محاكمة صدام المثيرة، في وقت حاسم كان يُعاد فيه فرز نتائج التصويت في الموصل التي كان رفض الدستور فيها بنسبة عالية تصل إلى 90% . وبعد أن تم الإعلان عراقياً عن نتائج الاستفتاء قام أهل السنة المغلوبين على أمرهم بالطعن في نتائج الاستفتاء، كما طعنوا من قبل في شرعية الاحتلال وشرعية الانتخابات وشرعية الصياغة.
صحيح أن قانون جنيف عام 1949م لا يعترف بقانونية أي استفتاء أو انتخابات تجري في ظل الاحتلال لعدم وجود الحرية والسيادة والاستقلال لكن حتى لو قدم سنة العراق مليار طعن من الطعونات القانونية في عملية الاستفتاء فلن يجدوا من ينصفهم في ذلك لسبب بسيط واضح هو أن من يشكونه هو القاضي "ومن استرعى الذئب فقد ظلم".(19/70)
ما جرى في إطار هذه العملية ليس كل شيء؛ فهناك نكسة تاريخية للاحتلال فاقت النكسة الفيتنامية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ومعنوياً هذا بالضبط ما تتحدث عنه الأقلام السياسية الأمريكية نفسها، وفي ظلها يتساءل المراقبون: هل سيشهد العالم نهاية فعلية للاحتلال في أحضان الموالين له من الشيعة وغيرهم ؟! عموماً هذا ما ترسمه الأحداث اليومية في الساحة العراقية، وهذا ما تخبرنا به دروس التاريخ وقوانين وسنن الله في هلاك واندحار المعتدين الظالمين أيضاً!! فلا أمريكا بترسانتها، ولا أذنابها داخل العراق بقادرين -حتى الآن- على الخروج (بحفظ ماء الوجه) من مستنقع الساحة الخضراء الضيق....بينما ساحة المعركة في العراق- كما يعرفها الجميع- أكبر من الساحة الخضراء بكثير. وبالرغم من أن سنة العراق قرّروا الدخول في الانتخابات البرلمانية القادمة، وشكلوا "جبهة التوافق العراقية" كإطار موحد يجمع شتات السنة، ويعطي قوة سياسية أكبر للمشاركة، إلا أن ما يجب أن يُحسب له الحساب هو ضمانات النزاهة، وإذا كان الدستور قد تم تمريره بالقوة و(البلطجة)، لا بالنزاهة فهل يا ترى ستمر الانتخابات هذه المرة نزيهة لا يكتشف فيها سنة العراق تزويراً ولا تبديلاً!! ما يبدو هو أن السنة في العراق ليس لديهم أي قناعة بوعد نزاهة الانتخابات الذي تردّده حكومة الجعفري المتهمة بعدم الثقة والطمأنينة!! لكن -ومع القناعة بعدم النزاهة- فهم مصممون على المشاركة لكونهم متأكدين من أن مشاركتهم ستسفر عن حلّين هما الرهان الرئيس المشجع على المشاركة:
الأول: إمّا أن يحصلوا على ما يستحقونه من التمثيل السياسي في العراق كاملاً غير منقوص، وحصولهم على هذا الاستحقاق يؤدي تلقائياً إلى التخفيف من شدة الاحتقان التي يعيشها العراق، ويجنّب أبناء شعبه حرباً طائفية استوفت جميع الشروط اللازمة لقيامها .
الثاني: وإما أن تزوّر نتائج الانتخابات كما زُوّرت نتائج الدستور من قبل؛ فينقلب السحر على الساحر، وتدور على الاحتلال وأعوانه الدوائر، ويكون سنة العراق وقتئذ قد استنفدوا كل السبل السلمية الممكنة لإعطاء فرصة للحلول السياسية في إطار نزيه، واستنفاد هذه السبل يعني بقاء الخيار الوحيد والمتمثل في التفاف كافة التنظيمات السنية حول المقاومة المسلحة وتبنيها للاتجاه المسلح. وعشية الانتخابات البرلمانية القادمة...لا يزال (سيناريو) الإبادة آخذاً في الاستفحال، ولا تزال أشكالها آخذة في التنوع؛ ففضائح التعذيب والاغتيالات التي كُشِف عنها مؤخراً في سجون الاحتلال ومنظمات حلفائه من الشيعة كمنظمة الإرهاب المنظم المسماة: (بدر) ..كل هذه الفضائح تعطي مؤشراً خطيراً على استكمال كافة الشروط الموضوعية لقيام حرب طائفية في العراق يكون المستفيد الأول منها هو الاحتلال...وإن كانت في نظر المراقبين قائمة بالفعل من طرف أتباعه وحلفائه في الداخل، لكنها لم تُجابه بردة فعل حاسمة من قبل سنة العراق.. وفي تلك الفضائح التي تم كشفها وإدانتها حتى من قبل الأمم المتحدة.. مؤشر خطير على هوية مَن سيحكم العراق وكيف سيحكمه!! ولصالح من سيحكمه!!.هذا - طبعاً- إذا استطاع الخروج سالماً من مأزق الساحة الخضراء! وما هو -باعتقاد المحللين- بخارج!
==============(19/71)
(19/72)
قمة الكبار.. في مواجهة التحديات !
سامح جاد / القاهرة 3/6/1426
09/07/2005
كما كان متوقعا جاءت نتائج قمة مجموعة الثماني التي اختتمت أعمالها مساء أمس بضواحي مدينة أدنبرة باسكتلندا مخيبة للآمال ، خاصة فيما يتعلق بالملف البيئي والتغيرات المناخية التي يشهدها العالم - بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري - حيث رفضت واشنطن تقديم أي تنازل في هذا الصدد ، هذا إضافة للنتائج المتواضعة التي أسفرت عنها القمة فيما يتعلق بمكافحة الفقر في العالم وخاصة على مستوى القارة الأفريقية .
وقد صاحبت هذه القمة - والتي أثرت عليها كثيرا تفجيرات لندن - مظاهرات واحتجاجات واسعة من مناهضي العولمة والرأسمالية والمدافعين عن حقوق الإنسان تطورت إلى اشتباكات مع الشرطة الاسكتنلدية، كما شهدت العديد من العواصم العالمية مظاهرات تنديد بالقمة التي لم تسهم في حل مشكلة الفقر الذي يروح ضحيته الملايين من البشر في العالم خاصة في إفريقيا، كما ندد المتظاهرون بالعدوان الأنجلو أمريكي على العراق والذي لا يزال مستمرا.
من هم مجموعة الثماني ؟
تتألف مجموعة الثماني من كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، روسيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الأمريكية ، وروسيا . وقد عقدت أول قمة في رامبوييه في فرنسا عام 1975، ومنذ ذلك الحين يجري انعقاد القمة بشكل منتظم كل عام .
وقد بدأ قادة الثماني قمتهم على وقع احتجاجات شعبية ومظاهرات عارمة اجتاحت العديد من العواصم العالمية من لندن إلى طوكيو حتى جوهانسبرج تدعو القادة إلى ضرورة التركيز على قضايا محاربة الفقر والتغيرات المناخية.
وقد استعدت الشرطة الأسكتلندية لمواجهة أكبر عملية أمنية لها على الإطلاق حيث شارك أكثر من مائة ألف متظاهر ضد القمة من المناهضين للحروب والعولمة والرأسمالية ليشكلوا رباطا أبيض من البشر حول مركز العاصمة التاريخية، ويمثل الرباط الأبيض حملة "فلنقض على الفقر" (Make Pove r ty Histo r y).
ووجه المتظاهرون انتقاداتهم خصوصا للولايات المتحدة التي لم توافق سوى على زيادات قليلة لمساعدة أفريقيا، وذكرت صحيفة التايمز اللندنية أن الأجهزة الأمنية المسئولة عن توفير الحماية للقمة قررت نقل الضيوف إلى قصر توليالان الذي بني قبل 160 عاما في وسط حديقة على بعد 32 كلم من قصر غلينغلز.
جدول أعمال القمة
وشهد جدول أعمال قمة الثماني في العاصمة الاسكتلندية بحث ثلاث قضايا رئيسة هي الفقر والمناخ والإرهاب، بعدما غيب عن عمد بحث قضايا أخرى على رأسها الاحتلال الأنجلوأمريكي للعراق وتدهور الأوضاع الأمنية في العراق رغم تسليم السيادة المزعوم للعراقيين في ظل رفض الاحتلال لوضع جدول زمني للانسحاب وسط موجة سخط عالمية ضد استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق، كما غابت القضية الفلسطينية عن جدول القمة
قضية الفقر
ملف الفقر في أفريقيا من أولويات القمة حيث يؤيد زعماء مجموعة الثماني اتفاقا توصل إليه وزراء ماليتهم الشهر الماضي لإسقاط ديون 18 من الدول الفقيرة أغلبها في أفريقيا، بالإضافة إلى مضاعفة المساعدات الخارجية وإصلاح القواعد التجارية التي تضر الدول الفقيرة، وأمام قادة مجموعة الثماني فرصة نادرة لإنقاذ 30 ألف طفل من الموت يوميا بسبب الفقر الشديد.
ويناقش المؤتمر أيضا الارتفاع الملحوظ في أسعار النفط وسط دعوات لتحميل المنتجين مسئولية ارتفاع الأسعار، وقد اتهم آلاف من المناهضين للحروب والعولمة والرأسمالية مجموعة الثمانية التي تضم أغنى دول العالم بتجاهل الفقراء.
قضية المناخ
توقع وزير الخزانة البريطاني "جوردن براون" أن ترفض الولايات المتحدة أي خطة عمل لمجموعة الثماني لمكافحة ارتفاع حرارة الأرض إذا كانت مماثلة لبروتوكول "كيوتو" -وهو اتفاق دولي لمكافحة التغيرات المناخية الطارئة بسبب الأنشطة الصناعية والبشرية- الذي رفض بوش في مارس 2001 التصديق عليه؛ لأنه يفرض على الدول الصناعية -دون غيرها- خفض انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، فضلا عن أنها لا تدعو الدول النامية إلى مراعاة المعايير نفسها، مع العلم أن واشنطن تطلق ربع الغازات التي تسبب احتباس الحرارة.
ودعا الرئيس الأمريكي جورج بوش مجموعة الثماني إلى الاهتمام بمعالجة موضوع التغيرات المناخية لكنه رفض مسبقا أي اتفاق شبيه ببروتوكول كيوتو.
أما الرئيس الفرنسي جاك شيراك فقد أوضح في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين والمستشار الألماني غيرهارد شرودر أن فرنسا لابد أن تتخذ موقفا صارما للتوصل إلى هذا اتفاق بشأن ظاهرة الاحتباس الحراري، وتضع باريس عددا من الشروط من أجل الوصول إلى اتفاق خاصة ضرورة "الإشارة بشكل واضح إلى مرجعية العلوم في الإعلان" المنتظر.
الإرهاب ومقاومة المشروعة
يسعى زعماء مجموعة الدول الصناعية الكبرى الثماني إلى تبني معاهدة للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب تعثرت سنوات عديدة بشأن تعريف "الهجوم الإرهابي"، فيما تعارض الدول الإسلامية أي صياغة تزيل حق "المقاومة المشروعة" من جانب أي شعب يكافح لإنهاء احتلال أجنبي كما هو الحال في العراق وفلسطين.(19/73)
وتسعى مجموعة الدول الثماني إلى الخروج بمعاهدة تربط معا نحو عشر اتفاقات دولية موجودة بالفعل تتناول أوجها محددة للإرهاب، مثل: احتجاز رهائن، وعمل تفجيرات، وخطف طائرات، وتمويل الإرهاب. لكن تحقيق التقدم تعثر منذ البداية بسبب خلافات بشأن تعريف الإرهاب.
ودعا مسئولون أمريكيون إلى إنهاء "المناقشات العقيمة" بشأن التعريفات، وقالوا: إن تبني المعاهدة يأتي ضمن ست أولويات لإصلاح الأمم المتحدة، ويبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتسخير مقررات القمة وتوصياتها لخدمة حربها المزعومة على الإرهاب.
هل من جدوى للقمة !؟
الدول الصناعية الثمانية الكبرى هي التي تضع الأجندة الاقتصادية للعالم، بل هي التي تعيد تشكيل الخرائط السياسية في النظام العالمي الجديد في ظل القطب الواحد، كما حدث في قمة الثماني الماضية في (سي أيلاند 2004) عندما اقترحت المجموعة نموذجا مختلفا لمنطقة الشرق الأوسط أطلقت عليه الشرق الأوسط الكبير، بل راح القطب الأوحد يقسم العالم ما بين دول إرهابية وداعمة للإرهاب وحليفة في الحرب على الإرهاب.
وإذا كانت قمة الثماني تعقد منذ 1975 (أول قمة في رامبوييه في فرنسا) وعاما بعد عام تزيد المظاهرات والاحتجاجات ضد القمة وضد الدول التي تمثلها القمة ، فهنا يطرح تساؤل حول جدوى هذه القمة، وهل هي بالفعل تأتي لمساعدة الفقراء؟ تأتي بالحرية والإصلاح للشعوب؟ هل العالم أصبح أكثر أمنا؟
الإجابة على هذه التساؤلات نراها بنظرة سريعة على ما يشهده العالم، فالفقراء ازدادوا فقرا والمجاعات والأمراض انتشرت أكثر ، أما الحرية المنشودة للشعوب فقد صارت بعيدة المنال بعد أن أضحت المقاومة إرهابا! والجمعيات الخيرية ومساعدة المنكوبين (منابع للإرهاب)، بل وصارت الأمم المتحدة أداة في أيدي الأقوياء لمعاقبة الشعوب واحتلال البلاد (أداة للحرب وليس للسلام)، حتى المناخ ودرجة حرارة الأرض صارت عرضة للانتهاك من قبل الدول الصناعية، أما حقوق الإنسان فقد أقبرت وأقيم لها نصبا في جوانتانامو وباجرام وأبو غريب.
=============(19/74)
(19/75)
الصحوة الإسلاميّة في السنغال..
نجاحات ثقافيّة واقتصاديّة
رضا عبد الودود 5/6/1426
11/07/2005
لعل الكثيرين من المهتمين بالشأن الإسلامي والمشتغلين بالسياسة يغيب عن أذهانهم تفاعلات الحياة السياسية ودور القوى الاجتماعية داخل المجتمعات الإفريقية، ولعل الحديث عن أوضاع التيار الإسلامي في السنغال يأتي من قبيل مناقشة إمكانيات تعميق التقارب مع الدول الإفريقية التي لا تتجاوز معارف الكثير منها عن قشور المعرفة، بل إن الكثير من المسلمين العرب بل والأفارقة يعلمون تفاصيل الواقع الأمريكي أكثر من معرفة أحوال جيرانهم بفعل التقارب الثقافي والفكري بوساطة المنظمات المدنية والعلمية التي تلعب دوراً فاعلاً في صياغة ثقافة الشعوب العربية والإفريقية تمهيداً لتنفيذ الأطروحات العالمية والمخططات التي إذا تمَّ تنفيذها انقلبت ثقافة المنطقة رأسًا على عقب، ومن ذلك مشروع القرن الإفريقي الكبير الذي يعمل على محاصرة التوجه العربي والإسلامي المرتبط بالإقليم منذ قديم الأزل، وإحلال ثقافة إفريقية مسيحية بدلاً منه. ومما يزيد خطورة الأمر أن مشروعي الشرق الأوسط الكبير وتوسيع جامعة الدول العربية يهدف كلاهما إلى أن يكون التقارب والتكامل على أسس جغرافية فقط وتجاهل لبنة الدين والثقافة، وهذا يعني بوضوح قبول الكيان الصهيوني كعضو "شرعي"، وإذابته بيننا بسهولة.
مما يلزمنا التعرف على أحوال المسلمين في السنغال البالغ تعدادهم نحو (12) مليون نسمة، معظمهم مسلمون؛ إذ يشكلون نحو 95% من عدد السكان أغلبهم يتبعون المذهب المالكي كعادة غرب إفريقية، مركزين على التيار الإسلامي نبض هذه الأمة وحامل هويتها في زمن صراع الحضارات..
صراع فرنسي أمريكي
وتبدأ فصول المشهد السنغالي من الصراع الفرنسي الأمريكي على إفريقية؛
تُعدّ فرنسا من أكبر الشركاء الاقتصاديين للسنغال التي تتلقى معونات اقتصادية فرنسية تشكل العمود الاقتصادي للسوق السنغالي، إلا أن تلك العلاقات شهدت تراجعاً حاداً منذ أحداث سبتمبر 2001؛ إذ شكلت زيارة بوش للسنغال وعدة دول إفريقية في 2003 انقلاباً في علاقات السنغال مع فرنسا ليطفو على السطح شعار مكافحة الإرهاب أساساً جديداً للعلاقات مع واشنطن!!
الغريب أن الحركات الصوفية المبتدعة تنشر في السنغال بطريقة تلفت النظر وهي أحدى الأسباب الرئيسة في عرقلة الصحوة الإسلامية الصحيحة في السنغال؛ إذ ينتمي أغلب الصوفية هناك للطريقة التيجانية، ويمتلكون أكبر المزارع، بالإضافة إلى تلقيهم أموالاً طائلة تحت شعار هدايا من مريدين في أوروبا وأمريكا، وقد شهدت الفترة الأخيرة صراعاً وتبادلاً للاتهامات بين الطرق الصوفية بسبب جمع تلك الأموال المشبوهة، ولعل أخطر ما في تلك الصراعات استخدامها من قبل الحكومات السنغالية المتتالية في تصفية الحسابات السياسية مع الخصوم خاصة مع التيار الاسلامي (عباد الرحمن) والعناصر السلفية الأخرى، وقام وزير الداخلية الأسبق (جيوليتي كه) بإغلاق مقر هيئة الإغاثة الإسلامية في العاصمة دكار واتهام القائمين عليها بالإرهاب، مما تسبب في اندلاع أعمال عنف لم تشهدها السنغال من قبل، وأسفرت عن حرق محطات البنزين والسيارات والعديد من المباني الحكومية في عام 1997، وخرجت المظاهرات التي قادتها جماعة المسترشدين والمسترشدات مع (عباد الرحمن) متوجهة إلى القصر الجمهوري، واضطر الرئيس وقتها إلى عزله لامتصاص الغضب الجماهيري.
الصحوة الإسلاميّة والرهان على الشعب
تأسست الجماعة الإسلامية السنغالية "عباد الرحمن" في جنوب البلاد في يناير سنة 1978م بعد اتصالات عدة قادتها مجموعة من الإسلاميين المقتنعين بضرورة الحل الإسلامي؛ إذ اتفقت مجموعة تجاوزت (200) شخص على إنشاء حركة إسلامية منظمة واضحة الأهداف محددة المعالم تعيد للشعب السنغالي هويته التي شابها الكثير من الانحراف بفعل الاستعمار الغربي (فرنسا) وتحكم مشايخ الطرق الصوفية في البلاد. وحسب الوثائق التأسيسية للحركة الإسلامية في السنغال فإن أهم الأهداف المرسومة والتي قامت عليها الجماعة هي: تنقية التوحيد لله عز وجل. و الالتزام بكلمة التوحيد عقيدة. والتزام توحيد المسلمين سلوكاً وممارسة، واحترام الأخوة الإسلامية، مع احترام غير المسلمين ودعوتهم للإسلام.
كما تعتمد الحركة على العمل الخيري لتجسيد الأخوة الإسلامية، وتهتم بشؤون المسلمين من خلال التربية والتعليم والعمل الاجتماعي كبناء المساجد والمدارس والمرافق العامة وتوثيق العلاقات مع كل القطاعات الاجتماعية السنغالية من جمعيات إسلامية وطرق صوفية وتجمّعات نقابية وأحزاب سياسية.
ولعل أهم ما يلفت النظر في التجربة الإسلامية في السنغال تركيز الحركة على التعليم بوصفه أحد أهم الأولويّات بالنسبة لحركة دعوية في طور النشأة والتكوين. وذلك لمواجهة الانقسامات والازدواجية التي يعيشها المسلمون بين التعليم الديني والتعليم الحكومي كما يقول الشيخ مالك انجاي مرشد الحركة الحالي. ومن ثم أنشأت الحركة العديد من المدارس النموذجية التي تجمع العلوم الدينية والعلوم المدنية.(19/76)
وتنطلق جماعة (عباد الرحمن) في السنغال عموماً بنظرتها الشمولية للدين وتعاملها مع كل أمور الحياة بهدف إيجاد مجتمع إسلامي حقيقي مع ما يتطلبه ذلك من تأنٍ، ومرحلية وتدرّج يتلاءم مع الوضع العام للبلد، وتأخذ بعين الاعتبار تطوّر الجماعة داخل المجتمع دون أن تنسى بالطبع الأهداف التي من أجلها وجدت. وترى الحركة أن أكبر وسيلة لتحقيق أهداف الجماعة هي: "الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وحل الخلاف بالتي هي أحسن، مع التنبيه بما استطاعت إليه سبيلاً".
وللحركة لجنة اجتماعية تقوم بدور اجتماعي بين قادة ورموز المجتمع السنغالي من أحزاب سياسية وطرق صوفية، لكن ذلك لم يمنع من وجود خلاف بينها وبين النظام الاشتراكي الحاكم آنذاك بزعامة عبده ضيوف.. ذلك أن الجماعة ركزت في خطابها الدعوي منذ نشأتها على نقد العلمانية من خلال المحاضرات والملتقيات العامة والنخبوية، وهو أمر ما كان ليروق لنظام متطرف في إعجابه بالعلمانية، مستغلاً في تسلطه الدعم الغربي ومساندة الطرق الصوفية.
وهكذا ظلت العلاقة بين جماعة (عباد الرحمن) والسلطة السياسية القائمة يطبعها شيء من التوتر وإن ظل محكوماً بالأطر القانونية، دون أن يتطور الأمر إلى الصدام إلى نهاية التسعينيات؛ إذ قرّرت الحركة في مؤتمرها السابع الانفتاح على السلطة السياسية القائمة.
حين بدأت العملية السياسية في السنغال تتجه نحو التغيير إثر الأزمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد وارتفاع أعداد الشباب العاطلين عن العمل والمطالبين بتغيير سياسي إلى الأفضل، عقدت الحركة عزمها على المشاركة في اللعبة السياسية، ودعمت رئيس الوزراء السابق مصطفى أنياس في الجولة الأولى مع مجموعة من القوى السياسية المختلفة، وفي الجولة الثانية بدّلت الحركة تحالفها وقرّرت دعم المرشح عبد الله واد رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي المعارض، وتم ما أرادوا، وأعلن رئيس الجمهورية الممسك بزمام الحكم عبده ضيوف هزيمته في الانتخابات وسقط نظامه، ودخلت البلاد في عهد جديد.
إدماج التربية الإسلاميّة في مناهج التعليم
وتحوّلت العلاقة بين الحركة الإسلاميّة والسلطة من سلبية في السابق إلى علاقة تشاور وتبادل مع النظام الجديد، بل شهدت تحسّناً ملحوظاً بعد دعم الحركة للدستور الجديد الذي قدمته الحكومة رغم علمانيّتها بعدما ارتأت الجماعة أنه أفضل للشعب السنغالي من سابقه خصوصاً في مجال الحريات السياسية.
إلا أن العلاقة بين الاثنين شهدت تطوراً سريعاً عام 2002م، وخصوصاً في مؤتمر الحركة الثامن الذي انعقد في داكار في الفترة ما بين 5 إلى 10 مارس، والذي مثل الحكومة فيه وزير الثقافة السنغالي أحمد تيجان وان، والذي عبر عن ارتياح حكومته تجاه الحركة، وقد فاجأ "وان" الحضور بإعلان الحكومة السنغالية الموافقة على إدخال مادة التربية الإسلامية في المدارس النظامية، والذي كان من أهم مطالب الجماعة خلال السنوات الماضية مشيداً بالدور الكبير الذي لعبته الجماعة في تربية وتكوين الشباب .
التنمية والفقر تحدّيات للجميع
وتواجه الحركة الإسلامية بعض التحديات في ضوء الأزمة الاقتصادية السنغالية التي تعاني من نقص الموارد وضعف الإمكانيات؛ في ظل ابتعاد غالبية الشعب عن مبادئ الدين وقيمه الحضارية، وهو أمر يثقل بدون شك كاهل الحركة الإسلامية. لذا فإن الصحوة الإسلامية في السنغال التي قطعت أشواطاً بعيدة في الإصلاح التربوي والاجتماعي لم يبق أمامها سوى خطوات لاستيعاب خبرة العصر وتوظيفها لتعجيل حركة التغيير الاجتماعي، والسعي لحضور رسمي في مؤسسات الدولة يوازي الحضور الشعبي ويكمله ويحصن الجهود المبذولة من خطر الاندثار. كما يُلاحظ كذلك أن الحكومة السنغالية من خلال تعاطيها مع جماعة "عباد الرحمن" تبدو جادة في منهج التغيير الديمقراطي والتدافع السلمي، وحريصة على مد الجسور مع أبناء الحركة الإسلامية، فهي متقدمة في هذا المضمار بدون شك على العديد من حكومات الدول الإسلامية داخل المنطقة وخارجها.
ولعل التحدي الأبرز للصحوة الإسلامية هو نجاحها في تفعيل لجنة للزكاة لمواجهة العراقيل التنموية في ظل الإسراف غير المبرر من أتباع الحركات الصوفية للمسؤولين الحكوميين الذين يستهويهم الفساد المالي واستغلال أموال وهبات أتباع التيجانية في مشروعات خاصة تؤثر سلباً في تنمية المجتمع السنغالي الذي يتهدّده الفقر ومشروعات التنصير التي ترفعها المنظمات التنصيرية الدولية التي تغزو غرب إفريقية التي تتمتع بغالبية كبيرة من المسلمين لا تروق للمنظمات الكنسيّة التي تترعرع مشروعاتها وسط جهل المسلمين وفاقتهم الاقتصادية.
ولعل جهود الصحوة الإسلامية بمختلف منظماتها الخيرية بدت أكثر اهتماماً بالموارد الذاتية والداخلية بعد حملات الإغلاق بحق المنظمات الإسلامية الخيرية ومنظمات الإغاثة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي بعد تبني غالبية دول العالم لشعارات مكافحة الإرهاب وقطع سبل تمويل مشروعات الكفالة لجوعى وفقراء إفريقية والمسلمين.(19/77)
وفي هذا الإطار تبدو شبكة "الدراسات والبحوث الإسلامية للتنمية" في السنغال أكثر نجاحاً في تنظيم عدد من الدورات المفتوحة لكل السنغاليين تتضمن ندوات وبحوثاً متعمقة في مسائل زكاة الأموال والثمار، كما تتطرق إلى الاجتهادات والمتغيرات المستجدة على الساحة السنغالية والإفريقية التي ترتبط بمصارف الزكاة، فضلاً عن مناقشة سبل إنشاء لجنة وطنية للزكاة".
في ظل افتقار الخطاب الدعوي والوعظ والمحاضرات التي يلقيها العلماء للمعالجة الحقيقية لقضايا الزكاة، إضافة إلى ضعف المعلومات الشرعية التفصيلية عن الزكاة. يُذكر أنه لا يوجد مصارف رسمية للزكاة في السنغال، ويتم تحصيلها بشكل فردي وعلى أساس انتماءات ولائية للعلماء والدعاة. وتعثّرت محاولة جرت عام 2000 في السنغال لإقامة مؤسسة زكاة إسلامية إفريقية تغطي عدة دول في غرب إفريقية؛ بسبب ضعف المساهمات من الدول والخلافات الإجرائية
=============(19/78)
(19/79)
ابتزاز " أردوغان" بالعسكر ونظريّات الإصلاح!!
ياسر الزعاترة / عمان 6/6/1426
12/07/2005
بعد زيارته الاحتفالية لتل أبيب قبل أسابيع، رحل رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى واشنطن، وهما رحلتان لم تأتيا عبثاً، فقد وصلت رسائل الشريك الأمريكي سريعاً لزعيم العدالة والتنمية، ونموذج الإسلام المعتدل، بحسب المصادر الأمريكية، وبحسب توصيف العلمانيين العرب الذين طالما عيّروا الإسلاميين في بلادنا بالنموذج التركي متجاهلين الفروق الجوهرية بين الحالتين، ومتجاهلين أن أياً من الأنظمة العربية لا يمكنه أن يستوعب مجرد التفكير في حصول حزب إسلامي على معظم مقاعد البرلمان لمجرد حصوله على 33% من أصوات الناخبين.
نعم، وصلت الرسائل، بل لعلها وصلت بوسائل فيها الكثير من التهديد، وبالطبع من خلال العسكر الأتراك، ومن خلال الفريق العلماني المتطرف التابع لهم، أكان في قصر الرئاسة، أم في المؤسسة الأمنية والقضائية، فقد خرج هؤلاء جميعاً في صعيد واحد، كل بطريقته، يذكّرون أردوغان بأنهم لا يزالون هنا، وأنهم يراقبون بكل توتر خطواته الرامية لإحداث نقلة في التعاطي التركي الداخلي مع المسألة الإسلامية، وهي هنا حرية التدين بكل بساطة، وليس إقامة الدولة الإسلامية بحسب التعبيرات الإسلامية الحركية في المشرق العربي!!
كان الغضب الأمريكي قد تراكم بسبب جملة الموقف التركية التي سبقت غزو العراق وتلته، إلى جانب العلاقات الباردة مع تل أبيب، مقابل العلاقات التي بدت مميزة مع الجارة سوريا، مع أنها لم تنطو على اتفاقات استثنائية يمكنها أن إثارة مخاوف هذا الطرف أو ذاك، فيما يُشار هنا إلى أن العلاقة المصنفة باردة مع تل أبيب لم تغيّر كثيراً في الاتفاقات الأمنية والعسكرية، بل ولا حتى العلاقة الاقتصادية؛ إذ سجل التبادل التجاري بين البلدين ارتفاعا من (1.2) مليار دولار في العام 2003 إلى ملياري دولا ر في العام 2004.
في تل أبيب حاول أردوغان أن يحقق تقارباً مميزاً مع مضيفه (المجرم شارون) الذي كان قد انتقده غير مرة في سياق اغتيال القادة الفلسطينيين، وقد سجّل زعيم العدالة والتنمية نجاحاً معقولاً على رغم بعض الإشارات السياسية التي كان لا بد منها تبعاً لحساسيات الشارع التركي مثل رفضه ارتداء القبعة اليهودية، أو الدخول إلى فناء الحرم القدسي بالسيارة التي ترفع العلم الإسرائيلي، وهي خطوات لم تقلل كثيراً من التأثيرات السلبية للزيارة في وعي الشارع التركي، وتحديداً النواة الصلبة لمؤيدي العدالة والتنمية من الإسلاميين والمتدينين.
قبل رحلته إلى تل أبيب كان أردوغان قد حاول استرضاء واشنطن بصفقة صيانة لطائرات إف-16 تقدر قيمتها بمليار ومائة مليون دولار، إلى جانب تمديد اتفاقية الاستخدام الأمريكي لقاعدة إنجيرلك الجوية التركية، لكنه كان يعلم أن ذلك كله لن يكون كافياً لإعادة العلاقة مع واشنطن إلى سابق عهدها.
في هذا السياق جاءت الزيارة الأخيرة لأردوغان، وهي زيارة لا تقول المؤشرات إنها كانت ناجحة، بقدر ما يمكن القول إنها ستمنح أردوغان فرصة أخرى لإثبات أهليّته لعلاقة مميزة مع واشنطن. وفيما لم ترشح معلومات بشأن المطالب الأمريكية الحيوية من أردوغان فيما يخص الساحة العراقية والمساعدة في دعم الجهود الأمريكية للخروج من المأزق، إلا أن في حديث بوش وأردوغان عن دعم تركيا لمشروع الشرق الأوسط الكبير ما يكفي للدلالة على القادم من السياسات، ذلك أن العراق هو المحطة الأولى في المشروع، ولا بد أن تنجح حتى ينسحب النجاح على المحطات الأخرى.
أما الموقف من سوريا فقد كان لافتاً للنظر، إذ أصر بوش على عزلها ورفض أي تقارب تركي معها. ويبقى الموقف على الصعيد الداخلي، وحيث طولب أردوغان بالعمل على مواجهة مشاعر العداء للولايات المتحدة في الشارع التركي، كأن بوسعه أن يخترع دواء يوزع في أقراص على الأتراك يؤدي إلى تخلصهم من مشاعر العداء تلك!!
خلاصة القول هي أن اللقاء لم يحقق المطلوب، لاسيما فيما يتعلق بالمطالب التركية الخاصة بقبرص، ومعها التعامل مع حزب العمال الكردستاني، فيما سيكون على أردوغان أن يقدم المزيد من المواقف التي يمكن أن تمنحه الرضا، وبخاصة دعم مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي يعلم أردوغان روحيته الإسرائيلية. وفي حال لم يحدث ذلك ستقوم الأطراف المتربصة به وبتجربته داخل تركيا بترتيب حساباتها على أمل دفعه نحو الإخفاق والسقوط، إن لم يكن بطلب من واشنطن، فاستغلالاً للفرصة السانحة.
والحال أن ما يمنح أردوغان بعض القوة في مواجهة الإملاءات الأمريكية، ومعها الضغوط الداخلية من طرف العسكر وحلفائهم، إنما هي قوته الشعبية الناجمة بشكل أساسي عن نجاحاته الاقتصادية، في حين لا يزال الشارع التركي، وبخاصة المتدين منه، في انتظار بعض التقدّم فيما يتعلق بملف الحرية الدينية، وبخاصة مسألة الحجاب.(19/80)
ما نريد قوله هو: إن انفتاح واشنطن على العلاقة مع الإسلاميين كذبة كبرى يُراد ترويجها على بعض المغفّلين، وربما المأزومين، في الساحة الإسلامية، فيما الحقيقة هي أن أي طرف إسلامي لا يبدي استعداداً للاعتراف بالمشروع الإسرائيلي، فيما يخضع لشروط العلاقة الفوقية مع الولايات المتحدة لن يكون مقبولاً حتى لو وضع النساء في مرتبة الوصاية على الرجال، وقال: إن الشريعة قد نُسخت ويمكن استبدالها بتعاليم المحافظين الجدد اليمينيّة!!
==============(19/81)
(19/82)
الشرق الأوسط الجديد .. قديم(1)
ترجمة: بتول عبد الحق
كتب: تيري ميسان * 7/7/1427
01/08/2006
سئلت كوندوليزا رايس عن الخطوات التي سوف تنتهجها في سبيل إعادة الاستقرار إلى لبنان، فكان جوابها: "إنني لا أرى أي مصلحة من أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً بين إسرائيل و لبنان. أعتقد أنه سيكون من الخطأ أن نعمل لأجل هدف كهذا. إن ما نفكر فيه هنا، بطريقة أو بأخرى، هي البداية، إنها آلام المخاض التي تسبق ولادة الشرق الأوسط الجديد، و مهما يكن من أمر، فإنه يتعين علينا أن ندفع باتجاه تشكُّل هذا، و ألاّ نتراجع إلى الوراء".بالتالي فإن ما يقع في لبنان في الوقت الحالي من وجهة نظر واشنطن، لا علاقة له بقضية تحرير الجنديين الأسيرين في يد حزب الله، بمعنى أن ما يقع هو التطبيق الجدي لما تقرره نظرية "الفوضى البناءة" التي جرى التبشير بها طويلاً. إذاً فإن أتباع الفيلسوف (ليو شتراوس) الذين يُعرفون إعلامياً تحت مسمى "المحافظين الجدد"، يؤمنون أن التغيير لا يتحقق من خلال الجمود، و إنما يتعين لأجل إحداث ذلك، تحطيم كل شكل من أشكال المقاومة. بعبارة أخرى، يتعين إدخال المجتمع كله في الفوضى حتى تتمكن 'النخب' في أن تنعم باستقرار مواقعها. ثم إنه و على حسب أتباع (شتراوس) دائماً فإنه لا يمكن للمصالح الإمبريالية الأمريكية أن تلتقي مع مصالح الدولة اليهودية إلا وسط هذه الفوضى.
الواقع أن الحرص الإسرائيلي على تقسيم لبنان، و إقامة دويلة مسيحية صغيرة فيه، ثم إلحاق جزء من ترابه بها أمر قديم، و ليس حديثاً مثلما قد يقول بعضهم؛ إذ أُعلن عن هذا في العام 1957، من قبل ديفيد بن غوريون بوساطة رسالة شهيرة له نُشرت ملحقة فيما بعد في مذكراته التي طُبعت بعد وفاته، (2) و هذه 'الطموحات' تم إدراجها في مشروع استعماري كبير للشرق الأوسط أُعد خلال العام 1996 تحت عنوان: القطيعة الحقيقية: الإستراتيجية الجديدة لأمن المملكة(3) -مملكة إسرائيل طبعاً-. هذه الوثيقة الأخيرة، أعدها أحد مراكز (الثينك تانكس) التابعة للمحافظين الجدد (IASPS) من طرف مجموعة من الخبراء الذين جمعهم (ريتشارد بيرل) ( الكاتب الصهيوني المعروف ) و تم تسليمها لبنيامين نتنياهو، و فيها ما يمكننا عده، شرحاً وافياً للفكر الصهيوني التحديثي الذي أسسه فلاديمير جابوتينسكي،(3) و تتمحور أساساً حول النقاط التالية:
- إلغاء بنود اتفاقات أوسلو.
- التخلص من ياسر عرفات
- ضم الأراضي الفلسطينية.
- إسقاط الرئيس صدام حسين في العراق واحتلالها تمهيداً لزعزعة كل من سورية و لبنان.
- تقسيم العراق و إقامة دولة فلسطينية فوق ترابه.
- استعمال التراب 'الإسرائيلي' كقاعدة ملحقة بالبرنامج الأمريكي المعروف تحت مسمى: حرب النجوم.
لقد كانت هذه الوثيقة في الواقع، هي روح الخطاب الذي ألقاه نتنياهو بعد ذلك مباشرة أمام الكونغرس الأمريكي،(4) و يمكننا أن نلحظ في هذا الخطاب كل مقومات و 'توابل' هذه الوضعية الحالية التي نعيشها: تهديدات لسورية، إيران و حزب الله فضلاً عن الشروع الفعلي في ضم الجزء الشرقي من مدينة القدس.
من هنا، يمكننا أن نلحظ أن 'وجهة النظر' هذه تلتقي بشكل مباشر مع الرغبة الأمريكية في السيطرة على هذه المنطقة الغنية بالنفط التي يسميها كل من (زبيجنيف بريجنسكي) و (برنارد لويس): "قوس الأزمات" و هي كل المنطقة التي تمتد من خليج غينيا إلى بحر قزوين مروراً بالخليج العربي و التي تعني أيضاً، العمل على إعادة تشكيل الحدود، و تغيير الدول و الأنظمة السياسية السائدة فيها أو بحسب تعبير جورج بوش: "إعادة صياغة الشرق الأوسط الكبير".
هذا هو الشرق الأوسط "الجديد" الذي تعتقد الآنسة كوندوليزا رايس أنها سوف تكون 'القابلة' التي تشهد ولادته.
الفكرة في عمومها بسيطة: الاستعاضة عن الدول التي تشكّلت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بدويلات أصغر منها تكون ذات تركيبة أُحادية الإثنيات ثم تحييد هذه 'الدويلات' بعد ذلك من خلال شغلها ببعضها البعض. بعبارة أخرى، إن الأمر يعني مراجعة بنود الاتفاقية التي تمت المصادقة عليها بشكل سري خلال العام 1916، و التي عُرفت تاريخياً باسم 'اتفاقية سايكس-بيكو' بين الإمبراطوريتين الفرنسية و البريطانية(5)، وصولاً إلى تحقيق الهيمنة المطلقة من قبل الدول الأنجلوسكسونية على المنطقة. هذا يعني أن عملية إيجاد دويلات جديدة تقتضي تدمير هذه المتواجدة حالياً، و هذا ما تسعى لأجل تحقيقه إدارة الرئيس بوش منذ خمس سنوات قبل الآن، و يمكننا لأجل البرهنة على ذلك أن نستشهد بما يلي:
- لقد اقتُطع ما نسبته 7% من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم إن كلاً من قطاع غزة و الضفة الغربية قد جرى فصلهما بشكل فعلي بواسطة الجدار، أما السلطة الفلسطينية فلقد تم تدميرها قبل أن يُعمد أخيراً إلى توقيف النواب و الوزراء الذين ينتمون إلى حكومة منتخبة.(19/83)
- لقد فرضت الأمم المتحدة على لبنان أن ينزع سلاحه، حيث أخرجت القوات السورية، و تم التشديد على حزب الله، أما رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، فلقد جرى اغتياله؛ مما أدى إلى أن تفقد فرنسا نفوذها في المنطقة، و حالياً تم تدمير البنية التحتية للبلد، و صار أكثر من نصف مليون إنسان هناك، نازحين يبحثون عن مأوى.
- تم القضاء على نظام صدام حسين في العراق و استبداله بنظام حكم أشد قسوة بات يسجل مقتل نحو (3000) إنسان كل شهر هناك فضلاً على أن هذه البلاد التي بلغت أقصى درجات الاضطراب، مرشحة إلى أن تنقسم إلى ثلاث كيانات مختلفة.
- أما في أفغانستان فلقد تم إسقاط إمارة طالبان هناك، و جرى تعويضها بديمقراطية غريبة لا تزال لحد الساعة عاجزة عن فعل أي شيء مما وعدت به، و لا حتى الحد من زراعة الأفيون و الواقع أن هذه البلاد باتت مقسومة بين أمراء الحرب المحليين الذين تشتد المواجهات بينهم كل يوم؛ لأن الحكومة المركزية لم تستطع حتى أن تفرض على سكان العاصمة طاعتها.
أما في واشنطن، فإن صبر أتباع شتراوس نفد، و لم يعودوا قادرين على التحمل أكثر؛ لأجل هذا تراهم يحاولون تصدير 'الفوضى' صوب السودان، سورية و إيران. و الحقيقة أنه لا مجال للحديث عندهم عن ديموقراطية انتقالية، فالمرحلة لا تحتمل غير مزيد من الدماء و الدموع في نظرهم، في حين أن الرئيس جاك شيراك الذي حاول أن يتدارك آخر ما تبقى لفرنسا من مصالح في لبنان، أسرع بإيفاد رئيس وزرائه، (دومينيك دوفيلبان) قبل أن تتبدد أوهامه خلال قمة الثمانية في سانت بترسبورغ؛ لأن الرئيس جورج بوش أوضح له على هامش الأشغال، أن ما يجري في لبنان ليست حرباً إسرائيلية تباركها الولايات المتحدة، و إنما هي خطة أمريكية تنفذها القوات الإسرائيلية، و ظهر هذا جلياً في كلمات السيد (دوفيلبان) الذي لم يجد أي كلمات يقولها أمام محدثيه في بيروت، غير عبارات المواساة التي تعبر عن الضعف بشكل لا غبار عليه.
بطريقة أكثر وضوحاً، لقد طُرح مشروع تدمير لبنان قبل أكثر من عام من الآن، من طرف قيادة الجيش الإسرائيلي على إدارة بوش، و هذا ما كشفته جريدة سان (فرانسيسكو كرونيكل)(6). لقد كان هذا المشروع محل نقاش سياسي خلال أشغال المنتدى العالمي الذي ينظمه سنوياً معهد (أمريكن إنتربرايز) في دورته الأخيرة التي انعقدت يومي 17 و 18 من شهر حزيران/يونيو المنصرم في الولايات المتحدة؛ إذ تقول التقارير إن كلاً من نتنياهو، وديك تشيني، وريتشارد بيرل و غيرهم من رموز -التيار المتصهين- حضروا أشغاله، و يبدو أن الضوء الأخضر قد أُعطي من قبل البيت الأبيض أياماً قليلة بعد ذلك.
إن العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الإسرائيلية تقع تحت الإشراف المباشر من قبل كتابة الدفاع الأمريكية؛ إذ تقوم هذه الأخيرة بإعداد الخطط و تحديد الأهداف، و أما الدور الرئيسي فلقد خُوّل به الجنرال (بانتز غرادوك) بصفته قائداً للقيادة الجنوبية -الأمريكية- و هذا الأخير متخصص في حركات المدرعات مثلما أثبت ذلك خلال "زوبعة الصحراء' أو خصوصاً حينما كان قائداً لقوات مشاة حلف النيتو خلال حرب كوسوفا. إنه رجل يحظى بثقة مطلقة من قبل رامسفيلد؛ فهو من تكفل بأمر تسيير قيادة الأركان خصيصاً لأجله فضلاً على أنه هو من تكفل ببلورة و تطوير معتقل غوانتانامو، ثم إنه سوف يعين خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، قائداً للقيادة الأمريكية في أوروبا و قوات النيتو هناك و من هذا المنطلق يمكننا أن نتوقع أنه سوف يكون المشرف المباشر على القوات التي قد يبعث بها هذا الحلف إلى جنوب لبنان؛ زيادة عن تلك التي تم إرسالها إلى أفغانستان و السودان.
لقد اعتاد الجنرالات الإسرائيليون و الأمريكيون، على الالتقاء و التعاون ثم التنسيق منذ نحو ثلاثين سنة بناء على المبادلات التي ينظمها 'المعهد اليهودي لقضايا الأمن القومي' الذي يُعرف اختصاراً باسم: (JINSA) و هي 'جمعية' تجبر كل كوادرها على أن يحضروا -و بشكل منتظم- ملتقيات تنظم لدراسة فكر (ليو شتراوس).
(1) العنوان الأصلي للمقال: المحافظون الجدد و سياسة 'الفوضى البناءة' و يمكن قراءته على الرابط:
http://mondialisation.ca/index.php?context=viewA r ticle&code=MEY20060725&a r ticleId=2815
(*)تيري ميسان هو صحفي و كاتب فرنسي، إلى جانب أنه مدير شبكة فولتير العالمية، فضلاً على أنه صاحب كتاب 'الخديعة المرعبة' الذي دحض فيه الرواية الرسمية لحقيقة ما جرى في 9/11، و لقد تُرجم الكتاب إلى كل اللغات العالمية تقريباً.
(2) يمكن قراءة النسخة الفرنسية من رسالة بن غوريون إلى موشيه شاريت حول هذا الموضوع على الرابط:http://www.voltai r enet.o r g/a r ticle9886.html
(3) يمكن قراءة نسخة مختصرة من الوثيقة على الرابط:
http://www.is r aeleconomy.o r g/st r at1.htm
(4) والد نتنياهو نفسه كان سكرتيراً خاصاً لفلاديمير جابوتينسكي، مؤسس الصهيونية الحديثة التي ينتمي إليها إيهود أولمرت أيضاً.(19/84)
(5) تم التوقيع على هذه الاتفاقية 'السرية' بتاريخ 16 أيار/مايو بين السير مارك سايكس عن بريطانيا و فرانسوا جورج بيكو ممثلاً لفرنسا قبل أن تقبل بها بعد ذلك كل من إيطاليا و روسيا.
(6) نُشر هذا المقال في عدد جريدة سان فرانسيسكو كرونيكل ليوم 21 من شهر تموز/يوليو الحالي.
============(19/85)
(19/86)
الشرق الأوسط الكبير
د. محمد مورو 11/1/1425
02/03/2004
الشرق الأوسط الكبير أو الشرق الأوسط الأوسع نطاقًا أحدث صيحة في عالم المبادرات الأمريكية والأوروبية لإعادة صياغة المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية والصهيونية والفرنسية عمومًا. المسألة إذًا ليست جديدة تمامًا ولكن فيها ما هو جديد أيضًا فمثل هذه المشروعات والمبادرات لم تنقطع منذ حرب الكويت عام 1991 في إطار انفراد أمريكا بالهيمنة على العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق والمنظومة الاشتراكية والتواجد الفعلي للقوات الأمريكية في المنطقة بعد حرب الكويت عام 1991 لتكمل مع إسرائيل حلقة الاحتلال والهيمنة، وقد شهدنا مثل تلك المبادرات منها ما يسمى بالسوق الشرق أوسطية ، وهي فكرة أمريكية صهيونية تستهدف إدماج إسرائيل في المنطقة وإفقاد العرب والمسلمين الهوية والثقافة والتميز الحضاري وبالتالي الانتماء إلى الشرق الأوسط أو عالم المصالح و(البيزنس) والسلام - وهو وهم طبعًا-. ثم ما يسمى الانتماء لبحر المتوسط، وهي فكرة أوروبية تحقق أهدافًا قريبة من الأهداف السابقة، أي استبدال الانتماء العربي والإسلامي بالانتماء إلى ثقافة البحر المتوسط، وهذه بالطبع أقل خطرًا من الشرق أوسطية رغم أنها تدمج إسرائيل أيضًا في المنطقة، ولكنها تتعارض شيئًا ما مع المفهوم الأمريكي للمنطقة.
ثم بعد ذلك ظهرت مبادرة (كولن باول) للشراكة والسلام والتنمية، وقد تم رصد اعتمادات وأموال وإنشاء صحف وقنوات فضائية وتليفزيونية للتبشير بتلك القيمة وغيرها، ثم أخيرًا مشروع بوش المسمى بالشرق الأوسط الأوسع نطاقًا، وهو يضم حسب تعريف بوش نفسه العالم العربي + إسرائيل + إيران، وباكستان ، وتركيا ، وأفغانستان؛ أي نطاق عربي إسلامي يقبل باندماج إسرائيل فيه وهو هنا يشبه مشروع الشرق أوسطية المعروف، ثم حديث عن التنمية ، وعن الرخاء وأرقام عن تدني الدخول ، وتدني مستوى المعيشة ، تفشي البطالة و الأمية، وكأن السيد الأمريكي اكتشف ما هو غير معروف لحالتنا. بدهي فإن الوعد هنا الرخاء الاقتصادي وهو وهم طبعًا (فالحدأة لا تلقي بالكتاكيت)، المهم في المسألة أن ذلك كله بشرط دعم اقتصاد السوق، أي تسليك مواسير النهب والهيمنة وإعادة هيكلة المجتمعات لإفقادها الهوية والثقافة، ثم حديث عن دور المرأة وتحريرها، وهو حديث ممجوج من كثرة تكراره وحق يراد به باطل، وكذا دعم مؤسسات المجتمع المدني طبعًا بشروط أن تكون تلك المؤسسات ناشئة في ظل العولمة ووفقًا لمفاهيمها وأجندتها وليست مؤسسات أهلية إسلامية كانت ولا تزال معروفة ومؤثرة، وأخيرًا الحديث التقليدي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ونزاهة الانتخابات ووقف التعذيب والانتهاكات، وهو حديث منافق تمامًا لأنه يمس وترًا حساسًا وصحيحًا، ولكنه نوع من الخيار بين الوهم والجحيم؛ وهم إمكانية تحقيق الحرية عن طريق الاستعمار، وجحيم دعم الحكومات المستبدة نكاية في أمريكا. وينبغي بالطبع أن نكون موقفًا مركبًا يرفض الاستعمار ويرفض الاستبداد في نفس الوقت.
دكتاتورية ونفاق
على كل حال فإن الحديث المنافق عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يستدعي قدرًا أكبر من المناقشة ووضع النقاط على الحروف، فبداية فإن الذي صنع الديكتاتورية وصنع التطور الاجتماعي الصحيح في المنطقة هو الاستعمار ذاته وأمريكا وإسرائيل تحديدًا، وجورج بوش نفسه اعترف بأن أمريكا دعمت الاستبداد في المنطقة لمدة ستين عامًا، وقد آن الأوان لوقف هذا الخطأ والجزء الأول من كلام بوش صحيح؛ وبالتالي ينبغي لإصلاح الخطأ الاعتذار ودفع التعويضات للمتضررين وهم كثير من الذي انتهكت حرياتهم ومحاكمة المسؤولين عن ذلك أمثال كسينجر وكلينتون وبوش الأب وفيهم من لا يزالون أحياء مثلا !! أما الجزء الثاني من كلام بوش فهو نفاق محض ، ذلك أن أمريكا نفسها لا تطيق ولا تقبل حكومات منتخبة ومقبولة شعبيًّا ولا تقبل بديمقراطية حقيقية في المنطقة؛ لأن ذلك يقود مباشرة إلى ظهور التيار الإسلامي وثقافة المقاومة وهما خطر على المشروع الأمريكي الصهيوني قطعًا ، ثم إن التاريخ القديم والحديث بل والآتي للولايات المتحدة لا يبشر بذلك؛ فهي أولاً دولة قامت على إبادة شعب آخر ثم استرقت السود ثم مارست طوال تاريخها العدوان على الآخرين وارتكبت من المذابح ما يكفي لتسويد صفحتها، ثم هي التي أسقطت الديمقراطيات ودعمت المستبدين وتآمرت ضد زعماء وطنيين .. إلخ .. ثم هي نفسها التي تدعم إسرائيل التي تنتهك كل حقوق الشعب الفلسطيني يوميًّا على مدار الساعة، وهكذا فإن الحديث عن الديمقراطية أمريكيًّا هو نفاق محض، أضف إلى ذلك أنه على مستوى اللحظة والراهن؛ فإن أمريكا قد ثبت كذبها في موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل من أفغانستان والعراق فلم تحقق في أيٍّ من البلدين لا الرخاء ولا الأمان ولا الديمقراطية؛ بل العكس كان هو الصحيح على طول الخط، فالبطالة زادت والمعاناة الاقتصادية تفاقمت والأمن والأمان ضاعا تمامًا، فضلا عن فقدان الاستقرار والكرامة.
أمريكا فقدت المصداقية(19/87)
وعلى مستوى الأحداث الجزئية ذات الدلالة؛ فإن قيام القوات الأمريكية بقتل أسرى قلعة جانجي في أفغانستان، وإصدارها الأوامر بقتل كل أسير ينتمي لطالبان والقاعدة، ثم ما حدث ويحدث في معتقل جوانتانامو، وكذا الممارسات القمعية والتمييزية والعنصرية ضد العرب والمسلمين في أمريكا كلها تقول بأن فاقد الشيء لا يعطيه وأن حديث أمريكا عن الديمقراطية هو نفاق محض.
في هذا الصدد فإن أحدًا لا يصدق أمريكا حتى الأمريكيين والأوروبيين بل والمتعاطفين مع النموذج الأمريكي بين المثقفين العرب؛ فالمفكر الأمريكي (فوكوياما) صاحب نظرية " نهاية التاريخ " التي بشر فيها بسيادة الليبرالية الغربية يرى أن دعوة أمريكا إلى الديمقراطية تفتقر إلى المصداقية، والصحفي البريطاني (روبرت فيسك) يقول الشيء نفسه مع إضافة أن أمريكا تدعم الطائفية وتمنع الديمقراطية في العراق؛ بل ويقول: إن الغرب نفسه هو الذي منع التطور الديمقراطي في المنطقة؛ فبريطانيا مثلاً هي التي منعت بالقوة التطور الديمقراطي في مصر في الثلاثينيات من القرن الماضي. والدكتور (عبد المنعم سعيد) وهو مفكر مصري وصحفي بالأهرام ورئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وهو بالمناسبة مع النموذج الأمريكي وضد المقاومة ومع التطبيع .. إلخ اكتشف أخيرًا أن الاستثناء الأمريكي بخصوص الديمقراطية قد انتهى، وأن المدينة المضيئة على التل قد أصبحت معتمة!! وأن هناك أيديولوجية شوفينية بدأت تترعرع في أمريكا ذاتها.
الجديد في المبادرة
الجديد في مبادرة الشرق الأوسط الكبير هو أن الأمريكان قد لجأوا هذه المرة إلى إشراك الأوروبيين في المسألة، وهذا بالطبع جاء تحت ضغط المقاومة العراقية التي يمكن أن تتحول إلى حالة عربية إسلامية وتكون خطرًا على المشروع الغربي برمته وليس المشروع الأمريكي فقط، وأمام مثل هذا الخطر؛ فإن أمريكا تتخلى عن غطرستها وتشرك الأوروبيين معها والأوروبيون يتنازلون عن مصالحهم المتعارضة مع أمريكا لمواجهة هذا الخطر ويشاركون الأمريكيين في المسألة، وهذا ما يفسر قبول الأوروبيين بالمشاركة في المبادرة، بل وتتخلي ألمانيا عن معارضتها لأمريكا عمومًا وهكذا أقوال وزير خارجيتها التي تصب في دعم أمريكا تمامًا، وهذا الموقف ليس جديدًا لا على أوروبا ولا على أمريكا؛ فهناك بالطبع تناقضات مصالح بين هذه الدول وبعضها ولكنها تناقضات ثانوية في النهاية يتم تسويتها باقتسام الكعكة أو زوالها بظهور خطر حقيقي عليها كلها مثل خطر المقاومة والتاريخ مملوء بنماذج لزوال تلك التناقضات الثانوية مثل ترحيب فرنسا بالاحتلال الإنجليزي لمصر 1882؛ وذلك لذبح الثورة العرابية لأنها كانت تشكل خطرًا على المشروع الاستعماري الأوروبي بأكمله وقد قال ذلك مباشرة وزير خارجية فرنسا في إطار تهنئته للإنجليز بهزيمة عرابي ، والأمر نفسه حدث في الاتفاق الودي الفرنسي الإنجليزي عام 1904 والذي ضربت فيه فرنسا الحركة الوطنية المصرية في ظهرها بعد أن أظهرت لها التأييد قبل ذلك وهو نفسه ما يفسر الموقف الفرنسي "الضمير الفرنسي المطاط" في الموقف من العراق منذ عام 1990 وحتى الآن والموقف الألماني مؤخرًا والموقف الروسي "السوفيتي" عام 1967..، وغيرها من الأمور التي تبدو غير مفهومة بعض الوقت ما لم يتم وصفها في إطار نظرية التناقضات الثانوية التي تزول أمام التناقض الجوهري وهو التناقض بين الحضارة الإسلامية ككل والحضارة الغربية ككل!
صناعة خارجية مرفوضة
بقي أن نقول إن تلك المبادرات تأتي بطريقة فوقية، فلا الشعوب شاركت في مناقشتها - وهذا طبيعي - ولا حتى الحكومات الصديقة للغرب تم استشارتها وهذه إهانة لها! وهي مبادرات على طريقة القص واللصق، ومهما كانت النية وراءها؛ فإن الجسم العربي الإسلامي سيرفضها بالضرورة بحكم التكوين الحضاري والثقافي وبحكم الحساسية التاريخية وبحكم أنها صناعة خارجية.
=============(19/88)
(19/89)
الولايات المتحدة وديمقراطية الأنابيب من المغرب إلى باكستان!
إدريس الكنبوري 12/1/1425
03/03/2004
أعلنت الإدارة الأمريكية يوم 9 فبراير على لسان الرئيس الأمريكي جورج بوش عن وضع مشروع جديد أطلقت عليه تسمية"الشرق الأوسط الكبير"، من أجل دمقرطة المنطقة العربية والعالم الإسلامي وتطوير الحالة السياسية فيهما، والدفع بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وبالإطلاع على النص الكامل للمشروع، يتضح لنا بأنه لا يختلف كثيرًا عما طرحه قبل عامين كل من "ريتشارد هاس" مدير إدارة التخطيط في الخارجية الأمريكية، وكولن باول كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية، باسم "مبادرة الديمقراطية" في العالم العربي، ويمكن ملاحظة أوجه الاختلاف بين المشروعين السابقين والمشروع الحالي في نقطتين:
ـ النقطة الأولى: أن مشروع بوش يأتي قبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سيخوض فيها الرئيس الجمهوري منافسة قوية مع غريمه الحزب الديمقراطي، وهو لذلك يريد إقناع الرأي العام الأمريكي بأنه يحمل مشروعًا شاملاً لتغيير منطقة الشرق الأوسط، وأن احتلال العراق لم يكن سوى الحلقة الأولى في هذا البناء الكبير، ومن ثم فإن هذا الاحتلال مشروع من هذه الناحية، وهو رد غير مباشر على الحملة التي يواجهها بوش حاليًّا بعد انكشاف الأكاذيب المخابراتية بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
ـ النقطة الثانية: أن المشروعين السابقين كانا مشروعين أمريكيين، دعوة وتنفيذًا، وقد لقيا لهذا السبب اعتراضًا قويًّا من لدن بلدان الاتحاد الأوروبي، خاصة تلك التي كانت تعارض الحرب على العراق، أما المشروع الحالي فتريد الإدارة الأمريكية إشراك الاتحاد الأوروبي ومجموعة الثمانية الكبار فيه، وسوف تقدمه لقمة هذه الأخيرة التي ستعقد في يونيو القادم بالولايات المتحدة الأمريكية، للحصول على دعم أعضائها، كما أن المشروع يتضمن عدة إشارات إلى هذه الدول باعتبارها مسؤولة عن تطبيق ما ورد فيه ورعاية تنفيذه وتحمّل جزء من تمويله.
لكن مشروع بوش لا يختلف كثيرًا من حيث مضامينه عن مشروعي هاس وباول، فهو استمرار لهما في الروح التبشيرية التي انطلقا منها، كما يشترك معهما في القناعة بأنه لا بد من تغيير الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة.
مفهوم الشرق الأوسط الكبير
يعتبر المشروع أن مفهوم الشرق الأوسط الكبير، مع زيادة هذه الصفة إليه، يقصد به عموم المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، ولكنه يدخل فيه البلدان الإسلامية الأخرى غير المحسوبة على الشرق الأوسط مثل باكستان وإيران وتركيا وأفغانستان، وبطبيعة الحال الكيان الصهيوني الذي يعتبره المشروع جزءًا من الشرق الأوسط الكبير، مع ملاحظة أنه يعتبر الكيان الصهيوني البلد الديمقراطي الوحيد في هذا المحيط الجيوـ سياسي، ويهم المشروع كامل المنطقة التي تمتد من المغرب إلى باكستان.
مثل هذا المفهوم للشرق الأوسط لا بد أن يذكرنا بمفهوم آخر سبق وأن تم التسويق له على نطاق واسع في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، بعد المؤتمر الاقتصادي الشهير للشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي عقد بمدينة الدار البيضاء عام 1994، وهو"الشرق الأوسط الجديد"، والذي كان قد بشر به وزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت شيمون بيريز الذي شارك في المؤتمر إلى جانب رئيس الوزراء المغتال أسحق رابين. ولكن مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي نادى به بيريز في كتاب له بنفس العنوان كان ذا أبعاد اقتصادية صرف، الهدف منه تحويل الكيان الصهيوني إلى دولة طبيعية في المحيط العربي من خلال آليات العمل الاقتصادي والتجاري المشترك مع البلدان العربية، وقطف ثمار التطبيع الاقتصادي الذي بدأ ينشط بعد توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، بينما مفهوم الشرق الأوسط الكبير يتسع ليأخذ أبعادًا شاملة تصب في الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية، وتشكل الولايات المتحدة محورًا له.
النواقص الثلاث
ينطلق المشروع الأمريكي الجديد في تسويغ مطالبته بالإصلاح السياسي والاقتصادي في العالم العربي والإسلامي من تقريري التنمية البشرية العربية لعامي 2002 و 2003 الذين شخصا مواضع الأزمات في المجتمعات العربية وعوامل التخلف فيها، من ذلك مؤشرات التنمية الاقتصادية ومستوى الدخل الفردي ونسبة الأمية وغياب الديمقراطية وضعف المشاركة السياسية والفساد السياسي وغياب حرية التعبير وتبعية الإعلام الرسمي وغياب مجتمع المعرفة والمعلومات والفقر والبطالة، وهي ظواهر حقيقية يعيشها العالم العربي ولا يمكن التغافل عنها.(19/90)
ويرى المشروع أن هناك نواقص ثلاث يعتبر أنها" تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية"، وهي: الحرية والمعرفة وتمكين النساء، ويضيف أنه "طالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة"، وبعد أن يورد بعض الإحصاءات والأرقام الواردة في تقريري التنمية البشرية العربية المشار إليهما أعلاه، يقرر بأن"المنطقة العربية تقف عند مفترق طرق"، ليستنتج بأن"البديل هو الطريق إلى الإصلاح".
ما هي مرتكزات الإصلاح؟
يتضمن المشروع ثلاث أعمدة رئيسة ترتكز عليها خطة تغيير منطقة الشرق الأوسط الكبير:
ـ تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.
ـ بناء مجتمع معرفي.
ـ توسيع الفرص الاقتصادية.
وتعتبر هذه بمثابة الأولويات الضرورية لتغيير وتنمية المنطقة، حسب واضعي المشروع؛ "فالديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية"، ويدعو المشروع في إطار تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح في العالم العربي إلى تنظيم انتخابات حرة، وتنظيم زيارات متبادلة على الصعيد البرلماني بين هذه البلدان ودول مجموعة الثماني التي يدعوها المشروع إلى تبني أطروحاته وتمويل مشاريع الإصلاح في المنطقة العربية، ورعاية معاهد لتدريب النساء على القيادة السياسية، وتقديم المساعدة القانونية للناس العاديين. كما يدعم المشروع مبادرة تطوير وسائل الإعلام المستقلة والحرة في العالم العربي، وتنمية دور المجتمع المدني.
أما على صعيد بناء مجتمع معرفي؛ فالمشروع يرى أن الفجوة المعرفية في المنطقة العربية ونزيف الأدمغة يشكلان تحديًا لآفاق التنمية فيها، لذلك فهو يدعو إلى دعم التعليم الأساسي وتعميمه والقضاء على الأمية، وتحديث التعليم بحيث يواكب التطورات التكنولوجية الحالية، داعيًا إلى إنشاء ما أسماه "مدارس الاكتشاف" أسوة بالأردن، ويدعو المشروع في نفس السياق إلى عقد قمة خاصة بإصلاح التعليم في المنطقة في شهر مارس الجاري أو أبريل المقبل، قبل انعقاد قمة دول الثماني في شهر يونيو القادم.
وفيما يتعلق بالشطر الثالث من مبادرة الإصلاح الخاص بتوسيع الفرص الاقتصادية، يلح المشروع على تجسير الفجوة الاقتصادية بين بلدان الشرق الأوسط الكبير، عبر إحداث تحولات اقتصادية تشبه في مداها ما حدث في البلدان الأوروبية الشرقية الشيوعية، وإطلاق قدرات القطاع الخاص، ويدعو البلدان الثمانية الأوروبية المتقدمة إلى دعم وتمويل ما يسميه"مبادرة تمويل النمو" التي تقوم على مشاريع الإقراض الصغيرة وإنشاء "مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير" تقوم دول الثماني بالمساهمة في تمويله، وهدفه تمويل مشروعات التنمية في المنطقة، كما يدعو إلى إنشاء"بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير" على غرار البنك الأوروبي للإعمار والتنمية، لمساعدة الدول الراغبة في الإصلاح على توفير الاحتياجات الأولية للتنمية ( نشير إلى أن مشروع بيريز الذي أشرنا إليه أعلاه دعا إلى إنشاء بنك خاص بشمال إفريقيا والشرق الأوسط تقوم دول الخليج بتمويل القسط الأوفر فيه).
المشروع والخلافات الأوروبية ـ الأمريكية
كما سبق القول، لا يختلف المشروع الحالي لدمقرطة العالم العربي وتغييره عما طرحه مدير إدارة التخطيط في الخارجية الأمريكية ريتشارد هاس في 4 ديسمبر 2002 حول"المزيد من الديمقراطية في العالم العربي"، ووزير الخارجية الأمريكي كولن باول في 12 ديسمبر 2002 بعده بأيام حول مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط، وما طرحه الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطابه يوم 6 نوفمبر 2003 أمام"الصندوق القومي للديمقراطية"، ولكن الجديد في المشروع الأخير هو أن الولايات المتحدة تريد تقسيم الأدوار بينها وبين الاتحاد الأوروبي والبلدان الصناعية الكبرى، عبر إيكال بعض الأدوار إليها، لا تتجاوز التمويل وبعض التقنيات التي لا تمس بجوهر المشروع، بمعنى أن الإدارة الأمريكية تريد لمخطط إصلاح العالم العربي أن يكون أمريكي الصنع أوروبي التسويق والتمويل.
إن واشنطن من خلال رغبتها في إشراك الأوروبيين في مشروعها، تريد أن تعطي دفعًا أكبر له وتأييدًا دوليًّا أوسع لأهدافه، وهي بذلك تحاول في نفس الوقت كسب أوروبا إلى جانبها بعد الفجوة التي اتسعت بينهما منذ ما قبل الحرب على العراق في أبريل من السنة الماضية، خاصة فرنسا وألمانيا، وأن تظهر للبلدان الأوروبية بأنها لا ترغب في أن تستحوذ لوحدها على المنطقة، ولكنها تمنح لها فرصة للمشاركة في تشكيل مستقبل بلدانها، من خلال الإحالة في إحدى الفقرات على مسلسل برشلونة الأوروبي ـ متوسطي لعام 1995، على الرغم من أن ما هو مخول لأوروبا لا يتجاوز الجوانب المالية والفنية، كما تفعل الولايات المتحدة دائمًا في منطقة الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني ـ الصهيوني، حيث تكون مبادرات التسوية السياسية أمريكية، وتمويل الإعمار والبناء أوروبيًّا.(19/91)
وقد وضعت ألمانيا في السابع من فبراير الماضي، بعد اطلاعها على المبادرة الأمريكية، مبادرة جديدة لتشكل نواة لمبادرة أوروبية أوسع تخص التغيير في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، وركزت المبادرة الألمانية على الاعتبارات الأمنية في المنطقة التي تشكل خطرًا على الأمن الأوروبي والأمريكي، وهو ما يوحي بأن هناك تقاربًا أمريكيًّا ـ أوروبيًّا قيد التبلور فيما يتعلق بمبادرات الإصلاح السياسي في العالم العربي. ويوم السبت الماضي، انطلقت في بروكسيل مناقشات فرنسية ـ ألمانية بمشاركة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية خافيير سولانا بشأن ورقة عمل تتعلق بالشراكة الاستراتيجية مع الشرق الأوسط، سوف تتم مناقشتها في إطار أوروبي أوسع، قصد وضع تصور أوروبي مشترك قبل انعقاد قمة البلدان الثمانية بين 8 و 10 يونيو القادم، والتي سيقوم فيها جورج بوش شخصيًّا بطرح مشروع "الشرق الأوسط الكبير" فيها، كما أن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد سيدافع عن الجوانب الأمنية في المشروع في قمة دول حلف شمال الأطلسي التي ستنعقد يومي 28 و29 يونيو في استانبول بتركيا. غير أن الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة فرنسا وألمانيا، ما زلت متسعة فيما يخص هذه المبادر؛ فأوروبا ترى أن المطلوب أولاً إنهاء ملف الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي المسؤول عن توتر المنطقة، وطي الملف العراقي بزوال القوات الأمريكية وتفويض السلطة للعراقيين.
العرب أمام التحدي الجديد
رفضت بعض الدول العربية حتى الآن المشروع الأمريكي الداعي للتغيير السياسي والاقتصادي، بدعوى أنه يحاول الإتيان بالتغيير من الخارج وفرضه قسرًا على البلدان العربية، ووقعت الحكومتان السعودية والمصرية بيانًا رفضتا فيه الخطة لكونها مفروضة وتتجاهل الخصوصيات العربية، والتحقت سوريا بهما لاحقًا، لكن كاتب الدولة الأمريكي في الخارجية كولن باول رد على هذه الاعتراضات بأن واشنطن" لن تقترح أبدًا خطة إصلاحات قادمة من الخارج"، وقال في الأسبوع الماضي في تصريحات له بأن كل ما تحاول الولايات المتحدة القيام به هو مساعدة هذه الدول على الإصلاح "بالطريقة التي يختارونها".
الإدارة الأمريكية أوفدت مبعوثًا خاصًّا إلى بعض الدول العربية هو مارك غروسمان وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، الذي بدأ جولة له في بلدان المغرب والمشرق العربي يوم الأحد الماضي بهدف طرح المبادرة الأمريكية على زعماء هذه الدول قبل انعقاد القمة العربية المقررة في العشرين من الشهر الجاري بتونس، وكانت بعض البلدان العربية قد أكدت بعد الاطلاع على الوثيقة الأمريكية بأن هذه الأخيرة يمكن أن تعرض للمناقشة في القمة إذا رغبت الدول العربية، ويبدو أن غرض جولة غروسمان هو فرض المشروع على القمة العربية لتتم مدارستها رسميًّا. وغروسمان هو المسؤول الأمريكي الثاني الذي يزور المنطقة العربية للترويج للمشروع، بعد الجولة التي قام بها ألان لارسون مساعد كاتب الدولة في الشؤون الاقتصادية والزراعية في الأسبوع الماضي.
هذه هي ديمقراطية الأنابيب الصناعية التي تريد الولايات المتحدة إنزالها من أعلى على بلدان العالم العربي وزرعها في جسمه، وهي تطرح تحديًّا جديًّا على العالم العربي والإسلامي الذي لم يعد يملك زمام أمره، وتفرض عليه بالتالي الاختيار بين نوعين من التغيير: التغيير من الداخل، أو التغيير القادم من الخارج والمفروض بالقوة والتهديد وربما بوسائل أكثر بشاعة. ويمكن القول إن هذه المشاريع الأمريكية المتعددة والمتوالية، وآخرها مشروع الشرق الأوسط الكبير، قد رسخت لدى القيادات والنخبة العربية قناعة مفادها أن المنطقة قد أصبحت اليوم في مرمى الاستهداف الأمريكي والغربي، ولكنها أيضًا رسخت قناعة أخرى من الضروري التجاوب معها، وهي أن الإصلاح بات مطلبًا ضروريًّا، وأن تفادي المخاطر الخارجية ينطلق من الإنصات للدعوات الداخلية بالتغيير.
والواضح أن المشروع الأمريكي يكتسي الكثير من النفاق، فهو يتجاوز المشكلات الرئيسة في منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني والاحتلال الصهيوني لفلسطين، وما يحدث في العراق يقدم الدليل حسب العديد من الملاحظين الأوروبيين على فشل الولايات المتحدة في إرساء الديمقراطية التي تنادي بها، علمًا بأنها تدّعي بأن العراق سيكون اللبنة الأولى في بناء الشرق الأوسط الجديد الذي تدعو إليه.
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- الهجوم على أشخاص أو هيئات.
2- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
3- لايناقش فكرة المقال تحديداً.
4- إذا كان جهازك لا يدعم العربية اضغط هنا لوحة المفاتيح العربية
…
أضف تعليقك
الاسم …
البريد الإلكتروني …
البلد …
التعليق …علق على الموضوع على ان لايتجاوز تعليقك 200 كلمة
الحروف المتبقية
أدخل رمز التأكيد …
راسل مشرف النافذة …اطبع الصفحة …أرسل لصديقك
…الإسم:ابو البنات(19/92)
البلد: خميس مشيط
التوقيت: 06:11 AM
التاريخ: 09/03/2004 …
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين .......أمابعد
فإنماأصاب الأمة الإسلامية من هوآن وضعف هونتيجة بعدها عن منهج الله الذي رسمه لهذاالكون وسعا في بيان سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قالقي الحديث الشريف "إذا تبايعتم بالعينةوأذتم أذناب البقرورضيتم بالزرع وتركتم الجهادسلط الله عليكمذلاٍٍ لاينزعه حتى تعودوا الى دينكم......أوكماقال عليه الصلاة والسلام فلمافعلناهذه الامورالتي حذرنا منهاوقعنا في الذل "من الاعداء "ولن يرفع هذا الذل إلابالعودةالىالله عز وجل... والله تعالى اعلموصلى الله على نبينا محمدوعلى آله وصحبه أجمعين
…الإسم:ابوهتون
البلد:
التوقيت: 06:09 AM
التاريخ: 08/03/2004 …
الحرب على الاسلام بعد انهيار الشيوعية روج اليهود لها في امريكا منذ عقود.. ولها طابع الحرب الباردة مع استخدام القوة عند الحاجة بسبب عدم وجود قوة ردع عسكرية... وارى امكانية هزيمتهم ولكن نحتاج الى خطة اسلامية استراتيجية ذات طابع طويل 20 سنه ودون شك ان ركائز هذه الخطة يجب ان تستمد من كتاب الله واليك هذه الامثله التي اعتقد انها ركائز:
1- الاجتماع لقول الله عز وجل(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌِ)
2- العدل ركيزه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَِ)
علماء المسلمين بجميع فئاتهم يجب عليهم الاجتماع والاعتماد على اليات التصحيح التي لا تؤدي الى فرقتهم ومن يستمع اليهم.. اجتماعهم يعني اجتماع العموم وهذا بحد ذاتيه بعطيهم قدرة على الضغط والتأثير ويرهب القلة التي تسعى الى هدم القيم الاسلامية..
=================(19/93)
(19/94)
البعد الثقافي في مشروع الشرق الأوسط الكبير (1/2)
الديمقراطية والتحديث في خدمة مصالح الدول الكبرى
محمد سليمان أبورمان 15/1/1425
06/03/2004
يؤكد مشروع الشرق الأوسط الكبير - الذي قدّمته مؤخرًا الولايات المتحدة لقمة الدول الثماني ( كورقة عمل لشراكة أطلسية اتجاه الشرق الأوسط ) - ما ورد في تقارير ووثائق سابقة صادرة عن المؤسسات الرسمية والبحثية الأمريكية حول التحول في التصور الاستراتيجي للسياسة الأمريكية الشرق أوسطية، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
ولا يخرج مضمون الوثيقة الجديدة في إطاره الكلي عن الوثائق السابقة، من حيث التركيز على عمل الولايات المتحدة باتجاه إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم العربي، إلاّ أنه يوسع من النطاق الجيوسياسي للمنطقة ليشمل الإقليم الممتد من إندونيسيا إلى المغرب العربي. ومن ناحية ثانية؛ فإنه يربط بشكل وثيق بين الإصلاح الثقافي وتحديث البنية الاجتماعية العربية؛ بل والتركيز على عنصر " النساء " داخل هذه البنية.
في هذا السياق يبرز التساؤل حول جدية الولايات المتحدة ومصداقيتها في طرح موضوع الإصلاحات، والفلسفة السياسية التي تكمن وراء الربط بين الإصلاحات المطلوبة والمصالح الحيوية للغرب في العالم العربي بشكل خاص والإسلامي بشكل عام، وأخيرًا أثر هذا التوجه على الواقع العربي والاحتمالات المتوقعة..
الدروس المستفادة أمريكيا من أيلول وأثرها على السياسة الشرق أوسطية
شكلت أحداث أيلول نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية إذ إن " المحافظين الجدد " وجدوا من خلالها الفرصة سانحة لتنفيذ أحلامهم الإمبراطورية بالهيمنة على العلاقات الدولية انطلاقًا من فرضية تمثل عقيدة لديهم تقوم على مفهوم " الاستثناء الأمريكي " وعبء الرجل الأبيض، كما أن تصوراتهم مسكونة بهاجس بقاء أمريكا القوة الوحيدة وتحقيق ما يسمونه " السلام الأمريكي " على غرار " السلام الروماني".
فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، والمثقفون والمفكرون الأمريكان يجرون عملية مراجعة جذرية للسياسة الخارجية الأمريكية، وللنظريات الاستراتيجية السابقة، وقد تنوعت وتعددت اتجاهات مراكز التفكير في هذا السياق، وأنجزت المراكز المرتبطة بالمحافظين الجدد مجموعة من الدراسات التي تضع معالم استراتيجية أمريكية تحمل العقائد السابقة، وقد حاولوا تمرير بعضها في فترة الرئيس كلينتون إلاّ أنهم لم ينجحوا. ومع وصول الرئيس بوش إلى السلطة تحول المحافظون الجدد من التأثير على صناعة القرار إلى سدة القرار، ووجدوا في أحداث أيلول الفرصة المناسبة لتمرير هذه المشاريع، ومن خلال نظم استراتيجي لها وهو " الحرب على الإرهاب ".
لقد طورت وصيغت تصورات المحافظين الجدد بعد أحداث سبتمبر مباشرة وبدأت تصبغ السياسة الخارجية الأمريكية، ومن أبرز المناطق التي تأثرت بهذه التصورات هي منطقة الشرق الأوسط؛ إذ بدأ الخبراء الأمريكيون بمراجعة كبيرة للسياسة الأمريكية في هذه المنطقة، ليتوصلوا إلى نتيجة رئيسة وهي: أن واشنطن ارتكبت خطأً كبيرًا بدعم الأنظمة القمعية في المرحلة السابقة، هذه النتيجة أكدها مارتن إنديك - الخبير الأمريكي المعروف - عندما اتهم النظم العربية بأنها فشلت في تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها، وأنها قمعت هذه الشعوب، والتي وجدت في عداء الولايات المتحدة مجالاً للتنفيس عن حالة الإحباط والغضب من الأوضاع السياسية والاقتصادية. ( انظر تصريحه في الجزيرة نت 11/10/2001 )، ووافق الرئيس بوش نفسه في خطاب له بتاريخ ( 6/11/2003 ) على الملاحظة السابقة عندما أعلن فيه أن خطأ واشنطن في المرحلة السابقة تمثل بدعم الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط.
وقد توافقت كثير من مراكز الدراسات وبنوك التفكير الأمريكية مع الرؤية السابقة؛ فعلى سبيل المثال في مقال للباحث الأمريكي ميكائيل كلير Michael Kla r e بعنوان " Asking Why " في مجلة Fo r eign Policy in Focus ( سبتمبر 2001 ) - بعد أحداث أيلول مباشرة - تساءل فيه عن السبب في إقدام حوالي عشرين شابًّا من العالم العربي على قتل أنفسهم من خلال تدمير الطائرات وقتل آلاف البشر؟ ووصل إلى نتيجة رئيسة: وهي أنّ دعم الولايات المتحدة للحكومة السعودية في المرحلة السابقة قد ولّد هذا الغضب الشديد، وبدلاً من توجه العداء نحو حكومة المملكة توجه إلى الخارج من خلال الإرهاب الدولي وتنظيم القاعدة بقيادة السعودي ابن لادن.(19/95)
ولقد نالت المملكة العربية السعودية قسطًا وافرًا من حملة الدعاية الأمريكية، واعتبر عدد كبير من المفكرين والخبراء الأمريكان أن المجتمع السعودي هو محضن الخلايا الإرهابية؛ نظرًا لطبيعة الظروف السياسية الداخلية وطبيعة التعليم الديني والثقافة [ الوهابية ] المنتشرة فيه، وحظي الفكر الوهابي بجزء كبير من الحملة السياسية والإعلامية الأمريكية؛ فمن أكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة السابقة كان كتاب " مملكة الكراهية " The Hat r ed's Kingdom How Saudi A r abia Suppo r ts the New Global Te r ro r ism " لمؤلفه دور جولد Do r e Gold ، والمؤلف هو سفير إسرائيل السابق في الأمم المتحدة ، وهو رئيس مركز القدس للشؤون العامة، وشغل منصب مستشار لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (بنيامين نتنياهو)؛ وقد تناول الباحث في الكتاب تاريخ الحكومة السعودية وربط بينها وبين أموال النفط والإرهاب الدولي والعقيدة الوهابية ، مفردًا فصولاً خاصة عن العقيدة الوهابية ودورها في تعبئة المجتمعات العربية والإسلامية بالأفكار المعادية للغرب والتي تنشر البغض والكراهية ضد المجتمعات غير المسلمة، وطالب جولد في نهاية كتابه الحكومةَ السعوديةَ بإثبات جديتها في محاربة الإرهاب من خلال تجميد الأموال التي تدعم من خلالها الحركات الإسلامية، وأيضًا بإجراء إصلاحات تعليمية بنيوية والتخلص من رواسب الفكر الوهابي في مناهج التعليم.
حسنًا.. من خلال النتائج السابقة إلى أي شيء وصل الساسة الأمريكان؟ وإلى ماذا انتهت عشرات الأسئلة والأبحاث الأمريكية التي صدرت بعد أحداث أيلول؟
لقد تمخضت الجدالات والدراسات والخلاصات عن نتائج أساسية بنيت عليها كثير من التصورات الاستراتيجية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، وأهم هذه النتائج أن الخطر الكبير الذي يهدد المصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط هو الأصولية الإسلامية ، وأنّ الحلول الأمنية التي اتخذتها الدول العربية والولايات المتحدة لن تؤتي ثمارها؛ لأن الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها البلاد العربية هي التربة التي تنبت فيها بذور الإحباط والغضب وخيبة الأمل، والتي تستثمرها الحركات الأصولية لتجنيد الأعضاء وتكوين الخلايا، وما دامت هذه الظروف موجودة؛ فإنها مرشحة لتفريخ الإرهابيين والمتطرفين الإسلاميين، وبالتالي لا يمكن القضاء على الإرهاب دون إحداث تغييرات جذرية في أوضاع العالم العربي والإسلامي؛ تتمثل هذه التغييرات بنشر الديمقراطية والتحولات الاقتصادية نحو الخصخصة واقتصاد السوق، وتغيير مناهج التعليم (خاصة التعليم الديني).
من هنا وصل الفكر السياسي الأمريكي إلى أن المعركة مع ما يسميه بالإرهاب الدولي ليست معركة عسكرية أو أمنية فقط؛ وإنما معركة شاملة. وما دام أن كثيرًا من الدول العربية تفتقد إلى الإرادة الجدية في إحداث تحولات سياسية واقتصادية خوفًا على مصالحها المبنية على الفساد السياسي وغياب الشفافية والرقابة؛ فإنّ على الولايات المتحدة أن تمارس ضغوطًا شديدة على الدول العربية لتلتزم بالمضي قُدمًا بالإصلاحات المطلوبة.
وأريد هنا أن أقتبس نصًّا للخبير الأمريكي زيجنو بريجنسكي يوضح لنا منطق الرؤية السابقة، ونصل من خلاله إلى المقدمات والأسباب التي جعلت الإدارة الأمريكية تربط بشكل رئيس بين الديمقراطية والإصلاحات الاقتصادية وبين محاربة الإرهاب (الأمر الذي ظهر في الوثائق الأمريكية فيما بعد)، قال بريجنسكي: " الحكومات الفاشلة هي التربة الرئيسة التي تولد التطرف الإسلامي ، والسياسات الخاطئة لهذه الحكومات هي التهديد الرئيس لمصالحنا الاستراتيجية، وقد فشلت الحكومات والأحزاب العلمانية في توفير أنماط مستقرة للتنمية الاقتصادية والبنية الأساسية اللازمة لإجراء تغيير اجتماعي ضخم " [انظر زيغنو بريجنسكي ، السياسة الخارجية الأمريكية : تحديات القيادة في القرن 21 ، مجلة شؤون الأوسط ، كانون الأول كانون الثاني 1999].
إذًا ماذا على الولايات المتحدة أن تفعل؟ .. إنّ عليها أن تدفع الأنظمة العربية باتجاه الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والخصخصة وسياسات السوق وإصلاح الأنظمة التعليمية ...إلخ.
وهنا يثار تساؤل موضوعي حول جدية الولايات المتحدة في الدعوة إلى الديمقراطية، خاصة أن الديمقراطية والانتخابات النيابية تأتي في كثير من الأحيان بحركات معارضة لها إلى السلطة خاصة الحركات الإسلامية، وربما هذه الإشكالية هي التي جعل منها روبرت ساتلوف معضلة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، أو ما سماه بـ"الإسلام المعتدل أو الانتخابي"، ويتأسس هذا التساؤل على منطق محكم: وهو أن الولايات المتحدة تدفع العالم العربي إلى الديمقراطية في إطار مواجهتها للحركات الإسلامية؛ فكيف يمكن أن تطالب بالديمقراطية التي تأتي بهذه الحركات؟!(19/96)
بلا شك فإن الولايات المتحدة لا ترحب بالديمقراطية التي تأتي بالحركات الإسلامية الراديكالية - وفق التصنيف الأمريكي -، وبالتالي فإن الديمقراطية التي تريدها أمريكا هي الديمقراطية الليبرالية، وهي "ديمقراطية مشروطة" تفتح المجال للانتخابات النيابية ومحاربة الفساد السياسي وحرية التعبير، ومؤسسات المجتمع المدني، والحريات العامة والشخصية، ومصاحبة ذلك للتحول الاقتصادي نحو القطاع الخاص والاندماج في السوق العالمية، بناء على فرضية رئيسة هي: أن التحولات الاقتصادية المطلوبة مع فتح المجال لمؤسسات المجتمع المدني وحرية التعبير والحريات العامة ستفتح المجال لتحول اجتماعي واسع من خلال تبدل وتغير ثقافة الناس واهتماماتهم، واتساع نطاق الفئات المجتمعية التي تتأثر بالثقافة الغربية ومقولاتها الفلسفية، ونمو نسبة المثقفين والكتاب والسياسيين والشباب الذين يرتبطون بالمؤسسات الغربية سواء على الصعيد الفكري أو السياسي، والذين سيصوغون الخطاب السياسي والإعلامي، وسيؤثرون على النسبة الكبيرة من الشباب العربي ( الذين يشكلون أكبر الفئات العمرية في المجتمعات العربية)، ويعملون على ملء الفراغ الفكري والثقافي لهم بدلاً من الحركات الأصولية، وهنا ينتقل ميدان مواجهة الحركات الإسلامية إلى داخل المجتمعات العربية، من خلال العمل على تجفيف منابعها الفكرية والتعليمية: (المساجد، المدارس الدينية)، ومن خلال التأثير على رافدها البشري ( شريحة الشباب)، أي محاصرتها في الداخل. والشق الرئيس في الحرب هو الجانب الثقافي والفكري أو بتعبير (رامسفيلد): " حرب الأفكار".
ما أردت أن أقوله من خلال النصوص والملاحظات والنتائج السابقة - بجمل محددة -: هو أنّ الهدف الحقيقي من وراء دعاوى الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي يتمثل في حفظ المصالح الحيوية الغربية بتغيير البنية الثقافية للمجتمعات العربية والمسلمة، وبالتالي فإنّ الولايات المتحدة وإن كانت تصر على الضغط على الأنظمة للمسارعة في التحولات المطلوبة؛ فإنّ تركيزها الأكبر هو على المجتمعات العربية وعملية التحول الثقافي فيها، الفكرة السابقة أكّدها وليام بيرنز بقوله: " إننا نشجع التغييرات البنيوية بعيدة المدى".
هذا التحول من الأنظمة إلى المجتمعات انعكس على اهتمام الدبلوماسية الأمريكية، والدعوات المختلفة التي صدرت عن خبراء أمريكيين بضرورة إجراء إعادة تكييف هيكلي وموضوعي لوزارة الخارجية لتتمكن من القيام بمهامها ومسؤولياتها الكبيرة في ظل التحول في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أحداث أيلول.
ضمن الجهود الأمريكية لدراسة حالة الدبلوماسية الأمريكية، وازدياد موجة العداء للولايات المحتدة في أنحاء العالم؛ شكّل مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك قوة مهام لدراسة الموضوع، وقد كتب هذا الفريق المكون من عدد من الخبراء المتخصصين تقريرًا بعنوان " العثور على صوت أمريكا : استراتيجية لإعادة تنشيط الدبلوماسية العامة في العالم العربي " ( 9/ 2003 ) ، كما شُكّل فريق آخر يرأسه الخبير الأمريكي المعروف إدوارد جرجيان وخلص إلى مجموعة من التوصيات قدّمها في تقرير بعنوان " تغيير العقول لكسب السلام " ( 10 /2003 ) ؛ والذي يعنينا في التقريرين السابقين هو تأكيدهما على ضرورة الاهتمام بالتواصل مع المجتمعات العربية والمسلمة ، ومد جسور العلاقة مع الكتاب والصحفيين والمثقفين ، وفئات مختلفة داخل هذه المجتمعات، أو بعبارة أخرى الاهتمام بـ " الدبلوماسية الأهلية " في المرحلة القادمة .
الملاحظات والنتائج السابقة استوعبتها الوثائق الأمريكية الرئيسة الخاصة بسياسة الولايات المتحدة الجديدة تجاه الدول العربية؛ فقد أكدت وثيقة الأمن القومي الأمريكي على النية الصارمة لدى إدارة الرئيس بوش في ربط علاقتها بكثير من الدول بعملية التحول الديمقراطي والاقتصادي، كما ربطت الوثيقة المساعدات الاقتصادية بالتغييرات المطلوبة.
ثم جاءت مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط (ديسمبر 2002 ) وأكدت على إصرار الولايات المتحدة على قيام دول منطقة الشرق الأوسط بإصلاحات سياسية واقتصادية وثقافية . وفد نصت المبادرة على أن " أي معالجة للشرق الأوسط تتجاهل تخلفه السياسي والاقتصادي والتعليمي ستكون مبنية على رمال "، واستندت في دعوتها إلى الإصلاح وربطه بالنمو ومكافحة الإرهاب على المعلومات الواردة في تقرير التنمية الإنسانية عام 2002 .(19/97)
ربط مشروع الشرق الأوسط الكبير ( انظر : نص الوثيقة في صحيفة الحياة 13 فبراير 2004 ) بشكل وثيق بين مصالح الدول الكبرى وتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية / الاجتماعية المطلوبة من الدول العربية والإسلامية لمواجهة الإرهاب والتطرف ، واستندت الوثيقة بشكل مباشر على تقريري التنمية العربيين الصادرين عن الأمم المتحدة ( وقد قام بوضعهما باحثون عرب ) فقد ورد في نص المشروع : " يمثل الشرق الأوسط الكبير تحديًّا وفرصة فريدة للمجتمع الدولي ، وساهمت " النواقص " الثلاث التي حددها الكتاب العرب لتقريري التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003 - الحرية ، المعرفة ، تمكين النساء - في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة ألـ 8 ، وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة ، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة .." ، والجديد في الشرق الأوسط الكبير - وهو مشروع قدمته الولايات المتحدة كمقترح لشراكة أطلسية تجاه الشرق الأوسط - أنه ركز بالإضافة إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية على تحديث المجتمعات العربية والمسلمة وعلى إجراء تحول ثقافي فيها.
وإذا كانت الإصلاحات السياسية والاقتصادية جزءًا رئيسًا من الدعاية الأمريكية، فما هي طبيعة التحول الثقافي المطلوب، وما هي أهدافه ؟ .. فهل المطلوب نشر ثقافة الديمقراطية السياسية داخل المجتمعات العربية والمسلمة ، وبناء رأي عام يطالب بالحريات السياسية وبحقوق الإنسان ؟
وأنا هنا لا أريد أن أجعل هذا المقال في نقد الدعاوى الأمريكية بالديمقراطية والحرية، وفي الرد على هذا التقرير؛ فقد تولى هذه المهمة غيري من الكتاب والمثقفين، كما أنني أعتقد أن الإنسان العربي الأمي يستطيع أن يفند الدعاوى الأمريكية ، فالأمر جد واضح ، لكن أريد أن ألفت الانتباه في هذا السياق إلى خطورة الأمر ، وإلى مجموعة كبيرة من السياسات التي بدأت تطبق على أرض الواقع في كثير من الدول العربية خاصة في مجال التحول الثقافي المطلوب.
أعود لتساؤلاتي السابقة، لأقول: بالتأكيد إنّ الولايات المتحدة لا تهدف إلى بناء رأي عام يطالب بالديمقراطية أو ينادي بالحقوق السياسية للشعوب، فالرأي العام المقصود متوافر وبزخم شعبي وثقافي كبير، وهو نابع من رحم المعاناة اليومية للإنسان العربي، الذي ملّ فساد الحكومات وفشلها السياسي، والذي اكتوى بنار الاستبداد والتسلط وغياب الحريات وحقوق الإنسان.
إذًا: فما هي طبيعة التحول الثقافي وأبعاده في الرؤية الأمريكية، وما سر تأكيد تقرير الشرق الأوسط الكبير على العمل على تحديث المجتمعات العربية؟
أدع الجواب عن هذا السؤال للخبير الأمريكي انغلهارت في مقال له في مجلة Fo r eign Policy ( عدد أكتوبر 2003 / النسخة العربية ) بعنوان " الصدام الحقيقي للحضارات "، إذ استند مقال انغلهارت على فكرة رئيسة ، وهي : أنّ صموئيل هانتنجتون في أطروحته حول صدام الحضارات قد أصاب نصف الحقيقة بأنّ الثقافة باتت أمرًا مهمًّا بالنسبة للشعوب في العالم ، وأنّ السمة الأساسية للصراع العالمي في المرحلة القادمة تكمن في الجانب الثقافي .
إلاّ أن المشكلة ليست كما ظن هانتنجتون مرتبطة بالقيم السياسية في العالم الإسلامي، فنتائج الاستطلاعات العالمية تظهر أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة أصبحت قيما مرغوبًا فيها ومطلوبة بشكل كبير في المجتمعات المسلمة ، لكن المشكلة الحقيقية تتمثل في المعتقدات الأساسية لهذه الشعوب المرتبطة بالثقافة الاجتماعية .
ووفقا لاستطلاعات رأي واسعة حللها انغلهارت ؛ فإن الشعوب المسلمة أقل تسامحًا تجاه المساواة بين الجنسين ، وحقوق المرأة ، والعلاقات الجنسية ، وحقوق المثلين ، بعبارة أخرى : فإن الصدام الحقيقي للحضارات هو صدام حول المفاهيم الجنسية السائدة في الحضارات ، والتي تعكس التباين القيمي الحقيقي في المعتقدات الأساسية.
وبعد أن ربط انغلهارت بين مستويات الإصلاح الثلاثة : السياسي والاقتصادي والثقافي ، أكد على أن التحولات الاقتصادية بالتحديد ستؤدي دورًا مهمًّا في التغيير الثقافي المنشود . ووصل في نهاية مقاله إلى استنتاج رئيس وهو : أن الوصول إلى الديمقراطية من خلال الإصلاحات المطلوبة والضغوط الأمريكية أمر ممكن ، لكن الحفاظ على الديمقراطية هو الأمر الصعب ، وبالتالي فإنّ " الالتزام الحقيقي بالإصلاحات الديمقراطية سيتم قياسه بالرغبة في تخصيص الموارد الضرورية لتعزيز التنمية البشرية في العالم الإسلامي . إنّ للثقافة تأثيرًا دائمًا على الكيفية التي تتطور بها المجتمعات . ولكن لا يمكن للثقافات أن تكون القدر المحتوم لهذه المجتمعات "، والمسكوت عنه في مقال انغلهارت السابق هو أن الإصلاح الأمريكي المطلوب يرتبط بتغيير ثقافي شامل وجذري في العالم الإسلامي.(19/98)
إنّ قراءة المقال السابق بشكل جيد، تضعنا - في رأيي الشخصي - على الطريق الصحيح في فهم الإصلاح الثقافي المطلوب ؛ إذ أن الجهود والرؤية الأمريكية لا تتوقف عند حدود القيم السياسية ، وإنما تتعداها كما هو واضح في مشروع " الشرق الأوسط الكبير " إلى المرأة وتحديث المجتمعات ، والتغير في مناهج التعليم ، ودور الانترنت والمجتمع المدني والفئات المختلفة في المجتمعات العربية ..إلخ .
من ناحية أخرى فإن التحولات السياسية والاقتصادية تجلب معها القيم الاجتماعية المرتبطة بها والمكونة من مفاهيم حاكمة على تصورات الإنسان وسلوكه الاجتماعي والأخلاقي. والحرية المقصودة بالدرجة الأولى هي الحرية الشخصية والاجتماعية وليست السياسية، والناظر في المجتمعات العربية التي دخلت في طور الخصخصة واقتصاد القطاع الخاص يجد تغيرًا ملحوظًا في الثقافة الاجتماعية، خاصة لدى فئات الشباب والعنصر النسائي، مع ولوج المرأة إلى سوق العمل والأماكن المختلطة إلى فترات ممتدة إلى الليل، أو مع تنشيط قطاع السياحة والخدمات العامة، ناهيك عن دور الإعلام المرسوم بدقة لتحقيق هذه الأهداف - كما سيأتي لاحقًا -.
إن تكامل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية المطلوبة أمريكيًّا في المجتمعات المسلمة، يعني خلق بنى اجتماعية تحمل تصورات ثقافية متأثرة بشكل كبير بالنموذج الأمريكي في نظرتها إلى الحياة والمجتمع وفي سلوكها الأخلاقي، وهذا الجانب من التأثير والهيمنة أخطر بكثير من الجانب العسكري المباشر، وهو الذي أطلق عليه الخبير الأمريكي جوزيف ناي مصطلح " القوة الناعمة " The Soft Powe صلى الله عليه وسلم
المشروع الأمريكي الطموح في الإصلاح الثقافي، وفي نشر النموذج الأمريكي في المجتمعات المسلمة والعربية، ليس جديدًا على الدبلوماسية والمؤسسات الأمريكية؛ بل هو امتداد للحرب الباردة الثقافية، التي بدأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ضد الاتحاد السوفيتي، ولكن هذه المرة ضد العدو الجديد وهو الحركات الإسلامية في حرب باردة ثقافية ثانية The Second Cold Wa r كما أشار إلى ذلك عدد من المفكرين الأمريكيين ( في وصف الحرب مع الحركات الإسلامية).
بناء على ما سبق؛ فإن الدبلوماسية الأمريكية بدأت بالفعل بالتوجه إلى المجتمعات العربية والمسلمة من خلال العديد من آليات العمل: البعثات الدراسية لنخب من المثقفين العرب، نشر الكتب والمجلات الأمريكية باللغات المحلية، دعم مؤسسات المجتمع المدني التي تتبنى القيم الليبرالية وتنشرها كمراكز الدراسات ومراكز حقوق الإنسان ، دعم الحركات النسوية ذات الطابع الليبرالي والتركيز على النساء في عملية الإصلاح المطلوب ، تعزيز التبادل الثقافي والمنح التي توجه إلى المثقفين والسياسيين لزيارة الولايات المتحدة ، دور المنظمات غير الحكومية في تنشيط المجتمع المدني باتجاه التغريب ، تقوية الارتباط بين عدد كبير من أصحاب الرأي والكتاب والمثقفين والصحفيين وبين المؤسسات الأمريكية، وتوزيع الجوائز والرشاوى المغدقة عليهم.
يضاف إلى ما سبق إنشاء مؤسسات إعلامية تنشر الثقافة الأمريكية وتتبنى رؤيتها السياسية في المنطقة، كإذاعة " سوا " وقناة "الحرة"، وعدد من المجلات المختلفة، بيد أن الغريب والملفت حقًا للانتباه في الفترة الأخيرة هو الدور المشبوه والخطير الذي تقوم به عدة محطات فضائية عربية ذات أصول تمويلية معروفة ببث برامج شبابية خطيرة جدًّا، تتضمن وجود مجموعة من الشباب والفتيات في منازل مشتركة لفترات طويلة تستمر إلى شهور يعيشون معًا، وتذوب بينهم الحواجز، ويصل الأمر إلى حد ممارسات لا أخلاقية ضمن البرامج. وهذه البرامج وجرأة الإقدام عليها وتماهيها مع المشروع الأمريكي - بالنسبة لي - محير، ويدفع إلى البحث والتفكير حول مُعدي هذه البرامج وأهدافها وخطورتها، وأنا أشير هنا إلى برنامج يقدم على قناة أل LBC بعنوان " ستار أكاديمي " ، وبرنامج يقدم على قناة MBC الثانية بعنوان " الأخ الأكبر " والغريب أن هناك فتيات خليجيات في البرنامجين ، على الرغم أن المجتمعات الخليجية مجتمعات محافظة ، كما أن البرنامج الثاني يصور في دولة البحرين ، مما أثار مشاكل كبيرة هناك ( انظر : صحيفة الحياة : الأخ الأكبر" ينذر باستجواب وزير الإعلام البحريني ، 25 /2/2004)، وكل هذا وذاك يدفع إلى أخذ مسألة التحول الثقافي بمنتهى الجدية .
وبعد ، ..
هل ستنجح الولايات المتحدة في تنفيذ مخططاتها في المنطقة؟ وهل ستتمكن من المضي قدما في التأثير على المجتمعات العربية والمسلمة؟ . في المقابل هل نرفض الإصلاح العام؛ لأن الولايات المتحدة تطالب به؟
بالتأكيد إن المرحلة القادمة خطيرة وحرجة وتتطلب وعيا من نوع خاص وعلى مستوى عال من أهل الفكر والثقافة والحركات والمؤسسات الإسلامية، وتتطلب أيضًا مراجعة جذرية وحقيقية لخطابنا الإسلامي وكثير من مفرداته، وكذلك الأمر أدواته ولغته ومنهج مخاطبة الناس، فلا يكفي نقاء الفكرة كي تصل إلى الناس فلا بد من توخي الحكمة من خلال اللغة والأسلوب وأدوات الخطاب المختلفة.(19/99)
إن فهم المشروع الأمريكي وأهدافه ومنطقة وأدواته سيساهم بشكل كبير في إدراك منهج التعامل معه، وهذا يقودنا إلى مطالبة المؤسسات الإسلامية البحثية بتشكيل فرق عمل لتقدم خططًا استراتيجية عملية ومنهجية للتعامل مع تحديات المرحلة والمستقبل القريب التي تواجه الأمة المجتمعات المسلمة، وبدون هذه الخطط سيبقى الجميع كحاطب ليل ! .
وخطورة الجانب الثقافي والاجتماعي في المشروع الأمريكي أنه يتحرك على نفس الأرض التي ينطلق منها المشروع الإسلامي؛ أي المجتمعات والإنسان المسلم، وبالتالي يسعى الساسة الأمريكان إلى نقل ميدان المعركة إلى الحصون الداخلية وإلى الجانب الأخطر المتعلق بالبعد النفسي والفكري، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تفكير عميق وطويل وقراءة متأنية قبل صوغ خطط العمل المطلوبة...
=============(19/100)
(19/101)
بوش والشرق الأوسط والخلطة السرية!
معاهدة هلسنكي جديدة ضد الأمة الإسلامية !
طلعت رميح 18/1/1425
09/03/2004
الخطة الأمريكية الجديدة التي جاءت هذه المرة تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير..لا جديد فيها على صعيد الشعارات.. فكل الشعارات الواردة فيها مثل: " التطوير الديمقراطي " و " الانتخابات " و"التنمية الاقتصادية " و "حقوق الإنسان " و"حقوق النساء" و"تغيير الأنظمة العربية " و"حرية الصحافة " .. سبق أن جرت على لسان المسؤولين الأمريكيين عدة مرات من قبل.. سواء في مبادرة كولن باول لتنمية وتعزيز الديمقراطية، أو في مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية التي طرحها بوش بعدها.. وكذلك كانت فكرة ربط " الديمقراطية" بالمساعدة الاقتصادية "التي وردت بتشديد وإلحاح في نص هذه الخطة.
ومع ذلك فإن هذه الخطة الجديدة تأتي مختلفة تمامًا عما سبق؛ بل هي تمثل " إعلانًا عن حرب شاملة".. وهو الأمر الذي دعا الكثيرين لتشبيهها بمعاهدة هلسنكي الموقع عليها في عام 1975، والتي على أساسها جرى صراع مفتوح بين الرأسمالية والشيوعية، انتهى بسقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي أو بالدقة انهيار التجربة السوفيتية وحلف وارسو.. وذلك نظرًا لأن المفهوم والمضمون والإطار الذي بنيت عليه الخطة الجديدة - مبادرة الشرق الأوسط الكبير - إنما هو نفس مفهوم ومضمون وأطر معاهدة هلسنكي.. ويزيد أنها تمثل رفعًا لدرجة الصراع بين الغرب والإسلام.. من درجة الخلاف بين الأنظمة وبعضها البعض ومن درجة الخلافات والصراعات على المصالح ..إلخ ، إلى درجة الصدام الحضاري الشامل وعلى أرضية صراع الحضارات.
وإذا كان المفهوم والمضمون الوارد في الخطة معروفًا ومفهومًا لكثرة الضجيج في الإعلام من تصريحات أمريكية أو لأنه مكرر من المبادرات السابقة؛ فإن إطار وآليات التنفيذ في الخطة الأمريكية الجديدة، يقوم هذه المرة على توافق واتفاق أمريكي ـ أوروبي.. اتفاق أطرافه وقواه وعناصر تنفيذ قراراته هي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي - أيًّا كان مستوى التنسيق والاتفاق ودرجته -على خوض حرب شاملة ، يحدد فيها كل طرف دوره وخطته ومهامه وفق قواعد ملزمة، وداخل أطر تنظيمية محددة، وهو ما يعني -إذا تم الاتفاق على المبادرة - نجاح الولايات المتحدة، في خطتها التي سعت إلى تنفيذها بجر أوروبا إلى هذه المواجهة، أو لنقل -بتعبير آخر-: إن الولايات المتحدة التي رأت أوربا تتحرك بعيداً عنها - في بعض الأحيان في مواجهتها -تحاول استعادة السيطرة عليها مرة أخرى ضمن رؤية لمواجهة العالم الإسلامي، فإذا كانت أوربا قد تحركت بعيدًا عن الخطة الأمريكية منذ أن انتهى الخوف من الخطر السوفيتي؛ فإن توقيع أوربا وانضمامها لهذه الخطة إنما يعني أن الولايات المتحدة من خلال استدعاء الخطر الإسلامي في استعادة أوربا أو نجحت في أن تعود أوربا تحت سيطرتها ، أو ضمن الخطة والاستراتيجية الأمريكية مرة أخرى . وهو ما يقلل من الفرصة التي أتيحت خلال المرحلة الماضية، لبروز خلاف مؤثر داخل الحالة الغربية، كان بالإمكان التعويل على بعض من فوائده عربيًّا وإسلاميًّا -في حالة وجود تنسيق إسلامي- وهو ما يعني ليس فقط أن الفجوة تضيق بين الولايات المتحدة وأوربا، والذي كان فرصة تاريخية ننفذ منها لدعم موقفنا في المواجهة وإنما هو تحالف غربي شامل بلا مواربة أو مناورات في مواجهة المسلمين.
وفي الإطار أيضًا.. فإن الولايات المتحدة ومن خلال تقديمها الخطة والسعي لاعتمادها من الدول الثماني الصناعية الكبرى -أو ما يسمى بحكومة العالم - فإنها تستهدف أولاً وأخيرًا وقبل كل شي ء أن يأتي الاتفاق على غرار اتفاقية (سايكس بيكو) التي كانت التتويج لنتائج الحرب العدوانية الأوربية الأولى.. أو على غرار اتفاقية مالطا التي جرى بمقتضاها تقسيم مناطق النفوذ في العالم في ضوء نتائج الحرب العدوانية الثانية .. وهو كله كما نرى يتخطى فكرة تغيير الأنظمة أو مواجهة "الحركات المقاومة " إلى فكرة إعادة التشكيل لمناطق النفوذ والسيطرة داخل هذه المنطقة تحت القيادة الأمريكية طبعًا، ومن خلال حرب شاملة يتم جر أقوى دول العالم خلالها إلى مواجهة مع الأمة الإسلامية الضعيفة والمفككة!.
بنود الاتفاقية(19/102)
أشرنا إلى أن الشعارات الرئيسة للخطة لا تخرج كثيرًا عن الشعارات السابق ورودها في الخطط الأمريكية السابقة؛ ومن ثم فإن الأهم والكاشف في نص المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الكبير، هو ما ورد من ثلاثة بنود في آخر المسودة وهي الأهم.. أو هي الكاشفة لجوهر المشروع؛ فالبند الأول منها يتضمن تعريف بالدول التى ستنضوي ضمن مشروع الشرق الأوسط العظيم؛ فيقول: "يشير الشرق الأوسط الكبير إلى بلدان العالم العربي زائدًا باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل. ويشير البند الثاني إلى البلدان التي تمثل أولوية في الفترة المقبلة في تنفيذ المشروع، فيحدد أن أفغانستان والجزائر والبحرين وإيران ولبنان والمغرب وقطر والسعودية وتونس وتركيا..أما البند الثالث فيشير إلى البلدان التي تقدمت بطلبات إلى منظمة التجارة العالمية، وهي لبنان والسعودية واليمن .. وأفغانستان وإيران..إلخ ، وإلى الدول التي طلبت منحها صفة مراقب مثل العراق.
ومن قراءة البند الأول يتضح أن الدول التي سيتم تشكيل الشرق الأوسط الكبير منها هي كلها دول إسلامية - كلها- ما عدا إسرائيل، والأخيرة هي الدولة الوحيدة التي سيتم "حشرها " ضمن هذا الإطار.. ولولا حشرها لكانت التسمية هي الدول العربية والإسلامية.. وهو ما يكشف عن أسباب بدء باكستان السير المستتر والمتردد والخجول والمناور في العلاقات مع إسرائيل في الفترة الأخيرة.. كما يكشف أيضًا لماذا كان الهجوم على العراق وأفغانستان باعتبارهما البلدين الرافضين من قبل لدخول القرن الأمريكي وخطة دمج إسرائيل في المنطقة..وهو يكشف لماذا كانت صيرورة العلاقات التركية الإسرائيلية على هذا النحو منذ فترة طويلة، وكيف كان التفكير الاستراتيجي بها.. ويكشف لماذا يستمر الهجوم على مصر والسعودية وسوريا ..إلخ . وقبل هذا وبعده هو يكشف أن الذي سيجري هو إنهاء فكرة العالم العربي وتأسيس منظومة جديدة تضم دول الجوار.. وهي في إجمالها دول قوية أو محورية (باكستان - تركيا - إيران - إسرائيل ) سينتج عن وجودها الآن وتحت الرعاية والضغط الأمريكي ومن خلال وجود الكيان الصهيوني، تغيير التوازنات في المنطقة العربية وإعادة رسم خريطة قوى جديدة..وإعادة رسم وتشكيل خريطة أوضاعها السياسية والاقتصادية والجغرافية بطبيعة الحال.. وبما يعني أن العالم العربي سيتم إغراقه في محيط أوسع منه - وهو غير موحد أو متضامن أو متوافق في داخله - بما يسمح بصنع محاور داخله وبما يغير وزن وأولويات قضاياه وبما يجعل قضايا أفغانستان والعراق وفلسطين ضمن دائرة إقليمية محكمة.
ترشيح إسرائيل كدولة محورية
وبمراجعة البند الثاني يتضح أن الأمر ليس فقط هو فرض تشكيل عام لضم دول المحيط إلى دول الداخل ضمن منظومة الشرق الأوسط الكبير..وليس فقط مستهدفًا وقاصدًا دمج إسرائيل على كل المستويات داخل الجسد العربي والإسلامي.. وإنما ذلك سيجري وفق خطة محددة من الخارج ترشح إسرائيل لكي تكون هي الدولة المحورية في تنفيذ عمليات التطوير والتغيير الديمقراطي داخل هذه الدول؛ فقد أشارت الخطة إلى أنه وفق "تقرير فريدوم هاوس للعام 2003؛ فإن إسرائيل كانت البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي صنف بأنه حر ".. وقد حدد هذا البند - الثاني - الدول التي سيجري فيها انتخابات خلال المرحلة القادمة ليتم تشكيل إطار لمتابعتها ومراقبتها وتشكيل مرجعية للفصل فيها وإنزال العقاب بشأنها بما يعني تشكيل هيئات تراقب وتتابع وتنفذ عمليات التغيير الداخلي.. أما البند الثالث؛ فهو يحدد الدول التي تريد الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية ليكون الأقطاب الصناعيون جاهزين لتحديد وتقسيم المصالح بشأنها، وإذا كانت الأمور قدمت في هذه البنود الثلاثة وفق رؤية معلوماتية؛ فإن بنود المبادرة توضح المقصود منها وفيها بدقة وبتحديد يندر أن يصدر بشأن دول ذات سيادة. حيث حددت آليات محددة للرقابة والتدخل والمتابعه والثواب والعقاب!
عوامل فشل الخطة
ثمة من يغمز من الطرف الأوروبي، في انتقاده للخطة وإيضاح عدم قابليتها للحياة بأن الولايات المتحدة حديثة العهد بلعبة الديمقراطية في العالم، أي في المستعمرات وأن ذلك هو جوهر الضعف في الخطة.
وثمة من يرى أن الولايات المتحدة، تفادت بصفة دائمة أن " تتولى حكم شعب آخر "، وأنها في كل نزواتها الاستعمارية، كانت الأشد قسوة في الحروب والاعتداءات إلا أنها كانت دومًا تأتي بعملاء لها، في كل بلد تطيح بحاكمه.. وتنهي احتلالها المباشر بسرعة إذا نجح عدوانها العسكري المباشر وهي لم تشز في ذلك سوى في فيتنام؛ فنالت هزيمتها، وهي الآن ترتكب خطأ فيتنام بالجملة.(19/103)
وفي المنطقة العربية يجري التركيز على عدم مصداقية الولايات المتحدة - كسبب لعدم إمكانية نجاح الخطة- بين جماهير الأمة العربية؛ بسبب موقفها المؤيد والداعم بصفة مطلقة للكيان الصهيوني ضد العالم العربي، ثم أكملت دورة عدائها بعدوانها على أفغانستان ثم العراق، وقد ضربت عرض الحائط " بالديمقراطية الدولية"، وبقرارات " المؤسسة الدولية " في عدوانها على العراق.. وأنها فرضت احتلالها بالقوة العسكرية والطائرات والمدافع تحت شعارات إقامة الديمقراطية، بينما الديمقراطية لا تبنى بالسلاح وإنما بالحوار.
لكن جوهر الخطأ الأمريكي، في التعامل مع العالم العربي الإسلامي، هو في واقع الأمر أخطر من كل ذلك. الخطأ الأمريكي الجوهري في الحديث عن مبادرة على غرار هلسنكي- هنا أوضح من فكرة أي مبادرة سابقة- هو أنها تخلط بين "نظام وضعي" بشري وبين دين سماوي ، إنها لا تدرك أن ما ينفع في المواجهة مع الاتحاد السوفيتي بنظريته الشيوعية أو الاشتراكية لا يجدي ولا ينفع مع دين سماوي ، وأنها حينما تتحدث عن إمكانية " زيادة أو نقصان أو خطأ من هذا الجانب أو ذاك في النظرية الماركسية .. شيء ، وأنها عندما تتحدث بنفس الطريقة فيما يتعلق بالإسلام شيء آخر لا يكون له نفس النتائج التي حققتها في الصراع ضد الشيوعية؛ بل سيكون له نتائج عكس ما تستهدف؛ فالإسلام عقيدة قرآن وسنة، به ما هو غير خاضع للتقييم والتقدير ، ولا للرأي ..لا من مسلم ولا من غيره.. ومن ثم فإن كل اقتراب لها من المنطقة تحت شعارات تجعل "الديموقراطية في مواجهة الإسلام " أو تطرح التعامل مع الإسلام باعتباره ظاهرة ثقافية أو اجتماعية يمكن تغييرها من صلب العقيدة؛ فإن ذلك لن يأتي سوى بضده.
=============(19/104)
(19/105)
د. حبيب: مبادرة الإخوان إصلاح شامل
حوار: رجب الباسل 22/1/1425
13/03/2004
- استبعاد الإخوان من الحوار أكد عدم وجود رغبة حقيقية في الإصلاح لدى النظام.
- المبادرة الأمريكية تهدف للتدخل في شؤون الأمة العربية والإسلامية وفرض الوصاية عليها.
- مبادرة الإخوان ليس مقصودًا بها إحراج أحد أو تحديًّا لأية جهة.
- لم نتصل بالنظام قبل الإعلان عن المبادرة.
- تطبيق الشريعة الإسلامية هو مطمحنا وأملنا.
أطلقت جماعة الإخوان المسلمون مبادرة للإصلاح الشامل في مصر يوم الأربعاء الماضي أحدثت ردود فعل واسعة داخل مصر وخارجها.. استندت المبادرة في طرحها على أن الشريعة الإسلامية هي الطريق الوحيد لإحداث نهضة شاملة في مصر، وأن ذلك يتطلب أيضًا إطلاقًا للحريات السياسية والاقتصادية في إطار الشرع لكي يتحققق الإصلاح المرجو من الداخل، وعلى أساس أجندة نابعة من ديننا وقيمنا قبل أن يفرضها علينا الأمريكيون بناء على تصوراتهم وقيمهم ومصالحهم.
التقينا الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام للجماعة، وطرحنا عليه تساؤلاتنا حول أسباب إطلاق المبادرة وأهدافها وفرص الاستجابة؛ لها فكان ذلك الحوار...
بداية د. محمد لماذا طرح الإخوان مبادرتهم للإصلاح السياسي الآن ؟
المشروع الذي أعلن عنه الإخوان يوم الأربعاء الماضي (3/3/2004م) بنقابة الصحفيين كان مشروعًا إصلاحيًّا شاملاً لكافة جوانب الحياة، وهو يطرح بهذا الشمول لأول مرة منذ مدة... أما المطالبة بالإصلاح السياسي فليس جديدًا، فقد طالبنا به منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وبخاصة أثناء الانتخابات النيابية في أعوام 84، 87، 90، 95، 2000م.
وقد كان بيننا وبين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة تنسيق في هذا الصدد حيث توجد قواسم مشتركة كثيرة يأتي على رأسها الحريات العامة وحق الأفراد والهيئات في إنشاء الأحزاب وإصدار الصحف والمجلات، وإيقاف العمل بقانون الطوارئ، وإلغاء كافة القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات والموسومة بأنها سيئة السمعة، وإلغاء المحاكم الاستثنائية، وضرورة أن يحاكم المواطن أمام قاضيه الطبيعي ، وإزاحة كافة المعوقات أمام مؤسسات المجتمع المدني ، وإجراء انتخابات نيابية حرة ونزيهة؛ تُعبر بحق وصدق عن إرادة الشعب وأن يتم ذلك تحت الإشراف القضائي الكامل بدءًا من تنقية جداول الناخبين وانتهاءً بإعلان النتائج. وبرغم هذا كله لم يحدث تجاوب من السلطة الحاكمة، وكل ما قامت به مؤخرًا من إصدار بعض القرارات هو تحصيل حاصل ونوع من التجمل لا أكثر، وخلال الأشهر الخمسة الأخيرة أقام الحزب الوطني حوارات مع قيادات بعض الأحزاب الأخرى، لكنها لم تتطرق إلى مسائل جوهرية كإيقاف العمل بقانون الطوارئ، أو إلغاء القوانين الاستثنائية... إلخ. وبالتالي جاء الحوار باهتًا؛ بل إنه وصل في الشهر الأخير إلى حالة من التجمد، الأمر الذي يوحي بأنه كان أمرًا شكليًّا قصد به التهدئة من جانب، والرد على المبادرات الخارجية من جانب آخر.
من ناحية ثانية تم استبعاد فصيل سياسي ودعوي وشعبي كالإخوان المسلمين لهم ثقلهم وتأثيرهم في الشارع السياسي من الحوار، وهو ما أكد عدم وجود رغبة حقيقية في الإصلاح، والحقيقة أن السلطة تتصرف من منطلق ومنظور شمولي تجاه الأحزاب والنخب والشعب، مثلاً: هل يعقل أن يتشكل مجلس قومي لحقوق الإنسان بالتعيين، ويعلم أفراده بذلك من خلال الصحف؟
وأخيرًا جاءت مبادرة الإدارة الأمريكية فيما أطلق عليه بمشروع الشرق الأوسط الكبير بهدف التدخل في شؤون الأمة العربية والإسلامية، وفرض الوصاية عليها وإلزامها بمطالب معينة لا تتفق وثوابت الأمة وأعرافها وتقاليدها بحجة إقامة الديمقراطية، وبناء مجتمع معرفي، وتوسيع الفرص الاقتصادية، ويبدو أن الإدارة الأمريكية ماضية في طريقها، عازمة على تنفيذ ما طرحته، وقد قامت بإشراك الدول الصناعية الثماني والتي سوف تتخذ موقفًا موحدًا في يونيو المقبل داعمًا ومؤيدًا للمبادرة الأمريكية..
لأجل هذا كله كان مشروعنا.
على ماذا يعول الإخوان لنجاح هذه المبادرة أو المشروع؟
أولاً: يهمنا التأكيد على حرصنا على مصلحة أوطاننا، وأن هذا المشروع ليس مقصودًا به إحراج أحد أو تحديًّا لأية جهة.
ثانيًا: يهمنا أن تأخذ السلطة الحاكمة، هذا المشروع مأخذ الجد، وأن تبدأ فعلاً في اتخاذ خطوات جريئة نحو الإصلاح. ونحن نعلم - بطبيعة الحال - أن السلطة لن تستطيع ترجمة المشروع في يوم وليلة، لكن لابد من اتخاذ بعض الإجراءات التي تؤكد رغبتها في الإصلاح الحقيقي. عمومًا نحن نضع المشروع بين يديها، ونأمل أن يوفقها المولى -عز وجل- إلى ما يحبه ويرضاه.
ثالثًا: إن اقتناع الأحزاب والقوى السياسية بهذا المشروع ووقوفهم إلى جواره يمثل -بلا شك- دعمًا حقيقيًّا له، ويضمنا المبدأ القائل: "نتعاون معًا فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".
رابعًا: من المهم أيضًا أن يعلم الشعب ما الذي نفكر فيه، وما هي رؤيتنا للإصلاح من منطلق أن الشعب هو صاحب الحق الأول في ضرورة الإصلاح، والذي سوف تعود عليه آثاره إن عاجلاً أو آجلا.(19/106)
هل طرح المشروع جاء كردة فعل على تدخلات خارجية، أم أنه نتاج عمل وجهد سابقين؟
صحيح أن المشروع يمثل خطوطًا عريضة واتجاهات عامة حول رؤيتنا للإصلاح الشامل؛ لكنه أيضًا تضمن بعض التفصيلات في جوانب كثيرة، وهي تمثل جهدًا كبيرًا بذل فيه الباحثون والعلماء وأهل الاختصاص في مختلف المجالات أوقاتًا طويلة، والمعنى الذي أريد أن أؤكد عليه هو أن طرح المشروع لم يكن مفاجئا أو رد فعل بقدر ما كان مواكبًا لما يجري من أحداث.
هل تعمدتم الإعلان عن مبادرتكم في نفس توقيت إعلان بوش لمشروعه نحو الشرق الأوسط الكبير؟
كما قلت لم يكن مشروع الإصلاح وليد اليوم، ولكن أتصور أن إعلانه في هذا الوقت بالذات كان ردًا على زيارة وكيل وزارة الخارجية الأمريكية إلى مصر ودعوته للأحزاب والقوى السياسية للحوار معه في السفارة الأمريكية. وإعلان المشروع في هذا التوقيت كان بهدف:
(1) تأكيد الرفض الكامل لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي قدمته واشنطن.
(2) قطع الطريق على مشروع الإدارة الأمريكية، وأن الشعوب العربية والإسلامية تملك مشروعات إصلاحية في الجوانب المختلفة أفضل وأشمل وأكثر ملاءمة لهوية الأمة وخصوصيتها الثقافية وميراثها الحضاري.
(3) ضرورة المسارعة في إجراءات الإصلاح حتى لا تكون هناك ذريعة لأي تدخل أجنبي.
هل أشركتم باقي الأحزاب والقوى السياسي في هذا المشروع، حتى ولو باستطلاع آرائهم قبل طرحها ؟
لا.. لم يحدث، وإن كان المشروع - كما قلت سابقًا - وبخاصة المحور السياسي فيه كثير من القواسم المشتركة بيننا وبين الأحزاب والقوى السياسية، والمشروع كما ذكرت يتضمن خطوطًا عريضة في كافة المجالات، وسوف ندعو الأحزاب والقوى السياسية لدراسته، وأرجو أن يجمعنا بهم لقاءات عما قريب -إن شاء الله-، فالهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأمة تحتاج إلى تكاتف كل القوى.
وهل يمكن أن نتوقع مبادرة إصلاح شاملة تتفق عليها الأحزاب والقوى السياسية المصرية؟
هذا المشروع يعبر عن رؤيتنا وتصورنا لما يجب أن يكون عليه الإصلاح، وقد أعلناه إبراءً للذمة والإعذار إلى الله -تعالى-، ولا بأس؛ بل أرى من الضروري أن يكون هناك مشروع يشمل الإخوان والأحزاب والقوى السياسية.
دعنا نكون أكثر صراحة... هل حصل الإخوان على ضوء أخضر من النظام لإعلان هذا المشروع لمساعدته في مواجهة المبادرة الأمريكية المفروضة من الخارج ؟
لم يحدث أي اتصال مع النظام بخصوص الإعلان عن هذا المشروع، وإن كان النظام لم يضع أية عقبات لمنعه، وهذا التصرف يحسب له .. نحن أردنا أن يعلم الجميع أن المشروع يعبر عن وجهة نظر فصيل سياسي شعبي دعوي له تأثيره وفعاليته الكبيرة على مستوى الشارع السياسي، والمهم أن ندفع عن بلادنا وأمتنا هذه المصيبة!.
وهل تتوقعون استجابة النظام للمبادرة، أم أن استغلاله لطرحها سيكون وقتيًّا؟
نأمل أن يستجيب النظام لمشروعنا، وأن تكون هناك رغبة حقيقية في الإصلاح، وأن تترجم هذه الرغبة في صورة خطوات عملية وإجراءات جادة، شاملة وكاملة نحو الإصلاح، ليس فقط لصد الهجمة التي تستهدف التدخل في شؤوننا وفرض الوصاية علينا من الخارج، وإنما لإحداث النهضة المطلوبة.. نحن نريد إصلاحًا يحقق أحلام وطموحات شعبنا، ونسعى لإيجاد أمة قوية ناهضة وواعدة.. فالدور المحوري الذي يمكن أن تقوم به مصر يمكن أن يكون عظيمًا..
بمعنى آخر هل يمكن أن يسمح النظام للإخوان بمزيد من حرية الحركة السياسية سواء تمثل ذلك في الاعتراف بالجماعة أو بحزب سياسي لها؟
محاولة تهميش أو تحجيم فصيل سياسي كالإخوان يُفقد مسألة الإصلاح ركنًا أساسيًّا لها، ونأمل أن يتفهم النظام ذلك..
من ناحية أخرى الهجمة التي تقودها الإدارة الأمريكية تستهدف تركيع الأمة كلها والسيطرة على مقدراتها وثرواتها، وتمكين الكيان الصهيوني من مهمته في التوسع والهيمنة وابتلاع فلسطين، فضلاً عن ضمان تفوقه العلمي والتقني والعسكري الساحق على كل الدول العربية مجتمعة.
الرئيس مبارك أكد مؤخرًا أن مبادرة الحوار مع الأحزاب السياسية ستمتد إلى القوى السياسية والمستقلين والنقابات..؛ فهل تتوقعون أن يشملكم هذا الحوار؟ وبأي شكل تتوقعون ذلك؟
بصرف النظر هل سيمتد الحوار إلينا أم لا، المهم أن يكون الحوار شاملاً لقضايا رئيسة، سبق عنها الكلام في صدر هذا الحديث، وإلا فسوف يكون الحوار باهتًا شكليًّا، وبالتالي لن تكون هناك نتيجة من ورائه. إن الإصلاح الذي يتم على هذا النحو يكون مبررًا لتدخل الآخرين.. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نحن نريد أن ننهض بأمتنا.. نريد أن نقضي على التخلف الذي نعاني منه، وأن نعالج الأزمات والمشكلات المتفاقمة التي وقعنا فيها.
سؤال آخر يطرح نفسه: لماذا لم تكن مبادرة الإخوان لإصلاح العالمين العربي والإسلامي وليس مصر فقط بما يتناسب مع حجم الجماعة ومع حجم المبادرة الأمريكية التي لا تقتصر على مصر وحدها؟(19/107)
كما سبق أن ذكرت مشروع الإصلاح يتضمن مبادئ عامة وخطوطًا عريضة، وتصلح أن تكون مشروعًا إصلاحيًّا على مستوى الأمة العربية والإسلامية هي في مسيس الحاجة إليه، فلن نستطيع النهوض من وهدتنا إلا بإنهاء الاستبداد الذي يعتبر السبب الرئيس لكل المصائب والمواجع التي ألّمت بنا، فحرب الخليج الأولى والثانية، وما جرته من خراب ودمار ووقوع أوطاننا في قبضة الاحتلال أساسها الاستبداد وحكم الفرد.. أيضًا التخلف العلمي والتقني، والتدهور الاقتصادي، والأزمات المتفاقمة كالإسكان والبطالة والتعليم والصحة أساسه الاستبداد، كذلك عدم الوقوف بجد وبما يتفق والتحدي الذي نواجهه بالنسبة لقضايا الأمة في أفغانستان والعراق وفلسطين كله أساسه الاستبداد.
إذًا هل تتوقع من تنظيمات الإخوان في الأقطار الأخرى أن يقدم كل منهم مبادرة للإصلاح وبما يتناسب مع ظروفها؟
هذا متروك - بطبيعة الحال - للإخوان في الأقطار وما يرونه مناسبًا لظروفهم.. أنا أقول: إن الشعوب ومؤسسات المجتمع المدني لابد وأن يكون لها دورها في مواجهة هذه الهجمة الأمريكية الشرسة، على الأقل أن تعلن احتجاجها ورفضها لها.. كما أن مسألة الإصلاح الداخلي تحتاج إلى إسراع وإلى تنشيط.
وهل تتوقع أن تكون لمبادرات الإخوان الإصلاحية في الأقطار الأخرى ثوابت لا يجوز الخروج عليها، مثل الشريعة ورفض التدخل الأجنبي؟
مؤكد؛ فتطبيق الشريعة الإسلامية هو مطمحنا وأملنا، وهذا بطبيعة الحال يحتاج إلى جهود كبيرة ووقت أيضًا، كما أن رفض التدخل الأجنبي يعتبر من الثوابت.. إن الإدارة الأمريكية هي الداعم القوي لكل أنواع الديكتاتورية والاستبداد.. وهي التي تضع العقبات للحيلولة دون تقدم الأمة العربية والإسلامية علميًّا وتقنيًّا.. وهي التي تستغل الظروف المتردية للدول لمزيد من التبعية لها والدوران في فلكها.. وهي التي تقوم بدعم الكيان الصهيوني في توسعه وامتداده وجرائمه وابتلاعه لأرض ومقدسات فلسطين..؛ فهل يُرجى بعد ذلك من ورائه خير؟!
==============(19/108)
(19/109)
ملاحقة أمريكا للإسلام.. طريقها للهاوية
محمد المصري 27/1/1425
18/03/2004
تحت عنوان "السياسة الأمريكية نحو الإسلام تقودها للهاوية" كتب (عبيد الله خان) بجريدة "باكستان تايمز" الصادرة بتاريخ 14 مارس 2004 مفندًا آراءَ المفكر البريطاني (بيرنارد لويس) صاحب اقتراح استخدام القوة العسكرية الأمريكية ضد العالم الإسلامي؛ بزعم إعادة تحويله وإرساء الديمقراطية فيه.. تلك المقترحات التي سرعان ما استساغها أعضاء إدارة بوش اليمينية، وبدأوا في تطبيقها عمليًا بعد أحداث 11 سبتمبر، باحتلال أفغانستان، ومن ورائها العراق، ثم اقتراحات الإصلاح السياسي في العالم العربي ومبادرة الشرق الأوسط الكبير وغيرها من التحركات الأمريكية بزعم الإصلاح، والتي ألمح بوش إلى أن حلف الأطلسي سيكون له دورٌ في تنفيذها، كما يبحث الكاتب أيضًا في الجذور الصهيونية لمبادئ لويس وأمثاله.
لويس الصهيوني
يقول خان: "إن المفكر البريطاني برنارد لويس - والذي ألف 20 كتابًا عن الإسلام- يعد من أصحاب الفكر الإرهابي الذي يقود اتباعه إلى إرهاب دموي كالذي تقوم به أمريكا ضد مختلف شعوب المنطقة.
فرؤى هذا الرجل تبين مدى الفهم القاصر للإسلام بين الجمهور الغربي خاصة قادة الرأي منهم؛ فها هو لويس لا يعترف بانتصار الإسلام على الصليبيين ويتهكم من حديث المسلمين عن نصر مرتقب على اليهود، زاعمًا أن المسلمين لم ينتصروا على أحد وأن تركيا هي من هزمت الصليبيين ثم هزمت بريطانيا بدورها الأتراك وهزم اليهود البريطانيين، متسائلاً في النهاية عن هوية من سيأتي بعد اليهود.
يقول عبيد الله خان : ليست هناك حاجة لسؤال السيد لويس؛ فمن المؤكد أن الصهاينة سيتخلصون من أمريكا، ثمّ يأتي دور المسلمين ليخلصوا من اليهود بعد ذلك.
ويبدو جليًّا أن لويس وأمثاله يستخدمون هذا الكلام لتأكيد مزاعمهم في أن المسلمين فشلوا في تحديث مجتمعاتهم، وبالتالي يطالب بتدخل خارجي لتحديث هذه المجتمعات ويدعو أمريكا للقيام بهذا الدور باستخدام القوة العسكرية.
وليس خفي أن الصهيونية هي من ألهمت لويس هذا المبدأ الداعي لغزو عسكري أمريكي للمسلمين بزعم إصلاح مجتمعاتهم وتطويرها، وهو ما يفسر هذا النهج الدموي العسكري الذي تنتهجه الإدارة الأمريكية الحالية والتي بدأت في تطبيق مبدأ لويس ذو الصبغة الصهيونية باحتلال العراق وأفغانستان.
وتبني أمريكا لهذا المبدأ الصهيوني الأصل الذي دعا إليه لويس يعني أن الصهاينة نفذوا أكثر من نصف أجندتهم لإزاحة أمريكا والجلوس مكانها كدولة عظمى.
فقد استطاع الصهاينة خلال العقد الماضي من القرن العشرين تحقيق هدفين؛ هما: تحويل أمريكا من مبدأ احتواء العدو إلى التفكير في مهاجمته وهزيمته، ثم إقناعها بأن الإسلام هو عدوها القادم وذلك تحت مزاعم كثيرة خلقت موجة خوف من الإسلام استتبعت بموجة عداء له.
وقد ساعد لويس الصهاينة في تحقيق أهدافهم كثيرًا، يقول ديفيد فرم - كاتب خطب الرّئيس بوش- : "إن أمريكا بدلاً من تحسس أعدائها الحقيقيين أدانت المسلمين مباشرة في أحداث 11 سبتمبر، حيث اجتمع حينها لويس بموظّفي الإدارة الأمريكية محملاً مسؤولية أحداث سبتمبر لتيار مناهضة الأمركة الناشئ -على حد زعمه- بين المسلمين".
كما اجتمع لويس -طبقًا لمجلة "وول ستريت جورنال"- بعد ثمانية أيّام فقط من أحداث سبتمبر بصديقه أحمد جلبي - عضو مجلس الحكم العراقي الآن- ليناقشا احتلال العراق عسكريًّا بزعم تجنب الإرهاب، الأمر الذي يوضح مدى التّخطيط الصهيوني لخلق أنسب ظروف مواتية لدفع أمريكا لخدمة اللّعبة الصّهيونيّة الكبيرة، فبينما يلملم الأمريكيّون قتلاهم في سبتمبر، نجد السيد لويس - القريب من إسرائيل- يقنع بوش بتورط العراق في أحداث سبتمبر وينصحه باحتلالها".
تضليل الأمريكيين
يؤكد خان أن أفكار لويس لتغيير ثقافة المسلمين بالقوة، تضلل الأمريكيين بإيعاز صهيوني حيث تقدم هذه الأفكار الصهاينة على أنهم أصدقاء في الوقت الذي يحفرون فيه قبرًا لأمريكا، فلو كان الإسلام هو العدو الأول كما يصور لويس وصهاينته لما خاطر هذا العدو باستثارة أمريكا تلك القوة المتعملقة.. فأمريكا لا تحتاج لأعداء في ظل وجود لويس وأمثاله من الصهاينة قريبين منها.
والمغالطة الكبرى في هذا المذهب أنه يصور الصراع بين أمريكا والإسلام على أنه صراع ثقافي في الوقت الذي لا تعني فيه ثقافة أمريكا للصهاينة شيئًا إلا أنها فقط تريد بذلك دفع أمريكا لإضعاف وطمس الثقافة الإسلامية حتى يسهل احتلال وإخضاع العالم الإسلامي بعد ذلك.
ومن المغالطات الأخرى في أفكار السيد لويس ما كتبه عن صدام الحضارات حين قال: " إن المسلمين يكرهون الغرب لأنّ الحضارة المسيحيّة تفوقت عليهم عسكريًّا, واقتصاديًّا وثقافيًّا، لذلك ليست هناك حاجة للمهادنة معهم؛ بل لابد من الاستمرار في سياسة المعايير المزدوجة و الظّلم".(19/110)
و ليس برنارد لويس وحده من يزعم أن كرهًا إسلاميًّا لأمريكا سببه أن المسلمين ليسوا أقويا أو ناجحين أو أغنياء، بل يوافقه كثيرون أمثال فريدمان، وبايبس، وبيرل، ويرمي هؤلاء من وراء ذلك إلى القول بأن اليهود والصهاينة الذين يمثلون طبقة الأغنياء ورجال الأعمال والسّياسيّين الفاسدين، هم الأصدقاء الأغنياء الناجحين والأقوياء لأمريكا!!.
فقد عمل لويس بصفته صديقًا لرؤساء وزراء إسرائيليّين متتالين بمن فيهم شارون كأداة لتبرير جرائم إسرائيل ضد العالم الإسلامي.
والأمر الذي يضايق عصبة الصهاينة والمنافقين تلك هو إحساسهم بأن المسلمين لا يخافونهم؛ فقد رفض 56% من المسلمين الإصلاح الأمريكي ، حسب استفتاء بقناة الجزيرة.
وهذا ما يثير حنق أمثال لويس ليتساءل : "لماذا لا يخافنا المسلمون ولا يحترموننا؟".. فالسذج فقط هم من قد يصدقون أن أفكار برنارد لويس باستخدام القوة كضمان لأمن أمريكا، قد تفرض احترامًا أو حتى خوفًا من أمريكا.
بداية النهاية
إن المرحلة الحالية من الفشل الأمريكي هي بداية النهاية بعد أن أقنع لويس -المدفوع صهيونيًّا- البيت الأبيض باستخدام القوة العسكرية مع الدول الإسلامية.. يقول "بيتر والدمان" من مجلة وول ستريت جورنال: "إن السيد لويس أسهم في إقناع البيت الأبيض باستخدام القوة العسكرية ضد الدول الإسلامية"، فأفكار لويس هذه هي البداية لإعادة احتلال العالم الإسلامي وانهيار أمريكا مثل سابقتها بريطانيا.
فها هو السيد بول وولفويتز -نائب وزير الدفاع الأمريكي- يؤكد أن الإدارة الأمريكيّة قبلت "روشتّة" السيد لويس للتعامل مع العالم الإسلامي.
وبتحول أمريكا لمبدأ "الهجوم كوسيلة للدفاع" والحروب الاستباقية بدأت حروبها في أفغانستان والعراق وباقي الشّرق الأوسط وستظل أمريكا هكذا مهاجمة وشرسة في ظل سيطرة هذا المبدأ على سياستها الخارجية وظنها أنه يمكن تغيير ثقافة الشعوب بالقوة.
إلا أن أمريكا سترتد تدريجيًّا لسياسة الدفاع في الداخل والتقوقع على الذات عندما تبدأ هزائمها وتتوالى، والتي بالفعل ظهرت بوادرها في أفغانستان والعراق وبالفشل والتقوقع الأمريكي تخلو الساحة لإسرائيل للإمساك بزمام المنطقة.
فبدلاً من أن تهزم أمريكا الإرهاب وترسي الاستقرار في الشرق الأوسط بهذا التوجه، أشعلت مقاومةً أكبر ضدها في العالم الإسلامي وخلقت موجة من العداء تسميها أمريكا "إرهابا".
وبينما تقترب أمريكا من نهايتها، فقد مئات الآلاف حياتهم بسبب عقوباتها وحروبها الغير قانونيّة، كما قدر لملايين أخرى أن تعاني بسبب السقوط الكبير والوشيك للعملاق الأمريكي، بعد أن حفر الصهاينة قبره في الشرق الأوسط
============(19/111)
(19/112)
القمة العربية..من أجل شارون وبوش!
طلعت رميح 30/1/1425
21/03/2004
الفارق بين ما تناقشه قمة عربية وأخرى -منذ نشأة الجامعة العربية وحتى الآن - هو في طبيعة الأسئلة المطروحة عليها من الخارج والتي تختلف باختلاف الدول الاستعمارية بين مرحلة وأخرى وباختلاف خططها وأهدافها تجاه الأمة بين مرحلة وأخرى .
والفارق بين نتيجة هذه القمة أو تلك، أو الفارق بين قرارات هذه القمة أو تلك، هو في طبيعة الإجابة التي يحددها الرؤساء والقادة العرب على تلك الأسئلة التي توجهها الدول الخارجية من مرحلة لأخرى، حيث كانت تلك الإجابات في مرحلة الستينيات إجابات متحدية - دون إعداد حقيقي للمواجهة -، ثم تحولت في مرحلة السبعينيات إلى إجابات "متعاونة "، أو "متجاوبة" مع الضغوط في مسيرة بدأت في قمة فاس بالمغرب التي أقرت بداية لغة التفاوض مع إسرائيل، وأسست لفكرة الدولة الفلسطينية..إلخ.
في كل تلك المراحل كانت المشكلة الاستراتيجية التي واجهتها القمم والجامعة العربية منذ نشأتها وحتى اليوم، والذي جعلها تدور في دوامة الفرقة والاختلاف وعدم الإنجاز، وكذلك الذي جعلها تتراجع ولا تتقدم هو أن هذه القمم أبداً لم تنظر في الأسئلة الموجهة إليها من الداخل (من شعوبها)، وأنها اكتفت في الأغلب والأعم بمحاولة التوفيق بين الاستجابة للضغوط أو الرد بالإيجاب على الأسئلة الموجهة إليها من الخارج، وبين الرفض الشعبي لهذه الإجابات..مركزة جهودها على كيفية تمرير الإجابات المتعاونة والمتجاوبة مع الضغوط الخارجية بين جماهير شعوبها، وليس حمل آراء شعوبها والدفاع عنها في مواجهة التحديات والضغوط الخارجية.
والسؤال الجوهري بشان القمة العربية القادمة هو :هل تخرج هذه القمة عما سارت عليه القمم السابقة ؟!
السرية لماذا؟
تعقد القمم دومًا في سرية، غير أن كل حالات الانعقاد للقمم العربية ثبت أنها كانت تصل بكامل تفاصيلها إلى إسرائيل في إحدى القمم بالصوت والصورة!، وبطبيعة الحال إلى الولايات المتحدة، بما يجعلها سرية فقط على الشعوب العربية لا أكثر ولا أقل!!
ودون أن يكون القصد تصويرًا كوميديًّا أو مأساويًّا؛ فإن القمة العربية المقرر انعقادها في نهاية الشهر في تونس، والمعروض عليها وثيقة أسماها وزراء الخارجية العرب "وثيقة العهد بين قادة الدول العربية"..والتي وصفت بالسرية، حيث رفض وزراء الخارجية العرب إعلانها أو إعلان فحواها، ثم لم يمض على اعتمادها عدة أيام حتى كانت بنودها بندًا بندًا على كل لسان.. هذه الوثيقة وما جرى حولها من مناقشات لا تعدو من أولها إلى آخرها إلا محاولة للإجابة عن الأسئلة المطروحة من الخارج على القمة العربية؛ وهي أسئلة وصلت في هذه المرحلة إلى طرح أسئلة حول جذور الهوية وأسسها، من نوع: هل أنتم مسلمون، أم عرب، أم أنكم شرق أوسطيون تنتمون إلى الجغرافيا..لا العقيدة أو حتى الحضارة.
ومرة أخرى دون أن يكون القصد كوميديًّا أو مأساويًّا؛ فكذلك كان الحال بالنسبة لما جرى من مناقشات وزراء الخارجية العرب حول "الإصلاح الداخلي" التي جرت في سريّة "بالغة"، غير أنها لم تكد تنفض حتى ملأت (أخبارها السرية) كل بقاع الأرض، فظهر أنها لم تناقش أية قضية على أي جانب من السرية.. وعندها اكتشف الناس أنها لم تكن سوى إعدادًا للردود العربية على الأسئلة المطروحة خارجيًّا حول ما سمي "بالإصلاح" في الدول العربية.
وإذا كان بالإمكان تقديم تأويلات كثيرة لحكاية المداولات السرية والوثيقة السرية -التي هي أشبه بالنكتة المصرية الشهيرة حيث كان سائق الأتوبيس ينادي على الركاب "وصلنا محطة المطار السري"، فيرى البعض أن معناها فقط هو عدم فتح المجال أمام الإعلام لنقل الخلافات أو أن السرية لا تعدو كونها محاولة لعدم تمكين الإعلام من تسخين الأجواء الداخلية -داخل الاجتماع -بين المسؤولين وبعضهم البعض، أو بين المجتمعين وشعوبهم، أو بين الٍٍِِشعوب والحكام، وهى كلها تفسيرات تعكس خوفًا وقلقًا من معرفة الشعوب بحقيقة ما جرى.. فإن الواضح هو أن اجتماع الوزراء بمقر الجامعة العربية بالقاهرة وما أعده من وثيقة سواء ما يتعلق بإصلاح الجامعة العربية أو إصلاح الأوضاع الداخلية. والقمة العربية في تونس وما سيسصدر عنها أو ما ستنظره وما تقرره لن يخرج عما جرى في القمم العربية السابقة، إذ هو يتحاشى "الإجابة "الصريحة المتحدية المدروسة والمخططة، على الأسئلة المعروضة عليها والمفروضة عليها من الخارج، أو هو سيواصل مسيرة الإجابة المتعاونة مع طارح الأسئلة من الخارج، ويواصل في نفس الوقت أيضًا الابتعاد عن إجابة الأسئلة التي تطرحها الشعوب العربية، ومن ثم يواصل الإمعان في لعبة تمرير الإجابات الخفية التي تقدم على الأسئلة المفروضة من الخارج بين الشعوب.
اجتماع الخلافات حول الإجابات!
كان اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب هو اجتماع الخلافات لا اجتماع الاتفاقات أو التوافق، وكانت الخلافات كلها حول الإجابات التي يجب على القمة العربية أن تقدمها عن أسئلة شارون وبوش لا أكثر ولا أقل. ومن ثم كيفية تمرير هذه الإجابات بين الشعوب العربية!(19/113)
فحينما طرحت فكرة تشكيل "مجلس أمن عربي"، ضمن مشروع إعادة هيكلة أو تطوير الجامعة العربية؛ ثارت الأسئلة مباشرة من ممثلي بعض الدول العربية.. إذ قال أحدهم: هل من حق مجلس الأمن العربي هذا إعلان الحرب على إسرائيل؟ والمقصود لم يكن تحديد اختصاصات المجلس، وإنما هل بوسع هذا المجلس أو المطلوب منه أن يجيب عن سؤال شارون الذى طرحه منذ مجيئه إلى السلطة وهو: هل من أحد يعارض استخدامي للقوة؟ وهل لديه القدرة على مواجهتي بالقوة؟
وخلال نفس المناقشة أكد ممثل دولة أخرى على ضرورة التأكيد على عدم التعارض بين المجلس وصلاحياته وبين استمرار العمل بالاتفاقات الأمريكية مع بعض الدول العربية الخاصة بالقواعد العسكرية على أراضيها.. وقال آخر إن العراق قابل الجامعة بتمثيله في ظل وجود القوات الأمريكية على أرضه، وانتهى الأمر إلى قول أو توافق -في حدود ما نشر- على أن وجود القوات العسكرية الأمريكية على أرض أي دولة هو عمل من إعمال السيادة، وهنا قال ممثل دولة أخرى إنه لن يكون هناك أمن عربي بينما الدول العربية موقعة 81 اتفاقية عسكرية مع دول خارجية.
وكانت أسئلة بوش بدورها حاضرة، وفى هذه المرة بشكل أعم وأقوى من كل مرة أو من كل قمة سابقة؛ فإذا كانت الولايات المتحدة تميل من قبل إلى ممارسة الضغوط الخفية غير المعلنة كما لو كانت في الفترة الأخيرة ترسل رسائل للقمة من خلال تصريحات مسؤوليها، وفى هذه المرة كانت الأسئلة الأمريكية متبلورة في مشروع واضح محدد لتنفيذه أي مشروع الشرق الأوسط الكبير.
وهنا انقسمت الآراء والإجابات بين من رفضها من حيث الشكل مع تقديم مبادرة عربية تتبنى ما جاء في مبادرة بوش -أي تقديم مسميات عربية وإعادة كتابة الخطة الأمريكية باللغة العربية- وبين من رأى ضرورة تأجيل الموقف منها لمزيد من الدراسة بهدف الالتحاق بالخطة بين مدة انعقاد القمتين الراهنة والتي تليها دون ضجيج، وبين رأي ثالث دخل إلى التفاصيل دون إبداء الرفض، أو القبول، أو التأجيل تحت دعوى دراسة الأمر.
الشعوب ..و المبادرة المضادة !
كانت السرية إذًا لإخفاء طبيعة الاستجابات الحقيقية، وحتى لا يكشف خلاف الوزراء صورة الموقف الحقيقي في القمم العربية أمام الشعوب العربية التي ظلت عبر التاريخ غائبة ومغيبة عما يجري، وكذلك ستكون القمة!.
وكانت الاستجابة -كما هي منذ السبعينات- تعاونًا وتجاوبًا مع الضغوط الخارجية ..ورفضًا لطرح الأسئلة الدائرة في كل مكان عربي أيًّا كانت طبيعة المتواجدين فيه.
لكن السؤال الذي بات يطرح نفسه بعمق وجدية وفي هذه اللحظات الحادة في عمر الأمة هو: لماذا لا تتبنى قيادات الأمة رؤية محددة تتجمع حولها الشعوب بالتوقيع والإعلان والدعوة؛ لتطرحها على القمة العربية، لتكون هي الاختراق الأول للحالة المستقرة داخل اجتماعات القمم والقائمة على استبعاد أسئلة الشعوب، وفى حدها الأدنى تكون نوعًا من الضغط الداخلي المواجه للضغط الخارجي، وفى حدها الأقصى تحديًّا لطبيعة التحديات وطبيعة الاستجابات، وكيفية بناء حاضر الأمة ومستقبلها؟
لكن لم تقبل الأمة إلا أن تجتمع "قممها " فقط للإجابة عن أسئلة تطرح من الخارج دون أن تجيب عن أسئلة أصحاب الحق في السؤال والمساءلة؟!
==============(19/114)
(19/115)
العقلية الإسرائيلية.. كيف تفكر!
د. محمد مورو 6/2/1425
27/03/2004
من المهم بالطبع فهم طريقة التفكير الإسرائيلية، وفهم العقلية والوجدان الذي يحكم التصرفات الإسرائيلية، وبدهي أن العقلية والوجدان الإسرائيلي يتأثران بعاملين مهمين هما: العقلية والوجدان اليهودي، على أساس أن إسرائيل مشروع غربي استعماري يقوم على أكتاف اليهود.
وإذا كانت السمات الأساسية للعقلية والوجدان الغربي هي العنف والقهر والعدوان والعنصرية والعداء الصليبي للحضارة الإسلامية؛ فإن ذلك سيجد امتداداته الواضحة في السياسة الإسرائيلية، وإذا كانت العقلية والوجدان اليهودي -في مجمله وفي خطوطه العريضة- هي: العنصرية (شعب الله المختار)، الغدر ، الخيانة ، الخديعة ، المكر ، وعقلية الجيتو ، الجبن في القتال ... إلخ؛ فإن ذلك أيضًا يجد امتداداته في السياسة الإسرائيلية.
وبداية فإنه من الضروري هنا أن نتحرر من وهم اللحظة في الحكم على السمات العامة للعقلية والوجدان اليهوديين؛ دون أن نغفل -طبعًا- دراسة تلك اللحظة باعتبارها تكريسًا للعقلية التاريخية اليهودية، ونقصد هنا أن البعض عادة ما يتحدث عن العبقرية الصهيونية واليهودية والذكاء اليهودي ... إلخ، ولكننا نرى أنه مكر وليس ذكاء، بمعنى أنه يجيد فن التكتيك والمراوغة والمساومة، ولكنه مصاب بالعمى الاستراتيجي والغباء المستقبلي؛ ولعل من المفيد هنا أن نقول أن من المفهوم مثلاً -وهو خطأ وخطيئة طبعًا- أن ينكر إنسان وجود الله، ومن المفهوم مثلاً أن يؤمن إنسان بالله ثم يعصاه على أساس الضعف الإنساني (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولكن من غير المفهوم أن يؤمن إنسان بالله ويعرف حدود قدرته ثم يعانده، وهذا بالتحديد السمة الرئيسة لليهود، أليس هذا غباء استراتيجيًّا؟! إذًا علينا أن نتحرر من وهم العبقرية اليهودية والذكاء اليهودي، وأن نتعامل معهم على أساس أنهم مكارين ولكنهم أغبياء.
الجدار والنبوءة القرآنية
إحدى سمات العقلية اليهودية هي عقلية الجيتو، ولعل الجدار الذي تقيمه إسرائيل هو تكريس لعقلية الجيتو، والجدار هو في الحقيقة ثلاثة جدران:
الجدار الغربي: وهو شديد التلوي والتعرج بهدف التوغل داخل الضفة الغربية لإحاطة كل المستعمرات الإسرائيلية الكبرى في إطاره.
والثاني: هو جدار العمق الذي يتوغل داخل الضفة الغربية شرقًا لإحاطة مستعمرات أخرى وربطها بطرق التفافية وجدران فاصلة.
أما الجدار الثالث؛ فيقام على امتداد نهر الأردن بعمق 20 كيلو متر غربًا، أي بعمق الضفة الغربية، وهكذا فالجدار يستهدف إحاطة الكيان الصهيوني من كل جانب، وفي هذا الإطار تأتي خطة شارون للانسحاب من بعض المستعمرات التي لا يمكن للجدار أن يحيطها سواء في غزة ـ الأكثر ـ أو الضفة الغربية. عدد أقل ـ لتؤكد حقيقة الجيتو وحقيقة الخوف والجبن الصهيوني، والجدار يستهدف وضع الفلسطينيين في معازل أشبه بأقفاص الدجاج؛ ولذا يطلق عليه الكثيرون جدار الفصل العنصري، وهذا تكريس للعنصرية المستمدة من الأخلاق اليهودية والقيم الحضارية الغربية على حد سواء.
والجدار يتكون من عدد الاستحقاقات أو النطاقات الأمنية ويبلغ عرضه من 80 ـ 100 متر مكونة كالتالي: أسلاك شائكة لولبية، خندق بعرض أربعة أمتار وعمق خمسة أمتار يأتي مباشرة عقب الأسلاك، شارع مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض أربعة أمتار لكشف آثار المتسللين، جدار يعلوه سياج معدني إلكتروني بارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار مركبة عليه أجهزة إنذار إليكترونية وكاميرات أضواء كاشفة، وتوجد هذه المنشآت نفسها على جانبي الجدار، كما عمد الإسرائيليون إلى تثبيت رشاشات بالجدار ذات مناظير عبارة عن كاميرات تليفزيونية يمكن التحكم فيها من مواقع للمراقبة عن بعد.
ولعل هذه الاستحقاقات تؤكد أولاً الفشل الصهيوني في القضاء على المقاومة والانتفاضة الفلسطينية، وهو ما كان قد وعد به شارون عقب انتخابه، وضرب لذلك موعدًا هو ثلاثة أشهر، ومرت أكثر من ثلاث سنوات دون أن يحقق شارون وعده، وكذا فإن تلك الاستحقاقات تؤكد عقلية الجبن والخوف والفزع اليهودي، ومن ثم الإسرائيلي، وبناء الجدار في حد ذاته يؤكد ويحقق نبوءة قرآنية، يقول الله تعالى -وهو أصدق القائلين-: (لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر)، والقرى المحصنة هي المستعمرات الصهيونية وهي شديدة التحصين والحراسة، والجدر هي مجموعة الجدر المكونة للجدار!! ولعلنا هنا ننقل ملاحظة هامة عن الدكتور (عبد العاطي محمد عبد الجليل) الذي رصد أن كل الكتاب والسياسيين ووسائل الإعلام .. إلخ، استخدموا كلمة الجدار لوصف هذا الجدار الصهيوني، وكان يمكن مثلاً استخدام كلمة السور الواقي، أو الساتر أو الحائط أو غيرها من الأسماء، ولعل ما يؤكد ذلك أن الناس استخدموا مثلاً مصطلح سور الصين العظيم، سور برلين، خط ماجينو، خط سيجفريد، لوصف جدران عازلة أو خطوط دفاعية. والجدار فيه السمتان وهذا يؤكد النبوءة القرآنية.. والحمد لله رب العالمين.
الجدار يشتمل على ثلاث مراحل:(19/116)
المرحلة الأولى بطول 360 كم من قرية سالم أقصى شمال الضفة الغربية حتى بلدة كفر قاسم جنوبًا. والمرحلة الثانية تمتد 45 كم متر من قرية سالم حتى بلدة التياسير في غور الأردن. والمرحلة الثالثة من مستوطنة "إلكنا" حتى منطقة الفصل العنصري يستقطع 45% من أراضي الضفة الغربية وجزءًا كبيرًا من أراضي غزة. وقد بلغت المساحات الفلسطينية المصادرة حوالي 187 ألف دونم معظمها في محافظات جنين وقلقيلية والقدس، كما تم تدمير آلاف المباني والمنشآت وتشريد آلاف الأسر واستقطاع جزء كبير من المياه العذبة، أي أنه فساد في الأرض وهو خلق يهودي، وقيمة حضارية غربية طبعًا (ويسعون في الأرض فسادًا). وبدهي أن الفساد الصهيوني والغربي له آلاف الملامح والممارسات في فلسطين وخارجها وليس الجدار فقط.
ويجب هنا أن نلفت النظر إلى أن هذا الجدار لن يحمي إسرائيل في النهاية؛ لأن إرادة الجهاد لدى الفلسطينيين -بتوفيق الله تعالى- سوف تتغلب على كل العقبات كما تغلبت من قبل، وسوف تستمر المقاومة. وهذا يؤكد من جديد الغباء اليهودي الاستراتيجي. ومن الملفت للنظر هنا أن بناء الجدار وخطة الفصل العنصري تتعارض مع ما روج له الأمريكيون والإسرائيليون ودعاة السلام المزعوم والتطبيع من إمكانية دمج إسرائيل في المنطقة -الشرق الأوسط الكبير- وكل المشروعات المشابهة. والجدار أيضًا ينسف فكرة السلام وخارطة الطريق؛ بل وفكرة إمكانية قيام دولة فلسطينية في إطار حل الدولتين المزعوم. وهذا يؤكد الخداع والغدر الغربي والإسرائيلي.
خطة شارون
تقضي خطة شارون بالانسحاب من معظم غزة ومستعمراتها، وإخلاء بعض المستعمرات من الضفة الغربية، وهذه الخطة بالطبع تتعارض مع خارطة الطريق المزعومة، وهي حل من طرف واحد، ويتجلى فيها المكر الصهيوني (الذكاء التكتيكي) فالخطة تتخلص من غزة، أي تتخلص من المركز الرئيس للمقاومة، والثقل السكاني والأعباء الأمنية الكبيرة، وهو أمر إسرائيلي قديم وليس جديد، وقد قال رابين ذات يوم أنه عليه أن يصحو من النوم فيجد غزة قد غرقت في البحر، ويستهدف شارون أيضًا من تلك الخطة تكريس الاستيطان والاستيعاب للضفة الغربية والقدس، ثم إمكانية بناء جدار عازل حول إسرائيل "خطة الجدار" ومن ضمن المكر الصهيوني هنا هو المحاولات المستميتة لتسليم مسئولية غزة الأمنية إلى مصر، أي توريط مصر في حماية إسرائيل والعمل كشرطي لديها، وهو ما فشل فيه ياسر عرفات مسبقًا، ولكن الحكومة المصرية رفضت ذلك، ونرجو أن تستمر في هذا الرفض المبدئي. تقول صحيفة "معاريف" الإسرائيلية: "يعكف شارون على تحقيق لف غزة في ورق هدايا ثمين، ولا مانع أن يكون مزركشًا ومغريًا ليضعه تحت أقدام المصريين بعد سحب جميع قوات الجيش من هناك على أن تصبح مصر مسؤولة عن البركان النشط في غزة، وبذلك ينتقل صراع غزة المزمن من مكتب شارون إلى دوائر الحكومة المصرية التي يصبح لزامًا عليها بدلاً من شارون تحمل أعباء مواجهة حفر الأنفاق وتهريب السلاح والصواريخ والمواد المتفجرة والمتطوعين، وأن تدلف السلطات المصرية إلى غزة لتتعامل مع خطباء المساجد وصواريخ القسام ومدافع الهاون والشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي ونافذ عزام ومحمد الهندي.. كل هؤلاء ستتخلص منهم إسرائيل دفعة واحدة وتلقيهم في حجر المصريين.. صفقة رابحة بلا شكك؛ خاصة أن إسرائيل ستتحصن في تلك الأثناء خلف الجدار العازل وتلقي على مصر تبعات كل قذيفة هاون بالاتفاق مع أمريكا".
خطة شارون للانسحاب من مستعمرات غزة تحقق له الكثير من الأهداف التكتيكية، منها: التخلص من العبء الأمني المكلف اقتصاديًّا جدًّا -إحاطة الجدار بكل إسرائيل بعد التخلص مما هو خارجه، وهنا فإن خطة شارون تؤكد أخلاق الجيتو ونفسية العزلة والعنصرية ، التخلص من الصراع الديموجرافي ، توريط مصر، وغيرها من الأهداف ، ولكن في المقابل فإنه على المدى الاستراتيجي ؛ فإن هذا الانسحاب يؤكد أولاً أن المقاومة نجحت في إجبار شارون على التفكير في الانسحاب وهو ما يذكر بحالة جنوب لبنان.
وبدهي أنه لولا المقاومة والصراع الأمني في غزة لما فكر شارون في ذلك، وهذا يعني أن الأمل لا زال مفتوحًا أمام المزيد من المقاومة للمزيد من الانسحاب، وأن المقاومة وحدها وليست المفاوضات هي اللغة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل، ويجب ألا نغفل عن هذه الحقيقة، ونتصور أن شارون يفكر بمعزل عن تلك الحقيقة، وأن خطة شارون والجدار على المستوى الاستراتيجي ينسف فكرة دمج إسرائيل في المنطقة، وهذا يفيد لكشف زيف دعاة السلام والمطبعين وزيف وخداع مشروعات من أمثال الشرق الأوسطية والشرق الأوسط الكبير والمتوسطية...إلخ، وأن الحقيقة هي أن إسرائيل كيان غريب وجيتو عنصري في وسط عربي إسلامي لن يقبل بوجوده ، وسوف يلفظه بالمقاومة وليس بغيرها عاجلاً أم عاجلا
==============(19/117)