• وسائل وطرائق العلمانية من الغرب للشرق:
لقد بزغ نجم العلمانية وعلا شأنه في الغرب في ظل الظروف التي أشرنا إليها ، وقد صاحب ظهورها في الغرب انحطاط وتخلف وهزائم في الشرق، مما أتاح للغرب أن يستلم زمام قيادة ركب الحضارة البشرية بما أبدعه من علم وحضارة ، وما بذله من جهد وتضحية ، فكان أمراً طبيعياً أن يسعى الغرب لسيادة نموذجه الحضاري الذي يعيشه وأن يسوقه بين أمم الأرض لأنه بضاعته التي لا يملك غيرها ، ولأنه أيضا الضمانة الكبرى لبقاء الأمم الأخرى تدور في فلك التبعية له وتكدح في سبيل مدنيته وازدهار حضارته ، وكان تسويق الغرب للعلمانية في الشرق الإسلامي من خلال الوسائل والطرق الآتية :
1- من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري :
فقد وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية، ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً متكامل الرؤى والإيديولوجيات والبرامج ، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه، كمن يصرّ على استنبات نبتات القطب الجليدي في المناطق الاستوائية ، وفي هذا من المصادمة لسنن الله في الحياة ما يقطع بفشل التجربة قبل تطبيقها، لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافاً جذرياً عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية ، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في الشرق بل في الشرق نقيضة تماماً - و أعني بالشرق هنا الشرق الإسلامي - , ولذلك فلا عجب إن كانت النتائج مختلفة تماماً كما سنرى , وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عالة على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية ، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة تأسيسها وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد التي ابتليت بها .
2- من خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم والتقدم , فعاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم ، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية ، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية ، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه ، بعد أن يكون قد سقط إلى شحمة أذنيه في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري ، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية ، وفي أهم المراكز العلمية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء ، وإلى تاريخها بريبة واحتقار ، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها - في أحسن الأحوال - بشفقة ورثاء . إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علّموه وثقّفوه ومدّنوه ، وهو لا يملك غير ذلك ، ولئن كان هذا التوصيف للبعثات الدراسية ليس عاماً ، فإنه الأغلب وبالذات في أوائل عصر البعثات ، وما " طه حسين " و" رفاعة الطهطاوي " إلا أمثلة خجلى أمام غيرهم من الأمثلة الصارخة الفاقعة اللون مثل " زكي نجيب محمود" و" محمود أمين العالم " و"فؤاد زكريا" و "عبدالرحمن بدوي" وغيرهم الكثير .. ولئن كان هذا الدور للبعثات العلمية تم ابتداء من خلال الابتعاث لعواصم الغرب فإن الحواضر العربية الكبرى مثل "القاهرة - بغداد - دمشق" أصبحت بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى، من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات لدول الجزيرة العربية , وقلّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس ، وجهته غير وجهتها وقبلته غير قبلتها ، وإنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة .
3- من خلال البعثات التبشيرية :
فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين في دينهم ، وإخراجهم منه ، وتشكيكهم فيه ، حتى وإن لم يعتنقوا النصرانية ، وليس أجدى من العلمانية وسيلة لهذا الغرض ، والأمر ليس من باب التخمين والافتراض بل نطقت بهذا أفواههم وخطته أقلامهم ، وإن شئت فارجع إلى كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" مثلا ليبين لك ذلك .
وهؤلاء المبشرين : إما من الغربيين مثل "زويمر" و "دنلوب", وإما من نصارى العرب مثل "أديب إسحاق" و "شلبي شميل" و "سلامة موسى" و "جرجي زيدان " وأضرابهم .. ومنهم من كان يعلن هويته التبشيرية ويمارس علمنة أبناء المسلمين "كزويمر"ومنهم من كان يعلن علمانيته فقط ، ويبذل جهده في ذلك "كسلامة موسى"و"شبلي شميل" .(15/365)
4- من خلال المدارس والجامعات الأجنبية :
ففي أواخر الدولة العثمانية وحين سيطر الماسونيون العلمانيون على مقاليد الأمر سمح للبعثات التبشيرية والسفارات الغربية بإنشاء المدارس والكليات، وانتشرت في بلاد الشام والأناضول انتشار النار في الهشيم ، وخرجت أجيال من أبناء وبنات المسلمين أصبحوا بعد ذلك قادة الفكر والثقافة ودعاة التحرير والانحلال . ومن الأمثلة على ذلك الجامعة الأمريكية في بيروت ، والتي في أحضانها نشأت العديد من الحركات والجمعيات العلمانية، وقد سرت العدوى بعد ذلك إلى الكثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية الرسمية في العديد من البلاد العربية والإسلامية ، وقد قام خريجوا هذه المدارس والجامعات بممارسة الدور نفسه حين عادوا لبلدانهم أو ابتعثوا للتدريس في بعض البلدان الأخرى ، وإن المتابع لما ينشر من مذكرات بعض العلمانيين في البلاد التي لم تبتلى بهذه المدارس ليتبين له بجلاء ووضوح الدور الكبير الذي قام به العلمانيون العرب من الذين استقدموا للتدريس في تربية طلابهم وإقناعهم بالعلمانية، سواء من خلال التنظيمات الحزبية أو من خلال البناء الفكري الثقافي لأولئك الطلاب .
5- من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية :
التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، مابين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية واجتماعية وثقافية وأدبية، بجميع الألوان والأطياف وفي جميع البلدان, حيث أن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية ، وجميعها تتفق في الطرح العلماني ، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية ، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية , والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله .
ومن الأمور اللافتة للنظر أن أشهر الأحزاب العلمانية القومية العربية إنما أسسها نصارى بعضهم ليسوا من أصول عربية، أمثال "ميشيل عفلق" و"جورج حبش" ، والكثرة الساحقة من الأحزاب الشيوعية العلمانية إنما أسسها يهود مليونيرات أمثال "كوريل".
6- من خلال البعثات الدبلوماسية :
سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب، فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسوراً تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف من خلال الإيفاد ، و من خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي، والتواصل الاجتماعي، والمناسبات والحفلات ، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بِسِرٍّ أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة .
7- من خلال وسائل الإعلام المختلفة :
من مسموعة أو مرئية أو مقروءة، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية- صحافة أو إذاعة أو تلفزة - فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين , فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة ، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية ، وبالذات من خلال الفن ، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر .
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة ، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، فكان كما يقول المثل "ضغث على إبالة"، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل الإعلامية توظيفاً آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها .
8- من خلال التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب :
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون وفي الأسلوب والمحتوى, ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة، حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق الطلق، بل العلم الأوحد ولا علم سواه في هذه الفنون . وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسماً ولغيرها حقيقة ، وإن كان الأمر في أقسام العلوم الأخرى من طب وهندسة ورياضيات وفيزياء وكيمياء وأمثالها يختلف كثيرا ولله الحمد والمنة ، وهي الأقسام التي وجهها أبناء الأمة الأصلاء ممن لم يتلوثوا بلوثات العلمانية، فحاولوا أن ينقلوا للأمة ما يمكن أن تستفيد منه من منجزات التقدم الغربي مع الحفاظ على هويتها وأصالتها وقيمها .
9- من خلال الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي(15/366)
لكنها لم تستطع أن تتخلى عن توجهاتها الفكرية، وقيمها وأنماط حياتها الاجتماعية ، وهذا أمر طبيعي، فكانت من خلال ما جلبته من قيادات إدارية وعمالة فنية احتكت بالشعوب الإسلامية سبباً مهما في نشر الفكر العلماني وقيمه الاجتماعية و انعكاساته الأخلاقية والسلوكية، ولعل من المفارقات الجديرة بالتأمل، أن بعض البلدان التي كانت تعمل فيها بعض الشركات الغربية الكبرى من أمريكية وبريطانية لم تبتلى بالتنظيمات اليسارية، ولم تنشأ إلا في هذه الشركات في أوج اشتعال الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي.
• بعض ملامح العلمانية الوافدة:
لقد أصبح حَمَلة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تياراً واسعاً منفذاً غالباً على نخبة الأمة وخاصتها في الميادين المختلفة, من فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية ، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان :
أ- الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري، ويمثله - في الجملة - أحزاب وحركات وثورات ابتليت بها المنطقة ردحاً من الزمن ، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها ، وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء ، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعيين ، أو قوميين عنصريين .
ب- الاتجاه الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب ، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها .
• وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها :
1- مواجهة التراث الإسلامي ، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف - كما عند غلاة العلمانية - ، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية - كما يزعمون - لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، و أعراف اجتماعية. ولم ينجو من غاراتهم تلك حتى القرآن و السنة ، إمّا بدعوى بشرية الوحي ، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة ، أو بدعوى أنها مبادئ أخلاقية عامة ، أو مواعظ ورقائق روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة ، ولا ببيان العلم وحقائقه ، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث ، والمتجاوزين له "أدونيس" و "محمود درويش" و "البياتي" و "جابر عصفور" ومن لفّ لفهم وشايعهم وهم كثر لا كثرهم الله .
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم "حسن حنفي" و "محمد أركون"و "محمد عابد الجابري" و "حسين أمين" ومن على شاكلتهم ، ولم ينجُ من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه .
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري ، وتفسيره تفسيراً مادياً ، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغريبة العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة ، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني ، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها ، والثناء عليها ، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم مثل "ثورة الزنج" و "ثورة القرامطة" ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق ، وتكريس فكرة مفادها أنها من الإسلام بل هي الإسلام مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدى في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة، وأجياله المتعاقبة .
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم ، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله ، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم ، أو تهميشه - على الأقل - وجعله تابعاً لغيره من المصادر كالعقل والحس ، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب ، والسخرية من الإيمان بالغيب ، واعتبارها - في أحسن الأحوال - جزء من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية ، والترويج لما يسمي بالعقلانية والواقعية والإنسانية ، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل ، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان و الكفر ، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة . وفي كتابات " محمد عابد الجابري " و" حسن حنفي " و" حسين مروة " و" العروي " وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر .(15/367)
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي ، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد ، واستبدال ذلك بقيم الصراع و الاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس والتحلل والإباحية , من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية ، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية ، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه ، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه ، ولعل رواية "وليمة عشاء لأعشاب البحر" - السيئة الذكر - من أحدث الأمثلة على ذلك، والقائمة الطويلة من إنتاج"محمد شكري" و "الطاهر بن جلون" و "الطاهر طار" و "تركي الحمد" وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى .
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد ، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة ، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية ، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات ، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية ، والدراسات الاجتماعية ، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي .
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة ، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات ، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة ، وأن ذلك لا يمنع الحوار ، لكنها سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني ، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني ، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغورها ، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل .
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري ، عبر غوغائية إعلامية غير شريفة ولا أخلاقية ، لتخويف الناس من الإلتزام بالإسلام ، والاستماع لدعاته ، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء - وأحياناً الفظيعة - من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام ، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها ، وعبر عقود من السنين ، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين ، والتعامي عن الأصولية والنصرانية واليهودية الموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف .
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق ، والفكر والسياسة ، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها ، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث ، ودراسة المشاريع والبرامج ، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان ، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفرمنه ولا خلاص إلا به ، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية ، بل إنهم لَيصرخون بأن أي شئ في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية ، والتوسل لذلك بذرائعيه نفعية محضة لا يسيرها غير أهواء الدنيا وشهواتها .
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين ، ولعل الهجوم المستمر على المملكة العربية السعودية بسبب احتكامها للشريعة في الحدود والجنايات من هذا المنطلق ، وإن برّروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته ، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف ، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها ، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق ، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية .
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية ، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية وقضية المرأة ، ولكن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية ، ومنطلقات عقائدية ، وفلسفة خاصة للحياة ، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة ، والسعي لنزع حجابها ، وإخراجها للحياة العامة ، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها ، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال ، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة . يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة ، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال ، والقيام بشؤون المنزل ، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة ، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع ؟!(15/368)
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب ، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام ، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم ، وأساطين الفكر وعظماء الأدب ، وما أسماء "دارون" و "فرويد" و "دوركايم" ولا "الأنسنية" و "البنيوية" و "السريالية" وغير هذا الكثير مما لا يجهله المهتم بهذا الشأن ، وحتى أن بعض هذا قد يتجاوزه العلمانيون في الغرب ، ولكن صداه ما زال يتردد في عالم الأتباع في الشرق ، وكأننا نحتاج لعقود من الزمن ليفقه أبناؤنا عن أساتذتهم هذه المراجعات
د. عوض بن محمد القرني ... ...
==============(15/369)
(15/370)
العلمانية الجاحدة ثم الآن العلمانية المستترة
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
العلمانية SECULA r ISM :
- ترجمتها الصحيحة = اللادينية ، لا علاقة لها بمصطلح العلم ، أو الدنيوية ، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين .
- في الجانب السياسي ، اللادينية في الحكم .
- تعريف العلمانيين للعلمانية . انظر : موسوعة السياسة 4/179 .
تأسيسها وتطورها :
1 - طاغوتية رجال الدين النصارى واستبدادهم بالدين والسياسة ( الرهبانية ، الفساد .... ، صكوك الغفران ) .
2 - وقول الكنيسة ضد العلم والفكر المتحرر ، تشكيلها محاكم التفتيش لعلماء التجريب :
أ - كوبرنيكوس : نشر عام 1543 م كتاب الأجرام السماوية ، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب .
ب - جردانوا : صنع التلسكوب فعذب وعمره 70 وتوفي سنة 1642 م .
جـ - ديكارت : دعا إلى تطبيق المنهج العقلي في الفكر والحياة ( فلسفة الشك ) .
د - بيكون : ظهر بمدئه التجريبي وطلب تطبيقه على كل شيء .
هـ - سبنوزا : صاحب مدرسة النقد التاريخي ، كان مصيره الحرق .
و - جون لوك : طالب بإخضاع الوحي للعقل .
ز - جاليلو : استخدم التلسكوب فقتلته الكنيسة .
3 - ظهر مبدأ العقل والطبيعة ، أخذ العلمانيون يدعون إلى تحرير العقل وإضغاء صفات الإله على الطبيعة .
4 - نتيجة للصراع بين الكنيسة والحركات السالفة جاءت الثورة الفرنسية 1789 م ، أول حكومة لا دينية علمانية .
مراحل الثورة وشخصياتها :
أ - عصر التنوير الذي مهد لإرهاصات الثورة :
[ جان جاك روسو ] سنة 1778 م ، ألف كتاب ( العقد الاجتماعي ) يعتبر الجيل الثورة .
[ منتسيكو ] له ( روح القوانين ) .
[ سبينوزا ] يهودي يعتبر رائد العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة والسلوك ، له ( رسالة اللاهوت والسياسة ) .
[ فولتير ] مؤلف كتاب ( القانون الطبيعي ) .
[ كانت ] مؤلف كتاب ( الدين في حدود العقل وحده ) عام 1804 م .
[ وليم جودين ] مؤلف كتاب ( العدالة السياسة ) 1793 م ، وفيه دعوة للعلمانية بصراحة .
ب - [ ميرابو ] خطيب وزعيم فيلسوف الثورة الفرنسية .
جـ - تحرك الماسون واليهود مستغلين أخطاء الكنيسة والحكومة الفرنسية المعتمدة على الكنيسة وركبوا موجة الثورة لتحقيق أهدافهم .
د - سارت الجموع الغوغائية لهدم الباستيل وشعارها الخبز ثم تحول شعارها إلى [ الحرية والمساواة والإخاء ] ثم شعار [ تسقط الرجعية ] وهو شعار ملتوي يقصد به الدين .
نضوج العقل العلماني في تصوراته ومشاريعه المستقبلية إلى عقود قادمة بعيدة :
1 - الدفع بذوي النفوس المريضة والعقول الجاهلة لضرب الإسلاميين .
2 - استغلال الجهل الحاصل بين الإسلاميين في شؤون العلمانية لتمرير أعمالهم .
3 - المرأة والطفل .
4 - المقررات الدراسية ، الدخول منها ، مثلاً الفاء السيرة من منهج التاريخ ، واستبداله بتاريخ العالم المعاصر : تاريخ أمريكا والثورة الفرنسية ، التأكيد على القيم النبيلة في العصر الجاهلي .
5 - عداء الحركات الإسلامية والشخصيات المخلصة .
6 - عمل المرأة وتهيئتها لذلك من خلال التعليم مثل الهندسة والإحياء .
7 - تهوين المنكر لتمريره من خلال أن القضايا العميقة والمهمة هي التقدم المادي وأشباه ذلك .
8 - أن أمتنا أمة حضارة وذوق ووجدان = كالرسم والموسيقى والنحت .
9 - تشويه صورة الإسلام من خلال بدائل هزيلة وتشويه الشخصيات الإسلامية ، من خلال المؤلفات والمسلسلات .
10 - العقلانية .
11 - المجيء بحجج لتبرير عزل الدين = السياسة نجسة ، الاقتصاد الربوي ضرورة عالمية ، الأدب جمال وذوق ، الفكر العالمي ، إنسانية الثقافة .
12 - تشويه التاريخ الإسلامي باسم الدراسة الموضوعية .
13 - التشكيك في ثبوت السنة وصحة المصطلح وأصول الفقه ، والفقه .
هـ - تغلغل اليهود باسم العلمنة وإذابة الفوارق الدينية وتحولت الثورة من ثورة على مظالم رجال الدين إلى ثورة على الدين نفسه .
و - ظهرت نظرية التطور والارتقاء في أصل الأنواع لدارون عام 1859 م لتصبح هذه النظرية وسيلة لانهيار العقيدة الدينية ونشر الإلحاد .
ز - ظهرت نظرية نيتشه ( السوبرمان ) وفلسفتهم على أن الإله مات وحل محله الإنسان الأعلى .
ح - ظهرت نظرية دوركايم اليهودي المسماة العقل الجمعي جمع فيها بين حيوانية الإنسان وماديته .
ط - ظهرت نظرية فرويد اليهودي التي تعتبر الإنسان حيواناً جنسياً ، الجنس أساس كل الدوافع .
ي - ظهرت نظرية كارل ماركس اليهودي المادية الجدلية / التفسير المادي للتاريخ ، الاشتراكية ، أفيون الشعوب .
ك - ظهرت نظرية سارتر الوجودية .
ل - ظهرت نظرية كولن ولسن الوجودية الجديدة الداعية إلى الإلحاد .
الأفكار والمعتقدات :
1 - العلمانية العامة = فصل الدين عن الحياة الخاصة = فصل الدين عن بعض جوانب الحياة .
2 - بعضهم ينكر وجود الله ، وبعضهم يؤمن بوجوده سبحانه ولكن لا علاقة بين الله وحياة الإنسان .
3 - الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب ، العقلانية .
4 - إقامة حاجز بين عالمي الروح والمادة ، القيم الروحية لديهم قيم سلبية ضارة .
5 - إقامة الحياة على أساس مادي بحت .(15/371)
6 - فصل الدين عن الحياة ، فصل الدين عن السياسة .
7 - تطبيق مبدأ النفعية ( البراجماتيزم ) على كل شيء في الحياة .
8 - تطبيق مبدأ الميكافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق والعلاقات .
9 - نشر الإباحية والفوضى الخلقية وتهديم كيان الأسرة تحت شعار حرية المرأة .
معتقدات العلمانية في العالم الإسلامي والعربي :
1 - الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة .
2 - الزعم بأن الإسلام استنفذ أعراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية فردية .
3 - الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني .
4 - الزعم بأن الإسلام لايتلاءم مع الحضارة والتقدم لأنه يدعو للرجعية والتخلف .
5 - الدعوة إلى تحرير المرأة - عمل المرأة .
6 - تشويه الحضارة الإسلامية والتشكيك في التاريخ الإسلامي .
7 - الإشادة بالحركات الهدامة والفرق الضالة والزعم بأنها حركات إصلاح وتحرر
=============(15/372)
(15/373)
العلمانية المكشوفة..
كتبه فضيلة الشيخ عيسى الغيث
إن أحد التحديات الخطيرة - بل الأخطر- التي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر، لهي كشف وإسقاط اللافتات الزائفة والمقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة ، التي تتخفى وراءها العلمانية الكافرة بأفكارها وتجمعاتها وأفرادها، لتبث سمومها في عقول وقلوب أبناء وبنات هذه الأمة . ولفضح ومواجهة هذه الملة ؛ لا بد أولاً أن يصل مستوى المواجهة إلى المستوى المطلوب من الحسم والوضوح في نفوس أهل السنة أنفسهم قبل غيرهم ، فإنه بدون هذا الحسم وبدون هذا الوضوح يعجز الجميع عن أداء الواجب في هذه الفترة - الحرجة - ..
ونظراً لما أصاب كثيراً من أفكار بعض المسلمين من انحراف وغبش في هذا العصر، ولما يثيره أعداء الأمة والعقيدة والفكر والمنهج الإسلامي - الظاهرون منهم والمستترون - من شبهات وأباطيل في مجموعة من الوسائل التي فتحت أبوابها لهم على المصراعين والتي يجب أن تغلق في أوجه مخالفي الدين والثوابت والمبادئ وليس العادات والتقاليد كما يزعمون، وما تسمح به الحرية المنضبطة .. وعندما تفتح - أسفاً - لهم فلتفتح لحماة العقيدة بالمثل- على الأقل -.. ومن الضروري أن يقوم حماة الدين والعقيدة من أهل السنة والجماعة علماء ومفكرين ومثقفين وأدباء وغيرهم بتجلية تلك الأمور والشبهات والأباطيل والذي هو نوع من الجهاد في زماننا هذا..كما ورد في السنة الجهاد باللسان ..وما هو من وسائلة من مقروء ومسموع ومرئي ..إننا في زمان تفجر المعلومات فهذا الإنترنت والستالايت والاتصالات وجميع أنواع التقنية والتكنولوجيا التي جعلت العالم كالقرية الصغيرة فالشبهة التي تلقى في الغرب تصل بلمحة البصر إلى الشرق والشهوة التي ترمى في الشرق تصل قبل تمام كمالها إلى الغرب وهكذا .. فكما أن لهذه الاختراعات والصناعات إيجابيات فمنها سلبيات والحكيم الموفق الذي يدرأ مفسدة السلبيات وإن كان فيها مصالح ويسد ذرائعها عن نفسه وأهله ومجتمعه بشتى الوسائل ؛ ويجلب الإيجابيات للجميع بشتى الطرق ..
إن العلمانية نظام طاغوتي جاهلي كافر يتنافى ويتعارض تماماً مع الشهادتين وهما أول أركان الإسلام..وبغض النظر عن الأنواع سواء كان من المعسكر الشيوعي - الماركسي الاشتراكي - الشرقي الساقط الهالك أو كان من المعسكر الرأسمالي - الليبرالي - الغربي الذي أفتتن به حيث استقبل بيته الأبيض واستدبرت الكعبة ، أو غيرهما ..
إن الغياب المذهل لكثير من حقائق الإسلام عن عقول وقلوب كثير من الناس والغبش الكثيف الذي أنتجته الأفكار المنحرفة ؛ جعل الكثير من الناس يثيرون شبهات متهافتة ، لم تكن لتستحق أدنى نظر لولا الواقع المؤلم لأكثر المجتمعات..ومن هذه الشبهات استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ الكفر أو الجاهلية على من أطلقها الله تعالى عليه وشرع لها حد الردة ، فنشأ الفكر التأصيلي المزعوم الضال من فئام قد يحسبون على الأمة ورجالها وهم قد تشربوا الإرجاء حتى الثمالة .. مما دعا كبار علمائنا لتبني مواجهة هذا الخلل العقدي ببيان بطلان تلك الكتب وخطأ أصحابها الذين يشرعون للباطل ويبررونه وهو أشد من فعله دون اعتقاده .. فأصبح الواقع الضاغط يلجئ أولئك المتعالمين لتسويغ كثير من الجاهليات وتعليق الإيمان بالقول دون العمل .. وكرد فعل للغلو التكفيري شبه المطلق الخارجي خرج عنه عدم تكفير شبه مطلق مرجئ..فدين الله كامل وعقيدته وتوحيده لا يقبل التجزئة ، وقد جاءت الدعوات التجديدية لإرساء التوحيد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات بما فيها الحاكمية وعلى رأسها دعوة إمامنا المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ونصرة الدعوة السلفية من إمامنا المناصر محمد بن سعود - رحمه الله - والذي ترتب عليه توحيد شامل للعقيدة في القلب واللسان والعمل دون استثناء أو اختيار أو انتقاء فبارك الله فيها ونصرها وحفظها حتى يومنا هذا منارة للمسلمين وتاجاً على رؤوسهم ونوراً لهم في الظلمات بعقيدتها السلفية ودعوتها النقية التي تبنتها الدولة لأنها دولة الإسلام والمسلمين .. وفيها قبلتهم وعليها إمامهم ومنها علماؤهم ..فلا مكان لمن خالف الدين والعقيدة والثوابت .. والحرية مكفولة بشرط الإسلام وشريعته ..(15/374)
إن ما نراه في بعض المجتمعات من دعوات جاهلية متبجحة لفصل الدين عن الدولة بل وعن الحياة كلها حتى صار القائل بأن السياسة والاقتصاد من الدين غريباً محتقراً مستهجناً ..أما القائل ( الدين لله والوطن للجميع ) فهذا تقدمي ، وشعار ( لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ) فهذا تنوري .. وخرجت شعارات ( المدرسة العقلية ) المهزومة .. وشعار ( حكم الشعب بالشعب ) وشعار ( الحرية الشخصية ) وشعار ( الأمة مصدر السلطات ) وشعار ( حرية الثقافة والفكر )!! وحاولوا تطمين وتهدئة البسطاء فرفعوا شعار ( تطوير الشريعة ) و( مرونة الشريعة لتلبية حاجات العصر) وشعار ( تقنين الشريعة ) و(تجديد الفقه ) وكلها كلمات أريد بها باطل .. وجعلوا الدين في المسجد والقلب والوجدان فقط .. فمنعوه أولاً عن العمل والتطبيق ثم منعوه حتى بالقول واللسان ثم جعلوا مجرد الإيمان به في القلوب تهمة الظلام والرجعية والتخلف .. ولم يبق من التشريع الإسلامي سوى بعض قوانين الأحوال الشخصية.. وجعلوا الصفحات الدينية في المجلات مجرد ( فكر ديني ) .. وإن أطلقوا مصطلح العقيدة سموه ( إيديولوجيا ) !! ومع ذلك فلا يجوز أن ينسينا أي مذهب جاهلي حين بيانه وكشفه وجهاده أن نغفل غيره ولو قلَّ عنه أهمية مكانية أو زمانية أو كمية أو كيفية ..
نسأل الله الهدى والرشاد فمنه وحده التوفيق والسداد وهو على كل شيء قدير . هذا مقال كتبه فضيلة الشيخ عيسى الغيث في زاويته الأسبوعية - وحي الخاطر - بملحق الرسالة بجريدة المدينة الاثنين 25/11/1421ه
=============(15/375)
(15/376)
العلمانية النبتة الغريبة عن الحضارة الإسلامية
د. محمد عمر دولة*
مصطلح (العلمانية) يعني (اللادينية)؛ فهي دعوة إلى هجران التعاليم الدينية كلها, وفي الحياة السياسية تعني فصل الدين عن الدولة. ويلاحظ أنه لا علاقة لاسم العلمانية (SECULA r ISM) باصطلاح العلم (SCIENCE).
ما هو سبب ظهور العلمانية في الغرب؟
ظهرت هذه الفكرة في القرن السابع عشر في أوروبا نتيجة المعارك الكنسية مع العلم والعقل والحرية الفردية. فقد كانت محاولةً لحبس الدين في ضمائر الأفراد, وردّة فعل للسجن الطويل الذي مارسته الكنيسة على أهلها, فخنقت حريات الأفراد, وحبست ملكات العقل, وحاربت حقائق العلم. فهي دعوة إلى تقهقر الكنيسة إلى الشعائر والمشاعر الشكلية, وتقوقع الدين في المراسم والمواسم؛ ليعود الشعار "أعط ما لقيصر لقيصر, وما لله لله".
ما هي الجذور الفكرية للعلمانية؟
يضاف للمشكلة الكنسية, وانقلابها إلى "عاملٍ مُعوِّقٍ عن الحياة, مضادٍّ للعلم والحضارة والتقدم والرقي, محقّرٍ للإنسان ونزعاته الحيوية, مُهْمِلٍ للحياة الدنيا"1، يُضاف إليها الدور اليهودي؛ إذ ليس غريباً "أن يكون اليهود وراء فصل الدين عن الدولة", كما صرح بذلك الكاتب الأمريكي وليام غاي كار في كتابه (أحجار الشطرنج)؛ "بغية القضاء على الدين الذي حرّفوه, بتعطيله عن المجتمع داخل جدران الكنيسة"2؛ لأنّ العلمانية تذيب الفوارق الدينية الهائلة بين اليهود وغيرهم من الشعوب والأمم3, ولا يخفى هاهنا دور أدبيات المفكرين اللادينيين من اليهود وغيرهم من (الليبراليين)، الذين يسحبون ذيل التجربة الغربية مع الكنيسة على ما سوى ذلك من الأديان؛ ولذلك نجد أنّ أُسُسَ العلمانية مستمدةٌ من كتاب (أصل الأنواع) لـ(دَارْوِن) 1859م القائل بنظرية التطوُّر, وكتابات (نيتشه) عن الإنسان الأعلى (السوبرمان), وأدبيات (دور كايم) عن (العقل الجمعي)، وتحليل (فرويد) للسلوك الإنساني بـ (الغريزة الجنسية), وكتابات (كارل ماركس) عن (المادية الجدلية والتاريخية), وأدبيات سارتر عن (الوجودية)...
كيف انتقلت (اللادينية) إلى العالم الإسلامي؟
لابدّ للجواب على هذا السؤال الكبير من استدعاء جملة من الدعائم التي سوّغت لبعض النُّخَب في العالم الإسلامي تسويق هذه الفكرة، في زحمة استيراد عوامل النهضة على طريقة التحديث الغربي؛ إسقاطاً لتجربة الغرب, وتغييباً لذاتية الشرق ومقوماته الحضارية.
فأُولى هذه الدعائم: الإرساليات الأجنبية بمختلف أنشطتها التبشيرية, التي كان لها أضرار جسيمة؛ إذ "لم يتوانَ المُرْسَلُون في إطار التوسع وتكريس الهيمنة عن تدعيم خليط من رجال الأعمال والمغامرين السياسيين والمستعمرين والمستشرقين في عملياتهم التوسعية، التي تهدف إلى استطلاع المنطقة، وترسيخ دعائم السيطرة الأوروبية في أذهان الأهالي، ومحاولة احتواء الثوابت الدينية والمذهبية عندهم"4.
وثانية هذه الدعائم: الاستشراق وأيديولوجية الهيمنة ؛ إذ لم يكن القصد من الدراسات الاستشراقية تجريد الشرق من كل مزاياه الفكرية فحسب, وإنما تأسيس خطاب فكري للآخرين؛ يبرّر من خلاله للمركزية العرقية الأوروبية زعزعةَ ثقة الشعوب الشرقية بذاتها وبمعاييرها، وتدمير مجتمعاتها وعوامل الاستمرارية والثبات عندها.
وقد عملت في سبيل تحقيق هاتين الرغبتين على تسخير طائفة من الكُتّاب الحاقدين, الذين أسقطوا عداوتهم على دراسة الإسلام؛ بناءً على الصُّوَر المشوّهة في أذهانهم؛ فجاءت غالب بحوثهم في منتهى التعصب والإجحاف والتزوير, وكانت عبارة عن تبريرٍ لأطماع الغرب الباحث عن مستعمرات وراء البحار, واستلحاقٍ لأهل الشرق الباحثين عن طريق للخروج من الانحطاط.
وقد بثوا سمومهم الصليبية طعناً في القرآن وتشكيكاً في السنة, وإحياءً للخلافات والنعرات والعصبيات في التاريخ الإسلامي, وإبرازاً للصفحات السوداء ـ فقط! ـ من تراث الحضارة الإسلامية. فقد مثّلتِ الدراسات الاستشراقية جنايةً على الإسلام والإنسان وتنكّبتِ الموضوعيةَ العلمية, وكشفت الروح الصليبية التي تحكم كتابات (غولد زيهر)، و(شاخت)، و(مونتغمري وات)، و(نويل ج. كولسون)، و(مرجليوث)، و(يودوفيتش)، و(رينان)5..(15/377)
وثالثة هذه الدعائم: المسألة الاستعمارية القائمة على النّرجسية العرقية الغربية, كما يجده دارس أدبيات ما قبل الاستعمار من تكريس فكرة أحقية الغرب في استتباع العالم ببَلْوَرَة المفاهيم المركزية الغربية, وتظافرها مع التبشير باسم (العقل) و(العقلانية) و(الموضوعية العلمية). فالمتأمِّل في كتابات (هيجل 6(مثلاً يرى نموذجاً من طغيان الفكرة الاستكبارية الغربية؛ التي كانت أساساً ومبرِّراً للحملات الاستعمارية الصليبية، حيث شحن كتبه بالافتراء على الحضارات الأخرى وتحقيرها؛ ليسوِّغ إلحاقها بالتبعية إلى المركزية الغربية كما في مقولاته المشهورة: "لا توجد فلسفة بالمعنى الحقيقي إلا في الغرب"، و"في الطبعِ الشرقيِّ الروحُ غارقةٌ في الطبيعة"، و"الفكر هنا غيبيٌّ تماماً"؛ وبناءً على ذلك تأسست أيديوجية الشعب المتحضر المسيطر على غيره من الشعوب المتوحّشة، كما عبّر (هيجل) عن ذلك بأنه "الحق الذي يملكه الشعب المسيطر على التاريخ العالمي؛ لأنه ممثل الدرجة الراهنة لروح العالم، أما بقية الشعوب فهي بلا حقوق ولا يحسب لها حساب في التاريخ العالمي"؛ لأنّ بقية الشعوب "برابرة لم يبلغوا ـ بَعْدُ ـ نفس اللحظة الجوهرية؛ لذلك نتعامل مع استقلالها كشيء شكلي".
فقد أصبح الاستعمار ـ إذن ـ عملاً (إنسانياً) يسوّغ غزو الشعوب المسماة بالمتوحشة، وفي ذلك يقول (فيري) بكل جرأة واستكبار: "لا بد من القول علنا أن الأعراق المتفوّقة لديها كامل الحق إزاء الأعراق الأدنى".
ورابعة هذه الدعائم: عقلية الاستتباع التي ارتضاها نخبة من ذوي الانبهار بقدرات الاستكبار الغربي ومن فيهم (قابلية الاستعمار) ـ بتعبير مالك بن نبي ـ ومن قَبْلِه علاّمة الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله القائل: "إنّ المغلوب مُولعٌ بتقليد الغالب". فقد عاش بعض (المُتَعَالِمين) من العالم الإسلامي اغتراباً كاملاً عن المقوّم الحضاري, واستجابةً عارمةً للنداء الاستكباري؛ حيث صدّق عليهم الاستعمار ظنه فاتبعوه, واستخفّهم ببُنَاه المعرفية وفلسفته المادية فأطاعوه؛ وصاروا معاولَ هدمٍ في صرح الثقافة الإسلامية ـ كما تراه في كتابات (طه حسين)، و(أحمد أمين)، و(علي عبد الرازق) ـ, وعواملَ نقضٍ لمقوّمات الهويّة والذاتيّة الحضاريّة. فقد صنع الاستعمار هذه النُخَب على عينه، وربّى عقولها ووجداناتها وتوجّهاتها ِوفق فلسفات مرجعيّته الفكرية؛ حتى غدَوْا متنكِّرين لِقيَمهم الدينية, مستكبرين على ثقافتهم الذاتيّة.
إذن، فقد كانت أخطر دعائم العلمانية في البلاد الإسلامية: استقطاب الخطاب الاستعماري فئاتٍ أصبحت تمثل منظومة الاستكبار الغربية, لكنها غريبةٌ معزولةٌ في ديار الإسلام، "جُزُرٌ في أوطانها" بتعبير (غريغوار)7. ويكفي في بيان استضعاف هذه النخبة وانهزامها واستتباعها ما كتبه أحد روادّها (د.طه حسين): "لقد التزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم, ونسير سيرتها في الإدارة, ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كلّه أمام أوروبا، وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأن نسير مسيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع؟ فلو أننا هممنا الآن أن نعود أدراجنا، وأن نجبي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً و لوجدنا أن أمامنا عقاباً لا تُجاز ولا تُذلّل, عِقاباً نقيمها نحن, وعِقاباً تقيمها أوروبا؛ لأننا عاهدناها أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة"8!
لماذا فشلت المناهج العلمانية في بلاد المسلمين؟
من أهم أسباب الفشل الذريع الذي وجدته العلمانية في العالم الإسلامي: أنها كانت مصادمةً للثوابت الدينية, وأنّ الذين استوردوها قد أغفلوا الفروق بين الواقع الغربي والواقع المسلم, فأسقطوا التجربة الكَنَسِيَّة البابويةَ المحاربةَ للعلم على واقعٍ مخالفٍ تماماً؛ فهي شجرةٌ قُطِعت من جذورها. ورحم الله مالك بن نبي حيث قال: "إن شيئاً ما قد يموت إذا قُطِع عن وسطه الثقافي المعتاد"9، وإنّ "الفرد إذا فقد صِلََته بالمجال الثقافي فإنه يموت ثقافياً" ، وكما أنّ لكل مجتمع "مقبرة يستودعها موتاه, فإن لديه مقبرةً يستودعها أفكاره الميتة, الأفكار التي لم يعد لها دور اجتماعي"10، وإنّ من أخطر أشكال العدوى: "ذلك الذي ينقل الأمراض الاجتماعية من جيل إلى جيل"11، و"هذه الجراثيم الخاصة أفكار معدية, أفكارٌ تهدم كيان المجتمعات وتعوق نموها"12.
وأخيرا نُسجّل ـ بناءً على انبتات العلمانية في ديارنا ـ أنّ تحضُّرَ الإنسان لا يكون إلا بتحدُّره من ثقافته كما يتحدَّر الجُمان، وأنّ الخروج من الانحطاط ليس بحثاً وراء المحيطات ولا استغراباً أو استيراداً للفلسفات, بل هو تحرير للذات، وانبعاث للثقافة من مكنونات الأمة, واستنهاض ما فيها من قدرات.
----------
[1] العلمانيّون والإسلام، للشيخ محمد قطب: 16ـ17 .
[2] أساليب الغزو الفكري، د. علي محمد جريشة: 60.
[3] راجع: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي: 2/690.(15/378)
[4] راجع: مقدّمات الاستتباع، غريغوار منصور مرشو: 52 - 53.
[5] راجع: مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية، الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في مطلع الخامس عشر الهجري. وهو كتاب نافع يقع في مجلدين كبيرين.
[6] انظر: كتابين لـ(هيجل): دروس في تاريخ الفلسفة، وأساليب فلسفة الحقوق.
[7] مقدمات الاستتباع: 53.
[8] مستقبل الثقافة في مصر، طه حسين: 1/36 - 37.
[9] مشكلة الثقافة، مالك بن نبي: 55.
[10] المرجع السابق: 50.
[11] مشكلة الثقافة: 46.
[12] المرجع السابق: 14.
==============(15/379)
(15/380)
العلمانية وثمارها الخبيثة
يتناول الدرس كلمات موجزة عن 'العلمانية وثمارها الخبيثة' في بلاد المسلمين؛ لعلها تُؤتي ثمارها في تبصير المسلمين بحقيقة هذه الدعوة، ومصادرها، وخطرها على ديننا، وآثارها المميتة، حتى نسارع في التحصن منها، ومقاومتها، وفضح دُعاتها، والقضاء عليها - بإذن الله - حتى نعود إلى ديننا، وتعود لنا العزة .
فإن أمتنا الإسلامية اليوم تمر بقترة من أسوأ فترات حياتها، فهي الآن ضعيفة مستذلة، قد تسلط عليها أشرار الناس من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، وما لذلك من سبب إلا البُعد عن الالتزام بالدين الذي أنزله الله لنا هداية ورشادًا، وإخراجًا لنا من الظلمات إلى النور . قد كان لانتشار العلمانية على المستوى الرسمي، والفكري، والإعلامي الأثر الأكبر في ترسيخ هذا البُعد وتثبيته، والحيلولة دون الرجوع مرة أخرى إلى نبع الهداية ومعدن التقوى .
من هنا كانت هذه الكلمات الموجزة عن 'العلمانية وثمارها الخبيثة' في بلاد المسلمين؛ لعلها تُؤتي ثمارها في تبصير المسلمين بحقيقة هذه الدعوة، ومصادرها، وخطرها على ديننا، وآثارها المميتة، حتى نسارع في التحصن منها، ومقاومتها، وفضح دُعاتها، والقضاء عليها - بإذن الله - حتى نعود إلى ديننا، وتعود لنا العزة كما كانت:
} وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8]{ 'سورة المنافقون'.نسأل الله من فضله التوفيق والإرشاد والسداد .
ما هي العلمانية ؟
لن نتعب في العثور على الجواب الصحيح، فقد كفتنا القواميس المؤلفة في البلاد الغربية، التي نشأت فيها العلمانية مؤنة البحث والتنقيب، فقد جاء في 'القاموس الإنجليزي' أن كلمة: ' علماني ' تعني:
1- دنيوي، أو مادي .
2- ليس بديني، أو ليس بروحاني .
3- ليس بمترهب، ليس برهباني .
وجاء أيضاً في القاموس نفسه: [ العلمانية : هي النظرية التي تقول: إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية] .
وفي 'دائر المعارف البريطانية' نجدها تذكر عن العلمانية أنها: حركة اجتماعية، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب . وحينما تحدثت عن العلمانية، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد، وقد قسمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين:
إلحاد نظري .
إلحاد عملي ، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي .
وما تقدم ذكره يعني أمرين :
أولهما: أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية، التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والقانونية، وغيرها، بعيدًا عن أوامر الدين ونواهيه .
ثانيهما: أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم- كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس، بأن المراد بالعلمانية: هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به، فقد تبين كذب هذا الزعم وتلبيسه بما ذكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها- . ولهذا ، لو قيل عن هذه الكلمة: 'العلمانية' إنها:' اللادينية؛ لكان ذلك أدق تعبيرًا وأصدق' وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس، وأوضح في المدلول .
كيف ظهرت العلمانية؟
كان الغرب النصراني في ظروفه الدينية المتردية هو البيئة التي نبتت فيها شجرة العلمانية، وقد كانت فرنسا بعد ثورتها المشهورة هي أول دولة تُقيم نظامها على أسس الفكر العلماني، ولم يكن هذا الذي حدث من ظهور الفكر العلماني والتقيد به - بما يتضمنه من إلحاد ، وإبعاد للدين عن كافة مجالات الحياة، بالإضافة إلى بغض الدين ومعاداته، ومعاداة أهله - لم يكن هذا حدثًا غريبًا في بابه، ذلك لأن الدين عندهم حينئذ لم يكن يمثل وحي الله الخالص الذي أوحاه إلى عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - ، وإنما تدخلت فيه أيدي التحريف والتزييف، فبدلت وغيرت وأضافت وحذفت ، فكان من نتيجة ذلك أن تعارض الدين المُبدَّل مع مصالح الناس في دنياهم ومعاملاتهم، في الوقت نفسه الذي تعارض مع حقائق العلم الثابتة، ولم تكتفِ الكنيسة - الممثلة للدين عندهم - بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل، حتى جعلت ذلك دينًا يجب الالتزام والتقيد به، وحاكمت إليه العلماء المكتشفين، والمخترعين، وعاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية المناقضة للدين المبدل، فاتهمت بالزندقة والإلحاد، فقتلت من قتلت، وحرَّقت من حرَّقت، وسجنت من سجنت . ومن جانب آخر فإن الكنيسة - الممثلة للدين عند النصارى - أقامت تحالفًا غير شريف مع الحكام الظالمين ، وأسبغت عليهم هالاتٍ من التقديس ، والعصمة ، وسوَّغت لهم كل ما يأتون به من جرائم وفظائع في حق شعوبهم، زاعمة أن هذا هو الدين الذي ينبغي على الجميع الرضوخ له والرضا به .(15/381)
من هنا بدأ الناس هناك يبحثون عن مهرب لهم من سجن الكنيسة ومن طغيانها، ولم يكن مخرجهم الذي اختاروه إذ ذاك، إلا الخروج على ذلك الدين - الذي يحارب العلم ويناصر المجرمين - والتمرد عليه، وإبعاده وطرده، من كافة جوانب الحياة السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والأخلاقية، وغيرها .
وإذا كان هذا الذي حدث في بلاد الغرب النصراني ليس بغريب ، فإنه غير ممكن في الإسلام، بل ولا متصور الوقوع، فوحي الله في الإسلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلا هو ممكن التحريف والتبديل، ولا هو ممكن أن يُزاد فيه أو يُنقص منه، وهو في الوقت نفسه لا يحابي أحدًا، سواء كان حاكمًا أو محكومًا، فالكل أمام شريعته سواء، وهو أيضًا يحافظ على مصالح الناس الحقيقية، فليس فيه تشريع واحد يُعارض مصلحة البشرية، وهو أيضًا يحرص على العلم ويحض عليه، وليس فيه نص شرعي صحيح يُعارض حقيقة علمية، فالإسلام حق كله، عدل كله.
ومن هنا فإن كل الأفكار والمناهج التي ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والنفور منه، ما كان لها أن تظهر، بل ما كان لها أن تجد آذانًا تسمع في بلاد المسلمين، لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة، والتي صادفت في الوقت نفسه قلوبًا من حقائق الإيمان خاوية، وعقولاً عن التفكير الصحيح عاطلة، ودينًا في مجال التمدن ضائعة متخلفة .
صور العلمانية:
للعلمانية صورتان، كل صورة أقبح من الأخرى:
الصورة الأولى : العلمانية الملحدة : وهي التي تنكر الدين كلية، وتنكر وجود الله الخالق، ولا تعترف بشيء من ذلك، بل وتحارب وتعادي من يدعو إلى مجرد الإيمان بوجود الله، وهذه العلمانية على فجورها ووقاحتها في التبجح بكفرها، إلا أن الحكم بكفرها أمر ظاهر، فلا ينطلي أمرها على المسلمين ، ولا يُقبل عليها من المسلمين إلا رجل يريد أن يفارق دينه، وخطر هذه الصورة من العلمانية من حيث التلبيس على عوام المسلمين خطر ضعيف، وإن كان لها خطر عظيم من حيث محاربة الدين، ومعاداة المؤمنين وحربهم وإيذائهم بالتعذيب، أو السجن أو القتل .
الصورة الثانية : العلمانية غير الملحدة- والعلمانية في جميع صورها وأشكالها هي في الحقيقة ملحدة ، سواء منها ما ينكر وجود الله ، وما لا ينكر ؛ لأن أصل الإلحاد في لغة العرب معناه : العدول عن القصد ، والميل إلى الجور والانحراف . وإنما قلنا علمانية ملحدة ، وغير ملحدة ، جريًا على ما اشتهر عند الناس اليوم : أن الإلحاد يطلق على إنكار وجود الله فقط :
وهي علمانية لا تنكر وجود الله ، وتؤمن به إيمانًا نظريًا: لكنها تنكر تدخل الدين في شئون الدنيا، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا، وهذه الصورة أشد خطرًا من الصورة السابقة؛ من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسلمين، فعدم إنكارها لوجود الله ، وعدم ظهور محاربتها للتدين- فكثير من الناس لا يظهر لهم محاربة العلمانية غير الملحدة للدين؛ لأن الدين انحصر عندهم في نطاق بعض العبادات ، فإذا لم تمنع العلمانية مثلاً الصلاة في المساجد، أو لم تمنع الحج إلى بيت الله الحرام؛ ظنوا أن العلمانية لا تحارب الدين، أما من فهم الدين بالفهم الصحيح، فإنه يعلم علم اليقين محاربة العلمانية للدين، فهل هناك محاربة أشد وأوضح من إقصاء شريعة الله عن الحكم في شتى المجالات- وهذا يغطي على أكثر عوام المسلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية، فلا يتبينون ما فيها من الكفر؛ لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين، ولذلك تجد أكثر الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسلمين أنظمة علمانية، والكثرة الكاثرة، والجمهور الأعظم من المسلمين لا يعرفون حقيقة ذلك .
ومثل هذه الأنظمة العلمانية اليوم، تحارب الدين حقيقة، وتحارب الدعاة إلى الله، وهي آمنة مطمئنة أن يصفها أحد بالكفر والمروق من الدين؛ لأنها لم تظهر بالصورة الأولى، وما ذلك إلا لجهل كثير من المسلمين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وسائر المسلمين ، وأن يفقه الأمة في دينها حتى تعرف حقيقة هذه الأنظمة المعادية للدين. ولهذا فليس من المستبعد أو الغريب عند المسلم الفاهم لدينه أن يجد في كلمات أو كتابات كثير من العلمانيين المعروفين بعلمانيتهم ذكر الله سبحانه وتعالى، أو ذكر رسول صلى الله عليه وسلم ، أو ذكر الإسلام، وإنما تظهر الغرابة وتبدو الدهشة عند أولئك الذين لا يفهمون حقائق الأمور .(15/382)
والخلاصة: أن العلمانية بصورتيها السابقتين كفر بواح لاشك فيها ولا ارتياب، وأن من آمن بأي صورة منها وقبلها فقد خرج من دين الإسلام، وذلك أن الإسلام دين شامل كامل، له في كل جانب من جوانب الإنسان: الروحية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والاجتماعية، منهج واضح وكامل، ولا يقبل ولا يُجيز أن يشاركه فيه منهج آخر، قال الله تعالى مبينًا وجوب الدخول في كل مناهج الإسلام وتشريعاته:} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً[208] {'سورة البقرة'. وقال تعالى مبينًا كفر من أخذ بعضًا من مناهج الإسلام، ورفض البعض الآخر:} أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[85]{ 'سورة البقرة'. والأدلة الشرعية كثيرة جدًا في بيان كفر وضلال من رفض شيئًا محققًا معلومًا أنه من دين الإسلام، ولو كان هذا الشيء يسيرًا جدًا، فكيف بمن رفض الأخذ بكل الأحكام الشرعية المتعلقة بسياسة الدنيا - مثل العلمانيين - من فعل ذلك فلاشك في كفره .
والعلمانييون قد ارتكبوا ناقضًا من نواقض الإسلام، يوم أن اعتقدوا أن هدي غير صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، وأن حكم غيره أفضل من حكمه، قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله:' ويدخل في القسم الرابع - أي من نواقض الإسلام - من اعتقد أن الأنظمة القوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سببًا في تخلف المسلمين، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه، دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى' 'وكتاب العقيدة الصحيحة للشيخ عبدالعزيز بن باز ص30'.
بعض الثمار الخبيثة للعلمانية :
1- رفض الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى ، وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة: والاستعاضة عن الوحي الإلهي المُنزَّل على سيد البشر r بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله، واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله، وهجر القوانين الوضعية، اعتبار ذلك تخلفًا ورجعية وردة عن التقدم والحضارة، وسببًا في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم، وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب، حتى لا يؤثروا فيهم .
2- تحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه ، وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية ، على أنها عصور همجية تسودها الفوضى ، والمطامع الشخصية .
3- إفساد التعليم وجعله خادمًا لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق :
بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ ، والطلاب في مختلف مراحل التعليم .
تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن .
منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم .
تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل أنها لا تعارضه .
إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس ، ومنعهم من الاختلاط بالطلاب ، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش .
جعل مادة الدين مادة هامشية ، حيث يكون موضعها في آخر اليوم الدراسي، وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب .
4- إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة ، وهم المسلمون ، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد ، وصهر الجميع في إطار واحد ، وجعلهم جميعًا بمنزلة واحدة من حيث الظاهر ، وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان : فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي والبرهمي كل هؤلاء وغيرهم، في ظل هذا الفكر بمنزلة واحدة يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني . وفي ظل هذا الفكر يكون لا حرج فيه ، كذلك لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من النحل الكافرة حاكمًا على بلاد المسلمين . ويحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما سموه بـ 'الوحدة الوطنية ' . بل جعلوا 'الوحدة الوطنية ' هي الأصل والعصام، وكل ما خالفها من كتاب الله أو سنة رسول صلى الله عليه وسلم طرحوه ورفضوه ، وقالوا:هذا يعرض الوحدة الوطنية للخطر !! .
5- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية ، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية ، وتشجيع ذلك والحض عليه : وذلك عن طريق :
القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها ، وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة .
وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة ، وبالتصريح مرة أخرى ليلاً ونهارًا .(15/383)
محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات .
6- محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق :
تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي ، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية ، والشريعة الإسلامية .
إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف ، ولتحريف معاني النصوص الشرعية ، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يُبصِّرون الناس بحقيقة الدين .
7- مطاردة الدعاة إلى الله ، ومحاربتهم ، وإلصاق التهم الباطلة بهم ، ونعتهم بالأوصاف الذميمة ، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكريًا ، ومتحجرة عقليًا ، وأنهم رجعيون ، يُحاربون كل مخترعات العلم الحديث النافع ، وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور ، بل يتمسكون بالقشور ويَدعون الأصول .
8- التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية ، وذلك عن طريق النفي أو السجن أو القتل .
9- إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله ، ومهاجمتها واعتبارها نوعًا من أنواع الهمجية وقطع الطريق:
وذلك أن الجهاد في سبيل الله معناه القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلا سلطان الإسلام، والقوم - أي العلمانيين - قد عزلوا الدين عن التدخل في شئون الدنيا، وجعلوا الدين - في أحسن أقوالهم - علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد، بحيث لا يكون لهذه العبادة تأثير في أقواله وأفعاله وسلوكه خارج مكان العبادة . فكيف يكون عندهم إذاً جهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين ؟!!
والقتال المشروع عند العلمانيين وأذنابهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض ، أما الدفاع عن الدين والعمل على نشره والقتال في سبيله، فهذا عندهم عمل من أعمال العدوان والهمجية التي تأباها الإنسانية المتمدنة !!
10- الدعوة إلى القومية أو الوطنية: وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس، أو اللغة، أو المكان، أو المصالح، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع ، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعد عاملاً من أكبر عوامل التفرق والشقاق، حتى قال قائل منهم :'والتجربة الإنسانية عبر القرون الدامية ، دلَّت على أن الدين - وهو سبيل الناس لتأمين ما بعد الحياة - ذهب بأمن الحياة ذاتها ' .
هذه هي بعض الثمار الخبيثة التي أنتجتها العلمانية في بلاد المسلمين ، وإلا فثمارها الخبيثة أكثر من ذلك بكثير .
والمسلم يستطيع أن يلمس كل هذه الثمار، أو جُلها في غالب بلاد المسلمين، وهو في الوقت ذاته يستطيع أن يُدرك إلى أي مدى تغلغلت العلمانية في بلدٍ ما اعتمادًا على ما يجده من هذه الثمار الخبيثة فيها . والمسلم أينما تلفت يمينًا أو يسارًا في أي بلد من بلاد المسلمين يستطيع أن يدرك بسهولة ويسر ثمرة، أو عدة ثمار من هذه الثمار الخبيثة، بينما لا يستطيع أن يجد بالسهولة نفسها بلدًا خاليًا من جميع هذه الثمار الخبيثة .
من رسالة:'العلمانية وثمارها الخبيثة' للشيخ/ محمد شاكر الشريف
==============(15/384)
(15/385)
العلمانية وفصل الدين عن الدولة
دعوة قديمة جديدة
الحلقة الأولى
طريف السيد عيسى
alsayed_59@hotmail.com
مافتئ دعاة العلمانية يروجون لدعوتهم تلك بفصل الدين عن الدولة داعمين تلك الدعوة بحجج وأدلة حتى غدت تلك الدعوة لسان حال أكثر الأحزاب السياسية حتى كاد يكون هذا المبدأ بدهيا لايحتاج عند أصحابه الى كبير عناء في التدليل عليه ,والمناقشة في صحته ,ويستندون في هذه الدعوة الى وقائع التاريخ ,والى طبيعة الدين , ووظائف الدولة في العصر الحديث .
ومما لاشك فيه أن الصراع العنيف الذي قام في أوربا في عصور النهضة بين الدين والعلم أدى الى فصل الدين عن الدولة والى منع رجال الدين من التدخل في السياسة العامة , فقدر لهذه النهضة أن تشق طريقها نحو البناء وقدر للبشرية أن تتخلص من الحروب الدموية التي كان يشنها رجال الدين على مخالفيهم واستطاعت الحضارة الحديثة أن تأخذ طريقها في التقدم العلمي والبناء والتطور .
ودعاة العلمانية يبررون دعوتهم بأن أي دولة يجب أن تتوفر فيها ثلاثة عناصر رئيسية :
1-تستمد الدولة سلطانها من الشعب .
2-الدولة لكل المواطنين بغض النظر عن المعتقد أو العرق فلا تميز بين فئة وفئة.
3-أن تكون تقدمية متطورة .
ويقول دعاة العلمانية أن الدين لايسمح بتحقق هذه الشروط باعتبار أن مبادئه ثابتة لاتتطور , وأن الدين يجعل لرجال الدين السلطة , وأن الدين يعطي لأتباعه الحق بالتميز والتعالي على الآخرين , اضافة الى حجج ومبررات يدعيها دعاة العلمانية .
ان كل هذه المبررات تسقط أمام الحقائق التي يتلقاها العقل بالاستقراء والتحليل من خلال حقائق تاريخية ومن خلال مبادئ الدين .
وقبل الدخول في تفنيد هذه الحجج لابد أن نعطي تعريفا للعملمانية معتمدين على مراجع دعاة العلمانية ومؤسسيها حيث هناك عدة تعاريف للعلمانية :
-العلمانية هي اللادينية أو الدنيوية أما نسبتها للعلم فهي ترجمة خاطئة لكلمة secula r ism بالانكليزية وsecula r ite بالفرنسية فلفظ العلم ومشتقاته هو science .
-تقول دائرة المعارف البريطانية ان مادة secula r ism حركة اجتماعية تهدف لصرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة الى الاهتمام بالدنيا وحدها .
-وجاء في قاموس العالم الجديد للوبستر شرحا مفصلا بأنها الروح الدنيوية أو الاتجاهات الدنيوية أو نظام من المبادئ والتطبيقات يرفض أي شكل من أشكال العبادة أو الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية لادخل لها في شؤون الدولة .
-وجاء في معجم أكسفورد عدة معاني : فهي دنيوي أو مادي , ليس دينا ولا روحيا , التربية اللادينية , السلطة اللادينية , الحكومة المناقضة للكنيسة .
-وجاء في المعجم الدولي الثالث على أنها اتجاه في الحياة أو في أي شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادا مقصودا .
-ويقول المستشرق أر بري في كتابه الدين والشرق الأوسط : ان المادية العلمية والانسانية والمذهب الطبيعي والوضعية كلها أشكال اللادينية ,واللادينية صفة مميزة لأوربا وأمريكا .
-كما أن جون هوليوك يقول : العلمانية لاتعني فقط فصل الدين عن الدولة بل فصل القيم الانسانية والأخلاقية والدينية عن الحياة في جانبها العام والخاص , وان مثل هذا الكلام قاله مفكرين غربيين كثر .
وبعد تقديم عدة تعريفات للعلمانية والتي كلها تصب في التعريف الذي اصبح متعارف عليه وهو فصل الدين عن الدولة بل فصل كل القيم عن الحياة في جانبيها العام والخاص .
ونعود الآن لمبررات وحجج أصحاب هذه الدعوة لنناقشها بهدوء .
أولا - منطلقات لابد منها :
1-يعرف الدين على أنه مجموعة من النظم والمبادئ في العقيدة والعبادة تربط الناس قيما بينهم ليشكلوا أمة معنوية واحدة .
2-الدولة هي مكونة من السكان والأرض والحكومة والسيادة بحيث تقوم مجموعة من الشعب بتأمين الحق والعدل بين المواطنين .
3-يجب أن تكون العلاقة بين الدين والدولة علاقة ايجابية بحيث تشرف الدولة على التعاون بين الناس من حيث الايمان والأخلاق والتشريع وقرر علماء الاجتماع أن الدين من أكبر المؤثرات في قيام المجتمع وبناء الحضارة .
ثانيا - أسباب الانحراف والسلبية في علاقة الدين بالدولة :
التطرق لهذه الأسباب يقودنا الى الحديث عن الديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والاسلام .(15/386)
1-اليهودية : وهي ديانة سماوية كسائر الديانات تأمر بالايمان بالله تعالى وحده لاشريك له واحسان المعاملة مع الناس , فكانت نبوة موسى عليه السلام تعليم بني اسرائيل وتحريرهم من العبودية للفراعنة وتهذيب أخلاقهم , ومع مرور الزمن بدأ الانحراف حتى غدت اليهودية ديانة طائفة تدعوا للتمييز بين اليهود وغيرهم في المعاملات والعبادات والأخلاق فنجد أن الربا محرم بين يهودي ويهودي آخر لكنه حلال بين يهودي وشخص آخر من أتباع الديانة غير اليهودية , كما شمل الانحراف طريقة التعامل مع الآخر غير اليهودي بالقسوة والعنف حيث جاء في التثنية : حين تقرب من مدينة كي تحاربها استدعها الى الصلح فان أجابتك الى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها واذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف , وأما النساء والأطفال والبهائم وكل مافي المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك , هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم الذين هنا ,وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب الهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما - التثنية 20\10-16.
كما أن عقيدة شعب الله المختار جعلت اليهود يعتقدون أن من حقهم السيطرة على كل شعوب الأرض .
اضافة الى بعض التشريعات التي تدعوا للكسل من خلال اعتقادهم بحرمة العمل يوم السبت .
ان هذه الظواهر وغيرها تجعل من المستحيل تحقق علاقة ايجابية بين الدين والدولة فهي لاتؤمن بمساواة الشعوب في الحقوق والواجبات كما أن نظرتها للانسانية نظرة استعلائية .
وبالنظر الى دولة بني صهيون اليوم فانها قامت على أساس ديني مستغلة العاطفة الدينية عند اليهود واعدة اياهم بقيام دولة اسرائيل الكبرى حيث جاء في التثنية :كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان ومن النهر الى البحر الغربي يكون تخمكم - 11\24.
2-المسيحية :
لم تأتي المسيحية بتشريع بل كانت تعتمد على شريعة موسى عليه السلام الا بعض ما كانت تقتضيه طبيعة تطور الحياة وبذلك فالديانة المسيحية مرت بعدة مراحل .
فكانت المرحلة الأولى هي مرحلة السلام والمسالمة واصلاح أخلاق اليهود ورفع الظلم ولا تتدخل في شؤون الحكم والدولة حيث جاء في انجيل متى 5\17 أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله .
فكانت رسالة تهذيب واصلاح وسمو روحي , كما أنها لم تكن نظام كهنوتي يجعل من رجال الدين وسيلة للسيطرة على الناس ودعا عيسى عليه السلام الى عدم تقديس أي من البشر كما حصل من انحراف في اعطاء القداسة لرجال الدين من أنهم يغفرون الخطايا ويدخلون الجنة من يشاؤون ويحرمون منها من يشاؤون .
وبذلك بقيت الديانة المسيحية في القرون الثلاثة الأولى من الميلاد تدعوا الى الحب والتسامح والرحمة والموعظة الحسنة ولم تقف أي موقف مناوئ للدولة .
ثم جاء عهد جديد منذ 324ميلادي حيث أعلن الامبراطور قسطنطين حماية المسيحية من الاضطهاد وقام باعفاء القس من كثيرمن الأعباء السياسية وعفى أملاك الكنيسة من الضرائب ثم جاء الامبراطور ثيو دو سيوس وسار على خطى قسطنطين وفي عام 394ميلادي أعلن مجلس شيوخ روما أنها في حماية المسيح وتم منح الكنيسة ورجالها امتيازات متنوعة منها الاعفاء من الضرائب وعقد المحاكم في الكنائس ومع بداية القرن الخامس للميلاد أصبح لرجال الدين مكانة تتميز عن الشعب مما جعلهم يسيطرون على مقاليد الأمور فأصبحوا يتدخلون في الشؤون السياسية فيتوجون الأباطرة ويعزلونهم وهكذا حتى جاء أحد أساقفة روما ليعلن أن العالم تحكمه قوتان قوة الكنيسة وقوة الملك والأولى متفوقة على الثانية لأن الكنيسة مسؤولة أمام الله عن أعمال الملوك أنفسهم وبهذا التوسع في الصلاحيات لرجال الكنيسة اباحوا لأنفسهم التدخل في شؤون الدولة وأصبح الامبراطور خاضعا لرجال الكنيسة بالكامل .
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل نصب رجال الدين من أنفسهم قضاة على الناس وكل المحاكم تعود لهم وفتحوا السجون الخاصة بهم حتى اصبحت الكنيسة دولة داخل الدولة ووصل الأمر برجال الدين أن يفرضوا عقوبات قاسية بحق الامبراطور فمثلا يضطر الامبراطور للوقوف أمام باب رجل الدين ثلاثة أيام حافي القدمين عاري الرأس حتى يأذن له البابا بالدخول وهذا ماحصل مع الامبراطور هنري الرابع عام 1076 , بل وصل الأمر أن يركع الامبراطور بين يدي البابا كما حصل مع الامبراطور فردريك حين حرمه البابا عام 1177.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ضاقت الكنيسة ذرعا بكل من يخالفها في الدين ومن هذا المبدأ أعلنت الكنيسة حربا صليبية على المسلمين دامت مائتي سنة تقريبا ولم يتوقف الأمر على المسلمين بل شملت المسيحيين الذين وصفتهم الكنيسة بالهراطقة فدارت حرب على الألبيين وكل ذنبهم أنهم اختلفوا مع الكنيسة حول مبادئ روما وفي تفسير الانجيل , بل شملت الحرب على كل من ينتقد ثراء رجال الكنيسة من أمثال لوثر ومذبحة سانت بارتلمي عام 1572 خير شاهد على الاضطهاد الذي تعرض له بعض المسيحيين والتاريخ لاينسى محاكم التفتيش ضد المسلمين واليهود .(15/387)
لقد طارد رجال الدين كل أصحاب الفكر والفلسفة والاصلاح فتم حرق كنائسهم ومكتباتهم فلم يسلم منهم أبيلارد وروجربيكون وبرونو وجاليلو وغيرهم وهكذا وقفت الكنيسة موقف العداء للفكر .
وبسبب هذا الظلم والسيطرة والقسوة كان لابد أن ينفجر بركان يدمر كل من كان يجلس على فوهته ولم يكن للانجيل دور في هذا الانفجار بل أن السبب هو رجال الدين وتصرفاتهم فبدأ الصراع وبدأت ثورة ترفض سيطرة رجال الدين على الحياة العامة فقرر البرلمان الانكليزي عام 1301 أن ليس للبابا حق التدخل في الشؤون الداخلية ثم تبعه مجلس طبقات الأمة في فرنسا عام 1302ثم بدأت الحركة تتسع للوقوف بوجه فساد رجال الدين فتحرك لوثر وجون هس وكلفني وغيرهم وهكذا بدأت حركة الانتفاضة ضد طغيان رجال الدين حتى جاء القرن الثامن عشر لتكون ثورة عامة ضد المسيحية وعقائدها والسبب في ذلك هم الأحبار والرهبان فكانت الثورة الفرنسية 1789 لتكلل هذه الحركة نصر المظلومين على رجال الدين ومنذ ذلك الوقت بدأت دعوة فصل الدين عن الدولة , فتم ابعاد رجال الدين عن السياسة وخضعت الكنيسة لقانون الدولة وبذلك انتهى تدخلهم السافر في السياسة وشؤون الدولة .
3-الاسلام :
جاء صلى الله عليه وسلم برسالة متممة لرسالات الأنبياء السابقين من حيث الدعوة الى توحيد الخالق والايمان بالرسل والحث على مكارم الأخلاق فشمل الاسلام نظاما متكاملا للحياة والكون من حيث العقيدة والعبادة والمعاملة والأخلاق .
فدعا الى الايمان باله واحد كامل هو خالق الخلق والكون ومافيه حيث قال تعالى في سورة الأنعام آية 2- خالق كل شئ - .
والانسان لايستطيع الاهتداء الى أسرار الكون والانسان الا بالعلم والتفكر فكانت للعلم مكانة عظيمة في الاسلام بل اعتبر فرضا من فروض الدين وعبادة يثاب عليها حيث قا صلى الله عليه وسلم تعلموا العلم فان تعلمه لله خشية وطلبه عبادة .
كما رفض الاسلام كل شئ يمت للخرافة والوهم بل دعا لاستخدام الوسائل التي توصل الانسان للحقيقة من خلال السمع والبصر والفؤاد حيث قال تعالى في سورة الاسراء - ولاتقف ماليس لك به علم , ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولا -.
كما قرر الإسلام أنه لاتوجد واسطة بين الانسان والله ولايجوز اكراه أحد على دين معين ولايملك أحد ان يغفر الذنوب ولايملك أحد اكراه الضمير والعقول على الاعتقاد بشئ بالقوة وبذلك نفى الاسلام كل اشكال الكهانة والرهبنة وألغى طبقة رجال الدين بل في الاسلام فقهاء وعلماء يبينون للناس حكم الله فلا يحلون ولا يحرمون .
وجعل الاسلام من العبادة رابط بين الانسان والله عن طريق المراقبة والخشية والحاجة الى عون الله تعالى في التغلب على كل القيم الباطلة والفاسدة والتحرر من العبودية للبشر مهما بلغت مكانتهم .
كما دعا الاسلام لتهذيب النفس والجوارح وتقوية روابط التعاون بين بني البشر لأن الفرد في نظر الاسلام هو جزء من مجموع وبالتالي عليه مراعاة ذلك حتى لايطغى على الآخرين تحت أي حجة أو مبرر , وبذلك تنوعت العبادات في الاسلام من صلاة وصيام وصوم وزكاة وحج ودعاء وغيرها من العبادات العملية والقولية وكل هذه العبادات تلعب دورا في تهذيب النفس حيث يقول الله تعالى في سورة العنكبوت - ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر - ويقول عن الزكاة في سورة التوبة - تطهرهم وتزكيهم - ويقول عن الحج في سورة الحج - ليشهدوا منافع لهم - ويقو صلى الله عليه وسلم عن الصوم - رب صائم ليس له من صيامه الا الجوع والعطش -
ثم جاء الاسلام بالآداب التي تقوي الشخصية وتعلم الفرد على تحمل المشاق وتنمي روح التعاون بين الناس وتقضي على روح الانعزالية والفردية وتقديس الذات على حساب المجموع .
ثم جاءت الشريعة الاسلامية بالقوانين لمختلف نواحي الحياة سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام ابتداء من البيت الى السوق والعمل الى الحقوق والواجبات في داخل الدولة وخارجها , وكان الهدف من هذه القوانين توفير السعادة والسلام والرحمة والكرامة على اساس من اليسر وعدم تحميل الانسان فوق طاقته وقدرته فكانت هذه القوانين تدور حول الحقوق والواجبات ابتداء من الحرية في اختيار العقيدة الى حق التعلم والعمل وباختصار كانت مقاصد الشريعة تجتمع في الضروريات الخمس وهي الدين والعقل والنفس والمال والعرض .
وتميزت هذه القوانين بالعدل بحيث يعطى كل ذي حق حقه دون تفريق بين مكونات المجتمع فلا يجحف انسان بحق انسان مهما كانت مكانته سواء كان حاكما أو محكوما , ولقد شدد الاسلام على الظلم تشديدا عظيما حيث يقول الله تعالى في سورة الزخرف - فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم - .
ولم تقتصر العدالة على المسلمين بل شملت غير المسلمين فلقد قا صلى الله عليه وسلم ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته وانتقصه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة , فكانت عدالة مطلقة .(15/388)
ثم تميزت هذه القوانين بالمساواة وهي متممة للعدل وبدون عدل لاتكون مساواة, فالجميع أمام القانون سواء حتى وان تفاضل الناس من حيث العلم والمكانة وبذلك ألغى الاسلام كل اشكال الطبقية يقول عليه الصلاة والسلام - والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها -.
والقوانين الاسلامية تساوي بين الناس بغض النظر عن عقيدتهم وعرقهم , بل انها تركت لغير المسلم في قضايا الزواج والأمور الخاصة بدين معين غير الاسلام ان يتحاكموا الى دينهم فالخمر في الاسلام محرم لكنه ترك لغير المسلم أن يتعامل به اذا كان غير محرم في دينه .
وتميزت القوانين الاسلامية بالتيسير فلم تكلف الناس بما لايطيقون أو بما يصطدم مع طبيعة الانسان قال الله تعالى في سورة البقرة - لايكلف الله نفسا الا وسعها - وعندما يصل الأمر في تنفيذ قانون ما ويؤدي الى المشقة أو توقع الهلكة فأجاز الاسلام عدم تنفيذ ذلك القانون مثل أكل لحم الميتة والدم بما يسد رمقه ويكفي حاجته ويحول بينه وبين الهلاك حيث يقول الله تعالى في سورة النحل - انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به , فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم - .
وتميزت القوانين الاسلامية برعاية المصالح للناس بحيث تذهب الضرر وتحقق الخير وتطهر الروح وتدفع عنها الضرر وتقوم الاعوجاج وتصلح المجتمع لذلك شرعت الأحكام لمصالح العباد واصلاح المجتمع وحكم ذلك قاعدة مهمة وهي قول الرسو صلى الله عليه وسلم - لاضرر ولا ضرار - وبذلك لبت القوانين حاجة الناس وضروراتهم , والأصل بهذه القوانين أنها تراعي المصلحة العامة واذا تعارضت مصلحتان عامتان فتقدم الأكثر تعلقا بمصلحة المجموع ولم ينسى الاسلام أن المصالح قد تتغير وتتبدل من زمن لآخر وهنا ترك المشرع فسحة من أجل مراعاة المصلحة في كل زمان ومكان ضمن الضوابط الشرعية حيث تتغير الأحكام بتغير الأزمان .
ان الاسلام نظام شامل متوازن دعا الى عقيدة تحرر العقل وتدعوا للعلم وعبادة تسموبالروح وخلق ينمي الشخصية ويدعوا للتعاون وتشريع يحقق المصالح ويضمن العدل والمساوة والتطور في ضوء المستجدات دون جمود .
العلمانية وفصل الدين عن الدولة
دعوة قديمة جديدة
الحلقة الثانية
طريف السيد عيسى
alsayed_59@hotmail.com
منظومة التشريع الاسلامي
قبل أن ندخل في صلب الموضوع أنقل ماقاله غير المسلمين بحق التشريع الاسلامي ومن قبل جهات صاحبة أختصاص .
-يذكر العلامة مصطفى أحمد الزرقاء رحمه الله تعالى في كتابه المدخل الفقهي العام الجزء الأول مايلي:في الثاني من تموز عام 1951 عقدت شعبة الحقوق الشرقية من المجمع الدولي للحقوق المقارنة مؤتمرا في كلية الحقوق من جامعة باريس للبحث في الفقه الاسلامي برئاسة المسيو ميو أستاذ التشريع الاسلامي في كلية الحقوق بجامعة باريس حضره عددا من أساتذة الحقوق في الجامعات العربية والغربية ومن المستشرقين ,وفي خلال بعض النقاشات وقف أحد الأعضاء وهو نقيب محاماة سابق في باريس فقال : أنا لا أعرف كيف أوفق بين ماكان يحكى لنا عن جمود الفقه الاسلامي وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور ,وبين مانسمعه الآن في المحاضرات ومناقشاتها مما يثبت خلاف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ .
وفي ختام المؤتمر وضع المؤتمرون تقرير نقتطف منه :أن مبادئ الفقه الاسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لايمارى فيها .وان اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات , ومن الأصول الحقوقية , هي مناط الاعجاب , وبها يستطيع الفقه الاسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها , أنتهى كلام الشيخ - ص 6-9 .
وكما قيل والفضل ماشهدت به الأعداء , فعجيب أمر قومنا يزهدون بما عندنا ويذهبون شرقا وغربا يريدون منا أن نأخذ بتشريعات لاتمت لبيئتنا بصلة كما أنهم يريدون منا أن ننسلخ عن أصالتنا التي ذخرت بتراث فقهي مجيد بما يحتويه من مبادئ وأسس ومرونة تمكنه من الاستجابة لكل الحاجات في كل زمان وبيئة.
والآن نأتي الى النظام التشريعي في الاسلام حيث سيتم تناوله من خلال ركيزتين أساسيتين :
أولا - وضع التشريعات والأنظمة الوضعية .
ثانيا - التشريع الاسلامي
أولا - وضع التشريعات والأنظمة الوضعية :
معلوم أن القانون يتكون تدريجيا فيخضع للتعديل والاستبدال والالغاء فكلما أرتقت مدارك الانسان ومعارفه كلما أرتقى في التشريع .
ولكن تبقى هذه القوانين هي من صناعة البشر الذين مهما أو توا من الكمال فانهم يبقون بشرا لايستطيعون اقامة قانون خالد صالح لكل زمان ومكان .
والاختلاف في القوانين بين أمة وأخرى دليل على الاختلاف في العادات والأعراف وثقافة المجتمع وعقيدته حيث أن لكل أمة خصوصيات , فهل يعقل أن نجعل من خصوصيات الآخرين مرجعية لنا .
ومن خلال التدقيق في كل القوانين الوضعية نجد أنها تفتقد الى المبادئ الأخلاقية والتي تنبع من وازع الضمير ومحاسبة النفس ومراقبة التصرفات والسلوكيات .(15/389)
كما أن هذه القوانين تفتقد للكمال والصلوحية ولاتستطيع الموازنة والتوافق بين النظرة الى الكون والانسان والحياة مما يجعل فيها ثغرات دائمة وتشوهات مزمنة .
كما أن هذه القوانين تفتقر الى العدالة فهي قد تكون عادلة مع رعايا الدولة ولكنها ظالمة ومجحفة بحق الآخرين خارج الدولة , وبما أنها من صناعة البشر فيتم تفسير هذه القوانين بما يخدم مصالح هذه الدول فيتم التلاعب بها كلما أقتضت مصلحتهم لذلك.
وبمراجعة متأنية ومنصفة للمائة عام الأخيرة نقف على كوارث وجرائم ارتكبت بحق البشرية وباسم هذه القوانين .
ثانيا - التشريع الاسلامي :
- قلنا في الحلقة الأولى أن الاسلام دين ودولة فهو عقيدة تحرر العقل من الجهل والخرافة والانغلاق, وأخلاق تهذب النفس وتدعوها نحو الفضائل, وعبادة روحية تربط الانسان بخالقه ليبقى دائما في حالة مراقبة لتصرفاته وسلوكه, وتشريع ينظم شؤون الحياة وعلاقة الانسان مع خالقه وعلاقته مع نفسه وعلاقته مع الآخرين على مستوى المجتمع والدولة .
- ولتحقيق هذه المنظومة المتوازنة جاء الاسلام بتشريع شامل ومتوازن فلقد شمل جميع القواعد والأسس والمبادئ اللازمة لاقامة حياة اجتماعية ضمن الدولة .
ولاننكر أنه في بعض الأحيان ترتكب أخطاء في التطبيق لكن هذه الأخطاء لاتستوجب استبعاد الشريعة ونظامها فطالما أن هناك مبدأ فهو المرجع ولاقداسة لاجتهادات الأشخاص .
- وبالعودة الى النظام الاسلامي فاننا نجده تضمن كل متطلبات القوانين والأحكام على المستوى الخاص والعام فكان نظاما بمبادئ عامة وردت في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وتركت مساحة واسعة للاجتهاد بالتفصيلات حسب مقتضيات الزمان والمكان والبيئة والظروف والمستجدات .
- ان التشريع الاسلامي نظاما ربانيا ارتضاه خالق الكون للبشرية فهو خالقها ويعلم ماينفعها ويضرها فوضع لها نظاما صالحا لها في كل عصر ومصر فهل يعقل أن نستبدل النظام الرباني بنظام بشري مازال الى اليوم يعاني من ثغرات قاتلة .
-كما أن النظام الاسلامي خلا مما يسمى طبقة رجال الدين الذين عانت منهم البشرية في بعض الديانات, فلم يعرف الاسلام لا في عهد النبوة ولا في عهد الراشدين ولا في العهود الأخرى طبقة رجال الدين , بل هناك فقهاء وعلماء دورهم توضيح وتبيان أحكام الشريعة فلا يحرمون حلالا ولا يحلون حراما ولم يعرف هؤلاء الفقهاء بأي ميزة تميزهم عن باقي أفراد المجتمع الا بعلمهم وهذا ماجعل العامة يحترمونهم ويجلونهم ويقدرونهم بل حتى أن أركان الدولة كانت تهابهم لأنهم يدركون دورهم في الوقوف بوجه الأخطاء والانحرافات وقد حفل تاريخ الاسلام بمواقف العلماء ضد بعض الولاة الذين حادوا أحيانا عن الطريق .
ان هؤلاء العلماء كانوا مثل الأطباء في تشخيصهم للمرض ثم وصف العلاج المناسب وشأنهم شأن أصحاب الاختصاصات الأخرى .
-ان التاريخ الاسلامي حافل بآلاف المواقف التي تؤكد بعد العلماء عن السيطرة على أركان الدولة وهيمنتهم على الحياة العامة بل نجد مواقفهم صارمة بحق الولاة الذين انحرفوا ومن هذه المواقف :
-الفقيه منذر بن سعيد في الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر الذي أنشأ مدينة الزهراء وأنفق عليها الأموال الطائلة حتى أنه أتخذ للصرح الممرد قبة من ذهب وفضة فما كان من الفقيه منذر الا أن وقف وبحضور الناصر مؤنبا له قائلا ماكنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ , ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين , مع ما آتاك الله وفضلك على العالمين , حتى أنزلك منازل الكافرين , فاقشعر الناصر لهذا القول وقال له انظر ماتقول فرد عليه منذر ألم تقرأ قول الله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون , فوجم الناصر ودموعه تجري ثم قام شاكرا للفقيه منذر وأمر بنقض القبة , انه موقف لرد انحراف الناصر في استخدام المال العام وبذلك كان الفقيه وكيلا عن أموال الشعب وليس رجل دين يبتز أموال الشعب .
-لما ثار بعض سكان لبنان على عاملها علي بن عبد الله بن عباس فقام بتفريقهم وأجلاهم عن ديارهم ولما علم امام الشام وعالمها الامام الأوزاعي بذلك كتب الى والي لبنان يذكره بالنصوص التي تدعوا للعدل والانصاف بحق الآخرين فما كان من الوالي الا أن أعادهم الى قراهم وبيوتهم , فهل كان الفقهاء رجال دين يساعدون على الظلم والاضطهاد .
ان بطون الكتب تحدثنا عن مواقف ستبقى درة في جبين التاريخ في مواقف الفقهاء والعلماء .
فلمصلحة من يتم الترويج لهذه الدعوة في بيئة تختلف عن البيئة التي نشأت فيها , ان حال هؤلاء كمن يمارس الاضطهاد تجاه أفكاره نفسها لأنهم يريدون استنبات شجرة غريبة في بيئة غريبة غير بيئتها .(15/390)
ان حال هؤلاء حال رجل نظر فابصر ففكر ثم دبر فتوصل الى فكرة عبقرية كما يزعم فخرج علينا بنظرية كما يزعم قائلا لنا نريد أن نخرج السمك من الماء من أجل أن تعيش في البر وتقطع علاقتها الوجودية مع الماء , ثم عمل مابوسعه من أجل أن يتأقلم السمك مع المحيط الجديد فسخر لذلك كل الامكانيات والوسائل لنجاح تجربته ولكن من حوله نصحوه وقدموا له البراهين أن تجربته فاشلة وأنه يمارس جريمة بحق السمك لكنه لم يسمع لهم بل شكك بكل نصائحهم واثار حولها الشبهات وبعد فترة أكتشف فشل تجربته , وبدل أن يعترف بجريمته بحق هذا الكائن وفشله الذريع بدا يكيل التهم للبيئة المحيطة .
ان من يريد استنبات شجرة العلمانية لايسمعون نصحا ولا يقبلون رأيا ويصرون على مناطحة الصخور فهل هؤلاء مستعدين بعد تجاربهم الفاشلة أن يغيروا فكرهم ومنهجهم وبذلك يكونون مخلصين لشعوبهم وأمتهم وهذا افضل مايمكن أن يفعلوه .
على هؤلاء أن يدركوا أن المسلمين مهما أعتراهم الضعف والتراجع وتقليد الغالب لكنهم رغم كل ذلك حددوا مكانهم ومرجعيتهم وهذا الأمر قد حسم لصالح الاسلام فلماذا يصر هؤلاء على مواقفهم وكل يوم يفاجئون بفشل جديد يلاحقهم .
وبما أن السمك لايعيش الا في الماء وكذلك الاسلام هو المرجعية التي لانعيش بدونها , وهذا لايمنع من الاعتراف بخلل وقع هنا أو هناك في بعض التجارب سواء في الماضي أو الحاضر وهذا يدعونا الى دراسة هذه التجارب بموضوعية فنصوب ماوقع من أخطاء وانحرافات وننمي ماتحقق من نجاحات ونطور مايحتاج الى تطوير في ضوء المقاصد العامة للشريعة الاسلامية حتى نضمن تجربة ناجحة تستفيد منها البشرية
=============(15/391)
(15/392)
العلمانيون وفكرهم وممارساتهم
الكاتب: الشيخ د.سعيد بن ناصر الغامدي
العلمانيون هم كل من ينسب أو ينتسب للمذهب العلماني ، وينتمي إلى العلمانية فكرا أو ممارسة0
وأصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية " secula r ism " , وهي من العلم فتكون بكسر العين , أو من العالم فتكون بفتح العين , وهي ترجمة غير أمينة ولادقيقة ولا صحيحة ,لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي "لادينية أولا غيبية أو الدنيوية أولا مقدس"
نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية ـ دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية ـ خلال قرون من التدريج والنمو ، والتجريب , حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم 0
ثم وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية،وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية،ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة،فقد ظهرت في الشرق وافدا أجنبيا في الرؤى والإيديولوجيات والبرامج ،يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه، لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافا جذريا عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية ، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في البلاد الإسلامية بل فيها النقيض الكامل للعلمانية ولذلك كانت النتائج مختلفة تماماً كما , وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عاله على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية ، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحة تأسيسها وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد الاسلامية التي ابتليت بها .
ومن خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب عاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم ، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية ، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية ، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه ، بعد أن يكون قد سقط إو أسقط في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري ، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية ، وفي أهم المراكز العلمانية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء ، وإلى تاريخها بريبة واحتقار ، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها ـ في أحسن الأحوال ـ بشفقة ورثاء . إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلا تجاريا لمن علموه وثقفوه ومدنوه ، وهو لا يملك غير ذلك
ثم أصبحت الحواضر العربية الكبرى مثل "القاهرة_بغداد_دمشق" بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى،من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات لدول الجزيرة العربية وقلّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية ، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس ، وجهته غير وجهتها ، وقبلته غير قبلتها ، إنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة .
ثم كان للبعثات التبشيرية دورها، فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلام شرقاً وغربا من شتى الفرق والمذاهب النصرانية ، جعلت هدفها الأول زعزعت ثقة المسلمين في دينهم ، وإخراجهم منه ، وتشكيكهم فيه 0
ثم كان للمدارس والجامعات الأجنبية المقامة في البلاد الاسلامية دورها في نشر وترسيخ العلمانية
ثم كان الدور الأكبر للجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، مابين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية واجتماعية وثقافية وأدبية،بجميع الألوان والأطياف ،وفي جميع البلدان حيث أن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق،وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية ، وجميعها تتفق في الطرح العلماني ، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية ، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية ، والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه،والجانب الذي يعمل من خلاله.(15/393)
ولا يمكن إغفال دور البعثات الدبلوماسية :سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق،أو للدول الشرقية في الغرب،فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسورا تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف ، من خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي،والتواصل الاجتماعي،والمناسبات والحفلات ، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي،وليس بسر أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة .
ولا يخفى على كل لبيب دور وسائل الإعلام المختلفة ، مسموعة أو مرئية أو مقروءة ، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية-صحافة أو إذاعة أو تلفزة-فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها،وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة ، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية ، وبالذات من خلال الفن ، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر .
ثم كان هناك التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب والذي استعمل أداة لنشر الفكر والممارسة العلمانية0
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة،متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة،معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون وفي الأسلوب والمحتوى ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة،حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق الطلق،بل العلم الأوحد ولاعلم سواه في هذه الفنون،وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسما ،ولغيرها حقيقة 0
ولايسطيع أحد جحد دور الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة ، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل توظيفا آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها .
بعض ملامح العلمانية
لقد أصبح حَمَلة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تيارا واسعا نافذا متغلبا في الميادين المختلفة فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية ، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان :
أ-الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري،ويمثله - في الجملة - أحزاب وحركات وثورات ابتليت بهاء المنطقة ردحا من الزمن ، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها ، وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء ، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه،سواء كانوا شيوعيين أمميين ،أو قوميين عنصريين .
ب-الاتجاه الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب ، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها .
وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها :
1- مواجهة التراث الإسلامي ، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط التخلف ـ كما عند غلاة العلمانية ـ ، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية ـ كما يزعمون ـ لتوظيفه توظيفا علمانيا من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية ،ولغة عربية ،و أعراف اجتماعية ،ولم ينج من غاراتهم تلك حتى القرآن و السنة ، إمّا بدعوى بشرية الوحي ، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة ، أو بدعوى أنة مبادئ أخلاقية عامة ، أو مواعظ روحية لاشأن لها بتنظيم الحياة ، ولا ببيان العلم و حقائقه ، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث ، والمتجاوزين له "أدونيس " و "محمود درويش" و "البياتي " و " جابر عصفور ".
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم "حسن حنفي " و " محمد أركون "و "محمد عابد الجابري " و " حسين أمين " ومن على شاكلتهم ، ولم ينج من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه .(15/394)
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري ، وتفسيره تفسيرا ماديا ، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغريبة العلمانية على أحداثه ،وقراءته قراءة انتقائه غير نزيهة ولا موضوعية،لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ ، وتجاهل مافية من صفحات مضيئة مشرقة ، والخلط المعتمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني ، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها،والإشادة بها ، والثناء عليها ، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم مثل "ثورة الزنج"و"ثورة القرامطة" ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق ، وتكريس أنها من الإسلام بل هي الإسلام مثل القول بوحدة الوجود ،والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدى في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة،وأجياله المتعاقبة .
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم ، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله ، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم ، أو تهميشه ـ على الأقل ـ وجعله تابعاً لغيره من المصادر ، كالعقل والحس ، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب ، والسخرية من الإيمان بالغيب ، واعتبارها ـ في أحسن الأحوال ـ جزء من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية ، والترويج لما يسمي بالعقلانية والواقعية والإنسانية ، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل ، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان الكفر ، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة ، وفي كتابات " محمد عابد الجابري " و" حسن حنفي " و" حسين مروة " و" العروي " وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر .
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي ، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد ، واستبدال ذلك بقيم الصراع و الاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس ، والتحلل ، والإباحية من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية ، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية ، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه ، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه ، ولعل رواية "وليمة عشاء لأعشاب البحر"-السيئة الذكر-من أحدث الأمثلة على ذلك،والقائمة الطويلة من إنتاج"محمد شكري"و"الطاهر بن جلون"و"الطاهر طار"و"تركي الحمد"وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع،واستبداله بأسس أخرى .
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعا ر التوحيد ، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة ، وهدم القيم والثوابت ،ونشر الانحلال والإباحية ، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات ، وجعل ذلك إطارا فكرياً للأعمال الأدبية ، والدراسات الاجتماعية ، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي .
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة ، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات ، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لايمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة ، وأن ذلك لا يمنع الحوار ، لكنها سياسة التخدير والخدع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني ، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني ، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغورها ، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل .
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري ، عبر غوغائية ديماغوجية إعلامية غير شريفة ، ولا أخلاقية ، لتخويف الناس من الالتزام بالإسلام ، والاستماع لدعاته ، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء ـ وأحياناً الفظيعة ـ من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام ، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها ، وعبر عقود من السنين ، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين ، والتعامي عن الأصولية والنصرانية ، واليهودية ، والموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف .
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق ، والفكر والسياسة ، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها ، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث ، ودراسة المشاريع والبرامج ، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان ، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .(15/395)
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لامفرمنه ولاخلاص إلابه ، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية ، بل إنهم لَيصرخون بأن أي شئ في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية ، والتوسل لذلك بذرائعيه نفعية محضة لا يسيرها غير أهواء الدنيا وشهواتها .
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين ، وإن مرروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته ، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف ، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها ، لالشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق ، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية .
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية ، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية و الاتكاء القوي علىقضية المرأة ، ولكن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية ، ومنطلقات عقائدية ، وفلسفة خاصة للحياة ، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة ، والسعي لنزع حجابها ، وإخراجها للحياة العامة ، وتعطيل دورها الذي لايمكن أن يقوم به غيرها ، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال ، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة . يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة ، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال ، والقيام بشؤون المنزل ، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة ، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع .
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب ، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام ، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم ، وأساطين الفكر وعظماء الأدب ، وما أسماء " دارون " و " فرويد " و " دوركايم " وأليوت وشتراوس وكانط " وغيرهم بخافية على المهتم بهذا الشأن ، وحتى أن بعض هؤلاء قد تجاوزه علمانيو الغرب ، ولكن صداه مازال يتردد في عالم الأتباع في البلاد الاسلا مية
================(15/396)
(15/397)
العَلَمانيون الثلاثة.. والنيلةُ.. والحظّ الهباب..!!
أ.د/جابر قميحة
komeha@menanet.net
الثلاثة المشار إليهم في العنوان هم الأساتذة: حسين أحمد أمين, وسعيد العشماوي, وفرج فودة. وهم - في مصر والبلاد العربية - يعدون من أشهر رءوس العَلَمانية (بفتح العين واللام )
والأخير بين يدي اللّه الآن, فقد اغتيل مساء يوم الاثنين 8 من يونيو سنة 1992. وما كتبه هؤلاء الثلاثة يعد عدوانًا - بكل معني الكلمة - علي كثير جدًا من قيم الإسلام ونظمه, ومبادئه, حتي ما جاء منه في نصوص إلهية قطعية الثبوت والدلالة, ولا تحتمل التأويل والخروج بها عن مسارها. فعلوا ذلك باسم «التنوير» وإنقاذ العقل المسلم من ظلمات الرجعية والتخلف.
عينات لا محاكمة..
ونحن في هذا المقال لا نحاكم العَلَمانية والعَلَمانيين, ولكننا نحتكم - ابتداء - إلي «عينات» مما أفرزه هذا الثلاثي في كتبهم:
- أحدهم سافر - من عدة سنوات - في رحلة إلي الولايات المتحدة, وعاد منها ليكتب عدة مقالات في مجلة قومية أسبوعية يخلع فيها علي «الشباب المسلم العربي» من المثالب والنقائص والمآثم مالا يصٍدق إلا علي الكفرة الفجرة, والجهلة المتخلفين, كزعمه بأنهم يحرمون الجلوس علي المقاعد أثناء المحاضرات بدعوي أن صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يفترشون الأرض جلوسًا. وفات صاحبنا أن هؤلاء الشباب كانوا يستخدمون مكبرات الصوت في المحاضرات, ويوزعون هذه المحاضرات مطبوعة, ويستقلون السيارات والطائرات. فهل وجدت هذه الآليات أيام الرسو صلى الله عليه وسلم , واستخدمها هو وأصحابه?.
- ويرفض الحدود الشرعية, ويطالب بالتسوية بين الأنثي والذكر في الميراث.
- وأحدهم يزعم أن حروب الردة (وهو يسميها حروب الصدقة) كانت حروبًا عدوانية, وأن نظام الخلافة نظام جاهلي فاسد جاء للسطو والسيطرة, والعدوان علي حقوق الإنسان, وأنه أضر بالإسلام حين ربط العقيدة بالسياسة, والشريعة بنظام الحكم.
- وأحدهم يعتقد أنه مبعوث العناية الإلهية «لضرب الرجعية» و«الأصولية المتعفنة» و«إنقاذ الإسلام من المتخلفين والأصوليين ولصوص توظيف الأموال» علي حد قوله.
- ويكتب عن «زواج المتعة» مستعينًا بآراء تائهة شاذة, ليوهم الجهلة والعامة بأن لهذا «الزواج» مكانه الثابت في الإسلام..
وغير ذلك كثير وكثير, وكلها أباطيل وأضاليل, لا يقصد بها لا تنوير, ولا تعمير, ولا رقي وتطوير - كما يزعمون - إنما الهدف هو الدنيا والمال والأضواء والشهرة, والمنافع الشخصية, وليسقط العقل والخلق والضمير.
وشهد شاهد من أهلهم..
وأنا لا ألقي الكلم جزافًا, ولم أخترع هذا الحكم الأخير اختراعًا ولكنه حكم يَخلص إليه من يقرأ شهادة حسين أحمد أمين, الذي لم يكن فرج فودة ليحدثه إلا بـ«أستاذي». يتحدث حسين عن أول زيارة قصده بها فرج فودة عصر يوم 6 مايو 1984 ليتعرف عليه. ويقول عنه حسين «.. اشتهر فرج باعتباره النصير الأول للعَلَمانية في مصر, والمناضل الذي لا يكل ولا يمل, ضد خطر الجماعات الإسلامية.. واتسعت شعبيته بسرعة مذهلة خصوصًا بين العلمانيين, والأقباط, والدوائر الرسمية».
ويذكر حسين أمين أن «فرج فودة حاول إنشاء حزب باسم حزب المستقبل وفي يوم 8 من أكتوبر 1984 أقام احتفالاً كبيرًا في سرادق ضخم أقامه بجاردن سيتي» دعا إليه السفراء الأجانب (!!) ورجال الصحافة, وعددًا من الشخصيات العامة المستقلة, وزعماء القبط, وقرأ برنامج الحزب الجديد (الذي لم تصرح به الحكومة).
وعن هذا البرنامج يقول حسين «.. قرأته فتبينت في طياته نزعة فاشية واضحة لا تبشر بخير, وهي نزعة تمثلت في استعداده لقمع الحركات الإسلامية بنفس الأساليب التي اتنهجها النازيون تجاه مخالفيهم في الفكر, ويصرح بضرورة ضم السودان وليبيا إلي مصر بالقوة.. ولمست من فرج فودة اعتماده في تمويل نشاطه علي ما يزوده به نظام صدام حسين في العراق من مال.. وقد حاول مرة واحدة جس نبضي بصدد إمكان مرافقتي إياه في زيارة لبغداد, فلما أبيت بقوة تظاهر - علي الفور - بالاقتناع برأيي, ولم يفاتحني بعدها قط بشأن صلاته بعدد من الجهات الأجنبية».
وعن موقف الحكومة منه يقول حسين أمين «.. كان يتسم بالتذبذب: فهي من ناحية تقر علمانيته ويسرها هجومه العنيف علي الجماعات الإسلامية متطرفها ومعتدلها, وفي نفس الوقت حرّمتٍ عليه التليفزيون والإذاعة, إذ كانت تدرك أن عنف هذا الهجوم - وإن أطرب العلمانيين والمسيحيين وصحافة الغرب - يثير غضب الإسلاميين, ويبعثهم علي المزيد من التطرف والتصلب.. كانت مقالاته وكتبه - بوجه عام - لاذعة مليئة بالسخرية والتهكم اللذين كثيرًا ما كانا يصلان - في رأيي علي الأقل - إلي حد الإسفاف والردح.. وبالرغم من كل شيء.. من عدم رضائي عن عنصر الإسفاف في مقالاته, وشكي بصدد صلاته بجهات أجنبية ومصادر تمويل نشاطه, وأسفاره العديدة, فقد ظلت العلاقة بيننا طيبة ودية حتي النهاية».
مكالمة هاتفية..
وفي أحد أيام مارس 1992 جرت مكالمة هاتفية غريبة بين الرجلين ونصها:
- طبعًا سمعت الخبر يا أستاذ حسين?
- أي خبر?(15/398)
- خبر مصادرة خمسة كتب للمستشار سعيد العشماوي في معرض القاهرة للكتاب.
- نعم, وقد آلمني الأمر, وأحزنني أشد الحزن.
- آلمك وأحزنك? اسمح لي أسألك: علي من أحزنك الخبر?
- علي المستشار العشماوي بطبيعة الحال.
- علي المستشار العشماوي? استاذي الكبير. منذ أذيع خبر المصادرة أي في بحر ثلاثة أيام بيع سبعة آلاف نسخة من كتاب معالم الإسلام, وخمسة آلاف نسخة من كتاب أصول الشريعة, وستة عشر ألف نسخة من كتاب «الخلافة الإسلامية» وهلم جرا, كم نسخة بيعت من كتابك «الإمام» حتي الآن?
- ثلاثة آلاف.
- اتفرج يا سيدي, وأنا لم أبع من كتابي «الحقيقة الغائبة» غير ألفي نسخة.
- كم يدفع ناشرك مقابل إعلان صغير عن كتاب لك في الأهرام أو الأخبار?
- ستمائة جنيه علي الأقل.
- والمستشار سعيد العشماوي تتهافت الكتب والمجلات اليوم علي نشر الأحاديث معه والمقالات له علي ثلاث صفحات أو أربع, ومع صورة كبيرة له دون أن يدفع شيئًا, بل ربما دفعت هذه الصحف والمجلات له المكافآت عن هذه الأحاديث والمقالات.. ارفع سماعة تليفونك, واتصل به هو نفسه لتدرك مدي تهلله وسعادته بهذه الهبة التي نزلت عليه من السماء في صورة قرار بمصادرة كتبه, وقد كان الرجل في جميع أحاديثه مع الصحف من الدهاء والمكر بحيث تظاهر بالغضب والاستياء الشديدين من هذا القرار, وكأنما أضير من جرائه ضررًا بالغًا, بل وهدد برفع قضية علي مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر.
- أجاد أنت? تقول: إنه سعيد بما حدث?
- كلمه أنت.. أليس صديقك? «دار سينا» - يا أستاذي - بعد أن نفدت نسخ كتبه تستعين بثلاث مطابع في آن واحد لإعادة طبع الكتب, والمطابع تعمل ليل نهار كي توفرها في السوق في ظرف أسبوع واحد لمواجهة الطلب المتزايد عليها.
- هذا خبر سار حقًا.
- سار حقًا? اسمح لي أسألك: سار بالنسبة لمن?
- للعشماوي بطبيعة الحال.
- للعشماوي? وماذا عني وعنك يا أستاذ حسين? وماذا عن كتبي وكتبك? لماذا لم يأمر مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بمصادرتها هي أيضًا رغم أنها تحوي من الأفكار ما هو أخطر ألف مرة مما ورد في كتب العشماوي? «دليل المسلم الحزين مثلا», أو «الإسلام في عالم متغير» أو «قبل السقوط» أو «نكون أو لا نكون» هل هذه الكتب في رأيك أقل خطرًا من كتب المستشار العشماوي, أم هي في رأي الأزهر لا غبار عليها من الناحية الدينية ككتب الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي?
- الحقيقة أنني..
- لا يا أستاذي الفاضل.. ليس الأمر كما تظن, بل أكاد أجزم الآن بأن العشماوي لا بد قد دفع مبلغًا لجهة ما كي توصي مجمع البحوث الإسلامية بمصادرة كتبه.. العشماوي - بحكم خبرته وثقافته - يعلم أن بعض المؤلفين الأوربيين والأمريكان يلجأ اليوم إلي رشوة نقاد ليقوموا بمهاجمة كتبهم في الصحف والمجلات الأدبية علي نحو يثير شوق قراء الصحيفة أو المجلة إلي شراء الكتاب لقراءته.
- ألا يمكن أن يكون أعضاء مجمع البحوث قد أصدروا قرار المصادرة متطوعين مشكورين غير مأجورين من تلقاء أنفسهم, ودون سابق اتصال من جانب العشماوي?
- لا يا أستاذنا الكبير, وإلا فلماذا لم يصادروا أيضًا كتب فرج فودة وحسين أمين? هأ!! جتنا نيلة في حظنا الهباب!! الحقيقة أنني قد بدأت أغضب من العشماوي, كان من واجبه - ونحن الثلاثة نجاهد في سبيل قضية واحدة, ومن خندق واحد - أن يستشيرنا قبل إقدامه علي الاتصال بمجمع البحوث, أو أن يلفت - علي الأقل - نظر المجمع إلي كتبنا نحن أيضًا باعتبارها جديرة مثل كتبه بالمصادرة.
- لا يا دكتور فرج.. الأرجح - في رأيي - هو: إما أن أعضاء المجمع لم يقرءوا كتبنا نحن, وقرءوا كتب العشماوي فأمروا بمصادرتها, وإما أنهم قرءوا كتبنا, ووجدوها سليمة لا خطر منها.
- سليمة لا خطر منها? يا سيدي الجليل ما كتبه علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم» أو طه حسين في «الشعر الجاهلي» لا يمكن أن يقارن خطره بخطر فقرة واحدة من كتبي أو كتبك, كيف إذن يمكن للمجمع أن يجرؤ, ويعتبرها سليمة لا خطر منها? أما عن احتمال أن يكون أعضاء المجمع غافلين عنا وجاهلين بكتبنا فما علينا إذن إلا أن ننبههم إليها.
بالكتابة إليهم, بتحريض أصدقاء لنا علي تقديم الشكاوي من أفكارنا, أو بأن نطلب نحن مقابلة شيخ الأزهر, أو رئيس المجمع نفسه لتوضيح الأمور, ووضعها في نصابها, وتنبيهًا إلي أن في كتبنا خطرًا علي المجتمع الإسلامي لا يمكن السكوت عليه. سليمة لا خطر منها يادي الفضيحة!! هذه إهانة.. كيف يمكن أن أُري وجهي للناس ومجمع البحوث الإسلامية يعتبر كتبي سليمة لا خطر منها? ما جدواها إذن? وما جدوي تعبي في كتابتها? جتنا نيلة في حظنا الهباب».
عزيزي القارئ هذا جزء حرفي مما كتبه حسين أحمد أمين في صحيفة «الجيل» - وهي تصدر في القاهرة - في عددها الصادر يوم الأحد 13 من ذي القعدة 1419هـ - 28 من فبراير 1999. نقلته بالنص دون تدخل مني, وأعتقد أنك معي في ضرورة «وقفة»أخري مع هذا الكلام الخطير 0
*** *** ***(15/399)
لقد عرضنا آنفا نص المكالمة الهاتفية التي كانت بين قطبي العلمانية : فرج فودة, وحسين أحمد أمين, وفيها أبدي فرج أسفه وحزنه لمصادرة خمس كتب للقطب العلماني الثالث محمد سعيد العشماوي لأن هذه المصادرة رفعت توزيعها إلي عشرات الألوف. ويبكي حظه وحظ صديقه حسين أمين, ووصفه بأنه حظ «هباب» لأن المسئولين في الأزهر, ومجمع البحوث الإسلامية لم يوصوا, ولم يعملوا علي مصادرة كتبهما (فيرتفع توزيعها) . وفي السطور التالية نكمل المسيرة 0
دلالات خطيرة مؤسفة..
ونص هذه المكالمة - باعتراف حسين أحمد أمين - نُشرأولا في صحيفة «الأهالي» الصادرة في 11 من مارس سنة 1998-. وأعاد حسين أمين نشر نص المكالمة مرة أخري ص 11 من صحيفة الجيل (القاهرية) الصادرة يوم الأحد 28 من فبراير سنة 1999. في سلسلة مقالاته : شخصيات عرفتها 0 تحت عنوان مثير بخط كبير جدًا (فرج فودة يتهم سعيد العشماوي بإبلاغ الأزهر عن كتبه.. ويتحسر علي حظه الهباب). ومن العناوين الفرعية في المقال (اعتمد فرج في تمويل نشاطه علي أموال صدام حسين, وعلي صلاته بالجهات الأجنبية 0
ويذكر حسين أحمد أمين أن سعيد العشماوي غضب وهاج وماج بعد أن اطلع علي ما كتبه في الأهالي. كما أن العشماوي وجه حديثًا عنيفًا إلي فرج فودة بسبب هذه المكالمة.
وواضح أن هذه المكالمة وتوابعها تُلقي إضاءات قوية علي نفسية الثالوث القائد, ومن دار في فلكهم, وتبين عن هدفهم من الكتابة, وطبيعة منهجهم الفكري والدعوي. فهم يكتبون - لا من منطلق الإيمان بما يكتبون, ولا من منطلق الحرص علي مصلحة الوطن بالتنوير, والتوعية السياسية والاجتماعية والعلمية, كما يزعمون.
ولكنهم يكتبون من أجل المال, وتحقيق الثراء.. والآلية المثلي لتحقيق هذا الهدف هي مصادرة كتبهم, ومن ثم زيادة نسبة التوزيع بإقبال الناس علي شراء الكتب حبًا في كشف سبب أو أسباب المصادرة, فكل ممنوع مطلوب, وكل محجوب مرغوب, كما يقول المثل العربي. وتصديهم وهجومهم علي المرجعية الدينية, وقيمنا الموروثة لم يعد من قبيل «خالف تعرف», ولكن: خالف, ودمر حتي تحصد أقصي ما تقدر عليه من غني فاحش.
ولا مانع من إساءة الظن بالأزهر ومجمع البحوث الإسلامية والترويج بأن العاملين المسئولين بهما مظنة الارتشاء والمجاملة غير العادلة.
ولا مانع من الكذب والتزوير بالكتابة إلي المسئولين - مباشرة, أو عن طريق الأصدقاء - بأن كتبهم خطيرة ومدمرة للدين والمجتمع حتي تفوز بالمصادرة.. المصادرة التي تثمر بعدها الرواج وسعة الانتشار, وتحقيق الثروة.
ولا مانع من «جلٍد الذات» بالاعتراف بأن كتبهم فيها ما هو أشد خطرًا مما كتب علي عبد الرازق وطه حسين, والأول - كما هو معروف - أنكر أن يكون الإسلام نظام حكم وسياسة وقيادة, وأنه مجرد عبادات وقيم روحية, وكأنه نصرانية بأسلوب عربي, والثاني عدا علي القرآن, واستهزأ بالرسو صلى الله عليه وسلم ونسبه. ومن عجب أننا حينما قلنا هذا من قبل وكتبناه في مقام نقد - أو نقض - هذه الكتب هبوا, وغضبوا غضبة غير مضرية , وادّعوا أن كتبهم هذه ليس فيها ما يناقض عقيدة . أو يوصف بالخبث والسقوط .
ولا مانع أبدًا من الاعتماد علي الأموال الأجنبية, ومد الأيدي - في سرية - لحكام عادوا العروبة, وكانوا حربًا علي العرب, ولدول أجنبية كانت - وما زالت - حربًا علي الإسلام والعرب.
ولا مانع أبدًا من توظيف عبارات سوقية مبتذلة تحمل شحنة من النقمة علي الذات, وعلي الآخرين, وعلي القدر, لأن حظهم من الرزق والشهرة والمكانة لم يكن كحظ الآخرين, وأعجب مثلي, أو لا تعجب للقائد العلماني الدكتور, وهو يصرخ «جتنا نيلة في حظنا الهباب».
وما زال العار قائما
نعم , ما زال العار قائما يشد بعضه بعضا , فعتاة العلمانيين المتطرفين ,أدعياء التنور والتنوير والعبقرية يتربعون علي قمم الفكر والإعلام والأدب , وأصبح منهجهم وطابعهم الاستهتار بالدين والاستهانة بالقيم , ولا هم لهم إلا المال والمناصب والشهرة والأ ضواء , ولو كان ذلك على حساب الدين والمجتمع وكل القيم والمثل العليا
===============(15/400)
(15/401)
فضيحة بجلاجل للعلمانيين في برنامج الاتجاه المعاكس"
د.إبراهيم عوض
ib r ahim_awad9@yahoo.com
بثت قناة الجزيرة مساء الثلاثاء 5/ 10/ 2004م حلقة من برنامجها الأسبوعى: "الاتجاه المعاكس"، الذى يقدمه د.فيصل القاسم المتخصص فى إشعال الحرائق الفكرية واستخراج ما فى مستكن أفئدة ضيوفه بطريقته المعروفة للمشاهدين. وقد دارت الحلقة حول مدى ترحيب المسلمين بحذف نصوص دينية إسلامية معينة من المناهج الدراسية، وكانت نتيجة تصويت المشاهدين فى صالح الرفض لهذا الحذف بأغلبية ساحقة، بل إنه ليمكن القول بأن الإجماع تقريبا قد صبَّ فى هذا الاتجاه إذا أخذنا فى الاعتبار أن نسبة الـ7% التى صوتت عبر الهاتف بالموافقة يدخل فيها غير المسلمين، سواء من العرب أو من غير العرب أيضا، إذ لا أظن أن هناك مصفاة فنية تمنع من ليسوا عربًا من الاشتراك فى هذا التصويت!
والواقع أن هذه الحلقة بالذات كانت بكل المقاييس "فضيحة بجلاجل" للعلمانيين المتغربين السائرين فى ركاب أعداء هذه الأمة الراقصين على ما يعزفونه لهم من أنغام، النابحين كل شريف من أمة صلى الله عليه وسلم كلما شامُوا فى الأمة ضعفا، والمسارعين إلى الدخول فى أوجارهم أذلّةً ضاغين ضارعين إذا استقام ميزان الأوضاع وعادت الأمور لطبيعتها الأصلية. أما كيف كانت "فضيحة بجلاجل" لأولئك الخَلْق فإليك، أيها القارئ، التفصيل:
لقد ظهر من مناقشات أولئك الخَلْق أنهم لا يحترمون القرآن ولا الحديث، وهما أساسا الدين لهذه الأمة، وبغيرهما لا يكون المسلم مسلما. كما ظهر من هذه المناقشات قدرتهم العجيبة على الكذب والتدجيل دون أن يطرف لهم جَفْن ولا هُدْب، مما يدل على أن هذه الآفة سجية متأصلة فيهم، وأن الواحد منهم "كذاب قرارى" كما يقول المصريون! أو كذاب من الطراز الأول بامتياز كما نقول فى الفُصْحى حماها الله! وفضلا عن هذا وذاك هناك الجرأة الخبيثة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية، والقرآنية يالذات، تفسيرا ما أنزل الله به من سلطان. ومن لا يعجبه هذا التفسير العجيب فليشرب من البحر، أو إذا لم يكن قريبا من البحر فليخبط رأسه فى الجدار الذى أمامه أو الذى وراءه (لا يهم! المهم أن يخبطه، والسلام!)، ولا يجشم نفسه تعب القيام من مكانه للذهاب إلى البحر! وهذه الجرأة الوقحة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية يرفدها جهل غليظ لا يستحى صاحبه من إعلانه على الناس. ولِمَ يستحى، والأمر إنما يتعلق بالإسلام، وهو دينٌ بلا صاحب، أو هو فى أحسن الأحوال دينٌ ليس لدى أهله قنابل أو صواريخ أو أسلحة نووية كما عند ماما (أو بالأحرى: امرأة بابا) أمريكا ومن لفَّ لِفَّها، دينٌ ها هى ذى الدنيا تستعد لتشييعه إلى مثواه الأخير كما تخيل لهم أوهامهم النجسة مثلهم، ولا عزاء فيه لأحد: لا للسيدات ولا للرجال، ولا حتى للأطفال الصغار؟ ترى هل يستطيع أحد من المسلمين أن يجرؤ على فتح فمه؟ هكذا يفكر أولئك الخلق! وفوق هذا وذاك فالقوم لم يعودوا يخفون شيئا من أهدافهم ونياتهم: فهؤلاء هم المسلمون يُذَبَّحون وتُدَكّ بيوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس الذين نفضوهم وتُغْتَصَب حرائرهم وتُلَطَّخ أجساد رجالهم بالخراء ويُكْرَهون على أن يأتى الأب منهم أولاده، والأولاد أباهم، بأوامر اللوطيين والسحاقيات من أبناء وبنات العمّ سام (عَمَى الدِّبَبَة)، وتُسَلَّط الكلاب المتوحشة عليهم تأكل أعضاءهم التناسلية وهم عرايا مقيدون قد أُبْعِد ما بين ساقيهم بآلات حديدية حتى لا يستطيعوا أن يداروها عن الكلاب المتلمظة التى يسلطها عليهم كلاب البشر! رهيب! رهيب! رهيب! ثم يأتى أولئك الخلق فيصيحون بنا أنْ كونوا متحضرين أيها الأغبياء يا من لا تزالون تعيشون وتعششون كالخفافيش فى عصر الظلام الذى كان يعيش فيه محمد وأصحابه البدو المتخلفون! ما لكم تريدون أن ترجعوا عقارب الساعة إلى الوراء، وقد مات ذلك الـ"محمد" منذ أربعة عشر قرنا وشبع موتا، وينبغى أن يلحق به قرآنه وحديثه اللذان لا مكان لهما فى عالم اليوم الذى استولت فيه أمريكا على عرش الألوهية بقوة السلاح كما استولت على بلاد الهنود الحمر بعد أن أبادتهم وجعلتهم أثرا من بعد عين، وحوَّلتهم إلى حكايات تُرْوَى وأفلام تُمَثَّل على الشاشة للتسلية وإدخال السرور على قلوب المشاهدين، ولم يعد هناك مكان لإله محمد يا أيها الحمقى، بل يا أيها البهائم؟ ألا تريدون أبدا أن تفيقوا من هذيانكم وظلامكم وتكونوا، ولو مرة واحدة، قوما متحضرين؟ استيقظوا وافركوا أعينكم وقلوبكم وعقولكم جيدا، فهذا الأوان أوان "الكاوبوى بوش" لا "محمد راعى الجِمَال" يا أيها الصُّمّ البُكْم العُمْى الذين لا يبصرون ولا يسمعون ولا يتكلمون كلاما يفهمه العاقلون! هذا، أيها القراء، هو الأمر باختصار، ومن يرد مزيدا من البيان فليتابع معنا غير مأمور، بل له كل الاحترام، وله كذلك الثواب من رب الثواب: رب محمد بطبيعة الحال كما لا أظننى بحاجة إلى التوضيح، فأنا من أولئك الذين ما برحوا، رغم كل شىء، يؤمنون بمحمد ودين محمد ورب محمد، لا أعرف لى دينًا ولا نبيًّا ولا ربًّا سواه!(15/402)
لقد بدأت الحلقة، ولم نكن نعرف مَنْ ضيفاها، ولكن ما إن رأيت د.إبراهيم الخولى حتى شعرت بالسرور، إذ سبق لى أن شاهدته (ولأول مرة فى حياتى) فى الحلقة التى قارع فيها د.محمد أركون العام الماضى فقَرَعه بل أجهز عليه بالضربة القاضية حتى لقد رأيت أركون وقد استولى عليه الذهول عند انتهاء الحلقة، وهو يكاد يضرب كفا بكف (أو ربما ضربهما فعلا) لأن الحلقة قد انتهت دون أن يستطيع شيئا مما ظن أنه فاعله، تصوُّرًا منه أن د. الخولى رجل أزهرى (أى "دقة قديمة")، فهو يقدر أن يضحك عليه بكلمتين من كلامه الذى يترجمه له حواريّه هاشم صالح (الذى كتب عقب حوار بينه وبين أستاذه فى العاصمة الفرنسية قائلا إنه يتطلع إلى اليوم الذى تنتشر فيه الخمارات فى أرجاء البلاد الإسلامية كما تنتشر فى باريس) معلنًا فى جرأة لم أرها ولم أسمع بها فى الغابرين ولا فى المحدثين، ولا أحسب أحدا سوف يُكْتَب له أن يسمع بها فيما يُسْتَقْبَل من الزمان إلى يوم الدين، أن الإسلام قبل أركون ليس هو الإسلام بعد أركون! مَدَدْ يا سيدى أركون! مَدَااااادْ! والحمد لله أنه لم يَدْعُ إلى ترك التقويم الهجرى والميلادى والقبطى والعبرى والفارسى والصينى والجريجورى وتدشين تقويم جديد للعالم كله يحمل اسم شيخ طريقته أركون، فيقال: حدث هذا فى السنة الرابعة والخمسين مثلا أو فى القرن العاشر من ميلادِ (أو من وفاةِ، أو من صدور أول كتابٍ لـ)سيدنا أركون، صلى "الغرب" عليه وسلّم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين يضعانه فى آخر المطاف يوم القيامة فى المكان الذى يستحق جزاءً وفاقًا على ما صنعت يداه! ولا شك أن هذا منتهى التواضع: من الشيخ الأكبر، ومن الدرويش الأصغر على السواء! لكن الذى حدث هو أن الدكتور الأزهرى قد لقن الشيخ الأكبر درسا لا أظنه هو ولا من وراءه أو أمامه أو عن أيمانه أو عن شمائله من دراويشَ تابعين أو سادةٍ متبوعين سيَنْسَوْنه أبد الآبدين ولا دهر الداهرين! لقد بدأ الدكتور الأزهرى كلامه بالحمد لله والصلاة على النبى واستعاذ بالله من شرور النفس ومن سيئات الأعمال، وأطال فى هذه الديباجة، وأنا أستحثه بينى وبين نفسى أن يدخل فى الموضوع خوفا من أن يقاطعه فيصل القاسم فى الوقت الحرج ويقول له كعادته: "الوقت يداهمنا". لكنى لم أكن أعرف أن كلمات الشيخ ستنزل على رأس الأركون كما تنزل "تعزيمة الرفاعى" على رأس الحَنَش الذى يريد استدراجه من داخل الجدار، فتطيّر صوابه فلا يستطيع حولا ولا طَوْلا، بل يقع فى يده ويستسلم كما يخرج الثعبان من الشق الذى يختبئ فيه رافعًا الراية البيضاء لراقى الثعابين! أعاذنا الله من الثعابين ومن شر الثعابين: من المنسوبين إلى جنس الآدميين، قبل ثعابين الحَيَاوين! قولوا معى بصوتٍ واحد، وعلى قلب رجلٍ مؤمنٍ واحد: آمين، يا رب العالمين! وأسمعونى كذلك الصلاة على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين! المهم أننى من يومها كلما جاءت سيرة الحلقة أجدنى أردد قائلا: "لقد أكل الشيخُ الأزهرى البروفسيرَ السربونى!". لهذا، ولكل هذا، ولا شىء غير هذا، ألفيتُنى أبتهج لمرأى د.الخولى وأتشوق إلى متابعته مرة أخرى وهو يتكلم بطريقته المميزة راسمًا بذراعه ويده اليسرى زوايا قائمة فى الهواء ومشيرًا بسبابته فى حسمٍ وحدّةٍ ناحية الخصم كأنه يفقأ بها عين الباطل اللئيم مضيفا على نحو مفاجئٍ خاطفٍ كلمةَ: "ثمّ"، ومتمهلا قليلا قبل أن يشفعها بالجملة التالية ثم سائر الجمل من بعدها بحروفها التى تبدو وكأنها صادرة جميعها من الحلق، وعلى رأسه طاقيته الداكنة المكبوسة الظريفة التى يكمن فيها السحر والظرف كله! وأشهد أن الشيخ الأزهرى لم يخيب ظنى ولا رجائى هذه المرة أيضا، بل إنى لأعتقد أنه قد تفوق فيها على نفسه. وكان من بركاته أن استفز خَصْمُه مقدِّمَ الحلقة منكرًا ما كان قد قاله قبل الدخول إلى مكان التصوير وأعلن فيه ما تكنه أطواء ضميره من كراهية للإسلام وحملة تجاوزت جميع الحدود على آيات القرآن مما لم يستطع أن يواجه به الجمهور ولا أن يصمد به للشيخ فى الحوار الذى دار بينهما على الهواء أمام الملايين، فما كان إلا أن وجَّه له د. فيصل القاسم بدوره لكمة أخرى جعلته يترنح وهو يتصايح مُنْكِرًا دون جدوى، والقاسم يؤكد بقوة واستخفاف أن كل شىء قاله قبل بدء الحلقة مسجَّل، وأنه لا يفترى عليه فى قليل أو كثير! وهكذا لحق محمد ياسر شرف بأركون (الذى جعله الله سَلَفًا ومثَلاً للآخِرين) غير مأسوف على أى منهما! والدكتور شرفٌ بالمناسبة، حسبما أخبرنى صديقٌ حلبىّ البارحةَ عقبَ انتهاء البرنامج، هو أستاذ سورى كان يشتغل ناظرا لإحدى المدارس الثانوية بدمشق قبل أن يسافر للعيش فى لندن.(15/403)
وهكذا بدأت الحلقة، وكانت بداية القصيدة كفرا، إذ لم يترك لنا د.شرف فرصة نستعد فيها لما يقول، بل أخذ يمطرنا من البداية باتهام معلِّمى اللغة العربية والدين فى المدرسة جميعا بالكذب قائلا إن مدرس العربية يكذب على التلميذ زاعما له أنه سوف يبدأ معه من الآن دراسة العربية، أما ما كان يتكلمه قبل ذلك فليس من تلك اللغة فى شىء. ومن ثم فهذا المدرس، حسب زعم د.شرف، يحكم على الفترة التى قضاها الطفل قبل أن يبدأ درس النحو بأنها ضاعت من حياته دون جدوى! ولا أدرى أين يوجد ذلك المدرس خارج أوهام صاحبنا الرديئة السخيفة. لقد درَسْنا القواعد النحوية والصرفية فى المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، فلم نقابل مثل هذا الأستاذ. بل إن كثيرا من أساتذة اللغة العربية ليشرحون دروسهم بالعامية. وكل ما يمكن أن يقوله الواحد منهم فى هذا الصدد أن الفصحى هى لغة القراءة والكتابة، أما العامية فللكلام والمطالب اليومية فى البيوت والشوارع والمقاهى والأسواق وما إليها، مثلما قلنا ونقول، وسنظل نقول، إن المنامة للبيت والسرير، بخلاف البدلة، فهى للحفلات والمناسبات الاجتماعية والرسمية الهامة. فأين الكذب هنا؟ والعجيب أن الرجل كان يتكلم بلغة فصحى سليمة إلى حد كبير، ودون تلكؤ أو تلعثم. والفضل بطبيعة الحال، بعد الله، لمدرسى اللغة العربية الذين جازاهم سعادته جزاء سنمار! ترى بأية لغة غير العامية المتخلفة كان سيتكلم لولا فضل هؤلاء الأساتذة الذين يرميهم سيادته بالكذب جريا على أسلوب المثل السائر: "رمتنى بدائها، وانسلَّتِ"؟ ثم لماذا يَقْصِر الاتهام بالكذب على مدرسى اللغة العربية دون سائر المدرسين، وهؤلاء يقعون فيما هو أشد مما يتهم به أولئك زورا وبهتانا؟ ألا يقول مثلا مدرس الكيمياء لتلاميذه إن ذرة الماء تتكون من ذرة أوكسجين وذرتى هيدروجين؟ أوقد عاين أىٌّ منا ذلك؟ إننا لا نعرف ماءً إلا ذلك الذى ينزل من الصنبور أو يجرى فى الترع والقنوات أو يهطل من السماء! لكن الأستاذ المتكلم إنما قصد ذلك قصدًا بغية التحقير من شأن اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم رغم أن موضوع الحلقة لا تربطه أية واشجة بدروس النحو والصرف! وهذا ما عناه القرآن المجيد حين تحدث عن طائفة من الناس فنبَّه الرسولَ عليه السلام إلى أن من السهل معرفتهم من لحن القول، وهو شىءٌ قريب مما نسميه الآن بـ"فلتات اللسان".
وكما قصد الرجل أن يحقر من لغة القرآن باتهام مدرسيها ضلالاً منه ومَيْنًا بأنهم، حين يعلّمون التلاميذ قواعد النحو والصرف، إنما يمارسون كذبا بشعا عليهم، كذلك قصد الإساءةَ الجِلْفَة الغبية للدين حين اتهم مدرسى الفقه، ضلالاً أيضا منه ومَيْنًا، بأنهم إنما يكذبون أفظع الكذب على التلاميذ حين يقولون لهم إن ما يُغْسَل من أعضاء الجسم فى آخر الوضوء هو الرِّجْلان إلى الكعبين، بينما الذى يحدث فى الواقع هو غسل المشطين إلى الكعبين، وهو خطأ فى زعمه، إذ الرِّجْل عنده إنما هى الساق والفخذ. وهذا كلام فى منتهى الخطورة، فتهمة الكذب والجهل فيه موجهة، فى الحقيقة، لا إلى مدرسى الفقه، بل إلى الرسول والقرآن. ترى من أين أتى مدرسو الفقه بتفسيرهم هذا؟ أليس من رسول ا صلى الله عليه وسلم ؟ إذن فلو كان هناك كذب وجهل لكان مصدرهما هو الرسول، الذى لم يشأ صاحبنا أن يتهمه اتهاما مباشرا، بل آثر أن يلدغ لدغته السامة على نحو خبيث خفى، فلا يمكن المشاهد اكتشافها إلا فيما بعد عندما يبدأ ذهنه بالعمل، ويكون سعادة الأستاذ قد فَطَّ راجعا إلى لندن! نفس الطريقة الخبيثة التى تحدث عنها أخ له من قبل فى مصر قائلا إن أسلوبه (يقصد أسلوبه فى الكيد للإسلام) هو: اضرب، واهرب قبل أن يتمكنوا من الإمساك بك!(15/404)
والواقع أن الكذب والجهل إنما هما نصيب من يتهم الرسول والقرآن بهما، فمعروف أن أول معنى من معانى "الرِّجْل" فى اللغة هو "القدم". وهذا واضح من قولنا: فلان راجل، أو ماشٍ على رجليه، أو مترجِّل عن دابته. ومنه قول القرآن فى الآية الخامسة والأربعين من سورة "النور": "والله خلق كل دابّة من ماء: فمنهم من يمشى على بطنه، ومنهم من يمشى على رِجْلَيْن، ومنهم من يمشى على أربع"، وقوله فى الآية المائة والخامسة والتسعين من سورة "الأعراف": "ألهم أرجلٌ يمشون بها؟". ومنه أيضا قوله عز شانه: " َلأُقَطِّعَنَّ أيديكم وأرجُلكم من خِلاف" (الأعراف/ 124، والشعراء/ 49)، وقوله جل جلاله: "يومَ يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" (العنكبوت/ 55)، وقوله سبحانه لعبده داود: "اركض برِجْلِك" (ص/ 42)... إلخ. أم ترى الفلحاس يفهم من تلك العبارات أنهم يمشون على أفخاذهم وسيقانهم أو أن العذاب سوف يأتيهم من تحت أفخاذهم وسيقانهم أو أن داود عليه السلام كان يركض على فخذيه وساقيه؟ إن مصير من يفهم مثل هذا الفهم لمعروف، ألا وهو أخذه إلى أقرب مستشفى للأمراض العقلية! وعلى هذا فلا كذب ولا جهل إلا عند الشتّام الهجّام بلا وازع أو لجام! وحتى لو أدخلنا فى معنى "الرِّجْل" الفخذ والساق ، فالمفهوم أن تكون بداية الرِّجْل من القدم لا من الساق أو الفخذ، إذ القدم هى الجزء المنفصل من الرِّجْل، أما الساق والفخذ فهما متصلان بغيرهماـ وعلى ذلك فعندما يقول القرآن: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" فليس لذلك من معنى فى حالة الوضوء إلا غسل القدمين من أسفلهما صعودا إلى الكعبين، وإلا فهل يريد حضرته منا، إذا ما أردنا أن نتوضأ ونغسل أرجلنا فى المسجد، أن نخلع سراويلاتنا وتبابيننا ونكشف عن سوآتنا على ملإ من الناس أجمعين؟ وهل تراه هو يفعل ذلك، أقصد: هل كان يفعل ذلك أيام أن كان يصلى ويتوضأ؟ انظروا إلى هذا التنطع الثقيل الظل والروح لتعرفوا إلى أى مدى يتساخف تلامذة الاستعمار والمستشرقين والمبشرين فى حربهم للإسلام!(15/405)
وكان الرجل قد أتى للحلقة ليدعو بما يدعو به الأمريكان من وجوب حذف النصوص القرآنية والحديثية التى تحض على الجهاد فى سبيل الله أو تصف من لا يؤمن بمحمد والقرآن بالكفر، من المقررات الدراسية. ومن الواضح أنه، فى النقاش الذى دار بينه وبين د. فيصل القاسم قبل بدء الحلقة، قد أعلن عن نفسه وأهدافه بكل وضوح، أما على الهواء وأمام الجمهور فكان يلف ويدور، ولكن عَلَى من؟ عَلَى بابا؟ لقد كانت اللعبة مكشوفة تماما رغم الزعم الكاذب بأنه لا يريد حذف هذه النصوص، بل مجرد تأجيلها لمرحلة لاحقة. إلا أن هذه البهلوانيات اللفظية والفكرية لم تستطع أن تخفى سوأة نياته وأهدافه، إذ لما سئل: ومتى يمكن للتلاميذ أن يتعلموا هذه النصوص؟ كان جوابه أن قراءتها لا بد أن تقتصر على المتخصصين لا تعدوهم. أى أنه لن يقرأ هذه النصوصَ إلا المشايخ الكبار، ولا سبيل إلى وضعها بين أيدى غيرهم بأية حال، وهو ما يعنى أنها ستتحول إلى نصوص ميتة لا غناء فيها، اللهم إلا لمن يريد أن يبلّها ويتناولها على الرِّيق فتطرد البلغم من صدره، والديدان من أمعائه، وتحمِّر خدوده، وتبرم كعوبه! وسلِّم لى على الجهاد والعزة والكرامة يا أبو كرامة! أما أنتِ يا أمريكا فقد "خلا لك الجوّ، فبِيضِى واصْفِرى، ونقِّرى ما شئت أن تنقِّرى". نعم خلا لك المجال الجوى فى بلاد المسلمين فطِيِرى بطائراتك وأطلقى صواريخك فيه وامرحى على راحتك تماما، واصفرى بقنابلك التى تدمر البيوت على رؤوس من فيها من المساكين الوادعين الذين لم يدوسوا لك على طرَف، وانقرى عيونهم وابقرى بطونهم ولا تأخذك بأحد منهم رحمة، فهم أولاد كلب وخنازير لا يستحقون مصيرا أفضل بل أسوأ من مصير الهنود الحمر! أليسوا أبناء محمد؟ أليسوا قد تخرجوا من مدرسة القرآن؟ اضربى يا أمريكا بكل ما عندك من وحشية وجبروت، فالفرصة الآن سانحة كما لم تسنح لك من قبل، فها هو فريق من أبناء المسلمين أنفسهم ينصرك على بنى قومه، ويمدك بما تريدين أن تعرفيه من أخبارهم، وينشر بينهم التخذيل والإحباط والتيئيس وروح الهزيمة والتشكيك فى القرآن والحديث ونبوة محمد وحضارة العرب والإسلام، ويقوم بدلا منك بالمهام القذرة. ترى ماذا تريدين أفضل من هذا؟ اضربى! اضربى الرجال والنساء والأطفال والبيوت والمدارس والمستشفيات والمصانع والمتاحف والمساجد والمخابئ والحقول والجسور والمطارات والسيارات... اضربى بكل قسوةٍ هؤلاء البهائم الذين لا يفهمون ولا يتحضرون ولا يريدون أن يسلّموا لك رقابهم طواعية كى تجزريهم وتمصمصى عظامهم براحتك دون أن يعكّر عليك الجَزْرَ والمصمصمةَ مجاهدٌ منهم لئيمٌ أو عالمٌ زنيم. ثم ما هذه السحنة العابسة المكرمشة التى يطالعك بها أمثالُ الشيخ إبراهيم الخولى؟ وما هذه اللغة الأزهرية التى أكل عليها الدهر وشرب؟ لماذا لا يتقمَّع ويتقمَّش ويتحذلق بمصطلحاتك الفارغة من المضمون والتى تخترعينها وتغادين بها الدنيا صباح مساء لتبرجلى بها عقول المتخلفين ويبتسم تلك الابتسامات اللزجة السخيفة التى يبتسمها المستر شرف والمسيو أركون؟ لا، لا. اقتلوه هو وأمثاله يَخْلُ لكم وجه الدنيا وبترولها وكل لذائذها. لقد فعلتموها بكل نجاح واقتدار مرة من قبل مع الهنود الحمر، وفعلها الإسبان مع أجدادهم فى الأندلس، وها هى ذى الفرصة مواتية الآن تمام المواتاة لكى تفعلوها كرة أخرى، فهيا هيا يا أبناء العم سام يا سادة العالم، وأَرُوا هؤلاء البهائم النجوم فى عز الظهر الأحمر! ثم لا تنسَوْا فى ذات الوقت أن تتهموا أولئك الجواميس والأبقار بالإرهاب. قولوا لهم: أنتم قتلة! أنتم لا تحترمون إنسانية الآخر. أنتم ما تزالون تؤمنون بدينكم، وهذا يزعجنا وينغص علينا بالنا، أفلا تفهمون؟ إننا سادة العالم، ولا نريد لأحد أن يفتح فمه أمامنا بكلمة. وأنتم لا تكفون عن الكلام، فليس لكم عندنا إلا الإبادة. إننا نعرف أن كثرة كلامكم ليست إلا مظهرا من مظاهر عجزكم عن الدفاع عن أنفسكم فى مواجهتنا، لكننا لا نريد منكم ولا حتى الكلام لأنه مزعج لراحتنا وآذاننا.(15/406)
وبالمناسبة فهذه الدعوة إلى حذف بعض النصوص القرآنية التى تزعج اللصوص والقتلة الدوليين المتخصصين فى سرقة الأوطان من شعوبها وإبادة أهليها ليست وليدة اليوم، ولا هذه الجهود الوقحة الآثمة الكافرة لوضع هذه الدعوة الإجرامية موضع التنفيذ هى بنت اللحظة الراهنة، بل قامت الجهات الصهيونية والصليبية العالمية من قبل فى الستينات من القرن الماضى بتحريفات فى مائة ألف نسخة من المصحف الشريف وزعها الأوغاد فى بعض جهات إفريقيا وآسيا بلغت المئات حذفوا فيها حروف النفى من مثل قوله تعالى: "وقالت اليهود: ليست النصارى على شىء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شىء" (البقرة/ 113)، وقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبَل منه" (آل عمران/ 85)، بل إنهم حذفوا نصوصا أخرى كاملة من المصاحف التى وزعوها فى أرض فلسطين المباركة مثل قوله سبحانه: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يُخْرِجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إليهم. إن الله يحب المُقْسِطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَوَلَّوْهم, ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة/ 8- 9). ويعلق د.لبيب السعيد على هذا الإجرام والكفر قائلا إن الهدف من وراء ذلك "هو صرف الأنظار عن جرائم إسرائيل التى ارتكبتها فى حق العرب وإخراجهم من ديارهم" (انظر كتابه "الجمع الصوتى الأول للقرآن أو المصحف المرتل"/ ط2/ دار المعارف/ 372). وهؤلاء المجرمون، إذ يفعلون هذا، إنما يجرون على سنة التحريف التى جَرَوْا عليها فى كتبهم من قديم، فهم لا يأتون شيئا غريبا عن طبائعهم. وهذا يعطينا فكرة عما جُبِلوا عليه من دناءة وخسة لا تليق بمن يزعمون أنهم يريدون تحضرنا وتقدمنا، فهذه الأساليب ليست أساليب الأطهار الشرفاء، ولا هى تلائم التحضر والتقدم فى شىء.
كذلك انبرى د.محمد ياسر شرف هو ومعضِّداه اللذان دخلا على الخط من أوربا فى فاصل من الحِنِّيّة والعطف والتباكى على أهل الكتاب المساكين الملائكة الطيبين الذين كتب عليهم حظهم التعيس أن يعيشوا فى بلاد الإسلام، متهمين المسلمين بأنهم ينفون الآخر ولا يعترفون بحقه فى الاعتقاد على النحو الذى يريد! ولو أن الكلام اقتصر على هذا السخف لهان الأمر ولما بالينا بالرد عليه، فالمسلمون الآن لا يستطيعون أن يقتلوا ذبابة، والأقليات فى بلادهم هى أعز الأقليات فى العالم جانبا هم ودور عبادتهم وأوقافهم ورجال دينهم، بل هى فى بعض الأحيان أعز منهم هم أنفسهم. لكن الطامة العظمى أن المتكلمين قد اندفعوا فى معزوفة من المغالطات الوقحة والاتهامات الحقيرة الموجهة إلى الرسول الكريم والقرآن العظيم الذى جاء به بما لا يمكن أن يكون له من معنى إلا أن محمدا هو مؤلف القرآن وأنه كان شخصا ميكيافيليا فى أخلاقه وسياسته، جريئا على تطويع النصوص والتلاعب بها حسبما يحلو له بما يخدم مصلحته ويتناقض مع كل قيمة أخلاقية كريمة دون أن يَزَعه عن ذلك وازع! كيف ذلك؟
لقد ادعَوْا أن الرسول، r، قد أثنى على أهل الكتاب فى مكة حين كانت العلاقة بين الفريقين صافية لم تتكدر كما تكدرت لاحقا فى المدينة بعد مهاجَره عليه السلام إليها واحتكاكه باليهود ثم النصارى من بعدهم واشتعال الخلافات والمعارك بينه وبينهم مما كان من نتيجته توالى الآيات التى تلعنهم وتكفّرهم، ناسيا أنه كثيرا ما شهد لهم بالإيمان فى قرآنه أيام مكة قبل أن تتوتر بينهما الأمور. وهو بعينه ما يقوله المستشرقون والمبشرون، أى أن أصحابنا لم يأتوا بشىء من عندهم. وهو كلام قديم لا يكف الدارسون الغربيون عن لَوْكه فى تنطع وسخف ما بعده سخف رغم معرفتهم التامة أنهم يكذبون. وهذا مثل دعوى بوش وبلير بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل رغم معرفتهما التامة أن ذلك كذبٌ أبلق، لكن الهدف البعيد يستحق أن ترتكب أمريكا وبريطانيا له الكذب والقتل والتدمير للعراق وأهل العراق وحضارة العراق، مع تشغيل الإسطوانة المشروخة بأنهم إنما جاؤوا للعراق ليعيدوا إعماره وينشروا فيه الديموقراطية! ومن الطبيعى أن إعادة الإعمار تستلزم أن يكون هناك خراب، ولما لم يكن العراق على أيام صدام خربا كان لا بد من نشر الخراب والدمار فيه حتى يمكن أن يكون هناك إعمار. كذلك فالعراقيون الحاليّون غير مستعدين للديمقراطية، أو لا يستحقونها بالأحرى، ومن ثم فلا بد أيضا من استئصالهم وإفساح الطريق أمام جيل جديد يستطيع أن يتذوق الديمقراطية التى جلبتها له أمريكا: فهذا شىء لزوم الشىء!(15/407)
والواقع أن فى كل من الآيات المكية والمدنية ثناءً على أهل الكتاب وتبشيرا لهم بحسن العاقبة، وتكفيرًا لهم كذلك ولعنًا، فليس الأمر إذن كما زعم أصحابنا كذبا ومَيْنا أن الساسة الميكيافيلية هى التى اقتضت أن يمدح محمد أهل الكتاب فى مكة، ثم ينقلب عليهم فيذمّهم فى المدينة! لكن يبقى هناك سؤال مهم، ألا وهو لماذا مدحهم القرآن أحيانا، وذمَّهم أحيانا أخرى؟ وجوابنا أن لكل فرد أو جماعة من البشر عدة جوانب بحيث يمكن أن نمدحهما باعتبار، ونعيبهما باعتبار آخر، وأهل الكتاب لبسوا بدعا بين البشر حتى يمكن استثناؤهم من ذلك. والقرآن حين يمدح أحدا من أهل الكتاب فإنه لا يمدحه بوصفه يهوديا أو نصرانيا بل بوصفه مسلما قد آمن بمحمد وانصاع للحق الذى جاء به، ولم يدفعه التعصب الأعمى لما ألفى آباءه عليه إلى رفض الدعوة النبيلة العظيمة التى أتى بها الرسول من لدن رب العالمين. وسوف أجتزئ ببعض الآيات من كل من الوحى المكى والمدنى للتدليل على ما أقول حتى يسقط الهراء الباطل السفيه الذى يصدّعنا به الباحثون ورجال الدين الغربيون ومن جرى فى ركابهم وتعلق بأذيالهم من بيننا.
لقد ادعى أصحابنا الثلاثة، كما رأينا، أن القرآن الذى نزل بمكة لا يذكر أهل الكتاب إلا بخير، فما رأيهم فى النصوص المكية التالية التى تحمل عليهم حملة شديدة وتدمغهم بأحكام عنيفة؟ قال تعالى: "ومِنَ الذين هادوا حرَّمْنا كل ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمْنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون" (الأنعام/ 146). وفى سورة "الأعراف" التالية لسورتنا هذه يحكى القرآن الكريم فى آيات بعد آياتٍ قصة موسى مع بنى إسرائيل، فلم يترك مثلبة إلا ودمدم بها على رؤوسهم ولعنهم وتوعدهم بمصيرٍ فظيعٍ جرّاءَ عنادهم وكفرهم بنبيهم وكتابهم وعصيانهم لربهم وصلابة رقابهم وعقولهم وقلوبهم مما يجده القارئ بدءا من الآية 138 حتى الآية 178، ومثله موجود فى سورة "طه". فما القول فى هذا أيضا؟ كما نجد فى أوائل سورة "الإسراء" نبوءة خاصة بالإفسادين اللذين سيرتكبهما بنو إسرائيل والتأديب الذى قدّره الله عليهم جزاء لهم على الإفساد الأول منهما... إلخ. فما القول فى هذا أيضا؟ كذلك نسمع فى ختام صدر سورة "مريم" حملة على ما انحرف إليه بعض أتباع عيسى من عبادتهم له عليه السلام وُصِفوا أثناءها بالكفر فى عبارة صريحة لا تحتمل لبسا ولا تأويلا: "ذلك عيسى بن مريم قولَ الحق الذى فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ مِنْ وَلَد. سبحانه! إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون* وإن الله ربى وربكم، فاعبدوه. هذا صراطٌ مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم، فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم"، ومثله موجود فى سورة "الزخرف". فما القول فى هذا أيضا؟ بل إن المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة وجدوا أنفسهم، بسبب من هذه الآيات، فى حَرَجٍ أمام النجاشى وحاشيته وبطارقته عندما سُئِلوا، بتحريض من رسولَىْ قريش اللذين لحقا بهم ليؤلبا عليهم الملك ورجاله، عن حقيقة اعتقادهم فى المسيح، لكنهم رضى الله عنهم لم يداهنوا فى دينهم وقرأوا الآيات متوكلين على الله، فلم يخذلهم بل حنَّن عليهم قلب الملك الطيب الذى استطاع بنبل بصيرته أن يرى عظمة دين محمد والذى أرجع الرسولين القرشيين بخُفَّىْ حُنَيْن!
هذا فى جانب الذم، أما فى جانب المدح فإلى القارئ هذه الشواهد التى يمكنه أن يقيس عليها ما لم نذكره. قال سبحانه: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنْزِل إليك" (الرعد/ 36). فما القول فى هذا؟ وقال أيضا عز شأنه: "وقرآنا فرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْث، ونَزَّلناه تنزيلا* قل: آمِنوا به أو لا تؤمنوا. إن الذين أُوتُوا العلم من قبله إذا يُتْلَى عليهم يخِرّون للأذقان سُجَّدا ويقولون: سبحان ربنا! إنْ كان وعد ربنا لَمفعولا* ويخِرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" (الإسراء/ 106- 109). فما القول فى هذا أيضا؟ وقال جل جلاله: " ولقد وصَّلْنا لهم القولَ لعلهم يتذكرون* الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون* وإذا يُتْلَى عليهم قالوا: آمنّابه. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين" (القَصَص/ 51- 53). فما القول فى هذا أيضا؟(15/408)
ومثل هذا فى المعنى والتفسير ما نجده من ثناء على بعض أهل الكتاب فى الوحى المدنى من مثل قوله جل جلاله: "وإِنّ مِنْ أهل الكتاب لمََنْ يؤمن بالله وما أُنْزِل إليكم وما أُنْزِل إليهم خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا. أولئك لهم أجرهم عند ربهم" (آل عمران/ 199). فما القول فى هذا؟ ولقد استشهد د.شاكر النابلسى (أحدُ من اتصلوا بالبرنامج لمناصرة د.محمد ياسر شرف،) بالآية 114 من سورة "آل عمران" زاعما أنها تمدح أهل الكتاب وتصفهم بأنهم "يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف ويَنْهَوْن عن المنكر"، مع أن الآية السابقة عليها مباشرة تنص نَصًّا على أن الكلام إنما يدور على طائفة منهم فقط لا عليهم كلهم، قائلة عن أفراد هذه الطائفة إنهم "يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون"، بما يعنى أنهم كانوا قد آمنوا بالقرآن وباتوا ليلهم يتلون آيات الكتاب الذى نزل على محمد، ويسجدون لربّ محمد سبحانه وتعالى، فضلا عن أن وصفهم بالإيمان بالله واليوم الآخر لا يدل إلا على شىء واحد لا غير، ألا وهو الإيمان بمحمد ودينه وكتابه، إذ إن رفض الإيمان ولو بنبىٍّ واحد معناه الكفر بالله واستحقاق العذاب المهين حسبما وضحتْ لنا الآيات 150- 152 من سورة "النساء"، كما أن من شروط الإيمان بالآخرة الإيمان بالقرآن كما جاء فى الآية 92 من سورة "الأنعام".(15/409)
ويلاحظ القارئ أن د.النابلسى قد مزَّق آية "آل عمران" عن أختها السابقة عليها التى تشير إلى أن أهل الكتاب الذين تمدحهم إنما هم الذين دخلوا فى الإسلام وصاروا من أتباع محمد عليه السلام، وكانوا يقضون ليلهم فى تلاوة كتاب الله. وهذا التمزيق هو شِنْشِنَةٌ معروفة عند كل من يحاربون القرآن استغفالاً منهم للمستمع الذى لا يكون عنده فى مثل هذه الظروف من الوقت ولا من فراغ البال ما يساعده على التنبه لهذا التزوير الجلف! ود.النابلسى، لمن لا يعرف، هو كاتب أردنى مقيم بأمريكا ويناصر ما تفعله أمريكا بالعراق من قتل وتدمير للبيوت والمتاحف والجسور والشوارع، واغتصاب للحرائر وتلطيخ للرجال بالخراء وإجبارهم على أن يفعل الأب منهم بأولاده والأولاد بأبيهم الفاحشة وغير ذلك من بشاعات وفظائع مما انكشف أمره من أهوال سجن أبو غريب، وسرقةٍ لنفط العراق وتهديدٍ لسائر الدول والشعوب العربية بنفس مصير العراق، زاعما أن هذا الإجرام البربرى الوحشى الذى لا يدع شيئا إنسانيا أو حضاريا إلا دمره كما كان يفعل المغول قديما، ليس احتلالا ولا استغلالا، وأن الذين يقولون بغير ذلك إنما هم متشنجون عُمْىٌ لا يستطيعون أن يبصروا الأمل الذى جاءت جيوش الاحتلال الأمريكى المجرم لتحقيقه! ويمكن الرجوع فى ذلك لما كتبه هو نفسه فى مقاله المنشور بالصفحة السادسة عشرة من جريدة "الراية" القطرية يوم الثلاثاء 12 أكتوبر 200 م عن الإرهاب بالعراق. يقصد الكفاح المقدس ضد قوات الشيطان الأمريكى المجرم فى ذلك البلد العزيز. وهو يعزو هذا الإرهاب إلى عدة عوامل على رأسها ما يسميه: "أنظمة التعليم الدينى" فى بلادنا! وعلى نفس الوتيرة يشن هذا الرجل (الذى قرأت أنه فلسطينى يتنكر لأصله) على الكفاح البطولى العظيم لأهل فلسطين هجوما ناريًّا حاقدا متهما العمليات الاستشهادية بأنها انتحار لا معنى ولا موضع له فى حياتنا السياسية المعاصرة، ومدافعا عن إسرائيل وأمريكا فيما تفعلانه بحجة أنهما تعتمدان على الشرعية الدولية، إذ إن قيام إسرائيل على أرض فلسطين يمثل فى نظره تلك الشرعية الدولية، وعلى العرب والمسلمين والفلسطينيين أن يخرسوا فلا يفتحوا أفواههم بكلمة (صحيفة "العراق الجديد" الألكترونية/ 16أكتوبر 2004م بعنوان "هل حقا أن القرضاوى يعتبر داعية وسطيا معتدلا؟"). وهو يرى فى مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذى تدعو إليه أمريكا هذه الأيام ، والذى يهدف إلى تركيع العرب والمسلمين للهيمنة الأمريكية والصهيونية، هِبَةً ثمينة يريد العم سام (عليه السَّام، والموت الزُّؤَام) أن ينشر من خلالها الديمقراطية والحكم الصالح وبناء المحتمع المعرفى. بل لقدوصف أمريكا بأنها رَبَّة هذا الكون، أى هى المسؤولة عن مصلحته، ومن حقها إذن أن تتدخل فى شؤون الدول لتعديل المعوج من أوضاعها بغية القضاء على الإرهاب العالمى (حلقة "الاتجاه المعاكس"بتاريخ الثلاثاء 16/ 3/ 2004م). وفى موضع آخر نراه يكتب مؤكدا بكل قوة أن الدولة التى أقامها الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدون لا تصلح لنا الآن لتخلفها عن الآماد التى بلغها تقدم الدولة الحديثة. وهذا الكلام موجود فى جريدة "الحوار المتمدن" اليسارية الألكترونية فى عددها رقم 981 الصادر فى 9/ 10/ 2004م تحت عنوان "الإجابة على سؤال: لماذا دولة الرسول والخلفاء الراشدين لا تصلح لنا الآن ؟". وبالمثل نجده يتغنى بخلال ملك الأردن الرفيعة التى لا يستطيع شعبه المتخلف أن يجاريه فيها (نفس المصدر/ العدد 911/ 31 أغسطس 2004م)، كما لا يعجبه من مشايخ الأزهر على بكرة أبيهم إلا د.محمد سيد طنطاوى، الذى يجلّه غاية الإجلال ويراه المنفتح الوحيد بينهم (نفس المصدر/ العدد971/ 29 سبتمبر 2004م). أرأيت، أيها القارئ الكريم، السر وراء تشنج هذا الفريق كى يشطبوا، من المناهج الدراسية فى أوطان الإسلام، الآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية التى تحض المسلمين على المناضلة من أجل عزة دينهم وأوطانهم وأنفسهم؟ إنها "ماما أمريكا" الحنون دائما وأبدا والتى أخذت فى أحضانها الدافئة كاتبنا الفلسطينى بعد الهجرة إليها من السعودية، التى كانت أما حنونا أيضا أيام الاتجاه الفكرى الأول، ولكن "كان زمان" كما تقول كوكب الشرق!(15/410)
والعجيب الغريب أن د.النابلسى كان من أعنف المهاجمين للحضارة الغربية التى كان يتهمها بأنها حضارة مادية بحتة، على عكس الإسلام الذى يجمع بين المادى والروحى معا، ومن المنتقدين بقوة للنظام السياسى الغربى متهما إياه بالنفاق واللاإنسانية وازدواج المعايير حتى إنه ليفضل الديكتاتورية التى تنتهجها دول الكتلة الشرقية على الديمقراطية الرأسمالية لصراحتها فى رفض الديموقراطية وعدم التشدق الكاذب بها، كما كان من أشد المتحمسين للإسلام حضارةً وديمقراطيةً وعدالةً اجتماعية، مؤكدا أن الغرب قد أفاد من هذا الدين أعظم إفادةـ، وأن التنمية القائمة على أساس من مبادئ الإسلام خير من نظيرتها الغربية التى تفتقر إلى العنصر الإنسانى، وهو ما تجلى فيما حققته السعودية فى هذا المجال حيث استطاعت أن تختزل مراحل التنمية المتعددة التى كان على الغرب أن يمر بها كلها، وأن سياسة أمريكا الخارجية تقوم على "الظلم والقهر والاستبداد والحمق"، وأن إسرائيل هى جزء لا يتجزأ من نظامها السياسى، بل ولاية من الولايات الأمريكية، وليست مجرد دولة حليفة لها، وأن الشارع العربى يكره أمريكا إدارةً ودولةً وسياسةً ومنهاجًا، وأن شعوب العرب إذا كانت صابرة الآن عليها وعلى ما تفعله بها صبر أيوب فإن ذلك لا يمكن أن يظل قائما إلى الأبد، إذ لا بد يوما أن تثور على الذين أذاقوها كؤوس المذلة والهوان وسلطوا عليها أشقياء الأرض والعابثين فيها، وأنه لا مصداقية للعم سام فى إقامة الحق والعدل والسلام فى منطقتنا! وهو يدعو بكل قوة إلى عدم مهادنة إسرائيل والاستمرار فى حمل البندقية لإرهاقها واستنزافها، معطيا القضية الفلسطينية بعدها الدينى الذى يرى أنه لا يحتمل أى جدال أو تهوين، ومناديا بخروج اليهود من أرض فلسطين التى قدستها السماء إلى أرض الشتات التى جاؤوا منها، وموصيا أمته بالصبر والنفس الطويل، ومحذرا إياها من أن تصير إلى ما صار إليه الهنود الحمر على يد أمريكا، ومعضدا رأى من ينادون بضرورة قيام الوحدة بين الشعوب العربية على أساس إسلامى مستمد من الكتاب والسنة! بل إنه ليصف اللغة العربية بـ"المقدسة"، كما يهاجم عادل إمام هجوما أخلاقيا عنيفا متهما إياه بأنه، بأفلامه التافهة، مسؤول عن إفساد الأجيال الحالية، ومؤكدا أن المال الذى يكسبه من هذه الأفلام هو مال حرام! ويستطيع القارئ أن يرى مصداق ما نقوله فى كتبه: "الزمن المالح" و"محاولة للخروج من اللون الأبيض" و"قطار التسوية والبحث عن المحطة الأخيرة" مثلا التى صدرت له عام 1986م عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" فى بيروت. فما عدا مما بدا؟ هذه مسألة تحتاج إلى من يدرسها ليعرف الأسباب التى أدت إلى هذا التحول المريب فى حياة الرجل الذى سمعناه يصرخ فى حلقة برنامج "الاتجاه المعاكس" المذكورة متهمًا القرآن بالتناقض، زاعما أن التشريعات التى يتضمنها إنما هى أمور خاصة بمحمد وزوجاته ذات طبيعة آنية، ومن ثم لا تصلح لأن تكون تشريعات دائمة لأمة الإسلام!
وعودًا إلى ماكنا فيه نقول إنه حتى آيات سورة "المائدة" الخاصة بالنصارى والتى كثيرا ما يساء تفسيرها عمدا وخبثا أحيانًا، وعن سذاجة من جانب بعض المسلمين الذين لا يفهمون أحيانًا أخرى، هذه الآيات لا تمدح ذلك الفريق من أهل الكتاب بوصفه من أتباع النصرانية التى تسفِّهها كثير من الآيات السابقة عليها بدءا من الآية الرابعة عشرة، بل تمدحه لمسارعته للإيمان بالرسول محمد والآيات التى أنْزِلت عليه، ولخشوع قلبه وفيضان دمعه من شدة الوجد والتأثر بكلمات القرآن المجيد! والآيات موجودة لمن يريد أن يقرأها مفتوح العينين والقلب، وأرقامها هى 82- 86. وتبقى النصوص المدنية التى تحمل على أهل الكتاب، وهذه لا تمثل أية مشكلة، ومن ثم فلست أجد أى داع لإيراد شىء منها.(15/411)
والآن، هل تشكِّل هذه الآياتُ التى تصم هؤلاء القوم بالكفر عدوانا على حقوق الإنسان؟ أبدا لا تمثل شيئا من هذا القبيل على الإطلاق، فكل أهل دين ومذهب وفلسفة ونظام، سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا، يعتقدون أنهم على الحق، وغيرهم على الباطل. وإن أمريكا نفسها التى برعت فى الآونة الأخيرة فى رفع هذه اللافتات والشعارات لتردد جهارا نهارا أن نظامها السياسى وقيمها الاجتماعية وفلسفتها الاقتصادية هى المثال الأعلى الذى يجب على البشر جميعا، شاؤوا أم أبَوْا، أن يعتنقوه، وهاهى قد أتت للعراق لكى تسقيه لنا، لا بالملعقة الصينى التى كان يُضْرَب بها المثل قديما على الترف والدلال، بل بالملعقة الأمريكانى، أقصد بالجزمة الأمريكانى التى لا توقِّر شيئا ولا أحدا فى الدنيا مهما كان قدره! بل إن مسؤوليها ليتسابقون إلى شتم ديننا ورسولنا وربنا، فإذا ما اعترض بعضنا ممن لا يفقهون قيل لهم: هذه حرية تفكير وتعبير! طيب يا أخى، نحن أيضا نحب عيشة الحرية كما عبّر بالنيابة عنا منذ عشرات السنين موسيقار الأجيال! أليس كذلك؟ بلى هو كذلك ونصف وثلاثة أرباع، لكننا قد نسينا شيئًا مهمًّا جدًّا، وهو أننا لسنا أمريكيين، وهنا مربط الفرس (أو الحمار، لا فرق)، وطُظّ فينا وفى موسيقار الأجيال وكل الملحنين والمطربين معه أيضا فوق البيعة! إذن فليس فى الاعتقاد بأننى ناج يوم القيامة، ومن يخالفنى ذاهب فى ستين داهية، ما يمكن أن يكون افتئاتا على أحد، وبالمناسبة فهذا الآخر يعتقد بدوره فِىَّ ما أعتقده فيه. كل ما هو مطلوب ألا يكون مثل هذا الاعتقاد سببا فى عدوان أى منا على الآخر، سواء بالقول أو بالعمل. والمسلمون لا يقولون: "شَكَل للبيع"، فهم يقرأون قرآنهم لأنفسهم، ولا يجبهون به غيرهم. أما إذا آذاهم هذا الغير فى دينهم ولم يحترم رسولهم أو كتابهم فإنهم لا يملكون إلا الرد على هذا التهجم، ولا معنى فى هذه الحالة لاعتبارات المجاملة الزائفة التى تكبلّهم وتذلّهم وتحرّم عليهم أن يدفعوا عن أنفسهم صائلة العدوان. فهل فى الإسلام ما يتعارض مع هذا الكلام المنطقى الإنسانى؟ ولا شَرْوَى نقير! إن الإسلام يحرِّم على أتباعه تحريما قاطعا أن يبدأوا أحدا بالعدوان مهما كانت كراهيتهم له (المائدة/ 8)، بل إنه ليمنعهم حتى من سب الأوثان كيلا يكون ذلك سبيلا إلى سب الذات الإلهية واندلاع الفتنة من ثم، منبِّها المسلمين إلى أن كل قوم يَرَوْن دينهم أحسن الأديان (الأنعام/ 108).فأى خطإٍ فى هذا يا خَلْق هُوه؟ إننا لا نستطيع أن نتناول موسى أو المسيح وأمه عليهم جميعا السلام بكلمة سوء واحدة، على حين أن اليهود والنصارى لا يكفّون عن شتم سيد البشر والنبيين واتهامه بكل منقصة. ومع هذا يُتَّهم المسلمون، ويتظاهر غيرهم بأنهم حملان وديعة. أرأيتم خبثا وكيدا ولؤما كهذا اللؤم والكيد والخبث؟ على أية حال فالسبيل إلى إزالة هذا الخلاف هو أن يحتذى الطرفان الآخران ما يفعله المسلمون، فيكفّوا عن الشتائم البذيئة فى حق الرسول الكريم وقرآنه وأتباعه، ويدخلوا فى الإيمان به مثلما يؤمن المسلمون بموسى وعيسى ومريم ويدفعون عنهم قالات السوء التى يروجها عنهم سفلة البشر، أو على الأقل أن ينصرفوا إلى دينهم يمارسونه كما يحلو لهم دون أن يتطاولوا على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . ترى هل فى ذلك شىء من الغموض أو الافتئات على أحد
==============(15/412)
(15/413)
من الحرية الدينية إلى الدولة العلمانية
أ.د. جعفر شيخ إدريس*
من أعظم الوسائل التي تُستعمل لتحريف نصوص الكتاب والسنة في عصرنا أن يؤخذ نص أو عبارة من نص ثم تعطى معنى من معاني الثقافة الغربية له لوازم لا تتناسب مع بقية نصوص الكتاب والسنة، ثم إما أن يلتزم المحرِّف بهذه اللوازم فيمضي في تحريفه إلى نهايته، وإما أن ينكر بعضها فيقع في التناقض والحرج، وإما أن يلجأ إلى تحريف النصوص الأخرى كما حرَّف النص الأول.
من العبارات القرآنية التي حُرفت بهذه الطريقة عبارة {لا إكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: 256] التي صار يُستدل بها على الحرية الدينية بالمعنى الغربي لهذه العبارة. وما دامت الحرية الدينية بهذا المعنى الغربي تقتضي أن يكون من حق الإنسان أن يدخل في الدين أو يخرج منه متى شاء حكم هؤلاء بأن تكون الردة أمراً مباحاً لا جريمة يعاقَب مرتكبها، حتى قال قائلهم في وقاحة ـ مخالفاً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ: (لا بأس على الإنسان أن يبدل دينه).
لكن حرية الدين بالمعنى الغربي لا تقف عند حدود إباحة الردة؛ لأنك إذا أبحت للإنسان أن يخرج من الدين كله فيلزمك أن تبيح له الخروج من بعضه. وهذا هو الأمر في الغرب. فكما أن من حق الإنسان أن يخرج من اليهودية أو النصرانية أو الإسلام؛ فمن حقه أيضاً أن ينكر بعض ما في دينه ويظل رغم ذلك يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، ولا يحق لجهة دينية أن تعترض عليه. ولا زلت أذكر مستغرباً كلمة الرجل الأمريكي الشاذ الذي انتخبته كنيسته قسيساً كبيراً لها معتذراً للذين اعترضوا على ترشيحه، قال كلاماً فحواه أنهم محقون؛ لأن انتخابه مخالف لتقاليد الكنيسة، ومخالف لنصوص الكتاب المقدس، ثم قال: «لكن هذا لا يعني أنه خطأ»!
وعليه فإذا كان من حق المسلم أن يرتد عن دينه كله، فيكون من حقه أن ينكر الصلاة أو الصيام، أو يمتنع عن أداء الزكاة، أو يبيح شرب الخمر أو الزنا، أو حتى الشذوذ. وقد حدث فعلاً أن كوَّن جماعة من الشباب المنحرفين في أمريكا جمعية أسموها (جماعة الشباب الإسلاميين الشاذين).
لكن هذا يؤدي إلى نتيجة خطيرة هي أن الإسلام لا يمكن أن يكون نظاماً أو قانوناً لدولة؛ لأنه إذا كان من حق الإنسان أن يخرج على كل أمر أو نهي ديني، فيكون من حقه أن يخرج على كل أوامر الدولة وقوانينها. لكن الناس لا بد لهم من دولة تأمر وتنهى وتعاقب؛ فإذا لم تكن دينية لزم أن تكون علمانية. يقول بعضهم: يمكن أن نُلزم الناس بهذه الأوامر باعتبارهم مواطنين لا باعتبارهم مسلمين. وأقول: إن هذا يؤكد علمانية الدولة؛ لأن العلمانية لا تمنع من أين تتبنى الدولة بعض الأوامر والنواهي ذات الأصل الديني ما دامت لا تجعل الدين أساساً لمشروعيتها. ونحن نعلم أن في الدول العلمانية الغربية كثيراً من أمثال هذه القوانين.
الحرية بهذا المعنى الغربي ناتجة عن اعتقاد بدأ يشيع في الغرب بعد القرن الثامن عشر فحواه أن المعتقدات الدينية لا تقوم على أساس علمي، وإنما هي مشاعر قلبية، فلا يحق لإنسان أن يجبر الآخرين على أن تكون مشاعرهم وعواطفهم كمشاعره. والدين يختلف في هذا عن العلوم التجريبية التي تستند دعاواها إلى أدلة علمية حسية أو عقلية. وكثيراً ما يأخذون علينا ـ معاشرَ المسلمين ـ معاملتنا للدين معاملة هذه العلوم، فيقولون: إنكم تدَّعون أنكم تملكون الحقيقة. ونحن فعلاً نعتقد أن الحق معنا في مسائل الدين، وأن ديننا يقوم على حقائق تشهد لها أدلة حسية وعقلية، وأن الأمر ليس متروكاً فيه للأذواق الفردية؛ وهذا هو الذي يجعلنا نحكم على بعض الأقوال والتصرفات أنها مخالفة للدين أو مناقضة له مخرجة لصاحبها عن الملة الإسلامية.
ولأننا نعتقد اعتقاداً جازماً بأن الحق معنا ولا سيما في أصول الدين، وأن من مصلحة الإنسان الدنيوية والأخروية أن يؤمن بهذا الحق، فنحن حريصون على نشره كما هو من غير زيادة أو نقص أو تحريف، وحريصون على حماية من يؤمن به من المؤثرات التي تضعف إيمانه أو تفتنه عنه.
وهذا هو السبب في اعتبار الردة جريمة يعاقب عليها القانون الإسلامي. إن الذي يعاقب عليه القانون ليس هو أن يغير الإنسان ما في قلبه؛ فهذا أمر لا يستطيع البشر الاطلاع عليه اطلاعاً مباشراً، ولا يستطيع أحد أن يجبر أحداً على اعتقاد معين حقاً كان أو باطلاً؛ ولذلك يقال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
ويقال له:{فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ}.[الغاشية: 21 - 22](15/414)
فالاستدلال بمثل هذه النصوص على إباحة الردة استدلال خطأ؛ لأن هذه النصوص لا تتكلم عن حرية التعبير عن الكفر وإنما تتحدث عن وجود الكفر في القلب. ومنع التعبير عن الكفر والتصريح به غير منع وجوده في القلب. والتفريق بين هذين أمر متفق عليه بين كل العقلاء، ولا يمكن إلا أن يراعى حتى في القوانين الوضعية. فالقانون لا يعاقب إنساناً على اعتقاده بأن إنساناً آخر سارق مثلاً، وإنما يعاقبه على إعلانه عن هذا الاعتقاد لما يترتب عليه من ضرر بالمتهم. ولو أن مسلماً رأى أخاً له يزني وتأكد من هذا الأمر فلا يجوز له أن يصرح به، بل إن تصريحه به يعد ذنباً يعاقب عليه إذا لم يشهد معه ثلاثة مثل شهادته.
وكذلك الأمر بالنسبة للردة. فالمسلم إذا ارتد وكتم ردته في قلبه بحيث لم يطلع عليه إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإن الله هو الذي يحاسبه. أما في الدنيا فيعامل معاملة المسلم. وأما إذا أعلن ردته فإنه يعاقب لما قد يترتب على ردته من عواقب سيئة عليه وعلى غيره. من هذه العواقب:
أولاً: استعمال الردة وسيلة لمحاربة الدين، ومن ثَم الدولة التي يقوم عليها هذا الدين. قال ـ تعالى ـ عن بعض الكفار: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
ثانياً: أن الإنسان قد تخطر بباله شبهات تشككه في دينه؛ فإذا ما صرح بها وعرفها الناس عنه، ربما كان من الصعب عليه أن يتنازل عنها. وأما إذا ما كتمها في قلبه، أو بدأ يناقش بعض إخوانه فيها مناقشة علمية، فقد يرجع عنها. وقد جربنا هذا كثيراً.
ثالثاً: إن التصريح بالخروج من الدين لا تقف حدود ضرره على المرتد وحده، بل إن هذا قد يؤثر في كل من له صلة به ولا سيما الزوجة أو الزوج والأولاد.
فتجريم إعلان الردة هو في الحالة الأولى حماية للأمة، وفي الحالة الثانية حماية للفرد، وفي الحالة الثالثة حماية لمن حوله ممن قد يتأثر به.
أقول بعد هذا: إن الذين فسروا عبارة {لا إكْرَاهَ فِي الدِّين} ذلك التفسير الغربي، والتزموا لوازمه كلها أو بعضها، وأباحوا الردة، اضطروا كلهم لأن ينكروا أو يحرفوا نصوص السنة النبوية.
يقول لك أحدهم: إنه لا ذكر لتجريم المرتد في القرآن الكريم. تقول له: بلى! قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 25 - 28].
يقول لك: لكن المذكور في هذه الآية وآيات غيرها إنما هو عقاب أخروي. تقول له: لكنه تجريم على كل حال. ثم إن تفاصيل كثير من الأحكام إنما جاءت بها السنة التي أمرنا الله ـ تعالى ـ في كتابه أن نأخذ بها.
فإنكار السنة أو شيء منها إنكار للقرآن الكريم. قلت لبعضهم: إن القرآن لم ينزل عليك ولا على أبيك، وإنما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإذا كنت تعتقد أنه صادق في قوله إن القرآن أنزل عليه، فيجب أن تعتقد أنه محق في بيانه للقرآن وفي قوله إنه أوتي القرآن ومثله معه. وإذا كنت لا تصدقه في هذا أو لا تأخذ بقوله فقد أبطلت الأصل الذي يقوم عليه إيمانك بأن القرآن كلام الله إن كنت حقاً مؤمناً بذلك. ثم كيف تبيح لنفسك أن تفسر القرآن وتنكر على من أُنزل عليه أن يفسره؟
ومنهم من ينكر وجود أحاديث تجرِّم الردة وتعاقب عليها. ومنهم من يعترف بوجود بعض الأحاديث لكنه يتعمد تحريف معانيها بشتى الوسائل. من أشهر هذه التحريفات السخيفة التي انطلت ـ مع الأسف ـ على بعض الناس قولهم: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى بقوله: )من بدل دينه فاقتلوه( من جمع بين ترك الدين والخروج على الدولة. ثم يخترعون من عند أنفسهم مناسبات لهذا الحديث ما أنزل الله بها من سلطان. هذا مع أن من المناسبات الحقيقية للحديث ما يتنافى منافاة بينة مع هذا الهراء. الحديث رواه ابن عباس وذكره بمناسبة تحريق أمير المؤمنين علي ـ رضي الله عنه ـ لبعض الزنادقة. خرَّج البخاري في صحيحه عن عكرمة قال: أُتي علي ـ رضي الله عنه ـ بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنتُ أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدَّل دينه فاقتلوه». وإنما قتلهم، ثم أحرقهم؛ لأنهم سجدوا له، وقالوا له: أنت خالقنا ورازقنا؛ فهل هنالك من حال هي أشد خضوعاً للحاكم وأبعد عن الخروج عليه من حال إنسان يسجد له ويقول له: أنت ربي؟
============(15/415)
(15/416)
نبذة عن العلمانية
د. إسماعيل محمد حنفي*
أولاً: مفهوم العلمانية([1]):
العلمانية في الحقيقة تعني إبعاد الدين عن الحياة أو فصل الدِّين عن الحياة أو إقامة الحياة على غير الدِّين؛ سواء بالنسبة للأئمة أو للفرد.
أما أصل كلمة علمانية فهي ترجمة غير صحيحة للكلمة اللاتينية (SECULA r ISM) وترجمتها الصحيحة هي: اللادينية أو الدنيوية, بمعنى ما لا علاقة له بالدين ويؤكد هذه الترجمة ما ورد في دائرة المعارف البريطانية في مادة (SECULA r ISM) "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها؛ وظل الاتجاه إلى الـ(SECULA r ISM) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية كما يؤكد أن ترجمة الكلمة اللاتينية هي اللادينية؛ ما أورده معجم أوكسفورد شرحاً لكلمة (SECULA r ):
(1) دنيوي أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
(2) الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.
هل الاسم العربي له صلة بالاسم؟
ليس له صلة بالعلم لأنه كما ذكرنا أن أصل الكلمة باللاتينية ليس له علاقة بالعلم، والذين ابتدعوها لم يريدوا بها العلم من قريب ولا من بعيد. ولو أرادوه لاستخدموا ما يشير إلى النسبة إلى العلم هي (SCIENTIFIC) لأن العلم بالإنجليزية (SCIENCE) وأرى أن استخدام هذه الكلمة العربية كمصطلح لهذه الفكرة فيه تضليل وتعمية،ولو سموها باسمها لانصرف أهل الفطر السوية عنها ولحاربها أهل الغيرة على الدين.
ثانياً: نشأة العلمانية:
بداية النشأة في أوروبا، وكان ذلك بسبب عبث الكنيسة بدين الله المنزَّل، وتحريفه وتشويهه، وتقديمه للناس بصورة منفرة دون أن يكون عند الناس مرجع يرجعون إليه لتصحيح هذا العبث وإرجاعه إلى أصوله الصحيحة المنزلة كما هو الحال مع القرآن المحفوظ بقدر الله ومشيئته من كل عبث أو تحريفٍ خلال القرون([2]).
إنّ ما نبذته أوروبا حين أقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقة الدين ـ فهذه كانت منبوذة من أول لحظة ـ إنما كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الأوروبية أو في أفكار الناس ووجداناتهم، فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا إقصاءً كاملاً من الحياة، ولم تترك منها إلا حرية من أراد أن يعتقد بوجود إله يؤدي له شعائر التعبّد في أن يصنع ذلك على مسئوليته الخاصة، وفي مقابلها حرية من أراد الإلحاد والدعوة إليه أن يصنع ذلك بسند الدولة وضماناتها([3]).
ويمكننا تلخيص تسبب الكنيسة في نشأة العلمانية في الآتي:
ـ عقيدة منحرفة: أن الله ثالث ثلاثة، وأنه هو المسيح ابن مريم.
ـ حصر الدين في العبادة بمعناها الضيق فقط، وفي العلاقة الروحية بالخالق.
ـ نفوذ رجال الدين على الملوك وعلى عامة الناس، بحيث لا يقع تصرف منهم فيكون صحيحاً إلا عن طريق رجال الدين؛ ولو كان ذلك وفق توجيه رباني صحيح ولمصلحة البشر لم يكن فيه إشكال؛ لكن لمصلحة رجال الدين.
ـ قيام رجال الدين بالتشريع من عند أنفسهم تحليلاً وتحريماً, حسب أهوائهم ومصالحهم مثل: تحليل الخمر والخنزير، وإبطال الختان.
ـ محاربة الكنيسة للعلم وقتلها للعلماء.
ـ استغلال رجال الدين لمكانتهم في فرض عشور في أموال الناس، وتسخيرهم للخدمة في أرض الكنيسة، وفرض ما يعرف بصكوك الغفران.
ـ الفساد الخُلُقي بكل أنواعه كان يمارسه رجال الدين.
ـ مناصرة الكنيسة للمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على الناس.
كل تلك الأسباب وغيرها أدت إلى نبذ أوروبا للدين وإقبالها على العلمانية باعتبارها مخلصاً لها مما عانته من سطوة رجال الدين، وسبيلاً للانطلاق والتقدم الذي كان الدين ـ بذلك التصور وتلك الممارسات ـ حجر عترةٍ أمامه.
ولكن البديل الذي اتخذته أوروبا بدلاً من الدين لم يكن أقل سواءً إن لم يكن أشد؛ وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادي يطمح إليه كل البشر على الأرض تحقيقاً لسُنَّةٍ من سُنن الله التي تجهلها أوروبا وتجهل حكمتها، لأنها لا تؤمن بالله وما نزَّل من الوحي: (فلما نسوا ما ذكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون) [سورة الأنعام: 44]، وإذا كان الغالب على ردود الأفعال هو الاندفاع لا التعقّل ولا التبصّر ولا الرويّة ولا الاتزان فقد اندفعت أوروبا في نهضتها تنزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية -سواءً كانت إلهيةً حقاً أو مدعاة من قبل الكنيسة- وتصنع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان، كما تنزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتصنع بدلاً منه ما يتصل بالحياة الدنيا([4])، والحاصل أنهم وقعوا في أسوأ مما فروا منه حين نبذوا الدين كله ونقول إنّ ذلك ليس غريباً؛ فالعقائد الباطلة والتصورات المنحرفة، والممارسات الضالة لا تأتي بخير فالذي خَبُث لا يخرج إلا نكِداً.(15/417)
وإن كان ذلك قد جرى في أوروبا بسبب الكنيسة ورجال الدين، فليس ذلك موجوداً في دين الإسلام، ولا يمكن أن يقع مثل الانحراف الشامل ويغيب الحق والصواب عن الناس؛ لأن أصول هذا الدين معلومة ومحفوظة، ولا يزال أهل العلم وحملة الحق في كل زمان يُبيّنون ويُوضّحون للناس، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولو حصل شئ من الانحراف فإنه يكون معلوماً، ولن يتفق عليه أهل الإسلام وهو يعالج بما يؤدي إلى مصالح أكيدة، فالخطأ عندنا أمة الإسلام لا يُعالج بالخطأ، والخطأ الذي يقع إنما هو منسوب للبشر فهي ممارستهم واجتهاداتهم, ولا يصح أن يُحمل على الدين وأن يكون ذريعةً لرفض منهج الله.
ثالثاً: من آثار العلمانية:
في مجال السياسة:
ـ استخدام المبدأ الميكافيلي "الغاية تبرر الوسيلة" من قبل الحكام، مما جرد السياسة من الأخلاق وأبعد عنها الدين، فأصبح استخدام كل وسيلة حلالاً كانت أو حراماً؛ أمراً عاديّاً، بل لم يكن سياسياً بارعاً من لم يفعل ذلك!!
ـ استغلال الناس للوصول إلى الحكم، عن طريق الديمقراطية المزعومة، ثم تسليط السلطة على نفي الناس وظلمهم.
ـ إبعاد الناس عن الحياة واستثناء النهج الإسلامي ذي التوجه الرباني من الوصول للحكم، بل ومحاربته والتنكيل بأنصاره، واتهامهم بالتطرف والإرهاب.
ـ نشأة التيارات المغالية التي كانت ردة فعل للأنظمة العلمانية بظلمها وفسادها.
ـ ولاء الأنظمة السياسية في بلاد المسلمين لدول الكفر، ولاءً كاملاً على حساب الإسلام والمسلمين.
في الاقتصاد:
ـ ترويج سلع العدو في بلاد المسلمين بما يقوي اقتصاده ويضعف المسلمين.
ـ أصبحت الثروة دُولةً بين عدد محدود من الأغنياء الذين لا تستفيد منه بلاد المسلمين كثيراً.
ـ أصبح المسلمون عالةً على غيرهم, معتمدين على عدوهم في كل شيء.
في الاجتماع والأخلاق:
ـ تحرير المرأة وتحللها من كل القيود التي تعصمها وتحفظ كرامتها.
ـ تفكك الأسر وضياع أفرادها.
ـ انتشار جرائم الأطفال وفسادهم.
ـ انتشار الخيانات الزوجية, وكثرة أبناء الزنا.
ـ الترويج للشذوذ الجنسي.
ـ ضعف الروابط بين الأقارب والأرحام؛ بسبب التركيز على الجانب المصلحي في الحياة والعلاقات بين الناس.
ـ انتشار ثقافة التحلل والتفسُّخ والشهوة, مما أدى إلى كثرة الفساد الأخلاقي, وانتشار الأمراض الفتاكة.
في التربية والثقافة:
ـ تفسير الدين تفسيراً ضيقاً, وتحديد علومه تحديداً قاصراً.
ـ التفريق بين نظام تعليم رسمي حكومي, ونظام تعليم أهلي ديني؛ مع إهمال الأول والاهتمام بالأخير.
ـ إهمال اللغة العربية والتربية الإسلامية, مع إظهار الاهتمام بغيرهما من المواد العلمية والعصرية.
ـ بث السموم والطعن في المقررات والمناهج الدراسية ضد الإسلام, مع الاهتمام بالثقافة الأوروبية.
ـ انتشار ترجمات الكتب الغربية في بلاد المسلمين, بل وكذلك الكتب الغربية بلغاتها الأصلية؛ تحت اسم الثقافة ودراسة الأدب...الخ.
ـ عودة كثير من أبناء المسلمين الذين درسوا وتربوا على مائدة الغرب ليساهموا في نشر ثقافته وفكره وينافحوا عنها.
ـ الفصل بين ما هو ديني وما هو غير ديني في الصحف والمجلات: مجلة دينية, صحيفة دينية, صفحة دينية, برنامج ديني...إلخ.
ـ انتشار الاختلاط في المؤسسات التعليمية؛ حتى أصبح أصلاً, ومن ينادي بفصل الجنسين يصبح شاذاً!
ـ حصر مفهوم الثقافة في أدب اللهو والمجون, والطرب والغناء.
رابعاً: كيف نواجه العلمانية:
لا حاجة ـ بعد كل ما ذكرناه ـ إلى الكلام عن حكم العلمانية, فقد اتضح لنا أنها دين مستقل؛ ابتدعه البشر ليكون مقابل دين الله وبديلاً لشرعه, وبذا فهي كفرٌ صراح, ومواجهتها واجب, لكن كيف؟
ـ بنشر العلم الشرعي وتوعية الناس بدينهم.
ـ بتربية أبناء الأمة على الإسلام, في الأسرة والمؤسسات المختلفة.
ـ بنشر الثقافة الإسلامية من خلال: الكتب, المجلات, المقررات الدراسية, أجهزة الإعلام...
ـ بتعرية فكر العلمانيين والرد عليهم.
ـ بالتمسك بشريعة الإسلام والعضِّ عليها بالنواجذ.
ـ بتوعية الأمة بخطورة العلمانية على الدين والمجتمع.
ـ بتقوية عقيدة الولاء والبراء.
----------
(1) د. سفر الحوالي، العلمانية، ص 21ـ24، Ency.B r itanniea.Vol.lxp.19. Oxfo r d Advanced Lea r ne r 's Dic. Of Cu r rent English:785
([2]) محمد قطب، العلمانية، ص7
([3]) المرجع السابق، ص11.
([4]) محمد قطب، مرجع سابق، ص17ـ29.
==============(15/418)
(15/419)
العلمانية وخديعة استبعاد الدين
[الكاتب: يحيى هاشم حسن فرغل]
زعموا أن العلمانية سر التقدم في العالم المعاصر الذي ما حدث إلا بخلع الدين.. ولقد زيفوا فيما زعموا.. ثم كذبوا..
أما أنهم زيفوا فذلك أنهم - ضمن " حرب المصطلحات " كما بينا في المقال الأسبق - أدخلوا إلى البيئة الإسلامية مصطلح العلمانية، لغير مشكلة فيها، ثم استوردوا له المشكلة، ونادوا بدوره في حلها!!
وأما أنهم كذبوا فلأن الدولة الدينية مازالت في صلب الدولة الحديثة شديدة التطور في أوربا وأمريكا
وقد بينا في مقال سابق أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنوير والحداثة لإبعاد المسلمين عن دينهم أولا ثم لتنصيرهم من بعد ذلك وهاهو التنصير في فرصته التاريخية ومرحلته الجديدة بدءا من العراق.
وسوف نبين في مقال قادم نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحتفال والاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء إلى حد اشتراك العلمانيين أنفسهم في " زفة " هذا التقدير.
وسنبين هنا تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يلقي على دعاة العلمانية بتهمة خداع الرأي العام الإسلامي في دعوتهم إياه إلى استبعاد الدين بحجة التقدم!!
ونهتم بأن نذكر من ذلك كله ما كان قبل ظهور مجموعة بوش والمحافظين الجدد قبيل الحادي عشر من سبتمبر 2001 رفعا لتوهم أنها حالة عابرة.. كما أننا لم نقتصر على ملابسات خاصة بأحزاب المحافظين أو المتشددين رفعا لتوهم أنها حالة حزبية معزولة.. كما أننا لن نذهب بعيدا في التاريخ رفعا لتوهم أنها حالة ماضوية كما يود العلمانيون لنا أن نفهم.
وإذا كان من المشهور اليوم ظهور التلاحم بين السياسة والدين في مجال البروتستنت - في نموذج المحافظين الجدد - فسوف نهتم هنا بإبراز ذلك التلاحم في مجال الكاثوليك.. وإذا كان من المشهور اليوم اشتغال رجال السياسة بالدين فسوف نهتم هنا غالبا بإبراز اشتغال رجال الدين بالسياسة.
وفيما يختص ببيان تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية:
يقول الأمير شكيب أرسلان: (هل يظن الناس عندنا في الشرق أن نهضة من نهضات أوربا جرت دون تربية دينية؟ أفلم يقل رئيس نظار ألمانيا في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات - نشر الأمير كتابه عام 1930 -: إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي؟) [أنظر لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم: طبعة 1965 / ص 147].
وفي ألمانيا الديموقراطية قبل الاتحاد الذي تم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي - وقد كانت تقوم على تعاليم ماركس وإنجلز ولينين أصبح مارتن لوثر - بالرغم من ذلك - أحد آبائها الأيديولوجيين، حيث اعتبرته المدرسة الماركسية من خلال إنجلز رائدا لثورة اجتماعية سياسية لم يكن عنده الجرأة على استيعاب ما يترتب عليها!!
أما في ألمانيا الاتحادية - وأيضا بعد اندماج الألمانيتين بالطبع - فإن الدين ملتصق بالدولة تحمي مؤسساته ومصالح هذه المؤسسات سواء كانت لوثرية أو كاثوليكية، والكنائس في ألمانيا تعتبر أغنى كنائس العالم، والتعليم الديني إجباري في المدارس إلى سن الرابعة عشرة، إذ يفرض على الطالب البروتستانتي تعلم اللوثرية، وعلى الطالب الكاثوليكي تعلم الكاثوليكية.
وفي بريطانيا: أين هو الفصل بين الكنيسة والدولة؟ أليس ملك بريطانيا هو رئيس الكنيسة في الوقت نفسه؟
وإذا كان العلماني المعروف الأستاذ أحمد بهاء الدين أراد أن يخفف عنا هذه الحقيقة بقوله: (ملكة انجلترا هي رئيسة الكنيسة الإنجليزية ولكنها لا تأمر أو توجه ناقلة رأي الكنيسة إلى البرلمان المنتخب من الشعب)، فإن الحقيقة لا تنتهي عند هذه النقطة كما يريد لنا الكاتب أن نفهم، لأن السؤال هو: وما دور البرلمان المنتخب من الشعب بعد أن تنقل إليه الملكة رأي الكنيسة؟
واقرءوا معنا قصة الإفخاريستا... يقول الأمير شكيب أرسلان: (لم يحدث في التاريخ أن مسألة من مسائل انجلترا الداخلية أخذت في الأهمية الدور الذي أخذته قصة " الأفخاريستا " وهي قصة تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح..(15/420)
وأصل هذه العقيدة ما رواه الإنجيل من أن السيد المسيح عليه السلام قبل صعوده إلى السماء تمشى مع تلاميذه وودعهم، وبينما هو على المائدة تناول لقمة من الخبز وقال: كلوا هذا جسدي، وشرب جرعة من الخمر وقال: اشربوا هذا دمي، فتكونت من هذه الكلمات في النصرانية عقيدة معناها أن الخبز والخمر يستحيلان إلى جسد الرب تماما حقيقة لا مجازا، ولما كان القسيس هو خليفة المسيح كان لابد له كل يوم عند التقديس في الكنيسة أن يتناول لقمة من الخبز ويشرب رشفة من الخمر وهو يتلفظ الكلمات التي تفوه بها السيد المسيح عليه السلام في أثناء عشائه مع الحواريين. فمتى فعل ذلك تحول هذا الخبز وهذا الخمر إلى جسد الرب حقيقة لا مجازا، ولذلك يوضع هذا الخبز ويسمونه القربان في حُق ثمين فوق المذبح من الكنيسة، ويسجدون له، وذلك باعتبار أن هذا القربان هو الإله نفسه، ويسمون وجود الله فيه بالحضور الحقيقي.
وقد كانت هذه العقيدة هي عقيدة المسيحيين جميعا ولا يزال عقيدة أكثرهم إلى اليوم، إلا أنه عندما جرى الإصلاح البروتستانتي تغير الاعتقاد عند أتباعه بقضية الحضور الحقيقي، وقالوا: إن هذا مجاز لا حقيقة، وأنه مجرد رمز وتذكار، وعدلوا عن وضع القربان فوق المذبح والسجود له باعتبار أنه هو الإله بذاته، وصاروا في كنائس البروتستانت يجعلون هذا القربان في تجويف خاص به من الحائط.
ولكن الكنيسة الإنجليكانية - الكنيسة العليا في انجلترا - لم يتفق رأيها في قضية القربان: أن يكون التحول فيه حقيقيا أو مجازيا؟ وأصبحت مسألة خلافية بين اليمين والوسط واليسار، وخيف فيها من انشقاق عام. عندئذ أمرت الحكومة البريطانية بتأليف مجمع من الأساقفة تحت رياسة أسقف كانتربري لحل المشكلة، فانعقد المجمع زمنا طويلا ولم يوفق إلى حل. وأخيرا ألحت الحكومة على هؤلاء الأساقفة بأن يبتوا في القضية، فحكموا بالأكثرية - مع مخالفة ستة من المطارنة - بأن الخبز والخمر يستحيلان في قداس الكاهن إلى جسد المسيح ودمه، وعليه يجب عبادتهما والسجود لهما ووضعهما في أعلى المذبح لا في كوة حائط الكنيسة، يعني انهم رجعوا في ذلك إلى العقيدة الكاثوليكية.
هذا ولما كان القانون الأساسي لبريطانيا يوجب القول بالفصل في جميع القضايا الدينية لمجلس اللوردات ولمجلس العموم، عملا بكتاب الصلاة الذي هو مرجع الأمة الإنجليزية أحيل حكم المطارنة هذا إلى مجلس اللوردات، وكانت للمناقشات فيه جلسات متعددة بلغت من اهتمام الملأ ما لم تبلغه المناقشات في أية مسألة.. وأخيرا؛ أيد مجلس اللوردات بالأكثرية قرار مجمع الأساقفة، فلما جاءت القضية إلى مجلس العموم نقضوا قرار مجلس اللوردات وحكم مجمع الأساقفة، وقرروا أن الخبز والخمر لا يستحيلان بداهة إلى جسد السيد المسيح ودمه، واستندوا في ذلك إلى كتاب الصلاة المشار إليه سابقا، وعلى إثر هذا القرار من مجلس العموم استعفى رئيس أساقفة كنتربري من منصبه!!).
ويعلق الأمير شكيب ارسلان فيقول: (أين فصل الدين عن السياسة وأنت ترى أن مسالة دينية بحتة تطرح في مجلس اللوردات ومجلس النواب ويفصلان فيها، فإن لم تكن هاته المسألة دينية فما الديني إذن؟ وإن لم يكن مجلسا الشيوخ والنواب مختصين بالسياسة فما المجالس التي تختص بالسياسة بعدهما؟ فليتأمل القارئ المنصف مدى التضليل الذي يقوم به المضللون من المسلمين.. إما جهلا وتعاميا عن الحقيقة وإما خدمة للاستعمار الأوربي الذي ليس له غرض أعز عليه من أن يأتي على بنيان الإسلام من القواعد) [أنظر كتاب " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم": للأمير شكيب أرسلان / ط 1965 / الهامش ص 97 - 101].
ولنستمع إلى شهادة الشاعر والفيلسوف الإنجليزي الشهير ت. س. إليوت في كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " إذ يقرر أن الثقافة الأوربية العلمانية لم تقتلع المسيحية من جذورها ولكنها تعايشت معها وليس ذلك راجعا إلى مصالحة بين المسيحية والعلمانية ولكنه راجع إلى تملك الدين لناصية الثقافة في أي شعب إذ أن (تكوين دين هو تكوين ثقافة أيضا) أما عن أوربا المسيحية بالذات فإنه يقول: (إن سنن المسيحية المشترك هو الذي جعل أوربا ما هي)، وإذ يقول: (حين ندافع عن ديننا فلا بد لنا في معظم الأمر من أن نكون مدافعين عن ثقافتنا في الوقت نفسه والعكس بالعكس)، ويقول: (في المسيحية نمت فنونا وفي المسيحية تأصلت قوانين أوربا، وليس لتفكيرنا كله معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي)، (وقد لا يؤمن فرد أوربي بأن الإيمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه كله من تراثه في الثقافة المسيحية ويعتمد في معناه على تلك الثقافة)، ويقول: (نحن مدينون لتراثنا المسيحي بأشياء كثيرة إلى جانب الإيمان المسيحي، فمن خلال ذلك التراث تنبع فنوننا، ومن خلاله نلقي مفهومنا للقانون الروماني الذي فعل ما فعل في تشكيل العالم الغربي، ومن خلاله نلقى مفاهيمنا عن الأخلاق الخاصة والعامة) [أنظر كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة ": ص 80، 145، 146].
ومن هنا يمكننا القول بأن أوربا مسيحية حتى في علمانيتها.(15/421)
وفي هذا المعنى يقول الدكتور محمد عصفور: (إن عديدين من الفقهاء لا يترددون في أن يضفوا على الديموقراطية نفسها الطابع الديني، فمنهم من ردها إلى أصول مسيحية، ومنهم من اعتبر الديموقراطية العلمانية ذات طبيعة دينية، أو متعصبة دينيا حتى إن زعمت الفصل بين الدين والدولة) [جريدة الوفد: في 17\ 7\1987].
وكأنه يشير في هذا إلى القاعدة العلمانية المأخوذة من الكتاب المقدس: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وكأن العلمانية هي الأقرب إلى المسيحية من الكنيسة عندما كانت الكنيسة تمارس السلطة السياسية انحرافا منها وشهوة دنيوية ، وكأن العلمانية في بلادنا لا تصادم الإسلام فحسب ولكنها أحد أوجه النشاط التبشيري التابع للكنيسة، ومن ثم كان لابد للعلمانية من أن تبدي الاحترام إلى حد الانحناء أمام الكنيسة والفاتيكان على الخصوص.
أما في الولايات المتحدة فقد أوضح الدكتور يوسف الحسن الدبلوماسي بدولة الإمارات أن الدين يهيمن على أخطر القرارات السياسية والدولية وذلك في رسالته للدكتوراة بعنوان "الاتجاهات الصهيونية في الحركة الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة"، التي قدمها لكلية الاقتصاد والعلوم السياسة بجامعة القاهرة بإشراف الأستاذ الدكتور إبراهيم درويش ومشاركة الأستاذ الدكتور كمال أبو المجد والدكتور محمد عصفور وقد أجيزت الرسالة بامتياز ومرتبة الشرف مع تبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية.
وتبين الرسالة أن أخطر معتقدات هذه المسيحية الصهيونية تلك النبوءة التوراتية عن عودة اليهود إلى فلسطين، وإقامة دولتهم وملكهم فيها، وترتبط هذه النبوءة بشطر آخر يربط بين إقامة دولة إسرائيل وبين التبشير بعودة المسيح ليحكم باسم النصرانية ألف عام قبل أن تقوم القيامة. كذلك ترتبط بنبوءة لاهوتية عن قرب نهاية العالم حينما تغزو جيوش " السوفييت " وإيران والعرب والأفارقة والصين!! دولة إسرائيل.. عندئذ يعود المسيح إلى الأرض بجيش من القديسين لمعاقبة غير المؤمنين وتحطيمهم في معركة تقع بسهل المجدل بفلسطين.
ولقد كسبت الصهيونية اليهودية الكثير من وراء سيطرة هذه النبوءات على عقول الساسة الأمريكيين والإنجليز والبروتسانت والرؤساء الأمريكان: ويلسون، وروزفلت، وكارتر، وريجان، والرؤساء الإنجليز: بالمرستون وبلفور وتشرشل وغيرهم - هكذا قبل أن يظهر على المسرح " محافظون جدد " ولا يحزنون، كما يحاول بعضهم أن يقزم القضية ويحصرها في أمثال بوش، ورامسفيلد، وولفوفتز وبيرد وأمثالهم.
وتستخدم الحركة الأصولية الصهيونية المسيحية نفس الأساليب والوسائل التي تستخدمها المنظمات والمؤسسات غير الدينية للتأثير في السياسة العامة، وقد ملكت في العقود الأخير وأدارت احدث أدوات الاتصال الجماهيري من محطات مسموعة ومرئية، وصارت لها مؤسساتها ولجانها وقنواتها،وقدرت ثرواتها بالمليارات، وبلغ مجموع ما قدمه الأمريكيون من تبرعات ومساهمات لهذه الكنائس في عام واحد هو 1982 حوالي واحد وستين مليارا من الدولارات. وقدرت نسبة الأمريكيين المستمعين والمشاهدين لبرامجها عام 1980 بحوالي 47% من مجمل السكان.
ويواصل الدكتور محمد عصفور تلخيصه لنتائج الرسالة المشار إليها فيقول: (وحتى ندرك ما تملكه الحركة الأصولية المسيحية الصهيونية من قوة اقتصادية هائلة يكفي أن نعلم أن ما أنفقته إحدى منظماتها على الدعاية في محطات التليفزيون وكذلك على التنظيم والتعبئة السياسية خلال انتخابات 1984 حوالي مائة مليون دولار، وهو يفوق ما أنفقه ريجان ومنافسه مونديل معا خلال الانتخابات، ولا تقتصر اهتمامات الحركة بمساندة إسرائيل وإن كانت تستحوذ على جانب كبير من نشاطها - فهي بالإضافة لذلك لها اهتمامها بصياغة السياسة الأمريكية الخارجية سواء بالنسبة لبرامج المساعدات الدولية وبخاصة في العالم الثالث، أو طبع السياسة الخارجية بطابع العداء للشيوعية (!!)، وزرع هذا العداء في العقل الشعبي وفي فلسفة المجتمع وتسخيره دوليا لإقرار سياسة دولية إرهابية).
هذه السياسة الدولية الإرهابية ضد المدنيين التي تمتد منذ إسقاط الأسطول الأمريكي في الخليج في عام 1988 أثناء حرب الخليج طائرة مدنية أغلبها مسلمون أهلكت ركابها الثلاثمائة إلى سلسلة المذابح والدمار الذي يتساقط فوق رءوس المسلمين في بيوتهم وشوارعهم ونواديهم ابتداء من فلسطين وأفغانستان والعراق وهلم جرا!
فهل قرأت عقول ساستنا ودعاتنا وعلمانيينا وأبناء جلدتنا من عرب المهجر ومسلميهم مثل هذه الدراسة الجادة قبل أن تلتصق رقابنا بمذبح هذه العقيدة الصهيونية المسيحية بعقود، أم أنها انتظرت حتى تكتشف ببلاهة شماعة رامسفيلد وولفوفيتز كأنهم " أمسكوا الديب من ديله " وإذا بهم لا يمسكون غير ديل صناعي مقطوع؟ مع الاعتذار للمثل الشعبي، أم أنهم علموا وتعاموا بفعل التماهي العلماني بينهم وبين هذه الصهيونية المسيحية " الدينية "؟
ويعلق الدكتور محمد عصفور فيقول: (إنه من الشاذ أن تكون أقوى الأحزاب الأوربية هي الأحزاب المسيحية وأن تكون أقوى الحركات السياسية هي الحركة الأصولية المسيحية ثم تحظر في بلادنا الأحزاب الدينية؟)(15/422)
ولنقطع هنا سياق هذا التعليق الذي كتبه الدكتور محمد عصفور منذ عشرين عاما لنسوق ردا على مثل سؤاله صدر منذ أيام قلائل من الدكتور بلتاجي وزير السياحة - سابقا - والإعلام حاليا بمصر في قناة فضائية وهو يبرر عدم السماح بإنشاء حزب إسلامي في مصر بحجة أن إنشاء هذا الحزب رسميا - بالرغم من الاعتراف بوجوده فعليا - يعني أن غير المنتمين إليه ليسوا مسلمين، متجاهلا أن مثل هذه الحجة لو صحت فإنها تعني عدم السماح بإنشاء أي حزب في أي مكان في العالم، لأن أي حزب من الأحزاب في جميع أنحاء العالم سوف توجه إليه التهمة الساذجة نفسها، في حين أنه لا يضم ولا يدعي أنه يضم جميع الأفراد الذين ينتمون إلى عقيدة الحزب، وإنما هو على أقصى تقدير يدعي أنه يضم من " يتبرع للعمل الحركي لهذا الحزب " أو ذاك، والمحاكمة أوالمحاسبة في هذا ترجع لبرنامج الحزب المسموح به قانونا: إن كان يدعي هذا الأمر أو ذاك، ولو طبقنا هذا المقياس على إنشاء الحزب " الوطني الديموقراطي " الذي ينتمي إليه الوزير نفسه لكان معنى ذلك أن في قيامه اتهاما لغير من ينتمي إليه باللاوطنية واللاديموقراطية، وهو ادعاء ظاهر البطلان.
كما ادعى الوزير أن السماح بإنشاء حزب إسلامي يعني السماح بإنشاء حزب مسيحي؟ ولم لا؟ وحجة الوزير في عدم السماح بذلك أن إنشاء أحزاب إسلامية وأخرى مسيحية يعني إثارة الفرقة الطائفية منطلقا من عقيدة الحزب الواحد الأحد، متناسيا أن للمسيحيين - دون غيرهم - في مصر مؤسستهم الأقوى من أي حزب، وهي الكنيسة بما لها من صلاحيات صارمة في جميع المجالات، فإنشاء حزب لهم لا يعنيهم كثيرا، وهو ليس إلا تحصيل حاصل من درجة اقل في حال قيامه، متجاهلا في الوقت نفسه فلسفة إنشاء الأحزاب نفسها - في الفكر الديموقراطي الذي اصبح الجميع يدعيه - وأنها تقوم على فلسفة الاعتراف بواقع التعددية والممارسة السلمية مختلفة تماما عن الفلسفة الإستئصالية للحزب الواحد الذي أخذ يتوارى عن الساحة السياسية في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي
لكنها العقلية العلمانية التي تتكشف من رماد بيئة استئصالية لازالت تداعب عقول الكثيرين.
ولنرجع إلى تعليق الدكتور محمد عصفور إذ يقول موجها كلامه إلى العلمانيين: (أن يسائلوا أنفسهم: كيف تسيطر المعتقدات بل والأساطير الدينية إلى هذا الحد على مصائر الشعوب؟ وعليهم أن يستمعوا إلى ما يقوله القس الأمريكي " بريان هيهيو " من أن الكنائس الأمريكية مؤسسات رئيسية، وأنها وإن لم تكن أحزابا سياسية إلا أن دورها واضح في تشكيل وتعبئة جمهور من الأنصار الملتزمين بمنهجها في المسائل السياسية الخارجية).
ويقول الدكتور محمد عصفور في تعليقه على رسالة الدكتور يوسف الحسن: (على الرغم من أن مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة مبدأ دستوري مقرر بالتعديل الدستوري الأمريكي الأول إلا أن للكنيسة والدين هيمنتهما على الحياة الأمريكية في شتى مناحيها، وارتكازا على هذا الواقع أعلنت الحركة المسيحية الأصولية عن أهدافها السياسية بصراحة شديدة، ولذلك قال قادتها: (إن حركتهم تعني الاستيلاء على الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها).(15/423)
وقال أحد زعمائها: (نحن ثوريون، نعمل على قلب التركيبة الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية.. نحن نتحدث عن مسحنة الولايات المتحدة الأمريكية) ولهذا السبب فإنه - وإن بدا أن السلطة السياسية يتقاسمها الحزبان الديموقراطي والجمهوري إلا أن الحركة الأصولية المسيحية والمسيحية السياسية عامة تكون القوة السياسية الغالبة، ليس فقط من خلال التحالف مع اليمين الرجعي في الحزب الجمهوري -!! - وإنما كذلك من خلال التحكم في العملية الانتخابية والتأثير الشديد في ملايين الناخبين الذي تجندهم الحركة لمؤازرة هذا المرشح للرياسة أو ذاك، ولم يكن من المبالغة أن تعتبر الحركة المسيحية الأصولية: " أهم ظاهرة سياسية في القرن العشرين "، وأن يتوقع لها اللاهوتي الإنجليزي " جيمس بار " أن تستمر خمسمائة عام على الأقل " ولم تبق هذه الظاهرة الدينية السياسية مقصورة أو محصورة في نطاق ما تبشر به هذه الحركة، وإنما هي امتدت إلى انتخابات الرياسة الأمريكية بل وانتخابات الكونجرس الأمريكي، فقد لوحظ - وبحق - أن الشعب الأمريكي انتخب في العقد الأخير رئيسين يؤمنان بأهمية الدين في المجتمع الأمريكي وبحلول عام 1980 كان ثلاثة من المرشحين لرياسة الجمهورية يرفعون نفس الشعار، كما كان واضحا أن مسألة الدين قد احتلت الصدارة في مناقشات الحملات لعام 1984 سواء على شكل التغطية الصحفية، أو التعليقات الإعلامية، أو في تأثير ذلك في المجتمع نفسه، وبينما أعلن كارتر عام 1976 عن شعاره وإيمانه بعقيدة الولادة الثانية كمسيحي B r on Aqain عبر ريجان في 23 أغسطس 1984 في خطاب له بمدينة كنساس عن إيمانه بدور الدين في المجتمع الأمريكي رغم تأكيد التعديل الدستوري الأول لمبدأ الفصل بين الدين والسياسة أو الفصل بين الكنيسة والدولة، ومما جاء في خطابه قوله: " يلعب الدين دورا حاسما في الحياة السياسية لأمتنا) [أنظر سلسلة مقالات للدكتور محمد عصفور بجريدة الوفد حوالي 17\7\1988].
وأخيرا ليقل لنا العلمانيون في بلادنا: هل يسمحون بوضع شعار ديني على ورق البنكنوت كما هو الحال في أوراق البنكنوت الأمريكية؟
ويقول الأستاذ الدكتور محمد البهي عن العلمانية في أوربا بوجه عام: (إن الموطن الذي ولد فيه الفكر العلماني - وهو إنجلترا وفرنسا وألمانيا - لم يأخذ بالاتجاه العلماني في التطبيق في الحياة العملية: التاج البريطاني لم يزل حاميا للبروتستنت، وفرنسا لم تزل حامية للكثلكة في صورة عملية، والدولة في انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا رغم إعلان أنها علمانية تساعد المدارس الدينية من ضرائبها التي تجبيها من المواطنين مع علمها باستقلال هذه المدارس في برامجها التعليمية، وببعدها عما تجريه الدولة من تفتيش على النفقات التي تنفقها) [ص: 30]
وعندما كتب الدكتور البهي ثلاث مقالات بمجلة الأزهر عام 1985 عن المستشرقين والمبشرين واعتبرت بعض دوائر الفاتيكان أنها تنطوي على بعض الإحراج لشئون التبشير الكاثوليكي كان أول احتجاج وصل إلى وزارة الخارجية المصرية هو احتجاج سفارة الولايات المتحدة الأمريكية تلاه احتجاجات أخرى عديدة من السفارات الغربية التي تمثل في بلادها أكثرية بروتستنتية أو كاثوليكية على السواء، مما يدل على أن الدولة العلمانية الغربية لم تزل ترعى المسيحية كدين والكنيسة الأوربية كسلطة دينية وتحرص على تمكينها من مباشرة رسالتها، كحرصها على حماية أملاك الكنيسة الأوربية وكحرصها على جباية الضرائب الخاصة بالكنيسة الأوربية عن طريق أجهزتها الإدارية.
وحتى رجال الدولة أنفسهم في ممارستهم السياسية العامة للمجتمع يخضعون في ظروف معينة لملاءمة أنفسهم مع تقاليد الكنيسة الأوربية، وعلى سبيل المثال: دوق أوف وندسور وأنتوني إيدن في انجلترا: كلاهما اضطر إلى ترك الوظيفة العامة أو عدم السعي إليها لأن سلوك كل منهما في حياته الزوجية لا يتفق مع ما تراه الكنيسة الأوربية من تقاليد في الزواج.
والجنرال ديجول في فرنسا أقال وزير التربية الاشتراكي في وزارته بعد أن عاد للحكم في المرة الثانية بسبب عدم موافقة الوزير على مساعدة المدارس الدينية في فرنسا من مدارس الجيزويت والفرير بمبلغ ستين مليونا من الجنيهات الاسترلينية في ميزانية 1963 من غير حق التفتيش عليها من قبل وزارة التربية.
ودولة الفاتيكان لم تزل تقوم من جانبها بدور كبير في سياسة البلاد ذات الأغلبية الكاثوليكية عن طريق الأحزاب السياسية التي تسمى بالديموقراطية المسيحية وكذلك في السياسة الدولية العالمية، فالأحزاب الديموقراطية المسيحية هي أجهزة للعمل على رسم الخطة لتنفيذ اتجاه الفاتيكان بالدرجة الأولى وعن طريقها حالت الكنيسة الأوربية دون أن تتطرف العلمانية إلى النوع الثاني الذي يقيم البلشفية دينا بدل المسيحية أو عملت على إسقاطها بعد قيامها [أنظر العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق" للأستاذ الدكتور محمد البهي نشرة مجمع البحوث الإسلامية ص 44 وما بعدها].(15/424)
وجاك شيراك عندما سعى لمنع المحجبات المسلمات من المدارس العامة بدعوى العلمانية الفرنسية كان حريصا على تمرير الصليب والطاقية حصرا عندما استثنى الرموز ذات الحجم الصغير.
وفي بلد مثل فرنسا لعبت دورا بارزا في تاريخ الفكر العلماني ينص مشروع دستور الاتحاد الاوربي الجديد على أن المسيحية هي الإطار الثقافي الذي يتميز به الاتحاد ويشكل أساس الهوية الأوربية، ومعروف أن الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان هو الذي أشرف على أو تولى صياغة مشروع هذا الدستور، وكان هو أحد المعترضين على قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لأنها دولة إسلامية سوف تخل بالهوية الاوروبية.. [من مقال أحمد عباس صالح بجريدة الشعب الألكترونية بتاريخ 5\7\2003].
ومن هنا تتبين المغالطة الخبيثة التي تروجها العلمانية في بلادنا: في القول بأن التقدم الأوربي تحقق عن طريق استبعاد الدين أو فصله عن الدولة، وتتبين دلالة الصرخة التي انفلق عنها رأس العلماني الذي عاين مكانة البابا في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قال: (هل وقعنا نحن المسلمين ضحية لعبة شديدة الخبث خرجنا منها بلا صواريخ ولا دين، بل بالفقر والكفر، بينما احتفظ الآخرون بدينهم ووضعوا أعلامهم فوق القمر).
ولا نريد أن نذهب بعيدا فالصلة القائمة هناك بين الدين والدولة لا تعني انفصالا كما لا تعني اندماجا وهي في الوضعية نفسها للصلة بين السلطات المختلفة في كيان الدولة: وهو فصل يتم تحت مظلة الدولة الواحدة ويظهر لنا أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من الفصل بين السلطات: سلطة التشريع، وسلطة القضاء، وسلطة التنفيذ، وسلطة رجال الدين، مع إعطاء كل سلطة حقها الكامل في التأثير على الحياة الدنيا، وهو نموذج لا يمكن نقله إلينا أيضا لأنه لا سلطة في الدين الإسلامي لما يسمى رجال الدين، ولن الدين الإسلامي لا يسمح بان يكون له مكان دون مكان المشروعية العليا.
وبهذا بينا قوة تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يعني انه على العلمانيين في بلادنا أن يراجعوا أنفسهم ويكفوا عن الزعم بان التقدم مرتبط باستبعاد الدين عن تنظيم شئون الحياة الدنيا اللهم إلا إن كانوا بقايا فلول العلمانية الماركسية.
وسنبين في المقال القادم - إن شاء الله - أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنويروالحداثة!!
كما نبين إن شاء الله نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء.
============(15/425)
(15/426)
العلمانية ودليل المسلم لكي يصبح بريطانيا حقيقيا
تستمر الحملة ضد المسلمين بعد أحداث 7/7 ، وقد ألقت الحكومة البريطانية والإعلام اللوم على التطرف المنتشر بين الجالية الإسلامية ، بل وشتم العديد من الصحفيين الإسلام مثل الذى قال إن القرأن يمجد العنف (شارلز مور -الديلي تلغراف 9/7/2005) رغم أن المسلمين نددوا بشدة بهذا الحادث.
وقد بدأ بعض الكتاب بالتصريح بأن فكرة بريطانيا متعددة الثقافات قد فشلت (سايمون هايفر - الديلي ميل 18/7/2005) ويجب الآن أن نجعل بريطانيا ثقافة واحدة ، وحضارة واحدة ، وقد حددت الديلي تلغراف من أشهر الجرائد في بريطانيا وتبيع ما يقارب المليون نسخة يوميا) الأمور التي يجب على المسلمين أن يتقبلوها إذا أرادوا العيش في بريطانيا .
في افتتاحية العدد الصادر يوم 14/7 وبعنوان " أسس القانون في هذا البلد " ذكرت ما يلي : " ليس لدى بريطانيا دستور مكتوب ، ولا يوجد بيعة طاعة ، ولكن توجد قيّم في حضارتنا ونتوقع من كل مواطن (في بريطانيا) أن يتفق مع هذه القيم، وهذه القيّم هى (ترجمة للمعنى المكتوب في المقالة):
1ـ مصدر القانون هو التشريعات الصادرة من البرلمان ..... وهذا يتعارض مع من يريد تطبيق الشريعة في بريطانيا .
2ـ السيادة للشعب فهو الذي يختار البرلمان لوضع القوانين ... فالسيادة ليست لله.
3ـ الولاء يجب أن يكون للشعب البريطاني .... ولا يكون الولاء لطائفة دينية (كالامة الاسلامية) .
4ـ نؤمن بالدولة العلمانية ..... ومن أكبر المشاكل أن عدد كبير من المسلمين لا يتقبلوا الفصل بين الدين والدولة ، ف صلى الله عليه وسلم كان رسول وقائد سياسي.
وختمت الجريدة الافتتاحية بقولها اننا نعيش في مجتمع يتكون من مؤسسات جعلت ما لقيصر لقيصر وجعلت ما لله لله ... وانه يجب على كل مواطن طاعة هذه المؤسسات.
معنى ذلك أنه ليس فقط مطلوب من المسلمين اتباع قوانين بريطانيا ولكن عليهم أن يعتنقوا عقيدة العلمانية - عقيدة فصل الدين عن الحياة - فلا يكون للاسلام دور في حياتهم الا في الصلاة والعبادة وأن يكون مصدر التشريع البرلمان وليس القرأن والسنة وأن يكون ولاءهم للشعب البريطاني وليس للأمة الإسلامية.
وهذا اعتراف واضح بفشل العلمانية في التعايش مع الحضارات المختلفة . فقد ادعى دعاة العمانية دائما بأن العلمانية هي النظام الذي في ظله تستطيع أن تتعايش جميع الديانات ، ولكن نفس هؤلاء الدعاة يقولون الآن للمسملين أن من يريد أن يعيش في دولتنا العلمانية فلابد أن يعتنق قيم العلمانية فلا يكون للدين دور الا في الأمور الروحية ولا أن يكون أسس النظرة إلى قضايا كفلسطين والعراق واستعمار الغرب لبلاد المسلمين . تماما كما قال دعاة العلمانية عندما منعوا الحجاب في فرنسا .
إن العلمانية قد روجت لأكذوبة أنها تستطيع التعيش مع كل الديانات ولكن الواقع أن أي مبدأ عندما يطبق في دولة ونظام فسيضطر معتنقي المبادئ الاخرة الذين يعيشون في ظل هذا المبدأ أن يتركوا تطبيق اجزاء من مبدأهم ويطبقوا قوانين البلد. وهذا ينطبق على العلمانية وينطبق على الاسلام. فقد راينا انه عندما يطالب المسلمون بتطبيق الاسلام فأن الغرب يقف ضد ذلك بحجة أنه توجد اقليات ولا يمكن تطبيق الاسلام عليهم. فحاليا لا توجد دولة إسلامية في العالم ولكن عندما تقام دولة الخلافة إن شاء الله فعلى كل من يحمل التابعية أن يتقيد بقوانين الإسلام لا أن يعتنق الإسلام . فالإسلام سيطبق على العلماني والمسيحي والهندوسي وغيرهم وقد أباح الإسلام لأهل الكتاب أن يمارسوا دينهم في الأحكام المتعلقة بالعبادات والمطعومات والملبوسات ، فمثلا يسمح لهم بشرب الخمر في كنائسهم إذا كان ذلك جزء من عبادتهم، أما في بقية الأمور فيجب عليهم تطبيق أحكام الإسلام .
ولكن هناك فروقات كبيرة بين العلمانية والإسلام في التعامل مع الذين لا يعتنقون نفس المبدأ . فالإسلام لا يطالبهم باعتناق عقيدته كما تطالب العلمانية . يقول الله عزوجل : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين)) .
والأمر الثاني أن الإسلام لا يعاقب شعوب أو طوائف دينية بجريرة فئة قليلة ، فقد قتلت أميركا مئات الآلاف في أفغانستان والعراق بسبب احداث 11 سبتمبر، وتقوم الآن الحكومة البريطانية بإرهاب الجالية الإسلامية بتشريع قوانين جديدة مثل قوانين لتأهيل أئمة المساجد وقوانين لمراقبة المدارس الدينية وغيرها من القوانين. بينما يحرم الإسلام هذه النظرة فيقول الله عزوجل (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).(15/427)
والدول العلمانية لا تعدل مع الشعوب فقد صارت ضجة في بريطانيا بسبب مقتل أقل من 60 شخصا بينما يموت المئات من المسلمين يوميا ، فدم الغربي غالي ودم المسلم رخيص وبن لادن إرهابي بينما بوش وبلير ملائكة فلوا كانوا عادلين لتعاملوا مع دماء المسلمين كما يتعاملوا مع دماء الغربيين. وقد رأينا عدل المسلمين في ظل دولة الخلافة وأعمال صلاح الدين أفضل مثال فعندما حرر القدس من الصليببن لم يسفك دما أو يقتل أسيرا في الوقت الذي كان الصليبييون قد سفكوا دماء المسلمين داخل القدس ووصلت الدماء إلى الركب كما نقل المؤرخون . إن هذه هي عظمة الإسلام فهو نظام من الله عزوجل خالق البشر وأن هذه هي العلمانية نظام فاسد من عقول البشر يطبق الان في العالم فجعل البشرية تعيش في شقاء .
المهندس طارق حمدي
==============(15/428)
(15/429)
البيان لخطر الأحزاب العلمانية والليبرالية
على الدين الأخلاق وشريعة القرآن
بقلم : حامد عبدالله العلي
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
مُقَدِّمَة
الحمدُ لله العليّ الكَبِير ، أَشهَدُ أَن لاإِلهَ إلاّ هُو وَحدَه لاشَريكَ لَهُ الحكيمُ الخبير ، أَنزَلَ القُرآنَ ، وَأَمَرَ بالإِيمان ، وَجَعَلَ الإِسلامَ الدينَ الثابتَ الأَركان ، وَفَرَضَ الدخولَ فِيِه كافَّة ، على الكافَّةِ من الإنسِ والجان ، وحَكَم على كُّلِّ مَنهَجٍ يُعارِضُه ، أَنَّه ضَربُُ مِن الشِركِ والكُفران ، وتخليطُُ مِنَ الهَذَيان ، واتِّباعُُ للشَيطان ، وَسَبيلُُ إِلى الضلالِ والخُسران 0
وأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ علَيهِ وَعلى آلِه وَصحبِهِ وَسَلّم ، عبدُ الله ورسولُه ، أَرسَلَه بالمحجّة البيضاء ، والملِّة السَمحاء ، فَأَتي بأَوضِحِ البَراهِين لأَقوَم ديِن ، وَأَبان مَحَجّةَ السالِكِين ، وَحَكَمَ عَلى كلِّ مَن عَصاه وَخالفَ مَنهَجَهُ أَنَّه مِن الضّالِّين الخاسِرِين ، وَبَعد :
فِإِنَّه لَمَّا كَثُر في الآوِنِة الأَخيرةِ تَرديدُ كَلِمِةِ (اللِيبراليِّةِ) عَلى أَلسنِةِ النِّاس ، وَعَلى صَفحاتِ الصُّحُفِ اليَوميِّة وَغَيرِها مِنَ وَسائِل الإعلام ، بَعدَ أَن نَشَأَت أَحزابُُ في الكُويت تَنتَسِبُ إِلى هذِهِ العَقيدةِ الضالَّة ، وَغَدَت تَدعُو إِلى مَبادِئِها الهَدَّامةِ ، مِثل :
الدعوة إلى ترك الإحتكام إلى الشريعة الإلهيِّة بدعوى اللحاق بركب المستقبل0
وإلى السماح بنشر الدعوة إلى الكفر والإلحاد ، بدعوى التسامح والإنفتاح على الثقافات الأُخرى احترام حريِّة الرأي والنشر والتعبير0
وإلى الهبوط من سموِّ الأخلاق الإسلامية ، إلى حضيضِ الرذائل البهيميِّة ، تحت شعار الحريّة الشخصيّة0
وإلى محاربة الفضيلة وحجاب المرأة والعفاف والشيم الكريمة 0
وإلى الحضِّ على اختلاط الرجال بالنساء في كل موقع بصورة مشينة خارجة عن حدود الشريعة وضوابط الحشمة ، تحت ستار اتباع الحياة العصريّة 0
وغدت هذه الأحزاب تحضُّ الناس على اعتناق هذه العقيدة التي تُدعى (الليبراليَّة) ، وماهي سوى تخاريف شيطانيَّة ، ابتدعها فلاسفة من أوربا ، حقيقة أمرهم أنهم زنادقة لايؤمنون برب معبود ، ولابيوم مشهود ، ولايدينون بشريعة إلهيِّة يلتزمونها ، ولابرسول يطاع ويتبع ، وإنما غاية مرامهم ، تزين المنكرات ، واتباع الشهوات ، والكفر بخالق الأرض والسموات 0
و أما هذه الأحزاب الضاَّلة فغاية مقصدها هدم الشريعة الاسلاميَّة وإلغاؤها بالكليَّة ، أو عزلها من الحياة ، وحصرها في المسجد والعبادات الشخصيَّة ، ولهذا فهي تصف أحكام شريعة الله ـ تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ـ بالظلاميّة والرجعيّة ، يصفونها بذلك تارة بالتلويح خوفا من ردود الفعل لدى أهل الغيرة على الدين ، من عامة المجتمع الكويتي ، وتارة بالتصريح ، وذلك عندما يأمنون وينفردون بأمثالهم من الشياطين0
وهدف هذه الأحزاب هو إلحاق الأمة الإسلاميِّة ، بمناهج الغرب المتهتِّك الضالِّ الملحد الكافر ، وطمس معالم الأخلاق الإسلاميِّة ، وصد الناس عن التمسُّك بتعاليم الكتاب العزيز ، والسنة النبويِّة الشريفة ، بدعوى اللّحاق بركب الحضارة المعاصرة ، كأنَّ الحضارة لاتكون إلا بالكفر والإحاد ، أوالتهتك والإنحلال والفساد 0
لماّ كان الأمر كما وصفت آنفا ، رأيت أن أكتب هذه الرسالة الموجزة ، فأبيّن فيها بعبارة قريبة من القاريء العادي ، حقيقة المذهب (الليبراليّ) ، وأنه ليس سوى وجه من وجوه العلمانيّة اللادينيّة الرافضةِ لمنهجِ الله تعالى المتمثِّل في دين الاسلام ،والمستنكفةِ عن اتباعِ رسولِهِ r فيما جاء به من الحقّ والهدى المبين0
كما أبيِّن مواطنَ السمِّ الزعافِ في هذا المذهب الخطير ، وأكشف الخطر الماحق الذي يشتمل عليه هذا الفكر ، وأنه الكفر بالله والصد عن دين الإسلام لاشيء سوى ذلك ، واضعاً أمام القاريء ، ماالذي سيؤدي إليه إنجراف المسلمين وراء هذه الأحزاب العلمانيّة 0
وذلك كيما تستبين سبيل المجرمين ، وليأخذ المؤمنون حذرهم كما أمرهم الله تعالى ، وليأخذوا على أيدي المفسدين فيهم ، وليحذروا من اتباع هذه الأحزاب ، وليمنعوا رموز هذه الاحزاب ما استطاعوا من الوصول إلى المواقع التي تمكنهم من تطبيق أفكار حزبهم الخبيثة على المسلمين 0
وليهلك من هلك عن بيِّنة ، ويحيى من حيَّ عن بيِّنة ، ولإقامة الحجة ، وبيان المحجَّة ، وليقذف الله بإذنه بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، ولنصر الدين القويم ، والصراط المستقيم ، تقرباً إلى ربِّ العرش العظيم ، منزل القرآن الحكيم ، والحمد لله رب العالمين0
المؤلف
أولا: بيان معنى العلمانيّة التي هي أمّ الليبراليّة
تعريف العلمانيّة :
العلمانيّة تعرف في البلاد التي نشأت فيها ( أوربا ) بـ :
ألاّ يكون الإنسان ملزما بتنظيم أفكاره وأعماله وفق معايير مفروضة على أنها شريعة أو إرادة إلهيِّة 0(15/430)
ويطلق على هذا الفكر في اللغة الانجليزية التي هي لغته الأصلية SECULA r ISM ، وهي تعني (اللاَّدينية ) ، غير أنها اشتهرت باسم ( العلمانيّة) ، ولعلَّ ذلك كان مقصوداً بغيةَ إلباسها لبوساً يجعلها مقبولة بين المسلمين0
وفي قاموس (أكسفورد) عرفت بما يلي :
( العلمانيَّة مفهوم يرى ضرورة أن تقوم الأخلاق والتعليم على أساس غير ديني ) 0
الأركان التي تقوم عليها العلمانية :
العلمانية تقوم على ثلاثة أركان هي :
الركن الاول : قصر الإهتمام الإنساني على الدنيا فقط ، وتأخير منزلة الدين في الحياة ، ليكون من ممارسات الإنسان الشخصيَّة ، فلايصح أن يتدخل في الحياة العامة ، وأما الدار الآخرة فهي لما كانت أمر وراء الطبيعة ، فينبغي ـ في دين العلمانية ـ أن يكون مفصولا تماما عن التأثير في الحياة المادية ، وقوانينها المحسوسة 0
الركن الثاني : فصل العلم والأخلاق والفكر والثقافة عن الإلتزام بتعاليم الدين ، أيِّ دين كان 0
الركن الثالث : إقامة دولة ذات مؤسسات سياسية على أساس غير ديني0
كيف وصلت العلمانيّة إلى العالم الإسلاميِّ والكويت :
بيَّنا معنى العلمانية في أصل منشئها ، وقد نقلت كذلك بهذا المعنى إلى بلاد الإسلام ، مع الإستعمار الاوربيِّ الذي هيمن على البلاد الإسلاميّة إثر سقوط الدولة العثمانيّة ، وقد تحمّل الدعوة إلى العلمانيّة بعض المثقفين من العرب وغيرهم في بلاد الإسلام ، ودعوا إلى تطبيق نظريّاتها حرفيّا ، كما دعوا إلى تبنِّي نظرة العلمانيّة لدين الإسلام ، كما كانت تنظر للدين النصرانيِّ المحرف في أوربا سواء بسواء ، ذلك أن العلمانيّة لاتفرّق بين الأديان في أنه يتحتَّم فصل كلِّ منها عن شئون الحياة العامَّة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتشريعيَّة 00الخ 0
وذلك أنَّه ليس في الفكر العلمانيّ تمييز بين الأديان ، فلايفرّق بين دين أصله من إنزال الله تعالى ، وآخر من وضع البشر ، كما لا ترى العلمانيّة أي فرق في الأديان التي أنزلها الله ، فلافرق لديها بين دين محرف وآخر محفوظ ، بل الأديان كلها سواء ، يجب أن تعامل معاملة واحدة ، على أساس الأركان الثلاثة السابقة 0
وقد انتشرت العلمانية في بلادنا الاسلاميِّة ، حتى وصلت الجزيرة العربيِّة مهد الإسلام ، ومهبط الوحي ، ودخلت الكويت أول ما دخلت مع ابتعاث الطلبة في الخمسينات الميلاديِّة للدراسة في الخارج ، فرجع بعضهم مشبَّعا بالأفكار العلمانية ، فتبنَّتها شخصيَّات بارزة ، وأحزاب وصحف ومؤسسات كثيرة 0
العلمانية قد لاتنصب العداء للدين علانية ، بل تكيد له كيدًا خفيًا :
العلمانيّة ليست بالضرورة معادية للدين ، بل إنَّها أحيانا تفضل توظيف الدين والإستفادة منه ، ولكن مع ضرورة حصره في ناحية من نواحي الحياة ، ولهذا قد لاتجد العلمانيّ يطعن في الدين ، بل قد يمدحه ويمجده ، بل قد يقول إنه يجب المحافظة على الدين 0
ولكنك إذا سألته هل أنزل الله تعالى دين الإسلام ليكون هادياً لنا في كل أمور حياتنا ، فلايجوز لنا أن نرفض شيئاً منه ، فإن جوابه لايخرج عن ثلاثة احتمالات :
الاول : أن يفر من الجواب إذا خشي على نفسه من التصريح بمنهجه العلمانيّ خوفا من ردة فعل الناس ، كما يفعل السياسيّون عند خوفهم من خسارة الأصوات الإنتخابيّة0
الثاني : أن يقول بوضوح وصراحة أن الدين يجب أن نعزله عن السياسة والثقافة والفكر ، وعن حياتنا الإجتماعيّة ، كما أنه لايصح أن نجعل الدين هو الحكم على كل شيء في الحياة بالصواب أو الخطأ ، وهنا قد يقول العلمانيّ أن الدين له أن يحكم في أمور الروح ونحوها من الأمور الغيبيّة ، فكأنَّه ينزل الدين منزلة الكهانة 0
وقد يحاول هذا الصنف من العلمانيين أن يكون لطيفا في عبارته : فيقول : إن الدين علاقة بين الإنسان وربه ، ولايعدو أن يكون مسألة شخصية 0
وقد يحاول بعضهم أن يتحذلق قليلا فيقول : نحن لانريد أن نفسد الدين بإدخاله في السياسة أو الخلافات الحزبيّة والثقافيّة والفكريّة ، ويقول في صورة الناصح الأمين : دعوا الدين في المسجد فهناك حيث يُحترم ويُوقَّر ، ولاتلطّخوه بالدنيا الدنيئة ، فالدين للآخرة 0
وهذا القول حقيقته هدم لدين الإسلام وشتم قبيح له ، وطعن خبيث فيه ، لأنه في حقيقته رمي للدين بأنه قاصر لايصلح لتسيير حياة البشر ، وما مَثَل هذا القول الماكر إلاّ كمثل من يشير على ملك من الملوك ، بأن لايُقحم نفسه في التصرف في أمور مملكته بشيء 0(15/431)
ويقول له في كيد خفي : إن تدخلك يفسد هيبتك وجلالك ، فدع أُمور المملكة لهؤلاء المتصارعين على الدنيا ، وارتفع أنت في عرشك عن نزاعاتهم فهي لاتليق بك ، فكأنه في حقيقة الأمر يقول للملك : تنح وتنازل عن سلطانك وأمرك ونهيك وملكك ، وكن كالصورة الجامدة التي لاحراك فيها، والتمثال الأصم الأبكم ، وإنما يقول ذلك لكي يُفسَح السبيل فيتسنَّى لغير الملك أن يستحوذ على قوِّة السلطان الحقيقيِّة ، قوة الأمر والنهي والحكم والفصل في شئون المُلك والسلطان ، ثم يصير أمر الملك إمّا إلى أن يكون اسما بلا حقيقة ، أو يسلب منه الملك سلبا تامّا، فلايبقى معه منه اسم ولارسم ، فيهوى إلى مرتبة العبيد والسوقة ، بعد الملك والعز والسلطان0
ومثل هذا الكيد الخبيث يريده هذا الصنف من العلمانيّين بالدين ، عندما يزعمون أنهم عليه مشفقون ، فيطالبون بتنحيته عن مجالات الحياة ، وهذا الأسلوب خطير جدا ، لانهم يلبسون به الحق بالباطل ، ولهذا يستعمله العلمانيّون كثيرا لإضلال الناس والتلبيس عليهم 0
الاحتمال الثالث : أن يقول العلمانيّ : إن الدين كله حق ، والاحتكام إليه واجب ، ولكن أين الذين يطبقونه كما أنزل ، ثم يأخذ بعد ذلك بالطعن في حملة الدين واتهامهم بأنهم يستغلون الدين لمآربهم الشخصية ، ويسميهم ( متأسلمون ) أو ( أهل الإسلام السياسي) أو ( المتاجرون بالدين ) 00الخ وهويقصد الطعن في الدين نفسه ، ولكن بطريقة ملتوية خبيثة ، لأنه يريد أن يقول : لانستطيع تطبيق دين الإسلام والعمل به في كل شئون الحياة ، لانه لايوثق بأحد يمكنه تطبيقه أبداً ، فإذاً النتيجة واحدة ، وهي أنه لايمكن للناس بحال من الأحوال تحكيم الشريعة الإسلامية في شئون حياتهم !!!
وكأن هذا الصنف من العلمانيين يحاول القول عن دين الإسلام ، إنه دين فاشل غير واقعي ولاعملي ولايمكن تطبيقه أبداً ، فيجب أن ننحي الكلام على تطبيقه جانباً ، إذ لافائدة من تطبيقه في الحياة ، غير أنهم يعدلون عن التصريح بهذا القول الكافر ، إلى عبارات أخرى بطرق ملتوية خبيثة ، وقد تنطلي على السذج من الناس 0
وبهذا يتبين أن العلماني قد لايكون ذلك الشخص الذي يطعن في الدين جهاراً نهاراً ،أو يسب القرآن والسنة والأحكام الشرعية ، أويستهزأ بالشريعة الاسلامية ،وإن كان فيهم من قد تصل به الوقاحة الى هذا الحد ، يقلّون أو يكثرون بحسب قوة الإسلام في المجتمع 0
بل العلمانيّ هو كل من يعتقد أنه غير ملزم باتباع جميع ما جاء عن الرسو صلى الله عليه وسلم ، هو كل من يجعل نفسه مخيراً أن يرفض بعض أحكام دين الإسلام ، وهوكلُّ من يعتقد أن الدين ليس شاملا لكل الحياة ، وأن الإنسان يمكنه أن يختار من أحكام الدين ما يشاء ويدع ما يشاء ، متبعاً في ذلك عقله ، ومتخذاً إلهه هواه0
ثمَّ إنَّ هذا البعض من دين الإسلام والذي يرفضه الشخص العلمانيّ ، قد يعتقد أنه لايصلح للحياة المعاصرة ، لزعمه أن العقل يقضي بذلك ، فقد يقول لك ـ على سبيل المثال ـ إن المرأة غير ملزمة بالحجاب الشرعي لأنه لايصلح لهذا الزمان ، أو يزعم أن المرأة لها أن تكون قائدة ورئيسة لكل الأمّة ، لأنّ حديث ( ما أفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة ) لم يعد صالحا للعمل به في هذا العصر 0
أو أن الحدود الشرعيّة لاتصلح للتطبيق في هذا الزمان لأنها وحشية لاتليق بالإنسان المتحضّر ، أو لأنّها تحط من كرامة الإنسان ، أو لأنّها تناقض ميثاق حقوق الإنسان العالمي الذي يجّرم قطع السارق أو جلد الزاني ، والقوانين الوضعيّة تصلح لأنها تناسب مستجدات العصر الحديث0
أو يقول إن النظام الاقتصاديّ لايمكن أن يقوم على تحريم الربا لأن ذلك أمر غير واقعي ، أويقول إن تعبير الملحد عن إلحاده والإباحيّ عن أباحيّته بنشر فكره في المجتمع ، هو من قبيل توفير الحريّة ، ولايجوز كبت الحريّات ، وإذا قلت له إن الإسلام يحرّم نشر الإلحاد والإباحيّة ، قال لك : إن العصر قد تغيّر ، والزمان قد تحوّل ، ونحن في عصر الحريّة والعولمة ، وغير ذلك من الهذيان والتخبيط الذي يقصد به محاربة الدين بأساليب ملتوية 0
والعلمانيُّ في كل ما سبق وأمثاله مما يرد به العلمانيُّون بعض أحكام الشريعة ، يزعم أنه ينطلق من عقله أو من اتباع زعماء حزبه الذين يقلدون مفكِّري الغرب الملحدين ، وأولئك قوم كفار نصبوا عقولهم آلهة يعبدونها من دون الله ، وذلك عندما اتخذوها أربابا تُشرّع لهم0
ذلك أنَّ العقل هو الحاكم عند العلمانيين على أحكام الشريعة الإسلامية ، وعلى هدى القرآن والسنة ، وليست الشريعة الإسلامية عندهم هي التي توجّه وترشد وتهدي العقل الإنسانيِّ ، بل وظيفة العقل عند العلمانيين هي الإعتراض على أحكام الله تعالى كلّما جاءت معارضة لعقولهم الضالّة التائهة ، وعمل العقل عندهم هو استبدال شريعة القرآن ، بأحكام أوأفكار أوقوانين أو مباديء توافق عقولهم 0
فهم إذن يعبدون عقولهم وأهواءهم كما قال تعالى ( أَرأَيت من اتخذ إلهه هواه ، أَفأَنت تكون عليه وكيلاً ، أَم تَحسب أنّ أَكثرَهُم يسمعُون أو يعقلُون إن هُم إِلاّ كالأَنعام بل هُم أَضلُّ سبيلاً ) الفرقان 43 ، 44(15/432)
وقال سبحانه ( ومَن أَضلُّ ممَّن اتَّبعَ هواهُ بغيرِ هدى مِنَ الله ) القصص 50
وقال سبحانه ( وأنِ احكُم بينهَم بما أنزلَ اللهُ ولاتتَّبِع أهواءَهم واحذرهُم أن يفتِنوكَ عن بعضِ ما أنزَلَ اللهُ إليك ) المائدة 49 0
إلى آخر الآيات التي تذم اتباع الهوى ، وتحذر من معارضة الدين المنزل والشريعة المطهرة بالأهواء ، ذلك أن الإنسان لايستغني عن هداية الله تعالى له ، كما قال الله تعالى في الحديث القدسيِّ ( يا عبادي كلُّكُم ضالُّ إلاَّ من هديتُه ، فاستهدوني أهدكم ) ، ومن ظنَّ أنه يستغني عن اتباع هدى الله تعالى بعقله ، فيرد أحكام الله تعالى اتباعا لهواه ، فهو كافر بالله تعالى ، كما قال سبحانه ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) المائدة 44 0
ثانيا بيانِ كفرِ من رفض حكم الله تعالى
واعتقد أنه غير ملزم باتباع كلِّ ما جاء به الرسول
r
أقسام الناس بالنسبة إلى موقفهم من الشريعة الاسلاميِّة :
ينقسم الناس بالنسبة إلى موقفهم من أحكام الشريعة الإسلامية الى أربعة أقسام :
القسم الأوّل: يقبلونها ويعتقدون أنها كلها حق ، كما قال تعالى ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلُّ مِن عِندِ رِبِّنا ) آل عمران 3، ويعملون بها قدر استطاعتهم ، وهم مع ذلك إن عَصَوا وخالفوا ما أمر الله تعالى به ، استغفروا وتابوا ، كما قال تعالى ( والذينَ إذا فَعلوا فاحشةً أو ظَلَموا أنفَسَهُم ذكرُوا اللهَ فاستغفروا لذنوِبهم ِومَن يغفرُ الذنوبَ إلاّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا وهُم يَعلُمون ) آل عمران 135، فهؤلاء هم المسلمون المؤمنون المستقيمون على طاعة الله تعالى ، ومنهم المقتصد الذي يأتي بالواجبات وينتهي عن المحرمات ،ومنهم السابق بالخيرات الذي يزيد في الطاعات والحسنات من النوافل والمستحبات 0
القسم الثاني : وهم الذين يقبلون جميع أحكام الله تعالى وماجاء به الرسو صلى الله عليه وسلم ، ويعتقدون أنها كلها حق من عند الله تعالى ، ولايعترضون على شيء منها ، ولايقولون نؤمن ببعض ونرفض بعضا بعقولنا وأهواءنا ، ولكنهم مع ذلك تغلبهم الشهوات فيقعون في الذنوب والمعاصي والآثام وهم يعلمون أنَّ ما فعلوه مخالف لأحكام الله تعالى ، ويقرون بأنهم عاصون مذنبون ، ولكنَّهم يسوِّفون التوبة ويؤخِّرونها بتزيين الشيطان وطول الأمل 0
فهؤلاء عصاة فساق قد ظلموا أنفسهم ، لكنَّهم مسلمون لأنَّهم يؤمنون بالدين كلِّه ، ولايرفضون شيئا منه ، لاظاهراً ولاباطناً ، غير أنهم ناقصوا الإيمان ، وحكمهم أنَّ أمرهم إلى الله تعالى إن ماتوا على المعاصي ولم يتوبوا منها قبل الموت ، فيحكم الله فيهم يوم القيامة ، إن شاء غفر لهم ،وان شاء عذبهم ، وإن عذبَّهم فمآلهم بعد العذاب إلى الجنَّة ماداموا موحِّدين من أهل الصلاة ، مالم تهوي بهم كبائر الذنوب إلى حضيض الشرك والكفر قبل الموت ، لأن الكبائر ـ كما قال العلماء ـ هي دهليز الكفر ، وأهل الكبائر على خطر عظيم ، ومن ذلك أن يُران على قلوبهم مع كثرة الذنوب ، فيسهل عليهم الكفر بالله تعالى ، فيصيرون إليه قبل الموت ، خذلاناً من الله تعالى ، عياذا بالله من سوء الخاتمة0
القسم الثالث : وهم الذين يرفضون أحكام الله تعالى كلها ، ويعتقدون أن الأديان ليست سوى اجتهادات بشريِّة لمصلحين اجتماعيين أو مفكرين سياسيين ، ولايوجد وحي من الله تعالى منزل على الرسل عليهم السلام ، وقد يعتقد بعض هؤلاء أن الله تعالى خلق الكون والإنسان ، ولكنَّه تركه ليهدي نفسه بنفسه ، لأنَّه ركَّب فيه العقل وتركه ينير للإنسان طريق الهداية ، وهؤلاء هم الكفّار الذين لايؤمنون بما أنزل الله تعالى ، والذين قال الله تعالى عنهم ( وقال الذين كفرُوا لاتَسمَعُوا لهذا القرآنِ والغوا فيِهِ لعلَّكُم تَغلِبُون ) فصلت 26 0
القسم الرابع : وهم الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، ويجعلون الدين أجزاء بحسب أهواءهم ، ويقولون نؤمن بما يوافق أهواءنا منه ، ونرفض ما سواه ، أونعرض ذلك على التصويت حسب عدد الأصوات ، فما قبله أكثر الناس بناء على قناعاتهم العقليِّة التزمناه وجعلناه قانوناً حاكماً على العباد لاحاكم سواه ، وعاقبنا من يخالفه ، ومارفضه التصويت والعقل تركناه وأهملناه ، ولايهمُّنا أن الله تعالى أنزله وفرضه ، فالعقل والتصويت هما الحاكمان علىالدين ، وهما الإله المعبود لديهم ، وهما الكتاب المنزَّل المتَّبع عندهم ، وهما المنهج الهادي ، بدل كتاب الله تعالى وسنَّة رسول صلى الله عليه وسلم ، وقد صدق عليهم قول الحق سبحانه ( أَلَم تَرَ إِلى الذينَ بَدَّلوُا نعمةَ اللهِ كُفراً وَأَحَلُّوا قَومَهُم دارَ البَوار ، جَهَنَّمَ يَصلَونَها وبِئسَ القَرار ) سورة إبراهيم 28
ولاريب أن التشريعات المناقضة لشريعة الله تعالى ، ليست سوى أنداد تضل عن شريعة الله التي هي سبيله وصراطه المستقيم الذي وضعه نورا وهدى للناس ، ويصدق عليها قوله تعالى(وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قد تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)سورة ابراهيم29
حكم العلمانيين الذين يؤمنون ببعض الدين ويكفرون ببعض :(15/433)
من المعلوم أن الدين كلُّ ، لايقبل أن يتجزأ من جهة القبول به والإ ذعان له ، وأن من رفض حكما من أحكام الله تعالى ، وكفر به واعتقد أنه لايصلح لهذا الزمان ، وأن تطبيقه يجب أن يعرض على العقل ، أو على التصويت ، فان وافق ذلك أحكام الله تعالى كان بها ونعمت ، وان لم يوافق تركنا ما أنزل الله تعالى وراء ظهورنا ، واتبعنا عقولنا ونتيجة التصويت ، من زعم ذلك فهو كافر مشرك بالله تعالى 0
كما قال تعالى في كتابه العزيز عن الذين آتاهم الكتاب من اليهود ثم لما جاءهم الحقُّ ، آمنوا ببعضِ الكتابِ ، وكفرُوا ببعضِهِ الآخر 0
قال سبحانه ( أفتؤمنون ببعضِ الكتابِ وتكفرونَ ببعض ، فماجزاءُ من يفعلُ ذلكَ منكُم إلاّ خزيٌ في الحياةِ الدُنيا ، ويومَ القيامةِ يردُّونَ إلى أشدِّ العذابِ وماالله بغافلٍ عمَّا يَعملُون ) البقرة 85
ونسوق فيما يلي الآيات القرآنية الدالة على كفر من لم يعتقد وجوب التحاكم إلى شريعة الله تعالى في كل صغير وكبير ، ومن آمن ببعض أحكام الله تعالى دون بعض 0
1ـ قال سبحانه ( ويقولون نُؤمنُ ببعضٍ ونكفُرُ ببعضٍ وَيُريدُونَ أن يَتَّخِذوُا بيَنَ ذلكَ سبيلاً ،أُولئكَ هُمُ الكافِرونَ حقاً وأَعتَدنا للكافرينَ عذاباً أليماً) النساء 150، 151
2ـ وقال سبحانه ( ياأيُّها الذينَ أُوتُوا الكتابَ آمِنوُا بما نزَّلنا مصدِّقاً لما معكُم مِن قَبلِ أَن نَطمِسَ وُجوهاً فَنَرُدَّها على أدبارِها أَو نَلعَنَهُم كما لعنَّا أصحابَ السبتِ وكان أمرُ اللهِ مفعولاً ) النساء 47
3ـ وقال سبحانه ( ألم ترَ إلى الذينَ أُوتوُا نصيباً منَ الكتابِ يؤمنونَ بالجبتِ والطاغوتِ ويقولونَ للذينَ كفروُا هؤلاءِ أَهدى منَ الذينَ آمنوُا سبيلاً ، أولئِكَ الذينَ لعنهُم اللهُ ومن يَلعن اللهُ فلن تَجدَ لهُ نصيراً) النساء 51،52
وسنتوقف قليلاً عند تفسير هذه الآية :
يقول الله تعالى إنّ الذين أتاهم الكتاب من اليهود ، لماجاءهم محمّد r بالبيّنات والهُدى ، فضلوا الإيمان بالجبت والطاغوت ، والطاغوت اسم لكل مايعبد من دون الله ، وكذلك هم اسم لكل ما يطاع أو يتبع من دون الله تعالى فيما يخالف حكمَ اللهِ تعالى ، فكلّ منهج يخالف منهج الله تعالى ، فهو طاغوت ، وهؤلاء اليهود فضَّلوا الإيمان بالجبت و الطاغوت على الإيمان بما أنزل الله تعالى ، كما فضل العلمانيُّون الإيمان بأهواءهم وعقولهم على الإيمان بما أنزل الله تعالى ، فجعلوا الدين أجزاء على وفق أهواءهم ، فكفروا ببعض وآمنوا ببعض ، فكفروا ـ على سبيل المثال ـ بالحدود الشرعية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحريم الربا ، وفرض الحجاب على النساء ، وغيرها من أحكام الدين ، وزعموا أنهم مؤمنون ، لكنَّ الله تعالى كذَّبهم 0
ثم أخبر سبحانه في هذه الآية أنهم يعتقدون أن منهج الذين كفروا أهدى من منهج المؤمنين ، كما قال تعالى ( ويقولُونَ للّذينَ كفروُا هؤلاءِ أَهدى مِنَ الذينَ آمنوا سبيلاً ) ، وكذلك العلمانيُّون يعتقدونَ أنّ المنهج العلمانيُّ والليبراليُّ ، أهدى مما أنزل الله تعالى ، ولولا ذلك ما اتبعوه معرضين عن أحكام الله تعالى 0
4ـ وقال سبحانه ( قل آمنّا باللهِ وماأُنزِلَ عَلَينا وما أُنزِلَ على إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط وما أُوتِيَ موُسى وعِيسى والنبيُّون مِن رَبِّهِم لانفرِّقُ بيَن أَحَدٍ مِنهُمُ ونَحنُ لَهُ مُسلِموُن ، ومَن يَبتغِ غيَر الإسلامِ ديناً فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وهُوَ في الآخرِةِ مِن الخاسِرِين ) آل عمران 85، فالإسلام هو الإيمان بكلِّ ما أنزَل اللهُ تعالى ، واتِّباع كلِّ أحكامِ الله تعالى 0
5ـ وقال تعالى ( يا أيُّها الذينَ آمنوُا ادخلُوا في السِّلمِ كافَّةً ولاتتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَيطانِ إنَّه لَكُم عدُوُُ مُبِين ) البقرة 208 ومعنى السِّلم في هذه الآية هو الإسلام ، أي ادخُلُوا في جميع الإسلام ، وآمنوا بجميع أحكامه ، لا كالذين يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض 0
6ـ وقال تعالى ( وأَنِ احكُم بينَهُم بما أَنزَلَ اللهُ ولاتتَّبِع أهواءَهم واحذَرهُم أن يَفتِنوُكَ عَن بعضِ ما أَنزَلَ اللهُ إِليكَ ، فإِن تَولَّوا فاعلَم أَنَّما يُريدُ اللهُ أَن يُصيبَهُم ببعضِ ذنوبِهِم وإنَّ كثيراً مِنَ النّاسِ لفاسقُون ، أَفَحُكمَ الجاهليِّةِ يَبغُونَ ومَن أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لِقَومٍ يُوقِنوُن ) المائدة 49، 50
وحكم الجاهلية هو جعل الايمان بما أنزل الله تعالى تبعا للأهواء ، لأنّهم يريدون الايمان ببعض ما جاء به صلى الله عليه وسلم ، والكفر ببعضه الآخر ، وقالوا له نؤمن بما جئت به سنة ، ونؤمن بما نحن عليه من أمر الجاهلية سنة ، ولهذا حذَّر الله نبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتنازل عن أي شيء مما أنزل الله تعالى ، قال تعالى ( واحذرهم أَن يَفتِنوُكَ عَن بَعضِ ماأَنزَلَ اللهُ إليك)0(15/434)
7ـ وقال تعالى ( ومَن لم يَحكُم بما أَنزلَ اللهُ فأُولئِك هُمُ الكافرون ) المائدة 44، وقال تعالى ( ومَن لَم يَحكُم بما أَنزلَ اللهُ فأُولئِك هُمُ الظالِموُن) المائدة 45، وقال تعالى( وَمَن لَم يَحكُم بما أَنزَلَ اللهُ فأُولئِك هُمُ الفاسقُون ) المائدة 47
ومقتضى هذه الآيات من تسمية الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى كافرا وظالما وفاسقا ، يصدُقُ على القليلِ والكثيِر مِنَ الحُكمِ بغيرِ ما أَنزَلَ الله تعالى ، كما يصدق على الجزء والكلّ ، فكلّ من أعرض عن شيء من أحكام الله تعالى ، معتقداً أنَّه لايجب عليه التزام الحكم بها فهو كافر ، ظالم ، فاسق ، وقد أجمع المسلمون على هذا 0
8ـ وقال سبحانه ( كَذلكَ نَقصُّ عَليكَ مِن أَنباءِ ما قَد سَبَق ، وَقَد آتينَاكَ مِن لدُنّا ذكراً مَن أَعرَضَ عَنهُ فإنِّهُ يَحمِلُ يَومَ القِيامَةِ وِزراً ، خالدِينَ فيِهِ وساءَ لَهُم يَومَ القيامَةِ حِملاً ) طه 99ـ101 ، والذِّكرُ هُوَ ما أنزَلَ اللُه تعالى ، وهو القرآن العظيم ، وما يشتمل عليه من أحكام ، فمن أعرض عنه ، أوعن بعضه مفضلا مناهج كفرة الغرب أو الشرق ، فإنّه يأتي يوم القيامة حاملاً وزراً عظيماً ، وهو وزر الكفر الذي يخلد صاحبه في النار عياذا بالله 0
9ـ وقال سبحانه ( وَمَن أعرضَ عن ذِكرِي فإِنَّ لَهُ معيشةً ضَنكا ، ونَحشُرُه يَومَ القِيامَةِ أَعمى ، قال رَبِّ لمَ حَشَرتَني أَعمى وَقَد كُنتُ بَصِيرا ، قال كذلكَ أَتَتكَ آياتنا فَنسيتَها وكَذلكَ اليومَ تُنسى ،وَكَذلكَ نَجزي مَن أَسرَفَ ولَم يُؤمِن بآياتِ ربِّهِ ولعذابُ الآخرِةِ أَشدُّ وأَبقى ) طه 124ـ 127 ، والعلمانيُّون أعرضوُا عن اتباع الذكر وهو القرآن ، وأتتهم آيات الله فنسوها ،فكان لهم بذلك الشقاء في الدنيا ، ذلك أنهم لم يفلحوا في شيء من شئونهم ، وتخبطوا في كل أمورهم ، فأفسدوا على الناس معايشهم الدنيوية ، فانتشرت بسبب مبادئهم الضالّة ، واعراضهم عن أحكام الله تعالى التي أنزلها رحمة ونوراً وهدى الناس ، انتشرت الجرائم والمخدرات والدعارة وألوان الفساد ، وخرَّبوا الإقتصاد باتّباعهم النظام الربويّ معرضين عن أحكام الله تعالى ، وأفسدوا المرأة وأهانوها وحوَّلوها إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى ، وقذفوا بها في كل موضع تنتهك فيه كرامتها وهم يزعمون تحريرها ، وامتلأت بسببهم حياة الناس شقاءً وضنكاً وفساداً في البلاد الغنيّة ، وتمثل ذلك في اختلال الأمن وشيوع الفواحش والأمراض الجنسية والنفسية والجريمة المنظمّة وشعور الناس بالضياع والخوف ، كما امتلأت الحياة فقراً وجوعاً وظلماً في البلاد الفقيرة ، وضجّت الأرض والبلاد والعباد مما يفعلونه في العالم من الخراب 0
ومما يدل أيضا على كفر من يرد شيئا مما أنزل الله تعالى كلَّه أوبعضه معرضاً عنه مفضلاً عليه سواه :
10ـ قول الحق تعالى ( أَلم تَرَ إِلى الذينَ يَزعُمُونَ أَنَّهم آمنوُا بما أُنزِلَ إليكَ وما أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُريدُونَ أَن يَتحاكَمُوا إلى الطاغوُتِ ، وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُروُا بِهِ وَيُريدُ الشَيطانُ أَن يُضلَّهُم ضلالاً بَعيداً ، وإِذا قِيلَ لَهُم تَعالَوا إلى ما أَنزَلَ اللهُ وإلى الرسولِ رَأَيتَ المنافِقينَ يَصدُونَ عَنكَ صُدوداً ) النساء 60، 61
والطاغوت اسم عامُّ يشمل كل معبود أو مطاع أو متَّبع ينصبه الناس حكماً لهم من دون الله ، ويجعلون كلامه هو القول الفصل الذي يحكم بينهم ، بديلا عن شريعة الله ، وهو كل مناهج يناقض منهج الله ، فكلُّ مَن يَتحاكَم إلى عقلِهِ ، أو إلى منهجٍ بشريِّ يخالف منهج الإسلام ، أو إلى شريعةٍ وضعيّةٍ ، معرضاً عن شريعة الله تعالى ، نابذاً وراء ظهره أحكام الله تعالى في قليلٍ أو كثيرٍ ، فهو مؤمن بالطاغوت كافر بالله تعالى 0
وكل من يقال له : هَلمَّ إلى ما أنزلَ اللهُ تَعالى ، وإلى ما جاء به الرسو صلى الله عليه وسلم من الهدى والحق والنور المبين ، فصدَّ عن ذلك راغباً عنه ، واتبَّع غيرَ ما أَنزلَ اللهُ تَعالى ، فَهُو من المنافقين الذين قال الله فيهم ( إنَّ المنافِقينَ في الدَركِ الأسفَلِ مِنَ النّار وَلَن تَجِدَ لَهُم نَصيراً ) النساء 145
والمنافقون هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله ( مُذَبذَبينَ بَينَ ذلكَ لا إلى هؤُلاءِ ولا إلى هؤُلاء ) النساء 143 أي أنَّهم متحيرون ، فلاهم الذين يتبعون ما أنزل الله تعالى ، ولاهم الذين يثبتون على غيره أيضا ، فتارة يؤمنون بالشيوعيِّة ، وتارة بالاشتراكيِّة ، وتارة بالبعثيِّة ، وتارة بالقوميِّة ، وتارة بالليبراليِّة ، وتارة بالماركسيِّة ، وتارة بالقوانين الوضعيِّة ، وتارة ببعض أحكام الشريعة الاسلاميِّة وفق أهواءِهم ، فَهُم مُذَبذَبون دائماً ، كما قال تعالى ( بَل كَذَّبوُا بالحَقِّ لماَّ جاءَهُم فَهُم في أَمرٍ مرِيجٍ ) ق 5، أي أن كلَّ مُكَذِّبٍ بالحقِّ يُصبِحُ في حالٍ مُضطَرب غايةَ الإضطِراب 0(15/435)
11ـ وقال سبحانه ( كان النّاسُ أمَّةً واحدةً فَبَعَثَ اللهُ النبيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ وَأَنزَلَ مَعَهُم الكِتابَ بالحقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النّاسِ فِيما اختَلفُوا فِيه ) البقرة 213 فبيَّن أنَّه أنزَلَ الشريعةَ لِكَي تَكونَ حاكمة بين العباد في كل صغير وكبير من شئون حياتهم ، وفي كل ما يختلفون فيه 0
12ـ وقال سبحانه ( فلاوَرَبَّكَ لايُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لايَجِدُوا في أَنفُسِهِم حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً ) النساء 65، فكل من وجد في نفسه حرجا من شيء مما أنزل الله تعالى ، فقد أقسم الله تعالى بنفسه العليَّة أنه لايكون مؤمنا 0
13ـ وقال سبحانه ( ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعةٍ مِنَ الأَمرِ فاتَّبِعها ولاتَتبَّع أَهواءَ الذِينَ لايَعلَمُونَ ، إنَّهُم لَن يُغنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئاً وإنَّ الظالِمينَ بَعضُهُم أَولِياءُ بَعض واللهُ وليُّ المُتَّقِين ، هذا بَصائِرُ للنّاسِ وَهُدى وَرَحمَةُُ لِقَومٍ يُوقِنُون ) الجاثية 18ـ 20 والعلمانيون هم الذين يتبعون أهواء الذين لايعلمون من كفرة ملاحدة أوربّا الضالّين 0
وقد أمر الله تعالى نبيّه الكريم في هذه الآية الكريمة أن يستقيم على الشريعة ، ونهاه أن يتبع أهواء الجاهلين ، وبين أنه أنزل هذا القرآن المشتمل على الشريعة التامة ، فهي البصائر والهدى والرحمة ، وغيرها الضلال والحيرة والجهل 0
فهذه أربع عشرة آية في الكتاب العزيز ، ونظائرها أكثر من أن تحصر في هذا الموضع ، وكلها دالة دلالة قطعية على أن من علم حكم الله تعالى ، ثم رفض أن يلتزمه معتقدا أنه يسعه ذلك فهو كافر بالله تعالى ، ولاينفعه زعمه أنه مؤمن بروح الشريعة أو جوهر الدين كما يقول العلمانيون والليبراليون 0
هذا ولم يقرِّر القرآن أصلاً بعد توحيد الألوهية كما قرر هذا الأصل العظيم ، وهو وجوب الاحتكام إلى الشريعة الإلهية ، وطاعة الله ورسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به ، مما يُؤذن بخطر التهاون في هذا الشأن العظيم ، كيف وقد قرر القرآن أن الإعراض عن الشريعة واتباع غيرها عبادة للطاغوت ، كما تقدم في آية سورة النساء ، ورحم الله العلامة ابن القيم اذ يقول ( فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لايعلمون أنه طاعة لله ، فهذه طواغيت العالم إذا تدبرتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ) إعلام الموقعين (1/50)
ثالثا
بيان معنى الليبراليَّة
وأنها ليست سوى وجه من وجوه شجرة العلمانيَّة الخبيثة
الليبراليَّة هي وجه آخر من وجوه العلمانيِّة ، وهي تعني في الأصل الحريِّة ، غير أن معتنقوها يقصدون بها أن يكون الإنسان حراً في أن يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء ويعتقد ما يشاء ويحكم بما يشاء ، فالإنسان عند الليبراليين إله نفسه ، وعابد هواه ، غير محكوم بشريعة من الله تعالى ، ولا مأمور من خالقه باتباع منهج إلهيّ ينظم حياته كلها، كما قال تعالى ( قُل إنَّ صَلاتي ونُسُكِي وَمَحيايَ وَمَماتي للهِ رَبَّ العالَمِينَ ، لاشَريكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرتُ وَأَنا أَوَّلُ المِسلِمين) الانعام 162، 163 ، وكما قال تعالى ( ثمَُّ جَعَلنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعها وَلاتتَّبِع أَهواءَ الذِينَ لايَعلَمُون ) الجاثية 18
وكما قال تعالى ( وأن احكُم بَينهُم بِما أَنزَلَ الله ولاتَتَّبِع أَهواءَهُم ) المائدة 49 ، وغيرها من الآيات الكثيرة 0(15/436)
ولهذا فإن الليبراليَّة لاتُعطيك إجابات حاسمة على الأسئلة التالية مثلا : هل الله موجود ؟ هل هناك حياة بعد الموت أم لا ؟ وهل هناك أنبياء أم لا ؟ وكيف نعبد الله كما يريد منّا أن نعبده ؟ وما هو الهدف من الحياة ؟ وهل النظام الإسلاميُّ حق أم لا ؟ وهل الربا حرام أم حلال ؟ وهل القمار حلال أم حرام ؟ وهل نسمح بالخمر أم نمنعها ، وهل للمرأة أن تتبرج أم تتحجب ، وهل تساوي الرجل في كل شيء أم تختلف معه في بعض الأمور ، وهل الزنى جريمة أم علاقة شخصية وإشباع لغريزة طبيعية إذا وقعت برضا الطرفين ، وهل القرآن حق أم يشتمل على حق وباطل ، أم كله باطل ، أم كله من تأليف صلى الله عليه وسلم ولايصلح لهذا الزمان ، وهل سنة الرسو صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى فيحب أتباعه فيما يأمر به ، أم مشكوك فيها ، وهل الرسو صلى الله عليه وسلم رسول من الله تعالى أم مصلح اجتماعي ، وما هي القيم التي تحكم المجتمع ؟ هل هي تعاليم الاسلام أم الحرية المطلقة من كل قيد ، أم حرية مقيدة بقيود من ثقافات غربية أو شرقية ، وماهو نظام العقوبات الذي يكفل الأمن في المجتمع ، هل الحدود الشرعية أم القوانين الجنائية الوضعية ، وهل الإجهاض مسموح أم ممنوع ، وهل الشذوذ الجنسي حق أم باطل ، وهل نسمح بحرية نشر أي شيء أم نمنع نشر الإلحاد والإباحية ، وهل نسمح بالبرامج الجنسية في قنوات الإعلام أم نمنعه ، وهل نعلم الناس القرآن في المدارس على أنه منهج لحياتهم كلها ، أم هو كتاب روحي لاعلاقة له بالحياة ؟؟؟؟
فالليبراليّة ليس عندها جواب تعطيه للناس على هذه الأسئلة ، ومبدؤها العام هو : دعوا الناس كلُّ إله لنفسه ومعبود لهواه ، فهم أحرار في الإجابة على هذه الأسئلة كما يشتهون ويشاؤون ، ولن يحاسبهم رب على شيء في الدنيا ، وليس بعد الموت شيء ، لاحساب ولا ثواب ولاعقاب 0
وأما ما يجب أن يسود المجتمع من القوانين والأحكام ، فليس هناك سبيل إلا التصويت الديمقراطي ، وبه وحده تعرف القوانين التي تحكم الحياة العامة ، وهو شريعة الناس لاشريعة لهم سواها ، وذلك بجمع أصوات ممثلي الشعب ، فمتى وقعت الأصوات أكثر وجب الحكم بالنتيجة سواء وافقت حكم الله وخالفته 0
ولايقيم الليبراليون أي وزن لشريعة الله تعالى ، إذا ناقض التصويت الديمقراطي أحكامها المحكمة المنزلة من الله تعالى ، ولايبالون أن يضربوا بأحكامها عرض الحائط ، حتى لو كان الحكم النهائي الناتج من التصويت هو عدم تجريم الزنا إلا إذا وقع بإكراه ، أوعدم تجريم شرب الخمر ، أوكان تحليلاً للربا ، أوكان السماح بتبرج النساء ، أو التعري والشذوذ الجنسي والإجهاض ، أونشر الإلحاد تحت ذريعة حرية الرأي ، 00الخ 0
وكل شيء في المذهب الليبراليِّ متغيِّر ، وقابل للجدل والأخذ والردِّ حتى أحكام القرآن المحكمة القطعيِّة ، وإذا تغيَّرت أصوات الاغلبيَّة تغيَّرت الأحكام والقيم ، وتبدلت الثوابت بأخرى جديدة ، وهكذا دواليك ، لايوجد حق مطلق في الحياة ، وكل شيء متغير ، ولايوجد حقيقة مطلقة سوى التغيُّر 0
فإذن إله الليبراليِّة الحاكم على كل شيء بالصواب أو الخطأ ، حرية الإنسان وهواه وعقله وفكره ، وحكم الأغلبيِّة من الأصوات هو القول الفصل في كل شئون حياة الناس العامة ، سواءُُ عندهم عارض الشريعة الإلهيّة ووافقها ، وليس لأحد أن يتقدَّم بين يدي هذا الحكم بشيء ، ولايعقِّب عليه إلا بمثله فقط 0
غير أن العجب كلَّ العجب أنَّه لو صار حكمُ الأغلبيِّة هو الدين ، واختار عامة الشعب الحكم بالإسلام ، واتباع منهج الله تعالى ، والسير على أحكامه العادلة الشاملة الهادية إلى كل خير ، فإن الليبراليّة هنا تنزعج انزعاجاً شديداً ، وتشن على هذا الاختيار الشعبي حرباً شعواء ، وتندِّدُ بالشعب وتزدري اختياره إذا اختار الإسلام ، وتطالب بنقض هذا الاختيار وتسميه إرهاباً وتطرفاً وتخلفاً وظلاميّة ورجعيّة 00الخ
كما قال تعالى ( وإذا ذُكِر الله ُوَحدَهُ اشمَأَزَّت قلوبُ الذين لايُؤمِنُونَ بِالآخرِةِ وَإِذا ذُكِرَ الذينَ مِنَ دونِهِ إذا هُم يَستَبشِروُن ) الزمر 45 0
فإذا ذُكر منهج الله تعالى ، وأراد الناس شريعته اشمأزت قلوب الليبراليين ، وإذا ذُكِر أيُّ منهجٍ آخر ، أو شريعة أخرى ، أو قانون آخر ، إذا هم يستبشرون به ، ويرحِّبون به أيَّما ترحيب ، ولايتردَّدون في تأيِّيده 0
فإذن الليبراليِّة ماهي إلاّ وجه آخر للعلمانيِّة التي بنيت أركانها على الإعراض عن شريعة الله تعالى ، والكفر بما أنزل الله تعالى ، والصد عن سبيله ، ومحاربة المصلحين ، وتشجيع المنكرات الأخلاقيِّة ، والضلالات الفكريِّة ، تحت ذريعة الحريِّة الزائفة ، والتي هي في حقيقتها طاعة للشيطان وعبودية له0(15/437)
هذا وقد يتبيّن لكل ذي بصيرة ، أنَّهم عندما يدعون الناس إلى مخالفة الشريعة الإلهيّة ، زاعمين أنهم يمنحونهم الحرية ، أنها خديعة وفخ يصيدون به المغفلين من ضعاف العقول ، وبغيتهم أن يخرجوا الناس من عبادة الله تعالى وحده باتباع صراطه المستقيم ، إلى عبادة مفكِّريهم ومنظِّريهم ، وإلى إتِّباع أهواءِهم والسيرِ على مناهجهم الضالَّة ، وعندما يقولون للشعب أنت حرُّ في أن تفعل ما تشاء ، فكأنهم يقولون له كن أسيراً وعبداً لشهواتك وهواك ، ولنزغ الشيطان ، ذلك أن دأب الشيطان أن يزين للإنسان فعل السوء والفحشاء ، ويوسوس له بالشر والضلال فيطيعه ويتبعه ، وهو يظنُّ أنه حرُّ في تصرفاته ، بينما هو متبع مستعبد للشيطان من حيث لايشعر ، كما قال تعالى ( وزيَّنَ لَهُم الشَيطانُ أَعمالَهُم فَصَدَّهُم عَن السَّبِيل ) العنكبوت 38وقال سبحانه أيضا ( وَلَقَد صَدَّقَ عَلَيهِم إبلِيسُ ظَنَّهُ فاتَّبَعُوه إلاَّ فَريقاً مِنَ المؤمِنِين ) سبأ 20 وقال سبحانه ( وَمَن يَعشُ عَن ذِكرِ الرَّحمَن نُقَيِّض لَهُ شَيطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِين ) الزخرف 36 ومعنى يعش عن ذكر الرحمن ، أي يَعمى عن اتباع ما أنزل الله تعالى 0
فالليبراليِّة إذاً إنما تقول للناس دعوا عبادة الله تعالى واتباع شريعته ، إلى طاعة وعبادة الهوى والشيطان ، فهي تدعو إلى الشرك والكفر وفعل الفحشاء والمنكر 0
وهي عندما تزعم أنَّه لايوجد حقُّ مطلق إلا الحريَّة والتغيُّر ، فإنها تكفر بثوابت القرآن والسنة ، وبأحكام الشريعة المحكمة التي أنزلها الله تعالى لتكون نبراساً لهداية الناس إلى يوم القيامة ، وما الشريعة إلا الحق المبين الراسخ الذي لايتغيَّر ولايتبدَّل مهما تغيَّر الزمان والمكان 0
كما قال تعالى واصفاً نفسه العليَّة ( أَفَمَن يَهدِي إلى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَع أَمَّن لايَهِدِّي إلاَّ أَن يُهدى فَما لَكُم كَيفَ تَحكُمُون ) يونس 35 وقال سبحانه ( فَذلِكُم اللهُ رَبُّكُم الحَقَّ فَماذا بَعدَ الحقِّ إِلاَّ الضلال فأنى تصرفون ) يونس 32 وقال سبحانه ( والذينَ هُم بآياتِنا يُؤمِنُون ، الذينَ يَتَّبِعُون النَّبيَّ الأُمِيَّ الذي يَجِدُونَهُ مكتوباً عِندَهُم في التَوراةِ وَالإنجِيل يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهاهُم عَن المُنكَر ، وَيُحِلُّ لَهُم الطَيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِم الخبائِث ) الأعراف 156، 157 0
وكما قال تعالى ( قُل ياأَيُّها النّاسُ إِنيِّ رَسُولُ اللهِ إلَيكُم جمَيعاً الذي لَهُ مُلكُ السمواتِ وَالأرضِ لاإلهَ إلاّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيت ، فَآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِيِّ الذي يُؤمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تُهتَدُون ) الأعراف158 0
وكما قال تعالى ( الذينَ إِن مَكَّناهُم في الأرضِ أَقامُوا الصلاةَ وَآتَوا الزَكاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَن المنُكَر وَللهِ عاقِبَةُ الأمور ) الحج 41 0
والليبراليّة عندما تسوي بين دين الله الحق وغيره من الأهواء الباطلة ، وعندما تسوّي بين المؤمنين بالله تعالى المتبعين لدينه ، والكافرين به ، بزعم أن الجميع سواء في مبدأ الحريّة ، فهي بذلك تشرّع شريعة تناقض شريعة الله تعالى القائل ( أَفَمَن كانَ مُؤمِناً كَمَن كان فاسِقاً لايَستَوُون ) السجدة 18 والقائل ( أَفَنَجعَل المُسلِمِين كَالمجُرِمِينَ ، مالَكُم كَيفَ تَحكُمُون ) القلم 35، 36 0
والمذهب الليبراليّ بهذا المنهج الضال ، يبطل دين الله كله ، ويطوي أحكامه التشريعيَّة برمَّتها ، ويضع بدلها أحكاما أخرى من عنده ، أحكاما لاتقيم وزنا لما أنزله الله تعالى من البيَّنات والهدى والكتاب المنير 0
والخلاصة أن المنهج الليبراليّ ليس سوى الضلال بعينه ، وهو الكفر والشرك برسمه واسمه ، وماهو إلاّ صدُّ عن سبيلِ اللهِ تعالى ، ونَقض لأحكامِ اللهِ تعالى ، ودعوة للناس إلى الخروج عن شريعة الله تعالى ، وإشاعة الفوضى الفكرية والعقائدية في حياة الناس 0
هذه هي الليبراليّة ، وحكمها في الإسلام هو نفس حكم العلمانيّة سواء بسواء ، لأنها فرع من فروع تلك الشجرة ، ووجه آخر من وجوهها 0
وبهذا يعلم أنه يجب شرعا ، بل هو من أهم واجبات الدين ، أن يُبَيَّن للمسلمين خطر هذه الأحزاب العلمانية والليبرالية ، ويُوَضَّح لهم ما تشتمل عليه من أفكار تهدم العقيدة والشريعة والأخلاق ، ويجب أن يُدعى أصحابُها إلى الإسلام ، ويُكشف لهم حكم الإسلام في حقيقة مذهبهم الذي يعتقدونه ، وأنه مناقض للإسلام تمام المناقضة ، وأن في تركهم له نجاتهم من الهلاك 0(15/438)
ويجب أن يُدعَون إلى أن يُقِرُّوا بوجوب الإحتكام إلى الشريعة الإلهيَّة في كلِّ صغير وكبير من شئون الحياة ، ولايجوز إقرارهم على أي مبدأ لاينطلق من هذا الأصل الذي هو أصل الدين الأصيل ، وركنه الجليل ، كما قال تعالى ( ثُمَّ جَعَلناكَ على شَريعَةٍ مِنَ الأَمرِ فاتَّبِعها وَلاتتَّبِع أَهواءَ الذينَ لايَعلَمُون ) الجاثية 18 وقال ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) المائدة 49 ، وقال (فاستَقِم كَمَا أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاتَطغَوا إنَّهُ بِما تَعمَلُونَ بَصِير ، وَلاتَركَنُوا إِلى الذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُم النّارُ وَمالَكُم مِن دُونِ اللهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لاتُنصَروُن ) هود 112، 113 0
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ( ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ، ولم يستجيبوا للداعي ، ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول صلىالله عليه وسلم وتحكيم غيره والتحاكم إليه كما قال تعالى : ( فإن تَوَلَّوا فَاعلَم أَنَّما يُريدُ اللهُ أَن يُصيبَهُم بِبَعضِ ذُنوبِهِم وإنَّ كَثيراً مِنَ النّاسِ لَفَاسِقُون ، ) اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الاحسان والتوفيق ، أي بفعل ما يرضى الفريقين ويوفق بينهما ، كما يفعله من يروم التوفيق بين ماجاء به الرسو صلى الله عليه وسلم وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق ، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ماجاء به الرسو صلى الله عليه وسلم وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ، فمحض الإيمان في هذا الحرب لا في التوفيق وبالله التوفيق ) إعلام الموقعين (1/50) 0والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،حسبنا الله ونعم الوكيل 0
حامد عبدالله العلي
الكويت في 23محرم 1422هـ
=============(15/439)
(15/440)
الرِّبا بين النهج الرباني والنهج العلماني
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
من أكثر القضايا التي تعددت فيها الفتاوى في واقعنا المعاصر هي قضيّة الربا. والرّبا أشدّ ما حرّمه الإسلام نصّاً في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة. فلا يحقّ أن يقف المسلم من هذه القضيّة ومن الفتاوى التي صدرت لها موقف الحائر التائه، إلا إذا غلبه الجهل بالكتاب والسنّة، وضعف الإيمان وغلب الهوى !
ولقد رافق اضطراب التصوّر لهذه القضية اضطراب التصوّر لقضايا أخرى كثيرة في واقع المسلمين اليوم. ولقد كشف عن هذا تعدُّد الفتاوى والآراء، وتعدُّد الأسس التي يَعتمد عليها هذا الرأي أو ذاك، واشتراك مستويات متعدِّدة في إصدار الرأي.
ومما ساعد على ذلك الاضطراب والتعدُّدِ أنّ الواقع لم يعد يَفرض على كل صاحب رأي أن يُتْبِع رأيه بالحجّة والبيّنة من الكتاب والسنّة دون أي تأويل فاسد، ومن الواقع الذي يُفْهَم من خلال الكتاب والسنة. لذلك أصبح من السهل إطلاق الآراء متفلّتة من هنا أو هناك، ما دامت الحجة والبيّنة غير مطلوبة، وما دام الرأي يقاس بالهوى والرغبة أحياناً، وبالتصوّر البشري للمصلحة، وبضغط الواقع.
لقد أصبح تارك الصلاة حرّاً، وتارك الصوم حرّاً، وترى بعض النساء في كثير من الأقطار في العالم يخرجن كما يشاء لهنّ الهوى دون حشمة في اللباس، مع تبرّج وكشف للزينة، وإثارة للشهوات. وأصبح بعض الرجال المنتسبين إلى الإسلام يشربون الخمر جهاراً دونما حرج في حماية القانون.
خلاصة ذلك أن حدود الإسلام أصبحت تُنْتهك بصورة علنية، وأنَّ الفسق أصبح يُجْهَر به من الرجل والمرأة سَواءً بسواءٍ.
نظرة عاجلة في العالم الإسلامي تكشف لنا كيف أنّ عُرا الإسلام قد نُقضت عروةً فعروة، كما جاء في حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم :
فعن أبي أمامة رضي الله عنه عن الرسو صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( لتُنقَضَنَّ عُرا الإسلام عُرْوةً عُرْوةً، فكلّما انتقضت عُرْوةً تشبّث النَّاس بالتي تليها، فأولهنّ نقضاً الحكم وآخرهنّ الصلاة ) [ رواه أحمد وابن حبان والحاكم ](1)
في هذه الأجواء، حيث امتدت الديمقراطية والعلمانية بنظامها الرأسمالي، وحيث سيطر النظام الرأسمالي الربوي على معظم أنحاء العالم، أو جميعه، تُدعمه القوى العسكرية والإعلامية والفكرية العلمانية، وتدعمه حركات التنصير التي كانت في كثير من الأحيان ممهدة للزحف العسكري المعتدي، وتدعمه الشركات التجارية التي تجعل نشاطها كذلك ممهداً للغزو الإجرامي الظالم، وتدعمه القوى اليهودية ومؤسساتها، في هذه الأجواء صدرت الفتاوى المتعددة المتضاربة حول البنوك وعملها، وحول الفائدة الربوية وحكمها، وحول كلّ ما يتعلّق بذلك من قضايا.
لا نشكّ لحظة في أنّ " اليهود " كانوا من بين أهم القوى التي ساهمت في بناء النظام الاقتصادي الرأسمالي الربوي، كما كانوا هم بناة النظام الربوي في التعامل الاقتصادي في الجزيرة العربية قبل أن يلغي الإسلام هذا النظام كلّه ويُحرّمه تحريماً شديداً.
ولقد بدأ النهي عن الربا والتحريم في العهد المكّي بقوله سبحانه وتعالى :
( وما أتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون )
[ الروم : 39]
ثمّ أخذ بعد ذلك يسيطر على النشاط الاقتصادي الذي حلّ بكلّ مقوّماته في التعامل الاقتصادي بين المسلمين محلّ النظام الربوي اليهودي حتى إذا استقرّ الحكم للإسلام، وأصبحت كلمة الله هي العليا، وشرع الله هو الأعلى، أكّد رسول ا صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع حرمة الربا في خطبته في عرفة بعد أن زالت الشمس وأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله أكثر من مئة وأربعة وعشرون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، فقال في جملة ما قال :
( …إنّ دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كلُّ شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل ـ وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنّه موضوع كله …..)(2)
إذاً، كان هناك نهجٌ وخطة يدفَعُها الإسلام ويبنيها الإيمان في رعاية الوحي المتنزّل من السماء على النبوة الخاتمة. لقد كان هناك نهج رباني أُنزل ليمتدّ مع الزمن، وليمتدّ في الأرض، لا ليتوقف أو يتراجع.
أنزل الله هذه الرسالة رسالة كاملة، اكتملت مع حجة الوداع، لتحملها أمة الإسلام أمانة في عنقها حتى قيام الساعة، لتطبّقها كلّها لا جزءً منها. لتُحِلّ الحلال وتُحرّم الحرام وتقيم شرع الله في جميع شؤون الحياة.
وجاء تحريم الربا في الكتاب والسنة تحريماً قاطعاً، أشدّ ما في الإسلام من تحريم، جاء تحريماً بيّناً جليّاً حتى ييسّر الله لعباده اجتناب الحرام.
وجاءت أحكام الإسلام ونصوصها تحيط بأفعال العباد في كلّ عصر وكلّ مكان إلى أن تقوم الساعة، وتوفّر البيان للمؤمن التقي لكل عمل يقوم به ليظل عارفاً بما أحلّ الله له وما حرّم عليه.(15/441)
وما كان الله ليترك عباده في حَيْرة من أمرهم، لا يدرون ما هو الحلال وما هو الحرام، ومصير الإنسان مع الحرام إلى النار، إلى جهنم ! فالله أرحم بعباده من أن لا يبين لهم.واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى :
( …. ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين )
[ النحل : 89]
وكذلك في أحاديث رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فعن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول :
( إنَّ الحلال بيّن وإنّ الحرام بيّن وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهنّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإنّ لكلّ ملك حِمى ألا وإنّ حِمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه. ألا وهي القلب )
[ رواه الشيخان ]
إنَّ التكاليف الربَّانية التي هي شأن كلّ مسلم جاء بيانها وافياً لكل من صدق إيمانه وأتقن اللغة العربية، وذلك واجب على كلّ مسلم، ولا عذر لمسلم إذا تخلّف عن الوفاء بطلب العلم من الكتاب والسنّة كما جاءا باللغة العربية، ورضي بالبقاء على جهله.
فعن أنس وغيره عن رسول ا صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( طلب العلم فريضة على كلّ مسلم )
[ أخرجه الطبراني وغيره [(3)
ولقد يسّر الله برحمته القرآن الكريم للذكر، للتلاوة والتدبّر والعمل به : ( ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر )
[ القمر : 17]
"فالربا " كما جاء تحريمه في القرآن والسنّة، لا بدّ أن يكون واضحاً جليّاً لكلّ مسلم حتى لا يقع أحد في أمر حرام ولا في شبهة. فأمر " الربا " متعلّق بكلّ مسلم وليس يطبقه خاصة من المسلمين.
والحلال والحرام لا يُبيَّن إلا من عند الله ورسوله، وليس لأحد أن يحرِّم أو يُحلِّل دون نصّ من الكتاب والسنّة، أو اجتهاد قائم على نصّ واضح. وأمر ذلك عظيم، فالناس ستقف للحساب يوم القيامة، ثمّ إلى جنّة أو نار، فلا يُعقل أبداً أن يترك الله سبحانه وتعالى أي أمر يقود إلى النار إلا بيّنه، فإذا التبس الأمر على أحد فهو نتيجة خلل عنده وليس في منهاج الله، وعليه أن ينهض ليعالج الخلل عنده، كجهله باللغة العربية وعدم طلبه العلم من الكتاب والسنة، أو غلبه الهوى والشهوات في نفسه، وخضوعه لضغط الواقع، فيؤوّل ويُفسد في التأويل :
( ….فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد ) [ ق : 45]
والرّبا المحرّم في الإسلام هو كلّ ربا كان معروفاً لدى المسلمين، أو لم يكن معروفاً، ما دامت عِلّة الربا متحقِّقة فيه، إلى يوم القيامة. ذلك لأنّ نصوص الأحكام تحيط بجميع أفعال العباد إلى يوم القيامة في أي مكان رحمة منه سبحانه وتعالى بعباده.
فإذا كان الناس في جاهلية ابتدعوا نوعاً من التعامل المحرّم، أو تعلّموه من اليهود، فإنَّ الناس يمكن لهم في كلّ زمن أن يستحدثوا من وسائل التعامل بالمال والبيع ما فيه حرام وظلم، وبصورة خاصة عندما تُسْتحدث هذه الوسائل والأبواب في مجتمعات لا تلتزم بأحكام الإيمان وتشريع الإسلام، فيغلب عليها الظلم والعدوان واستغلال القوي للضعيف، والخداع والغش وغير ذلك، حيث يسود قانون بشريٌ لا يمكن له أن يرعى مصالح العباد كما يرعاها التشريع الرباني، مهما حمل من وسائل الزخرف والإغراء.
وعِلّة تحريم الربا هي الظلم واستغلال حاجة الضعيف للقوي، والفقير للغني، وبصورة عامة، "هي أكل أموال الناس بالباطل ".
ليست القضية قضيّة عقلية فقط، فالعقل البشري وحده لا يستطيع أن يكشف جميع أنواع الباطل وأساليبه الشيطانية، إلا أن يكون شرع الله هو الذي يهدي العقل وينير له الطريق، ولا يستطيع العقل وحده أن يدرك جميع حقائق الحكمة الربانية البالغة في تشريعه، وقد يدرك بعضها.
فالنظام الرأسمالي والفكر العلماني لا يمكن أن ينشأ منهما عدل حقّ ينبثق من أجواء الفاحشة بكلّ أنواعها، وأجواء العدوان والغزو وسرقة ثروات الشعوب. حتى العقل البشري سيضلُّ عن الصراط المستقيم حين تدفعه وتوجهه العلمانية ومذاهبها والرأسمالية وطغيانها والشهوات والنزوات وصراع المصالح المادّية الدنيوية، وضغوط ذلك كلّه.
إنَّ بعض المسلمين الذين أخذوا يُؤوّلون بعض ما حرّم الله في نُصوص ثابتة، إنما تأثّروا بهذا الجوّ الصاخب من الديمقراطية والعلمانية، حتى أصبح كثير منهم يتحاكمون إلى عقولهم وحدها، بعيداً عن نور الإيمان والتوحيد، وعن نصوص التشريع الربّاني، تؤثّر فيهم زخارف العلمانية وضغطها الكبير، وقد يلوون الآيات والأحاديث عن معناها الحقّ، أو يؤولونها تأويل هوى.
و"الضرورة " لها ضوابط وأحكام، فلا يجوز أن نغيّر أحكام الإسلام كلما وجدنا صعوبة في الواقع أو ضغطاً منه، ثمّ نُسمي ذلك " فقه الواقع ". فلا يوجد شيء اسمه " فقه الواقع "، لأن الفقه كلّه للواقع، والواقع كلّه ركن من أركان القفه. يمكن أن نقول " فقه الاقتصاد "، أو " فقه السياسة ". فالفقه له ثلاثة أركان: صفاء الإيمان والتوحيد، وصدق العلم بمنهاج الله، ووعي الواقع من خلاله لا من خلال هوى.(15/442)
لقد طوّر المجرمون في الأرض جميع أسباب الفتنة والفساد في الأرض، وسخّروا العلم لذلك كلّه، فقد تعددت ألوان الفاحشة وألوان الإغراء لها، وقد تطوّرت وسائل الظلم والعدوان، وسُخّر العلم لذلك، فلا عجب إذا طوّر المجرمون في الأرض وسائل أكل المال بالباطل، وأشكال الربا، واستحدثوا منها ما لم يكن متوافراً سابقاً، ولكنّ منهاج الله بنصوصه المطلقة الثابتة هو حقٌّ مطلق يحيط بأحوال العباد وأفعالهم في كل زمان ومكان. وإن بدا قصور فهو في جهد الإنسان وضعفه وليس في منهاج الله. لذلك جاء منهاج الله حقّاً مطلقاً للعصور كلّها وللبشرية كلها، وهذا وجه من وجوه إعجازه لا يبلُغه أيّ منهج بشري. عندما ندرس الواقع اليوم، وما قد يفرضه من ضرورة أو حاجة، فلا ندرس جزءً من الواقع ونغفل أجزاءً وأجزاءً ! فالمسلم الذي يرمي نفسه في أجواء الضرورة تحت هذا العذر أو ذاك، ولم يكن قد استفتى الإسلام حين رمى بنفسه في أجواء الضرورة أو الفتنة، حتى إذا عرضت له حاجة لا تتمّ له إلا بارتكاب الحرام، تذكر عندئذ الإسلام وأخذ يبرز حكم الضرورة والحاجة. وربما يكون ما يدّعيه بعضهم من حاجة وضرورة شرعية هو رغبة أكثر منها حاجة وضرورة، أو حاجة لتحسين مستواه يسميها ضرورة شرعية.
إنَّ ممارسة الحرام لا تجعله حلالاً، ولو كان تحت الضرورة. فالضرورة يجب أن تكون حالة غير مستديمة في أغلب الحالات، والتحريم مستديم.
والضرورة تكون لفرد أو أفراد، أمّا أنْ تكون للمسلمين جميعاً أو لقطاع واسع منهم، فتلك ضرورة تحتاج إلى وقفة طويلة، ودراسة واسعة أمينة لمعرفة سبب نشوئها وحقيقة حكمها.
فإذا كانت الحاجة والضرورة ناتجةً عن هوان المسلمين وعدم وفائهم بعهدهم مع الله، ولا بالأمانة التي يحملونها، أو ناتجة عن تقصير أدّى إلى تقصير، وتنازل أدّى إلى تنازل، حتى غلب الهوان على المسلمين، وخضعوا مستسلمين لغير شرع الله، وابتلاهم الله بما كسبت أيديهم، فتفرَّقوا ورضوا بالفرقة التي حرّمها الإسلام، وتمزّقوا ورضوا كذلك بالتمزيق، وتصارعوا وقد نهاهم الله عن ذلك، فَفُتِحَت القلوب والديار لأعداء الله الذين فرضوا شرعاً غير شرع الله، أنأتي بعد ذلك كلّه لِنُفتي لمن اضطرّته هذه التنازلات إلى ارتكاب ما يخالف الإسلام بجواز المخالفة، وندع المخالفة الأكبر والانحراف الأشدّ دون فتوى ؟! كيف يعقل هذا ؟!
لا يحلُّ لنا أن نلقي بهواننا وعجزنا وتقصيرنا وتفريطنا في أهمّ التكاليف الربَّانية على دين الله، ولا يحلّ لنا مع هذا كلّه أن نفتي لمن قنع واستسلم ورضي بحكم غير حكم الله في ألف قضيّة هامة وخطيرة، بجواز مخالفة هذه أو تلك تحت ادعاء ضرورة هو صنعها، أو صنعتها أمته وأهله.
إنَّ مفهوم الضرورة في الإسلام كان يحمل معناه والأمة المسلمة عزيزة قوية، ناهضة بمسؤولياتها. أما اليوم فللقضيّة كلّها صورة أوسع. وأول ما ندعو إليه أن ينهض المسلمون كلٌّ إلى مسؤولياته يطلب الآخرة يؤثرها على الدنيا. وأول هذه المسؤوليات الشرعية أن ينهض كل مسلم إلى الوفاء بحديث الرسو صلى الله عليه وسلم ، وبالآيات الكثيرة في كتاب الله، مما يفرض على كل مسلم أن يعرف دينه، وأن يعرف المسؤوليات التي سيحاسبه الله عليها والتي تقوم على الشهادتين والشعائر، التكاليف الربانية التي تنهض على الأركان الخمسة والتي تبني عليها. ومن أين يعرف المسلم هذه التكاليف الربانية إلا من منهاج الله. ونعيد ونذكّر بحديث رسول ا صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره :
( طلب العلم فريضة على كلّ مسلم )
ما بال بعض المسلمين اليوم يسألون عن الفتوى في حاجة عرضت لهم، ولا يسألون الفتوى فيما هم فيه من تقصير وعجز ومخالفة وهوان. ومن الذي عليه واجب إيقاظ المنتسبين إلى الإسلام بمسؤولياتهم الفرديّة والتكاليف الربانية ؟!
فإذا رضي هذا وذاك قرناً أو قرنين أو قروناً بمخالفة الإسلام والتنازل عن شرعه وأحكامه، أفيأتون ليستفتوا في حاجة عرضت، جاهلين حاجات أخرى ومسؤوليات أخرى.
أما من وجد أنه أوفى بعهده مع الله، وبالتكاليف الربَّانية، واستوعب ذلك جهده وعلمه وطاقته وأمانته، فنقول إن حسابه وحسابنا كلّنا عند الله سبحانه وتعالى.
لذلك لا بدّ من تناول قضايا واقع المسلمين اليوم ـ نتناولها واحدة واحدة حسب أهميتها في ميزان الله، لتُدْرس ويوضَع لها العلاج النابع من الكتاب والسنة، على صورة منهجيّة تجتمع عليها الأمة صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص.
ولا أجد في واقع المسلمين اليوم إثماً ولا معصيّة أشدّ من تفرِّق المسلمين بما كسبت أيديهم.(15/443)
من خلال ذلك كلّه، لا بدّ أن يتحمّل المسلم نفسه مسؤولية الضرورة التي تدفعه إلى إثم أو معصية، وأن يتخذ هو قراره بنفسه دون أن تصدر فتوى عامة للمسلمين تبيح ارتكاب ما حرّم الله فيتحمّل واحدٌ آثام الجميع. ومن وجد أنه لا يستطيع أن يُفتي لنفسه فليسأل من هو أعلم منه، على أن ينهض فوراً إلى مسؤولياته الفرديّة والتكاليف الربانية المنوطة به، وإن مثل هذا النهوض هو أول الخطوات لمعالجة هذه الأمراض، وعسى أن يغفر الله به لعباده المؤمنين الذين التقوا صفاً واحداً يجاهدون في سبيل الله على نهج وخطة.
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم (5057).
(2) الرحيق المختوم : صفي الرحمن المباركفوري ـ ص: 421. وسائر كتب السيرة.
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : ( 3913).
=============(15/444)
(15/445)
العلمانية وخديعة استبعاد الدين
[الكاتب: يحيى هاشم حسن فرغل]
زعموا أن العلمانية سر التقدم في العالم المعاصر الذي ما حدث إلا بخلع الدين.. ولقد زيفوا فيما زعموا.. ثم كذبوا..
أما أنهم زيفوا فذلك أنهم - ضمن " حرب المصطلحات " كما بينا في المقال الأسبق - أدخلوا إلى البيئة الإسلامية مصطلح العلمانية، لغير مشكلة فيها، ثم استوردوا له المشكلة، ونادوا بدوره في حلها!!
وأما أنهم كذبوا فلأن الدولة الدينية مازالت في صلب الدولة الحديثة شديدة التطور في أوربا وأمريكا
وقد بينا في مقال سابق أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنوير والحداثة لإبعاد المسلمين عن دينهم أولا ثم لتنصيرهم من بعد ذلك وهاهو التنصير في فرصته التاريخية ومرحلته الجديدة بدءا من العراق.
وسوف نبين في مقال قادم نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحتفال والاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء إلى حد اشتراك العلمانيين أنفسهم في " زفة " هذا التقدير.
وسنبين هنا تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يلقي على دعاة العلمانية بتهمة خداع الرأي العام الإسلامي في دعوتهم إياه إلى استبعاد الدين بحجة التقدم!!
ونهتم بأن نذكر من ذلك كله ما كان قبل ظهور مجموعة بوش والمحافظين الجدد قبيل الحادي عشر من سبتمبر 2001 رفعا لتوهم أنها حالة عابرة.. كما أننا لم نقتصر على ملابسات خاصة بأحزاب المحافظين أو المتشددين رفعا لتوهم أنها حالة حزبية معزولة.. كما أننا لن نذهب بعيدا في التاريخ رفعا لتوهم أنها حالة ماضوية كما يود العلمانيون لنا أن نفهم.
وإذا كان من المشهور اليوم ظهور التلاحم بين السياسة والدين في مجال البروتستنت - في نموذج المحافظين الجدد - فسوف نهتم هنا بإبراز ذلك التلاحم في مجال الكاثوليك.. وإذا كان من المشهور اليوم اشتغال رجال السياسة بالدين فسوف نهتم هنا غالبا بإبراز اشتغال رجال الدين بالسياسة.
وفيما يختص ببيان تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية:
يقول الأمير شكيب أرسلان: (هل يظن الناس عندنا في الشرق أن نهضة من نهضات أوربا جرت دون تربية دينية؟ أفلم يقل رئيس نظار ألمانيا في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات - نشر الأمير كتابه عام 1930 -: إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي؟) [أنظر لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم: طبعة 1965 / ص 147].
وفي ألمانيا الديموقراطية قبل الاتحاد الذي تم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي - وقد كانت تقوم على تعاليم ماركس وإنجلز ولينين أصبح مارتن لوثر - بالرغم من ذلك - أحد آبائها الأيديولوجيين، حيث اعتبرته المدرسة الماركسية من خلال إنجلز رائدا لثورة اجتماعية سياسية لم يكن عنده الجرأة على استيعاب ما يترتب عليها!!
أما في ألمانيا الاتحادية - وأيضا بعد اندماج الألمانيتين بالطبع - فإن الدين ملتصق بالدولة تحمي مؤسساته ومصالح هذه المؤسسات سواء كانت لوثرية أو كاثوليكية، والكنائس في ألمانيا تعتبر أغنى كنائس العالم، والتعليم الديني إجباري في المدارس إلى سن الرابعة عشرة، إذ يفرض على الطالب البروتستانتي تعلم اللوثرية، وعلى الطالب الكاثوليكي تعلم الكاثوليكية.
وفي بريطانيا: أين هو الفصل بين الكنيسة والدولة؟ أليس ملك بريطانيا هو رئيس الكنيسة في الوقت نفسه؟
وإذا كان العلماني المعروف الأستاذ أحمد بهاء الدين أراد أن يخفف عنا هذه الحقيقة بقوله: (ملكة انجلترا هي رئيسة الكنيسة الإنجليزية ولكنها لا تأمر أو توجه ناقلة رأي الكنيسة إلى البرلمان المنتخب من الشعب)، فإن الحقيقة لا تنتهي عند هذه النقطة كما يريد لنا الكاتب أن نفهم، لأن السؤال هو: وما دور البرلمان المنتخب من الشعب بعد أن تنقل إليه الملكة رأي الكنيسة؟
واقرءوا معنا قصة الإفخاريستا... يقول الأمير شكيب أرسلان: (لم يحدث في التاريخ أن مسألة من مسائل انجلترا الداخلية أخذت في الأهمية الدور الذي أخذته قصة " الأفخاريستا " وهي قصة تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح..(15/446)
وأصل هذه العقيدة ما رواه الإنجيل من أن السيد المسيح عليه السلام قبل صعوده إلى السماء تمشى مع تلاميذه وودعهم، وبينما هو على المائدة تناول لقمة من الخبز وقال: كلوا هذا جسدي، وشرب جرعة من الخمر وقال: اشربوا هذا دمي، فتكونت من هذه الكلمات في النصرانية عقيدة معناها أن الخبز والخمر يستحيلان إلى جسد الرب تماما حقيقة لا مجازا، ولما كان القسيس هو خليفة المسيح كان لابد له كل يوم عند التقديس في الكنيسة أن يتناول لقمة من الخبز ويشرب رشفة من الخمر وهو يتلفظ الكلمات التي تفوه بها السيد المسيح عليه السلام في أثناء عشائه مع الحواريين. فمتى فعل ذلك تحول هذا الخبز وهذا الخمر إلى جسد الرب حقيقة لا مجازا، ولذلك يوضع هذا الخبز ويسمونه القربان في حُق ثمين فوق المذبح من الكنيسة، ويسجدون له، وذلك باعتبار أن هذا القربان هو الإله نفسه، ويسمون وجود الله فيه بالحضور الحقيقي.
وقد كانت هذه العقيدة هي عقيدة المسيحيين جميعا ولا يزال عقيدة أكثرهم إلى اليوم، إلا أنه عندما جرى الإصلاح البروتستانتي تغير الاعتقاد عند أتباعه بقضية الحضور الحقيقي، وقالوا: إن هذا مجاز لا حقيقة، وأنه مجرد رمز وتذكار، وعدلوا عن وضع القربان فوق المذبح والسجود له باعتبار أنه هو الإله بذاته، وصاروا في كنائس البروتستانت يجعلون هذا القربان في تجويف خاص به من الحائط.
ولكن الكنيسة الإنجليكانية - الكنيسة العليا في انجلترا - لم يتفق رأيها في قضية القربان: أن يكون التحول فيه حقيقيا أو مجازيا؟ وأصبحت مسألة خلافية بين اليمين والوسط واليسار، وخيف فيها من انشقاق عام. عندئذ أمرت الحكومة البريطانية بتأليف مجمع من الأساقفة تحت رياسة أسقف كانتربري لحل المشكلة، فانعقد المجمع زمنا طويلا ولم يوفق إلى حل. وأخيرا ألحت الحكومة على هؤلاء الأساقفة بأن يبتوا في القضية، فحكموا بالأكثرية - مع مخالفة ستة من المطارنة - بأن الخبز والخمر يستحيلان في قداس الكاهن إلى جسد المسيح ودمه، وعليه يجب عبادتهما والسجود لهما ووضعهما في أعلى المذبح لا في كوة حائط الكنيسة، يعني انهم رجعوا في ذلك إلى العقيدة الكاثوليكية.
هذا ولما كان القانون الأساسي لبريطانيا يوجب القول بالفصل في جميع القضايا الدينية لمجلس اللوردات ولمجلس العموم، عملا بكتاب الصلاة الذي هو مرجع الأمة الإنجليزية أحيل حكم المطارنة هذا إلى مجلس اللوردات، وكانت للمناقشات فيه جلسات متعددة بلغت من اهتمام الملأ ما لم تبلغه المناقشات في أية مسألة.. وأخيرا؛ أيد مجلس اللوردات بالأكثرية قرار مجمع الأساقفة، فلما جاءت القضية إلى مجلس العموم نقضوا قرار مجلس اللوردات وحكم مجمع الأساقفة، وقرروا أن الخبز والخمر لا يستحيلان بداهة إلى جسد السيد المسيح ودمه، واستندوا في ذلك إلى كتاب الصلاة المشار إليه سابقا، وعلى إثر هذا القرار من مجلس العموم استعفى رئيس أساقفة كنتربري من منصبه!!).
ويعلق الأمير شكيب ارسلان فيقول: (أين فصل الدين عن السياسة وأنت ترى أن مسالة دينية بحتة تطرح في مجلس اللوردات ومجلس النواب ويفصلان فيها، فإن لم تكن هاته المسألة دينية فما الديني إذن؟ وإن لم يكن مجلسا الشيوخ والنواب مختصين بالسياسة فما المجالس التي تختص بالسياسة بعدهما؟ فليتأمل القارئ المنصف مدى التضليل الذي يقوم به المضللون من المسلمين.. إما جهلا وتعاميا عن الحقيقة وإما خدمة للاستعمار الأوربي الذي ليس له غرض أعز عليه من أن يأتي على بنيان الإسلام من القواعد) [أنظر كتاب " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم": للأمير شكيب أرسلان / ط 1965 / الهامش ص 97 - 101].
ولنستمع إلى شهادة الشاعر والفيلسوف الإنجليزي الشهير ت. س. إليوت في كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " إذ يقرر أن الثقافة الأوربية العلمانية لم تقتلع المسيحية من جذورها ولكنها تعايشت معها وليس ذلك راجعا إلى مصالحة بين المسيحية والعلمانية ولكنه راجع إلى تملك الدين لناصية الثقافة في أي شعب إذ أن (تكوين دين هو تكوين ثقافة أيضا) أما عن أوربا المسيحية بالذات فإنه يقول: (إن سنن المسيحية المشترك هو الذي جعل أوربا ما هي)، وإذ يقول: (حين ندافع عن ديننا فلا بد لنا في معظم الأمر من أن نكون مدافعين عن ثقافتنا في الوقت نفسه والعكس بالعكس)، ويقول: (في المسيحية نمت فنونا وفي المسيحية تأصلت قوانين أوربا، وليس لتفكيرنا كله معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي)، (وقد لا يؤمن فرد أوربي بأن الإيمان المسيحي حق، ولكن ما يقوله ويصنعه ويأتيه كله من تراثه في الثقافة المسيحية ويعتمد في معناه على تلك الثقافة)، ويقول: (نحن مدينون لتراثنا المسيحي بأشياء كثيرة إلى جانب الإيمان المسيحي، فمن خلال ذلك التراث تنبع فنوننا، ومن خلاله نلقي مفهومنا للقانون الروماني الذي فعل ما فعل في تشكيل العالم الغربي، ومن خلاله نلقى مفاهيمنا عن الأخلاق الخاصة والعامة) [أنظر كتابه " ملاحظات نحو تعريف الثقافة ": ص 80، 145، 146].
ومن هنا يمكننا القول بأن أوربا مسيحية حتى في علمانيتها.(15/447)
وفي هذا المعنى يقول الدكتور محمد عصفور: (إن عديدين من الفقهاء لا يترددون في أن يضفوا على الديموقراطية نفسها الطابع الديني، فمنهم من ردها إلى أصول مسيحية، ومنهم من اعتبر الديموقراطية العلمانية ذات طبيعة دينية، أو متعصبة دينيا حتى إن زعمت الفصل بين الدين والدولة) [جريدة الوفد: في 17\ 7\1987].
وكأنه يشير في هذا إلى القاعدة العلمانية المأخوذة من الكتاب المقدس: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وكأن العلمانية هي الأقرب إلى المسيحية من الكنيسة عندما كانت الكنيسة تمارس السلطة السياسية انحرافا منها وشهوة دنيوية ، وكأن العلمانية في بلادنا لا تصادم الإسلام فحسب ولكنها أحد أوجه النشاط التبشيري التابع للكنيسة، ومن ثم كان لابد للعلمانية من أن تبدي الاحترام إلى حد الانحناء أمام الكنيسة والفاتيكان على الخصوص.
أما في الولايات المتحدة فقد أوضح الدكتور يوسف الحسن الدبلوماسي بدولة الإمارات أن الدين يهيمن على أخطر القرارات السياسية والدولية وذلك في رسالته للدكتوراة بعنوان "الاتجاهات الصهيونية في الحركة الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة"، التي قدمها لكلية الاقتصاد والعلوم السياسة بجامعة القاهرة بإشراف الأستاذ الدكتور إبراهيم درويش ومشاركة الأستاذ الدكتور كمال أبو المجد والدكتور محمد عصفور وقد أجيزت الرسالة بامتياز ومرتبة الشرف مع تبادل الرسالة مع الجامعات الأجنبية.
وتبين الرسالة أن أخطر معتقدات هذه المسيحية الصهيونية تلك النبوءة التوراتية عن عودة اليهود إلى فلسطين، وإقامة دولتهم وملكهم فيها، وترتبط هذه النبوءة بشطر آخر يربط بين إقامة دولة إسرائيل وبين التبشير بعودة المسيح ليحكم باسم النصرانية ألف عام قبل أن تقوم القيامة. كذلك ترتبط بنبوءة لاهوتية عن قرب نهاية العالم حينما تغزو جيوش " السوفييت " وإيران والعرب والأفارقة والصين!! دولة إسرائيل.. عندئذ يعود المسيح إلى الأرض بجيش من القديسين لمعاقبة غير المؤمنين وتحطيمهم في معركة تقع بسهل المجدل بفلسطين.
ولقد كسبت الصهيونية اليهودية الكثير من وراء سيطرة هذه النبوءات على عقول الساسة الأمريكيين والإنجليز والبروتسانت والرؤساء الأمريكان: ويلسون، وروزفلت، وكارتر، وريجان، والرؤساء الإنجليز: بالمرستون وبلفور وتشرشل وغيرهم - هكذا قبل أن يظهر على المسرح " محافظون جدد " ولا يحزنون، كما يحاول بعضهم أن يقزم القضية ويحصرها في أمثال بوش، ورامسفيلد، وولفوفتز وبيرد وأمثالهم.
وتستخدم الحركة الأصولية الصهيونية المسيحية نفس الأساليب والوسائل التي تستخدمها المنظمات والمؤسسات غير الدينية للتأثير في السياسة العامة، وقد ملكت في العقود الأخير وأدارت احدث أدوات الاتصال الجماهيري من محطات مسموعة ومرئية، وصارت لها مؤسساتها ولجانها وقنواتها،وقدرت ثرواتها بالمليارات، وبلغ مجموع ما قدمه الأمريكيون من تبرعات ومساهمات لهذه الكنائس في عام واحد هو 1982 حوالي واحد وستين مليارا من الدولارات. وقدرت نسبة الأمريكيين المستمعين والمشاهدين لبرامجها عام 1980 بحوالي 47% من مجمل السكان.
ويواصل الدكتور محمد عصفور تلخيصه لنتائج الرسالة المشار إليها فيقول: (وحتى ندرك ما تملكه الحركة الأصولية المسيحية الصهيونية من قوة اقتصادية هائلة يكفي أن نعلم أن ما أنفقته إحدى منظماتها على الدعاية في محطات التليفزيون وكذلك على التنظيم والتعبئة السياسية خلال انتخابات 1984 حوالي مائة مليون دولار، وهو يفوق ما أنفقه ريجان ومنافسه مونديل معا خلال الانتخابات، ولا تقتصر اهتمامات الحركة بمساندة إسرائيل وإن كانت تستحوذ على جانب كبير من نشاطها - فهي بالإضافة لذلك لها اهتمامها بصياغة السياسة الأمريكية الخارجية سواء بالنسبة لبرامج المساعدات الدولية وبخاصة في العالم الثالث، أو طبع السياسة الخارجية بطابع العداء للشيوعية (!!)، وزرع هذا العداء في العقل الشعبي وفي فلسفة المجتمع وتسخيره دوليا لإقرار سياسة دولية إرهابية).
هذه السياسة الدولية الإرهابية ضد المدنيين التي تمتد منذ إسقاط الأسطول الأمريكي في الخليج في عام 1988 أثناء حرب الخليج طائرة مدنية أغلبها مسلمون أهلكت ركابها الثلاثمائة إلى سلسلة المذابح والدمار الذي يتساقط فوق رءوس المسلمين في بيوتهم وشوارعهم ونواديهم ابتداء من فلسطين وأفغانستان والعراق وهلم جرا!
فهل قرأت عقول ساستنا ودعاتنا وعلمانيينا وأبناء جلدتنا من عرب المهجر ومسلميهم مثل هذه الدراسة الجادة قبل أن تلتصق رقابنا بمذبح هذه العقيدة الصهيونية المسيحية بعقود، أم أنها انتظرت حتى تكتشف ببلاهة شماعة رامسفيلد وولفوفيتز كأنهم " أمسكوا الديب من ديله " وإذا بهم لا يمسكون غير ديل صناعي مقطوع؟ مع الاعتذار للمثل الشعبي، أم أنهم علموا وتعاموا بفعل التماهي العلماني بينهم وبين هذه الصهيونية المسيحية " الدينية "؟
ويعلق الدكتور محمد عصفور فيقول: (إنه من الشاذ أن تكون أقوى الأحزاب الأوربية هي الأحزاب المسيحية وأن تكون أقوى الحركات السياسية هي الحركة الأصولية المسيحية ثم تحظر في بلادنا الأحزاب الدينية؟)(15/448)
ولنقطع هنا سياق هذا التعليق الذي كتبه الدكتور محمد عصفور منذ عشرين عاما لنسوق ردا على مثل سؤاله صدر منذ أيام قلائل من الدكتور بلتاجي وزير السياحة - سابقا - والإعلام حاليا بمصر في قناة فضائية وهو يبرر عدم السماح بإنشاء حزب إسلامي في مصر بحجة أن إنشاء هذا الحزب رسميا - بالرغم من الاعتراف بوجوده فعليا - يعني أن غير المنتمين إليه ليسوا مسلمين، متجاهلا أن مثل هذه الحجة لو صحت فإنها تعني عدم السماح بإنشاء أي حزب في أي مكان في العالم، لأن أي حزب من الأحزاب في جميع أنحاء العالم سوف توجه إليه التهمة الساذجة نفسها، في حين أنه لا يضم ولا يدعي أنه يضم جميع الأفراد الذين ينتمون إلى عقيدة الحزب، وإنما هو على أقصى تقدير يدعي أنه يضم من " يتبرع للعمل الحركي لهذا الحزب " أو ذاك، والمحاكمة أوالمحاسبة في هذا ترجع لبرنامج الحزب المسموح به قانونا: إن كان يدعي هذا الأمر أو ذاك، ولو طبقنا هذا المقياس على إنشاء الحزب " الوطني الديموقراطي " الذي ينتمي إليه الوزير نفسه لكان معنى ذلك أن في قيامه اتهاما لغير من ينتمي إليه باللاوطنية واللاديموقراطية، وهو ادعاء ظاهر البطلان.
كما ادعى الوزير أن السماح بإنشاء حزب إسلامي يعني السماح بإنشاء حزب مسيحي؟ ولم لا؟ وحجة الوزير في عدم السماح بذلك أن إنشاء أحزاب إسلامية وأخرى مسيحية يعني إثارة الفرقة الطائفية منطلقا من عقيدة الحزب الواحد الأحد، متناسيا أن للمسيحيين - دون غيرهم - في مصر مؤسستهم الأقوى من أي حزب، وهي الكنيسة بما لها من صلاحيات صارمة في جميع المجالات، فإنشاء حزب لهم لا يعنيهم كثيرا، وهو ليس إلا تحصيل حاصل من درجة اقل في حال قيامه، متجاهلا في الوقت نفسه فلسفة إنشاء الأحزاب نفسها - في الفكر الديموقراطي الذي اصبح الجميع يدعيه - وأنها تقوم على فلسفة الاعتراف بواقع التعددية والممارسة السلمية مختلفة تماما عن الفلسفة الإستئصالية للحزب الواحد الذي أخذ يتوارى عن الساحة السياسية في العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي
لكنها العقلية العلمانية التي تتكشف من رماد بيئة استئصالية لازالت تداعب عقول الكثيرين.
ولنرجع إلى تعليق الدكتور محمد عصفور إذ يقول موجها كلامه إلى العلمانيين: (أن يسائلوا أنفسهم: كيف تسيطر المعتقدات بل والأساطير الدينية إلى هذا الحد على مصائر الشعوب؟ وعليهم أن يستمعوا إلى ما يقوله القس الأمريكي " بريان هيهيو " من أن الكنائس الأمريكية مؤسسات رئيسية، وأنها وإن لم تكن أحزابا سياسية إلا أن دورها واضح في تشكيل وتعبئة جمهور من الأنصار الملتزمين بمنهجها في المسائل السياسية الخارجية).
ويقول الدكتور محمد عصفور في تعليقه على رسالة الدكتور يوسف الحسن: (على الرغم من أن مبدأ الفصل بين الدولة والكنيسة مبدأ دستوري مقرر بالتعديل الدستوري الأمريكي الأول إلا أن للكنيسة والدين هيمنتهما على الحياة الأمريكية في شتى مناحيها، وارتكازا على هذا الواقع أعلنت الحركة المسيحية الأصولية عن أهدافها السياسية بصراحة شديدة، ولذلك قال قادتها: (إن حركتهم تعني الاستيلاء على الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها).(15/449)
وقال أحد زعمائها: (نحن ثوريون، نعمل على قلب التركيبة الحالية في الولايات المتحدة الأمريكية.. نحن نتحدث عن مسحنة الولايات المتحدة الأمريكية) ولهذا السبب فإنه - وإن بدا أن السلطة السياسية يتقاسمها الحزبان الديموقراطي والجمهوري إلا أن الحركة الأصولية المسيحية والمسيحية السياسية عامة تكون القوة السياسية الغالبة، ليس فقط من خلال التحالف مع اليمين الرجعي في الحزب الجمهوري -!! - وإنما كذلك من خلال التحكم في العملية الانتخابية والتأثير الشديد في ملايين الناخبين الذي تجندهم الحركة لمؤازرة هذا المرشح للرياسة أو ذاك، ولم يكن من المبالغة أن تعتبر الحركة المسيحية الأصولية: " أهم ظاهرة سياسية في القرن العشرين "، وأن يتوقع لها اللاهوتي الإنجليزي " جيمس بار " أن تستمر خمسمائة عام على الأقل " ولم تبق هذه الظاهرة الدينية السياسية مقصورة أو محصورة في نطاق ما تبشر به هذه الحركة، وإنما هي امتدت إلى انتخابات الرياسة الأمريكية بل وانتخابات الكونجرس الأمريكي، فقد لوحظ - وبحق - أن الشعب الأمريكي انتخب في العقد الأخير رئيسين يؤمنان بأهمية الدين في المجتمع الأمريكي وبحلول عام 1980 كان ثلاثة من المرشحين لرياسة الجمهورية يرفعون نفس الشعار، كما كان واضحا أن مسألة الدين قد احتلت الصدارة في مناقشات الحملات لعام 1984 سواء على شكل التغطية الصحفية، أو التعليقات الإعلامية، أو في تأثير ذلك في المجتمع نفسه، وبينما أعلن كارتر عام 1976 عن شعاره وإيمانه بعقيدة الولادة الثانية كمسيحي B r on Aqain عبر ريجان في 23 أغسطس 1984 في خطاب له بمدينة كنساس عن إيمانه بدور الدين في المجتمع الأمريكي رغم تأكيد التعديل الدستوري الأول لمبدأ الفصل بين الدين والسياسة أو الفصل بين الكنيسة والدولة، ومما جاء في خطابه قوله: " يلعب الدين دورا حاسما في الحياة السياسية لأمتنا) [أنظر سلسلة مقالات للدكتور محمد عصفور بجريدة الوفد حوالي
17\7\1988].
وأخيرا ليقل لنا العلمانيون في بلادنا: هل يسمحون بوضع شعار ديني على ورق البنكنوت كما هو الحال في أوراق البنكنوت الأمريكية؟
ويقول الأستاذ الدكتور محمد البهي عن العلمانية في أوربا بوجه عام: (إن الموطن الذي ولد فيه الفكر العلماني - وهو إنجلترا وفرنسا وألمانيا - لم يأخذ بالاتجاه العلماني في التطبيق في الحياة العملية: التاج البريطاني لم يزل حاميا للبروتستنت، وفرنسا لم تزل حامية للكثلكة في صورة عملية، والدولة في انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا رغم إعلان أنها علمانية تساعد المدارس الدينية من ضرائبها التي تجبيها من المواطنين مع علمها باستقلال هذه المدارس في برامجها التعليمية، وببعدها عما تجريه الدولة من تفتيش على النفقات التي تنفقها) [ص: 30]
وعندما كتب الدكتور البهي ثلاث مقالات بمجلة الأزهر عام 1985 عن المستشرقين والمبشرين واعتبرت بعض دوائر الفاتيكان أنها تنطوي على بعض الإحراج لشئون التبشير الكاثوليكي كان أول احتجاج وصل إلى وزارة الخارجية المصرية هو احتجاج سفارة الولايات المتحدة الأمريكية تلاه احتجاجات أخرى عديدة من السفارات الغربية التي تمثل في بلادها أكثرية بروتستنتية أو كاثوليكية على السواء، مما يدل على أن الدولة العلمانية الغربية لم تزل ترعى المسيحية كدين والكنيسة الأوربية كسلطة دينية وتحرص على تمكينها من مباشرة رسالتها، كحرصها على حماية أملاك الكنيسة الأوربية وكحرصها على جباية الضرائب الخاصة بالكنيسة الأوربية عن طريق أجهزتها الإدارية.
وحتى رجال الدولة أنفسهم في ممارستهم السياسية العامة للمجتمع يخضعون في ظروف معينة لملاءمة أنفسهم مع تقاليد الكنيسة الأوربية، وعلى سبيل المثال: دوق أوف وندسور وأنتوني إيدن في انجلترا: كلاهما اضطر إلى ترك الوظيفة العامة أو عدم السعي إليها لأن سلوك كل منهما في حياته الزوجية لا يتفق مع ما تراه الكنيسة الأوربية من تقاليد في الزواج.
والجنرال ديجول في فرنسا أقال وزير التربية الاشتراكي في وزارته بعد أن عاد للحكم في المرة الثانية بسبب عدم موافقة الوزير على مساعدة المدارس الدينية في فرنسا من مدارس الجيزويت والفرير بمبلغ ستين مليونا من الجنيهات الاسترلينية في ميزانية 1963 من غير حق التفتيش عليها من قبل وزارة التربية.
ودولة الفاتيكان لم تزل تقوم من جانبها بدور كبير في سياسة البلاد ذات الأغلبية الكاثوليكية عن طريق الأحزاب السياسية التي تسمى بالديموقراطية المسيحية وكذلك في السياسة الدولية العالمية، فالأحزاب الديموقراطية المسيحية هي أجهزة للعمل على رسم الخطة لتنفيذ اتجاه الفاتيكان بالدرجة الأولى وعن طريقها حالت الكنيسة الأوربية دون أن تتطرف العلمانية إلى النوع الثاني الذي يقيم البلشفية دينا بدل المسيحية أو عملت على إسقاطها بعد قيامها [أنظر العلمانية والإسلام بين الفكر والتطبيق" للأستاذ الدكتور محمد البهي نشرة مجمع البحوث الإسلامية ص 44 وما بعدها].(15/450)
وجاك شيراك عندما سعى لمنع المحجبات المسلمات من المدارس العامة بدعوى العلمانية الفرنسية كان حريصا على تمرير الصليب والطاقية حصرا عندما استثنى الرموز ذات الحجم الصغير.
وفي بلد مثل فرنسا لعبت دورا بارزا في تاريخ الفكر العلماني ينص مشروع دستور الاتحاد الاوربي الجديد على أن المسيحية هي الإطار الثقافي الذي يتميز به الاتحاد ويشكل أساس الهوية الأوربية، ومعروف أن الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان هو الذي أشرف على أو تولى صياغة مشروع هذا الدستور، وكان هو أحد المعترضين على قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي لأنها دولة إسلامية سوف تخل بالهوية الاوروبية.. [من مقال أحمد عباس صالح بجريدة الشعب الألكترونية بتاريخ 5\7\2003].
ومن هنا تتبين المغالطة الخبيثة التي تروجها العلمانية في بلادنا: في القول بأن التقدم الأوربي تحقق عن طريق استبعاد الدين أو فصله عن الدولة، وتتبين دلالة الصرخة التي انفلق عنها رأس العلماني الذي عاين مكانة البابا في الولايات المتحدة الأمريكية عندما قال: (هل وقعنا نحن المسلمين ضحية لعبة شديدة الخبث خرجنا منها بلا صواريخ ولا دين، بل بالفقر والكفر، بينما احتفظ الآخرون بدينهم ووضعوا أعلامهم فوق القمر).
ولا نريد أن نذهب بعيدا فالصلة القائمة هناك بين الدين والدولة لا تعني انفصالا كما لا تعني اندماجا وهي في الوضعية نفسها للصلة بين السلطات المختلفة في كيان الدولة: وهو فصل يتم تحت مظلة الدولة الواحدة ويظهر لنا أن الأمر لا يعدو أن يكون نوعا من الفصل بين السلطات: سلطة التشريع، وسلطة القضاء، وسلطة التنفيذ، وسلطة رجال الدين، مع إعطاء كل سلطة حقها الكامل في التأثير على الحياة الدنيا، وهو نموذج لا يمكن نقله إلينا أيضا لأنه لا سلطة في الدين الإسلامي لما يسمى رجال الدين، ولن الدين الإسلامي لا يسمح بان يكون له مكان دون مكان المشروعية العليا.
وبهذا بينا قوة تداخل المفاهيم الدينية في بنية الدولة في الغرب وخططها السياسية مما يعني انه على العلمانيين في بلادنا أن يراجعوا أنفسهم ويكفوا عن الزعم بان التقدم مرتبط باستبعاد الدين عن تنظيم شئون الحياة الدنيا اللهم إلا إن كانوا بقايا فلول العلمانية الماركسية.
وسنبين في المقال القادم - إن شاء الله - أنه في علاقة الغرب بنا كانت حروبهم معنا دينية، ليس ذلك فحسب في حروبهم التاريخية المتقادمة ضدنا في الحروب الصليبية، أوفي حروبهم ضد المسلمين في الأندلس ولكن في حروبهم ضد المسلمين في عقر دار العصر الحديث عصر التنويروالحداثة!!
كما نبين إن شاء الله نشاط كنائس الغرب في مجال السياسة نشاطا يلقى الاحترام والاعتراف والتقدير من الجماهير والرأي العام وأصحاب النفوذ على السواء.
============(15/451)
(15/452)
كراهية الغرب للمسلمين .. متى تنتهي ؟
الإسلام اليوم - القاهرة 11/4/1423
22/06/2002
قضية العلاقة بين الإسلام والغرب .. شائكة وحساسة ومليئة بالمرارات والعداوات
فما هي المحطات التي أدت إلى هذه الحال المعقدة من الكراهية ؟!
وهل يمكن التغلب على هذه الحال وإقامة علاقات أكثر رشدا وأكثر عدالة ؟
" محطات الكراهية "
في البداية نقف مع المحطات الرئيسة للاحتكاك بين الإسلام والغرب، والتي أدت إلى هذه الكراهية مع الدكتورة نادية مصطفى أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة التي تقول إن المحطة الأولى كانت بعد ظهور الإسلام مباشرة وانتشاره في شبه الجزيرة العربية وكانت قسمين .. القسم الشرقي البيزنطي وكان موجودا في الشام ومصر وأماكن شرقية أخرى وكان الأقوى .. وقسم غربي في أوروبا بين الفرنسيين والألمان نتج عنه ممالك جزئية صغيرة .
وهكذا فقد احتك الإسلام بالجزء الأقوى من الدولة الرومانية المسيحية الأوروبية وهو الجزء البيزنطي الشرقي وأجلاه عن الشام ومصر بعد معارك طاحنة وطويلة وممتدة .
والمحطة الثانية كانت في وصول الإسلام إلى الأندلس جنوبي أوروبا في عهد الخلافة الأموية .. واستقر الإسلام في هذه المنطقة الأوروبية لحوالي ست مئة عام، وكان يمكن أن يتوغل في فرنسا وألمانيا .
هذا الوجود والانتصار الإسلامي ثم المعارك التي خاضها الأوروبيون ضده .. وإبادة المسلمين الذين بقوا بعد زوال دولتهم .. أوجد كراهية للإسلام والمسلمين .
أما المحطة الثالثة فجاءت في الحروب الصليبية الحاقدة التي رفعت الصليب واستمرت لأكثر من مئتي عام، واحتلت بيت المقدس وكثيرًا من البلاد العربية، ولقيت هزيمة كبيرة وارتكب فيها الصليبيون مجازر مروعة ضد المسلمين .
والمحطة الرابعة كانت في فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية المسيحية وما أعقب ذلك من قيام الدولة العثمانية التي وصلت إلى غرب ووسط أوروبا وحتى حدود النمسا الحالية لدرجة أن الوجود الإسلامي في وسط أوروبا مثل ألبانيا وكوسوفا ومقدونيا والبوسنة هو بفضل الوجود العثماني ، ووقفت الدولة العثمانية طيلة خمس مئة عام في وجه الأطماع الأوروبية ومنتصرة عليها ..
أما المحطة الخامسة فكانت في حركة الاستعمار الأوروبي للعالم العربي والإسلامي التي جاءت في أعقاب عصر النهضة والكشوف الجغرافية .. ونتج عن ذلك إحاطة الاستعمار الأوروبي المسيحي بالعالم الإسلامي واستيلائه على هذه البلاد واستعماره لها ونهبه لثرواتها .
وكانت المحطة السادسة في حركات التحرر التي قامت في العالم العربي والإسلامي للتخلص من الاستعمار وما نتج عن ذلك من صراع دموي راح فيه الملايين من المسلمين كما حدث في الجزائر .
وكانت المحطة السابعة في إنشاء الغرب الأوروبي والأمريكي لإسرائيل كرأس حربة في قلب العالم العربي والإسلامي .. وكيان صهيوني يحافظ على المصالح الغربية الاستعمارية ويقف ضد وحدة العالم العربي والإسلامي .
أما المحطة الثامنة والأخيرة فهي معركة مكافحة ما يسمى بالإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها أوروبا ضد العالم العربي والإسلامي في أعقاب تفجيرات سبتمبر الماضي .. واستهداف أمريكا لكل حركات المقاومة في العالم الإسلامي .
هذه المحطات هي محطات صراع متواصلة ساعدت على تضخم حالة الكراهية المتبادلة بين الطرفين .
" صورة ذهنية مشوهة "
أما د. صلاح عبد المتعال الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية فيقول: إن نوعية الحياة في الغرب ارتبطت أساليبها بوحشية النظام الإنتاجي الرأسمالي ، وضرورة ضمان أسواق له في شتى بقاع العالم ، وابتداع نظام الشركات متعددة الجنسية وحمايتها بكل السبل ، إلى درجة تبرير التدخل العسكري السافر .. وأخيرا قهر الدول للانضمام إلى اتفاقية (الجات) التي ستؤول فوائدها بشكل جوهري إلى الدول الأكثر تقدما على حساب الأخرى المتخلفة والأقل نموا .
أهم من ذلك أن الغرب يتصور واهما أن حضارته ومدنيته أسبق وأفضل الحضارات والمدنيات .. ولها الحق في قيادة غيرها من سائر البشر .. يساعدهم على ذلك تمكنهم بسيطرة القوة والإرهاب بالتهديد والوعيد لمن لا يكون معهم أو في صفهم كما مؤخرا في تداعيات 11 سبتمبر 2001 والأزمة الأفغانية .. والصمت القاتل عن جرائم الحرب الإسرائيلية في فلسطين .
وهكذا فإن الشقة بين الحضارتين الغربية والإسلامية بعيدة ، وأسباب ابتعادها تكمن في تضارب المصالح أولا ، وفي الصورة الذهنية المشوهة عن الإسلام بفعل كثير من المفكرين والمستشرقين ، وخيرات الشعور بالعداوة التاريخية الصليبية ، وسلوكيات مخالفة للإسلام وروحه بين المجتمعات الإسلامية ودولها وحكامها .(15/453)
وبالتالي تأتي أهمية تصحيح الصورة الذهنية لدى الغرب عن الإسلام .. ولكن يسبق ذلك ضرورة تصحيح المفاهيم الأساسية في العالم العربي والإسلامي ، وتنقية التراث من شوائب البدع والغلو .. والاتجاه نحو الوسطية والاعتدال .. والسير قدما نحو تحقيق دعائم الاستخلاف وتنمية المجتمعات العربية والإسلامية والأخذ بأسباب القوة بالتقدم المعرفي والعلمي والتقني ، وتطوير المنظومة التربوية والتعليمية يف إطارها الإيماني .
وخلاصة القول أن الإسلام بقيمه الإنسانية في العدل والحرية والمساواة يجب أن ينعكس في ضروب السلوك الاجتماعي والسياسي لدى الشعوب والحكام .
وهذا هو السبيل الموضوعي لقناعة الآخر بإنسانية وعالمية الإسلام وجدوى حضارته .. وحتى يتحقق ذلك فلا يخلو الأمر من أهمية الدراسة والبحث والتخطيط المحكم لتنشيط حركة السياسية والاجتماعية والشعبية ومنظمات المجتمع المدني على المستويات الإقليمية والدولية .. وتوثيق الروابط والخبرات بين الشخصيات والمنظمات الثقافية والجامعية في الغرب والشرق ، وهذا كله وغيره لا يغنى عن جهود مستمرة لتطوير السياسة الإعلامية الفضائية ، ووضع منهجية ملائمة للخطاب الإسلامي الموجه للشعوب الغربية والآسيوية والأفريقية وغيرها .
"حلم بعيد المنال "
بينما يرى الدكتور محمد أحمد الصادق (أستاذ العلوم السياسية بجامعة عين شمس) أن الحديث عن خطة طموحة لترشيد العلاقات الإسلامية الغربية وتحسينها هو أمر صعب التحقيق في الواقع ؛ لأننا إذا كنا نتحدث عن حوار الحضارات والتعاون والتفاعل بدلا من الصراع والإلحاق والتبعية .. فمن سيسمح لنا بذلك ؟
إن الغرب الآن تستولي عليه تماما فكرة صراع الحضارات وإذلال الآخر، وضرورة إلحاقه بالركب الغربي وإعادة صياغته لتلائم النموذج الغربي .. وبالتالي فإننا يجب أن نسأل أنفسنا عدة أسئلة في هذا السياق ..
السؤال الأول: هل الغرب سيتقبل الحديث عن علاقة متوازنة ومحترمة ؟
السؤال الثاني: هل نحن في موقع يسمح لنا بطرح الموضوع أساسا ؟
السؤال الثالث: أيُّ القوى في بلادنا ستقوم بالحديث عن هذا الموضوع مع الغرب والتفاوض بشأنه ؟
والإجابة عن السؤال الأول تقول إن الغرب القوى لن يتقبل من الحديث عن هذا الموضوع .. لأن له مصالح في بلادنا .. والموضوع تحكمه موازين القوى وهي في صالحه .. ولذلك فسوف يستمر في استخدام قوته واستغلال ضعفنا لفرض ما يريده بالقوة والقهر .. وتحكمه في ذلك مواريث العداوة التاريخية .
أما السؤال الثاني فهو محور القضية .. فنحن في موقع الضعيف المتهالك الذي لا يستطيع أن يجبر خصمه على احترامه والخوف منه والجلوس معه على مائدة المفاوضات . إننا من الضعف بمكان لدرجة أننا نقف في الخندق الأخير للدفاع عن هويتنا .
إننا لا يمكن أن نطرح هذا السؤال الثاني إلا إذا كانت ذاتنا حقيقية ولها وجود حقيقي وحضور .
أما السؤال الثالث والمتعلق بمن سيتحدث باسمنا ويفاوض الغرب .. والإجابة معروفة فالقوى الوطنية والإسلامية مقهورة في عالمنا العربي والإسلامي .. بينما العلمانية المنهزمة أمام الغرب والعميلة له هي المسيطرة وسوف تتعاون مع الغرب ضد الإسلام .
" إرهاب صليبي فاق كل الحدود "
ويزيد الأمر تعقيدا أن المحطة الأخيرة في الاحتكاك والعداء بين الغرب والإسلام وهي ما يسمى بمكافحة الإرهاب .. قد فاقت كل المحطات واستوعبتها .. ففيها من مذابح الصليبين في القدس كما نرى في الدعم اللا متناهي لليهود في فلسطين لتنفيذ مذابح مخيم جنين وغيره .. وفيها من الاستعمار الاستيطاني في القرن الثامن عشر ومن الكراهية والحقد ضد الإسلام في العصور الوسطى وعصر النهضة .. وفيها من الإمبريالية في بداية القرن العشرين، ويزيد من خطورة الهجمة الحالية أن الهجمات السابقة كانت هناك مقاومة لها متعددة الأشكال والدرجات، وكنا نكسب الكثير منها أو كسبنا معظمها .. أما الآن فلا توجد مقاومة .. وإذا وجدت ففينا من يسعى لوأدها .. وانتشر بل مفهوم التطبيع في مواجهة المقاومة .
==============(15/454)
(15/455)
ماهي العلمانية
محمد شاكر شريف
سؤال قصير ، لكنه في حاجة إلى جواب طويل ، واضح وصريح ، ومن الأهمية بمكان أن يعرف المسلمون جواباً صحيحاً لهذا السؤال ، وقد كُتبت - بحمد الله - عدة كتب في هذا المجال ، وما علينا إلا أن نعلم فنعمل .
نعود إلى جوانب سؤالنا ، ولن نتعب في العثور على الجواب الصحيح ، فقد كفتنا القواميس المؤلفة في البلاد الغربية ، التي نشأت فيها العلمانية ، مؤنة البحث والتنقيب ، فقد جاء في القاموس الإنجليزي ؛ أن كلمة " علماني " تعني :
1- دنيوي أو مادي .
2- ليس بديني أو ليس بروحاني .
3 - ليس بمترهب ، ليس برهباني .
وجاء أيضاً في نفس القاموس ، بيان معنى كلمة العلمانية ، حيث يقول :
العلمانية : هي النظرية التي تقول : إن الأخلاق والتعليم يجب أن لا يكونا مبنيين على أسس دينية .
وفي دائرة المعارف البريطانية ، نجدها تذكر عن العلمانية : أنها حركة اجتماعية ، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب .
ودائرة المعارف البريطانية حينما تحدثت عن العلمانية ، تحدثت عنها ضمن حديثها عن الإلحاد ، وقد قسّمت دائرة المعارف الإلحاد إلى قسمين :
* إلحاد نظري :
* إلحاد عملي ، وجعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي .
وما تقدم ذكره يعني أمرين :
أولهما : أن العلمانية مذهب من المذاهب الكفرية : التي ترمي إلى عزل الدين عن التأثير في الدنيا ، فهو مذهب يعمل على قيادة الدنيا في جميع النواحي السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والأخلاقية ، والقانونية وغيرها ، بعيداً عن أوامر الدين ونواهيه .
ثانيهما : أنه لا علاقة للعلمانية بالعلم ، كما يحاول بعض المراوغين أن يلبس على الناس ، بأن المراد بالعلمانية : هو الحرص على العلم التجريبي والاهتمام به ، فقد تبيّن كذب هذا الزعم وتلبيسه ، بما ذُكر من معاني هذه الكلمة في البيئة التي نشأت فيها .
ولهذا ، لو قيل عن هذه الكلمة " العلمانية " إنها : " اللادينية لكان ذلك أدق تعبيراً وأصدق " ، وكان في الوقت نفسه أبعد عن التلبيس وأوضح في المدلول .
كيف ظهرت العلمانية ؟!
كان الغرب النصراني في ظروفه الدينية المتردية هو البيئة الصالحة ، والتربة الخصبة ، التي نبتت فيها شجرة العلمانية وترعرعت ، وقد كانت فرنسا بعد ثورتها المشهورة هي أول دولة تُقيم نظامها على أساس الفكر العلماني ، ولم يكن هذا الذي حدث من ظهور الفكر العلماني والتقيّد به - بما يتضمنه من إلحاد ، وإبعاد للدين عن كافة مجالات الحياة ، بالإضافة إلى بُغض الدين ومعاداته ، ومعاداة أهله - أقول لم يكن هذا حدثاً غريباً في بابه ؛ ذلك لأن الدين عندهم حينئذٍ لم يكن يمثل وحي الله الخالص الذي أوحاه إلى عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، وإنما تدخلت فيه أيدي التحريف والتزييف : فبدلت وغيرت وأضافت وحذفت ، فكان من نتيجة ذلك أن تعارض الدين المُبدَّل مع مصالح الناس في دنياهم ، ومعاملاتهم في الوقت نفسه الذي تعارض مع حقائق العلم الثابتة ، ولم تكتف الكنيسة - الممثلة للدين عندهم - بما عملته أيدي قسيسيها ورهبانها من التحريف والتبديل ، حتى جعلت ذلك ديناً يجب الالتزام به ، وحاكمت إليه العلماء المكتشفين ، والمخترعين ، وعاقبتهم على اكتشافاتهم العلمية المناقضة للدين المُبدّل ، فاتهمتهم بالزندقة والإلحاد ، فقتلت من قتلت ، وحرَّقت من حرَّقت ، وسجنت من سجنت .
ومن جانب آخر فإن الكنيسة - الممثلة للدين عند النصارى - أقامت تحالفاً غير شريف مع الحكام الظالمين ، وأسبغت عليهم هالاتٍ من التقديس ، والعصمة ، وسوَّغت لهم كل ما يأتون به من جرائم وفظائع في حق شعوبهم ، زاعمةً أن هذا هو الدين الذي ينبغي على الجميع الرضوخ له والرضا به .
من هنا بدأ الناس هناك يبحثون عن مهرب لهم من سجن الكنيسة ومن طغيانها ، ولم يكن مخرجهم الذي اختاروه إذ ذاك ، إلا الخروج على ذلك الدين - الذي يحارب العلم ويناصر المجرمين - والتمرد عليه وإبعاده وطرده ، من كافة جوانب الحياة السياسية ، والاقتصادية ، والعلمية ، والأخلاقية ، وغيرها .
ويا ليتهم إذ خرجوا على هذا الدين المُبدّل اهتدوا إلى دين الإسلام ، ولكنهم أعلنوها حرباً على الدين عامة .(15/456)
وإذا كان هذا الذي حدث في بلاد الغرب النصراني ليس بغريب ، فإنه غير ممكن في الإسلام ، بل ولا متصور الوقوع ؛ فوحي الله في الإسلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلا هو ممكن التحريف والتبديل ، ولا هو ممكن أن يُزاد فيه أو يُنقص منه ، وهو في الوقت نفسه لا يُحابي أحداً ، سواء كان حاكماً أو محكوماً ، فالكل أمام شريعته سواء ، وهو أيضاً يحافظ على مصالح الناس الحقيقية ، فليس فيه تشريع واحد يُعارض مصلحة البشرية ، وهو أيضاً يحرص على العلم ويحضّ عليه ، وليس فيه نصّ شرعي صحيح يعارض حقيقة علمية ؛ فالإسلام حق كله ، خير كله ، عدل كله ، ومن هنا فإن كل الأفكار والمناهج التي ظهرت في الغرب بعد التنكر للدين والنفور منه ، ما كان لها أن تظهر بل ما كان لها أن تجد آذاناً تسمع في بلاد المسلمين ، لولا عمليات الغزو الفكري المنظمة ، والتي صادفت في الوقت نفسه، قلوباً من حقائق الإيمان خاوية ، وعقولاً عن التفكير الصحيح عاطلة ، ودنيا في مجال التمدن ضائعة متخلفة .
ولقد كان للنصارى العرب المقيمين في بلاد المسلمين دورٌ كبير ، وأثرٌ خطير ، في نقل الفكر العلماني إلى ديار المسلمين ، والترويج له ، والمساهمة في نشره عن طريق وسائل الإعلام المختلفة ، كما كان أيضاً للبعثات التعليمية التي ذهب بموجبها طلاب مسلمون إلى بلاد الغرب لتلقي أنواع العلوم الحديثة أثر كبير في نقل الفكر العلماني ومظاهره إلى بلاد المسلمين ، حيث افتتن الطلاب هناك بما رأوا من مظاهر التقدم العلمي وآثاره ، فرجعوا إلى بلادهم محملين بكل ما رأوا من عادات وتقاليد ، ونظم اجتماعية ، وسياسية ، واقتصادية ، عاملين على نشرها والدعوة إليها ، في الوقت نفسه الذي تلقاهم الناس فيه بالقبول الحسن ، توهماً منهم أن هؤلاء المبعوثين هم حملة العلم النافع ، وأصحاب المعرفة الصحيحة ، ولم تكن تلك العادات والنظم والتقاليد التي تشبّع بها هؤلاء المبعوثون وعظموا شأنها عند رجوعهم إلى بلادهم إلا عادات وتقاليد ونظم مجتمع رافض لكل ما له علاقة ، أو صلة بالدين .
ومثل هذا السرد الموجز وإن كان يدلنا على كيفية دخول العلمانية إلى بلاد المسلمين ، فإنه أيضاً ينبهنا إلى أمرين هامين :
أحدهما : خطورة أصحاب العقائد الأخرى من النصارى وغيرهم الذين يعيشون في بلاد المسلمين ، وكيف أنهم يكيدون للإسلام وأهله ؟ مما يوجب علينا الحذر كل الحذر من هؤلاء الناس ، وأن ننزلهم المنزلة التي أنزلهم الله إليها ، فلا نجعل لهم في بلاد المسلمين أدنى نوع من أنواع القيادة والتوجيه ، كما ينبغي أن تكون كل وسائل الإعلام والاتصال بالجماهير موصدة الأبواب في وجوههم ، حتى لا يبثوا سمومهم بين المسلمين ... لكن من يفعل ذلك ! وكثير من الأنظمة تجعل لهم مكانة سامية من أجل نشر هذه السموم ... حسبنا الله ونعم الوكيل .
ثانيهما : خطورة الابتعاث الشديدة على أبناء المسلمين ، فكم من مسلم ذهب إلى هناك ثم رجع بوجه غير الوجه الذي ذهب به ، وقلب غير القلب الذي ذهب به ، وإذا كانت هناك داعي لذهاب بعض المسلمين للحصول على المعرفة في مجال العلوم التجريبية ، فكيف يمكننا القبول بذهاب بعض المسلمين للحصول على درجات علمية في علوم الشريعة بعامة ، واللغة العربية خاصة ؟! فهل اللغة العربية لغتهم أم لغتنا ؟ ! وهل القرآن الكريم أنزل بلغتهم أم بلغتنا ؟ !
وهل يُعقل أن المسلم يمكنه الحصول على المعرفة الصحيحة بعلوم الإسلام وشريعته من أناس هم أشدُ الناس كفراً وحقداً على الإسلام وأهله ؟ !
CYB0010.jpg (43840 bytes)
صور العلمانية
الصورة الثانية : العلمانية غير الملحدة وهي علمانية لا تنكر وجود الله ، وتؤمن به إيماناً نظرياً ، لكنها تنكر تدخل الدين في شئون الدنيا ، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا ، وهذه الصورة أشد خطراً من الصورة السابقة من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسلمين ، فعدم إنكارها لوجود الله ، وعدم ظهور محاربتها للتدين ، يغطي على أكثر عوام المسلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية ، فلا يتبيّنون ما فيها من الكفر لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين ، ولذلك تجد أكثر الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسلمين أنظمة علمانية ، والكثرة الكاثرة والجمهور الأعظم من المسلمين لا يعرفون حقيقة ذلك .
ومثل هذه الأنظمة العلمانية اليوم ، تحارب الدين حقيقة ، وتحارب الدعاة إلى الله ، وهي آمنة مطمئنة أن يصفها أحد بالكفر والمروق من الدين ؛ لأنها لم تظهر بالصورة الأولى ، وما ذلك إلا لجهل كثير من المسلمين ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وسائر المسلمين ، وأن يفّقه الأمة في دينها حتى تعرف حقيقة الوضع الذي هي فيه ، وحتى تعرف حقيقة هذه الأنظمة المعادية للدين .
ولهذا فليس من المستبعد أو الغريب عند المسلم الفاهم لدينه أن يجد في كلمات أو كتابات كثير من العلمانيين ، المعروفين بعلمانيتهم ، ذكرَ الله سبحانه وتعالى ، أو ذكر رسول صلى الله عليه وسلم ، أو ذكر الإسلام ، وإنما تظهر الغرابة وتبدو الدهشة عند أولئك الذين لا يفهمون حقائق الأمور .(15/457)
والخلاصة أن العلمانية بصورتيها السابقتين كفر بواح لا شك فيها ولا ارتياب ، وأن من آمن بأي صورة منها وقبلها فقد خرج من دين الإسلام والعياذ بالله ؛ وذلك أن الإسلام دين شامل كامل ، له في كل جانب من جوانب الإنسان الروحية ، والسياسية ، والاقتصادية ، والأخلاقية ، والاجتماعية ، منهج واضح وكامل ، ولا يقبل ولا يُجيز أن يشاركه فيه منهج آخر ، قال الله تعالى مبيناً وجوب الدخول في كل مناهج الإسلام وتشريعاته : ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ) ( البقرة : 208 ) . وقال تعالى مبيناً كفر من أخذ بعضاً من مناهج الإسلام ، ورفض البعض الآخر : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) . ( البقرة : 85 ) .
…
CYB0007.jpg (31280 bytes)
والأدلة الشرعية كثير جداً في بيان كفر وضلال من رفض شيئاً محققاً معلوماً أنه من دين الإسلام ، ولو كان هذا الشيء يسيراً جداً ، فكيف بمن رفض الأخذ بكل الأحكام الشرعية المتعلقة بسياسة الدنيا - مثل العلمانيين - من فعل ذلك فلا شك في كفره .
والعلمانيون قد ارتكبوا ناقضاً من نواقض الإسلام ، يوم أن اعتقدوا أن هدي غير صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، وأن حكم غيره أفضل من حكمه .
قال سماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز ( رحمه الله ) : " ويدخل في القسم الرابع - أي من نواقض الإسلام - من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام ، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين ، أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين ، أو أنه يُحصر في علاقة المرء بربه ، دون أن يتدخل في شئون الحياة الأخرى
طبقات العلمانيين
والعلمانيون في العالم العربي والإسلامي كثيرون - لا أكثر الله من أمثالهم - منهم كثير من الكُتّاب والأدباء والصحفيين ، ومنهم كثير ممن يسمونهم بالمفكرين ، ومنهم أساتذة في الجامعات ، ومنهم جمهرة غفيرة منتشرة في وسائل الإعلام المختلفة ، وتسيطر عليها ، ومنهم غير ذلك .
وكل هذه الطبقات تتعاون فيما بينها ، وتستغل أقصى ما لديها من إمكانات لنشر العلمانية بين الناس ، حتى غدت العلمانية متفشية في جُلّ جوانب حياة المسلمين ، نسأل الله السلامة والعافية .
نتائج العلمانية في العالم العربي والإسلامي
وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمع الإسلامي أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم .
وها هي بعض الثمار الخبيثة للعلمانية :
1- رفض الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى ؛ وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة ، والاستعاضة عن الوحي الإلهي المنُزَّل على سيدنا صلى الله عليه وسلم ، بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله ، واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله وهجر القوانين الوضعية ، اعتبار ذلك تخلفاً ورجعية وردّة عن التقدم والحضارة ، وسبباً في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم ، وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب ، حتى لا يؤثروا فيهم .
2- تحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه ، وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية ، على أنها عصور همجية تسودها الفوضى ، والمطامع الشخصية .
3 - إفساد التعليم وجعله خادماً لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق :
أ - بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ ، والطلاب في مختلف مراحل التعليم .
ب- تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن .
جـ- منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم .
د - تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها ، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني ، أو على الأقل أنها لا تعارضه .
هـ - إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس ، ومنعهم من الاختلاط بالطلاب ، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش .
و- جعل مادة الدين مادة هامشية حيث يكون موضعها في آخر اليوم الدراسي ، وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب .
4- إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة ، وهم المسلمون ، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد ، وصهر الجميع في إطار واحد ، وجعلهم جميعاً بمنزلة واحدة من حيث الظاهر ، وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان .
فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي والبرهمي كل هؤلاء وغيرهم ، في ظل هذا الفكر بمنزلة واحدة يتساوون أمام القانون ، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني
وفي ظل هذا الفكر يكون زواج النصراني أو اليهودي أو البوذي أو الشيوعي بالمسلمة أمراً لا غبار عليه ، ولا حرج فيه ، كذلك لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من النحل الكافرة حاكماً على بلاد المسلمين وهم يحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما أسموه بـ " الوحدة الوطنية " .(15/458)
بل جعلوا " الوحدة الوطنية " هي الأصل والعصام ، وكل ما خالفها من كتاب الله أو سنة رسول صلى الله عليه وسلم ، طرحوه ورفضوه ، وقالوا : " هذا يعرّض الوحدة الوطنية للخطر!!" .
5- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية ، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية وتشجيع ذلك والحض عليه : وذلك عن طريق :
أ - القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة .
ب - وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكلُّ ولا تملُ من محاربة الفضيلة ، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة ، وبالتصريح أخرى ليلاً ونهاراً .
ج - محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات .
6- محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق :
أ - تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي ، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية ، والشريعة الإسلامية .
ب - إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف ، ولتحريف معاني النصوص الشرعية ، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يُبصرّوُن الناس بحقيقة الدين .
7 - مطاردة الدعاة إلى الله ، ومحاربتهم ، وإلصاق التهم الباطلة بهم ، ونعتهم بالأوصاف الذميمة ، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكرياً ، ومتحجرة عقلياً ، وأنهم رجعيون ، يحاربون كل مخترعات العلم الحديث النافعة ، وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور ، بل يتمسكون بالقشور ويدعون الأصول .
8 - التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية ، وذلك عن طريق النفي أو السجن أو القتل .
9 - إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله ، ومهاجمتها ، واعتباراها نوعاً من أنواع الهمجية وقطع الطريق .
وذلك أن الجهاد في سبيل الله معناه القتال لتكون كلمة الله هي العليا ، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلا سلطان الإسلام ، والقوم - أي العلمانيين - قد عزلوا الدين عن التدخل في شئون الدنيا ، وجعلوا الدين - في أحسن أقوالهم - علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد ، بحيث لا يكون لهذه العبادة تأثير في أقواله وأفعاله وسلوكه خارج مكان العبادة .
فكيف يكون عندهم إذن جهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين ؟ !
والقتال المشروع عند العلمانيين وأذنابهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض ، أما الدفاع عن الدين والعمل على نشره والقتال في سبيله ، فهذا عندهم عمل من أعمال العدوان والهمجية التي تأباها الإنسانية المتمدنة ؟ !
10 - الدعوة إلى القومية أو الوطنية ، وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس أو اللغة أو المكان أو المصالح ، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل التجميع ، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعدّ عاملاً من أكبر عوامل التفرّق والشقاق ، حتى قال قائل منهم : "والتجربة الإنسانية عبر القرون الدامية ، دلّت على أن الدين - وهو سبيل الناس لتأمين ما بعد الحياة - ذهب بأمن الحياة ذاتها " .
هذه هي بعض الثمار الخبيثة التي أنتجتها العلمانية في بلاد المسلمين ، وإلا فثمارها الخبيثة أكثر من ذلك بكثير .
والمسلم يستطيع أن يلمس أو يدرك كل هذه الثمار أو جُلّها في غالب بلاد المسلمين ، وهو في الوقت ذاته يستطيع أن يُدرك إلى أي مدى تغلغلت العلمانية في بلدٍ ما اعتماداً على ما يجده من هذه الثمار الخبيثة فيها .
والمسلم أينما تلفت يميناً أو يساراً في أي بلد من بلاد المسلمين يستطيع أن يدرك بسهولة ويسر ثمرة أو عدة ثمار من هذه الثمار الخبيثة ، بينما لا يستطيع أن يجد بالسهولة نفسها بلداً خالياً من جميع هذه الثمار الخبيثة .
وسائل العلمانية في تحريف الدين في نفوس المسلمين وتزييفه
للعلمانية وسائل متعددة في تحريف الدين في نفوس المسلمين منها :
1 - إغراء بعض ذوي النفوس الضعيفة والإيمان المزعزع بمغريات الدنيا من المال والمناصب ، أو النساء لكي يرددوا دعاوي العلمانية على مسامع الناس ، لكنه قبل ذلك يُقام لهؤلاء الأشخاص دعاية مكثفة في وسائل الإعلام التي يسيطر عليها العلمانيون لكي يظهروهم في ثوب العلماء والمفكرين وأصحاب الخبرات الواسعة ، حتى يكون كلامهم مقبولاً لدى قطاع كبير من الناس ، وبذلك يتمكنون من التلبيس على كثير من الناس .
2 - القيام بتربية بعض الناس في محاضن العلمانية في البلاد الغربية ، وإعطائهم ألقاباً علمية مثل درجة " الدكتوراه " أو درجة "الأستاذية" ثم رجوعهم بعد ذلك ليكونوا أساتذة في الجامعات ، ليمارسوا تحريف الدين وتزييفه في نفوس الطبقة المثقفة على أوسع نطاق ، وإذا علمنا أن الطبقة المثقفة من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية ، هم في الغالبية الذين بيدهم أزِمَّة الأمور في بلادهم ، علمنا مدى الفساد الذي يحدث من جرّاء وجود هؤلاء العلمانيين في المعاهد العلمية والجامعات .(15/459)
3 - تجزىء الدين والإكثار من الكلام والحديث والكتابة عن بعض القضايا الفرعية ، وإشغال الناس بذلك ، والدخول في معارك وهمية حول هذه القضايا مع العلماء وطلاب العلم والدعاة لإشغالهم وصرفهم عن القيام بدورهم في التوجيه ، والتصدي لما هو أهم وأخطر من ذلك بكثير .
4- تصوير العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله - في كثير من وسائل الإسلام المقروءة والمسموعة والمرئية - على أنهم طبقة منحرفة خلقياً ، وأنهم طلاب دنيا من مال ومناصب ونساء حتى لا يستمع الناس إليهم ، ولا يثقوا في كلامهم ، وبذلك تخلو الساحة للعلمانيين في بث دعواهم .
5 - الحديث بكثرة عن المسائل الخلافية ، واختلاف العلماء وتضخيم ذلك الأمر ، حتى يخيل للناس أن الدين كله اختلافات وأنه لا اتفاق على شيء حتى بين العلماء بالدين ، مما يوقع في النفس أن الدين لا شيء فيه يقيني مجزوم به ، وإلا لما وقع هذا الخلاف ، والعلمانيون كثيراً ما يركزون على هذا الجانب ، ويضخمونه ، لإحداث ذلك الأثر في نفوس المسلمين ، مما يعني انصراف الناس عن الدين .
6 - إنشاء المدارس والجامعات والمراكز الثقافية الأجنبية ، والتي تكون خاضعة - في حقيقة الأمر - لإشراف الدولة العلمانية التي أنشأت هذه المؤسسات في ديار المسلمين ، حيث تعمل جاهدة على توهين صلة المسلم بدينه إلى أقصى حد ممكن ، في نفس الوقت الذي تقوم فيه بنشر الفكر العلماني على أوسع نطاق ، وخاصة في الدراسات الاجتماعية ، والفلسفية ، والنفسية .
7- الاتكاء على بعض القواعد الشرعية والمنضبطة بقواعد وضوابط الشريعة ، الاتكاء عليها بقوة في غير محلها وبغير مراعاة هذه الضوابط ، ومن خلال هذا الاتكاء الضال والمنحرف يحاولون ترويج كل قضايا الفكر العلماني أو جُلّها .
فمن ذلك مثلاً قاعدة المصالح المرسلة يفهمونها على غير حقيقتها ويطبقونها في غير موضعها ، ويجعلونها حجة في رفض كل ما لا يحبون من شرائع الإسلام ، وإثبات كل ما يرغبون من الأمور التي تقوي العلمانية وترّسخ دعائمها في بلاد المسلمين .
وكذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وصلاحية الإسلام لكل زمان ، واختلاف الفتوى باختلاف الأحوال ، يتخذون من هذه القواعد وأشباهها تُكأة في تذويب الإسلام في النحل والملل الأخرى ، و تمييعه في نفوس المسلمين .
كما يتخذون هذه القواعد أيضاً منطلقاً لنقل كل النظم الاقتصادية ، والسياسية السائدة في عالم الكفار إلى بلاد المسلمين ، من غير أن يتفطن أكثر الناس إلى حقيقة هذه الأمور .
وفي تصوري أن هذا المسلك من أخطر المسالك وأشدها ضرراً لما فيه من شبهة وتلبيس على الناس أن هذه الأمور إنما هي مرتكزة على قواعد شرعية معترف بها ، وكشف هذا المسلك على وجه التفصيل ومناقشة كثير من هذه الأمور على وجه البسط والتوضيح في حاجة إلى كتابة مستقلة لكشف كل هذه الأمور وتوضيحها وإزالة ما فيها من لبس أو غموض .
ونحن نحب أن نؤكد هنا أن اعتمادهم على هذه القواعد أو غيرها ليس لإيمانهم بها ، وليس لإيمانهم بعموم وشمول وكمال الدين الذي انبثقت منه هذه القواعد ، وإنما هي عندهم مجرد أداة يتوصلون بها إلى تحقيق غاياتهم الضالة المنحرفة .
واجب المسلمين
في ظل هذه الأوضاع بالغة السوء التي يعيشها المسلمون ، فإن على المسلمين واجباً كبيراً وعظيماً ألا وهو العمل على تغيير هذا الواقع الأليم الذي يكاد يُجرف الأمة كلها بعيداً عن الإسلام .
والمسلمون جميعهم اليوم مطالبون ببذل كل الجهد : من الوقت والمال والنفس والولد لتحقيق ذلك ، وإن كان العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله وأصحاب القوة والشوكة عليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم ، لأنهم في الحقيقة هم القادة وغيرهم من الناس تبع لهم .
ولا خروج للمسلمين من هذا الواقع الأليم إلا بالعلم والعمل ؛ فالعلم الذي لا يتبعه عمل لا يغير من الواقع شيئاً ، والعمل على غير علم وبصيرة يُفسد أكثر مما يُصلح .
ولا أقصد بالعلم العلم ببعض القضايا الفقهية الفرعية ولا ببعض الآداب ومحاسن العادات ، كما يحرص كثير من الناس على مثل هذه الأمور ، ويضعونها في مرتبة أكبر من مرتبتها في ميزان الإسلام ، ولكني أقصد بالعلم ، العلم الذي يورث إيماناً صحيحاً صادقاً في القلب ، مؤثراً حب الله ورسوله ودينه على كل ما سوى ذلك ، وباعثاً على العمل لدين الله والتمكين له في الأرض وإن كلفه ذلك ما كلفه من بذل النفس والنفيس ، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم الصحيح بحقيقة دين الإسلام ، واليقين الكامل التام الشامل بحقيقة التوحيد أساس البنيان في دين الإسلام ، ثم لا بد مع ذلك من العلم بالمخاطر التي تتهدد الأمة الإسلامية ، والأعداء الذين يتربصون بها والدعوات الباطلة والهدامة التي يُروّج لها ، وما يتبع ذلك من تحقيق البراءة من أعداء الدين ، وتحقيق الولاية للمؤمنين الصادقين .(15/460)
وإذا كان من الواجب على المسلمين طلب العلم والدأب في تحصيله وسؤال أهل الذكر ، ليكون المرء على بصيرة كاملة ووعي صحيح ، فإن من الواجب على أصحاب القلم - من الكُتّاب والناشرين - العمل على الإكثار من نشر الكتاب الإسلامي الذي يربط المسلمين بالإسلام كله ، والذي يُعطي كل شرعة من شرائع الإسلام وكل حكم من أحكامه قدره ومنزلته في ميزان الإسلام ، بحيث لا يزيد به عن قدره ولا ينزل به عن مرتبته ، ولا يضخّم جانباً على حساب جوانب أخرى متعددة ، وفي هذا الصدد فإن الكُتّاب والناشرين مدعوون بقوة إلى الالتزام بذلك ، وخاصة في تلك الظروف العصيبة الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية ، فلا يليق بهم ولا ينبغي لهم أن يجاروا رغبات العوام وغيرهم في الإكثار والتركيز على جانب معين من جوانب الدين مع إهمال جوانب أخرى هي في ميزان الإسلام أجلّ قدراً وأخطر شأناً .
ونحن في هذا الصدد لا نريد أن نقع فيما وقع فيه غيرنا فندعو إلى إهمال الجانب الأقل في ميزان الإسلام لحساب الجانب الأكبر ، ولكنا ندعو إلى التوازن بحيث تكون الكتابات في الجوانب المختلفة متوازنة مع مرتبتها وثقلها في ميزان الإسلام ، فلا يُقبل أن تكون المكتبة الإسلامية مملوءة بالكتابات المختلفة المتنوعة عن الجن ، والسحر ، والشعوذة ، والورع ، والزهد ، والأذكار ، وفضائل الأعمال ، وفروع الفروع الفقهية ، وأشباه ذلك ، بينما نجد المكتبة تكاد تكون خاوية من الكتاب الميسر الصالح للتناول العام في مجالات بالغة الأهمية .
مثل : أحكام الفقه السياسي في الإسلام : أو بالتعبير القديم " الأحكام السلطانية " .
ومثل : مناقشة النّحَل الكثيرة التي بدأت تنتشر في عالم المسلمين " كالعلمانية ، والديمقراطية ، والقومية ، والاشتراكية ، والأحزاب ذات العقائد الكفرية ، كحزب البعث ، والأحزاب القومية ، وغير ذلك " .
ومثل : الكتابات التي تتحدث عن الجهاد ، لا أقصد الجهاد بمعنى فرضيته ودوامه إلى قيام الساعة ، ولكن أقصد إلى جانب ذلك كلام عن جهاد المرتدين اليوم في عالم الحكام ، وأصحاب السلطان الذين تبنوا المذاهب الاشتراكية ، والعلمانية ، والقومية ، والديمقراطية ، وغير ذلك ودعوا إليها وألزموا الناس بها .
ومثل : الحديث عن كيفية العمل لإعادة الخلافة الضائعة ، إلىغير ذلك من المواضيع ذات الأهمية البالغة في حياة المسلمين ، وإذا نظر الإنسان إلى ما كُتب في هذه المواضيع ، وما كُتب في المواضيع الأخرى لهاله التباين الشديد في هذا الأمر ، وإذا نظر أيضاً إلى كمية المباع من ذاك ومن هذا لهاله الأمر أكثر وأكثر
قد يقول الكُتّاب والناشرون : إن الناس لديهم عزوف عن قراءة هذه المواضيع ، لكن منذ متىكان لصاحب الرسالة التي يريد لها الذيوع والانتشار أن يطاوع الأهواء والرغبات ، وإذا كان حقاً ما يقال عن هذا العزوف ، فأنتم مشاركون بنصيب وافر في ذلك لأنكم طاوعتموهم على ذلك ، ولم تبصروهم بأهمية التوازن وعدم تضخيم جانب وإهمال جوانب أخرى ، لأن هذا الأمر سيؤدي بالناس في النهاية إلى حصر الإسلام وتضييق نطاقه في إطار عبادة من العبادات أو أدب من الآداب أو عادة من العادات ، بل قد انحصر الإسلام فعلاً عند كثير من الناس في أداء الصلاة ، وصيام رمضان ، وبعضهم انحصر الإسلام عنده
في مجموعة من الأذكار ، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في حسن الخُلق ، وبضعهم انحصر الإسلام عنده في هيئة أو زي أو لباس ، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في العلم ببعض فروع الفقه ، أو العلم ببعض قضايا مصطلح الحديث ، وهكذا .
فإذا خاطبت الكثير منهم عن عموم الإسلام وشموله وحدثتهم عن بعض القضايا الهامة والملحّة والمنبثقة من توحيد الله والإيمان باليوم الآخر، مثل الحديث عن الحكم بما أنزل الله ، والالتزام بشرعه ووجوب السعي لإقامة دولة الإسلام وإعادة الخلافة ، وبيان بطلان المذاهب الفكرية كالعلمانية ، والديمقراطية ، وغير ذلك ، ظنوك تتحدث عن دين غير دين الإسلام وقالوا : هذا اشتغال بالسياسة، ولا يجوز إدخال الدين في السياسة .
ومثل هؤلاء لو تأكد عليهم الكلام في مثل هذه القضايا في خطب الجمعة ، وفي دروس وحلقات العلم في المساجد ، وفي الكتابات الميسرة التي يمكنهم قراءتها وفهمها بيسر ، لم يصدر عنهم مثل هذا الكلام الضال المنحرف .
ونحن يجب علينا كُتاباً وناشرين ألا نشارك في تزييف الدين وتجزئته عن طريق عرضه عرضاً ناقصاً مقصوراً على جانب من جوانبه استجابة لرغبة القراء ، ولحركة البيع والشراء ، فنكون بذلك محققين لهدف كبير من أهداف العلمانية في تضييق نطاق الدين وعزله عن الحياة .(15/461)
وقد يقول الكُتّاب والناشرون : نحن لا نكتب في هذه الأمور لأنها مسائل كبيرة والخطأ فيها ليس بالهيّن ، وهي تحتاج إلى علم كثير هو ليس في وسعنا ، وأنا معهم في هذا القول في أن كثيرين ممن يكتب هذه الأيام لا يصلح للكتابة في هذه الأمور .. إما لعدم فقههم لهذه الأمور ، وإما لأن فقههم لها قاصر ومبتور ، وإذا كان ذلك صحيحاً - وهو صحيح - في حق كثيرين . فأين العلماء الكبار ، وأين الشيوخ الأجلاء ، وإذا لم يكن هذا هو دورهم ومهمتهم ، فما هو دورهم إذن في العمل على تغيير هذا الواقع الأليم ؟ !
وفي إطار الحديث عن العلم ونشره فإن فئة المعلمين من المدرسين والأساتذة من أدنى مراحل التعليم إلى أعلاها عليهم واجب من أهم الواجبات العامة في حقهم وآكدها وهذا الواجب يتمثل في :
1 - العمل على أسلمة المناهج بحيث تصب كل المناهج العلمية في إطار خدمة الإسلام ، وبحيث لا يكون الهدف العلمي البحت ، هو الهدف الوحيد من تدريس هذا العلم ، ونظراً لأن ديننا من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن المكتشفات هي من خلق الله فلا تعارض إذن ولا تناقض بين العلم والدين ، وبالتالي فإن كثيراً من الحقائق العلمية يمكن استخدامها كأدلة في مجال الإيمان ، وكثير من القوانين العلمية يمكن استخدامها كردود أو إبطال لنظريات إلحادية من وجهة نظر العلم التجريبي الذي يؤمن به الملحدون ولا يعولون على غيره ، وعلى ذلك فإن المناهج العلمية الموضوعة للتلاميذ والطلاب لا بد أن يراعى فيها ذلك ، ولا بد من توضيح ذلك الأمر بأوضح بيان ، ولا يكفي فيه الإشارة والتلميح ، وهذا الأمر واجب أكيد في حق أولئك الذين يضعون هذه المناهج ويقررون تدريسها .
2 - تنقية المواد العلمية من الكفريات والضلالات المدسوسة بها ، فقد يحدث أن يضع هذه المواد ومناهجها أناس غرباء على الدين ، فالواجب على المدرس المسلم ألا يقوم بتدريس المادة العلمية كما هي ، بل لا يحق له ذلك ، وينبغي عليه كشف هذه الضلالات للطلاب وتحذيرهم منها ، وبيان الصواب فيها ، فلا يكتفي المعلم بدوره كمعلم للمادة فقط ، بل يربط هذه العلوم بالإسلام وينقيها مما فيها من الشوائب ويكون في الوقت نفسه داعية وواعظاً ومرشداً إلى جانب كونه معلماً ومثقفاً .
3 - أن ينتهز المعلم الفرصة كلما سنحت له لتوضيح مفهوم من مفاهيم الإسلام ، أو لتثبيت عقيدة من العقائد أو لبيان قضية من قضايا المسلمين أو لتعليم أدب من آداب الإسلام ، وهكذا .
وكل هذه الأمور يستتبع بالضرورة تحقيقها أن يرتفع المعلمون بمستواهم العلمي والشرعي في كثير من الأمور حتى يكونوا أكفاء لهذه المهمة النبيلة التي شرّفهم الله بحملها .
الخاتمة
وفي ختام هذا البحث نأتي إلى العمل بعد العلم ، ولست أقصد بالعمل ذلك العمل الذي يعود نفعه وخيره على شخص العامل وحده ، فهذا مطلوب ، ولكن أين العمل الذي يعود نفعه وخيره على الأمة الإسلامية بالإضافة إلى شخص العامل ؟
إنه مما يجب علينا أن نعتقد الحق ونعمل به في خاصة أنفسنا ، ومن نعول ، ثم لا نكتفي بذلك حتى ندعو غيرنا ونبصرهم بحقيقة هذا الدين ، وبتكالب الأعداء علينا من داخلنا وخارجنا ، وبحجم المأساة التي تعيشها الأمة الإسلامية ، ولا يصدنا عن القيام بهذا الدور ما نلقى من عنت ومشقة ومن صدود من جانب الناس ، ومن تضييق وحرب من جانب الحكام أذناب العلمانية وعملائها .
لا بد إذن من العمل بهذا الدين ولهذا الدين ، ولا بد من جمع الناس على ما يحبه الله ورسوله من الاعتقادات ، والأقوال ، والأفعال ، ولا بد من تحمل التبعات في سبيل ذلك ، ولا بد أيضاً من الجهاد في سبيل الله ، وإعلان الحرب على كل محارب لله ورسوله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
ولا أحسب أني بذلك قد تحدثت عن واجب المسلمين كما ينبغي ، ولكن يكفي أن تكون تذكرة لنا جميعاً لعل الله ينفعنا بها ... اللهم آمين .
==============(15/462)
(15/463)
العلمانية و توحيد الطاعة
الدكتور صلاح الصاوي
أولا : معنى توحيد الطاعة والانقياد
وهو إفراد الله تعالى بالطاعة والانقياد ، وذلك بتحكيم شرعه ، والقبول التام لكل ماجاء به نبي صلى الله عليه وسلم ، والكفر بمايتنافي مع ذلك من الأهواء البشرية والمذاهب الوضيعة ، فإن من تفرد بخلق هذا الإنسان تفرد بحق هدايته وتوجيه الخطاب الملزم إليه ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا واجب إلا ما أوجبه ، ولا دين إلا ما شرعه .
* قال تعالى : ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( يوسف:40 ).
فدعا إلى إفراد الله بالحكم ، وبين أن ذلك من إفراده تعالى بالعبادة ، وأن هذا هو الدين القيم الذي لا يعلمه كثير من الناس ، فليس لأحد كائنًا من كان أن يعقب على حكمه ، ولا أن يشرك به في طاعته .
( الشورى: 21 ) فنعى تعالى على الذين لا يتبعون ما شرع الله لنبي صلى الله عليه وسلم من الدين القيم ، بل يتبعون ما شرع شياطينهم وطواغيتهم من تحريم الحلال وتحليل الحرام وغيره مما كانو قد اخترعوه في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة ، وبين أنه لولا ما تقدم من الإنظار إلى المعاد لعوجلوا بالعقوبة ، وفي الآية إشارة ظاهرة إلى أن التحليل والتحريم بغير سلطان من الله إشراك بالله .
ولقد ظل هذا المعنى بدهيا في حس الأجيال السابقة ، فلم يحفظ التاريخ خلافًا يذكر حول تفرد الله جل وعلى بالحكم ، وانعدام المشروعية عن كل قول أو فعل ترده النصوص الشرعية ، وأن من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد ، وتحاكم إلى غيره ولو إلى شريعة منسوخة فإنه يكون قد حاد الله وروسوله وخلع بذلك ربقة الإسلام من عنقه ؛ لأنه يكون بذلك قد جعل لله ندًا في الطاعة والاتباع !
ولكن غاشية الفتن المعاصرة كادت أن تطمس جلاء هذه الحقيقة الناصعة فارتاب فيها المرتابون ، وأصبح الناس فيها فريقين يختصمون ، ومن هنا كان لزامًا علينا أن نتناول هذه القضية بشيء من التفصيل ، آملين في عودة الأمور إلى نصابها ، مبتدئين في ذلك بتحرير محل النزاع .
محل النزاع :
…
لا خلاف يذكر على أن من التزم الحكم بشرائع الإسلام في الجملة ، فكانت هي مرجعه الدائم الذي يرجع إليه في كل أمر ، ويحتكم إليه في كل قضية ، ثم زلت به القدم في موقف عارض ، فحكم فيه بغير ما أنزل الله ميلا مع الهوى لشهوة أو لقرابة أو غير ذلك فإنه لا يخرج بذلك من الملة إلا بالاستحلال أو الجحود ، وأن فعله ه
ذا يلتحق بسائر الكبائر وإن كان من أعتاها وأغلظها، وإلى هذه الصورة وأشباهها ترجع عبارات السلف : كفر دون كفر - ليس بالكفر الذي تذهبون إليه - كفر لا ينقل من الملة ...إلخ هذه العبارات التي أثرت عن كثير منهم عند تفسير قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( المائدة: 44 )
وإنما وقع الالتباس مؤخرا في ظاهرة الامتناع عن التزام الحكم بشرائع الإسلام والتحاكم ابتداء في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله ، ورد مرجعية الشريعة في علاقة الدين بالدولة ، وهي الصورة التي وفدت إلى بلاد الإسلام في ركاب المستعمر ، وينظر لها باسم العلمانية والفصل بين الدين والدولة ، وحولها فقط سيكون حديثنا بإذن الله ، وسوف نبدأ بتجلية الفرق بين الصورتين إحكاما للأمر، وزيادة في البيان والإيضاح .
ثانيا: الفرق بين الانحراف العارض عن الحكم بما أنزل الله وبين العلمانية
* أن الحجة القاطعة والحَكَم الأعلى في الصورة الأولى هو الله عز وجل ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، ولا سيادة إلا لكتابه وسنة نبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا ما أشكل على الولاة أمر رجعوا إلى المأثور من أقوال الصحابة والتابعين ، أو إلى الراجح من فقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من الفقهاء ، ليتعرفوا على حكم الله فيما عرض لهم ، وأما ما يحدث من خلل فهو انحراف عارض في أمور جزئية ، لا تبدل فيه الشرائع ، ولا تغير فيه القواعد الكلية ، فالأصل في هذه الصورة أن الولاة خاضعون لحكم الله عز وجل فهو دينهم الذي به يدينون ، وقانونهم الذي به يقضون وإليه يحتكمون .
أما الحَكَم الأعلى في الصورة الثانية فهو المصالح البشرية البحتة التي لا تتقيد بدين ، ولا ترجع إلى هدى ولا كتاب منير ، بل محض الهوى ومايوحى الشيطان إلى أوليائه من ضلالات وأباطيل يسمونها نظمًا وتشريعات وقوانين! فإذا ما أشكل على الولاة أمر رجعوا فيه إلى المذكرات التفسيرية لهذه الشرائع والوافدة ، أو إلى الراجح في الفقه الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي ليستلهموا من خلاله الحكم في محل النزاع فالولاة في ظل هذه الصورة قد ردوا مرجعية الشريعة في علاقة الدين بالدولة ، وخلعوا ربقة الأحكام الشرعية في كل ما يتصل بشؤون الحياة العامة .(15/464)
* أن تحرى مقصود الشارع هو معيار العدل والإصابة في الصورة الأولى ، أما معيار العدل والإصابة في الصور الثانية فإنه يتمثل في مدى تحقيقه للمصالح البشرية البحتة ، ومدى موافقته للقوانين الوضعية الوافدة نصًا وروحًا بحيث يعد الحكم بما أنزل الله في ظل هذه الصورة نقضًا للعهد ، وهتكًا للمواثيق ، وخروجًا على الأعراف القضائية السائدة ، بل جريمة جنائية تستوجب تقديم صاحبها إلى محكمة الجنايات ! فلو أن قاضيا في ظل العلمانية حكم بقطع يد سارق أو برجم زان فإنه يكون قد حكم بما يخالف الصواب ، وخرج على مقتضى القانون الواجب الاتباع ، فينقض حكمه ، وينظر في أمره ليجرى عليه ما يستحقه من جزاءات وعقوبات ، أما الذين يسعون في تنفيذ مثل هذا الحكم فإنهم يقدمون هم ومن أعانهم على ذلك إلى محاكمة جنائية بتهمة إحداث عاهة مستديمة! أو بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ! وما ذلك إلا لأن القانون لا يقر هذه العقوبات ، ولا يعترف بهذه التشريعات ، فهذا فارق جوهري لا بد أن ينتبه إليه ، فحكم الله في الصورة الأولى هو الحق والصواب ، أما في الصورة الثانية فهو منكر أو جريمة تستوجب العقاب !
وسوف نبين فيما يلي مدى تعارض العلمانية مع قواعد الاعتقاد الكلية ، وكيف أنها تلتحق بالشرك الأكبر المخرج من الملة وذلك في النقاط الآتية .
ثالثا : مفهوم العلمانية والتلبيس الواقع في هذا المصطلح
مفهوم العلمانية
تعتبر العلمانية تعبيراً محدثاً لم يرد له ذكر في المعاجم العربية القديمة ، وقد ورد هذا التعبير لأول مرة في قاموس ثنائي اللغة ( فرنسي- عربي ) ألفه أحد تراجمة الحملة الفرنسية واسمه لويس بقطر المصري ، وقد طبع جزؤه الأول في مارس 1828م ، ثم دخلت الكلمة بعد ذلك إلى اللغة العربية ، وأول معجم في اللغة العربية ورد فيه هذا التعبير هو المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة .
فقد جاء في طبعته الأولى الصادرة سنة 1960م : ( العلماني ) : نسبة إلى العَلْم ، بمعنى العالم ، وهو خلاف الديني ، أو ( الكهنوتي ) ، وبقي الأمر كذلك في الطبعة الثانية الصادرة سنة 1979م ، أما في الطبعة الثالثة ، التي صدرت سنة 1985م ، فقد وردت الكلمة فيه مكسورة العين ، بعد أن ظلت مفتوحة في الطبعتين الماضيتين .
والعَلْماني ( مفتوحة العين ) نسبة إلى العَلْم ( بفتح العين وسكون اللام ) بمعنى العالم ، أى الخلق كله .
والعِلْمانى ( بكسر العين ) نسبة إلى العلم التجريبي ، الذي انتصر على الكنيسة بعد صراع مرير ، سالت فيه دماء ، وأزهقت فيه أرواح ، لأن الكنيسة كانت بالمرصاد لكل رأى علمي يعارض التفسير الديني للكتاب المقدس .
جناية المصطلحات :
بيد أن استعمال هذا المصطلح بالكسر استعمال ينطوى على قدر كبير من الخطأ والتلبيس .
-أما انطواؤه على الخطأ فلأن الكلمة في جذورها الأوربية لا علاقة لها بالعلم فهي في اللغة الإنجليزية ( secula r ism )
…
47106.jpg (25283 bytes)
( وهذا التعبير لا صلة له بالعلم ، فالعلم في كل من الإنجليزية والفرنسية science ) ، والمذهب العلمي يطلق عليه ( Scientism ) أما هذه الكلمة ( Secula r ism ) فهي اللادينية أو الدنيوية ، فنسبتها إلى العلم نسبة خاطئة لانبتات الصلة بين العلم وبين هذا التعبير في جذوره الأوربية . وأما انطواؤه على التلبيس والإيهام : فلأن في نسبة هذا التعبير إلى العلم ما يحجب حقيقة المعنى الذي يتضمنه هذا التعبير ويدخله في دائرة القبول العام خاصة أن مجرد الانحياز إلى العلم لا يعنى نبذ الإيمان أو استبعاد الدين بالضرورة ، بل لا بد لإبراز هذا المعنى من التحليل والتوضيح الأمر الذي تأباه طبيعة المصطلحات .
وعلى هذا فإن المعنى الصحيح لهذا التعبير هو الفصل بين الدين والدولة ، بل بتعبير أدق الفصل بين الدين والحياة ، وعدم المبالاة بالدين أو الاعتبارات الدينية ، ونزع القداسة عن المقررات الدينية ، والتعامل معها كمواريث بشرية بحتة ، وقصر الدين على جانب الشعائر التعبدية الفردية البحتة باعتباره علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه .
رابعاً : العلمانية ناقضة لأصل الدين :
لقد تمهد في قواطع الإسلام ومحكماته أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الشرع لا غير ، فلا حلال إلا ما أحله الله ورسوله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا دين إلا ماشرعه الله ورسوله ، وأن من أحل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشرع المجمع عليه ، أو امتنع عن التزام الحكم به والتحاكم إليه كان مارقا من الإسلام باتفاق المسلمين
ومما يدل على أن العلمانية ناقضة لأصل الدين ما يلي :
1 ـ العلمانية شرك في الربوبية :(15/465)
لقد سبق أن الخلق والأمر من أخص خصائص الربوبية وأجمع صفاتها كما قال تعالى : ( ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) ( الأعراف : 54 ) ولهذا أجاب بهما موسى عليه السلام في مقام المحاجة مع فرعون عندما ابتدره سائلاً : ( قال : فمن ربكما يا موسى ) ( طه : 49) فكان جواب الكليم عليه السلام : ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( طه : 50 ) ومن قبل ذلك قال الخليل إبراهيم عليه السلام في وصفه لربه : ( الذي خلقنى فهو يهدين ) ( الشعراء : 78) ومن بعد ذلك أُمر صلى الله عليه وسلم أن يسبح باسم ربه الأعلى الذي تفرد بهذين الوصفين ، فقال تعالى : ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدر فهدى ) ( الأعلى : 1-3 ) .
والأمر في لغة الشارع يأتي بمعنيين :
الأول : الأمر الكوني ، وهو الذي به يدبر شؤون المخلوقات ، وبه يقول للشيء : كن فيكون ، ومنه قوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) ( يس : 82 ) وقوله تعالى : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) ( القمر 50 ) .
الثاني : الأمر الشرعي ، وهو الذي به يفصّل الحلال والحرام والأمر والنهي وسائر الشرائع ، ومنه قوله تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) ( السجدة : 24 ) .
وإذا كانت البشرية لم تعرف في تاريخها من نازع الله في عموم الخلق أو الأمر بمفهومه الكوني ، فقد حفل تاريخها بمن نازع الله في جانب الأمر الشرعي وادعى مشاركته فيه ، فقد حكى لنا القرآن الكريم عمن قال : ( سأنزل مثل ما أنزل الله ) ( الأنعام :93 ) ومن قال: ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) ( غافر : 29 ) ورأينا في واقعنا المعاصر من ينظرون للعلمانية ، ويدينون بالفصل بين الدين والدولة ! بل من اجترأ على ربه وقال : إن القوانين الوضعية خير من الشريعة الإسلامية ، لأن الأولى تمثل الحضارة والمدنية والثانية تمثل البداوة والرجعية !
ولا يتحقق توحيد الربوبية إلا بإفراد الله جل وعلا بالخلق والأمر بقسميه : الكوني والشرعي ، وإفراده بالأمر الشرعي يقتضي الإقرار له وحد باالسيادة العليا والتشريع المطلق ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، ومن سوغ للناس اتباع شريعة غير شريعته فهو كافر مشرك .
وقد اتفق الأصوليون أجمعون على أن الحاكم لجميع أفعال المكلفين إنما هو الله عز وجل ، فهو وحده مصدر جميع الأحكام الشرعية ، ولذلك اشتهر من أصولهم : ( لا حكم إلا لله ) .
حتى هؤلاء الذين قالوا باستقلال العقل بمعرفة بعض الأحكام الشرعية لم ينازعوا في هذا الأصل السابق ، وإنما كان نزاعهم حول كيفية التعرف على حكم الله عز وجل ، فدور العقل عندهم هو دور التعرف على حكم الله الكاشف عنه أحياناً مع اتفاق الجميع على أن الحاكم الذي يصدر الأحكام وينشئها إنما هو الله عز وجل ومن هنا كان اتفاقهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه ( خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً ) وقسموه قسمين :
- الحكم التكليفي : وهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً .
وأقسامه خمسة : الإيجاب والتحريم والكراهة والندب والإباحة .
- الحكم الوضعي : وهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الوضع وهو ما اقتضى وضع شيء سبباً لشيء أو شرطاً له أو مانعًا منه .
وعلى هذا فالعلمانية وما تعنيه من رد مرجعية الشريعة ، وادعاء الحق في إصدار أحكام عامة ملزمة على سبيل الإيجاب أو التخيير أو الوضع على خلاف أمر الله ورسوله ، يعد منازعة لله في ربوبيته وألوهيته ، وعملاً من أعمال الشرك الأكبر بلا نزاع ؛ إذ لا فرق بين من ينازع الله في صفة الخلق ، ومن ينازعه في صفة الأمر ، فكلاهما طاغوت مشرك متمرد على مقام العبودية ، منتهك لحرم الربوبية والألوهية .
وقد كانت ربوبية الأحبار والرهبان في بني إسرائيل من هذا القبيل ، فقد أحلوا حرام الله وحرموا حلاله ، فتابعهم الناس على ذلك ، فلم تكن الربوبية فيهم في جانب الخلق أو الأمر الكوني ، بل كانت في جانب الهداية والأمر الشرعي .
عن عدي بن حاتم أنه سمع صلى الله عليه وسلم يقرأ : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ...) ( التوبة : 31 ) فقلت : إنا لسنا نعبدهم . قال : [ أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟] فقلت : بلى . قال : " فتلك عبادتهم " ( رواه أحمد والترمذي ) .
فحقيقة الإقرار بالربوبية لا تتمثل في إفراد الله جل وعلا بالخلق والتدبر الكوني فحسب ، بل تمتد لتشمل إفراده تعالى بالأمر والقضاء الشرعي ، وقبول ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم من الهدي والشرائع ، وذلك لأن المنازعة في الأمر الشرعي كالمنازعة في الأمر الكوني ولا فرق ، فإن الذي أوجب الرضا بقدره هو الذي أوجب التحاكم إلى شرعه ، وهو القائل : ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ) ( يوسف : 40) والقائل : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ( الشورى : 21 ) .(15/466)
2. العلمانية شرك في الألوهية :
أما كون العلمانية شركاً في التوحيد في جانب الألوهية فلما تمهد من أن الإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة بكمال المحبة وكمال الطاعة ، وأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ففي الحديث المتفق على صحته قول صلى الله عليه وسلم : ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً )
وقد تمهد فيما سبق أن توحيد العبادة ينتظم جانبين رئيسيين : توحيد الإرادة والقصد ، وتوحيد الطاعة والاتباع .
- أما توحيد الإرادة والقصد فيراد به إفراد الله بالشعائر التعبدية كالصلاة والحج والدعاء والنذر والذبح ونحوه .
- وأما توحيد الطاعة والاتباع فيراد به إفراد الله بكمال الخضوع والطاعة ، وإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لمولاه ، وذلك بتحكيم شرعه وحده ، والقبول التام لكل ما جاء به نبي صلى الله عليه وسلم ، والبراءة من كل ما يتنافى مع ذلك من الأهواء البشرية .
وإلى هذين الجانبين يشير قوله تعالى في سورة الأنعام : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ( الأنعام : 161 ، 162 ، 163 ) .
فالآية الأولى تشير إلى توحيد الطاعة والاتباع ، فلا يتلقى الهدى إلا من الله ، والآيتان اللتان بعدها تشيران إلى توحيد الإرادة والقصد ، فلا يتوجه بالأعمال إلى الله .
فالانقياد لله عز وجل والتزام طاعته هو أحد ركني العبادة ، فمن زعم حب الله عز وجل وتصديقه ولكنه رفض الطاعة له أو الانقياد لأمره واختار لنفسه طريقاً آخر مضاداً للصراط المستقيم الذي شرعه الله وأمر باتباعه واتخذ ذلك منهجاً ثابتاً وديدناً مضطرداً يوالي عليه ويعادي عليه فقد ضاد الله في أمره وجعل نفسه نداً للذي خلقه .
قال تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ( الأنعام : 121) .
- وقد روى الحافظ ابن كثير عن سعيد بن جبير قال : خاصمت اليهود صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟! فأنزل الله هذه الآية .
- وروى أيضاً عن ابن عباس قال : لما نزلت ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً وقولوا له : فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال ، وما ذبح الله عز وجل بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام ؟! فنزلت هذه الآية : ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ( الأنعام : 121 ) .
- قال ابن كثير : ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم غيره عليه فهذا هو الشرك كقوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) ( التوبة : 31 ) .
والمقصود في هذا المقام أن الله عز وجل قد جعل عدولهم إلى غير شريعة الله يعد إشراكاً بالله .
* أوجه أخرى لنقض العلمانية لأصل الدين
3- العلمانية ثورة على النبوة :
لا يخفى أن الإيمان بنبوة صلى الله عليه وسلم هو المدخل إلى الإسلام ، فإن الشهادة لله بالوحدانية ول صلى الله عليه وسلم بالرسالة هما أول واجب على المكلف ، وأول ما يخاطب به الناس عند الدعوة إلى الإسلام ، كما قا صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن : [ إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ...] الحديث .
وحقيقة الإيمان بنبوته يتمثل في تصديق خبره جملة وعلى الغيب ، والتزام هديه جملة وعلى الغيب ، فما آمن ب صلى الله عليه وسلم وما ارتضى نبوته من كذب بخبره أو رد عليه شرعه ، لأن حقيقة الإيمان هي التصديق والانقياد ومن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بالله العظيم .
يقول ابن القيم رحمه الله : ( وأما الرضا بنبيه رسولا : فيتضمن كمال الانقياد له والتسلم المطلق إليه ، بحيث يكون أولى به من نفسه ، فلا يتلقى الهدي إلا من مواقع كلماته ، ولا يحاكم إلا إليه ، ولا يحكم عليه غيره ، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة ، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته ، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه . لا يرضى في ذلك بحكم غيره ، ولا يرضى إلا بحكمه ) ( مدارج السالكين 2/172 ) .(15/467)
وقال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ) ( النساء : 65 ) قال ابن كثير رحمه الله : ( يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسو صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً ، ولهذا قال : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث : [ والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ] ( تفسير ابن كثير 1/520 ) .
ويقول الجصاص رحمه الله : ( وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام ، سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم ، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم ، لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي r قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان ) ( أحكام القرآن للجصاص 3/181 ) .
فأين هذا من ترك التحاكم إلى شريعته ابتداء ، واتهامها بالبداوة والرجعية ؟ أو الجمود وعدم الصلاحية للتطبيق ؟
لقد نهى الصحابة في القرآن عن أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت صلى الله عليه وسلم ، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، وجعل من هذا الفعل - الذي قد يبدو يسيراً - سبباً لحبوط الأعمال ، وسبيلاً قاصداً إلى الردة عن الإسلام ، فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) ( الحجرات : 2 ) .
يقول ابن القيم رحمه الله : ( فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم ، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا اولى أن يكون محبطاً لأعمالهم ؟ ) ( أعلام الموقعين لابن القيم1/51 ) .
قلت : فكيف إذا كان الأمر إهداراً لشريعته ، واجتراء على هديه ، ورداً لسنته ، ونبذاً لما جاء به من شرائع الإسلام بالكلية ؟
4- العلمانية نقض لعقد الإيمان المجمل :
فقد تمهد في أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، وأن أصله تصديق الخبر والانقياد للأمر ، وأن من لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بالله العظيم .
فلا يثبت عقد الإيمان بمجرد التصديق الخبري ، بل لا بد من التكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى صلى الله عليه وسلم وقالوا: ( نشهد إنك لرسول ) لم يكونوا مسلمين بذلك لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم فحسب ، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله ، قال : " فلم لا تتبعوني " ، قالوا : نخاف يهود !
يقول ابن القيم رحمه الله : ( ونحن نقول : الإيمان هو التصديق ، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له ، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيماناً لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين ، فالتصديق إنما يتم بأمرين : أحدهما : اعتقاد الصدق ، والثاني : محبة القلب وانقياده ) ( الصلاة لابن القيم 19 - 20 ) .
ويقول القسطلاني في تعريف الإيمان : ( وهو لغة التصديق ، وهو كما قال التفتازاني : إذعان لحكم المخبر وقبوله ، فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول ، بل هو إذعان وقبول لذلك بجيث يقع عليه اسم التسليم ) ( إرشاد الساري 1/82 ) .
ولا يخفى أن العلمانية بردّها لشريعة الله ، وامتناعها عن قبول ما أنزل الله قد أسقطت ركن الانقياد من حقيقة الإيمان ، فتكون نقضاً للإيمان المجمل الذي لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه ، ولا يبقى معها من الإيمان - إن بقيت على ادعائه - إلا التصديق الخبري المحض كالذي كان مع أحبار اليهود الذين شهدوا لرسول ا صلى الله عليه وسلم بالرسالة لما أجابهم عن أسئلتهم بما يعلمون من كتبهم فقال لهم صلى الله عليه وسلم [ فما يمنعكم من اتباعي ؟] قالوا : نخاف قومنا يهود !
أو الذي كان مع هرقل الذي أعلن تعظيمه للنبي r ولكن امتنع عن اتباعه خشية على ملكه .
أو الذي كان مع أبي طالب الذي أعلن بأن دين محمد من خير أديان البرية ، والذي ظل عمره كله يحوط رسول ا صلى الله عليه وسلم ويمنعه ، ولكن امتنع عن اتباعه خشية الملامة ومسبة العرب له بأن استه تعلو رأسه !!
وإننا لو أثبتنا إيماناً أو صححنا توحيداً لمن كان حظه من الشرائع السماوية مجرد اعتقاد صدقها وأنها منزلة من عند الله لحكمنا بإيمان أغلب من في الأرض !!(15/468)
ذلك أن آيات الله مبصرة فلا يملك القلب البشري تجاهها إلا الإذعان والتسليم لا سيما إذا ما عرضت خالية من التشويه والتحريف ، ولكن يختلف الناس بعد ذلك في الموقف العملي : أهو الإخبات والطاعة ؟ أم الإباء والاستكبار ؟!
فالإيمان - كما سبق - ليس مجرد التصديق ، ولكنه الإقرار والطمأنينة وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط ، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر ، وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام ، وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للأمر وإن لم يفعل المأمور به ، فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهوالطمأنينة والإقرار ، فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينية ، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد .
5. العلمانية استحلال للحكم بغير ما أنزل الله :
إن العلمانية بما تقوم عليه من تبني الكفر بمرجعية الشريعة في علاقة الدين بالحياة ، وامتناعها عن الالتزام بشرائع الإسلام ، وإتهامها لمن ينازعها في ذلك بالرجعية والتطرف والإرهاب ... الخ ، تعد استحلالا للتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله ، وتسويغاً للخروج على شريعة الإسلام في كل ما يتعلق بشئون الحياة ، وكل ذلك من الكفر الصراح الذي لا يجتمع مع أصل الإسلام بحال ، فقد اتفقت الأمة على أن استحلال المحرمات القطعية كفر بالإجماع ، لم ينازع في ذلك - فيما نعلم - أحد ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
( والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً ومرتداً باتفاق الفقهاء ، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هو الكافرون ) أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ( مجموع فتاوى ابن تيمية 3/267 ).
وإن في الامتناع عن الالتزام بشرائع الإسلام أو بالحكم بها استباحة لما حرم الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن الاستحلال ليس مجرد عدم الاعتقاد بأن الله قد حرم هذا الشيء ، بل يكون أيضاً مع اعتقاد حرمته وعدم التزام هذا التحريم .
فللاستحلال صورتان :
- الأولى : عدم اعتقاد الحرمة ، ومرده حينئذ إلى خلل في الإيمان بالربوبية والرسالة ، ويؤدي إلى كفر التكذيب .
- الثانية : اعتقاد الحرمة والامتناع عن التزام هذا التحريم ، ومرده في هذه الحالة إما إلى خلل في التصديق بصفة من صفات الشارع جل وعلا كالحكمة والقدرة ، وإما لمجرد التمرد واتباع هوى النفس .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق ، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال : اعتقاد أن الله لم يحرمها ، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها ، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية ، ولخلل في الإيمان بالرسالة ، ويكون جحداً محضاً غير مبني على مقدمة .
وتارة يعلم أن الله حرمها ، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله ، ثم يمتنع عن التزام التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفراً ممن قبله ، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه ، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته ، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس ، وحقيقته كفر هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ماأخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون ، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه ، ويقول أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه وأبغض هذا الحق وأنفر عنه فهذا نوع غير النوع الأول ، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ) ( الصارم المسلول لابن تيمية : 521 - 522 ).
فلا يشترط إذن في الاستحلال أن يكون دينياً ، أي يعتقد حل المحرمات ديناً ، بل يكفي ألا يلتزم بهذا التحريم وإن كان مقراً به لكي يكون مستحلاً كافراً بإجماع الأمة .
فمن امتنع عن التزام الحكم بشرائع الإسلام ، وتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله ، وشرع للناس من الأحكام ما لم يأذن به الله فإنه يكون مستجيزاً مخالفة حكم الله ، مستحلاً للحكم بغير ما أنزل الله ، وتكفيره معلوم بالاضطرار من دين الإسلام .
6. العلمانية منازعة في أصل دين الإسلام :
فالإسلام كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( يتضمن الاستسلام لله وحده ، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً ، ومن لم يستسلم له كان مستكبراً عن عبادته ، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر ، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده ، وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت ) ( مجموع فتاوى ابن تيمية 3/91 ) .(15/469)
ولا شك أن العلمانية بما تتضمنه من رفض الاستسلام لله وحده ، وإعلان الكفر بمرجعية وحيه في علاقة الدين بالدولة ، ورفض الدخول ابتداء تحت دائرة التكليف فإنها بهذا تكون منازعة لدين الإسلام
في أصله ، ومناقضة له في أساسه ولبه .
ولكي تزداد هذه الحقيقة جلاء لا بد أن نتعرف على حقيقة الدين وما يندرج تحته من شرائع وتكليفات ، ذلك أن كثيراً من الناس في هذا العصر يخطىء في فهم حقيقة الدين الذي أنزله الله على صلى الله عليه وسلم ويظنه لا يتجاوز ما يقام فينا من شعائر العبادات ، وما يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى مكارم الأخلاق ، أما ما وراء ذلك من شئون الحياة فلا علاقة للدين به طبقاً لمقولة : دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ! أو لمقولة لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ، ولا يخفى أن من كانوا كذلك إنما يتصورون ديناً آخر ويسمونه الإسلام .
فالدين هو جملة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من عند الله من عقائد وعبادات وشرائع . كل ذلك داخل في مسمى الدين ، مقصود بقوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) ( آل عمران : 19 ) وقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( المائدة : 3 ) .
ولا يخفى أن في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة أحكاماً كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات ، كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقذف المحصنات وجزاء الساعي في الأرض فساداً .. بل في القرآن آيات حربية و ... الخ. وهذا يدلنا على أن من يدعو إلى العلمانية أو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصور ديناً آخر وسماه الإسلام .
هذا ولا يخلو حال الداعين إلى هذه النحلة من أحد أمرين :
- إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام ، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث ، وحكم هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين .
- وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة ، وينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها بالمصالح في هذا العصر ، وفي هذا المسلك من الزندقة والكفر ما فيه فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرع جل في علاه وقد استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد لأنه رد على الله حكماً واحداً من أحكامه ، فكيف بمن رد على الله أحكامه كافة متهماً لها بعدم الصلاحية ، ويعد الدعوة إلى تطبيقها لوناً من ألوان الردة الحضارية ؟!!
لقد عرفت الأمة من قبل - ولا تزال - خلافات فقهية كثيرة تمحورت إلى أربعة مذاهب رئيسية عدا ما اندثر من المذاهب الأخرى ، كما عرفت خلافات عقائدية كثيرة تمحورت إلى قرابة ثلاث وسبعين فرقة وقفت على رأسها الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وبقي من عداهم من أهل الوعيد .
إلا أن هذه المذاهب وتلك الفرق قد التقت في الجملة على أصل الإيمان بالله ورسوله ، واتفقت على الإقرار المجمل بالتوحيد والرسالة ، فاعتقدوا جميعاً بتفرد الله وحده بالخلق والأمر ، ودانوا جميعاً بأن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الوحي المعصوم ، وكل ما نشأ بينهم بعد ذلك من الاختلافات فقد كان داخل هذا الإطار فالطاعة للتكليف واتباع صلى الله عليه وسلم لم تكن موضع مماراة من أحد منهم ، ولهذا صح وصف هذه الفرق بأنها فرق إسلامية .
أما منازعة العلمانيين اليوم فهي منازعة في أصل الدين ، ومشاقة بينة لله ولرسوله وللمؤمنين ، إنهم يجادلون في حجية الوحي الأعلى المعصوم ، وينازعون في مبدأ الدخول في دائرة التكليف ، ويكفرون بصلاحية الشريعة كل الشريعة للتطبيق . . إنها ثورة على الإسلام ... وانقلاب ضد النبوة ... إنها حريق حول الكعبة
7. العلمانية طاغوت تَعَّبد الله عباده باجتنابه والكفر به
لقد جعل الله الكفر بالطاغوت قسيم الإيمان بالله ، وتعبد أولياءه بالكفر بالطاغوت واجتنابه في مواضع شتى من القرآن الكريم .
فقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) ( النحل : 36 ) .
وقال تعالى : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام له والله سميع عليم ) ( البقرة : 256 ).
وبين أن ادعاء الإيمان لا يصح مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت ، فقال تعالى: ( ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً ) ( النساء : 60 ) .
وتمدح الذين اجتنبوا الطاغوت ، وجعل لهم البشرى في كتابه الكريم فقال تعالى : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد ) ( الزمر : 17 ) .(15/470)
والطاغوت هو ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : ( الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ) ( أعلام الموقعين 1/52 ) .
والعلمانية بما تعنيه من رفض الدخول في إطار التكليف ، وخلع ربقة العبودية فيما يتعلق بأمور الدولة وسائر أمور الحياة العامة ، وتعبيد أتباعها للأهواء المجردة ، وعقد الولاء والبراء على ذلك لا شك أنها من أظهر أنواع الطواغيت التي أمرنا بالكفر بها واجتنابها .
خامساً : خلاصة القول في شبهة التسوية بين العلمانية وبين انحرافات التطبيق الجزئية
لقد تمهد - كما سبق - في محكمات الأدلة أن توحيد الألوهية يقتضي إفراد الله بالطاعة والانقياد ، وأن الإيمان المجمل هو التصديق والانقياد ، وأن الكفر هو عدم الإيمان ، سواء أكان معه تكذيب أو استكبار أو إباء أو إعراض ، وأن من لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر .
وعلى هذا يمكن تفصيل القول في قضية الحكم بغير ما أنزل الله ، ذلك أن تعبير الحكم بغير ما أنزل الله ، قد يقصد به عمل القضاة والمنفذين ، وقد يقصد به عمل الأصوليين المشرعين ، وعلى حسب الدقة في تحديد المناط تكون الدقة في سلامة الحكم وموافقته لمراد الشارع :
* فإن قُصد به عمل القضاة والمنفذين نظر : فإن كان مرده إلى تكذيب الحكم الشرعي أو رده فهو كفر أكبر يخرج من الملة ، وإن كان مرده إلى عارض من هوى أو رشوة أو نحوه مع بقاء التحاكم ابتداء إلى الكتاب والسنة أو ما حمل عليهما بطريق الاجتهاد فهو من جنس الذنوب والمعاصي ، وأصحابه في مشيئة الله إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم .
وهذه هي صورة الحكم بغير ما أنزل الله ، التي عرفت في تاريخ الإسلام ، والتي قال فيها علماء الإسلام ما قالوا وفصلوا فيها من الأحكام ما فصلوا ، إذ لم تعرف الدولة في تاريخها الطويل نبذا كاملاً لأحكام الله واطراحاً مجملاً لشريعة الله ، وتحاكماً من حيث المبدأ إلى كتاب غير القرآن وإلى دين غير الإسلام . اللهم إلا مرة واحدة في أيام التتار ولقد جزم أهل العلم يومها أن هذه الصورة المستحدثة لا تكييف لها إلا الكفر ، وأن أصحابها كفار بلا خلاف وأنه يجب قتالهم حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله .
قال ابن كثير رحمه الله عما كان يحكم به التتار من السياسات الملكية ( فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير ) ( تفسير ابن كثير : 2/67 ) .
ويقول في البداية والنهاية : ( فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه ، من فعل فقد كفر بإجماع المسلمين ) ( البداية والنهاية لابن كثير : 13/119 ) .
* أما إن قصد به المعنى الأصولي التشريعي الذي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء أو التخيير أو الوضع ، وأريد به اصدار قواعد تشريعية عامة تبدل بها شرائع الإسلام وتكون لها السيادة في الأمة بدلاً من سيادة الكتاب والسنة وتصبح هي المرجع في الحكم عند التنازع ، ويقدم العمل
بها على العمل بأحكام الشريعة المطهرة فلا جدال في أن هذه الصورة مناط واحد وتكييف واحد وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة الذي لا تبقى معه من الإيمان حبة خردل ، كما قال تعالى : ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ( الشورى : 21 ) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والإنسان متى حلل الحرام الممجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء ) ( مجموع فتاوى ابن تيمية : 3/267 ) .
وقد سبق قول ابن كثير : ( فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء r وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ) .(15/471)
ولقد أدى اللبس في هذه القضية وعدم تحديد مناطات الحكم في صوره المختلفة إلى اضطراب كثير من أهل العلم من منتسبي الحركة الإسلامية وغيرهم في تقريرها مما أتاح للمبطلين أن يجدوا من بين فرجات اختلافهم مدخلاً لهم يلبسون به على العامة ، ويسبغون به الشرعية على هذه العلمانية الغازية التي تقوم على رد شرائع الإسلام ، واستباحة الحكم بغير ما أنزل الله ، وإهدار سيادة الشريعة الإسلامية ، وحمل الأمة كلها على تحكيم القوانين الوضعية وذلك بإشاعة القول بأن الكفر الوارد في قوله تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) هو الكفر الأصغر الذي لا ينقل عن الملة ، ويسوقون في ذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في بيان أنه كفر دون كفر ، وليس كمن كفر بالله وملائكته ، فنصبح بذلك أمام خلل جزئي أو انحراف فروعي لا يبرر انعدام الشرعية ولا سقوط واجب الطاعة .
ولقد نبه الشيخ محمود شاكر رحمه الله في تعليقه على الطبري إلى هذا الخلل وفصل القول في مثل هذه الآثار عند تعليقه على ما أورده الطبري في تفسير قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) من قول أبي مجلز وهو تابعي ثقة لمن سأله عن معنى هذه الآية وأرادوا أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء لأنهم في معسكر السلطان ، ولأنهم ربما ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه فأجابهم أبو مجلز بقوله : (إنهم يعملون بما يعملون - يعنى الأمراء - ويعلمون أنه ذنب ! قال : بينما أنزلت هذه الآية في اليهود والنصارى ، قالوا : أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم ، ولكنك تخشاهم ! قال : أنتم أحق بذلك منا ، أما نحن فلا نعرف ما تعرفون ! قالوا : ولكنكم تعرفونه ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم ! ) ( تفسير الطبري 6/252 ، 253 ) .
ويقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله : تعليقاً على ذلك ( فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا ، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام ، بالاحتكام إلى حكم غير الله في كتابه وعلى لسان نبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ، ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من اهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه .
والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء ، وإيثار حكم غير حكمه في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله ، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة ، وإدعاء المحتجين بذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا ، ولعلل وأسباب انقضت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها .
فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز ، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس !! ( راجع تفسير الطبري بتحقيق أحمد شاكر 10/349 ) .
ويقول في موضع آخر : ( لو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز ، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها ، هذه واحدة ، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها ، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل ، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة ، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية فهذا ذنب تناله التوبة وتلحقه المغفرة ، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكماً يخالفه به سائر العلماء ، فهذا حكمه حكم كل متأول ، يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب ، وسنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر ، جاحداً لحكم من أحكام الشريعة ، أو مؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط ، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه .
فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابهما ، وصرفهما إلى غير معناهما رغبة في نصرة سلطان ، أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده ، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد بحكم من أحكام الله : أن يستتاب ، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ، ورضي بتبديل الأحكام فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين ) ( تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر : 10/358 ) .
والذي نخلص إليه من ذلك كله أن قول بعض السلف كفر دون كفر في تفسير هذه الآية لا ينصرف مناطه إلى مناط العلمانية التي ترد مرجعية الشريعة ، وتهدر سيادتها في علاقة الدين بالدولة وتجعل من التحاكم إليها خروجاً على الشرعية وسبباً قاطعاً من أسباب بطلان الحكم ونقضه !
سادساً : شبهة وجوابها
ولكن تبقى بعد ذلك شبهة ، وهي أن هذه النصوص السابقة إنما هي في قوم رفضوا الدخول في الإسلام من البداية ، وأبوا أن يذعنوا له رغم معرفتهم بأنه حق من عند الله ، أما هؤلاء الممتنعون عن التزام الشرائع أو الحكم بها فقد أعلنوا قبولهم للإسلام في الجملة .(15/472)
ويجاب عن هذا بأنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا فرق بين من يدفع جميع ما أنزل الله على عباده ، ومن يدفع شيئاً واحداً من ذلك ، كما لا فرق بين من يكذب بالقرآن كله ومن يكذب بسورة واحدة من سوره أو حتى آية واحدة من آياته ، ولا بين من يجحد الإسلام من البداية ومن يجحد حكماً واحداً من أحكامه القطعية ، فمن أعلن قبوله للإسلام والتزامه بشرائعه جملة ، ثم رد شيئاً من أحكامه القطعية فقد خرق بذلك قاعدة الخضوع والتزام الطاعة ، وهي التي تمثل إحدى دعامتي التوحيد كما سبق القول .
ولكن سؤالاً يرد في هذا المقام :
هل مجرد التحاكم إلى الشرائع الوضعية والتزامها يعد خلعاً للربقة وتحللاً من الالتزام بشرائع الله ؟
وفي الجواب على هذا تفصيل لا غنى عن ذكره :
أولاً : لا شك أن الإقدام على نقض أحكام الله وتبديل شرائعه ، وإحلال أهواء البشر محلها طواعية واختياراً بلا عارض من تأويل أو إكراه ، وحمل الأمة على ذلك بقوة السلطان يعد شركاً بالله العظيم وكفراً بربوبيته وألوهيته .
ثانياً : أما من توارث ذلك عمن سبقه من الولاة ، ولم يبتدئ جريمة التبديل والفصل بين الدين والدولة فلا يخلوا حاله من صورة من هذه الصور :
- أن يرضى بهذه العلمانية ، ويعلن التزامه بها ، ويسعى للتمكين لها ، ويعقد ولاءه وبراءه عليها ، فهذا لا شك في كفره ، لأن الرضا بالكفر والتزامه كفر بالاتفاق .
- أن يعلن الكفر بها والعزم على تغييرها ، ويتخذ بهذا الصدد خطوات حقيقة تبين صدقه في دعواه ، فهذا قد برئ من الرضا والمتابعة ، وذلك هو المسلم الذي له ذمة الله ورسوله ، ويجب على الأمة عونه وتأييده ، وقد يستغرق استكمال التغيير مدداً تطول أو تقصر ، ولكن هذا لا يقدح في صحة إسلامه ما صدقت أفعاله أقواله .
- أن يروغ في مواقفه ، فلا يعلن صريح الرضا والمتابعة ، ولا صريح الانخلاع والبراءة وإنما تتذبذب مواقفه بين الفريقين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، فهذا هو النفاق الذي ما فتئت تواجهه الدعوات على مدار التاريخ ، وعلى الأمة أن تتابع مواقفه ، وأن تلجئه إلى التزام أحد المنهجين لتفوت عليه ما يريده من الخداع والتلبيس ، فإذا ما أظهر نفاقه بيقين فقد زالت شرعيته وسقطت طاعته .
والحق أن هذا الموقف الأخير هو أخطر ما يواجه الدعوة إلى إقامة الدين في هذا العصر ؛ لأنه يجعل الناس في هؤلاء المارقين فئتين :
- فئة تحسن الظن بأقوالهم فتلقي إليهم السلم ، وتشايعهم بالقول والعمل ، وتتهم الآخرين بالغلو والشطط !
- وفئة أخرى حاكمت أقوالهم إلى أعمالهم ، فتبين لها كذب المقالات وزيف الشعارات ، فلم تقم لها وزناً وحكمت عليهم بما أسفر عنه استقراء واقعهم ورصد حقيقتهم .
وإن المعركة الحقيقية في مثل هذه المواقع لا بد أن تكون على محورين :
- الأول : بيان حقيقة التوحيد وتبليغها للكافة حتى يستفيض العلم بأنه لا حكم إلا لله ، وأن العلمانية والإسلام نقيضان ، وأن تحكيم القوانين الوضعية لا يجتمع مع أصل الإيمان بحال من الأحوال .
- الثاني : بيان حقيقة الواقع ورصده بمنتهى الموضوعية والدقة ، حتى يتبين للناس الحقيقة والدعوى في هذه المزاعم والادعاءات .
ذلك أن من الناس من يجهل حقيقة التوحيد وعلاقته بتحكيم الشريعة ووجوب إفراد الله بالطاعة .
ومنهم من يجهل حقيقة الواقع تحت تأثير أبواق التضليل والدعاية وخبراء الخداع والتلبيس ! وهؤلاء يمثلون في الواقع نسبة عالية لا يستهان بها ، وفيهم الدعاة والهداة من حملة القرآن والسنة من يقرون بالقضية في جانبها العلمي ، وتعتبر عند كثير منهم من البدهيات والمسلمات ، ولكنهم فتنوا بالشعارات والتصريحات التي تطلقها أبواق العلمانية فشوشت عليهم الرؤية وجعلتهم في أمر مريج !
بقيت مسألة في غاية الأهمية وهي أن موقف الدعوة من العلمانية موقف عقيدي ثابت ، فالعلمانية والإيمان نقيضان ، وهي من الطواغيت التي تَعبَّد الله عباده بالكفر بها واجتنابها ، ومهما تفاوتت اجتهادات الدعاة في أشخاص القائمين عليها من طواغيت البشر فلا علاقة لذلك بالقضية الأصلية وهي رفض هذا المنهج وعدم مشايعة سدنته بقول أو عمل .
سابعاً : من فتاوى أئمة المسلمين في علمانية التشريع
* ابن كثير :
قال عند تفسير قوله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) ( المائدة : 50 ) .
( ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات ، وكما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق ، وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير ) ( تفسير ابن كثير : 2/ 67 ) .(15/473)
ويقول في البداية والنهاية : ( فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء ، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه ؟! من فعل فقد كفر بإجماع المسلمين ) ( البداية والنهاية : 13/119 ) .
*الإمام أبو بكر الجصاص :
يقول في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) ( النساء : 65 ) ( وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام ، سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي r قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان ) ( أحكام القرآن : 3/181 ) .
* النسفي :
ويقول النسفي في تفسير قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ) ( الأحزاب : 35 ) ( إن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر ، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق ) ( تفسير النسفي ) .
* ابن تيمية :
( والإنسان متى أحل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء ) ( مجموع فتاوى ابن تيمية : 3/267 ) .
* محمد بن إبراهيم آل الشيخ :
( إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين ).
ثم أخذ يعدد أنواع الحكم بغير ما أنزل الله التي تخرج من الملة فقال : ( من أعظم ذلك وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ، ومشاقة لله ورسوله ، إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي ، كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني ، أو غير ذلك من مذاهب الكفار ، وأي كفر فوق هذا الكفر ؟ وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة ؟ ) ( رسالة تحكيم القوانين : 1 ، 7 ) .
* عبدالعزيز بن باز :
ويقول الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- في معرض نقده لدعوة القومية العربية : ( إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن ، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن ، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوى مجتمع القومية في تلك الأحكام ، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف ، وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة كما قال تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) وقال تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) وقال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) وقال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) .
وكل دولة لا تحكم بشرع الله ، ولا تنصاع لحكم الله فهي دولة جاهلية كافرة ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله حتى تؤمن بالله وحده وتحكم شريعته كما قال عز وجل : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) ( فكرة القومية العربية لصالح العبود /268 ) .
ويقول في موضع آخر : ( وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله ، أو أن غير هدي رسول ا صلى الله عليه وسلم أحسن من هدي الرسو صلى الله عليه وسلم فهو كافر ، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة صلى الله عليه وسلم أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال ، وبما ذكرناه من الأدلة القرآنية ، وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره ، أن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو إلى الشيوعية أو غيرها من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام ،كفار ضلال أكفر من اليهود والنصارى ، لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيباً أو إماماً في مسجد من مساجد المسلمين ولا تصح الصلاة خلفهم ، وكل من ساعدهم على ضلالهم ، وحسَّن ما يدعون إليه وذم دعاة الإسلام ولمزهم ، فهو كافر ضال ، حكمه حكم الطائفة الملحدة ، التي سار في ركابها وأيدها في طلبها ، وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من انواع المساعدة ، فهو كافر مثلهم ) ( مجموع الفتاوى ومقالات متنوعة 1/274 )
* محمد الأمين الشنقيطي :(15/474)
ويقول الشنقيطي : ( وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا ، يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم ) ( أضواء البيان للشنقيطي ).
ويقول في موضع آخر : ( وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض ، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف بل يلزم استواؤهما في الميراث ، وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ، وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ونحو ذلك ، فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ) ( أضواء البيان للشنقيطي ) .
* محمد حامد الفقي :
ذكر في تعليقه علىكتاب فتح المجيد معقباً على كلام ابن كثير في قوله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ) .. الآية ( ومثل هذا وشر منه من اتخذ كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال ، ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله ولا ينفعه أي اسم تسمى به ، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام ونحوها ) ( فتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن آل الشيخ : 406 ) .
* أحمد شاكر :
( إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس ، هي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة ، ولا عذر لأحد ممن ينتسب إلى الإسلام كائناً من كان في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها ، فليحذر امرؤ لنفسه ، وكل امرئ حسيب نفسه ) ( عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير : 4/174) .
* محمد الخضر حسين شيخ الأزهر سابقاً :
( أما أن تفعل البلاد الإسلامية ما فعلته الدول الغربية من تجريد السياسة من الدين ، فهو رأي لا يصدر إلا ممن يكنّ في صدره أن ليس للدين من سلطان على السياسة ، وهذا ما يبثه فئة يريدون أن ينقضوا حقيقة الإسلام من أطرافها ، حتى تكون بمقدار غيرها من الديانات الروحية التي فصلها أهلها عن السياسة ، ثم يصبغوا هذا المقدار بأي صبغة أرادوا فيذهب الإسلام ، فلا القرآن نزل ولا صلى الله عليه وسلم بعث ! ولا الخلفاء الراشدون جاهدوا في الله حق جهاده ! ولا الراسخون في العلم سهروا في تعرف الأصول من مواردها وانتزاع الأحكام من أصولها !) .
إلى أن يقول : ( فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم الدين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين !! ) ( رسائل الإصلاح لمحمد خضر حسين ) .
*الكوثري :
( وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن دين الإسلام جامع لمصلحتي الدنيا والآخرة ولأحكامهما دلالة واضحة لا ارتياب فيها ، فتكون محاولة فصل الدين عن الدولة كفراً صريحاً منابذاً لإعلاء كلمة الله ، وعداءً موجهاً إلى الدين الإسلامي في صميمه ، ويكون هذا الطلب من الطالب إقراراً منه بالانتباذ والانفصال ، فنلزمه بإقراره فنعده عضواً مفصولاً عن جماعة المسلمين وشخصاً منفصلاً عن عقيدة أهل الإسلام ! فلا تصح مناكحته ولا تحل ذبيحته ؛ لأنه ليس من المسلمين ولا من أهل الكتاب ! ) .
* يوسف القرضاوي :
( بل إن العلماني الذي يرفض " مبدأ " تحكيم الشريعة من الأساس ، ليس له من الإسلام إلا اسمه ، وهو مرتد عن الإسلام بيقين ، يجب أن يستتاب وتزاح عنه الشبهة وتقام عليه الحجة ، وإلا حكم القضاء عليه بالردة ، وجرد من انتمائه إلى الإسلام ، أو سحبت منه " الجنسية الإسلامية " وفرق بينه وبين زوجه وولده ، وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة ) ( الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه للقرضاوي : 73 ، 64 ) .
ثامناً : شبهات وجوابها
* الشبهة الأولى :
قد يرد على بعض الناس القول بأن العلمانية المعاصرة لم تبتدئ رد الأحكام وتبديل شرائع الإسلام ، وإنما توارثت ذلك عن علمانية سابقة ، وهي تسعى إلى التغيير .
ولا شك أن هذه الشبهة تعد من أبرز الشبهات التي يعتمد عليها فريق كبير من الناس ، سواء منهم من يتعمدون التلبيس والكذب وهم يعلمون ، أو من فتنوا بهم وهم يحسبون أنهم يعلمون .
والجواب على ذلك في مسألتين :
- المسألة الأولى : أنه قد علم بالضرورة من دين الإسلام ، بل من دين الرسل جميعاً أنه لا فرق في الحكم العام بين من يكفر بالحق ابتداء ، ومن يتوارث ذلك عن غيره مع الرضا والمتابعة .
- فلا فرق بين من ابتدأ تحريف التوراة والإنجيل ، وبين توارث ذلك من اليهود والنصاري من بعد ، ما داموا مقرين ومتابعين .
- ولا فرق بين من ابتدع عبادة الأصنام ، وبين من تعبد لها بعد ذلك تقليداً ومتابعة .(15/475)
- ولا فرق بين عمرو بن لحي الخزاعي وهو أول من غير دين إبراهيم ، فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا إلى عبادتها من دون الله ، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله وبين من تابعه على ذلك من العرب من بعد .
ولقد خاطب القرآن الكريم أهل الكتاب بما ارتكبه آباؤهم من قبل ، وما ذلك إلا لإقرارهم له ورضاهم به ، فقال تعالى : ( وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ) ( البقرة : 91 ) .
يقول لهم : إن كنتم صادقين في دعوى الإيمان بما أنزل عليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بين أيديكم وقد أمرتم باتباعهم وتصديقهم ؟ وهذا خطاب لليهود الذين كانوا في زمن صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن أحداً من هؤلاء لم يرتكب شيئاً من ذلك ، وإنما هو أمر جناه آباؤهم من قبل ، فخوطبوا به لرضاهم به وإقرارهم له . ومثل ذلك كثير في القرآن .
- المسألة الثانية : إن القول بأن هذه العلمانية المعاصرة تسعى إلى التغيير ، وأن ذلك ينفي شبهة الرضا والمتابعة أمر يحتاج إلى تفصيل :
ذلك أنه لا منازعة في صحة المبدأ في ذاته ، فمن جاء على ميراث سابق من الكفر، ولكن أعلن انخلاعه عنه ، وكفره به وبراءته منه ، ثم توجه بكل جهده نحو تغييره وإزالته ، فلا شك أنه لا ينسحب عليه حكم من سبقه ، ولا يُسأل عن جريمة جناها غيره ، بل يسلك - إن صدق - في عداد المجاهدين .
أما إذا كان يروغ ويدور ، فيزعم الإيمان ويدعي التوجه إلى التغيير ، ويقدم بين يدي ذلك أعمالاً هزيلة مدخولة ، ثم تتجه خطاه بعد ذلك نحو الباطل الذي توارثه تدعيماً له وتثبيتاً لأركانه ، ومدافعة عنه ومجادلة دونه ، بل ويوالي ويعادي على ذلك فمن رضي بشرعه ومنهاجه قربه ووالاه ، ومن ظن به سوى ذلك أبعده وعاداه ، بل يخنق كل صوت يدعو إلى الحق ، وكل دعوة تعمل على إقامة الدين والتزام شرائعه ، فلا يجوز حينئذ أن يعول على قول تبين زوره ، ولا على دعوى تبين بطلانها ، ولا على زعم تحقق كذبه ، بل الأقرب أن يلحق هؤلاء بالزنادقة الذين لا تقبل لهم توبة في رأي فريق كبير من العلماء ! .
* الشبهة الثانية :
وتتمثل هذه الشبهة في القول بأن هذا المنهج يجدد في الأمة مقولة الخوارج وينبثق من مشكاته ، فهم الذين رفعوا عبر التاريخ شعار : ( لا حكم إلا لله ) وعرفوا به من دون الفرق جميعاً ، وانطلقوا منه في استحلال دماء المخالفين وأموالهم !!
والجواب على هذه الشبهة أن قوله تعالى : ( إن الحكم إلا لله ) قد حكاه القرآن الكريم على لسان الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قبل أن تنقله لنا دواوين التاريخ على ألسنة الخوارج ! أفيكون كل من دعا إلى إقامة الدين وتحكيم الشريعة وإفراد الله بالعبادة والتشريع المطلق خارجياً من الخوارج ؟ ترى ماذا يكون إذن مبدل الشرع ، ومحل الحرام ومحرم الحلال والداعي للفصل بين الدين والدولة ؟ أيكون على بن أبي طالب ؟! .
ولقد رفع الخوارج هذا الشعار ليكفروا به أئمة الجور من المسلمين في وقت كان الأصل فيه هو التحاكم إلى الشريعة ، وقيام الدولة على حراسة الدين وسياسة الدنيا به ، وإن غشيها من المظالم ما غشيها ، فكانوا مبطلين خارجين عن الحق .
ويرفعه اليوم المجددون من الدعاة إلى الله وقد أعلنت العلمانية وحكمت القوانين الوضعية التي تحل الربا والزنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن وتحميها بقوة الشرطة والقضاء ، يرفعونه ليردوا به الأمر إلى الله جل وعلا ، ولينتصروا به لشريعتهم المضاعة وكتابهم المهجور ، وليدفعوا عن الأمة شرك التشريع بما
لم يأذن به الله ، وباطل التحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله فكانوا مجاهدين أنصاراً لله ورسوله .
================(15/476)
(15/477)
العلمانيون وحرية الفكر
مشهد درامي هزلي صاخب يطل علينا من حين لآخر من الساحة الثقافية العلمانية كلما انتهكت " حرمة " الرذيلة أو وطئ طرفها " الطاهر " ، متقنعة في هذا المشهد بقناع حرية الفكر والإبداع ، وقد تكرر هذا المشهد كثيرًا ، ومؤخرًا رأيناه في الجزائر والأردن ومصر والكويت واليمن وبنجلاديش .
ولكن مفارقة ذات دلالة حدثت في المناحة الأخيرة التي أقامها نادبوا حرية الإبداع والفكر في آخر مآتمهم الثقافية ، هذه المفارقة هي أن الطرف الآخر المراد إرهابه والضغط عليه لم يكن متعصبًا ، ولا متطرفًا ، بل إنه متهم من الإسلاميين بنشر الثقافة العلمانية المتفلتة والدفاع عنها في مصر ، ولكن لم يشفع له ذلك الاتهام للإفلات من إرهاب الوصاة على الفكر والثقافة وتهديداتهم ، فبمجرد أن انحاز وزيرالثقافة مرة إلى بعض قيم المجتمع وثوابته وأصوله ، وحاسب مسؤولاً ـ يحق له إداريًا محاسبته ـ على نشر روايات ثلاث تجاوزت " قلة الأدب " فيها الحد الذي لا يمكن السكوت عليه ، ثارت ثائرة النائحين ، فاستقالوا وقاطعوا وهددوا وتوعدوا وعلا صياحهم من الربط بين ظلام الرجعين ، وظلم السلطويين ، وتحالفهم ضد التقدمية والتنوير ، ثم تداعت وسائل الإعلام لنصرة إخوانهم "المضطهدين " ، فأفردت الصفحات لإقامة المنائح والبكائيات على الثقافة والإبداع ، بل دخل الإنترنت على الخط فتطوع أحد المواقع بنشر الروايات الثلاث كاملة نكاية بخانقي حرية الفكر ومعوقي حركة الإبداع .
أي تقدمية ، وأي تنوير يريدون ؟ وما هو مفهوم الحرية ، وحدودها عندهم ؟ ومن جعلهم أوصياء على الإبداع والفكر ؟ ولماذا إيهام العامة بتأثير الندب والصياح ، بأنهم وحدهم المثقفون ، وأنهم وحدهم المتحدثون باسم الثقافة ؟ وأين هي حرية الفكر والإبداع التي يزعمونها عندما يتعلق هذا الفكر والإبداع برؤى مخالفة لرؤيتهم ؟ لماذا لا يدافعون ـ إذا كانوا صادقين في دعواهم ـ عن حق الإسلاميين " مثلاً " في التعبير عن فكرهم ونشر إبداعهم ، بدلاً من العمل على مصادرة هذا الحق من خلال مراكزهم بزعم أنها ثقافة ظلامية رجعية ؟
هل هناك إرهاب فكري ، وعنف معنوي أكثر من هذا الذي يمارسه " المثقفون " العلمانيون عندما تُمس الرذيلة ويُدعى إلى الفضيلة ؟ ألا ترون أن شأن المثقفين العلمانيين مع الإسلام ودعاته كما يقول المثل : " رمتني بدائها وانسلت " ؟
مجلة البيان
العدد / 160
==============(15/478)
(15/479)
ينقصنا تطبيق النظرية الشورية في واقعنا
في حوار مع الإسلام اليوم
الإسلام اليوم - القاهرة 16/1/1423
30/03/2002
د. عدنان النحوي.. أديب وشاعر ومفكر إسلامي كبير رغم أن تخصصه ليس في الأدب ولا في الثقافة ولا في الشريعة.. ولد في مدينة "صفد" الفلسطينية وأنهى تعليمه في دار المعلمين، ثم حصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة القاهرة، وبعد ذلك حصل على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية. وعمل مدرساً في حمص بسوريا لمدة ثمانية أعوام، ثم مدير إذاعة بحمص أيضاً لمدة ثلاثة أعوام، ثم مديراً للمشروعات الإذاعية في الرياض لمدة خمسة عشر عاماً.. رغم كل ذلك إلا أن مؤلفاته تنوعت بين الدعوة والفكر والأدب وله فيها اثنا عشر كتاباً...
التقينا به في القاهرة وحاورناه عن هموم المسلمين والصحوة الإسلامية ومشاكل الأدب الإسلامي.
سؤال:لاحظت اهتمامكم بقضية "الشورى" ولكم فيها كتابان.. فهل حسمتم السؤال التقليدي عن الشورى وهل هي ملزمة أم معلمة؟ وما هي علاقة الشورى بالديمقراطية؟
جواب:أنا رفضت ذلك وقلت هذا الطرح خاطئ وتحدثت عن الشورى وممارساتها الإيمانية. فالشورى نظام رباني متكامل، والله أنزلها وحياً على رسوله في القرآن والسنة. الذي ينقصنا نحن النظرية الشورية، فهي موجودة في كتاب الله، ولكن حتى نطبقها في واقعنا لا نستطيع أن نطبقها إلا إذا طبقنا الإسلام كله؛ لأن الشورى جزء من الإسلام ولا يمكن تطبيق جزء من الإسلام وترك جزء آخر والله يقول (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض). ثم إن الطرح الذي يقول: هل الشورى معلمة أم ملزمة لم يسبق أن حدث في التاريخ الإسلامي أيام صلى الله عليه وسلم والصحابة ولكن القضية طرحت حديثًا عندما غزتنا الديمقراطية الغربية.
وهناك نقطة أخرى تنطوي على شيء كبير من الوهم وهي أن المسؤول الأول في النظام الديمقراطي ملزم بما يجمع عليه الأكثرية. ولو طبقنا ذلك على الغرب لوجدنا أن رئيس الدولة عندهم أو رئيس الوزراء له صلاحية كبرى لا يرجع فيها للشعب بحيث تتوازن المسؤوليات والصلاحيات، أما عندنا فالشورى واجبة في الحياة الإسلامية والقرار تصدره الجهة المختصة التي تحاسب في الدنيا وتحاسب بين يدي الله في الآخرة. وهذا التصور الكامل للشورى لا يصح إلا إذا طبقنا الإسلام كاملاً.. وثمة بعد آخر في القضية هو أن الديمقراطية لها منحى بعيد عن الشورى؛ فالديمقراطية يتوهم البعض أنها تعني "الحرية" و"الأمن" و"المساواة".. غير أننا لم نجد إلا الحرية الجنسية وبعض الحماية للفرد.. ولكن حقوق الإنسان الإنسانية مفقودة في الحياة الديمقراطية وتحت مسمى "الديمقراطية" انتشرت الشهوات والإباحية فقتلت إنسانية الإنسان.. فيكيف نتصور حرية الإنسان في هذا الجو وقد تحول إلى إنسان آلي مندفع وراء شهواته؟!
" سقطت الشيوعية ..ولم يسقط الإلحاد "
سؤال:سقطت الشيوعية في الغرب بسقوط دولتها غير أن الشيوعيين العرب مازالوا يتبجحون ويتحدثون عن الخطأ في التطبيق.. كيف تفسرون ذلك؟
جواب:الذي سقط هو السلطة الزمنية ومظهر الدولة المجسدة للفكرة الشيوعية أما الفكرة كفلسفة مادية ملحدة، لا تؤمن بوجود الله فهي موجودة سواء في الاتحاد السوفيتي أو في البلاد العربية أو غيرها.. ولكن كيف تعمل هذه الفلسفة فذلك تحكمه الظروف.
وتعجب هنا من أن الذي يرعى الفكر الشيوعي في العالم الإسلامي ليس الاتحاد السوفيتي أو الدول الشيوعية ولكن العالم الغربي.. انجلترا في مستعمراتها وكذلك فرنسا.. كلهم يرعى ويغذي الشيوعية والعلمانية والإقليمية وكل العصبيات الجاهلية التي ينكرها الإسلام.. وإن كانت تتظاهر بمعاداتها في العالم الإسلامي، غير أنها تحفظ لها وجودها وكيانها وتساعدها حتى تظل قادرة على ضرب الإسلام.
سؤال:هناك بعض الشيوعيين يقولون: إن سقوط الشيوعية ما هو إلا فترة شرنقة وتكوّن ولكنها ستعود مرة أخرى.. مثلما تقولون أنتم: إن الإسلام غائب سيعود؟
جواب:نحن إذا قلنا الإسلام غائب وسيعود لا نخترع شيئا من عند أنفسنا، ولكنه أمر من علم الغيب علمناه من كتاب الله ومن سنة رسوله، ولكن متى سيحدث لا ندري. لكن نعلم أن الله فرض على المسلمين أن يسعوا ويبذلوا جهودهم حتى يتحقق هذا الأمر. أما الشيوعية فلا يستبعد أن تظهر في فترة لاحقة دولة شيوعية يتجمع فيها الشيوعيون إذا كان الله قد أراد ذلك.. فإراداتهم لا ترسم الغيب وإنما الغيب هو الذي يقرر ما الذي سيحدث في المستقبل.
سؤال:بعد انهيار الشيوعية أصبح البعض يردد: إن الجراثيم التي حللت الاتحاد السوفيتي تعمل عملها الآن في جسد المجتمع الغربي الرأسمالي.. هل تستند هذه المقولة على وهم؟(15/480)
جواب:جذور الانهيار موجودة منذ سنوات في المجتمع الأمريكي.. فأمريكا تحمل في داخلها جذور هلاكها.. ومن ناحية أخرى فهناك قانون غيبي قرره الله تعالى في كتابه العزيز (لكل أمة أجل) فكما أن للإنسان أَجلا؛ فالأمم ستبلغ آجالها وستسقط. والله سبحانه أباد أقواماً مثل عاد وثمود وقوم لوط وحدثنا سبحانه عن الجرائم التي ارتكبوها.. فقوم لوط اقترفوا اللواط فأهلكهم الله.. أما الحضارة الغربية اليوم فلم تترك نوعاً من الآثام في التاريخ البشري كله إلا وفعلته.. وأعتقد أن سنة الله ستمضي عليهم.
سؤال:الخطاب الذي يخرج من الغرب الآن يصف الإسلام بأنه العدو الوحيد بعد سقوط الشيوعية.. وهناك مؤتمرات ومنتديات يتم فيها الحوار بين بعض الإسلاميين وبعض مفكري الغرب.. فهل يجدي مثل هذا الحوار؟
جواب:العالم المسيحي لا يعادي الإسلام والعالم الإسلامي؛ لأن كتبهم المنزلة والتي أحرقوها تأمرهم بذلك. والأنبياء كلهم جاؤوا بالإسلام. أما ما هو مصدر الخلاف والصراع الذي يكشفه لنا التاريخ في الحروب الصليبية أو معركة الأحزاب أو تآمر اليهود في المدينة أو العداء الحالي للإسلام؟. للإجابة عن ذلك فإني أقسم العالم المسيحي إلى فئتين.. الفئة الأولى: هي الفئة القائدة والتي يسميها القرآن المستكبرين - المجرمين - الظالمين - المفسدين .. وفي هذا الصدد أذكر آية قرآنية تقول (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم"[ هود: 116]
فالآية الكريمة تحدثنا عن ظلمهم (الذين ظلموا) وتحدثت عن الترف ( ما أترفوا فيه) وتحدثت عن إجرامهم (وكانوا مجرمين) وهذه الفئة موجودة عند المسيحيين وعند اليهود وهي ظاهرة لا تنتسب إلى دين سماوي؛ فالدين كله تبرأ منهم وقد تبرؤوا هم عملياً من الدين؛ لأنهم هم الذين جعلوا بلادهم معزولة عن الدين بما يسمونه خطأ "العلمانية" ولكن أسميها "الدنيوية" أو "اللادينية" حتى لا تنتسب إلى العلم فالعلم منها بريء.. وهذه الفئة ليست مشكلتها الدين مهما تظاهروا أو ذهبوا إلى الكنائس فحقيقة ميزانهم هو المادية ونهب الشعوب هو قضيتهم الأولى.
والفئة الثانية هي عامة الشعوب النصرانية وهي لا تعرف حقيقة دينها، فلو سألت أي نصراني عن الأقانيم الثلاثة سيضطرب، فهذا لا ينسجم مع نفسه وغير منطقي. ولو سألته: لماذا تكره المسلمين؟ ماذا فعلوا لك؟ وهم المجموعة البشرية الوحيدة التي عاملتك أكرم معاملة في التاريخ.. لن يستطيع الإجابة.
فهذه الفئة تكره المسلمين لسببين: الأول: لأن كراهية المسلمين زرعتها الفئة الأولى داخل نفوسهم وجعلت كراهية الإسلام جزءاً من الفكر والتربية والإعلام، والسبب الثاني: أنهم يجهلون دينهم.. وعلاقتهم بالدين هي كما يقول القرآن (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
" التحالف النصراني الصهيوني"
سؤال:كثر الحديث هذه الأيام عن "الأصولية الصهيونية" المتحالفة مع "الأصولية النصرانية" لدرجة أن الأصولية النصرانية أصبحت صهيونية أكثر من الصهاينة.. ما هي أبعاد هذه القضية؟
جواب:لو رجعت للتاريخ لوجدت أن النصارى هم أكثر شعوب الأرض قتلاً لليهود فمنذ أيام الرومان هدموا عليهم ما يسمونه "بالهيكل".. وفي روسيا وإيطاليا وإنجلترا وإسبانيا وألمانيا كانت مجازر اليهود على مدى التاريخ.
غير أنه حدث تحول تاريخي منذ أيام (لوثر) و(كلفن) إذ ظهرت الدعوة إلى العودة إلى الأصول.. ويُقال: إن (لوثر) كان يهودياً.. وفي هذه الفترة ارتبطت مصالح الحركة الصهيونية بالنصرانية الأصولية وتشابكت المصالح.. وإلا لا يمكن أن نجد مبرراً في أن جميع رؤساء الولايات المتحدة يؤكدون أن إسرائيل وجدت لتبقى.
وهنا نذكر كلمة الرئيس الأمريكي (فرانكلين) الذي قال أثناء وضع الدستور الأمريكي في كلمة سجلها له التاريخ "ان أمريكا إذا لم تنتبه من الآن إلى الخطر اليهودي سيصبح أبناؤنا في المستقبل تحت رحمة اليهود".
إن الأمور تغيرت عن ذي قبل.. في عام 1982 سمعت (ريجان) يقول أثناء زيارة لألمانيا "إنني أعتز بهذا المكان.. فمن هنا انطلقت الحروب الصليبية" وبدأوا يستغلون كل المعاني الفكرية والدينية والاقليمية لمحاربة الإسلام ويكشف هذا القصور التناقض بين كلام نيكسون في كتابيه.
ففي كتاب "نصر بلا حرب " يقول: إننا نجابه خطرين هما: الشيوعية والإسلام؛ لأن كلاً منهما يسعى لتسلم الحكم ويحكم بالأصولية التي لا تحتمل ولا تطاق ". ويغير رأيه في كتابه "الفرصة السانحة" ويقول: " يمكن أن نتعاون مع الإسلام المعتدل الذي لا يعطل مصالح أمريكا".. ومصالح أمريكا ظالمة.
" الحل الذهبي "
سؤال:الحركات الإسلامية بدأت تدخل معركة الانتخابات البرلمانية بكثير من فصائلها.. وبعض الفصائل الأخرى لا تزال تعارض.. هل الانتخابات هي الحل الذهبي؟(15/481)
نحن المسلمين لا يجوز لنا أن نتحول إلى دعاة لمبادئ ليست من مبادئنا.. سواء كانت إلى الديمقراطية أم الاشتراكية.. لقد تورطنا ومدحنا الاشتراكية من قبل وتحولنا إلى دعاة لها.. ثم إنه ربما يفرض علينا واقع فيه الديكتاتورية أو الاشتراكية فيجب أن نحدد موقفنا من هذا الواقع على ثلاثة أسس.
أولا: القرآن والسنة. ثانيا: أن نفهم واقعنا.. ثالثا: أن يكون لنا منهج حركي عملي يحقق لنا التعامل مع المشاكل وتقويمها.. أي أننا لا بد أن نتصور المشكلة قبل أن تقع وهذا القصور يتلخص في أربع عناصر.. العنصر الأول: صدق النية والتوكل على الله يبينه سلامة التصور الإيماني والتوحيد.. العنصر الثاني: يجب أن نحدد أهدافنا تحديداً واقعياً وعملياً نتفق كلنا عليه.. العنصر الثالث: أن نرسم الطريق بين نقطة الانطلاق والأهداف.. العنصر الرابع أن نحدد الوسائل والأساليب .. (فَهرتزل) الزعيم اليهودي الصهيوني حينما قال: " ستقوم إسرائيل بعد خمسين عاماً " لم يكن يهزل وإنما بناءً على تقديرات بشرية ومنهج وتخطيط وعمل.
وأنا لا ألوم أي حركة إسلامية على أي موقف تتخذه فهي أدرى بما تفعل.
سؤال:البعض يرون أن المشروع الإسلامي يجب أن يتسع للعلمانية وأن يعترف بهم رغم أنهم لا يعترفون بالإسلام كمنهج.. هل توافق على ذلك؟
جواب:المسؤولية التي أمرنا الله بها هي أن نبلغ كلمة الله إلى كل الناس.. لم يأمرني الله أن أتفق مع العلمانيين أو أخاصمهم.. بل هو أمرني أن أدعو الناس للإسلام حتى يكون ذلك حجة لي وحجة عليهم يوم القيامة، وأن أتمثل الإسلام في قولي وفعلي.
فالمسلم يحاور الجميع ويدعوهم بشرط ألا يتنازل عن ثوابته، ولا يشتري رضاء الناس بغضب الله.. وفي المشروع الإسلامي فإن بيننا وبين كل أهل الأرض نوعاً من التعامل يقرره الواقع حسب الظروف.
سؤال:هل كانت الصحوة الإسلامية إضافة إلى حياتنا السياسية والاجتماعية والفكرية أم عبئاً على مجتمعاتنا؟
جواب:لا شك أن صورة الصحوة تظهر بشكل أوضح عندما تقارن مرحلة سابقة بأخرى لاحقة؛ فالآن بالرغم من جميع المآسي في العالم الإسلامي هناك حركة بين الشباب المسلم تبشر بالخير. قد لا نجد قاعدة واحدة تنسحب على جميع أقطار العالم الإسلامي..وإذا أردت أن تجد أدلة على الصحوة فستجد وإذا أردت أن تجد أدلة على عدم الصحوة فستجد أيضاً. فإذا نظرنا إلى مأساة البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان .. العالم كله يتفرج والعالم الإسلامي يبذل حفنه من المال.. هل هذا صحوة؟ أن يذبح المسلمون في كشمير وبورما وافغانستان، يموتون جوعاً في الصومال والمسلمون يتفرجون !!
قبل عام 1948.. كان اليهود يتمنون أن نفاوضهم.. الآن نحن الذين نتمنى أن يفاوضونا هل هذا صحوة؟.. وهناك أجزاء جديدة في العالم الإسلامي تتساقط في يد أعداء الله وظروفنا وأحوالنا تخالف شرع الله والانحرافات شديدة.. هل هذا صحوة؟.
أما في بعض الجوانب الايجابية فنرصد هذه القلوب المؤمنة التي لا تستطيع جميع قوى الأرض أن تقضي عليها، وهم الفئة المنصورة بنص الحديث الشريف.
وهذه الفئة هي محور الصحوة التي لن تختفي من الأرض ولو اجتمعت كل قوى المجرمين. ويجب على كل مسلم أن يسرع لتحقيق نصر هذه الفئة ليكون أحد أبنائها؛ فهي ليست شعباً ولا إقليماً ولا حرباً وإنما هي خصائص محددة.
سؤال:كثير من الشامتين يقولون: إن الحركة الإسلامية لا يمكن أن تتوحد.. لأنهم يحبون الزعامة والانفراد بالسلطة ويضربون المثل بما حدث ويحدث في أفغانستان ؟
جواب:فصائل الجهاد الأفغاني بينها خلافات من الأصل كما هي بيننا جميعاً وكما هي في الجسد الإسلامي عامة كمرض من أمراضه التي لم يتخلص منها بعد.
كثير من فصائل الجهاد كان التوجه الإسلامي فيها ضعيفاً.. ولكن المجاهدين نجحوا في أنهم رفعوا راية الإسلام وخاضوا حربهم تحت هذه الراية فكتب لهم النصر. ولو رفعوا أي شعارات أخرى ما انتصروا.
ولو كنا مكانهم لحدث بيننا ما يحدث بينهم الآن ولكن القتال تحت راية الإسلام والجهاد هو الذي عالج الجروح.
والحركة الإسلامية هي مجموعة من البشر ونتيجة لمنهجها المتميز يظهر خطؤها الصغير وكأنه كبير ولا بد من هذه المرحلة ولا بد من ظهور العيوب ثم تلافيها وتصحيحه
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
الباب الرابع ... 1
العلمانية ... 1(15/482)
(15/483)
العلمانية ... 1(15/484)
(15/485)
العلمانيّون والإسلام ... 60
مقدمة ... 61
أوربا وتجربتها مع الدين ... 63
الدين الحق ... 80
لا غنى للإنسان عن الدين .. ... 84
الديمقراطية والإسلام ... 110
أين المشكلة ؟ ! ... 120
لحساب من يُحارَب الإسلام ؟ ! ... 138
والعلمانيون .. ما موقفهم .. ؟ ... 150
والمستقبل .. لمن ؟ ! ... 151(15/486)
(15/487)
العلمانيون وثورة الزنج ... 162(15/488)
(15/489)
القواعد الأربع التي تفرق بين دين المسلمين ودين العلمانيين ... 196(15/490)
(15/491)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (1-3) ... 220(15/492)
(15/493)
نقد التأسيس الأصولي للعلمانية (2-3) ... 225(15/494)
(15/495)
العلمانيون قنطرة الغرب إلى بلادنا ... 233(15/496)
(15/497)
العلمانية في العالم العربي ... 239(15/498)
(15/499)
العلمانية وثقافة السلام ... 242(15/500)
(16/1)
العلمانية تصرع الكاثوليكية في أوروبا ... 246(16/2)
(16/3)
الأكذوبة العلمانية ... 249(16/4)
(16/5)
لماذا نرفض العلمانية ؟ ... 252(16/6)
(16/7)
المثقف العلماني والصدق المعرفي ... 269(16/8)
(16/9)
ما هي هذه العلمانية ؟ ... 273(16/10)
(16/11)
العلمانية الجاحدة .. ثم الآن العلمانية المستترة ... 281(16/12)
(16/13)
العلمانييون وفكرهم وممارساتهم ... 285(16/14)
(16/15)
دعاة من جلدتنا ... 293(16/16)
(16/17)
المتصهينون العرب الجدد ... 297(16/18)
(16/19)
موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية ... 304(16/20)
(16/21)
إجتماع الجيوش الإسلامية على غزو العلمانية اللادينية ... 317(16/22)
(16/23)
العلمانية .. وثمارها الخبيثة ... 333(16/24)
(16/25)
العلمانيون وزلزال تسونامي ... 352(16/26)
(16/27)
العلمانيون واحتراف البكاء على الحرية ... 356(16/28)
(16/29)
الجواب عن شبهات الداعون إلى علمانية العاصمة القومية ... 361(16/30)
(16/31)
العلمانية وانكشاف الأجندة الخفية ... 369(16/32)
(16/33)
الإعلام الغربي في مواجهة العقيدة ... 372(16/34)
(16/35)
دعوات شيطانية ... 379(16/36)
(16/37)
العلمانية : النبتة الغريبة عن الحضارة الإسلامية ... 380(16/38)
(16/39)
العلمانيون من زاوية أخرى ... 385(16/40)
(16/41)
العلمانية ... 390(16/42)
(16/43)
العلمانية ... 399(16/44)
(16/45)
جراحات الأُمَّة بين دور الأزهر وشراسة الأعداء ... 403(16/46)
(16/47)
قراءة في كتاب العلمانية ... 408(16/48)
(16/49)
العصرنة البراقة قنطرة العولمة الجائرة ... 428(16/50)
(16/51)
بين العقيدة والسياسة ... 436(16/52)
(16/53)
قراءة في كتاب العلمانية ( 1 ) ... 438(16/54)
(16/55)
قراءة في كتاب العلمانية ( 2 ) ... 451(16/56)
(16/57)
قراءة في كتاب العلمانية ( 3 ) ... 461(16/58)
(16/59)
قراءة في كتاب العلمانية ( 4 ) ... 471(16/60)
(16/61)
الإعلام الإسلامي في تركيا ... 476(16/62)
(16/63)
حقيقة العلمانيين العرب ... 483(16/64)
(16/65)
تيار لا يتعلم من أخطائه ... 486(16/66)
(16/67)
يا ( بني علمان ) ما قولكم في اليابان؟! ... 490(16/68)
(16/69)
العلمانية الانحلالية ومنظومة القيم الإسلامية ... 497(16/70)
(16/71)
الحجاب الحريري والعلمانية ... 507(16/72)
(16/73)
كيف تتعامل العلمانية مع الأوقاف الإسلامية ؟ ... 508(16/74)
(16/75)
الفقه العلماني للإسلام ... 515(16/76)
(16/77)
ولن ترضى عنك بنو عِلْمَان ... 516(16/78)
(16/79)
حتى لا نندم ... 518(16/80)
(16/81)
العلمانية ... 522(16/82)
(16/83)
أي علاقة بين الديمقراطية والعلمانية؟ ... 526(16/84)
(16/85)
العلمانية تحت المجهر ... 530(16/86)
(16/87)
العلمانية وخطرها على المسلمين ... 535(16/88)
(16/89)
أي علمانية تناسب البلاد الإسلامية؟ ... 541(16/90)
(16/91)
التعايش مع العلمانيين ... 545(16/92)
(16/93)
كيف تعرف العلماني ؟ و ما هي معتقداته ؟ ... 548(16/94)
(16/95)
خطأ في تعريف العلمانية ... 551(16/96)
(16/97)
العلمانيه والليبراليه ... 553(16/98)
(16/99)
علمانية الآباء والأزواج خطر يهدد المجتمع ... 557(16/100)
(16/101)
العلمانية والجاهلية وجهان لعملة واحدة ... 559(16/102)
(16/103)
العلمانية ... 562(16/104)
(16/105)
فصل الدين عن الدولة ... 566(16/106)
(16/107)
مسلمو السويد: العلمانية هي الحل!! ... 570(16/108)
(16/109)
مسلمو هولندا.. آمال تناطح صخرة العلمانية ... 575(16/110)
(16/111)
مسلمو فرنسا لا يهددون العلمانية ... 580(16/112)
(16/113)
الإسلام في عش العلمانية ... 585(16/114)
(16/115)
فرنسا والحجاب.. محاولة لفهم ما يحدث ... 588(16/116)
(16/117)
الحجاب والقلادة: ... 593
انهيار العلمانية في مفهومها كراعية للحريات* ... 593(16/118)
(16/119)
انحياز لـ"الهوية الثقافية" وليس لـ"العلمانية السياسية" ... 604(16/120)
(16/121)
"أصولية علمانية" فرنسية في وجه الأصولية الإسلامية* ... 607(16/122)
(16/123)
لماذا لا يجوز وضع تشريع ضد الحجاب؟ (رأي فرنسي)* ... 611(16/124)
(16/125)
ثورة الاعتدال الصامتة تهزم العلمانية الصاخبة في تركيا ... 613(16/126)
(16/127)
تجربة العلمانية والإسلام في تركيا تحت المجهر ... 618(16/128)
(16/129)
لماذا تبني أمريكا "شبكات مسلمة معتدلة" علمانية؟ ... 623(16/130)
(16/131)
خيار أمريكا الانتخابي.. "خلطة" شيعية- علمانية ... 630(16/132)
(16/133)
بروتوكولات حكماء العلمانية ... 635(16/134)
(16/135)
الإسلام والعلمانية في عالم متغير ... 648(16/136)
(16/137)
استمرارية العلمانية.. ... 649
حوار مع الباحث الفرنسي باتريك ميشيل ... 649(16/138)
(16/139)
الخروج من العلمنة والعلاقة بالحداثة ... 661(16/140)
(16/141)
الإسلام ونهاية العلمانية ... 668(16/142)
(16/143)
الإسلام والعلمانية في الشرق الأوسط ... 674(16/144)
(16/145)
تحولات العلمانية وممانعة الإسلام ... 678(16/146)
(16/147)
مجمع الفقه ينتقد الدعوة العلمانية لتحرير المرأة ... 685(16/148)
(16/149)
تونس.. مخاوف علمانية من انتشار الحجاب ... 688(16/150)
(16/151)
الصراع العربي (الإسرائيلي) تحت الرايات العلمانية(1-3) ... 691(16/152)
(16/153)
هل يهدد الحجاب العلمانية الفرنسية؟ ... 702(16/154)
(16/155)
تركيا تحتفل بالذكرى الثمانين وسط جدل حول العلمانية ... 704(16/156)
(16/157)
الحجاب الإسلامي .. يسيء إلى العلمانية!! ... 705(16/158)
(16/159)
د. محمد عمارة يكتب عن "العلمانية" ونشأتها ... 706(16/160)
(16/161)
العلمانية العربية وعقدة الوضعيَّة ... 711(16/162)
(16/163)
هل ستسير باكستان إلى الحداثة أو العلمانية ... 714(16/164)
(16/165)
إسرائيل تدخل أفغانستان بالمرأة والعلمانية ... 720(16/166)
(16/167)
الإسلام والعلمانية وجها لوجه في مؤتمر بالقاهرة ... 720(16/168)
(16/169)
قضية فلسطين بين الإسلام والممارسة السياسية العلمانية ... 722(16/170)
(16/171)
لإستشارة : …مصطلحات لا أعرفها ... 732(16/172)
(16/173)
: …ماذا أفعل مع أخي العلماني ... 735(16/174)
(16/175)
كيف نكون دعاة مصلحين في بلادنا أمام الغزو الفكري والعقائدي الفاسد ... 737(16/176)
(16/177)
لماذا أصبح العرب يقلدون الغرب تقليداً أعمى؟ ... 740(16/178)
(16/179)
ما هي الليبرالية والرائلية ... 743(16/180)
(16/181)
إنكار تلبس الجني بالإنسي مكابرة ... 746(16/182)
(16/183)
تقدم الغربيين وتأخر المسلمين...السبب والعلاج ... 747(16/184)
(16/185)
حكم الانتساب لحزب يعمل ضمن قوانين علمانية ... 748(16/186)
(16/187)
حكم جمع الصلوات طوال فترة الدراسة ... 749(16/188)
(16/189)
…لا يستطيع أحد أن ينال من هذا الدين ... 751(16/190)
(16/191)
الكافرة إذا أسلمت ولم تعمل بشعائر الإسلام ... 752(16/192)
(16/193)
أخوه يتصفح مواقع علمانية على جهازه الخاص ... 754
فهل عليه إثم إذا لم يستطع منعه ؟ ... 754(16/194)
(16/195)
حكم العمل في مؤسسة علمانية ... 755(16/196)
(16/197)
عبد الإله بن كيران.. ... 756
في فضل القيادة من دون كاريزما! ... 756(16/198)
(16/199)
الوهم الممتدُّ ..والشعارات المتساقطة! ... 765(16/200)
(16/201)
حول نهاية التاريخ وسقوط الإيديولوجيات ... 780(16/202)
(16/203)
التكامل الفريد ... 782(16/204)
(16/205)
في تفسير ظاهرة صعود "الحركات الإسلاميّة" ... 784(16/206)
(16/207)
عن النهضة والدين وأحداث 11 سبتمبر ... 789(16/208)
(16/209)
الليبراليون .. غربة الدين والوطن ... 792(16/210)
(16/211)
النظرة العلميّة الجديدة وتأكيد الايمان ... 794(16/212)
(16/213)
روعة التّهافت؟! ... 803(16/214)
(16/215)
أيها المجاهدون في (حماس) ... 805(16/216)
(16/217)
انعكاسات لأِزمة الفهم ... 812(16/218)
(16/219)
يا دعاة الأمة... لا تكونوا كالحديث الضعيف! ... 816(16/220)
(16/221)
"العمل السياسي المعاصر في ضوء السياسة الشرعيّة" ... 817(16/222)
(16/223)
هذه عطاءات البلد الحرام: فماذا أعطيناه ... 824(16/224)
(16/225)
بين عقليّتين ونهجَين ... 834(16/226)
(16/227)
سؤال النهضة والتنمية المعلق يعود أكثر إلحاحاً وأهمية ... 843(16/228)
(16/229)
الرّؤية الغربيّة للإسلام بين الإنصاف والتحيّز ... 848(16/230)
(16/231)
مع قضية .. المرأة والعمل السياسي ... 853(16/232)
(16/233)
الإسلام الحكومي والصحوة ... 861(16/234)
(16/235)
المرأة المسلمة.. والنشاط السياسي! ... 864(16/236)
(16/237)
رجل الرحمة والمحبة والسلام (1/3) ... 874(16/238)
(16/239)
رجل الرحمة والمحبة والسلام (1/3) ... 880(16/240)
(16/241)
رجل الرحمة والمحبة والسلام (2/3) ... 886(16/242)
(16/243)
إحلال القيم.... الانتخابات نموذجاً ... 892(16/244)
(16/245)
ظاهرة التطرّف في المنطقة.. ... 896
محاولة جديدة للقراءة والفهم ... 896(16/246)
(16/247)
الحركة الإسلاميّة وتحدّيات الإصلاح والتنمية ... 908(16/248)
(16/249)
واجب تغيير المناهج ... 910(16/250)
(16/251)
وفاة البابا... صانع مجد الكاثوليكيّة ... 914(16/252)
(16/253)
آمنة ودود وجحر ضبّ الفيمينزم ... 921(16/254)
(16/255)
التعصب الأوربي الصليبي!! ... 927(16/256)
(16/257)
برنارد لويس ... ... 932
وصهينة الدراسات الاستشراقيّة ... 932(16/258)
(16/259)
نحو تصوّر إسلاميّ للديمقراطيّة ... 937(16/260)
(16/261)
الانتخابات العربية: دلالات وأبعاد ... 940(16/262)
(16/263)
ما المنهج في فكر الحداثة؟ ... 944(16/264)
(16/265)
إلى التطبيع أيها الدعاة! ... 951(16/266)
(16/267)
المسار المستقبلي للعمل الإسلاميّ ... 954(16/268)
(16/269)
العلمانيّة وانكشاف الأجندة الخفيّة ... 958(16/270)
(16/271)
البديل الإسلامي في مجال الإعلام ... 961(16/272)
(16/273)
أمريكا.. انحطاط مغلَّف بالقوة! ... 976(16/274)
(16/275)
ماذا يريد هؤلاء..؟! ... 978(16/276)
(16/277)
المثقف والسلطة .. شكل العلاقة: ... 980(16/278)
(16/279)
الحجاب وفرنسا... والأزهر! ... 987(16/280)
(16/281)
وهذه الجامعات والمدارس الدينية...ما شأنها؟ ... 992(16/282)
(16/283)
سيد قطب.. قراءة جديدة ... 996(16/284)
(16/285)
الإبداع حين يكون ستاراً للاختراق الثقافي ... 1003(16/286)
(16/287)
مشاهداتي في تركيا! ... 1008(16/288)
(16/289)
الإصلاح ... ضرورة ... 1012(16/290)
(16/291)
الكرامة الجريحة ... 1021(16/292)
(16/293)
المشاركة في الانتخابات البرلمانية (1/2) ... 1026(16/294)
(16/295)
رصد للتحول والتغيير ... 1043(16/296)
(16/297)
من دخل البيت الأبيض فهو آمن! ... 1045(16/298)
(16/299)
تعدد الزوجات..وحقوق الإنسان (1/2) ... 1047(16/300)
(16/301)
الصحوة .. المواجهة وأزمة التخطيط ... 1060(16/302)
(16/303)
الاستراتيجية المقبلة لما بعدالعراق (1/2) ... 1064(16/304)
(16/305)
الصحافة.. ودرس في الإرهاب ... 1073(16/306)
(16/307)
درس من بغداد ... 1079(16/308)
(16/309)
الله أكبر غلبت الروم* ... 1083(16/310)
(16/311)
يا أهل العراق ... 1101(16/312)
(16/313)
العمل الإسلامي: مرحلة مجتمعية ... 1106(16/314)
(16/315)
أمة على كف صدام ... 1112(16/316)
(16/317)
وحدة الأمة بديلا عن الوحدة الوطنية ... 1117
لمواجهة الغزو الأمريكي القادم ... 1117(16/318)
(16/319)
رسالة إلى عقلاء أمريكا ... 1123(16/320)
(16/321)
التقسيم التوحيدي:سلاح أمريكي جديد! ... 1127(16/322)
(16/323)
سياط المستضعفين (1/2) ... 1132(16/324)
(16/325)
من يحكم العالم ؟ ... 1143(16/326)
(16/327)
العمل الإسلامي واقع وآفاق ... 1152(16/328)
(16/329)
أي علمانية تناسب البلاد الإسلامية؟ ... 1162(16/330)
(16/331)
فلسفة النص السياسي العربي(1/2) ... 1167(16/332)
(16/333)
سقوط قيم الحضارة الغربية ... 1173(16/334)
(16/335)
انتفاضة الأقصى … بين رؤيتين! ... 1177(16/336)
(16/337)
العلمانية قوانين ظالمة. ... 1180(16/338)
(16/339)
العلمانية وانكشاف الأجندة الخفية ... 1183(16/340)
(16/341)
الجواب عن شبهات الداعون إلى علمانية العاصمة القومية ... 1186(16/342)
(16/343)
قراءة في كتاب العلمانية ... 1194(16/344)
(16/345)
العلمانيون واحتراف البكاء على الحرية ... 1214(16/346)
(16/347)
العلمانيون وزلزال تسونامي ... 1219(16/348)
(16/349)
العلمانية. . ذلك الشرك الأكبر ... 1222(16/350)
(16/351)
كنتُ في جُحر العلمانية .. ... 1228
فخرجتُ لفضاء الإسلام .. ... 1228(16/352)
(16/353)
خطبة الحاجة على الطريقة العلمانية ... 1232(16/354)
(16/355)
العلمانية والجاهلية وجهان لعملة واحدة ... 1233(16/356)
(16/357)
يا ( بني علمان ) ..... ما قولكم في اليابان ؟! ... 1235(16/358)
(16/359)
فصل الدين عن الدولة ... 1242(16/360)
(16/361)
حوار عن العلمانية الديمقراطية بين مثقفين عربيين ... 1245(16/362)
(16/363)
تركيا بعد 77 عاماً من العلمانية ... 1254(16/364)
(16/365)
كيف تعرف العلماني ؟ و ما هي معتقداته ؟ ... 1260(16/366)
(16/367)
جذور العلمانية ( 1 ) ... 1263
الفكر الرشدي والممانعة الكنسية ... 1263(16/368)
(16/369)
نماذج من تحريفات العلمانيين لنصوص الكتاب والسنة ( 1 ) ... 1281(16/370)
(16/371)
المتعلمنون والكلام على العلم حقيقة أم دسيسة ... 1289(16/372)
(16/373)
الحرية والعلمانية موضوع للنقاش ... 1290(16/374)
(16/375)
العَلمانية والعِلمانية ... 1291(16/376)
(16/377)
العلمانية في المصادر الغربية ... 1303(16/378)
(16/379)
خطأ في تعريف العلمانية ... 1313(16/380)
(16/381)
الفقه العلماني للإسلام ... 1315(16/382)
(16/383)
العلمانية وثقافة السلام ... 1316(16/384)
(16/385)
مآل الإسلام في القراءات العلمانية ... 1321(16/386)
(16/387)
لماذا يتدخل العلمانيون في أحكام الإسلام وشئون المسلمين؟ ... 1353(16/388)
(16/389)
بين العلمانية والدين ... 1355(16/390)
(16/391)
هرقل والعلمانيون ! ... 1356(16/392)
(16/393)
أم أنس حصّة الهاجري : ... 1359
الرسولُ الغبيُّ لإبليسَ ... 1359(16/394)
(16/395)
حقيقة العلمانية وخبث اركانها < تنزه الاسلام عنها > ... 1364(16/396)
(16/397)
العلمانية في الإسلام ... 1377(16/398)
(16/399)
الدولة العلمانية مثال للتعصب الأعمى وكبت الحريات .. ... 1406(16/400)
(16/401)
لقاء علمى فى ملتقى اهل التفسير ... 1509
مع الدكتور احمد الطعان حول العلمانية ... 1509(16/402)
(16/403)
"المسلم العلماني" وليد غير شرعي! ... 1637(16/404)
(16/405)
العلمانيون العرب و حملات التزييف ... 1641(16/406)
(16/407)
العلمانية ودورها في تشويه العلاقة بين الدين والعلم ... 1644(16/408)
(16/409)
العلمانية بين تسييس الكفر وتكفير السياسة ... 1663(16/410)
(16/411)
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى ... ... 1686(16/412)
(16/413)
العلمانية وسيلة الغرب لتمكين الطائفية في العالم العربي ... 1689(16/414)
(16/415)
العلمانية ... 1692(16/416)
(16/417)
الفكر العلماني ... 1700(16/418)
(16/419)
نبذة عن العلمانية ... 1707(16/420)
(16/421)
العلمانية .. « إمبراطورية النفاق » ... 1712(16/422)
(16/423)
كيف تعرف العلماني ؟ و ما هي معتقداته ؟ ... 1732(16/424)
(16/425)
تحولات إستراتيجية في المنطقة العربية ... 1735(16/426)
(16/427)
الوسائل العلمية والعملية لمواجهة العلمانيين ... 1737(16/428)
(16/429)
دستور الأسرة المسلمة لماذا ؟ ... 1741(16/430)
(16/431)
الإقلاعُ عن العادةِ العلمانية .. برنامج من ست خطوات ... 1745(16/432)
(16/433)
كيف نحارب العلمانية ... 1752(16/434)
(16/435)
بروتوكولات حكماء ( علمون ) .. !! ... 1759(16/436)
(16/437)
احْذَرُوا هؤلاءِ الدُّعاةَ ... 1764(16/438)
(16/439)
رجب طيب اردوغان.. من الميناء إلى البرلمان (2من2) ... 1768(16/440)
(16/441)
تمزيق (( الأقنعة )) العلمانية .. ! ... 1774(16/442)
(16/443)
الأمين العام للمجلس الأوروبي للإفتاء "للمجتمع": ... 1779(16/444)
(16/445)
البيانات العلمانية : خطر ماحق أبواق فتنة ؟؟ ... 1785(16/446)
(16/447)
العلمانية كارثة الأمة ... 1787(16/448)
(16/449)
طرق الطرح العلماني ... 1805(16/450)
(16/451)
مع بني علمان ... الطرح المموه ... 1812(16/452)
(16/453)
مع بني علمان وما هي من بين علمان ببعيد ... 1813(16/454)
(16/455)
ما يوجد في صحافة بني علمان ... 1815(16/456)
(16/457)
هل الإسلام دين علماني؟!! ... 1816(16/458)
(16/459)
العلمانية ... ... 1819
هل تصبح خيارا شعبيا في السنوات القادمة ؟ ... 1819(16/460)
(16/461)
إلى دعاة الفصل بين الدين والسياسة ... 1829(16/462)
(16/463)
أقنعة العلمانية ... 1835(16/464)
(16/465)
الحروف المقطّعة ... 1844(16/466)
(16/467)
رجب طيب أردوغان.. من الميناء إلى البرلمان.. ... 1847(16/468)
(16/469)
مسيحيو تركيا يفضلون حزب العدالة والتنمية ... 1853(16/470)
(16/471)
الجواب عن شبهات الداعون إلى علمانية العاصمة القومية ... 1853(16/472)
(16/473)
العلمانية إلى أين ؟ ... 1861(16/474)
(16/475)
ولن يرضى عنك العلمانيون حتى ... ... 1865(16/476)
(16/477)
في عهد ساركوزي..مسلمو فرنسا.. والتخوفات المشروعة ... 1867(16/478)
(16/479)
الإعلام الفضائي العربي: "العلمانية في قعر ديارنا"! ... 1871(16/480)
(16/481)
العالم الإسلامي عدواً رسمياً لأمريكا والغرب ... 1881(16/482)
(16/483)
العصرانية قنطرة العلمانية ... 1888(16/484)
(16/485)
العلمانية ... 1926(16/486)
(16/487)
العلمانية .. التاريخ والفكرة ... 1952(16/488)
(16/489)
المفسدون وسلاح الإعلام ... 1966(16/490)
(16/491)
المنافقون والمنافقات .. ... 1969
خطرهم وصفاتهم في كتاب الله ... 1969(16/492)
(16/493)
000الكذابون000؟؟ ... 1981(16/494)
(16/495)
ود. أبو الفتوح ينفي ما نشر على لسانه ... 1988
عن دولة علمانية في فلسطين المحتلة ... 1988(16/496)
(16/497)
المجتمع الصهيوني بين الانقسامات الداخلية وإشكالية الهوية ... 1989(16/498)
(16/499)
نقد مقال قراءة في الذِّهنية السلفيَّة ... 1993(16/500)
(17/1)
تحالف لغير المسلمين يرفض "الدولة الإسلامية"! ... 1998(17/2)
(17/3)
العولمة من خلال رؤية إسلامية ... 2001(17/4)
(17/5)
تجميل الإرهاب الهندوسي والتحريض ضد باكستان ... 2020(17/6)
(17/7)
هدف التعليم في الإسلام.. ... 2024
بناء الإنسان الصالح في كل وظائف الحياة ... 2024(17/8)
(17/9)
قراءة في حياة ( القصيمي ) ... 2039(17/10)
(17/11)
وراء تعيين المبعوث الأمريكي في السودان؟ ... 2052(17/12)
(17/13)
اليسرى تكفي لحمل الحجر ! ... 2058(17/14)
(17/15)
قراءة في أسباب صعود ميجاواتي إلى كرسي الرئاسة ... 2062(17/16)
(17/17)
قصر العمائم. ... 2074(17/18)
(17/19)
قراءة في كتاب: ... 2080
الحركة الإسلامية ومسألة التغيير ... 2080(17/20)
(17/21)
سلام المُنْهَكين ... 2086(17/22)
(17/23)
بيجوفيتش.. ... 2089
وحكاية(المنفستوالإسلامي) ... 2089(17/24)
(17/25)
تصاعد الانتفاضة أطاح برئيس تحرير الجزيرة ... 2097(17/26)
(17/27)
الثقافة والمثقفون ... 2102(17/28)
(17/29)
الحرب الأمريكية على ساحة التعليم ... 2105(17/30)
(17/31)
في كل الأحوال (1/2) ... 2107(17/32)
(17/33)
تركيا: سنتحرك إذا هوجمنا أو حين يندلع قتال بين الأكراد ... 2116(17/34)
(17/35)
يا أمتي لا تحزني إن الله معنا! ... 2125(17/36)
(17/37)
خفايا زيارة كولن باول إلى تركيا ... 2133(17/38)
(17/39)
فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدَّا ... 2141(17/40)
(17/41)
الدروس السياسي للأقليات الإسلامية ... 2165
في المجتمع الأمريكي ( 1990- 2000 ) ... 2165(17/42)
(17/43)
أمريكا فى مواجهة العالم.. حرب باردة جديدة ... 2179(17/44)
(17/45)
عندما يحل العلم في عقل المرأة ... 2200(17/46)
(17/47)
الادارة الاسلامية(1/2) * ... 2201(17/48)
(17/49)
ابتعاث الطالبات والطلاب إلى بلاد غير مسلمة في الميزان ... 2206(17/50)
(17/51)
حوار مع رئيس المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك ( 2/2) ... 2214(17/52)
(17/53)
الأسرة سلعة بائرة في مزاد القيم الغربية الفاسدة ... 2225(17/54)
(17/55)
الحجاب ومشاكل الأمّة ... 2230(17/56)
(17/57)
70% من التركيات محجبات رغم أنف العلمانية ... 2232(17/58)
(17/59)
رؤية لسيناريوهات ما بعد الحرب ... 2233(17/60)
(17/61)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ). ... 2238(17/62)
(17/63)
تركيا تتخبط في سياستها ... 2319(17/64)
(17/65)
تحولات السلطة والموارد . ... 2327(17/66)
(17/67)
اشكاليات أفرزتها الحرب على العراق ... 2331(17/68)
(17/69)
ما بعد العراق 1/3 ... 2335(17/70)
(17/71)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3) ... 2354(17/72)
(17/73)
الأطر المتعددة وحقوقها ... 2371(17/74)
(17/75)
حجاب المرأة ودعاوى الحرية ... 2375(17/76)
(17/77)
شاهين: ... 2378
أحفاد أتاتورك يمارسون مهمتهم ... 2378(17/78)
(17/79)
العولمة والإسلام ... 2382(17/80)
(17/81)
عولمة الأسرة الجزائرية... ... 2399(17/82)
(17/83)
حتى لا نلدغ من بني صهيون مرتين! ... 2402(17/84)
(17/85)
عيد شم النسيم.. ... 2404
أصله، شعائره، حكم الاحتفال به ... 2404(17/86)
(17/87)
قراءة في كتاب الرئيس الأميركي الأسبق " نيكسون " ... 2418(17/88)
(17/89)
كيف نستثمر المعركة؟ ... 2424(17/90)
(17/91)
فرنسا...تعارض الحرب والحجاب! ... 2430(17/92)
(17/93)
حزب العدالة بين الواقعية والوقوع ... 2435(17/94)
(17/95)
الإسلام وثقافته كما تريده أوروبا ... 2447(17/96)
(17/97)
الرنتيسي: ... 2449
نتلاءم مع المستجدات دون تفريط في الحقوق ... 2449(17/98)
(17/99)
الأدب بين الالتزام والإلزام ... 2455(17/100)
(17/101)
حملة غربية للحد من زواج المسلم بالنصرانية ... 2472(17/102)
(17/103)
إسرائيل للبيع!! ... 2475(17/104)
(17/105)
الأسرة وتنمية ثقافة الأبناء ... 2479(17/106)
(17/107)
الدستور المصري والكفاح الإخواني للإصلاح ... 2485(17/108)
(17/109)
مسلمو غانا .. بين الإرث الاستعماري والواقع المرّ ... 2488(17/110)
(17/111)
تقرير (راند).. معايير أمريكية للإسلام المعتدل ... 2493(17/112)
(17/113)
الشيخ الغامدي : ... 2496
فطرتنا الإسلامية لها أثر في مواجهة الحداثة ... 2496(17/114)
(17/115)
ماذا بعد تشريع الاحتلال في العراق ... 2504(17/116)
(17/117)
المسلمون الهنود والتطرف الهندوسي ... 2507(17/118)
(17/119)
حرب العقائد والدرس المستفاد ... 2518(17/120)
(17/121)
ماذا قدم الإسلام للمرأة ؟ ... 2524(17/122)
(17/123)
الحقائق الخفية لمسلمي (الحبشة) (1/3) ... 2536(17/124)
(17/125)
الغرب يشن "حروباً روحيّة" على الشرق المسلم ... 2562(17/126)
(17/127)
ملامح المستقبل ... 2568(17/128)
(17/129)
الإنتصار لأهل السنة والجماعة(1-2) ... 2570(17/130)
(17/131)
المرأة والدعوة .. ... 2583
طريق الورد والشوك… ... 2583(17/132)
(17/133)
بين التقليد والتجديد ... 2587(17/134)
(17/135)
الصّفقة الخاسرة ... 2593(17/136)
(17/137)
الإسلاميون.. وفخ المشاركة في السلطة ... 2599(17/138)
(17/139)
فشل آمال الغرب في دمج مسلميهم ... 2603(17/140)
(17/141)
العدالة والتنمية تحت مقصلة العلمانية التركية ... 2604(17/142)
(17/143)
العلاقات الفرنسية العربية في المرحلة القادمة ... 2608(17/144)
(17/145)
الليبراليون والدعوة إلى نقد الثوابت... ... 2617(17/146)
(17/147)
لا يزال بعض العلماء يعيشون زمانهم ... 2623(17/148)
(17/149)
الاستنساخ ... 2637(17/150)
(17/151)
العولمة وأثرها على الهوية[1/2] ... 2660(17/152)
(17/153)
رئيس المجلس الإسلامي بالسنغال: ... 2679
محنة مسلمي السنغال في ظل هيمنة الفرانكفونية ... 2679(17/154)
(17/155)
الفكر الإسلامي على مفارق طرق ... 2684(17/156)
(17/157)
الإسلام أعطى المرأة حقوقاً لم تحصل عليها في الغرب ... 2696(17/158)
(17/159)
دبلوماسية الحرب الأمريكية على العالم ... 2698(17/160)
(17/161)
700 خطة لتنصير العالم ... 2709(17/162)
(17/163)
مستقبل الإسلام السياسي ... 2713(17/164)
(17/165)
الإصلاح العربي ومحاولة إقصاء الإسلاميين ! ... 2719(17/166)
(17/167)
القلم الطيب والقلم الخبيث ... 2725(17/168)
(17/169)
صورة المسلمين والعرب في العالم1/2 ... 2733(17/170)
(17/171)
مسلمو ألمانيا بين الخديعة والتحديات! ... 2757(17/172)
(17/173)
سقوط أكاييف .. وبداية الزلزال في آسيا الوسطى ... 2762(17/174)
(17/175)
محوريّة الجسد في خطاب المرأة ... 2767(17/176)
(17/177)
السياسة الأمريكية .. ... 2771
ومشروع الإصلاح في العالم الإسلامي ... 2771(17/178)
(17/179)
مقاربات في مواجهة المشروع الأميركي ... 2783(17/180)
(17/181)
نحن والكافرون ... 2791(17/182)
(17/183)
موجة التقليد والتشبه وأصالة المسلمين وصحوتهم ... 2796(17/184)
(17/185)
المرحلة الأسوأ في تاريخ تركيا ... 2806(17/186)
(17/187)
الحوار الإسلامي-العلماني هل هو ممكن؟ ... 2818(17/188)
(17/189)
عداوة اليهود وأحلام السلام ... 2831(17/190)
(17/191)
الإقلاعُ عن العادةِ العلمانية .. ... 2840
برنامج من ست خطوات ... 2840(17/192)
(17/193)
بوادر العلمانية المُستجدة ... 2846(17/194)
(17/195)
(هل يمكن أن نتعايش؟) رسالة مثقفي أمريكا الجوابية ... 2848(17/196)
(17/197)
السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام ... 2858(17/198)
(17/199)
أدب الطفل المسلم بين التحديات والدور المفقود ... 2861(17/200)
(17/201)
الانتخابات التركية : تركة أتاتورك للإسلاميين! ... 2867(17/202)
(17/203)
من أجل الصهاينة والتنصير .. ... 2876
أمريكا تطارد الجمعيات الخيرية ... 2876(17/204)
(17/205)
التجنس بجنسية غير إسلامية "المشكلة والحل" ... 2879(17/206)
(17/207)
أمركة الخطاب الديني.. ... 2882
و شيخ الأزهر يتحدث عن المرأة، وعمرو خالد ... 2882(17/208)
(17/209)
العلمانيون و تطبيق الشريعة الإسلامية ... 2887(17/210)
(17/211)
المنافقون ودورهم في اسقاط الدول ... 2893(17/212)
(17/213)
حكم مجادلة العلمانيين وغيرهم في مناظرات علنية: ... 2897(17/214)
(17/215)
حكم الموالاة الظاهرية لحزب علماني لغرض الوظيفة ... 2898(17/216)
(17/217)
الصلاة خلف إمام يظهر رضاه بالعلمانية ... 2899(17/218)
(17/219)
المبلغ المستفاد بسبب الانتماء إلى حزب علماني ... 2900(17/220)
(17/221)
العلمانية وخطرها ... 2901(17/222)
(17/223)
عداء الغرب والعلمانية للإسلام ... 2908(17/224)
(17/225)
العلمانية وخطرها ... 2914(17/226)
(17/227)
موالاة المشركين ومشاركة العلمانيين ... 2920(17/228)
(17/229)
رد عدوان العلمانيين على العلماء الربانيين ... 2927(17/230)
(17/231)
الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا ... 2936(17/232)
(17/233)
البناء العَلْماني وبداية السقوط ... 2938(17/234)
(17/235)
طرق الطرح العلماني ... 2940(17/236)
(17/237)
المسلمون والعالم ... 2947(17/238)
(17/239)
المشروع العلماني يتداعى ... 2954(17/240)
(17/241)
أقنعة العلمانية ... 2957(17/242)
(17/243)
انتحار العلمانية ... 2966(17/244)
(17/245)
تدشين الأممية النسوية العلمانية ... 2967
قراءة في خلفيات مؤتمر المرأة ببكين ... 2967(17/246)
(17/247)
هل الإسلام دين علماني؟!! ... 2978(17/248)
(17/249)
هذا موقف العلمانية من الإسلام ... 2982
وهذا موقفنا منها ... 2982(17/250)
(17/251)
محاكم التفتيش العلمانية! ... 2986(17/252)
(17/253)
دعوة لإعادة النظر ... 2989
في أسلوب الإسلاميين لإدارة معركتهم مع العلمانيين ... 2989(17/254)
(17/255)
حديث صريح مع العلمانيين ... 2994(17/256)
(17/257)
أبعاد التخريب العلماني محمد أركون.. أنموذجاً ... 2995(17/258)
(17/259)
علماء العراق والدولة العلمانية ... 3005(17/260)
(17/261)
إحياء مقبور الأدب العلماني ... 3010(17/262)
(17/263)
دور الإعلام في الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا ... 3012(17/264)
(17/265)
في المغرب جدل بين الإسلاميين والعلمانيين ... 3023(17/266)
(17/267)
ماذا بعد إفلاس الخطاب العلماني؟! ... 3030(17/268)
(17/269)
حكم الانتماء والانتساب إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية ... 3031(17/270)
(17/271)
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة ... 3032(17/272)
(17/273)
الحجاب بين عداء الغرب وعلمانية الأزهر ... 3046(17/274)
(17/275)
العلمانية التاريخ والفكرة ... ... ... ... 3080(17/276)
(17/277)
العلمانية الجاحدة ثم الآن العلمانية المستترة ... 3094(17/278)
(17/279)
العلمانية المكشوفة.. ... 3098(17/280)
(17/281)
العلمانية النبتة الغريبة عن الحضارة الإسلامية ... 3101(17/282)
(17/283)
العلمانية وثمارها الخبيثة ... 3106(17/284)
(17/285)
العلمانية وفصل الدين عن الدولة ... 3114(17/286)
(17/287)
العلمانيون وفكرهم وممارساتهم ... 3128(17/288)
(17/289)
العَلَمانيون الثلاثة.. والنيلةُ.. والحظّ الهباب..!! ... 3135(17/290)
(17/291)
فضيحة بجلاجل للعلمانيين في برنامج الاتجاه المعاكس" ... 3143(17/292)
(17/293)
من الحرية الدينية إلى الدولة العلمانية ... 3161(17/294)
(17/295)
نبذة عن العلمانية ... 3165(17/296)
(17/297)
العلمانية وخديعة استبعاد الدين ... 3170(17/298)
(17/299)
العلمانية ودليل المسلم لكي يصبح بريطانيا حقيقيا ... 3182(17/300)
(17/301)
البيان لخطر الأحزاب العلمانية والليبرالية ... 3185
على الدين الأخلاق وشريعة القرآن ... 3185(17/302)
(17/303)
الرِّبا بين النهج الرباني والنهج العلماني ... 3205(17/304)
(17/305)
العلمانية وخديعة استبعاد الدين ... 3213(17/306)
(17/307)
كراهية الغرب للمسلمين .. متى تنتهي ؟ ... 3225(17/308)
(17/309)
ماهي العلمانية ... 3230(17/310)
(17/311)
العلمانية و توحيد الطاعة ... 3246(17/312)
(17/313)
العلمانيون وحرية الفكر ... 3277(17/314)
(17/315)
ينقصنا تطبيق النظرية الشورية في واقعنا ... 3278(17/316)
موسوعة الرد على المذاهب الفكرية المعاصرة (5) الشرق الأوسط الكبير
الباب الخامس
الشرق الأوسط الكبير
إعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الباب الخامس
الشرق الأوسط الكبير(18/1)
(18/2)
مستجدات الخطة الصهيونية للشرق الأوسط
المركز الفلسطيني للإعلام
أعد المركز الفلسطيني للإعلام دراسة تحت عنوان: "ما هي مستجدات الخطة الصهيونية للشرق الأوسط" جاء فيها:
وردت فقرة في الورقة الاستراتيجية رقم 474 التي أصدرها المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي تقول: "إن القيام بعملية تغيير النظام هي هدفنا وغايتنا التي نسعى لتحقيقها في كل من لبنان وسوريا، وقد كتبنا منذ وقت طويل بأن هناك ثلاثة طرق يمكن استخدامها لإنجاز تلك الغاية:
* أن تختار هذه الأنظمة تغيير نفسها.
* أن يتم إسقاطها بواسطة شعوبها.
* أن يتم الهجوم عليها من الخارج بذريعة أنها تهدد العالم الخارجي".
• الدلالة والمضمون:
الفقرة التي وردت في ورقة المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي تعتبر بمثابة إعادة الإنتاج لما ورد عام 1915م من حديث على لسان زئيف جابوتنسكي الزعيم الصهيوني، وذلك في مقاله الذي نشرته صحيفة دي تريبيون بتاريخ 30 تشرين الثاني 1915م، والذي قال فيه: "إن التطلع المستقبلي الوحيد بالنسبة إلينا هو تقطيع سوريا، ومهمتنا هي أن نحضر لهذا التطلع المستقبلي، وكل ما عدا ذلك هو مضيعة للوقت".
وبعد ذلك جاء ديفيد بن غوريون في عام 1948م وقال: "يتوجب علينا الاستعداد من أجل المضي قدماً في مواصلة الحملة، وغايتنا هي أن نحقق النجاح الباهر في تحطيم لبنان، الأردن، وسوريا، والنقطة الأضعف هي لبنان...".
أما عوديد اينعون فقد وضع الـ(خطة الصهيونية للشرق الأوسط في عام 1982)، وقال فيها: "من الواضح أن الافتراضات العسكرية المذكورة أعلاه، والخطة بشكل عام؛ تعتمد أيضاً على استمرارية أن يكون العرب في حالة انقسام أكثر مما هو عليه الآن، وأيضاً في حالة افتقار لأي حركة جماهيرية حقيقية، ومن ثم فإن أي مواجهة عربية - عربية أياً كان نوعها سوف تساعدنا على المدى القريب، وسوف تؤدي إلى تقصير الطريق باتجاه الغاية والهدف الأكثر أهمية والذي يتمثل في تحطيم وتقسيم العراق إلى محافل طائفية، وأيضاً سوريا ولبنان".
• النموذج التطبيقي:
الأداء السلوكي للسياسة الخارجية الأمريكية والإسرائيلية يشير إلى جملة من الوقائع والأدلة المادية التي تؤكد بأن تحالف إسرائيل - أمريكا يمضي باتجاه تنفيذ الغايات والأهداف التي ظلت تتكرر بدءاً من عام 1915م، مروراً بعام 1948م، وعام 1982، وحتى اليوم.
التحليل الكلي والتحليل الجزئي مترابطان، وذلك على أساس اعتبارات الاستدلال على الكل بالجزء، والجزء بالكل، وعلى سبيل المثال: فإن ما يحدث على الواقع الميداني من وقائع جزئية يؤكد ذلك، وهي وقائع يمكن تناولها من منظور التحليل الجزئي على النحو الآتي:
- العراق: بعد تزايد الخلافات العربية - العربية تمت عملية غزو واحتلال العراق، وبعد فترة من وضع العراق تحت الاحتلال العسكري برزت أولى الخطوات العملية لتقسيم العراق إلى محافل طائفية - إثنية وذلك عن طريق الدستور العراقي الذي وضعته السفارة الأمريكية (ومن ورائها إسرائيل)، والقاضي بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات فيدرالية، وتخصيص الموارد النفطية الخاصة بكل كيان بشكل منفصل.
- الأردن: برغم عدم احتلال الأردن فقد تم بالكامل وضع الأردن تحت الوصاية الإسرائيلية - الأمريكية بموجب اتفاقية السلام الإسرائيلية - الأردنية التي تم التوقيع عليها في منطقة وادي عربة، وهي اتفاقية جعلت من الهياكل المؤسسية السيادية الأردنية مجرد فروع لرصيفاتها من إسرائيل، فالمخابرات الأردنية، والشرطة الأردنية هي مجرد فروع للمخابرات الإسرائيلية والشرطة الإسرائيلية، كذلك فالجيش الأردني هو عبارة عن كيان صغير يقوم فقط بأداء مهمة واحدة هي (حماية الملك)، ولا شأن له بالقضايا الأخرى، وقد استطاع الأمريكيون والبريطانيون النجاح في تكييف المذهبية العسكرية والقتالية الخاصة بالجيش الأردني وقوات الحرس الملكي بما يتلاءم مع أداء هذه المهمة.
الأسواق الأردنية والاقتصاد الأردني أصبحوا لا يمثلون سوى فروعاً من الأسواق الإسرائيلية، وحالياً يعمل الاقتصادي الأردني كممر لـ(العلاقات الاقتصادية العربية - الإسرائيلية غير المعلنة)، وبكلمات أخرى فقد أصبح الاقتصاد الأردني يقوم بدور حصان طروادة الاقتصادي الإسرائيلي داخل الاقتصاد العربي، وذلك بدليل انتشار الكثير من السلع الإسرائيلية في الأسواق العربية المختلفة بسبب قيام الكثير من الشركات الأردنية بتمرير السلع الإسرائيلية بعد تغيير شهادات الأصل والمنشأ بحيث تكون أردنية خالصة، كذلك يشتري الإسرائيليون حاجتهم من السلع العربية من الأسواق الأردنية دون حاجة إلى تغيير شهادات المنشأ والأصل.(18/3)
وسياسياً أصبح الأردن محطة للتنسيق بين بعض الأطراف العربية والإسرائيلية، ويمضي النظام الملكي الأردني في مسيرة التعاون مع إسرائيل ظناً منه بأن هذا التعاون سوف يكفي الأردن شر المطامع الإسرائيلية، وسوف يدرأ عنه شبح الاحتلال الإسرائيلي، ولكن سوف يتفاجأ رموز النظام الملكي لو شاهدوا خارطة إسرائيل الكبرى التي ظهرت حديثاً بعد غزو العراق، وخارطة الشرق الأوسط الكبير، أما آخر المفاجآت فيتمثل في حوار شيمون بيريز مع ديفيد ماكوفيسكي والذي أعلن فيه شيمون بيريز عن رفض إسرائيل للقيام بالإعلان عن حدودها السياسية.
- لبنان: في لبنان أصبح المخطط واضحاً، وقد قطع التنفيذ فيه شوطاً كبيراً، وفي هذا الصدد يشير التحليل الذي قدمه الباحث الأمريكي تريش شو إلى:
* ملف المحكمة الدولية، وكان آخرها العبارات التهديدية التي وجهها الأمريكيون للمحقق الدولي سيرجي براميريتز في حالة قيامه بإعداد تقرير يؤدي إلى ناتج لا يساعد في إنجاز المهمة المطلوبة، وقد أشار الباحث الأمريكي بتفصيل أكبر إلى المحقق الدولي السابق ديتليف مليس ودوره الذي تم إحباطه.
* تحركات السفير الأمريكي في بيروت جيفري فيلتمان، وعلى وجه الخصوص تهديداته للحكومة اللبنانية بشأن وزير الخارجية اللبناني فوزي صلوخ.
* الشبكات اللبنانية التابعة للموساد الإسرائيلي، والتي تم القبض على عنصرها بواسطة قوات الأمن اللبنانية، وكانت تقوم ببعض الهجمات الإرهابية والتفجيرات وغيرها من الأنشطة ذات الصلة باغتيال الحريري وغيره، وفي نهاية الأمر تم التكتم على ملفاتها بسبب ضغوط (السفارة) الأمريكية في بيروت.
* تجاهل الأمريكيين واللبنانيين ولجنة التحقيق الدولي لما ورد في تقرير ستراتفور الأمريكي الخاص بجريمة اغتيال الحريري.
* الطريقة التي تم بها إصدار القرارات الدولية حول لبنان، وطبيعة السيناريو الذي سوف يترتب على هذه القرارات في المنطقة عموماً، وداخل لبنان على وجه الخصوص.
* حادثة اغتيال الأخوين مجذوب، وبالذات طريقة التنفيذ، والتغطية، وقيام السلطات اللبنانية بلفلفة الموضوع.
وعموماً لقد أصبح لبنان قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الغاية التي تحدث عنها جابوتنيسكي، وبن غوريون، وعوديد اينعون، وأكدت عليها وثيقة المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، ولم يبق من سيناريو القضاء على لبنان سوى تنفيذ السيناريو الفرعي الخاص بأشكال الحرب الداخلية اللبنانية، وحالياً بعد قيام الحكومة اللبنانية بوضع ملف المحكمة الدولية في يد أمريكا وبريطانيا وفرنسا فإنها تكون قد تقدمت خطوة كبيرة في التنازل عن سيادة لبنان، ولن يكون أمام هذه الحكومة من سبيل سوى الرفض والتراجع، وفي هذه الحالة سوف تدخل في مواجهة مع هذه الأطراف، وهو ما تريده أيضاً وتتحسب هذه الأطراف باعتباره المسار البديل في عملية استهداف لبنان.
http://www.islamicnews.net:المصدر
==================(18/4)
(18/5)
الشرق الأوسط الجديد مسرحية هزليه تنتظر طلقة الرحمة
جمال سعيد
23 ربيع الثاني 1428هـ الموافق له 10- 5- 2007م
NEW كثيرة جداً هذه الكلمة بمدلولاتها ومشتقاتها التي يحتويها القاموس الجغرافي والسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، فهي العالم الجديد NEW WO r LD الذي اكتشفه كولومبوس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وأهم مدنها نيويورك New Yo r k أي مدينة يورك البريطانية الجديدة، وأهم مشاريعها السياسية بين " الشرق الأوسط الجديد" New Middle East.
ومن ثم فالثقافة الأمريكية بحكم التاريخ والجغرافيا ليست تراثية مطلقاً، فالدولة ولدت منذ نحو خمسة قرون فقط، وتاريخها بدأ أيضاً مع الكشوفات الجغرافية، ومن ثم فالذهنية الأمريكية تقوم في الأساس على إعادة صياغة الواقع دون النظر إلى الخلفيات التاريخية التي لا تهتم بها العقلية الأمريكية كثيراً.
وكانت منطقة الشرق الأوسط إحدى المحطات الرئيسية في تغيير الواقع وفق الرؤية الأمريكية، وذلك منذ أن طرح الرئيس الأمريكي جورج بوش في عام 2003م عبارته المشهورة "ستون عاماً من التغاضي الغربي عن غياب الديمقراطية في الشرق الأوسط لم يجلب لنا الأمان، لأننا لا نستطيع شراء الاستقرار على حساب الحرية على المدى الطويل" والتي مثلت تغييراً جذرياً في أسلوب تعامل الإدارة الأمريكية مع المنطقة من خلال ما عرف بالشرق الأوسط الجديد، فماذا تم خلال هذه السنوات الأربع، وإلى أي مدى نجح أو فشل هذا المشرع الجديد؟
الشرق الأوسط الجديد:
"من بيروت إلى بغداد فإن الشعب يقوم بخيار الحرية، والشعوب المحتشدة في هذه القاعة عليها القيام بخيار أيضاً".
كانت تلك الكلمات التي دشن بها الرئيس الأمريكي جورج بوش خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20- 9- 2006 في دورتها السنوية الـ61.
كلمات بوش جاءت بينما الحلم الديمقراطي الأمريكي يتلقى ضربات قاصمة في لبنان، وأفغانستان، والعراق، إلى الدرجة التي دفعت روبرت ساتلوف مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إلى القول: "لا أستطيع القول أن الأجندة الأمريكية لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ماتت، لكنها في غرفة العناية المركزة".
ولكن ما هي الأسباب والمعوقات التي دفعت بهذا المشروع إلى غرفة العناية المركزة؟
تضافرت حزمة من الأسباب والعوامل لتقف جميعها وراء هذه الانتكاسة الأمريكية التي ترفض واشنطن الاعتراف بها منها: أن واشنطن انحازت لقيمها المادية على حساب تلك القيم المثالية التي تشدقت بها أيام الحرب الباردة مع المعسكر السوفيتي، وهنا نقطة هامة؛ فقراءة المشروع الشرق أوسطي الجديد يجب قراءته في سياق عام يضع بجانبه أفول نجم الشيوعية السوفيتية، وتجذر قيم ومصطلحات العولمة، وتضخم دور الشركات المتعددة الجنسيات، إضافة إلى صعود نجم الإسلام السياسي.
فوفقاً للرؤية الأمريكية كان الشرق الأوسط الجديد الذي بشر به بوش في 2003م يتطلب إعادة صياغة أنظمة الحكم في تلك الدول، بحيث تفرز أنظمة جديدة تحظى بشعبية مقبولة لدى الناس، وفي نفس الوقت تتوافق مع قيم العلمنة الغربية، وكانت الآلية الوحيدة لهذه الرؤية عبر صناديق الانتخابات، وهو الأمر الذي حقق نجاحاً بعض الشيء في النموذج التركي الذي صعد بحزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة.
ولكن رياح الديمقراطية لم تأت بما تشتهيه السفن الأمريكية، ففي أعقاب النجاح غير المسبوق لجماعة الإخوان المسلمين في مصر في الوصول إلى 88 مقعداً في مجلس الشعب المصري، وقبلها فوز حماس بالأغلبية في الانتخابات الفلسطينية؛ لتعيد خلط الأوراق الأمريكية من جديد.
فالقيم التي تتبناها الحركات الإسلامية تتعارض بشكل أساسي مع الأماني الأمريكية في إعادة هيكلة السوق والأفكار والثقافات الشرق الأوسطية الجديدة، ومن ثم فقد كان لزاماً على صانع القرار الأمريكي التخلي هنا عن مثالية الديمقراطية، والقبول بأخف الضررين، فوجود أنظمة غير منتخبة ديمقراطياً، وغير مقبولة شعبياً؛ أفضل كثيراً من المخاطرة بدعم قيم الحرية والمساواة التي من شأنها الذهاب بالمكتسبات المادية التي يحتفظ بها صانع القرار الأمريكي في المنطقة.
صحيفة الديلي تليجراف في عددها الصادر بتاريخ 16 فبراير 2006 تلقي ضوءاً على هذا الأمر قائلة في افتتاحيتها: إن "انتخاب حكومة إسلامية ديمقراطية في الأراضي المحتلة كان أمراً مثيراً للغاية، تصوروا تأثير حدوث الشيء نفسه في مصر"، وتضيف الصحيفة: أن "مخاطر الديمقراطية" أضحت أكثر وضوحاً عندما تغلبت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على حركة فتح في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني التي أجريت الشهر الماضي، ولذا ترى الديلي تليجراف أنه "لم يكن من المفاجئ أن يصدر الرئيس المصري مرسوماً رئاسياً الشهر الماضي يقضي بتأجيل انتخابات المجالس المحلية لمدة عامين، وهو القرار الذي صدق عليه البرلمان المصري".(18/6)
ناثان براون كبير الباحثين في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، والمشارك في برنامج المؤسسة لدراسة التحول الديمقراطي في العالم العربي؛ يلقي من ناحيته ضوءاً جديداً قائلاً في حديث مع راديو سويس أنفو بتاريخ 7 مايو 2006: "أن الإدارة الأمريكية بدأت تشعر بخوف حقيقي إزاء ما أسفرت عنه الانتخابات الديمقراطية من صعود للإسلاميين خاصة في مصر، بل وفي أي انتخابات قد يتم إجراؤها في بلاد عربية أخرى إذا واصلت واشنطن دفع مسيرة التحول نحو الديمقراطية في العالم العربي، لذلك قررت الحكومة الأمريكية أن تغمض أعينها عن قرار الحكومة المصرية تأجيل الانتخابات البلدية لمدة عامين".
حتى في لبنان التي شهدت ولادة الشرق الأوسط الجديد من خلال مظاهراتها المليونية التي أسقطت حكومة رشيد كرامي في عام 2005م، والتي وصفتها صحيفة التايمز البريطانية في عددها الصادر بتاريخ 3 مارس 2005 قائلة " أنها تنبئ بثورة ديمقراطية مماثلة لانهيار الستار الحديدي في أوروبا الشرقية قبل 16 عاماً.".
هذه الصورة الوردية سرعان ما تبخرت خاصة مع العدوان الصهيوني الأخير في يوليو من العام الماضي، حيث بدت واشنطن تغير من لهجتها، فبدلاً من الدعاوى السلمية لانتقال السلطة إذا بوزيرة الخارجية الأمريكية تعلن في 22- 7- 2006 أن نيران المدافع الإسرائيلية ستخرج من رحم الدولة المدمرة "شرق أوسط مختلف، إنه شرق أوسط جديد" على حد تعبيرها.
الوضع أيضاً في أفغانستان والعراق يغني عن المزيد من التفاصيل، ويكفي سرد أعداد القتلى والجرحى في دوامات العنف اليومية ليتم من خلالها قراءة نجاحات المشروع الأمريكية الجديد، ومعرفة لماذا تراجع المشروع الشرق الأوسطي الجديد أو بمعنى أدق دخل العناية المركزة.
الخروج من النفق المظلم:
"الخوف من الديمقراطية يعد بمثابة تشجيع على الفساد والقمع والركود، كما أن تأجيل يوم الحساب قد يجعل مقدمة أشد وطأة"، هذا ما انتهت إليه صحيفة الديلي تليجراف في تقريرها الصادر بتاريخ 16 فبراير دون أن تضع من ناحيتها روشتة علاج يخرج مشروع الشرق الأوسط الجديد من غيبوبته الطويلة.
ناثان براون يضع من ناحيته خيطاً يمكن أن يصل بنا إلى الحل المنطقي وفق الرؤية الأمريكية وذلك من خلال طرح تساؤل مفاده: هل يمكن إقامة نظام سياسي يستطيع استيعاب الحركات الإسلامية السياسية؟
طرح ناثان السؤال دون أن يقدم أي حل، لكن يمكن القول أن التجربة السياسية الوحيدة التي يمكن القول أنها نجحت نوعاً ما كانت في تركيا، لكن الأخيرة - ولسوء حظ مشروع الشرق الأوسط الجديد - تلقت في الأيام الأخيرة ضربة موجعة على خلفية السجال بين الإسلاميين والعلمانيين حول ترشح وزير الخارجية عبد الله لمنصب رئيس البلاد.
صحيفة ليبراسيون الفرنسية خرجت في الثالث من شهر مايو الجاري بتقرير تحت عنوان "لا عمامة ولا قبعة" قائلة: إن احتمال انتخاب إسلامي رئيساً للدولة التركية أيقظ المجتمع العلماني في هذا البلد, فبدأت الأحزاب العلمانية نشاطات تهدف إلى سد الطريق أمام هذا الاحتمال عن طريق المظاهرات، واللجوء للقضاء والمجلس الدستوري.
وأمام هذا التعنت العلماني بدأ أن المشروع الديمقراطي في تركيا بات يواجه صعوبات كبيرة ليس في الداخل فقط ولكن أيضاً لأمريكا وحلفاءها الذين دائماً ما اتخذوا النموذج التركي مثالاً يحتذى به في كيفية الموائمة بين النفعية والمثالية، والديني والعلماني في السياسة.
المشروع الأمريكي لكي يخرج أيضاً من هذا النفق المظلم، وبعيداً عن استيعاب الحركات الإسلامية في اللعبة السياسية؛ يحتاج إلى إجابات شافية من الحركات الإسلامية نفسها التي باتت صداع في رأس صانع القرار الأمريكي.
حيث أن الحركات الإسلامية التي تقبل بالعملية السياسية والدولة المدنية ما زالت صامتة، أو تعطي إجابات شافية لصانع القرار الأمريكي فيما يتصل بحرية بكيفية التعامل مع المشروع الصهيوني، كما أن إجابتها وأطروحتها الخاصة بحرية السوق وتنقل الأموال ما زالت غامضة وفضفاضة.
http://www.islammemo.cc:المصدر
=================(18/7)
(18/8)
رؤية أميركية في ملفات الشرق الأوسط
محمد أبو رمان
19- 3- 2007م
ثمة تحوّل كبير في اتجاه السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط يقوم على إعادة تعريف مصادر التهديد والأولويات، واستراتيجية التعامل مع الدول والأطراف المختلفة في المنطقة.
احتلال العراق كان - في رؤية المسئولين الأميركيين - مفتاحاً ذهبياً لتغيير أوضاع المنطقة، وخلق مرحلة جديدة، لكن النتائج كانت مختلفة تماماً؛ إذ تحوّل العراق إلى حاضنة لـ"الإسلام الراديكالي" بشقيه الشيعي والسني، وتعرّضت الولايات المتحدة إلى نكسة استراتيجية كبيرة يرى مسئولون أميركيون أنّ عقدة فيتنام تهون أمامها.
على الجهة المقابلة أدت "دعوة الإصلاح الأميركية" إلى فتح مناخ ومتنفس للحركات الإسلامية في العملية الانتخابية، فكانت المرحلة الأخيرة بمثابة فترة ذهبية للصعود الإسلامي، إلا أن التحدي الحقيقي والمتغير الرئيس في المنطقة تمثل بعودة المحافظين في إيران إلى الحكم سواء في الانتخابات النيابية 2004م، أو الرئاسية 2005م، إذ أعاد الرئيس الجديد نجاد توجيه السياسة الخارجية الإيرانية بالكلية، وفي محور ذلك الإصرار على تخصيب اليورانيوم، والمضي قدماً في برنامج إيران النووي، واستثمار الظروف الإقليمية لإعادة مشروع تصدير الثورة لكن بصيغة وأدوات أخرى، وهو ما نجح فيه إلى درجة كبيرة.
مع الوقت أدت المتغيرات الجديدة إلى إعادة تفكير حقيقية في الاستراتيجية الأميركية بعد أحداث أيلول 2001م، ما تمخض عنه انقلاب كامل على مرحلة ما بعد 11 سبتمبر من خلال اعتبار التحدي الإيراني مصدر التهديد الرئيس، والعودة إلى السياسة الواقعية بتقديم الاعتبارات الأمنية والاستراتيجية والسياسية على سؤال الإصلاح وحقوق الإنسان، والعودة إلى مفاهيم الحرب الباردة ببناء تحالف إقليمي ضد "الخطر الإيراني" الجديد بما في ذلك البحث في فرص تجنيد وتوظيف الحركات السلفية (التي اعتبرت بعد سبتمبر المصدر الرئيس للإرهاب!)، وتجديد الصفقة التاريخية مع الدول العربية الحليفة لمواجهة إيران، ما يعني أننا أمام فترة ذهبية ثانية في العلاقات الاستراتيجية الأميركية - السعودية.
ملامح الانقلاب الأميركي الحالي في المنطقة بدت واضحة تماماً، وليست بحاجة إلى تكهن أو ذكاء في القراءة الاستراتيجية؛ لكن آفاق هذا التحول والتوقعات المختلفة لا تزال موضع سؤال رئيس بين احتمال وجود صفقة إقليمية تنهي كثيراً من الملفات الشائكة، وبين تطور الحرب الباردة الجديدة إلى مرحلة عسكرية قد تعيد هيكلة المنطقة جيوستراتيجياً.
سؤال المرحلة الحالية والقادمة كان موضع حوار خاص مع مسؤول رفيع في الخارجية الأميركية الذي أكد على الخلفية السابقة في تطور السياسة الأميركية، وقدّم أفكاراً تصب في صلب الموضوع، وفي استشراف المرحلة القادمة؛ أول الملفات الذي ناقشته مع المسئول هو الملف الإيراني الذي يشكل قطب الرحى في التفاعلات الإقليمية اليوم.
يرى المسئول أن إيران تولدت لديها قناعة أن الإدارة الأميركية ضعيفة وعاجزة وغير قادرة على ضرب إيران بسبب الإخفاق في العراق، لذلك عملت الإدارة الأميركية في الفترة الأخيرة على تغيير هذه القناعة من خلال قلب الطاولة على النفوذ الإيراني، ومحاصرة إيران في المنطقة بعامة - وفي العراق بخاصة -، ويرى المسئول أنّ الإيرانيين بدأوا يدركون أنّ تلك القناعة خادعة وغير صحيحة، وأنّ الإدارة الأميركية تملك خيارات مفتوحة، وأنها قادرة على إعادة ترتيب أوراق القوة والنفوذ في المنطقة.
يرى المسئول الأميركي أنّ الاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه إيران أكثر واقعية وحذراً مقارنة بما حدث في العراق، فالسياسة الأميركية عادت إلى الأسلوب المعروف العصا والجزرة، وإذا كانت العصا تتمثل بالعقوبات والتهديدات والرسائل المختلفة في المنطقة؛ فإنّ الجزرة هي المبادرة الأميركية المعروضة أمام الحكومة الإيرانية الآن، والتي تقوم على تنفيذ أغلب المصالح والمطالب الإيرانية باستثناء موضوع تخصيب اليورانيوم، ولا يخفي المسئول الأميركي أنّ هنالك تقدماً حاصلاً في الملف الإيراني، لكنه لم يصل بعد إلى مرحلة نوعية ملفتة.
ينفي المسئول الأميركي أنّ قراراً قد اتخذ بشن الحرب على إيران، وإن كان يقر بأنّ ثمة نقطة اللاعودة في الخيارات الدبلوماسية، عندئذ ستكون فكرة الضربة الجوية القاسية مطروحة بقوة أمام صانع القرار الأميركي، ويؤكد المسئول على الانقسام والصراع داخل أروقة صناعة القرار الأميركي نحو إيران، إذ يقود نائب الرئيس ديك تشيني التيار المؤيد للحل العسكري، بينما تدفع وزيرة الخارجية كونداليزا رايس وعدد من المسئولين لمنح فرصة جيدة ووقت كاف للحل الدبلوماسي، وللاتفاق مع القوى العالمية الأخرى بخصوص الملف الإيراني، وقد أظهرت المؤشرات الأخيرة أنّ الصين وروسيا ليسا داعماً مطلقاً لإيران.(18/9)
ويرى المسئول أنّ الاتجاه المعارض لتشيني هو الذي يدير الملف الإيراني إلى الآن، وقد أكد مسئول بارز أمام الكونغرس في الأيام القريبة الماضية أنّ هدف الإدارة الأميركية ليس تغيير النظام في طهران بل سلوكه السياسي، وهو ما يمثل خروجاً على الخط السياسي التقليدي ذاته، إذ كان المطروح دوماً هو تغيير النظام نفسه.
على الصعيد العراقي، وبخصوص استراتيجية بوش الجديدة؛ يرى المسئول أنّ المعضلة الحقيقية سياسية، وأنّ الإدارة الأميركية تدرك ذلك تماماً، وقد سعت بكل الوسائل لإقناع السنة بالمشاركة في العملية السياسية، وبالحد من التغول الطائفي الشيعي على المؤسسات السياسية والأمنية، لكن مشكلة الإدارة الأميركية تتمثل بالمثل القائل: "العقرب في جيبة القميص"، فالحكومة الحالية طائفية بامتياز، وعلى صلة قوية بإيران، وهو ما يجعل من المهمة الأميركية في غاية الصعوبة مقارنة فيما لو كان الرئيس شخصاً علمانياً كإياد علاّوي.
في ملف التسوية لا يبدي المسئول الأميركي حالياً تفاؤلاً، ويرى أنّ هنالك حركة جيدة وتحريكاً للمياه الراكدة في الآونة الأخيرة، لكن المشكلة تكمن في الجانب الإسرائيلي الذي لا يظهر أي استعداد وقدرة على تقديم التنازلات الضرورية للحل النهائي، فليس المطلوب استئناف العملية السلمية بل المطلوب هو التوافق على الأسئلة الرئيسة المرتبطة بالقضايا المفصلية، ولا يرى المسئول فائدة أو اختراقاً يمكن أن يحدث من جولة رايس في المنطقة، فالمحصلة ستكون وفقاً للمثل العربي "تمخّض الجمل فولد فأراً"!
مع هذا يؤكد المسئول أن هنالك تنامياً في إدراك نخب سياسية أميركية واسعة لأهمية حل القضية الفلسطينية، ويشير المسئول إلى أن الوزيرة رايس استخدمت لأول مرة مصطلح "ضرورة رفع الظلم عن الفلسطينيين" في أحد لقاءاتها الأخيرة في واشنطن، لكن ذلك لا يتوازى مع ضغوط حقيقية على إسرائيل، مع الأخذ بعين الاعتبار الفترة القليلة المتبقية للرئيس بوش التي ربما ستعتمد معها إسرائيل سياسة المماطلة.
المتضرر والخاسر الأكبر في التحول الأميركي الجديد هو ملف الإصلاح السياسي، إذ يقر المسئول أنّ أولوية الإصلاح تراجعت في سياق العودة إلى السياسة الواقعية القديمة، وأنّ الإدارة الآن تخلت عن هذا الموضوع لصالح الاعتبارات الأمنية والسياسية الأخرى، ويضرب المسئول مثلاً على التحول الأميركي بالاعتقالات الأخيرة في مصر التي طالت مئات الإخوان المسلمين، إذ طالب مسئولون أميركيون بإصدار موقف أميركي مندد بها؛ مقارنة بالموقف الأميركي من اعتقال أيمن نور، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل!
رؤية المسئول الأميركي قد لا تقدم جديداً في قراءة السياسة الأميركية وآفاقها، لكنها تسلط المزيد من الضوء عليها، وعلى التحولات الجارية، والمرحلة الحالية الحرجة في المنطقة.
http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws:المصدر
-===============(18/10)
(18/11)
نفط الشرق الأوسط .. لا تضع كل البيض في سلة واحدة!!
معمر الخليل
13/2/1428هـ
مع الطلب المتزايد على النفط في العالم، وتركّز معظم احتياطات النفط العالمي في الشرق الأوسط؛ تبدو الدول المستوردة للنفط لاهثة وراء نفط المنطقة، في نفس الوقت الذي تتخذ فيه إجراءات استباقية للخروج من طوقها، والبحث عن مصادر أخرى.
وعلى اعتبار أن كلاً من الولايات المتحدة والصين هما أكثر دول العالم استهلاكاً للنفط؛ فإن سياستهما الاقتصادية في التعامل مع ذلك المنتج المتدفق تعتبر نموذجاً واقعياً لطريقة تعامل العالم مع نفط الشرق الأوسط.
حاجة متنامية:
لا تبدو الولايات المتحدة والصين أنهما ستتوقفان عند حد معين من الحاجة للمزيد من الاستهلاك النفطي، وأمام ذلك بات الصراع حامياً بين الدولتين في كسب ثقة الدول المنتجة للنفط، والحصول على المزيد من العقود الجديدة في الدول المؤهلة لدخول نادي مصدر النفط.
وبحسب الأرقام التي تتيحها وزارة الطاقة الأمريكية فإن الولايات المتحدة تستهلك نحو 20 مليون برميل نفط يومياً، أي ما يعادل ربع إجمالي استهلاك العالم من النفط الخام، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى نحو 26 مليون برميل يومياً بحلول عام 2020م، وهي تستورد من حاجتها نحو 12 مليون برميل يومياً، وهذه الكمية من المتوقع لها أن ترتفع إلى أكثر من 16 مليون برميل يومياً بحلول العالم 2020م، وإلى أكثر من 20 مليون برميل يومياً بعد عام 2030م وذلك نتيجة اتجاه الإنتاج المحلي في الولايات المتحدة إلى الانخفاض لنحو يقدر بخمسة ملايين برميل يومياً بحلول عام 2020م بسبب نضوب الحقول الحالية، وعدم اكتشاف حقول جديدة.
أما الصين، فقد بدأت باستيراد النفط منذ عام 1994م، وعاماً بعد عام باتت من أكثر الدول استهلاكاً للنفط لدرجة باتت تنافس فيها الولايات المتحدة، مع الحفاظ على إنتاجية محلية، وشره متزايد للنفط العالمي.
ففي 2006م بلغ إنتاج الصين من النفط الخام 183.68 مليون طن بزيادة 1.7% عن السنة التي قبلها، فيما بلغت وارداتها 162.87 مليون طن، بنسبة أعلى بـ 19.6% عن السنة السابقة، من بينها 138.84 مليون طن نفط خام، و 24.03 مليون طن من المنتجات النفطية الأخرى.
وخلال السنة الأخيرة ارتفع اعتماد الصين على النفط المستورد نسبة إلى الطلب السنوي ليصبح 47%؛ بزيادة قدرها 4.1% عن السنة التي قبلها، ويرى المحللون الاقتصاديون أنه خلال العام الحالي 2007م فإن الناتج المحلي الصيني من النفط سيرتفع بنسبة 52%، فيما سترتفع في نفس الوقت حاجتها للنفط المستورد بنسبة 6%.
البحث عن الذهب الأسود في القارة السوداء:
ركزت كل من الولايات المتحدة والصين صراعهما النفطي في القارة الإفريقية التي باتت تعتبر اليوم مخزون المستقبل من النفط، وليس ذلك بغريب طالما أن الاكتشافات المستمرة تقدم مؤشرات مرتفعة هناك، خاصة وأن النفط الإفريقي يتمتع بمواصفات قياسية من حيث الجودة العالية، وسهولة التكرير.
أمريكا التي باتت تستورد سنوياً نحو ثلثي حاجتها من النفط وضعت استراتيجية تهدف إلى التحكم في مناطق النفط الإفريقية عبر صفقات وعقود نفطية، فضلاً عن تواجد استخباراتي وعسكري، وأمام حاجة بلاده التي تزيد عن 12 مليون برميل مستورد يومياً - تأتي معظمها من السعودية وبعض الدول المنتجة للنفط - حاول الرئيس الأميركي جورج بوش منذ أربعة أعوام عقد صفقات نفطية مع نحو 10 دول إفريقية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2002م.
أما التحرّك الأكثر أهمية في هذا المجال فقد جاء على شكل إقامة قيادة عسكرية أمريكية خاصة بإفريقيا ستشرف على دعم الحكومات الموالية لأمريكا هناك، والتي وقّعت أو ستوقّع عقود نفط تضمن احتكار واشنطن له لسنوات طويلة.
ورغم إعلان وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس أن القيادة الإفريقية الجديدة ستتيح للولايات المتحدة "تنسيق عملياتها العسكرية بشكل أفضل، والتصدي لكل تهديد محتمل"؛ إلا أن الجميع متفقون على أن الهدف الأساسي من وجود قيادة عسكرية أمريكية لإفريقيا يأتي لضمان الحصول على النفط، على سبيل المثال تقول شبكة البي بي سي في تعليقها على خبر إنشاء القيادة الأمريكية هناك: "إن إفريقيا توفر 10% من النفط الذي تستورده الولايات المتحدة، كما إن واشنطن قلقة من المنافسة الاقتصادية والدبلوماسية للصين".
وتحاول الولايات المتحدة دعم الحكومات الحالية عبر برامج تنموية تهدف إلى زيادة استقرار الدول الإفريقية المنتجة للنفط - خاصة في غرب إفريقيا - عبر مشاريع اقتصادية واجتماعية كبيرة، فمع مطلع عام 2000م رصدت الولايات المتحدة مبلغ 5 مليارات دولار لتمويل مشاريع مشتركة مع بلدان شمال أفريقيا، وزادت اهتمامها أيضاً بمشكلات بلدان وسط وغرب أفريقيا السياسية والاجتماعية منها، كما قدمت مساعدات بقيمة 200 مليون دولار لمكافحة مرض الإيدز المستشري في بلدان القارة المختلفة.(18/12)
وعلى ذات الصعيد نرى الاهتمام الصيني المتزايد بمصادر إفريقيا النفطية عبر أكثر من زيارة قام بها الرئيس الصيني بنفسه إلى دول إفريقية منتجة للنفط، وبالتالي تقليل حجم الاعتماد على النفط الخليجي الذي يشكل نسبة 61.1% من وارداتها النفطية، خاصة وأن المحللين الاقتصاديين في الصين يرون أن وقف تدفق النفط للصين من الشرق الأوسط (لأي سبب كان) ستكون له آثار مدمرة على الاقتصاد الصيني لأمد بعيد، ويبدو التخوّف الصيني منطقي، مع وجود تحالفات قوية بين دول منطقة الشرق الأوسط والولايات المتحدة، وانتشار قوات أمريكية هناك، واعتبار المنطقة قنبلة موقوتة قد يؤدي انفجارها إلى نتائج كارثية في العالم.
وفيما تبلغ نسبة واردات الولايات المتحدة النفطية من إفريقيا 15%؛ تبلغ نسبة تلك الواردات للصين 22%، أي أن اعتماد الصين على النفط الإفريقي أكبر من أمريكا عليه، وتعتبر نيجيريا أكبر منتج للنفط في أفريقيا، وقد دفعت المؤسسة الحكومية الصينية "سي ان او او سي" المحدودة 2.7 مليار دولار في إبريل 2006 للحصول على حصة نسبتها 45 في المئة في حقل نفطي رئيسي هناك، وقد حصلت بكين على حق التنقيب في أربعة مواقع أخرى من بينها كينيا، وفي أنغولا التي تخطت السعودية، وصارت المصدر النفطي الأكبر إلى الصين؛ باتت شركة صينية أخرى شريكة رئيسية في قطاعات (نفطية) متعددة أخرى.
ووفقاً لإحصاءاتها الرسمية استثمرت الصين 900 مليون دولار في أفريقيا في العام 2004م غالبيتها في البلدان المنتجة للنفط، كما ألغت الصين المليارات من الديون الأفريقية لتحصل على بطاقة الدخول إلى أفريقيا، ففي نيجيريا كانت الوعود الصينية باستثمار نحو 4 مليارات دولار في المصافي، وشركات الكهرباء والزراعة؛ شرطاً للحصول على حق تنقيب النفط، كما ستستردّ الصين قرض الـ4 مليارات دولار لأنغولا بالنفط، وكذلك الأمر في السودان وغيرها من دول القارة السمراء.
وفيما يواصل الرئيس الصيني وقادته الكبار جولاتهم في إفريقيا يقول كسيا يشان (الباحث في معهد الصين للدراسات الدولية): "إن تحويل إفريقيا إلى أكبر مصدر للصين من واردات النفط الأساسية هي استراتيجية جديدة للطاقة في الصين"، مضيفاً بالقول: "لقد اتخذت الصين بالفعل إفريقيا بعين الاعتبار فيما يتعلق باستراتيجية اعتماد تلك القارة مصدر كبير للنفط في المستقبل"، ويتابع بالقول لإحدى وسائل الإعلام الصينية: "إن بكين تمتلك علاقات ودودة مع الدول الإفريقية، وذلك ينصب في مصلحة الاستثمار الصيني في القارة السوداء، وإنتاج المزيد من النفط للصين"، متوقعاً أن تحتل إفريقيا خلال سنوات قليلة في المركز الثاني لأكبر مصدري النفط للصين.
مخاوف من المستقبل:
تفسر كل من الولايات المتحدة والصين توجهها لموارد نفطية جديدة بعيداً عن الشرق الأوسط بمبدأ "لا تضع البيض كله في سلة واحدة"، فالنفط الذي يعتبر عجلة الحياة الاقتصادية للدول الغربية بات المؤثر الأكبر في اقتصاديات اليوم، على سبيل المثال توجد 300 مليون سيارة في الولايات المتحدة التي توصف بأنها "دولة على عجلات" تمتص أكثر من 231 برميل نفط كل ثانية، كما يمثل النفط أمناً اقتصادياً عالي الأهمية للصين والتي تراهن على اقتصادها في مواجهة الهيمنة العالمية الأمريكية.
الشرق الأوسط تعتبر قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة خاصة مع وجود نزاعات عرقية وطائفية، ووجود قوات احتلال فيها، ووجود أنظمة مهددة بالسقوط أو أسقطت بالفعل (كالعراق)، مع وجود مقاومة مسلحة تستمد أسلحتها وتمويلها من دول مجاورة قد تجعل تلك الدول بؤرة جديدة.
وإذا كانت الأحلام الأمريكية السابقة (قبل احتلال العراق) قد رسمت صورة أكثر إشراقاً بأحداث مأمولة تنهي احتلال العراق سريعاً، وتعيد بناء منشآته ومرافقه النفطية مع سيطرة أمريكية كاملة عليها لدرجة يصل فيها سعر برميل النفط إلى 10- 15 دولاراً؛ فإن الأحداث التي وقعت بعد ذلك ألقت بظلالها على أسعار النفط ليرتفع معها سعر البرميل الواحد إلى أرقام قياسية تعدى حاجز الـ75 دولاراً.
وهذه المخاوف بطبيعة الحال لم تعد خافية، ولا يمكن التستّر عليها؛ على سبيل المثال فإن الرئيس الأمريكي أعلن في إحدى خطاباته خلال العام الماضي عن أن الولايات المتحدة ستخفض من واردات النفطية من منطقة الشرق الأوسط بمقدار 75% مع حلول عام 2025م، فإلى متى يبقى الشرق الأوسط السلة الأهم الذي يتجمع فيه بيض العالم؟! مع العلم أن تضاءل أهمية المنطقة كمصدّر للنفط قد يرافقها تضاؤل لدورها السياسي والاقتصادي في العالم!
http://www.almoslim.net:المصدر
-===============(18/13)
(18/14)
فراغ القوة في الشرق الأوسط!
طلعت رميح
10/11/1427هـ
منذ مدة استقر الكثير من المحللين السياسيين وكتاب الدراسات والأبحاث على وجود ثلاث قوى وثلاث مشروعات تتصارع على المستوى الاستراتيجي لإعادة ترتيب أوضاع الدول الإسلامية, وإحداث تغيرات ذات طابع حضاري شامل.
المشروع الأول: هو معلن عن نفسه بنفسه وهو المشروع الأمريكي لتغيير الشرق الأوسط, أو لتشكيل شرق أوسط جديد, خاضع للهيمنة الأمريكية المطلقة، وهو مشرع اعتمد لتنفيذه القوه العسكرية المباشرة، والقتال الحربي ضد الدول التي رفضت مسايرة المشروع كما هي حالتي العراق وأفغانستان، كما اعتمد نمط أو نظرية الفوضى البناءة في حالات أخرى أو ضد دول أخرى، ووفق أساليب متنوعة شملت عمليات الاغتيال لأحداث حالات من الاضطراب في بنى الدول، وضم شخصيات سياسية وفكرية وثقافية إلى خططها ومشروعها، وتربية وحماية شخصيات "شابة" جديدة لتغير اتجاهات الرأي العام كمكون وطني عام, وإيجاد جسور علاقات ومصالح مع قطاعات فئوية أو طائفية على حساب الأوطان، ولعزل "المكونات الوطنية" في كل بلد عن بعضها البعض، وأحداث حالات من التخلخل والتفكك داخل المجتمعات لتسهيل مهام الاختراق، وتطويع الإرادة والسيطرة، كما هي استخدمت مختلف أشكال الضغوط الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية على حكومات الدول لتغير توجهاتها، أو لتطويع إرادتها في إطار المشروع الأمريكي.
والمشروع الثاني هو المشروع الإيراني الذي هو مشروع يعلن عن نفسه بتصرفاته وسلوكه بأكثر مما يعلن عن نفسه من خلال مشروع استراتيجي متكامل (على مستوى الإعلام والطرح السياسي)، كما هو على صعيد الإعلان عن نفسه قد اكتفى بإعلان رفضه ومقاومته للمشروع الأمريكي، وهو مشروع اعتمد القوة العسكرية على صعيدين: الأول هو إعداد الدولة الإيرانية ذاتها على المستوى العسكري لتتحول إلى قوة إقليمية مسيطرة (خاصة في ضوء خروج القوة العراقية من التوازن الاستراتيجي معها)، والثاني: من خلال دعم ومساندة قوى وأحزاب وتيارات شيعية على المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية (منظمة بدر، ومقتدى الصدر في العراق، وحزب الله في لبنان، والهزارة في أفغانستان وغيرها).
كما هو اعتمد على توريط "خصومه" في مشكلات في داخل المحيط الإيراني عبر تشجيعهم ودعمهم والتحالف معهم لإطاحة خصوم إيران في المحيط، ولإضعاف هؤلاء الخصوم أنفسهم، وجعلهم أضعف على صعيد المساومات مع الطرف الإيراني؛ فقد تحالفت إيران مع الولايات المتحدة وبريطانيا في العدوان على أفغانستان على مختلف الصعد، بما حقق لها إقصاء حركة طالبان في أفغانستان (والتي كانت طهران من قبل قد حشدت قواتها العسكرية لحربها قبل العدوان الأمريكي)، والحكم في العراق بقيادة الرئيس العراقي صدام حسين الذي وقف في وجه مشروعها (هذا) والذي كان يحمل عند بدايته عنوان "تصدير الثروة ", أو تصعيد حالة التشيع في المحيط.
وكذا هي اعتمدت استراتيجية سياسية وإعلاميه تقوم على "خلط الأوراق" و"التعتيم" على أهداف استراتيجيتها، وهى لذلك مارست نشاطاً إعلامياً وسياسياً متواتراً (قناة العالم - تصريحات أحمدي نجاد شبه اليومية تقريباً).
والمشروع الثالث هو المشروع الثالث وسبب التسمية "هنا" لا يعود إلى عدم وضوح هويته ولكن بقصد التوضيح، حيث هو مشروع لا دولة تقوده أو تسانده (كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة، وإيران في المشروعين الآخرين)، كما هو مشروع واسع الأطياف، وبلا قياده مركزية، إذ تتعدد الجماعات والاتجاهات التي تدعو وتعمل من أجله (بلا اتفاق واضح بينها)، وكذا لأن الأغلب على توصيفه هو أنه "مشروع مقاوم"، بما يشير إلى أنه يقاوم المشروعات الأخرى بالدرجة المهمة، وإن كان ذلك لا يعني أنه لا وضوح لديه - بهذه الدرجة أو تلك - على صعيد استراتيجيته في إعادة ترتيب المنطقة، إذ هو بالإجمال يدعو إلى البناء الإسلامي للمجتمعات، ولعودة الدولة الإسلامية كتعبير عن الأمة الإسلامية.
وهو يختلف عن المشروعات الأخرى في أن "تنوع" أساليب وصوله إلى أهدافه هي حالة ترتبط برؤية كل جماعة - لا ضمن خطة واحدة كما هو الحال في المشروعات الأخرى -، إذ تعتمد "القاعدة" على الأعمال العسكرية (وهي تختلف معها في نشاطها، وسبل تحقيق أهدافها مجموعات أخرى كثيرة)، وكذا هي تمارس نشاطاً إعلامياً واسعاً (على عكس تيارات أخرى)، بينما هي لا تمارس "العمل السياسي" كما هو معتاد أو وفق ما هو متعارف عليه (عند جماعات أخرى)، كما تعتمد حركات وجماعات أخرى أساليب "الدعوة" و"النشاط السياسي" (نموذج حركة الإخوان المسلمون بكل أطيافها).. إلخ.(18/15)
وهكذا صار الصراع بين الاتجاهات الثلاثة والاستراتيجيات الثلاثة طوال المرحلة الماضية التي يمكن التأريخ لها - في هذه المرحلة - بثورة الخميني بالنسبة للمشروع الإيراني (والذي لم يأت بعيداً في واقع الأعمال عن المشروع الشاهنشاهي إلا في النمط الصريح المعلن من الولاء للمشروع الأمريكي)، وبالعدوان الأمريكي على العراق في عام 1991 باعتباره نقطة إطلاق السيطرة الأمريكية على العالم، والتي جاء إعلانها - عسكرياً - من العراق تحديداً لما لهذا من دلالات حضارية واستراتيجية تواصلت فيما بعد عبر العراق أيضاً، (وهو ليس منفصلاً بطبيعة الحال عن الاستراتيجيات الأمريكية منذ الخمسينات بشكل خاص).
أما المشروع الثالث فإن التأريخ له هو عمليه صعبة، إذ هو مشروع يمكن التأريخ له ببدايات المقاومة للغزوة الاستعمارية الأوروبية من قرنين من الزمان، كما يمكن التأريخ لضروراته منذ إسقاط تركيا لواجبها تجاه الأمة الإسلامية عبر حركة أتاتورك, وكذا بظهور حركة الإخوان المسلمين، أو بنشاط وقوة التيار السلفي، أو بظهور تنظيم القاعدة، أو بظهور حركة حماس (مع الاختلاف البين والواضح بين تلك ا لتيارات)، أو بغيرها، وإن كان الأكثر تحديداً هو ظهور حالة المقاومة الشاملة للمشروعين الآخرين.
صراع على ماذا؟
في التاريخ الاستعماري كله جرى التعتيم على الأهداف من الحروب والمشروعات الاستعمارية، كما جرى تقديم أوصاف خادعة لعمليات الاحتلال، حيث الخداع هو الاستراتيجية الدائمة في كل عمليات الاحتلال، النموذج الأبرز كان الحرب العالمية الأولى التي جرت فعلياً لتحقيق هدف الإجهاز النهائي على دولة الخلافة الإسلامية بأحداث تغيير فكري وسياسي في مركزها في تركيا، واحتلال أقاليمها وولاياتها كلياً باعتبارها مهزومة في الحرب، لكن تلك الأهداف استبدلت بإعلان شعارات وصياغات تتحدث عن: تركة الرجل المريض"، وفي تلك المرحلة جرى احتلال فلسطين من قبل القوات البريطانية لتسليمها للصهاينة وفق وعد بلفور، وكان المسمى الذي أطلق على الاحتلال هو "الانتداب"، كما جرى تقسيم الولايات الإسلامية بين بريطانيا وفرنسا وفق اتفاق سايكس بيكو باعتبارها دول منتصرة في الحرب.
وفي الصراع الراهن فإن الولايات المتحدة قد اختارت عنوان الشرق الأوسط الكبير للتعمية على هدفها في حرب الإسلام والمسلمين (وتغيير هوية المنطقة)، واحتلال الأراضي الإسلامية، والاستيلاء على ثروات الأمة...الخ، كما هي اختارت شعارات الديمقراطية لتضليل الشعوب إعلامياً وذلك وفق خطط إعلامية مدروسة.
أما إيران فقد اتخذت غطاء لها في تحقيق أهدافها من الشعارات الأمريكية ذاتها في جانب كما هو الحال في حديثها عن الإرهاب في العراق وأفغانستان الذي هو وصف للمقاومة الإسلامية، كما هي خلال الحرب مع العراق قد اختارت شعارات مقاومة البعث الصدامي، ومواجهة تطلعات صدام...الخ.
ولأن المشروع الثالث هو المشروع الذي يستهدف مصالح الأمة، ويرتبط بهويتها، ويدافع عنها؛ فهو ليس فقط في غير حاجة إلى "شعارات للتغطية" على مشروعه؛ بل هو يطرح شعارات محددة صادقة مع توجهاته وأهدافه، وإن كان الأغلب فيها حتى الآن هو أنها ترفع شعارات مواجهة المشروعين الآخرين باعتبارهما مشروعين "استعماريين" بأكثر مما تطرح بنود وبرامج مشروعها الأصلي، مع الاختلاف بطبيعة الحال بين هذه الجماعة أو تلك على هذا الصعيد بحكم اختلاف الظروف التي تنشط فيها كل جماعة وليس فقط بفعل حالة التعدد والاختلاف بين الجماعات باتجاهاتها المختلفة.
وفي كل ذلك والحاكم لكل ذلك هو أن المنطقة التي يجري حولها الصراع ليست "أرض فضاء على صعيد النظم التي تحكمها، ولا على صعيد شعوبها، ولو كانت كذلك ما كانت هناك حاجة من قبل المستعمرين لإخفاء أهدافهم، ولا كان هناك خطاب موجه من أصحاب مشروع الأمة...الخ، وهنا يمكن القول بأن أصحاب المشروعات "الثلاثة" على اختلاف أهدافهم واستراتيجياتهم وتضادها حتى القتال ينطلقون من فكرة مفادها أن "نظم الحكم" التي تسيطر على الأوضاع في المنطقة لم يعد يمكن لها الاستمرار، أو لم تعد تملك مقومات البقاء - فوجهوا جهودهم لتغييرها كل حسب أهدافه - كما هم وجدوا أن الشعوب باتت أقرب إلى حالة التغيير منها إلى حالة الركون إلى التعايش مع أوضاعها الراهنة.
الصراع إذن يجري على منطقة محدودة، ذات هوية محدده، وفي ظل حالة انفصال بين الشعوب ومختلف أشكال الحكم فيها بما أوجد الفرصة لدى أصحاب الاستراتيجيات الثلاثة للدخول على خط التغيير، وأحدها استعماري (من بعيد)، وثانيها تشكل عوامل القرب الجغرافي والاستراتيجي ملامح قوته، وثالثها يتمتع بالمشروعية لدى الشعوب إن لم يكن بحكم تعبيره عنها (وفق ملامح متنوعة ومتعددة الأوجه يختلف فيها وضع كل تيار أو جماعة)، ولذلك اختلفت طرق الاقتراب في تنفيذ الأهداف بحكم طبيعة الاستجابات المختلفة من الشعوب لكل استراتيجية من الاستراتيجيات الثلاث.
الاتفاق والاختلاف الاستراتيجي:(18/16)
بدأت المعركة وفق هذه الاستراتيجيات من مرحلة طويلة مضت، كما يمكن القول إن حالتها المرحلية الفاصلية كانت ما بعد غزو واحتلال أفغانستان ثم العراق، وفى ذلك ووفق الأولويات والمعطيات في الواقع جرى تقاطع أو توافق بين اثنين منها ضد الاستراتيجية الثالثة.
وواقع الحال أن كلاً من استراتيجيات الولايات المتحدة وإيران قد التقتا أو تقاطعت مع بعضهما البعض في تلك الرحلة ضد الاستراتيجية الثالثة وقواها، مع تباينات هنا وهناك بطبيعة الحال مثل كل التقاء، حيث الالتقاء شي و"التطابق" شيء آخر، وفى استراتيجيات الدول أو في الاستراتيجيات بشكل عام لا يوجد تطابق أبداً.
لقد التقت الاستراتيجيتين الأمريكية والإيرانية على إقصاء حركة طالبان من الحكم في أفغانستان، حيث الولايات المتحدة كان هدفها الرئيس هو تمديد خط أنابيب من بحر قزوين عبر أفغانستان (وهو ما كانت طلبت من طالبان تمريره فرفضت)، وحيث إيران كانت مهتمة بالأمر من زاوية ضرب أوائل تطبيق المشروع الثالث في أفغانستان، وبحكم أن وجود "هذا المشروع الواضح في معالمه العقائدية والسياسية - والأخيرة على صعيد الرفض للمشروعات الأخرى - قد مثل النموذج الذي يدفع حتى في إيران للتطور باتجاهه هم الآخرين...الخ، كما يمكن القول بأن إيران رأت أن "إقصاء طالبان" سيفتح الطريق لها لتوصيل الغاز والنفط الإيراني - ومن بحر قزوين - إلى باكستان والهند أيضاً بما يحقق أهدافها الاستراتيجية في الإقليم.
كما التقت الاستراتيجيات على إقصاء حكم الرئيس صدام حسين من العراق، حيث الولايات المتحدة استهدفت السيطرة على بترول العراق، وضرب قوة ممانعة لوجودها في "الشرق الأوسط " أي لإعادة ترتيب العالم الإسلامي تحت هيمنتها المطلقة بدءاً من منطقة الخليج.
وحيث إيران صاحبة مصلحة في ضرب قوة ممانعة لتمددها الاستراتيجي في "المنطقة العربية" باعتبار حكم صدام كان مستنداً إلى مفهوم القومية في مواجهة "القومية الفارسية"، هذا إلى جانب التقاء استراتيجي عام بسبب استهداف كليهما "تفكيك" الدول القائمة في الجناح الآسيوي الممتد من أفغانستان إلى لبنان باعتبار أن التفكيك هو لمصلحة الطرفين كمقدمه لإعادة ترتيب التواجد السكاني في علاقته بالجغرافيا الجديدة المستهدفة.
ففي حين اهتمت الولايات المتحدة من هذا التفكيك - وبالدرجة الأولى - إعادة بناء نظم سياسية على أسس عقدية فكرية، وسياسية واجتماعية ثقافية، تكون تحديد التوجه لصبغة واضحة لا لبس فيها ولاءً للولايات المتحدة حضارياً وفكرياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً, وكذا إعادة تشكيل الدول وفق كيانات أصغر وأضعف لتستمر تحت السيطرة الأمريكية دون قدرة على مقاومة النفوذ والوجود والمصالح الأمريكية؛ فإن إيران اهتمت بتحقيق التفكيك، وكذا بإقامة "الدول الجديدة" على أساس من فكرة "تحرير" الشيعة من سيطرة الدول "السنية" الحالية, وباتجاه "السيطرة" على هذه البلدان الجديدة، أو تغيير هوية الدول القديمة في المناطق التي تمكنها الكثافة السكانية الشيعية من فعل ذلك، أو بزيادة تمثيل الشيعة في السيطرة على القرار السياسي في المناطق الأقل كثافة شيعياً بين السكان، أو حتى بإضعاف قوة "السنة" في تلك المساحة من العالم الإسلامي كصيغة عامة (كما هو الحال في الدفاع المستميت عن سوريا، والتحالف مع الاحتلال في داخل العراق، وتقيم التغطية السياسية له، والدفع المغامر بالمعدات العسكرية لحزب الله).
وهكذا، وبعد أن جرى "الانتهاء" من عملية غزو واحتلال أفغانستان والعراق دخل الطرفان في "مواجهات" بسبب محاولة كل منهما تحويل نتائج الغزو إلى مصلحته الاستراتيجية دون أن ينفك "التحالف" و"الالتقاء" الاستراتيجي بينهما بسبب الآفاق البعيدة له باعتبار أن استراتيجية إيران تستهدف بناء "دولة الشيعة الكبرى" في المنطقة، وأنها في ذلك تتجاذب مع الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق أهدافها دون الدخول في مواجهات معها تكون لمصلحة أصحاب الاستراتيجية الثالثة، وهو نفس الفكر لدى مخططي الاستراتيجية الأمريكية التي تخشى من دخول في مواجهة مع إيران، حيث هذه المواجهة ستكون لمصلحة المشروع الثالث.
لقد دخلت قوى إقليمية أخرى على خطوط الصراع فكانت التهديدات بقصف إيران، والضغط عليها بالملف النووي، وكان الصدام المتفجر في لبنان، ثم كانت الدعوات الغربية من بعد لإشراك إيران في حل المشكلة العراقية ثم اللبنانية، وسيتلو ذلك الحديث حول الفلسطينية أيضاً، وكانت الاستجابة الإيرانية أيضاً.
فراغ القوة:
والحادث الآن بوضوح هو أن أصحاب الاستراتيجية الثالثة قد تمكنوا من "إعطاب" استراتيجية الولايات المتحدة التي أصيبت بانكسار حقيقي، لكنهم لم يتمكنوا بنفس القدر من إفشال الاستراتيجية الإيرانية، بما أحدث فراغاً على صعيد القدرة الأمريكية في التأثير في المنطقة، أو على صعيد قدرة الاستراتيجية في الصراع مع الاستراتيجيتين الأخريتين، ولو حتى كحالة مرحلية.(18/17)
كما الحادث الآن هو أن الاستراتيجية الإيرانية كانت الأكثر جهوزية من الاستراتيجية الثالثة على استثمار الانكسار الحادث في الاستراتيجية الثانية - الأمريكية - بما جعلها تستثمر بنجاح الضربات التي وجهت من قبل أصحاب الاستراتيجية الإسلامية ضد الاستراتيجية الأمريكية، كما هي تحولت (أي الإيرانية) إلى الاندفاع الهجومي لتحقيق أهدافها التكتيكية والاستراتيجية على نحو واضح وصريح على خلاف المرحلة الأولى التي كانت مكتفية فيها "بالتسلل" غير المحسوس وغير الهجومي، والأمر باختصار هو أن الاستراتيجية استفادت من تحالفها مع الاستراتيجية الأمريكية، وعززت أوضاعها على حساب الاستراتيجية الإسلامية والأمريكية بفعل الضربات الأمريكية التي وجهت للنشاط الإسلامي، وبفعل الضربات الإسلامية للوجود الأمريكي.
وهنا كان الهجوم الصهيوني على حزب الله - بأوامر أمريكية مباشرة - محاولة لإيقاف الاندفاع الإيراني على حساب المشروع الأمريكي، ولإضعاف التحالف السوري الإيراني، كما هنا جاءت زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية للمنطقة - قبل الانتخابات الأمريكية - في إطار إعادة حسابات التحالف الاستراتيجية في المنطقة، ومحاولتها تشكيل تحالف مع "الدول السنية المعتدلة" لمواجهة الاندفاع الإيراني، أو كمحاولة لإنهاض القوى الاحتياطية للمشروع الأمريكي لمواجهة المشروع الإيراني، ولقطع الطريق على استثمار أصحاب المشروع الإسلامي حالة الانكسار في الاستراتيجية الأمريكية، ولقد دخلت المنطقة مرحلة إعادة تشكيل التحالفات، وهو ما سنتناوله في تحليل آخر.
http://www.almoslim.net:المصدر
==============(18/18)
(18/19)
الشرق الأوسط بين الجديد والكبير
د. غازي التوبة
4/2/1428هـ الموافق له 22/02/2007م
شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل السابق أول من تحدّث عن "الشرق الأوسط الجديد" في عام 1993 بعد توقيع اتفاقية أوسلو في حدائق البيت الأبيض بين إسحاق رابين وياسر عرفات، وكان تصوّر بيريز قائماً على أنّ وحدة اقتصادية ستتحقّق بين المنطقة العربية وإسرائيل، وستجمع هذه الوحدة الاقتصادية بين العبقرية الصهيونية في القيادة، والأيدي العربية الرخيصة المستخدمة في التصنيع، والثروة العربية المتكدّسة من بيع البترول الخ...، وكان التفاؤل سيد الموقف آنذاك، والسبب في ذلك هو الاعتقاد بأنّ اللقاء الفلسطيني - الإسرائيلي كسر آخر الحواجز في الممانعة بين العرب وإسرائيل، ولم يبق إلاّ التداخل والتواصل والتلاحم ...الخ، وذهبت الأحلام بعيداً في رسم صورة "الشرق الأوسط الجديد"، وخصّصت لكل دولة ما يجب أن تفعله وتنتجه؛ فإسرائيل ستتخصّص بالإلكترونيات والحاسبات، ومصر بالسياحة ...الخ، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، وتعثّر اتفاق أوسلو الذي كان الشرارة في كل تلك الأحلام، والسبب في ذلك أنّ إسرائيل تريد أن يكون لها كل شيء، ولا تريد أن تعطي شيئاً للآخرين، وكانت نهاية الحلم كابوساً مزعجاً، فصانعا الحلم نُحِرا: اسحاق رابين وياسر عرفات، الأول: نحره أهله، والثاني: نحره محالفوه.
ثم صار الحديث عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وطرح بوش هذا المشروع بعد احتلال العراق، ونوقشت بنود المشروع في اجتماع الدول الثمانية الصناعية الكبرى في يوليو 2004 في جزيرة ايلاند، وأبرز ما جاء في المشروع آنذاك هو الدعوة إلى الديموقراطية، والتغيير الثقافي، وحقوق الإنسان، والتأكيد على حقوق المرأة، وإنهاء الأُمّية الخ...، وقد وُضعت برامج تفصيلية تحقّق تلك الأهداف، كما رُصدت ميزانيات مالية من أجل الإنفاق على تلك البرامج بين الدول الثمانية، لكنّ شيئاً من ذلك لم يتحقّق، بل تحقّقت الفوضى التي أسموها "الفوضى الخلاقة"، وتجلّت هذه الفوضى في أبهى صورة في العراق؛ فالدمار يعمّ كل شيء: البناء والطرق والجسور الخ...، والكل يقتل الكل: السنة، والشيعة، والأكراد، والصابئة الخ...، والجميع يتآمر على تقسيم العراق، ولم تتحقّق ديموقراطية، ولا حقوق إنسان، ولا ارتقاء ثقافي، ولا محو أُمّية الخ...
ثم طلعت كوندليزا رايس علينا بمقولة: "الشرق الأوسط الجديد" أثناء التدمير غير المسبوق للبنان، ورافق مقولتها مقال للضابط الأمريكي السابق رالف بيترز نزل في مجلة القوات الأمريكية عدد تموز (يوليو) تحت عنوان "حدود الدم"، وهو جزء من كتاب "لا تترك القتال أبداً" يرسم ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي أشارت إليه كوندليزا رايس، وجاء في ذلك المقال أنّ السبب في اضطراب الشرق الأوسط هو عدم تطابق الحدود الجغرافية مع الحدود الإثنية والطائفية والعرقية في المنطقة، والسبب في ذلك أن أوروبا التي قسّمت الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى لم تراع ذلك، وراعت أهواءها، وبعض المصالح الخاصة، وأشار المقال أيضاً إلى ضرورة تصحيح الجوانب الحدودية من أجل التوصّل إلى شرق أوسط مستقرّ، واقترح المقال صورة جديدة للشرق تقوم على تفصيلات متعدّدة منها إقامة ثلاث دول في العراق: كردية في الشمال، وسُنّية في الوسط، وشيعية في الجنوب، واقترح أن تلتحق الدولة السُنّية المجتزأة من العراق في وقت تالٍ بسورية، واقترح "مشروع الشرق الأوسط الجديد" تفكيك السعودية، ووضع الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة تحت وصاية دولية، وإلحاق شمالي السعودية بالأردن، وإلحاق جنوبي السعودية باليمن، كما اقترح مشروع الشرق الأوسط الجديد إيجاد دولة شيعية تجمع بين جنوب العراق، وتأخذ جزءاً من الإمارات، وجزءاً من السعودية، كما استهدف المشروع تغييراً في حدود كل دول الشرق الأوسط كسورية، وإيران، ومصر، وباكستان، ولبنان الخ... والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: ما الهدف النهائي من هذه المشاريع المطروحة بين وقت وآخر بدءاً من "مشروع الشرق الأوسط الكبير" وانتهاء بـ "مشروع الشرق الأوسط الجديد"؟ وما الملامح التي تجمع بينها؟
أولاً: تلتقي هذه المشاريع على أهداف دعائية كبيرة من مثل تحقيق الأمن والسلامة، والتنمية والديموقراطية، وحقوق الإنسان وإزالة الأُمّية، وإقامة العدل الخ...، لكنّ هذه الأهداف تبقى في حدود الدعاية، ولا يتحقّق شيء منها على أرض الواقع، وينطبق عليها المثال الذي راج عن الشيوعية إبّان انتشارها: "اقرأ عن الشيوعية تفرح، جرّب تحزن".(18/20)
ثانياً: تحرك هذه المشاريع النزعة الطائفية والتفتيت الطائفي، وتستهدف وحدة الأُمّة العربية والإسلامية بحجّة الظلم الذي لحق هذه الطوائف والأعراق خلال التاريخ الماضي، وهذا الاستهداف للإحياء الطائفي يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ويمكن أن نتأكّد من ذلك باستعراض السياسة الأمريكية في مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، فهي لا تمارس هذا الدور من التفتيت الطائفي، مع أنّ تعدّد الطوائف والأعراق والأجناس موجود في تلك المناطق وبصورة أكبر مما هو موجود في المنطقة العربية.
ثالثاً: مما زاد في الحرص على تنفيذ مخططات التفتيت الطائفي في المنطقة وجود المحافظين الجُدُد في قيادة أمريكا، ومن الواضح أنهم صهاينة مثل صهاينة إسرائيل إن لم يكونوا أكثر صهيونية؛ إذ يشاركون الإسرائيليين آلامهم وآمالهم وأحلامهم، ويلتقون مع صهاينة إسرائيل في بعض الرؤى الدينية التي يستقونها من المسيحية والصهيونية التي تستمد مادتها من التوراة التي هي جزء من الكتاب المقدّس عند المذهب البروتستنتي الذي يعتنقه المحافظون الجُدُد.
رابعاً: مما يؤسف له أنّ إيران هي الوجه المقابل لأمريكا في استغلال التفتيت الطائفي، وإشاعته، وممارسته، وتعميق جذوره، ويتضح ذلك في العراق حيث تقسيم العراق، وحلّ الجيش العراقي فعلان يتعدّيان هدف إزالة نظام صدّام حسين، وهو الهدف الذي سوّغت إيران وأعوانها به التعاون مع أمريكا في احتلالها للعراق عام 2003، ويصبّ هذان الفعلان المشار إليهما في خانة التفتيت الطائفي بالدرجة الأولى، والأمر لا يتوقّف على ساحة العراق بل يتعدّاها إلى ساحات أخرى في العالم العربي والإسلامي.
خامساً: يبقى الحصول على البترول هدفاً رئيسياً ومهماً في كل هذه المشاريع، وذلك لأنّ الصين والولايات المتحدة ستحتاجان إلى 70% من بترول الشرق الأوسط خلال السنوات العشر القادمة.
سادساً: تهدف هذه المشاريع إلى دمج إسرائيل في المنطقة من جهة، وجعلها تعلب دوراً مركزياً من جهة ثانية، وستكون بمثابة القلب له، لذلك تستهدف هذه المشاريع إلى إيجاد إسرائيل العظمى ذات الاقتصاد القوي، وذات الجيش المبني على أحدث التطوّرات التكنولوجية، والتي ستقود الشرق الأوسط الجديد، وستشيع الديموقراطية فيه حسب أوهام المشاريع الأمريكية.
سابعاً: إنّ حلم التفتيت الطائفي للمنطقة العربية حلم إسرائيلي قديم، وقد اتضح ذلك في مذكرات بن غوريون منذ قيام إسرائيل، وكلامه عن استدراج الطوائف في لبنان إلى التعاون مع إسرائيل، وقد أصبح الأمر أكثر وضوحاً في الكتاب الذي نشره الصحفي الهندي كارانجيا بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فقد أشار فيه إلى استهداف إسرائيل إقامة دول الطوائف في المنطقة، ويمكن أن يعتبر الدارس لأوضاع المنطقة أنّ عمل إسرائيل واستهدافاتها في التفتيت الطائفي طبيعي، ويتسق مع طبيعتها الديموغرافية، ولكنّ من غير الطبيعي أن ترسم دولة عظمى كالولايات المتحدة استراتيجيتها انطلاقاً من هذا الأمر.
http://www.islamtoday.net:المصدر
================(18/21)
(18/22)
حكاية مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط
محمد مصطفى علوش - بيروت
13/1/1428هـ الموافق له 01/02/2007م
محاولات أوروبا لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط ليست بجديدة، فقد عملت على حل النزاع العربي الإسرائيلي غير مرة، ولأسباب نذكرها لاحقاً؛ إذ تعود الرغبة الأوروبية لحل النزاع العربي - الإسرائيلي إلى عام 1991م حين تمكنت الحكومة الإسبانية من جمع العرب وإسرائيل على طاولة واحدة للمرة الأولى، وقد اعتبر كثير من المتابعين أن ذلك اللقاء هو الذي ساهم في إطلاق العملية اللاحقة في أوسلو التي أدت إلى قيام الدولة الفلسطينية.
وفي نفس الاتجاه، وبمناسبة مرور (15) عاماً على مؤتمر "مدريد للسلام في الشرق الأوسط"؛ فقد انعقد في مدريد مؤخراً - وعلى مدار ثلاثة أيام - مؤتمر دعا إليه مركز (توليدو) الدولي للسلام والمعهد الثقافي، وقد شارك في المؤتمر الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، ورئيس مجلس التعاون الخليجي عبد الرحمن حمد العطية، ومبعوث الأمين العام لتنفيذ القرار 1559 (تيري رود لارسن)، ومفوضة العلاقات الخارجية وسياسة الجوار الأوروبية (بينيتا فيريروفالدنر)، كما شارك في المؤتمر - وبصفة شخصية وبموافقة حكومية - الناطقة باسم سوريا في مؤتمر مدريد بشرى كنفاني، ومدير الدائرة القانونية في وزارة الخارجية رياض الداودي، وقد شملت قائمة المشاركين الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل، ووزير خارجية مصر السابق أحمد ماهر، والمستشار السياسي للرئيس المصري أسامة الباز، ومحمد دحلان، ومصطفى البرغوثي، وحنان عشراوي، وبين أعضاء الوفد الإسرائيلي وزير الخارجية الأسبق (شلومو بن عامي)، ورئيس الاستخبارات العسكرية السابق (أوري ساغي)، هذا بجانب وجود مسؤولين روس، ودوليين، وأوروبيين، وأمريكيين وخبراء أمثال مدير قسم الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية (روبرت مالي)، ومدير قسم التخطيط السابق في الخارجية الأمريكية (سام لويس).
وقد حملت كلمات وزير خارجية إسبانيا (ميغل انخل موراتينوس) دلالات واضحة، وخصوصاً أنه مبعوث سابق للسلام في الشرق الأوسط؛ إذ قال: "إن أي حل يجب أن يذهب أبعد من "خريطة الطريق" التي تجاوزها الزمن، وأن يشمل كل القوى الإقليمية"، وقد كانت دعت كل من فرنسا واسبانيا وايطاليا إلى دور أوروبي أكبر في إنهاء النزاع.
لماذا تقف أوروبا وراء هذا المؤتمر؟
تحاول الدول الأوربية بكل ما أوتيت من قوة السيطرة على الوضع القائم في الشرق الأوسط، أو أن تصبح لاعباً مهماً فيه، وذلك لأسباب حيوية واستراتجية.
تعلم الدول الأوروبية أن الوضع في الشرق الأوسط وصل إلى قمته في التأزم، وأنه قد يخرج عن السيطرة في أي لحظة، وبالتالي سيكون الوبال على الجميع، فأوروبا التي اعترضت على غزو الولايات المتحدة للعراق تشعر بقلق من الوضع الذي صارت إليه الأمور؛ إذ إن التقارير تشير إلى أن الخلاف السني الشيعي وصل إلى قمته في المنطقة، كما أن النفوذ الإيراني بلغ حداً قد يخرج إيران عن السيطرة، أو يشعل حرباًُ إقليمية جديدة، وهو ما نراه من تكثيف أوروبي واضح في المنطقة والذي ظهر مع قدوم قوات دولية إلى لبنان، وفي رأيي أن الاتحاد الأوروبي يرغب في عدم توتير الوضع في الشرق الأوسط من خلال دفع المسارات العالقة بين العرب وإسرائيل إلى الإمام وذلك عبر دعم مثل هذه المؤتمرات، والسبب بحسب ما أرى يعود للأمور التالية:
1- تتخوف من تصدير الصراع في الشرق الأوسط إلى أراضي الاتحاد، وهذا وارد جداً لوجود عدد كبير من المسلمين سنة وشيعة، عرب وغير عرب على أراضيها وبكثافة عالية نسبياً؛ إذ يزيد عدد المسلمين على أراضي الاتحاد عن 17مليون نسمة، كما أن إطلال أكثر من دولة محورية من دول الاتحاد على البحر المتوسط يشكل هاجساً دائماً للمعنيين بمستقبل الاتحاد من أي تدهور أمني في المنطقة العربية، أو دول الشرق الأوسط؛ حيث سيكون الاتحاد من أكثر المناطق استهدافاً وهذا ما لا يريده.
2- يريد الاتحاد الأوروبي الحد من الهجرة الشرعية وغير الشرعية القادمة من دول المغرب العربي والشرق الأوسط، والتي تشكل تهديداً حقيقياً على المدى البعيد على دول الاتحاد، هذا التهديد المتمثل في التغير الديموغرافي والديني والعرقي لدول أوروبا.
3- الحد من العمالة الشرق أوسطية التي تدفقت بشكل هائل خلال العقدين الأخيرين على دول أوروبا الغربية، وفتح الأبواب أمام العمالة من دول أوروبا الشرقية التي تتداخل حدودها مع الدول الأوروبية الغنية، وذلك في سبيل تحصين الاتحاد من الداخل على كافة الصعد.
4- للاتحاد الأوروبي مصالح حيوية واستراتيجية في منطقة ودول الشرق الأوسط لأهميتها الاستراتجية والنفطية على مستقبل الاتحاد، وبالتالي يريد أن يكون له دور مؤثر وفاعل، وهو ينافس بشدة الوجود الأمريكي في المنطقة، ويحاول الحد منه؛ إذ يجعله رهينة لموقفه، كما حصل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبروز الولايات المتحدة الدول الأقوى في العالم، والتي حاولت أن تحرك المجتمع الدولي بما يتفق مع مصالحها وتوجهات إدارات البيت الأبيض الدينية المتعاقبة.(18/23)
5- تعلم كل من الصين وروسيا ودول الاتحاد والولايات المتحدة أن من يستطيع أن يسيطر على دول الشرق الأوسط هو من سيقود العالم في النصف الأول من هذا القرن لأهمية المنطقة، وأن نفوذ أي دولة عالمياً مرتبط بمدى نفوذها على هذه المنطقة، وها نحن نرى تنافساً أمريكياً روسياً أوروبياً إسرائيلياً وحتى صينياً على هذه المنطقة، إضافة إلى بعض المناطق في إفريقية، وإن كان النفوذ الصيني يتمثل بطرق غير ملحوظة.
6- التصعيد الخطير في المنطقة، وخصوصاً مع التدخل الأمريكي المباشر في الصومال الذي سوّغه الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية (توم كيسي) بقوله: "نعتقد أن الأمر ملائم للدفاع عن الولايات المتحدة، وحماية كل المجتمع الدولي؛ لأن إرهاب القاعدة والمرتبطين بها يستهدف فقط الولايات المتحدة"، وكانت دول الاتحاد الأوروبي - لاسيما فرنسا وايطاليا والنرويج وألمانيا - انتقدت إلى جانب الجامعة العربية والأمين العام للأمم المتحدة (بان كي مون) العمليات العسكرية الأمريكية في الصومال، حتى إن الناطق باسم الخارجية الفرنسية (ماتيي) قال عنها: "تثير قلقنا؛ لأنها تعقّد الوضع في الصومال، وقد تزيد التوترات الحادة أصلاً في هذا البلد"، كما هو معلوم انتقادات شيراك اللاذعة لسياسات بوش في العراق معتبراً إياها حولت العراق إلى منطقة توتر واستقطاب للقاعدة وغيرها ممن يشكلون تهديداً عالمياً.
هذه الهواجس وغيرها هي التي تجعل دول أوروبا معنية بحل ما في الشرق الأوسط يحصن جبهتها الداخلية من أي خلل، ويضمن مصالحها الحيوية داخل المنطقة، ولذلك تسعى دول الاتحاد أن تكون أكثر اعتدالاً وتوازناً من الولايات المتحدة التي تميل بشكل كلي لصالح إسرائيل في الصراع العربي - الإسرائيلي، وهذا يعود لعدة أسباب؛ فدول الاتحاد تعلم أن وقوفها لجانب العرب - نوعاً ما - في الصراع يساعدها على التغلغل أكثر، ويسترجع لها بعض نفوذها، وهي بالتالي لا تريد أن تكون الدفة تميل بالكلية لصالح الولايات المتحدة أم غيرها في المنطقة على حساب مصالحها.
من هنا نرى ونفهم مدى اهتمام الاتحاد الأوروبي بالصراع الدائر في الشرق الأوسط، والعمل على الحد من التوتر القائم فيه ليس حباً بالعرب والمنطقة بقدر ما هو تخوّف من انعكاس ذلك على مصالحها فيه من جهة، وعلى أمنها الداخلي من جهة أخرى، وبناء عليه نستطيع أن نفهم مبادرة السلام التي تقدمت أسبانيا بها.
هل حقق المؤتمر الهدف الذي من أجله أُقيم؟
من الظلم أن يُقارن المؤتمر الحالي بسلفه في عام 1991م، خصوصاً أن المؤتمر الحالي لا يتوفر فيه ولا يوجد فيه كبار اللاعبين السياسيين الذين كانوا آنذاك، أو من خلفهم في مناصبهم، على الرغم من أن أسبانيا تلقي بثقلها في إنجاح المؤتمر.
يقول الخبير في الشرق الأوسط والمدير المساعد لمعهد دراسات النزاعات والتحرك الإنساني (خيسوس نونيز فالفيردي) إنه "من الصعب أن يكون المرء متفائلاً بأن تكون هناك نتائج مباشرة للمؤتمر، فمن غير المرجح أن نتمكن من تبديد موجات القلق في المنطقة حالياً"، وأقر (اميليو كاسينيللو) - وهو مدير مجموعة (توليد للسلام)، وهي إحدى الجماعات التي نظّمت المؤتمر 0 أن "هناك اختلافات لا يمكن إنكارها بين الأحزاب ذات الصلة بالنزاع في الشرق الأوسط، ولكن يمكن تجاوزها".
في حين يرى المفكر السياسي والوزير اللبناني السابق غسان سلامة أن خمس نقاط برزت خلال الاجتماع سجلت تطوراً في الذهنيات، وستُنقل إلى الأطراف المعنية وهي:
1. التركيز مجدداً على الحل الشامل، على عكس مؤتمر مدريد الأول الذي كانت تدفع فيه الولايات المتحدة وإسرائيل إلى الاتفاقات الثنائية التي لم تضف شيئاً للسلام في المنطقة.
2. اعتقاد المشاركين - وخصوصاً الطرف الأوروبي - أن الانسحاب الإسرائيلي من البلدان المحتلة ينبغي أن يُتّفق عليه ولا تكون من جانب واحد كما حصل في غزة وجنوب لبنان.
3. الموقف الرافض للدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة.
4. التأفف من اللجنة الرباعية الدولية المتلكئة في ممارسة دورها.
5. أهمية البحث في ملفات أسلحة الدمار الشمل في المنطقة حتى لا تتكرر ذريعة الولايات المتحدة في احتلال بلد كما حصل مع العراق.
http://www.islamtoday.net:المصدر
================(18/24)
(18/25)
الشرق الأوسط بانتظار أسابيع خطيرة
باتريك سيل *
02/02/2007م
صحيفة الحياة اللندنية
تتجمع كل العناصر المكونة لحرب جديدة في الشرق الأوسط، هناك تصعيد لحّمى الحرب يتقاسمها رئيس الولايات المتحدة الجاهل «المتنمر»، وصقور "إسرائيل" الذين يستغلون بلا خجل مشاعر «البارانويا» التي تطفو على سطح الرأي العام الإسرائيلي.
يبدو أن الرئيس بوش يتخوف، أو لعل مستشاريه من المحافظين الجدد قد أقنعوه بأن إيران تشكل تحدياً جدياً للهيمنة الأميركية على منطقة الخليج الاستراتيجية، كما أن المنظرين الإسرائيليين يضعون على قدم المساواة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وهتلر، ويصورون برنامجه النووي على أنه خطر «وجودي» على الدولة اليهودية، وأنه ليس أقل من تحضير لمحرقة جديدة (هولوكست).
إن الرسالة التي تريد واشنطن وتل أبيب أن تبلغاها بنبرة عالية وواضحة هي ضرورة إيقاف الطموحات الإيرانية عند حدها، مهما كلف الثمن، وفيما تتدفق قوات «الضربة الأميركية» المحمولة على الخليج، وفيما تستمر القاذفات الإسرائيلية على التدرب على المهمات الطويلة الأمد؛ يتنبأ الكثير من المراقبين بأن هجوماً على إيران سيقع في أوائل الربيع المقبل.
إن «العقيدة الأمنية» الخاطئة والمتخلفة والخطيرة التي تغذي هذه الهستيريا الحربية تقوم على الزعم بأنه يتوجب على الولايات المتحدة وحليفتها "إسرائيل" المحافظة على التفوق العسكري في المنطقة، وإلا تعرضتا لكارثة حتمية، وأن الذين يبشرون بالمصالحة مع القوى المحلية على أساس الاعتراف المتبادل بالمصالح المشروعة، أو الحرص على تساكن الجوار البناء، أو الدعوة إلى توازن القوى العادل؛ فهؤلاء ينبغي استبعادهم على أنهم انهزاميون، راغبون في الاسترضاء.
ويبدو أن الولايات المتحدة و"إسرائيل" مصممتان على تجاهل دروس الحروب التي خاضتا غمارها وخسرتاها في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية، والتي تتجلى في أمور عدة: أن الاحتلال يستولد المقاومة، وأن العدوان الوقح والظلم يفرخان الإرهابيين، وأنه من الصعب إخضاع مقاومة زئبقية غير مرئية، وأن الدول التي تواجه خطر الحرب مرغمة على ممارسة الردع، وأن ظهور الانتماء القومي أو الإسلامي قد يولد النضال العنيد، وأن المواطنين في نهاية المطاف لن يستسلموا ولن ينهزموا.
على واشنطن أن تفكر ملياً، وأن تدرك أن الصين لم تكن بحاجة إلى قواعد عسكرية في الخليج للحصول على صفقة تاريخية مع إيران تؤمن لها إمدادات طويلة الأمد من النفط والغاز قيمتها 100 بليون دولار، ولم تكن بكين بحاجة إلى أن تعتمد على ديبلوماسية البوارج الحربية لزيادة حجم تجارتها الثنائية مع المملكة العربية السعودية بمقدار 30 في المئة بين عامي 2005 و2006 كما جاء في صحيفة «الفايننشال تايمس» البريطانية في 30 كانون الثاني (يناير).
على أن هناك إشارة أو إشارتين إيجابيتين في المناخات القاتمة التي تحيط بنا، لقد بدأ الكونغرس تحت قيادة الحزب الديمقراطي «صحوته» وهو يسعى إلى كبح جماح عدوانية الرئيس بوش، بحرمانه من المبالغ اللازمة لتعميق تورطه في العراق، وبإصراره على أن الرئيس لا يستطيع أن يشن حرباً على إيران من دون موافقة الكونغرس الواضحة، ومن جهة أخرى فإن الجمهور الأميركي بدأ يثور على الاستمرار في حرب العراق الكارثية كما ظهر جلياً في التظاهرة الضخمة المعادية للحرب التي شهدتها واشنطن في الأسبوع المنصرم.
ومما يحمل دلالة أكثر أهمية هي المناقشات المفتوحة التي تتكاثر الآن في الولايات المتحدة حول النفوذ الهدام للوبي اليهودي على سياسة الولايات المتحدة، إذ على رغم التهجمات السفيهة التي شنها اليهود من غلاة اليمين على الرئيس جيمي كارتر، فإن تعريته للسياسات الإسرائيلية في كتابه القيم «فلسطين: السلام لا الفصل العنصري (أبارتايد)» يلقى رواجاً كبيراً، مما جعل هذا الكتاب يتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً Best Selle صلى الله عليه وسلم
إن الاتحاد الأوروبي المعروف بمواقفه الخجولة والمنقسمة يدعو الآن متأثراً بالاعتراضات الأميركية والإسرائيلية إلى الاستعجال في إعادة إطلاق عملية السلام الإسرائيلية - العربية المحتضرة، وتظهر الدول الأوروبية معارضتها الشديدة لدعوة الولايات المتحدة إلى مقاطعة المصارف الإيرانية، كما يطلب ستوريث ليفي معاون وزير الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب وتمويل المخابرات، وتظهر إشارات إيجابية أخرى في المنطقة ذاتها، إذ تبدي القوى المحلية رغبتها في تسوية قضاياها من دون تدخل خارجي.(18/26)
فقد عقد مبعوثان من مستوى رفيع هما الأمير بندر بن سلطان وعلي لاريجاني المسؤولان عن مجلسي الأمن القومي في كل من المملكة العربية السعودية وإيران اجتماعات طويلة في عاصمة كل منهما، وكانت الديبلوماسية السعودية ناشطة على جبهات أخرى: لقد استدعى الملك عبدالله بن عبدالعزيز طرفي النزاع الفلسطيني - الفلسطيني المتنافسين «فتح» و«حماس» إلى مكة المكرمة للحوار مباشرة، وهناك إشاعات عن عزم المملكة العربية السعودية على دعوة الأطراف المتنازعة في لبنان إلى قمة في الطائف التي شهدت آخر محاولة للتوصل إلى توزيع السلطة في لبنان عام 1989م.
وتتصدر التوتر بين السنة والشيعة الذي اندلع بعد الغزو الأميركي للعراق «أجندات» كل الزعماء الإقليميين: حسن نصرالله الأمين العام لـ «حزب الله»، وفؤاد السنيورة رئيس الحكومة اللبنانية؛ تحدثا عن الحاجة إلى تسوية الخلافات من خلال الحوار لا العنف، وأصبح في حكم المؤكد أن القوى المحلية في غياب تغير جذري في سياستي الولايات المتحدة و"إسرائيل" بحاجة ماسة إلى الاتفاق على أهداف واضحة دفاعاً عن نفسها ووجودها، وفيما يلي بعض هذه الأهداف:
* ينبغي على دول الخليج أن ترفض الهيمنتين الأميركية والإيرانية، وأن تناضل من أجل أن تبقى ساحة للتسامح والحداثة تتعايش عليها المصالح الغربية والإيرانية.
* ويتوجب أن توقع دول مجلس التعاون الخليجي الست (المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، البحرين، قطر، الكويت، وعمان) على معاهدة أمنية مع إيران لتبديد المخاوف المتبادلة، وينبغي على دول الخليج أن تعلن أنها لن تسمح بأن تهاجَم إيران انطلاقاً من أراضيها، وعلى إيران من جهتها أن تتعهد بأنها لن تسعى إلى تحريك الشيعة في دول المنطقة لزعزعة الاستقرار في دول الخليج، ولن تحاول أن تصدر أيديولوجيتها الإسلامية الثورية.
* هناك حاجة إلى إيجاد توازن جديد في لبنان يعكس الحقائق الديمغرافية والسياسية، وإلى إعادة النظر في مؤسسات الدولة، وإجراءات اقتسام السلطة لإعطاء الطائفة الشيعية حصة أكبر في اتخاذ القرارات، شريطة أن لا تكون هذه الحصة طاغية**.
* لا بد من إرساء العلاقات السورية - اللبنانية على أسس صحية، وهذا يتطلب اعتراف سورية باستقلال لبنان، في مقابل أن يعترف لبنان بأن لسورية في غياب سلام عربي - إسرائيلي مصالح أمنية مشروعة في لبنان، ولا يمكن لسورية أن تتحمل أو أن تتسامح إذا ما خضع لبنان لنفوذ قوة معادية لها**.
* ينبغي أن تتشكل حكومة وحدة وطنية فلسطينية على أساس برنامج موحد يعترف بـ"إسرائيل" ضمن حدود 1967 ويتخلى عن العنف، في مقابل التزام "إسرائيل" بإنهاء الاحتلال، والتخلي عن العنف أيضاً، والاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة.
* ويتوجب على العرب أن يبذلوا جهوداً ديبلوماسية نشطة لكسب التأييد الأميركي والأوروبي، بل وتأييد الجمهور الإسرائيلي أيضاً، ويتحقق ذلك بدعم خطة السلام السعودية التي تبنتها قمة بيروت العربية في 20 آذار (مارس) 2002، والتي تعد "إسرائيل" بعلاقات طبيعية مع 22 دولة في الجامعة العربية في مقابل انسحابها إلى حدود 1967، ويمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تساهم في نجاح هذا الإنجاز إذا وفرت لإسرائيل ضمانات أمنية رسمية.
* وأخيراً لا بد من عقد مؤتمر دولي ترعاه الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا بهدف إنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي مرة وإلى الأبد، وهذا من شأنه أن يزيل أسباب العداء بين الغرب والعالم الإسلامي.
سيحتاج تحقيق هذا السلام إلى ما يقارب 50 بليون دولار، على أن تساهم في جمعها كل القوى النافذة لتغطية تعويضات وإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في دولة فلسطينية مستقلة، ولتمويل إخلاء المستوطنين الإسرائيليين من الضفة الغربية والقدس الشرقية.
تبقى قضية البرنامج النووي الإيراني التي ستصر "إسرائيل" والموالون لها على رؤيتها من منظار توراتي لا على أنها رد فعل دولة محاصرة بالضغوط الدولية، وتخشى العدوان عليها، وتسعى إلى الحصول على قوة رادعة، ولا يبدو أن سياسة «العنترة» والعقوبات والتهديد بالحرب ستقنع إيران بإيقاف نشاطاتها النووية إن لم تساعد على توسيعها وتسريعها.
الوسائل المعقولة الوحيدة هي الحوار، والاعتراف بالمصالح الإيرانية المشروعة، بالإضافة إلى تعهد القوى النووية بتطوير أسلحتها، وبأن تعمل على إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل.
يستحسن بالدول المحلية في المنطقة خصوصاً في الأوقات التي تتصاعد فيها الأخطار الجسيمة أن تتحمل مسؤوليتها، وأن تنجو من الطموحات الخبيثة، ومن التحرشات العسكرية للدول الخارجية.
______________________________________
* كاتب بريطاني متخصص في قضايا الشرق الأوسط.
** وجهة نظر خاصة بالكاتب البريطاني باتريك سيل.(موقع المختار الإسلامي).
http://www.palestine-info.info:المصدر
===================(18/27)
(18/28)
ماذا تفعل كوندوليزا في الشرق الأوسط؟!
باتريك سيل
صحيفة الاتحاد الإماراتية
15/01/2007م
على رغم طيران وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في عطلة نهاية الأسبوع الماضي إلى منطقة الشرق الأوسط الملتهبة التي مزقتها الحروب؛ فقد قللت رايس نفسها - ولا أحد غيرها - من أهمية زيارتها هذه، ذلك أنها لم تأت وفي معيتها خطة أو مشروع محدد، وإنما جاءت لتستمع فحسب على حد تصريحها للصحفيين.
وما من شيء أوضح من هذا الأسلوب لفضح سلبية أميركا، ولا مبالاتها بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وفقدان واشنطن لهيبتها وتأثيرها في المنطقة، ومشكلة رايس أن رئيسها بوش يبدو غارقاً حتى أذنيه في مأزقه العراقي، بينما ينشغل في الوقت ذاته بتصعيد مواجهته مع طهران، ويستشف من إشارات بوش وتحرشاته النارية بإيران في خطابه الأخير، وكذلك من الغارة الأميركية على القنصلية الإيرانية في مدينة أربيل مؤخراً أنه قد اختار طريق المواجهة مع طهران بدلاً من السعي لإدارة حوار معها.
والشاهد أن إيران والعراق هما اللذان يقضان مضجع بوش، ويصيبانه بالصداع والدوار، وبالتالي فهما الملفان اللذان ما زالا يدمران رئاسته، ويهزان أركانها، وهما كذلك في قرارة نفسه الملفان اللذان يلقيان بظلالهما الوخيمة على النزاع بين "إسرائيل" وجيرانها المباشرين في كل من فلسطين وسوريا ولبنان أيضاً، لكن وكما نلاحظ فقد تشبث مستشارو بوش من "المحافظين الجدد" برفض أية محاولة للربط ما بين الحرب الدائرة في العراق والنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، ويجادل هؤلاء أيضاً بالقول إن على "إسرائيل" أن تعمد إلى حل نزاعها مع جيرانها الفلسطينيين والعرب وفق شروطها ورؤاها الخاصة بما في ذلك استخدام القوة الخشنة العمياء إذا ما اقتضت الضرورة.
ومشكلة الرئيس بوش هي أنه لم يدرك أو يصل إلى قناعة بعد بأن في السعي والعزم على التسوية العادلة للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني ما يعيد إلى الولايات المتحدة مصداقيتها وتأثيرها في العالم العربي الإسلامي، وما يذلل بالتالي الطريق أمام تسوية كافة النزاعات الإقليمية الأخرى في المنطقة بما في ذلك المأزق العراقي، وبروز دور إيران كقوة إقليمية مناوئة ومعادية للمصالح الأميركية، ولذلك كله فقد جاءت زيارة رايس إلى المنطقة وهي لا تحمل معها سوى الخيبة والعجز الأميركيين، وفيما نعلم فإن زيارة كوندوليزا رايس تبدأ بـ"إسرائيل" والأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تلتقي كلاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، والرئيس محمود عباس "أبو مازن"، قبل أن تغادر منها لتواصل جولتها في بقية العواصم والدول الشرق أوسطية الأخرى.
وعلى رغم إنكار رايس أن تكون لها خطة أو تصور محدد لزيارتها هذه؛ إلا أن الشائعات قد سرت وسبقتها إلى القول إن الهدف الرئيسي للزيارة هو استكشاف مدى قدرتها على إقناع كل من أولمرت و"أبو مازن" ببدء العمل معاً من أجل الإعلان عن قيام دولة فلسطينية داخل حدود سياسية وجغرافية مؤقتة، وفي ذات الوقت ستبذل رايس قصارى جهدها في الحصول على دعم إقليمي لخطة بوش الأخيرة الخاصة بإرسال المزيد من القوات إلى العراق، إلى جانب سعيها لإقناع الدول العربية المعتدلة لاسيما مصر والمملكة العربية السعودية والأردن واستقطابها ضد إيران.
وهنا بالذات يكمن خطأ أجندة هذه الزيارة، وتتبدى نقاط ضعفها على الأرجح، فربما تبدو فكرة إقامة دولة فلسطينية داخل حدود سياسية جغرافية مؤقتة مُغرية لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية المنكوب محمود عباس "أبو مازن"، الذي لم يجن ثمرة سياسية واحدة حتى الآن من حكومة أولمرت، بما في ذلك عدم تفكيك تل أبيب لأي من نقاط تفتيشها غير الشرعية، دعك من تفكيك أي من مستوطناتها منذ مجيء أولمرت إلى السلطة، غير أن من المرجح أن تثير هذه الفكرة مشاعر فقدان الثقة في الرئيس "أبو مازن" بين قطاعات واسعة من الفلسطينيين إن وافق عليها، ذلك أن الفلسطينيين سينظرون إلى أي اتفاق ذي طبيعة مؤقتة على أنه خدعة لا أكثر لإعطاء "إسرائيل" المزيد من الوقت الكافي لالتهام المزيد من الأراضي الفلسطينية.
وما يتطلع إليه الفلسطينيون بحق هو إجراء مفاوضات التسوية النهائية للنزاع، التي طالما انتظروها طويلاً، وتتمثل قضايا التسوية هذه في حق اللاجئين في العودة، وحدود الدولة الفلسطينية، ومصير مدينة القدس، وموارد المياه، وهي القضايا المفضية إلى وضع حد نهائي للنزاع، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهناك منقصة أخرى في مدخل رايس لحل الأزمة تتلخص في سعيها لإبرام صفقة إسرائيلية - فلسطينية معزولة بدلاً من السعي لإبرام صفقة سلام شرق أوسطية شاملة، لا بد لها من أن تشمل كلاً من سوريا ولبنان، وقد نقل عن إدارة بوش حثها لأولمرت على عدم الالتفات مطلقاً لنداءات سوريا، ومطالباتها بإبرام صفقة سلام شاملة كهذه، وما أفدح الخطأ!(18/29)
ذلك أن لسوريا القدرة على هدم أي صفقة سلام مع الفلسطينيين ما لم يتم التصدي لمطالبها هي لاسيما استعادة مرتفعات الجولان المحتلة منذ عام 1967، ولهذا السبب فإنه ما من صفقة سلام إسرائيلية - فلسطينية معزولة - أياً كانت - سيكتب لها النجاح والبقاء ما لم تكن شاملة، وتتضمن المشاركة السورية اللبنانية فيها.
هذا وتكمن المفارقة المأساوية في الموقف الحالي في اتفاق كافة أطراف النزاع على ضرورة وأهمية المشاركة الأميركية في عملية السلام الإسرائيلي - الفلسطيني، إلا أن واشنطن هي التي اختارت عزل نفسها، وإقصاءها عن هذه العملية على امتداد السنوات الست الماضية، ولهذا السبب فإن زيارات رايس وجولاتها الصامتة المتواضعة في المنطقة بهدف "الاستماع" لا أكثر - كما تقول - لم تعد كافية ولا رافعة للذراع الأميركية، وما أبعد هذه الزيارات عن أن تكون بديلاً عملياً للالتزام الأميركي الجاد والصارم بالسعي إلى التوصل إلى تسوية دولية للنزاع وفقاً لمعايير وموجِّهات واضحة، لا لبس فيها ولا غموض.
لقد علَّق العرب آمالاً كبيرة على أن تساعد هيمنة المرشحين "الديمقراطيين" على كل من مجلسي الشيوخ والنواب في الكونجرس الأميركي إثر انتخابات نوفمبر الماضي النصفية في تصحيح استراتيجية الرئيس بوش وسياساته إزاء بلدانهم، غير أن تلك الآمال قد تبددت الآن، ففيما يتصل بالأزمة العراقية لم يفعل بوش شيئاً سوى رفض توصيات لجنة "بيكر -هاملتون" الخاصة بانسحاب الوحدات الأميركية المقاتلة من العراق، وليس أدل على ذلك الرفض من سعيه لإرسال المزيد من القوات والتعزيزات العسكرية إلى هناك، وعلى رغم احتمال سعي "الديمقراطيين" من أعضاء الكونجرس لتجفيف التمويل المالي اللازم لتنفيذ هذا القرار إلا أن ذلك يظل احتمالاً بعيداً كل البعد عن اليقين.
أما على صعيد النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني فما أكثر النواب والسيناتورات "الديمقراطيين" الذين يبزون أقرانهم "الجمهوريين" و"المحافظين الجدد" في تطرفهم ونزعتهم "صقرية"، وانحيازهم الأعمى إلى جانب "إسرائيل" على حساب الفلسطينيين، ولكي لا نلقي بالقول والاتهامات جزافاً، فلنشر في هذا إلى "تون والتون" الرئيس الجديد للجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، فهو من أشد المتحمِّسين وأقرب الأصدقاء لـ"إسرائيل"، وبالمثل أيضاً تعد نانسي بيلوسي الناطقة الجديدة باسم المجلس شخصية أحادية البعد في علاقتها بالطرف الإسرائيلي من النزاع، ولننظر إليها كيف هرولت إلى إبعاد نفسها عن كتاب "فلسطين.. لا التمييز العنصري" الذي صدر حديثاً للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر! ففي حديث لها بمقر لجنة "إيباك" وهي المنظمة الرئيسية للوبي الصهيوني الموالي لإسرائيل في أميركا قالت بيلوسي: "هناك من يدفع بالقول إن جوهر النزاع الدائر الآن هو الاحتلال الإسرائيلي لكل من قطاع غزة والضفة الغربية، ولكن هذا القول ليس سوى محض هراء وترهات لا أساس لها من الصحة، والحقيقة أن تاريخ هذا النزاع لم يكن يوماً حول الاحتلال بقدر ما هو حول حق "إسرائيل" الأساسي والجوهري في البقاء".
والسؤال هنا: مع وجود شخصيات بهذا الفهم والانحياز الأعمى لإسرائيل في قمة الهرم السياسي الأميركي فما الذي يمكن أن يأمله الفلسطينيون والعرب؟ وما السبيل لأن تتوخى واشنطن العدل والمساواة تجاههم في تسوية نزاعهم مع تل أبيب؟!
http://www.palestine-info.info:المصدر
=============(18/30)
(18/31)
التغيير بين طموحات الشعوب وأطماع الأمريكان
أ.د. محمد اسحق الريفي
08/12/2006م
تطمح شعوبنا إلى التغيير الذي يؤدي إلى الإصلاح، وتسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تغيير يؤدي إلى إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط جغرافياً وسياسياً وثقافياً، ورغم التناقض بين ما تطمح إليه شعوبنا من تغيير وما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية هناك توافق على أن عملية التغيير يجب أن تقوم على أساس الحد من سلطة أنظمة الحكم ونفوذها.
التغيير الذي تنشده الشعوب العربية والإسلامية يقوم على أساس استنهاض الأمة العربية والإسلامية، وتعزيز الثقافة والقيم والمبادئ الإسلامية، ويؤدي إلى الإصلاح في كافة المجالات خاصة تلك التي تتعلق بالحريات الإنسانية، وحقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، وكذلك في المجالات التي تتيح للمواطن المساهمة في بناء مؤسسات الدولة وتطويرها، وتحقيق مواطنته الصالحة الفعالة.
تأتي استراتيجية التغيير الأمريكي في منطقتنا في سياق سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى إقامة نظام عالمي جديد تتفرد بقيادته، وتهيمن عليه، ويرتكز هذا التغيير على الأيديولوجية الأمريكية التي وضع أسسها فرانسيس فوكوياما من خلال نظريته التي أسماها «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» وصاغها صمويل هنتنغتون في نظريته «صراع الحضارات»، وهي أيديولوجية تقدس النموذج الديمقراطي الأمريكي، وتعادي الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية، وتهديداً خطيراً للهوية القومية الأمريكية.
لذلك فإنه من الواضح أن هناك تناقضاً كبيراً بين هذين التغييرين من حيث الأهداف والمفاهيم، والاستراتجيات والأدوات، وهذا يفسر التناقضات الهائلة في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه شعوبنا العربية والإسلامية، وازدواجية معاييرها، ويفسر التناقض بين ممارساتها على أرض الواقع وبين ما تنادي به من ديمقراطية، وما تتشدق به من مبادئ إنسانية، وما تدعيه من حرصها على الحريات الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات الدينية!
وهناك مشاهد عديدة في منطقتنا تعكس مدى تخبط سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وتناقضات ممارساتها وخططها، ففي المشهدين العراقي والأفغاني تستخدم الإدارة الأمريكية الفوضى المدمرة، وتشجع الاستبداد وعملائها وأدواتها من أجل تكوين أنظمة حكم خاضعة لها تنفذ أوامرها، وتحقق التغيير الذي تطمع به في منطقتنا.
كما أن المشهدين الصومالي والسوداني يعززان تفسيرنا للتناقضات الأمريكية على نحو ما أشرنا، ويكشفان الوجه الحقيقي للإدارة الأمريكية ونواياها، ويؤكدان لجوء الولايات المتحدة الأمريكية لزرع الفوضى الإقليمية من أجل إحداث التغيير الذي تسعى إليه والذي يتمثل في تفكيك منطقة الشرق الأوسط، وإعادة صياغتها على أساس الهيمنة الأمريكية الصهيونية على منطقتنا، وذلك بعد إضعاف الممانعة والمقاومة الشعبية الإسلامية فيها إن استطاعت.
إن هذه المشاهد المختلفة تعكس حالة الخوف التي تسيطر على الأمريكيين من وصول الإسلاميين إلى الحكم، وتفسر لنا سبب تغيير قناعات واشنطن فيما يتعلق بطريقة التغيير وأدواته، وسبب تشبث الولايات المتحدة الأمريكية بأنظمة الحكم العربية الموالية لها رغم استبدادها وفسادها، وعدم ديمقراطيتها، وانتهاء صلاحيتها، وإعاقتها للإصلاح والتنمية الإنسانية في البلاد التي تحكمها.
لذلك علينا ألا ننخدع بالتغيير والإصلاح والديمقراطية الذي تنادي به الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى شعوبنا ألا تنخدع بانتخابات هنا وهناك تؤدي إلى وصول بعض رموز الحركات الإسلامية والقيادات الشعبية إلى البرلمانات، ومجالس الشعب دون إحداث التغيير الذي تنشده شعوبنا، بل على شعوبنا أن تنطلق ذاتياً نحو التغيير الذي تنشده وتصحوا من غفلتها نافضة عنها غبار الأوهام، وممزقة لثوب اليأس الذي يلفها ويحجب عنها رؤية الأشياء على حقيقتها، فلا مجال للحديث عن التغيير في ظل ما نعيشه من أوهام التغيير الأمريكية والديمقراطية الأمريكية الزائفة، ولا فائدة من الحديث عن استنهاض الأمة في ظل مرض اليأس الذي أصاب شعوبنا، وأقعدها عن التغيير والإصلاح.
وفي ظل الانتكاسات العسكرية التي منيت بها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان، وتضعضع النفوذ الأمريكي في العالم، وانتصار المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان على جيش الاحتلال الصهيوني؛ أدركت الولايات المتحدة الأمريكية استحالة إمكانية التغيير في بلادنا باستخدام قوتها العسكرية المفرطة، ويجب أن تنعكس هذه الظاهرة إيجابياً على قناعة شعوبنا بإمكانية التغيير والأمل في الإصلاح، فقد أصبح التغيير مرهوناً بانتصارنا في صراع الأذهان والوجدان، وقدرتنا على الانتصار في حرب العولمة الثقافية والمعرفية.(18/32)
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تكثف الآن جهودها في منطقتنا في المجالات التعليمية والثقافية لتحقيق ما تصبوا إليه من تغيير يجعل الإنسان المسلم يعيش في عالم بلا انتماء لوطن أو ثقافة أو دين، تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن تحول المسلم إلى شخص يتمركز حول حاجاته ومصالحه، ويعيش في مجتمع مدني قائم على المعرفة بعيداً عن أي مرجعية دينية أو ثقافية تحقيقاً لمفهوم «المواطَنة العالمية» أو «عولمة المواطنة».
بل الأكثر من ذلك تريد الولايات المتحدة الأمريكية للإنسان المسلم الذي احتُلت أرضه، وانتُهك عرضه، وامتُهنت كرامته، وحورب في دينه؛ أن يعيش غريباً في وطنه مجرداً من كل أسباب القوة التي يمكن أن يستخدمها في الدفاع عن نفسه وعرضه وأرضه، وحماية ثقافته ودينه، بينما يتملك أعداؤنا ما يتمكنون به من الهيمنة علينا وإخضاعنا لإرادتهم والنيل من ثقافتنا وديننا.
وفي ظل ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية من هيمنة على منطقتنا، أو إغراقها في فوضى إقليمية مدمرة؛ لا بد من التحلي بالوعي السياسي الإسلامي الذي ننظر به إلى العالم نظرة شاملة من خلال زاوية واقعية تتخذ من عالمية الإسلام، وربانية رسالته؛ منطلقاً لها.
إن تحقيق هذا الوعي السياسي الإسلامي هو الخطوة الأولى نحو التغيير الذي تنشده شعوبنا العربية والإسلامية، وإلا فالتغيير الأمريكي قد قطع شوطاً كبيراً في غفلة من أبناء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يعد أمام شعوبنا متسعاً للتردد والحرية، والترقب والانتظار.
http://www.palestine-بتصرف من
==========(18/33)
(18/34)
المطامع العسكرية والبترولية في الشرق الأوسط
سارة عبد الحميد
6 رمضان 1427هـ الموافق له 28 سبتمبر 2006م
البروفيسور 'ميشيل جوسودويسكي' هو مؤلف كتاب 'عولمة الفقراء' الذي يعتبر من الكتب الأفضل مبيعاً، والذي تم نشره بأحد عشرة لغة، كما أنه أستاذ اقتصاد في جامعة أوتاوا بكندا، ومدير مركز أبحاث العولمة، بالإضافة إلى مشاركته في الموسوعة 'بريطانيكا'، ومن آخر مؤلفاته ' الحرب والعولمة والحقيقة وراء أحداث الحادي عشر من سبتمبر'.
• روبرتو فرانكي: لقد أقام الأمريكيون قواعد عسكرية في العراق والسعودية، والكويت وأفغانستان، وباكستان وقرغيستان وتركمستان، ويدعي الأمريكيون أنهم يكافحون 'الإرهاب' بمثل هذه الطريقة، ولكن أليس من حقنا الافتراض أنهم يرغبون السيطرة على احتياطي بترول هذه الدول، وتأمين خطوط أنابيب البترول التي يمر من خلالها في حقيقة الأمر، وفي أفغانستان على وجه الخصوص قد نخمن بالتأكيد أن الأمريكيين يولون اهتماماً خاصاً لزراعة المخدرات، فما هو تأثير هذا التوسع التعسفي في الأراضي الذي تتبعه الولايات المتحدة في إطار النشاط الجيوسياسي في هذه المناطق؟ وكيف يمكن لهذا الوضع المتفجر أن يثير قلق بعض الدول مثل الصين وروسيا والهند؟
ميشيل جوسودوفسكي: تحتوى هذه المنطقة على نحو 70 بالمئة من الاحتياطي العالمي من البترول والغاز، فهي تمتد من أقصى المملكة العربية السعودية حتى بحر قزوين، كما تتضمن أيضاً جهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، فهي تضم بالتالي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، ومن أهم الدول المنتجة التي نجدها في تلك المناطق: المملكة العربية السعودية، العراق، إيران، الكويت، إلا أن هذه المنطقة مستغلة ليس فقط من جانب شركات إنجليزية - أمريكية، بل هناك مصالح أوروبية روسية وصينية بالمنطقة، فيوجد إذاً تنافس لإقامة منطقة تأثير في هذا الإقليم الكبير، ويمكننا ملاحظة أن العمل العسكري الأمريكي الذي يحدث في هذه المنطقة هو محاولة ليس فقط لطرد الروس ولكن للصينيين والمصالح الأوروبية مثل شركة البترول الفرنسية البلجيكية 'توتال - فينا - ألف' والشركة الإيطالية ' ENI3'.
أما بالنسبة للصينيين فلديهم تبادلات تجارية مع إيران، ولديهم عقود موقعة أيضاً مع العراق دون إغفال أن الصين تصدر معدات عسكرية، وهو نفس الشيء مع روسيا، وبالنسبة لأفغانستان تلتقي حدودها الغربية مع الصين، ولها حدود مشتركة مع باكستان وإيران، ومن الواضح أن هذه الدول تعلب دوراً هاماً على الساحة الجيوسياسية.
• هل تعتبر أفغانستان منطقة التقاء لهم:
إنها تعتبر نقطة التقاء حتى لو لم تكن دولة هامة في مجال إنتاج البترول، ولكن مع مراعاة أنها دولة لها ثرواتها البترولية غير المستغلة، كما أنها تعتبر معبراً أرضياً لخطوط أنابيب البترول التي تتجه نحو بحر السعودية.
ومن الناحية التاريخية فإن أفغانستان كانت دولة هامة؛ ولنتذكر أنه في عام 1979 تم إعلان الحرب الأفغانية السوفيتية ولم يكن ذلك من خلال الاتحاد السوفيتي ولكن بواسطة الـCIA، وفي هذا الصدد لعب الـCIA دوراً مشجعاً في ثورة الإسلاميين داخل أفغانستان، كما يمكننا تذكر أن هذه الثورة كانت بإدارة الحكومة الموالية للسوفيت في ظل حكومة ببرك كارمل، ومن خلال مزيد من تقديم المساندة المالية للمجاهدين فإن عمليات الـCIA هي المسئولة عن إنشاء شبكة تنظيم القاعدة بشكل من الأشكال، أما العنصر الثاني الهام بالنسبة لأفغانستان فهي تجارة المخدرات التي ازدهرت في الستينيات وفي بداية الثمانينيات، وتتضح ثمار هذه التجارة اليوم من خلال ما تمثله من إيراد 100 مليار دولار، ولا يمكن إغفال هذا المبلغ عندما يعتبر الجزء الأكبر من هذه التجارة ناتج عن التجارة بالتجزئة.
أي أن إيرادات المخدرات تجنى بالدولارات النظم البنكية والأسواق والجرائم المنظمة، وأن هذه التجارة الكبيرة تتم برعاية من الـCIA، وقد اعتلت طالبان الحكومة في أفغانستان بمساندة من الأمريكيين، ولكن عقب عدة أعوام منعت وحرمت طالبان إنتاج المخدرات، إلا أن تطبيق هذا القرار جاء قبل عام من الاحتلال الأمريكي، وخلال قيام نظام طالبان انخفض الإنتاج إلى أكثر من 90 بالمئة، بينما عقب مرور عام على الاحتلال الأمريكي عاد الإنتاج إلى نفس مستوياته قبل حكم طالبان، وهو ما يؤكد على أن إنتاج المخدرات يتم بحماية من أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
• ولكن هل سيطرة الولايات المتحدة على أفغانستان على سبيل المثال سيؤثر بالضرورة على زعزعة السياسة الخارجية لقوى مثل الصين والهند وروسيا؟(18/35)
من المؤكد أن الانتشار العسكري في هذه المنطقة يستهدف مواجهة الصين وروسيا، ولكنها ليست المنطقة الوحيدة للانتشار العسكري، فمنذ عام 1999 عملت الولايات المتحدة على زيادة وجودها العسكري على الحدود البحرية مع الصين [بحر الصين وبحر اليابان، وشبه جزيرة كوريا ومضيق تايوان] أكثر من حدودها الغربية [الجمهوريات السوفيتية سابقاً، أفغانستان، وباكستان]، وقد أبرمت الولايات المتحدة أيضاً اتفاق تعاون على الصعيد النووي مع الهند يستهدف الصين وروسيا؛ فما يحاول الأمريكيون القيام به هو إقامة تحالف عسكري من شأنه وقف إمكانية قيام باقي الدول في هذه المنطقة من إنشاء شراكات ذات النوع التجاري والفني.
• لماذا يثير الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بالأخص الولايات المتحدة و'إسرائيل' بمواصلة بلاده البرنامج النووي؟
إن البرنامج النووي الإيراني قد بدأ في ظل نظام شاه في السبعينيات بمساندة من الولايات المتحدة، وكان هذا البرنامج في الأصل مخصص لأهداف مدنية، ولكن التكنولوجية هنا، والأمريكيون هم الذين نقلوها، وقد يكون الأمريكيون في ذلك الوقت كان لديهم نية إنشاء قوة نووية في إيران لخدمة مصالحهم، لذلك فإن البرنامج النووي الإيراني ليس جديداً.
ولا تعتبر حالياً تصريحات الرئيس الإيراني ضد 'إسرائيل' أمراً جديداً نهائياً لأن القادة الإيرانيين في كافة الأزمان يدلون بتصريحات سلبية ضد 'إسرائيل'، وفي هذا الصدد أعتقد أنه يجب التمييز بين فن البلاغة والفعل، إني أرى من جانب السياسيين الإيرانيين تصريحات حاقدة دائماً، ولكني أرى أن العالم ليس مُعد وفقاً لفن البلاغة، ولكنه منظم طبقاً للأفعال الحازمة في مجال القانون الدولي والانتشار العسكري والأعمال الاقتصادية، وهذا ما يميز إيران عن 'إسرائيل'، وهو ما تدلي به 'إسرائيل' من تصريحات حاقدة بشأن زعماء دول قد يصبحون أهدافاً لعمليات الاغتيال.
فيجب التفريق إذاً، فوسائل الإعلام تدعي أن الرئيس الإيراني بصدد مهاجمة 'إسرائيل'، ولكن في الحقيقة أنه ألقى تصريحاً يوضح من خلاله أنه لا يحب 'إسرائيل' ولا يعترف بوجودها، ولا يوجد جديد في ذلك، فلم يعترف الملا نهائياً بوجود الدولة العبرية، فهل ذلك يٌصدمنا؟ لم يشكل ذلك بالنسبة لي أي صدمة.
ولكن ما أغضبني هو أن 'إسرائيل' تهاجم منازل أشخاص يعيشون في فلسطين بواسطة المروحيات، وما يثير سخطي أيضاً هو تصريح مثل الذي ظهر خلال هذا الأسبوع [تاريخ الحوار 11 سبتمبر 2006] في وسائل الإعلام والذي ذكر أن عضواً في البرلمان 'الإسرائيلي' قد صرح أنه ينبغي اغتيال أوري أفنيري الناشط 'الإسرائيلي' المناهض للحرب، وأيضاً عندما قررت على الصعيد السياسي اغتيال عرفات، أو زعيم حماس، وفي كافة هذه الحالات ينبغي علينا أن نتحدث عن عنف رسمي وليس فجائي، عندما يتم التصريح باغتيال رئيس دولة، وأن يتم اتخاذ قرار ذلك؛ فإنه خرق لكافة معايير المجتمعات المتحضرة، وفي المقابل إذا تم التصريح أننا نرغب في اختفاء 'إسرائيل' من على وجه الأرض فإنه من رأيي ليس تصريحاً له مضمون فعلي أو عملي، لا يوجد هناك ما يشير إلى أن إيران تبتغي مهاجمة 'إسرائيل'، ولكن وسائل الإعلام دائماً على استعداد لتهويل تصريحات الرئيس الإيراني، ولكنها لا تقول شيئاً حول ما هو قائم في الولايات المتحدة بشأن سياسة اغتيال رؤساء الدول، فإن هذا التنظيم كان من قبل ممنوعاً حتى أقره مجلس الشيوخ الأمريكي منذ عام، وهو ما يسمى الكيل بمكيالين.
http://www.islammemo.cc:المصدر
==============(18/36)
(18/37)
ولادة شرق أوسط من لبنان طليعته المقاومة!
27- 8- 2006م
الظروف الضاغطة والخطيرة التي تشهدها لبنان بعد حرب مدمرة طالت البشر والحجر والشجر تنذر بما هو أسوأ، وتتطلب مراجعة سريعة وحقيقية وواقعية لأسباب هذه الحرب بعيداً عن العاطفة والجدل العقيم الذي لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، والإقرار بأن أخطاء كثيرة ارتكبت من جميع الأطراف اللبنانية بمختلف مشاربها السياسية والإيديولوجية، وأن توجيه التهم فقط إلى "حزب الله" وسوريا وإيران دون غيرها من الأطراف الأخرى التي تتجاذبها المصالح والأهداف السياسية في المنطقة موقف منحاز يعمق الإشكال أكثر مما يعالجه.
قد تكون كل هذه الاعتبارات غير غائبة عن ذهن اللاعبين في مرمى لبنان، فانتقاد "المغامرة الأحادية" لحزب الله ربما يكون مشروعاً، ولكن كان يتوجب الإفصاح وتحديد أسباب هذه "المغامرة"، حتى لا يبدو الناقد كمن يبحث عن الإبرة في القشة، ويبقى التفاهم اللبناني اللبناني، والسني الشيعي، والمسيحي الإسلامي، والمقاوم والمسالم؛ الخيار الوحيد المطروح في الساحة اللبنانية لاستثمار "الصمود" المحقق في وجه العدوان الإسرائيلي.
الحوار له مزايا واستحقاقات، رغم أنه قد لا يجد من اللبنانيين آذاناً صاغية لفرط ما كابدوه من إرهاق سياسي واجتماعي خلال السنوات الماضية بسبب التدخلات العربية والأمريكية، والإسرائيلية والإيرانية في شأنهم الداخلي، وقلة أو انعدام ما جنوه من فوائد ومكاسب من تلك التدخلات.
والحق يقال: إن اللبنانيين يتصورون وجودهم وكأنهم مخيرون بين المقاومة أو التفاوض مع إسرائيل دفعاً للحرب التي تطالهم للمرة السابعة، وأن حل مشكلتهم لا يخرج عن توخي أحد طرفي هذه الثنائية "المستعصية"، مشكلة هذه المقاربة أنها تغفل عن خصوصية القضية الأساسية وهي التدخلات الأجنبية في الشؤون اللبنانية، والطمع الإسرائيلي.
وهذه أكثر من أن تكون ظاهرة عادية أو طبيعية، ما يجعل من اعتراف أحد الطرفين بالثاني بمثابة الاعتراف بالطرف الخارجي الآخر.
وانطلاقاً من هذه الخصوصية اللبنانية ربما يتعين على الدولة اللبنانية "الضامن الحقيقي" للسيادة والحرية والاستقلال أن تكافح من أجل بسط نفوذ الدولة على كل شبر من الأراضي اللبنانية، وفي الوقت نفسه للانعتاق من جميع سبل النفوذ الخارجي، أي من أجل الإقرار بأن لبنان ليس ميداناً للصراعات الدولية للقوى العظمى على حسابهم، والأمر ذاك قد يكون محسوماً إذا اتفق جميع الفرقاء اللبنانيين في طاولة الحوار الداخلي على الحديث عن "التنازلات الواجبة" لكل طرف في المعادلة اللبنانية، وبهذه الخصوصية قد لا يكون عسيراً الاكتفاء بمجرد المفاضلة بين المقاومة أو التفاوض أو التدخل الأجنبي أو السلم السياسي الداخلي (إن سلمنا بأن مثل هذه المفاضلة قد طرحت في يوم من الأيام).
والتردد الدائم بين القتال والتفاوض، بين العنف والتسوية، بين الفتنة الداخلية والسلم الداخلي، ونزوعها إلى التسويف وإرجاء الحسم إنما هي في بعض جوانبها تعبيراً عن تلك الخصوصية المشار إليها سابقاً!
* لماذا الحرص على تجريد لبنان من السلاح والانتماء؟
في السياق نفسه يحمل الموقف العربي العام أو الخاص من "حزب الله" الكثير من التناقضات والتباينات، لأن "حزب الله" كحركة مقاومة، وهيئة شعبية، وتيار إسلامي "شيعي" نفسه مليء بالتناقضات، مما يجعل الحكم على نشاطاته في لبنان عموماً والجنوب خصوصاً ضرباً من الخيال، الحزب يواجه إسرائيل مواجهة عسكرية وكأنه جيش مغوار، أثبت أنه قادر على إلحاق خسائر بالقوات الإسرائيلية العدوانية التي لا "تغلب"، وهذا الجانب يلهب مشاعر المسلمين في جميع بقاع العالم وخاصة في البلاد العربية حتى ولو كان نصراً "وهمياً" حسب بعض وسائل الإعلام العربية، وحتى ولو كان على يد العرب من "لبنان" ولغير مصلحة العرب "إيران" كما جاء في تصريح لمسئول عربي.
غير أنه يجب التنويه - رغم شكوكنا حول المستفيد من الحرب الأخيرة - بأن المقاومة اللبنانية اليوم تنتج "ثقافة" جديدة تؤكد رسالة واضحة أنها مع كرامة الإنسان اللبناني والعربي، وبالمقابل التآمر عليها "بات مكشوفاً سواء في لبنان أو فلسطين، لأن النظام الجديد الذي تريد أمريكا إرساءه في المنطقة هو تفرد وهيمنة العدو الصهيوني على المنطقة".
كان تركيز الولايات المتحدة الأمريكية في تدخلها المباشر في أزمة لبنان المستفحلة على أكثر من صعيد، من خلال الأغراض الإستراتيجية الخمسة:
1- انسحاب كامل وشامل للقوات العسكرية والمخابراتية السورية.
2- تجريد المقاومة الإسلامية اللبنانية (حزب الله) من السلاح.
3- إبعاد لبنان عن محيطه العربي انتماء وشعوراً.
4- تأمين حدود إسرائيل على المدى البعيد.
5- فرض تسوية سلمية بين بيروت وتل أبيب في آخر المطاف.(18/38)
يبقى التساؤل في هذا الشأن عن الكيفية التي يمكن الحؤول بها دون تحقيق أغراض واشنطن وتل أبيب في تجريد لبنان من السلاح والقوة الرادعة التي تمتلكها من خلال حزب الله، والأوراق التفاوضية في مزارع شبعا، وتلال كفر شوبا، والأسرى في السجون الإسرائيلية، والانتماء العربي والإسلامي، من دون الإساءة إلى الجهود السياسية الداخلية والخارجية المبذولة من أجل الخروج من الأزمة الحالية؟
على الأقل توجد حالياً، جملة من "التطورات" أثرت أو قد تؤثر على التطورات الميدانية القائمة في لبنان وفي المنطقة، نجملها فيما يلي:
- انتقام إسرائيل من حزب الله ومن الشيعة عموماً في كل مناطق وجودهم في لبنان.
- تمهيد إسرائيل الوضع أمام أمريكا للتذرع بالتدخل الإيراني المباشر في الوضع اللبناني، من أجل القيام بهجوم واسع على إيران.
- اختلال التوازن الدولي يحفز على الحرب المقبلة سواء في الجولة الثانية في لبنان، أو الحرب "المنتظرة" على إيران من خلال التعاون الثنائي الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن!
- تصاعد مشاعر العداء العام ضد إسرائيل وأمريكا في الأوساط الشعبية العربية والإسلامية، وهذا السخط الجماهيري تستفيد منه حركات المقاومة الإسلامية.
- التخوف من تدهور الأوضاع داخل البلاد العربية، والمخاوف من أن توسيع الصراع سيؤدي إلى انفجارات جماهيرية شعبية تعصف وتطيح بالأنظمة الحليفة لأمريكا وإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.
- الشراكة "الجهادية" بين حماس وحزب الله في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وبين كل المقاومات المنتشرة على الأراضي العربية والإسلامية في العراق، وأفغانستان، وباكستان ضد الوجود الأمريكي.
- العجز الدولي على إيجاد الحلول عند الأزمات في الشرق الأوسط منذ أكثر من نصف قرن، وبهذه "الحيوية" فإن الأوضاع المستقبلية قد تنسف بل نسفت جميع الخطط التي تم تفصيلها على المقاس من أجل "شرق أوسط كبير"، أو "شرق أوسط جديد"، أو "شرق أوسط مسالم"، أو" شرق أوسط مستوعب لإسرائيل"، أو أي شرق أوسط ينتصب في ذهن أي زعيم أو سياسيي أو خبير أو استراتيجي أو منظر أو إعلامي أو أي إنسان على وجه البسيطة!
http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws:المصدر
==============(18/39)
(18/40)
الشرق الأوسط بين الجديد والكبير
غازي التوبة *
24/08/1427هـ
الحياة/ شمعون بيريز وزير خارجية إسرائيل السابق أول من تحدث عن «الشرق الأوسط الجديد» في عام 1993 بعد توقيع اتفاقية أوسلو في حدائق البيت الأبيض بين اسحق رابين وياسر عرفات، وكان تصور بيريز قائماً على أن وحدة اقتصادية ستتحقق بين المنطقة العربية وإسرائيل، وستجمع هذه الوحدة الاقتصادية بين العبقرية الصهيونية في القيادة، والأيدي العربية الرخيصة المستخدمة في التصنيع، والثروة العربية المتكدسة من بيع البترول...الخ، وكان التفاؤل سيد الموقف آنذاك، والسبب في ذلك هو الاعتقاد بأن اللقاء الفلسطيني - الإسرائيلي كسر آخر الحواجز في الممانعة بين العرب وإسرائيل، ولم يبق إلا التداخل والتواصل والتلاحم...الخ، ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، وتعثر اتفاق أوسلو الذي كان الشرارة في كل تلك الأحلام، والسبب في ذلك أن إسرائيل تريد أن يكون لها كل شيء، ولا تريد أن تعطي شيئاً للآخرين، وكانت نهاية الحلم كابوساً مزعجاً، فصانعا الحلم نُحرا: إسحاق رابين وياسر عرفات، الأول نحره أهله، والثاني نحره حلفاؤه.
ثم صار الحديث عن «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، وطرح بوش هذا المشروع بعد احتلال العراق، ونوقشت بنود المشروع في اجتماع الدول الثماني الصناعية الكبرى في تموز (يوليو) 2004 في جزيرة ايلاند، وأبرز ما جاء في المشروع آنذاك هو الدعوة إلى الديمقراطية، والتغيير الثقافي، وحقوق الإنسان، والتأكيد على حقوق المرأة، وانتهاء الأمية... الخ، ووضعت برامج تفصيلية تحقق تلك الأهداف، كما رصدت موازنات مالية من أجل الإنفاق على تلك البرامج بين الدول الثماني، لكن شيئاً من ذلك لم يتحقق، بل تحققت الفوضى التي سموها «الفوضى الخلاقة»، وتجلت هذه الفوضى في أبهى صورة في العراق، فالدمار يعم كل شيء: البناء والطرق والجسور، والكل يقتل الكل: السنة والشيعة والأكراد والصابئة... الخ، والجميع يتآمر على تقسيم العراق، ولم تتحقق ديمقراطية ولا حقوق إنسان، ولا ارتقاء ثقافي ولا محو أمية.
ثم طلعت كوندوليزا رايس علينا بمقولة «الشرق الأوسط الجديد» أثناء التدمير غير المسبوق للبنان، ورافق مقولتها مقال للضابط الأميركي السابق رالف بيترز نشر في عدد تموز (يوليو) من مجلة القوات الأميركية تحت عنوان «حدود الدم» وهو جزء من كتاب «لا تترك القتال أبداً» يرسم ملامح الشرق الأوسط الجديد الذي أشارت إليه كوندوليزا رايس، وجاء في ذلك المقال أن السبب في اضطراب الشرق الأوسط هو عدم تطابق الحدود الجغرافية مع الحدود الإثنية والطائفية والعرقية في المنطقة، والسبب في ذلك أن أوروبا التي قسمت الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى لم تراع ذلك، بل راعت أهواءها وبعض المصالح الخاصة، وأشار المقال أيضاً إلى ضرورة تصحيح الجوانب الحدودية من أجل التوصل إلى شرق أوسط مستقر، واقترح المقال صورة جديدة للشرق الأوسط تقوم على تفصيلات متعددة منها إقامة ثلاث دول في العراق: كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب، واقترح أن تلتحق الدولة السنية المقتطعة من العراق في وقت تال بسورية، كما استهدف المشروع تغييراً في حدود كل دول الشرق الأوسط كسورية وإيران، ومصر وباكستان، ولبنان...الخ.
والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: ما الهدف النهائي من هذه المشاريع المطروحة بين وقت وآخر بدءاً من «مشروع الشرق الأوسط الكبير» وانتهاء بـ«مشروع الشرق الأوسط الجديد»، وما الملامح التي تجمع بينها؟
أولاً: تلتقي هذه المشاريع على أهداف دعائية كبيرة مثل تحقيق الأمن والسلامة، والتنمية والديمقراطية، وحقوق الإنسان وإزالة الأمية، وإقامة العدل...الخ، لكن هذه الأهداف تبقى في حدود الدعاية، ولا يتحقق شيء منها على أرض الواقع، وينطبق عليها المثال الذي راج عن الشيوعية إبان انتشارها «اقرأ عن الشيوعية تفرح، جرّب تحزن».
ثانياً: تحرك هذه المشاريع النزعة الطائفية والتفتيت الطائفي، وتستهدف وحدة الأمة العربية والإسلامية بحجة الظلم الذي لحق بهذه الطوائف والأعراق خلال التاريخ الماضي، وهذا الاستهداف للإحياء الطائفي يخدم إسرائيل بالدرجة الأولى، ويمكن أن نتأكد من ذلك باستعراض السياسة الأميركية في مناطق أخرى مثل أميركا اللاتينية وشرق آسيا، فهي لا تمارس هذا الدور من التفتيت الطائفي مع أن تعدد الطوائف والأعراق والأجناس موجود في تلك المناطق، وبصورة أكبر مما هو موجود في المنطقة العربية.
ثالثاً: مما زاد في الحرص على تنفيذ مخططات التفتيت الطائفي في المنطقة وجود المحافظين الجدد في قيادة أميركا، ومن الواضح أنهم صهاينة مثل صهاينة إسرائيل إن لم يكونوا أكثر صهيونية، إذ يشاركون الإسرائيليين آلامهم وآمالهم وأحلامهم، ويلتقون مع صهاينة إسرائيل في بعض الرؤى الدينية التي يستقونها من المسيحية والصهيونية التي تستمد مادتها من التوراة التي هي جزء من الكتاب المقدس عند المذهب البروتستانتي الذي يعتنقه المحافظون الجدد.(18/41)
رابعاً: مما يؤسف له أن إيران هي الوجه المقابل لأميركا في استغلال التفتيت الطائفي، واشاعته وممارسته، وتعميق جذوره، ويتضح ذلك في العراق حيث تقسيم العراق، وحل الجيش العراقي فعلان يتعديان هدف إزالة نظام صدام حسين، وهو الهدف الذي بررت إيران وأعوانها به التعاون مع أميركا في احتلالها للعراق عام 2003، ويصب هذان الفعلان المشار إليهما في خانة التفتيت الطائفي بالدرجة الأولى، والأمر لا يتوقف على ساحة العراق بل يتعداها إلى ساحات أخرى في العالم العربي والإسلامي.
خامساً: يبقى الحصول على البترول هدفاً رئيسياً ومهماً في كل هذه المشاريع، وذلك لأن الصين والولايات المتحدة ستحتاجان إلى 70 في المئة من بترول الشرق الأوسط خلال السنوات العشر المقبلة.
سادساً: تهدف هذه المشاريع إلى دمج إسرائيل في المنطقة من جهة، وجعلها تلعب دوراً مركزياً من جهة ثانية، وستكون بمثابة القلب له لذلك تستهدف هذه المشاريع إيجاد إسرائيل العظمى ذات الاقتصاد، وذات الجيش المبني على أحدث التطورات التكنولوجية، والتي ستقود الشرق الأوسط الجديد، وستشيع الديمقراطية فيه حسب أوهام المشاريع الأميركية.
سابعاً: إن حلم التفتيت الطائفي للمنطقة العربية حلم إسرائيلي قديم، وقد اتضح ذلك في مذكرات بن غوريون منذ قيام إسرائيل، وكلامه عن استدراج الطوائف في لبنان إلى التعاون مع إسرائيل، ويمكن أن يعتبر الدارس لأوضاع المنطقة أن هدف إسرائيل في التفتيت الطائفي للمنطقة هدف طبيعي، ويتسق مع طبيعتها الديموغرافية، ولكن من غير الطبيعي أن ترسم دولة عظمى كالولايات المتحدة استراتيجيتها انطلاقاً من هذا الأمر.
______________
* كاتب فلسطيني.
http://www.almokhtsa صلى الله عليه وسلم com:المصدر
===========(18/42)
(18/43)
الشرق الأوسط الجديد سفاح أمريكي صهيوني
مصطفى فرحات
28- 7- 2006م
على الرغم من فظاعة العدوان الإسرائيلي على لبنان، وهو الذي لا زال يحصد مئات الأرواح، ويهدم البنية التحتية لدولة برمّتها، وعلى الرغم من التواطؤ الواضح الفاضح للمجموعة الدولية التي وقعت رهينة الهيمنة الأمريكية ذات البعد الصهيوني؛ فإن جميع المعطيات توحي بأن عالم ما بعد العدوان على لبنان لن يكون كما كان قبله، لأن المبادرة التي حملتها الولايات المتحدة الأمريكية بغطاء إسرائيلي تحت مسمى "مشروع الشرق الأوسط الجديد" سيحدد مستقبل الأنظمة وطبيعة الدول في المستقبل القريب على الأقل بما يعزّز الهيمنة الأمريكية ببعدها الصهيوني، ويجعلها الموجّه الوحيد في سياسات العالم بعدما أضحت الموجّه الوحيد لثرواته.
* سيناريو أمريكي بإخراج صهيوني:
لقد تحدث المتتبعون كثيراً عن حجم التماهي الواقع بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية، كما تحدثوا كثيراً عن طبيعة النظامين، ومدى التغلغل المؤسساتي فيهما معاً بما يخدم المصلحة المشتركة.
وكثيراً ما اعتُبرت إسرائيل على أنها أكبر من مجرد حليف تقليدي، حيث صُنّفت بأنها المتحكم الرئيس في نظام الحكم الأمريكي بمؤسستيه: الجمهورية والديمقراطية، وهو ما أكده الرئيس جورج والكر بوش الذي أعلن بمجرد توليه الحكم بأن إسرائيل هي الحليف الوحيد والثابت في منطقة الشرق الأوسط.
وبناء على هذه النظرية يتم الإعداد بقوة لدمج الكيان الصهيوني في حلف الناتو، وقد عبّر عن ذلك كثيرون من بينهم رئيس الحكومة الإسبانية السابق: خوسي ماريّا أثنار، وذلك ضمن محاضرة ألقاها في اجتماع لأعضاء الحلف، بل إنه أكد قبل أيام قناعاته على اعتبار أن إسرائيل هي جزء من النظام الديمقراطي الغربي، وأن أي اعتداء عليها يُعتبر اعتداء على الغرب كله.
وتأتي تصريحات كوندوليزا رايس الأخيرة بشأن الأوضاع متماشية مع هذا السياق، فهي ما فتئت تؤكد بأن "آلام لبنان تُعتبر مخاضاً لميلاد شرق أوسط جديد" تتغير من خلاله المعالم، رافضة في السياق نفسه أي تدخل يُرجع المنطقة خطوات إلى الوراء لأن ساعة الحسم النهائي قد بدأت.
ولم تكن مهمة رايس الجديدة بصفتها "قابلة" لهذا المخاض العسير نشازاً لا ينسجم والمسيرةَ العامة للسياسة الأمريكية، لأن ميلاد شرق أوسط جديد يعني خريطة جديدة، ونظاماً عالمياً جديداً "ووظائف" جديدة.
وضمن هذا السياق نفسه نفهم أن عدوان إسرائيل لم يكن مُجرّد رد فعل على أعمال "غير محسوبة العواقب" مثلما فهمت بعض الأنظمة العربية، وسارعت من ثم إلى إدانة حزب الله عبر التصريحات السياسية من جهة، والفتاوى الدينية من جهة أخرى، وإنما كان التصرف الصهيوني قائماً بناء على مشروع تم تدارسه مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من سنة، ونال موافقة البيت الأبيض وبركته كما نقلت ذلك صحيفة "سان فرنسيسكو كرونيكل".
وكتواصل مع مسيرة الحركة الصهيونية العالمية ذكر دافيد بن غوريون في عام 1957 بأن إسرائيل تنوي استحداث دويلة مسيحية في لبنان، وتضم بعض الأرض اللبنانية، وفق ما نُشر رسالة بملحق مذكراته.
وفي عام 1996 حرّر المحافظون الجدد الأمريكيون دراسة أشرف عليها ريتشارد بيرل وتحمل عنوان: "قطيعة حقيقية.. استراتيجية جديدة لتأمين مملكة إسرائيل"، ثم سُلّمت إلى بنيامين ناتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني حينها، وجاء ضمن هذه الوثيقة على السعي لإلغاء اتفاقيات السلام بأوسلو، والقضاء على ياسر عرفات، ثم الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وقلب نظام صدام حسين لإرباك إيران وسوريا، وتفكيك العراق إلى دويلات، مع إنشاء دولة فلسطينية داخله، ثم استغلال إسرائيل كقاعدة تكميلية للبرنامج الأمريكي المتعلق بحرب النجوم.
ويظهر أن هذه الدراسة قد وجدت طريقها للتنفيذ، فالكيان الصهيوني أعاد احتلال 7 بالمائة من الأراضي الفلسطينية، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة بالجدار العازل، مع ممارسة حصار اقتصادي على الفلسطينيين، وإلقاء القبض على بعض المنتخبين بما فيهم وزراء.
كما تم دفع منظمة الأمم المتحدة إلى الضغط على سوريا لكي تنسحب من لبنان، وهو ما يعني تمهيد الأرضية لعدوان إسرائيلي مرتقب، مع تداعيات اغتيال رفيق الحريري الذي كان يُحافظ - وفق تقارير فرنسية - على المصالح الفرنسية في لبنان، ثم تدمير المنشآت الاقتصادية اللبنانية والبنية التحتية، وما تبع ذلك من مقتل المئات وتشريد مئات الآلاف من اللبنانيين.(18/44)
وجاءت الوقائع الميدانية مطابقة للمخطط الصهيوني الأمريكي، حيث تم إسقاط نظام صدام حسين في العراق، وفتح الباب على مصراعيه أمام فتنة طائفية بين السنة والشيعة والأكراد تمهيداً لخلق دويلات متعددة داخل الدولة الأم، كما تم إسقاط نظام طالبان بأفغانستان بحجة دعم أسامة بن لادن على خلفية أحداث سبتمبر - علماً أن الخبراء تحدثوا عن تقرير أمريكي كان على طاولة الرئيس الأمريكي جورج والكر بوش في شهر أوت أي شهراً قبل أحداث سبتمبر يقضي بضرورة التدخل العسكري المباشر في أفغانستان، وتبني خيار التغيير الداخلي في إيران، وهذا التقرير أُعدّ في فترة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، ولكنّ ظروف المصادقة عليه لم تتم إلا في عهد سيطرة المحافظين الجدد على البيت الأبيض الأمريكي -.
ولعل هذه السياسة المتبعة هي التي تفسر ما أكده بوش الابن للرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي سعى لحماية المصالح الفرنسية في لبنان؛ حيث أكد له في اجتماع الثماني أن "القضية ليست عمليات إسرائيلية بتأييد أمريكي، وإنما عمليات أمريكية بتنفيذ إسرائيلي".
http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws:المصدر
===============(18/45)
(18/46)
الشرق الأوسط الجديد سِفاح أمريكي صهيوني
مصطفى فرحات
28- 7- 2006م
على الرغم من فظاعة العدوان الإسرائيلي على لبنان - وهو الذي لا زال يحصد مئات الأرواح، ويهدم البنية التحتية لدولة برمّتها -، وعلى الرغم من التواطؤ الواضح الفاضح للمجموعة الدولية التي وقعت رهينة الهيمنة الأمريكية ذات البعد الصهيوني؛ فإن جميع المعطيات توحي بأن عالم ما بعد العدوان على لبنان لن يكون كما كان قبله، لأن المبادرة التي حملتها الولايات المتحدة الأمريكية بغطاء إسرائيلي تحت مسمى "مشروع الشرق الأوسط الجديد" سيحدد مستقبل الأنظمة، وطبيعة الدول في المستقبل القريب على الأقل بما يعزّز الهيمنة الأمريكية ببعدها الصهيوني، ويجعلها الموجّه الوحيد في سياسات العالم بعدما أضحت الموجّه الوحيد لثرواته.
* سيناريو أمريكي بإخراج صهيوني:
لقد تحدث المتتبعون كثيراً عن حجم التماهي الواقع بين السياستين الأمريكية والإسرائيلية، كما تحدثوا كثيراً عن طبيعة النظامين، ومدى التغلغل المؤسساتي فيهما معاً بما يخدم المصلحة المشتركة.
وكثيراً ما اعتُبرت إسرائيل على أنها أكبر من مجرد حليف تقليدي، حيث صُنّفت بأنها المتحكم الرئيس في نظام الحكم الأمريكي بمؤسستيه: الجمهورية والديمقراطية، وهو ما أكده الرئيس جورج والكر بوش الذي أعلن بمجرد توليه الحكم بأن إسرائيل هي الحليف الوحيد والثابت في منطقة الشرق الأوسط.
وبناء على هذه النظرية يتم الإعداد بقوة لدمج الكيان الصهيوني في حلف الناتو، وقد عبّر عن ذلك كثيرون من بينهم رئيس الحكومة الإسبانية السابق: خوسي ماريّا أثنار، وذلك ضمن محاضرة ألقاها في اجتماع لأعضاء الحلف، بل إنه أكد قبل أيام قناعاته على اعتبار أن إسرائيل هي جزء من النظام الديمقراطي الغربي، وأن أي اعتداء عليها يُعتبر اعتداء على الغرب كله.
وتأتي تصريحات كوندوليزا رايس الأخيرة بشأن الأوضاع متماشية مع هذا السياق، فهي ما فتئت تؤكد بأن "آلام لبنان تُعتبر مخاضاً لميلاد شرق أوسط جديد" تتغير من خلاله المعالم، رافضة في السياق نفسه أي تدخل يُرجع المنطقة خطوات إلى الوراء لأن ساعة الحسم النهائي قد بدأت.
ولم تكن مهمة رايس الجديدة بصفتها "قابلة" لهذا المخاض العسير نشازاً لا ينسجم والمسيرةَ العامة للسياسة الأمريكية، لأن ميلاد شرق أوسط جديد يعني خريطة جديدة، ونظاماً عالمياً جديداً، "ووظائف" جديدة.
وضمن هذا السياق نفسه نفهم أن عدوان إسرائيل لم يكن مُجرّد رد فعل على أعمال "غير محسوبة العواقب" مثلما فهمت بعض الأنظمة العربية، وسارعت من ثم إلى إدانة حزب الله عبر التصريحات السياسية من جهة، والفتاوى الدينية من جهة أخرى، وإنما كان التصرف الصهيوني قائماً بناء على مشروع تم تدارسه مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ أكثر من سنة، ونال موافقة البيت الأبيض وبركته كما نقلت ذلك صحيفة "سان فرنسيسكو كرونيكل".
وكتواصل مع مسيرة الحركة الصهيونية العالمية ذكر دافيد بن غوريون في عام 1957 بأن إسرائيل تنوي استحداث دويلة مسيحية في لبنان، وتضم بعض الأرض اللبنانية وفق ما نُشر رسالة بملحق مذكراته.
وفي عام 1996 حرّر المحافظون الجدد الأمريكيون دراسة أشرف عليها ريتشارد بيرل وتحمل عنوان: "قطيعة حقيقية، إستراتيجية جديدة لتأمين مملكة إسرائيل"، ثم سُلّمت إلى بنيامين ناتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني حينها، وجاء ضمن هذه الوثيقة على السعي لإلغاء اتفاقيات السلام بأوسلو، والقضاء على ياسر عرفات، ثم الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وقلب نظام صدام حسين لإرباك إيران وسوريا، وتفكيك العراق إلى دويلات مع إنشاء دولة فلسطينية داخله، ثم استغلال إسرائيل كقاعدة تكميلية للبرنامج الأمريكي المتعلق بحرب النجوم.
ويظهر أن هذه الدراسة قد وجدت طريقها للتنفيذ، فالكيان الصهيوني أعاد احتلال 7 بالمائة من الأراضي الفلسطينية، وفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة بالجدار العازل، مع ممارسة حصار اقتصادي على الفلسطينيين، وإلقاء القبض على بعض المنتخبين بما فيهم وزراء.
كما تم دفع منظمة الأمم المتحدة إلى الضغط على سوريا لكي تنسحب من لبنان، وهو ما يعني تمهيد الأرضية لعدوان إسرائيلي مرتقب، مع تداعيات اغتيال رفيق الحريري الذي كان يُحافظ وفق تقارير فرنسية على المصالح الفرنسية في لبنان، ثم تدمير المنشآت الاقتصادية اللبنانية والبنية التحتية، وما تبع ذلك من مقتل المئات، وتشريد مئات الآلاف من اللبنانيين.(18/47)
وجاءت الوقائع الميدانية مطابقة للمخطط الصهيوني الأمريكي، حيث تم إسقاط نظام صدام حسين في العراق، وفتح الباب على مصراعيه أمام فتنة طائفية بين السنة والشيعة والأكراد تمهيداً لخلق دويلات متعددة داخل الدولة الأم، كما تم إسقاط نظام طالبان بأفغانستان بحجة دعم أسامة بن لادن على خلفية أحداث سبتمبر، علماً أن الخبراء تحدثوا عن تقرير أمريكي كان على طاولة الرئيس الأمريكي جورج والكر بوش في شهر أوت أي شهراً قبل أحداث سبتمبر يقضي بضرورة التدخل العسكري المباشر في أفغانستان، وتبني خيار التغيير الداخلي في إيران، وهذا التقرير أُعدّ في فترة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، ولكنّ ظروف المصادقة عليه لم تتم إلا في عهد سيطرة المحافظين الجدد على البيت الأبيض الأمريكي.
ولعل هذه السياسة المتبعة هي التي تفسر ما أكده بوش الابن للرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي سعى لحماية المصالح الفرنسية في لبنان، حيث أكد له في اجتماع الثماني أن "القضية ليست عمليات إسرائيلية بتأييد أمريكي، وإنما عمليات أمريكية بتنفيذ إسرائيلي".
http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws:المصدر
===============(18/48)
(18/49)
بوش ومسلسل الانتكاسات في الشرق الأوسط
إدريس الكنبوري - الرباط
16/4/1427هـ الموافق له 14/05/2006م
تحت عنوان (فشل جورج بوش في الشرق الأوسط) كتب المحلل السياسي الفرنسي (تييري دي مونتبرييل) في صحيفة (لوموند) الفرنسية مقالاً جاء فيه:
مع اقتراب موعد إجراء انتخابات الكونغرس الأمريكي فإن حصيلة جورج بوش الذي يقترب من النصف الثاني لولايته الثانية في منطقة الشرق الأوسط - المنطقة الأكثر أهمية في السياسة الدولية في الوقت الحالي - تبدو حصيلة مشؤومة.
فالعراق على حافة الحرب الأهلية، وانتخابات 15 ديسمبر 2005 لم تعمل سوى على دعم المنطق الطائفي المدمر، بحيث تبدو مهمة رئيس الوزراء الجديد حاسمة، أما الوضع الاقتصادي في البلاد فوضع كارثي، بينما دُمّرت البنية التحتية مقارنة بمرحلة ما قبل الحرب، ونصف السكان لا يستطيعون الوصول إلى المياه.
في البلدان العربية تتنامى النزعات المعادية لأمريكا؛ إذ إن البرلمان المصري يضم حالياً (88) إسلامياً، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة قادت الانتخابات التي أُجريت بشكل ديمقراطي يوم 25 يناير الماضي إلى فوز كاسح لحركة حماس ووصولها إلى السلطة، أما في سوريا التي توجد تحت ضغط دولي قوي فإن النظام - الذي يظهر وكأنه يمسك زمام الأمور بيده - يحاول دفع المعارضة إلى الصمت، وفي نفس الوقت منح موقعاً مهماً لبعض الإسلاميين.
بالموازاة مع هذه الأوضاع هناك التوتر الذي وصل أقصى مداه بين الولايات المتحدة وإيران، فكل المؤشرات تشير إلى أن هذه الأخيرة واثقة من نفسها، ولا تتردّد في اتخاذ المواقف المثيرة، إن الجمهورية الإسلامية لم تنفذ التزاماتها بعدم التصريح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنشطتها المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، والمياه الثقيلة المكتشفة عام 2002.
على الصعيد السياسي ترى إيران أنها في موقع قوة لثلاثة أسباب: من ناحية أولى لأن الشعب الإيراني يساند النظام في هذه المعركة، ومن ناحية ثانية لأن النظام في إيران يدرك بأن روسيا والصين ستقفان ضد أي تصرف متطرف قد تقدم عليه الولايات المتحدة، وأخيراً لأن طهران - في حال وقوع مغامرة عسكرية - ستكون أمامها كل الفرص من أجل جعل الثمن غالياً (في العراق وفلسطين، والأسواق النفطية...إلخ)، ليس لدى الإيرانيين - بلا شك - مصلحة في الحصول على السلاح النووي، الأمر الذي لا يبدو أنه سيتحقق غداً على كل حال، ولكنها تعرف بأنها يمكن أن تصل إلى هذا الهدف من دون مخاطر جمة، فهذه القضية من وجهة نظر الإيرانيين قضية مشروعة طالما أن باكستان - وإسرائيل بشكل رسمي - تشكلان جزءاً من النادي النووي.
مقابل هذا الوضع كشفت انتخابات 28 مارس الماضي التي أُجريت في إسرائيل عن انقسام المجتمع الإسرائيلي، والأفضلية التي يوليها الناخب الإسرائيلي للقضايا الاقتصادية والاجتماعية، أما القضية الأمنية فقد أصبح ينظر إليها بشكل مختلف، فلا أحد تقريباً يرى مصلحة في التفاوض مع الفلسطينيين، والجميع يميل إلى سياسة الفصل التي تبناها أرييل شارون، ويتبناها اليوم إيهود أولمرت، فبعد الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة سيضطر المستوطنون اليهود في الضفة الغربية إلى الإخلاء، وفي النهاية سيتم رسم حدود الدولة الفلسطينية المثقوبة مثل فروة النمر بقرار من الإسرائيليين وحدهم، من يعتقد بأن مسلسلاً كهذا يمكن أن يقود إلى تحقيق السلام؟
إن إدارة جورج بوش نفسها لم تفتأ تدعم هذه السياسة الأحادية لإسرائيل، إنها تطالب بمزيد من الديمقراطية ولكنها - خشية الفوضى - ترفض منح الوقت والفرصة لحركة حماس من أجل التخفيف من حدة مواقفها، وتحديد استراتيجية إزاء إسرائيل، وبشكل عام فإنها ترفض الحوار مع الإسلاميين مهما كانوا معتدلين، والذي سيأتي يوم يصبح فيه أمراً لا مناص منه، فعلى الرغم من بروز ضرورة الحوار مع إيران المحاذية للعراق، وعلى الرغم من الإخفاق الذي مُنيت به في هذا الأخير؛ لا تزال واشنطن تدق طبول الحرب.
لا تبدو في الأفق استراتيجية أمريكية شاملة، وبسبب عدم إحداث تحول في السياسة الأمريكية فإن الوضع العام في منطقة الشرق الأوسط يستمر في التدهور، ففي وثيقة نُشرت بموقع جامعة هارفارد انتقد جامعيان أمريكيان محترمان هما (جون ميرشايمر) و(ستيفان والت) السياسة الأمريكية إزاء إسرائيل بكثير من الحدة، مشيرين إلى أنه للمرة الأولى والوحيدة في تاريخها تضع الولايات المتحدة مصالحها ومصالح حلفائها جانباً دفاعاً عن مصالح دولة أخرى هي إسرائيل، ومن المؤكد أن هذه الدراسة المعمقة سوف تثير الكثير من الجدل.(18/50)
إن موقفاً أكثر توازناً للولايات المتحدة من شأنه أن يغير كل شيء، لقد رأينا كيف أن المسلسل الذي تضمنته "خارطة الطريق" التي حاربتها الأحادية الأمريكية - الإسرائيلية كان من الممكن أن تمنح فرصاً للسلام، وفي نفس الاتجاه كان على واشنطن أن تدخل في مفاوضات مع طهران بادئة بالملفات المشتركة مثل العراق، لكي تكون هناك ديناميكية جديدة، وإيجابية بدل الإصرار على هدف وهمي مثل: قلب نظام الحكم فيها، فهكذا صنعت الولايات المتحدة مع الصين عام 1972 عن طريق الديبلوماسية التي أُطلق عليها اسم "لعبة الطاولة"، ونفس المبادرة تم اقتراحها في نوفمبر من العام 2004 عبر فريق عمل بقيادة كل من (زبيغنيو بريجينزكي) و(روبرت غيتس) في إطار مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك.
في الوقت الحالي، وعلى الرغم من الصعوبات التي يستمر في مواجهتها بعد إخفاق الاستفتاء على الدستور الأوروبي في فرنسا، لا ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يقلل من الحذر فيما يتعلق بملف الشرق الأوسط، والوقوف في صف الولايات المتحدة، إن المقاربة الشاملة والمتوازنة لهذه القضية سوف تسمح بوضع حد لهذا التدهور الخطير.
http://www.islamtoday.net:المصدر
====================(18/51)
(18/52)
صدمة أخرى لمشروع الشرق أوسطية !
محمد جمال عرفة: القاهرة
بفوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بأغلبية مقاعد البرلمان الفلسطيني، تلقت الخطة الأمريكية لما يسمى بنشر الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي صدمتها الثانية، بعد الصدمة الأولى وهي فوز جماعة الإخوان المسلمين في مصر ب 88 مقعداً.
سبب الصدمة أن مشروع الشرق أوسطية قائم بشكل أساسي على التنبؤ بفوز الليبراليين والموالين لأمريكا في هذه الانتخابات الحرة الديمقراطية التي يدعو لها هذا المشروع، ولذلك صُدموا عندما بدأت ضغوطهم خصوصاً على مصر تؤتي غير الثمار التي يأملونها وتأتي بالإسلاميين في صورة جماعة الإخوان، وصدموا مرة ثانية عندما تأكد لهم أن خيار الجماهير العربية في حالة الانتخابات الحرة كان اختيار التيار الإسلامي كما حدث في فلسطين، مما يعني فشل مشروعهم.
خريطة الصراع:
وفوز حماس لن يقلب فقط خريطة الصراع في الشرق الأوسط ويغير ثوابته، لكنه أيضا فوز ساحق سيترتب عليه قيام الإسلاميين لأول مرة في انتخابات عربية بتشكيل حكومة وليس مجرد فوز بنسبة من المقاعد غير المؤثرة، كما في حالة إخوان مصر (20% من المقاعد فقط).
ولهذا لم يتوقف الحديث منذ فوز حماس في واشنطن ومراكز الأبحاث الغربية والآلة الإعلامية، عن فشل مخطط مشروع الشرق أوسطية، وضرورة وقفه، بعدما ثبت أن صناديق الانتخابات تأتي بالإسلاميين وأن الشعوب العربية التي تعاني الفساد والدكتاتورية أثبتت أنها تصوت للخيار الإسلامي.
الأمر الواقع:
وبصرف النظر عن الحديث الدائر حالياً عن احتمالات وقف أو تجميد إدارة بوش خطتها لنشر الديمقراطية في العالم العربي، مما يعني استئناف الأنظمة حملات القمع والبطش بالقوى المعارضة خصوصاً التيار الإسلامي، فإن الوضع في فلسطين المحتلة يختلف عن باقي الدول العربية، بعدما وصلت حماس للسلطة وأصبح التعامل مع الواقع الفلسطيني لا بد منه لحماية مصالح الكيان الصهيوني.
فقد حاولت السلطة الفلسطينية تأجيل الانتخابات مرتين لتوقعها فوز حماس بنسبة كبيرة من المقاعد، وحاولت تل أبيب عرقلة مشاركة حماس.
وقد انقسمت إدارة بوش في الرأي حول مشاركة حماس في الانتخابات، لكنها قررت بعد تردد أن تدعم ما ترى أنه خطوة نحو تحقيق رؤيتها لتنفيذ الديمقراطية في الشرق الأوسط، رغم استمرار نظرها إلى حماس على أنها منظمة "إرهابية"، ومن ثم لا يمكن لها المشاركة في سياق السياسة الفلسطينية، ولكن الولايات المتحدة أقرت في نهاية المطاف صراحة أن حماس لا يمكن استبعادها من صفوف السياسة الفلسطينية، خاصة بعدما فازت بأغلبية كبيرة في الانتخابات التي جرت بهدوء وفي جو سلمي وحر طبقاً لشهادات مراقبين دوليين، على رأسهم الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، على أمل أن تعدل حماس ميثاقها بعد الانتخابات لتعترف بحق "إسرائيل" في الوجود وتوقف المقاومة. وربما لهذا أشاد الرئيس بوش بالانتخابات الفلسطينية على غير العادة، واعتبرها نتيجة تصويت الشعب، ولكنه دعا حماس للتخلي عما أسماه العنف، بيد أن رد الفعل الأمريكي لم يتوقف على هذا، بل بدأت خطوات ضغط مكثفة على حماس والشعب الفلسطيني أشبه بالعقوبات لتصويت الشعب لحماس، أبرزها احتمالات قطع المعونات الأمريكية والمعونات الأوروبية والدولية التي يتعايش عليها الشعب الفلسطيني.
فقد أصدر مجلس النواب الأمريكي قراراً في ديسمبر 2005، حذر فيه السلطة الفلسطينية من تعريض علاقتها بالولايات المتحدة للخطر في حالة إشراكها "لمنظمة إرهابية" في الحكومة وأرسل 73 سيناتوراً أمريكياً رسالة إلى بوش يطالبونه فيها بالقيام بتحرك عاجل، وصدرت تحذيرات من احتمال تقليص المساعدات المخصصة للفلسطينيين هذا العام والتي يبلغ حجمها 234 مليون دولار.
ومع هذا فهناك توقعات أن يتعامل الأمريكيون مع الأمر الواقع، لأنه في ظل المشكلات التي لا تحصى والتي تواجه الولايات المتحدة في المنطقة وفي داخل أمريكا سيكون رفض الحوار مع حكومة حماس نوعاً من الخسارة المزدوجة؛ لأنه سيؤجج الصراع ويدفع حماس للمقاومة وهي في السلطة مما يعيد الأوضاع في فلسطين إلى عهد الاحتلال الصهيوني الكامل، ويلغي وجود السلطة الفلسطينية، وسيدفع الكيان الصهيوني في المقابل لاستكمال بناء الجدار العازل والانسحاب انسحاباً أحادي الجانب من المناطق التي تشكل تهديداً أمنياً لها، وبالتالي استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مع ما يعنيه من تأجيج إثارة مشاعر الكراهية نحو الولايات المتحدة في المنطقة.
الالتزامات الدولية(18/53)
ومع هذا فهناك خطورة بشأن هذا الفهم الأمريكي الخاطئ لفوز حماس يتلخص في اعتباره نوعاً من التصويت الاحتجاجي الشعبي على فساد سلطة فتح، أو أنه تصويت على "التغيير والإصلاح" فقط، وهذا غير صحيح، فالتصويت لحماس هو تصويت على برنامج المقاومة المسلحة والتحرير عموماً، وضد برامج التسوية والتفريط في الأرض التي لم تجلب للفلسطينيين أرضاً محررة (سوى بالقوة مثل غزة) أو تجلب لهم أمناً أو دولة واضحة المعالم، كما أن هذا التصويت كما حدث في مصر كشف الكثير من القوى العلمانية واليسارية الجديدة التي كانت تدعي أنها بديل للسلطة وحماس وتمثل تياراً مستقلاً ومحايداً، وتتلقى أموالاً ضخمة من برامج تمويل الديمقراطية الغربية لهذا الغرض، وأثبتت صناديق الاقتراع أنها قوى وهمية لا وجود لها في الشارع السياسي العربي!.
خلاصة الأمر أن فوز حماس فضلاً عن أنه شكل صدمة ثانية لما يسمى بمشروع نشر الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، إلا لأنه أكد مرة أخرى عملياً أن الانتخابات الحرة تأتي بالإسلاميين، وهذا سيربك كافة الخطط الغربية والصهيونية في المنطقة.
الصهاينة فقدوا صوابهم!
دعوة لإبادة كل الناجحين من حماس
في وقت تبادل فيه مسئولون في جهاز المخابرات الصهيوني العام وشعبة الاستخبارات العسكرية، الاتهامات حول الإخفاق في عدم توقع نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي أظهرت تقدم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" بأغلبية مطلقة فيها، نقل التلفزيون العبري عن مصدر سياسي صهيوني رفيع المستوى قوله: "لا مناص من إجراء محادثات مع حركة حماس في المستقبل"، على حد تعبيره.
وأضاف المصدر للقناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي "إن هناك عداً كبيراً من القضايا الحياتية اليومية التي تحتاج إلى تنسيق إسرائيلي فلسطيني، وتحتاج إلى إجراء اتصالات بين السلطات الإسرائيلية والفلسطينية".
من جهة أخرى ذكر التلفزيون أن يوفال ديسكين رئيس المخابرات الإسرائيلي ألمح عدة مرات خلال مداولات أمنية جرت خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى أنه لن يفاجأ في حال فازت حركة "حماس".
وأوضح أن تقويمات جهاز المخابرات استندت بالأساس إلى عملاء في صفوف السلطة الفلسطينية، حسب زعمه، فيما استندت تقويمات شعبة الاستخبارات العسكرية إلى المنشورات الفلسطينية واستطلاعات الرأي التي نشرت في الأسابيع الماضية في الصحف الفلسطينية، والتي لم تكن تتوقع فوز "حماس" في هذه الانتخابات.
على جانب آخر دعا نائب يميني في البرلمان الصهيوني (الكنيست) إلى اغتيال جميع مرشحي حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، الذين شاركوا في الانتخابات التشريعية، وحققوا فوزاً كبيراً، وحصلوا على أغلبية مقاعد البرلمان.
ونقلت وسائل إعلام عبرية عن النائب إيفي إيتام من حزب "هئيحود هليئومي" اليميني من على منصة الكنيست، قوله معقباً على نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية:"يجب على الحكومة الإسرائيلية تصفية كل ممثلي حماس في البرلمان".
وأضاف قائلاً: "يجب قلب قائمة حماس في المجلس التشريعي الفلسطيني إلى قائمة الشاباك (جهاز المخابرات الإسرائيلي) للتصفية".
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
=================(18/54)
(18/55)
الشرق الأوسط في ناظري كوفي أنان
صحيفة 'آ بي ثي' الإسبانية
ترجمة: مروة عامر
19 ربيع الأول 1427هـ الموافق له 17 أبريل 2006م
س: تؤكد 'واشنطن بوست' أن البيت الأبيض يعد لعمل حربي ضد إيران، هل نحن بصدد نموذج آخر لهجوم وقائي دون اعتبار منظمة الأمم المتحدة؟ ألم تتعلم واشنطن أي درس من الأخطاء التي تم ارتكابها في العراق؟
- أعتقد أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تدير الأمر بشكل ملائم، ولازلت أعتقد أن أفضل حل هو التفاوض، فلا أرى ماذا يمكن أن يحل القيام بعملية عسكرية، إننا لا نرى ضرورة للقيام بأعمال يمكن أن تزيد من اشتعال جو مشتعل بالفعل بما يكفي، آمل أن تفوز روح التفاوض، وألا يكون الخيار العسكري سوى توقعات.
س: تجمد المغرب منذ عام 1992 الاستفتاء بشأن مستقبل الصحراء، فهل هناك خيار آخر سوى انتظار أن تتدارك أطراف القوى موقفها أم لدى المجتمع الدولي وخاصة الأمم المتحدة سبل أخرى من أجل فرض حل عادل؟
- بصراحة، لا يمكن للأمم المتحدة فرض حل، وهو ما يفسر لماذا حاولنا بشكل مكثف للغاية التوصل لحل يرضي جميع الأطراف، وذلك هو ما حاول مبعوثيي الخاصين القيام به مثل وزير الخارجية الأمريكي السابق 'جيمس بيكر'، الذي حاول لمدة سبعة أعوام التوصل لاتفاق، الأمر الذي يواصله الآن ممثلي الخاص الجديد 'فان فالسوم'، إننا بصدد موقف شائك: تصر قيادة الصحراء الغربية على حق تقرير المصير، والذي كان يمثل جزءً من الاتفاق الذي وافق عليه الطرفين، إلا أن المغرب ينوه الآن إلى منح حكم ذاتي للصحراء، ويحاول المجتمع الدولي بين هذين الخيارين التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، الأمر الذي يستغرق وقتاً، إلا أنني لازالت واثقاً في أننا سوف ننجح.
س: كيف ينبغي أن تتم مكافحة 'الإرهاب'؟ ألا يمكن أن يكون جوانتانامو والعراق سبباً في تغذية هذه الآفة؟
- إن وجود قوى خارجية في أية دولة يثير رد فعل وطني، وفي هذا الصدد ينبغي أن نعترف بأن ذلك الوجود في العراق يمثل مشكلة، وفي الوقت ذاته يرى البعض أن ذلك الانتشار العسكري قد يساعد على تحسين الأوضاع، إننا بصدد رأيين على الطاولة: رأي من يقولون أن القوات الأجنبية لا تساعد على إحلال السلام، ورأي من يعتبرون أن مغادرة القوات بشكل متعجل قد لا يساهم في تهدئة الوضع في الدولة، إننا بصدد أحد المواقف التي لا يوجد فيها حل جيد تماماً، إلا أنه لا زالت لدي ثقة في إمكانية تشكيل جيش وطني حقيقي يعمل من أجل عراق موحد، ومن الواضح أن الوضع في الوقت الراهن سيء تماماً، فالوضع الذي يعيشه العراق والذي يسوده عدم أمن مستمر بالنسبة للمواطنين أمر غير مقبول.
س: وفيما يتعلق بجوانتانامو؟
- أشير إلى التقرير الذي وضعه مقرر خاص للأمم المتحدة، والذي تضمن اعتبارات في غاية الخطورة، لقد صرح الكثيرون منا بأن أفضل ما يمكن عمله بالنسبة لجوانتانامو هو غلقه.
س: تطلب منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي من حماس نبذ 'العنف'، في الوقت الذي آلت فيه خارطة الطريق إلى حال أسوأ من الانهيار، بينما تكاد 'إسرائيل' تنتهي من بناء جدارها غير الشرعي، وتحتفظ 'بمستوطناتها'، من أين يمكن البدء من جديد؟
- ليست فقط اللجنة الرباعية [منظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا] التي تطالب حماس بنبذ واضح 'للعنف'، من الواضح أن حماس الآن هي المسئولة عن الأراضي، وأنها لم تعد حركة منفصلة عن النظام، فهي الآن السلطة الفلسطينية، وعليها أن تتولى مسئولياتها، وأن تتخذ إجراءات محددة، وقرارات صعبة، حتى تحافظ على تعاون المجتمع الدولي معها، وأود أن أضيف أنه لا ينبغي على السلطات 'الإسرائيلية' أن تغلق باب المفاوضات، وأعتقد أن رئيس الوزراء الجديد قد يتخذ خطوات في ذلك الصدد، وبالرغم من أن الانسحاب من غزة تم بشكل أحادي الجانب إلا أنني أرى أن الانسحاب النهائي وترسيم حدود لا يمكن أن يتم دون مفاوضات.
س: هل تدفع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ديْنهما لجمهورية الكونغو الديمقراطية المغفلة من خلال مساعدتها على إجراء أول انتخابات حرة بها منذ الاستقلال؟
- سوف تجري الكونغو أولى انتخاباتها الديمقراطية عقب 45 عاماً، ما يعني وجود رجال ونساء قد وصلوا إلى ذلك العمر دون أن يتمتعوا أبداً بفرصة التصويت، إن المواطنين يشعرون بحماس كبير إزاء إمكانية ممارسة حقوقهم الديمقراطية لأول مرة، إننا بصدد دولة تقرب مساحتها من مساحة أوروبا الغربية، وتفتقر تماماً للبنى التحتية، ولذلك ففضلاً عن التحديات التي تتضمنها العملية، فهناك تحديات لوجيستيكية هائلة، إلا أننا متفائلون، فقد قبلت غالبية الأحزاب ميزانياتنا، فيما عدا [زعيم المعارضة السياسية، ورئيس حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الاجتماعي، إتيان تشيسيكيدي]، الذي رفض الاشتراك، وقد واتتني الفرصة للالتقاء به، إلا أنني أرجو أن يقبل الآخرون قواعد اللعبة، ويحترموا النتائج.
س: لماذا لم تصرح سيادتك ولو بكلمة واحدة لصالح عبد الرحمن الأفغاني المدان بالإعدام لتنصره، والذي لجأ في نهاية الأمر إلى إيطاليا؟(18/56)
- شخصياً لم أصرح بشيء، إلا أن منظمة الأمم المتحدة قد صرحت، فقد كان ممثلي في المنطقة من بين أوائل من صرحوا في هذا الصدد، ولم نقتصر على التحدث فقط فقد عملنا مع السلطات الأفغانية، إلا أننا لم نرد إثارة ضجة أكثر من اللازم.
س: وسط رد الفعل 'العنيف' ضد الرسوم الكاريكاتورية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، آثرت طلب احترام جميع المعتقدات؟
- إنني أعتقد في الفصل بين الكنيسة والدولة، حيث أنني أرى أنه لا ينبغي دمج المجالين، وفي الوقت ذاته عندما أدليت بتلك التصريحات أوضحت أنه بالرغم من مساندتنا لحرية الصحافة فينبغي أن تتم ممارسة هذه الحرية بشكل حساس، ومعيار سليم، واحترام لمقدسات الآخرين، ولا يعني ذلك أنني أدافع عن تدخل الدين في الشئون العلمانية، فالرسالة التي كنت أريد نقلها هي أننا نتمتع بحقوق، إلا أنه ينبغي ممارسة هذه الحقوق بشكل مسئول.
س: كان البعض ينتظر المزيد من الأمين العام للأمم المتحدة خلال الأيام التي سبقت حرب العراق؟
- لقد عملت بشكل شاق للغاية محاولاً تجنب وقوع هذه الحرب، إلا أنه ينبغي كذلك إدراك أنه عندما تعاني المنظمة من الانقسام، عندما يعاني الأعضاء الذين يشكلون منظمة الأمم المتحدة من الانقسام؛ يكون على الأمين العام محاولة تقريب المواقف، وتوحيد الرغبات من أجل الوصول إلى اتفاق يسمح بمواصلة التقدم، وكان موقفي من الحرب معروفاً، لم أكن أؤيد الحرب، لم أساندها، وأوضحت وجهت نظري خلال محادثاتي مع الأمريكيين والأطراف الأخرى، وفي الوقت ذاته كأمين عام يكمن عملي في العمل على تقريب المواقف وليس زيادة تعميق الانقسامات، فما يبقى أمامك عقب ذلك سوى أن تحاول مواصلة عمل ما ينبغي عليك عمله.
س: خلال انتداب سيادتك الثاني والأخير على رأس منظمة الأمم المتحدة لا يبدو أن إصلاح المنظمة وأهداف الألفية لخفض الفقر في العالم قد وصل إلى حد بعيد.
- لا أعتقد أنه يمكننا انتظار معجزات في العالم الذي نعيش فيه، ويبدو لي أن التاريخ الصحيح بالنسبة لأهداف التنمية للألفية هو 2013، لديك حق فبعض الدول قد لا تكون تمكنت من تحقيق كل الأهداف، إلا أن دولاً أخرى تمكنت من تحقيقها، بل وتخطتها كذلك، الأهم هو أن نكون قادرين على الحفاظ على إطار عام للتنمية، وفي هذا الصدد فقد تم قبول أهداف الألفية بشكل عالمي، وهو ما يدركه المواطنون في الوقت الراهن، إن مكافحة الفقر لازالت مستمرة، وكذلك إصلاح منظمة الأمم المتحدة، وكما سبق وأن أشرت فإننا بصدد عملية وليس حدث، وفي كل الأحوال أعتقد أنه تم تحقيق أشياء كثيرة منذ شهر سبتمبر الماضي مثل موافقة الدول الأعضاء على مفهوم مسئولية الدول عن حماية مواطنيها، كما قمنا بتشكيل لجنة لإرساء السلام من أجل مساعدة الدول على الخروج من النزاعات، فضلاً عن إصلاح لجنة حقوق الإنسان، وشكلنا كذلك مركزاً لتقييم النزاعات الأمر الذي قد يسمح لنا بالعمل بشكل أسرع، كما أنشأنا صندوقاً جديداً للمساعدة على الانتقال إلى 'الديقراطية'، واقترحت أيضاً إعادة النظر في مدة الانتدابات داخل منظمة الأمم المتحدة، وسوف تخضع كل الانتدابات التي تزيد عن خمسة أعوام على رأس أية هيئة لتقييم من أجل التأكد مما إذا كانت قد أدت التزاماتها بشكل ملائم أم لا.
س: ماذا أخطرك [رئيس الحكومة الإسباني] خوسيه لويس ثاباتيرو بشأن [الحركة الباسكية الانفصالية المسلحة] إيتا، وماذا قلت سيادتك لرئيس الحكومة فيما يتعلق بإمكانية نهاية الإرهاب في إسبانيا؟
- لم ندخل في تفاصيل دقيقة بشأن الأمر، فقد تحدثنا عن إعلان الهدنة من قِبل إيتا، الأمر الذي أعتبره حدثاً إيجابياً، وآمل أن تضع جميع الأطراف السياسية في إسبانيا في اعتبارها التوصل إلى نهاية للعنف، ومحاولة العمل من أجل ذلك، فقد استغرق ذلك وقتاً طويلاً، أعلم أنه هناك الكثير من المواطنين الذين عانوا كثيراً، فبعضهم فقد أقرباءه، وينبغي أخذ الضحايا في الاعتبار، لا يمكن إيجاد أعذار للعنف، وأقول ذلك بينما تواصل منظمة الأمم المتحدة وضع اتفاقية دولية لمكافحة العنف، وبالرغم من وجود معاهدات كثيرة إلا أننا نتعرقل دائماً في نفس المفهوم: هل ينبغي استثناء 'المقاتلين من أجل الحرية' ومقاومة الاحتلال، الأمر الذي تصر عليه غالبية الدول العربية بسبب الوضع في فلسطين، وشخصياً أعتقد أنه ينبغي أن نكون واضحين أخلاقياً تماماً في مواجهة 'الإرهاب'، وكنت قد طرحت اقتراحاً خلال زيارتي الماضية لإسبانيا في مارس في هذا الصدد: إنني أعتبر أن أي هجوم يستهدف مدنيين غير مسلحين بهدف القتل أو الإصابة أو الإرهاب هو إرهاب بحت أياً كانت القضية التي يدافع عنها، وإذا قبل الجميع هذا المبدأ الأخلاقي فقد يمكننا المضي قدماً، والموافقة على اتفاقية بهذا الشأن، ولكن عودةً إلى قضية إيتا فقد شاهدنا نزاعات طويلة الأمد تم التوصل إلى حلول بشأنها، لذلك آمل أن نكون بصدد بداية النهاية لعنف إيتا.
س: هل كوفي أنان في العام الأخير لانتدابه هو نفس الشخص الذي تولى منصب الأمين العام منذ عشرة أعوام؟(18/57)
- لا يمكنني أن أزعم أنني نفس الشخص منذ عشرة أعوام، فقد تعلمت الكثير بشأن الطبيعة الإنسانية، إلا أنني لم أفقد الأمل أو التفاؤل، وأعتقد أنني لم أفقد قدرتي على التعاطف مع الناس، والشعور بمعاناتهم.
http://www.islammemo.cc:المصدر
===================(18/58)
(18/59)
تركيا والدور الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط
طه عودة
24/12/1426هـ
تركيا ترغب بأن تأخذ دوراً فاعلاً في عام 2006م في حل الأزمات بالمنطقة، وفي هذا الإطار هي تطلب اليوم دوراً للوساطة في مشكلة سوريا، أما بالنسبة لطلبها السابق بالوساطة في أزمات فلسطين و"إسرائيل" ولبنان فإنها لم تتلق الرد من المسئولين المعنيين لحد الآن، الحكومة التركية التي بلورت سياستها الخارجية على المساهمة بلعب دور فعال وبنَّاء في أزمات المنطقة ستجدد طلبها بالوساطة في عام 2006م الجاري، وسوريا هي من أكثر المواضيع الحساسة.
(رئيس الوزراء التركي) رجب طيب إردوغان أعلن في مايو العام الماضي عن استعداد بلاده للوساطة في النزاع الفلسطيني "الإسرائيلي" الذي يعد من أكثر المسائل تعقيداً في منطقة الشرق الأوسط، حزب العدالة والتنمية طرح أكثر من مرة اقتراح "الوساطة"، وآخر محاولة كانت خلال زيارته للقدس المحتلة في الثالث من مايو عام 2005م، بينما عرض في قمة تونس بتاريخ 28 مارس الوساطة في الأزمة السورية اللبنانية التي تفجرت بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
لا رد لحد الآن:
تركيا لم تتلق رداً لحد الآن على اقتراحها من الدول التي لها شأن بالنزاع، وبالنظر إلى تصريحات رجب طيب إردوغان نستشعر بأن أنقرة ستواصل اقتراحها بالوساطة في عام 2006 أيضاً خشية من أن تتطور الأزمة السورية لتصل إلى حد وقوع عملية عسكرية كما حصل في العراق، ومن هذا المنطلق فإن إردوغان جدد مقترح الوساطة على ضيوفه الأمريكيين الذين زاروا أنقرة مؤخراً، ومما يعزز احتمال تولي تركيا الوساطة أيضاً في هذه المسألة هي تصريحات إردوغان الأخيرة من أن تركيا تلعب دوراً مهماً في مشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا.
ماذا يحمل العام الجديد في جعبته:
إذا صح التعبير فإن الأجواء ستسخن في الشرق الأوسط عام 2006، وتركيا بدورها ستجد نفسها وسط هذه الأجواء المفعمة بالتوتر، ورغم الفاتورة الباهظة التي دفعتها الولايات المتحدة الأمريكية بسبب احتلالها للعراق؛ إلا أنها لا زالت باقية على سياساتها وحساباتها في الشرق الأوسط، وتحاول بكل قوتها وضع يدها والسيطرة على كل مصادر الطاقة في منطقتنا، ولتحقيق هذا الغاية فإنها تصوب أسهمها نحو سوريا وإيران اللذين يعتبران من أهم أولوياتها.
الولايات المتحدة لا ترضى بأي شكل وتحت أي شروط بامتلاك إيران للأسلحة النووية، ولكي تمنع هذا التطور فإنها لن تتوانى عن ضرب المفاعل الإيرانية، بل وأكثر من ذلك فإنها تعتبر أن تَوجُّه إيران لبيع نفطها الخام بعملة اليورو بدلاً من الدولار هو حملة ضدها تستحق العقاب، كما نذكر بأن توجه صدام حسين لاستخدام اليورو بدلاً من الدولار في تجارة النفط كان له تأثير كبير في توقيت الهجوم الأمريكي على العراق.
وأيضاً بنفس الشكل فإن الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لها ترى بأنها تملك مبررات مهمة لاستهداف سوريا، فقبل أي شيء هي تريد السيطرة المطلقة على سوريا من أجل كسر قوة المقاومة في العراق، وهذه السيطرة كما أنها سوف تريح كفة "إسرائيل" في المنطقة، فإنها أيضاً ستؤمن المشروعية لقيام دولة كردية في شمال العراق.
كل المؤشرات تؤكد بأن الولايات المتحدة ستستخدم "إسرائيل" في هجوم محتمل على المفاعلات النووية الإيرانية، وفي هذا الإطار يلفت المحللون النظر إلى تصريحات (مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي) ستيفن هادلي الذي قال: "يجب أن نبقى في العراق من أجل حماية أمن "إسرائيل" وبأن نوسع عملياتنا لتشمل إيران وسوريا".
تطورات ما بعد الحرب على العراق تظهر بوضوح أن طموح القوة العسكرية الأمريكية لا يحده السقف العراقي، لكن مع ذلك فإن الضغوط تتزايد عليها للانسحاب من العراق، ووسط هذه الشروط يبدو بأنه من الصعب أن تشن الولايات المتحدة لوحدها حرباً على دول أخرى في المنطقة، لهذا السبب فإن السيناريو الأساسي عندها لعام 2006 هي الاستعانة بـ"إسرائيل" لضرب المفاعل النووية الإيرانية، والسيطرة على سوريا، بالإضافة إلى منح تركيا دوراً ثقيلاً.
الصحفي في جريدة "يني شفق" المعروف بقربه من حزب العدالة والتنمية إبراهيم كارا غول كتب في مقالته الأخيرة: أن الولايات المتحدة اقترحت على تركيا القضاء على المنظمة الكردستانية بشمال العراق، والمساهمة في تنشيط العلاقات التركية مع مسعود البارزاني، مقابل أن تفتح الممر الجوي أمام هجوم أمريكي "إسرائيلي" محتمل على إيران، وجاء في الخبر أيضاً أن المساومات حول هذا الموضوع جرت أثناء زيارة (قائد القوات الجوية) الجنرال فاروق جومرت لـ"إسرائيل"، وخلال زيارة (رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي) دان هالوتز إلى أنقرة، وفي اللقاء الذي جميع بين المخابرات التركية والأمريكية في أنقرة، والمسئولين العسكريين الأتراك - الأمريكيين - "الإسرائيليين" - الأكراد في شمال العراق.(18/60)
(وزير الخارجية) عبد الله غول نفى أي مساومات تركية أمريكية حول هذا الموضوع مقابل تأكيده على التقدم الكبير الذي طرأ في العلاقات التركية السورية، وهذه التصريحات إنما هي مؤشر على أن تركيا تحاول قدر الإمكان التنصل من الدور الذي فصلته لها أمريكا، لكن مع ذلك يبدو أنه من الصعب جداً عليها أن تتفادى لعب هذا الدور وسط الضغوطات الكبيرة الممارسة عليها.
ولنفرض أن أمريكا لم تطلب من تركيا أي شيء لحد الآن، لكن ماذا سيحصل في حال طلبت؟ وهل ستتمكن تركيا من الرفض؟ على سبيل المثال ماذا كان رد تركيا على الطلب "الإسرائيلي" بتدريب مغاوير الجبال في جنوب شرق البلاد؟ هل رفضت هذا الطلب من منطلق أن إيران قد تعده تمهيداً لضربة عسكرية ضدها مما قد يوتر العلاقات بين البلدين؟
من الواضح أن حكومة حزب العدالة والتنمية ستجد نفسها في عام 2006م أمام اختبار صعب في الشرق الأوسط.
http://www.almoslim.net:المصدر
================(18/61)
(18/62)
ضجيج الإصلاح .. جردة حساب أولية
ياسر الزعاترة
تابعنا خلال الشهور الماضية جدلاً لم يتوقف حول الإصلاح الداخلي في الدول العربية، بل وحراكاً سياسياً واضحاً في بعض الدول، وكان جدل الداخل والخارج في معادلة الإصلاح حاضراً بقوة، فضلاً عن مبادرة البعض إلى التبشير بالزمن الأمريكي الجديد، وحيث اكتشفت الولايات المتحدة أن الأنظمة القائمة لم تعد تضمن مصالحها في المنطقة وأن الإصلاح هو الأفضل لحماية تلك المصالح، وهو ما عبرت عنه كوندوليزا رايس بقولها في القاهرة «على مدى ستين عاماً سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية ولم ننجز أياً منهما، والآن نتبنى نهجاً مختلفاً، إننا ندعم التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب».
من حيثيات الجدل المذكور ما يتعلق بالحوار الإسلامي الأوروبي والأمريكي الأوروبي، حيث انشغلت بعض القوى الإسلامية بآفاق ذلك الحوار وفرصه ومحاذيره، وانقسم رموزها بين مؤيد ومعارض ومتحمس، فيما لم تخل الساحة ممن يرون الفرصة سانحة لتغيير الأوضاع القائمة لأن واشنطن عازمة على ذلك!!
كتبنا مراراً في هذا الموضوع، وقلنا إن واشنطن لن تستبدل أنظمة مطواعة بآخرين لهم أجندتهم المخالفة لأجندتها، ولاسيما في زمن المحافظين الجدد، حيث غدت تلك الأجندة محكومة للهواجس الإسرائيلية، ولكنها تستخدم قصة الحوار وضغوط الإصلاح في سياق المزيد من ابتزاز الأنظمة القائمة.
لقد أدركنا منذ البداية أن مشروع الشرق الأوسط الكبير ما هو إلا شكل من أشكال الاستجابة الأمريكية للمطالب الإسرائيلية بعد أن عجز مسار أوسلو عن تحقيق الأهداف التي بنيت عليه، والنتيجة أن الأوضاع القائمة في الدول العربية، على هزالها القائم لن تكون قادرة على تمرير اللعبة، ولذلك كان لا بد من إعادة إنتاجها على أسس جديدة، فكان احتلال العراق الذي أريد له أن يكون المحطة الأولى في مشروع الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.
الآن وبعد شهور عديدة على اندلاع ضجيج الإصلاح وأسئلة الداخل والخارج في سياقه يمكننا إجراء جردة حساب أولية لما جرى كي ندرك أي الرؤيتين كانت سليمة، وأيهما كانت خاطئة، مع أنه من المبكر الحديث عن نتيجة نهائية.
لقد تابعنا حراكاً سياسياً في عدد من الدول العربية لم يؤد إلى نتيجة إيجابية تذكر، اللهم سوى المزيد من التراجع الرسمي أمام مطالب البرنامج الإسرائيلي الأمريكي في المنطقة، ولعل نموذج موريتانيا والهجمة الواسعة على الحريات قبل الإطاحة بولد الطايع، وكذلك نموذج تونس يشكلان دليلاً على نمط التعاطي الجديد مع اللعبة.
لا خلاف على أن الحالتين الفلسطينية والعراقية تعدان من أهم النماذج الجديدة للإصلاح الأمريكي، فهنا ثمة ديمقراطية وتعددية من نوع خاص يراد لها أن تحمل المشروع الأمريكي الإسرائيلي، فالإصلاح الفلسطيني هو الوجه الآخر لمشروع التهدئة الذي أسدل الستار على انتفاضة الأقصى التي شكلت أسوأ مرحلة بالنسبة للاحتلال الصهيوني، وهو، إلى ذلك، عنوان للقبول بمسار سياسي لا يملك أدنى أفق مشرف. أما مسائل الإصلاح أو الديمقراطية والتعددية في الحالة العراقية فهي عنوان للقبول بوجود الاحتلال وهيمنته على المحاور الحيوية في بنيان الدولة، ومن ثم وضع هذا البلد الذي يملك واحدة من أهم مناطق النفط في العالم تحت الوصاية الأمريكية، وإذا لم يكن فهي الشرذمة والتفتيت كسيناريو قابل للتصدير إلى بقية دول المنطقة. ويكفي أن يؤخذ قرار التمديد لقوات الاحتلال بعيداً عن الجمعية الوطنية كي ندرك حقيقة اللعبة. والنتيجة أننا في الحالتين أمام ديمقراطية مبرمجة لا يمكن أن يسمح لها بتحقيق عكس المطلوب منها، وإذا وقع المحظور فسيكون الموقف مختلفاً إلى حد كبير، وإلا فهل يتوقع عاقل أن يسمح لحماس بالفوز على حركة فتح، أو أن يجري التسامح مع حلفاء إيران في حال مالوا إلى الاستئثار بالكعكة لحسابهم ومن ثم إدارة الظهر لواشنطن ومطالبتها بترحيل قواتها من البلاد؟!
في لبنان فقط جرى الانحياز للحريات، وبالطبع في مواجهة سوريا، وليس انتصاراً للتعددية الحقيقية، ولو خرج من بين اللبنانيين من يطالب بديمقراطية صوت واحد لرجل واحد لكان الوضع مختلفاً، وبالطبع إدراكاً لما يعنيه ذلك من هيمنة المسلمين الذين يشكلون 59% من عدد الناخبين وأكثر من ذلك من مجموع السكان بحسب الإحصاءات الرسمية.
أما في الدول الأخرى فليس ثمة تقدم يذكر، بل إن السياق العام ما زال يؤكد مقولة الابتزاز، وحيث يقايض التراجع السياسي داخلياً وخارجياً بمستوى الضغوط المتعلقة بالإصلاح.(18/63)
أدلة ذلك كثيرة، من بينها السعودية التي اعتبرت فيها الانتخابات البلدية التي يعين نصف أعضاء مجالسها نموذجاً معقولاً للتقدم نحو الإصلاح بعد مواقف سياسية سبقت تنصيب الملك عبد الله، ثم جرى تغيير الموقف مرة أخرى، ربما بسبب مواقف ذات صلة بالملف الفلسطيني، فيما يتكرر الموقف على نحو أوضح في نماذج أخرى تتبنى الكثير من عناصر البناء الديمقراطي من دون تغيير يذكر في حقيقة الوضع السياسي، وإن توفر قدر من الانفتاح الإعلامي كما هو الحال في اليمن والمغرب والأردن والبحرين.
ما يجري في مصر وسوريا دليل على لعبة الابتزاز، ففي الأولى اعتبر تغيير المادة 76 من الدستور تقدماً، فيما جرى غض النظر عن اعتقال المعارضين وضربهم وإهانتهم، ثم توّج ذلك كله بتمرير انتخاب الرئيس مبارك من دون إشكالات تذكر، وبالطبع بعد أن قدمت التنازلات السياسية في الملف الفلسطيني والعراقي، فيما يصعب التكهن بأشكال التنازلات الأخرى، وفي سوريا يتم التسامح مع ملف الإصلاح الداخلي بسبب مخاوف الإسلاميين، فيما يجري تركيز لعبة الابتزاز على قضايا أخرى مثل دعم الإرهاب في العراق وفلسطين.
نموذج ليبيا حيوي في هذا السياق، وهو معروف للجميع، وكذلك الحال في السودان والجزائر، فيما لا تخضع دول عربية أخرى لا تفكر في تعددية حقيقية قريبة لأية ضغوط لأن مواقفها معقولة بحسب التصنيف الأمريكي.
تلك هي حكاية الإصلاح في العالم العربي، ولا نضيف الإسلامي مذكرين بديمقراطية مشرف العسكرية، أو بابتزاز أردوغان بسطوة العسكر، فهل يأتي بعد ذلك من يراهن على الأمريكان، أم أن الأصل هو التعويل على الدور الشعبي الذي تقوده القوى الحية من أجل انتزاع الشعوب لحقها، ليس في المشاركة الحقيقية في القرار، بل أيضاً وربما الأهم، في التخلص من التبعية للخارج، وهي تبعية تبتز الأنظمة وتقهر الشعوب في آن؟.
http://alshaab.o r g المصدر:
==================(18/64)
(18/65)
ماذا حل بمشروع الشرق الأوسط الكبير ؟
نصر شمالي
يتلخص الهم الأميركي الرئيس في منطقتنا اليوم بتحقيق انتصار ميداني ضدّ المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وأيضاً في أفغانستان، والانتصار المؤمل لا يطمع في اجتثاث هذه المقاومة من جذورها، بل في مجرّد الإخلال بالتوازن الحربي على الساحة العراقية، الذي شكّل انتصاراً هائلاً للمقاومة عبّر عن نفسه بتعطيل البرامج الأميركية الحقيقية سواء في العراق أم في المنطقة عموماً، فبفضل فعالية المقاومة العراقية توقف الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، مؤقتاً بالطبع، وتركّز الجهد على تهدئة الجبهة الفلسطينية وإشغالها بالانسحاب من غزة، وتجريد المقاومة اللبنانية من سلاحها بحجة عدم ضرورته وتناقضه مع السيادة، والاستماتة في تشكيل قوات عسكرية وأمنية عراقية قادرة على حمل أعباء مواجهة المقاومة نيابة عن القوات الأميركية، وإنه لمفهوم الترابط بين جبهات المقاومة العربية الثلاث، مضافاً إليها الجبهة الأفغانية، سواء من وجهة نظر المقاومة أم من وجهة نظر المحتلين الأميركيين والإسرائيليين.
المشروع وعقبة المقاومة الكأداء!
لقد وقع مشروع الشرق الأوسط الكبير في مأزق كبير، فهو عرضة لعصف الرياح إن لم يكن عرضة للانهيار، ولكي ندرك خطورة وأهمية ما استجّد على الساحة العربية، خاصة العراقية، تتوجب العودة إلى عام 2003، وإلى الخطاب الشهير للرئيس بوش، حيث شرح مشروعه داعياً إلى إدخال إصلاحات جذرية في أوضاع الدول العربية تشمل قطاع التعليم الذي يجب أن يخلو من كل ما يحرّض على المقاومة ويدعو إلى التمسك بالعروبة والإسلام والوحدة! وتشمل قطاع الاقتصاد الذي تتوجب خصخصته ودمجه في اقتصاد السوق الدولية! وتشمل المجتمع المدني الذي ينبغي أن يرتبط بالهيئات الدولية الفرانكفونية والأنكلوسكسونية وأن ينشغل بشؤونه اليومية الراهنة، من دون الالتفات إلى أية أهداف أخرى تتعلق بالتحرير والنهضة القومية والوحدة العربية! وتشمل إطلاق حرية المرأة على غرار المرأة التي نشاهدها في المسلسلات التلفزيونية الأميركية والمتأمركة! وتشمل تنظيم انتخابات برلمانية شكلية سطحية، بلا عمق ولا مضمون! وتشمل إطلاق حرية الرأي والصحافة..الخ، حيث تقتصر مثل هذه الحرية على مجرّد الكلام والكلام! ولقد كان الأميركيون يتوقعون الانطلاق بالراحة في مشروعهم الكبير الذي سوف يفضي قطعاً إلى تفريغ الأمة والمنطقة من كل فعالية إنسانية تحررية، ويحوّلهما إلى شذرات وشظايا، وإلى فراغ يملؤه المرتزقة الصهاينة من اليهود وغير اليهود لخدمة المصالح الأميركية، غير أن العقبة العراقية الكأداء المفاجئة عطلت هذا التوجه بمجمله، وراحت الإدارة الأميركية تتململ موجهة اللوم إلى سورية، ومحملة مسؤولية تلكؤ برنامجها لمن وصفتهم بالأجانب الذين تسمح لهم سورية بعبور الحدود إلى ميادين القتال!
لغة منمّقة، لكنها مفضوحة!
بعد تجربة البلقان الناجحة، وبعد الاحتلال السهل لأفغانستان، كان الأميركيون يعتقدون أن الطرق جميعها أصبحت ممهدّة لإقامة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وما كان ليخطر في بالهم أن العراق، بعد إثني عشر عاماً من الحصار المحكم المدمّر، سوف يبدي أية مقاومة تستحق الذكر! وكانت صحيفة واشنطن بوست قد كشفت مبكراً، في افتتاحيتها بتاريخ 30 /12/2002، أن إدارة بوش (وهي تقترب من لحظة احتلال العراق) تبالغ في استخدام لغة منمقة عن نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، حيث القادة الأميركيون يتبارون في إلقاء الخطب بهذا الصدد، فتحدث كولن باول وزير الخارجية عن مبادرة أميركية لتطبيق الديمقراطية في البلاد العربية، وحملت تلك المبادرة عنوان: " مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية"، وجاءت مبادرة بوش تكراراً لها وإعلاناً عن بدء تنفيذها، رافضة التدرج في الإصلاحات ومنتقدة العقود الستة الماضية التي لم يتحقق خلالها أي تقدّم ملحوظ، وداعية إلى التنفيذ والتغيير بسرعة وفوراً، غير آبهة لتحذيرات واعتراضات الحلفاء الغربيين! لقد كانت الإدارة الأميركية مطمئنة تماماً إلى خلوّ طريق مشروعها من أية عقبة جدّية، إلى الحدّ الذي جعلها تقرّر الانفراد بعائدات المشروع الخرافية واستبعاد شركائها وحلفائها!
هاس يذيع الأهداف الحقيقية!(18/66)
بالإضافة إلى الرئيس ووزير خارجيته، راح مدير المخابرات المركزية الأميركية جورج تينت يتحدث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير بثقة مطلقة! وأعلن مدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية ريتشارد هاس أن الدور الأميركي يتلخص في تضييق الفجوة الديمقراطية بين الدول العربية وبقية دول العالم! لقد شرح ريتشارد هاس: " إن الإدارات الأميركية السابقة أخطأت عندما لم تعط نشر الديمقراطية في الدول العربية الأولوية القصوى، وهي البلاد التي تعتمد الولايات المتحدة عليها في ميدان النفط، والقواعد العسكرية، والتعاون مع الإسرائيليين في تحقيق عملية السلام"! وهكذا تتلخص قضية الديمقراطية، حسب كلام هاس، في السيطرة الأميركية على النفط العربي، وفي إقامة القواعد العسكرية الممولة عربياً على الأرض العربية لضبط العالم بمجمله، وفي التعاون مع الكيان الصهيوني كإدارة إقليمية أولى للشرق الأوسط الكبير!
العالم يتساءل، وبغداد تجيب!
لقد أبدى المعلقون الدوليون، في جميع أنحاء العالم، دهشتهم وشكوكهم في مرحلة التمهيد لاحتلال العراق، بينما هم يستمعون إلى خطابات أعضاء الإدارة الأميركية عن مشروع الشرق الأوسط الديمقراطي الكبير، وراحوا يتساءلون: كيف يمكن إقناع "شعوب الشرق الأوسط" بجدّية واشنطن، عندما تتحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما العرب والمسلمون يرون شعباً بأكمله، هو الشعب الفلسطيني، محروماً من حرياته بل من أبسط حقوقه؟ وكيف يمكن لواشنطن إقناع أحد بجدّية مبادرتها وسياستها قائمة على المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين، فهي تطالب بمنح الحرية للإسلام السياسي في بلد، وتطالب بمحاربة الإسلام باعتباره إرهاباً في بلد آخر؟ أليست هي من يسمي هذا التيار إرهابياً في مكان، وتسميه إصلاحياً تحررياً في مكان آخر؟ أليست هي من احتضن الفصائل الأفغانية الإسلامية التي اعتبرتها، في ما بعد، من ألدّ أعدائها؟ وهل ستمارس واشنطن ضغوطاً متساوية على أصدقائها وأعدائها، وهي التي تتعامل مع دول المنطقة العربية بطريقتين: القفاز المخملي لبعضها والقبضة الحديدية لبعضها الآخر؟ وإذا انصاعت دول "الشرق الأوسط" للتهديد، وأطلقت العنان للديمقراطية، ثم أسفرت الانتخابات عن نجاح قوى سياسية معارضة للولايات المتحدة، فهل ستقبل واشنطن بما أنتجته الديمقراطية، أم ستطالب بديمقراطية ذات مواصفات خاصة تتفق مع مصالحها؟ ثم ما هي حقيقة الأهداف الأميركية، وهل يمكن تبديد الشكوك المحيطة بأهداف إدارة بوش العسكرية والنفطية الاستعمارية، وإلى أي مدى يمكن أن تذهب، وهل يملك الشعب الأميركي القدرة على الصمود طويلاً في حال التعثّر؟
لقد طرحت هذه التساؤلات مسبقاً، في جميع أنحاء العالم، سواء في أجهزة الإعلام أم في اجتماعات الحكومات والبرلمانات أم في المظاهرات العالمية الحاشدة، وكان على الجميع أن ينتظروا لبضعة أيام فقط، بعد البدء باحتلال العراق، كي يسمعوا الجواب والقول الفصل من بغداد!
http://al-shaab.o r g المصدر:
==================(18/67)
(18/68)
هل تراجع الأمريكيون عن مشروع الشرق الأوسط الكبير ؟
د. عبد الله بن عبد العزيز الزايدي
في خطوة تشير بالتراجع أمام الأنظمة العتيدة يبدو فتور الأمريكان عن مشروعهم (الشرق الوسط الكبير) واضحًا جليًا خصوصًا في جانب الإصلاح السياسي؛ إذ لم تبدِ الإدارة الأمريكية أي استنكار حقيقي للإعلانات الإصلاحية الصورية من قبل بعض الرؤساء العرب الذين قاموا بما سمّوه إصلاحات، وهي عبارة عن محاولات صورية غير حقيقية في سبيل الإصلاح السياسي.
وهذا السكوت الذي فُهم منه التأييد، يدفع للتساؤل عن السبب الذي حمل الأمريكان على طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بشّروا به العالم، وجعلوه من أولويات أجندة القمم السياسية، وما الذي حملهم على التراجع وإعلان الاستسلام للأنظمة التي كانوا يطالبونها بالإصلاح. وهل كانت فكرة المشروع مجرّد نزوة طارئة ورأياً لم يُدرس ولم ينضج، وإنما كان ردّ فعل على أحداث سبتمبر تبين أنها ردة فعل غير مدروسة، أم أن الأنظمة المعنية في المنطقة استطاعت التأثير على عتاة السياسة الأمريكية والتغلب على قناعاتهم وإقناعهم بخطئهم في محاولة فرض الإصلاح والحرية؟!
أم أن غزو العراق وأفغانستان واستمرار الاحتلال والمقاومة أعطى الإدارة الأمريكية نوعًا من الاطمئنان على الأمن القومي الأمريكي ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وأنها تستطيع فرض ما تريد بالقوة العسكرية، وبالتالي فلا حاجة لهذا المشروع؟
إذا نظرنا لمسوغات إعلان المشروع فهي كما جاء في مقدمته:
"وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. إن الإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في "الشرق الأوسط الكبير" مروّعة.
وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق، ويمكن للشرق الأوسط الكبير أن يستمر على المسار ذاته، ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية، وسيمثل ذلك تهديدًا مباشرًا لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني".
وهذا يؤكّد إدراك الولايات المتحدة خطورة سياساتها السابقة في دعم الأنظمة القائمة على حرمان شعوبها من الحقوق السياسية، وإن هذه السياسة أدّت إلى سخط شعبي عام على الأنظمة والدول الكبرى الداعمة لها خصوصًا الولايات المتحدة.
وجاء هذا المشروع معبرًا عن رغبة في تلافي أسباب الانفجار في تلك المنطقة والانقلاب على مصالح الدول الكبرى.
غير أن الشيء غير المفهوم هو أن الدولة المبتدئة بالمشروع والمتحمسة له ما لبثت أن تراخت عن أهم بنوده، وأكبر أسبابه، وهو الإصلاح السياسي لتلافي الحرمان الذي تشعر به شعوب المنطقة.
ويؤكد هذا التراخي تأييد الولايات المتحدة لقانون الانتخاب الرئاسي في مصر، وسكوتها عن بقاء الرئيس العسكري الباكستاني برويز مشرف الذي انقلب على الديموقراطية.
إلى حد الحرب على قبائل بلاده إرضاء للإدارة الأمريكية.
إن المتأمل في أحوال المنطقة يجد أنه من الحكمة ومن المصلحة المشتركة لشعوب المنطقة، ولغيرهم ممن لهم مصالح مهمة فيها، أن تكون الأوضاع مستقرة غير مهددة بالثورات والقلاقل، وإن استمرار شعور الشعوب بالحرمان من حقوقها سيؤدي إلى مزيد من القلاقل والفتن، وإن الإصلاح السياسي سبيل مهم لاستقرار المنطقة، ولذلك فإن التراجع عن محاولات الإصلاح يُعدّ تأييدًا لاستمرار أوضاعِ منطقةٍٍ مهددةٍٍ غيرِ مستقرة. وبالتالي استمرار ما تخوّف منه واضعو المشروع على مصالحهم ومصالح العالم.
وأضاف الأمريكيون خطأ آخر إضافة إلى خطئهم في دعم استمرار الوضع السياسي المتأزم، وهو مقايضة الأنظمة بأن تقوم -مقابل السكوت عنها- بتغييرات تشريعية وثقافية واجتماعية ودينية تخدم الولايات المتحدة في سعيها للتأثير الثقافي والاجتماعي، وتضعف الهوية الإسلامية والعربية تتمثل في فرض تغييرات على أوضاع الأسرة المسلمة، ووضع المرأة، والتشريعات والأنظمة النابعة من الشريعة الإسلامية.
وقد سايرت بعض تلك الأنظمة المطالب الأمريكية وتحمّست لفرضها على نحو يؤجج مزيداً من الكره لتلك الأنظمة وللولايات المتحدة التي تفرض عليها هذه التغييرات المرفوضة شعبيًا، مقابل تجاهل التغييرات الإيجابية المطلوبة من تلك الشعوب.
20/4/1426
28/05/2005
http://www.islamtoday.net المصدر:
=================(18/69)
(18/70)
أمريكا وديمقراطية التقسيم
ماجد الحربي
29/3/1426هـ
أمريكا بلد الحريات، أمريكا بلد الديمقراطية، أمريكا نصيرة الشعوب المضطهدة من الحكام الطغاة، هذه الشعارات وغيرها لم يفتأ سادة البيت الأبيض يرددونها حتى ظن بعض السذج أن أمريكا هي التي ستملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، فأدعياء الليبرالية يؤممون وجوههم شطر أمريكا لتحقيق شهواتهم، وأصحاب الشبهات يعتقدون أن العدل والمساواة ما هي إلا ما تعتقده أمريكا وتصدّق عليه لجان حقوق الإنسان المصنوعة بوحيها، والحكام المسرفين بحقوق شعوبهم يتهافتون على البيت الأبيض لطلب الصفح والمغفرة من العم سام، فصارت أمريكا عند هؤلاء هي الآلهة التي تعبد من دون الله، ومن يراها خلاف ذلك يوصم بصفة الإرهاب التي لاشك أنها ستنال مباركة الآلهة، فينطبق عليهم قول الشاعر:
وإن كان فيهم ناصحاً وموجّهاً يقولون عنه مائقاً ومخرّباً
أما أمريكا فلا يعنيها من هذا الأمر شيئاً، وما هذه الشعارات إلا كلام حق أريد به باطل، فسيّد البيت الأبيض دخل العراق وعينه على 25% من نفط العالم الموجود بالخليج العربي، واحتياطياً يكفي لما يربو على مئة سنة قادمة، أما قلبه فمثخن ببقاء دولة يهود، وإبعاد الأخطار المهددة لوجودها والمتمثلة بالحركات الجهادية، أما ما عدا ذلك فهو كلام للاستهلاك الدولي، ولا مانع أن يقال عن سجن عشرة آلاف مواطن ومواطنة في أبي غريب وتعذيبهم أنه عمل إنساني أريد به رفع الظلم عن الشعب العراقي بتخليصه من هؤلاء الإرهابيين.
أما الديمقراطية التي يريدها صنّاع القرار في البيت الأبيض للعراق فهي تعني فرض أشخاص لحكم العراق ممن يدينون بالولاء والطاعة لأمريكا التي انتشلتهم من أوكار الإجرام، وبارات الخمور، وما ذلك إلا ليقينهم أن العبد لا يمكن أن يخالف أمر سيّده، وبالتالي ستكون لهم الحرية الكاملة - وليس للشعب العراقي - بنهب خيرات البلد، وتحجيم دوره الإيجابي بالمنطقة، ولم يتوقعوا أنهم سيواجهون بمقاومة بحجم المقاومة التي تواجههم حالياً بأرض الرافدين، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي سفن الأمريكان، فكان رامسفيلد يقول في بداية غزو العراق: إن العراقيين سيستقبلون جنودهم بالورود، ولكن الأمر بخلاف ما توقعه هذا الصيلبي الحاقد.
فالعراقيون استقبلوا جنوده بالعمليات الاستشهادية، والسيارات المفخخة، مما جعلهم يفرون من المعركة كالفئران، ويخرجون من أرض العراق هرباً متخفين بملابس النساء العراقيات، مما أرغم رامسفيلد ومايرز على الاعتراف باستحالة القضاء على المقاومة العراقية، أعقب ذلك تقرير المجلس الأمريكي للأبحاث المستقلة في العلاقات الخارجية الذي يقترح تقسيم العراق إلى ست ولايات فيدرالية على أساس جغرافي.
ومن عنده اطلاع على سياسة الإدارة الأمريكية يعلم أن قراراتها تأتي على شكل اقتراحات، فما يعلن عنه أنه اقتراح هو في واقع الحال قرار استراتيجي قد تمت المصادقة عليه، ولم تأت تصريحات جلال الطلباني عند ما تولى منصبه من فراغ، فقد قال: إنه لا يمكن القضاء على المقاومة بواسطة الجيش العراقي، فلابد من تشكيل مليشيات من البشمرجة والميليشيات الشيعية والسنية لهذا الغرض، فهذا التصريح مرتبط بقرار التقسيم.
فالديمقراطية الأمريكية بالعراق تقتضي بعد فشل آلتها العسكرية تقسيم العراق إلى ولايات متناحرة كل ولاية تدافع عن كيانها بواسطة الميليشيات الخاصة بها، مما يخفف الضغط عن الجيش المحتل الذي قد يلجأ للانحياز إلى قواعد معينة بالمنطقة، ويفرض سيطرته بواسطة الحكومة المركزية العميلة في بغداد، والتي ستستنفر وسائل الدعاية الإعلامية لديها لإقناع الناس بأنها حكومة وطنية، عملت على إخراج المحتل، وأن ما يحصل ما هو إلا تناحر بين الميليشيات المحلية، بإيحاء ودعم من جهات خارجية لا تريد للعراق والعراقيين الخير.
وهذا يذكرنا بالمؤتمر الرباعي سيئ الذكر الذي عقد على إثر هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، حيث قرر المتآمرون (أمريكا - الاتحاد السوفيتي - الحكومة العميلة في أفغانستان وباكستان )، سحب الجيش السوفيتي المهزوم من أفغانستان، ودعم الحكومة العميلة بهذا البلد بالأسلحة والمال لمواجهة المجاهدين، وتجنيد العملاء لإيهام المواطنين أن الجيوش المحتلة انسحبت، وأن ما يجري ليس بجهاد بل هو صراع على السلطة، حيث استمر الصراع في أفغانستان حتى قيض الله لها حكومة طالبان الإسلامية التي قضت على الصراعات الداخلية، ووحدت البلاد تحت ظل راية التوحيد.
ولسنا هنا بصدد الاسترسال بالأحداث التي أعقبت حكم طالبان، فما أردت الوصول إليه هو تأكيد أن سياسة الاحتلال واحدة وإن اختلفت وسيلة التنفيذ، فما طبق في أفغانستان بعد اندحار الاتحاد السوفيتي يراد تطبيقه بالعراق بعد هزيمة أمريكا، مع فارق أن الجيش السوفيتي خرج من كل الأراضي الأفغانية، أما الجيش الأمريكي فلا نتوقع خروجه كلياً من المنطقة - في الوقت الحالي على الأقل - خصوصاً أنه يملك قواعد آمنة بالمنطقة يمكن الانحياز إليها، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.(18/71)
المصدر : http://www.almoslim.net/figh_wagi3/show_news_comment_main.cfm?id=320
==============(18/72)
(18/73)
د.أسامة قاضي:آلية الإصلاح ضرورة في الوطن العربي
حوار / طه عبد الرحمن
26/1/1426 هـ الموافق له 07/03/2005 م
في عام 1996 أقام الدكتور أسامة قاضي منتدى الفكر والثقافة الإسلامية في ولاية ميتشجن بالولايات المتحدة الأمريكية ليكون منتدى مستقلاً يحمل تياراً معتدلاًً لنشر الثقافة الإسلامية في وسط المجتمع الأمريكي.
وفي حديثه لـ موقع (الإسلام اليوم) خلال زيارته للقاهرة تعرض د. قاضي لأزمة الواقع العربي، والبحث عن آليات جادّة للإصلاح في الوطن العربي، والعمل على إزالة أزمة الثقة بين الحكام، وعاب د. أسامة قاضي على المثقفين الإسلاميين الانعزال عن واقعهم، داعياً إلى ضرورة إعادة صياغة الثقافة الإسلامية وفق الثوابت الإسلامية، إضافة إلى حديثه عن جوانب أخرى ذات الصلة، جاءت في الحديث التالي:
نظراً لاهتمام منتدى الفكر والثقافة بولاية ميتشجن الأمريكية بالقضايا الثقافية، هل ترى أن الواقع الثقافي العربي يعاني اليوم من أزمة؟
في الحقيقة أرى أنه يعاني من أزمة إدارة، لأنه لا ينقصنا الرجال والنساء الواعون بثقافتهم، ولكن المشكلة في تشتّتهم لعدم وجود إدارة تحكمهم بالشكل الصحيح، وبسبب الفوضى القائمة نجد ظهور أنصاف مثقفين، وأنصاف واعين، يفتون بغير علم، ويعلمون الناس بغير علم، فضلاًً عن ظهور أنصاف غربيين لدرجة تجعلنا نصل إلى مرحلة من انعدام الانسجام بين المواطن والسياسة، فيصبح لدينا انفصام في الشخصية الحضارية.
مشاكل ثقافية:
ولماذا يتم تجنيب التعاطي مع الثقافة الإسلامية في كثير من المواقع الثقافية الرسمية بعالمنا العربي؟
أعتقد أن هناك عدة مشاكل: إحداها أننا لم نستطع أن نصل إلى صُناع القرار لنؤكد أهمية هذه الثقافة، وأنها ستنفعه ولن تضره، من هنا يوجد فهم خاطيء في عرض وتقديم الثقافة الإسلامية من الطرفين، لذلك تبدو فجوة كبيرة بين صُنّاع القرار والشعب، فضلاً عن خطورة البطانة التي تحيط بصناعة القرار في العالم العربي.
وأفهم أنه كلما تمّ الانفصال بين الأمة وثقافتها كان هناك خطر يهدّد الأمة، لذلك لا ينبغي أن تكون هناك أزمة ثقة بين قمة الهرم وقاعدته، ولو استطعنا أن نقنع صُنّاع القرار بأهمية القاعدة الشعبية فإن الأمة ستستعيد هيبتها.
ولا أدري ما المانع في العزوف عن تطبيق منهج الثقافة الإسلامية في مؤسساتنا الرسمية العربية، وأتصور أنه يمكن إعادة الثقة من خلال صُنّاع القرار، لأن بيديهم إمكانية «فتح الصنبور أو غلقه» في آن واحد، لذلك فالخطوة الأولى في وطننا العربي تتمثل - كحل عملي - في تفعيل السلطة الرابعة المتمثلة في الصحافة، ومنح الصحفيين حصانة، وعدم توقيف الصحفيين، ومحاولة إيجاد آلية الإصلاح، لتكون الصحف جهاز إنذار لصانع القرار.
انعزاليّة عن الواقع:
هناك اتهام للمثقفين الإسلاميين بأنهم منعزلون عن واقعهم، وأنهم يعيشون في واقع غير واقعهم الحالي، فكيف تقرأ صحة أو خطأ هذا الاتهام؟
أتفق مع هذا الرأي تماماً، لذلك فلابد أن يشمل الإصلاح الثقافة الإسلامية نفسها، فنحن لدينا كتلة هائلة من الفوضى في الفتاوى والتضارب فيها، وليّ عنق النص، وأرى أن أمثال هؤلاء يطمحون إلى شعبية، والإنسان الذي يطمح إلى إحقاق حق لا يخشى أحداً، وهكذا ينبغي أن يكون المثقف، ونحن بحاجة ماسة إلى إعادة صياغة ثقافتنا الدينية بل والسياسية والاقتصادية، وإعادة الأمور إلى نصابها، وهذا يحتاج إلى علم وجرأة، وهذه مهمة المثقفين الواعين.
وفي عالمنا الإسلامي أرى أن هناك تيارين: أحدهما ينفي الآخر، والثاني ينفي الذات الحضارية ( الذين يطالبون بالحداثة، وفتح صفحة جديدة مع الحياة)، وما بين هذين التيارين نحن بحاجة إلى تيار وسطي لإدارة الحوار، وللأسف هذا التيار الوسطي لا يستطيع أن يجابه كل هذه التيارات ربما لإقصائه مرة، وعدم تمكّنه مرة أخرى.
وأنتم تقيمون في الولايات المتحدة، ما مدى تأثير الثقافة الإسلامية التي تحملها الجاليات في أوساط هذا المجتمع، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، وتزايد دخول الغربيين في الإسلام؟
أعتقد أن الوزن النوعي للمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية مازال ضعيفاً وليس بتلك القوة، نتيجة الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها المسلمون هناك خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، ولعل هذه الظروف تكون غربلة للوجود الإسلامي ليُخرج من بين أصلابه وعياً حقيقياً باحتياجاته.
وأذكر أن هناك الكثير من المؤسسات الإسلامية في داخل الولايات المتحدة يديرها أشخاص غير أكفاء، وغير ممثلين للإسلاميين، وإنما ممثلون لغيرهم، ولذلك أطلب من الفضائيات العربية التحقق من مثل هذه المؤسسات والقائمين عليها مقابل وجود أشخاص آخرين نشعر بإخلاصهم في العمل.
والوضع الإسلامي في أمريكا هو وضع لا يُحسد عليه، ولذلك كله فإن الثقافة الإسلامية في الولايات المتحدة يتم النظر إليها وبشكل مزدوج.
اعتناق الإسلام:
لكن البعض يرى زيادة إقبال الغربيين على اعتناق الإسلام، ورغبتهم أيضاً في الاطلاع على الإسلام أليس كذلك؟(18/74)
الشعب الأمريكي بشكل عام شعب قارئ، وهو يثق بحكومته عموماً، في الوقت الذي لا يثق في «جورج بوش» شخصياً، كما أنه يثق بالإعلام حتى لو كان مشوّهاً، وإن كانت بعض الأجهزة الإعلامية الحيادية قد استطاعت أن تقدم صورة موضوعية عن الإسلام.
والمثقف الأمريكي عندما بدأ يسمع عن أحداث سبتمبر يؤمن بفلسفة الذات والفردية، ولا توجد الآن دراسات عن دخول الأمريكيين في الإسلام، ونحن نتحدث عن (300) مليون أمريكي، ولذلك فلو اعتنق مئة منهم الإسلام فإننا كأن لم نتحدث عن شيء، ونحن الآن مليار و (300) مليون مسلم فهل نحن فاعلون؟ لذلك العبرة بالفاعليّة.
والمهم أيضاً النظر إلى طبيعة الذين يعتنقون الإسلام، فقد يكونون من الأمريكيين السود، أو من الجماعات المسحوقة، أو جماعات أخرى قد لا يكون لها القيمة أو النوعية، فضلاً عن طبيعة المادة التي تقدم الإسلام أو تتحدث عنه، فقد يقرأ لمستشرقين أو الخارجية الأمريكية أو استعرض تفاسير القرآن عن غير فهم، ومن هنا يأتي الخطأ، ونحن في الولايات المتحدة ضعفاء، وهذا من ضمن التخبط الموجود هناك، ومهمتنا أن نطرح تياراً إسلامياً معتدلاً يؤمن بالوسطية، ويؤمن بإحقاق الحقوق، ووجود أجهزة إعلامية قوية، ودعم الجالية الإسلامية القوية.
ما هي طبيعة المنتدى الذي تتولّون رئاسته؟
طبيعته إيجاد تيار وسطي، فنحن أسّسنا منتدى الفكر والثقافة الإسلامي عام 1996 كهيئة مستقلة تُعنى بالحوار والتجديد والتأصيل، ونحن لا نستهدف إلغاء الأصول، ولكننا نريد أن نوجد تياراً فكرياً واعياً حتى تنهض الأمة من وعكتها الراهنة.
وبعد تأسيس هذا المنتدى في أمريكا - والنزاع مع بعض المؤسسات الإسلامية وليس مع الحكومة الأمريكية - حوربنا من جانب بعض الإسلاميين؛ لأنهم لا يفهمون الفكر أو الثقافة الإسلامية بالشكل الصحيح، ولكننا قمنا بتحييد هذا الصراع والنزاع.
وأصدرنا كتباً عن «الإسلام والدور المنتظر» ثم طبعناه مرتين 1996 و1999، وشارك فيه (11) مفكراً، و «من أجل أخلاق أفضل»، «الحوار والديمقراطية في الشرق الأوسط»، كما لدينا إذاعة تبث في ولاية ميتجشن وإياهو ومدينة «وزنر» في كندا لمدة ساعتين أسبوعياً، وكنت العضو العربي الوحيد في المنظمة الإعلامية الأمريكية في ولاية ميتجشن.
ونسعى إلى أن يكون لنا بصمة في التاريخ، وأشرطة إذاعتنا قمنا بوضعها في أحد أكبر المكتبات في أمريكا، ومحفوظة في التاريخ الشفهي للعرب الأمريكيين، وكان غرضنا في ذلك استفادة الباحثين جميعهم من هذه الأشرطة، فضلاً عن حفظهما من التلف.
المصدر : http://www.islamtoday.net/albashee r /show_a r ticles_content.cfm?id=72&catid=77&a r tid=5248
-============(18/75)
(18/76)
الصراع على المياه في الشرق الأوسط
د.محمد مورو (*)
إذا كان الصراع على البترول قد شكل مساحة كبيرة من معادلات وأحداث المنطقة منذ عقود كثيرة وحتى الآن، فإن الصراع على المياه يمكن أن يكون أشد حدة؛ ذلك أن المياه في التحليل النهائي أهم من البترول وأغلى؛ فهو سر الحياة {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].
ولا شك أن الإدراك المبكر لأهمية المياه، ومعرفة طبيعة الصراع القادم حولها سيؤثر على أمتنا إذا ما أحسنوا الاستعداد بكثير من الجهد والتضحيات، ويؤمّن لهم مستقبلاً معقولاً، أما إذا ظل العرب في حالة غفلة عن هذه التقنية الخطيرة فإن مجرد وجودهم على سطح الأرض سيصبح أمراً صعباً!
ومن المهم هنا أن نقرر حقيقة بدهية، أن هناك علاقة مباشرة بين الأمن العربي بعامة ومسألة تأمين مصادر المياه. وإذا كان الأمن العام لدولة ما هو الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة لتحافظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، فإن فهم الأمن على أنه موضوع الدفاع العسكري داخلياً وخارجياً هو أمر سطحي وضيق؛ لأن الأمن العسكري هو وجه سطحي ضيق لمسألة الأمن الكبرى كما يقول روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق؛ فهناك الكثير من الجوانب غير العسكرية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة الأمن القومي، ومن هذه الجوانب بالطبع مسألة الأمن الغذائي والاقتصادي ومسألة المياه على رأس تلك الجوانب.
وإذا أخذنا مسألة الأمن الغذائي كمحدد لفهم مستقبل العالم العربي لوجدنا أن الأمر مفزع؛ ذلك أنه إذا كان من يمتلك غذاءه يمتلك قراراً؛ فإن وجود فجوة غذائية في العالم العربي تصل إلى حوالي 30 مليار دولار سنوياً هي الفرق بين الصادرات والواردات العربية مما يمثل مشكلة خطيرة، بل ونسبة الاكتفاء الذاتي من أهم السلع الاستراتيجية في مجال الغذاء لا تزيد عن 39%، وهذه النسبة لها أهميتها؛ ونراها في حالة الدول ذات الأهمية في المنطقة العربية مثل مصر التي يبلغ اكتفاؤها الذاتي من القمح 27%.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن السوق العالمية للقمح تتشكل من دول ذات توجهات سياسية ومتعارضة معنا، لأدركنا فداحة المشكلة؛ فالدول الكبرى المسيطرة على سوق تصدير القمح هي «أمريكا، كندا، أستراليا، السوق الأوروبية المشتركة»؛ حيث يمكنها التكتل في احتكار للتحكم ليس في تصدير القمح فقط بل وفي أسعاره كذلك.
وهكذا فإن المسألة الغذائية تفجر بالضرورة مسألة الماء؛ حيث إن الماء هو العنصر الأساس للزراعة القادرة بدورها على سد تلك الفجوة الغذائية. وبالطبع لا تقتصر أهمية الماء على مسألة الزراعة؛ فالماء ضروري للتصنيع أيضاً، فضلاً عن أهميته لتلبية الاستهلاكات البشرية المباشرة من مياه شرب وغسيل وغيرها، وليس عبثاً بالطبع أن تكون معظم الحضارات قد نشأت حول مصادر المياه.
ومشكلة المياه في الوطن العربي ذات أبعاد كثيرة؛ فالوطن العربي يقع في الحزام الجاف وشبه الجاف من العالم، وتقل فيه الموارد المائية المتجددة عن 1% من المياه المتجددة في العالم، ونصيب الفرد العربي من المياه 1744 متراً مكعباً سنوياً، في حين أن المعدل العالمي يصل إلى 12900 متر مكعب سنوياً، ومعدل هطول الأمطار في الوطن العربي بين 5 ـ 450 ملم سنوياً، في حين يتراوح في أوروبا مثلاً بين 200 ـ 3000 ملم سنوياً. وتمثل الصحارى في الوطن العربي مساحة 43% من إجمالي المساحة الكلية للوطن العربي، وفي عام 2000م حيث بلغ عدد سكان الوطن العربي 300 مليون نسمة فإن عجز الموارد المائية العربية يصل إلى 127 مليار متر مكعب؛ وذلك لأن حجم الموارد المائية المتاحة حالياً تبلغ 338 مليار متر مكعب سنوياً لا يستثمر منها إلا 173 مليار متر مكعب! في حين أن الوطن العربي يحتاج لتلبية احتياجاته من المياه ـ إذا أحسن استخدامها، وتم عمل خطط لسد الفجوة الغدائية ـ إلى حوالي 500 مليار متر مكعب من المياه سنوياً.
والموارد ومصادر المياه في الوطن العربي تتمثل في الأمطار والمياه السطحية «الأنهار» والمياه الجوفية، ولعل المشكلة حول المياه السطحية «الأنهار» هي الأهم؛ فالمياه السطحية المتاحة حالياً للوطن العربي تبلغ 127. 5 مليار متر مكعب سنوياً، تحوز ثلاثة أقطار عربية حوالي 71 % منها، هي مصر والعراق والسودان، ومن المفروض أن يزيد حجم الموارد السطحية ليصل إلى 256 مليار متر مكعب من المياه؛ أي ضعف ما هو متاح حالياً عن طريق مشروعات الري والسدود مثل قناة جونجلي في السودان.(18/77)
وإذا أدركنا أن 67% من مياه الأنهار «المياه السطحية» في البلدان العربية تأتي من خارج بلادهم لعرفنا حجم ما يمكن أن يحدث من مشكلات إذا قام العرب بعمل تنمية أو سدود تؤدي إلى زيادة مواردهم، وعلى سبيل المثال فإن نهر النيل ينبع من إثيوبيا «النيل الأزرق»، وبحيرة فكتوريا «النيل الأبيض»، ويمر في تسع دول إفريقية هي «إثيوبيا، كينيا، أوغندا، تنزانيا، رواندا، بوروندي، والكونغو والسودان ومصر»، ويقطع مسافة من أبعد منابعه على روافد بحيرة فكتوريا نيانزا في قلب إفريقيا إلى ساحل رشيد على البحر الأبيض المتوسط في مصر حوالي 6700 كم.
أما نهرا الفرات ودجلة فينبعان من الجبال الواقعة شمال تركيا، ويمر الفرات عبر سوريا ثم العراق. أما نهر دجلة فيمر من تركيا إلى العراق مباشرة.
وبالنسبة لنهر النيل ـ مثلاً ـ الذي تعتمد مصر عليه اعتماداً شبه كامل في اقتصادياتها وخاصة الزراعة؛ فإن نصيب مصر منه يصل الآن إلى 55. 5 مليار متر مكعب سنوياً، والسودان إلى 18. 5 مليار متر مكعب سنوياً، وبديهي أن مصر والسودان يسعيان إلى زيادة مواردهما من مياه النيل عن طريق مجموعة من المشروعات، وهذه المشروعات لن تؤثر على حصة دول المنبع؛ لأن المياه قد تركت أراضيهم بالفعل من ناحية، ولأن هذه الدول لها مصادر مياه غنية جداً، فإثيوبيا مثلاً التي يأتي منها 85% من مياه النيل المستخدمة في مصر ليست في حاجة إلى مياه النيل أصلاً؛ لأن مواردها المائية أعلى كثيراً من احتياجاتها، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة؛ حيث تسعى قوى عالمية وإقليمية لحرمان مصر من حصة كبيرة من المياه أو منها على الأقل من زيادة مواردها من تلك المياه؛ فإسرائيل تسعى إلى زيادة نفوذها في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات الكبرى، وكذلك أمريكا التي نجحت أخيراً في تحقيق أكبر قدر من النفوذ على كل من إثيوبيا وأوغندا والكونغو «ميذكابيلا» ورواندا وبورندي.
والمخططات المعادية لمصر في هذا الصدد كثيرة؛ فالجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان بقيادة جون جارانج المدعوم إسرائيلياً منع إنشاء قناة جونجلي التي كان من الممكن أن تزيد نصيب مصر والسودان من المياه، وهناك مخطط قديم يقضي بمحاولة تحويل مجرى النيل في إثيوبيا، وقد قام المكتب الأمريكي لاستصلاح الأراضي بعمل الدراسات الخاصة به إلا أنه بالطبع لم ينفذ، ولكنه يشكل فكرة في الأدراج يمكن تنفيذها فيما بعد للضغط على مصر، وهناك الآن عدد من الدراسات الجاهزة لإقامة سدود على النيل في إثيوبيا سوف يمولها البنك الدولي تؤثر على حصة مصر من المياه بنسبة 20% سنوياً، أي 7 مليارات متر مكعب من المياه، بل ووصل التفكير إلى حد أن هناك خطة تقضي بتحويل كل مصادر المياه في تلك المنطقة لتصب في منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة كخزان عملاق للمياه، ثم بيع هذه المياه لمن يريد ويدفع الثمن كالبترول تماماً، ويمكن كذلك تعبئتها في براميل تحملها السفن أو عن طريق أنابيب لبيعها لدول خارج القارة، وتطالب إسرائيل أيضاً بمدها بنصيب من مياه النيل عن طريق سيناء، وإلا قامت بإحداث متاعب لمصر في منابع النيل في إثيوبيا ومنطقة البحيرات.
وفي الحقيقة فإن المطامع الإسرائيلية في مياه النيل قديمة قدم المشروع الصهيوني ذاته، فقد تقدم الصهاينة في بداية هذا القرن بمشروع إلى اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر لهذا الغرض إلا أن ذلك المشروع قد رفض، وفي عام 1974م قام مهندس إسرائيلي «إليشع كيلي» بتصميم مشروع لجلب المياه لإسرائيل من الدول المجاورة على أساس أن إسرائيل ستعاني من مشكلة مياه في المستقبل، ويتلخص المشروع بالنسبة لنهر النيل في توسيع ترعة الإسماعيلية حتى يزيد معدل تدفق المياه داخلها إلى 30 متراً مكعباً في الثانية، ونقل هذه المياه عن طريق سحارة تمر أسفل قناة السويس، ثم تصب المياه على الجانب الآخر من القناة في ترعة مبطنة بالإسمنت لمنع تسرب المياه، وتصل هذه الترعة إلى ساحل فلسطين المحتلة وتل أبيب، ثم في خط آخر يتجه جنوباً نحو بئر السبع لعرب صحراء النقب، وتسعى إسرائيل وفق هذه الخطة إلى الحصول على 8 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً من النيل، وقد تكرر الحديث عن هذا المشروع فيما بعد خاصة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979م.
وبالنسبة لنهر الفرات الذي ينبع من تركيا ويمر في سوريا والعراق، فإنه نشأت حول حصص المياه والتدفق في هذا النهر العديد من المشاكل بين كل من تركيا وسوريا والعراق، وتستخدم تركيا مسألة المياه للضغط السياسي على سوريا مثلاً بسبب قضية دعم سوريا للأكراد الأتراك، ومن الناحية الفنية فإن سوريا لديها عجز في المياه يقدر بحوالي مليار متر مكعب سنوياً، ومع قيام تركيا بمشروعات كبرى على نهر الفرات تقضي بإنشاء 13 سداً، نفذت بالفعل منها سد أتاتورك عام 1990م؛ فإن معدل التدفق في النهر قد انخفض مما أثر على كل من سوريا والعراق، كما أن قيام سوريا بدورها بإنشاء سدود على الفرات يؤثر على العراق الذي يصل إليه النهر في النهاية، بل قد وصلت الأمور إلى حافة الصدام بين سوريا والعراق عام 1974م.(18/78)
وهناك مشروعات يتم التفكير فيها الآن خاصة بعد التحالف العسكري التركي الإسرائيلي بنقل المياه من تركيا إلى إسرائيل عبر أنبوب طويل يسير في البحر المتوسط إلى شواطئ إسرائيل، وهذا يحقق لتركيا موارد مالية من بيع المياه، ويحقق لإسرائيل تلبية حاجاتها من المياه بثمن بسيط، ولكن هذا بالطبع سيكون على حساب كل من سوريا والعراق.
كانت المياه من أهم العوامل التي نشأت بسببها الحروب بين العرب و (إسرائيل)، فالعمليات العسكرية الإسرائيلية على الحدود السورية اللبنانية عامي 1964، 1965م كانت بسبب الأطماع الإسرائيلية في مياه نهر الأردن ونهر بانياس ونهر اليرموك ونهر الحاصباني، كما كان من أسباب حرب 1967م موضوع تحويل مجرى نهر الأردن، وفي عام 1982م شنت إسرائيل حملة عسكرية على لبنان كان من أهدافها أطماع إسرائيل في نهر الليطاني.
وتسعى (إسرائيل) كما ذكرنا من قبل إلى الحصول على مياه نهر الفرات من تركيا مباشرة، وكذلك الحصول على حصة من مياه نهر النيل عن طريق قناة الإسماعيلية باتجاه النقب وساحل (إسرائيل).
وتعتبر المياه محوراً هاماً من محاور الفكر الصهيوني؛ فبعد صدور وعد بلفور عام 1917م تقدم حاييم وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني آنذاك إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا طالباً تحسين حدود إسرائيل حسب وعد بلفور، لتضم حوض الليطاني وجبل الشيخ وحرمون أي تضم أنهار الأردن وبانياس واليرموك.
ويقول الصهيوني بلسان هوارس عام 1921م: «إن مستقبل فلسطين بأكمله هو بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن».
وأعلن ديفيد بن جوريون عام 1955م «أن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وأننا إذا لم ننجح في هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين».
ومن المعروف أن الحدود الإسرائيلية المستهدفة طبقاً للخريطة المعلقة على الكنيست في إسرائيل هي من النيل إلى الفرات أي من ماء إلى ماء.
على كل حال فإن إسرائيل توفر حاجاتها المتزايدة من المياه التي تصل 3. 5 مليار متر مكعب حالياً، وتريد إسرائيل زيادتها إلى 12 ملياراً للتوسع في مشروعاتها، وتحصل عليها الآن إما من سرقة مياه الآبار العربية بوسائل تكنولوجية معقدة داخل الأراضي المحتلة، أو من مشروعات تستهدف السيطرة على أكبر قدر ممكن من مياه الأنهار العربية وحرمان الآخرين منها خاصة على أنهار الليطاني والحاصباني وبانياس واليرموك والأردن. وبالطبع فإن الفجوة المائية بين ما تنهبه إسرائيل حالياً من المياه العربية وبين ما تستهدف نهبه يمكن أن يشكل عنصراً هاماً من عناصر اندلاع حروب قادمة في المنطقة.
-----
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي ـ مصر.
رمضان 1423هـ * نوفمبر-أكتوبر 2002م
http://albayan-magazine.com المصدر:
===============(18/79)
(18/80)
تركيا الدولة النموذج أمريكياً
طه عودة
5/12/1425 هـ
لقد استعادت تركيا مكانتها كدولة كبرى في عيون الأمريكيين، ورغم حقيقة أن الرفض التركي لطلب واشنطن بتمرير قواتها من الأراضي التركية إلى العراق قد يبقى دائماً في عقول الناس، إلا أن كافة المستجدات تؤكد أن مكانة تركيا في الشرق الأوسط الكبير لا زالت محفوظة ومهمة جداً بالنسبة للأمريكيين؛ فتركيا العلمانية التي تتبنى الديمقراطية والإسلام بعضويتها في الاتحاد الأوروبي يمكن أن تكون النموذج الأفضل للبلدان الأخرى في المنطقة.
تركيا والديمقراطية الأمريكية:
في الماضي كانت تركيا تتبنى حساسية كبيرة إزاء الإمبرياليين والقوى الإمبريالية، ولعل هذه الحساسية كانت متفاوتة عند البعض، ومختلفة عند البعض الآخر طبقاً للإيديولوجية التي ينتسبون إليها، ولكن بالنتيجة كانت هناك حساسية تركية، وكانت هناك مكافحة ضدها، أما اليوم فقد تغيرت المعادلة السياسية بحيث وصل الأمر إلى درجة أن المسؤولين الأتراك بدؤوا مناقشة كافة المسائل التركية الداخلية والخارجية متجنبين الحديث عن الحسابات، والخطط الإمبريالية، وباتوا بتجسيد مفاهيم التسليم التركي التام روحاً وجسداً إلى الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكأنهما مخرج "الحرية" "والديمقراطية" الوحيد أمام تركيا، مع العلم أن الحسابات والخطط الإمبريالية في المنطقة ومطامعها في أراضي منطقة الشرق الأوسط لا زالت قائمة.
في المدة الأخيرة بدأنا نسمع الكثير عن أسطوانة ما يسمى بـ"الشرق الأوسط الكبير" و "دول شرق أوسطية متحدة" "والديمقراطية العصرية"، وهم عندما يتحدثون عن المساعي لتطبيق هذه الخطة في المنطقة فإنهم يتجنبون ذكر حقيقة أن دول المنطقة سوف تتقلص أو حتى تحذير الشعوب من هذه الخطر، علماً أن قوى الاحتلال الإمبريالية لم تعد تنكر حقيقة خططها في تقسيم العراق بعد احتلالها له، بل حتى أن تقسيم مصر وإيران هو جزء وارد في هذا المخطط، وهذا التوجه يأتي في إطار استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على دول الشرق الأوسط من خلال تحكمها بشكل مباشر في زمام الأمور في تلك البلدان، وتشكيل إدارات أمريكية تدير العمل السياسي داخل كل دولة بالتعاون مع رموز يعملون لصالحها، وفي هذا الإطار فقد بدأت الولايات المتحدة بتسويق سلعتها من خلال إرسالها للوفود إلى هذه الدول، أو استقبالها وفود من تلك الدول لتحويل مجتمعات دول الشرق الأوسط إلى معسكرات تخدم المصالح والمطامع الأمريكية.
لقد تم رصد مبلغ 30 مليون دولار لتشجيع برامج الديمقراطية في العالم العربي، ثم 25 مليون دولار من أجل تغيير الهياكل السياسية في تلك الدول للتوافق مع التوجه الأمريكي الجديد في المنطقة، هناك ألاعيب ومؤامرات كثيرة تدور حول تركيا ومنها تقسيمها - وبغض النظر عما إذا كانوا سينجحون في ذلك أم لا - نحن لا ننكر أن هناك من يحاول هنا التحذير من هذه الخطط بصوت عالٍ، إلا أن هذه الفئة القليلة تواجه دوماً من يعتم عليها، ويقف حائلاً بينها وبين إيصال كلمتها إلى الشعب تحت اعتقاد وتقديم بأن الالتصاق بذيل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هو الخلاص الوحيد أمام تركيا، وهذه ليست الحقيقة، فإذا عدنا إلى ما قبل عدة سنوات نرى بأن تركيا بينما كانت تكافح منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية؛ فإن الولايات المتحدة كانت تزود هذه المنظمة بمختلف أنواع الدعم المادي والمعنوي، بل حتى إن معظم الأسلحة التي كانت تحارب هذه المنظمة تركيا، وتقتل أبناءها فيها كانت من الصنع الأمريكي.
وفي ضوء كل هذه الحقائق هل يستصعب علينا فهم حقيقة أن التوجهات التركية للولايات المتحدة هو خطأ كبير، وبأن ذلك لن يفيدها، بل والعكس صحيح سوف يضرها بشكل مطلق؟
الإعلام التركي - ومنذ سنين طويلة - يمارس حملة التنويم المغناطيسي على الشعب، فهو يعكس الحقائق من جهة، ويبرز ما يراه مناسباً مع الحملة الدعائية الإمبريالية من جهة أخرى، بل أنهم وصلوا إلى درجة نجحوا معها بإعاقة حتى التفكير الشعبي بهذه المواضيع، مثلاً: لماذا لا نفكر بالخطط التي تبيت وراء الاستعجال الأمريكي لانضمام جزيرة قبرص إلى الاتحاد الأوروبي، وهل لهذا الأمر علاقة بخططها "بالشرق الأوسط الكبير" علماً منا أن الأحداث التي تدور حولنا ليست نتيجة مصادفات عابرة، بل هي خطط وحسابات منسقة تقوم على حلقة متصلة بأخرى وصولاً إلى الهدف المنشود، وهو تقسيم الشرق الأوسط.
العلاقات التركية الأمريكية وعامل العراق:
لقد واجهت العلاقات التركية - الأمريكية ما بعد مدة الحرب الباردة تغيرات جادة مقترنة بالتحول الجديد في النظام الدولي، وفي حيرة أعقبتها الحرب الباردة فقد عاشت تركيا والبلدان الأخرى التي هي في مواقع مماثلة لها مدة قلقة مستندين على اعتقادات أن أهميتهم الإستراتيجية قد تضاءلت، وبأنهم سيهمشون، ووسط مدة الحيرة هذه قدمت تركيا دعمها إلى العمليات الدولية للولايات المتحدة مثل: حرب الخليج، وتجاهلت كل المخاطر التي يمكن أن تنعكس عليها سلبياً وذلك في محاولة مستميتة لاستعادة موقعها الهام.(18/81)
نعم لقد أدرك صناع السياسة الخارجية في تركيا أن هجمات 11 سبتمبر / أيلول التي شكلت النظام العالمي يمكن أن تكون فرصة ثمينة لتحقيق التقارب التركي الأمريكي بشكل أكبر، ولهذا فإن تركيا اليوم تجاهد لشغر مكان ضمن هذا النظام الجديد، و لن تتردد في تحمل المخاطر ثانية مهما كانت أبعادها في سبيل تحقيق هذا الهدف، وعند هذه النقطة بالضبط فإن تركيا تواجه معضلة فيما يتعلق بعامل العراق في العلاقات التركية - الأمريكية.
لا شك أن قضية العراق كانت الأكثر صعوبة في ملف العلاقات التركية الأمريكية، سياسة تركيا نحو العراق هي بمثابة السباحة ضد التيار، فمن الواضح أن السياسة الخارجية التركية التي تفتقر إلى تأثير على صياغة الأحداث، وحتى إلى مبادرات جزئية في المتناول مهما كانت متواضعة، لن تكون قادرة على القيام بتغييرات ذات مغزى في اليوم الذي تقرر فيه الولايات المتحدة الشروع بالعملية ضد العراق.
أمريكا لديها معارضات محلية تجاه سياسة العراق المتشددة، فعندما نفكر في سياسة الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط خلال السنوات العشر الأخيرة فإن موقف واشنطن يبدو وقد أصابه الوهن قليلاً بسبب تصلب مواقف حلفائها، وفقدها المبادرة والحيادية في قضية مهمة جداً مثل عملية السلام، أما تركيا فقد بقيت سلبية في مثل هذه القضية بينما كان من الممكن أن تكون ممثلة مؤثرة، بحيث نرى أن أنقرة سارعت إلى الإعلان عن دعمها الكامل للولايات المتحدة في حملة "مكافحة الإرهاب الدولي" بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، كما بذلت الجهود الباسلة لتأييدها أثناء العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان، إلا أن تركيا اليوم قلقة بشأن ما يدور في مخيلة الولايات المتحدة الأمريكية من مخططات ومطامع مستقبلية.
المصدر : http://www.almoslim.net/figh_wagi3/show_news_comment_main.cfm?id=248
=============(18/82)
(18/83)
البزنس والسياسة:التطبيع مع إسرائيل مُنتجاً
محمود سلطان
14/02/2005
ليس ثمة خلاف على أن ثقافة العولمة تعتمد أساساً على "فكرة النسبية" بمعنى نسبية الأخلاق، القيم، العقيدة، ونسبية الثوابت الوطنية كذلك، فنحن إذ نناقش مخاطر التطبيع ونجرمه ونحرمه، ونبحث سبل مقاومته؛ فإنه في المقابل يوجد من يحله، ويعتبره الحضانة لتأمين مشاريع التسوية في الشرق الوسط، أي باتت المسألة بشأنه "مسألة نسبية" وليس ثمة إجماع على اعتباره "حراماً وطنياً".
قس على ذلك الأخلاق والقيم، ولنأخذ مثلاً مسألة الشواذ، نحن المسلمين نجرم ونحرم، ولكن هناك في العالم من يحل، ويسن التشريعات في أوروبا التي تجيز زواج الشواذ، وتبني الأطفال، وحفظ حقوقهم في الميراث، وذهبت إلى ذلك كنائس غربية.
والمقصود من الاحتكام إلى معيار "النسبية" في تقدير أمور تتعلق بمنظومة القيم التي يعتنقها الإنسان هو هز ثقته في ما استقر في وجدانه الخاص، ومن ثم في الضمير الجمعي بأنه "ثوابت" دينية، أو عقدية، أو وطنية، وما شابه، أي ليس هنالك ثمة ثوابت، ويظل الإنسان محايداً إزاء منظومة القيم الثابتة في ثقافته، أي يتحول إلى فسيفساء واسعة فضفاضة وفارغة، وبمعنى آخر إلغاء "الإنسان الايدولوجيا" ليحل محله "الإنسان الهلامي".
ومع انتشار هذا المفهوم تراجعت الصرامة في قداسة "الحدود السياسية" و"السيادة الوطنية" للدول، لصالح مفهوم "العالم - القرية"، والتسليم بالعولمة ( أمركة العالم) ليس باعتبارها حالة طارئة فرضها منطق القوة والتفوق التقني، وإنما باعتبارها وعلى نحو ما ذهب إليه "فوكوياما" المحطة الأخيرة والنهائية في مسيرة التطور الإنساني.
ورجل الأعمال بطبيعته ينتمي إلى "شريحة اجتماعية" محايدة عادة ما يكون ولائها لـ"السوق"، أو على أقل تقدير تخضع عملية ترتيب الأولويات عنده لمعايير المكسب أو الخسارة، أي أنه أكثر القوى الاجتماعية قابلية لقبول قيم "العولمة" لأنها ستبرر له "حيدته القيمية".
والمشكلة الآن أن رجل الأعمال لم يعد طموحه محكوماً بأطر تجارية محضة، إذ لو كان هذا الطموح عند هذه الحدود فحسب لهان أمره، غير أن المشكلة في أن طبقة رجال الأعمال الآن تتهيأ لتحل محل النخبة السياسية، في إدارة الدولة ورسم سياساتها العامة، وهي ظاهرة كوكبية كونية أصابت مناطق عدة في العالم - بما فيها العالم العربي -، ففي مصر مثلاً شكل الحزب الوطني الحاكم أمانة السياسات، وهي هيئة استحدثها الحزب، في إطار تهيئة نجل الرئيس مبارك "جمال" ليتصدر الصفوف في العمل السياسي العام، وهو رجل اقتصاد عمل في أحد البنوك البريطانية، ويتردد أنه يحمل الجنسية البريطانية، وعضو في الوقت ذاته بحزب العمال البريطاني.
أمانة السياسات تحولت بمضي الوقت إلى أقوى هيئات الحزب، والمهيمنة على اتجاهات الرأي العام فيه، وتحولت أيضاً إلى ناد لرجال الأعمال من الذين يحتكرون تقريباً السوق المصري، ويرسمون من خلاله السياسات العامة للدولة، وشكلت ما يقرب من 70 % من الحقائب الوزارية في الحكومة الحالية برئاسة د. أحمد نظيف، فضلاً عن أنها - أي أمانة السياسات بأعضائها من رجال الأعمال المصريين - ترتبط مصلحياً بالمشروع الأمريكي في المنطقة العربية، والذي ينطلق أساساً من إستراتيجية أمريكية ثابتة، ولها الأولوية القصوى لصانع القرار الأمريكي، وهي لي عنق الأنظمة العربية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، لحملها على قبول الكيان الصهيوني كـ"دولة" طبيعية في المنطقة.
ومثال آخر من فلسطين: حيث تتشكل الحكومات الفلسطينية المتعاقبة من "طبقة رجال الأعمال"، فجميل العطيفي كان وزيراً في حكومة أحمد قريع، ونجله "يوسف" أصحاب شركة العطيفي، ويتزعمان أكبر شبكة لتهريب الأسمنت والأسلحة والسكر.
محمد دحلان يعتبر رجل أعمال، إذ تقدر بعض المصادر ثروته بـ 53 مليون دولار، ويمتلك فندق الواحة بغزة والذي يعتبر الفندق رقم واحد بين فنادق الـ 5 نجوم في الشرق الأوسط.
محمد رشيد المستشار المالي للوزير الفلسطيني الراحل عرفات، له اسم آخر "خالد إسلام"، يحتكر الوقود بالسلطة الفلسطينية، وكذلك نبيل شعث، وأحمد قريع (أبو العلاء): يمتلك الأول "الشركة المصرية لاستيراد الحواسب"، فيما يملك الثاني شركة "رنتل كار" لسيارات الأجرة.
وكما أشير سلفاً فإن الظاهرة عامة، ولا تختصر في العالم العربي وحسب، ففي الولايات المتحدة الأمريكية فإن بوش ومن قبله أبوه وجده، وديك تشيني، ورامسفيلد، وكونداليزا رايس جميعهم يرتبطون بشكل أو بآخر بإمبراطورية النفط في بلادهم والمكونة من شركات ضخمة لها استثمارات بمليارات الدولارات في العالم، وفي إيطاليا يرأس الحكومة الحالية الملياردير ورجل الأعمال بيرلسكوني.(18/84)
وفي هذا السياق فإنه من الأهمية الإشارة إلى أنه ليس ثمة ما يمنع رجل الأعمال من الاشتغال بالسياسة كأن يكون فاعلاً سياسياً في الأطر السياسية التي تنشط خارج دائرة السلطة، مثل: الأحزاب، النقابات، الجمعيات الأهلية بتنوعها. إذ إن انتقاله من هذه الدائرة إلى دائرة "الفعل السياسي" بأن يتبوأ مركز صناعة القرار في مؤسسات الدولة الرسمية: البرلمان، المجالس الشورية، الوزارة، رئاسة الدولة، ليس ثمة ضمانة تعصمه من استغلال وجوده في هذا المركز لإدارة شؤون الدولة على النحو الذي يجعلها عند نقاط التقاء مع مصالحه وأعماله ومشاريعه وشركاته الخاصة.
وعلى أقل تقدير فإن هذه المكانة السياسية الرسمية هي في نهاية الأمر "حصانة" يعتصم بها من الملاحقات القضائية والأمنية، تيسر له مساحة كبيرة من الحركة والمناورة: ففي مصر على سبيل المثال اكتشف المصريون أن 12 عضواً بالبرلمان - دخلوه باعتبارهم رجال أعمال - كانوا مدرجين في قوائم الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بالقاهرة باعتبارهم من كبار تجار المخدرات في مصر، ورغم أن صحيفة الوفد المصرية نشرت في عهد الراحل مصطفى شردي تلك القوائم مختومة بخاتم وزارة الداخلية؛ فإن البرلمان المصري لم يستطع إلغاء إلا عضوية اثنين فقط، فيما ظلت البقية منهم يتمتعون بحمايته وعضويته، رغم أنه كان من بينهم من محترفي تهريب "الحشيش الإسرائيلي"، وفي السياق ذاته عرف البرلمان المصري "نواب التجنيد" الذين تهربوا من أداء الخدمة العسكرية، و"نواب القروض" الذين استغلوا مناصبهم البرلمانية في نهب أموال المودعين بالبنوك.
ومؤخراً: بعدما أبرمت مصر اتفاقية "المناطق الصناعية المؤهلة" - الكويز - تم استبعاد بعض المناطق من الدخول في هذه الاتفاقية مثل: "المحلة الكبرى" و"الإسماعيلية"، ثار رجال الأعمال على هذا الاستبعاد، واعتبروه انحيازاً لرجال أعمال آخرين ضدهم، وطالبوا بضرورة مساواتهم بغيرهم ممن شملتهم الاتفاقية، يعني أنهم لا يرون في الأمر تطبيعاً ولكن اعتبروه "مؤامرة" عليهم باستبعادهم من "كعكة الكويز".
وفي هذا السياق فإن الذين يتعجلون ويضغطون على الحكومة السورية وحثها على سرعة الدخول في تسوية سياسية مع الكيان الصهيوني؛ هم طبقة رجال الأعمال السوريين، وهو شعور كما بينا في ما تقدم يتسق و"الحيدة القيمية" التي تشكل أسس "الوجدان الوطني" عند رجل الأعمال عادة.
وفي فلسطين أيضاً فإن الوزير "جميل العطيفي" تورط في نقل أسمنت مصري مع "رجال أعمال مصريين" إلى رجل أعمال إسرائيليي يدعى "زيفي بيليكسي"، استخدم في بناء المستوطنات، والجدار العنصري العازل، ولم تتمكن المؤسسات الرقابية والأمنية الفلسطينية من معاقبته، بل لا يزال نجماً إعلامياً، وضيفاً على قنوات التلفزة العربية يتحدث باسم الشعب الفلسطيني وكأنه واحد من قيادات حماس، أو الجهاد، أو كتائب شهداء الأقصى!!
وكذلك أبو العلاء "أحمد قريع" باعت شركاته مواد بناء لإسرائيل، استخدمت في بناء مستوطنات إسرائيلية في "جبل أبو غنيم"، والطريف في هذا الأمر أن متحدثاً باسمه برر هذا "التطبيع بالباطن"، والذي يعد في الأعراف والتقاليد الوطنية "خيانة"، برره بأن المستوطنات التي بنيت بمواد البناء التي وردتها شركاته للكيان الصهيوني إنما تقع في المناطق التي من المتوقع مستقبلاً أن تستعيدها السلطة الفلسطينية في التسويات المنتظرة مع الكيان الصهيوني!!
والحال فإن هذه الظاهرة متواترة كونياً، مما يجعلها أصلاً تبنى عليه المواقف وربما التشريعات مستقبلاً لتنظيم علاقة رجل الأعمال بالسياسة، فما حدث في مصر وفلسطين كمثلين لا حصراً نجده مكرراً في دول أخرى بعيدة عن العالم العربي، ففي أمريكا أدارت الإدارة الأمريكية الحالية الحرب في العراق على النحو الذي يخدم تطلعات أباطرة النفط بها في "جنات العراق" النفطية، وهي تطلعات لم تعد سراً بعد أن كشف المرشح الأمريكي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة "جون كيري" عن أن نائب الرئيس ديك تشيني حصل على عمولة قدرها 2 مليون دولار نظير السماح للمجموعة النفطية "هاليبرتون" الحصول على عقود بالعراق تقدر 6 مليارات دولار من دون استدراج عروض، وفي إيطاليا أقدم رئيس الوزراء بيرلسكوني على تقديم رشاوى للقضاء الإيطالي لتمرير محاولة اقتناصه شركة "إس إم إي" للأغذية المملوكة للدولة، وحاول في الوقت ذاته تمرير مشروع قانون لا يجيز إحالة رئيس الوزراء إلى المحاكمة في قضية فساد طالما ظل في منصبه، صحيح أن القانون جرى تعطيل إجراءات تمريره، إلا أن بيرلسكوني استطاع الإفلات من الحبس مستنداً على وجوده في منصبه، فيما سجن شركائه في القضية لعدم تمتعهم بحصانة مماثلة.(18/85)
إن "الحيدة القيمية" عند رجل الأعمال على وجه الإجمال سواء أكان سياسياً أم خارج أية أطر سياسية عادة ما تؤسس عنده شكل العلاقة مع الوطن وقضاياه وهمومه، وربما تفصل في مسألة "معنى الوطن" في وجدانه، ولعل ذلك ما يتضح في مسألة ما يسمون بـ"سماسرة المدن"، وهم ينتمون إلى فئة "رجال الأعمال"، في العراق، وفي الأردن: ففي الأولى لا يتورعون عن التوسط للإسرائيليين في عمليات شراء واسعة النطاق للأراضي في كل من كردستان، والكفل (جنوب الحلة)، والعزيز ( شمال العمارة)، والتي يتكالب عليها الإسرائيليون لأسباب دينية، وفي الأردن تنشط مكاتب لرجال أعمال أردنيين بالمدن الصناعية لتسهيل عمليات شراء واسعة للأراضي يقوم بها إسرائيليون في كل من العقبة، مادبا، ومنطقة جلعاد والشمال.
إن ممارسة من هم خارج دائرة الفعل السياسي تعكس مدلول ومعنى الوطن عند رجل الأعمال عموماً، فما بالنا بمن بات منهم "سلطة سياسية" داخل بلده، له قوة القسر والإلزام القانونيين؟! لعل ذلك من شأنه أن يفتح نقاشاً عاماً حول علاقة رجال الأعمال بالسياسة، وتبني دعوة ربما تكون مشروعة تستهدف إرساء قواعد وأعرافاً جديدة لهذه العلاقة، ربما تنتهي بالدعوة إلى ضرورة الفصل بين "البزنس والسياسة".
المصدر : http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws/index.cfm?fuseaction=content&contentid=6100&catego r yID=20
=============(18/86)
(18/87)
الاستخبارات الإسرائيلية وصناعة الخطر النووي الإيراني!
18/10/2004
بعد مرور أسبوعين على بداية عمليات القصف الجوي الأمريكي لأفغانستان، وبالتحديد في 24 أكتوبر 2001؛ بعثت إسرائيل بوفد حكومي كبير إلى واشنطن لإجراء مباحثات مع الإدارة الأمريكية، وكان ذلك الوفد يضم مدير لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية، ورئيس مجلس الأمن القومي فيها.
والغرض الأساس من إرسال هذا الوفد هو تحذير الولايات المتحدة مرة أخرى - عبر استخدام مزيد من الأدلة - من أن إيران تسعى لأن تصبح القوة النووية المقبلة في المنطقة.
كانت لهجة الرسالة الإسرائيلية قاطعة، ومفادها أن البرنامج النووي الإيراني يتقدم بسرعة كبيرة، ولهذا ينبغي عمل شيء، لقد وضع هذا التحذير إدارة جورج دبليو بوش في مأزق، فإيران التي تربطها علاقات سياسية وإيديولوجية قديمة مع أفغانستان عرضت تقديم تسهيلات للأمريكيين بالسماح للطائرات المروحية التابعة لقواتهم المسلحة القيام بعملياتها انطلاقاً من قواعد في أراضيها، كما وافقت على منح معلومات استخبارية للأجهزة السرية الأمريكية.
وكانت الاستخبارات الأمريكية تتابع عن كثب النشاط النووي الإيراني، وقد التقى المسئولون في الأجهزة السرية الأمريكية والإسرائيلية سراً عدة مرات، وكان الموضوع باستمرار هو تبادل المعلومات عن البرنامج النووي الإيراني.
لكن إيران نفت مرات عدة أنها تسعى إلى امتلاك السلاح النووي، بينما تقول تقديرات الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية أنه أمام إيران خمس سنوات فقط كي تتوصل لإنتاج رؤوس نووية، لكن كان السؤال الذي يدور في الأذهان يتعلق بمعرفة ما إذا كانت قد وصلت إلى نقطة اللاعودة، أي أنها بلغت المرحلة التي لا تعتمد فيها على استيراد مواد وعتاد من الخارج من عدمه.
وكانت إيران قد بدأت مساعيها لامتلاك السلاح النووي منذ عقد السبعينيات الماضي - أي خلال عهد الشاه - الذي تشير المعلومات إلى أنه استثمر ما يقدر بستة مليارات من الدولارات في المشروع النووي الذي شاركت فيه شركة "سيمنز" الألمانية، وكانت هذه الشركة قد أكملت بناء نصف المنشآت اللازمة لإقامة مفاعلين نوويين في منطقة بوشهر بالقرب من مياه الخليج، وتقارير الاستخبارات الأمريكية تؤكد بشكل قاطع أن شاه إيران كان يسعى إلى تصنيع القنبلة النووية بالفعل.
وكانت تلك المساعي قد توقفت عام 1979 بعد الإطاحة بنظام الشاه، ثم تبددت بعد ذلك المخاوف الأمريكية حيال النشاط النووي الإيراني بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، تلك الحرب التي أضعفت إيران والعراق في الوقت نفسه، كما أن البرنامج النووي الإيراني قد توقف بعد أن دمرت الطائرات العراقية بإحدى غاراتها منشآت بوشهر النووية.
ولقد انتهت تلك الحرب عام 1988، وعاد الإيرانيون للاتصال بعد ذلك بشركة "سيمنز" الألمانية بقصد استئناف النشاط النووي، غير أن الحكومة الألمانية استجابت للضغوط التي مارستها عليها الإدارة الأمريكية، وطلبت من الشركة عدم الاستجابة لما يريده الإيرانيون.
وإذا كان العداء المشترك للولايات المتحدة من قبل إيران والاتحاد السوفييتي - السابق - لم يؤد إلى توثيق العلاقات بينهما، فإن وفاة الخميني أعقبها انعطاف في إستراتيجية طهران، وهذا ما تبدى من خلال توقيع اتفاقية بين طهران وموسكو للتبادل التجاري وبيع السلاح، كما نصت الاتفاقية على التعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، ووافقت حكومة يلتسين على إعادة بناء المنشآت النووية التي كانت الحرب مع العراق قد دمرتها في منطقة بوشهر.
وفي 1985 وقع الجانبان عقداً قيمته 800 مليون دولار لإنشاء مفاعل نووي يتولى تشغيله فريق إيراني روسي، وبدأ تعاون فعلي حيث بدأت روسيا في تدريب الإيرانيين الفنيين والعاملين في ميدان الفيزياء، لكن ترددت شائعات تفيد أن المنشآت النووية الإيرانية ليست في منطقة بوشهر - كما قيل سابقاً - وإنما في أماكن سرية أخرى تخضع للسيطرة المباشرة للعسكريين، ويقال إنه قد بديء العمل في هذه المنشآت السرية قبل حوالي عامين من تفجيرات 11 سبتمبر، وأنها منتشرة في أماكن متفرقة من إيران، حسب المصادر الإسرائيلية.
ويبدو أن الإيرانيين قد أرادوا بذلك اتخاذ إجراءات وقائية ترمي إلى الحد من الخسائر في حالة قيام إسرائيل بعمل مماثل لما فعلته في العراق عندما قامت بقصف المفاعل النووي العراقي "تموز" ودمرته.
لم يكن الهم الأكبر للمخابرات الإسرائيلية والأمريكية هو ما يمكن أن تحققه إيران من تقدم، وإنما فيما يمكن أن تحصل عليه من روسيا، إذ بعد تفكك الإمبراطورية السوفييتية كان هناك ضباط يريدون بيع سلاحهم لأية جهة كانت، كما أن بعض المواد والعتاد الحساسة قد بقيت في عدد من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وقد حاولت إيران كما تدل معلومات استخبارية الحصول على مواد لصناعة السلاح النووي من جمهورية كازاخستان حديثة الاستقلال في أوائل التسعينيات من القرن الماضي.(18/88)
وقد نجحت إدارة بيل كلينتون إلى حد ما في منع إيران من الحصول على ما تريده من روسيا، كذلك نجح الأمريكيون بمساعدة جهاز "الموساد" الإسرائيلي في إقناع شركات ألمانية وأوكرانية وتشيكية بعدم بيع التقنيات النووية لعملاء مجهولي الهوية، كما اقنعوا هذه الشركات بوقف التعاون بشكل كامل مع إيران، وامتنع شركاء آخرون عن التعاون مع إيران استجابة لتهديدات بعقوبات اقتصادية قد يتم فرضها عليهم.
لقد استمرت إدارة بيل كلينتون الثانية في التحذير من الخطر الذي يشكله صدام حسين، وهذا خفف إلى حد ما الضغط على إيران، كما خفف عنها أيضاً وجود أولويات أخرى لدى الإدارة الأمريكية، مثل توسيع إطار حلف شمال الأطلسي.
بعد انتخاب جورج دبليو بوش رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية عام 2000 توقفت اللقاءات الأمريكية الإسرائيلية الخاصة بإيران، ولم يرغب الطرفان في استئنافها لفترة من الزمن، إذ كانت إسرائيل مشغولة بالانتفاضة، في حين أن رجال الإدارة الأمريكية الجديدة كانوا يحتاجون إلى الوقت الكافي من أجل تقييم المواقف.
وخلال عام 2001 - وفقاً لمصادر أمريكية - جمعت إسرائيل براهين جديدة على أن هناك شركتين روسيتين على الأقل تقومان بتصدير مواد لازمة لتصنيع السلاح النووي إلى إيران، وقد تم نقل هذه المعلومات إلى واشنطن في أكتوبر 2001، غير أن الإدارة الأمريكية كانت مشغولة بالملف العراقي، وبالبحث عن حلفاء جدد في حربها ضد "الإرهاب".
وفي نهاية 2001 توصلت الأوساط الاستخبارية الأمريكية إلى أن إيران تمثل خطراً عاجلاً في ميدان تصنيع السلاح النووي أكثر من الخطر الذي كان العراق يمثله، والحقيقة أن الكل يعلم أن إيران هي التي ستكون التالية في امتلاك السلاح النووي، فبعد انتهاء حرب الخليج استطاع المفتشون الدوليون إنهاء النشاط النووي العراقي بصورة شبه كاملة، ثم على الرغم من أن العراق يمتلك المعرفة العلمية والتقنية، ويمكنه معاودة نشاطاته النووية بسرعة، إلا أن المجتمع الدولي لن يمكنه من ذلك.
لذلك لم يصل العراقيون بعد إلى المرحلة التي وصل إليها الإيرانيون في هذا الصدد، لقد واصلت إدارة جورج دبليو بوش تركيزها على العراق، وهذا يعود - حسب تعبير أحد كبار الاستراتيجيين الأمريكيين في إدارة بوش - إلى أنه "من المهم معالجة الوضع في العراق، وليس في إيران، فالعراق لا يجرى فيه أي شيء يسمح بتوقع تحسن الأوضاع فيه"، لكن بالمقابل - وعلى حد تعبير الخبير الاستراتيجي نفسه -: "في إيران يوجد أمل في أن يتحسن الوضع، بينما يسيطر صدام حسين على البلاد بقبضة من حديد، فإذا اختفى النظام العراقي من الصورة فإننا سوف نركز على إيران بطريقة مختلفة".
وكانت المساعدة التي قدمتها إيران في الحرب على أفغانستان، والتطورات الداخلية التي أظهرت ابتعاداً جماهيرياً عن القيادات التقليدية، وتزايد مشاركة النساء في الحياة السياسية، كل هذه العوامل شجعت الإدارة الأمريكية، لكنها لم تمنع الرسميين الأمريكيين بالمقابل من التأكيد أن إيران سوف تواصل مساعيها للحصول على السلاح النووي، وكان الإسرائيليون يعتقدون أن موقف الولايات المتحدة من إيران ستحدده - قبل كل شيء - نتائج الحرب الأمريكية ضد "الإرهاب"، فإذا لم تسفر الجهود الأمريكية المبذولة في هذا الميدان عن نتائج ملموسة؛ فإن واشنطن سوف تلجأ إلى طلب المساعدة من إيران.
وفي أغسطس 2002 عقد التنظيم المعروف باسم "المجلس الوطني للمقاومة في إيران" مؤتمراً صحافياً في واشنطن، أعلن فيه أن هؤلاء المعارضين الإيرانيين يمتلكون الأدلة الدامغة على أن إيران قد أنشأت مباني للنشاط النووي في منطقة تقع جنوب العاصمة طهران، وبعد عمليات تفتيش قام بها خبراء تابعون لوكالة الطاقة الذرية الدولية في إيران تم العثور على مواد يمكن أن يجري استخدامها في النشاطات النووية، كما بدا أن بعض هذه المواد قد جرى جلبها من باكستان، بينما تم شراء البعض الآخر من السوق السوداء.
وفي أكتوبر 2003 أعلنت السلطات الإيرانية أنها قامت بإنتاج كمية من اليورانيوم المخصب، وأنها قامت أيضاً بنشاط نووي، وأن أنشطة البرنامج النووي تعود إلى ثماني عشرة سنة خلت.
وقد كان لإسرائيل دور في محاولة الحصول على المعلومات الخاصة بالنشاط النووي الإيراني، وتوظيف هذه المعلومات من أجل الحث على ضرورة كبح هذا النشاط ومنعه، وكانت الاستخبارات الإسرائيلية قد أشارت منذ عدة سنوات إلى أنها استطاعت فك وسائل إيرانية مشفرة علمت من خلالها بوجود اتصالات بين إيران وباكستان بشأن تصنيع السلاح النووي.
ومن المعروف أن للاستخبارات الإسرائيلية صلات قوية في إيران بحكم العلاقات الوثيقة التي كانت قائمة في زمن حكم الشاه، ولا تزال هناك اليوم صلات خاصة مع بعض جماعات المعارضة الإيرانية بما فيها المجلس الوطني للمقاومة في إيران، الذي يبدو أنه قد حصل على المعلومات التي أعلن عنها في المؤتمر الصحافي المشار من إسرائيل.(18/89)
وفي غضون ذلك يواصل القادة الإيرانيون التأكيد أن بلادهم تسعى لإنتاج الطاقة النووية لاستخدامات مدنية سلمية، وليس لإنتاج السلاح النووي، وبالفعل توقفت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في نوفمبر 2003 عن اتهام إيران بالسعي لإنتاج القنبلة النووية، وقالت: إنه لا يوجد أي دليل على أن النشاطات النووية الإيرانية ترمي إلى تصنيع السلاح النووي.
المصدر : http://www.alas صلى الله عليه وسلم ws/index.cfm?fuseaction=content&contentid=5767&catego r yID=16
==========(18/90)
(18/91)
أرى خلل الرماد وميض نار!
محمد طاهر أنعم
لا يفت في عضد الأمة المجاهدة والقوى المقاومة شيء مثل: الانهزامية النفسية؛ والشعور بالدونية.
والمسلمون يحملون المشروع الحضاري الأعظم والأعلى؛ والذي يصلح الحياة في شتى المجالات سياسية واقتصادية واجتماعية.. وسواها، ويبرهن على ذلك أن أكثر المناطق التي فتحها المسلمون في عصور الفتوحات اقتنع أهلها بهذا النظام الديني العظيم، ودخلوا في دين الله أفواجاً، من كل الأقوام والعرقيات، العرب والكرد، والبربر والترك، والفرس والأفارقة وسواهم.
والعكس من ذلك في البلاد المسلمة التي احتلها الكفار في القرون الماضية وفي عصر الاستعمار، حيث بقي أهلها على دينهم كارهين عدوهم حتى رحل عنهم بعد زمن طال أو قصر.
فالمشروع الحضاري الإسلامي هو المشروع الأصلح لحياة البشر في هذا الكوكب، كيف لا؟ والله - سبحانه وتعالى - خالق البشر, والعالم بمصالحهم؛ هو الذي بين معالم هذا المشروع، وأمر باتخاذه ديناً ومنهجاً.
ولا تزال الأمة بخير ما دامت تجعل هذه المسألة الجوهرية نصب عينها في كل منعطف.
أما الخطر الحقيقي فهو الانهزامية النفسية، هو أن يبحث المسلمون عن حلول إشكالاتهم وتخلفهم - الذي خلقه انحرافهم عن المنهج السوي - عند الكفرة الضالين.
الخطر هو أن يظن بعض الناس أن الكفار - على مختلف مسمياتهم الجميلة وغير الجميلة - يريدون خيراً للمسلمين، أو صلاحاً في أمور دنياهم؛ أو تقدماً.
وقد أوضح الله - سبحانه وتعالى - هذه المسألة بما لا تجوز الغفلة عنه (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم )) (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)).
الخطر هو أن نختلق الأعذار الواهية والأسباب الكاذبة للتعامل مع الكافر- والكافر المحارب -، والقبول ببعض مشاريعه السياسية والاجتماعية، وإملاءاته الاقتصادية وسواها.
الخطر هو أن يستقوي بعضنا ضد بعضنا بالآخر الكافر المحارب المتربص.
والخطر هو أن يندفع المسلم منتقماً من ظلم وقع عليه من بني جلدته حكاماً أو أحزاباً، أو قبائل أو قوميات في بلده؛ ليضع يده في يد الكافر الأعظم ظلماً، والأبعد حالاً؛ ملتمساً عنده الإنصاف، أو راغباً في تحقيق المصلحة الذاتية للجماعة أو الحزب أو العرقية أو سواها، ألم يقل ربنا - سبحانه وتعالى -: ((فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)).
عندما طرح مشروع الشرق الأوسط الكبير من أمريكا الوالغة في دماء المسلمين؛ أخذ الناس يسمعون من هنا وهناك دعوات غريبة من قوى سياسية حزبية وسواها في البلاد العربية تدعو لعدم رفض هذا المشروع الحضاري!! بل ومناقشته، وأخذ ما فيه من الخير والقيم المثلى والعليا!!
ومعظم تلك الدعوات جاءت من المعارضين والمضطهدين من أفراد وجماعات، وأحزاب وقوميات، وكانت رداً على موقف الحكومات الرافض للمشروع، ليس اعتزازاً حضارياً بل لتضمنه الإصلاح السياسي، والمشاركة الشعبية والحزبية - على حد زعمهم -!
وتشتد الغرابة حين ترى بعض الموصوفين بالانتماء للفكر الإسلامي، والجماعات والتيارات الدينية؛ يتخذون مواقف غير رافضة للمشروع ومداهنة له؛ ناسين مشروعهم الحضاري الإسلامي المتكامل والذي لا ينبغي لهم قبول سواه.
ثم إن هناك عدم نضج سياسي - هذه أحسن عبارة يمكن أن تقال هنا - في التعامل مع المشاريع الأمريكية، فمن هو المسلم الذي ما تزال تنطلي عليه مشاريع الإصلاح الأمريكية، ومن الذي يصدق أن أمريكا تريد بنا خيراً (( لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)).
أليست أمريكا هي التي دعمت تلك الأنظمة العربية القمعية والشمولية عشرات السنين، أليست هي التي كانت تغض الطرف عنهم وعن انتهاكاتهم لحقوق الإنسان؛ التي تدينها تقارير المنظمات الحقوقية الدولية والأمريكية بالأخص، بل وحتى تقارير الخارجية الأمريكية نفسها.
أليست أمريكا هي التي تبيع لهم أجهزة القمع، وتقيم لهم الدورات التدريبية في التعامل مع المشاغبين، والإرهابيين، وأحداث الشغب.
ما الذي يرجوه عاقل من أمريكا.
أين الحرية المزعومة في العراق بعد مرور العام.
أين مقومات الدولة والوطن والرفاه الاقتصادي.
أين حكومات الوحدة الوطنية، والقضاء على المليشيات القبلية، والمذهبية، والانقسامات العرقية في أفغانستان، والعراق.
ثم هل يظن ظان أن أمريكا من الغباء بحيث تقبل أن نأخذ ما نريد من الإصلاحات السياسية في مشروعها - الشرق الأوسط الكبير - ونذر ما سواه!
إنه مشروع كبير متداخل؛ يتضمن تحرير المرأة من الشرع والعادات، ويتضمن هدم آخر معالم الولاء والبراء في التعامل مع دولة الكيان الصهيوني، وفتح السفارات لها في كل بلاد المنطقة، والتعامل الواقعي معها، ويتضمن القفز على القيود الشرعية في مفهوم الحرية بجميع مجالاتها الدينية والسياسية وغيرها.(18/92)
وأخطر من كل هذا أن المشروع يهدف إلى تذويب الشخصية الإسلامية للمنطقة لتصبح شخصية مصالحية لا ارتباط لها بدين، أو عادات؛ فتمسي مسخاً لا هوية له!
وبالتأكيد فإن أمريكا لن تتنازل قيد شبر، وستضغط بكل وسائل الضغط لمن يستجيب لها في هذا المشروع وسواه؛ من أجل تجفيف منابع التدين، ومكافحة الإرهاب الذي يقصد به الإسلام المتحرك!
والغريب أن بعض العلمانيين والمتغربين في البلاد العربية قد فهموا فحوى المشروع فهللوا له وكبروا، وتحمسوا له لأنه يؤدي لما يأملونه ويدعون إليه، لا أقر الله أعينهم!
بينما تجد بعض الإسلاميين والوطنيين - في غفلة عن الثوابت - يرحبون به، ويدعون لدراسته، وعدم التعجل في رده، والدعوة للمحاورة والتناقش مع الأمريكان حوله؛ ودراسته بشكل شمولي، وغيرها من دعوات التعقل والحوار مع الأسد الجائع الذي لا يفهم لغة الحوار!
ولا يجوز أن تكون مواقف الحكومات أو الأحزاب الحاكمة أو الطوائف أو العائلات التي في الحكم سبباً لاتخاذ مواقف غير محسوبة بمد يد التعاون مع الأمريكان، والخطر هو أن يدفع حب الانتقام الواحد أو الجماعة أو الحزب إلى التحالف مع الشيطان ضد خصمه!
المصدر : http//:www.islamselect.com
=============(18/93)
(18/94)
علي بوخمسين علاقات القوة
جاء الخطاب الأمريكي تجاه الشرق الأوسط الكبير تجلياً لعلاقات القوة القائمة فيما بعد الحرب الباردة، فالقوة لا تعبر عن نفسها إلا من خلال علاقاتها بالقوى الأخرى، وليس ثمة خطاب يمكن تأسيسه إلا من خلال موقعه على رقعة التشابك بين القوى، ليس في وسع الولايات المتحدة (مثلاً) الإعلان عن مشروع للإصلاح في الصين، لأن خطابها حيال هذا البلد يبقى متموضعاً في أرضية توازن القوة ومستنداً إلى معادلات الممكن والممتنع، وفي السنوات العشرة الأخيرة انحرف الخطاب الأمريكي الموجه للصين عن مساره التصاعدي المعهود منحدراً في طريق تنازلي على وتيرة تعكس نمو وتصاعد القوة الصينية في التقنية والاقتصاد.
كان على الخطاب الأمريكي تجاه الصين أن يتخلى عن نبرته لأن الشروط الموضوعية المنتجة له على صعيد الواقع المتحقق أصابها التغيير وإلا أصبح خطاباً ديماغوجياً لا قيمة له، وفي الجانب الآخر فإن الشروط التي تمنح الخطاب الأمريكي تجاه الشرق الأوسط آمريته وعنفوانه هي حقائق ماثلة وتجربة يومية حية لا تنتهي في العراق أو أفغانستان أو فلسطين ولكنها تبدأ في ما يؤسس للموقف العربي الإسلامي ويحدد موقعه الحضاري المزاح عن دائرة الفعل والتأثير، فلقد كان لابد لخروج هذا العالم من التاريخ والزمن أن يأخذ طابعاً تراكمياً على مستوى العجز الذي جعل المنطقة برمتها تتحول إلى مريض العالم، فاقد الوعي، المستكين إلى مشارط (الحكماء) من الغرب والشرق، حيث توحي الوتيرة المتصاعدة لانهمار مشاريع الإصلاح على الشرق الأوسط بأن التشخيص المرضي لهذه المنطقة قد اكتسب إجماعاً على مستوى العالم بأكمله، حيث إن (الإصابة) الشرق أوسطية لا تنتمي إلى حالات الكمون الذي يمكن عزله ومحاصرته، فهي تتسرب عبر الشقوق والفجوات على جدران التحصينات التي تقام في وجهها لحماية (الحضارة)، تنفجر هنا وهناك وتثير الفزع في عالم (آمن)، من هنا اكتسبت (المشاريع الإصلاحية) الهاطلة من أمريكا إلى اللكسمبورج مشروعيتها، حيث يجري تحضير غرفة العمليات لفحص رجل العالم المريض وتشريح جسده على أيدي الثمانية الكبار في وقت قريب، ويبدو رجل العالم المريض مريضاً بحق، عاجزاً وكسيحاً، وجماع ما تسعفه به قواه المتهالكة أن يتمتم بالرفض وهو يدير وجهه إلى الحائط، وليس ثمة ما يعكس هذا الواقع مثل (وثيقة العهد) التي بلورتها الجامعة العربية تحت وطأة الوابل المتزايد لمشاريع التدخل الأجنبي المقنعة والمتسترة تحت ألقاب الإصلاح الذي تبلغ مواسمه ذراها وترتفع راياته فوق مهرجانات الأدبيات السياسية ليزود الخطابية العربية بأبجديتها المزوقة المغرقة في الإيهام (كما نشرتها جريدة الحياة 2004/3/11)، حيث تتداخل المعاني والحدود لتعيدنا إلى نقطة الصفر من تاريخ طويل لنضال الأقوال وحروب المنابر وذكرى الانتصارات الدونكشوتية، فالعقلانية المستنيرة التي كنا نعتقد إنها تسللت إلى الردهات المغلقة التي ينتج بين جدرانها القرار العربي والمسلم لم تكن سوى عبارات رتيبة عائمة على محيط لامتناه من احتمالات المعنى والتفسير، فضفاضة صممت بعناية لتحوي كل شيء ولا شيء، فجاءت اللغة التي كان ينتظر لها أن تمنح أمتنا جدارتها لمواجهة المعضل الأكثر خطورة وحسماً لتجسد بكل جلاء موقفاً متهالكاً، لا ينطق إلا بالواقع المتحقق على ساحة توازن القوى ومعادلات السيطرة في العالم المعاصر، عندما نقرأ أن الموقعين المنتظرين على هذه الوثيقة (استذكاراً للإنجاز التاريخي المتمثل في ميثاق جامعة الدول العربية) يؤكدون (تضامننا في تعزيز العلاقات والروابط بين الدول العربية وصولاً إلى التكامل من خلال تطوير التعاون العربي المشترك وتقوية قدراتنا الجماعية لضمان سيادة الأراضي العربية وأمنها وسلامتها وصونها) تصوروا!!! و(وعقدنا العزم على مواصلة خطوات الإصلاح) و(تهيئة الظروف الضرورية لإرساء التكامل الاقتصادي فيما بيننا على نحو يمكننا من المشاركة الفاعلة في الاقتصاد العالمي).(18/95)
كله رائع وفخم وعلى قدر كبير من الحصافة والفطنة، ولكن كيف؟ متى وأين؟ تبقى كلها هائمة معلقة غائرة في كثافة الضباب، كيف يمكن لهذه العمومية المطلقة أن تحرر مشروع النهضة الحضاري المرتقب من عقاله، تفك أسره المزمن وتنتزعه من احتباسه وغيبوبته؟ كيف لها أن تخلص الأمة العربية من سلبياتها وتعبئ قواها، وتشحذ إمكانياتها ضمن منهجية وعقلانية ملائمة لمرحلتها التاريخية وتمايزها الإنساني والثقافي؟! كيف يكون للدهشة مكان؟ وأين يكمن موضع العجب؟! إذا أصبحت أمة كهذه تواجه أخطر مفاصل تاريخها بهذا القدر من الهلامية مستباحة لكل الانتهاكات، فاقدة لوعيها على مشرحة العالم والتاريخ، ومع ذلك فإن على وعينا أن يتصدى لشبكة الألغاز التي يقذفنا بها الالتفاف المفاجئ لمسار الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، فلا مجال لتخطي التساؤل عن مغزى أن تتم بسرعة فائقة زحزحة المنطقة من موقع الخصم الحضاري الذي ينبغي محاصرته إلى موقع الحليف المتوعك الذي ينبغي إحاطته بالعناية والحنو، من منطقة تنغرس جذور العداء للحرية والحضارة في عمق تربتها الثقافية، ونزوعها المتأصل، إلى منطقة تحمل (وعد) الحضارة في وطن الإنسانية المصانة والمحررة من همومها وأعبائها، وليس على الجواب أن يضرب بعيداً عن خارطة القوة، عن التبدلات المفاجئة بدورها وعن عملية الحراك السريعة التي شهدتها مواقع القوة في سنوات قليلة متتالية وسريعة، عن المياه الغزيرة المتدفقة تحت طبقة رقيقة لن تلبث أن تنبجس عن تيار هادر يعيد رسم مشهد علاقات القوة في العالم، ويعلن ميلاد العملاق الصيني وظهور الصين الصينية، لا الصين الماركسية، ولا حتى الصين الماوية، بل صين الصين التي لن تكون نسخة لأحد ولا صدى لصوت أحد، أو تابعاً متظللاً بعباءة أحد، هذه الصين المنبعثة على إيقاع سريع بعثرت في ضربة واحدة مرتكزات القراءات السابقة لمستقبل العالم المنظور، وأبرزت أمام الأمريكيين العيوب التي اتسم بها اختيارهم لخصمهم الحضاري الموهوم، الذي تلقفه الاستراتيجيون الأمريكيون بعد سبتمبر البغيض لإذكاء جذوة الحس الوطني وتعبئة روح الانتماء بعد اختفاء الخصم السوفياتي، وهو ما يمثل ضرورة استراتيجية لبلد يمتلك مشروعاً كونياً.
لقد حفل هذا الخيار بسلبيات خطيرة في بعدها الثقافي والإنساني وفي مستوى الاستجابة للتحدي الذي جرى افتعاله، من ناحية فإن هذا الخصم المفتقر إلى أبسط أبجديات الاستراتيجية والتخطيط، قد يستغرق الجهد الأمريكي ويستدرجه بعيداً عن تأكيد تفوقه التكنولوجي الحاسم، ويرغمه على الانخراط في الصراع وفق الشروط البدائية التي يتقنها، ويحد من تفاعله على مستوى المنافسة العالمية في حقول التقنية الفائقة، كما ينطوي الاختيار الخاطئ لهذا الخصم الحضاري على خطر تنامي النزعات الدينية المتطرفة واستقطابها المتسارع لقوى التمييز العنصري والعرقي، وأخطر من ذلك في الانتهاكات الجوهرية للدستور والحقوق المدنية التي أشاعت القلق في أوساط النخب الأمريكية من خلال القوانين التي أقرها الكونجرس فيما يشبه قوانين الطوارئ في دول العالم الموسوم بالتخلف.(18/96)
ومع التحولات الجذرية في الصين، والتي يجسد أكثرها خطورة وأهمية في بلورة العمل المؤسسي ونمو روح القيادة الجماعية وتبني العقلانية الإدارية وانحسار التسلط الإيديولوجي، مما ساعدها على تخطي معضلتها التاريخية المدمرة المتمثلة في التضخم، ومع استمرار النمو بمعدلات هي الأعلى في العالم، واتساع رقعة التنمية على الصعيد الجغرافي والإنساني لكي تشمل الأرياف، التي كان القائد التاريخي دينغ شاوبينغ قد أطلق منها تياره الإصلاحي الكبير، يتقدم كل ذلك القفزات التكنولوجية المثيرة التي توجها رجل الفضاء الصيني الأول وسط مزيج من الإعجاب والذهول، مع كل هذه التحولات المتسارعة في العالم الصيني الواسع ومع إدراك المؤسسة الأمريكية في تشكيلاتها المتعددة والمنبثة في عروق المجتمع بتهافت الخصم الحضاري المفتعل وما ينطوي عليه الصراع الدائر من التهديد المستتر وبعيد المدى، للأساس الحضاري والثقافي للمجتمع الأمريكي، فإن الأمريكيين يكتشفون بصورة مفاجئة الحقائق البسيطة التي وضعت أمامهم في أعقاب سبتمبر وأشاحوا بوجوههم عنها في حومة الغضب والهيجان، أن القوة وحدها لن تجتث الإرهاب والتطرف، إن جذوره تضرب في عمق التخلف والفاقة والاستبداد، في الظلم والتسلط الدولي والمحلي بأشكاله المختلفة، في تغييب الإنسان واستباحته وحرمانه وتدمير الطبيعة من حوله لصالح المتسلط المحلي المحتمي بمظلة الأجنبي والملتف بأرديته، وكانت أرض الواقع تنبت حقائق تملأ الأفق وتطلق الرياح التي تبعثر كل الأوراق وتفرض إعادة كل القراءات ومراجعة كل التأويلات، وها هم الأمريكيون يستجيبون لانحرافات موازين القوة، وحركة الإزاحة والزحزحة التي يجري تأكيدها، للعالم الجديد الذي يأخذ سمته في الانبعاث على خلفية الذهنية الأمريكية نفسها، العقلانية العملاتية المطلقة، رأسمالية الاقتصاد، العلم والتكنولوجيا، يترافق ذلك مع وعيهم المتزايد بخطأ خياراتهم في الصراع، ولكن استجاباتهم تأتي أمريكية الروح والشكل والمضمون، إنها استجابة الآمرية المتعالية والمتجاهلة للآخر، شؤونه وشجونه، معاناته وطموحه، أوجاعه ومآسيه، حيث يكشف المشروع الأمريكي عن مستوى القيمة في معادلات المخططين الأمريكيين لهذه المنطقة من العالم ذلك المستوى الذي يعكس موقع هذه المنطقة على خريطة القوة، فهذا المحيط الجغرافي والبشري الواسع بأبعاده الثقافية وتاريخه الممتد وحضاراته الأولى وإسهاماته الإنسانية الكبرى، تم اقتلاعه من وسطه الإنساني والتاريخي والثقافي وطمست كل الحقائق الماثلة على صفحة واقعه، كل التفجرات والأورام السرطانية على جسده، فلسطين وكشمير والصحراء الغربية وجنوب السودان وغيرها من البؤر التي امتدت لتشمل العراق وأفغانستان، جاء المشروع الأمريكي ليلحق هذا العالم الواسع باستراتيجيته الكونية طامساً ومتجاهلاً لطموحات شعوبه في بناء مشروعها الحضاري الخاص، إقامة أنظمتها الأمنية، صيانة استقلالها الوطني وثقافتها، جاء متلفعاً باطروحاته التقليدية، الديموقراطية والإنسان، المشروع الأمريكي اختزل الجغرافيا والبشر والتاريخ في صياغة مرتجلة تكشف فقط عن الارتباك الذي يعتري المخططين الأمريكيين، ذلك لأن محيط الفاقة الرازح تحت أثقال ساحقة من المعضلات والممتد من جبال الأطلس حتى سفوح الهيملايا بما في ذلك آسيا الوسطى والقوقاز، لا يمكن استئصال أدرانه المزمنة عبر خزانة الإسعاف التي حملها المشروع الأمريكي في عباراته العمومية واستعاراته المرتجلة، ولن يكون للمثاليات التي اطلقها مفعول من أي نوع، قبل أن تتجاوز المنطقة إشكالياتها المتجذرة في الاستراتيجية الأمريكية نفسها، قبل معالجة مسائل إنسانية أصبحت لطخة عار تشوه الجبين الناصع الذي تحاول الحضارة القائمة استعارته، ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذي يعانون من لا إنسانية البطش الإسرائيلي بينما يكابدون مستويات من العيش لم تعد لائقة بالبشر، وعشرات الملايين الآخرين من المشردين نتيجة الحروب والتفجرات والنزاعات التي تخدم أغراض الهيمنة الأجنبية، البشر البائسون الهائمون على وجوههم، ضحايا الخوف والاضطراب والاضطهاد المحلي، مظاهر العوز والفاقة ونقص التغذية وتلوث المياه والبيئة، كل الركام الهائل والمتكاثر الذي أنجبه تاريخ طويل من التقهقر والغزو وانتهاب الثروات من قبل الاستعمار الغربي وعملائه المحليين. إن المشروع الأمريكي يبدو ساذجاً وطفولياً إلى درجة النكتة في اختزاله وعموميته، انه مشروع مرتجل في سياق السياسة الأمريكية المعهودة المنبثقة دائماً وأبداً من مصالح متقلبة ونزقة، والمتأثرة بإرادة الحركة الصهيونية عندما تتعلق الأمور بالشرق الأوسط، فهذا المشروع لا يجهد نفسه كثيراً في إخفاء غايته الاستراتيجية القصوى، التي هي عزل المنطقة عن المصادر الحقيقية لمستقبلها الحضاري وقدراتها الكامنة لتجاوز أوضاعها الحالية، تلك الإمكانات التي يؤطرها كيانها الثقافي وهويتها العربية الإسلامية، يحولها إلى كتل بشرية فارغة من حس الانتماء والرابطة تخفق قلوب جماهيرها باللهفة إلى بريق (الحضارة) المنبعث عبر منارات(18/97)
الدولة العبرية.
2004/03/30 م
http://w r ite r s.al r iyadh.com.sa المصدر:
==========(18/98)
(18/99)
دور تركيا في مشروع الشرق الأوسط الكبير
مصطفى محمد الطحان
نشر الكاتب الصحفي فهمي هويدي في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 4/2/2004 مقالاً هاماً حول هذا الموضوع جاء فيه:
• ليس المستهدف الشرق الأوسط فحسب، ولكنه العالم الإسلامي كله، والحديث الأمريكي المتواتر عن تغييرات مرجوة في خرائط المنطقة يبدو أنه كان أول الكلام وليس آخره، وهذا ليس استنتاجاً ولا هو استسلام لمنطق المؤامرة التي يصر بعض الأبرياء على نفي وجودها، ولكنه قراءة لأحدث الأخبار الآتية من العاصمة التركية أنقرة، ذلك أن صحيفة (يني شفق) نشرت في 30/1/2004 خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي جورج بوش عرض على رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان خلال استقباله في البيت الأبيض يوم 28/1/2004 معالم المشروع الأمريكي الجديد لـ(الشرق الأوسط الكبير)، الذي يمتد من المغرب حتى إندونيسيا، مروراً بجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز.
• حسب الصحيفة فإن المشروع طبقاً لما عرضه الرئيس الأمريكي، جعل من تركيا عموداً فقرياً، حيث تريد واشنطن منها أن تقوم بدور محوري فيه، حيث تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج الاعتدال المطبق في بلادهم، وأن هذا النموذج هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حدّ كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة، وهو مطلب تلح عليه واشنطن وتمارس أقصى ما تملك من ضغوط على الدول الإسلامية للاقتراب منه أو الالتزام به.
السبب الثاني: أن تركيا تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، وبالتالي فهي تعد جزءاً من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث: أن تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، الأمر الذي يلقي ترحيباً وتشجيعاً كبيرين من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي.
لهذه الاعتبارات فإن تركيا تعد من وجهة النظر الأمريكية الحليف النموذجي الذي ترشحه لكي يؤدي الدور الرائد في مشروعها ليس فقط لترويض المنطقة، ولكن أيضاً لتقديم نموذج الإسلام الذي تتوافر فيه شروط الاعتدال كما تراها واشنطن(1).
تحول في العلاقات التركية - الأمريكية
وإذا كانت العلاقات الأمريكية - التركية علاقات متميزة خلال عقود من الزمن.. إلا أنها كانت تنطلق من العسكر.. فالمسئول الأمريكي عندما كان يزور أنقرة على سبيل المثال.. كان يلتقي برئيس الأركان التركي، وفي اللقاء يتم التفاهم على كل النقاط التي تهم السياسات المشتركة التركية
الأمريكية، وتبقى زيارة رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء من باب العلاقات العامة والبروتوكول الواجب لا أكثر.
وأمريكا اليوم غير أمريكا الأمس.
أمريكان الأمس.. كان يهمها من تركيا أن تكون قوة ضاربة في مواجهة الأصولية الإسلامية والشيوعية.. وأن تسمح لها بإقامة قواعد عسكرية في جميع أرجاء البلاد.. وأن تبقي نصف مليون جندي تركي تحت السلاح.. وأن تقيم مناورات عسكرية دورية أمريكية - تركية إسرائيلية..
أما أمريكا اليوم.. فهي الطامحة إلى إقامة الإمبراطورية الأمريكية.. المنطلقة إلى تمسيح العالم (أي جعله مسيحياً) والتقرب إلى الله بمساعدة إسرائيل.. وإلحاق الهزيمة الكاملة بالعرب والمسلمين.. وإذا كانت أمريكا لا تستطيع القضاء على 1. 5 مليار مسلم في العالم.. فلتحاول إيجاد نماذج إسلامية.. دينها الإسلام وإيمانها العلمانية تساعدها في تحقيق أهدافها.. ووجدت ضالتها في تركيا وباكستان.. وإذا كان النموذج الباكستاني مازال غير مهيأ للتبعية الكاملة فإن النموذج التركي جاهز.. فقد تم التفاوض عليه منذ عام 1997.. أي قبل إسقاط حكومة نجم الدين أربكان..
بحثوا عن النموذج الذي يصلح لهذا الدور وأطلقوه هادراً يكتسح أمامه كل العقبات المحلية.. حتى وصل إلى المحطة الأخيرة ليصبح النموذج المطلوب.
ولكن هل هناك أدلة على هذا الكلام؟
• الدليل الأول هو الخبر الذي نشرته جريدة يني شفق التركية (وهي بالمناسبة الجريدة شبه الرسمية).. والذي طالب فيه بوش ضيفه أردوغان بأن تصبح تركيا العمود الفقري لنشر فكرة الشرق أوسطية الجديدة في العالم الإسلامي، وأن ترسل تركيا دعاة ووعاظاً إلى منطقة الشرق الأوسط الكبير يروجوا للفكرة.
• والدليل الآخر هو مواقف الحكومة التركية الجديدة التي مازالت في نظر البعض حكومة إسلامية باسلوب جديد.. من هذه المواقف:
1- التفريط بقضية قبرص.. والتي كانت مشكلة قومية تُجمع عليها الأحزاب التركية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. ولكن حكومة أردوغان أعلنت أنها ستقبل التنازل عن أراض إلى الجانب القبرصي اليوناني المعترف به دولياً.. وهو شرط اليونان لإيجاد حلّ للقضية القبرصية.(18/100)
2- التفريط بالسوق الإسلامية المشتركة.. وقد أبدى رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان مؤخراً معارضته لمبدأ إقامة سوق إسلامية مشتركة، ورأى أن المشروعات القائمة على أساس ديني لا تستقيم مع عالم التجارة.
وأعلن أردوغان في كلمته بمنتدى جدة الاقتصادي الخامس، الذي عقد بين 17 و18 يناير 2004، انه يرى خطأ مفهوم إقامة سوق إسلامية مشتركة، حيث أن المشروعات التي تقوم على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي لا يكتب لها النجاح، معتبراً في الوقت نفسه أن مثل هذه الأطروحات لا مكان لها في عالم التجارة في وقت يتجه العالم نحو العولمة.
وفي الوقت الذي عارضت الأوساط الإسلامية التركية تصريحات أردوغان، اعتبرها التيار العلماني رسالة موجهة للعالم الإسلامي لحثه على الحداثة والتوجه نحو ما أسموه (الليبرالية الدينية).
اتجاه نحو التغريب:
وفي مقال للكاتب الصحفي والسياسي سليمان عارف أمره من حركة مللي جوروش الإسلامي التي يتزعمها نجم الدين أربكان جاء فيه: (إن أردوغان يتوجه تدريجياً نحو التغريب، والتخلص من فكره السابق بمطالبته برفض السوق المشتركة الإسلامية).
وأضاف: (أن تصريحات رئيس الحكومة تتعارض مع أمنيات وآمال الشعب التركي. لو كان أردوغان يتخوف من الأساس الديني للسوق المشتركة ويعارضها من هذا المنطلق، ترى هل نسي أن هناك أحزاباً في كثير من الدول الأوروبية تحمل الاسم المسيحي)؟
وتابع سليمان عارف أمره قائلا: (فيما يتعلق برفضه للمشروع على أساس قومي فإن الاتحاد الأوروبي يستند على أساس عرقي باستخدام كلمة أوروبي، فهل سيتراجع أردوغان عن انضمام تركيا لعضوية الاتحاد لأنه يستند لأساس عرقي)؟
من جهته تساءل الكاتب الصحفي عبد الرحمن ديليباك في صحيفة (وقت) التركية عن كون منظمة الأمن والتعاون الأوروبي تقوم على أساس عرقي وجغرافي؟
وقال: لست أدري من أوعز لأردوغان بهذا الرأي ومن يقف وراءه. ورأى أن يقوم أردوغان بتوضيح تصريحاته، وأن يبين للرأي العام هل هو رأي شخصي أم هو سياسة لحزب العدالة والتنمية؟
محاكمة الميراث الديني:
وفي معرض تعبيره عن تأييده لتصريحات أردوغان، انتقد يالجين دوغان بصحيفة (ميلليت) التركية اليسارية إغلاق السعوديين لمتاجرهم 5 مرات يومياً من أجل الصلاة، وقال: (هذا لا يتفق والسوق التجارية وجدية العمل، لأن الذهاب والعودة للصلاة يعني ضياع ساعة ونصف من وقت العمل)، على حدّ قوله.
وأضاف أنه يلمس (خلافاً بين قواعد وكوادر حزب العدالة والتنمية وبين أردوغان، فالقاعدة مازالت تسير على أساس إسلامي وديني، بينما أردوغان قد تغير).
أما يشار نوري أوزتورك أستاذ كلية الإلهيات، العضو البرلماني عن الحزب الجمهوري اليساري، فقد أبدى سعادته بتصريحات رئيس الحكومة التركي، وقال: أشعر بالسرور من تصريحات أردوغان، إن الشيء الذي يجب مناقشته أولاً هو محاكمة الميراث الديني للعالم الإسلامي، يجب علينا أن نتوب من الميراث الماضي ونقول بأنه كان خطأ.
وقال الصحفي طه آكيول في حديثه مع شبكة (سي إن إن) التركية: لكي يمكن فهم تصريحات أردوغان يجب النظر لتاريخ الميراث الديني السياسي للحكم والمجتمع، نحن بحاجة لتغيير التوجه نحو الليبرالية الدينية، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ تركيا التي تنقل للعالم الإسلامي مفهوماً جديداً معاكساً لما سبق أن نقله أربكان وذلك من أجل البحث عن مجتمع مفتوح وديمقراطي.
درس للعالم الإسلامي:
صحيفة (ترجمان) العلمانية اعتبرت تصريحات أردوغان درساً للعالم الإسلامي من تركيا الديمقراطية، بينما رأت صحيفة (دنيا) الاقتصادية أن ما رفضه أردوغان في منتدى جدة وتصريحاته بعدم وجود صحة لفكرة مشروع إقامة سوق مشتركة بين الدول الإسلامية يعد تطوراً في السياسة الخارجية التركية ودعوة للبلاد الإسلامية للاحتذاء بالنموذج التركي.
إسرائيل الكبرى:
وكتب مته جوندوغان في صحيفة (مللي غازتة): إن طرح أمريكا لمشروع الشرق الأوسط الكبير في هذا الوقت بالذات، بينما تضغط على سوريا وإيران، يعني طرحاً لمشروع دولة إسرائيل الكبرى.
وذكرت صحيفة (وقت) التركية أن مجموعة من قادة اليسار التركي (من بينهم كمال علمدار أوغلو رئيس جامعة استانبول، والدكتور نور الدين سوزان عضو البرلمان عن الحزب الجمهوري المعارض) بحثت يوم 14/2/2004 مع شيمون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق وزعيم حزب العمل مشروع الشرق الأوسط الكبير. ولم يسمح للصحافة بالمشاركة في تغطية الاجتماع.
وقد صرح بيريز لقناة (إس تي في) التركية الخاصة التابعة لجماعة النور الدينية بأن تركيا دولة نموذجية بالعالم الإسلامي وعليها دور في مشروعات المنطقة.
وقال بيريز: إنه إذا كان الاتحاد الأوروبي يرغب في القضاء على الصراع الكبير الجاري بين العالم الإسلامي والمسيحي فعليه منح تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك هو الحل المناسب لمنع صراع الحضارات.
ورأى بيريز أنه باستطاعة تركيا أن ترسم طريقها الاستراتيجي من الناحية الأطلسية وطريقها الاقتصادي من الناحية الأوروبية، وطريقها السياسي من ناحية البحر الأبيض المتوسط.(18/101)
وقال: إن العلاقة الجيدة التي تمتلكها تركيا مع إسرائيل والعالم العربي تؤهلها للعب دور الوسيط بين إسرائيل وسوريا لحل الخلافات القائمة بينهما.
رؤية كيسنجر:
من جهتها، تعرضت الكاتبة الصحفية سيبل آرصلان في مقال لها بصحيفة (وقت) للمشروع بقولها: إن أمريكا أعطت الضوء الأخضر لأردوغان حول مشروع الشرق الأوسط الكبير في زيارته الأخيرة، على أساس أن تقوم تركيا بدور محوري في هذا المشروع، وهو ما يتفق ورؤية وزير الخارجية الأمريكية السابق هنري كيسنجر التي طرحها في عام 1995 والتي تقول بأن تركيا يجب أن تكون دولة محورية بالشرق الأوسط.
وقالت سيبل: إن التقاط صور لزوجتي أردوغان وجول المحجبتين مع قرينة الرئيس الأمريكي او بعض زوجات رؤساء وزراء الدول الأوروبية ليس عشوائياً وإنما يدخل في إطار التقارب الأمريكي مع تركيا لإقناعها بالقيام بدور في المشروع، ومحاولة لإظهار نوع من التسامح مع الإسلام ممثلاً في الحجاب بينما تتربص به أوروبا.
استانبول مركز القيادة:
وأشارت صحيفة (مللي غازتة) التركية إلى تصريحات سابقة لجلال طالباني زعيم حزب الاتحاد الكردستاني العراقي التي قال فيها: إن مشروع الشرق الأوسط الكبير أو اتحاد الشرق الأوسط يجب أن يدار من استانبول على أساس تشكيل 4 تجمعات اتحادية في المرحلة الأولى تتحول إلى 4 كونفدراليات ينتخب لها خليفة في مرحلته الثانية.
ويقول مراسل (إسلام أون لاين. نت) أن المؤرخ اليهودي البريطاني الأصل برنارد لويس الذي يحمل الجنسية الأمريكية هو صاحب فكرة المشروع، ويهدف من خلاله إلى إذابة الهوية القومية لدى دول الشرق الأوسط والتوحد تحت هوية الشرق الأوسط الكبير.
والمعروف عن لويس أنه منحاز في آرائه وتحليلاته ضد العديد من وجهات النظر الإسلامية والعربية، إلا أن اختصاصه الأساسي وشغفه الرئيسي هو تركيا، ويعتبر أنها الأنموذج لبلدان الشرق الأوسط والمرشحة الأقوى للعب الدور الأول مع إسرائيل في الشرق الأوسط في العقود الخمسة المقبلة.
للذكرى فقط...
وإذا كانت الشعوب العربية والمسلمة لا تنتظر خيراً من قوى الاستكبار العالمي.. أمريكا وأوروبا ومن سار على دربها.. فصورتهم البشعة واضحة.. وأعمال إسرائيل الهمجية في فلسطين تزيد صورتهم وضوحاً.. ولكن الصورة لم تكن جلية بالنسبة للبعض بخصوص الأوضاع في تركيا.. فهل توضحت الصورة الآن؟ أرجو ذلك.(18/102)
(18/103)
8/3/2004
http://www.jimsy صلى الله عليه وسلم com المصدر:
============
فلسطين ومشروع الشرق الأوسط الكبير
بيار عقل
هل القابلين للمبادرة الأمريكية "ناقصو الوطنية"؟
معظم الذين قرأوا موضوع " لماذا نؤيّد مشروع الشرق الأوسط الكبير؟ " لم يعترضوا على ما جاء فيه، ولكن اعترضوا على عدم التطرّق للموقف الأميركي من القضية الفلسطينية. فكيف نقبل مشروع أميركا للإصلاح والديمقراطية في المنطقة العربية في حين تتّخذ إدارة الرئيس بوش سياسة منحازةً لإسرائيل إلى درجة لم تبلغها أية إدارة أميركية سابقة؟
والسؤال "بديهي" لدي أي عربي. ولو أنه ليس "بديهياً" بحدّ ذاته! و"البداهة" فيه هي أنه يكشف "الإرتباط" الحاصل، منذ أكثر من 50 عاماً، بين "القضية الفلسطينية" و"أنظمة الاستبداد العربية". وهذا ما كان يُتَرجَم، في الماضي، بمقولات من نوع أن "نظام صدّام (أو غيره) إستبدادي فعلاً، ولكنه يشكّل "متراساً" في وجه "الهجمة" الصهيونية والإمبريالية"!!
طبعاً، يمكن الردّ على الاعتراض "البديهي" بأسئلة لا تقع "بداهة". فلماذا تُقمَع حرية الصحافة بحجّة المواجهة مع إسرائيل؟ للحفاظ على الإسرار العسكرية، حسب خرافة كانت سائدة في الخمسينات والستينات والسبعينات؟ وهل توجد أسرار في عصر الأقمار الصناعية والإنترنيت؟ وإذا كانت الصحافة يمكن أن تكشف ما لا يجوز كشفه للعدو، فماذا الذي تكشفه كتابات نجيب محفوظ وبدر شاكر السّياب الممنوعة في أكثر من بلد عربي؟ وكيف يشكّل تشكيل نقابة لعمّال المطابع مثلاً تهديداً لـ"الأمن القومي العربي". وهذا حتى لا نتحدّث عن المخاطر المزعومة التي يمكن أن يشكّلها وجود قضاء مستقل، أو برلمان مستقل.
وبالمنطق نفسه، كيف تمثّل "البربرية" المنحطّة السائدة في سجون معظم البلدان العربية دفاعاً عن "الأمن القومي" المزعوم؟ أي، ما العلاقة بين هذه المظاهر "المألوفة" للمجتمعات العربية والسياسات التي تقرّرها إدارة بوش، أو غيرها، تجاه القضية الفلسطينية؟
هل القابلين للمبادرة الأميركية "ناقصو الوطنية"؟
لكن الردّ على السؤال بمثل هذه الأسئلة لا يكفي لإقناع المتشكّكين. ولذا، كان لا بدّ من الردّ على السؤال بخلفياته الحقيقية. فـ"الربط" بين الإصلاح الداخلي والقضية الفلسطينية هو في واقع الأمر ربط "قومي". أي أن المشكّكين ينطلقون من "غيرة قومية" مزعومة. غيرة على فلسطين أولاً، وغيرة على "العروبة"، أو على "السيادة العربية" التي لا يجوز لها القبول بـ"تدخّل أجنبي" في شؤونها.
وهذا "المنطق" (!) القومي هو ما يحتاج إلى ردّ. وهذا مهم لأن هذا المنطق المزعوم يتضمّن "منطقاً" آخر، مكتوماً أو صريحاً: وهو أن من يقبلون بالمبادرة الأميركية للشرق الأوسط الكبير هو من "ناقصي" الوطنية. أي من "المتواطئين" مع "الأجنبي". وكلمة "الأجنبي"، هنا، يمكن أن تحمل جميع المعاني الواعية وغير الواعية: فالأجنبي هو الأميركي والغربي عموماً، وهو "الروم" أو "العجم"، وهو أيضاً "غير المسلم" أو حتى "الكافر"، إلخ.. أي أنها تعبير يعطيه كل واحد من المتعاطين بالشأن العام، وكل مواطن، ما يمثّل خلفيته الثقافية والسياسية والدينية.
من استدعى الجيوش الغربية إلى المنطقة؟
لنبدأ بالنقطة الأولى. أليس من "أبلغ العبر" (والعرب يعشقون البلاغة) أن المسئول عن استدعاء القوات الأميركية والغربية إلى المنطقة، مرّتين خلال السنوات الـ13 الأخيرة، كان تحديداً "حزب البعث العربي الاشتراكي"، بجناحه العراقي؟
لقد كان الاستبداد الصدّامي، المستند إلى إيديولوجية قومية تتخلّلها ملامح فاشيّة واضحة، المسئول عن غزو بلدٍ عربي مسالم، مما استدعى تدخّلاً أجنبياً-عربياً عسكرياً في العام 1991. وكان نفس النظام المستبدّ، بما مثّله من مخاطر جسيمة على شعبه أولاً، ثم على جيرانه، وأخيراً على العالم كله، هو الذي تسبّب بالغزو الأميركي-البريطاني للعراق في العام 2003. هذه هي الوقائع. وكما قال الزعيم الكردي جلال الطالباني قبل أسبوع: "لم يكن التدخّل الأميركي في العراق الحلّ الأمثل، ولكنه كان الحلّ الوحيد الممكن".
إن صدّام "القومي العربي" بامتياز هو الذي جرّ على بلده، وعلى المنطقة، التدخّل الأجنبي.
وبالمناسبة، فلا معنى للقول بأن صدّام لم يكن يمتلك أسلحة الدمار الشامل التي تحدّث عنها الرئيس بوش. وذلك، حتى لو ثبت، في النهاية، أن نظام صدّام لم يكن يمتلك مثل هذه الأسلحة في العام 2003. لماذا؟
أولاً، لأن صدّام حسين استخدم هذه الأسلحة فعلاً ضد شعب العراق (حلبجة)، وأجرى تجارب كيميائية وبيولوجية على المساجين السياسيين وغير السياسيين.
وثانياً، لأنه لم يكن بوسع جيران العراق، الأقربين والأبعدين (إيران مثلاً)، أن يبنوا "أمنهم القومي" على فرضيات أن علماء صدام وجنرالاته كانوا يكذبون عليه، ويرفعون التقارير الكاذبة عن أسلحة وهمية غير موجودة في الواقع! ويعني ذلك أن أي سياسي إيراني "مسئول" كان سيجد نفسه مضطرّاً للشروع ببرنامج أسلحة مقابل و"سرّي" لمواجهة الخطر العراقي المفترض. وهذا ما قد ينطبق على جيران العراق الآخرين.(18/104)
ألا يوافق المعترضون "من زاوية قومية" أن غياب حرية التعبير في العراق هو الذي "ضخّم" خطر أسلحة الدمار الشامل الصدّامية؟ وأن بلداً يمتلك الحدّ الأدنى من الشفافية، أي من الحريات العامة، يحمي نفسه أكثر مما يحميها بلد يحكمه نظام فاشي مثل نظام صدام؟ إن العالم الحديث "قرية كونيّة"، وهذا يعني أن أية دولة لم تعد تمتلك "سيادة" مطلقة حتى ضمن أراضيها. لماذا؟ لأن نتائج مشاريعها الداخلية تؤثّر في جيرانها، وحتى في دول تبعد عنها آلاف الكيلومترات. وهذه خلاصة المشكلة الأميركية مع كوريا الشمالية.
ولنعطِ مثلاً يفيد أصحاب "الحساسية القومية": لقد اعترضت روسيا على برنامج الدرع "الدفاعي" الأميركي. لاحظ كلمة "دفاعي". لماذا؟ لأن تطوير صواريخ أميركية قادرة على اعتراض الصواريخ النووية الروسية وتدميرها يعني أن روسيا ستفقد "رادعها" النووي، وتصبح بالتالي مكشوفة لخطر ضربة أميركية أولى. ألا يعني ذلك أن "السيادة" الأميركية "ناقصة"، لأنها مضطرة لمراعاة المخاوف الروسية؟
هل من حاجة لإضافة أن الإسبتداد الديني لم يسفر عن نتائج مغايرة؟ فالبربرية "الطالبانية" استدعت بدورها تدخّلاً دوليا حرّر الشعب الأفغاني من قبضة القرون الوسطى ومن الإرهاب المموّل عربياً.
ولا نجد حاجةً كبيرة، في سياق الأمثلة، للإلحاح على تهافت "الروح الوطنية" الجديدة و"العداء لأميركا" الذي اكشتفته أنظمة مثل المملكة العربية السعودية. فالسعودية نفسها تعرف، في ما نعتقد، أن أمنها "الوطني" مرتبط إرتباطاً وثيقاً بـ"العلاقة المتميّزة" مع الولايات المتحدة.
والخلاصة، هنا، هي أن المشكّكين بـ"وطنية" من يؤيّدون مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" هم الأكثر "أهلية" للطعن في وطنيتهم. و"العبر بالنتائج"، كما يُقال.
ماذا عن القضية الفلسطينية؟
والسؤال، هنا، هو: هل يمكن لعالم عربي ديمقراطي أن يظلّ على دعمه للشعب الفلسطيني؟ ألا تعني الديمقراطية والإصلاح أن شعوب المنطقة ستنهمك بترتيب "بيوتها الداخلي" على حساب شعب فلسطين؟
ولنفترض، أولاً، أن هنالك إقراراً ضمنياً حتى من خصوم المبادرة الأميركية بأن القمع الفظيع الذي عاشته شعوب المنطقة طوال أكثر من خمسين عاماً لم يخدم قضية فلسطين. وإذا كانت "العبر بالنتائج"، فأنظمة الاستبداد العربي لم تحرّر فلسطين، بل وخسرت أراضي 67.
إن أي نظام عربي لا يرفع اليوم شعار تحرير فلسطين. وجلّ المطروح هو استعادة الأراضي المحتلة في العام 1967 مقابل السلام، أي "مبادرة الأمير عبد الله". هذا يعني أن أنظمة الاستبداد العربية، و"زمرها" العسكرية الحاكمة فقدت "شرعيّتها" السياسية، باعترافها هي نفسها. وهذا، إلا إذا أعلنت هذه الأنظمة رفضها لـ"مبادرة الأمير عبد الله". وهذا م لم يحصل.
الأفق السياسي العربي-الفلسطيني الآن هو: انسحاب إسرائيل من الأراضي غير الفلسطينية التي احتلّتها في 1967 (أي الجولان عملياً)، وإقامة دولة فلسطينية في الضفّة الغربية وغزّة.
وينبغي أن يتركّز النقاش، إذاً، حول النقطة التالية: هل يتعارض مطلب الإصلاح السياسي، وتوسيع الديمقراطية، وإعادة الإعتبار لـ"المرأة"، مع هذه الأهداف العربية؟
لنلاحظ، أولاً، أن أكبر مظاهرة في الشرق الأوسط إحتجاجاً على مجزرة صبرا وشاتيلا جرت في.. إسرائيل. وليس في أية عاصمة عربية. ببساطة، لأنه يحق للإسرائيلي أن يتظاهر، في حين لا يمتلك المواطن العربي هذا "الحق"! ولنلاحظ، ثانياً، أن نظام الفساد والفردية والبداوة الذي شرعت سلطة ياسر عرفات بإقامته في الضفة وغزّة لعب دوراً مهماً في تراجع الدعم الأوروبي والأميركي للفلسطينيين، وسهّل خطّة شارون باستبعاد عرفات من الواجهة. وهذا ما لا ينكره الفلسطينيون أنفسهم. وبكلام فلسطيني "لم يفهم عرفات أنه لا يستطيع أن يتعامل مع شارون مثلما تعامل مع سليمان فرنجية".
يتغيّر السؤال إذا، ليصبح: أيّهما أفضل لإدارة الصراع مع إسرائيل؟ منطقة ديمقراطية، أي متصالحة مع نفسها، أم منطقة عرضة لهزّات داخلية، وحروب أهلية محتملة؟
ولا يستطيع أحد أن يجيب عن السؤال الآن. فمستقبل الصراع العربي-الإسرائيلي مرهون بعوامل كثيرة، داخلية وخارجية. ولكن رأي "الديمقراطيين"، أي القابلين بمشروع الإصلاح والتغيير الأميركي-الأوروبي هو أنه الحل الوحيد (وقد لا يكون "الأمثل"، بتعبير جلال الطالباني مرة أخرى) للحؤول دون انهيارات عربية تجرّ على المنطقة تدخّلات أجنبية جديدة، وتؤخّر الانسحاب الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة.
الحل الأمثل يكون بمبادرات إصلاح عربية ذاتية تفرضها مؤسّسات المجتمع المدني العربية. وهذا، لو كانت مثل هذه المؤسّسات موجودة...
http://www.met r anspa r ent.com المصدر :
=============(18/105)
(18/106)
وثيقة أمريكية ترسم ملامح الشرق الأوسط الجديد
مصطفي بكري
تقسيم نفط المنطقة بين واشنطن وحليفاتها بنسب محددة:
انتهت الإدارة الأمريكية مؤخرا من إعداد 'وثيقة' جديدة أعدها مستشارو البيت الأبيض وترسم ملامح خطة واشنطن إزاء الشرق الأوسط الجديد في عامي 2003،. 2004 وتتضمن هذه الوثيقة ما أسمته بخطة اختفاء أعداء الديمقراطية والسلام من الشرق الأوسط، وهم بالترتيب حسب طرحها صدام حسين، ياسر عرفات، معمر القذافي، عمر البشير، بشار الأسد.
ومن الغريب أن هذه القائمة خلت من الإيرانيين، على اعتبار أن آخر ما تم التوصل إلىه هو تجنب العمل العسكري مع إيران خلال العامين القادمين، والعمل على تهيئة الظروف الداخلية في إيران لخلع حكم الملإلى.
وقد أقرت الوثيقة القيام بعمليات عسكرية مباشرة ضد كل من أسمتهم بأعداء الديمقراطية في الشرق الأوسط، شريطة أن تجري هذه لعمليات بتنسيق مشترك مع دول حلف الأطلسي للسيطرة على الشرق الأوسط.
وتكشف الوثيقة أن الرئيس الأمريكي جورج بوش كان قد طلب من مستشاريه بعد أسبوع من توليه الحكم أن يعدوا تقريرا عن الشرق الأوسط الجديد، وأنه قال لهم خلال اجتماعه بهم: إن العرب يجب أن يظلوا أصدقاء لنا، ولكن شريطة أن ندير نحن شئونهم الأمنية والاقتصادية، وأن تبقي 'إسرائيل' هي الأقوى أمنياً واقتصادياً.
وتقوم الوثيقة الأمريكية على فكرة الارتباط الأوربي الأمريكي، حيث جرى إبلاغ قادة دول حلف الاطلنطي بمضمونها، وسوف تكون مجالا للبحث خلال زيارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير التي سيقوم بها إلى واشنطن في 31 يناير الجاري، كما أن قادة دول الحلف مطالبون بالرد عليها رسميا خلال الأسابيع القليلة القادمة.
وتوضح الوثيقة أسس هذا التحالف بين واشنطن ودول الحلف على الوجه التإلي:
إنشاء قواعد عسكرية متطورة لحلف الأطلنطي داخل الأراضي العراقية بعد اسقاط نظام حكم الرئيس صدام على أن يكون قوام هذه القوات 120 ألف جندي أمريكي أوربي.
تتولى هذه القوات المسئولية المباشرة عن التطبيق الديمقراطي في العراق وضمان استقراره، وتشكيل حكومة من عناصر المعارضة العراقية ذات الصلة.
إن مهمة هذه القوات لن تقتصر فقط على المهام الأمنية والعسكرية داخل العراق وإنما ستمتد إلى بقية دول المنطقة، حيث إن أمريكا قدمت تهديدا واضحا في هذه الوثيقة إلى دول حلف شمال الأطلسي عندما أشارت إلى أن الدول التي لن تشارك في حماية الأمن والنظام في المنطقة لن تستطيع الاستفادة من الفرص الاقتصادية الواسعة التي تتيحها المنطقة.
وحددت الوثيقة نسبة اقتسام الغنائم البترولية في الشرق الأوسط على الوجه التإلي:
40 % للولايات المتحدة لأنها ستتحمل النصيب الأكبر من القوات والمعدات العسكرية، وكذلك كل ما يتعلق بتنفيذ خطط الطوارئ الأمنية لمواجهة التحديات 'الإرهابية' الجديدة.
أما بقية ال60 % فستقسم بين دول حلف الأطلسي وغيرها، وهو أمر لا يزال محل خلاف بين الجانبين!!
وتشير الوثيقة من جانب آخر إلى ضرورات التوصل إلى فهم واحد ومشترك لحل النزاع العربي الإسرائيلي بحيث لا يجد العرب طرفا آخر وسيطا يوافقهم على كل أو بعض مطالبهم، فيضطرون لقبول ما هو مطروح عليهم، بما يضمن بقاء 'النزاع العربي الإسرائيلي' تحت السيطرة.
وفي هذا الصدد تقول الوثيقة حرفيا: 'لقد عانت منطقة الشرق الأوسط كثيرا بسبب أحداث هذا النزاع الذي ألقى بغيوم سوداء على المصالح المستقرة في هذه المنطقة، ولكن في العامين الأخيرين أصبح مؤكدا أن 'الإرهابيين' بدأوا يلعبون الدور الأكبر في تحويل دفة هذا الصراع، وأصبحت لهم الغلبة الأساسية حتى توارت الحكومة الشرعية الفلسطينية، كما بدا يقينا أن حكومة عرفات تدعم هذا الاتجاه 'الإرهابي' لأنها وجدت ضالتها في أن هذا النشاط 'الإرهابي' يعمل على إلحاق الخسائر الأمنية والاقتصادية بالإسرائيليين.
وتستكمل الوثيقة القول: 'لقد كان لدى عرفات تصور يشير إلى أن ذلك سيجبر الإسرائيليين على القبول بأفكاره، وتقديم تنازلات كبرى لصالحه، ولكن إذا عقدنا السلام على الأساس الذي يرتضيه عرفات، فإننا نكون قد دعونا إلى انتصار إرادة الإرهاب، وأفعال الإرهاب على منطق الحق والسلام، خاصة أننا قدمنا إلى عرفات النصائح مرارا وتكرارا بأن يسيطر على هذا الإرهاب، وأن يكون داعيا وبحق إلى إرساء أسس السلام مع الإسرائيليين بأشكال حقيقية من التعاون، وأنه في كل مرة كان يقدم دلائله وبدائله على أنه يشجع الإرهاب ولكن بطريق غير مباشر، إلى الدرجة التي استحال معها تحقيق السلام أو التقدم بخطوات تجاهه'.(18/107)
وتقول الوثيقة: 'إن الدول العربية الأخرى لم تكن على علم بالحقائق الكاملة عما يحدث داخل الأراضي الإسرائيلية، وكان لديهم وجه واحد من الحقيقة وهو أن 'إسرائيل' دولة معتدية، وقد حاولنا كثيرا أن نتفق على أن تكون هناك خطوات إضافية وحقيقية من أجل السلام إلا أنها كانت جميعا دون المستوى لأن عرفات كان أحد المشاركين فيها'. وتشير الوثيقة 'إلى أنه وبناء على التجربة الماضية لم يعد أمامنا في المرحلة القادمة سوى خيار واحد، هو أنه وبعد الانتهاء من حكم صدام وعودة الديمقراطية إلى العراق، فإن شعوب الشرق الأوسط لن تقبل باستمرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأن أحد التحديات الأساسية التي ستواجهنا في المرحلة القادمة هو استمرار المجموعات الفلسطينية في أعمالها 'الإرهابية' ضد إسرائيل وأمنها'.
وتقول الوثيقة: 'إذا أردنا أن نبقي هذا الوضع تحت السيطرة الأمنية فإن جزءا من القوات الأطلسية سيتحرك من الأراضي العراقية إلى داخل الأراضي الفلسطينية وسيكون ذلك بقرابة من 40 إلى 50 ألف جندي أطلسي، ستكون مهمتهم الأساسية مراقبة الأوضاع الأمنية بين الفلسطينيين والإسرائيليين لحين التوصل لسلام نهائي بين الجانبين'.
وتشير الوثيقة: 'إلى أن هذه المهمة قد تتطور في بعض الأحيان إلى التدخل الأمني العسكري المباشر ضد الجماعات 'الإرهابية' أو من يساندونها إذا قامت بأي نوع من العمليات 'الإرهابية' الجديدة ضد إسرائيل'.
وتقول الوثيقة: 'إن هذه القوات هي التي ستشرف على تنظيم إجراء انتخابات فلسطينية لاختيار قيادة بديلة عن عرفات، وأن عرفات سيكون وضعه في هذه الظروف الجديدة شبيها بوضع صدام حسين: شخصا غير مرغوب فيه، لأنه قام بتشجيع العمليات 'الإرهابية' وأضر كثيرا بالأمن الإسرائيلي على مدار السنوات الماضية، كما أنه غير مؤهل لإدارة المرحلة القادمة نظرا لطبيعتها الأمنية الحساسة بالإضافة إلى أنه سيقترن بها العمل بكل الطرق الممكنة على نشر مبادئ الديمقراطية واحتواء النزاعات والقيادات المدمرة في الشرق الأوسط التي تزيد معها حدة العمليات الإرهابية'!!
وتقول الوثيقة: 'إن أحد المبادىء الأساسية التي لا بد أن تمثل قاسما مشتركا لدينا هو أن يسود السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل على مراحل متدرجة:
أولها: أن يتم اختيار حكومة فلسطينية جديدة من خلال انتخابات حرة يتم الإشراف على كل خطواتها كاملا بمعرفة قيادات قوات الأطلسي، بما يضمن وجود الضوابط التنظيمية للعملية الانتخابية وأهمها التأكيد أن عرفات شخص غير معني بهذه الانتخابات، وأنه لا يمكن إجراء الانتخابات في ظل انتشار الجماعات 'الإرهابية' الفلسطينية فلابد من القضاء عليها أولا من خلال تحركات القوات الأطلسية المدعوة للقيام بحملات اعتقالات ومداهمات ومحاكمات لهذه العناصر، كما أنه يجب ضمان تفكيك البنية التحتية للمؤسسات 'الإرهابية' الفلسطينية واعتقال كافة قياداتها وعدم السماح بترشيح كل المعادين لعملية السلام مع إسرائيل.
ثانيها: أن من سيتم اختيارهم من ممثلي الشعب الفلسطيني سيدعون مباشرة للدخول في مفاوضات مع 'إسرائيل' وأن قيادات الأطلسي هي التي ستشرف على هذه المفاوضات، وتحييد دور الدول العربية.
ثالثها: بعد الانتهاء من هذه المرحلة التي سنتركها تتواصل سنتجه إلى ليبيا، حيث يرابض هناك واحد من أكثر الأنظمة 'ديكتاتورية' في العالم على حد وصف الوثيقة وأننا سنجد الدوافع والاعتبارات الكافية للتدخل في ليبيا لأنه بدون تقدير هذه الدوافع والاعتبارات فستكون لدينا مشكلة حقيقية في التعامل مع شعوب الشرق الأوسط'.
وتقول الوثيقة: 'إن نظام القذافي دعم المنظمات 'الإرهابية' في العديد من دول العالم وأنه قدم إلى العراق في عام 1998 (200) مليون دولار لشراء العديد من المواد المختبرية اللازمة لصناعة أسلحة الدمار الشامل، كما أنه كان ينفق كثيرا على العلماء العراقيين، وكان هدفه هو أنه عند التوصل إلى صناعة القنبلة النووية العراقية يتم الإعلان بعد عدة سنوات قادمة عن القنبلة النووية العربية حتى تكون هي الرادع لإسرائيل'.
وتزعم الوثيقة 'أن هناك العديد من الأدلة والمذكرات الأخرى التي أكدت أن القذافي سعي شخصيا إلى حيازة أسلحة الدمار الشامل، وأن هناك ما يقرب من 100 عالم ذري عربي يعملون في تصنيع بعض المواد النووية، وأن البرنامج الليبي مازال مستمرا إلا أنه يحمل طابع السرية التامة، كما أن مكونات هذا البرنامج أو أغراضه وآفاقه غير معروفة على الإطلاق'.
تخلص الوثيقة في هذه القضية إلى ضرورة الخلاص من النظام الليبي على نمط ما سيجري مع الرئيس صدام حسين..
وتقول الوثيقة: 'إننا سندعو في المراحل الأولى فرقا من التفتيش الدولي للبحث عن مصادر أسلحة الدمار الشامل الليبية، والأماكن التي تخزن فيها، وأننا نثق في أن القذافي سيضع عقبات كبرى أمام عمل لجان التفتيش الدولية، ولكن ما يجب أن نفعله هو ألا ندع فرصا كثيرة للقذافي مثل صدام، وأن يتم الانتهاء عسكريا من القذافي وفي أقل الخيارات الزمنية المتاحة'.(18/108)
وتقترح الوثيقة 'أن يتواجد في ليبيا عدد لا يزيد على 20 ألفا من قوات الأطلسي، وسيكون أحد مهامها الأساسية هو ضمان التطبيق الديمقراطي في ليبيا مثل العراق وفلسطين'.
وتقول الوثيقة: 'إننا على ثقة من أن العملية العسكرية في ليبيا قد تكون معقدة لاعتبارات تتعلق أساسا بمواقف الدول المجاورة خاصة مصر التي ترفض دائما اللجوء إلى القوة في تغيير النظام الليبي، إلا أن مصر أيضا، وعلى الرغم من صداقتها التقليدية لدول حلف الأطلسي، إلا أننا سنحتاج أن نطلب منها إجراء العديد من التغييرات المهمة التي لابد وأن تتوافق مع الاتجاهات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط'.
وتتحدث الوثيقة مطولا عن حقيقة دور القوات الأطلسية في المنطقة بعد مرحلة صدام، وهنا تقول الوثيقة: 'إن طبيعة دور القوات الأطلسية في المنطقة لا تقتصر فقط على مجرد إجراء ترتيبات أمنية أو ضمان مساندة الجماعات والأفكار الديمقراطية التي لابد أن تسود كل دول وأرجاء الشرق الأوسط، بل أيضا يجب أن تلعب دورا مهما في التنمية الاقتصادية، باعتبار أن الفقر يمثل عائقا أمام التطور الديمقراطي وسندا أساسيا لانتشار الإرهاب'.
وتقول الوثيقة: 'إذا كانت لا توجد مشكلة في إدارة برامج التنمية الاقتصادية، فإن إحدى المشكلات المهمة التي ستواجهنا في هذه المنطقة هي طبيعة الآليات التي يمكن من خلالها الاعتماد على إدارة برامج التنمية'.
وتشير الوثيقة هنا إلى أن التعاون الاقتصادي الإقليمي سيمثل أحد الخيارات الأساسية للتعاون البناء في هذه المنطقة، وأن هذا التعاون يجب أن تشارك فيه كل الأطراف الإقليمية في المنطقة بما فيها 'إسرائيل' وأن ذلك سيكون تحت رعاية وتوجيه دول حلف الأطلسي، كما أن الحلف سيعمل على تنفيذ عدد من البرامج الاقتصادية الطموحة للتغلب على العديد من العوائق الاقتصادية التي تواجه العديد من دول المنطقة.
وتقول الوثيقة: 'إننا سنضمن من خلال أطر التعاون الإقليمي ضمان مرور أكبر عدد من الشركات الدولية الكبرى للاستثمار في المنطقة'
وبعد ليبيا يأتي الدور على السودان من خلال تذكية الخلافات بين الحكومة السودانية والجنوبيين.. الأمر الذي يدفع بقوات حلف الأطلسي للتدخل المباشر وإسقاط نظام البشير.
أما بالنسبة لسوريا فسوف يجري افتعال العديد من الأزمات معها، تارة بتوجيه الاتهام إليها بحيازة أسلحة دمار شامل وحصولها على أسلحة متقدمة من العراق، واحتضانها لمنظمات 'إرهابية' مما يدفع قوات الحلف للقيام بمهمة اسقاط نظام حكم الرئيس بشار وتولية حكومة تقبل بالسلام والتعاون مع 'إسرائيل' وتدخل ضمن منظومة الدول التي تسعي واشنطن إلى نشر مفاهيم ومبادئ 'الديمقراطية' على أراضيها.
إذن هذه هي الملامح الأساسية لما تضمنته الوثيقة الأمريكية التي تناقش حإلياً في أروقة حكومات دول حلف الأطلسي بهدف تطبيقها خلال عامي 2003،. 2004.
وفي هذا الإطار طلبت الولايات المتحدة من دول الحلف سرعة موافاتها بالردود النهائية للمشاركة في تنفيذ الخطة، حيث ترى واشنطن أن الدول التي ستوافق على التنفيذ العسكري معها هي الوحيدة التي سيكون لها حق الاستفادة من الميزات الاقتصادية في الشرق الأوسط.
http://www.elosboa.co.uk المصدر:
=============(18/109)
(18/110)
نص مشروع الشرق الأوسط الكبير
فيما يلي نص مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأمريكي المقدم إلى قمة الدول الثماني المنعقد في الولايات المتحدة في يونيو 2004
يمثل "الشرق الأوسط الكبير" تحديا وفرصة فريدة للمجتمع الدولي. وساهمت "النواقص" الثلاثة التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003 - الحرية، المعرفة، وتمكين النساء- في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الـ8. وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. إن الإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في "الشرق الأوسط الكبير" مروعة: (1)
- مجموع إجمالي الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22 هو أقل من نظيره في أسبانيا.
- حوالي 40 % من العرب البالغين- 65 مليون شخص- أميون، وتشكل النساء ثلثي هذا العدد.
- سيدخل أكثر من 50 مليونا من الشباب سوق العمل بحلول 2010، وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020. وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
- إذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة، سيبلغ معدل البطالة في المنطقة 25 مليونا بحلول 2010.
- يعيش ثلث المنطقة على أقل من دولارين في اليوم. ولتحسين مستويات المعيشة، يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة أكثر من الضعف من مستواه الحالي الذي هو دون 3 في المائة إلى 6 في المائة على الأقل.
- في إمكان 6، 1 في المائة فقط من السكان استخدام الإنترنت، وهو رقم أقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى في العالم، بما في ذلك بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
- لا تشغل النساء سوى 5، 3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية، بالمقارنة، على سبيل المثال، مع 4، 8 في المائة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
- عبر 51 في المائة من الشبان العرب الأكبر سنا عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى، وفقا لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002، والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوربية.
وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق. ويمكن للشرق الأوسط الكبير أن يستمر على المسار ذاته، ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية. وسيمثل ذلك تهديدا مباشرا لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الـ8.
البديل هو الطريق إلى الإصلاح. ويمثل تقريرا التنمية البشرية العربية نداءات مقنعة وملحة للتحرك في الشرق الأوسط الكبير. وهي نداءات يرددها نشطاء وأكاديميون والقطاع الخاص في أرجاء المنطقة. وقد استجاب بعض الزعماء في الشرق الأوسط الكبير بالفعل لهذه النداءات واتخذوا خطوات في اتجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وأيدت بلدان مجموعة الـ8، بدورها، هذه الجهود بمبادراتها الخاصة للإصلاح في منطقة الشرق الأوسط. وتبين "الشراكة الأوربية المتوسطية"، و"مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط"، وجهود إعادة الإعمار المتعددة الأطراف في أفغانستان والعراق التزام مجموعة الـ8 بالإصلاح في المنطقة.
إن التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه، وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين، ونشوء نبضات ديمقراطية في أرجاء المنطقة، بمجموعها، تتيح لمجموعة الـ8 فرصة تاريخية. وينبغي للمجموعة، في قمتها في سي آيلاند، أن تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير، وتطلق ردا منسقا لتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.
ويمكن لمجموعة الـ8 أن تتفق على أولويات مشتركة للإصلاح تعالج النواقص التي حددها تقريرا الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر:
- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.
- بناء مجتمع معرفي.
- توسيع الفرص الاقتصادية.
وتمثل أولويات الإصلاح هذه السبيل إلى تنمية المنطقة: فالديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية.
أولا: - تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح:
"توجد فجوة كبيرة بين البلدان العربية والمناطق الأخرى على صعيد الحكم القائم على المشاركة... ويضعف هذا النقص في الحرية التنمية البشرية، وهو احد التجليات الأكثر إيلاما للتخلف في التنمية السياسية". (تقرير التنمية البشرية، 2002)(18/111)
إن الديمقراطية والحرية ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية، لكنهما مفقودتان إلى حد بعيد في أرجاء الشرق الأوسط الكبير. وفي تقرير "فريدوم هاوس" للعام 2003، كانت إسرائيل البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير الذي صُنف بأنه "حر"، ووصفت أربعة بلدان أخرى فقط بأنها "حرة جزئيا". ولفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى انه من بين سبع مناطق في العالم، حصلت البلدان العربية على أدنى درجة في الحرية في أواخر التسعينات. وأدرجت قواعد البيانات التي تقيس "التعبير عن الرأي والمساءلة" المنطقة العربية في المرتبة الأدنى في العالم. بالإضافة إلى ذلك، لا يتقدم العالم العربي إلا على أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على صعيد تمكين النساء. ولا تنسجم هذه المؤشرات المحبطة إطلاقا مع الرغبات التي يعبر عنها سكان المنطقة. في تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2003، على سبيل المثال، تصدر العرب لائحة من يؤيد، في أرجاء العالم، الرأي القائل بان "الديمقراطية أفضل من أي شكل آخر للحكم"، وعبروا عن أعلى مستوى لرفض الحكم الاستبدادي
ويمكن لمجموعة الـ8 أن تظهر تأييدها للإصلاح الديمقراطي في المنطقة عبر التزام ما يلي:
- مبادرة الانتخابات الحرة
في الفترة بين 2004 و 2006، أعلنت بلدان عدة في الشرق الأوسط الكبير(2) نيتها إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية أو بلدية.
وبالتعاون مع تلك البلدان التي تظهر استعدادا جديا لإجراء انتخابات حرة ومنصفة، يمكن لمجموعة الـ8 أن تقدم بفاعلية مساعدات لمرحلة ما قبل الانتخابات بـ:
- تقديم مساعدات تقنية، عبر تبادل الزيارات أو الندوات، لإنشاء أو تعزيز لجان انتخابية مستقلة لمراقبة الانتخابات والاستجابة للشكاوى وتسلم التقارير.
- تقديم مساعدات تقنية لتسجيل الناخبين والتربية المدنية إلى الحكومات التي تطلب ذلك، مع تركيز خاص على الناخبات.
- الزيارات المتبادلة والتدريب على الصعيد البرلماني.
من أجل تعزيز دور البرلمانات في مقرطة البلدان، يمكن لمجموعة الـ8 أن ترعى تبادل زيارات لأعضاء البرلمانات، مع تركيز الاهتمام على صوغ التشريعات وتطبيق الإصلاح التشريعي والقانوني وتمثيل الناخبين.
- معاهد للتدريب على القيادة خاصة بالنساء:
تشغل النساء 5، 3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية. ومن أجل زيادة مشاركة النساء في الحياة السياسية والمدنية، يمكن لمجموعة الـ8 أن ترعى معاهد تدريب خاصة بالنساء تقدم تدريبا على القيادة للنساء المهتمات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم أو إنشاء/تشغيل منظمة غير حكومية. ويمكن لهذه المعاهد أن تجمع بين قياديات من بلدان مجموعة الـ8 والمنطقة.
- المساعدة القانونية للناس العاديين:
في الوقت الذي نفذت فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة والبنك الدولي بالفعل مبادرات كثيرة لتشجيع الإصلاح القانوني والقضائي، فإن معظمها يجرى على المستوى الوطني في مجالات مثل التدريب القضائي والإدارة القضائية وإصلاح النظام القانوني. ويمكن لمبادرة من مجموعة الـ8 أن تكمل هذه الجهود بتركيز الانتباه على مستوى الناس العاديين في المجتمع، حيث يبدأ التحسس الحقيقي للعدالة. ويمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ وتمول مراكز يمكن للأفراد أن يحصلوا فيها على مشورة قانونية بشأن القانون المدني أو الجنائي أو الشريعة، ويتصلوا بمحامي الدفاع (وهي غير مألوفة إلى حد كبير في المنطقة). كما يمكن لهذه المراكز أن ترتبط بكليات الحقوق في المنطقة.
- مبادرة وسائل الإعلام المستقلة:
يلفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى هناك أقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي، بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل ألف شخص في البلدان المتطورة، وأن الصحف العربية التي يتم تداولها تميل إلى أن تكون ذات نوعية رديئة. ومعظم برامج التلفزيون في المنطقة تعود ملكيته إلى الدولة أو يخضع لسيطرتها، وغالبا ما تكون النوعية رديئة، إذ تفتقر البرامج إلى التقارير ذات الطابع التحليلي والتحقيقي. ويقود هذا النقص إلى غياب اهتمام الجمهور وتفاعله مع وسائل الإعلام المطبوعة، ويحد من المعلومات المتوافرة للجمهور. ولمعالجة ذلك، يمكن لمجموعة الـ8 أن:
- ترعى زيارات متبادلة للصحفيين في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية.
- ترعى برامج تدريب لصحفيين مستقلين
- تقدم زمالات دراسية لطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد، وتمول برامج لإيفاد صحفيين أو أساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب بشأن قضايا مثل تغطية الانتخابات أو قضاء فصل دراسي في التدريس في مدارس بالمنطقة.
- الجهود المتعلقة بالشفافية/ مكافحة الفساد:
حدد البنك الدولي الفساد باعتباره العقبة المنفردة الكبرى في وجه التنمية، وقد أصبح متأصلا في الكثير من بلدان الشرق الأوسط الكبير. ويمكن لمجموعة الـ8:
- أن تشجع على تبني "مبادئ الشفافية ومكافحة الفساد" الخاصة بمجموعة الـ8.(18/112)
- أن تدعم علنا مبادرة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية/ برنامج الأمم المتحدة للتنمية في الشرق الأوسط - شمال أفريقيا، التي يناقش من خلالها رؤساء حكومات ومانحون وIFIs ومنظمات غير حكومية إستراتيجيات وطنية لمكافحة الفساد وتعزيز خضوع الحكومة للمساءلة.
- إطلاق واحد أو أكثر من البرامج التجريبية لمجموعة الـ8 حول الشفافية في المنطقة.
- المجتمع المدني
أخذا في الاعتبار أن القوة الدافعة للإصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير يجب أن تأتي من الداخل، وبما أن أفضل الوسائل لتشجيع الإصلاح هي عبر منظمات تمثيلية، ينبغي لمجموعة الـ8 أن تشجع على تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة. ويمكن لمجموعة الـ8 أن:
- تشجع حكومات المنطقة على السماح لمنظمات المجتمع المدني، ومن ضمنها المنظمات غير الحكومية الخاصة بحقوق الإنسان ووسائل الإعلام، على أن تعمل بحرية من دون مضايقة أو تقييدات.
- تزيد التمويل المباشر للمنظمات المهتمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان ووسائل الإعلام والنساء وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المنطقة.
- تزيد القدرة التقنية لمنظمات غير الحكومية في المنطقة بزيادة التمويل للمنظمات المحلية (مثل "مؤسسة وستمنستر" في المملكة المتحدة أو "مؤسسة الدعم الوطني للديمقراطية" الأمريكية) لتقديم التدريب للمنظمات غير الحكومية في شأن كيفية وضع برنامج والتأثير على الحكومة وتطوير إستراتيجيات خاصة بوسائل الإعلام والناس العاديين لكسب التأييد. كما يمكن لهذه البرامج أن تتضمن تبادل الزيارات وإنشاء شبكات إقليمية.
- تمول منظمة غير حكومية يمكن أن تجمع بين خبراء قانونيين أو خبراء إعلاميين من المنطقة لصوغ تقويمات سنوية للجهود المبذولة من أجل الإصلاح القضائي أو حرية وسائل الإعلام في المنطقة. (يمكن بهذا الشأن الإقتداء بنموذج "تقرير التنمية البشرية العربية).
ثانيا: - بناء مجتمع معرفي:
"تمثل المعرفة الطريق إلى التنمية والانعتاق، خصوصا في عالم يتسم بعولمة مكثفة". (تقرير التنمية البشرية العربية، 2002)
لقد أخفقت منطقة الشرق الأوسط الكبير، التي كانت في وقت مضى مهد الاكتشاف العلمي والمعرفة، إلى حد بعيد، في مواكبة العالم الحالي ذي التوجه المعرفي. وتشكل الفجوة المعرفية التي تعانيها المنطقة ونزف الأدمغة المتواصل تحديا لآفاق التنمية فيها. ولا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى 1، 1 في المائة من الإجمالي العالمي (حيث تشكل الكتب الدينية أكثر من 15 في المائة منها). ويهاجر حوالي ربع كل خريجي الجامعات، وتستورد التكنولوجيا إلى حد كبير. ويبلغ عدد الكتب المترجمة إلى اللغة اليونانية (التي لا ينطق بها سوى 11 مليون شخص) خمسة أضعاف ما يترجم إلى اللغة العربية.
وبالاستناد على الجهود التي تبذل بالفعل في المنطقة، يمكن لمجموعة الـ8 أن تقدم مساعدات لمعالجة تحديات التعليم في المنطقة ومساعدة الطلاب على اكتساب المهارات الضرورية للنجاح في السوق المعولمة لعصرنا الحاضر.
- مبادرة التعليم الأساسي:
يعاني التعليم الأساسي في المنطقة من نقص (وتراجع) في التمويل الحكومي، بسبب تزايد الإقبال على التعليم متماشيا مع الضغوط السكانية، كما يعاني من اعتبارات ثقافية تقيد تعليم البنات. وفي مقدور مجموعة الـ8 السعي إلى مبادرة للتعليم الأولي في منطقة الشرق الأوسط الكبرى تشمل هذه العناصر:
- محو الأمية:
أطلقت الأمم المتحدة في 2003 "برنامج عقد مكافحة الأمية" تحت شعار "محو الأمية كحرية". ولمبادرة مجموعة الـ8 لمكافحة الأمية أن تتكامل مع برنامج الأمم المتحدة، من خلال التركيز على إنتاج جيل متحرر من الأمية في الشرق الأوسط خلال العقد المقبل، مع السعي إلى خفض نسبة الأمية في المنطقة إلى النصف بحلول 2010 وستركز مبادرة مجموعة الـ8، مثل برنامج الأمم المتحدة، على النساء والبنات. وإذا أخذنا في الاعتبار معاناة 65 مليونا من الراشدين في المنطقة من الأمية، يمكن لمبادرة مجموعة الـ8 أن تركز أيضا على محو الأمية بين الراشدين وتدريبهم من خلال برامج متنوعة، من مناهج تدريس على الإنترنت إلى تدريب المعلمين.
- فرق محو الأمية: يمكن لمجموعة الـ8، سعيا إلى تحسين مستوى القراءة والكتابة لدى الفتيات، إنشاء أو توسيع معاهد تدريب المعلمين مع التركيز على النساء. ولمعلمات المدارس والمختصات بالتعليم القيام في هذه المعاهد بتدريب النساء على مهنة التعليم (هناك دول تحرم تعليم الذكور للإناث)، لكي يركزن بدورهن على تعليم البنات القراءة وتوفير التعليم الأولي لهن. للبرنامج أيضا استخدام الإرشادات المتضمنة في برنامج "التعليم للجميع" التابع لـ"يونيسكو"، بهدف إعداد "فرق محو الأمية" التي يبلغ تعدادها بحلول 2008 مئة ألف معلمة.(18/113)
- الكتب التعليمية: يلاحظ تقرير التنمية البشرية العربية نقصا مهما في ترجمة الكتب الأساسية في الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع وعلوم الطبيعة، كما تلاحظ "الحالة المؤسفة للمكتبات" في الجامعات. ويمكن لكل من دول مجموعة الـ8 تمويل برنامج لترجمة مؤلفاتها "الكلاسيكية" في هذه الحقول، وأيضا، وحيث يكون ذلك مناسبا، تستطيع الدول أو دور النشر (في شراكة بين القطاعين العام والخاص) إعادة نشر الكتب الكلاسيكية العربية الخارجة عن التداول حاليا والتبرع بها إلى المدارس والجامعات والمكتبات العامة المحلية.
- مبادرة مدارس الاكتشاف: بدأ الأردن بتنفيذ مبادرته لإنشاء "مدارس الاكتشاف" حيث يتم استعمال التكنولوجيا المتقدمة ومناهج التعليم الحديثة. ولمجموعة الـ8 السعي إلى توسيع هذه الفكرة ونقلها إلى دول أخرى في المنطقة من طريق التمويل، من ضمنه من القطاع الخاص.
- إصلاح التعليم: ستقوم "المبادرة الأمريكية للشراكة في الشرق الأوسط" قبل قمة مجموعة الـ8 المقبلة (في آذار/ مارس أو نيسان/ أبريل) برعاية "قمة الشرق الأوسط لإصلاح التعليم"، التي ستكون ملتقى لتيارات الرأي العام المتطلعة إلى الإصلاح والقطاع الخاص وقادة الهيئات المدنية والاجتماعية في المنطقة ونظرائهم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وذلك لتحديد المواقع والمواضيع التي تتطلب المعالجة، والتباحث في سبل التغلب على النواقص في حقل التعليم. ويمكن عقد القمة في ضيافة مجموعة الـ8 توخيا لتوسيع الدعم لمبادرة منطقة الشرق الأوسط الكبرى عشية عقد القمة.
- مبادرة التعليم في الإنترنت:
تحتل المنطقة المستوى الأدنى من حيث التواصل مع الإنترنت. ومن الضروري تماما تجسير "الهوة الرقمية" هذه بين المنطقة وبقية العالم نظرا إلى تزايد المعلومات المودعة على الإنترنت وأهمية الإنترنت بالنسبة للتعليم والمتاجرة ولدى مجموعة الـ8 القدرة على إطلاق شراكة بين القطاعين العام والخاص لتوفير الاتصال الكومبيوتري أو توسيعه في أنحاء المنطقة، وأيضا بين المدن والريف داخل البلد الواحد. وقد يكون من المناسب أكثر لبعض المناطق توفير الكومبيوترات في مكاتب البريد، مثلما يحصل في بلدات وقرى روسيا. وقد يركز المشروع أولا على بلدان الشرق الأوسط الأقل استخداما للكومبيوتر (العراق، أفغانستان، باكستان، اليمن، سورية، ليبيا، الجزائر، مصر، المغرب)، والسعي، ضمن الإمكانات المالية، إلى توفير الاتصال بالكومبيوتر إلى أكثر ما يمكن من المدارس ومكاتب البريد.
ومن الممكن أيضا ربط مبادرة تجهيز المدارس بالكومبيوتر بـ"بمبادرة فرق محو الأمية" المذكورة أعلاه، أي قيام مدرسي المعاهد بتدريب المعلمين المحليين على تطوير مناهج دراسية ووضعها على الإنترنت، في مشروع يتولى القطاع الخاص توفير معداته ويكون متاحا للمعلمين والطلبة.
- مبادرة تدريس إدارة الأعمال:
لمجموعة الـ8 في سياق السعي إلى تحسين مستوى إدارة الأعمال في عموم المنطقة إقامة الشراكات بين مدارس الأعمال في دول مجموعة الـ8 والمعاهد التعليمية (الجامعات والمعاهد المتخصصة) في المنطقة. وبمقدور مجموعة الـ8 تمويل هيئة التعليم والمواد التعليمية في هذه المعاهد المشتركة، التي تمتد برامجها من دورة تدريبية لمدة سنة للخريجين إلى دورات قصيرة تدور على مواضيع محددة، مثل إعداد خطط العمل للشركات أو إستراتيجيات التسويق.
النموذج لهذا النوع من المعاهد قد يكون معهد البحرين للمصارف والمال، وهو مؤسسة بمدير أمريكي ولها علاقة شراكة مع عدد من الجامعات الأمريكية.
- توسيع الفرص الاقتصادية:
تجسير الهوة الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير يتطلب تحولا اقتصاديا يشابه في مداه ذلك الذي عملت به الدول الشيوعية سابقا في أوربا الشرقية. وسيكون مفتاح التحول إطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة، خصوصا مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وسيكون نمو طبقة متمرسة في مجال الأعمال عنصرا مهما لنمو الديمقراطية والحرية. ويمكن لمجموعة الـ8 في هذا السياق اتخاذ الخطوات التالية:
- مبادرة تمويل النمو:
تقوية فاعلية القطاع المالي عنصر ضروري للتوصل إلى نسب أعلى للنمو وخلق فرص العمل. ولمجموعة الـ8 أن تسعى إلى إطلاق مبادرة مالية متكاملة تتضمن العناصر التالية:(18/114)
- إقراض المشاريع الصغيرة: هناك بعض المؤسسات المختصة بتمويل المشاريع الصغيرة في المنطقة لكن العاملين في هذا المجال لا يزالون يواجهون ثغرات مالية كبيرة. إذ لا يحصل على التمويل سوى خمسة في المائة من الساعين إليه، ولا يتم عموما تقديم أكثر من 0. 7 في المائة من مجموع المال المطلوب في هذا القطاع. وبإمكان مجموعة الـ8 المساعدة على تلافي هذا النقص من خلال تمويل المشاريع الصغيرة، مع التركيز على التمويل بهدف الربح، خصوصا للمشاريع التي تقوم بها النساء. مؤسسات الإقراض الصغير المربح قادرة على إدامة نفسها ولا تحتاج إلى تمويل إضافي للاستمرار والنمو. ونقدر أن في إمكان قرض من 400 مليون دولار إلى 500 مليون دولار يدفع على خمس سنوات مساعدة 1. 2 مليون ناشط اقتصادي على التخلص من الفقر، 750 ألفا منهم من النساء.
- مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير: باستطاعة مجموعة الـ8 المشاركة في تمويل مؤسسة على طراز "مؤسسة المال الدولية" للمساعدة على تنمية مشاريع الأعمال على المستويين المتوسط والكبير، بهدف التوصل إلى تكامل اقتصادي لمجال الأعمال في المنطقة. وربما الأفضل إدارة هذه المؤسسة من قبل مجموعة من قادة القطاع الخاص في مجموعة الـ8 يقدمون خبراتهم لمنطقة الشرق الأوسط الكبير.
- بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير: في إمكان مجموعة الـ8 ومشاركة مقرضين من منطقة الشرق الأوسط الكبير نفسها، إنشاء مؤسسة إقليمية للتنمية على غرار "البنك الأوربي للإعمار والتنمية" لمساعدة الدول الساعية إلى الإصلاح على توفير الاحتياجات الأولية للتنمية. كما تستطيع المؤسسة الجديدة توحيد القدرات المالية لدول المنطقة الأغنى وتركيزها على مشاريع لتوسيع انتشار التعليم والعناية الصحية والبنى التحتية الرئيسية. ولـ"بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير" هذا أن يكون مذخرا للمساعدة التكنولوجية وإستراتيجيات التنمية لبلدان المنطقة. اتخاذ قرارات الإقراض (أو المنح يجب أن تتحدد بحسب قدرة البلد المقترض على القيام بإصلاحات ملموسة).
- الشراكة من أجل نظام مالي أفضل: بمقدور مجموعة الـ8، توخيا لإصلاح الخدمات المالية في المنطقة وتحسين اندماج بلدانها في النظام المالي العالمي، أن تعرض مشاركتها في عمليات إصلاح النظم المالية في البلدان المتقدمة في المنطقة. وسيكون هدف المشاركة إطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها في عموم المنطقة، من خلال تقديم تشكيلة من المساعدات التقنية والخبرات في مجال الأنظمة المالية مع التركيز على:
- تنفيذ خطط الإصلاح التي تخفض سيطرة الدولة على الخدمات المالية.
- رفع الحواجز على التعاملات المالية بين الدول.
- تحديث الخدمات المصرفية.
- تقديم وتحسين وتوسيع الوسائل المالية الداعمة لاقتصاد السوق.
- إنشاء الهياكل التنظيمية الداعمة لإطلاق حرية الخدمات المالية.
مبادرة التجارة:
إن حجم التبادل التجاري في الشرق الأوسط متدن جدا، إذ لا يشكل سوى 6 في المائة من كل التجارة العربية. ومعظم بلدان الشرق الأوسط الكبير تتعامل تجاريا مع بلدان خارج المنطقة، وتوصلت إلى اتفاقات تجارية تفضيلية مع أطراف بعيدة جدا بدلا من جيرانها. ونتيجة لذلك، أصبحت الحواجز الجمركية وغير الجمركية هي الشيء المعتاد، فيما لا تزال التجارة عبر الحدود شيئا نادرا. ويمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ مبادرة جديدة مصممة لتشجيع التجارة في الشرق الأوسط الكبير، تتألف من العناصر التالية:
- الانضمام/ التنفيذ على صعيد منظمة التجارة الدولية وتسهيل التجارة
يمكن لمجموعة الـ8 أن تزيد تركيزها على انضمام البلدان في المنطقة إلى منظمة التجارة الدولية. (3)
وستتضمن برامج محددة للمساعدة التقنية توفير مستشارين يعملون في البلد ذاته في شأن الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية وتحفيز التزام واسع من مجموعة الـ8 لتشجيع عملية الانضمام، بما في ذلك تركيز الاهتمام على تحديد وإزالة الحواجز غير الجمركية. وحالما ينجز الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، سيتحول مركز الاهتمام إلى توقيع التزامات إضافية لمنظمة التجارة الدولية، مثل "الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية" و"اتفاق مشتريات الحكومة" وربط استمرار المساعدة التقنية بتنفيذ هذه الالتزامات الخاصة بمنظمة التجارة الدولية. ويمكن لهذه المساعدات التقنية أن تربط أيضا ببرنامج على صعيد المنطقة برعاية مجموعة الـ8 بشأن التسهيلات والجوانب اللوجستية المتعلقة بالرسوم الجمركية للحد من الحواجز الإدارية والمادية بوجه التبادل التجاري بين بلدان المنطقة.
- المناطق التجارية:
ستنشئ مجموعة الـ8 مناطق في الشرق الوسط الكبير للتركيز على تحسين التبادل التجاري في المنطقة والممارسات المتعلقة بالرسوم الجمركية. وستتيح هذه المناطق مجموعة متنوعة من الخدمات لدعم النشاط التجاري للقطاع الخاص والصلات بين المشاريع الخاصة، بما في ذلك "التسوق من منفذ واحد" للمستثمرين الأجانب، وصلات مع مكاتب الجمارك لتقليل الوقت الذي يستغرقه إنجاز معاملات النقل، وضوابط موحدة لتسهيل دخول وخروج السلع والخدمات من المنطقة.(18/115)
- مناطق رعاية الأعمال:
بالاستناد على النجاح الذي حققته مناطق التصدير ومناطق التجارة الخاصة في مناطق أخرى، يمكن لمجموعة الـ8 أن تساعد على إقامة مناطق محددة خصيصا في الشرق الأوسط الكبير تتولى تشجيع التعاون الإقليمي في تصميم وتصنيع وتسويق المنتجات ويمكن لمجموعة الـ8 أن تعرض منافذ محسنة إلى أسواقها لهذه المنتجات، وتقدم خبراتها في إنشاء هذه المناطق.
- منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير:
لتشجيع التعاون الإقليمي المحسن، يمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ "منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط" الذي سيجمع مسئولين كبارا من مجموعة الـ8 والشرق الأوسط الكبير (مع إمكان عقد اجتماعات جانبية لمسئولين وأفراد غير حكوميين من وسط رجال الأعمال) لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي.
ويمكن للمنبر أن يستند في شكل مرن على نموذج رابطة آسيا - المحيط الهادئ للتعاون الاقتصادي (أبيك)، وسيغطي قضايا اقتصادية إقليمية، من ضمنها القضايا المالية والتجارية وما يتعلق بالضوابط.
(1) يشير "الشرق الأوسط الكبير" إلى بلدان العالم العربي، زائدا باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل. (2) تخطط أفغانستان والجزائر والبحرين وإيران ولبنان والمغرب وقطر والسعودية وتونس وتركيا واليمن لإجراء انتخابات. (3) البلدان التي قدمت طلبا للانضمام إلى منظمة التجارة الدولية (شكلت لجنة عمل تابعة للمنظمة): الجزائر ولبنان والسعودية واليمن. بلدان قدمت طلبا للانضمام (لم يُنظر بعد في الطلب): أفغانستان وإيران وليبيا وسورية. بلدان طلبت منحها صفة مراقب: العراق. 22/02/2004
2004-05-24
http://www.a r ab r enewal.com المصدر:
==========(18/116)
(18/117)
مشروع الشرق الأوسط الكبير
يمثل "الشرق الأوسط الكبير" (1) تحدياً وفرصة فريدة للمجتمع الدولي. وساهمت "النواقص" الثلاثة التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003 - الحرية، المعرفة، وتمكين النساء - في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الـ8. وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة.
إن الإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في "الشرق الأوسط الكبير" مروعة:
* مجموع إجمالي الدخل المحلي لبلدان الجامعة العربية الـ22 هو اقل من نظيره في أسبانيا.
* حوالي 40 في المائة من العرب البالغين - 65 مليون شخص - أميون، وتشكل النساء ثلثي هذا العدد.
* سيدخل أكثر من 50 مليوناً من الشباب سوق العمل بحلول 2010، وسيدخلها 100 مليون بحلول 2020. وهناك حاجة لخلق ما لا يقل عن 6 ملايين وظيفة جديدة لامتصاص هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل.
* إذا استمرت المعدلات الحالية للبطالة، سيبلغ معدل البطالة في المنطقة 25 مليوناً بحلول 2010.
* يعيش ثلث المنطقة على اقل من دولارين في اليوم. ولتحسين مستويات المعيشة، يجب أن يزداد النمو الاقتصادي في المنطقة أكثر من الضعف من مستواه الحالي الذي هو دون 3 في المائة إلى 6 في المائة على الأقل.
* في إمكان 6، 1 في المائة فقط من السكان استخدام الإنترنت، وهو رقم اقل مما هو عليه في أي منطقة أخرى في العالم، بما في ذلك بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
* لا تشغل النساء سوى 5، 3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية، بالمقارنة، على سبيل المثال، مع 4، 8 في المائة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
* عبّر 51 في المائة من الشبان العرب الأكبر سناً عن رغبتهم في الهجرة إلى بلدان أخرى، وفقاً لتقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002، والهدف المفضل لديهم هو البلدان الأوروبية.
وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق. ويمكن للشرق الأوسط الكبير ان يستمر على المسار ذاته، ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية. وسيمثل ذلك تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعة الثماني.
البديل هو الطريق إلى الإصلاح. ويمثل تقريرا التنمية البشرية العربية نداءات مقنعة وملحة للتحرك في الشرق الأوسط الكبير. وهي نداءات يرددها نشطاء وأكاديميون والقطاع الخاص في أرجاء المنطقة. وقد استجاب بعض الزعماء في الشرق الأوسط الكبير بالفعل لهذه النداءات واتخذوا خطوات في اتجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وأيدت بلدان مجموعة الثماني، بدورها، هذه الجهود بمبادراتها الخاصة للإصلاح في منطقة الشرق الأوسط. وتبيّن "الشراكة الأوروبية المتوسطية"، و"مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط"، وجهود إعادة الإعمار المتعددة الأطراف في أفغانستان والعراق التزام مجموعة الثماني بالإصلاح في المنطقة.
إن التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه، وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين، ونشوء نبضات ديموقراطية في أرجاء المنطقة، بمجموعها، تتيح لمجموعة الثماني فرصة تاريخية. وينبغي للمجموعة، في قمتها في سي آيلاند، أن تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير، وتطلق رداً منسّقاً لتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. ويمكن لمجموعة الثماني أن تتفق على أولويات مشتركة للإصلاح تعالج النواقص التي حددها تقريرا الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر:
* تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح.
* بناء مجتمع معرفي.
* توسيع الفرص الاقتصادية.
وتمثل أولويات الإصلاح هذه السبيل إلى تنمية المنطقة: فالديموقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية.
أولاً - تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح:
"توجد فجوة كبيرة بين البلدان العربية والمناطق الأخرى على صعيد الحكم القائم على المشاركة... ويضعف هذا النقص في الحرية التنمية البشرية، وهو أحد التجليات الأكثر إيلاما للتخلف في التنمية السياسية". (تقرير التنمية البشرية، 2002).(18/118)
إن الديموقراطية والحرية ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية، لكنهما مفقودتان إلى حد بعيد في أرجاء الشرق الأوسط الكبير. وفي تقرير "فريدوم هاوس" للعام 2003، كانت إسرائيل البلد الوحيد في الشرق الأوسط الكبير الذي صُنّف بأنه "حر"، ووصفت أربعة بلدان أخرى فقط بأنها "حرة جزئياً". ولفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى انه من بين سبع مناطق في العالم، حصلت البلدان العربية على أدنى درجة في الحرية في أواخر التسعينات. وأدرجت قواعد البيانات التي تقيس "التعبير عن الرأي والمساءلة" المنطقة العربية في المرتبة الأدنى في العالم. بالإضافة إلى ذلك، لا يتقدم العالم العربي إلا على أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على صعيد تمكين النساء. ولا تنسجم هذه المؤشرات المحبطة إطلاقا مع الرغبات التي يعبّر عنها سكان المنطقة. في تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2003، على سبيل المثال، تصدّر العرب لائحة من يؤيد، في أرجاء العالم، الرأي القائل بان "الديموقراطية أفضل من أي شكل آخر للحكم"، وعبّروا عن أعلى مستوى لرفض الحكم الاستبدادي.
ويمكن لمجموعة الثماني أن تظهر تأييدها للإصلاح الديموقراطي في المنطقة عبر التزام ما يلي:
مبادرة الانتخابات الحرة:
في الفترة بين 2004 و 2006، أعلنت بلدان عدة في الشرق الأوسط الكبير (2) نيتها إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية أو بلدية.
وبالتعاون مع تلك البلدان التي تظهر استعداداً جدياً لإجراء انتخابات حرة ومنصفة، يمكن لمجموعة الثماني ان ستقدم بفاعلية مساعدات لمرحلة ما قبل الانتخابات بـ:
* تقديم مساعدات تقنية، عبر تبادل الزيارات أو الندوات، لإنشاء أو تعزيز لجان انتخابية مستقلة لمراقبة الانتخابات والاستجابة للشكاوى وتسلم التقارير.
* تقديم مساعدات تقنية لتسجيل الناخبين والتربية المدنية إلى الحكومات التي تطلب ذلك، مع تركيز خاص على الناخبات.
الزيارات المتبادلة والتدريب على الصعيد البرلماني
من أجل تعزيز دور البرلمانات في دمقرطة البلدان، يمكن لمجموعة الثماني أن ترعى تبادل زيارات لأعضاء البرلمانات، مع تركيز الاهتمام على صوغ التشريعات وتطبيق الإصلاح التشريعي والقانوني وتمثيل الناخبين.
معاهد للتدريب على القيادة خاصة بالنساء
تشغل النساء 5، 3 في المائة فقط من المقاعد البرلمانية في البلدان العربية. ومن اجل زيادة مشاركة النساء في الحياة السياسية والمدنية، يمكن لمجموعة الثماني أن ترعى معاهد تدريب خاصة بالنساء تقدم تدريباً على القيادة للنساء المهتمات بالمشاركة في التنافس الانتخابي على مواقع في الحكم أو إنشاء/تشغيل منظمة غير حكومية. ويمكن لهذه المعاهد ان تجمع بين قياديات من بلدان مجموعة الثماني والمنطقة.
المساعدة القانونية للناس العاديين:
في الوقت الذي نفذت فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والبنك الدولي بالفعل مبادرات كثيرة لتشجيع الإصلاح القانوني والقضائي، فان معظمها يجرى على المستوى الوطني في مجالات مثل التدريب القضائي والإدارة القضائية وإصلاح النظام القانوني. ويمكن لمبادرة من مجموعة الثماني أن تكمّل هذه الجهود بتركيز الانتباه على مستوى الناس العاديين في المجتمع، حيث يبدأ التحسس الحقيقي للعدالة. ويمكن لمجموعة الثماني أن تنشئ وتموّل مراكز يمكن للأفراد أن يحصلوا فيها على مشورة قانونية بشأن القانون المدني أو الجنائي أو الشريعة، ويتصلوا بمحامي الدفاع (وهي غير مألوفة إلى حد كبير في المنطقة). كما يمكن لهذه المراكز ان ترتبط بكليات الحقوق في المنطقة.
مبادرة وسائل الإعلام المستقلة:
يلفت تقرير التنمية البشرية العربية إلى أن هناك اقل من 53 صحيفة لكل 1000 مواطن عربي، بالمقارنة مع 285 صحيفة لكل ألف شخص في البلدان المتطورة، وان الصحف العربية التي يتم تداولها تميل إلى أن تكون ذات نوعية رديئة. ومعظم برامج التلفزيون في المنطقة تعود ملكيته إلى الدولة أو يخضع لسيطرتها، وغالباً ما تكون النوعية رديئة، إذ تفتقر البرامج إلى التقارير ذات الطابع التحليلي والتحقيقي. ويقود هذا النقص إلى غياب اهتمام الجمهور وتفاعله مع وسائل الإعلام المطبوعة، ويحد من المعلومات المتوافرة للجمهور. ولمعالجة ذلك، يمكن لمجموعة الثماني أن:
* ترعى زيارات متبادلة للصحافيين في وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية.
* ترعى برامج تدريب لصحافيين مستقلين.
* تقدم زمالات دراسية لطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد، وتمول برامج لإيفاد صحافيين أو أساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب بشأن قضايا مثل تغطية الانتخابات أو قضاء فصل دراسي في التدريس في مدارس بالمنطقة.
الجهود المتعلقة بالشفافية / مكافحة الفساد
حدد البنك الدولي الفساد باعتباره العقبة المنفردة الأكبر في وجه التنمية، وقد اصبح متأصلاً في الكثير من بلدان الشرق الأوسط الكبير. ويمكن لمجموعة الثماني:
* أن تشجع على تبني "مبادئ الشفافية ومكافحة الفساد" الخاصة بمجموعة الثماني.(18/119)
* أن تدعم علناً مبادرة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية/ برنامج الأمم المتحدة للتنمية في الشرق الأوسط - شمال أفريقيا، التي يناقش من خلالها رؤساء حكومات ومانحون وIFIs ومنظمات غير حكومية استراتيجيات وطنية لمكافحة الفساد وتعزيز خضوع الحكومة للمساءلة.
* إطلاق واحد أو أكثر من البرامج التجريبية لمجموعة الثماني حول الشفافية في المنطقة.
المجتمع المدني:
أخذاً في الاعتبار أن القوة الدافعة للإصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير يجب أن تأتي من الداخل، وبما أن أفضل الوسائل لتشجيع الإصلاح هي عبر منظمات تمثيلية، ينبغي لمجموعة الثماني أن تشجع على تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة. ويمكن لمجموعة الثماني أن:
* تشجع حكومات المنطقة على السماح لمنظمات المجتمع المدني، ومن ضمنها المنظمات غير الحكومية الخاصة بحقوق الإنسان ووسائل الإعلام، على أن تعمل بحرية من دون مضايقة أو تقييدات.
* تزيد التمويل المباشر للمنظمات المهتمة بالديموقراطية وحقوق الإنسان ووسائل الإعلام والنساء وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المنطقة.
* تزيد القدرة التقنية لمنظمات غير الحكومية في المنطقة بزيادة التمويل للمنظمات المحلية (مثل "مؤسسة وستمنستر" في المملكة المتحدة أو "مؤسسة الدعم الوطني للديموقراطية" الأميركية) لتقديم التدريب للمنظمات غير الحكومية في شأن كيفية وضع برنامج والتأثير على الحكومة وتطوير استراتيجيات خاصة بوسائل الإعلام والناس العاديين لكسب التأييد. كما يمكن لهذه البرامج أن تتضمن تبادل الزيارات وإنشاء شبكات إقليمية.
* تمول منظمة غير حكومية يمكن أن تجمع بين خبراء قانونيين أو خبراء إعلاميين من المنطقة لصوغ تقويمات سنوية للجهود المبذولة من اجل الإصلاح القضائي أو حرية وسائل الإعلام في المنطقة. (يمكن بهذا الشأن الإقتداء بنموذج "تقرير التنمية البشرية العربية".)
ثانياً - بناء مجتمع معرفي
"تمثل المعرفة الطريق إلى التنمية والانعتاق، خصوصاً في عالم يتسم بعولمة مكثفة". (تقرير التنمية البشرية العربية، 2002)
لقد أخفقت منطقة الشرق الأوسط الكبير، التي كانت في وقت مضى مهد الاكتشاف العلمي والمعرفة، إلى حد بعيد، في مواكبة العالم الحالي ذي التوجه المعرفي. وتشكل الفجوة المعرفية التي تعانيها المنطقة ونزف الأدمغة المتواصل تحدياً لآفاق التنمية فيها. ولا يمثل ما تنتجه البلدان العربية من الكتب سوى 1، 1 في المائة من الإجمالي العالمي (حيث تشكل الكتب الدينية أكثر من 15 في المائة منها). ويهاجر حوالي ربع كل خريجي الجامعات، وتستورد التكنولوجيا إلى حد كبير. ويبلغ عدد الكتب المترجمة إلى اللغة اليونانية (التي لا ينطق بها سوى 11 مليون شخص) خمسة أضعاف ما يترجم إلى اللغة العربية.
وبالاستناد على الجهود التي تبذل بالفعل في المنطقة، يمكن لمجموعة الثماني أن تقدم مساعدات لمعالجة تحديات التعليم في المنطقة ومساعدة الطلاب على اكتساب المهارات الضرورية للنجاح في السوق المعولمة لعصرنا الحاضر.
مبادرة التعليم الأساسي:
يعاني التعليم الأساسي في المنطقة من نقص (وتراجع) في التمويل الحكومي، بسبب تزايد الإقبال على التعليم متماشياً مع الضغوط السكانية، كما يعاني من اعتبارات ثقافية تقيّد تعليم البنات. وفي مقدور مجموعة الـ8 السعي إلى مبادرة للتعليم الأولي في منطقة الشرق الأوسط الكبرى تشمل هذه العناصر:
* محو الأمية: أطلقت الأمم المتحدة في 2003 "برنامج عقد مكافحة الأمية" تحت شعار "محو الأمية كحرية". ولمبادرة مجموعة الـ8 لمكافحة الأمية ان تتكامل مع برنامج الأمم المتحدة، من خلال التركيز على إنتاج جيل متحرر من الأمية في الشرق الأوسط خلال العقد المقبل، مع السعي إلى خفض نسبة الأمية في المنطقة إلى النصف بحلول 2010. وستركز مبادرة مجموعة الـ8، مثل برنامج الأمم المتحدة، على النساء والبنات. وإذا أخذنا في الاعتبار معاناة 65 مليوناً من الراشدين في المنطقة من الأمية، يمكن لمبادرة مجموعة الـ8 أن تركز أيضا على محو الأمية بين الراشدين وتدريبهم من خلال برامج متنوعة، من مناهج تدريس على إنترنت إلى تدريب المعلمين.
* فرق محو الأمية: يمكن لمجموعة الـ8، سعياً إلى تحسين مستوى القراءة والكتابة لدى الفتيات، إنشاء أو توسيع معاهد تدريب المعلمين مع التركيز على النساء. ولمعلمات المدارس والمختصات بالتعليم القيام في هذه المعاهد بتدريب النساء على مهنة التعليم (هناك دول تحرم تعليم الذكور للإناث)، لكي يركزن بدورهن على تعليم البنات القراءة وتوفير التعليم الأولي لهن. للبرنامج أيضاً استخدام الإرشادات المتضمنة في برنامج "التعليم للجميع" التابع لـ"يونيسكو"، بهدف إعداد "فرق محو الأمية" التي يبلغ تعدادها بحلول 2008 مائة ألف معلمة.(18/120)
* الكتب التعليمية: يلاحظ تقرير التنمية البشرية العربية نقصاً مهماً في ترجمة الكتب الأساسية في الفلسفة والأدب وعلم الاجتماع وعلوم الطبيعة، كما تلاحظ "الحالة المؤسفة للمكتبات" في الجامعات. ويمكن لكل من دول مجموعة الـ8 تمويل برنامج لترجمة مؤلفاتها "الكلاسيكية" في هذه الحقول، وأيضاً، وحيث يكون ذلك مناسباً، تستطيع الدول أو دور النشر (في شراكة بين القطاعين العام والخاص) إعادة نشر الكتب الكلاسيكية العربية الخارجة عن التداول حالياً والتبرع بها إلى المدارس والجامعات والمكتبات العامة المحلية.
* مبادرة مدارس الاكتشاف: بدأ الأردن بتنفيذ مبادرته لإنشاء "مدارس الاكتشاف" حيث يتم استعمال التكنولوجيا المتقدمة ومناهج التعليم الحديثة. ولمجموعة الـ8 السعي إلى توسيع هذه الفكرة ونقلها إلى دول أخرى في المنطقة من طريق التمويل، من ضمنه من القطاع الخاص.
* إصلاح التعليم: ستقوم "المبادرة الأميركية للشراكة في الشرق الأوسط" قبل قمة مجموعة الـ8 المقبلة (في آذار/ مارس أو نيسان/ أبريل) برعاية "قمة الشرق الأوسط لإصلاح التعليم"، التي ستكون ملتقى لتيارات الرأي العام المتطلعة إلى الإصلاح والقطاع الخاص وقادة الهيئات المدنية والاجتماعية في المنطقة ونظرائهم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك لتحديد المواقع والمواضيع التي تتطلب المعالجة، والتباحث في سبل التغلب على النواقص في حقل التعليم. ويمكن عقد القمة في ضيافة مجموعة الـ8 توخياً لتوسيع الدعم لمبادرة منطقة الشرق الأوسط الكبرى عشية عقد القمة.
مبادرة التعليم في إنترنت:
تحتل المنطقة المستوى الأدنى من حيث التواصل مع إنترنت. ومن الضروري تماماً تجسير "الهوة الرقمية" هذه بين المنطقة وبقية العالم نظراً إلى تزايد المعلومات المودعة على إنترنت وأهمية إنترنت بالنسبة للتعليم والمتاجرة. ولدى مجموعة الـ8 القدرة على إطلاق شراكة بين القطاعين العام والخاص لتوفير الاتصال الكومبيوتري أو توسيعه في أنحاء المنطقة، وأيضاً بين المدن والريف داخل البلد الواحد. وقد يكون من المناسب أكثر لبعض المناطق توفير الكومبيوترات في مكاتب البريد، مثلما يحصل في بلدات وقرى روسيا. وقد يركز المشروع أولا على بلدان الشرق الأوسط الأقل استخداما للكومبيوتر (العراق، أفغانستان، باكستان، اليمن، سورية، ليبيا، الجزائر، مصر، المغرب)، والسعي، ضمن الإمكانيات المالية، إلى توفير الاتصال بالكومبيوتر إلى أكثر ما يمكن من المدارس ومكاتب البريد.
ومن الممكن أيضاً ربط مبادرة تجهيز المدارس بالكومبيوتر بـ"بمبادرة فرق محو الأمية" المذكورة أعلاه، أي قيام مدرسي المعاهد بتدريب المعلمين المحليين على تطوير مناهج دراسية ووضعها على إنترنت، في مشروع يتولى القطاع الخاص توفير معداته ويكون متاحاً للمعلمين والطلبة.
مبادرة تدريس إدارة الأعمال:
لمجموعة الـ8 في سياق السعي إلى تحسين مستوى إدارة الأعمال في عموم المنطقة إقامة الشراكات بين مدارس الأعمال في دول مجموعة الـ8 والمعاهد التعليمية (الجامعات والمعاهد المتخصصة) في المنطقة. وبمقدور مجموعة الـ8 تمويل هيئة التعليم والمواد التعليمية في هذه المعاهد المشتركة، التي تمتد برامجها من دورة تدريبية لمدة سنة للخريجين إلى دورات قصيرة تدور على مواضيع محددة، مثل إعداد خطط العمل للشركات أو استراتيجيات التسويق.
النموذج لهذا النوع من المعاهد قد يكون معهد البحرين للمصارف والمال، وهو مؤسسة بمدير أميركي ولها علاقة شراكة مع عدد من الجامعات الأميركية.
توسيع الفرص الاقتصادية:
تجسير الهوة الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير يتطلب تحولا اقتصاديا يشابه في مداه ذلك الذي عملت به الدول الشيوعية سابقاً في أوروبا الشرقية. وسيكون مفتاح التحول إطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة، خصوصاً مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل المحركات الرئيسية للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل. وسيكون نمو طبقة متمرسة في مجال الأعمال عنصراً مهماً لنمو الديموقراطية والحرية. ويمكن لمجموعة الـ8 في هذا السياق اتخاذ الخطوات التالية:
مبادرة تمويل النمو:
تقوية فاعلية القطاع المالي عنصر ضروري للتوصل إلى نسب أعلى للنمو وخلق فرص العمل. ولمجموعة الـ8 ان تسعى إلى إطلاق مبادرة مالية متكاملة تتضمن العناصر التالية:(18/121)
* إقراض المشاريع الصغيرة: هناك بعض المؤسسات المختصة بتمويل المشاريع الصغيرة في المنطقة لكن العاملين في هذا المجال لا يزالون يواجهون ثغرات مالية كبيرة. إذ لا يحصل على التمويل سوى خمسة في المائة من الساعين إليه، ولا يتم عموما تقديم أكثر من 7.0في المائة من مجموع المال المطلوب في هذا القطاع. وبإمكان مجموعة الـ8 المساعدة على تلافي هذا النقص من خلال تمويل المشاريع الصغيرة، مع التركيز على التمويل بهدف الربح، خصوصاً للمشاريع التي تقوم بها النساء. مؤسسات الإقراض الصغير المربح قادرة على إدامة نفسها ولا تحتاج إلى تمويل إضافي للاستمرار والنمو. ونقدّر أن في إمكان قرض من 400 مليون دولار إلى 500 مليون دولار يدفع على خمس سنوات مساعدة 1. 2 مليون ناشط اقتصادي على التخلص من الفقر، 750 ألفا منهم من النساء.
* مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير: باستطاعة مجموعة الـ8 المشاركة في تمويل مؤسسة على طراز "مؤسسة المال الدولية" للمساعدة على تنمية مشاريع الأعمال على المستويين المتوسط والكبير، بهدف التوصل إلى تكامل اقتصادي لمجال الأعمال في المنطقة. وربما الأفضل إدارة هذه المؤسسة من قبل مجموعة من قادة القطاع الخاص في مجموعة الـ8 يقدمون خبراتهم لمنطقة الشرق الأوسط الكبير.
* بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير: في إمكان مجموعة الـ8 ومشاركة مقرضين من منطقة الشرق الأوسط الكبير نفسها، إنشاء مؤسسة إقليمية للتنمية على غرار "البنك الأوروبي للاعمار والتنمية" لمساعدة الدول الساعية إلى الإصلاح على توفير الاحتياجات الأولية للتنمية. كما تستطيع المؤسسة الجديدة توحيد القدرات المالية لدول المنطقة الأغنى وتركيزها على مشاريع لتوسيع انتشار التعليم والعناية الصحية والبنى التحتية الرئيسية. ولـ"بنك تنمية الشرق الأوسط الكبير" هذا أن يكون مذخراً للمساعدة التكنولوجية واستراتيجيات التنمية لبلدان المنطقة. اتخاذ قرارات الإقراض (أو المنح) يجب ان تتحدد بحسب قدرة البلد المقترض على القيام بإصلاحات ملموسة.
* الشراكة من أجل نظام مالي أفضل: بمقدور مجموعة الـ8، توخيا لإصلاح الخدمات المالية في المنطقة وتحسين اندماج بلدانها في النظام المالي العالمي، أن تعرض مشاركتها في عمليات إصلاح النظم المالية في البلدان المتقدمة في المنطقة. وسيكون هدف المشاركة إطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها في عموم المنطقة، من خلال تقديم تشكيلة من المساعدات التقنية والخبرات في مجال الأنظمة المالية مع التركيز على:
- تنفيذ خطط الإصلاح التي تخفض سيطرة الدولة على الخدمات المالية.
- رفع الحواجز على التعاملات المالية بين الدول.
- تحديث الخدمات المصرفية.
- تقديم وتحسين وتوسيع الوسائل المالية الداعمة لاقتصاد السوق.
- إنشاء الهياكل التنظيمية الداعمة لإطلاق حرية الخدمات المالية.
مبادرة التجارة
أن حجم التبادل التجاري في الشرق الأوسط متدن جداً، إذ لا يشكل سوى ستة في المائة من كل التجارة العربية. ومعظم بلدان الشرق الأوسط الكبير تتعامل تجارياً مع بلدان خارج المنطقة، وتوصلت إلى اتفاقات تجارية تفضيلية مع أطراف بعيدة جداً بدلاً من جيرانها. ونتيجة لذلك، أصبحت الحواجز الجمركية وغير الجمركية هي الشيء المعتاد، فيما لا تزال التجارة عبر الحدود شيئاً نادراً. ويمكن لمجموعة الثمانية ان تنشئ مبادرة جديدة مصممة لتشجيع التجارة في الشرق الأوسط الكبير، تتألف من العناصر التالية:
الانضمام/ التنفيذ على صعيد منظمة التجارة الدولية وتسهيل التجارة
يمكن لمجموعة الثمانية ان تزيد تركيزها على انضمام البلدان في المنطقة إلى منظمة التجارة الدولية. (3) وستتتضمن برامج محددة للمساعدة التقنية توفير مستشارين يعملون في البلد ذاته في شأن الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية وتحفيز التزام واسع من مجموعة الـ8 لتشجيع عملية الانضمام، بما في ذلك تركيز الاهتمام على تحديد وإزالة الحواجز غير الجمركية. وحالما ينجز الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، سيتحول مركز الاهتمام إلى توقيع التزامات إضافية لمنظمة التجارة الدولية، مثل "الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية" و"اتفاق مشتريات الحكومة" وربط استمرار المساعدة التقنية بتنفيذ هذه الالتزامات الخاصة بمنظمة التجارة الدولية. ويمكن لهذه المساعدات التقنية ان تربط أيضا ببرنامج على صعيد المنطقة برعاية مجموعة الـ8 بشأن التسهيلات والجوانب اللوجستية المتعلقة بالرسوم الجمركية للحد من الحواجز الإدارية والمادية بوجه التبادل التجاري بين بلدان المنطقة.
المناطق التجارية
ستنشئ مجموعة الـ8 مناطق في الشرق الوسط الكبير للتركيز على تحسين التبادل التجاري في المنطقة والممارسات المتعلقة بالرسوم الجمركية. وستتيح هذه المناطق مجموعة متنوعة من الخدمات لدعم النشاط التجاري للقطاع الخاص والصلات بين المشاريع الخاصة، بما في ذلك "التسوق من منفذ واحد" للمستثمرين الأجانب، وصلات مع مكاتب الجمارك لتقليل الوقت الذي يستغرقه إنجاز معاملات النقل، وضوابط موحدة لتسهيل دخول وخروج السلع والخدمات من المنطقة.(18/122)
مناطق رعاية الأعمال
بالاستناد على النجاح الذي حققته مناطق التصدير ومناطق التجارة الخاصة في مناطق أخرى، يمكن لمجموعة الـ8 أن تساعد على إقامة مناطق محددة خصيصاً في الشرق الأوسط الكبير تتولى تشجيع التعاون الإقليمي في تصميم وتصنيع وتسويق المنتجات. ويمكن لمجموعة الـ8 أن تعرض منافذ محسّنة إلى أسواقها لهذه المنتجات، وتقدم خبراتها في إنشاء هذه المناطق.
منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير
لتشجيع التعاون الإقليمي المحسّن، يمكن لمجموعة الـ8 أن تنشئ "منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط" الذي سيجمع مسؤولين كباراً من مجموعة الـ8 والشرق الأوسط الكبير (مع إمكان عقد اجتماعات جانبية لمسؤولين وأفراد غير حكوميين من وسط رجال الأعمال) لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي.
ويمكن للمنبر أن يستند في شكل مرن على نموذج رابطة آسيا - المحيط الهادئ للتعاون الاقتصادي (أبك)، وسيغطي قضايا اقتصادية إقليمية، من ضمنها القضايا المالية والتجارية وما يتعلق بالضوابط.
(1) يشير "الشرق الأوسط الكبير" إلى بلدان العالم العربي، زائداً باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا وإسرائيل.
(2) تخطط أفغانستان والجزائر والبحرين وإيران ولبنان والمغرب وقطر والسعودية وتونس وتركيا واليمن لإجراء انتخابات.
(3) البلدان التي قدمت طلباً للانضمام إلى منظمة التجارة الدولية (شكلت لجنة عمل تابعة للمنظمة): الجزائر ولبنان والسعودية واليمن. بلدان قدمت طلباً للانضمام (لم يُنظر بعد في الطلب): أفغانستان وإيران وليبيا وسورية. بلدان طلبت منحها صفة مراقب: العراق
المصدر: الحياة
http://www.sy r ianlaw.com المصدر:
=============(18/123)
(18/124)
الاتحاد الأوروبي يدفع باتجاه الشرق الأوسط الكبير
إبراهيم علوش
بالرغم من بعض التعارضات الجدية الأوروبية-الأمريكية بصدد طريقة إدارة السياسة الإمبريالية في العراق وفلسطين والمنطقة العربية عموماً، والرغبة المشروعة لدى أطراف عربية رسمية وشعبية عديدة للاستفادة من تلك الخلافات في توسيع هامش مناورتها، فإننا نكون سذجاً لو تصورنا دوافع وآليات عمل الاتحاد الأوروبي مختلفة جوهرياً عن مثيلتها الأمريكية، أو لو تصورناها تلعب في المنطقة العربية خارج الخطوط الحمر والسياق الاستراتيجي الأمريكي-الصهيوني.
بالتأكيد، أوروبا الحضارة ليست بالضبط مثل أمريكا البراغماتية المقطوعة الجذور. كما إن منسوب التفهم والتعاطف النسبي مع قضايانا في الشارع الأوروبي يتجاوز مثيله في الشارع الأمريكي بسنوات ضوئية. بيد أن ذلك لا ينفي النزعة الإمبريالية المنبثقة من ثنايا الشرائح المعولمة في الدول المكونة للاتحاد الأوروبي، ولو كان يخفف من اندفاعها أحياناً ويغير من شكلها أحياناً أخرى.
على أية حال، وبغض النظر عن تصاعد وخفوت حدة التعارضات الأوروبية-الأمريكية حول توزيع الغنائم حسب الوزن النسبي لكلٍ منهما إزاء نزعة الاستئثار الأمريكية، كما في العراق مثلاً، فإن ما تجب رؤيته في هذا المفصل المحدد من تاريخ أمتنا هو دور الاتحاد الأوروبي في الترويج للتطبيع ومشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وهو ما يزيغ عن الأبصار أحياناً في زوبعة العدوان السافر الأمريكي-الصهيوني علينا.
في عام 1995 بالتحديد، جاء إعلان برشلونة تحت عنوان «الشراكة الأورو-متوسطية» لإقامة سوق مشتركة أوروبية-متوسطية تضم تركيا و«إسرائيل» على خلفية معاهدات وادي عربة وأوسلو والمؤتمرات الاقتصادية «الشرق أوسطية». وهو ما تكامل مع الجهود الأمريكية للترويج للتطبيع والعولمة في المنطقة العربية، ولكن من بوابة أوروبية، تعطي للفئات الحاكمة في أوروبا مدخلاً للمشاركة في غنائمها الاقتصادية وغير الاقتصادية.
أهمية هذا الجهد طبعاً أنه ذو طبيعة استراتيجية ومؤسسية تتجاوز آثارها طويلة المدى هذا اللقاء التطبيعي أو ذاك. واليوم، بعد الاندفاعة الأمريكية الجديدة لتأسيس «الشرق الأوسط الكبير»، والتي سبقها إعلان بوش بعد شهر من سقوط بغداد بالضبط عن مشروعه لإنشاء منطقة حرة أمريكية في «الشرق الأوسط»، عادت عجلات «الشراكة الأورو-متوسطية» للدوران من جديد لتتمم الجهد الأمريكي في الهدف ولتجاوره في المحتوى. فقام وزراء خارجية الأردن وتونس ومصر والمغرب يوم 25 شباط/فبراير 2004 بالتوقيع في الرباط على اتفاقية إقامة منطقة للتبادل الحر بين الدول العربية المتوسطية كجزء من استحقاقات الانضمام لمنطقة التبادل الحر الأورو-متوسطية. وكالعادة، صدر بيان يضلل الجمهور العربي بالقول أنها خطوة على طريق السوق العربية المشتركة.
ولكن كريس باتن المفوض الأوروبي للعلاقات الخارجية نشر مقالاً في صحيفة يديعوت أحرونوت في 26/2/2004، أي بعد يوم بالضبط من توقيع الاتفاقية في المغرب، يربط فيها بوضوح ما بين تلك الاتفاقية كالتزام واضح للشراكة الأورو-متوسطية المتجسد في إعلان برشلونة، وما بين الترويج للتطبيع والعولمة. مثلاً، يقول باتن: «فهدفنا هو التوصل إلى سياسة توفر لجيراننا التقدم تجاه الحريات الأربع الأساسية للاتحاد الأوروبي ألا وهي: حرية انتقال البضائع والخدمات والأموال والأفراد، وذلك مقابل إصلاحات سياسية واقتصادية ملموسة والتي يجب على جيراننا اتخاذها لمصلحتهم الخاصة».
ومن الجدير بالذكر أن مصر والأردن والمغرب وتونس التي تقدم وزراء خارجيتها الصفوف لفتح أبواب التطبيع والعولمة و«الإصلاح» في المنطقة العربية أوروبياً، تشبه إلى حد بعيد الدول التي تم تداول اسمها إعلامياً غداة إعلان بوش عن مبادرته لسوق حرة «شرق أوسطية» في 9 أيار/مايو 2003 لكي تتقدم الصفوف في اتفاقيات تجارة حرة منفصلة مع أمريكا على نظام المناطق الصناعية المؤهلة الذي يقوم دائماً على ثلاثي الدولة الموقعة- أمريكا-«إسرائيل»، والذي تم تطبيقه في الأردن في التسعينيات.
باختصار، اتفاقية الشراكة الأورو-متوسطية لا تمت بصلة للسوق العربية المشتركة، لا في أهدافها ولا في أبعادها!! لكن على الأقل لن تتردد الدول العربية الموقعة على هذا الاتفاق بتنفيذه...وفي جميع الأحوال، فلننتبه للدور الأوروبي.
http://www.alshaab.com المصدر:
============(18/125)
(18/126)
الخطة الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط من منظور إسرائيلي
ماجد كيالي
تتابع إسرائيل بدأب واهتمام كبيرين وقائع الحرب الأمريكية ضد العراق، ولكن هذه المتابعة التي اتسمت بالحماس باتت تتسم أيضاً بالقلق، فالحملة الأمريكية انطلقت في البداية بدعوى نزع أسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق، وبعد ذلك توسعت أهدافها لتشمل تغيير النظام فيه الذي ينتمي - بحسب الرئيس بوش - إلى "محور الشر" (مع إيران وكوريا الشمالية)، وهاهي الإدارة الأمريكية تتّجه نحو الإعلان عن أن خطة حربها ضد العراق باتت تتضمّن أيضاً السعي إلى بناء "شرق أوسط جديد" يتأسس على نشر الديمقراطية والانفتاح الاقتصادي في الدول العربية، وذلك في خطاب سيلقيه كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في 6 نوفمبر المقبل.
وكالعادة فقد كانت الإدارة الأمريكية حريصة على إطلاع إسرائيل على مضمون هذا الخطاب! وبحسب التسريبات الإسرائيلية (هآرتس 25/10) فإن خطاب باول هذا سيتضمن الحديث عن ضرورة دمقرطة المؤسسات في دول المنطقة، والاهتمام بحقوق النساء، وتعزيز حرية الصحافة، وشفافية الحكم، وتحفيز الفرص الاقتصادية والتعليمية، كما سيدعو باول كل شعوب المنطقة إلى التعاون الاقتصادي، وسيعلن عن مبادرة "للتعاون الاقتصادي" كأساس هام في نظرية الأمن القومي الجديدة للولايات المتحدة، وانطلاقاً من أن إقامة منطقة تجارية حرة في الشرق الأوسط سيساعد في تشجيع إصلاحات اقتصادية وتطوير اقتصاد السوق.
وفي الحقيقة فإن هذه الخطة بغض النظر عن تعبيراتها المباشرة تذكّر بالتقرير المغرض الذي وضعه لوران مورافيتش المحلل في مؤسسة "راند" للدراسات، وقدم في العاشر من يوليو الماضي إلى هيئة السياسة الدفاعية في وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" والتي يشرف عليها ريتشارد بيرل، تحت عنوان: "الاستراتيجية الكبرى للشرق الأوسط"، والذي جرى فيه الحديث عن ضرورة التغيير في المنطقة بحيث يكون "العراق هو المحور التكتيكي، والسعودية هي المحور الاستراتيجي، ومصر هي الجائزة"، كما تذكّر بخطة ريتشارد بيرل ذاته التي قدمها إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو في مطلع عام 1996م، وتتضمن فرض التسوية والنظام الإقليمي على العرب بواسطة وسائل القوة والضغط الأمريكي، وبما يتناسب مع المصالح الإسرائيلية.
وإذا كانت خطط الإدارة الأمريكية المتعلقة بنزع سلاح العراق وتغيير نظامه تتساوق تماماً مع الأهداف الإسرائيلية الرامية لإضعافه ومن ثم إخراجه نهائياً من معادلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فإن الخطة الأمريكية الجديدة المتعلقة بالشرق الأوسط الجديد لا يبدو أنها تبعث على ارتياح الإسرائيليين، وما يلفت الانتباه أيضاً أنه ثمة خلاف بين الإسرائيليين حول هذه الخطة وجدواها وأبعادها وانعكاساتها السلبية أو الإيجابية على الجانب الإسرائيلي.
وفي هذا الصدد حذّر ميرون بنفنستي في مقال نشره في هآرتس (24/10) من مغبة التفاؤل إزاء المخططات الأمريكية الشرق أوسطية وقال متسائلاً: "بعضهم يرى في الحرب ضد العراق فرصة لبناء "منطقة سلام ديمقراطية"، تقوم في ظلها في البلدان العربية أنظمة ليبرالية - ديمقراطية ومعتدلة، ولكن هل حقاً مثل هذا "الشرق الأوسط الجديد" سيحل المشكلات، أم سيحدث عدم استقرار يثقل على إسرائيل بالذات؟ هل يعتقد أحد ما بأن نظاماً بديلاً في العراق سيوقّع على اتفاق سلام فوري مع إسرائيل؟ وهل لإسرائيل مصلحة في انهيار المملكة الأردنية؟ هل الجماهير التي ستحظى بأنظمة ديمقراطية تتوق بهذا القدر للسلام مع إسرائيل؟ "، وبدوره فقد حذّر ألوف بن من انعكاسات ما يجري على عملية التسوية، وبرأيه فإن: "مجرد وجود إطار لحل النزاع يحظى بالموافقة الدولية يعني التلويح للطرفين أن وقتهما محدود (يقصد خطة بوش حول الدولة الفلسطينية)، في اليوم الذي تقرر فيه الولايات المتحدة التدخل سيكون لها إطار جاهز يصعب على الطرفين رفضه، وعندئذ سيسجّل شارون في التاريخ كمن مهد الطريق للدولة الفلسطينية"(هآرتس20/10)، ويذكر أن هذا الاستنتاج يتفق مع ما كان مارتن أنديك قد خلص إليه بقوله: "إن الحرب ضد العراق قد تبدأ بالضغط الأمريكي من أجل تجنيد الدعم الدولي لها، لكنها قد تنتهي بالضغط الأمريكي على إسرائيل من أجل سحب جيوشها من الضفة"(يديعوت أحرونوت 13/9)(18/127)
ويمكن اعتبار البيان الذي أصدره في سبتمبر الماضي 97 أكاديمياً بمثابة أجرأ موقف إسرائيلي جماعي إزاء الحرب الأمريكية ضد العراق، وجاء في البيان: "نحن أعضاء الوسط الأكاديمي الإسرائيلي يروعنا تصاعد حدة الاعتداءات الأمريكية على العراق، والدعم الحماسي الذي تحظى به من جانب القيادة السياسية الإسرائيلية، وإننا قلقون جداً بإزاء الدلائل التي تشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية قد تعمد إلى استغلال "فوضى الحرب" لكي ترتكب مزيداً من الجرائم ضد الشعب الفلسطيني، وهي جرائم قد تصل إلى حد التطهير العرقي الكامل (الترانسفير)، إننا ندعو المجتمع الدولي إلى التنبه للأحداث الجارية الآن داخل إسرائيل وفي الأراضي المحتلة، لكي يصبح من الواضح في شكل مطلق أن الجرائم ضد الإنسانية أمر مرفوض تماماً، وبغية اتخاذ تدابير ملموسة للحيلولة دون حصول جرائم كهذه".
وانسجاماً مع مواقفه الجريئة المتعاطفة مع الفلسطينيين طرح جدعون ليفي كعادته عدة تساؤلات لفت فيها الانتباه إلى خطورة موقف المجتمع الإسرائيلي من الحرب، مستنكراً في نفس الوقت هذا الموقف وهذه الحرب، يقول ليفي: " كيف حدث أن خرج في بريطانيا 50 ألف إنسان للتظاهر ضد الحرب في العراق، بينما لم يخرج في إسرائيل متظاهر واحد؟، وكيف حدث ألا تشهد إسرائيل نقاشاً جماهيرياً حول ضرورة هذه الحرب في الوقت الذي يحتدم فيه الجدل حولها في الولايات المتحدة وأوروبا؟ إسرائيل تتحدث مرة أخرى بصوت واحد - صوت الحكومة -، مثلما يحدث في المسألة الفلسطينية، وأحد الأسئلة الصعبة التي تثيرها إمكانية شن الحرب على العراق، طرح في الأسبوع الماضي في لجنة الخارجية والأمن من قبل يوسي سريد الذي كان من القلائل الذين تجرؤوا على التشكيك جهاراً في ضرورة الحرب، سريد تساءل عما سيحدث إذا نجحت الحرب وتمت إزاحة صدام حسين وساد في العالم العربي هيجان"(هآرتس6/10)
وعلى العكس مما تقدم فمن الجهة المقابلة برزت مواقف إسرائيلية مشجعة ومتحمسة تماماً للخطة الأمريكية "الشرق أوسطية"، داعية إلى عودة الاستعمار لهذه المنطقة، فهذه المواقف انطلقت من إمكانية شطب السلطة الفلسطينية، والانتهاء من عملية التسوية، وصولاً ربما لترحيل قسم من الفلسطينيين، وفرض الواقع الإسرائيلي على العرب بوسائل القوة والإكراه، وفي هذا الإطار مثلاً يقول جي باخور: "الدكتاتوريات في العالم العربي فشلت في الخمسين سنة الأخيرة في إدارة بلدانها، بل وصارت خطراً على سلامة العالم، ومثلما احتاج الألمان إلى إنقاذ من الخارج من نظام شمولي استبدادي، هكذا يحتاج ذلك العرب أيضاً، في العراق، في جيرانه، وكذا في المناطق الفلسطينية، في الغرب باتوا يدركون أكثر فأكثر بأن هذه الأنظمة العربية غير المسؤولة تولد موجات إرهابية ولا تسمح لأي خيار آخر أمام العالم المذهول" (يديعوت أحرونوت 20/10)، ويذهب تسفي بار (رئيس بلدية رمات جان قائد حرس الحدود سابقاً) أبعد من ذلك كثيراً، ففي تحريض لا يخلو من العنصرية يقول: "الكثيرون يتساءلون مستغربين عن سبب إصرار بوش وبلير وحزمهما في الهجوم على العراق، السبب هو قلقهما من حقيقة أن جزءاً من الثروات الطبيعية العالمية مثل الفحم والنفط الضروريين لوجود وبقاء الجنس البشري موجود بيد الطاغوت: إيران والعراق وليبيا والسعودية، والدولة الأخيرة تظهر في الآونة الأخيرة بصورة الدولة الداعمة والممولة للإرهاب، الحرب الوشيكة هي مرحلة، أمريكا ستهاجم العراق وستحقق أهدافها، وفي المرحلة التالية ستكون هناك حاجة إلى سن قوانين دولية في إطارها يعلن عن الثروات الطبيعية (الفحم والنفط وما شابه) تحت وصاية دولية، مع سد الطريق على إمكانية وقوعها بيد الإرهابيين والقبائل والمتوحشين عديمي المسؤولية من بني البشر. (هآرتس22/9)
أما نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق) ففي كلمة ألقاها أمام مجلس النواب الأمريكي طالب الإدارة الأمريكية بتوسيع نطاق الحرب لإسقاط الأنظمة في 6 دول من أجل تفكيك الشبكة الإرهابية العالمية، وبحسب صحيفة معاريف (13/9) فإن نتنياهو لم يحدد أسماء الدول لكنه قصد سلطة عرفات وإيران والعراق وسوريا وليبيا والسودان، وقال نتنياهو في خطابه المذكور: "لو لم تدمر أبراج التوائم والبنتاجون لاقترحت بأن الوسيلة للقضاء على شبكة الإرهاب العالمية هي حل 6 أنظمة و 24 منظمة إرهابية تابعة لها، والخطر الأخير الذي يحوم فوق العالم هو تزود جزء من شبكة الإرهاب بسلاح نووي".(18/128)
وعلى أية حال فإنه في ظل هذه الأوضاع المزرية التي تتحكم فيها الإدارة الأمريكية في العالم من حق إسرائيل أن تبدي كل الحماس للخطط الأمريكية، فليس ثمة ما هو أفضل بالنسبة لها من وضع تقوم فيه دولة أخرى على قياس أمريكا بحرب في المنطقة بالوكالة عنها، خصوصاً أن هذه الحرب ستؤدي حتماً إلى إضعاف العراق، ولخبطة الأوضاع في المنطقة، ولكن من جهة ثانية ثمة ما يدعو إسرائيل للقلق كثيراً إذ إن عواقب عدم الاستقرار والفراغ ربما تكون خطيرة جداً على إسرائيل وعلى المصالح الأمريكية في المنطقة، وفي الواقع فلا شيء يرجح عكس ذلك في ظل الرمال الشرق أوسطية المتحركة، ولا شيء يدعو أحداً للتفاؤل ومن ضمن ذلك بالطبع إسرائيل أولاً.
http://www.alwatan.com.sa المصدر:
==============(18/129)
(18/130)
مشروع الشرق الأوسط الكبير أم وجه جديد للاستعمار بشكليه القديم والجديد؟
د. عزام التميمي
ما أن هدأت العواصف التي أثارتها فضيحة انتهاكات أبو غريب حتى عاد الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، وخاصة إثر الدعوة التي وجهتها الإدارة الأمريكية لزعماء دول الشرق الأوسط للمشاركة في قمة مجموعة الدول الصناعية الثماني الذي يتوقع أن تنعقد قريباً في شهر حزيران (يونيو).
ورغم عدم استجابة أهم الدول الشرق أوسطية لهذه الدعوة، ورغم الخسارة المعنوية الجسيمة التي منيت بها الولايات المتحدة بسبب مسالك جنودها في كل من العراق وأفغانستان، إلا أن الإدارة الأمريكية تبدو مصرة على طرح المشروع على قمة الثماني الكبار على أمل أن تقتنع هذه الدول بالدخول في شراكة مع الأمريكان لإصلاح أوضاع هذا الشرق الأوسط التي استعصت على الإصلاح حتى الآن.
يعتمد مشروع الشرق الأوسط الجديد في تبرير ذاته اعتماداً شبه تام على تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003، ويتكئ التقرير الأمريكي المقدم حوله إلي قمة الثمانية - والذي سربت مسودته في وقت مبكر - بشكل لا مواربة فيها على ما اعتبره النداءات المقنعة والملحة التي يمثلها تقريرا التنمية البشرية العربية، مدعياً أنها نداءات يرددها نشطاء وأكاديميون وممثلون للقطاع الخاص في أرجاء المنطقة، وهي نداءات يعتبرها بعض نقاد التقريرين صرخات طابور خامس يشكل معاول الهدم المحلية بمباركة وتمويل أمريكيين تحت مسميات الديمقراطية، وحقوق المرأة والأقليات والمجتمع المدني، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وفيما لا يمكن اعتباره إلا استهتاراً بالمنطقة ومن فيها يتحدث المشروع الأمريكي عن ضرورة نشر الديمقراطية والحرية ناقلاً عن تقرير لمؤسسة فريدام هاوس الأمريكية في تقريرها للعام 2003 أن إسرائيل هي الدولة الحرة الوحيدة في المنطقة، وذلك دون تحديد لمعاني المفاهيم التي يتساهل المشروع في استخدامها، فماذا تعني الديمقراطية؟ وماذا تعني الحرية؟ إذا كانت إسرائيل هي النموذج، فقد عرفت الإجابة، وانزاح الستار، ليس من معاني الديمقراطية في العرف الأمريكي أن يختار الناس نظام الحكم الذي يريدون، ولا الشريعة التي إليها يحتكمون، بل الديمقراطية في المفهوم الأمريكي تعني أمرين لا ثالث لهما كما ذكرت مجلة الإيكونوميست البريطانية ذات مرة: أن يكون نظام الحكم قائماً على اقتصاد السوق، وألا يشكل تهديداً لأي من مصالح أمريكا، ولاشك أن الأولى تعني أن نتحول كلنا إلي سلع نباع ونشتري في سوق التجارة الأمريكي، وتعني الثانية أن نكون عبيداً مسخرين للحفاظ على أمن السيد الأمريكي القابع في البيت الأبيض، فنتجسس على أبناء ملتنا، ونخون جيراننا، ويبيع الواحد منا أخاه بثمن بخس، وتجوب أراضينا وأجواءنا ومياهنا الإقليمية القطع العسكرية الأمريكية بحرية متناهية، وكل من تعرض لها ممن تأخذه الحمية من أبنائنا لاحقناه وعاقبناه بل ومزقناه شر ممزق.
هل نحن إزاء استعمار من نوع جديد؟ لا، بل نحن إزاء الاستعمار القديم نفسه بعد أن فقدت أدوات الاستعمار الجديد فعاليتها في السيطرة على الأوضاع، وما غزو أفغانستان والعراق، والتلويح بغزو غيرهما إن دعت الضرورة إلا تأكيد على أن الإدارة الحالية في واشنطن لم تعد مقتنعة أو مكتفية بأدوات الاستعمار الجديد.
من الجدير بالذكر أن الاستعمار الجديد مصطلح يصف حالة من النفوذ تمارسه دولة على دولة أخري أضعف وأقل شأناً منها، ويكون هذا النفوذ متجلياً في مجالات أو قطاعات معينة، وتستخدم في سبيل بسطه وسائل شتى قد تكون اقتصادية أو لغوية أو ثقافية أو سياسية، أو مزيج منها، بدلاً من وسائل السيطرة التقليدية من احتلال عسكري وتبعية سياسية مباشرة، وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار كثير من الدول - وخاصة في القارة الأفريقية - التي تستخدم الإنجليزية أو الفرنسية لغة رسمية بدلاً من لغتها المحلية خاضعة لهذا النوع من الاستعمار، كما يمكن أيضاً اعتبار النفوذ الاقتصادي الذي تمارسه الشركات والمؤسسات متعددة الجنسيات في كثير من دول ما يعرف بالعالم الثالث نوعاً من الاستعمار الجديد.
وفيما عدا حالات قليلة ونادرة يمكن اعتبار كثير من المستعمرات السابقة في كل من آسيا وأفريقيا نقاط نفوذ لهذه الإمبريالية المقنعة، حيث تظل هذه الدول الممنوحة الاستقلال رسمياً تحت رحمة القوة الإمبريالية التي كانت تستعمرها، أو تحت سلطان قوة إمبريالية أخرى (حيث ورثت الولايات المتحدة النفوذ في كثير من بقاع الأرض من الإمبراطوريات المتراجعة بعد الحربين العالميتين الأولي والثانية) والتي تحتفظ باليد الطولي في تصريف أمور الاقتصاد، وكثير من أمور السياسية.(18/131)
ينسب هذا المصطلح إلي أول رئيس لجمهورية غانا بعد الاستقلال كوامي نكرومه الذي كان أول صائغ ومستخدم له بعد أن أدرك سريعاً إثر استلامه لمقاليد الأمور في بلاده بأن السيادة الوطنية التي منحتها (بضم الميم) الدول الأفريقية من قبل القوي الاستعمارية الجالية عنها لم تكن أكثر من حبر على ورق، أو لنقل هدية رمزية لا أكثر، حيث لم يطرأ تغير معتبر على العلاقة بين المستعمر (بكسر الميم) والمستعمر (بفتحها)، بل وجد نكرومه أن منح الاستقلال أوجد الفرصة لقيام نظام (مانيكيان) من التبعية والاستغلال حتى قال: الاستعمار الجديد هو أسوأ أشكال الإمبريالية، فهو بالنسبة للذين يمارسونه سلطة بلا مسؤولية، وهو بالنسبة للذين يعانون منه استغلال دون إمكانية التظلم، ففي أيام الاستعمار التقليدي كانت القوة الإمبريالية مضطرة لتفسير وتبرير ما تقوم به وتنهجه من سياسات في بلاد الآخرين أمام الشعب في بلادها، وكان سكان المستعمرات الخاضعون لنفوذ الأجنبي المسخرون لخدمته يتطلعون على الأقل إلى حمايته مما قد يتعرضون له على أيدي خصومهم؛ أما في حالة الاستعمار الجديد فلا هذا ولا ذاك متوفر.
ومع أن الحالة الأفريقية هي الأبرز في كتابات وتحليلات ذوي الخبرة والاختصاص في هذا المجال؛ إلا أن أقطار العالم الإسلامي - الموزعة على القارتين الآسيوية والأفريقية - تظل هي النموذج الأخطر والأهم، وذلك لما خصت به المنطقة الإسلامية - والعربية منها بشكل خاص - من موارد نفطية، ومواقع استراتيجية، ولعل أحداث العقد الأخير تسلط الضوء على حقيقة أن ما من قطر من أقطار المسلمين إلا وكان خاضعاً على الدوام خلال ما يزيد عن قرن من الزمان لأحد النوعين من الاستعمار، سواء الشكل التقليدي المباشر، أو الشكل الجديد غير المباشر، حتى إذا ما حاول أي نظام التمرد أو الخروج عن قواعد اللعبة المرسومة سرعان ما استبدل غير المباشر بالمباشر، وعاد القديم ليحل محل الجديد، كما هو الحال اليوم في كل من أفغانستان والعراق.
ولعل من خصوصيات المنطقة الإسلامية أيضاً وقلبها العربي أنها في الوقت الذي ودعت فيه قوات المستعمرين - وخاصة البريطانيين والفرنسيين - شهدت زرع كيان غريب في قلبها ليشكل رأس حربة استعمارية بما يمثله من قاعدة عسكرية لا قبل لمن حولها بها، وترسانة سلاحية لا مثيل لها، وبما يمثله من حل لأزمة أوروبية مستفحلة، وأقصد هنا الكيان الصهوني الذي أراد البريطانيون والفرنسيون من إقامته إدامة الضعف والشلل والتمزق في الأراضي التي توزعوها فيما بينهم من تركة العثمانيين، وفي نفس الوقت حل المشكلة اليهودية التي ظلت تؤرقهم قروناً طويلة ولم يجدوا لها حلاً أفضل من ترحيل اليهود عنهم، وتحويلهم - كما يقول الأستاذ عبد الوهاب المسيري - إلى جماعة وظيفية تقوم نيابة عنهم بتركيع العرب والمسلمين إلى أجل غير مسمي، وما أن ورث العم سام تلك الديار حتى ورث أبوة المشروع الصهيوني فصار هذا الكيان بوصفهم حليفاً استراتيجياً لا يجوز مجرد التفكير بسوء تجاهه.
يمكن للمتأمل أن يرى في الحالة العربية والإسلامية من الشذوذ عن الحالة الأفريقية ما يثير الانتباه، إذ أن كثيراً من الدول الإسلامية - ورغم رحيل المستعمر عنها - ظلت أراضيها مرتعاً للقوات الأجنبية - وفي هذه الحالة للوريث الأمريكي بعد أن أفل النجمان البريطاني والفرنسي - فيما يصعب تصنيفه من العلاقات، فما فتئ الأمريكان يحتفظون بقواعد في كثير من دول العالم العربي والإسلامي، وتنتشر في بقاعه محطات التجسس البشرية والإلكترونية، ويرتع السادة الأمريكان في روابيه وفيافيه كما يشاءون. والغريب في الأمر أن التواجد الأمريكي في الأقطار الأخرى خارج المنظومة العربية والإسلامية - وخاصة في اليابان وأوروبا الغربية وحتى الشرقية اليوم بعد انهيار المنظومة الاشتراكية - لم يحل وجودهم فيها دون تقدمها وتفوقها في كافة الميادين، بل كان التواجد العسكري الأمريكي أقرب إلى الوفاق والشراكة منه إلى فرض النفوذ والتسخير، وكأن الحالة العربية والإسلامية جمعت أسوأ ما في الاستعمارين القديم والجديد، ولعل من المفيد أن تدخل عالم المصطلحات مفردة جديدة لتعبر عن هذه الخصوصية، والتي لا تكاد ترى في غير بلداننا؛ مفردة بإمكانها أن تعبر عن وجود حالة من الاستعمار بكافة أشكاله المباشر وغير المباشر، ولكنه استعمار يصاحبه تخلف وفساد، واستبداد يروق للمستعمر وللنخب الحاكمة الراضخة له على حد سواء.
ولعل السر في هذه الخصوصية يكمن في مواصفات الدولة الحديثة التي قامت في المنطقة العربية بشكل خاص ـ والإسلامية بشكل أعم ـ على أنقاض الإمبراطوريات الإسلامية الكبيرة العثمانية والقاجارية والموغالية، فهذه الدول - أو الدويلات - الحديثة لم تتكون وليدة عوامل محلية فسحب، بل كان الغزو الاستعماري ثم الاحتلال الأجنبي هو المصمم لها، والراسم لحدودها، والمحدد لمواردها وإمكانياتها، بل والمقيد لصلاحياتها.(18/132)
ما من شك في أن عقوداً بل ربما قروناً من التخلف الناجم عن التخلي عما عزت به الأمة الإسلامية فيما سبق من عصور الازدهار والتفوق هو الذي مكن لأوروبا من أن تحط بشطآن المسلمين، وتحيل أوطانهم إلي مستباحات للنهب، ومجاميع بشرية للسخرة، ولعل هذا ما قصده المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي بعبارة القابلية للاستعمار، فلولا تلك القابلية التي تجلت في حالة عامة من التخلف والجهل والقعود عن العمل بل واللامبالاة لما غدت أوطان المسلمين فريسة سهلة للمستعمرين، ونظراً لأن هذه القابلية للاستعمار إنما هي حالة عابرة، ولما كان المجتمع المسلم يحتفظ بالقدرة الكامنة على النهوض والثورة والتغيير؛ فقد كان الاستعمار لبلاد المسلمين استعماراً شرساً أتى - أو حاول أن يأتي - على البني التحتية للمجتمع، وقصد عن سبق إصرار وترصد ضرب منابع الإحياء، ومصادر الإلهام حتى لا يفيق النائم، ويستيقظ الغافل، وذلك نظراً لأن الهجمة الاستعمارية تصادفت مع محاولات محلية للإصلاح والتجديد استمرت طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وجد المستعمر أن لا بد من إعادة صياغة الثقافة حتى يصبح المجتمع طيعاً مطراقاً، فمنذ أن وطأت أقدام المستعمرين أراضي العرب والمسلمين لم يقف لهم بالمرصاد يقاومهم بثقة ويقين ورغبة في النصر أو الاستشهاد إلا علماء الأمة، الذين استفادوا من نفوذهم المعنوي في المجتمع، ومن مؤسسات الوقف التي ظلت لقرون طويلة مستقلة عن السلطان، مسخرة للنفع العام، فأصبحوا وأصبحت الأوقاف هدفاً أول لسلطات الحكم الأجنبي، ثم ما لبثت هذه السياسة القمعية أن استؤنفت من قبل الذين ورثوا الاستعمار في أنظمة ما بعد الاستقلال، تلك النخب التي استبدلت الإسلام بالعلمانية، واستمرت على نهج المستعمر ظلماً وعسفاً، وما فتئت تبطش بكل منتقد لها أو منكر لما جلبته من منكرات أو آمر إياها بمعروف، ولما كانت النخب الحاكمة ضعيفة معزولة ومكروهة من قبل الناس؛ فإنها تظل بحاجة ماسة إلى الحماية من قبل قوة خارجية، تتفاني في تقديم القرابين لها مقابل ألا يزعزع نظامها أحد، ولا يهدد أمنها أحد.
ولعل فيما ارتكبه نظام معمر القذافي الجاثم على صدور أهل ليبيا منذ أكثر من ثلاثة عقود أخيراً خير مثال على هذا النمط من النخب الحاكمة التي لم تترك وسيلة تنكيل بالناس إلا مارستها مبررة ذلك تارة بالحفاظ على مكتسبات الثورة، وتارة أخرى بضرورة مكافحة الزندقة، وتارة ثالثة باستئصال شأفة العملاء والخونة، وفي آخر المطاف ما أن تشعر بأن وجودها مهدد حتى تسلم البلاد والعباد للاستعمار، لا في شكله الجديد غير المباشر، بل في شكله القديم المباشر.
إن عودة الاستعمار المباشر إن دلت على شيء فإنما تدل على عدم قناعة المستعمر (المتمثل بالولايات المتحدة بشكل رئيسي) بجدوى الاستمرار في الاعتماد على النخب الحاكمة الموالية له، وللمرء أن يتأمل في مصير نظام صدام حسين الذين شنت الحرب على العراق للإطاحة به رغم أنه كان منذ يومه الأول صنيعة الولايات المتحدة وحلفائها، مدعوماً من قبلهم، بل ومسلحاً بكافة التقنيات الحربية التي مكنته من شن حرب على إيران نيابة عن الولايات المتحدة عقاباً للشعب الإيراني على ثورته على واحد من أهم الدركيين في المنظومة الإقليمية التي تدين بالولاء للعم سام، فلقد كانت الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه صفعة مهينة ومؤلمة ومكلفة للولايات المتحدة وحلفائها.
لولا انهيار الثقة بمنظومة الدركيين والموالين لما اختار الأمريكان الغزو والاحتلال المباشر نظراً لأن تكلفة هذا النوع من الاستعمار أكبر بكثير بل وتحف به المخاطر، إنها مجازفة كبيرة، ونتائجها غير مضمونة، ولكنها بدت في نظر تيار المحافظين الجدد، المتنفذين في دوائر صنع القرار اليوم في واشنطن أهون الشرين، وأخف الضررين، ولعل حساباتهم فيما قامت عليه اشتملت على تخوف من أن تنهار المنظومة القائمة شيئاً فشيئاً تحت وطأة الضغط الشعبي - وخاصة الإسلامي - الذي فرض في أكثر من موقع في العالم الإسلامي على النخب الحاكمة أن تكيف خطابها وبعض سياساتها لتتجاوب مع الرغبات الشعبية العارمة.(18/133)
ويمكن مرة أخري اللجوء إلي النموذج العراقي تدليلاً على هذه النظرية، إذ أن نظام الحكم البعثي - والذي طالما حارب بشراسة كل مظاهر التدين فارضاً العلمنة على المجتمع بالقوة - كان أحد الأنظمة التي اتجهت في السنوات الأخيرة نحو محاكاة الشارع الإسلامي، فكان له في نهاية المطاف بعض دور مؤثر في تعزيز وانتشار ظاهرة التدين حتى في أوساط الحزب الحاكم، والأجهزة العسكرية والأمنية التابعة له، وما من شك في أن مظاهر التدين في العالم العربي والإسلامي لم تقتصر على عامة الناس بل وصلت إلى النخب، وانتشرت حتى في أوساط المقربين من دوائر صنع القرار، الأمر الذي دق نواقيس الخطر، فسارع بعض حراس المنظومة الأمريكية إلى استثمار الأموال الطائلة في برامج إفساد إعلامية وثقافية، فهم أمام الملأ حراس للدين مدافعون عن قيمه ومقدساته، ولكنهم أيضاً ممولون لأفسد محطات التلفزة الفضائية والصحف والمجلات الوضيعة التي ما من غرض لها سوى مناهضة التدين عبر إفساد الناشئة، وإشغالهم بالتوافه والسفاسف.
بعد أكثر من عام على الغزو الأمريكي للعراق لا يبدو أن الاستعمار القديم المتجدد أقدر من سابقه على إنجاز أهدافه، بل ثمة خيبة أمل شديدة حتى الآن مرجعها تصاعد المقاومة العراقية ضد الغزو الأمريكي، وعجز إدارة الاحتلال عن تحقيق ما منت العراقيين به من حرية وأمن ورخاء وديمقراطية، بل على العكس من كل ذلك أثبت المحتلون أنهم لا يقلون انتهاكاً لحقوق الإنسان وجرأة على الكرامة الإنسانية من الطواغيت المحليين، ولولا أن الأوضاع في العراق على غير ما يشتهي الأمريكان لربما استمرت عجلة الغزو في الدوران، ولربما توسع الاحتلال جغرافياً ليشمل دولاً مجاورة كانت على القائمة - وربما ما تزال - تنتظر دورها، ومع أن إيران وسوريا هما المقصودتان بشكل مباشر إلا أن المملكة العربية السعودية لم تعد في مأمن هي الأخرى، ويستدل على ذلك بالحملات العدائية المستمرة ضدها في الإعلام الأمريكي وفي ردهات الكونغرس وغيره من مؤسسات النفوذ وصناعة القرار في واشنطن، وليس من المبالغة القول بأن زعماء هذه الدول الثلاث مدينون للمقاومة العراقية - وللأفغانية كذلك - بسبب عرقلتها للمشروع الأمريكي الاحتلالي الكبير.
من المثير للاهتمام وجود شعور متنام بأن مواجهة الاستعمار المباشر (أي في صيغته القديمة - المتجددة) أسهل على الناس في الدول المحتلة من مواجهة الاستعمار غير المباشر الذي تمثله الأنظمة الحاكمة في معظم الدول العربية والإسلامية بغض النظر عن وصفها جمهورية أم ملكية أم جماهيرية، وسواء وصل حكامها إلى السلطة عبر الانقلاب، أو من خلال التوريث، فهذه هي المناطق التي ترزح تحت الاحتلال الأجنبي المباشر تشهد مقاومة مسلحة متصاعدة، سواء في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في العراق، بينما لا يكاد يجدي نفعاً كل ما يقوم به المعارضون لأنظمة الحكم الممثلة للاستعمار غير المباشر في المناطق الأخرى، سواء شارك هؤلاء المعارضون فيما هو مباح من الفعل السياسي، أو مارسوا العنف يأساً وإحباطاً.
يضاف إلى ذلك أن عودة الاستعمار المباشر حققت للبعض أمنية طال انتظارها ألا وهي فتح باب للجهاد كان مغلقاً، ولم يتيسر فيما مضي إلا في حالات قليلة كما حدث أيام الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي، ثم بدرجة أقل وأصعب بكثير في البوسنة والشيشان، أما فلسطين التي يتمني ملايين المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله تحريراً لها من الاستعمار الصهيوني فليست متاحة بفضل حماية النظام الإقليمي (العربي بالدرجة الأولي) للكيان الصهيوني من كل مكان.
منذ أن احتل الأمريكان أفغانستان ثم العراق أوجدوا لآلاف المتعطشين للجهاد والاستشهاد واحداً من أوسع الأبواب، وها هي الساحة العراقية تشتعل لهيباً حارقاً من تحت أقدام الغزاة الأمريكان وحلفائهم، فيما يشبه الاستفتاء الشعبي العام - سني وشيعي - على أن بضاعة أمريكا التي أريد للعراق أن يشكل نموذجاً أولاً في تقبلها ومن ثم ترويجها غير مرغوب فيها، وليس ذلك من باب إنكار الجميل أو عدم التقدير؛ وإنما من باب فهم عميق لما تحمله الدبابة الأمريكية لهذا الشعب وللأمة العربية والإسلامية من ورائه، إنها لا تحمل خيراً على الإطلاق.
يبدو بأن السحر قد بطل في أعين العراقيين كما بطل من قبل في أعين الأفغان، وانكشفت حقيقة الشرق الأوسط الجديد والكبير الذي تريده أمريكا لسكان هذه المنطقة، فثار أهل العراق انطلاقاً من الفلوجة والنجف، وصرخوا صرخة دوت في أقطار المعمورة: اغربوا عن وجوهنا أيها الأوغاد.
_____________________________
أستاذ زائر، قسم الدراسات الأفريقية والآسيوية، جامعة كيوتو ـ اليابان
ومدير معهد الفكر السياسي الإسلامي في لندن ـ بريطانيا
والمحاضر بمعهد ماركفيلد للدراسات العليا بليستر ـ بريطانيا
http://www.alquds.co.uk المصدر:
===============(18/134)
(18/135)
قمة الثمانية والشرق الأوسط الكبير
عاصم السيد
عقدت مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى قمتها في الفترة ما بين 8 - 10يونيو 2004م بمدينة سي أيلاند بولاية جورجيا الأمريكية، وعلى رأس أولوياتها مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط، الذي عدّل إلى "الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا".
وقبل بدء القمة أجرت الدول الكبرى تعديلاً جوهرياً في مبادرة إصلاح الشرق الأوسط التي أعلنت خلال اجتماع قمة الثماني، بما يعكس وجهات النظر العربية والاتحاد الأوروبي ، وأعلنت باريس أن مشروع الشرق الأوسط الكبير أصبح الآن مشروعاً مرضياً بعد أن اعترف بوضوح بأن مسيرة السلام في الشرق الأوسط تعد عنصراً مركزياً لنجاح المشروع .
وقالت مصادر أوروبية إن النسخة الجديدة من المبادرة التي ترعاها الولايات المتحدة تؤكد أن التغيير في منطقة الشرق الأوسط مشروط بإنهاء العنف الإسرائيلي - الفلسطيني .
كما ركزت النسخة الجديدة على الاحترام والحوار والمشاركة بوصفها أساليب مؤدية إلى تحقيق الإصلاح، وتأكيد أن زخم التغيير يجب أن يأتي من داخل المنطقة .
وقالت تلك المصادر إن الاتحاد الأوروبي عكف على مهمة شاقة من أجل إجراء تغييرات بالمشروع الأمريكي الأصلي حتى يتسنى إضافة وجهة النظر الأوروبية ـ في أداء المهمة .
والجانب الأمريكي الذي كان رافضاً مبدئياً التركيز علي الصراع العربي - الإسرائيلي في خطة الشرق الأوسط وافق الآن على أنه تجب الإشارة في جدول الإصلاح الإقليمي الذي أعلنته مجموعة قيادات الدول الصناعية الكبرى خلال اجتماعها إلى أهمية وضع نهاية للأعمال العدائية بين الإسرائيليين والفلسطينيين التي استمرت على مدار أعوام طويلة .
وتم أيضاً التأكيد في بيان مجموعة الثماني حول الشرق الأوسط أن الصراع العربي - الإسرائيلي يعد بمثابة أولوية استراتيجية رئيسية ، والاتحاد الأوروبي وضع عمداً النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني في المقدمة لأن الواضح أن حل الصراع يعد قضية محورية لإرساء سلام ورخاء في منطقة الشرق الأوسط .
مجموعة الثماني أكدت أيضاً أنه يتعين عدم السماح بأن يشكل عدم إحراز تقدم في وضع نهائي للأعمال العدائية بين الإسرائيليين والعرب عقبة أمام الإصلاح ، ففي رأيها أنه يمكن أن تمضي جهود سلام الشرق الأوسط والإصلاح الديمقراطي والتغيير قدماً على نحو متواز .
كما وافقت الولايات المتحدة أيضاً على تخفيف خطتها الأصلية في أعقاب الانتقادات الحادة من جانب دول عربية وعدد من الحكومة الأمريكية .
لذلك ترى فرنسا مثلاً أن مشروع القرار الأمريكي حول الشرق الأوسط الكبير أصبح قراراً متوازناً ومرضياً بعد أن اعترف بوضوح بأن مسيرة السلام في الشرق الأوسط تعد عنصراً مركزياً لنجاح المشروع ، يذكر أن فرنسا كانت قد أعربت عن تحفظها حيال مشروع الشرق الأوسط، مطالبة بعدم فرض الإصلاحات على دول المنطقة من الخارج ، الإسلاميون غيروا نظرة الغرب للإصلاح.
وهكذا أصبحت واشنطن مهيأة الآن لكي تترك لكل دولة حرية اتخاذ ما تراه من إجراءات على طريق الإصلاح، وتتخلى عن المطالبة بالتعجيل بها.
والخوف من وصول الإسلاميين إلى الحكم سواء من جانب الأنظمة أو الغرب كان وراء ذلك التغير، والخاسر الوحيد من هذا التحول هو الشعوب العربية والإسلامية المتعطشة للإصلاح والديمقراطية.
ويرى المراقبون أن الأنظمة العربية وكل من الأمريكيين والأوروبيين توصلوا إلى حل وسط، يتم بموجبه تفعيل أطر مواجهة الحركات الإسلامية في المنطقة من قبل الأنظمة، في مقابل التخلي عن الإلحاح في طرح قضايا الإصلاح من قبل الأمريكيين.
أي أن السبب الرئيسي في تراجع الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا عن الضغط على الأنظمة العربية لتطبيق ما أطلق عليه مبادرات إصلاحية للشرق الأوسط هو الخوف من التيارات الإسلامية؛ سواء المعتدلة منها أو المتطرفة.
ويقول مراقبون إن قرار قمة تونس العربية الأخيرة بإدانة العمليات الفدائية الفلسطينية التي تستهدف مدنيين إسرائيليين اتُّخذ مقابل قيام واشنطن بتعديل وثيقة الإصلاحات المقترحة في الدول العربية؛ استجابة لرؤية الأنظمة العربية غير المتحمسة للقيام بإصلاحات سريعة.
وتطلب مبادرة الشرق الأوسط الكبير من الحكومات العربية وحكومات جنوب آسيا تطبيق إصلاحات سياسية واسعة، ومساءلتها عن سجلها في حقوق الإنسان، وتطبيق إصلاحات اقتصادية، كما تقترح المبادرة تقديم دعم عسكري وتجاري للدول التي تشملها المبادرة والتي تنفذ الإصلاحات المطلوبة.
الصيغة الجديدة التي تدارستها قمة الدول الصناعية تؤكد على خصوصية كل دولة من ناحية، وعلى عدم وجود معيار واحد ينطبق على الجميع من ناحية أخرى بشأن الإصلاح.
دول عربية وأفريقية في القمة
وقد دعيت عدة دول عربية إلى المشاركة في قمة مجموعة الثماني، ولا يعرف الأساس الذي اعتمد لاختيارها، وكانت مصر من بين الدول التي وجهت إليها الدعوة، لكن الرئيس مبارك اعتذر "لارتباطات لديه"، وقد اعتذر الرئيس التونسي كذلك، وأغلب الظن أن السعودية لن تحضر، وأن دولاً أخرى شاركت مثل اليمن والأردن.(18/136)
مصر تقول إنها لا ترفض الإصلاح ولا ترفض الحوار حوله لكنها ترفض "إذابة الجامعة العربية"، وتقول أيضاً: إن مجموعة الثماني تقدمت بأوراق كثيرة وكان فيها أمر خطير، وهو أنها تريد أن تجمع بين دول عربية وغير عربية مثل أفغانستان وباكستان وتركيا وهي دول صديقة ولكن ظروفها مختلفة عن الدول العربية، في إشارة إلى مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي أطلقت في قمة جورجيا، وهناك إحساس لدى مصر بأن هذه الفكرة قد تؤدي إلى إذابة الجامعة العربية.
ومن جانبه أعلن البيت الأبيض دعوة 5 دول أفريقية لحضور قمة مجموعة الثماني، وهي: غانا ونيجيريا والسنغال وجنوب أفريقيا وأوغندا، والدعوات أرسلت إلى زعماء السعودية ومصر والأردن واليمن والمغرب.
ووجه الرئيس الأمريكي جورج بوش دعوة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان لحضور قمة مجموعة الثمانية الكبار المقبلة لبحث مبادرته للشرق الأوسط الكبير لإجراء إصلاحات إقليمية سعياً وراء كسب تأييد للمبادرة بعدما رفض بعض القادة العرب دعوة بوش لحضور القمة.
وفي أول كلمة تلفزيونية يوجهها للشعب العراقي أعلن رئيس الوزراء العراقي إياد علاوي الجمعة 4-6-2004 أن رئيس البلاد الجديد غازي الياور ونائبيه سيشاركون في قمة مجموعة الثماني التي ستعقد في الولايات المتحدة من 8 إلى 10 يونيو 2004.
رفض عربي بقيادة مصر
ورقة العمل التي طرحها الرئيس مبارك على القمة العربية في تونس حول مبادرات الإصلاح في العالم العربي تضمنت تحفظات رئيسية على مبادرة الشرق الأوسط الكبير.
أولى الملاحظات على هذه المبادرة هي أن الموقف الأمريكي ما زال بعيداً عن الرؤية العربية "فما زالت الولايات المتحدة ترى أن الأولوية للإصلاح السياسي بجميع أبعاده" خلافاً للموقف الأوربي الأقرب للموقف العربي وهو "ضرورة تحقيق إصلاح متوازن يبدأ بالإصلاح الاقتصادي".
أما التحفظ الثاني فهو حسب نص ورقة العمل التي تلاها مبارك أمام القادة العرب - "التجاهل التام" من قبل "واضعي النص المعدل للمبادرة الذي صدر منتصف الشهر الجاري لما يتطلبه الإصلاح من تدرج للحفاظ على الاستقرار، وللحيلولة دون سيطرة قوى التطرف والتشدد على مسار الإصلاح".
والتحفظ الثالث هو أن المبادرة "تسعى منذ وضعها إلى إيجاد إطار أوسع من إطار الجامعة العربية"، وبرغم تطور الورقة من اقتراحها بادئ الأمر أن يتبع الإصلاح في العالم العربي نموذج منظمة الأمن والتعاون في أوربا ثم تحويله إلى اقتراح باتباع نموذج منظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي فإن كل هذه المفاهيم تستهدف وضع هياكل بديلة لجامعة الدول العربية".
أما التحفظ الرابع، فهو "أن المبادرة ستسعى للفصل بين جهود دعم الإصلاح من جهة، والتعامل مع القضايا السياسية ذات الأهمية الحيوية بالنسبة للمنطقة العربية - خاصة قضية العراق - من خلال النص صراحة على أن عدم إحراز تقدم في التعامل مع القضايا السياسية يجب ألا يحول دون المضي قدماً في تنفيذ خطط الإصلاح".
والتحفظ الخامس هو أنه "مع كل ما تقدم تسعى المبادرة لإدخال الناتو (حلف شمال الأطلسي) كطرف في دعم جهود الإصلاح".
وأضاف مبارك: "إذا كان الغطاء المقترح لتدخل الناتو هو دعم الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب فإن سبيلنا في تحقيق ذلك يقوم على تصحيح الفكر، وتدعيم ثقافة المجتمعات العربية، والسعي إلى تسوية القضايا السياسية والاقتصادية والتي تنتج عنها حالة الإحباط والتطرف والضعف".
بوش واستغلال المشروع انتخابياً
الولايات المتحدة سعت إلى إقناع مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى بالالتزام بدعم الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية بالشرق الأوسط، وهو مشروع طموح خففت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش منه بعد الانتقادات التي أثارها.
وشكل "الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا".. "الطبق الرئيسي" خلال مأدبة غداء بين قادة مجموعة الثماني (الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، وكندا، وروسيا) وقادة 6 دول إسلامية تمت دعوتها في هذه المناسبة، وهي: أفغانستان، والجزائر، والبحرين، والأردن، وتركيا، واليمن، ينضم إليهم الياور.
وجعل بوش من هذه الفكرة أحد محاور معركته على الإرهاب، وقدمها على أنها الشق السلمي لتحركه ضد التطرف، بعد استخدام القوة في أفغانستان والعراق، وقال بوش: "على المدى القصير سنعمل مع كل حكومة في الشرق الأوسط تحشد قواها للقضاء على الشبكات الإرهابية"، وأضاف "على المدى الأبعد ننتظر من أصدقائنا في المنطقة مستوى أفضل من الإصلاحات والديمقراطية".
وفي حين يسعى بوش إلى جعل العراق واجهة إحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط، زاد هذا النزاع الذي ينظر إليه الرأي العام العربي على أنه حملة استعمارية من تشكيك هذا الجزء من العالم بأي مبادرة أمريكية، وتريد واشنطن الآن خصوصاً أن تعرب مجموعة الثماني عن اهتمامها بجهود إحلال الديمقراطية والتحديث في هذه المنطقة، مشددة في الوقت ذاته على أن هذه المشاريع يجب أن تصدر عن الدول المعنية أنفسها.(18/137)
ويبخل المسئولون الأمريكيون بالتفاصيل حول الجوانب الملموسة لهذه المشاريع، لكنهم يأملون الاستفادة من انعكاسات قمة الدول العربية التي انعقدت في تونس في مايو 2004، واعتمدت وثيقة "التطوير والتحديث" لإدخال إصلاحات في العالم العربي.
http://www.islamtoday.net المصدر:
============(18/138)
(18/139)
حملة أمريكية تروج لمبادرة الشرق الأوسط الكبير
واشنطن تختار غروسمان للترويج لمشاريعها الإصلاحية:
يبدأ مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية مارك غروسمان جولة تشمل الأردن ومصر والمغرب والبحرين وتركيا وبلجيكا، في محاولة لتحريك المشروع الخاص بالإصلاحات المعروف باسم مبادرة الشرق الأوسط الكبير.
وتهدف المبادرة - التي ترغب واشنطن أن يتم اعتمادها خلال قمة مجموعة الثماني في يونيو/ حزيران القادم - إلى تشجيع تطبيق إصلاحات سياسية واقتصادية في العالم العربي والإسلامي لعلاج حالة الإحباط والفقر الذين تعتبرهما واشنطن مصدر الإرهاب العالمي.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ريتشارد باوتشر إن زيارة غروسمان المسؤول الثالث في وزارة الخارجية الأمريكية لكل من أنقرة - التي تعتبرها واشنطن نموذجاً للتطور الديمقراطي - وبروكسل - حيث يوجد مقر الاتحاد الأوروبي - تهدف لتلقي الدعم وإشراكهما في مخططات واشنطن.
وقال مسؤول أمريكي: إنه من المتوقع أن يؤكد غروسمان خلال جولته على التزام بوش بالمبادرة والعمل على تطبيقها تدريجياً، كما سيؤكد المبعوث الأمريكي على الحاجة الملحة "لمواجهة البطالة الهائلة في الشرق الأوسط والفقر والقمع" وهي أحوال تعتقد الولايات المتحدة أنها أدت لظهور مشاعر معادية للغرب وخاصة تجاهها.
ومن المرتقب أن يأخذ هذا الملف حيزاً مهماً خلال الاجتماع الوزاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي غداً الاثنين في واشنطن كما أفادت مصادر أمريكية.
وفي إطار جهودها لحشد التأييد العربي لمشروعها الذي قامت بتوزيع مسودته الأولية يجري الحديث عن دعوة زعماء الأردن والمغرب والبحرين إلى اجتماع مجموعة الدول الثماني، وعن زيارة الرئيس المصري حسني مبارك للبيت الأبيض في أبريل/ نيسان القادم.
ويواجه المشروع الأمريكي انتقادات كثيرة في العالم العربي الذي يأخذ على واشنطن قلة التنسيق مع دول المنطقة، وشكا زعماء عرب من أنه لم يتم التشاور معهم، وأن الإصلاح يجب أن يأتي من الداخل لا أن يفرض عليهم.
وأيدت باريس أمس الانتقادات العربية، ويخشى مسؤولون أوروبيون من أن المبادرة الأمريكية ستحل محل خطة برشلونة للشرق الأوسط، وتعمق الصدام بين الغرب والعالم العربي في ما تتجاهل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لكن واشنطن قللت من الانتقادات العربية، وقال مسؤول أمريكي كبير أول أمس إن الزعماء العرب ردوا بشكل إيجابي على فكرة الإصلاح أثناء اللقاءات الخاصة، في حين أنهم يبدون اعتراضهم عليها في العلن معتبرين أنها محاولة لفرض أفكار غربية تخدم المصالح الأمريكية.
http://www.aljazee r a.net المصدر:
=============(18/140)
(18/141)
تفاصيل المشروع الأمريكي لدمقرطة الشرق الأوسط
تنسيق أمريكي أوربي لاستخدام سلاح المعونات ضد الأنظمة العربية المناوئة
مصطفي بكري
استبعاد المناوئين للسياسة الأمريكية من الترشيح ببلاغ من رجال أمريكا في البلدان العربية.
وقف جمع التبرعات والزكاة في المسجد وقصر دورها على العبادات.
التوقف عن قمع 'الشواذ' وإطلاق الحرية لزواج المثليين.
يجب تنحية الدين كمصدر للتعاملات وتقليص دوره في الحياة.
ضرورة التوصل لاتفاق تعاون عسكري بين إسرائيل والعرب قبل التوصل لأية اتفاقات سياسية.
انتهت الإدارة الأمريكية مؤخراً من تطوير مشروع 'الشرق الأوسط الجديد'، وبلغت المشروع المطور الذي حمل عنوان 'الشرق الأوسط الموسع' إلى عدد من البلدان والحلفاء الأوربيين خلال الأسبوعين الماضيين وذلك للمشاركة معها في تنفيذ بنود المشروع المقدم.
وعلمت 'الأسبوع' أن المشروع الجديد أشرف عليه فريق عمل فني برئاسة 'بوب بلاكويل' مساعد مستشارة الرئيس لشئون الأمن القومي كوندليزا رايس.
وتتوقع المصادر أن يعلن الرئيس جورج بوش تفاصيل الصيغة المعدلة لهذه المبادرة والتي استغرق إعدادها حوالي 40 يوماً خلال الأسابيع المقبلة، خاصة أنه كان قد أشار إليها عابراً في خطابه الذي ألقاه مؤخراً أمام المعهد القومي الأمريكي للديمقراطية.
وقد تولت كوندليزا رايس الترويج لصيغة المشروع خلال حفل عشاء جرى في لندن مؤخراً، وخلال زيارة الرئيس جورج بوش إلى العاصمة البريطانية، حيث قامت بإبلاغ عدد من كبار المسئولين بالدول الأوربية الحليفة بمضمون المشروع.
وتشير المعلومات إلى أن المشروع الجديد يسعى إلى تشكيل ائتلاف أمريكي أوربي لإجبار الدول العربية على تطبيق المشروع الجديد لتحقيق ما يسمى بالديمقراطية، حيث يقوم هذا الائتلاف على فكرة أنه في حال قيام واشنطن بمنع المساعدات أو المنح الاقتصادية عن أي دولة لا تطبق معايير الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان تقوم الدول الأوربية هي الأخرى بتطبيق ذات القرار، وتوقف مشروعاتها الاقتصادية، وتعلق اتفاقات الشراكة مع الدول المعنية في هذا الشأن.
وتؤكد المعلومات أن الفكرة الأمريكية جاءت أساساً بعد دراسة الأثر الأوربي الاقتصادي على الدول العربية، وانتهت هذه التقديرات إلى أن الدول العربية خاصة مصر تتعامل مع الدول الأوربية باعتبارها بديلاً عن التعاون الاقتصادي مع الولايات المتحدة، وأن اتفاقات المشاركة الأوربية العربية ستلعب دوراً محورياً في تحسين موازين المدفوعات العربية، بالإضافة إلى زيادة الاستثمار والتبادل التجاري مما يجعل القرارات الأمريكية وحدها غير ذات تأثير كاف في منع الدول العربية من تبني سياسات مباشرة أو غير مباشرة ضد السياسة الأمريكية.
وتنطلق فكرة 'الشرق الأوسط الموسع' من أن البرلمان الأوربي أصدر عدة قرارات تتعلق بانتهاكات واضحة لحقوق الإنسان في مصر والسعودية وسوريا واليمن ودول أخرى إلا أن هذه القرارات لم تأخذ طريقها فعلياً للتنفيذ، ولذلك فإنه من المستحسن تشكيل لجنة عمل برلمانية مشتركة من الكونجرس الأمريكي والبرلمان الأوربي يطلق عليها 'لجنة العمل الدولية لاحترام حقوق الإنسان والتطبيق الديمقراطي'.
وتقترح المبادرة أن تقوم هذه اللجنة بزيارات عمل مفاجئة إلى الدول العربية، وأن تتولى هذه اللجنة بنفسها مراجعة سجلات حقوق الإنسان، وزيارة السجون والاستماع إلى ممثلي منظمات المجتمع المدني، وعقد ندوات ومؤتمرات ولقاءات مشتركة مع هذه المنظمات، على أن تقوم هذه اللجنة في بداية عملها بإعداد مذكرة شارحة للإجراءات الواجب اتباعها للتطبيق الديمقراطي الصحيح في الدول العربية، وكذلك تلافي السلبيات القائمة التي تكرس من الأوضاع السيئة لانتشار انتهاكات حقوق الإنسان.
ويشير المقترح الأمريكي إلى أنه وبعد الاتفاق على مضامين هذه المذكرة سوف يصدر ميثاق عمل أمريكي أوربي مشترك للشرق الأوسط الديمقراطي، وأن الدول العربية ستكون مجبرة على تنفيذ بنود هذا الميثاق وكذلك لوائح عمله التي ستتناول مجالات بعينها مثل كيفية إجراء انتخابات ديمقراطية، أما لوائح العمل فستحدد المقصود بهذه الإجراءات وكيفية تطبيقها عملياً من خلال إجراءات محددة.
وتمثل الانتخابات المرتبة الأولى في التطبيق الديمقراطي لأن المشروع الأولي للمذكرة الشارحة يتناول تغيير قوانين الانتخاب في عدد من الدول العربية من بينها مصر، وبحيث يكون الإشراف الدولي الذي يتكون من مراقبين أمريكيين وأوربيين هو المكون الأساسي في هذه الانتخابات، وأن هؤلاء المراقبين سوف يستعينون بمساعدين لهم من ممثلي بعض منظمات المجتمع المدني.(18/142)
وفي مصر مثلاً تقترح المذكرة الشارحة أن يتولى مركز ابن خلدون الذي يترأسه سعد الدين إبراهيم وبعض منظمات حقوق الإنسان التي لها ارتباطات خاصة بالولايات المتحدة وبعض دول أوربا وبعض المراكز السياسية في الجامعات مسألة الإشراف الجزئي في المرحلة الأولى في الانتخابات التي تتعلق بالإدلاء بالأصوات، وحراسة الصناديق، على أن يقتصر دور رجال الأمن على حماية هؤلاء المساعدين والمراقبين حتى إعلان النتائج الانتخابية.
وتشير التقديرات إلى أنه وعلى الرغم من أن الفكرة الأمريكية تبدو في ظاهرها جذابة لضمان سلامة الانتخابات إلا أنها في حقيقتها تحمل ثلاثة مضامين خطيرة:
الأول: هي الاعتداء المباشر على سيادة هذه الدول التي سيصبح موقفها سلبياً في الانتخابات حيث ستنقل كل اختصاصات السيادة الداخلية إلى الطرفين الأمريكي والأوربي.
الثاني: سلب اختصاص السيادة التشريعية من البرلمانات العربية لأن دور برلمانات هذه الدول سيقتصر على مجرد التصديق على الإشراف الأجنبي على الانتخابات.
الثالث: وهذا هو الأخطر تحفيز أصحاب الأفكار السياسية المرتبطة بالفكر الغربي على ترشيح أنفسهم في هذه الانتخابات، ودعمهم بالمال، والمساندة الأدبية لتمكينهم من احتلال أغلبية المقاعد في المجالس والمواقع الهامة.
وهكذا ففي الوقت الذي تحمل فيه الورقة الأمريكية شعار 'الانتخابات النظيفة' نجدها تضع آليات من شأنها أن تفرز نتائج موجهة لصالح فئات أو أحزاب بعينها.
وتقترح المذكرة الشارحة إعداد قوائم أمريكية وأوربية أولية حول الأفراد الذين ينتمون إلى منظمات وأفكار إرهابية أو متطرفة على أن تقوم الأجهزة الأمنية في داخل الدول العربية بمنع هؤلاء من الترشيح في الانتخابات.
وتقترح الورقة استكمال هذه القوائم بقوائم أخرى موسعة يتم إعدادها بمعرفة بعض منظمات المجتمع المدني والشخصيات الأخرى في داخل مجتمعات البلدان العربية، بما يعني أنه يكفي لأي منظمة مجتمع مدني أو شخصيات تثق الإدارة الأمريكية في آرائهم وأفكارهم، أو يعملون مع أجهزتها أن يحددوا أسماء بعض الشخصيات الوطنية في داخل البلد ليصدر فرمان أمريكي بمنعهم من الترشيح بادعاء أنهم يمتون بصلة ما لأعمال أو منظمات إرهابية.
وعلى الرغم من أن بعض المسئولين الأوربيين اعتبروا أن ذلك الشرط سيصعب تنفيذه في البلدان العربية إلا أن رايس أكدت أنها على ثقة من أن نجاح الائتلاف الأمريكي الأوربي سيجعل ذلك ممكناً، وأن الدول العربية ستقبل في النهاية بهذه الشروط الجديدة.
ويتضمن مشروع 'الشرق الأوسط الأوسع ' فكرة أمريكية حول مفهوم 'خريطة التغيير لطريق جديد'، وهي تعني أن تكون هناك استراتيجية موحدة لعمل ثلاث وزارات هامة هي الإعلام، والتعليم، والأوقاف، بحيث يتم دمج عمل هذه الوزارات، وتلزم بتنفيذ التزاماتها وفقاً لاستراتيجية مشتركة تدور حول مفهوم التعليم الديمقراطي، والإعلام الديمقراطي، والدين القائم على الحوار والتعايش مع الآخرين بما يفضي إلى علمنة التعليم في جميع المراحل ليصب منتجه الرئيسي في تكنولوجيا المعلومات، وأن يجري تغيير مفاهيم الإعلام السائد، أما الدين فلا مكان له في مؤسسات الدولة نهائياً، بل يجب التركيز على الإطلاق الكامل لحرية المعتقدات دون عوائق.
وتشير التقديرات هنا إلى أنه على الرغم من أن ظاهر الفكرة يدور حول مثاليات التطبيق الديمقراطي إلا أن الأمريكيين لم يغفلوا في ثنايا هذه الأوراق عندما أشاروا إلى إمكانية إنشاء مؤسسات تبشير غربية بسلام المسيح وعدالته من منطلق أن هذه المؤسسات سترسي مفاهيم السلام والتعاون بين الجميع.
وسوف تحصل هذه المؤسسات على تمويل مالي غربي كبير للقيام بأدوارها الاجتماعية والاقتصادية، مع ضمان ألا يجوز تحت أي ادعاء مصادرة ما تسميه واشنطن بحرية الاعتقاد والانتقال من ديانة إلى ديانة أخرى بشرط ألا يؤدي الوضع الجديد إلى أية أفكار جديدة حول التطرف الديني.
والمعني المطروح في هذا الإطار هو أن هذه المؤسسات ستقوم على أساس ديني غربي، وأنه سيكون من حقها القيام بأي نوع من الأنشطة في حين أن المساجد ستلتزم بأداء الصلوات الإسلامية، وسيتم منعها من ممارسة أية أدوار اجتماعية أو ثقافية، وإنما ستقوم الوزارة المسئولة عن الشئون الدينية بهذه الأنشطة، وسيمتنع أيضاً في هذا الإطار أن تقوم المساجد بجمع التبرعات أو الزكاة أو غيرها من المسائل التي تدخل في نطاق النشاط الاجتماعي خشية أن تصل هذه الأموال إلى أيدي الجماعات الإرهابية كما تدعي!!
وترى المذكرة الأمريكية أن 'خريطة التغيير' على هذا النحو ستشمل كل الدول العربية دون استثناء ابتداء من المملكة المغربية حتي البحرين والإمارات في أقصى الشرق ومرورا بالسودان واليمن في الجنوب.
وتشير المذكرة إلى أن هدف 'خريطة التغيير' هو تغيير الأفكار القائمة والواردة في هذه المنطقة، وهي الأفكار التي فشلوا في التعامل معها على مدار السنوات الماضية خاصة التي تحمل طابعاً عدائياً للسياسة الأمريكية وبعض السياسات الأوربية.(18/143)
أما عن مفهوم الحريات كما يورده المشروع الأمريكي الجديد فهو يعني أن تكون الحريات الشخصية مصانة ويجب حمايتها من أي تدخل حكومي، حتى لو كانت هذه الحريات الشخصية ستصطدم في بعض الأحيان ببعض المبادئ الدينية التي استقرت عليها المجتمعات العربية لعقود متتالية، بما في ذلك أنواع الحريات الجنسية فهذه الحريات ستجعل الأفراد أحراراً في التعبير عن أنفسهم بالشكل الذي يختاره هؤلاء الأفراد.
وتؤكد المذكرة ضرورة تبني المفهوم الغربي للحريات مؤكدة أن هناك مشكلة أساسية في تأويل مفهوم الحريات ليكون تعبيراً عن مساندة بعض الأنظمة السياسية في المنطقة مما يجعل الحريات خالية من أي مضمون حقيقي.
وتقول المذكرة: إن بعض دول المنطقة تؤكد حرية التعبير الإعلامي إلا أن الإعلام في هذه الدول موجه بصفة مباشرة لخدمة النظم السياسية، وأن بعض منظمات المحتمع المدني إذا حاولت التمرد أو ممارسة حرية تعبير حقيقية ضد النظام فإنها تقع في أخطاء قاتلة تصبح على إثرها مستهدفة من النظام السياسي في هذه الدول، وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم احترام حقوق الإنسان الذي يجب أن يتماشى مع المفاهيم الدولية السائدة.
وتتحدث المذكرة في هذا الإطار عن قمع الأنظمة العربية للشواذ جنسياً، ومنع زواج المثليين (الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة)، ففي هذا كما ترى المذكرة انتهاك صارخ لحقوق الإنسان تتوجب مراجعته وضمان هذه الحقوق!!
آلية التطبيق:
ثمة تساؤل يطرح نفسه هنا عن آلية التطبيق لهذا المشروع في الدول المستهدفة، هل سيتم عن طريق القوة أم عن طريق الضغوط؟
المذكرة الأمريكية تجيب عن هذا التساؤل بالقول: إن كل الخيارات مفتوحة لتطبيق المشروع الجديد، وأن لجان الكونجرس كانت قد أوصت بفرض أنواع مختلفة من العقوبات الاقتصادية والسياسية على البلدان المخالفة إلا أن عدم التعاون الأوربي جعل الولايات المتحدة عاجزة عن تطبيق أية معايير حقيقية أو التزامات واضحة ضد هذه الدول.
وتقول المذكرة: إن التعاون الأمريكي الأوربي أصبح مؤكداً في ظل المرحلة القادمة خاصة أن الإرهاب الأوسطي طال الأراضي الأوربية وأن الولايات المتحدة آلت على نفسها أن تقود الأعمال العسكرية للقضاء على بؤر الديكتاتورية والجماعات الإرهابية المتطرفة إلا أن التعاون الأمريكي الأوربي أصبح مطلباً أساسياً حتى يمكن بناء ائتلاف قوي لمتابعة التطبيق الديمقراطي في دول الشرق الأوسط.
وتقترح المذكرة في هذا الإطار اختيار أحد بديلين:
الأول يقضي بإنشاء مكاتب أمريكية أوربية مشتركة لها حصانات لازمة وكاملة لممارسة أعمالها ومتابعة تطبيق المعايير الديمقراطية في المنطقة، على أن يرأس هذه المكاتب ممثل أمريكي، وآخر أوربي بسلطات واحدة، ومهمتها إعداد تقارير دورية شهرية وسنوية لتقييم كل ما يتعلق بمجالات تطبيق أو انتهاك الديمقراطية في هذه البلدان.
وسوف تكون هذه التقارير هي السند الأساسي للقرارات والعقوبات التي سيتخذها الكونجرس الأمريكي والبرلمان الأوربي ضد هذه البلدان.
وسوف يكون من حق هذه المكاتب إجراء اتصالات مباشرة مع بعض الشخصيات أو منظمات المجتمع المدني، أو أعضاء البرلمانات، أو الاطلاع على أحوال السجون في إطار عمليات المتابعة.
وستوجه تقارير المكاتب الدورية كل شهر أو كل ثلاثة أشهر إلى وزراء الخارجية في الولايات المتحدة والدول الأوربية.
أما التقرير السنوي فيتم توجيهه إلى الكونجرس الأمريكي والبرلمان الأوربي إضافة إلى وزراء الخارجية.
وستتوازى هذه المكاتب في اختصاصاتها مع وضع السفارات الأمريكية والأوربية في البلدان العربية، إلا أن هذه المكاتب ستكون معنية بالمهمة وحدها، وأن السفارات يمكن أن تساعدها في تقديم بعض المعلومات أو المساعدات الإدارية أحياناً، وسيكون من حق النظم السياسية في هذه الدول مراجعة التقارير السنوية التي تعدها هذه المكاتب وإجراء مناقشات بشأنها، إلا أن المذكرة تعترف بأن هذه العملية معقدة، وستحتاج إلى الكثير من الجهد، حيث يتوقع أن تكون هناك خلافات بين الحين والآخر مع النظم السياسية الكائنة في المنطقة.
وتطالب المذكرة بعدم التساهل في احتواء هذه الخلافات أو الرضوخ لمطالب الأنظمة لحساب مصالح آنية، لأن عدم التطبيق الديمقراطي في الشرق الأوسط أضحى حالة استثنائية معقدة تتطلب الإدراك التام لمواجهتها، والعمل على استئصال كل الأسباب الداعية إلى تفشي الظواهر السلبية في مجتمعات الشرق الأوسط.
أما البديل الثاني الذي تطرحه المذكرة فهو يقوم على أن تتولى مكاتب 'الناتو' في الدول العربية كل الاختصاصات السابقة المشار بشأنها إلى المكاتب الأمريكية الأوربية المشتركة، وعلى هذا الأساس تدعو المذكرة إلى:
التوسع في إنشاء مكاتب الناتو في الدول العربية، ومفهوم التوسع يشمل هنا عدداً وكيفية، فمن ناحية العدد فإن كل الدول العربية بلا استثناء حتي تلك المختلف معها يجب أن توافق على افتتاح مكاتب للناتو في أراضيها، وهي مكاتب ستتبع حلف شمال الأطلنطي.(18/144)
الميزة التي يراها الأمريكان في مكاتب الناتو هي أن طبيعة الإجراءات العسكرية سيتم الاتفاق عليها من حلف الناتو، في حال الدول التي ترفض الامتثال نهائياً للتوصيات والقرارات الصادرة بصدد تحسين التطبيق الديمقراطي، وبالتالي فإن مكاتب الناتو سيتم تزويدها ببعض المتخصصين وكذلك ممثلو وزارات الخارجية.
أما التوسع الكيفي فهو أن هذه المكاتب سيضاف إليها ثلاثة أقسام رئيسية بالإضافة إلى أقسام الأمن العسكري، ومتابعة شئون الناتو، والاتصالات الموجودة بالفعل في مكاتب الناتو في الدول العربية، وهذه الأقسام هي: قسم التطبيق الديمقراطي، قسم تطبيق معايير احترام حقوق الإنسان، قسم الحريات.
وتقترح المذكرة أن يكون هناك اجتماع سنوي لتقييم حالة الديمقراطية في البلدان العربية يضم مستشار الأمن القومي الأمريكي، ووزير الخارجية، ومستشاري الأمن القومي في دول أوروبا ووزراء الخارجية، هدفه تحليل التقارير والنتائج في سرعة التطبيق الديمقراطي، وكذلك اتخاذ القرارات النهائية بشأن حالات الانتهاك أو فرض عقوبات جديدة أو تجديد عقوبات قائمة، وتشجيع بعض الدول التي تكون قد أقدمت على اتخاذ إجراءات جديدة في التطبيق الديمقراطي، أو تكليف لجنة منبثقة من هذا الاجتماع لعقد مشاورات ولقاءات مع قادة النظم السياسية في المنطقة لإبراز المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها النظام السياسي في حال عدم الالتزام بالتطبيق الديمقراطي.
أما القرارات النهائية الخاصة بالأعمال العسكرية فسوف يتم عرضها على مجلس الأمن من أجل التأكيد على دور الأمم المتحدة في النظام الدولي.
وتؤكد المذكرة أن التوافق الأمريكي الأوربي في نطاق الاجتماع السنوي المقرر للشرق الأوسط الموسع سيعزز من الهيبة الأمريكية الأوربية في النظام الدولي الجديد، ويجبر دول الشرق الأوسط على الانصياع للخطة.
وفي حال وجود اختلاف داخل مجلس الأمن مع دول أخرى ترفض الاستجابة للنداءات الأمريكية والأوربية فإن هذا الاجتماع يجب أن ينفذ قراراته بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف مع مجلس الأمن.
وتتحدث المذكرة عن تصوراتها لآفاق المرحلة المستقبلية فتقول: 'إن الديمقراطية الحقيقية لم تعد مجالاً للاختبار في التطبيق أو عدم التطبيق في هذه المنطقة، بل إن الجميع يجب أن يلتزم بهذا النهج كأساس حقيقي لإرساء مفاهيم الأمن والاستقرار الدولي. '
وتضيف المذكرة أننا قد نكون أمام موجة من التحديات المرتبطة بانتشار الإرهاب، أو تلك المعنية بانتشار جماعات التطرف في عدد من مناطق العالم، ولكن المعيار للالتزام هو الأساس في تحقيق التوسع الديمقراطي، وإننا يجب أن نقتنع بأن هذا التوسع الديمقراطي لن يكون إلا من خلال برامج محددة، وأن هذه البرامج سيتم تنفيذها في إطار زمني محدد ومتفق عليه، إلا أن هذا الإطار الزمني سيتفاوت تطبيقه من دولة لأخرى، ولكن بشكل رئيسي فإن هذا المدى الزمني يجب ألا يستغرق عدداً محدوداً من السنوات وذلك لتحقيق أكبر طفرة ممكنة.
هيئة للتدخل المباشر:
يتحدث الجزء الثاني في المشروع الأمريكي عن إنشاء هيئة أمريكية أوربية مشتركة تكون مسئولة عن جوانب التطبيق الديمقراطي والحريات واحترام حقوق الإنسان، وسيطلق على هذه الهيئة مسمى 'منظمة الشرق الأوسط للتعاون والديمقراطية'.
ومن أهم الأغراض الأساسية والمباشرة لعمل هذه المنظمة هو تحقيق التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي بين كل الدول القائمة في المنطقة باعتبار أن التعاون يمثل الحلقة الأساسية في نجاح نماذج الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، والتعاون سيكون كما ترى المذكرة بديلاً عن الصراع أو سوء الفهم القائم بين هذه الدول وبعضها البعض وخاصة ما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل.
وترى المذكرة أن العلاقات العربية الإسرائيلية لا تزال تمثل أحد العوائق المهمة أمام تحقيق نموذج الاستقرار والسلام بين دول المنطقة، كما أن تزايد إشكاليات العلاقات العربية الإسرائيلية وما يرتبط بها في بعض الأحيان من توتر سياسي أو صراع عسكري يكون مبرراً لتعطيل التطبيق الديمقراطي بحجة مواجهة إسرائيل.
وتقول المذكرة: إن المشكلة الأكثر أهمية هي أن أسس التسوية السياسية النهائية غير واضحة المعالم، وأن التسويات الجزئية دائماً عرضة للاختلافات والتأويلات الخاطئة، إلا أننا في المرحلة القادمة يجب ألا نجعل العلاقات الإسرائيلية العربية تمضي نحو مزيد من التوتر.
وستركز منظمة الشرق الأوسط للتعاون والديمقراطية وفق المذكرة على:
إبعاد العلاقات العربية الإسرائيلية.
إبعاد العلاقات العربية مع دول الجوار الجغرافي.
تكييف مسار هذه العلاقات ليصب في إطار التطبيق الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.
البدء في عقد اتفاقات للعمل الاقتصادي والثقافي المشترك بين إسرائيل والدول العربية.
نماذج التطبيق الديمقراطي الإسرائيلي ومدى ملاءمتها للتطبيق في الدول العربية.(18/145)
كيفية تحقيق التعاون الإسرائيلي العربي في أن يكون الشرق الأوسط الموسع خالياً من كافة أنواع الصراعات السياسية والعسكرية، وبناء نماذج جديدة للتعاون الأوسطي على معايير البناء والتفاهم المشترك للمرحلة الجديدة.
أن إحدى المسائل المهمة في تحقيق التعاون الإسرائيلي العربي هي التعاون العسكري، حيث إن هذا التعاون يمثل البداية الفعلية لإزالة الشكوك المتبادلة، وسوء الفهم حول مسائل الثقة أو عدم التفاهم.
وسوف تعمل مؤسسة 'الشرق الأوسط للتعاون والديمقراطية' في هذا الإطار على تبادل الخبرات العسكرية العربية والإسرائيلية في إطار برامج محددة، وأن هذا التبادل والتعاون سيشمل ما يتعلق بالمناورات العسكرية، ولقاءات دورية بين القيادات العسكرية العربية والإسرائيلية يكون هدفها تكريس الفهم المتبادل.
وتشترط المذكرة الأمريكية تحقيق مفهوم يطرح لأول مرة وهو التوصل لاتفاقات وتعاون عسكري بين إسرائيل والدول العربية قبل التوصل إلى اتفاقات سياسية، كأن يتحقق التعاون العسكري بين سوريا وإسرائيل في ظل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية، وقبل حدوث أي تقدم على صعيد التسوية السياسية، وكذلك الأمر مع لبنان والفلسطينيين، كما تلتزم الدول الأخرى التي ليست لها أراض محتلة بأسس هذا التعاون العسكري.
وتشير المذكرة إلى أن التعاون العسكري سيكرس من مفاهيم التفاهم الثقافي والسياسي بين هذه البلدان وإسرائيل، كما أن هذا التعاون العسكري سيفتح المجال أمام التعاون الاقتصادي، وإنشاء مؤسسات التعاون الاقتصادي الجديدة والتي ستحقق المفهوم الأوسع للشرق الأوسط الجديد.
وتقول المذكرة: إن منظمة الشرق الأوسط للتعاون والديمقراطية ستكون مختصة بالتطبيق الديمقراطي، حيث إنه من المفترض وفقاً للرؤية الأمريكية أنه سيتم اعتماد مئات الملايين من الدولارات لتكون تحت تصرف هذه المنظمة من أجل إمداد الهيئات والدول لتشجيعها على الانخراط في التطبيق الديمقراطي.
وستكون هذه المنظمة معنية بالاشتراك في برامج التعاون الاقتصادي المشتركة بين دول المنطقة وبعضها البعض، كما أن هذه المنظمة ستصدر لوائح بأسماء الدول التي تمتنع عن التطبيق الديمقراطي، أو تخالف الإجراءات الديمقراطية.
ومن خلال هذه الإجراءات فإن المنظمة ستكون لها رؤيتها في تحقيق نطاق الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، وأن هذا الأمن الإقليمي سيكون له جناحان أساسيان هما التعاون من جانب، والتطبيق الديمقراطي من جانب آخر.
وتقول المذكرة: 'إن منطقة الشرق الأوسط نواجه فيها عدواً جديداً لم يكن قائماً قبل ذلك وهو 'التعصب والتشدد الديني' وهو ما يعبر عنه بلغة الدين العنيف أو الإسلام المعاصر'.
وتضيف المذكرة: 'نحن لا نعرف بدقة مدي حجم الاختلاف بين الإسلام المعاصر والإسلام كما هو في طبيعته الأولي، إلا أن هذا الدين المعاصر هو امتداد لما سبق من الديانة في صورتها الأولي، وذلك على الرغم من تأكيداتنا العلنية المستمرة إننا نحترم هذا الدين.
إن احترامنا لهذا الدين ينبع من ضرورة احترامنا لشعوب هذه المنطقة، وكذلك احترامنا للسياسات والرأي العام في داخل هذه الدول '، وتقول المذكرة: إن الإسلام في مبادئه العامة كما نعرفها قد يقبل بالتعايش مع الآخرين وهو ما سنحاول تكريسه والتأكيد عليه دائماً حتي تنجح مثل هذه المنظمات في العمل داخل نطاق هذه البلدان، إلا أنه أياً كانت تعاليم الإسلام أو مبادئه أو قيمه أو كل ما يتعلق بهذه الديانة من أصول أخرى فإننا يجب أن ننحيه دائماً من أن يكون مصدراً للتعاملات، أو أساساً أو فرعاً في بناء العلاقات الأوربية الأمريكية مع العرب، وأن هذا يتطلب في المقام الأول التركيز على تقليص دور الدين في الحياة العامة بالمنطقة، وأن يكون الدين لا مجال له سواء في الأحاديث أو الشعارات إلا في نطاق أداء الشعائر والطقوس الدينية، وكذلك حصر نفوذ رجال الدين أو الذين يحاولون خلط الدين بالسياسة.
وتطالب المذكرة بتحرير الإسلام من المعاملات في الحياة العامة، وكذلك التداخلات السياسية أو الثقافية، وتقول: إن كل ذلك من الأمور الهامة، إلا أنه من المهم التركيز على أحد المفاهيم الثابتة وهو إزالة المشاعر المرتبطة بالدين الإسلامي والتي يتخذها البعض ذريعة لوقف الإصلاحات السياسية وكل أنواع الإصلاحات الأخرى، فالديمقراطية أو التعاون أو الحريات بجميع أشكالها وأنواعها لن تصطدم بالدين الإسلامي كديانة أو مبادئ، وفي ذات الوقت فإن الإسلام لا يجب أن يتدخل فيها كعائق يحد من الانطلاقات والتقدم.
وتقول المذكرة: إن من التجارب المهمة التي يجب أن تقتنع بها حكومات ونظم وشعوب المنطقة التجربتين الأمريكية والأوربية اللتين حصرتا نطاق الدين في الكنيسة فقط، وألا يكون هناك مجال لهذه المشاعر الدينية في المسائل السياسية والاقتصادية، أو إدارة الحكم بصفة عامة.(18/146)
وتضيف المذكرة أن التحدي الأكبر هو فصل مبادئ الحكم عن مبادئ الدين في هذه المنطقة، وأن الخلط الدائم بينهما يعد حاجزاً رئيسياً للتقدم أو التعاون أو تطبيق النماذج الديمقراطية الناجحة، فالدين يعد حاجزاً رئيسياً للتعاون والتقدم أو تطبيق النماذج الديمقراطية الناجحة، فالدين يعد حاجزاً للتعاون لأنه يقصر التعاون فقط على الدول العربية والإسلامية معاً في نطاق إقليمي أو شبه إقليمي، وفي ذات الوقت فإنه يرفض مبادئ التعاون وأسسه بين إسرائيل والدول العربية وذلك للنظرة العدائية المستحكمة التي يبرزها الدين الإسلامي في مواجهة اليهود.
وتقول المذكرة: إن ذلك يؤكد أن مثل هذه المبادئ الدينية تشكل عائقاً أمام التطبيقات الديمقراطية والتعاون الحقيقي القائم على أسس الثقة المتبادلة والشعور بالمحبة تجاه الآخرين، والفهم المشترك الذي ينمي حلقات التعاون، والإدراك المتميز بأن هذا هو إحدي الوسائل الضرورية، والبديل الأكثر ملاءمة لنماذج التعاون بين الشعوب في المنطقة.
وتتناول المذكرة أيضاً فكرة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتشير إلى أنه من الضروري أن تكون هناك تدخلات قوية وحاسمة للتوصل إلى أسس ومبادئ جديدة للتسوية، لأن الملف الفلسطيني سيظل دائماً هو قدر هذه المنطقة في التأخر وعدم الانسجام مع السياسات العالمية، كما أن هذا الملف يعوق الاستقرار والأمن في المنطقة والعالم.
وعلى هذا النحو فإن دوائر العمل السياسي والاقتصادي تقول المذكرة: لابد أن تتلاقي في النهاية مع الملف الفلسطيني، وقد حذرت المذكرة الدول الأوربية من تكرار أخطاء 60 عاماً مضت في السياسة الأوربية، واعتبرت أن اجتماعاً لمجموعة تحضيرية تتولى دراسة أفضل البدائل والخيارات لبرامج الديمقراطية هو الصيغة الملائمة للطرح في إطار المشروع الأمريكي المقدم.
وتختتم المذكرة تفاصيل المشروع المعتمد من قبل الإدارة الأمريكية بالقول: 'إن الشرق الأوسط مقدم على حالة من المتغيرات العاصفة، وأن حكومات هذه المنطقة يجب أن تعي أن حركة التاريخ متطورة بطبعها، وإنها قادرة على الاستمرار والنمو، وأن كل دول العالم بما فيها دول الشرق الأوسط مطالبة بأن تصبح جزءاً من هذه الحركة المستمرة'.
بعد كل ذلك ما رأي الأنظمة وما رأي النخب وما رأي الشارع؟.. وماذا يقول هؤلاء المتأمركون الذين يروجون للمشروع الأمريكي تحت يافطة الديمقراطية؟ فإذا بالأمر مؤامرة ترتكب ضد الدين والوطن والهوية والانتماء!!
http://www.elosboa.com المصدر:
============(18/147)
(18/148)
بين مطرقة "خطة شارون" وسندان "الشرق الأوسط الكبير"!
"الأخذ والعطاء" هما جوهر منطق التفاوض، فكلا طرفي الصراع لا تشتد لديه الحاجة إلى الدخول في مفاوضات مع الطرف الآخر إلا إذا شعر وتأكد أنّ في مقدوره أنْ "يأخذ"; لأنّ في مقدوره أنْ "يعطي".
هذا الجوهر من منطق التفاوض هو الآخذ في التلاشي بين إسرائيل والفلسطينيين، فالدولة العبرية في عهد حكومة شارون، وفي هذا المناخ الدولي والإقليمي والعربي، تشعر أنّ في مقدورها الحصول على كل أو جلّ ما تريد من دون "مساعدة فلسطينية"، فليس الرئيس عرفات وإنما الرئيس بوش هو الذي في مقدوره الآنْ أنْ يذلل لها العقبات من طريقها إلى العالم العربي، ويكفي في اعتقادها أنْ يشهر من "حصنه الحصين" في العراق "سيف الإصلاح الديمقراطي" ("الشرق الأوسط الكبير") في وجه الحكومات العربية حتى يدخل "السلام" و"التطبيع" من "البوابة الشارونية"، التي ليس ثمة ما يمنع من أنْ يُكتب عليها عبارة "مَنْ يدخل هذه البوابة سيصل حتماً إلى الحل الذي تبشّر به وتَعِدْ خريطة الطريق"!
جملة صغيرة نريدها حتى نتعاون جميعاً في تنفيذ "خطة شارون" التي نكرهها ونمقتها ونخشاها، وهذه الجملة التي ستجعل "خطة شارون" تنزل علينا برداً وسلاماً هي "هذه الخطة ستكون (مع كل ما تفضي إليه من نتائج عملية) جزءاً من الجهود المبذولة لتنفيذ خريطة الطريق"!
قديماً أي قبل انتهاء "الحرب الباردة" وزوال الاتحاد السوفيتي وزلزال 11 أيلول 2001 وغزو أفغانستان والعراق كان بديهية سياسية وإستراتيجية القول باستحالة "السلام" و"التطبيع" بين إسرائيل والعالم العربي من دون حل المشكلة القومية للشعب الفلسطيني بكل أوجهها وأبعادها، فالفلسطينيون (مع حقوقهم القومية) كانوا هم "المشكلة" و"الحل" في سعي إسرائيل إلى "السلام" و"التطبيع" مع الدول العربية; ذلك لأنّ تخطي هذا "العائق الفلسطيني" كان يمكن أنْ يزعزع "أمن" و"استقرار" أنظمة الحكم العربية، فضغوط الولايات المتحدة كانت أضعف من أنْ تُشعِر أنظمة الحكم العربية بضآلة تأثير "الضغط الفلسطيني".
اليوم اختلف كل شيء، وصارت أنظمة الحكم العربية تنظر إلى "الواقع" بعيون مختلفة، فالقول باستحالة السلام من دون الفلسطينيين غدا "خرافة سياسية"; أمّا "التهديد"، الذي تشتد حاجة أنظمة الحكم العربية إلى درأه عنها، فما عاد "التهديد الفلسطيني" وإنما تهديد القوة الإمبريالية العظمى في العالم، والذي لا يمكن درؤه إلا في "الطريقة المختبرة"، وهي "استرضاء إسرائيل" ومؤيديها الأقوياء في داخل الولايات المتحدة.
شارون يدرك أنّ العالم العربي ما عاد "حقيقة سياسية واستراتيجية ثابتة"، فكل شيء فيه دخل، أو يوشك أنْ يدخل "مرحلة انتقالية"، لا شيء واضح من معالمها، حتى الآن سوى أنّ رياح التغيير فيه تجري بما تشتهي سفينة الولايات المتحدة، ويمكن بالتالي أنْ تجري بما تشتهي سفينة "إسرائيل العظمى"، فلِمَ العجلة.. ولِمَ "الحل الدائم" مع الفلسطينيين?!
إذا كانت حال العرب هي فعلاً هذه الحال التي تَعِدُ إسرائيل بجعل خرافة "أرض الميعاد" حقيقة نابضة بالحياة، فإنّ "الحكمة اليهودية" تقضي بالسير في طريق "الحل الانتقالي طويل الأجل" مع الفلسطينيين (ومن دونهم) فإسرائيل تشعر الآن أنْ ليس لدى الفلسطينيين ما يغريها بالتوصل إلى حلول للمشكلات عبر التفاوض معهم.
شارون يقول في نفسه: "إذا تفاوضتُ مع الفلسطينيين، أكان مفاوضهم عرفات أم قريع فإنني سأسمع منهم ما لا يسرّني سماعه من كلام عن حق العودة، والقدس، والمستوطنات، والحدود.. الآن ما عاد بالأمر المهم أنْ يحدّثني الفلسطينيون عن الأهمية التاريخية لاعترافهم بحق إسرائيل في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها، أو أنْ يحدّثوني عن العواقب التاريخية لرجوعهم عن هذا الاعتراف، ما عاد مهماً كل ذلك فالسور الذي أبتنيه هو الحدود الآمنة والذي على صخرته سيتحطم وهم المقاومة العسكرية، وغزو العالم العربي بالسلام وفي السلام صار ممكناً بمعونة عصا الحليف الإستراتيجي، وانتفت الحاجة بالتالي إلى استرضاء الدول العربية عبر استرضاء الفلسطينيين، وكل ما ينبغي لإسرائيل أخذه من الفلسطينيين وأراضيهم في مقدورها الآن أخذه من دون أنْ تعطيهم شيئاً مما يطلبون، فلديّ السور، ومعه نصف أراضي الضفة الغربية، ولديّ العاصمة الأبدية الموحدة لدولة إسرائيل، والاستيطان اليهودي الأبدي في غوش عتصيون ومعاليه أدوميم وآرييل وفي أحياء القدس، ولديّ سجن كبير للفلسطينيين يقيمون في داخله إذا ما أرادوا دولتهم القومية المستقلة.. ".
ولِمَ يعارض الإسرائيليون هذا "الحل الانتقالي طويل الأجل"?!(18/149)
لن يظهروا ميلاً إلى معارضته; لأنّه سيُنفَّذ ضمن "اتفاق" على أنّه سيكون "خطوة في الطريق إلى تنفيذ خريطة الطريق"; ولأنّه درأ عنهم مخاطر حق العودة، وأبقى لهم القدس الشرقية وأهم المستوطنات وقسماً كبيراً من أرض الضفة الغربية، من دون أنْ يتمخض كل ذلك عن تلك العواقب التي كانوا يخشونها كمثل "فقدان الأمن"، والإضرار بالعلاقة مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، ومنع الدول العربية من إقامة السلام مع إسرائيل وتطبيع كل أوجه العلاقة معها.
وليس ثمة ما يمنع شارون من أنْ يقبل إظهار خطته على أنّها جزء من الجهود المبذولة لتنفيذ "خريطة الطريق"، التي ما زال مصرّاً على إظهار استمساكه بها، فهذه الخريطة نصّت على قيام "دولة فلسطين" بعد "مرحلة انتقالية"، تُقام فيها "دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة"، ويمكن اتخاذ "سور شارون" بعد تعديل الولايات المتحدة لمساره "حدوداً موقتة" لهذه الدولة; كما يمكن إظهار هذا السور ذاته على أنّه "حل أمني موقت" أي أنّ "الحل الدائم" وعندما يأذن به الله يمكن ويجب أنْ يأتي بما يلغي الحاجة إلى بقاء هذا السور، الذي سيظل قائماً إلى أنْ يدرك الفلسطينيون أنّ مصلحتهم في الانتقال من "الدولة ذات الحدود الموقتة" إلى "دولة فلسطين" تقضي بقبولهم جوهر الحل الإسرائيلي لمشكلات "حق العودة" و"القدس الشرقية" و"المستوطنات" و"الحدود".
وتعتقد حكومة شارون أنّ تعريض الولايات المتحدة الدول العربية لمزيد من "ضغوط الشرق الأوسط الكبير" سيحمل هذه الدول على "بذل جهود حقيقية" لإقناع الفلسطينيين بضرورة أنْ يصبحوا جزءاً من الحل الذي تنشده "خطة شارون" حتى يصبح ممكناً، بعد ذلك بوقت لا يعلمه سوى الله السير معاً في الطريق المؤدية إلى تنفيذ "خريطة الطريق"!
وغني عن البيان أنّ في قطاع غزة الذي خرج منه المستوطنون والجنود الإسرائيليون سيكون "الاختبار الثنائي الحاسم"، أي أنّ فيه سيُختبر "أمن إسرائيل"، و"إمكان قيام شيء من السيادة الفلسطينية".
هذا يعني أنْ لا أسلحة ولا وسائل قتالية ستُهرّب من مصر إلى قطاع غزة، ومن أجل أنْ تنجح مصر في الوفاء بهذا الالتزام الذي لا ترفضه من حيث المبدأ يسعى المصريون إلى جعل حكومة شارون تبدي من "المرونة" ما يسمح للقاهرة بالتوصل إلى "إجماع فلسطيني" على ضرورة جعل قطاع غزة "منطقة آمنة"، وما يسمح لها أيضاً بمساعدة السلطة الفلسطينية في طريقة تمكّنها من حفظ الأمن والنظام العام.
وعبر هذا "الدور الأمني المصري" الذي يحتاج القيام به على خير وجه وتذليل العقبات "السياسية والقانونية" من طريقه إلى "اتفاق" بين مصر وإسرائيل، يصبح ممكناً قيام "المطار" و"الميناء" بعملهما، وبدء "إعادة البناء".. وبروز مزيد من معالم ومظاهر السيادة الفلسطينية.
بالاتفاق مع مصر (والولايات المتحدة) تشرع إسرائيل في تنفيذ "خطة شارون" في قطاع غزة، أي تشرع في إخراج جنودها ومستوطنيها منه، وبالاتفاق مع السلطة والمنظمات الفلسطينية تشرع مصر في أداء دورها الأمني في طريقة تعطي إسرائيل الأمن، وتمكّن الفلسطينيين من أنْ يثبتوا للعالم قدرتهم على إدارة دولة لهم.
الفلسطينيون يدركون كل الشرور في "خطة شارون"; ولكنّ الجهود مبذولة الآن لتوضيح أنّ عملهم المقبل انطلاقاً مما ستتمخض عنه من نتائج عملية لا يعني، ويجب ألا يعني أنّهم كانوا جزءاً من هذه الخطة، أو أنّ لهم إرادة في كل هذا الذي حدث، فهم إنما يقومون بكل ما ينبغي لهم القيام به حيث يخرج الجنود والمستوطنون الإسرائيليون، والجهود مبذولة أيضاً لتوضيح أنّ كل هذه الشرور لن تدوم طويلاً; لأنّ "الاتفاق" كان أنْ تكون "خطة شارون" خطوة في الطريق إلى تنفيذ "خريطة الطريق"، التي عبرها ستبرّ الولايات المتحدة في وعد قيام "دولة فلسطين"!
أمّا "الحقيقة التي لا يشوبها وهم" فهي أنّ "خطة شارون" لا تعدو أنْ تكون حلاً انتقالياً طويل الأجل، لن يتحول إلى "حل دائم" إلا بعدما تتمخض المرحلة الانتقالية التي يجتازها العالم العربي عن تلك النتائج التي تمكّن إسرائيل من جعل هذا "الحل الدائم" ثمرة قبول فلسطيني لجوهر الحل الإسرائيلي لمشكلات "اللاجئين" و"القدس الشرقية" و"المستوطنات" و"الحدود".
إنّ "خطة شارون" هي "الحقيقة" التي يحاولون الآن إلباسها وهم أنّ الشروع في تنفيذها، والمساعدة في تنفيذها، يمهدّان السبيل إلى تنفيذ "خريطة الطريق"، وقيام "دولة فلسطين" التي لن تتحدد شكلاً ومحتوى إلا بما يتفق و"الحقائق الجديدة" التي ستأتي بها "هراوة الشرق الأوسط الكبير"!
http://194.165.135.200 المصدر:
============(18/150)
(18/151)
بين الجامعة العربية و( الشرق الأوسط الكبير )
منير شفيق *
ثمة إيجابية من وضع مشكلة إصلاح الجامعة العربية (الأدق إصلاح العلاقات العربية - العربية) على نار حامية، فعلى رغم أن ذلك ضرب على حديد بارد، بسبب استراتجيات الدولة القطرية وسياساتها، إلا أنه كشّاف للسياسات العربية الراهنة في هذه المرحلة، كما هو كشاف لمدى إمكان "التحرك العربي المشترك" في مواجهة الهجمة الأمريكية - الصهيونية التي تواجه الوضع العربي برمته إلى حد التجرؤ على إعلان هدف إحداث تغيير جوهري فيه.
هذا يعني إن السياسة قبل الإصلاح، والإصلاح مرتبط بالسياسة، ومن ثم فهو إن تم خدمَ سياسات معنية، وإن لم يتم خدم سياسات أخرى، صحيح إن إشكالية الجامعة العربية منذ نشأتها حتى اليوم نابعة أساساً من طبيعة التجزئة ومن طبيعة دولتها القطرية، أي أن ثمة مشكلة في التكوين، وما يحمل من غريزة ونزعات قبل أن تكون في السياسة، بل كثيراً ما كانت الخلافات السياسية في المراحل السابقة تعبر عن التناقضات الناشئة عن طبيعة التجزئة ودولها، وقد وصل الأمر في حالات إلى أن يذهب عمرو يساراً إذا ذهب زيد يميناً، أو العكس (بالمعنى المجازي ليسار ويمين)، ومن يتابع التناقضات العربية وصراعات المحاور في مرحلة حلف بغداد يجد أمثلة على ما تقدم.
على أن الوضع تغير نسبياً وليس جوهرياً بعد انتهاء الحرب الباردة، وبوضوح أكبر بعد العدوان الأمريكي على العراق واحتلاله، فقد أصبحت السياسة وعلى التحديد مدى الاستجابة لأميركا أو التجاوب مع سياساتها تتخفّى وراء الخلافات المتعلقة بإصلاح الجامعة، أو الموقف من إعادة انتخاب عمرو موسى أميناً عاماً لها، فقد ينشب خلاف حاد حول نقطة تتعلق ببند من بنود نظام الإصلاح لا يكون مقصوداً لذاته، بقدر ما يختبئ وراءه من خلافات سياسية متعلقة مثلاً بالعلاقات مع أميركا والدولة العبرية، أو بهذا الجانب أو ذاك من السياسات الخاصة بفلسطين والعراق، والموقف العربي العام من مشروع "الشرق الأوسط الكبير".
طبعاً إن تفسير تلك السياسات ذات الجموح المتطرف نحو أميركا يجب ألا يقتصر على تأويله من خلال المتغيرات في موازين القوى فحسب، وإنما أيضاً لا بد من أن تبقى إشكالية التجزئة ودولتها حاضرة في التحليل، بل جاء التغيير في موازين القوى ليغري بعض الدول بإطلاق غريزتها القطرية النابذة للتعاون العربي لتصبح جموحاً يمزق تلك الغلالة الرقيقة التي تحفظ لها هويتها العربية رسمياً، والتي اسمها الجامعة العربية، وهذا كله ما كان ليتم لولا الدفع الأمريكي باتجاهه، فهو الأكثر تطابقاً مع مشاريع الشرق أوسطية، أما الخلفية النظرية له فهي أن هذه المنطقة فسيفساء (موازييك) من طوائف واثنيات وأديان وأقطار تجمعها الجغرافيا (والرغبة الأمريكية - الإسرائيلية)، وليس لها من هوية عربية أو إسلامية، أو من شعوب حية لها تطلعاتها أو مصالحها العليا.
لكن في المقابل وضمن حكم حال التجزئة، وبسبب تفاوت الأحجام والأدوار وعوامل أخرى، كان لا بد من أن تتماسك عدة دول العربية (ولو بتراخ أو ليس كما يجب) في مواجهة، أو ممانعة، الهجمة المذكورة من جهة، وفي التشديد من جهة أخرى على أهمية الجامعة العربية، وعدم السماح لغلالتها حتى لو كانت رقيقة بالتمزق، بل انتقل البعض بما يشبه الهجوم إلى تقديم مشاريع إصلاح للجامعة تحت هدف تثبيت بقائها، وزيادة فعاليتها إن أمكن، وهذا في الوقت الذي دخلت الجامعة العربية (العلاقات العربية - العربية) أخطر مراحل تمزقها، وطُرح استبدالها برابطة "الشرق الأوسط الكبير"، في هذا الوقت اشتدت دعوة إصلاحها رداً على ذلك النقيض الخطير المدمر، ليس من زاوية الهيمنة الأمريكية - الإسرائيلية، وتصفية القضية الفلسطينية فحسب، وإنما أيضاً إلغاء هوية المنطقة، وبعثرة شعوبها.
من هنا جاءت مشاريع إصلاح الجامعة العربية والردود عليها لتعبّر عن المعادلة التي وصل إليها الصراع، طبعاً هنالك من راح يشن حملة تغطيها القناة الأمريكية "الحرة" (مشروع الحرب النفسية ضد العرب)، ومضمونها يقول إن ما تريده أميركا هو الذي سيتحقق، أما في المقابل فثمة من يدحضها وبحق ليقول: على الرغم مما يبدو على السطح من قوة للهجمة الأمريكية والإسرائيلية، فإنها في حقيقتها ضعيفة، بل ربما كانت أشد ضعفاً مما يمكن أن يخطر في بال.
فهي ضعيفة أمام شعب فلسطين وعدالة قضيته، وأمام مقاومته وانتفاضته وتضحياته وصموده، والدليل مشروع الانسحاب الكامل من قطاع غزة، وتغطيته بمزيد من المجازر وأخيرتها وليست بآخرها المجزرة التي أوقعها عن سبق إصرار وتصميم في القطاع نفسه بتاريخ 7/3/2004م.(18/152)
إنها في نهاية المطاف مجازر المتراجع وليس المتقدم، وهي ضعيفة أمام الشعب العراقي الذي جعل بول بريمر يفرح كطفل لتوقيع "الدستور" العراقي الموقت من قبل مجلس يعرف أنه معيّن وغير شرعي، فما مصدر هذا الفرح بخطوة لا يدري ما نتائجها، ولا ما هي الخطوة الثانية؟ السبب شعوره أن الشعب العراقي يستطيع إجبار الاحتلال على الرحيل خلال هذا العام، وإلا حدث ما لا يحبه بوش الذي يستجدي التهدئة لعلها تسعفه على النجاح في الانتخابات الرئاسية، لكن المشكلة في القادة الذين ضل تقديرهم للموقف لناحية عدم قدرة إدارة بوش الآن على مواجهة إجماع عراقي موحد ومصمم على رحيلها فوراً، وقبل الانتخابات وبلا مناورة ولا إبقاء لقواعد عسكرية.
وأميركا ضعيفة أمام الاعتراضات الفرنسية - الألمانية إزاء مشروعها لـ"الشرق الأوسط الكبير" (انظر هجوم جاك شيراك عليه)، وهي ضعيفة أمام فلاديمير بوتين وهو يطهّر إدارته من "أصدقائها"، أو أمام الصين التي انتزعت منها التهدئة في الموضوع الكوري، وبكلمة أخرى هذه القيادة الصغيرة التي تخضع الاستراتيجية الأمريكية العليا لمعركتها الانتخابية جديرة بتقديم التراجعات، وتلقي الهزائم خلال هذا العام.
من هنا يمكن لعدد من الدول العربية وعلى الخصوص مصر والسعودية وسورية أن تخطو في مؤتمر القمة العربية المقبل خطوة إلى أمام (سواء ارتفعت إلى مستوى "الإصلاح" أم لا ) باتجاه تثبيت الأقدام في مواجهة هجمة "الشرق الأوسط الكبير"، وتهديد سورية بالعقوبات، وضرورة دعم شعبي فلسطين والعراق، أما من جهة ثانية فإن على الدول العربية التي تستقوي بأميركا، أو تلك التي بين بين أن تعود إلى الصف العربي، وتدرك أن ما تريده أميركا لها من وراء كشف غطاء الغلالة العربية ليس في مصلحتها بالتأكيد، هذا ولا يزال بمقدورها أن تنتظم في هذا الصف العربي الذي تمادى في اعتداله، وكفى دفعه أكثر فلم يبق غير الهاوية.
أما إذا ظنت إدارة بوش أن في مقدورها تبديل الوضع العربي الذي يراه كثيرون "مؤمركاً" أكثر من اللازم، ثم المجيء بآخر وفقاً للمقاس الأمريكي - الإسرائيلي، فهي تخوض في بحر من الضباب، فها هي ذي أزاحت نظام صدام حسين فماذا وجدت تحته؟ مقاومة مسلحة، ومعارضة شعبية شبه شاملة، وها هي قد حاصرت الرئيس الفلسطيني وهشّمت السلطة الفلسطينية، وأطلقت العنان لجيش شارون (وهو أقدر من جيشها) ليحتل ويدمر ويسفك الدماء، فماذا وجدت؟ شعب بأسره يقاوم، وينتفض ويصمد، ولا يلين، وإذا لم يكن هذا المثلان معبرين فلتمض أميركا في ابتزاز الأنظمة والتهديد بتغييرها، فماذا ستجد بعدها غير الطريق المسدود وهو الشعوب، وأكثرها مكبوت لم تذق أميركا طعم إفلاته بعد.
وبالمناسبة انتشر مؤخراً وهم حول أسباب عدم رضا الشعوب العربية عن أوضاعها، وذلك من خلال عدم إبراز أن الجزء الأكبر من الغضب الشعبي نابع من سياسات الاقتراب أو التقرب من أميركا، كما العجز أمام مواجهة التحديات الإسرائيلية من قبل الأنظمة، فجماهير الأمة تتمزق صباح مساء وهي ترى ما يحدث في فلسطين وبلا حراك عربي، والدليل: ليخرج صوت نظام ضد أميركا حتى ترتفع شعبيته، وفي المقابل ليتأمل القادة في القمة العربية في كل ذلك أيضاً لكي يجعلوا اعتدالهم قوياً.
______________________
(*) عن صحيفة الحياة
http://www.alsahwa-yemen.net المصدر:
===============(18/153)
(18/154)
بوش يعلن بدء تنفيذ المؤامرة الكبرى
تفاصيل ما جرى في قمة الثماني حول 'الشرق الأوسط الكبير'
مصطفي بكري
¼ تدريس العلوم الدينية والمناهج التعليمية وفقاً للرؤية الأمريكية.
¼ 'منبر المستقبل' أداة للرقابة على البرامج المعدة.. وجهاز 'الحوار الديمقراطي' هدفه التدخل المباشر في شئون المنطقة.
¼ القول بأن النزاعات الإقليمية يجب ألا تعوق الإصلاح يعني القفز على الصراع العربي الإسرائيلي والعراق.
¼ إنشاء 'معاهد للديمقراطية' هدفه تجنيد الشباب العربي لتبني مواقف واشنطن.
¼.. وأخيراً.. لماذا اعتمد البيان الختامي مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط كبند رئيسي؟!
خلافات حادة شهدتها قمة الدول الثماني حول مبادرة الشرق الأوسط الكبير، واشنطن حاولت فرض أجندتها كاملة إلا أن فرنسا وألمانيا وروسيا تحديداً كانت لها بالمرصاد، البيان جاء كصيغة توفيقية إلا أنه يحمل بداخله قنابل موقوتة وتفسيرات مطاطة سوف تسعي واشنطن من خلالها إلى فرض أجندتها كاملة، والتدخل المباشر في شئون المنطقة العربية، خاصة أن الرئيس بوش استطاع أن يفرض المبادرة الأمريكية حول الإصلاح في الشرق الأوسط، لتصبح واحداً من البنود الهامة للقمة، وهذه المبادرة لاقت رفضاً كبيراً من غالبية الدول العربية بسبب تدخلها السافر في شئون المنطقة في انتهاك واضح للسيادة وفرض الأجندة الأمريكية كاملة.
لم تقدم القمة جديداً للعراق أو فلسطين، لكنها في المقابل منحت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لبدء تنفيذ برامجها التي ستفضي إلى كوارث حقيقية في المنطقة خلال الفترة القادمة.
إنها البداية.. فتعالوا نقرأ ماذا حدث؟
أسرار ما جرى في قمة الثماني:
شهدت قمة الثماني التي انعقدت في ولاية جورجيا خلال الأيام القليلة الماضية خلافات حادة بين المشاركين فيها حول المباحثات غير المعلنة لخطة الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا.
أكدت المعلومات أنه وعلى الرغم من استجابة الولايات المتحدة للمطلب الألماني بحذف كلمة 'الكبير' من مشروع الشرق الأوسط الكبير، إلا أن واشنطن صممت على الكثير من المواقف الأخرى التي لقيت معارضة أوربية وروسية ويابانية واضحة.
ووفقاً لمعلومات خاصة حصلت عليها 'الأسبوع' من مصادر مقربة فإن المواقف المعارضة أدت إلى تبني عدة ملاحظات في مواجهة الأفكار الأمريكية ومن بينها:
المشروع الأمريكي أكد في بدايته التمهيدية ضرورة مواجهة التحديات في هذه المنطقة من خلال الإصلاح الديمقراطي والاجتماعي والاقتصادي، وقد رأت فرنسا ضرورة أن يكون هذا الإصلاح منبثقاً ونابعاً من دول المنطقة، أما ألمانيا فقد رأت ضرورة تحديد موضوع التحديات بتلك التي تهم المجتمع الدولي، وتؤثر في استقرار السلم والأمن الدوليين، أما ايطاليا فقد رأت أن يتم تحديد نوعية هذه التحديات من خلال دول المنطقة نفسها، أما واشنطن فقد أصرت على إبقاء العبارة كما هي، وأخيراً وبعد جدل جاءت صيغة هذه الفقرة بمراعاة التحفظ الفرنسي فقط والخاص بأن يكون الإصلاح نابعاً من المنطقة، وقد أيدتها روسيا واليابان في ذلك.
وقد جاءت الفقرة في صيغتها النهائية كما أعلنها البيان الختامي للقمة بالقول: 'نحن قادة الدول الثماني ندرك أن السلام، والنمو السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والازدهار والاستقرار في دول الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا؛ يمثل تحدياً يهمنا ويهم المجتمع الدولي عموماً، ولذلك نحن نعلن تأييدنا لإصلاح ديمقراطي، اجتماعي، واقتصادي ينبثق من تلك المنطقة'.
وفي الفقرة الثانية طرحت واشنطن صيغة تقول: 'ضرورة التزام دول المنطقة التزاماً حقيقياً بالحرية والإصلاح في جميع المجالات'، وقد أبدت فرنسا اعتراضها على هذه الصيغة باعتبار أنها تتناقض مع الفقرة الأولى، أما ايطاليا فقد رأت ضرورة الإشادة بمنجزات الحضارة في هذه المنطقة توطئة للإصلاح، وأن الإصلاح مرتبط بعظمة الإنجازات الحضارية التي تحققت في هذه الدول، وقد رأت ألمانيا تغيير كلمة 'التزام' إلى مسئوليتنا الخاصة دول الثماني، والتعهد بالسعي لتحقيق هذه المهمة من خلال التعاون مع الدول القائمة في المنطقة.
وقد وافقت الولايات المتحدة على الصيغة الألمانية مع إلغاء عبارة 'التعاون مع الدول القائمة في المنطقة'، كما وافقت على الاقتراح الإيطالي بالإشارة في البند الثاني إلى الإسهامات الرائعة التي قدمتها ثقافة هذه المنطقة إلى الحضارة الإنسانية، والترحيب بالبيانات الصادرة عن الإسكندرية والبحر الميت وصنعاء والعقبة.(18/155)
ولهذا جاءت الفقرة الثانية من بيان الثماني لتقول: 'إن شعوب الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا لها تراث غني، وثقافة من الإنجاز في الحكومة والتجارة والعلوم والفنون وأكثر..، وقد قدمت الكثير من المساهمات المستديمة للحضارة الإنسانية، ونحن نرحب بالبيانات الأخيرة عن الحاجة إلى الإصلاح الصادرة عن قادة في المنطقة، خصوصاً البيان الأخير لقادة الجامعة العربية في تونس، كما نرحب بالبيانات الإصلاحية الصادرة عن ممثلي الأعمال والمجتمع المدني بما فيها بيانات الإسكندرية والبحر الميت وصنعاء والعقبة، وبصفتنا قادة الديمقراطيات الصناعية الكبيرة في العالم فإننا نعترف بمسئوليتنا الخاصة لدعم الحرية والإصلاح، ونتعهد ببذل جهود متواصلة في هذا الجهد العظيم'.
كان هناك خلاف حول برنامج 'الشراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك' حيث إن الصياغة الأمريكية لهذا البرنامج تضمنت:
شراكة من أجل الديمقراطية وحكم القانون.
إن النزاعات الإقليمية في المنطقة خاصة الصراع العربي الإسرائيلي يجب ألا تكون عقبة أو عائقاً أو مبرراً لتأجيل الإصلاحات السياسية.
مشاركة منظمات المجتمع المدني بفاعلياته المختلفة في برنامج الإصلاح الذي يجب ألا يكون مفروضاً من أعلى (حكومات دول المنطقة)، ولكن من خلال التنظيمات والأقليات والجمعيات الأهلية، أي ينبع من الشعوب ذاتها، وأن حكومات دول المنطقة عليها فقط أن تنظم هذه الفئات الاجتماعية للتعبير عن آرائها بحرية وصراحة مطلقة في نوعية هذه الإصلاحات، وأهدافها على المدى القصير والمدى الطويل.
وبعد المناقشات جاء البند الثالث في صيغته النهائية بالإعلان ليقول: 'لذلك نحن نلزم أنفسنا اليوم بشراكة من أجل التقدم، ومستقبل مشترك مع حكومات وشعوب الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا، وهذه الشراكة ستركز على تعاون حقيقي مع حكومات المنطقة، فضلاً عن ممثلي الأعمال والمجتمع المدني لتقوية الحرية والديمقراطية، والازدهار للجميع'.
طرحت واشنطن صيغة تقول: 'إن برامج الإصلاح طويلة وممتدة، ولا يمكن أن يتم إيقافها بقرارات سياسية داخلية، وإن الالتزام الحكومي بها التزام قطعي بالاستمرار حتى مع تغير الحكومات، ولهذا الغرض لابد من الحصول على ضمانات كافية من دول المنطقة بالالتزام بهذه البرامج بدون توقف، وأن يحق للولايات المتحدة والدول الأوربية أن تتعاون مع بعض المنظمات غير الحكومية من أجل صياغة أفضل لمشروع الشراكة من أجل التقدم والمستقبل، إلا أن العديد من الدول الأوربية رأت أن الصياغة الأمريكية تعيد ذات المفاهيم السابقة التي رفضتها غالبية الدول العربية، ورأت ضرورة الاستئناس والإشارة إلى قرارات القمة العربية الأخيرة في تونس'.
أما واشنطن فقد رأت أن القمة الأخيرة وإن كانت ايجابية إلا أنها حملت التزامات عامة دون تحديد بات، ومع ذلك فهي وافقت على الإشارة إليها في الفقرة الثانية.
وقد طرحت الدول الأوربية أن برنامج الشراكة يجب أن يكون له غرض اقتصادي، حيث أنه بدون توفير الفرص الاقتصادية، والمساعدات المهمة التي يمكن أن تقدمها أمريكا ودول أوربا فإن الإصلاحات السياسية ستواجه بعراقيل حقيقية.
وقد رأت أمريكا أن تربط الغرض الاقتصادي لهذا البرنامج بالوثائق الدولية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والإعلانات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة به بحيث يضم التلازم بين الإصلاح السياسي والاقتصادي.
ألمانيا رأت أن تكون هناك برامج اقتصادية واضحة ومحددة حول الإصلاح الاقتصادي في هذه الدول، وأن هذه البرامج هي فقط محل الالتزام المطلق من حكومات دول هذه المنطقة، وأن برامج الإصلاح الاقتصادي يجب أن تتم تحت إشراف مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، وأن هذه الفرص يجب أن ترتبط في الوقت ذاته بمفهوم العدالة الاجتماعية.
وقد تضمن إعلان قمة الثماني هذا الموقف في البند الرابع والذي قال: 'إن القيم التي تتضمنها الشراكة التي نقترحها هي عالمية المدى، فالكرامة الإنسانية، الحرية، الديمقراطية، حكم القانون، الفرص الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية هي تطلعات عالمية، وتتجسد في وثائق دولية ذات صلة كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان'.
وقد طرحت الدول الأوربية رؤية تؤكد أهمية حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي باعتباره العنصر الرئيسي من عناصر التقدم في المنطقة، وقد وافقت أمريكا على الطرح الأوربي إلا أنها أضافت بنداً مهماً وهو أن يكون هناك التزام من الولايات المتحدة والدول الأوربية بتنفيذ برنامج الشراكة من أجل المستقبل سواء فهمت دول المنطقة أن ذلك فرض عليها أو غير مفروض، وقد طرحت واشنطن في هذا الصدد صيغة تقول: 'أن تلتزم الولايات المتحدة بالتعاون مع شركائها الأوربيين في اختيار الآليات والوسائل المناسبة من أجل تطبيق هذا البرنامج، وأن الدول التي سترفض مجمل الالتزام به سيتم تصنيفها في خانة الدول غير الراغبة في الإصلاحات، ويتم فرض اتجاه تدريجي للعقوبات على هذه الدول، مع تخير الوسائل المناسبة التي لا تضر بشعوب المنطقة.(18/156)
وقد رفضت الدول الأوربية هذه الصيغة باعتبارها أكثر الصيغ التي يمكن أن تؤدي إلى وقف كل برامج الإصلاح في المنطقة، أما واشنطن فقد رأت أن دول المنطقة عازفة عن أن تقوم بإصلاحات حقيقية، وأن هناك جملة كبيرة من الإصلاحات الشكلية لا تقترب من الإصلاح السياسي، وأن مرتكز الإصلاحات الحقيقية في المنطقة هو تداول السلطة السياسية، وتداول المناصب الحكومية، وأن هذه الحكومات ترفض الأساليب الاختيارية والطوعية في أي برامج للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأن التجارب السابقة أثبتت أن الأساليب الطوعية تعد غير مجدية في إطار استمرار المساعدات الاقتصادية دون ربطها بتحقيق أي تقدم في مجال الإصلاحات بالمنطقة، وأنه لهذا الغرض فإن الالتزام بتحقيق برنامج طموح بالتعاون المشترك بين الحكومات والمجتمع الدولي قد يعد هو الوسيلة الأكثر ملاءمة في المرحلة الراهنة أو المستقبلية.
وعلى الرغم من أن الرؤية الأمريكية أسهبت كثيراً في شرح المفاهيم، إلا أنها وافقت على فكرة الالتزام القوي تجاه برامج الإصلاحات، وأن تكون العبارة غامضة أو عامة بحيث لا يتم تأويلها أو تفسيرها في الإطار الخاطئ من حكومات دول المنطقة لذلك جاءت العبارة: 'إن تقوية التزام المجتمع الدولي بالسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا مسألة مهمة'، وقد اعترضت أمريكا على عبارة مهمة، ورأت استبدالها بكلمة أساسية.. وقد صيغت العبارة في البيان المعلن على الوجه التالي 'إن تقوية التزام المجتمع الدولي بالسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الموسع وشمال أفريقيا هو أمر أساسي'، وقد وافقت الدول الأوربية على ذلك.
أما بشأن النزاعات الإقليمية خاصة الصراع العربي الإسرائيلي، فقد تغلبت وجهة النظر الأمريكية في الإشارة إلى أن الإصلاحات هي التي ستسهم بشكل أكيد ورئيسي في اتجاه حل الصراع العربي الإسرائيلي وكافة النزاعات الإقليمية الأخرى، وتمت الموافقة على إدراج ذلك في وثيقة الإعلان التي نصت حرفياً بالقول: 'إن حل النزاعات طويلة الأمد، المريرة في غالب الأحيان، وخصوصاً النزاع الإسرائيلي الفلسطيني هو عنصر مهم من عناصر التقدم، وفي الوقت نفسه النزاعات الإقليمية يجب ألا تكون عقبة في طريق الإصلاحات بل الحقيقة هي أن الإصلاحات يمكنها أن تساهم مساهمة مهمة في حلها.
أما العبارة التي كانت أكثر إثارة للجدل فهي الاقتراح الإيطالي بإضافة فقرة خاصة ومنفصلة حول أن الإصلاح الناجح يعتمد على بلدان المنطقة، ولا يمكن فرضه من الخارج.. أمريكا رأت أن هذه العبارة لا لزوم لها، فرنسا رأت أن العبارة قد تكون مطمئنة لبلدان المنطقة، بريطانيا رأت أن العبارة غير مهمة ولكن لا تشكل إخلالاً بمقومات المشروع الأخرى، ألمانيا رأت الاستجابة لظروف المنطقة، ومطالب زعمائها، فرنسا أعادت التأكيد أن هذه العبارة في حد ذاتها غير كافية بل يضاف إليها فقرة أخرى تعتمد على احترام تنوع كل بلد.
وبعد جدل طويل وافقت الولايات المتحدة على هذه العبارة في برنامج الشراكة مع التأكيد على فكرة الشراكة مع دول المنطقة والتي لابد وأن تراعي عدم إعاقة الإصلاح، وقد استطاع الجانب الأمريكي في القمة أن يعيد الالتزام ببعض النقاط الأساسية في هذا البرنامج، وأن الدول الأوربية أبدت استجابة كذلك على الرغم من أنها أضافت في الوثيقة عبارة: 'إن دعم الإصلاح في المنطقة، هو لمصلحة جميع مواطنيها' إلا أن أمريكا تدخلت من جديد ورأت أهمية تقديم تعهدات حقيقية بذلك تمتد لأجيال مقبلة، وعلى هذا الأساس جاءت الفقرة في البيان لتنص بالقول: 'إن الإصلاح الناجح يعتمد على دول المنطقة، والتغيير ينبغي ألا يفرض من الخارج'، وفي فقرة أخرى نص الإعلان بالقول: 'إن تأييدنا للإصلاح سيتناول حكومات، قادة أعمال وجمعيات أهلية في المنطقة في شراكة كاملة في جهدنا المشترك، إن دعم الإصلاح في المنطقة لمنفعة جميع مواطنيها هو جهد طويل الأمد، ويتطلب من الدول الثماني والمنطقة أن تقدم التزاماً لأجيال'.
وقد برز خلاف آخر حول مطلب الدول الأوربية بأن تتم الإشارة إلى الشراكة الأوربية المتوسطية باعتبارها أحد البرامج الأساسية في خطة الإصلاح، وقد تمثل الجانب الاقتصادي وضرورة التأكيد على قوة الدفع اللازمة لعملية برشلونة، إلا أن أمريكا ليست طرفاً في عملية برشلونة، ورأت أن إبداء الالتزام القوي بعملية برشلونة سيعيد الهيمنة والتأكيد الأوربي في السيطرة على مقدرات المنطقة في إطار الإصلاح الاقتصادي، ولذلك رفض الجانب الأمريكي إطار عملية برشلونة إلا إذا اقترن ذلك بالإشارة المباشرة إلى مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية، وهي العبارة التي هي أساساً محل رفض الدول العربية، وهذا ما أكدت عليه فرنسا صراحة من أن برشلونة تمثل إطارا مقبولاً من الدول العربية في حين أن المبادرة الأمريكية مرفوضة من الدول العربية، وأنه من غير المنطقي الربط بين المبادرتين، وإزاء الآراء الألمانية والبريطانية تمت الإشارة إلى المبادرتين معاً.(18/157)
ولذلك فإن الإشارة إلى المبادرة الأمريكية القديمة الخاصة بالشرق الأوسط في إطار المبادرة الجديدة يمثل خطراً على دول المنطقة.
وهكذا جاءت الفقرة في البيان الصادر عن القمة لتقول: 'هذه الشراكة تبني على سنين من التأييد لجهود الإصلاح في المنطقة عن طريق برامج تعاونية ثنائية ومتعددة الأطراف، والشراكة الأوربية المتوسطة 'عملية برشلونة'، ومبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، ومبادرة الحوار الياباني العربي هي أمثلة على التزامنا القوي بدعم التنمية الديمقراطية والاقتصادية، ونحن ملتزمون بصورة مماثلة بمثل ذلك التقدم في أفغانستان والعراق عن طريق جهودنا المتعددة الأطراف للتعمير، وستبني الشراكة التي نقترحها على مشاركة مستمرة في المنطقة'.
وتناول البحث 'منبر المستقبل' وهو أحد الأجهزة المهمة في المبادرة وفقاً للرؤية الأمريكية الخلاف الأمريكي الأوربي تمحور حول صياغة هذه الفكرة، حيث تسعى أمريكا إلى أن يكون منبر المستقبل هو الهيئة المباشرة التي تتولى من خلالها صياغة الأفكار العملية لتنفيذ برامج الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وأن أمريكا والدول المتقدمة ستكون معنية بإعداد هذه البرامج والأفكار، ويتم الاجتماع مع وزراء خارجية دول المنطقة من أجل الاتفاق معهم على كيفية تنفيذ هذه البرامج، والمدى الزمني المقترح لتنفيذها، وأن يكون منبر المستقبل هو الهيئة الأكثر ملاءمة للرقابة على دول المنطقة من حيث التأكد من مدى الالتزامات، وإبداء الملاحظات حول طرق التنفيذ، إلا أن الأطراف الأوربية إضافة إلى روسيا واليابان مع التباينات في مواقفها رأت أن تكون فكرة المنبر هي:
يتم من خلاله إدارة حوار مفتوح.
أن يجمع وزراء الخارجية والاقتصاد ووزراء آخرين لإجراء مناقشات غير ملزمة حول مفهوم الإصلاح، إلا أن عدم إلزامية هذه البرامج في المنبر لا تعني وقفها، وإنما لابد من تواصلها حتى يتم التوصل إلى مفهوم مشترك إزاءها، وأن ذلك من الضروري للتوصل إلى صياغات مقبولة من الجانبين.
أن المنبر هو حلقة وسيطة بين احتياجات المنطقة وما تعبر عنه من طموحات في الإصلاح السياسي والاقتصادي، وبين الرؤية الأمريكية الأوربية في كيفية تنفيذ هذه البرامج، وأنه إذا تعارضت رؤية التنفيذ مع رؤية دول المنطقة فإنه من الضروري التوصل إلى اتفاقات رئيسية في هذا الصدد، إلا أن أمريكا رأت أن هذه الرؤية ستفرغ مضمون الإصلاح من معناه الحقيقي.
واقترحت أمريكا في هذا الصدد فقرتين رئيسيتين هما:
أولاهما: حذف عبارة 'غير الزامية' وألا يتم الإشارة إليها من قريب أو بعيد في نطاق فكرة عمل المنبر.
وثانيتهما: ضرورة الإشارة المباشرة إلى ضمان أن تستجيب دول المنطقة لجهود الإصلاح المبذولة، وأن يكون هذا المنبر هو الوسيلة الرئيسية لتبادل الأفكار والآراء بين وزراء الخارجية (الشق السياسي في الإصلاح)، ووزراء الاقتصاد (الشق الاقتصادي في الإصلاح)، مع وزراء خارجية واقتصاد أمريكا والدول الأوربية، وأن يتم تبادل الآراء والأفكار التي لابد أن تفضي إلى التزامات مشتركة.
كما أنه من الضروري وفق الرؤية الأمريكية تحديد اختصاصات هذا المنبر لمراجعة الجهود المبذولة، وأنه بدون هذا الإطار فإن المنبر لن يكون ذا عمل حقيقي، إلا أن الصيغة النهائية التي تم الاتفاق عليها وهي ستكون محل مراجعة في القمم القادمة هي أن المنبر إطار عملي على مستوي وزاري يجمع وزراء الخارجية والاقتصاد، ووزراء آخرين من أجل مناقشات دائمة حول الإصلاح، وأن المنبر حلقة وسيطة للإصغاء لحاجات المنطقة، ولضمان الاستجابة إلى الآراء والأفكار التي أدت إليها المناقشات.
وواضح من هذه الصيغة وفق الأفكار الأمريكية أنها غلبت وجهة نظرها حول أهمية أن يكون للمنبر بعض النواحي الإلزامية في عمله من حيث فرض إطار عمل لدول المنطقة.
ومنبر المستقبل هو أول جهاز تمخض عن هذه القمة حيث إنه من المقرر أن يعقد أول اجتماعاته في خريف 2004، وأن هذا الاجتماع المقبل ستطرح فيه رؤية أمريكية أوربية مشتركة حول نواحي الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وفي هذا الإطار فإنه من المقترح التركيز على فكرة إنشاء معاهد للديمقراطية لتدريب الشباب على الممارسة الديمقراطية، وأن تكون هذه المعاهد تحت الإشراف المباشر لوزارات الخارجية الأمريكية والأوربية، إضافة إلى بعض الجامعات والمعاهد العلمية في هذا الصدد.
وستكون أحد أغراض هذه المعاهد الديمقراطية تشجيع الممارسة السياسية من خلال الأحزاب والمنظمات المدنية، بالإضافة إلى اقتراح برامج الديمقراطية في المدارس المختلفة، وإعداد قادة رأي عام لقيادة الممارسة الديمقراطية خاصة في القرى والمناطق التي يضعف فيها التزام الحكومة بالعملية التعليمية، وكذلك بناء الخطط المرحلية لصياغة أفضل نحو المستقبل.(18/158)
وقد رأت أمريكا أن منبر المستقبل وإن كان يمثل إحدى الصيغ الأساسية المطروحة للقاء وزراء الخارجية والاقتصاد لتبادل الرأي حول تطوير برامج الإصلاح إلا أن هذا اللقاء يجب أن تعقبه لقاءات أخري ثنائية من أجل تنفيذ المشروعات الأكثر أهمية في المنطقة، على أن تكون هذه الاجتماعات الدورية فرصة إضافية لمراجعة القرارات وإطلاق مبادرات جديدة.
وقد جرى الاتفاق على برنامج تدريب 100 ألف معلم من دول المنطقة في أمريكا ودول أوربا، حيث إن الولايات المتحدة اقترحت صياغة تقول: 'تدريب 100 ألف معلم كمرحلة أولى وسيكون هدفهم الرئيسي القضاء على الأمية التعليمية باعتبار أن ذلك الخطر يعوق المشاركة السياسية أو تطوير هذه البرامج، وأن هؤلاء إن كانوا سيشكلون تياراً رئيسياً في محو الأمية إلا أن المرحلة الثانية المرتبطة بتدريب 100 ألف معلم آخر ستكون أكثر تركيزاً على المناهج التعليمية التي لابد من إدخال تعديلات جوهرية عليها تتواءم مع طبيعة المرحلة الجديدة، وأن هذه البرامج التدريبية ستركز على:
المنهج التعليمي الجيد في إطار التعاون مع الثقافة الغربية.
الأصول المشتركة لتدريس العلوم الدينية في المدارس.
تطوير التعليم في اللغات الأجنبية.
المناهج التربوية في تشكيل عقل متحضر بعيداً عن التعصب والأنانية.
المشاركة السياسية كمنهج تعليمي ومكون حضاري.
أنواع الحريات الفردية وتقديسها في المناهج التعليمية.
الإعداد المشترك لرؤية تعليمية ذات أهداف بعيدة المدى في المواطنة والالتزام بالقيم العالمية.
المبادئ العملية لنقل أفكار التلاميذ إلى التنفيذ الفعلي وعبر التطابق مع الاتجاهات العالمية للتحديث والتطوير.
الإسلام كدين واختلافه عن الممارسة الفعلية، والأهداف المستوفاة من تطوير هذه الممارسات.
مبادئ الالتزام المشترك في تطوير أهداف العملية التعليمية.
ويذكر هنا أن كل نقطة من النقاط العشر السابقة كانت قد أعدت بشأنها الإدارة الأمريكية أوراق عمل مختصرة، وأن هذه الأوراق تضمنت الرؤية الأمريكية في المناهج التعليمية.
وقد طالبت الولايات المتحدة بأن تكون هذه الأوراق بمثابة ملحق رئيسي وأساسي لخطة العمل أو الوثيقة الأصلية، إلا أن الدول الأوربية رفضت هذا الاقتراح على أساس أن ذلك سيمثل خرقاً أكيداً لما سبق الاتفاق عليه من أن تطوير التعليم بصفة رئيسية لابد وأن يشكل حقلاً للتشاور والتعاون مع الآخرين، وأن التعليم نظراً لأنه يمثل حساسية خاصة لدي هذه الدول مع الموافقة على برامج التدريب فإنه يمكن أن يكون هناك ملحق إرشادي مشترك.
وسوف يركز هذا الملحق على استخدام التقنيات وكيفية إزالة الأمية والأفكار الجديدة حول استخدام الإنترنت أو زيادة الطاقات الإدارية الناجحة.
وأشارت الورقة الإيطالية إلى أن هذه الأفكار العامة لا تمثل خلافاً مع هذه الدول، في حين أن أي أفكار أخرى تفصيلية لابد وأن تشهد خلافاً كبيراً خاصة في إطار الاتجاه إلى تغيير المناهج التعليمية من داخل هذه الدول ذاتها، وأن الدول الأخرى قد ترفض أي مشروع معد سلفاً في هذا النطاق، وأن يكون ذلك هو الوسيلة الأكثر ملاءمة لإشاعة الانفتاح، وخلق فرص عمل جديدة للشباب، وأن هذا هو أحد المعايير المهمة لنشر الديمقراطية.
وكان هناك خلاف حول ما يتعلق بإنشاء جهاز يسمي 'حوار ديمقراطي'، وأن هذا الجهاز يكون موازياً للمنبر الديمقراطي، إلا أن خطورة هذا الجهاز 'حوار ديمقراطي' وفق الرؤية الأمريكية أنه يعتبر جهاز المراجعة الأول لما يمثل تدخلاً مباشراً في السياسات الداخلية للدول الأعضاء، حيث ترى الورقة الأمريكية أنه كجهاز فني يعمل على التدقيق في الوسائل المتاحة في برامج الديمقراطية المطبقة في بلدان المنطقة، وهذا يعني تدخل الجهاز المباشر في بعض الأحيان من أجل تغيير هذه الوسائل إذا لم تحقق النتائج المرجوة منها، وأن ذلك يتطلب تغيير وقياس نتائج الديمقراطية، الأمر الذي ترفضه العديد من الدول الأوربية وروسيا واليابان، وترى أن مؤشرات أو مقياس الديمقراطية قد يحمل أكثر من معنى لدى هذه الدول خاصة إذا كانت هناك مؤشرات سلبية، فهذا سيؤدي مباشرة إلى رفض هذه الدول لتطبيق برامج أخرى، وأن هذا سيكون تحت إشراف منظمة دعم الديمقراطية، وهذه ستكون معنية باللقاء المباشر مع حكومات دول المنطقة.(18/159)
وسيكون هذا الجهاز على صلة بالمركز الديمقراطي الأوسطي الذي سيخصص لمتابعة أوضاع الديمقراطية في المنطقة، إلا أن الدول الأوربية رفضت هذه الصيغة، ورأت أن ذلك قد يؤدي إلى إثارة العديدة من القلاقل والاختلافات بين هذه الدول وبعضها البعض، وأنه حتى مع الاتفاق على إنشاء مؤسسة الحوار الديمقراطي إلا أن هذه المؤسسة لابد وأن يقتصر دورها الرئيسي على المساهمين الأساسيين، أو بمعنى آخر أن الدول التي ترغب في أن تراقب تطبيقاتها الديمقراطية تنضم إلى مؤسسة الحوار الديمقراطي، وأن الدول الأخرى يكون من حقها الاستفادة من التجارب والخبرات المكتسبة في نطاق هذا الجهاز، كما أن تشجيع الانضمام إلى الحوار الديمقراطي يتطلب التشجيع على الانخراط في المؤسسات الاقتصادية الخاصة بالتنمية في الشرق الأوسط مثل إنشاء شبكة لتمويل معاهد التنمية.
ومن جانب آخر ناقش المجتمعون مطولاً الأوضاع في العراق والسودان، وقد اعترضت روسيا وفرنسا وألمانيا بشدة على إرسال قوات من حلف الناتو إلى العراق ضمن إطار القوة المتعددة الجنسيات.
وقد جاءت دعوة اللجنة الرباعية للانعقاد لبحث ما يسمى بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي مجرد ذر للرماد في العيون.
أياً كان الأمر فالمنطقة مقبلة على تطورات خطيرة، ومن الآن فصاعداً سوف نشهد تدخلات أمريكية سافرة في أوضاعنا الداخلية أهدافها أكبر بكثير من شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.. إنها محاولة لتغيير منظومة القيم كاملة، وإعادة صياغة رؤيتنا للدين والعقيدة.
السؤال الآن ماذا أنتم فاعلون؟!
http://www.elosboa.com المصدر:
==============(18/160)
(18/161)
العراق « نافذة » بوش لمشروع الشرق الأوسط الكبير
قبل خمسة أسابيع من تسليم (السلطة) للعراقيين، وقبل خمسة أشهر من انتخابات الرئاسة التي قد يفقد فيها بوش (السلطة) في واشنطن، حاول بوش أن يجمِّل مشروعه الديمقراطي في العراق، الذي يعد المرحلة الأولى لما يعتبره المحللون في التوجه الأمريكي لإعادة ترتيب النظام العالمي الجديد، وفرض الديمقراطية الأمريكية في مختلف دول العالم على أساس الضغط المتزايد دون الأخذ في الحسبان حقيقة تعدد وتنوع الخصائص الدينية والقومية والتاريخية والوطنية للشعوب ولكل دولة.
ولقد تبين الأمر بوضوح أثناء المشاركة الأمريكية في عمليات فرض الإصلاحات الديمقراطية الغربية بالقوة على دول البلقان، وأفغانستان، والعراق، التي أفرزت العديد من النتائج السلبية أخطرها زعزعة الأمن، والاختراق بعيد المدى لمصالح الشعوب والقوميات والأقليات في تلك البلدان.
ولقد اختارت إدارة بوش للعرب ضمن هذا التوجه مشروعاً معلباً أسمته مبادرة الشرق الأوسط الكبير الذي يرى فيه المراقبون إصراراً أمريكياً على وضع الشرق الأوسط تحت الهيمنة والإشراف المباشر من خلال فرض الديمقراطية الغربية وهو ما ينسجم تماماً مع مصلحة إسرائيل ومخططاتها.
ويذكر المراقبون أن المشروع الأمريكي ما هو إلا المشروع الذي قدمه رئيس وزراء إسرائيل الأسبق ورئيس حزب العمل الحالي شيمون بيريز قبل أكثر من عشرة أعوام، ودون شك فإن دخول المشروع الأمريكي الإسرائيلي حيز التنفيذ يعني بالنسبة للإسرائيليين حصولهم على ورقة جديدة قوية تسهل لهم وبكثير من الإمكانيات ممارسة المزيد من الابتزاز ضد القادة العرب والدول العربية - وخاصة ذات العلاقة بعملية السلام -، من خلال تغييب دورها وإضعافه من خلال بروز دول وقوى أخرى، وهو ما يؤدي بالتالي إلى تأجيل وحتى إلغاء مفاوضات إعادة الأراضي العربية المحتلة سواء في لبنان أو سوريا أو فلسطين وإبقائها تحت سيطرة الإسرائيليين.
وقد أوكلت واشنطن لأطراف دولية إقليمية لتنفيذ هذا المشروع (المعلب)، فبالإضافة إلى الكيان الإسرائيلي وافقت تركيا على مقترح واشنطن بأن تقوم بدور بارز في تنفيذ هذا المشروع بحيث تكون نموذجاً للدول الإسلامية والعربية في كيفية استيعاب الإصلاحات والديمقراطية الغربية مقابل توسيع نطاق المساعدات الأمريكية لأنقرة لتعزيز قواها العسكرية والسياسية والاقتصادية للسيطرة على المنطقة وحوض البحر الأبيض المتوسط، وإغماض عين واشنطن عن مساعي تركيا التوسعية ورغبتها في إعادة ترتيب حدودها مع سوريا والعراق، وتفيد المعلومات أن أنقرة وواشنطن تخططان لإنشاء مركز دائم للحلف الأطلسي في تركيا لتقديم المساعدات الفنية والاستشارية للشرق الأوسط الكبير لتحديث جيوش دوله ومعداتها، وأن يكون هناك حضور ومشاركة كبيرة لتركيا ودول الحلف عبرها في اقتصاديات المنطقة.
http://www.be r nama.com المصدر:
============(18/162)
(18/163)
الشرق الأوسط الكبير والمشاريع المقابلة له .. العربية والأوروبية
رياض أبو ملحم
المشروع الأمريكي الرامي إلى إحداث تغييرات جذرية في منطقة الشرق الأوسط يطرح مزيداً من الأسباب الموجبة للحديث عن ضرورة قيام نظام دولي جديد لا يستند إلى الأحادية القطبية، مثل هذا النظام غير موجود كما يقول أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى (في حوار خاص)، لذلك يحدث هذا الاضطراب الكبير على المستوى العالمي، والذي كان غزو العراق، وتأجيج الصراع العربي ـ الإسرائيلي بعض نتائجه المباشرة.
ومنذ الكشف عن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» (وهو نسخة متطورة عن مشاريع أمريكية سابقة)، بدا أن الإدارة الأمريكية مصممة على مواصلة خطواتها الأحادية، برغم إعلان نيتها عرض المشروع على قمة الدول الثماني في مطلع يونيو المقبل، ثم على القمة الأمريكية ـ الأوروبية في وقت لاحق، وبعد ذلك على القمة الأطلسية التي ستنعقد في أنقرة نهاية يونيو.
إذ أن « المشروع الإصلاحي والتغييري الشامل الذي يهدف إلى تعميم الديمقراطية » في طول المنطقة وعرضها - كما قيل - يأخذ شكل الإملاء والإجبار على مختلف دول المنطقة، ويترك الباب مفتوحاً أمام الولايات المتحدة للتدخل في كل كبيرة وصغيرة من شئون البلاد والعباد.
إلى جانب أن هذا المشروع يسقط موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي كلياً، ويتصرف حياله وكأنه غير موجود، في حين أن هذا الصراع المدمر الذي تسبب في تفجير سلسلة طويلة جداً من الحروب وأعمال العنف المختلفة لا تزال تفاعلاتها تتوالى حتى اليوم؛ أحدث حالة من الفوضى العارمة في المنطقة على مدى نصف القرن الماضي.
وهناك إجماع دولي على استحالة أن تستعيد المنطقة أمنها واستقرارها وهدوءها من دون إنهاء الصراع على نحو عادل وشامل ومتوازن، ومن دون بلوغ الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وإقامة دولته المستقلة.
هذه الأمور وغيرها مما يحيط بموقف الإدارة الأمريكية الحالية من شكوك وشبهات هي التي حملت الدول العربية على أن تتخذ موقفاً سلبياً من المشروع الأمريكي، كذلك فعلت الدول الأوروبية الرئيسية - لا سيما فرنسا وألمانيا - التي أبدت خشيتها من أن يؤدي التحرك الأمريكي الجديد إلى اضطرابات إضافية في منطقة الشرق الأوسط من شأنها تدمير الإنجازات التي حققتها الشراكة الأوروبية - المتوسطية من جهة، وتهديد أمن دول الاتحاد الأوروبي ومصالحها من جهة أخرى.
سخط في مواجهة الإملاء:
على الصعيد العربي أثار الشكل الإملائي والمتعالي لمشروع «الشرق الأوسط الكبير» سخط الدول العربية كلها، وإن كان المسئولون العرب أقروا بالحاجة إلى إصلاحات واسعة في دولهم ومؤسساتهم على أن تتم في صورة متدرجة، وضمن الظروف الخاصة بكل منها، ومن دون تدخل خارجي.
بيد أن الجميع أكدوا رفضهم لعملية الفصل القسري بين الإصلاحات البنيوية المطلوبة وموضوع الصراع العربي - الإسرائيلي نظراً لقناعاتهم الكاملة بأن ثمة ترابطاً موضوعياً بين المسألتين تعززه الوقائع اليومية في فلسطين المحتلة وفي عدد من الدول المجاورة لها.
فالإدارة الأمريكية تطرح مسألة العنف في المنطقة والمدرجة تحت عنوان «الإرهاب»، بما في ذلك المقاومة الوطنية الشرعية ضد الاحتلال الإسرائيلي؛ على أنها ناشئة عن غياب الديمقراطية والتوجهات الإصلاحية، وهذا التعميم الفضفاض يسقط تلقائياً أبرز عامل من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة: الصراع العربي - الإسرائيلي.
وبرغم إجماع الدول العربية حكومات وشعوباً على أن النزاع القائم في فلسطين وحولها يحول دون إرساء وضع مستقر في منطقة الشرق الأوسط تستعيد فيه شئون التنمية والتطوير ديناميتها الطبيعية، فإن إدارة الرئيس جورج بوش مازالت ترفض هذا المنطق، وتصر على معالجة أوضاع المنطقة بمعزل عن الصراع العربي - الإسرائيلي وتأثيراته العميقة.
ويتساءل العديد من المراقبين عن الأسباب التي تمنع الإدارة الأمريكية من الاهتمام بمعالجة موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي، إلى جانب السعي لتنفيذ إصلاحات مؤسسية شاملة في الدول العربية تفضي إلى إحلال الديمقراطية، وتعميم الحريات، وضمان حقوق الإنسان؟
ويلاحظ هؤلاء أن سوء النية لدى الإدارة الأمريكية يظهر جلياً عندما ترفض هذه الإدارة الاستماع إلى وجهة النظر العربية، فتواصل دعم العدوان الإسرائيلي من ناحية، وتشجع الحكومة الإسرائيلية على إحباط أي مشروع سلمي من شأنه وضع حد للصراع التاريخي القائم، وتكون النتيجة الطبيعية لذلك إحداث مزيد من الفوضى والاضطراب وأعمال العنف في المنطقة.
ويصف المحللون مشروع إدارة بوش كمن يضع العربة أمام الحصان، ويرى هؤلاء أن الإدارة الأمريكية تتوهم إمكانية إذابة هذا الصراع إلى حد تلاشيه كلياً بعد أن تحقق عملية الإصلاح الطويلة في الدول العربية هدفها الكامل.(18/164)
وهذا يعني الطلب من الدول العربية وشعوبها المشدودة إلى الصراع مع إسرائيل الانتظار قروناً عدة أخرى لرفع أثقال هذا الصراع عن صدرها، بينما تترك الحرية لإسرائيل خلال ذلك لتعميق وجودها في المنطقة، والاستيلاء على مزيد الأرض، وتشريد المزيد من أصحابها، ثم تبديد الفرص المحتملة لإقامة الدولة الفلسطينية الموعودة.
ومن الواضح أن نائب وزير الخارجية الأمريكية للشئون السياسية مارك غروسمان الذي قام بجولة دعائية واسعة في المنطقة حاول أن يعكس الواقع عندما قال: إنه لا يمكن انتظار إحلال السلام في الشرق الأوسط لتشجيع الإصلاح»، فالمنطق ذاته يمكن استخدامه للقول أنه لا يمكن انتظار قرون عدة لتحقيق الإصلاح الديمقراطي في دول المنطقة حتى يأتي بعد ذلك دور تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي.
فالإصلاح هو الذي يحتاج إلى وقت طويل حتى يحقق النتائج المطلوبة، بينما يمكن تسوية موضوع الصراع العربي - الإسرائيلي خلال مدة زمنية قصيرة (نسبياً) إذا صدقت نوايا الولايات المتحدة، وكفت عن تشجيع العدوان الإسرائيلي وحمايته.
مشروع عربي مستقل:
ونتيجة للمشاورات العربية - العربية من جهة، والاتصالات العربية - الأوروبية من جهة أخرى استقر الرأي على أن يكون للدول العربية مشروعها الإصلاحي المستقل البديل، ويزاوج هذا المشروع الذي سيعرض على قمة تونس في نهاية مارس الجاري بين الإصلاحات الديمقراطية والتحديثية في الدول العربية من ناحية، ومعالجة موضوع الصراع العربي ـ الإسرائيلي من ناحية ثانية.
ففي الشق الأول يتضمن المشروع أفكاراً واقتراحات مجددة في شأن الإصلاحات المطلوبة، والآلية التي سيجرى اعتمادها في عملية التنفيذ، أما في الشق الثاني فسيعيد القادة العرب التأكيد على مبادرتهم الخاصة بتسوية القضية الفلسطينية التي سبق إقرارها في قمة بيروت عام 2002.
مع تطويرها بعض الشيء بما يؤدي إلى توضيح بعض بنودها على نحو يعزز من أهميتها كوثيقة رئيسية تمثل الموقف العربي بصورة دقيقة، فالمبادرة تقوم على أساس انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية إلى حدود عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة، والانسحاب من مرتفعات الجولان السورية المحتلة والأجزاء المتبقية من الأراضي اللبنانية، على أن يقابل ذلك تطبيع عربي مع إسرائيل، ووضع حد للصراع الدموي القائم.
وكما يقول أمين عام الجامعة العربية (في حوار خاص): فإن أي تطبيع مع إسرائيل له شروطه، ولذا فان الدول العربية ستؤكد مجدداً استعدادها لتنفيذ التزاماتها التي تنص عليها المبادرة العربية بشرط أن تنفذ إسرائيل التزاماتها بالمقابل، وبالتوازي بما يفضي إلى تحقيق السلام العادل والشامل في نهاية المطاف.
وفي خطوة موازية سيكون هناك أمام القمة العربية في تونس مشروع آخر لتطوير مؤسسات جامعة الدول العربية، وتعزيز العمل العربي المشترك، بحيث يصبح الموقف العربي أكثر تماسكاً وفعالية على المستوى العربي الجماعي من جهة، وعلى المستوى الدولي من جهة أخرى.
ومن الآن وحتى نهاية مارس الجاري سيكون لدى الحكومات العربية الوقت الكافي لبلورة مواقف نهائية من مختلف الأفكار المطروحة بعد أن قام وزراء الخارجية العرب خلال اجتماعاتهم الأخيرة في القاهرة بوضع الاقتراحات المعروضة في صيغ محددة سواء فيما يتعلق بالمشروع الإصلاحي العربي البديل للمشروع الأمريكي، أو بالنسبة لمشروع تطوير مؤسسات الجامعة العربية وفي هذا الإطار ينشط المسؤولون العرب في إجراء اتصالات ومشاورات مع حكومات الدول الأوروبية المهتمة للتنسيق معها، وجعل مواقف الطرفين مكملة لبعضها البعض، وهو ما يؤدي إلى محاصرة التحركات الأمريكية الأحادية، ويضع حداً لتطرفها وانفلاتها، حتى قبل الوصول إلى القمم الدولية الثلاث المقررة في يونيو المقبل.
أوروبا وشراكتها المتوسطية:
فالدول الأوروبية تدرك تماماً نتيجة لتجربة الشراكة الأوروبية - المتوسطية التي مضى عليها نحو ثماني سنوات مدى التأثير السلبي للصراع العربي - الإسرائيلي، وغياب السلام والاستقرار في المنطقة على المجتمعات العربية، وهي تضع الآن في اعتبارها ثلاثة أمور أساسية:
الأمر الأول: أن الضغط على الدول العربية لا يفيد وحده في إنهاء المشاكل المجتمعية القائمة إذ لابد من توفير قناعات كاملة، وتعاون ايجابي لدى الأطراف المعنية في شأن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وإلا فسيحدث العكس تماماً.
والأمر الثاني أن الاتحاد الأوروبي انفق حتى الآن مليارات الدولارات في إطار الشراكة الأوروبية - المتوسطية استفادت منها الدول الأعضاء في تطوير وتحديث مؤسساتها الصناعية والتعليمية والثقافية والتنموية ولا يستطيع الاتحاد أن يتصرف الآن وكأن كل هذه الإنجازات لم يكن لها وجود أو معنى، وأن كل شيء بالتالي ينبغي أن يبدأ من الصفر، أو من الاقتراحات الأمريكية تحديداً ثم تسير الأمور بعد ذلك وفق توجيهات البيت الأبيض والمصالح الأمريكية.(18/165)
والأمر الثالث أن العوامل والتأثيرات السلبية التي أفرزها ويفرزها استمرار الصراع العربي - الإسرائيلي ألحقت وتلحق ضرراً كبيراً بالخطط الأوروبية الرامية إلى تحويل البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة سلام (وفقاً لمسار برشلونة)، تنعم الدول المحيطة به بكل مزايا الانتماء إلى الفضاء الأوروبي الواسع، فالتعاون المتوسطي كما أراده الأوروبيون لم يتحقق تماماً، وثمة مشروعات كثيرة لم يتسن تنفيذها بينما كان يمكن أن تحقق فوائد كبيرة للعديد من دول المنطقة.
لذا لا تستطيع دول الاتحاد الأوروبي أن تتجاهل هذا الواقع لا لسبب إلا لأن الإدارة الأمريكية تريد ذلك، فالشراكة الأوروبية المتوسطية مستمرة، وهي تتطور على نحو مشجع، وفي الواقع فإن من حق الاتحاد الأوروبي أن يقلق بسبب الهجمة الأمريكية الجديدة فهي قد تفسد إنجازاته الكبيرة، أو تضيف عامل اضطراب جديداً إلى المنطقة على الأقل بالإضافة إلى العوامل العديدة الموجودة.
وانطلاقاً من هذا الواقع يعتبر الاتحاد الأوروبي أن الاقتراحات الأمريكية يمكن أن تشكل دعماً لخطواته السابقة إذا تمت بالتنسيق الكامل معه، وبعد إعادة النظر في الأسس التي ترتكز إليها، ولكن من دون استخدام أسلوب الإملاء والإجبار على الطريقة الأمريكية السائدة، ذلك أن الشراكة الحقة كما تحددها العلاقة الأوروبية المتوسطية تحتاج إلى تعاون في مختلف المجالات، وليس إلى إملاءات، كما تحتاج إلى تفهم كامل لحقيقة تأثير الصراع العربي - الإسرائيلي على كل ما يحدث في المنطقة.
هذا الموقف الأوروبي من مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بدا واضحاً تماماً من خلال التصريحات القوية التي صدرت عن الرئيس الفرنسي جاك شيراك بعد استقباله الرئيس المصري حسني مبارك وعدد من المسئولين العرب الآخرين خلال الأسبوع الماضي، ومن خلال مضمون المشروع الفرنسي - الألماني المشترك الذي يحدد بالتفصيل الرؤية الأوروبية الكاملة مما يسمى «شراكة استراتيجية لمستقبل مشترك في الشرق الأوسط».
فقد أكد الرئيس شيراك ترحيبه بـ «التشاور والتحديث» ولكن «من دون تدخل أو إجبار»، كما أوضح أن أي تحديث في المنطقة يتطلب مسبقاً إنهاء الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، الذي وصفه بأنه «لب الصعوبات» في المنطقة، وكذلك «وجوب إيجاد حل للوضع في العراق يستعيد بموجبه هذا البلد سيادته ووحدته»، واعتبر الرئيس الفرنسي ذلك «شروطاً مسبقة لأي تحديث نؤيده طبعاً».
في مواجهة المشروع الأمريكي:
أما المشروع الفرنسي ـ الألماني الذي يفترض أن يصبح مشروعاً أوروبياً شاملاً بعد عرضه على القمة الأوروبية أواخر الشهر الجاري، وإن بدا - من حيث الشكل - مكملاً للمشروع الأمريكي «الشرق الأوسط الكبير» فهو ينسف أبرز مرتكزاته وآليات عمله، فهذا المشروع (على نقيض المشروع الأمريكي) يؤكد في صورة حاسمة أن «تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي تشكل أولوية استراتيجية لأوروبا، وفي غياب مثل هذا الحل لن تكون هناك أي فرصة لتسوية المشاكل الأخرى في الشرق الأوسط».
كما يعتبر المشروع الأوروبي أن «نهج برشلونة» (المقصود به الشراكة الأوروبية - المتوسطية، وسلسلة مبادرات التعاون بين الطرفين) «يؤمن مجموعة واسعة من الأدوات الملائمة لتطبيق المبادئ الإصلاحية في المنطقة، ومنها على سبيل المثال: إجراء حوار سياسي وأمني في شأن السلام والاستقرار في المتوسط، وإرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الإعلامية وإقامة دولة القانون، وتنفيذ إصلاحات هيكلية في المجال الاقتصادي، وتطوير التعليم، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، ودعم انبثاق مجتمعات مدنية.. الخ أما المقاربة الأمنية التي يطرحها المشروع فتستند إلى الاستراتيجية الأمنية الأوروبية التي أقرها الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2003م.
وفي النهاية يدعو المشروع الأوروبي إلى صدور إعلان عن قمة الدول الثماني يستند إلى مضمون الاقتراحات الأوروبية والأمريكية، وإلى الإعلان الذي سيصدر عن قمة تونس العربية، مؤكداً على التمسك بالمبادئ الأساسية: الإصلاح والديمقراطية والتحديث، التي تحكم هذه العملية.
على أن أبرز ما يسجله المشروع الأوروبي المشترك هو الحؤول دون تحويل «الأحادية الأمريكية» التي يعبر عنها مشروع «الشرق الأوسط الكبير» إلى خيار وحيد بالنسبة لقمة الدول الثماني والقمم الأخرى اللاحقة، وهذه مسألة شديدة الأهمية في مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.
وحيال ذلك يمكن القول أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» بما يواجه من ردود فعل سلبية يسجل على إدارة الرئيس جورج بوش نقطة فشل جديدة، ولعل الاختبار الأخير سيكون في نوفمبر المقبل داخل الولايات المتحدة نفسها.
______________
كاتب لبناني ـ باريس
http://www.albayan.ae المصدر:
============(18/166)
(18/167)
أمة تحت الوصاية
د. أحمد عرفات القاضي
تضمن المشروع الأمريكي لإصلاح وعلاج الخلل لدى الأمة العربية والإسلامية فيما عرف بمشروع الشرق الأوسط الجديد، متضمناً ومركزاً على مجموعة نقاط للعلاج يمكن تسميتها الوصفة الأمريكية لعلاج العرب والمسلمين من أمراضهم المزمنة، والتي تتلخص كما يشير التقرير في: الجهل، والتخلف، والاستبداد، والرجعية، وهي أمراض تجعلنا أمة مخاصمة لروح العصر بامتياز.
ومن هنا فإن الإدارة الأمريكية مشكورة لكي تعالجنا من هذه الأمراض المزمنة بعد أن شخصت الداء شرعت فوصفت العلاج، ويتلخص في أربع كلمات: إصلاح التعليم، وبناء مجتمع المعرفة، ونشر الديمقراطية، وبناء المجتمع الحر اقتصادياً وثقافياً وسياسياً، وإنقاذ المرأة من براثن التخلف والرجعية، تلك هي روشتة العلاج التي كتبها السادة في واشنطن لإصلاح أحوالنا والدخول بنا إلى روح العصر الذي خاصمناه طويلاً.
وبغض النظر عن مدى دقة التوصيف من عدمه فإن الملفت للنظر أن أسيادنا في واشنطن تعاملوا معنا على أننا أمة قاصر لا تستطيع تصريف شئونها، ويجب على الآخرين أن يتولوا هذه المهمة النبيلة كواجب إنساني وحضاري يتطلع به السيد الأمريكي باعتباره راعي شئون العالم والقيم بأمره في ظل العصر الإمبراطوري الجديد.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل لم يكلف السيد الأمريكي النبيل نفسه بأخذ آرائنا في الدواء الذي يجب علينا أن نتجرعه علماً بأن الطبيب الأمين يجب أن يصارح مريضه بطبيعة مرضه، ومدى خطورته، وينصحه بالدواء، والمريض حر في تنفيذ مشورة الطبيب أم لا، ولكن يبدو أن السيد الأمريكي تعامل معنا من منطلق الأبوة، ورأى أننا مازلنا أطفالاً، ولا نعرف مصلحتنا، وبالتالي من واجبه كوصي وأمين علينا يقوم بدور الأب أن يعطينا الدواء الناجع دون مشورتنا.
لقد جاء نشر المشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد بجريدة «الحياة» اللندنية في الأسبوع الماضي والذي توجهت به الإدارة الأمريكية إلى قمة مجموعة الثماني التي ستعقد في أوائل الصيف المقبل في ولاية جورجيا الأمريكية طالباً منهم الموافقة على المشروع، والاشتراك في تمويله لاجتثاث جذور الإرهاب في تلك المنطقة التي تهدد أمن العالم الحر واستقراره، كاشفاً عن تصرف الإدارة الأمريكية باعتبارها الموجه لشئون العالم، وصاحب الرأي، والوحيد الذي يجب أن يطاع من قبل جميع الأطراف، وهو ما يدعم حقيقة نزعة الهيمنة والرؤية الأحادية المسيطرة على الإدارة الأمريكية الحالية.
ورغم كثرة الردود التي كتبت في نقد ذلك المشروع باعتباره مشروعاً خارجياً من قبل العديد من الكتاب والباحثين العرب، وكان من أشد الردود قسوة رد الدكتور نادر الفرجاني المؤلف الرئيسي لمشروع تقرير التنمية الإنسانية العربية في العامين 2002/2003 الذي استندت إليه الرؤية الأمريكية في مشروعها لإصلاح الشرق الأوسط الكبير في أكثر من موضع، موضحاً انتقائية الرؤية الأمريكية، وعدم صدقيتها في تعاملها مع تقرير التنمية التي اعتمدت عليه.
وما يهمنا أن نشير إليه في هذا الصدد الوقوف عند بعض القضايا التي وردت في التقرير دون النظر في محتواه لأنه كان ضعيفاً في المحتوى، وفي المنهج، وفي تشخيصه للداء ووصفه للعلاج، وهو ما تناولته أقلام كثيرة بالنقد والتفنيد، ولا يسعنا أن نتمادى في هذا المجال، وهذه القضايا يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
ـ أولاً العنوان الذي حمله المشروع وهو الشرق الأوسط الكبير، وهو ترديد لمقولة الثعلب المكار والصهيوني واسع الحيلة شيمون بيريز صاحب كتاب الشرق الأوسط الجديد الذي نشره منذ فترة طويلة مبشراً بعصر جديد تكون لإسرائيل فيه الهيمنة الاقتصادية على المنطقة، لتقودها نحو عصر جديد من الرفاهية والرخاء، وهو نفس ما تردده الإدارة الأمريكية الحالية في خطتها الجديدة، فهل كان هذا الاتفاق في تحديد العنوان من قبيل المصادفة؟
أم أن هناك أيدي صهيونية عبثت بالتقرير ووجهته نحو غايتها المنشودة سواء بالمشاركة الفعلية في صياغته، أو بالمشورة والتوجيه بين الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية في كل من واشنطن وتل أبيب وهما في أوج التفاهم والتناغم.
ـ ثانياً يفتقد التقرير في تشخيصه لأزمة الأمة العربية والإسلامية إلى المصداقية وذلك بخلوه من أي إشارة لدور الاحتلال سواء أكان الإسرائيلي لفلسطين أو الأمريكي في العراق وأثره على إعاقة التنمية في البلدين وفي توجههما نحو المستقبل وهو بذلك يناقض نفسه.
فكيف يتولى مسئولية الإصلاح وهو في الوقت ذاته يقف في وجه تحقيق هذا الإصلاح باحتلال دولة ذات سيادة تحت حجج ثبت كذبها وزيفها، وربما جاءت تصريحات تشانيز القائد الأمريكي في العراق إلى أن قوات الاحتلال ستبقى في العراق لسنوات مقبلة وليس لشهور فقط طعناً في هذه المصدقية، وكشفاً للنوايا الأمريكية بإطالة بقائها لأكبر فترة ممكنة طبقاً لاستراتيجيات وحسابات أمريكية مما يظهر أن موضوع نقل السلطة في العراق، وإجراء انتخابات ليس سوى تصريحات استهلاكية لكسب الوقت، وامتصاص غضب الشارع العراقي والعربي.(18/168)
ـ ثالثاً التناقض في حديث التقرير عن ضرورة نشر قيم الحرية والديمقراطية مع واقع الاحتلال الأمريكي في العراق، وما أعلنه مؤخراً الحاكم الأمريكي في العراق بول بريمر برفضه أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع في دستور العراق الجديد بناء على طلب الشعب العراقي، فهل هي حرية وديمقراطية مفصلة بالمقاس، ولا ينبغي أن تشذ عن القالب المطلوب أن تكون فيه؟
أم أنها حرية حقيقة للشعب من حقه أن يضع المرجعية الثقافية والقانونية لدستوره متمشياً مع هويته الثقافية والدينية؟ أم أن تلك الشريعة الإسلامية وتعاليمها من وجهة نظر بريمر ورفاقه في واشنطن كما أعلنوا مراراً وتكراراً كانت مصدر الإرهاب، وبالتالي يجب أن تغيب تماماً من حياة الشعب العراقي وشعوب المنطقة، ومن هنا كان التركيز الأساسي للتقرير على التعليم وضرورة أن يقوم على قيم ومبادئ تؤكد معاني الحرية والتسامح والحوار.
ـ رابعاً لا أدري لماذا أضاف المشروع إلى مفهوم الشرق الأوسط الكبير خمس دول فقط أربع منها إسلامية هي باكستان وأفغانستان وتركيا وإيران والخامسة هي دولة الكيان الصهيوني؟ فلماذا تجاهل المشروع مثلاً دولة بنغلاديش ومعلوم أن خطة المشروع الطموح هي مقاومة التخلف والفقر والمرض باعتبارها الثالوث الذي ينهش في عظام المنطقة فيولد الإرهاب الذي يقض مضاجع السادة الأفاضل في واشنطن علماً بأن بنغلاديش دولة إسلامية ملاصقة لباكستان، وكانت جزءاً منها، وهي من أكثر بلاد العالم فقراً، فلماذا تجاهلها التقرير رغم أنها جزءاً من المنطقة التي تسعى واشنطن لتغييرها؟ ولماذا هذه الدول بالذات؟
ولماذا تتجاهل واشنطن عندما تتحدث عن التنمية في العالم الإسلامي وترجعه إلى ثقافة العصور القرووسطية التي تخاصم قيم الحداثة والحرية والديمقراطية تركز على نماذج الفشل وتجاهل بصفة مستمرة تجربة ماليزيا الرائدة مع أنها دولة إسلامية ومن النمور الأسيوية.
ـ خامساً يضع التقرير من أولوياته التركيز على التعليم، وبناء مجتمع المعرفة، ويشير إلى هجرة العقول المبتكرة إلى الخارج لفشل المجتمع العربي الإسلامي في استنبات نموذج مجتمع حر تنموي ناجح، فهل صحيح تسعى واشنطن لبناء مجتمع معرفي عربي يقوم على علوم التكنولوجيا الحديثة؟
وإذا كان ذلك صحيحاً فلماذا عمدت واشنطن إلى منع الطلاب العرب والمسلمين من دراسة تخصصات وثيقة الصلة بعلوم التقنية والتكنولوجيا الحديثة بعد أحداث سبتمبر 2001م على واشنطن ونيويورك، وماذا فعلت قوات الاحتلال الأمريكي في العراق لحماية أصحاب الخبرة من العلماء العراقيين أصحاب الكفاءات في مجالات العلوم الدقيقة التي اغتيل منهم حتى الآن تسعة من رموزهم الأكفاء، ومعلوم أن الموساد كان يخطط لتصفية هؤلاء العلماء من قبل الحرب الأمريكية على العراق فهل يتم اغتيال هؤلاء العلماء وتصفيتهم بعيداً عن أعين قوات الاحتلال أم تحت سمعهم وبصرهم وبرضاهم التام؟
وهل كان الكشف عن شبكة العالم الباكستاني عبد القدير خان أبو القنبلة النووية الإسلامية كما يسميه الغرب تمهيداً لتصفيته وتسليط الدور على تلاميذه في باكستان تمهيداً لتتبعهم والتخلص منهم كما هو الشأن مع العلماء العراقيين.
ـ وأخيراً هل فعلاً تسعى الولايات المتحدة الأمريكية لنشر الديمقراطية في بلادنا، وأنها ضد الاستبداد والظلم الذي كان سبباً رئيسياً في تخلفنا وتراجعنا؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فهل ستوافق الولايات المتحدة عن نتائج انتخابات يفوز بها حزب إسلامي أو شيوعي مثلاً في العراق أو غيره من البلاد العربية والإسلامية، وهل ستدعم النتيجة في هذه الحالة؟ أم ستهدد باحتلال البلد الذي اختار توجهاً معيناً كما فعلت أوروبا مع الجزائر في الانتخابات التي أسفرت عن فوز التيار الإسلامي وجبهة الإنقاذ في أوائل التسعينيات في أول انتخابات حرة تشهدها الجزائر منذ أكثر من نصف قرن.
هذه بعض الملاحظات السريعة على المشروع الأمريكي الطموح نحو شرق أوسط كبير برؤيته المفروضة علينا لتنقذنا من براثن التخلف والرجعية، وتأخذ بأيدينا نحو مجتمع الرفاهية والحرية والتقدم، أما الرد على المشروع الأمريكي المعيب من جميع جوانبه سواء في التشخيص، أو في وصفه للعلاج، والذي يتدثر برؤية إمبريالية لا ترى الآخر إلا برؤية مشوهة لأنه يرفض التبعية والسير على خطاها.
وكيف يكون لنا مشروعنا النهضوي النابع من داخلنا، والذي تنادى به المصلحون والمفكرون في بلادنا منذ ما يزيد على قرنين من الزمان، الذي يعبر عن ذاتيتنا، ويرتكز على هويتنا الثقافية والدينية، والذي لا يخاصم روح العصر، ولا يعادي المدنية والتقدم فهذا هو حديثنا في المقال القادم.
_________________________
ـ كاتب مصري ـ جامعة الإمارات
http://www.mafhoum.com المصدر:
============(18/169)
(18/170)
الشرق الأوسط الكبير إشاعة للديمقراطية أم تبعية أمريكية
عامر راشد
عشية الكشف عن مسودة المبادرة الأمريكية للتغيير في الشرق الأوسط المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير) أكد الرئيس الأمريكي بوش الابن أمام جنود قاعدة " فورت بولك " في ولاية لويزيانا الجنوبية: " أن خيار الولايات المتحدة الأمريكية واضح، وهو: " إما أن تتقدم الحرية في المنطقة، أو أن تبقى مصدرة للعنف إلى كل أنحاء العالم "، وخاطب جنوده قائلاً:
" أمريكا تعتمد على جنودها لمواجهة الأخطار "، وأضاف: " لاشك أن العدو سينهزم وستسود الحرية "، ما قاله الرئيس الأمريكي يفضح الجانب الأكثر بشاعة في السياسة الأمريكية القائم على توظيف الهيمنة العسكرية في فرض المخططات الأمريكية لإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط بما يلبي مصالح الإمبراطورية الأمريكية التي دأبت في السنوات الأخيرة على تقديم نفسها كقوة لا متناهية في المجالات كافة، الثقافية، والاقتصادية، والعلمية، والعسكرية على ما في هذا من مغالطة سنتعرض لها لاحقاً.
ومن المهم أن نثبت بداية إقرارنا بأن الإصلاح الشامل في البلدان العربية وخصوصاً في حقلي السياسة والاقتصاد بات ضرورة ملحة ولازمة للمحافظة على الاستقرار والاستقلال، وكشرط للتنمية بما يتطلبه ذلك من تغييرات بنيوية جذرية أساسها ديمقراطية تؤمن أوسع مشاركة سياسية تضمنها قيام دولة المؤسسات والقانون والشفافية، وبأن الموقف من المشروع الأمريكي لا ينطلق من رفض الإصلاح و التغيير من حيث المبدأ بل على العكس من ذلك تماماً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن نجاح أي عملية إصلاح حقيقية يشترط تحقيق المصلحة الوطنية أولاً، وهو ما تقفز عنه المبادرة الأمريكية، انطلاقاً مما سبق يمكن لنا أن نسوق الملاحظات التالية على ما بات يعرف بـ (المبادرة الأمريكية لتغيير الشرق الأوسط الأوسع نطاقاً):
أولاً: الخلل الأساسي في الوثيقة أنها تتناول الإصلاحات المطلوبة كمصلحة أمريكية خالصة، هدفها المعلن تلبية المصالح الأمريكية أولاً وأخيراً، وفي سبيل هذا فهي تحاول إعادة قولبة المنطقة قسراً بما يتماشى مع مفهوم العولمة الأمريكية، غير آبهة بمصالح شعوب المنطقة، إن أساس السياسة الأمريكية نظرة استعلائية قاصرة تقسم العالم إلى معسكري (خير أو شر) وتطبيقها العملي المسخ (من هو معنا ومن هو ضدنا)، ليصبح من المشروع أن نتساءل: أليس من السذاجة اعتقاد الإدارة الأمريكية بإمكانية نجاح سياساتها الخارجية المبنية على المصالح الأمريكية فقط، والسعي إلى تنفيذها بأساليب عدوانية؟!!.
ثانياً: يلاحظ أن الخطة في مسعاها لإعادة قولبة المنطقة سعت إلى إعادة تعريف مصطلح الشرق الأوسط بحيث يضم إلى جانب الدول العربية كل من: إيران، تركيا، باكستان، أفغانستان، دول آسيا الوسطى، دول القرن الأفريقي، وطبعاً إسرائيل يبقى لها موقع الصدارة، ولا يخفى في هذا أن التوسيع يهدف إلى جعل تعريف المنطقة مطابقاً لخارطة الحروب الأمريكية تحت دعوى (مكافحة الإرهاب الأصولي الإسلامي)، وبهذا فهي أقرب إلى كونها تحديد لمنطقة العمليات الحربية للجيوش الأمريكية.
ثالثاً: المبادرة الأمريكية استمرار لسياسة إدارة بوش الابن التي تجعل من تحقيق المصالح الأمريكية أساساً للشرعية الدولية، ولذلك فهي تقدم الدور الأمريكي على دور الهيئات والمؤسسات الدولية، على اعتبار أنها فقدت في ظل عالم القطب الأحادي شرعيتها، وكذا مواد القانون الدولي التي كانت وليدة معادلات دولية لم تعد قائمة، وهذا يؤسس برأيها لشرعية الاستفراد الأمريكي، ومحاولات فرض الديمقراطية والإصلاحات الليبرالية من جانب واحد بما تمثله من مصلحة وطنية أمريكية؟!!.
رابعاً: المبادرة تقفز عن أولوية تحقيق تسوية سياسية شاملة ومتوازنة للصراع العربي الإسرائيلي كشرط لازم في تحقيق الديمقراطية والتنمية، وما يشكله استمرار احتلال إسرائيل للأراضي العربية وتنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني من عامل تفجير دائم، وفاتحة لحروب لا تنتهي، كيف يمكن الحديث عن توفير مقومات التنمية والديمقراطية في ظل ارتهان المنطقة لسيف التوسعية العدوانية الإسرائيلية المدعومة أمريكياًً، ألا يصبح من حقنا القول بأن أحد أهداف المبادرة الأساسية خلق مدخل لتكريس الهيمنة الصهيونية التوسعية على المنطقة.(18/171)
خامساً: الإدارة الأمريكية تراهن في إمكانية فرض مشروعها على استمرار زخم اندفاعها العسكري ونجاحه وهذا أمر مشكوك به في ظل ارتفاع العجز في الميزانية الأمريكية بشكل غير مسبوق والبالغ 500 مليار دولار، مع دين يقدر بـ 7 تريلون دولار، وجاءت مؤشرات الأداء الاقتصادي الأمريكي التي تنذر بتباطؤ اقتصادي لتزيد من حدة الجدل واتهامات بلجوء إدارة بوش إلى تجميل الأرقام، وتشي الأرقام بأن معجزة التسعينيات التي وفرها ارتفاع معدلات نمو القطاع المالي لن تتكرر، مع بقاء القطاعات الإنتاجية الأخرى (الزراعة - الصناعة - التكنولوجيا - الخدمات) دون معدلاتها الأوروبية، وهو ما يسميه د. سمير أمين الطابع الطفيلي للاقتصاد الأمريكي، من كل ما سبق يمكن القول بأن الإدارة الأمريكية الحالية أو وريثتها ستجد صعوبة في تمويل حروبها القادمة.
سادساً: إن اختيار منطقة الشرق الأوسط للبدء بها قد يبدو من الناحية الشكلية فيه الكثير من الموضوعية لسهولة السيطرة عليها كونها تعاني من حالة تفكك وتناحر هائلة أوصلتها إلى درجة من الإعياء عطلت قدرتها على المقاومة، وافتقادها إلى التنظيم والعمل المشترك أبقاها أسيرة فجوة هائلة بعيداً عن عصر التكنولوجيا الرقمية، هذا إضافة إلى هشاشة أوضاعها الداخلية التي لا تملكها الحصانة السياسية والاجتماعية المطلوبة في المواجهة، لكن هذا الافتراض ساذج كونه يجعل من قبول الشعوب العربية مقايضة حقوقها واستقلالها بمجموعة إصلاحات أمراً ممكناً، إن شعوبنا تريد الإصلاحات مدخلاً لتعزيز استقلالها، واستعادة حقوقها، وهذا ما لن تجده في المبادرة الأمريكية، يضاف إلى هذا بأن محاولة أمريكا بسط سيطرتها على المنطقة خطوة على طريق تحقيق هدفها الإستراتيجي في بسط هيمنتها على العالم سيفتح على اشتداد وتيرة الصراع بما قد يفضي إلى نشوء تحالفات دولية جديدة بغية الحد من التفرد الأمريكي.
سابعاً: إن محاولة فرض روح الثقافة الاستهلاكية الأمريكية ستلقى ممانعة كبيرة من قبل المجتمعات العربية كونها تناقض خصوصيتها الثقافية والاجتماعية، وأكثر من ذلك فإن أي إصلاحات بنيوية حقيقية في الدول الريعية العربية (الخليجية تحديداً) ستعيد النظر ببعض مظاهر الثقافة الاستهلاكية الأمريكية التي تسللت إلى مجتمعاتها في سنوات الطفرة النفطية كشرط لقيام تنمية متوازنة ومستقلة.
ثامناً: تحقيق المشروع كما هو مطروح بشكل قسري يتطلب سيطرة أمريكية مباشرة طويلة الأمد تنتقص من استقلالية بلدان المنطقة بما يعني: المحافظة على القواعد العسكرية القائمة، وإقامة قواعد جديدة، وإبقاء العمل بـ (مفهوم الحروب الإستباقية)، وما سيخلقه هذا من بؤر توتر جديدة.
ويبقى من الضروري التنويه مجدداً إلى أن كل الملاحظات السابقة التي سيقت على المشروع الأمريكي تندرج في سياق البحث عن المدخل الأنسب للإصلاح لا رفضه، وبما لا ينتقص من الحقوق العربية، فلقد بات الإصلاح يحتل سلم الأولويات في المجتمعات العربية كضرورة راهنة وملحة، وضعها في إطار التجاذب بين الحكومات والإدارة الأمريكية يحرفها عن مسارها، ويقوض أسسها، لذلك فإن اختيار المدخل الصحيح للإصلاح وتوفير شروطه لا يقل أهمية عن موضوع الإصلاح بحد ذاته.
الشرق الأوسط الكبير بين مقاومة "الأمركة" وضرورة التغيير:(18/172)
اختار واضعو نص مبادرة (الشرق الأوسط الكبير الأمريكية) استعراض عدد من الإحصائيات توطئة لمتنها، ورصدت الإحصائيات واقع المنطقة اقتصادياً وسياسياً بهدف إثبات مقولة رئيسية ستبنى عليه لاحقاً البنود الأساسية في مشروع التغييرات المقترحة: "طالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة "، والإشكالية هنا لا تكمن في صوابية المقولة السابقة من عدمها بل في تجاهل مسبباتها، ولعل في جلائها إجابة على السؤال الذي ما فتئ الإعلام الأمريكي يردده " لماذا يكرهوننا؟ "، وخدمة للنقاش يجب أن ننطلق فيه من نقض مقولة أن التغيير في الشرق الأوسط يمثل مصلحة وطنية أمريكية خالصة، كون الاستقرار والسلم العالميين مصلحة إنسانية مشتركة أساسها عدم التعارض مع مصالح الشعوب الواقع عليها التغيير، من هنا فإن المبادرة الأمريكية حين تعيد التأكيد على بعض الإحصائيات المُتَضَمِنَة تقريري الأمم المتحدة حول واقع التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و 2003، وخصوصاً ما يتعلق منها بـ (الحريات، المشاركة السياسية، المعرفة، تمكين النساء) للقول بعد ذلك بأنها تساهم في "خلق الظروف التي تهدد مصالح أعضاء مجموعة الـ 8 " تتجاهل بشكل صارخ مصلحة ورغبة المجتمعات العربية في التغيير، وهذا لم تسقطه المبادرة سهواً، بل عمد يعكس ما يتطلبه الهدف الأساسي من وراء طرح المبادرة ألا وهو إعادة قولبة المنطقة بما يمكن من إلحاقها نهائياً بالعجلة الأمريكية، وهذا يفسر لماذا لم تأخذ المبادرة شكل مسودة يدار على أرضيتها الحوار مع الحكومات ذات الشأن بدل طرحها على قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى لإقرارها في حزيران / يونيو المقبل، إن هذا التصرف الأمريكي الأحادي لم يستنفر معارضة عربية فقط، بل ومعارضة أوروبية أيضاً، وتجلى ذلك في المبادرات الاعتراضية والتكميلية الأوروبية وأبرزها: المقترح الفرنسي الألماني المسمى بـ (شراكة إستراتيجية لمستقبل مشترك مع الشرق الأوسط)، والمبادرة النرويجية الكندية، ومبادرة وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، وخوفاً من محذور البناء الخاطئ على الملاحظة الأخيرة يجب إدراك أن التناقض الأوروبي الأمريكي هو في إطار الجزئيات، التي على أهميتها لا تعدو كونها صالحة فقط للتوظيف في التلطيف من الغلو الأمريكي، وشرط عدم تحولها أي المبادرة الأوروبية - إلى مدخل لبلورة رؤية أمريكية أوروبية جديدة تعيد تحديد وتأسيس العلاقة الأمريكية الأوروبية - ما بعد احتلال العراق - عملاً بمبدأ تقاسم المصالح هو صمود الممانعة العربية أولاً وأخيراً، ولهذا شروط:
إن الشرط الأول لنجاح الممانعة العربية في وجه المشروع الأمريكي لا يكون بتجاهل الحقائق التي استندت لها المبادرة الأمريكية وإن أساءت توظيفها، - المقصود خلاصة تقريري الأمم المتحدة للتنمية في البلدان العربية - بل بالتسليم بها وجعلها أساساً للزوم التغيير القادم لا محالة.
الشرط الثاني هو تحديد غاية الإصلاح، فليس صحيحاً أن غاية الإصلاح هو تقديم أنفسنا للآخر بشكل يقبله على أهمية ذلك، فقبول الآخر لنا أو قبولنا له يتطلب تملك مجتمعاتنا لثقافة جديدة أساسها التعددية في العلاقة مع الذات أولاً ومن ثم مع الآخر، بما يضمن حق التعددية السياسية والفكرية والثقافية على قاعدة التكامل، وبما يضمن تحقيق السلم الأهلي والحرية والديمقراطية، وشرط هذا قيام دولة المؤسسات، والأخذ بمبدأ التداول السلمي للسلطة.
الشرط الثالث تجنب الوقوع في محذور الاستسلام لوطأة الواقع العربي الراهن ومخيباته بدعوى الواقعية، لأن هذا يجعل من النظرة التحليلية لأزماتنا من هذا المنطلق أزمة بحد ذاتها، كونها تضع نفسها في إطار سكوني يفتقد لرؤية التغيير وروحه، وغالباً ما تصل إلى نتائج خاطئة أو منقوصة الجامع بينها قولها بعبثية المراهنة على الحراك المجتمعي الداخلي، وهذا سيقود بالنتيجة إلى القول باستحالة التغيير الذاتي، والتسليم بأحقية فرض الإصلاحات من الخارج.
الشرط الرابع مع إدراكنا بأن الكثير من الحكومات العربية بحكم مصالح بعض فئاتها تفتقد الحماسة للتغيير، وبعضها الآخر يفتقد الوعي والمقدرة على التغيير إلا أنها تدرك حاجتها الماسة للتغيير كممر إجباري للخروج من أزماتها المزمنة والمستفحلة، والخطر هنا لجوء بعض الحكومات إلى إدخال الإصلاحات من الباب الدوار، بما سيفقدها لقيمتها عملياً عبر تآكلها، وتحويلها إلى تسويات مرحلية، قابلة للنقض والتراجع عنها على ضوء تغيير ميزان القوى والظروف التي فرضتها.(18/173)
الشرط الخامس مع معرفتنا بأن التباطؤ في إقرار الإصلاحات والعمل بها يحمل محذور تآكلها وتفريغها من محتواها، والالتفاف عليها، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن حرق المراحل قد يحمل مخاطر أكبر بحصول انهيارات شاملة، وبالتالي لا بد من خلق الظروف التي تؤسس لإصلاحات بنيوية حقيقية، وإبقاء المخاطر الداخلية والخارجية التي سترافق حكماً عمليات الهدم والبناء تحت السيطرة، إن جعل الإصلاح رهن العقلية التجريبية المغامرة لا تحتمله مؤسساتنا المجتمعية الهشة، ولا حلول سحرية لأخطاء السنين المتراكمة، وما جرى في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي يعطينا ألوف الأمثلة على ما ذكر سابقاً، إن توسيع المشاركة السياسية، وتأطير الحياة السياسية في مؤسسات ديمقراطية منبثقة عن عملية انتخابية مباشرة تشكل أنسب المداخل للإصلاح وغايته في آن واحد.
الشرط السادس إدراك أن الفكر الحداثوي العربي انسجاماً مع أهدافه يجب أن ينطلق من الخاص في فهمه وتفاعله مع العام، وأن الأخذ بالوصفات الأمريكية أو الأوروبية الجاهزة يقع على النقيض من ذلك تماماً، إن العولمة الأمريكية المتوحشة تفتقد إلى قوة المثال كونها تحول إملاءاتها إلى معاول هدم لخصوصية الآخرين خدمة لمصالحها الضيقة، وزاد من ذلك تحول الولايات المتحدة الأمريكية نفسها إلى دولة بوليسية مرة أخرى تضطهد الأقليات العرقية والدينية بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
إن طرح المشروع الأمريكي تواقت مع ظهور علامات بداية تآكل المشروع الأمريكي للهيمنة على العالم، ولا يعدو كونه محاولة لتوظيف قوة الدفع التي يوفرها تفوقها العسكري الهائل، لكن درس العراق الذي ما زال يتتابع فصولاً يؤكد يوماً بعد يوم حقيقة حاولت إدارة بوش الابن إغفالها وهي أن النصر العسكري شيء، وقطف ثماره شيء آخر.
نقف اليوم على مفترق طرق سيحدد مصيرنا إلى سنوات طويلة قادمة، إما الأخذ بالحداثة والإصلاح منهجاً لتغيير واقع مجتمعاتنا المتداعية، وإما مزيداً من التداعيات والكوارث، الإصلاح ليس خيار بل شرط لازم، فلنعبره بإرادتنا وإلا فالبديل عبوره من باب الآخرين بشروط و إملاءات أقل ما فيها أنها تقوض استقلالنا إذا لم نقل تقوض أساس وجودنا الفاعل.
http://www.alwatanvoice.com المصدر:
==============(18/174)
(18/175)
المناخ الدولي والإقليمي والشرق الأوسط الجديد
ودع العالم القرن العشرين وسنواته الأخيرة مثقلة بأنواع التحولات في الدول والأحلاف، فقد شهدت السنوات العشر الأخيرة سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه، وتبع ذلك تفكك المعسكر الشرقي وحلف وارسو، وبذلك توقفت الحرب الباردة، فإذا بالولايات المتحدة الأمريكية تطل برأسها ساعية للاستئثار بالقرار الدولي من خلال ما أطلقت عليه "النظام العالمي الجديد"، ومن خلال ذلك عملت وتعمل أمريكا لتكون المرجعية البديلة عن هيئة الأمم المتحدة.
وشهدت هذه الحقبة بدايات نهوض الاتحادات القارية كالاتحاد الأوروبي، ودول شرقي آسيا، وهذا أزعج الولايات المتحدة الأمريكية التي لا ترغب بظهور قوة عالمية تنازعها القرار، ولعل ما حدث أثناء التفاوض لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان في شهر نيسان (أبريل) 1996 يشكل دليلاً واضحاً على هذا التنازع، حيث عمل وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر وبشراكة إسرائيلية لتعطيل فعل مساعي دوشاريت وزير الخارجية الفرنسي وبريماكوف الروسي ووزيرة خارجية إيطاليا أنيللي التي جاءت تمثل الاتحاد الأوروبي.
السنوات الأخيرة من القرن العشرين شهدت تضعضعاً في النظام العربي حيث المنازعات العربية - العربية، وكان أبرزها ما خلفه الاجتياح العراقي للكويت، هذا بالإضافة إلى الحوادث الداخلية في مصر والجزائر ولبنان، والحركات الانفصالية في جنوبي السودان وشمالي العراق.
هذا الواقع ترافق معه اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والعدو الإسرائيلي، ومن ثم لاحقاً وبعد مدريد اتفاقية "أوسلو" مع أبي عمار، ووادي عربة مع الأردن، هذه الوقائع أسهمت في تراجع دور جامعة الدول العربية، وفي تدني الإمكانات العربية في رد ومواجهة التحديات على الأمة سواء التحدي الإسرائيلي ببعديه التوسعي والتقسيمي، أو التحديات الإقليمية كمشكلات المياه والجزر، أو التحديات الدولية وفي مقدمتها التحدي الأمريكي بقواعده وأساطيله وأطروحته في النظام العالمي الجديد من خلال مشروع حلف الشرق الأوسط وهو المشروع المشترك الأمريكي الإسرائيلي الاستعماري والتوسعي.
الولايات المتحدة الأمريكية وحاجتها للشرق أوسطية:
إذا كان الاتحاد السوفيتي السابق قد انهار بفعل عوامل متعددة أبرزها عداء النهج السوفياتي للدين والقومية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني في ميادين عديدة اجتماعية واقتصادية تهدد كيانها، فالمجتمع الأمريكي يعاني من نتائج التميز العرقي الذي يخلف مع تعدد المذاهب والجماعات بنية المجتمع ووحدته، يضاف إلى ذلك مظاهر الفساد من الشذوذ إلى الأمراض وأشكال الانحراف وصولاً إلى إحصاءات نشروها تفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية التي يسكنها ما بين 4 إلى 5 بالمئة من سكان المعمورة تستهلك 50 بالمئة من المخدرات المنتجة في العالم.
ومجتمع الولايات المتحدة الأمريكية والأرقام من أوائل التسعينات ينتشر فيها بين أيدي المواطنين 120 مليون بندقية و60 مليون مسدس، ويذهب فيها نتيجة جرائم ثأرية 19000 قتيل سنوياً [1].
والاقتصاد الأمريكي مثقل بالديون والأعباء، والعجز يزداد عندهم عاماً بعد عام، ولعله من المفيد لفهم مقدار الأزمة الاقتصادية الأمريكية أن نورد هذا الكلام من كتاب بول كنيدي: "الاستعداد للقرن الحادي والعشرين" الذي تمّ تأليفه عام 1992؛ وفيه:
"تبلغ دفعات الفوائد على الدين القومي 300 مليون دولار سنوياً وتشكل 15% من المصاريف الحكومية، وكما لاحظ المحرر الاقتصادي لجريدة (وول ستريت جورنال) تتجاوز دفعات الفوائد الآن كل المبالغ التي تدفعها الحكومة على الصحة والعلم والقضاء والزراعة والإسكان وحماية البيئة والإدارة العدلية، بالطبع لا يحتمل أن تزداد هذه المصاريف على حساب نفقات حكومية أخرى فحسب ولكن دفعات الفوائد تذهب عادة إلى مالكي السندات الحكومية الأجانب مما يؤدي إلى نقصان الثروة الأمريكية أكثر فأكثر.
لم يكن الدين القومي هو الوحيد الذي تضخّم في الثمانينات بل وكل شيء آخر من الدين، فمنذ عام 1986 بدأت حكومات الولايات والحكومات المحلية تعاني عجزاً، ولقد فاقم هذا الاتجاه تقليص المنح الفيدرالية، أما ديون المستهلكين التي حفزتها القروض السهلة فقد وصلت إلى 4 تريليون دولار، بينما قلّصت الدفعات على القروض المداخيل الفردية، وكان دين الشركات المساهمة أكثر سوءاً، فحالما بدأت فترة التسعينات ذهب حوالي 90% من مجمل دخل الشركات المساهمة الأمريكية بعد دفع الضرائب لدفع الفوائد على ديونها"[2].
إن الأزمات والإشكالات التي يعاني منها مجتمع الولايات المتحدة الأمريكية تدفع قادة أمريكا إلى البحث عن مصادر للثروة ينهبونها ويصادرونها ليحلوا بها أزماتهم، كما أنهم يعملون من خلال تفجير التناقضات، وتكبير دورهم خارج حدودهم على نزع فتيل النزاعات والانقسامات المجتمعية الحادة داخل بلادهم.
إن الأطماع الاستعمارية مع التزامهم المشروع الصهيوني بالإضافة إلى أزماتهم التي ألمحنا لبعضها كلها عوامل أوصلتهم إلى طرح مشروع الشرق أوسطية كمشروع حلف جديد يكرر نماذج أحلاف طرحوها سابقاً كحلف بغداد وسواه.(18/176)
العدو الإسرائيلي وحاجته لحلف الشرق الأوسط:
اقترب عمر احتلال العدو الإسرائيلي لفلسطين من النصف قرن، وعمر احتلاله لأراضٍ أخرى كالجولان السورية ومزارع بلدة شبعا اللبنانية عن ربع قرن بقليل، ومع ذلك نجد أن هذا الكيان الإسرائيلي الذي يتكون من خليط سكاني تعود أصوله لقوميات عديدة لا يزال يعاني من مشكلات عديدة.
إن يهوداً الذين يدّعون حقاً تاريخياً في فلسطين لا تربطهم بفلسطين أية صلة، ويهود الذين يزعمون أنهم من أصول سامية أتت الوقائع لتظهر تهافت مزاعمهم هذه، إن يهود العالم تعود أصول أغلبيتهم الساحقة إلى أصول خزرية، وقد تهّود أغلب سكان مملكة الخزر (قزوين) بعد تهود ملكهم "بولان" في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي.
يقول المسعودي عن مملكة بحر الخزر (قزوين): "فأما اليهود فالملك وحاشيته والخزر من جنسه، وكان تهوّد ملك الخزر في خلافة هارون الرشيد، وقد انضاف إليه خلق من اليهود وردوا عليه من سائر أمصار المسلمين ومن بلاد الروم"[3].
وتفيد دراسات معاصرة عديدة منها دراسة بنيامين فريدمان أن 92% من يهود العالم خزريون، يقول: "إن من يزعمون أنفسهم يهوداً، المتحدرين تاريخياً من سلالة الخزر، يشكلون أكثر من 92 بالمئة من جميع من يسمون أنفسهم يهوداً في كل مكان من العالم اليوم، والخزر الآسيويون الذين أنشأوا مملكة الخزر في أوروبا الشرقية أصبحوا يسمون أنفسهم يهوداً بالتحول والاعتناق سنة 720 م، وهؤلاء لم تطأ أقدام أجدادهم قط الأرض المقدسة في تاريخ العهد القديم"[4].
وبولان Bulan الخزري الذي تهود مع معظم سكان مملكته ما بين عام 720 م و740 م، لم تلبث مملكته أن تفككت وزالت من الخريطة السياسية في القرن الثالث عشر الميلادي، وتوزع سكانها في أوروبا الشرقية ومنها إلى مناطق أخرى من العالم، يقول آرثر كيستلر:
"والواقع أن موضوع الجدل هو مصير الخزر اليهود بعد تدمير إمبراطوريتهم في القرن الثالث عشر، والمصادر شحيحة عن هذه المسألة، وإن ورد ذكر بعض مستوطنات الخزر في القرم وأوكرانيا والمجر وبولندة وليتوانيا، وتكشف الصورة العامة التي تنبثق من هذه المعلومات المتناثرة عن هجرة قبائل وجماعات خزرية إلى تلك الأقاليم الواقعة في شرق أوروبا، ولا سيما روسيا وبولندة، حيث وجدت في فجر العصر الحديث أكبر تجمعات من اليهود، الأمر الذي دفع كثيرين من المؤرخين إلى الحدس بأن جزءاً هاماً أو قل غالبية من اليهود الشرقيين (أعني من شرق أوروبا) وبالتالي يهود العالم، ربما كانوا أصلاً من الخزر لا من أصل سامي" [5].
إذا كان يهود العالم من هذه الأصول الخزرية - كما تبيّن - فالسؤال: لماذا لم يدَّعوا حقاً في وطن قومي يهودي في منطقة بحر قزوين موطنهم الأصلي؟ وما الرابط بينهم وبين فلسطين؟ هذا الأمر يظهر لنا الهدف الاستعماري المتخفي وراء يهود والصهيونية.
ويهود الذين وفدوا مغتصبين مستوطنين في فلسطين المحتلة منهم الأشكناز وهم من أصول ألمانية - أوروبية وهؤلاء يشكلون الطبقة أو الفئة التي تتولى أغلب السلطات والمواقع القيادية، ومن المغتصبين يهود السفاردييم وهؤلاء سكنوا أسبانيا (الأندلس سابقاً) وما حولها ويشكلون غالبية في فلسطين المحتلة بعد قيام دولة العدو لكن نفوذهم أقل من نفوذ الأشكناز.
ومن يهود دولة العدو يهود الفلاشا الوافدون من أثيوبيا، هذا بالإضافة إلى يهود كانوا في بعض الأقطار العربية، ومع الإشارة أن الأشكناز والسفاردييم جاءوا من أمم عديدة وبلغات وانتماءات قومية متنوعة، هذا الانقسام في مجتمع الكيان العدو حادّ حيث نجد من بيده النفوذ كالأشكنازيين، ومَنْ يعاملون كالعبيد ويقيمون في مخيمات رديئة الخدمات كالفلاشا.
وهناك انقسام آخر عندهم هو الانقسام الديني ما بين فريق يرى أن إقامة الدولة واعتماد القدس عاصمة لها يكون على يد المسيح الموعود ويجب انتظاره، ومنهم السامريون، وما بين انقسامات أخرى في النظرة إلى المعاد الأخروي وهل هو على الأرض، كما يعتقد الصدوقيون مثلاً.
والانقسام الثالث بينهم هو في المشروع السياسي حيث يرى فريق منهم (الليكود) بأن التوسع يكون بالمحافظة على الأرض المحتلة، وإضافة أراضٍ لها عند الاقتدار والسيطرة على مزيد من الشعب العربي، وفريق آخر (العمل) يرى أن التوسع يكون من خلال الاجتياح للمنظومة الحضارية العربية وذلك في ميادين الاقتصاد والثقافة والإعلام... إلخ.
الإشارة إلى هذه الانقسامات في مجتمع دولة العدو الإسرائيلي تدلّل على الأزمات التي يعانون منها، ولذلك يكون توجيه الأنظار إلى الخارج، وممارسة الاجتياحات النارية بالسلاح أو الاجتياحات الاقتصادية والثقافية حاجة إسرائيلية من باب الهروب إلى الأمام، حتى لا تتفجر الصراعات الداخلية عندهم والتي ظهرت بوادرها الأولى في عملية اغتيال رئيس وزرائهم إسحاق رابين.
والعدو الإسرائيلي عنده أشكال أخرى من المعاناة هي:(18/177)
1 ـ لا تزال دولة إسرائيل تعتمد في ميزانيتها على الدعم الأمريكي والغربي بشكل رئيسي، وبذلك يكون وضعها المالي غير مستقر ومهدد عند توقف المساعدات، لهذا يستعجلون قيام سوق الشرق الأوسط ظناً منهم أنها ستوفر لهم استثمارات وموارد تلغي حاجتهم المالية لأمريكا والغرب.
2 ـ هجر يهود دولة العدو "الغيتوات" في مواطنهم الأصلية ليعيشوا جميعاً في غيتو اسمه دولة إسرائيل لأن المحيط العربي تفصله عنهم حواجز نفسية إضافة إلى تحفز للتحرير، ويظن الإسرائيليون واهمين أن توقيع صلح مع بعض المسؤولين قد يلغي عزلتهم والتجربة أثبتت عكس ذلك، لأن العربي يرى فيهم - وهو محق - مغتصبين للأرض والمقدسات، وقتلة للإنسان مجرمين، وعنصريين مستعمرين، فهم أعداء وجود لا أعداء حدود.
3 ـ تعاني دولة العدو في الجانب السكاني، فالمعلوم أنهم لم يستطيعوا استيعاب الزيادة السكانية في الأراضي التي اغتصبوها في عام 1967م، كما أن الأرض التي اغتصبوها عام 1948م من المتوقع حتى عام 2025 م أن يصبح فيها السكان العرب بنسبة 50% كحد أدنى، لذلك يعمد العدو الإسرائيلي إلى التهجير، والى تحقيق التفوق العسكري ليحكم بالحديد والنار.
4 ـ رغم مرور قرابة نصف قرن من الزمن على قيام دولة العدو في فلسطين المحتلة لم يتمكن من صياغة مجتمع مدني منسجم أو بلغته لم يتمكن من تطبيع العلاقات بين يهود المتعددي الانتماءات والأجناس، وهذا مؤشر على أنه لن يستطيع العيش مع سكان المنطقة العرب، فالجسم الدخيل لا يمكن أن ينصهر مع محيط مخالف له لا بل معادٍ.
إن الوقائع التي تمّ استعراضها تندرج في باب تبيان حاجة العدو الإسرائيلي لمشروع حلف الشرق الأوسط، ولتوقيع مصالحات لسلام مزعوم مع المحيط العربي، أو إجراء معاهدات مع حالات إقليمية كما جرى مع تركيا كل ذلك لأن الحالة لم تعد تحتمل عند الإسرائيليين أن يبقى وضعهم على ما هو عليه.
العرب وخطر حلف "الشرق الأوسط":
إن الأمة العربية تعاني من جملة تحديات خارجية إقليمية ودولية، ومن تحديات داخلية تجعل قدرة الأمة - خاصة في الجانب الرسمي الحكومي - ضعيفة في ردع هذه التحديات، فعلى الصعيد الداخلي يشكل التخلف، وعدم إطلاق مشروعات التنمية بالشكل الكافي؛ قيداً في يد الأمة مضافاً إليه نسبة الأمية المرتفعة، والهوة الشاسعة التي تفصل بين الحكومات والشعوب بسبب مشكلة الحرية.
إن ضعف بنيان الحياة الديمقراطية والحريات العامة في أغلب الأقطار العربية شكّل ويشكل معوّقاً رئيساً في طريق إطلاق الطاقات باتجاه صنع التقدم والازدهار.
ومن المشكلات الداخلية تلك الأحداث والفتن التي ترتدي الطابع الديني أو العرقي والتي تهدد الوحدة الوطنية، وتضيّع طاقات كثيرة في مواجهات ليست في موقعها المطلوب.
أما التحديات الإقليمية فأولها الاحتلال الصهيوني الذي يحمل مشروعاً استعمارياً توسعياً لا يقف عند حدود التوسع الجغرافي، وإنما يشن الإسرائيليون غارات متنوعة لاجتياح الأمة العربية، والقضاء على مرتكزاتها الحضارية وجوداً ومصيراً، إضافة إلى حراسة التجزئة، ومنع وحدة الأمة، مع إجبارها على الإنفاق العسكري منذ ما يزيد عن نصف قرن.
وهناك التحديات على تخوم الأمة منها: التحدي التركي من خلال عضويته في حلف الأطلسي، وتحالفه مع دولة إسرائيل العدوة، وإشكالية المياه مع سوريا والعراق، والتحدي الإيراني في مسألة جزر الإمارات العربية المتحدة التي يحتلونها منذ حكم الشاه عام 1971م، وتحدي النزاع على الخليج العربي والموقع والدور الإقليمي، وهنالك التحدي الأثيوبي الذي يقوم في مسألتين: مياه النيل، ومساعي إقامة السدود عليها لمنعها عن السودان ومصر، ومسألة الاتفاقات الزراعية وسواها مع دولة إسرائيل، وعلى الصعيد الدولي التحدي الأخطر يأتي من الاستفراد الأمريكي، وعمله للقطبية الواحدة في القرار الدولي هذا مع النهب للثروات، والوجود العسكري المباشر الذي يضع قيوداً قاسية على حرية الأمة في بناء تقدمها، وتنظيم هيكلياتها، وفي تأسيس علاقاتها الدولية.
إن حلف الشرق الأوسط أكثر خطراً من حلف بغداد في الخمسينات، والتسليم به تسليم بتبعية الأمة لحلف أمريكي - إسرائيلي يستهدف ضرب هوية الأمة في العروبة والإسلام، وهذا أمر مطروح بشكل وقح من قبل رئيس وزراء العدو شمعون بيريز الذي نادى بتحويل جامعة الدول العربية إلى جامعة للشرق الأوسط ليتسنى لهم ولتركيا ولدول أخرى دخولها، كل ذلك لنسف وجود الأمة، والقضاء على هويتها العربية - الإسلامية.
هذا العدوان الذي يتسلل ليفرض الاستسلام على الأمة بلداً بعد آخر تحت شعار سلام مزعوم، يحصل بعد سقوط المعسكر الشرقي، وتوقف الحرب الباردة، وبذلك تكون معظم الدول العربية قد خسرت مصادر التسليح وقطع الغيار لعتادها العسكري، والولايات المتحدة الأمريكية وشريكتها إسرائيل تطالبان بتقليص الطاقة العسكرية العربية، وفك الاستنفار الذي مضى عليه ما يربو على نصف قرن، وما ذلك إلاّ لتبقى إسرائيل القوة الوحيدة المتفوقة في المنطقة.(18/178)
هذا الواقع العسكري العربي الصعب بفعل الافتقار لمصادر التسليح، وعدم إطلاق مشروع بناء القوة الذاتية العربية بالشكل الكافي، لا يخلو من إيجابيات، ومن مقومات تؤهل قدرات الأمة العسكرية للانطلاق، وأترك للواء طلعت مسلم أمر عرض هذا الواقع بحكم اختصاصه وخبرته، فهو يقول:
"تودع الأمة العربية نهاية القرن العشرين وتستقبل مطلع القرن التالي وهي في أوضاع دفاعية تتّسم بسمات سلبية كثيرة أهمها تجميد معاهدة الدفاع المشترك، وعدم وجود بديل منها، وبالإضافة إلى ما سبق نجد اندلاع حروب أهلية في أكثر من مكان داخل الوطن، وحظراً تسليحياً عاماً وخاصاً يحصر الأسلحة العربية في حدود معينة لا تقابلها حدود مماثلة لمصادر التهديد المحتملة، وأوضاعاً اقتصادية وتخلفاً علمياً وتعليمياً وصناعياً وتقنياً لا يخدم الأمن الدفاعي العربي.
وبالتالي فإن ميزان القوة العسكرية والقدرة الدفاعية في المنطقة يشير إلى تفوق العناصر غير العربية على القوة العربية، ويجعل الوطن مكشوفاً للتهديدات الخارجية، ورغم قتامة الصورة فإن الأوضاع الدفاعية العربية لا تخلو من بعض النقاط المضيئة التي نتجت من ثمار فترة سعت فيها الأمة وواكبتها الحكومات إلى بناء قوة دفاعية فاعلة فاكتسبت الخبرات في ميادين القتال، وتمرّست في استخدام كثير من معدات القتال والأسلحة الحديثة، واكتسبت الكوادر العلمية والصناعية بعض الخبرات الإدارية والفنيّة الهامة التي تمكّنها من إدارة العملية الإنتاجية على مستوى راقٍ"[6].
إن الأمة العربية بكل دولها تملك مع الخبرات والإمكانات التي تمت الإشارة إليها سابقاً حصناً حضارياً هاماً مكّنها من الصمود، ومن ثمّ المواجهة، فالتحرير والتغيير في مراحل تاريخية سابقة، ومن الأمثلة على ذلك أن الفرنجة الذين غزوا الأمة انطلاقاً من أوروبا مع نهايات القرن الحادي عشر الميلادي تمكنوا من تأسيس دولة في منطقة قيام دولة إسرائيل اليوم أطلقوا عليها اسم: الدولة اللاتينية، وجعلوا عاصمتها القدس، وعندما أسقطت الأمة تلك الدولة عاد من أسسوها إلى حيث أتوا، والأمر نفسه سيحصل لا ريب في وقت ما وسيعود يهود إلى بلدانهم الأصلية.
والأمة تمتلك لمواجهة خطر إسرائيل والاستعمار من خلال الشرق أوسطية الطاقة البشرية، تلك الطاقة التي صنعت انتفاضة الأرض المحتلة التي لا تزال، وهي نفسها قاومت التطبيع في مصر، وتقاومه اليوم في الأردن، وقاومته وتقاومه مدنياً وعسكرياً في كل أرض عربية محتلة في لبنان وسوريا وفلسطين.
هذه الطاقات البشرية مضافة إلى الحصن الحضاري هي عماد الأمة في مواجهة مشروع الشرق الأوسط الذي تتلخص فيه مشاريع التوسع الاسرائيلية، والأطماع الاستعمارية الأمريكية، ولقد أحسن صنعاً الشاعر طارق ناصر الدين حيث قال:
"كل شهيد يتقدس دمه
ينبت سوسنةً، تنطق:
لا للتطبيع مع القاتل
يا هذا الشعب كلام الله إليك
هو الردُّ الفاصل
أبطالك عاصفة وزلازل
ورموزك رايات ومشاعل
هل يوجد أعظم من شعب
هل يوجد أعظم من شعبٍ
يتحول فيه البشر قنابل؟ " [7]؟
إن مشروع الشرق أوسطية اجتياح من نوع جديد ليس أمام قادة العدو سواه، وهو بالمحصلة مخطط إسرائيلي توسعي ليس إلاّ.
يتحدث الأستاذ كمال شاتيلا عن هذا المخطط ومخاطره على العرب قائلاً: "إن زعماء إسرائيل يروجون لسوق الشرق الأوسط من الناحية الاقتصادية للتأثير على أصحاب رؤوس الأموال - والفقراء أيضاً - ولإغرائهم وإقناعهم بجدوى مشروع السلم الإسرائيلي، وفائدته للعرب واليهود على السواء.
فالإغراءات تبدأ اقتصادية، ثم تتحول بعد التطبيع - كما يخططون - لتصبح اختراقاً لوحدة المجتمع العربي، واختراقاً لكل التركيبات الاجتماعية في كل الساحة العربية، وعلينا أن ننتبه إلى حقيقة قائمة وهي أنه ليس في طاقة إسرائيل أن تتوسع في المدى المتوسط، وهي ليست قادرة على إقامة مشروع: أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل، في المدى المنظور، فهي عجزت عن استيعاب الأراضي المحتلة عام 1967، واستحال عليها هضمها، ولذلك فإن مخططاتها تتمحور حول السيطرة على المنطقة حربياً واقتصادياً وتقسيمياً بإشعال الحرب الأهلية داخل كل قطر عربي على أساس مذهبي وطائفي وعرقي لتدور كل الكانتونات الانفصالية في فكلها بعد ذلك" [8].
إن مشروع الشرق الأوسط لا يرد خطره على الأمة العربية إلاّ بمواجهة تتبع مرحلتي الممانعة والإعداد، وكل ذلك لن يقوم بغير المنهج الوحدوي إن كان في إطار الوحدة الوطنية لكل قطر عربي، أو الوحدة القومية في إطار تطوير ميثاق جامعة الدول العربية ليلبي الأغراض المطلوبة.
إن النظام العربي في واقعه الراهن قطرياً وقومياً لم يعد بإمكانه أن يشكل سدّاً دفاعياً في وجه التحديات على الأمة لذلك لا بد من تطويره في إطار جامعة الدول العربية وتطوير ميثاقها وهيكلياتها ومؤسساتها.(18/179)
"إن الحديث عن تطوير النظام العربي، وصولاً إلى تأسيس نظام عربي جديد، يجب أن يكون جزءاً من استراتيجية لمواجهة التحدي المصيري للوطن العربي، وفرض الشرق أوسطية التي تعني - في المحصلة النهائية - الاندماج تحت جناح إسرائيل التي ترنو إلى فرض هيمنتها، وسيطرته على المنطقة، وهو هدفها الثابت الذي تتحوّر سبله وأدواته ووسائله، ولكنه يبقى الهدف الاستراتيجي للمشروع الصهيوني.
ولعل هذا الأمر يرتب على كافة القوى السياسة العربية - على المستويين الشعبي والرسمي - اجتياز أول درجة نحو تأسيس نظام عربي جديد - كهدف استراتيجي - بقبول الوفاق العربي القائم على المصارحة الحقيقية، والمصالحة غير الشكلية كمدخل مرحلي لتحقيق هذه الغاية" [9].
إن المصالحة ضرورية لحشد الطاقات وتطوير ميثاق الجامعة العربية تمهيداً لوضع استراتيجية للمواجهة في الميادين كافة العسكرية والاقتصادية والثقافية... إلخ.
___________________________
[1] للتفصيل يراجع: كنيدي، الدكتور بول، الاستعداد للقرن الحادي والعشرين، ترجمة محمد عبد القادر وغازي مسعود، الأردن، دار الشروق، سنة 1993.
[2] كنيدي، الدكتور بول، م. س، ص 369.
[3] المسعودي، مروج الذهب، م1، بيروت، دار الفكر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 5، سنة 1393 هـ ـ 1973 م، ص 178.
[4] فريدمان، بنيامين، يهود اليوم ليسوا يهوداً، إعداد زهدي الفاتح، بيروت، دار النفائس، ط 2، سنة 1403 هـ ـ 1983، ص 44، 45.
[5] كيستلر، آرثر، القبيلة الثالثة عشرة ويهود اليوم، ترجمة أحمد نجيب هاشم، القاهرة، المصرية العامة للكتاب، سنة 1991، ص 23.
[6] مسلم، اللواء طلعت، قضايا ومتطلبات الأمن العسكري العربي في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين في:
التحديات الشرق أوسطية الجديدة والوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، سنة 1994، ص 260.
[7] ناصر الدين، طارق، قصائد مؤمنة، بيروت، توزيع دار العلم للملايين، ط 1، سنة 1996، ص 51.
[8] شاتيلا، كمال، موقفنا من حلف الشرق الأوسط، بيروت، المركز الوطني للدراسات والنشر، سنة 1415 هـ ـ 1994 م، ص 5.
[9] عبد الوهاب، علاء، الشرق الأوسط الجديد: سيناريو الهيمنة الإسرائيلية، القاهرة، سينا للنشر، ط 1، سنة 1995، ص 370.
http://ma r kaz.co.uk المصدر:
============(18/180)
(18/181)
مشروع الشرق الأوسط الكبير قراءة في البعد الثقافي ( 2 - 2 )
محمد سليمان أبو رمان
ربط مشروع الشرق الأوسط الكبير (انظر: نص الوثيقة في صحيفة الحياة 13 فبراير 2004) بشكل وثيق بين مصالح الدول الكبرى وتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية المطلوبة من الدول العربية والإسلامية لمواجهة الإرهاب والتطرف، واستندت الوثيقة بشكل مباشر على تقريري التنمية العربيين الصادرين عن الأمم المتحدة (وقد قام بوضعهما باحثون عرب)، فقد ورد في نص المشروع: " يمثل الشرق الأوسط الكبير تحديّاً وفرصة فريدة للمجتمع الدولي، وساهمت " النواقص " الثلاث التي حددها الكتاب العرب لتقريري التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و 2003 الحرية، المعرفة، تمكين النساء في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الـ 8، وطالما تزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة، سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة.. "، والجديد في الشرق الأوسط الكبير - وهو مشروع قدمته الولايات المتحدة كمقترح لشراكة أطلسية تجاه الشرق الأوسط - أنه ركز بالإضافة إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية على تحديث المجتمعات العربية والمسلمة، وعلى إجراء تحول ثقافي فيها.
وإذا كانت الإصلاحات السياسية والاقتصادية جزءاً رئيساً من الدعاية الأمريكية فما هي طبيعة التحول الثقافي المطلوب، وما هي أهدافه؟ فهل المطلوب نشر ثقافة الديمقراطية السياسية داخل المجتمعات العربية والمسلمة، وبناء رأي عام يطالب بالحريات السياسية وبحقوق الإنسان؟
وأنا هنا لا أريد أن أجعل هذا المقال في نقد الدعاوى الأمريكية بالديمقراطية والحرية، وفي الرد على هذا التقرير؛ فقد تولى هذه المهمة غيري من الكتاب والمثقفين، كما أنني أعتقد أن الإنسان العربي الأمي يستطيع أن يفند الدعاوى الأمريكية فالأمر جد واضح، لكن أريد أن ألفت الانتباه في هذا السياق إلى خطورة الأمر، وإلى مجموعة كبيرة من السياسات التي بدأت تطبق على أرض الواقع في كثير من الدول العربية خاصة في مجال التحول الثقافي المطلوب.
أعود لتساؤلاتي السابقة لأقول: بالتأكيد إنّ الولايات المتحدة لا تهدف إلى بناء رأي عام يطالب بالديمقراطية، أو ينادي بالحقوق السياسية للشعوب، فالرأي العام المقصود متوافر وبزخم شعبي وثقافي كبير، وهو نابع من رحم المعاناة اليومية للإنسان العربي، الذي ملّ فساد الحكومات وفشلها السياسي، والذي اكتوى بنار الاستبداد والتسلط وغياب الحريات وحقوق الإنسان.
إذن فما هي طبيعة التحول الثقافي وأبعاده في الرؤية الأمريكية، وما سر تأكيد تقرير الشرق الأوسط الكبير على العمل على تحديث المجتمعات العربية؟
أدع الجواب عن هذا السؤال للخبير الأمريكي انغلهارت في مقال له في مجلة Fo r eign Policy (عدد أكتوبر 2003 / النسخة العربية) بعنوان " الصدام الحقيقي للحضارات "، إذ استند مقال انغلهارت على فكرة رئيسة، وهي: أنّ صموئيل هانتنجتون في أطروحته حول صدام الحضارات قد أصاب نصف الحقيقة بأنّ الثقافة باتت أمراً مهمّاً بالنسبة للشعوب في العالم، وأنّ السمة الأساسية للصراع العالمي في المرحلة القادمة تكمن في الجانب الثقافي.
إلاّ أن المشكلة ليست كما ظن هانتنجتون مرتبطة بالقيم السياسية في العالم الإسلامي، فنتائج الاستطلاعات العالمية تظهر أن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة أصبحت قيماً مرغوباً فيها، ومطلوبة بشكل كبير في المجتمعات المسلمة، لكن المشكلة الحقيقية تتمثل في المعتقدات الأساسية لهذه الشعوب المرتبطة بالثقافة الاجتماعية.
ووفقاً لاستطلاعات رأي واسعة حللها انغلهارت؛ فإن الشعوب المسلمة أقل تسامحاً تجاه المساواة بين الجنسين، وحقوق المرأة، والعلاقات الجنسية، وحقوق المثلين، بعبارة أخرى: فإن الصدام الحقيقي للحضارات هو صدام حول المفاهيم الجنسية السائدة في الحضارات، والتي تعكس التباين القيمي الحقيقي في المعتقدات الأساسية.
وبعد أن ربط انغلهارت بين مستويات الإصلاح الثلاثة: السياسي والاقتصادي والثقافي، أكد على أن التحولات الاقتصادية بالتحديد ستؤدي دوراً مهمّاً في التغيير الثقافي المنشود، ووصل في نهاية مقاله إلى استنتاج رئيس وهو: أن الوصول إلى الديمقراطية من خلال الإصلاحات المطلوبة والضغوط الأمريكية أمر ممكن، لكن الحفاظ على الديمقراطية هو الأمر الصعب، وبالتالي فإنّ " الالتزام الحقيقي بالإصلاحات الديمقراطية سيتم قياسه بالرغبة في تخصيص الموارد الضرورية لتعزيز التنمية البشرية في العالم الإسلامي، إنّ للثقافة تأثيراً دائماً على الكيفية التي تتطور بها المجتمعات، ولكن لا يمكن للثقافات أن تكون القدر المحتوم لهذه المجتمعات "، والمسكوت عنه في مقال انغلهارت السابق هو أن الإصلاح الأمريكي المطلوب يرتبط بتغيير ثقافي شامل وجذري في العالم الإسلامي.(18/182)
إنّ قراءة المقال السابق بشكل جيد تضعنا - في رأيي الشخصي - على الطريق الصحيح في فهم الإصلاح الثقافي المطلوب؛ إذ أن الجهود والرؤية الأمريكية لا تتوقف عند حدود القيم السياسية، وإنما تتعداها كما هو واضح في مشروع " الشرق الأوسط الكبير " إلى المرأة وتحديث المجتمعات، والتغير في مناهج التعليم، ودور الانترنت والمجتمع المدني والفئات المختلفة في المجتمعات العربية.. إلخ.
من ناحية أخرى فإن التحولات السياسية والاقتصادية تجلب معها القيم الاجتماعية المرتبطة بها، والمكونة من مفاهيم حاكمة على تصورات الإنسان وسلوكه الاجتماعي والأخلاقي، والحرية المقصودة بالدرجة الأولى هي الحرية الشخصية والاجتماعية وليست السياسية، والناظر في المجتمعات العربية التي دخلت في طور الخصخصة واقتصاد القطاع الخاص يجد تغيراً ملحوظاً في الثقافة الاجتماعية، خاصة لدى فئات الشباب والعنصر النسائي، مع ولوج المرأة إلى سوق العمل والأماكن المختلطة إلى فترات ممتدة إلى الليل، أو مع تنشيط قطاع السياحة والخدمات العامة، ناهيك عن دور الإعلام المرسوم بدقة لتحقيق هذه الأهداف كما سيأتي لاحقاً.
إن تكامل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية المطلوبة أمريكيّاً في المجتمعات المسلمة يعني خلق بنى اجتماعية تحمل تصورات ثقافية متأثرة بشكل كبير بالنموذج الأمريكي في نظرتها إلى الحياة والمجتمع، وفي سلوكها الأخلاقي، وهذا الجانب من التأثير والهيمنة أخطر بكثير من الجانب العسكري المباشر، وهو الذي أطلق عليه الخبير الأمريكي جوزيف ناي مصطلح " القوة الناعمة " The Soft Powe صلى الله عليه وسلم
المشروع الأمريكي الطموح في الإصلاح الثقافي، وفي نشر النموذج الأمريكي في المجتمعات المسلمة والعربية ليس جديداً على الدبلوماسية والمؤسسات الأمريكية؛ بل هو امتداد للحرب الباردة الثقافية، التي بدأتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ضد الاتحاد السوفيتي، ولكن هذه المرة ضد العدو الجديد وهو الحركات الإسلامية في حرب باردة ثقافية ثانية The Second Cold Wa r كما أشار إلى ذلك عدد من المفكرين الأمريكيين (في وصف الحرب مع الحركات الإسلامية).
بناء على ما سبق؛ فإن الدبلوماسية الأمريكية بدأت بالفعل بالتوجه إلى المجتمعات العربية والمسلمة من خلال العديد من آليات العمل: البعثات الدراسية لنخب من المثقفين العرب، نشر الكتب والمجلات الأمريكية باللغات المحلية، دعم مؤسسات المجتمع المدني التي تتبنى القيم الليبرالية وتنشرها كمراكز الدراسات، ومراكز حقوق الإنسان، دعم الحركات النسوية ذات الطابع الليبرالي، والتركيز على النساء في عملية الإصلاح المطلوب، تعزيز التبادل الثقافي والمنح التي توجه إلى المثقفين والسياسيين لزيارة الولايات المتحدة، دور المنظمات غير الحكومية في تنشيط المجتمع المدني باتجاه التغريب، تقوية الارتباط بين عدد كبير من أصحاب الرأي والكتاب والمثقفين والصحفيين وبين المؤسسات الأمريكية، وتوزيع الجوائز والرشاوى المغدقة عليهم.
يضاف إلى ما سبق إنشاء مؤسسات إعلامية تنشر الثقافة الأمريكية، وتتبنى رؤيتها السياسية في المنطقة، كإذاعة " سوا " وقناة "الحرة"، وعدد من المجلات المختلفة، بيد أن الغريب والملفت حقاً للانتباه في الفترة الأخيرة هو الدور المشبوه والخطير الذي تقوم به عدة محطات فضائية عربية ذات أصول تمويلية معروفة ببث برامج شبابية خطيرة جدّاً، تتضمن وجود مجموعة من الشباب والفتيات في منازل مشتركة لفترات طويلة تستمر إلى شهور يعيشون معاً، وتذوب بينهم الحواجز، ويصل الأمر إلى حد ممارسات لا أخلاقية ضمن البرامج، وهذه البرامج وجرأة الإقدام عليها وتماهيها مع المشروع الأمريكي - بالنسبة لي - محير، ويدفع إلى البحث والتفكير حول مُعدي هذه البرامج وأهدافها وخطورتها، وأنا أشير هنا إلى برنامج يقدم على قناة أل LBC بعنوان " ستار أكاديمي "، وبرنامج يقدم على قناة MBC الثانية بعنوان " الأخ الأكبر "، والغريب أن هناك فتيات خليجيات في البرنامجين على الرغم أن المجتمعات الخليجية مجتمعات محافظة، كما أن البرنامج الثاني يصور في دولة البحرين مما أثار مشاكل كبيرة هناك (انظر: صحيفة الحياة: الأخ الأكبر" ينذر باستجواب وزير الإعلام البحريني، 25 /2/2004)، وكل هذا وذاك يدفع إلى أخذ مسألة التحول الثقافي بمنتهى الجدية.
وبعد،..
هل ستنجح الولايات المتحدة في تنفيذ مخططاتها في المنطقة؟ وهل ستتمكن من المضي قدماً في التأثير على المجتمعات العربية والمسلمة؟ في المقابل هل نرفض الإصلاح العام؛ لأن الولايات المتحدة تطالب به؟
بالتأكيد إن المرحلة القادمة خطيرة وحرجة، وتتطلب وعياً من نوع خاص وعلى مستوى عال من أهل الفكر والثقافة والحركات والمؤسسات الإسلامية، وتتطلب أيضاً مراجعة جذرية وحقيقية لخطابنا الإسلامي وكثير من مفرداته، وكذلك الأمر أدواته ولغته ومنهج مخاطبة الناس، فلا يكفي نقاء الفكرة كي تصل إلى الناس فلا بد من توخي الحكمة من خلال اللغة والأسلوب وأدوات الخطاب المختلفة.(18/183)
إن فهم المشروع الأمريكي وأهدافه ومنطقة وأدواته سيساهم بشكل كبير في إدراك منهج التعامل معه، وهذا يقودنا إلى مطالبة المؤسسات الإسلامية البحثية بتشكيل فرق عمل لتقدم خططاً استراتيجية عملية ومنهجية للتعامل مع تحديات المرحلة والمستقبل القريب التي تواجه الأمة المجتمعات المسلمة، وبدون هذه الخطط سيبقى الجميع كحاطب ليل!.
وخطورة الجانب الثقافي والاجتماعي في المشروع الأمريكي أنه يتحرك على نفس الأرض التي ينطلق منها المشروع الإسلامي؛ أي المجتمعات والإنسان المسلم، وبالتالي يسعى الساسة الأمريكان إلى نقل ميدان المعركة إلى الحصون الداخلية وإلى الجانب الأخطر المتعلق بالبعد النفسي والفكري، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تفكير عميق وطويل، وقراءة متأنية قبل صوغ خطط العمل المطلوبة.
http://www.islamtoday.net المصدر:
==============(18/184)
(18/185)
الشرق الأوسط الكبير .. مصطلح جديد للهيمنة الأمريكية
إسلام مصطفى
كان تنفيذ الرئيس الأمريكي جورج بوش قراره بغزو العراق في مارس 2003 نقطة الانطلاق نحو إعادة احتلال ليس فقط الأراضي العراقية - كما هو حاصل الآن - وإنما احتلال أو لنقل إعادة احتلال الأراضي العربية في مجملها، وربما يضم أيضاً أراضى لدول إسلامية أخرى أصبحت شوكة في ظهر الإدارة الأمريكية تود الخلاص منها، كما كان ذلك نقطة انطلاق نحو تمكين الكيان الصهيوني من بسط إرادته ونفوذه على ثروات العرب، وذلك فيما كشف عنه بوش مؤخراً في رغبة أميركا في إقامة ما أسماه بـ"الشرق الأوسط الكبير"، واتخذت هذه الرغبة شكل(المبادرة) التي لا هدف لها - كما يدعى بوش - سوى إحداث نقلة نوعية لمنطقة الشرق الأوسط للانتقال من عهود الديكتاتورية إلى عصور الحرية والديمقراطية وهو الشق الأول لمبادرة بوش، وكذلك تمكين الشعوب من التحكم في ثروات بلادها وهو ما يسميه بالرخاء الاقتصادي للمنطقة وهذا هو الشق الثاني في مبادرته.
بوش يمهد للمبادرة:
في بادئ الأمر حاول بوش التمهيد لطرح الأفكار الأمريكية المجهزة لمنطقة الشرق الأوسط مسبقاً فقال: إن المنطقة بحاجة إلى إجراء تغييرات جذرية، وإن الإدارة الأمريكية ستقوم بذلك لتحويل المنطقة إلى منطقة فعالة تساهم في بناء الحضارة المعاصرة، وحتى يحدث ذلك لابد من تغيير شقين أولهما: تغيير الأنظمة الديكتاتورية في البلاد العربية، وإجراء إصلاحات سياسية في البلاد الأخرى لتدعيم أسس الديمقراطية، وثانيها: تحقيق الرخاء الاقتصادي لشعوب المنطقة التي عانت الكثير من سيطرة طبقة فاسدة على ثروات بلادهم، حتى أن وزير خارجية أميركا لم يُخف ذلك، وقال صراحة في أحد المؤتمرات - التي عقدت لتبرير الحرب على العراق - إننا نهدف إلى تغيير خريطة منطقة الشرق الأوسط.
ثم لم يلبث أن أصبح الأمر جدياً ولم يعد بحاجة إلى التريث والتمهيد، فانتخابات الرئاسة الأمريكية لم يبق على إجرائها سوى بضعة أشهر، وكان إعلان الرئيس الأمريكي في خطاب له عن نيته في إقامة منطقة تجارة حرة أمريكية شرق أوسطية تضم (الكيان الصهيوني، البلاد العربية، إيران، أفغانستان، وباكستان)، ولذلك سميت منطقة تجارة حرة شرق أوسطية وليست عربية خالصة لتضم في ذلك الدول التي ترغب أميركا في إدخالها الحظيرة الأمريكية الكبرى، كما أنها ليست عربية أيضاً لتضم الكيان الصهيوني ولتفرضه على البلاد العربية، وعدد بوش الفوائد التي ستجنيها الدول العربية من إقامة مثل تلك المنطقة التجارية الحرة من تبادل للسلع، ورفع الحواجز الجمركية على واردات البلاد العربية وهكذا، وبالفعل هللت الدول العربية فرحاً بهذا الاقتراح، كما أن الأوساط السياسية لدى الكيان الصهيوني لم تصدق أن الحلم بدأ يأخذ طريقه للتحقيق بأيدي حليفتها الكبرى أميركا، إلا أن بوش لم يقنع بذلك، وبدأ يخطط لإعلان الرغبة الأمريكية المسلحة وهى تغيير خريطة الشرق الأوسط اقتصاديا وسياسياً، وزادت الضغوط بسبب قرب انتخابات الرئاسة الأمريكية ما جعله يعلنها على الملأ برغبة أميركا في إقامة ما يسمى بـ"الشرق الأوسط الكبير" وهو الحلم المشترك الأكبر للصديقتين أميركا وإسرائيل وذلك عن طريق إقناع الدول الكبرى التي تمثل الدول الصناعية الكبرى في العالم - وهم سبع دول - بضرورة الاتفاق على التكاتف من أجل إجراء هذا التغيير في المنطقة، وإقامة الكيان الجديد، وقرر بوش أن يقنع زعماء الدول الصناعية الكبرى بالرغبة الأمريكية وذلك في اجتماع تحتضنه أميركا في يونيو المقبل في إحدى الولايات الكبرى.
تقرير التنمية البشرية:
استند بوش في البناء الدرامي لمبادرته إلى تقرير التنمية الإنسانية لعامي 2002، 2003 والخاص بالعالم العربي، لكنه اختار - بلا شك - منه ما يناسب مبادرته، ومع أن تقرير التنمية - الذي تصدره الأمم المتحدة - يشير إلى أن الاحتلال الصهيوني عائق أساسي أمام التنمية في العالم العربي، إلا أن المخطط الأمريكي عمد إلى إغفال هذه النقطة في طرحه للمبادرة، ولعل بوش حين بدأ خطابه الخاص بإعلان المبادرة أراد أن يمارس دوراً كبيراً يمثل من خلاله دور الساحر الذي بعصاته السحرية يستطيع إنقاذ العالم من المعضلات المهنية التي يغرق فيها، فقال: إن مجموع الإنتاج المحلى الإجمالي لكل البلدان العربية أقل مما هو في أسبانيا، واستخدام شعوبها للإنترنت أقل من استعمال شعوب أفريقيا الواقعة إلى جنوبي الصحراء"، ثم استدرك قائلاً:" إلا أن للعالم العربي تقاليد حضارية عظيمة لكنها مفقودة في مجال التقدم الاقتصادي".(18/186)
وعدد بوش ما جاء في التقرير السنوي للتنمية الإنسانية الذي تطرق إلى الممارسات الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وممارسة الحريات العامة في هذه البلدان، وحق الفرد من التعليم، ثم عاد بوش مرة أخرى للضغط على هذا الوتر الحساس عقب احتلاله للعراق، وأعلن رغبته في طرح مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" على مجموعة دول الثمانية في يونيو المقبل، وحدد ورقة عمل يقدمها للمجموعة على أنها ضرورية للمنطقة التي يجب تضافر الدول الكبرى لتنفيذ بنودها، وقسم أولويات العمل فيها إلى:
1- تحقيق الرخاء الاقتصادي: وبذلك خرجت المخططات الأمريكية المعدة مسبقاً إلى حيز التنفيذ في أوائل العام 2004 ليبدأ معه عام الشرق الأوسط الكبير بعد انتهاء العام العراقي باحتلال أراضيه في 2003م، إذن تضمنت الورقة الأمريكية خططاً طويلة المدى لتغيير بناء منطقتنا لعل بدايتها كان في العراق الشقيق الذي وقعت على أراضيه الأقدام المدنسة في مارس 2003 م، ولم تخرج منه حتى الآن، وتستمر الخطة حتى 2013 كما أريد لها.
كما جاء في مبادرة بوش الخاصة بتحقيق الرخاء الاقتصادي للمنطقة فإن الخطة تتطلب عقد اتفاقيات ثنائية عربية أمريكية تمهيداً لإتمام إنجاز هذه المنطقة التجارية الحرة الكبرى حتى عام 2013، واشترط بوش على الدول العربية التي ترغب في إتمام مثل هذه الاتفاقيات ضرورة أن تتخذ خطوات إصلاحية مثل: محاربة الفساد وما أسماه بالإرهاب، وحماية الحقوق الفكرية، وتطوير أساليب العمل التجارية فيها، تحرير اقتصادياتها، وإصلاح السياسات والمؤسسات الاقتصادية في أنظمتها، وتحرير اقتصادها بما يسمح بتنمية دور القطاع الخاص، وبما يعزز من فرص تدفق رؤوس الأموال الأجنبية - ومنها بالطبع أموال الكيان الصهيوني - إلى البلاد العربية، وبالتالي أصبح على الدول العربية أن تبذل جهوداً مضنية لتحقيق الرغبة الأمريكية، وتوفير المناخ الملائم للاستثمارات الأجنبية، وتدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى البلاد العربية، حتى أن مسئولاً عربياً كبيراً صرح لصحيفة عربية قائلاً: "إن ضغوطاً كبيرة تمارس حالياً على الأنظمة العربية لتنفيذ مناطق التجارة الحرة معها، وتحديد أوليات بدء موعد المفاوضات حسب مدى استجابة هذه الدول لطلبات الولايات المتحدة الأمريكية، والخاصة بالملفات الساخنة مثل: العراق، والسودان، ومكافحة ما تسميه الإدارة الأمريكية بالإرهاب، وتعديل أو تغيير البرامج الدينية، والمناهج التعليمية، وتوسيع نطاق الديمقراطية، القضاء على الفساد والرشوة والبيروقراطية في الجهاز الحكومي لكل بلد.
كما تشترط الخطة السماح لرؤوس الأموال الصهيونية بتمويل المشروعات العربية والمساهمة فيها، أو إدماج الكيان الصهيوني في بوتقة المنطقة الكبرى، وهو الهدف الذي تسعى الإدارة الأمريكية من أجله، ويؤكد الخبراء والمحللون أن اتفاق التجارة الحرة الأمريكية الشرق أوسطية تضمن شرطاً لم يعلن، واكتفت الدوائر السياسية الأمريكية بتداوله سراً، يقضى بأن يكون الكيان الصهيوني طرفاً أساسياً في أي تبادل تجارى حر بين دول منطقتنا وأميركا، حيث وضعت أميركا إلى جانب الشروط السابقة المعلنة - صراحة - لإبرام الاتفاق شرطاً مجحفاً يتعلق بمكونات السلع التي يسمح بدخولها إلى السوق الأمريكي، هو ضرورة أن تشمل هذه السلع على مكونات إنتاج صهيونية المنشأ بنسبة 13% على الأقل وإلا تم حظر دخولها.
بنود المبادرة تتضمن الورقة الأمريكية التي ستطرح على دول مجموعة الثماني الصناعية والتي تشمل المبادرة الاقتصادية، مصادر التمويل لإعادة بناء الشرق الأوسط على الطريقة الأمريكية، حيث تشمل بعد إجراء تغييرات هيكلية في المؤسسات والأنظمة الاقتصادية تفعيل دور القطاع الخاص، وتخفيف قبضة الحكومات في البلاد العربية عن الشركات العامة، بل وبيعها جميعها إلى القطاع الخاص فيما يسمى حالياً بـ"الخصخصة"، وتشجيع دخول الاستثمارات الأجنبية مع توفير البيئة المناسبة لها، وتكوين مبادرة تمويل النمو " مؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير "، وبنك تنمية الشرق الأوسط الكبير، وذلك لتمويل المشروعات الصغيرة، وتفعيل دور القطاع الخاص ومساعدته في مشروعاته.
إذن الورقة الأمريكية تطرح مفهوماً بديلاً وكياناً جديداً للمنطقة تسميها منطقة الشرق الأوسط الكبير والذي يضم بالإضافة إلى الدول العربية، الكيان الصهيوني، إيران، تركيا، أفغانستان، وباكستان، ولعل ما شاهدناه في أفغانستان ثم العراق لدليل قاطع على بدء تنفيذ المخطط الكبير للمنطقة التي بقيت المنطقة الوحيدة التي لم تتدخل فيها أميركا بشكل فعلى لإقامة كيان جديد يتعامل مع النظام العالمي الجديد الذي تجلس فيه أميركا على رأسه متفردة بمقعد واحد تشير يميناً ويساراً فيتم تلبية ما تريد، لكن أين وضع الكيان الصهيوني من المخطط؟!(18/187)
الكيان الصهيوني طرف أساسي، تتضمن ورقة العمل أو المبادرة الأمريكية لإقامة منطقة حرة (شرق أوسطية - أمريكية) إقامة تعاون وثيق بين الكيان الصهيوني والدول الشرق أوسطية، فمع تحرير الاقتصادات العربية والإسلامية في المنطقة يصبح حرية تدفق الأموال اليهودية إلى البلاد العربية والإسلامية أمراً يسيراً، ولذلك هللت الأوساط السياسية والأحزاب السياسية لدى الكيان الصهيوني طرباً وفرحاً بهذه المبادرة، وعند نجاح المخطط الأمريكي يصبح من حق الأموال الصهيونية التدفق إلى البلاد العربية والمساهمة في مشروعات عربية، بل وإقامة مشروعات صهيونية خالصة على الأراضي العربية، كما أن هذه المبادرة أو هذا المخطط - في حال نجاحه - يقضى على المقاطعة العربية للمنتجات الصهيونية تماماً، لأن كما سبق وذكرنا - من شروط إقامة مناطق تجارة حرة مع الكيان هو أن تحتوى على مكونات صهيونية بنسبة 13%، كما أن المنطقة الحرة تعنى حرية تبادل السلع بوضع متكافئ يحق فيه للكيان الصهيوني تصدير منتجاته إلى البلاد العربية والعكس، وبالتالي يتم صهر الكيان الصهيوني في بوتقة العالم الإسلامي والعربي، ومع توفير البنية اللازمة والظروف والمناخ الملائم، والقضاء على الفساد والإرهاب، يصبح الكيان الصهيوني جزءاً لا ينفصل عن العالم الإسلامي والعربي، لكن كيف يتم ذلك؟ وكيف تنجح المخططات الأمريكية الصهيونية مع وجود مثل هذا "الإرهاب" الفلسطيني - المقاومة الفلسطينية - كما تقول أميركا؟
وفي هذا الإطار تقول كونداليزا رايس: إن"منطقة الشرق الأوسط تعانى تخلفاً مرده إلى ما يسميه أبرز المثقفين العرب بـ"الافتقار إلى الحرية السياسية والاقتصادية"، حيث يتحول الإحساس باليأس لدى فئات كثيرة إلى أرض خصبة للأيديولوجيات التي تقنع الناس بترك التعليم، والعمل، والعائلة كى يفجروا أنفسهم آخذين منهم أكبر عدد ممكن من الأرواح"، ومن هنا لابد لإنجاح مثل هذا المخطط (الأمريكي الصهيوني) القضاء على المقاومة الفلسطينية نهائياً، وهنا تبرز الحاجة - دائماً - إلى قيادة فلسطينية ترضى بالمخططات الأمريكية، وتقنع ببيع وطنها غير عابئة بذلك، ومن هنا نجد الضغط المتزايد في الأوقات الراهنة لطرد أو إقصاء زعماء فلسطينيين، والضغط لقبول قيادات أخرى تقبل بالشروط الأمريكية، وتذعن لرغبات الكيان الصهيوني.
ولكن.. أين العرب؟
ترحيب عربي لم يتغير، الموقف العربي حيال المخططات أو فيما يسمى بالمبادرات الأمريكية - فقد قوبلت المبادرة لإقامة منطقة تجارة حرة أمريكية شرق أوسطية بالترحاب والتهليل، ورأت الأوساط الاقتصادية والسياسية في البلدان العربية هذه المنطقة فرصة جادة لجذب الاستثمارات الأجنبية، ورفع معدل التنافس في أسواق المنطقة، كما أنها فرصة لزيادة الصادرات العربية إلى السوق الأمريكي الذي يعد من أكبر الأسواق العالمية كقوة شرائية، ولم تنتبه الأنظمة العربية إلى حقيقة أهداف المخطط الأمريكي الصهيوني.
http://www.yafa-news.com المصدر:
=============(18/188)
(18/189)
الشرق الأوسط الكبير
توفيق محمد
انشغل العالم العربي مؤخراً بكليته في مناقشة المبادرة الأمريكية المسماة « الشرق الأوسط الكبير »، والتي تدعي أمريكا أنها أعلنت عنها بهدف إجراء إصلاحات ديمقراطية وسياسية ومجتمعية واقتصادية في دول الشرق الأوسط (العربية ودول جنوب شرق آسيا) أي الدول الإسلامية.
ومن أبرز المحاور التي تركز عليها المبادرة الأمريكية حسبما ذكرت صحيفة الأهرام المصرية:
- بناء مجتمعات واعية ومؤسسات غير حكومية، وتكثيف التعاون مع منظمات شعبية تكرس جهودها للإصلاح الاقتصادي، ودعم الحريات العامة، وفي هذا السياق تعد أمريكا هذه المنظمات بالمساعدات اللازمة.
- توفير الدعم والتمويل اللازمين لعمل المنظمات غير الحكومية.
- حث حكومات المنطقة على السماح بعمل المؤسسات المستقلة، وتجنب فرض قيود عليها، أو التدخل في شؤونها.
هذا إلى جانب المحاور الأخرى التي تتحدث عن الديمقراطية والحريات والإصلاحات السياسية والاقتصادية.
الذي يلاحظ البنود أعلاه يكتشف أن المبادرة الأمريكية تسعى إلى نقل مقاليد السلطة في دول الشرق الأوسط إلى المنظمات الشعبية والأهلية التي تتعهد أمريكا بتوفير الدعم والإمكانيات اللازمة لها، وإذا علمنا أن أمريكا ومجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى - التي ستكون شريكاً في هذه المبادرة، حيث من المتوقع أن تتبنى هي وأمريكا القمة التعليمية التي اقترحتها أمريكا للشرق الأوسط، والتي تهدف إلى بحث إدخال إصلاح للعملية التعليمية في الدول الإسلامية والعربية، بمعنى تغيير المناهج الإسلامية -، إذا علمنا أن هذه الدول تشترط أن تتبنى المؤسسات والجمعيات الأهلية والشعبية سياستها المجتمعية والاقتصادية فسوف نعلم أن مجموعات حملة الشهادات العليا الذين تربوا في أمريكا ضمن بعثات تعليمية أمريكية وأوروبية مجانية هم الذين سيقودون هذه المؤسسات والجمعيات التي ستقود المجتمع العربي وفق المنظور الأوروبي والأمريكي، ووفق مفاهيمهم التي تتناقض كلياً ومفاهيم العالمين العربي والإسلامي.
فإذا كانت مصر قد تجرأت على محاكمة مثيلي الجنس وعبدة الشيطان في مرحلة سابقة ثم عدلت عن ذلك، فإنها حسب المفاهيم الجديدة التي تطلق الحريات على علاتها لن تقدم على ذلك (ومصر نموذج لمجموعة الدول العربية والإسلامية)، وإذا كانت مصر قد تجرأت على محاكمة سعد الدين إبراهيم - مدير مركز ابن خلدون للأبحاث بتهمة التجسس لإسرائيل ولأمريكا ثم عدلت عن ذلك بعد الضغوط من الطرفين المذكورين؛ فإنها لن تقدم على مثل هذه الخطوة مستقبلاً لأن أمثال سعد الدين وأمثال مثيلي الجنس هم الذين سيقودون العالم العربي والإسلامي مستقبلاً حسب الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط العربي، وستصبح الموارد المالية بأيدي هؤلاء المدعومين أمريكياً بكل الإمكانيات المالية والفنية، وستصبح الحكومات العربية مقاولاً فرعياً لدى هذه الجمعيات والمؤسسات.
وواضح جداً أن الديمقراطية التي تسعى أمريكا إلى إنزالها على دول الشرق الأوسط من المفروض أن تفرز أنظمة تتوافق مع الرؤية الأمريكية للمنطقة وليس على رؤية شعوب المنطقة لطبيعة الأنظمة التي تود تلك الشعوب أن تحكمها، فماذا لو أفرزت الانتخابات الحركات الإسلامية لقيادة الدول العربية كما حصل في الجزائر عام 1989 أين ستقف أمريكا وأوروبا في هذه الحالة؟ أليس في الجانب الذي وقفت فيه لما انقلب العسكر في الجزائر على إرادة الشعب؟ وفي تونس لما كاد يصبح المفكر الإسلامي الأستاذ راشد الغنوشي رئيساً للدولة فانقلب عليه وعلى حركته ربيب (السي آي إي) زين العابدين بن علي هو وزمرة العسكر فنفوه حيث يعيش اليوم لاجئاً سياسياً في لندن، وشردوا جماعته، وسجنوا من بقي منهم، وماذا لو أفرزت الانتخابات أغلبية إسلامية في مجلس النواب فقام النظام بتغيير نظام الانتخاب لتحجيم التمثيل الإسلامي في المجلس كما حصل في الأردن؟ وماذا مع استمرار منع الحكومة المصرية لجماعة الإخوان المسلمين من المشاركة السياسية، واعتبارها خارجة عن القانون رغم مبادرات المصالحة العديدة والمتكررة التي أعلنتها الجماعة مع النظام؟.
وبالإجمال فإن أمريكا تسعى أن تفرز الديمقراطية التي تريد تفصيلها لدول الشرق الأوسط أحزاباً وقادة يعملون وفق رؤيتها المجتمعية والقيمية والسياسية، ولأجل هذا الغرض عملت أمريكا خلال السنوات الماضية على تدريب وتدريس أعداد لا بأس بها من المثقفين العرب ضمن بعثات تعليمية مجانية في جامعاتها حيث لقنتهم أسلوب الحياة الأمريكية، ومجموعة القيم الأمريكية التي تتنافى كلياً مع مجموعة القيم العربية والإسلامية، وهؤلاء هم المعوّل عليهم أمريكياً لقيادة المنطقة العربية والشرق أوسطية في المرحلة القادمة، ولهم يتم تمهيد السبيل والطرق لاستلام زمام الأمور في الدول العربية والإسلامية تحديداً.(18/190)
والمفارقة العجيبة في هذا الشأن أن المجتمع الأمريكي حسب غالبية الدراسات واستطلاعات الرأي هو مجتمع متدين، وليس سراً أن الرئيس الأمريكي وإدارته هم من المتدينين المتشددين، وعليه فقد أعلن مؤخراً عن نيته إلغاء قانون زواج مثيلي الجنس المعمول به في أمريكا (زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة) فلماذا يضغط على مصر لوقف محاكمة مثيلي الجنس عندها بينما يسعى الرئيس الأمريكي إلى إخفاء هذه الظاهرة من مجتمعه (وهي خطوة محمودة)، أم أن الديمقراطية و « الحريات » التي يراد إنزالها على رأس العالم العربي تختلف عن تلك التي تطبق في أمريكا؟، ولماذا تكون الإدارة الأمريكية إدارة متدينة بل الأكثر تديناً، وتشارك الأحزاب التي تخوض الانتخابات (كما في ألمانيا) تحت مسمى (المسيحيون الديمقراطيون) بكل صراحة بينما تمنع الأحزاب والحركات الإسلامية في الدول الأوروبية من هذا الحق؟
والذي نخلص إليه أن مشروع « الشرق الأوسط الكبير » الذي يحمل لافتة الديمقراطية والحريات والإصلاحات ليس إلا مشروعاً استعمارياً بل قل استخرابياً بثوب إصلاحي، مع تأكيدنا أن هناك حاجة ماسة بل وماسة جداً إلى أحداث إصلاحات جذرية في الأنظمة العربية تراعي نبض الشارع العربي، وقبل ذلك تراعي دينه وعقيدته الإسلامية السمحاء.
إصلاحات منذ هدى شعراوي!!!
وما يؤكد صدق ما ذهبت إليه هو تأكيد الرئيس المصري حسني مبارك أن الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة المصرية تعود إلى سنوات طويلة ترجع إلى عهد « الزعيمة النسائية هدى شعراوي في أوائل القرن العشرين »!!
وهدى شعراوي هي تلك الزعيمة!! النسائية المتحررة من الدين والقيم الإسلامية والعربية، والتي عبرت عن ذلك ودعت النساء إلى إتباعها يوم أن وقفت في ميدان التحرير في وسط القاهرة، وخلعت عنها حجابها وداسته بقدمها خلال مظاهرة نسائية في إشارة منها إلى التحلل من القيم الإسلامية، ومنذ ذلك اليوم أطلق على ذلك الميدان ميدان التحرير، ومن المؤسف أن رئيس أكبر دولة عربية - مصر الكنانة - التي يعتبر شعبها شعباً مؤمناً بالفطرة، ولديه أكبر تيار إسلامي أن يعتبر خطوة هدى شعراوي الانفصالية عن الخلق والأدب الإسلامي - بل قل العربي - خطوة إصلاحية، وواضح جداً أن الرئيس المصري - على جانب آخر - قد فهم مرمى «الإصلاحات» التي تريدها أمريكا للدول العربية ودول جنوب شرق آسيا (أي الإسلامية).
وليس سراً أننا مع رفضنا للمبادرة الأمريكية المسماة « الشرق الأوسط الكبير » نرفض الرفض العربي للإصلاحات التي يجب أن تنبع من صميم عقيدتنا الإسلامية، ومن حاجات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فالأنظمة العربية التي ترفض المبادرة الأمريكية ترفضها لأنها تعلم أن تاريخ صلاحيتها قد انتهى، وأن هناك مجموعات غير صغيرة ممن دربتهم وعلمتهم وأعدتهم أمريكياً جاهزون للانقضاض على عروشهم وكراسيهم خاصة وأن تبعية الأنظمة العربية الحالية بعد الذي حصل للعراق أصبحت أوضح من قرص الشمس.
ولذلك هناك حاجة ماسة أن تكون الإصلاحات والحريات المنتظرة في العالم العربي والإسلامي نابعة من صميم إرادة الشعوب العربية، ومحكومة لعقيدتها الإسلامية، وليس للإرادة الأمريكية الاستخرابية.
« صناع الحياة »
وما دمنا نتحدث عن الإصلاحات والنهوض بالأمة، ونطلق مبادرة مقابل مبادرة أخرى، فإنّا كأمة إسلامية نملك أجود المقومات وأحسنها، وباستطاعتنا أن نوفر كافة الإمكانيات للنهوض بالأمة الإسلامية من رقدتها، فنحن نملك نظاماً إسلامياً حكم الكون فأبدع قروناً طويلة، ونتمتع بإيمان عال أن تحلينا به فهو كفيل بأن يعيدنا إلى دور الريادة، ولا ينقصنا سوى الإرادة الصلبة والإيمان القوي لتحقيق ذلك، وكما قال صاحب برنامج صناع الحياة الأستاذ عمرو خالد: فإن الألمان لا يتفوقون علينا بشيء سوى الإرادة الكبيرة، والإيمان بالفكرة، وأن اليابانيين لا يتفوقون علينا بشيء سوى الإرادة الكبيرة والإيمان بالفكرة، فهؤلاء الشعبان استطاعا خلال ثلاثين عاماً بعد أن دكت قوات التحالف دولهم دكاً، ودمرتها شر تدمير، وألقت على مدينتي هيروشيما وناكازاكي القنابل الذرية، وسوت المدن الألمانية بالأرض، بعد كل ذلك استطاع الشعبان أن ينهضا خلال ثلاثين عاماً لتصبح دولهم من أكثر الدول تطوراً صناعياً واقتصادياً إن لم تكن أكثرها.
فلماذا لا نكون نحن المسلمين، ونحن الذين نملك كل المقومات اليوم مثلهم، وننهض كما نهض بنا في أزمان سلفت صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس، والعز بن عبد السلام، ومحمد الفاتح وغيرهم؟! هل ذلك مستحيل؟! أقول لا إذا توفرت الإرادة القوية والإيمان الكبير بالفكرة مع تجديد الدين في حياتنا.
وهي دعوة لنا جميعاً أن نراقب ونتابع «صناع الحياة » أيام الثلاثاء والجمعة للأستاذ عمرو خالد - حفظه الله -.
http://www.sawt-alhaq.comw المصدر:
============(18/191)
(18/192)
الشرق الأوسط ( الكبير ) رشوة جديدة لصانعي الرئاسيات
مطاع الصفدي
ربما لم يسبق أن احتلت انتخابات رئاسية مركز اهتمام عالمي شامل وقلق مثلما هو الأمر راهناً بالنسبة لمعركة البيت الأبيض ومن سيحتله لأربعة أعوام أخرى بدءاً من نهاية العام الحالي، ليس العرب والمسلمون وحدهم من يأتون في الصف الأول من المهتمين والمتوجسين - وهو وضع طبيعي ما داموا يشكلون الهدف الأول من استراتيجية المشروع الإمبراطوري الذي ابتدعه رجال بوش - وألزموا به دولتهم وربما لعهود رئاسية آتية سواء أتاها قائدها من أحد توأمي الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي.
فالعالم كله يتابع تطورات الترشيح للخصم الديمقراطي الذي سيقارع بوش، ويكاد التعاطف يغدو شبه إجماعي لدى أكثرية القادة - وخاصة في الغرب الأوروبي - بعد الشرق العربي في التمني لرجل مثل جون كيري في الإمساك بناصية الصراع ضد بوش وعصبته من غلاة المؤدلجين للبربرية الجديدة، وقد يكون هذا المرشح على مستوى التمني الدولي الذي يكاد يصير علنياً، وأقرب ما يكون إلى موقف سياسي مشترك تعتصم وراءه العلاقات الدولية من دون أية اتفاقات بين أقطابها، حتى أقرب حلفاء بوش من مثل بريطانيا وحكومتها العمالية لم تعد على استعداد للاستمرار في دور التابع الساذج لسيد البيت الأبيض، خاصة بعد أن انتقل هذا من موقع المهاجم الشرس إلى قفص الاتهامات الموجهة إليه من كل حدب وصوب داخل بلاده عينها، فإذا لم تكن أمريكا قد أمسكت بزمام قيادة العالم بعد كلياً، إلا أن تحولاتها السياسية الداخلية أضحت شأناً داخلياً وأساسياً لمعظم القوى الكونية صغيرها وكبيرها، وهذا التطور لا يضاعف فقط من مسؤولية الناخب الأمريكي الذي سيساهم صوته في الإتيان برئيس للمعمورة وليس لبلده فحسب، وإنما سوف يطالبه كذلك أن يكون على مستوى هذه المسؤولية، وأن يعي قيمة القرارات المتعلقة بسياسة بلاده الخارجية، وأثرها الحاسم في توجيه المصير الإنساني الشامل، فلا يكتفي فقط بوعود المرشحين التي تمس شؤون الحياة الداخلية وحدها - كما جرت العادة في مختلف الانتخابات الرئاسية، وحتى النيابية السابقة -.
لعل الناخب الأمريكي وفي المقدمة يأتي مثقفو اليسار واليمين كذلك من غير كتبة التقارير الحكومية الضالة المضللة لصانع القرار لعل هؤلاء أو بعضهم على الأقل أصبح يدرك أن الأسباب الحقيقية لأهم أمراض الاقتصاد المحلي هي على صلة وثيقة بما تفتعله حكومات بلادهم من أزمات دولية خارجية، وناجمة عن التدخلات في شؤون الدول الأخرى، وافتعال الحروب التي تكلف الدولة أعباء هائلة لا نفع من ورائها إلا لحفنة من تجار السلاح، وبعض الشركات العابرة للقارات، فالتوسع الأمريكي هو لمصلحة هذه الشركات وحدها، بينما تتحمل خزينة الدولة تكاليفها الباهظة التي يدفعها الشعب من الضرائب المتزايدة عليه، والمفروضة باسم الوطنية الزائفة، هذا النوع من التحليلات لم تعد غريبة عن التداول الإعلامي، وليس البحث الأكاديمي وحده، وقد غذت تكاليف حرب العراق واحتلاله الشواهد اليومية المحسوسة علي هذه الحقائق الصارخة المباشرة، ولم يعد بالإمكان إخفاء المطامع النفطية خاصة، وما يسمى بنفقات الإعمار، والعروض ذات الأرقام الفلكية التي تحوز عليها الشركات العملاقة القريبة من رموز السلطة، هذا بالرغم من أن مثل هذه السجالات والفضائح لم يجر استثمارها بصورة واضحة بعد في خطابات المرشحين المعارضين لبوش، لكنها أصبحت متداولة بما يكفي لتنبيه الرأي العام المتابع الذي يزداد باستمرار القطاع المهتم منه بقضايا السياسة الخارجية، والدور التدميري الخطير الذي تلعبه إدارة بوش في إثارته والحض عليه.(18/193)
هل يصحو أخيراً جمهور الناخبين؟ وهل يُنتظر لحملات المعارضة التي يتبارى في دعمها بالحقائق والأرقام المرشحون أن تطرح مشكلة الخداع السياسي ما هو أخطر منها على مستوى الأخلاق العامة للقادة التي تأتي في رأس التقاليد الاجتماعية، ونعني بها مشكلة الكذب الشخصي لمن يفترض فيه أن يكون ممثلاً للصالح العام والقيم على رعايته، ذلك موضوع آخر يتخطى العادات السيئة المعتادة للحياة الدبلوماسية، وما قد تسمح به من التلاعب التكتيكي تحت صيغة المناورات المقبولة إلى حد ما في ملعب العلاقات الدولية، شرط أن يظل فن المناورة ملتحفاً غطاء ما يسمى بالمصالح العليا للدولة الحديثة، غير أنه عندما تصل الأمور إلى حد انقلاب هذه المعادلة بحيث تبلغ المناورة مستوى الكذب والافتراء على مصالح الدولة ومعها مجتمعها لتحقيق أغراض شخصية تتعلق بالفئة الحاكمة وحدها عندئذ وفي هذه الحالة يغدو الكذب مضاداً تماماً لأبسط قواعد الشرعية القانونية، ولا بد أن يخرج مرتكبه من دائرة السياسة مهما كان علو مقاماتها، ليدخل تحت طائلة القضاء وأعرافه المبدئية، والسوابق في هذا السياق ماثلة في الذاكرة الجماعية، في الأمس القريب فقط أرغم الرئيس كلينتون على الاعتراف بالكذب حول علاقته بموظفة في البيت الأبيض، والقيام بمراسم الاعتذار العلني أمام الكونغرس والمجتمع في وقت واحد، رغم أن فعلة الرئيس بقيت أقرب إلى صفة الجنحة الشخصية، لكنها تنال بالطبع من خصال الرئيس المطلوبة في مقامه.
أما الإطاحة المدوية بالرئيس نيكسون فقد استحقها لا لكون الرئيس قد ارتكب خطأ سياسياً أضر بالمصلحة العامة المؤتمن عليها، بل لأنه كذب عندما أنكر معرفته بالتنصت على رجال الحزب المعارض له خلال تجديد رئاسته الثانية، وهنا كذلك تنهض المعصية الأخلاقية ما فوق قواعد اللعبة التنافسية المتعارف عليها قانونياً، فالحديث عن (غيت عراقي) لم يعد تمنياً مكتوماً بقدر ما أضحى موضوع الساعة إعلامياً حتى الآن.
هذا لا يبرئ (تقاليد) الكذب الأنغلو أمريكي أنه كان ملح الأيديولوجيا الاستعمارية التي ترثها أمريكا راهنياً عن جدتها بريطانيا العجوز مؤسسة الإمبراطورية الاستعمارية الأولى والكبرى في العصر الحديث، لكنه كان دائماً ذلك الكذب الموجه نحو خداع الآخر، المتمثل في عشرات الشعوب الآسيوية والإفريقية المغلوبة على أمرها، والمؤلفة لكيان تلك الإمبراطورية التي ينبغي ألا تغرب عنها الشمس، ما أن تمنح شرف الانضمام إلى تاج الإمبراطورية لتنعم بأفضل التمدين الإنكليزي، ونبالته الأسطورية.
فالكذب في حقبة الاستعمار التقليدي كان يتقنع بأيديولوجيا التمدين، ورسالة الإنسان الأبيض، كان كذباً أيديولوجياً موجهاً إلى الشعوب الأخرى، ومسوغاً لعبوديتها، لكن العهد البوشي يرتكب كلاً من الكذب الأيديولوجي والخداع الأخلاقي في وقت واحد، وهما موجهان إلى الداخل الأمريكي وإلى الخارج العالمي معاً أيضاً، هنالك بالطبع أولاً حجة أسلحة التدمير الشامل التي صورها بوش وعصبته للشعب الخارج من صدمة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر كما لو أن العراق سوف يصبها على رأسه، ولا يحتاج صدام حسين من أجل تحريكها إلى أكثر من خمس وأربعين دقيقة فقط، إنها الأكذوبة المسوغة والمولدة لأفظع شرور العالم ضد بعضه، وهي الحرب وفي شكلها الأشد بربرية عندما تكون عدوانا على شعب محاصر جائع لكنه متمسك بتراث أقدم حضارات الإنسان على هذه البسيطة، ثم أن الأكذوبة الكبرى تتساقط معالمها الواحدة بعد الأخرى، وتتهافت مبرراتها علي يد المحققين من مجتمعها بالذات، ويتم هذه المرة ضبط موروث الكذب الأنغلو أمريكي في أعلي جولاته وأخطرها، ولدى قطبيه الأعظمين بلير وبوش، ومن لندن وواشنطن تعصف سجالات الاتهامات الصارخة داخل الطبقة السياسية الحاكمة نفسها في الاستعمارين القديم والمعاصر.
في الماضي كان الكذب الأيديولوجي يرفع شعارات التمدين، وأصبحنا اليوم مرغمين على تصديق أيديولوجيا التحرير الديمقراطي تحت طائلة حروب الغزو والتدمير المنظم الشمولي للدول ومجتمعاتها وحضاراتها، وقد انتقل بوش وعصبته وهو في قفص الاتهام من التشبث بأكاذيب أسلحة التدمير إلى التغطية على كل تلك المرحلة البائسة وذلك بتوسيع أيديولوجيا التحرير الديمقراطي من شرق أوسط ينداح حول مستنقعي الاحتلال من فلسطين إلى العراق، لكي تشمل (شرقاً أوسطاً أكبر) يمتد من الأطلسي والمغرب إلى حدود الهند، كأنما لم يعد أمام بوش وعهده مهدداً بعدم التجديد - وبما هو الأسوأ أيضاً - إذ قد تفتح الهزيمة السياسية الطريق أمام القانون لمقاضاة (مجرمي الحرب) الذين كذبوا وخدعوا وورطوا شعبهم والعالم وشعب الضحية الأولى في العراق الشهيد المستديم، وكانت الورطة هي أكبر من مجرد خطأ في التقدير السياسي، وأشد فداحة من معصية الكذب اللاأخلاقي نفسه، لتصبح أخطر سلاح تدمير شامل حقاً وواقعاً، موجه إلى صميم عصر المدنية لكل الإنسانية، وردها إلى بربرية التقاتل العبثي من جديد في ظل إمبراطورية الجشع والنهب المعمم.(18/194)
ليس ثمة من تفسير لمفاجأة بوش الجديدة حول إعلانه عن مشروع "الشرق الأوسط الأكبر"، وتسريب نصه أولاً إلى إحدى الصحف العربية قبل سواها من غربية وحتى أمريكية سوى أنه نوع من الهجوم المعاكس الذي يلجأ إليه ويختلقه خيال سياسي مريض يصارع أشباح الهزيمة على مختلف الخطوط، بعد أن أمسى صاحبه محاصراً في قفص الاتهام، ومن قبل طبقته السياسية عينها من أحلاف أو منافسين، لكن أحداً من هؤلاء لن يرى في المشروع سوى أنه أكذوبة أخرى متطورة عن سابقاتها حول أسلحة التدمير و"التحرير الديمقراطي" للعراق والمنطقة، وكونها حلقة جديدة من السلسلة القديمة، وموجهة خاصة نحو الداخل، وفي أوج معركة الرئاسة، وخاصة نحو مؤسسة السلطة العليا لعله يغريها بل يوشيها بمساحة أوسع لامتداد إمبراطورية الغزو، والتي تعني في جوهرها الاستيلاء الشامل على مصادر الطاقة الأهم، واحتكارها عبر القارة العربية الإسلامية من الأطلسي والمغرب حتى حدود الهند، هل ينجح هذا الإغراء الوهمي بترجيح التجديد لبوش بنوع من تزوير آخر إجرائي أو سري فوقي، ويستمر حبل الكذب الأنغلو أمريكي بين إمبراطورية الماضي وإمبراطورية المستقبل المزعومة، لكن محاكمة العهد البوشي قد ابتدأت إعلامياً وانتخابياً وهذا له ما بعده.
http://www.alshaab.com المصدر:
===========(18/195)
(18/196)
نص المبادرة الفرنسية الألمانية للإصلاح في الشرق الأوسط
محمد جمال عرفة
أولاً- الأهداف:
1 - إن مستقبل منطقة الشرق الأوسط مصدر قلق مشترك نتقاسمه مع شركائنا في المنطقة والشركاء الأطلسيين، نحن على استعداد لدعم بلدان الشرق الأوسط وتشجيعها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إن كل مبادرة في شأن الشرق الأوسط ينبغي أن تلبي حاجات المنطقة وتطلعاتها، ونجاحها يتوقف بالدرجة الأولى على هذه البلدان، إن تطلعات المواطنين - وهم في غالبيتهم من الشباب - كبيرة، إذ إن نصف سكان المنطقة هم دون الثامنة عشرة، ويقضي التحدي الحقيقي بتعديل الوضع القائم على أساس شراكة صادقة وتعاون ورؤية مشتركة، إن الحكومات مثلها مثل المجتمع المدني شريكة في هذه المهمة.
2 - إن على الاتحاد الأوربي أن يستجيب لهذه الأمور، إذ إن لأوربا مصلحة كبيرة في التطور الإيجابي للمنطقة، فإلى جانب التحديات الأساسية للأمن، هناك الروابط الجغرافية والثقافية والاقتصادية والبشرية بين أوربا والمنطقة والتي تدفع بوضوح في هذا الاتجاه، ويمثل الالتزام الحالي للاتحاد الأوربي تجاه دول البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى والأوسط أولوية مركزية في إطار العمل الأوربي، وفي هذا الإطار عمل الاتحاد خلال الاجتماع الأوربي - المتوسطي "يوروميد" في نابولي والقمة الأوربية في بروكسيل في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، على تحديد إستراتيجية تخدم هذه المنطقة.
3 - اقترحت الولايات المتحدة أفكاراً في شأن "الشرق الأوسط الكبير"، وسبل مواكبة تحديثه، وإحلال الديمقراطية فيه، وعلينا أن نستقبل بإيجابية إمكان عملنا معاً، وتنسيق جهودنا، وينبغي على الاتحاد الأوربي أن يتطلع إلى شراكة عبر الأطلسي مع الشرق الأوسط، كما ينبغي عليه أن يحدد مقاربة مميزة تكمل مقاربة الولايات المتحدة، بالاستناد إلى مؤسساته الخاصة وأدواته.
ثانيا - مبادئ العمل:
- إن قوة الدفع ينبغي أن تأتي من المنطقة، إن كل الدول والمجتمعات المعنية عبرت عن حذر جماعي قوي في وجه أي محاولة لفرض "نموذج" من الخارج، سنعمل مع كل البلدان لاستجابة مطالبها فور الإمكان، عبر مشاركتها الوثيقة، وفي أبكر مرحلة ممكنة، علينا التحرك عبر الحوار والتحفيز مع الحكومات، وأيضاً مع المجتمعات المدنية بالالتصاق إلى أقصى قدر بحقائق كل بلد.
- لا بد من الأخذ في الاعتبار للمشاعر الوطنية وهوية كل بلد: ينبغي الحرص على تجنب مخاطر المقاربة الشديدة العمومية التي تغيب الخصوصيات الوطنية، وتصف الإسلام باعتباره غير قابل للحداثة، ولا بد بموازاة ذلك من حضّ البلدان المعنية على التعبير عن آرائها سواء في إطار الجامعة العربية، أو في المنتديات المخصصة لذلك، من أجل إشهار تطلعاتها.
- التزام على المدى البعيد: إننا منخرطون منذ سنوات عدة في هذا الالتزام، ونحن نعتبر شراكتنا بمثابة التزام بعيد المدى ودائم، إنها مهمة ستستمر عبر أجيال عدة.
- إستراتيجية الأمن الأوربية: إن مقاربتنا تستند إلى الإستراتيجية الأمنية الأوربية التي أقرها الاتحاد الأوربي في كانون الأول (ديسمبر) 2003م، وهذا سيشمل الأوجه السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك تشكيل مجتمع مدني.
النطاق الجغرافي:
إن هذه الشراكة ينبغي أن تكون مفتوحة أمام كل دول الشرق الأوسط، ونأمل بالانطلاق من المسارات القائمة مثل نهج برشلونة، والحوار المتوسطي، وعلينا تعميق علاقاتنا مع مجلس التعاون الخليجي.
قاعدة العمل:
إن تقارير برنامج الأمم المتحدة للتنمية تتضمن تشخيصاً جيداً، وتشكل بحد ذاتها برنامج إصلاحات، فالحاجة إلى تغييرات في العمق ملموسة عملياً في كل مكان، إن بلداناً عدة بدأت تنفذ إصلاحات ملحوظة، وتميل هذه الظاهرة إلى الاتساع حالياً، وعلى المستوى الإقليمي تتضمن المبادرة السعودية لكانون الثاني (يناير) 2003 اقتراحات إقليمية، وإصلاحات داخلية في كل من البلدان، وتشكل إلى جانب سواها قاعدة جيدة للمناقشة.
- فاعلية العمل المتعدد الأطراف: لا بد من السعي إلى فاعلية شاملة لعملنا من خلال تعبئة الهيئات المعنية، إن القيمة المضافة لكل من المنظمات والهيئات ينبغي أن تستخدم بأفضل السبل، ومنها خصوصاً الاتحاد الأوربي، والأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي في ما يخص قضايا الأمن والدفاع، إلى جانب المؤسسات المالية الدولية بالنسبة إلى قضايا التطور، إن كلاً من الاستحقاقات المقبلة (القمم الأوربية، قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى، القمة الأوربية الأمريكية، حلف شمال الأطلسي) ستقدم مساهمتها المحددة وتشكل مناسبة لإعطاء قوة الدفع الضرورية في المجالات المحددة.
- تعزيز التزام الاتحاد الأوربي: إن عمله ملحوظ من خلال نهج برشلونة (وبدرجة أقل الحوار بين الاتحاد الأوربي ومجلس التعاون الخليجي)، إن أدوات هذه الشراكة (اتفاقات الشراكة وبرنامج "ميدا" والحوار السياسي) تعمل منذ 8 سنوات، وتحظى بإمكانات مالية مهمة، إن هذا المكسب الأوربي ينبغي أن يطور ويتعزز.(18/197)
- مسيرة السلام في الشرق الأوسط: إن الإستراتيجية الأمنية الأوربية تشير إلى أن "تسوية النزاع العربي - الإسرائيلي تشكل أولوية إستراتيجية لأوربا، وفي غياب مثل هذا الحل لن تكون هناك أي فرصة لتسوية المشاكل الأخرى في الشرق الأوسط"، ولهذا السبب من الضروري إعادة إطلاق نهج السلام في الشرق الأوسط بالتوازي، من أجل التوصل إلى التسوية المنتظرة منذ مدة بعيدة لكل مسارات، ومن الضروري أيضاً إنشاء حكومة مسئولة وسيدة في العراق، إن أياً من هاتين المسألتين ينبغي ألا تعرقل تطوير شراكة على المدى الطويل، لكن لا يمكننا توقع النجاح الكامل ما لم تتقدم مسيرة السلام في الشرق الأوسط.
ثالثا - اقتراحات الحل:
على الاتحاد الأوربي أن يعد مقاربة ومساهمة مشتركتين.
1- مبادرة أوربية:
إن المبادرة الأوربية ستحدد في إطار القمم الأوربية، واجتماعات مجالس الشئون العامة والعلاقات الخارجية، هناك مساهمة مرتقبة من الأمانة العامة للمجلس والمفوضية، والمقصود بذلك زيادة جهودنا لتعزيز الأدوات القائمة والتي تستند إليها شراكتنا مع بلدان المتوسط وبلدان الخليج، بالتعاون مع بلدان أخرى من الشركاء.
2- مبادئ الاتحاد الأوربي:
- حوار سياسي وأمني في شأن السلام والاستقرار في المتوسط خصوصاً إجراءات ثقة.
- ديمقراطية وحقوق إنسان ودولة قانون وحرية إعلامية وحكم جيد.
- إصلاحات هيكلية في المجال الاقتصادي.
- تطور اجتماعي خصوصاً في مجال التعليم والمساواة بين الرجل والمرأة.
- دعم انبثاق مجتمعات مدنية، وتطوير تعبيرها وتطلعاتها.
3- أعمال الاتحاد الأوربي:
- إن نهج برشلونة يؤمن سلسلة واسعة من الأدوات الملائمة لتطبيق المبادئ المذكورة سابقاً، بعد التقدم الذي أحرز خلال القمة الأوربية المتوسطية في نابولي في كانون الأول الماضي: اتفاقات الشراكة، مشروع لمنطقة تبادل حر، برنامج "ميدا - 2"، تسهيل الاستثمار والشراكة الأوربية - المتوسطية (فيميب) وأسس أوربية - متوسطية جديدة من أجل الحوار بين الثقافات، إن هذه الأدوات تمزج بين الحوار السياسي والاقتصادي والاجتماعي على مستويات عدة بما في ذلك المستوى الوزاري، وتحظى بإمكانات مهمة يمكن أن تستخدم للحث على الإصلاح والتغيير، هذا الحوار يمكن أن يتعزز ويتوسع من خلال الجمعية البرلمانية الأوربية - المتوسطية المقبلة، وعلينا أيضاً الإعداد لمناقشة صريحة ومنفتحة في شأن تطبيق المكسب الذي تحقق في برشلونة.
- إن "مبادرة الجيران الجدد" أيضاً ستساهم في إعادة تنشيط علاقاتنا في المنطقة وفقاً لمبادئ الاتحاد الأوربي.
- سيكون من الضروري تكثيف الحوار السياسي مع مجلس التعاون الخليجي، وتسريع المفاوضات بشأن منطقة للتبادل الحر على أساس المبادئ المذكورة سابقاً، إن الوضع مختلف في دول الخليج ونظراً إلى ثروتها النسبية (باستثناء اليمن) فإن المشكلة لديها ليست التمويل، والتركيز ينبغي أن يتم على صعيد المهارة العملية والمساعدة التقنية التي تحتاج إليها هذه البلدان فعلياً.
- وعلى الاتحاد الأوربي أن يشجع ويدعم المبادرات من أجل التعاون الإقليمي الداخلي، ومنها على سبيل المثال تلك المتعلقة بالدول المتاخمة للخليج، بما في ذلك إيران والعراق، ومن شأن ذلك أن يشكل طريقة لبدء إحلال الثقة مثلاً من خلال إنشاء مائدة مستديرة تتناول مسائل الأمن العملية مثل المخدرات وتبييض الأموال وحماية البيئة البحرية أو حول مسائل المياه الإقليمية.
مسائل الأمن:
في مجال الأمن تقود المشكلات الخاصة لكل منطقة إلى اعتماد مقاربة مميزة في منطقة المتوسط (بما فيها الشرق الأوسط) والخليج، ويجب أن يبقى إطارا التعاون مع الاتحاد ومع حلف شمال الأطلسي مختلفين، ويلزم تطوير تبادل وجهات النظر في شأن مسائل الأمن والتعاون في منطقة المتوسط في منتديات الحوار بين الحلف الأطلسي والاتحاد.
* التحركات التي ينبغي للاتحاد الأوربي القيام بها:
- تكثيف المبادرات نحو حوار أكثر فاعلية في إطار "تعاون مرن ومفتوح على قاعدة التطوع".
- متابعة التحرك القائم في مجال محاربة الإرهاب، والانتشار النووي، ومكافحة الجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية.
- التفكير في إطلاق مشروع ميثاق سلام واستقرار في منطقة المتوسط متى يسمح الوضع في الشرق الأوسط بذلك.
في إطار الشرق الأوسط الأشمل يمكن للاتحاد أن:
- يعزز الحوار السياسي والأمن مع دول الخليج.
- إطلاق مبادرة تهدف إلى حض دول الشرق الأوسط ومواكبتها في اختبار هيكلية محلية للأمن يمكنها في مرحلة أولى أن تتناول تجنب النزاعات انطلاقاً من المواضيع التالية: عدم المس بالحدود وحمايتها، إجراءات الثقة والأمن، مكافحة الإرهاب وتهريب أسلحة الدمار الشامل، ومعاودة التفكير في المناطق الخالية من هذه الأسلحة.
- تنظيم ندوات إعلامية - تعبوية لدول المنطقة تتناول الدروس التي يمكن استخلاصها من سياسة منع النزاعات التي طورها الاتحاد الأوربي في مناطق أخرى (ميثاق الاستقرار في البلقان، تعزيز القدرات المحلية لحفظ السلام في أفريقيا على سبيل المثال).
فيما يتعلق بالقمم المقبلة:(18/198)
- قمة الجامعة العربية في تونس في 29 و30 آذار (مارس)، يجب أن تستخدم الرئاسة والممثل الأعلى والمفوضية اتصالاتهم مع الشركاء العرب (والاجتماع الوزاري مع الولايات المتحدة) من أجل تقديم وجهة نظرنا، والمساهمة في هذه العملية، واستطلاع مدى الاهتمام والتشجيع على المشاركة والمبادرة الذاتية، بهدف إصدار إعلان تونس الذي يؤكد التمسك بالمبادئ الأساسية (الإصلاح والديمقراطية والتحديث) التي تحكم هذه العملية.
- قمة مجموعة الثماني في سي إيلاند من 8 إلى 10 حزيران (يونيو).
توفر هذه القمة فرصة لإعطاء دفع سياسي بتبني "إعلان من أجل مستقبل مشترك"، وأن يأتي إذا أمكن كرد على إعلان يصدر عن قمة تونس العربية، ويجب على دول الاتحاد الأوربي الأعضاء في مجموعة الثماني أن تتحدث باسم شركائها في الاتحاد، ويصاغ نص هذا الإعلان السياسي في إطار اجتماعات وزارات الخارجية (اجتماع المديرين السياسيين في 11 آذار/ مارس، واجتماع وزراء الخارجية في منتصف أيار/ مايو)، ويمكن للإعلان أن:
- يشرح المنطق الذي قاد إلى هذه المبادرة.
- يبرز استناد المبادرة إلى خطوة جماعية.
- يشير - إذا أمكن - إلى قمة الجامعة العربية ويعرب عن تقدير إيجابي للجهود الإصلاحية التي بدأت في المنطقة.
- يستعيد الخطوط الأساسية للمبادرة الأمريكية (الشرق الأوسط الكبير) والاجتماعات الأوربية.
- يشير إلى أن أعضاء مجموعة الثماني مستعدون لتطوير التعاون كل وفق آلياته، على هذه الأسس مع الدول المهتمة، مع الإشادة بالجهود التي بدأها البعض.
- توجيه نداء إلى المنظمات المعنية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوربي...) لتقديم مساهمتها وفق هذه الأسس.
وفي إطار مواز يعمل خبراء وزارات الخارجية على اقتراح مشروع يأخذ في الاعتبار الاقتراحات الواردة في وثائق الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، ويمكن لهذه الأفكار أن تقدم إلى دول المنطقة في شكل اقتراح داعم لجهود الإصلاح القائمة، ويمكن تماشياً مع الطابع السياسي لإعلان القمة ضم اقتراح المشروع الأساسي إلى الإعلان نفسه بصفته خطة تحرك لمجموعة الثماني.
إن علينا تشجيع شركائنا الأمريكيين على تنظيم اجتماع لوزراء خارجية مجموعة الثماني مع نظرائهم من المنطقة على هامش قمة سي إيلاند، واجتماع منفصل مع جميع أو بعض قادة دول المنطقة، مما يبرز الطابع الجماعي للمبادرة، ويكرس في الوقت نفسه انضواء الدول المعنية في هذه المبادرة التي ستتحول عندها إلى شراكة حقيقية، مما قد يعني بشكل أو بآخر انطلاقتها الفعلية.
- قمة الاتحاد الأوربي - الولايات المتحدة (موعدها لم يحدد)
تندرج هذه القمة في إطار مبادرة مجموعة الثماني.
سنقدم موقفنا الأوربي خلال الاجتماع الوزاري (الأوربي - الأمريكي) على مستوى وزراء الخارجية الذي يعقد في مطلع آذار (مارس)، ونناقش مبادرتنا مع شركائنا في (يوروميد) خلال اجتماع في دبلن يومي 5 و6 أيار (مايو)، وسيوضح الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة عندها نقاط مقاربتهما، ويشيران إلى رغبتهما في إقامة حوار - كل بخصوص ما يهمه - مع الدول والمنظمات المهتمة، ويعلنان استعدادهما للتنسيق بشكل وثيق مع المبادرات المعنية بمنطقة الشرق الأوسط.
4 - يمكن وفق رؤيتنا المشتركة لحلف شمال الأطلسي أن يطلق في إستانبول سلسلة مبادرات تهدف إلى تعزيز حواره مع منطقة المتوسط، وأن يقدم إلى دول الشرق الأوسط اقتراحات في مجال الأمن.
http://islamonline.net المصدر:
=============(18/199)
(18/200)
الدكتور اللاوندي: في العصر الأمريكي .. لا مكان للأمم المتحدة!
حوار / السيد عبد الفتاح 18/4/1428
05/05/2007
الدكتور سعيد اللاوندي خبير العلاقات الدولية في حوار مع ( الإسلام اليوم) :
- الموساد الإسرائيلي أحكم قبضته على العراق.
- مشروع الشرق الوسط الكبير مؤامرة ضد العرب والمسلمين.
- تل أبيب هي المستفيد الوحيد من اغتيال الحريري.
- شارون لا يريد سلاماً مع الفلسطينيين.
- أحداث دار فور ليست بعيدة عن المشروع الاستعماري الأمريكي.
أكد الدكتور سعيد اللاوندي خبير العلاقات السياسية الدولية أن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تتبناه الولايات المتحدة ما هو إلا مؤامرة أمريكية إسرائيلية ضد العرب والمسلمين، وأنه يهدف إلى تذويب الهوية العربية والإسلامية للمنطقة وتحويل العرب إلى أقلية في المنطقة. كما أكد على أن هناك نوعاً من الانسجام الكبير بين السياسة الخارجية الأمريكية والإسرائيلية يصل إلى حد التطابق.
وقال الدكتور سعيد اللاوندي في حواره مع (الإسلام اليوم) أن ما يحدث حالياً مع سوريا ولبنان ما هو إلا تطبيق حرفي لمشروع الشرق الأوسط الكبير . وتطرق اللاوندي في حواره إلى التغلغل الصهيوني في العراق وفي دار فور . كما أشار خبير العلاقات السياسية الدولية إلى انتهاء دور الأمم المتحدة تماماً في ظل عصر القوة الوحيدة عصر الولايات المتحدة.
حول قضايا الساعة الراهنة (الإسلام اليوم) التقت الدكتور سعيد اللاوندي فكان هذا الحوار ..
ما تعليقكم على الأزمة السورية و اللبنانية المثارة حالياً؟
ـ لا يدهشني ما يجري حالياً مع سوريا؛ لأننا شعوب بلا ذاكرة، بمعنى أننا لو تذكرنا أدبيات ومفردات مشروع الشرق الأوسط الكبير لتبين لنا أن سوريا هي المحطة الثانية بعد العراق، ثم إيران وحتى السعودية مدرجة ضمن مفردات المشروع، ولا تُستثنى مصر؛ لأنه بحسب وصف أحد الصقور الجارحة في الإدارة الأمريكية الذي قال: " أما مصر فهي درة التاج" أي أنها ستكون الختام في إطار تنفيذ هذا المشروع.
وأرى أن الولاية الثانية لبوش يمكن أن نسميها باطمئنان ولاية مشروع الشرق الأوسط الكبير, بمعنى أنها معنية بتنفيذه، ولذلك كانت إرهاصات التصعيد مع سوريا في نهاية الولاية الأولى له، ومع ولايته الثانية وصل التصعيد إلى ذروته فكانت البداية بموافقة الكونجرس على إصدار قانون محاسبة سوريا, وها نحن اليوم أمام المطلب الثاني وهو خروج سوريا من لبنان.
ولكن هل تغيب إسرائيل عن هذا كله؟
في الحقيقة إننا أمام درجة قصوى من التماهي بين السياستين الخارجية الإسرائيلية والأمريكية، بمعنى أن " شارنسكي" وهو وزير المغتربين وشؤون القدس في حكومة شارون هو الملهم الأساسي للرئيس الأمريكي، والذي اعترف بذلك عندما أشار إلى أن كتاب شارنسكي "دفاعاً عن الديمقراطية" يكاد يكون دستور حياة بوش!
وإذا استحضرنا ما قاله سلفان شالوم وزير خارجية إسرائيل من أن خطة إسرائيل التي تعمل عليها منذ سنوات كانت هي تعبئة المجتمع الدولي وحشده ضد سوريا لإخراجها عنوة من لبنان.
وإذا وضعنا في الاعتبار هذه العبارة لتبين لنا أن المخطط الخاص بالشرق الأوسط الكبير هو مخطط أمريكي إسرائيلي بالدرجة الأولى.
وماذا ترى الوضع بعد الانسحاب السوري من لبنان ؟
الأبواب مفتوحة أمام كافة الاحتمالات. فإسرائيل تضع عينها على جنوب لبنان، وليس سراً أنها تربطها علاقات قوية ببعض العناصر اللبنانية ذات النفوذ، ولست أبرئها أيضاً من اغتيال الحريري؛ لأن أكثر الأطراف استفادة من ذلك هي إسرائيل بقدر ما أن أكثر الأطراف خسارة هي سوريا.
وأعتقد أن العلاقات السورية اللبنانية قد أصابتها إسرائيل في مقتل, واليوم تجد لبنان نفسها بين أمرين أحلاهما مر:
فإما تكرار اتفاقية 17 أيار " مايو" مع إسرائيل أو قبول توطين اللاجئين الفلسطينيين وهو ما يفتح المجال أمام حدوث صبرا وشاتيلا مرة أخرى .
والنقطة الأهم هي أن المطامع الإسرائيلية لم تتوقف بعد؛ فالهدف النهائي هو القضاء على حزب الله, لذلك فالمطالب الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية تتمحور حول نزع أسلحة حزب الله تحت دعاوى اعتباره قوة سياسية، وليس مليشيات، وهو غير ذلك فهو مقاومة مشروعة ضد إسرائيل.
سيناريو العراق في سوريا
هل من الممكن أن يتكرر السيناريو العراقي مع سوريا وتوجّه لها أمريكا ضربة عسكرية؟
ليس على المدى المنظور، ولا أعتقد إمكان توجيه ضربة عسكرية؛ لأسباب منها أن سوريا لم تماطل بل نفذت كل ما طُلب منها. كما أن هناك شعوراً ومسؤولية عربية بتجنيبها مصير العراق، وفي هذا الإطار استضاف الرئيس المصري مبارك على عجل الرئيس السوري في شرم الشيخ، ثم ذهب إليه بعد ذلك في دمشق وبين المرتين لم تتوقف دبلوماسية الهاتف. كذلك فلا ننسى ملف إيران وتسخين الأجواء معها قد يجعل مسألة ضرب سوريا غير وارد على الأقل في المدى المنظور.
كيف تنظرون إلى الوضع الراهن في العراق؟(18/201)
ما يحدث في المشهد العراقي اليوم يكاد يكون مرسوماً بدقة من جانب المحافظين الجدد؛ فالهدف هو تفتيت العراق وإفساح المجال أمام النعرات الطائفية وإحداث فتن بين السنة والشيعة، وهو ما حدث بالفعل . فالسنة لا وجود لهم على الخريطة السياسية والشيعة بحكم الأغلبية حظوا بِ(140) مقعداً في البرلمان والأكراد مطالبهم الاستقلالية لا ينكرها إنسان . وفي اعتقادي أنه سوف يكون هناك صياغة لدستور مشابه للدستور اللبناني, ففي الأخير يجب أن يكون الرئيس مارونياً ورئيس الوزراء سنياً، ورئيس مجلس النواب شيعياً.
يبدو أننا أمام مشهد مماثل في العراق, فالرئيس من المحتمل أن يكون كردياً ورئيس الوزراء شيعياً ورئيس مجلس النواب سنياً. بمعنى آخر كنا نتحدث في السابق عن " لبننة" كوسيلة من وسائل نشر الفوضى وعدم الاستقرار في بلد معين، وها نحن نجد أنفسنا أمام " عرقنة"، فالمشهد العراقي رغم المزاعم الأمريكية ليس في صحّة جيدة، والفتن والمتحركات أكثر من الثوابت.
الموساد في العراق
ماذا تقول عن التواجد الإسرائيلي في العراق؟
أنا أرى أن الواهمين وحدهم هم الذين يعتقدون أن إسرائيل " بريئة" من كل الجرائم التي حدثت وتحدث في العراق, وهناك رجال الموساد الذي يحكم قبضته الحديدية على أنحاء العراق شمالا وجنوباً, ولا ننسى الإسرائيليين الموجودين تحت غطاء شركات المقاولات والتجارة والأمن الخاص التي تدسّ أنفها في كل شيء.
كما تؤكد مصادر صحفية أن رئيس الموساد زار العراق سراً، وتفقد خلالها المحطة الاستخبارية المقامة في بغداد, وتشير المصادر نفسها إلى أن هناك محطات أخرى على الحدود الإيرانية والسورية وفي مناطق الأكراد, وأن هناك تدريباً لعناصر عراقية في هذه المحطات؛ فعناصر الموساد موجودة بكثافة في شمال العرق وقد كشفت تركيا ذلك موضحة أن هناك عملاء إسرائيليين يقومون بتدريب أكراد .ولا شك أن هذا الوجود الاستخباراتي يدعمه في خط مواز تغلغل يهودي في قطاعات الاقتصاد العراقي المختلفة إلى حد أن المواطن العراقي باتت عينه تألف السلع الإسرائيلية التي تغمر الأسواق .فالشركات الإسرائيلية كثيرة وفي مجالات عدة ومنها شركة " دان" لبيع الحافلات والسيارات القديمة و" رينكس" المنتجة للقمصان الواقية من الرصاص و" شريونيت موسيم" للأبواب المصفحة و" عيتس كرمائيل" للأبواب ومنتجات أخرى و" تامي فور "لأجهزة تنقية المياه و" طمبور"للدهانات، و" ترليدور" للأسلاك الشائكة، و" تنور غاز" للمطابخ، و" جاية كوم" للهواتف، و" سكال" للمنتجات الإلكترونية، و " نعان دان" لمعدات الري، و" سونول "للوقود، و" دلتا" للمنسوجات.
غياب عرفات خسارة لإسرائيل
ننتقل للملف الفلسطيني و بعد الخطوات الأخيرة هل تتوقع نجاح عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية؟
ما زلت مقتنعاً أن الطرف الذي خسر كثيراً برحيل عرفات هو الطرف الإسرائيلي، وذلك لأن إسرائيل غير جادة في السير في طريق السلام، وفي زمن عرفات كانت تزعم أنه ليس الشريك المناسب لإقامة سلام معهم, وكانت هذه الحجة تجعلها تملك حق القتل وسفك الدماء والاغتيالات وتجريف الأراضي وهدم المنازل. بمعنى آخر كانت تواصل سياسة إرهاب الدولة على الشعب الفلسطيني.
ولكن عندما جاء أبو مازن، ورفع شعار رفض عسكرة الانتفاضة، وتحدث عن هدنة، ونفذ جانباً مما كانت تطلبه منه أمريكا خصوصاً فيما يتعلق بفصل السلطة السياسية عن الأمنية، وإدانة العنف ضد إسرائيل, هنا وجدت إسرائيل نفسها في مأزق حقيقي؛ لأنها لم تعد تستطيع الاستمرار في إرهاب الدولة, وعندما هيأت مصر اجتماعات شرم الشيخ وجدت إسرائيل نفسها مجبرة على الوفاء بما وعدت به. صحيح أن ما قدّمته قليل وقام بالتسويف والمماطلة إلا أن واشنطن يبدو أنها حريصة على إحداث درجة من درجات الهدوء في الملف الفلسطيني الإسرائيلي لكي تتفرغ لباقي الملفات مع سوريا ولبنان وإيران وحزب الله.
وكيف تقرأ الوضع في السودان؟ وما دور إسرائيل فيما يحدث هناك؟
بالنسبة للسودان لو استحضرنا المدى الجغرافي في مشروع الشرق الأوسط الكبير نتأكد أن أحداث دار فور ليست بعيدة عن هذا المشروع الاستعماري الكبير الذي تقوده أمريكا.
وبالتأكيد أن أصابع إسرائيل تعبث في دار فور منذ زمن وعبر سفاراتها في أفريقيا تقود أكبر (مافيا) لتجارة السلاح مع المتمردين في دار فور وغيرها.(18/202)
وعلينا أن ندرك أننا أمام نيران يتم الإعداد لها منذ فترة، وسوف تشتعل إن عاجلاً أو آجلاً لتلتهم الأخضر واليابس في المنطقة. وهناك تعبئة دولية من خلال الأمم المتحدة لتوجيه اتهامات إلى السودان بأنها تمارس حرباً عرقية وحول هذه النقطة يجري ماء كثير في النهر؛ فالاتحاد الأوربي يؤكد أن السودان بريء، بينما الأمم المتحدة لا تكفّ عن توجيه الإدانات للنظام السوداني الذي يتهم من جانبه أوروبا وأمريكا بأنهما يشعلان النيران .. تبقى نقطة أخيرة وهي أن دارفور منجم نفط ويورانيوم، وهناك استثمارات صينية في هذه المنطقة لذلك اشرأبّت أعناق الدول الكبرى نحو دار فور انطلاقاً من مشاريعها ومطامعها الاستعمارية, والمؤلم أن أوروبا التي تنادي بحقوق الإنسان وحرية التعبير إلا أنها كانت من أكثر المناطق استعداداً لإرسال قوات للتدخل السريع في دار فور، وهو مؤشر يؤكد أن هذه المنطقة في جنوب القارة ليست مجرد صحراء قاحلة كما يبدو.
وفاة الأمم المتحدة
أعلنت في أحد كتبك عن وفاة الأمم المتحدة فما الذي دعاك للقول بذلك؟
الحقيقة لست أدري لماذا يبكي البعض أو يتباكي على الأمم المتحدة التي تعصف بها أهواء السياسة الدولية, وتكاد تحوّلها إلى رماد تذروه الرياح لتلحق بسابقتها عصبة الأمم، والتي كتبت شهادة وفاتها بنفسها عندما عجزت عن منع قيام الحرب العالمية الثانية. وها هو المشهد يكاد يتكرر بدقائقه حيث تبرز فيه الأمم المتحدة وكأنها "خيال ظل" أمام صلف القوة الأمريكية الباطشة التي لا تقبل إلا صورة الانصياع الكامل وإلا فالقرار بالحتم سيكون انفرادياً. وإذا علمنا أن الولايات المتحدة تدأب منذ فترة على إفساح المجال أمام ذراعها الحديدي القوي علي حساب تقليص دور الأمم المتحدة, لأدركنا أننا نقترب من لحظة الحقيقة التي تُعلن فيها وفاة الأمم المتحدة.
وهناك من يرى أنها ماتت بالفعل في سراييفو؛ لأنها كانت ضعيفة ولا تملك من أمر نفسها شيئاً وأجهزتها مشلولة وآلياتها البيروقراطية ثقيلة وسكرتيرها العام متردد. ومن ثم فحصاد عملها كان صفراً في هذه الأزمة وما تلاها من أزمات مثل الأزمة العراقية التي كشفت بما لا يدع مجالاً للشك هشاشة هذه المنظمة.
إذن فهي ليست موجودة. وإن كان لابد من الاعتراف بوجودها قبل ذلك فهي على الأقل أصبحت في حكم الميتة أو المتوفّاة!فلقد انتهى في صبيحة يوم 12 سبتمبر 2001 أي في اليوم التالي لأحداث 11 سبتمبر عصر القانون الدولي, وبدأ فعلياً عصر قانون الدولة الأقوى " الولايات المتحدة". وحسبما قال "جون بولتون"أحد صقور الخارجية الأمريكية " ليس هناك شيء اسمه الأمم المتحدة ..هناك مجتمع دولي تقوده الولايات المتحدة"!!
يكاد يكون هناك إجماع عالمي على كراهية الولايات المتحدة فهل عرفت أمريكا لماذا يكرهها العالم؟
على عكس ما تشتهي الإدارة الأمريكية فإن مشاعر الغضب والحقد ضد أمريكا والأمريكيين قد تصاعدت في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، ولم تعد مقصورة على العالم العربي والإسلامي, فالثابت أن هذه الكراهية امتدت بعد 11 سبتمبر وسقوط بغداد لتشمل العالم كله. لتظهر أمريكا كوحش كاسر لا تشغله سوى مصلحته الشخصية. والمدهش حقاً أن هذا الأسلوب الاستفزازي الذي برعت فيه إدارة بوش لا يؤدي إلا إلى تأجيج مشاعر الكراهية ضد أمريكا والشعب الأمريكي . ورغم ذلك يخرج علينا بوش بتساؤل غريب يقول فيه: لماذا يكرهنا العالم مع أننا شعب طيب؟ وعلى الرغم من ذلك فإنني أرى أن أمريكا غير جادّة بالفعل في بحثها عن أسباب كراهية العالم لها, وإلا فلماذا تصر على استعداء الآخرين واستفزازهم . كذلك فإن سياسة الكاوبوي التي يتمسك بها في صلف مقيت صقور الإدارة الأمريكية هي أحد أسباب اشتعال نيران الكراهية -بحيث بات يُستعاض -كما تقول صحيفة لوموند الفرنسية- عن كلمة " أمريكي " بكلمة " الشخص الكريه".
وفي محاولة منها لتحسين صورتها السيئة هذه لم تتردّد الإدارة الأمريكية في إنفاق مئات الملايين من الدولارات لتغيير صورتها في أذهان الآخرين, ولذا فقد استحدثت إدارة جديدة في وزارة الخارجية الأمريكية تُعرف باسم دبلوماسية العلاقات العامة، و ومهمة هذه الإدارة هي تبييض وجه أمريكا خصوصاً في مواجهة موجات الكراهية التي طوقت الآفاق باعتراف الأمريكان أنفسهم، ولكنني أؤكد أن الولايات المتحدة لن تنجح في ذلك مادامت مصممة على اتباع نفس سياساتها وأساليبها مع الجميع.
أنت ترى أن مشروع الشرق الأوسط الكبير هو مؤامرة أمريكيّة ضد العرب أليس كذلك؟(18/203)
بكل تأكيد هذا المشروع يعتبر مؤامرة ضد العرب والمسلمين, وكيف لا يكون كذلك وهو في الأصل مشروع إسرائيلي يستهدف السيطرة على المنطقة " أرضاً وسماءً ". والحق أن مشاريع " التذويب" و" السلب" و" الهيمنة" الخاصة بالشرق الأوسط لم تتوقف منذ عقود بدعوى تنمية الشرق الأوسط اقتصادياً. ولا يخفى على لبيب أن الهدف الأكبر من وراء كل هذه المخططات الأمريكية الإسرائيلية هو تذويب العرب في محيط أوسع بحيث تبهت ملامح " الهوية" العربية والإسلامية للمنطقة بعد أن تتحول شعوبها إلى أقلية لا تمثل أكثر من 40% من إجمالي شعوب الشرق الأوسط الكبير
=======================(18/204)
(18/205)
عوض القرني: إسرائيل تفرح بصراعاتنا الطائفية
الرياض/عبد الحي شاهين 18/4/1428
05/05/2007
عدّ الداعية السعودي عوض القرني التحركات السياسية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط تهدف في الأساس إلى إقامة ما يُسمّى بـ"إسرائيل الكبرى" في المنطقة العربية، وتمدّدها على حساب الفلسطينيين واللبنانيين، وقال: إن ما يُسمّى بالشرق الأوسط الجديد والكبير كلها عبارة عن لافتات لتحقيق هذا الغرض، بيد أنه أكّد أن واشنطن ستخفق في فرض مشروعها في الشرق الأوسط، واستدل بمرجعيات تاريخية وقال: إنه - أي التاريخ- أثبت باستمرار إخفاق "المشاريع الأمريكية" بدءاً بالمشروع الصهيوني القائم في المنطقة الذي يواجه مقاومة شديدة وانكسارات حادة في أسسه التي قام عليها، ثم ما جرى بعد ذلك في العراق وفي أفغانستان، وما جرى في لبنان أخيراً، إضافةً إلى أن تاريخها في دعم الأنظمة الاستبدادية في المنطقة انتهى إلى لا شيء.
وتوقّع الشيخ عوض القرني في حديثه لشبكة (الإسلام اليوم) أن يشهد الشرق الأوسط حالة استقطابات حادّة خلال الفترات القادمة، وأن تدفع الولايات المتحدة باتجاه صراعات عربية - عربية بين الحكومات العربية، وربما صراعات طائفية ومذهبية وسياسية وصراعات حزبية من أجل إعطاء إسرائيل فرصة من الوقت لالتقاط أنفاسها، لكنّ حركات المقاومة سترتفع معنوياتها وعملياتها ستتزايد وتيرتها، وسيكثر المقتنعون بها, موضحاً أن إسرائيل ستواجه من جانبها العديد من المشكلات الداخلية بعد إخفاقها في لبنان.
فإلى تفاصيل الحوار:
شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات القليلة الماضية عدداً من الحروب المتواصلة ..في رأيكم .. ما الغرض من إشعال هذه الصراعات؟
الولايات المتحدة الأمريكية في تاريخها كله، تعتمد على القوة وعلى العنف والقهر، بدءاً من تكوينها وإنشائها؛ إذ قامت على أنقاض إبادة شعب كامل في أمريكا الشمالية وهم الهنود الحمر، وإلى بداية هذا القرن وعمليات الإبادة متواصلة، وكذلك في علاقاتها مع الدول الأخرى استخدمت القوة والقتل والحرب وجميع أساليب الدمار استخدمتها في العالم كله، ولم ينج من أذاها أحد، هذه طبيعة غالبة في تفكير الإدارة الأمريكية، ومن خلال التجارب والخبرات التي كوّنت تاريخ أمريكا أصبحت هذه العقلية هي التي تحدّد لها أساليب تحقيق أهدافها.
أمر آخر لو جرّبت أمريكا وسائل أخرى فلن يكون لها قبول؛ لأنها تعلم أن تاريخها الأسود وأهدافها السيئة ومظالمها في المنطقة لن تجعل الناس يقبلونها سلمياً، فتحاول من خلال القوة أن تفرض وجودها وتكره الناس على قبولها.
هل ترى أن هناك تحوّلات في المشاريع الأمريكية في المنطقة خاصة فيما يتعلق بـ( الديمقراطية والحرية)؟
في الواقع أنا أشكك كثيراً في دعاوى أمريكا أنها تنادي بالحرية والديموقراطية في المنطقة؛ لأن الأمثلة أمامنا واضحة تماماً، مثلاً في فلسطين تقف أمريكا ضد الحل الديموقراطي، وكذلك أغلب الأنظمة الاستبدادية نجد أن أمريكا هي التي تدعمها، بصورة مستمرة، ونحن نرى في العراق الدماء أنهاراً والأشلاء جبالاً، وليس هناك حل ديموقراطي، والواقع أن زعم نشر الحرية والديموقرطية هو دعوى أمريكية، أما الأجندة الأمريكية الحقيقية في المنطقة فهي قائمة على دعم إسرائيل وفرض وجودها وهيمنتها، واستغلال خيرات المنطقة، واستعباد شعوبها، وتغيير عقائدها وثقافتها وأفكارها، هذه هي الأجندة الحقيقية لأمريكا.
هل تلحظون اختلافاً بين مشروع الشرق الأوسط الكبير والموسع والجديد الذي يُطرح الآن بعد الحرب على لبنان؟
هي كلها لافتات وعناوين مختلفة لحقيقة واحدة هي إسرائيل الكبرى، يُراد لها أن تتمدّد، وتتحقق من خلال هذه اللافتات وهذه الصيغ.
ولماذا طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد أثناء الحرب ضد لبنان؟
لقد أثبتت الحقائق على الأرض إخفاق المشاريع الأمريكية قاطبة، بدءاً بالمشروع الصهيوني القائم في المنطقة الذي يواجه مقاومة شديدة وانكسارات حادة في أسسه التي قام عليها، ثم ما جرى بعد ذلك في العراق وفي أفغانستان، وما جرى في لبنان أخيراً، وأيضاً تاريخها في دعم الأنظمة الاستبدادية في المنطقة انتهى إلى لا شيء.
كيف يمكن أن يكون حال الشرق الأوسط في حال نجح المشروع الأمريكي؟
أستبعد أن تنجح الولايات المتحدة الأمريكية في فرض مشروعها على المنطقة، يمكن أن يحدث دماراً في المنطقة وحروباً لدعم هذا المشروع، لكنها لن تنجح في النهاية، وبالتالي لا أجد حاجة للتفكير في احتمالات نجاح النظرة الأمريكية في المنطقة؛ لأنها ضد سنن الله، وضد مسيرة التاريخ، وضد مصالح وتطلعات الشعوب، فمآلها إلى الخسران بإذن الله.
بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان كيف ترى تداعيات هذه الحرب على المنطقة؟
هناك العديد من التداعيات.(18/206)
أولاً: سيحصل في داخل إسرائيل مشكلات ليست بالسهلة (وهذا بدأ منذ أيام الحرب)، لكنهم تعوّدوا على امتصاص المشكلات، وأتوقع أن تدفع أمريكا باتجاه صراعات عربية -عربية بين الحكومات العربية والأنظمة العربية ، وربما صراعات طائفية ومذهبية وسياسية وصراعات حزبية من أجل إعطاء إسرائيل فرصة من الوقت لالتقاط أنفاسها، لكن أيضاً حركات المقاومة سترتفع معنوياتها، وعملياتها ستتزايد وتيرتها، وسيكثر المقتنعون بها في هذه الحالة.
بجانب ذلك سنشهد قريباً تحالفات جديدة في المنطقة؛ لأن العرب مع الأسف الشديد هم صدى لردود الأفعال والإملاءات الأجنبية، ولا يعبر عنهم رأي واحد، ولا موقف واحد، وأقصد هنا أكثر الأنظمة وبعض الأحزاب والقوى السياسية.
كيف تقرأ مستقبل الصراعات الطائفية والاقتتال في العالم الاسلامي خلال الأيام المقبلة؟
أتوقع أن تزداد حدة الاستقطاب والصراع الطائفي؛ لأن العديد من القوى من مصلحتها أن تدفع إلى ذلك، أمريكا وإسرائيل، و أيضاً من يدور في فلكها في المنطقة، وأيضاً قوى الجهل والتخلف، وكذلك أصحاب الفقه السطحي، وقليلو الوعي، كلها ستدفع إلى الصراع الطائفي الحاد في المنطقة، وظني أن هذه الصراعات ستزداد اشتعالاً في المنطقة.
بخلاف النظرة الأمريكية أو الغربية عموماً ...هل تعتقد أن الشرق الأوسط ينبغي أن تتغير فيه بعض الأساسيات؟(هل تطالب بشرق أوسط جديد؟ وما هي ملامحه؟)
مسمى الشرق الأوسط هو مسمى غربي، وأنا أعترض على هذا المسمى، وللأسف أن الغرب غيّروا حتى حقائق الجغرافيا، فما كان شرقاً أوسط بالنسبة لهم جعلوه شرقاً أوسط بالنسبة للعالم كله، وما كان شرقاً أقصى جعلوه شرقاً أقصى للعالم كله، وما كان شرقاً أدنى جعلوه شرقاً أدنى للعالم كله .. وهكذا ..
نحن في منطقة "إسلامية" و "عربية"، وهذه التسميات هي التي يجب أن تسود، وأما الأسس التي تحتاج إلى تغيير فنعم، فكما أن الغرب بحاجة إلى تغيير أسس هذه المنطقة، ويسعى لذلك، فنحن بحاجة إلى تغييرها كذلك، لكن بالطبع من منظور وزاوية غير منظور وزاوية أمريكا والغرب.
نحن في حاجة للعودة إلى الجذور والأصالة والتخلص من التغريب والتبعية، نحن في حاجة لسلوك دروب النهضة والتقدم والتخلص من التخلف والتأخر، نحن في حاجة إلى الوحدة والتضامن والتخلص من الفرقة والتشرذم، وبالتالي فنحن في حاجة لإعادة بناء المنطقة، لكن على خلاف الصورة التي يريد الغرب إعادة تشكيلها عليها
=====================(18/207)
(18/208)
محنة أهل السنة ...هل تكون العراق بوابة للاختراق الشيعي الإيراني!
سعد بن عبدالله البريك 9/9/1426
12/10/2005
مع يقيني بأن الشيعة ليسوا سواء، وأن شيعة الفرس ليسوا كشيعة العرب، وأن شيعة العرب طرائق قدداً، إلا أن تصريحات وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل بخصوص الأوضاع السياسية الحالية في العراق جاءت بمثابة (صيحة نذير) توقظ العقول من سبات الغفلة عن التصدي للمخططات الإستراتيجية للمستفيدين من تفاقم الفرص في المنطقة، والذين وجدوا في الساحة العراقية مرتعاً خصباً برعاية أمريكية ومباركة بريطانية، وتوجّس متردّد من الدول الفاعلة في أوروبا وآسيا.
وبينما يجهل أو يتجاهل المعنيون بالوضع من قريب أو بعيد خطورة الطموحات المذهبية في العراق، وما حوله على مستقبل استقرارهم وأمنهم القومي -لا سيما في الخليج- جاء التحذير من السعودية على لسان وزير الخارجية السعودي ليقرب صورة مآلات الصراع الحالي في العراق بكل أدواته السياسية والعسكرية والفكرية على العراق نفسه وعلى المنطقة برمتها.
وفي هذا السياق أعرب مجلس الوزراء السعودي "عن أمله في أن يدرك الجميع أن مصلحة المنطقة هي في بقاء العراق كياناً سياسياً عربياً إسلامياً موحداً ممثلاً لجميع أبنائه وطوائفه، وبمنأى عن التدخل في شؤونه الداخلية".
والمتتبع للوضع العراقي، وما يجري في أروقته السياسية سواء على صعيد التشكيل الإداري والسياسي للحكومة العراقية الحالية، أو على صعيد ارتباطها الفكري والعقدي والسياسي مع إيران أو على صعيد تنسيقها مع إدارة الاحتلال الأمريكي، أو على صعيد الممارسات العسكرية (الحكومية العراقية-الأمريكية) في المدن والشوارع العراقية أو على صعيد محاولات بناء دولة العراق الحديث بدستور جديد...يُدرك -بجلاء - طبيعة المخطط الذي يجري تنفيذه بخطوات مدروسة في اتجاه التمهيد النفسي والسياسي لقيام دويلات متفاوتة القوى، وصالحة للتوظيف السياسي بل والعسكري أيضاً لتحقيق الحلم الإستراتيجي الأمريكي الكبير ( الشرق الأوسط الكبير).
التحذير الذي أطلقه وزير الخارجية السعودي أشار إلى أهم محاور الخطورة في الوضع العراقي الحالي، وما قد يتمخض عنه...فقد حذّر من حدوث حرب أهلية عراقية طاحنة ستدمر العراق (المدمر أصلاً) ...وتدفع المنطقة إلى كارثة ...وتجر العرب إلى الصراع....كما حذّر من عواقب التغلغل الإيراني في العراق ..وخطورة بنود الدستور العراقي الذي يهيئ الجو القانوني والسياسي لتقسيم العراق!
وبعيداً عن أسلوب التعميم وانطلاقاً من تصريحات وزير الخارجية سعود الفيصل، نستعرض في هذا المقال في "حلقته الأولى" حقيقة التغلغل الإيراني في العراق، وعلاقة ذلك بما يحدث في مدن أهل السنة من تقتيل وإبادة على يد الميلشيات الشيعية الحزبية والقوات العراقية الحكومية تحت غطاء عسكري وسياسي وإعلامي.
وقبل ذلك، إذا استطلعنا ردود الفعل من التحذير السعودي نجده قد حظي باهتمام بالغ من قبل الأوساط السياسية في العالم، وكان من الطبيعي جدا أن تعتبره أمريكا في البداية تصريحاً "غير مسؤول"!!، ليس لأنه مخالف للواقع أو مفتقر للمصداقية والعقلانية في التحليل وبعد النظر، ولكن لكونه يحمل في طياته تعريفاً بالوضع المتردي الذي تشهده أمريكا في العراق والمتمثل في مغامراتها (التكتيكية) الطائشة مع الشيعة هروباً من جحيم المقاومة..!!! لكن الوسط السني الذي عانى الأمرّين من جراء الوضع السياسي الحالي في العراق، ويتوقع الأسوأ من كل المعطيات السياسية في المرحلة المقبلة (مرحلة ما بعد الدستور)، كان له موقف آخر من تصريحات الفيصل، فقد جاءت ردود الفعل من قبل التكتلات السنية في العراق مرحبة بالتحذير السعودي حيث صرح المكتب السياسي للحزب الإسلامي العراقي في بيان له على موقعه على الإنترنت أن: "تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بشأن العراق، والتي حذر فيها من أن العراق يتجه نحو التفكك، تحمل وصفاً دقيقاً لحالة العراقيين، وتنم عن تقدير واقعي للمخاطر التي تحيق ببلادهم"، وأن تصريحاته: "تحمل وصفاً دقيقاً لحالة العراقيين الذين حز في نفوسهم أن يُتركوا في أتون المؤامرة وحدهم كل هذه الفترة"، وأن "أبناء العراق يتطلعون إلى أشقائهم العرب جميعاً، وبالأخص في المملكة العربية السعودية ليعينوهم على تجاوز المحنة، وتحقيق التوافق، ونبذ الفرقة فيما بينهم". وأن "نصرة العراقيين في هذا الظرف العصيب واجب تقتضيه أخوة الإسلام والعروبة خصوصاً، وهم يواجهون مؤامرة عاتية على عقيدتهم وهويتهم وتتواطأ عليهم إرادة الغزاة مع إرادة القوى الشعوبية الحاقدة". وفي السياق ذاته ثمّن مجلس الحوار الوطني التحذيرات السعودية واصفاً إياها بأنها "أشاعت ارتياحاً في أوساط الشعب العراقي المظلوم". ومتمنياً من "باقي الأشقاء والمسلمين أن يقتدوا بمبادرة الأمير سعود الفيصل، ويمزّقوا جدران الصمت على مؤامرة ذبح العراق التي ستنعكس تداعياتها -إذا مرت لا سمح الله- على عموم الوضع العربي والإسلامي في المنطقة".(18/209)
وردود الفعل هذه من قبل أكبر التكتلات السنية في العراق تعكس عمق الأزمة التي يعيشها أهل السنة في العراق؛ فهم الخاسر الوحيد والأول على الصعيد المحلي إذا ما نجحت الحكومة في إقرار الدستور، وقبل ذلك عليهم يقع مسلسل الإبادة والتهميش والتطهير الطائفي في كل شبر يمثله السنة على أرض العراق السنية، وهم أيضاً من سيدفع فاتورة التقسيم في حال وقوعه، لكنهم وفي حال وقوع كارثة التقسيم أو أماراتها ومقدماتها فلن يكونوا هم الخاسر الأخير، وإنما ستُجرّ المنطقة كلها إلى صراع لا تُحمد عقباه!!
وإن أسئلة كثيرة وتساؤلات مثيرة لتفرض نفسها على كل متتبع لأحداث الشارع العراقي الآخذة في الاستفحال والتعقيد. لماذا تواطأت القوات الأمريكية والحكومة العراقية على إبادة أهل السنة في العراق دون غيرهم من طوائف العراق؟ ولماذا تكون الإبادة قبيل أهم المنعطفات السياسية كالانتخابات ومشروع الدستور؟ وما سر علاقة الميلشيات العميلة لإيران وميلشيات الأحزاب والتكتلات الشيعية بالحكومة العراقية في الإبادة الطائفية التي تجري في مدن أهل السنة في العراق؟ ولماذا يرفض أهل السنة مشروع الدستور الجديد وتصرّ الطوائف الأخرى على تمريره بدعم أمريكي وإيراني متّحد؟ وما هي عواقب إقرار الدستور على العراق وعلى أهل السنة فيه، بل وعلى الخليج والمنطقة عموماً؟وهل لهذه الأحداث علاقة بمشروع إستراتيجي أمريكي (جديد) أو (قديم) في المنطقة؟ وما سر الانعطاف السياسي الأمريكي في تحالفه المكشوف مع شيعة العراق، ومن ورائهم إيران؟ أهو خيار مدروس سلفاً قبل احتلال العراق أم تكتيك فرضته معطيات الوضع الراهن الناجم عن شموخ المقاومة؟ وفي الإجابة عن هذه التساؤلات تتضح صورة الوضع برمته بكل خلفياته ومآلاته المتوقعة!
أما فيما يخص "مشروع إبادة أهل السنة في العراق"، فقد أصبح حقيقة جلية يعيشها العراق واقعاً ملموساً محسوساً، وتتناقل كل الإذاعات العالمية ووكالات الأنباء أخباره اليومية من قصف عشوائي بالمقاتلات الحربية وطائرات وصواريخ الآباتشي على منازل العزل، وتقتيل جماعي على يد الميلشيات الشيعية المنظمة، وتهجير من المدن والقرى واعتقالات جماعية، واختطافات سرية، ومداهمة للبيوت والمساجد، واختطاف العلماء وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان في أبشع صورها بكل أنواع التعذيب والتنكيل في الفلوجة والسماوة وتلعفر والرمادي والموصل وبغداد والحديثة والبصرة وغيرها، حتى أصبحت أخبار التنكيل وإبادة أهل السنة في العراق مستفيضة لدى الرأي العام العالمي، وعارية عن كل المسوّغات التي تردّدها الحكومة العراقية والاحتلال الأمريكي؛ لتسويغ حربها على أهل السنة، حتى إن الناطق باسم هيئة علماء المسلمين مثنى حارث الضاري وصف ما تقوم به القوات العراقية بـ"الإرهاب" ضد أهل السنة، كما وصفت بيانات هيئة علماء المسلمين في العراق عمليات الحكومة العراقية بـ"إرهاب المؤسسات الأمنية"، وكذلك صرح الأزهر في بيان له بأن الذي يحدث في العراق هو إرهاب تمارسه أمريكا في أرض الواقع، وأصبحت صحف الاحتلال نفسها في بريطانيا وأمريكا تتناول موضوع الانتهاكات الوحشية لقوى الأمن العراقي وميليشياتها في تقارير لا تقبل التأويل بل، وتستغرب من صمت الحكومات عن ذلك.
فقد وصف تقرير لصحيفة (الأبزيرفر البريطانية) بتاريخ 5/7/25 بأن عنف القوات العراقية "أصبح أكثر سخونة وبدرجة كبيرة، وتبدو وكأنها استعمال لحرب العنف المضاد القذرة!"، وأن "ما يصدم المرء هنا هو أن ما حدث وما يحدث، يمر تحت أنوف الرسميين البريطانيين والأمريكيين"، وأن "هناك سؤال عن المدى الذي ذهب إليه القمع"، و"إن من غير الطبيعي أن تبقى الحكومات ساكتة". ولم يكن الكاتب الأمريكي والصحافي المستقل (ستيفن فينسنت) إلا ضحية من ضحايا المؤامرة الطائفية، فقد عثر عليه مقتولاً بعد أربعة أيام من نشر المقال الذي انتقد "تنامي الأصولية الشيعية في البصرة"، بحسب تصريحات السفارة الأمريكية بالعراق نفسها.
وكان (فينسينت) قد اختطف من فندقه بعد أن كتب المقال في صحيفة (نيويورك تايمز)، واتهم مسؤولين بريطانيين بالسماح للأحزاب الشيعية بالتسلل إلى شرطة البصرة، وكان قد قضى شهرين كاملين في جمع معلومات شديدة الخطورة في هذا الشأن، وعزم على إخراجها في كتاب يكشف طبيعة المؤامرة.
وقد كانت صرخة وفد "القوى العراقية المناهضة للاحتلال" في رسالته التي وجهها للأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بتاريخ (8-12-24) تعبيراً يشكل إجماعاً عراقياً (يشمل حتى بعض الشيعة المعتدلين) على النوايا الأمريكية بزرع فتيل فتنة طائفية؛ إذ جاء في الرسالة:
معالي الأستاذ عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية المحترم
تحية طيبة وبعد:(18/210)
"تعلمون سيادتكم أن الاحتلال الأمريكي قد انتهك سيادة العراق وسلامته الإقليمية، وشكل تحدياً خطيراً ليس لاستقلال وسيادة ووحدة أراضي العراق ورفات أبنائه فحسب، بل ولاستقرار وأمن دول المنطقة وللعلاقات الدولية المبنية على القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. ومنذ احتلالها للعراق مارست قوة الاحتلال الأمريكية سياسة تهدف إلى بذر الفتنة الطائفية والعرقية بين أبنائه والسعي لإعادة تركيب المؤسسات السياسية والإدارية العراقية على قواعد استحدثتها للتقسيم العرقي والطائفي والمذهبي، وطمس الهوية الحضارية والثقافية والوطنية للشعب العراقي، وإضعاف انتمائه الوطني والقومي والديني ...."، إلى آخر ما تضمنته الرسالة.
هذا من حيث المؤشرات العامة على وجود حرب طائفية مقننة ضد أهل السنة بشهادات غربية ومحلية، أما على الصعيد الميداني للأحداث، فلا أعتقد أن أحداً يشكك في طبيعة المجازر التي وقعت على مسمع ومرأى من العالم طيلة وجود الاحتلال، وعلى الأخص في المناطق السنية؛ فالدمار الذي شهدته الفلوجة على مرأى ومسمع من العالم لا يزال شاهداً بمقابره الجماعية بما فيها ملعب كرة القدم الذي يغطي تحت أديمه حوالي سبعمائة شهيد شاهد على المجزرة التي لحقت بأهل السنة هناك. وما شهدته تلعفر مؤخراً شاهد آخر على تواصل "مشروع الإبادة لأهل السنة في العراق" وما بين الفلوجة وتلعفر مشاهد أخرى لا تقل ضراوة في التقتيل والتهجير والبطش والاغتصاب وكل أشكال الإذلال!!
ولسائل أن يسأل: أليس كل ذلك من أجل مكافحة الإرهاب؟ والجواب ما يجيب به شهود العيان الرسميون في العراق، وليس تصريحات الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكي، ولا الناطق باسم البنتاغون الأمريكي، ولا ما تروّجه الحكومة العراقية، وإعلام المليشيات الشيعية، ولا حتى المحلل السياسي على قناة الجزيرة. فحينما أعلن الزرقاوي أن أمريكا تدعم الميلشيات الإيرانية للتنكيل بأهل السنة لاشتراكهما في مصالح إستراتيجية في العراق لم تكذبه كل التكتلات السنية المعترف بها رسمياً في العراق، ليس تأييداً لخطه وبرنامجه في المقاومة، ولكن لأنها الحقيقة المرة التي جاءت على لسانه، ولا يمكن بأي حال إنكارها! بل إن وزير الدفاع العراقي السابق حازم الشعلان كشف حقائق غاية في الخطورة بحكم اطلاعه شخصياً على حقيقة سير العمليات العسكرية في العراق ومشاركته في الحكومة، فقد كشف في عمان في مقال نشرته الشرق الأوسط بتاريخ 18 شعبان من هذا العام أن: "الكثير من المسؤولين في الجمعية الوطنية يعملون الآن لصالح المخابرات الإيرانية". وأطلق رئيس الجمهورية نفسه إثر خلافات مع رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري مفاجأة لم تكن في الحسبان، كشف فيها التنكيل المتعمد من قبل الحكومة العراقية -المدعومة أمريكياً وإيرانياً- بشأن أهل السنة، وإن كان لم يشر إلى التدخل الإيراني، مما يعكس خطورة الوضع إلى حد لا يمكن معه السكوت!! فقد نشرت جريدة الحياة قبل أيام قليلة مطالبة الزعيمين الكرديين رئيس الجمهورية جلال طالباني، ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني لرئيس الوزراء إبراهيم الجعفري بإنهاء حد لـ"الجرائم الكيفية بحق السنة العرب".
وهذه الشهادة على وجود التنكيل (المُسيّس) بأهل السنة في العراق من قبل أعلى مسؤول في الدولة يصدق كل أرقام القتلى والجرحى والمعتقلين وانتهاكات حرمات المساجد وتحويلها إلى حسينيات شيعية، وكل أشكال الإبادة في المناطق التي يتواجد بها أهل السنة سواء كانوا أكثرية أم أقلية..كما أن هذه المطالبة بالحد من الجرائم ضد أهل السنة من قبل أعلى مسؤول في الدولة خارج الانتماء العربي والسني وحليف للاحتلال، بل ومتهم بالتنكر (للعراقية) نفسها من قبل الكثير من الجهات.. تؤكد أن مزاعم الحكومة العراقية والاحتلال من أن أهل السنة يشكلون قاعدة للإرهاب إنما هي مزاعم لذرّ الرماد في العيون، وضمان غطاء إعلامي مقنع لتبرير مسلسل الإبادة العرقية.
واللافت للأنظار أن أمريكا -وبعد أن أفادت أن تصريحات الفيصل غير مسؤولةـ عادت وصرحت على لسان وزير خارجيتها لشؤون الشرق الأوسط دافيد ويلش: أنه يتفهم قلق المملكة إزاء "الاختراق الإيراني"، معتبراً أن انتقادات وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل الأخيرة لواشنطن "لها ما يبررها"، ورغم أنه نفى تورط أمريكا في التحالف مع الحكومة الإيرانية في ذلك، إلا أنه أقر بوجود خطر إيراني، وبخاصة في جنوب العراق "سببه ضعف البنية السياسية والعراقية التي تسمح بتغلغل خفي للنفوذ الإيراني".(18/211)
لكن وضع العمليات العسكرية والتسهيلات اللوجيستية والسياسية للميلشيات والتكتلات الشيعية تؤكد ضلوع أمريكا في مسلسل تهميش وتغييب أهل السنة من الوجود السياسي في العراق لصالح التمكين للطائفة الشيعية، ما دامت تخدم الإستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة عموماً. ومما يبعث على العجب إصرار من يغرد خارج السرب على قناته المسيّسة في برنامج "لقاء خاص"، حيث يرى أن لا دليل حتى الآن يثبت تدخل إيران في شؤون العراق، وأن قيام دولة شيعية في العراق لا يمثل أي مشكلة، وهذا التصريح بقدر ما يعبر عن قصوره السياسي في إدراك أكثر الحقائق السياسية على أرض العراق وضوحاً يعبر أيضاً عن قصوره في تصور مخاطر الامتداد الفكري والسياسي لإيران في المنطقة، اللهم إلا إذا كان يملك من الضمانات الأمريكية والإيرانية ما يجعله بمنأى عن ذلك، فحينئذ يمكن الحكم على هذا القصور بالبراءة التامة لكن التهمة بالتخذيل على وزن (التطبيع) لن تزول.
ويبقى السؤال مطروحاً: إذا لم يكن مسلسل التطهير لأهل السنة له علاقة بالحرب على الإرهاب في العراق، فإلى أي شيء يهدف ؟
مهما تكن المسوّغات التي يسوقها الاحتلال وأذنابه الذين يسوّقون بقاءه فإن جرائمه المتواصلة ضد سنة العراق أضحت من الوضوح في النهاية! فالهدف الأول والأخير من التنكيل المتعمد الذي لقيه أهل السنة هناك بشهادة واستنكار الساسة العراقيين أنفسهم: هو تهميش الطائفة السنية من المسرح السياسي الحالي، وتحجيم دورها إلى حد يضمن معه الاحتلال وأعوانه تحقيق الإستراتيجية الاستعمارية الرامية إلى تقسيم البلد، وتجريد السنة من كل مقومات القوة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في إطار إستراتيجية أمريكية تهدف إلى إحداث توازنات جديدة في المنطقة تمهيداً لنشأة الشرق الأوسط الكبير.
فالسيناريو الذي مرت به عملية الاستفتاء على الدستور كان فصلاً آخر من فصول محنة أهل السنة في العراق؛ فقد تمت إبادتهم سياسياً بعدما استنزفت الآلة العسكرية ومعها بعض الميلشيات الشيعية مدنهم وبيوتهم بكل أنواع التنكيل.
كانت ولادة الدستور العراقي عبارة عن فصول متتالية متكاملة أتت في إطار مؤامرة تاريخية محبوكة كان المستهدف في كل فصولها بالتحديد هو "سنة العراق". فالمراحل التي مرت بها عملية فرض الدستور أو بلغة سياسية أدقّ "تمريره" بالرغم من كل تعقيداتها وتداعياتها وتسارع أحداثها تظل خريطتها واضحة للمحللين، وتشير إلى أهداف وإستراتيجيات وتكتيكات وأدوات محددة، تظهر في صلب الخريطة وكل مساحتها .ومهما تكن التسمية التي انتقاها الاحتلال لفرض الدستور، فإن مصطلح الإقرار الذي تم توظيفه لا يعكس بأي حال الرفض المطلق الذي لقيه الدستور من طرف سنة العراق جميعهم .فالإقرار يعني موافقة السنة أو سكوتهم عليه، وهو ما لم يحصل مطلقاً أثناء عمليتي الصياغة والاستفتاء.
فقد تم "تمرير الدستور" في إطار "مسرحية " تستحق التأريخ! لعب فيها كل من الاحتلال ومؤازروه دور علاقة تجسد فيها عنصر التضحية والولاء والمغامرة والتفاني والتحدي والارتباط وتجاوز كل القوانين والأعراف والقيم.
تمت هذه العلاقة التاريخية بين الاحتلال ومعاونيه في الداخل، ولا أحد يدري حتى الآن: أهي علاقة (متعة) تمت باتفاق بين الطرفين على أساس جدول زمني لإنهائها (أم رغبة في زواج بنية الطلاق من طرف الاحتلال) !! لكن ما لا يشك فيه كل المراقبين أن مصلحة الطرفين (أو الأطراف) هي محور التلاقي في هذه العلاقة، وأنها علاقة لا تحمل في طياتها حتى الحد الأدنى من مقومات البقاء لأمد طويل .
وها نحن نرى بعد مخاض سياسي وعسكري مرير - لم ينته بعد- ولادة دستور عراقي تاريخي من علاقة محرمة مفضوحة!
فكيف تم تمرير "الدستور العراقي" سياسياً وعسكرياً وإعلامياً؟ ومن هم ممثلو الأدوار الرئيسة في مسرحيته؟ وما الأهداف السياسية والإستراتيجية للاحتلال من هذا الدستور؟ وهل لهذا الدستور أي سقف حد أدنى من الشرعية والمشروعية في أي قانون دولي؟(18/212)
في البدء نود أن نعطي للقارئ الكريم صورة عامة سردية عما أُطلق عليه (عملية "إقرار" أو تمرير الدستور). فحينما نتحدث عن الدستور العراقي فنحن نقصد بالتحديد الحديث عن مضامينه ذات البعد السياسي ..فالدستور في حد ذاته يمثل المرجعية القانونية العليا للدولة، وبالتالي فإنه الأساس لكل سياساتها الداخلية والخارجية، وإذا نظرنا إلى مضامين الدستور العراقي الجديد فإننا نجده بالإضافة إلى افتقاره للمشروعية الدينية: أرضية قانونية صالحة لتحويل العراق إلى فدراليات متعددة بمجرد إقراره !وبمعنى مبسط فإن الدستور العراقي يجوز ويسمح قانونياً بإمكانية تقسيم العراق إلى دويلات مستقلة باسم شيء يسمونه "الفدرالية" وهي -وإن تكن إطاراً سياسياً يجمع الشعب الواحد ذا الطوائف المتفرقة- إلا أنها في حالة العراق إطار سياسي يفرق الشعب الواحد ذا الطوائف المجتمعة. ولذلك يعدها المراقبون أول فدرالية معكوسة في التاريخ. هذا التقسيم هو الإستراتيجية الأولى في مخطط الاحتلال حتى قبل غزو العراق, ولأجل تحقيق هذه الإستراتيجية كان لا بد من رسم أهداف مرحلية دقيقة ترسم الخريطة القانونية التي يمكن أن ترشد الاحتلال إلى الوصول إلى إستراتيجية التقسيم في النهاية؛ لأجل ذلك كان لا بد من تحقيق الهدف الأول، و هو إيجاد أرضية قانونية للتقسيم مهما كلف الثمن، وتلك الأرضية لن تكون إلا بالدستور العراقي الذي يضمن للطوائف والإثنيات حق الاستقلال والانفصال، وفي الوقت نفسه يضمن للاحتلال هدفه الإستراتيجي الأول في المنطقة، وهو التقسيم، وبضمانه يستطيع ضمان باقي الأهداف الإستراتيجية الأخرى في المنطقة.
لكن "عملية تمرير الدستور" وحدها تحتاج من الاحتلال إلى إجراءات عديدة سياسياً وعسكرياً؛ فليس من السهل تمرير دستور يسمح بتقسيم بلد (قسمة ضيزى) دونما تجاوز كل أشكال المعارضة داخلياً على مستوى الأطياف السياسية الشيعية العربية والسنية والكردية سواء منها ذات الأجندة السياسية أو الخيار العسكري، وأيضاً على المستوى الإقليمي المتمثل في دول الجوار، لاسيما الدول الفاعلة فيه كالسعودية وإيران وتركيا وسوريا، وعلى المستوى الدولي المتمثل في الأمم المتحدة والمنظمات القانونية الدولية والرأي العام العالمي.
لكن الحقيقة أن الاحتلال لم ينظر قط إلى عملية كتلك نظرة قاصرة بل جنّد لها جندها، وسعى لها سعيها على كل صعيد، وهيّأ لها ظروفها وحسب لها حساباتها، وغامر بالبقية الباقية من مصداقيته المهزوزة على الصعيد السياسي والقانوني والإنساني ليحققها بأي ثمن. فكانت إستراتيجية التقسيم هي المحور الذي يدور عليه الدستور، ومن أجل ذلك كان المسار السياسي لأمريكا منذ سقوط بغداد عبارة عن "تكتيكات" دارت في فلكها أجندة الأحزاب، والمكونات السياسية في العراق منذ دخول الاحتلال وإلى يومنا هذا.
وهنا نتساءل: ما هي التكتيكات التي انتهجتها أمريكا لتمرير الدستور؟ صحيح أن ولادة الدستور العراقي من الأب غير الشرعي(قانون الإدارة المؤقت) كانت في العراق، لكن أطوار نشأته فيما قبل الولادة كانت استثنائية بكل ما يعنيه مصطلح الاستثناء من معنى!! وكما سبق أن أشرنا فإن الحديث عن الدستور العراقي بشكله الحالي هو في العمق حديث عن التقسيم ليس إلا! في اعتقادي أن الدستور العراقي هو نفسه نص مشروع التقسيم، ولذلك فإن الحديث عن هذا هو حديث عن ذاك، ومن هذا المنطلق فإن نشأة الدستور العراقي مرّت بأطوار يمكن تسميتها بالأطوار الثلاثة:
الطور الأول: طور الفكرة، وقد تم في أروقة تل أبيب. نعم في تل أبيب، وهي المرحلة التي نشأت فيها الرغبة في تقسيم العراق بالصورة نفسها التي يصفها الدستور العراقي الآن، وهي التي عبّر عنها (عوديد ينون) في مقال كتبه حينما كان مستشاراً لرئيس الوزراء الأسبق مناحيم بيغن تحت عنوان:"إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، وصرّح فيها أن العراق هو العدو الأكبر لإسرائيل لذا يجب تقسيمه إلى ثلاث دول، دولة كردية في شمال العراق، وأخرى شيعية في الجنوب، وثالثة سنية في الوسط !"
ومن هنا فإن فكرة الدستور الذي يؤدي إلى التقسيم كانت جزءاً من مخططات اليهود، وهذا ليس بمستغرب على أمة وصفها الله بموقدي الفتن :(...كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ...)[المائدة: من الآية64]. فمصلحة إسرائيل في تقسيم العراق محققة على الصعيد السياسي والعسكري والاقتصادي.
الطور الثاني : طُوّر الإعلان عن فكرة التقسيم في مراكز التخطيط والقرار الأمريكي؛ فقد تمت إعادة صياغة فكرة (عوديد ينون) على لسان رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (ليزلي غيلبLeslie elb's ) فقد نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية في 25/11/2003 مقالاً تحدّث فيه عن حل الثلاث دول، واقترح فيه تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات هي :الشيعة في الجنوب، والأكراد في الشمال، والسنة في الوسط.(18/213)
وقد صرح في اقتراحه بأن الهدف من ذلك هو إضعاف السنة على حساب تقوية الشيعة والأكراد؛ ليصبح أهل السنة في العراق "أولاد العم الفقراء" على حد تعبيره، ولم تسلم السعودية نفسها من مخططه. ولا بد أن نشير هنا إلى أن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي هو أحد مراكز التخطيط الإستراتيجي في أمريكا، والذي يجمع داخله كلاً من المخابرات الأمريكية، ووزارة الخارجية الأمريكية، وكبار أصحاب الشركات العملاقة، وهو ما يعني أن مثل هذه الاقتراحات التي تُعطى لها صفة العلانية في أشهر الصحف الأمريكية تعكس مخططاً كان يجري حبكه في أروقة البيت الأبيض قبل احتلال العراق بكثير. وتعليقاً على هذه التصريحات جاء مقال تحت عنوان: والآن... يبدأ طرح تقسيم العراق... لـ "إضعاف السنة"! في جريدة الحياة بتاريخ 28/11/ 2003 يربط بين القضية الفلسطينية ومقال) ليزلي) هذا .. مما يؤكد أن مشروع التقسيم الذي لن يُكتب له وجود إلا بدستور يؤيّده -مرتبط في العمق بصراع اليهود مع المسلمين؛ فالتقسيم من خلال الدستور العراقي ما هو إلا حلقة في سلسلة ذاك الصراع، وعيّنة من أجنداته الجديدة.
ولم تكن العاصمة لندن بعيدة عن مرحلة نشأة الدستور في هذا الطور؛ فقد كان لها الدور الكبير في تفعيل مبادرات التقسيم والترويج لدستور عراقي يسمح بذلك بعد الاحتلال؛ لذلك فقد دعمت كل أشكال المعارضة المتبنية لفكرة التقسيم؛ فكان "إعلان شيعة العراق" في لندن والذي ضم معظم أطياف الشيعة، وصرح فيه موفق الربيعي بإصرار الشيعة على مبدأ الفدرالية (الغطاء السياسي للتقسيم)، وأن أي دستور لا يتضمن ذلك لن يُقبل قائلاً: تشهد الساحة السياسية حركة ساخنة فيما يتعلق بالوضع الداخلي للعراق ومستقبله السياسي؛ إذ يجري الكلام عالياً حول تغيير النظام الحاكم وضرورة إزالته من السلطة. وفي هذا السياق بات من المهم جداً تكرار التأكيدات السابقة بأن الوصول إلى صيغة سليمة لمستقبل العراق ومقبولة من قبل الشعب العراقي، لا بد أن تنطلق من المبادئ العامة التي حددها (إعلان شيعة العراق) والتي تنحصر في الأسس الثلاثة التالية:
1ـ الديموقراطية.
2ـ الفدرالية.
3ـ إلغاء سياسة التمييز الطائفي."انتهى"
وها نحن نرى اليوم ثمرات إعلان شيعة العراق متمثلة في الغياب التام للديموقراطية، والحضور التام للتمييز الطائفي ضد السنة، والتمرير التام لمشروع التقسيم المنصهر في الدستور تحت مظلة الفدرالية !
الطور الثالث: طور المخاض، وهو الطور الذي بدأ بفترة ما بعد سقوط بغداد" وتولي الحاكم الأمريكي (بول بريمر) إدارة شؤون العراق بقانون إدارة الدولة المؤقت، وما تلا ذلك من انتخابات وتشكيل الجمعية الوطنية العراقية؛ فالحكومة الانتقالية، وفي هذه المرحلة بالذات كان تركيز الاحتلال كله على التنظيمات الشيعية الصفوية، وكذلك الأكراد لإبرام اتفاق نهائي يتم على أساسه تنفيذ (السيناريو) الكامل لتمرير الدستور وإيجاد دولة عميلة لأمريكا كما صرح بذلك "جيمس كوجان" في مقالة نشرها بمركز البحوث العالمية في أمريكا, ولا عجب في ذلك؛ فالتاريخ يعيد نفسه؛ فدور الخيانة العلقمية العظمى الذي مارسه ابن العلقمي بتواطئه التاريخي مع هولاكو في احتلاله لبغداد لا يزال التشيع الصفوي يمارسه مع هولاكو العصر (أمريكا)، وإذا كان نصير الدين الطوسي هو السند الشرعي والمرجعية في فتوى احتلال المغول لبغداد فإن بعض المراجع الشيعية الإيرانية في العراق بمن فيهم (السيستاني العراقي- الفارسي) هم من يمارس دور الطوسي اليوم في تأييد خطوات الاحتلال من بداية الغزو وحتى إقرار الدستور.
وباستكمال الأطوار الثلاثة بدأ الاحتلال وأذنابه بتمهيد الطريق لولادة الدستور العراقي الجديد في إطار فصول "مسرحية التمرير".
فالفصل الأول: ابتدأ بلجنة صياغة الدستور، فكان التركيز على هوية اللجنة من أولويات الاحتلال في تحقيق أهدافه. وإذا تتبعنا خيوط المسألة فسنجد أن حسم الأمر في هوية اللجنة قد تم سلفاً بمقتضى قانون إدارة الدولة، فعن ذلك القانون الاستعماري تمخضت الانتخابات بمواصفاتها المفتقرة إلى أدنى شروط النزاهة، مما دفع أهل السنة في العراق إلى مقاطعتها ليأسهم التام من كسب أي استحقاق سياسي، وفي تلك الأثناء كانت الطائرات الأمريكية -ومعها جحافل المتحالفين مع الاحتلال داخل العراق - تدك مدن السنة وبيوتهم بيتاً بيتاً باسم "مكافحة الإرهاب" لإثناء السنة عن المشاركة السياسية، وعن تلك الانتخابات انبثقت الجمعية الوطنية العراقية، ثم بعدها الحكومة الانتقالية في الثامن والعشرين من أبريل بأغلبية شيعية كردية، ومن هذه الأغلبية الشيعية الكردية تمخضت لجنة صياغة الدستور لتكتبه بمداد شيعي أمريكي كردي تناغمت فيه مصالح الأطراف الثلاثة على حساب سنة العراق.(18/214)
ويجمع السياسيون وخبراء القانون الدولي على أن الطريقة التي تم بها اختيار لجنة الصياغة ليست من القوانين والأعراف الدولية في شيء؛ فهي تُعدّ طريقة غير مشروعة وغير شرعية بكل المقاييس؛ إذ لا بد من وجود "مجلس تأسيسي منتخب" يمثل العرقيات والطوائف لأجل مهمة واحدة هي صياغة الدستور، ولا يجوز قانونياً أن يكون معيناً من السلطة، كما وقع للجنة صياغة الدستور العراقي، وهذه هي الطريقة التي صاغت بها أمريكا ذات النظام الفدرالي دستورها، وكذلك اليابان وإيطاليا وغيرها، وهكذا هو مسطر في القوانين الدولية ومبادئ علم السياسة؛ لأن الدستور يعكس في النهاية أهداف من وضعه.
وبالرغم من سماح الاحتلال وأذنابه لسنة العراق بالمشاركة في لجنة الصياغة بطريقة شكلية فقد تم تجاهل كل مطالبهم، بل وقُتل منهم اثنان من الأعضاء القانونيين في اللجنة وهما: د.ضامن حسين العبيدي ود. مجبل الشيخ عيسى. مما دفع بسنة العراق إلى تعليق المشاركة حتى يُفتح تحقيق دولي في قضية الاغتيال، وأنى له أن يُفتح !!
لقد كانت رحى الاحتلال السياسية ماضية في تفتيت السنة وتهميشهم من المشاركة، فيما كانت رحاه العسكرية تطحن بكل ترساناتها في شوارع ومدن السنة بلا حسيب أو رقيب، وكانت النتيجة أنْ صيغ الدستور على ما أراده الاحتلال، ومن معه ليتم الإعلان عن بداية الفصل الثاني من مسرحية التمرير في عملية الاستفتاء.
محلياً -في العراق- تم الرفض الكامل للدستور بعد صياغته من طرف سنة العراق بكل أطيافهم السياسية، اللهم ما عدا الانتكاسة التاريخية التي صرح بمقتضاها الحزب العراقي الإسلامي تأييده للدستور مجازفاً بحقوق إخوانه السنة.
وإقليمياً نعتت كل من السعودية وسوريا وتركيا الدستور العراقي بالممهد للتقسيم، والمؤجج للحروب الأهلية، وأوروبياً صرح الاتحاد الأوروبي بأن الدستور العراقي ليس نموذجياً، أما أمريكياً فقد أجمعت مراكز البحوث الأمريكية على أن الدستور العراقي غير قابل مطلقاً لأي تطبيق عملي، وأن صياغته تمّت تحت ضغوط أمريكية، وأنه يفرق المجموعات العرقية في البلد، حتى وصف (جيمس كوجان) الدستور العراقي في مقالة نشرها مركز البحوث العالمية بأنه: "وصفة لحكم استعماري", وبأنه من بدايته إلى نهايته يرسّخ الأطماع الأمريكية الاستعمارية في الشرق الأوسط، وأن هذا الدستور تم باتفاق مع الأكراد و الشيعة لاسيما "حزب الدعوة الإسلامي والمجلس الأعلى للثورة "بهدف إيجاد دولة عميلة لأمريكا. وأما صحيفة (نيويورك تايمز) فوصفت الدستور الحالي بأنه "لا يشجع على فرص عراق موحد ومسالم " أي أنه يشجع على التقسيم. ووصفت صحيفة(بوسطن غلوب) العملية الدستورية بأنها: "جاءت مخيبة للأمل وعملت على تفرقة البلد". ويُجمع خبراء القانون على أن لا شرعية للدستور الذي جرى" تمريره" لأنه:
أولاً: مرجعية لجنة صياغته نفسها غير شرعية؛ لأنها من وضع الاحتلال، وهو من وضع قانون الإدارة المؤقت، ومنه انبثقت لجنة الصياغة، وينص قانون جنيف لعام 1949م على أنه"لا يحق للاحتلال أن يتعرض للدستور" وها هو قد تعرض!!
ثانياً: إن لجنة صياغة الدستور لم يتم انتخابها على أساس الطوائف الممثلة للعراق.
ثالثاً: ثبوت تدخل الاحتلال في كل مراحل الصياغة بشكل مباشر، لعب فيه دور الوصي الآمر، والمحدد لزمن الصياغة ومكانها وأعضائها وشكلها النهائي، دون مراعاة للمتطلبات القانونية في ذلك.
رابعاً: القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة ينصان على أن لا شرعية لأي انتخابات تحت الاحتلال؛ لعدم وجود الإرادة والسيادة وحق تقرير المصير المغيّبة في إطاره.
وبالرغم من عدم شرعية الدستور وعدم مشروعية عملية الاستفتاء برمتها في إطار الاحتلال بإجماع أهل القانون. وبالرغم من كل محاولات التضييق و"الإرهاب" الذي مورس على أهل السنة لتمريره فإن عملية الاستفتاء كشفت عن فصل آخر من فصول المسرحية التي لعب أدوارها الاحتلال وأتباعه من الشيعة والأكراد، فماذا جرى في أثناء الاستفتاء؟
الفصل الثاني: وفيه تم التلاعب بالنتائج فقد استفاد الاحتلال من تجربة
الانتخابات في أسلوب تجاوز المعارضة السنية وكل معارضة إقليمية أو دولية، ولم يعد يشعر بالحرج السياسي والقانوني في تمرير أي أجندة سياسية تخدم مشروعه هذا.. وهذا ما جعله أكثر جرأة في عملية تمرير الدستور وأكثر تحدياً لكل القوانين والمواثيق الدولية بدءاً من ديباجة صياغة الدستور ومروراً بتحديد مدتها الأقصر في التاريخ، وانتهاء بتزوير نتائج الاستفتاء.
لنتذكر جميعاً أن أول إعلان حاسم عن وفاة ياسر عرفات كان على لسان البيت الأبيض؛ فقد كان أول من أعلن عن وفاته، وهو لا يزال راقداً في فرنسا؛ إذ خرج بوش يترحم عليه قائلاً: "ليرحمه الله"، في وقت كان الأطباء الفرنسيون والعالم يجهلون نبأ موته وسط تضارب قاتم للأنباء!!(18/215)
وأثناء عملية الاستفتاء على الدستور العراقي وقع الشيء نفسه، و بالطريقة نفسها، فقد أعلن بوش على لسان وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس أن الدستور العراقي تم إقراره؛ إذ صرحت بأنه "وعلى الأرجح، تمّ قبول مسودة الدستور العراقي الجديد". وفي تعليقاتها كرّرت رايس ثلاث مرات أنّ الدستور تمّ قبوله حتى قبل إعلان النتائج!! فيما كان الشعب العراقي والعالم يجهل نتائج الاستفتاء، في إشارة واضحة لكل الأطراف المعنية داخلياً وخارجياً بأن الدستور" سيمرّ يعني سيمرّ"!! أحبّ من أحبّ وكره من كره!! وفي رسالة واضحة أيضاً للمفوضية العليا بتزوير نتائج الاستفتاء كما فهم ذلك سنة العراق، وصرح بذلك رئيس مجلس الحوار الوطني صالح المطلك.
أما على صعيد الساحة العراقية وبعيداً عن جدال أرقام ونسب التصويت فقد شهدت عملية الاستفتاء تجاوزات فادحة مكشوفة أعلن إثرها سنة العراق بكل قياداتهم السياسية نداء استغاثة للمجتمع الدولي بأن "الاستفتاء" يتم تزويره. فقد صرح صالح المطلك رئيس "مجلس الحوار الوطني العراقي" (يضم عدداً من القوى السنية) أثناء عملية الاستفتاء أن نتائج محافظة ديالا تعرّضت للتزوير، وقال في تصريح لقناة (العربية) ما نصه: "ما حصل في ديالا -على سبيل المثال- اللي يخلينا نقول: إنه ما يجوز تتكرر هذه الممارسات "أن قوات الدولة" داهمت مراكز الاقتراع وسحبت صناديق الاقتراع بالقوة من المفوضية، وهذه المعلومة جاءتني من ممثلينا هناك، ولم أعتمد على الممثل واتصلت بالموظفين التابعين للمفوضية العليا لكي أتأكد من الموضوع، وأجابوني بنفس الطريقة أن الصناديق أُخذت منهم بالقوة من قبل قوات الدولة، إذاً كيف تريد أن أقول: إنه لا يوجد هناك تزوير؟ لم أُخذت هذه الصناديق بالقوة؟"
وبعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء قال المطلك في تصريح لوكالة (رويترز): إن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أذعنت للضغوط الأمريكية، وتلاعبت في نتائج استفتاء الدستور لصالح زعماء الشيعة والأكراد المسيطرين على الحكومة العراقية الانتقالية.
أما هيئة علماء المسلمين في العراق (أعلى مرجعية للسنة في العراق) فقد أعلنت رفضها لنتيجة الاستفتاء على مسودة الدستور العراقي، التي أعلن إقرارها، موضحة أنها لم تُفاجأ بنتيجة الاستفتاء. ووصفت مشروع التصويت في بيان لها بالمؤامرة الكبرى، ودعت كل القوى الوطنية إلى رفضه بكل الوسائل، وقال الشيخ عبد السلام الكبيسي الناطق الإعلامي باسم الهيئة: "إن الدستور هو دستور احتلال"، مؤكداً أنه سيزول مع زوال الاحتلال عن الأرض العراقية.
ووصف حسين الفالوجي (وهو من الشخصيات السنية البارزة) الاستفتاء: بأنه استفتاء تلاعبت به واشنطن. واتهم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي وصفها بأنها غير مستقلة وتخضع لسيطرة الأمريكيين المحتلين بتزوير الاستفتاء وقال: كلنا يعلم أن هذا الاستفتاء زوّرته المفوضية العليا غير المستقلة للانتخابات.
ولكن تلك التصريحات ما كانت لتُسمع في ظل الغطاء الإعلامي والرعاية الأمريكية لسير عملية الاستفتاء؛ فقد جاءت محاكمة صدام لتشغل أنظار الشعب العراقي والعالم 180" درجة" عن كل شيء إلا عن محاكمة صدام المثيرة، في وقت حاسم كان يُعاد فيه فرز نتائج التصويت في الموصل التي كان رفض الدستور فيها بنسبة عالية تصل إلى 90% . وبعد أن تم الإعلان عراقياً عن نتائج الاستفتاء قام أهل السنة المغلوبين على أمرهم بالطعن في نتائج الاستفتاء، كما طعنوا من قبل في شرعية الاحتلال وشرعية الانتخابات وشرعية الصياغة.
صحيح أن قانون جنيف عام 1949م لا يعترف بقانونية أي استفتاء أو انتخابات تجري في ظل الاحتلال لعدم وجود الحرية والسيادة والاستقلال لكن حتى لو قدم سنة العراق مليار طعن من الطعونات القانونية في عملية الاستفتاء فلن يجدوا من ينصفهم في ذلك لسبب بسيط واضح هو أن من يشكونه هو القاضي "ومن استرعى الذئب فقد ظلم".(18/216)
ما جرى في إطار هذه العملية ليس كل شيء؛ فهناك نكسة تاريخية للاحتلال فاقت النكسة الفيتنامية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ومعنوياً هذا بالضبط ما تتحدث عنه الأقلام السياسية الأمريكية نفسها، وفي ظلها يتساءل المراقبون: هل سيشهد العالم نهاية فعلية للاحتلال في أحضان الموالين له من الشيعة وغيرهم ؟! عموماً هذا ما ترسمه الأحداث اليومية في الساحة العراقية، وهذا ما تخبرنا به دروس التاريخ وقوانين وسنن الله في هلاك واندحار المعتدين الظالمين أيضاً!! فلا أمريكا بترسانتها، ولا أذنابها داخل العراق بقادرين -حتى الآن- على الخروج (بحفظ ماء الوجه) من مستنقع الساحة الخضراء الضيق....بينما ساحة المعركة في العراق- كما يعرفها الجميع- أكبر من الساحة الخضراء بكثير. وبالرغم من أن سنة العراق قرّروا الدخول في الانتخابات البرلمانية القادمة، وشكلوا "جبهة التوافق العراقية" كإطار موحد يجمع شتات السنة، ويعطي قوة سياسية أكبر للمشاركة، إلا أن ما يجب أن يُحسب له الحساب هو ضمانات النزاهة، وإذا كان الدستور قد تم تمريره بالقوة و(البلطجة)، لا بالنزاهة فهل يا ترى ستمر الانتخابات هذه المرة نزيهة لا يكتشف فيها سنة العراق تزويراً ولا تبديلاً!! ما يبدو هو أن السنة في العراق ليس لديهم أي قناعة بوعد نزاهة الانتخابات الذي تردّده حكومة الجعفري المتهمة بعدم الثقة والطمأنينة!! لكن -ومع القناعة بعدم النزاهة- فهم مصممون على المشاركة لكونهم متأكدين من أن مشاركتهم ستسفر عن حلّين هما الرهان الرئيس المشجع على المشاركة:
الأول: إمّا أن يحصلوا على ما يستحقونه من التمثيل السياسي في العراق كاملاً غير منقوص، وحصولهم على هذا الاستحقاق يؤدي تلقائياً إلى التخفيف من شدة الاحتقان التي يعيشها العراق، ويجنّب أبناء شعبه حرباً طائفية استوفت جميع الشروط اللازمة لقيامها .
الثاني: وإما أن تزوّر نتائج الانتخابات كما زُوّرت نتائج الدستور من قبل؛ فينقلب السحر على الساحر، وتدور على الاحتلال وأعوانه الدوائر، ويكون سنة العراق وقتئذ قد استنفدوا كل السبل السلمية الممكنة لإعطاء فرصة للحلول السياسية في إطار نزيه، واستنفاد هذه السبل يعني بقاء الخيار الوحيد والمتمثل في التفاف كافة التنظيمات السنية حول المقاومة المسلحة وتبنيها للاتجاه المسلح. وعشية الانتخابات البرلمانية القادمة...لا يزال (سيناريو) الإبادة آخذاً في الاستفحال، ولا تزال أشكالها آخذة في التنوع؛ ففضائح التعذيب والاغتيالات التي كُشِف عنها مؤخراً في سجون الاحتلال ومنظمات حلفائه من الشيعة كمنظمة الإرهاب المنظم المسماة: (بدر) ..كل هذه الفضائح تعطي مؤشراً خطيراً على استكمال كافة الشروط الموضوعية لقيام حرب طائفية في العراق يكون المستفيد الأول منها هو الاحتلال...وإن كانت في نظر المراقبين قائمة بالفعل من طرف أتباعه وحلفائه في الداخل، لكنها لم تُجابه بردة فعل حاسمة من قبل سنة العراق.. وفي تلك الفضائح التي تم كشفها وإدانتها حتى من قبل الأمم المتحدة.. مؤشر خطير على هوية مَن سيحكم العراق وكيف سيحكمه!! ولصالح من سيحكمه!!.هذا - طبعاً- إذا استطاع الخروج سالماً من مأزق الساحة الخضراء! وما هو -باعتقاد المحللين- بخارج!
========================(18/217)
(18/218)
الصحوة الإسلاميّة في السنغال..نجاحات ثقافيّة واقتصاديّة
رضا عبد الودود 5/6/1426
11/07/2005
لعل الكثيرين من المهتمين بالشأن الإسلامي والمشتغلين بالسياسة يغيب عن أذهانهم تفاعلات الحياة السياسية ودور القوى الاجتماعية داخل المجتمعات الإفريقية، ولعل الحديث عن أوضاع التيار الإسلامي في السنغال يأتي من قبيل مناقشة إمكانيات تعميق التقارب مع الدول الإفريقية التي لا تتجاوز معارف الكثير منها عن قشور المعرفة، بل إن الكثير من المسلمين العرب بل والأفارقة يعلمون تفاصيل الواقع الأمريكي أكثر من معرفة أحوال جيرانهم بفعل التقارب الثقافي والفكري بوساطة المنظمات المدنية والعلمية التي تلعب دوراً فاعلاً في صياغة ثقافة الشعوب العربية والإفريقية تمهيداً لتنفيذ الأطروحات العالمية والمخططات التي إذا تمَّ تنفيذها انقلبت ثقافة المنطقة رأسًا على عقب، ومن ذلك مشروع القرن الإفريقي الكبير الذي يعمل على محاصرة التوجه العربي والإسلامي المرتبط بالإقليم منذ قديم الأزل، وإحلال ثقافة إفريقية مسيحية بدلاً منه. ومما يزيد خطورة الأمر أن مشروعي الشرق الأوسط الكبير وتوسيع جامعة الدول العربية يهدف كلاهما إلى أن يكون التقارب والتكامل على أسس جغرافية فقط وتجاهل لبنة الدين والثقافة، وهذا يعني بوضوح قبول الكيان الصهيوني كعضو "شرعي"، وإذابته بيننا بسهولة.
مما يلزمنا التعرف على أحوال المسلمين في السنغال البالغ تعدادهم نحو (12) مليون نسمة، معظمهم مسلمون؛ إذ يشكلون نحو 95% من عدد السكان أغلبهم يتبعون المذهب المالكي كعادة غرب إفريقية، مركزين على التيار الإسلامي نبض هذه الأمة وحامل هويتها في زمن صراع الحضارات..
صراع فرنسي أمريكي
وتبدأ فصول المشهد السنغالي من الصراع الفرنسي الأمريكي على إفريقية؛
تُعدّ فرنسا من أكبر الشركاء الاقتصاديين للسنغال التي تتلقى معونات اقتصادية فرنسية تشكل العمود الاقتصادي للسوق السنغالي، إلا أن تلك العلاقات شهدت تراجعاً حاداً منذ أحداث سبتمبر 2001؛ إذ شكلت زيارة بوش للسنغال وعدة دول إفريقية في 2003 انقلاباً في علاقات السنغال مع فرنسا ليطفو على السطح شعار مكافحة الإرهاب أساساً جديداً للعلاقات مع واشنطن!!
الغريب أن الحركات الصوفية المبتدعة تنشر في السنغال بطريقة تلفت النظر وهي أحدى الأسباب الرئيسة في عرقلة الصحوة الإسلامية الصحيحة في السنغال؛ إذ ينتمي أغلب الصوفية هناك للطريقة التيجانية، ويمتلكون أكبر المزارع، بالإضافة إلى تلقيهم أموالاً طائلة تحت شعار هدايا من مريدين في أوروبا وأمريكا، وقد شهدت الفترة الأخيرة صراعاً وتبادلاً للاتهامات بين الطرق الصوفية بسبب جمع تلك الأموال المشبوهة، ولعل أخطر ما في تلك الصراعات استخدامها من قبل الحكومات السنغالية المتتالية في تصفية الحسابات السياسية مع الخصوم خاصة مع التيار الاسلامي (عباد الرحمن) والعناصر السلفية الأخرى، وقام وزير الداخلية الأسبق (جيوليتي كه) بإغلاق مقر هيئة الإغاثة الإسلامية في العاصمة دكار واتهام القائمين عليها بالإرهاب، مما تسبب في اندلاع أعمال عنف لم تشهدها السنغال من قبل، وأسفرت عن حرق محطات البنزين والسيارات والعديد من المباني الحكومية في عام 1997، وخرجت المظاهرات التي قادتها جماعة المسترشدين والمسترشدات مع (عباد الرحمن) متوجهة إلى القصر الجمهوري، واضطر الرئيس وقتها إلى عزله لامتصاص الغضب الجماهيري.
الصحوة الإسلاميّة والرهان على الشعب
تأسست الجماعة الإسلامية السنغالية "عباد الرحمن" في جنوب البلاد في يناير سنة 1978م بعد اتصالات عدة قادتها مجموعة من الإسلاميين المقتنعين بضرورة الحل الإسلامي؛ إذ اتفقت مجموعة تجاوزت (200) شخص على إنشاء حركة إسلامية منظمة واضحة الأهداف محددة المعالم تعيد للشعب السنغالي هويته التي شابها الكثير من الانحراف بفعل الاستعمار الغربي (فرنسا) وتحكم مشايخ الطرق الصوفية في البلاد. وحسب الوثائق التأسيسية للحركة الإسلامية في السنغال فإن أهم الأهداف المرسومة والتي قامت عليها الجماعة هي: تنقية التوحيد لله عز وجل. و الالتزام بكلمة التوحيد عقيدة. والتزام توحيد المسلمين سلوكاً وممارسة، واحترام الأخوة الإسلامية، مع احترام غير المسلمين ودعوتهم للإسلام.
كما تعتمد الحركة على العمل الخيري لتجسيد الأخوة الإسلامية، وتهتم بشؤون المسلمين من خلال التربية والتعليم والعمل الاجتماعي كبناء المساجد والمدارس والمرافق العامة وتوثيق العلاقات مع كل القطاعات الاجتماعية السنغالية من جمعيات إسلامية وطرق صوفية وتجمّعات نقابية وأحزاب سياسية.
ولعل أهم ما يلفت النظر في التجربة الإسلامية في السنغال تركيز الحركة على التعليم بوصفه أحد أهم الأولويّات بالنسبة لحركة دعوية في طور النشأة والتكوين. وذلك لمواجهة الانقسامات والازدواجية التي يعيشها المسلمون بين التعليم الديني والتعليم الحكومي كما يقول الشيخ مالك انجاي مرشد الحركة الحالي. ومن ثم أنشأت الحركة العديد من المدارس النموذجية التي تجمع العلوم الدينية والعلوم المدنية.(18/219)
وتنطلق جماعة (عباد الرحمن) في السنغال عموماً بنظرتها الشمولية للدين وتعاملها مع كل أمور الحياة بهدف إيجاد مجتمع إسلامي حقيقي مع ما يتطلبه ذلك من تأنٍ، ومرحلية وتدرّج يتلاءم مع الوضع العام للبلد، وتأخذ بعين الاعتبار تطوّر الجماعة داخل المجتمع دون أن تنسى بالطبع الأهداف التي من أجلها وجدت. وترى الحركة أن أكبر وسيلة لتحقيق أهداف الجماعة هي: "الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وحل الخلاف بالتي هي أحسن، مع التنبيه بما استطاعت إليه سبيلاً".
وللحركة لجنة اجتماعية تقوم بدور اجتماعي بين قادة ورموز المجتمع السنغالي من أحزاب سياسية وطرق صوفية، لكن ذلك لم يمنع من وجود خلاف بينها وبين النظام الاشتراكي الحاكم آنذاك بزعامة عبده ضيوف.. ذلك أن الجماعة ركزت في خطابها الدعوي منذ نشأتها على نقد العلمانية من خلال المحاضرات والملتقيات العامة والنخبوية، وهو أمر ما كان ليروق لنظام متطرف في إعجابه بالعلمانية، مستغلاً في تسلطه الدعم الغربي ومساندة الطرق الصوفية.
وهكذا ظلت العلاقة بين جماعة (عباد الرحمن) والسلطة السياسية القائمة يطبعها شيء من التوتر وإن ظل محكوماً بالأطر القانونية، دون أن يتطور الأمر إلى الصدام إلى نهاية التسعينيات؛ إذ قرّرت الحركة في مؤتمرها السابع الانفتاح على السلطة السياسية القائمة.
حين بدأت العملية السياسية في السنغال تتجه نحو التغيير إثر الأزمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد وارتفاع أعداد الشباب العاطلين عن العمل والمطالبين بتغيير سياسي إلى الأفضل، عقدت الحركة عزمها على المشاركة في اللعبة السياسية، ودعمت رئيس الوزراء السابق مصطفى أنياس في الجولة الأولى مع مجموعة من القوى السياسية المختلفة، وفي الجولة الثانية بدّلت الحركة تحالفها وقرّرت دعم المرشح عبد الله واد رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي المعارض، وتم ما أرادوا، وأعلن رئيس الجمهورية الممسك بزمام الحكم عبده ضيوف هزيمته في الانتخابات وسقط نظامه، ودخلت البلاد في عهد جديد.
إدماج التربية الإسلاميّة في مناهج التعليم
وتحوّلت العلاقة بين الحركة الإسلاميّة والسلطة من سلبية في السابق إلى علاقة تشاور وتبادل مع النظام الجديد، بل شهدت تحسّناً ملحوظاً بعد دعم الحركة للدستور الجديد الذي قدمته الحكومة رغم علمانيّتها بعدما ارتأت الجماعة أنه أفضل للشعب السنغالي من سابقه خصوصاً في مجال الحريات السياسية.
إلا أن العلاقة بين الاثنين شهدت تطوراً سريعاً عام 2002م، وخصوصاً في مؤتمر الحركة الثامن الذي انعقد في داكار في الفترة ما بين 5 إلى 10 مارس، والذي مثل الحكومة فيه وزير الثقافة السنغالي أحمد تيجان وان، والذي عبر عن ارتياح حكومته تجاه الحركة، وقد فاجأ "وان" الحضور بإعلان الحكومة السنغالية الموافقة على إدخال مادة التربية الإسلامية في المدارس النظامية، والذي كان من أهم مطالب الجماعة خلال السنوات الماضية مشيداً بالدور الكبير الذي لعبته الجماعة في تربية وتكوين الشباب .
التنمية والفقر تحدّيات للجميع
وتواجه الحركة الإسلامية بعض التحديات في ضوء الأزمة الاقتصادية السنغالية التي تعاني من نقص الموارد وضعف الإمكانيات؛ في ظل ابتعاد غالبية الشعب عن مبادئ الدين وقيمه الحضارية، وهو أمر يثقل بدون شك كاهل الحركة الإسلامية. لذا فإن الصحوة الإسلامية في السنغال التي قطعت أشواطاً بعيدة في الإصلاح التربوي والاجتماعي لم يبق أمامها سوى خطوات لاستيعاب خبرة العصر وتوظيفها لتعجيل حركة التغيير الاجتماعي، والسعي لحضور رسمي في مؤسسات الدولة يوازي الحضور الشعبي ويكمله ويحصن الجهود المبذولة من خطر الاندثار. كما يُلاحظ كذلك أن الحكومة السنغالية من خلال تعاطيها مع جماعة "عباد الرحمن" تبدو جادة في منهج التغيير الديمقراطي والتدافع السلمي، وحريصة على مد الجسور مع أبناء الحركة الإسلامية، فهي متقدمة في هذا المضمار بدون شك على العديد من حكومات الدول الإسلامية داخل المنطقة وخارجها.
ولعل التحدي الأبرز للصحوة الإسلامية هو نجاحها في تفعيل لجنة للزكاة لمواجهة العراقيل التنموية في ظل الإسراف غير المبرر من أتباع الحركات الصوفية للمسؤولين الحكوميين الذين يستهويهم الفساد المالي واستغلال أموال وهبات أتباع التيجانية في مشروعات خاصة تؤثر سلباً في تنمية المجتمع السنغالي الذي يتهدّده الفقر ومشروعات التنصير التي ترفعها المنظمات التنصيرية الدولية التي تغزو غرب إفريقية التي تتمتع بغالبية كبيرة من المسلمين لا تروق للمنظمات الكنسيّة التي تترعرع مشروعاتها وسط جهل المسلمين وفاقتهم الاقتصادية.
ولعل جهود الصحوة الإسلامية بمختلف منظماتها الخيرية بدت أكثر اهتماماً بالموارد الذاتية والداخلية بعد حملات الإغلاق بحق المنظمات الإسلامية الخيرية ومنظمات الإغاثة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي بعد تبني غالبية دول العالم لشعارات مكافحة الإرهاب وقطع سبل تمويل مشروعات الكفالة لجوعى وفقراء إفريقية والمسلمين.(18/220)
وفي هذا الإطار تبدو شبكة "الدراسات والبحوث الإسلامية للتنمية" في السنغال أكثر نجاحاً في تنظيم عدد من الدورات المفتوحة لكل السنغاليين تتضمن ندوات وبحوثاً متعمقة في مسائل زكاة الأموال والثمار، كما تتطرق إلى الاجتهادات والمتغيرات المستجدة على الساحة السنغالية والإفريقية التي ترتبط بمصارف الزكاة، فضلاً عن مناقشة سبل إنشاء لجنة وطنية للزكاة".
في ظل افتقار الخطاب الدعوي والوعظ والمحاضرات التي يلقيها العلماء للمعالجة الحقيقية لقضايا الزكاة، إضافة إلى ضعف المعلومات الشرعية التفصيلية عن الزكاة. يُذكر أنه لا يوجد مصارف رسمية للزكاة في السنغال، ويتم تحصيلها بشكل فردي وعلى أساس انتماءات ولائية للعلماء والدعاة. وتعثّرت محاولة جرت عام 2000 في السنغال لإقامة مؤسسة زكاة إسلامية إفريقية تغطي عدة دول في غرب إفريقية؛ بسبب ضعف المساهمات من الدول والخلافات الإجرائية
==================(18/221)
(18/222)
تبرئة قاتل إيمان!!
إبراهيم الزعيم 9/11/1426
11/12/2005
لم يكن قرار المحكمة العسكرية في قيادة المنطقة الجنوبية للجيش الصهيوني التي برّأت الضابط الذي قتل الطفلة إيمان الهمص (13عاماً) في الخامس من أكتوبر من العام 2004 في رفح مستغرباً، لكنه -وعلى الرغم من ذلك- يكشف مدى الاستهتار بأرواح الفلسطينيين ليس المقاومين فحسب، بل حتى الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة.
ضوء أخضر للقتل
إيمان التي قُتلت بدم بارد استشهدت أثناء مرورها من أمام أحد أبراج المراقبة الصهيونية، وهي تحمل حقيبتها المدرسية؛ إذ أطلق الضابط الصهيوني ما يزيد عن عشرين رصاصة على جسدها، بحجة الاشتباه بوجود متفجرات في حقيبتها.
يحدّثنا شقيقها إيهاب معقباً على هذا القرار فيقول: لقد كان هذا القرار متوقعاً من قبل حكومة الاحتلال؛ لأن هذا القاتل قبل ثلاثة أشهر أخذ وسام الشجاعة على قتله للأطفال، وبخاصة إيمان، ولذلك كان عندنا شعور بأن قرار القضاء لن يكون في صالحنا.
ويضيف إيهاب بأن هذا القرار يمنح الجنود ضوءاً أخضر لقتل الأطفال الفلسطينيين، واصفاً ذلك بالإرهاب.
ويقول إيهاب: إن هذا القرار لن يمر مرور الكرام، ولن يُسكت عنه، مضيفاً " لقد قدّمنا استئنافاً للمحكمة والقضاء، وإذا لم ينصفنا سنلجأ للقضاء الدولي".
ودعا المحامين العرب إلى الوقوف بجانبهم ليس في هذه القضية فحسب، بل في كافة القضايا التي تخص الشعب الفلسطيني.
صك مفتوح
حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وعلى لسان مشير المصري الناطق الإعلامي باسمها قالت: إن هذا القرار يؤكد مدى التواطؤ الحكومي والرسمي مع الجنود والضباط المجرمين، ومع عصابات الإرهاب الصهيونية.
ويضيف المصري: إن هذا القرار يؤكد أن هناك سياسة صهيونية ممنهجة لقتل كل ما هو فلسطيني، ويؤكد على العقلية الصهيونية التي تتعامل مع الفلسطينيين، وهي عقلية الإجرام والإرهاب، مشيراً إلى أن قرار البراءة الذي أصدرته المحكمة يعطي الجنود الصهاينة مزيداً من الجرأة لارتكاب المزيد من الجرائم، لاسيما أن هذا القرار الصهيوني بمثابة غطاء وصك مفتوح لجنود وضباط الاحتلال ليستبيحوا كل ما هو فلسطيني.
وحمّل حكومة الاحتلال مسؤولية ما يترتب من تبعات على هذا القرار، موضّحاً أن العقلية الصهيونية والإجرام الصهيوني لن يُقابل بالخنوع من قبل الشعب الفلسطيني، مضيفاً "يجب أن يدرك العالم أن المشكلة في الاحتلال الذي يستهدف ويستبيح دماء أطفال الشعب الفلسطيني وهو الذي يقتل الأبرياء".
دولة عنصرية
أما حركة المسار الوطني الإسلامي فقالت في بيان صحفي: إنه بالرغم من اتهام النيابة العسكرية الصهيونية لهذا الضابط بإفراغ ذخيرة سلاحه الأوتوماتيكي في جثة الطفلة "الهمص"، إلا أنها برّأته، موضحة أن القرار جاء منسجماً وملائماً لسياسة إرهاب الدولة، الذي تنتهجه حكومات الاحتلال المتعاقبة، ضد الشعب الفلسطيني أطفالاً ونساء وشيوخاً دون تمييز.
وتضيف الحركة: إن هذه الأفعال تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، بأن دولة الاحتلال هي دولة عنصرية على الرغم من إدعاءاتها الكاذبة أمام العالم بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها تتمتع بنزاهة القضاء.
وطالب البيان بضرورة تفعيل قرارات محكمة العدل الدولية في لاهاي، والقاضية بمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة الذين ارتكبوا المجازر بحق المواطنين في فلسطين، وفي مقدمتهم ارئيل شارون، رئيس الوزراء الصهيوني.
ودعا البيان المجتمع الدولي إلى الضغط على الحكومة الصهيونية من أجل تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
يتلاءم مع إرهاب الدولة
وزارة الداخلية والأمن الوطني اعتبرت قرار المحكمة قراراً عنصرياً يتلاءم ويتوافق مع سياسة وعقلية ممنهجة يرتكز إليها إرهاب الدولة المنظم الذي تمارسه سلطات الاحتلال الصهيوني في تنفيذ عدوانها وجرائمها المستمرة ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وهو ما يشجع جنود الاحتلال على ممارسة شهوة القتل بدم بارد، وخارج إطار القوانين الإنسانية والضوابط العسكرية التي كفلتها اتفاقية جنيف الرابعة وغيرها من المواثيق الدولية.
قتلت مرتين
وبكلمات لا تخلو من السخرية يقول الكاتب أحمد دحبور في مقال له بعنوان "قتل النفس مرتين": "ولكن للإنصاف لا بد من الاعتراف بأن ذوي الدم الأزرق من شعب الله المختار المتعالين على البشر جميعاً، يمكن أن يقتادهم القضاء في حالات معينة إلى المحاكم.. من ذلك ما تردّد أخيراً من أنباء محكمة قد استغرقت عاماً كاملاً - أرأيتم العدل؟ - مثل خلالها الضابط الذي قتل الطفلة إيمان الهمص، بعد أن التبس عليه الأمر، فظن حقيبتها المدرسية عبوة متفجرات؟؟ بقي أن نذكر أن إيمان بنت السنوات العشر هي تلميذة في مدرسة ابتدائية".(18/223)
ويوجه الكاتب هجوماً لاذعاً للقضاء الصهيوني فيقول: "ومع ذلك فقد نطق الناطق بالحكم.. الضابط بريء، وقد كاد له بعض الجنود الذين يغارون من وسامته وشجاعته ورتبته. مع أن المسكين لم يفعل - باعترافه - إلا انه أطلق النار على الطفلة ظناً منه أنها إرهابية، ثم كشف القضاء العادل النزيه غير العنصري أن الطفلة ليست إرهابية، ولكن راحت في كيسها.. ولم يبق أمام القضاء غير المطالبة برد الاعتبار والشرف العسكري إلى الضابط .. لم يحصل هذا في جنوب افريقيا أيام حكم الابرتهايد، ولم يحصل في زيمبابوي عندما كان اسمها روديسيا.. بل حدث في الشرق الأوسط بعد أن قرر الرئيس الأمريكي أن يفرض الديمقراطية على الشرق الأوسط الكبير بمذابح القائم والرمادي والحلة وكربلاء ومدينة الصدر. ولعلي لا أتخابث إذا تساءلت عما إذا كان الرئيس الأمريكي سيمنح شخصياً وسام الشجاعة الديمقراطية لقاتل الطفلة إيمان الهمص.. والآن ، وحسب هذا الحكم القراقوشي العنصري كم ميتة تقدرون للطفلة الشهيدة؟.. لقد استشهدت حين أرداها مجرم الحرب، هذا الوحش البشري بدم بارد وهي بين لداتها وأترابها في طريقها إلى المدرسة.. ثم استشهدت هذه الأيام، أي بعد عام من موتها، حين رأى القضاء الصهيوني العنصري أن الجنود لا يدانون إذا كان ضحاياهم من الفلسطينيين".
إعلامي وقانوني
وحول رأي القانون التقينا المحامي ضياء المدهون - مدير مركز التجمع للحق الفلسطيني- فقال: يجب أن ندرك أن القضاء الصهيوني في مثل هذه الحالات يأخذ القرارات التي تعطي الضوء الأخضر لاستمرار إرهاب الدولة المنظم، من خلال هذه القرارات التي تبرئ القتلة أو تحكم عليهم بأحكام بسيطة.
وعما يمكن فعله قانونياً في مثل هذه الحالة يقول المدهون: ما يمكن فعله هو الاستئناف، وهو يقدم من جهتين: إما من الجاني - وهو في حالة كهذه لن يقدم على هذه الخطوة لأن القرار في صالحه -، والجهة الثانية هي النيابة العامة الصهيونية، وهي لن تفعل ذلك.
ويضيف بأن عائلة الضحية ليس بيدها أن تفعل شيئاً إلا المطالبة بالتعويض، وذلك لا يتم إلا إذا أُدين القاتل.
وعن دور المؤسسات الحقوقية يقول: المؤسسات الحقوقية تخوض غمار هذه المعركة باتجاهين:
الأول: إعلامي ويتمثل في رصد وتوثيق الممارسات الصهيونية وفضحها.
والثاني: قانوني ويتمثل في مخاطبة المحاكم الدولية، ومطالبة الدول الموقعة على اتفاقية جنيف بأخذ دورها.
==================(18/224)
(18/225)
أثر القلم النسائي في معالجة القضايا
د.نورة بنت خالد السعد 13/3/1428
01/04/2007
لقد ارتبطت مسؤولية (القلم) بالعلم والوعي، وكان النداء الرباني في الآيات الأولى التي تلقاها سيد البشرية ومعلمها الأول، ففي قوله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم".
ولهذا فإن من يحمل (أمانة القلم) ينبغي أن يكون في مستوى هذه الأمانة وهذه المسؤولية التي سيحاسب إذا لم يحسن أدائها، ولم يكن كفؤًا لها ولمتطلباتها من ثبات على المبدأ ووعي بمتغيرات الواقع وجذورها ومصدرها وآثارها السلبية والاجتماعية على بناء مجتمعه بالدرجة الأولى ثم بالمجتمعات عامة، ثم إن التكوين العلمي والنفسي والاجتماعي لمن تتحمل مسؤولية الكتابة، له دور كبير في تناولها لقضايا المجتمع، ومعرفتها بتقنيات الإقناع والتأثير في عرض الأفكار والالتزام بالثوابت الشرعية، والمعايير الاجتماعية، كي يمكن أن تستقطب الرأي العام لما تناقشه.
إن الثبات على المبدأ واستشعار القضايا المصيرية التي تمس حياتنا جميعًا رجالاً ونساء سيسهمان في التوعية بهذه القضايا، خصوصًا إن مجتمعاتنا تمر بمرحلة خطيرة من المؤثرات السياسية والثقافية التي أدت إلى طهور العديد من (القضايا) التي يمكن اعتبارها تغريبية ظاهرها التحديث والتقدم والتنمية والديمقراطية، ومبدأ الشراكة، وسواها من المفاهيم التي تحمل أبعادها العقدية الموغلة في الخطورة، والتي تؤثر في السياق الاجتماعي بأبعاده التربوية، والنفسية والاجتماعية والاقتصادية.
أعتقد هذه القضايا التي يمر بها مجتمعنا الآن أصبحت واضحة ولا تحتاج إلى برهان، فالانتقال من مصطلح (تجديد الخطاب الديني) وما يحمله من أبعاد، ومصطلحات (التخلف والتحديث) و(الديمقراطية)، و(حقوق المرأة) وفق منظومة اتفاقيات الأمم المتحدة، ومحاولة تطبيقها قسرا من خلال تمريرها عبر اتفاقيات الألفية الإنمائية، أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، هي القضايا الأساسية التي ينبغي أن تسهم الكاتبات في مناقشتها والتوعية بها، ولا نغيب القضايا الأخرى التي تهم المواطن في حياته اليومية مثل المشكلات السلوكية التي تصدر من الأفراد أو الشباب، أو البطالة، والفقر، والفساد الإداري، والواسطة، وسواها من قضايا يسهم الكتاب جميعًا في مناقشتها.
ما اقترحه هنا لدور القلم النسائي وأثره في القضايا وعلى وجه الخصوص المتعلقة بالمتغيرات العالمية، أن يتم من خلال الآتي:
أولاً: التوعية بجذورها التاريخية والعقدية، وما أهدافها الحقيقية وما آثارها على المنظومة المجتمعية، على الأسرة والتعليم والاقتصاد وإلخ...
ثانيًا: إذكاء الحس النقدي تجاه هذه القضايا، فالنقد هو وسيلة لتحقيق الوعي الاجتماعي، وهو الذي يجدد البناء الفكري للمتلقين من القراء، ويدفعهم للتحرك من المناطق الهامشية للحدث إلى مركز الدائرة فهم أو هن جزء من هذه القضية، الذين لا يمكن تجاوز أدوارهم الاجتماعية وبالطبع مستوى (وعيهم الاجتماعي) وكلما زاد الوعي الاجتماعي للأفراد كلما كانت هناك الإرادة الإنسانية للإصلاح والوقوف أمام أي سلبيات ومخاطر تهدد نسيج المجتمع.
ثالثًا: إشراك المتلقين في إيجاد الحلول لسلبيات القضايا التي استعرضت بعضا منها على سبيل المثال. إذ لا يكفي أن تكون هناك قضية يكتب عنها، بل ينبغي أن نسهم جميعاً في إيجاد حلول لسلبياتها، أو تعزيز لإيجابياتها، وتدريب الذات على (الفاعلية الاجتماعية) التي هي المحصلة الأهم لحوار الكاتبة والقارئ رجلاً أو امرأة.
إن دور القلم النسائي هو صوت الداعية وهموم المثقفة ، وتربية الأم ورعاية الأب، وحرص المعلمة، وتجاوب الطالبة، هو صوت الراعي وتجاوب الرعية، هو (الأمانة) وعلينا جميعًا (حملها) لنؤدي رسالتنا التربوية.
============(18/226)
(18/227)
لا صلة للسودان بالتمرد في اتشاد !
القاهرة / عبد الرحمن أبو عوف 18/4/1428
05/05/2007
أكد وزير الأوقاف السوداني د. التيجاني أزهري في حوار شامل لـ(الإسلام اليوم) أن حل مشكلة دارفور سهل، وممكن إذا رفعت واشنطن يدها عن هذه القضية، مشدداً على عدم قبول السودان نشر قوات دولية في دارفور إلا بعد استتباب الأوضاع وتوقيع اتفاقية سلام.
ونفى د. التيجاني وجود أي دور للسودان في دعم التمرد في تشاد، وهي الاتهامات التي يطلقها القادة التشاديون لصرف النظر عن تزايد حدة المعارضة للنظام هناك، وتحميل السودان المسؤولية عن متاعب النظام التشادي الداخلية ..
حول قضايا السودان الساخنة كان لنا هذا الحوار مع وزير الأوقاف السوداني د. التيجاني أزهري..
فإلى نص الحوار:
في البداية ما تعليقكم على الاتهامات التشادية للسودان بالتدخل في شؤونها الداخلية ودعم التمرّد؟
السودان لم يتدخل في شؤون تشاد من قريب أو بعيد، ولم يدعم المتمردين على النظام هناك، وهذه الاتهامات ليست جديدة، فقد سبق ووُجِّهت للسودان منذ فترة طويلة، ونفاها السودان بل وطالب بتشكيل دوريات مشتركة بين البلدين لحماية الحدود الطويلة جداً والوعرة بين البلدين، وهو ما رفضته انجامينا بدون أن نجد لهذا الموقف تفسيراً إيجابياً إلا محاولة تصعيد التوتر مع السودان، وهو أمر لا يصب في مصلحة الطرفين، وقد حذّرنا النظام التشادي قبل ذلك كثيراً من خطورة الاحتماء بالخارج ومحاولات تدويل قضايا المثلث الحدودي بين تشاد والسودان وليبيا؛ كون هذا التدويل يحمل مخاطر جمة على الجميع، وعلى الرغم من هذا وجدنا الإخوة في تشاد يحاولون تصدير مشاكلهم الداخلية إلى السودان، وتحميله مسؤولية التمرد، وهو أمر عجيب وغير مفسر؛ فقد طلبنا في فترة سابقة تشكيل لجان تحقيق تابعة للاتحاد الإفريقي مكلفة بالبحث في هذه المسألة وتحديد الطرف الذي يتدخل في شؤون الآخر، ولكن تشاد لم تتعاطَ إيجابياً مع جميع المقترحات.
بالعودة إلى مشكلة دارفور ومدى تعرّض السودان لضغوط إقليمية ودولية للقبول بوجود قوات أممية في الإقليم ، ما تعليقكم على ذلك ؟
أودّ في البداية أن أؤكد أن دارفور ستظل جزءاً عزيزاً من السودان، وأن ما يحدث في الإقليم حالياً من اضطرابات هو أمر طارئ ومصنوع وقابل للاحتواء، لكن بوعي وبتعقل يصبح حل هذه الأزمة أمراً ميسوراً، ونستطيع بدعم من الإقليمين العربي والإفريقي تجاوز هذه الأحداث التي يتم طرحها في الإعلام الغربي بشكل مبالغ فيه، ولا يعبر عن الواقع، وإنما يعبر عن إستراتيجيات غريبة عن المنطقة، ويأتي في إطار المحاولات الأمريكية لدخول السودان عبر خيار التقسيم الذي هو جزء أساس من مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو أمر خُطّط له جيداً بعد انتهاء الحرب الباردة لضمان هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وضمان بقائها قوة واحدة مسيطرة على العالم عبر السيطرة على مناطق ذات موارد طبيعية هامة ، وأنا أعتقد أن قضية دارفور لا تزيد عن كونها قضية انتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إذ تسعى إدارة بوش لتفجير القضية في وسائل الإعلام لاكتساب تأييد النخب الإفريقية واللوبي الإفريقي المؤيد تقليدياً للديمقراطيين، خصوصاً أننا على أعتاب انتخابات الكونجرس، وبمجرد انتهاء هذه الانتخابات ستهدأ الضجة المفتعلة حالياً حول الإقليم المضطرب.
محاولة أمريكية للسيطرة
لكنكم تجاهلتم الحديث عن الضغوط الإقليمية والدولية الخاصة بقبول قوات أممية في دارفور؟
هذه أيضاً من المشاكل المفتعلة الخاصة بالإقليم، ولكن إذا بحثنا الأمر من الناحية القانونية؛ فالسودان عضو في الأمم المتحدة، وتاريخنا مليء بالمشاركة في قوات حفظ السلام الدولية، ولكن المسألة لا تُطرح من الزاوية القانونية بل من الجانب السياسي ورغبة في الاتجاه إلى الحل الدولي؛ إذ يسعى الأمريكان بكل الطرق لإيجاد موطئ قدم في دارفور كمقدمة للسيطرة على المنطقة كلها، أما على الجانب العربي فالأمر لا يصل إلى الضغوط بل كانت هناك عروض لوجهات النظر المختلفة حول القوات الدولية، وشرح السودان للدول العربية مخاطر هذا التدويل على القضية، وهو ما كان له أثر كبير في تغيير وجهات نظر العديد من الدول التي كان غائباً عنها كافة المعلومات الخاصة بخطورة التدويل.
غياب عربي
لكننا سمعنا أخباراً متواترة أن غياب بعض العرب عن قمة الخرطوم وخصوصاً من جانب مصر كان بسبب رفضها قبول قوات دولية في دارفور؟(18/228)
أحب أن أنبّه فقط إلى نقطة هامة وهي أن قمة الخرطوم لم تكن استثتاء من القمم العربية ، فمتوسط حضور القادة في القمة كان (14) رئيساً بعكس القمم السابقة التي لم يزد الحضور فيها على (12) قائداً، وأظن أن انشغال القادة والرؤساء بملفات خطيرة في بلدانهم هي التي حالت دون حضورهم؛ فالرئيس مبارك رئيس أكبر دولة عربية لما جاء إلى السودان بعد انتهاء القمة بأقل من أسبوع، وقتها زار الجزائر التي تحدث البعض عن أنها قادت الحملة ضد تدويل قضية التطورات في دارفور، وأدلى بتصريحات تدعم مهمة الاتحاد الإفريقي لحل أزمة دارفور في محيطها الإفريقي إدراكاً منه أن القوى الساعية للتدويل لا تسعى لصالح أو خير المنطقة؛ لذا فالحديث عن عقاب عربي للسودان لرفضه التدويل أمر غير واقعي أو منطقي، وأقولها صريحة: إن السودان لن يسمح بنشر قوات دولية في دارفور إلا بعد التوصل إلى اتفاق سلام يمنع محاولات البعض للعبث بوحدة واستقرار السودان.
الرئيس البشير قال ذات يوم: إن قضية دارفور ليست معقدة، وإن سبب تفجيرها كان صراعاً على "جمل"، فلماذا تطورت الأمور إلى هذه الدرجة؟
مشكلة السودان أنه عانى طويلاً من حرب الجنوب التي أثّرت على التنمية في عديد من مناطقه، كما عانى أيضاً من تربّص كثير من القوى الدولية به، ورغبتها في عدم حدوث استقرار في السودان؛ فعندما اقتربنا من حل مشاكل الجنوب تم تفجير الصراع في دارفور وشرق السودان، وتلقفت دول عديدة هذه القوى للتآمر على السودان، ولكن هذه القوى التي فتحت لها قوى إقليمية دولية أبوابها اكتشفت أنها تحولت لأداة في يد هذه القوى للإضرار بالسودان، وهو الأمر الذي جعلها تفيق، وأقولها مطمئناً: إننا سنصل إلى حل قريب لقضية دارفور بدعم من المحيطين: العربي والإفريقي، فلولا الولايات المتحدة الأمريكية لتم حل أزمة دارفور في خمسة أيام؛ لأنها في المقام الأول قضية مصنوعة لتحقيق أهداف إستراتيجية أمريكية ساعية للسيطرة على المناطق الإستراتيجية ذات الثروات الطبيعية.
محطة انطلاق للموساد
يتحدث الكثيرون عن دور صهيوني فاعل ووجود مكثف للموساد في أزمة دارفور، وتتردد اتهامات عن استخدام الأراضي التشادية كمحطة انطلاق لأنشطة معادية في الإقليم ؟
هذا أمر مؤكد، وإسرائيل وأجهزتها الاستخباراتية موجودة في كل دول المنطقة لتحقيق أهدافها المتمثلة في الالتفاف حول العالم العربي، وتستغل وجود دول معادية للسودان لتكريس وجودها، ولا أستبعد أن تكون إسرائيل قد استخدمت علاقاتها مع هذه الدول لدعم التمرد في دارفور وغيرها، وإمداده بالأسلحة والعتاد، وخصوصاً أن القوات السودانية قد ضبطت أسلحة إسرائيلية وغربية في الإقليم، من ثم فإسرائيل موجودة في المنطقة بكثافة خصوصاً في منطقة البحيرات العظمى، وتعمل على استعداء الدول على مصر والسودان، وتستغل قضية المياه لتحقيق أهدافها، لكني أطمئنك إلى أن هذه القضية المعقدة التي تحتاج تكاتفاً مع جميع دول المنطقة يمكن حلها عبر دعم عربي فاعل لمصر والسودان، واستغلال رغبة أثيوبيا وأوغندا في البحث عن حل إقليمي لها.
تسود علاقات السودان حالات شدّ وجذب خصوصاً مع أريتريا وأوغندا .. إلى أين وصلت تلك العلاقات بين البلدين؟
مشكلتنا مع أرتيريا أنها لعبت دور الوكيل عن قوى دولية راغبة في زعزعة استقرار السودان، ثم إنها دولة هشة من حيث المؤسسات، وتخضع فقط لرغبات الرئيس أفورقي، ونحن من جانبنا سعينا كثيراً لاحتواء التوتر بيننا وبين أسمرة، لكننا كنا نصطدم في هذه المسألة بشيء من التعنت الأريتري، وفي الفترة السابقة شهدت علاقات البلدين تطوراً إيجابياً تمثل في موافقة كل من الخرطوم وأسمرة على تطبيع علاقات البلدين، وعدم العودة إلى أجواء التوتر السابقة، أما فيما يخص أوغندا فعلاقاتنا بها طبيعية، ومسألة جيش الرب متفق على حلها بين جميع الأطراف، ولكن تبقى معالجة القضية على الأرض، فيما هناك اتفاق شامل على الإستراتيجيات.
رؤوس عديدة
نعود إلى قضايا السودان الداخلية، ومنها تعدّد الرموز الكبيرة في الساحة السياسية هناك من أمثال البشير ـ الترابي ـ الميرغني ـ المهدي، وهي ظاهرة معقدة، ولا شك أنها أثرت سلباً على تفاقم مشاكله؟
هذه مشكلة كبيرة ومعقدة، خصوصاً أن هذه الرؤوس بينها خلافات سياسية، وصعب أن تجد هناك إجماعاً بينها على أي قضية سياسية، كما أن البحث عن حل لها في النخب السياسية السودانية مرهق للغاية، ولكن هذه المشكلة ستُحلّ بمرور الزمن، وباعتلاء الأجيال الشابة صدارة المشهد السياسي في السودان .. مشكلة هذه الشخصيات أن هؤلاء جميعاً تعدّوا مرحلة السبعين من العمر ما عدا البشير، أي أن لكل واحد منهم شخصيات قوية بارزة، مما يصعّب من مهمة جمع هؤلاء خلف قضية سياسية واحدة، لكن تتلاشى هذه المشكلة لدى أجيال التكنوقراط الشباب.
حذرت كثير من الدوائر من خطر تنصيري كبير في دارفور .. ما تقييمك لهذا الأمر؟ وهل حقق نتائج ذات قيمة؟(18/229)
لا يوجد خطر تنصيري في السودان على الرغم من وجود مئات من المنظمات التنصيرية، وهذا يعود إلى العمق الإسلامي الذي يحكم إيمان السودانيين بالإسلام، وعلى الرغم من وجود صعوبات إلاّ السودان غير قابل لأن يكون معقلاً للتنصير، كما أن القضية لها وجه إيجابي؛ إذ إن استتباب الأمن في السودان قد جعل الكثير من المسيحيين واللادينيين يقبلون على اعتناق الإسلام وليس العكس
===============(18/230)
(18/231)
د.زينب: تحريف القرآن دعاني لترجمته
حوار: عز الدين فرحات 24/2/1425
14/04/2004
د.زينب عبد العزيز -أستاذ الحضارة الفرنسية بجامعة الأزهر- درست الفرنسية منذ طفولتها بعد أن حفظت القرآن الكريم، كان والدها (رحمه الله) يتقن الفرنسية والإيطالية والإنجليزية؛ لذلك أخذت عنه حب تعلم اللغات، فالتحقت بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، وتخرجت فيه، وعملت معيدة بكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر، ثم انتقلت معيدة بقسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب جامعة المنوفية، وتدرجت في المناصب حتى وصلت رئيسة لهذا القسم، واختيرت عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية، ثم تركت العمل الإداري لتتفرغ لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية الذي تم إنجازه -بفضل الله تعالى- في أدق ترجمة ظهرت حتى الآن.
ولها إسهامات أخرى وكتابات متعددة منها "كتاب حرب صليبية بكل المقاييس" وكذلك كان لها إسهامها في مواجهة قانون منع الحجاب في فرنسا، وآخر كتاب صدر لها هذا العام بعنوان "الإلحاد وأسبابه، الصفحة السوداء للكنيسة" وحول هذه المحاور كان لموقع (الإسلام اليوم) هذا الحوار معها..
حول مشروعكم الضخم "ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية" متى بدأتم العمل في هذا المشروع ؟وكم استغرق من الوقت؟
بدأت ترجمتي لمعاني القرآن الكريم عام 1992م واستغرقت 8 سنوات بواقع 15 ساعة يومياً.
ما الدافع وراء قيامكم بهذه الترجمة؟
الدافع لذلك هو كثرة ما وجدته من تحريف متعمَّد في ترجمات المستشرقين، وما يوجد بترجمات المسلمين من جنوح نحو التفسير وهذا ليس من حق المترجم فالترجمة شيء والتفسير شيء آخر، كذلك نقل بعض المترجمين المسلمين عن الترجمات الغربية المحرفة بحسن نية أو عدم معرفة بالمعنى الدقيق للفظ.
هل من الممكن أن تذكروا لنا أمثلة من تحريفات المستشرقين في ترجماتهم لمعاني القرآن الكريم؟
هناك أمثلة كثيرة منها على سبيل المثال:
ـ ترجمة كلمة شعائر بمعنى وضع علامات أو إشارات r epe r ages رغم أنها تعني المناسك الدينية ولها ما يقابلها في الفرنسية r ites:
ـ «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي» (الأعراف: 157)
ترجمت: En Faveu r De ceux oui suivent l'envoge Lep r oph éte nate r nel وتعني «النبي الأمومي» (من الأمومة).
ـ «إن الله لا يخلف الميعاد»، وترجمت بمعنى «إن الله لا يتخلف عن المواعيد التي ارتبط بها»، Dieu me ma r gue pas ou r endey-vous وبالطبع فإن المقصود بالميعاد هو الوعد وليس الموعد!
ـ «خاتم النبيين» ترجمت بمعني الختم الذي تختم به الأوامر Le seeou Des p r ophetes
ـ « فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم»
ترجمت: بمعنى أن الله هو الذي تاب وليس آدم، رغم أن المقصود: أن الله هو الذي يقبل التوبة، والعديد من الأخطاء الأخرى التي أكدتها أيضا اللجنة التي شكلها شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق.
ما المنهج الذي اتبعتموه في هذه الترجمة؟ وبم تتميز عن غيرها من الترجمات السابقة؟
اتبعت كافة مناهج الترجمة وفقَا لمقتضيات النص القرآني مع مراعاة الدقة المتناهية لنقل المعنى والالتزام بمعنى النص وشكله من حيث الإفراد والجمع أو الزمن الماضي أو المستقبل أو المفعول المطلق وأساليب التفضيل وكلها صيغ لم يهتم بها أحد!.
هل واجهتكم صعوبات أو معوقات أثناء عملكم في هذه الترجمة ؟ وكيف تغلبتم عليها؟
لجأت إلى أستاذ أصول الفقه بالأزهر للتغلب على صعوبات اللغة العربية وقد تولى أسبوعياً لمدة 4 سنوات شرح وتفسير كل كلمة وكل حرف له دلالة، أو حتى ضرورة التشكيل، وكثير منها لم يراعه أحد في الترجمات الأخرى.
استمر عملكم في هذه الترجمة ثماني سنوات كيف كان أثر هذا العمل على حياتك الشخصية وبرنامج حياتكم اليومية؟
لقد ألغيت حياتي الشخصية وكرست برنامج حياتي اليومية لهذه الترجمة -فالحياة اختيار-؛ لذلك اخترت الأهم على المهم خاصة وأن ظروفي كانت تسمح لي بذلك فزوجي متوفى وابني يعيش بالخارج، وكان لي مُطلق حرية الاختيار دون أن أغبن أحداً حقّه.
قبل الحرب على العراق صدر لكم كتاب "حرب صليبية بكل المقاييس"
ما الذي جعلكم تجزمون بأنها حرب صليبية؟ و بعد مرور عام على احتلال العراق هل ظهرت مؤشرات تؤكد ما ذهبتم إليه من أنها حرب صليبية؟
الربط بين مختلف الأبعاد الدينية الكنسية والسياسية وعلاقاتها المباشرة مع مجمع الفاتيكان الثاني المنتهي عام 1965م الذي تم فيه اتخاذ قرار تنصير العالم.
والمؤشرات التي تؤكد ما ذهبت إليه من أنها حرب صليبية كثيرة منها على سبيل المثال: دخول المبشرين مع قوات الاحتلال، وإعلان بوش في 15/1/2004م تخصيصه 28 مليار دولار لبناء كنائس خلال هذا العام، وقيامه ببناء 14 قاعدة عسكرية بالعراق، وبداية اختلاقه دويلة للأكراد وهو ما يمثل بداية تفتيت العالم الإسلامي والعربي؛ ليسهل تنصيره.
في ضوء الأحداث الجارية ما رؤيتكم لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تنادي به الولايات المتحدة في المنطقة؟(18/232)
هذا المشروع لا يعني أكثر من التمهيد لإقامة "إسرائيل الكبرى" من النيل للفرات - كما يزعم الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين- وسيطرتها على المنطقة.
كان لكم موقف من قضية حظر ارتداء الحجاب في فرنسا في رأيكم هل إثارة هذه القضية في هذا الوقت دينية أم علمانية؟ بمعنى هل القضية حظر ارتداء الحجاب، أم حرب صليبية على الإسلام بشموله؟
قضية حظر ارتداء الحجاب في فرنسا تدخل بكل تأكيد في نطاق الحرب الصليبية على الإسلام بشموله، وقد أرسلت خطابين للرئيس جاك شيراك بخصوص هذا القانون .(1)
في ظل الأحداث العالمية المعاصرة والهجمة على الإسلام كلمة توجهونها للمرأة المسلمة ؟
على المرأة المسلمة أن تفهم الأبعاد الحقيقية لهذه الهجمة الشرسة على الإسلام، وأن تكون مثلاً ونموذجاً للإسلام الحقيقي، وألا تنجرف مع تيارات الغرب الكاسحة والتي تفرد لها المساحات الواسعة في وسائل إعلامنا
================(18/233)
(18/234)
بيت سيئ السمعة
سلمان بن فهد العودة 26/3/1425
15/05/2004
كنت أشعر بالقهر والغيظ يتغلغل في داخلي؛ كلما سمعت مسؤولاً في الإدارة الأمريكية يتحدث عن القيم والحرية والديمقراطية والحقوق!!
ولقد وصف كبير الأغبياء الحرب على العراق بأنها واحدة من أكثر الحملات العسكرية إنسانية في التاريخ.
أقول: لستم أهلاً لأن تعطوا الناس دروسًا في هذا المجال، وأنتم أول من يطيح بها!
ويشاء الله أن تتعرض هذه الإدارة لامتحان عسير في ما أسمته (حربًا على الإرهاب) وأن تتكتم لفترة على ممارساتها الوحشية في أفغانستان وغوانتاناموا ثم في العراق؛ لينكشف الأمر غير بعيد.
إن آلاف الصور التي نشرتها الصحف ومحطات التلفزة الأوربية والأمريكية؛ تفضح ممارسات في غاية البشاعة ضد الإنسانية والأخلاق، فتعرية الأجساد والإجبار على الممارسات الجنسية والإهانات النفسية والسحل والسحب والضغط الهائل والتضليل والقتل المتعمد هي مفردات في سجل أسود لهذه الإدارة وآلتها العمياء (البنتاجون).
والذي ظهر ليس سوى جزء من جبل الجليد!!
فهناك المزيد مما لم تصله الكاميرات، أو وصلته ولم يصل بعد إلى وسائل الإعلام.
ولقد يقول المرء: إن ممارسات البعث البائد أهون مما عملته هذه الإدارة خلال عام أو أقل!!
ولو أتيح لكل امرئ أن يتحدث ويظهر أمام وسائل الإعلام ليبوح بمعاناته؛ لكنا نسمع ونرى ما تشمئز منه النفوس وتنفطر القلوب وتدمع العيون مما ينسينا ما سمعناه من أمثالهم عن الحقبة السابقة.
ولعل هذا اليوم غير بعيد.
والإدارة ظلت متكتمة على هذا الإجراء الإجرامي لبضعة شهور حتى فضحتها الصور؛ فقال كبيرها ببلادة: إن الأمر لا يعجبه ..!!
ثم رفع اللهجة ليقول: إنها ممارسات شائنة!
لكن تظل الإشادة المفرطة بأداء العسكريين، ومحاولة حصر المسؤولية بعدد محدود من الجنود ليذهبوا ضحايا.
ومن الواضح أن الذي حدث هو جزء من عملية واسعة؛ للتحقير والإذلال وانتزاع الاعترافات وتدمير عوامل القوة والاعتزاز في نفوس العراقيين؛ بل وفي نفوس المسلمين، وأنها أمور مبيتة على أعلى المستويات.
ويأبى الله إلا أن تتحول الشواهد والصور ووسائل الإعلام إلى أدوات لتعرية وجه أمريكا القبيح وأعمالها الوحشية واستخفافها بالقيم الإنسانية؛ فلقد أصبحنا نعرف جيدًا ما تعني الحرية التي تعدنا بها أمريكا.. وماذا تعني حقوق الإنسان.. وماذا يعني الإصلاح والشرق الأوسط الكبير الذي يبشرون به..
وهاهم يعلنون الحرب على الحرية في القنوات العربية التي لم تندمج في برنامجهم ويمارسون الضغط السياسي الكبير، والإجراء الأمني والعسكري لعرقلتها أو تعويق أدائها كما فعلوا مع الجزيرة والعربية وغيرها !!
وها هي (الحرة) تغرد خارج السرب وتتجاهل معاناة الناس وهمومهم الحقيقية وتشاغلهم بقضايا خارج التاريخ، ولكن دون جدوى.
إن الأمر أكبر من الاعتذار! وهذه الصور وقود جديد لكراهية عارمة ضد أمريكا قد تتحول إلى طوفان جارف لا يميز ولا يفرق، وتصعب السيطرة عليه، أو التحكم في برامجه واتجاهاته وردود أفعاله، أو محاكمته بالمنطق.
وإذا كنا رأينا آلاف الاعتداءات العنصرية على مسلمين في أمريكا وأوربا بعد أحداث سبتمبر.. فكيف نتخيل ما سيقع نتيجة هذا القهر والعدوان الرسمي الموثق.. والمرتبط بعدوان أوسع على استقلال و إرادة الشعوب الإسلامية في العراق وفلسطين وغيرهما.
إنني أرى الأمر يتجه نحو مزيد من الوضوح والحسم، وإن شعوب الإسلام اليوم لم تعد تتحمل المزيد.
وهذا الإجرام الأمريكي والصمت الدولي والاستسلام العربي والإسلامي؛ سيصنع المزيد من الاضطرابات في الشعوب الإسلامية وسيحولها إلى برميل بارود قابل للانفجار.
ولعل أمريكا وإسرائيل تراهنان على زعزعة الاستقرار في بلاد المسلمين وحرمانهم من السلام الداخلي تمهيدًا لتغيير الأوضاع وفق ما يريدون!!
ولقد قال النبِي - صلى الله عليه وسلم -: "مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلاَمِ وَالتَّأْمِينِ"[ رواه ابن ماجة من حديث عائشة رضي الله عنها (856)].
وبيقين فاليهود لا يحسدوننا على مجرد تبادل التحية بيننا؛ لكنهم يحسدوننا على ما هو أبعد من مجرد اللفظ؛ يحسدوننا على السلام النفسي والهدوء الاجتماعي ومتانة العلاقة بين المسلمين ويسعون في الأرض فسادًا، والله لا يحب المفسدين.
نعم؛ إن اليهود ومتطرفي الإدارة الأمريكية الحالية يريدون خلخلة الأوضاع؛ باعتقاد أن خلط الأوراق يمهد لإعادة ترتيبها!
ولكنني أرى هذه حماقة رعناء جديدة؛ يرتكبها هؤلاء الطغاة دون أن يستفيدوا من دروس التاريخ، مما يكشف عن هشاشة القيم التي يتشدقون بها. وليس هذا ببدع في تاريخهم؛ فقد واجهت الجالية اليابانية داخل الولايات المتحدة اضطهادًا بشعًا أثناء الحرب العالمية الثانية.
وظلت أمريكا أكبر مصدّر للعنف في العالم كله، وأكبر متملص من الالتزامات الدولية في مجال العدل والحقوق إلا حينما تكون محتاجةً لها. ويكفي أن 45% من صادرات الأسلحة بالعالم أمريكية، ومنها الأسلحة التي يقتل بها الأبرياء في فلسطين.
يبقى السؤال الكبير منتصبًا أمامنا جميعًا:(18/235)
ماذا يتوجب علينا أن نصنع من أجل الإصرار على السلام في داخلنا ؟
كيف نتغلب على أسباب التوتر الذاتي الذي تحدثه لنا تلك الممارسات ؟
كيف نجمع بين رفض مؤثر وصوت مسموع ضد الاعتداءات المتكررة على كل ما هو مقدس لدينا .. وبين بعد النظر والرؤية المستقبلية التي تضمن لنا موقعًا سياسيًّا ومعلوماتيًّا وحضاريًّا أفضل بين أمم الأرض ؟
كيف نتلافى الروح الغضبية المفرطة التي هي من لوازم رؤية العار الذي يلحق بنا دون أن نحرك ساكنا ؟!
إن السلام النفسي والاجتماعي في خطر..
وعلى الذين يدركون أهمية المحافظة عليه أن يعلموا أن الصمت المطبق والسكوت المهين أمام غطرسة المتغطرسين هو أقوى عناصر هذا التفجير.
من حق كل مسلم أن يشعر بأن هذه الصور وما سيخرج بعدها يعنيه بصفة شخصية وكأنه يحدث له أو لعائلته، فهذا أقل مقتضيات الإيمان (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، "كمثل الجسد الواحد"، "كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ".
ومن حقه وواجبه أن يتدبر الوسيلة التي يعبر بها عن امتعاضه وانزعاجه لهذا الاحتقار اللعين لأبناء ملته ودينه.
وكيف لا وقد بدأت الخيوط ترشد إلى أن كبار المتطرفين الدينيين لهم أصابع في استخدام هذا النمط من الأذى النفسي والجسدي لتحطيم امتناع السجناء وتدمير رجولتهم وإنسانيتهم؟!
إن المطالب ليست هي رأس وزير الدفاع، ولكنها رأس السياسة الأمريكية العدوانية عديمة الحياء، والتي تعلن تأييد العنف الإسرائيلي، وتعلن العقوبات على سوريا، في الوقت ذاته الذي تستبطن المزيد من صور الممارسات البشعة التي يمهدون لظهورها وانتشارها.
ولو أن كل مسلم سجل شعوره الحي تجاه هذا البغي السافر في مقال، أو نشره في موقع، أو أعلنه في قناة فضائية، أو نادى به في مجلس لما كان لصوت مليار وربع مليار أن يذهب أدراج الرياح.
وربما كانت الأدلة تتزايد علينا يومًا بعد يوم لتقول لنا: إن كنتم صادقين في لجم هذه الحرب الصليبية فوحدوا المعركة ولا تضيعوا جهدكم القليل في صراعات صغيرة حقيرة لا تليق إلا بعقول التافهين.
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ
============(18/236)
(18/237)
المرأة السعودية بين التحرير والتطوير
أنور العسيري ـ ياسر باعامر 26/4/1425
14/06/2004
د.علي با دحدح
- تاريخ المملكة تأسيسًا سياسيًّا وتشريعًا قضائيًّا وواقعًا اجتماعيًّا ونهضة تعليمية؛ كانت فيه مكتسبات تتعلق بالمرأة بشكل لا ينبغي إغفاله.
- يجب أن نعرف هل قضيتنا الآن هي أن كشف الوجه فيه اختلاف فقهي؟!
- كثير من الدعاة كتبوا منذ عشرات السنين عن بعض القضايا وطرحوها في منابر عامة لكن مشكلتهم أنهم ميدانيون لاوقت لديهم للإعلام.
- دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب التي أسست عليها هذه الدولة كانت دعوة إصلاحية بالنسبة للمرأة.
- دعوات تحرير المرأة مصطلح حديث ونحتاج مزيد بحث في الدعوات المشهورة عند الناس مثل دعوات قاسم أمين وغيره.
د.عدنان باحارث:
حجم المال الذي يأتي للمرأة السعودية وهي غير مكلفة شرعًا بالإنفاق ضخم جدًا، وهذا ليس موجودًا في أي مكان في العالم.
- جاءت هدى شعراوي ومزقت الحجاب ليكون مظهراً على تحرير المرأة، والآن يأتون بصورة امرأة قادت طائرة أليس بين هذه الأمور رابط صحيح؟!
- حين تمل المرأة دورها في تكثير النوع؛ فإنها تريد أن تدخل ميدان الرجال والرجل لن يرحمها.
- الرجل اقتصاديًّا يخدم الاقتصاد حين يجمع الثروة ثم يفتتها؛ أما المرأة فهي تجمع المال شرعًا ولا تفتته إلا بالإرث فقط، والاقتصاديون يعرفون الخطر الذي يشكله هذا الأمر.
أدار الندوة:
أنور العسيري ـ ياسر باعامر
تقف المرأة السعودية اليوم في دعوات الإصلاح الركن الذي يحاول البعض التسلق من ورائه لتوجيه أهداف وتمرير مخططات استراتيجية ذات مطامح تتعارض وعقيدة الإسلام.. تستخدم هذه الكتل المتربعة صدر الإعلام الشعارات البراقة ومصطلحات التحرير ودعوات مقاومة الظلم وحرب الامتهان، في حين تجد واقعهم تعرية للمرأة وامتهان لكرامتها وتسليع لدورها داخل المجتمع، فغدت سلعة في سوق النخاسة، ومسخت هويتها لتصبح مطية إغرائية للترويج لأي منتج جديد..
ندوتنا التي سننطلق وإياكم في غمارها تهدف إلى قراءة هذه الدعاوى والتأصيل لضوابط الإصلاح الإسلامي للمراة السعودية ومقاومة المغريات وتوجيه سفينة النجاة عبر ضيوف كانت لهم بصمة في تاريخنا الإصلاحي.. نعبر وإياكم معهم إلى رؤية أكثر تنوعاً.. قابلة -ولاشك- للأخذ والرد وتوزع الآراء ومقابلة الاختلاف.
فضيلة الشيخ الدكتور علي با دحدح.. دعنا ننطلق من ندوتنا بعودة حقيقية بالذاكرة إلى الفضاء الأول الذي انطلق منه الإسلام بشموله وتكامله في وسط بيئة جاهلية تضع المرأة بإنسانيتها وحيوية دورها في زاوية دونية حتى وصل الأمر ببعض القبائل إلى أن يدفعهم الخوف من العار والفقر إلى وأدهن..السؤال الذي يبعث نفسه من خلال تلك المواجهة بين الإسلام ومظاهر الجاهلية والتخلف هو: كيف استطاع أن يغير الإسلام تلك الصورة البالية عن المرأة في الجاهلية إلى هذه الصورة التي حولتها من رهينة إلى شريك حقيقي في الحقوق والواجبات؟
الحقيقة التاريخية هي ما ذكرت -أخي العزيز-، إذ إن المرأة في العصر الجاهلي في الجزيرة العربية كانت تواجه من مجتمعها سلبيات كثيرة منها أن الحقوق المالية للمرأة لم تكن ذات اعتبار فإذا مات زوج المرأة انتقلت كسلعة، فمن يرث هذا الميت يرث معه زوجته ومتاعه وكأنها جزء من هذا المتاع. أيضًا كانت المرأة عارًا بحيث ينظر إليها نظرة أشبه بشيء يتبرأ منه أو يستحيا منه. النقطة الثالثة وهي الأكثر أهمية وذكرت ذلك عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الصحيح وهو انتشار ألوان البغاء وامتهانه في المجتمع الجاهلي، وهذا أيضا كان امتهان للمرأة فقد كان لهن رايات يعرفن بها وصور أخرى من وأد البنات، وإن كانت الصورة العامة الانطباعية ليست حقيقية، أي لم يكن العرب كلهم أو أكثرهم يمارسون هذا الجرم إنما كان بعضهم يفعل ذلك، وفي الجملة لم تكن المرأة في وضع ملائم يتناسب مع بيئتها.(18/238)
لكنه و في تلك الفترة كانت أيضًا المرأة تعتبر في أوضاع مهينة غير سوية في بعض الحضارات المعاصرة كالمسيحية بتحريفها؛ حيث كان من مباحثها في العصورالوسطى وما بعدها هل المرأة إنسان أم شيطان؟ هل لها روح بشرية مثل الرجل أم شيء آخر؟. والحضارة اليونانية جعلت المرأة سلعة تعرض وتمتهن من الناحية الجنسية والغريزية البحتة وغير ذلك من صور كثيرة.. ونستطيع أن نقول إن أكثر المحاور أو الركائز الأساسية التي وضعها الإسلام في النظرة للمرأة كشقيقة للرجل في أصل خلقتها وفي مبدأ تكليفها وفي أساس تكريمها وتشريفها...قال تعالى: ( ولقد كرمنا بني آدم ) أي ذكورًا وإناثًا وقال تعالى: ( خلقكم من نفس واحدة ). وأيضًا جعل التكليف في خطابات كثيرة للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وما هو مذكور في الصيغة الذكورية إنما خطابه للمذكر والمؤنث كما هو معروف في اللغة العربية وهذا جانب أول. أما الجانب الثاني؛ فهو جانب إكرام المرأة من وجهين: في الوجه الأول تشريفها و تقديرها بحيث تكون مصونة وتخدم وتحمل وترعى بشكل أساسي تكون هي التي تقدم لها الأشياء والخدمات. والوجه الثاني هو التكريم في حقوقها التي رتبت لها في كل الأوضاع أمًّا وبنتا وزوجة إلى غير ذلك مما هو معلوم. الجانب الثالث هو الدور الكبير للمرأة في الإسلام، وهو ما أشرت له في النقطة السابقة.. (الأم) والنصوص الشرعية في بيان مكانتها وذكر فضلها، ونعرف حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- "من أحق الناس بحسن صحابتي.. قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك إلى غير ذلك..، والنصوص معروفة في هذا. ثم (الزوجة) في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - :( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) وحقوق الزوجة معروفة في الإسلام من الصيانة والرعاية والإجلال والتكريم وحسن العشرة بالمعروف وما هو معلوم في هذا.. وكذلك النظرة إلى (البنت) نظرة إجلال وتقدير أيضًا، وقد حث عليه الصلاة والسلام على رعاية البنات وتخصيص أمر رعايتهن بالفضل لما يكون في نفوس بعض الناس من تفريق بين ذكر وأنثى.. هذه النظرة وجدنا الأحاديث تقف بقوة أمامها وحديث (من عال جاريتين...) مثال أمامنا.. كل هذا للتكريم والعناية بالمرأة.
آخر نقطة هو أن الإسلام شهد للمرأة في الحياة العامة بما يحقق أمرين: أولاً بما يناسب فطرتها وطبيعتها؛ لأن هذا هو الذي يحقق الفائدة، بمعنى لو أنت حملتني هذا الحمل وأنا لست قادرًا عليه فإنك سوف تضرني وتسيء إليّ ولن يكون هذا تكريمًا لي، فالإسلام جعل للمرأة دورًا يتناسب مع فطرتها وإمكانياتها، وذلك في الحقيقة هو الذي جعل المرأة تؤدي دورها بشكل جيد.
الدكتور عدنان باحارث الأكاديمي والمهتم بقضايا المرأة معلقاً على ما ذكره الدكتور با دحدح: لا يختلف العقلاء في الوضع الذي كانت عليه المرأة قبل ظهور الإسلام؛ بل ولا يختلف أحد على وضع المرأة في كل الجاهليات، سواء الجاهليات الوثنية قبل الإسلام في العصور السابقة أو الجاهليات المعاصرة أو اللاحقة، والواقع يشهد أن المرأة ما عرفت الخير في الحياة الإنسانية قط إلا في ظل القيادات الإسلامية.. قيادة الأنبياء -عليهم جميعًا الصلاة والسلام-، وفي قيادة خاتمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي جاء بهذا الدين الكريم العظيم الذي يحفظ للإنسان عموما ذكرًا و أنثى خيره. ومن ناحية أخرى أرى أنه لا يمكن أن يصل الظلم إلى المرأة إلا وقد وصل للرجل أولاً؛ فتجهيل الرجال يتبعه عادة تجهيل للنساء، وظلم الرجال يتبعه عادة ظلم للنساء، وكثيرًا ما يغضب بعض الناس ويظن أن المجتمع يظلم فقط النساء ولا يظلم الرجال، وليس من الغريب أن يكون الظلم عادة يقع جله وأكثر ألمه على المستضعفين في المجتمع؛ فالمرأة من أول الفئات التي يمكن أن يقع عليها الظلم بقسوة، وكذلك على الأطفال ومساكين الناس، لكن إذا وقع الظلم في العادة؛ فإنه يصيب الجميع، ولكن على تفاوت بين هؤلاء وهؤلاء، والإحصاءات التي تذكر دائما تتضمن تجهيل للموقف؛ فحينما يأتون بالإحصائيات في أي بلد لا يأتون أيضًا بالإحصائيات المقابلة لها في الذكور؛ فالعدد والنسبة متقاربة جداً، وأذكر مثالا واحداً: يذكر عن أحد الأدباء في بلاد شنقيط في موريتانيا عاش قبل ثمانين عاماً أنه قال: لا أعرف في بلادنا امرأة لا تقرأ ولا تكتب.. إن التعليم في الذكور قد وصل إلى مئة في المئة، وكذلك وصل في النساء، ويندر أن يوجد في مجتمعنا امرأة لا تقرأ ولا تكتب، وكيف وصل العلم إلى النساء في ذلك الوقت مع أن المرأة في ذلك الوقت كانت مستورةً محفوظةً؛ فدل على أن وجود العلم في الرجال لابد أن ينتقل قطعاً إلى النساء والأدلة على ذلك كثيرة جداً.(18/239)
الدكتور با دحدح متداخلاً: أنا أحب أن أضيف نقطة صغيرة تعقيباً على ما أشار إليه الدكتور عدنان وهو ما ذكره من تجهيل لإحصائيات المرأة؛ فهي تركز على المرأة ولا تذكر الرجل، أيضًا أنا أقول: إن اتجاه التاريخ ينقل لنا عن مجتمعات معينة أن المرأة كانت فيها المغنية، وكانت فيها المطربة؛ وكأن نساء العصور السابقة هن مغنيات ومطربات وراقصات؛ وهذا غير صحيح!. إن ما يحدث في الحقيقة توظيف غير منهجي وغير علمي مما نطرحه. ماذا عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب؟ هل ننظر فعلاً إلى أن هذه الدعوة التي أسست عليها هذه الدولة كانت دعوة إصلاحية بالنسبة للمرأة .. نعم فكما ركزت على التوحيد قامت بإعادة إحياء القيم الإسلامية والثوابت التي نظر من خلالها الإسلام إلى المرأة.
هل يمكن أن ننظر إلى أن تأسيس هذه الدولة بمشروعها الإسلامي الإصلاحي نظر نظرة إيجابية تجاه المرأة؟
د.با دحدح :أولا بالنسبة للدعوة الوهابية هي دعوة إسلامية وليست مذهبًا منفردًا والنسبة إلى الأشخاص هي قضية اجتماعية تاريخية موجودة، وقد جددت وأكدت ونبهت هذه الدعوة إلى كثير من الأخطاء؛ أبرزها قضية التوحيد لوجود مظاهر شركية وتعلقات بالقبور، لكنها أيضًا واجهت انحرافات بعض العادات والتقاليد والتي كانت أشد إجحافاً وظلماً وتجاهلاً للمرأة.
وفي البيئة التي ظهر فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب ربما كان فيها ولا زال بعض آثار عدم إعطاء المرأة حقها في الميراث وعدم إعطائها حقها في إبداء رأيها وقبولها ورفضها في مسائل الزواج؛ فلما جاءت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب جددت وأكدت المعاني الإسلامية بأصولها الشرعية، وكان من سياق ذلك التفكير في هذا والتنبيه عليه..
د. باحارث متناولاً أطراف الحديث :
بالنسبة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -عليه رحمة الله- هي دعوة كغيرها من الدعوات الإصلاحية في بلاد المسلمين.. دعوة مجتهدة لإعادة المسلمين إلى ما كانوا عليه من قوة وتمكين، مرتبطين في ذلك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهي كغيرها من الدعوات تقيم في حدود القيم التشريعية والإسلامية.. هناك اجتهادات قد تكون مصيبة وقد تكون هناك اجتهادات أيضًا مخطئة في هذا، لكن عموما هي دعوة إسلامية إصلاحية لا نشك في ذلك، ومحمد بن عبد الوهاب -عليه رحمة الله- من المصلحين و قطعًا من أهل الخير والفضل، والمصلح لا يقصر نفعه على فئة معينة من الناس؛ فلا بد أن يكون لهذا الشخص نظرته للمرأة شمولاً وعمومًا ودعوته في القضية التي برزت هي الدعوة إلى معاني التوحيد ونبذ ما كان عليه بعض الناس في هذه الجزيرة من المخالفات الشرعية، والمرأة كانت مقصودة قطعًا في هذا؛ بل إن غالب ما يقع من الانحرافات في هذا الجانب كثيرًا ما يقع من جهة المرأة.. القضية واضحة؛ لكن قد لا يكون الخطاب في تلك الفترة يتناسب مع مخاطبة النساء، ولهذا نقول ونؤكد أن مخاطبة الرجل هي مخاطبة للمرأة حينما تخاطب الزوج إنما أنت تخاطب زوجته كما أنك حين تخاطب الأب فأنت تخاطب أيضًا ابنته.. القضية واضحة، وليس فيها هذا التزمت الذي يريد أن يلبسه علينا بعض الناس؛ فالصلاح في الرجل لا بد أن يتبعه صلاح في المرأة وهذا أمر مشاهد. بالنسبة للشيخ محمد بن عبد الوهاب برز في فترته جمع من النساء، وأذكر أن بعض النساء اللواتي كانت لهن أدوار بالغة جدًّا في دفع أعداء الشيخ وقد ذكر الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- في بحث لطيف عن دور المرأة في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وذكر فيها جمع من النساء منهن امرأة كان لها دور رئيس في هذه القضية، حين حمت أحد دعاة آل سعود الكبار من أن يُقتل، وهذه مسألة الحقيقة من المهم أن تذكر، لكن مع كل هذا أن المسألة دخلت عفوية ولا يقال دور المرأة ونحو ذلك المسألة دخلت عفوية، و المرأة التي كانت بعد زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشاركت في قتل الأسود العنسي.. إنه المجتمع المسلم بكل أطيافه يمثل جسداً واحداً متكاملاً متعاضداً في صالح الإسلام، وهو ليس بغريب على المرأة المسلمة، لكن إبرازه بهذه الطريقة مقابل نشاطات الرجل أمر خاطئ، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الناس من الذين يريدون أن يبرزوا المرأة على حساب الرجل أو يبرزوا الرجل على حساب المرأة. نقول: المسألة لا تسير بهذه الطريقة وإنما المرأة والرجل يسيران في طريقين متوازيين إلى الله -عز وجل- وليسا بمتعارضين.
ألا تعتقدون أهمية أن نراعي ونحن نقرأ التاريخ ظروف وطبيعة ذلك العصر الذي كان ينظر للمرأة نظرة غير إيجابية وأثر هذه الدعوة المباركة في تحقيق هذه المكاسب للمرأة السعودية؟(18/240)
د.باحارث: نعم علينا أن ننظر إلى أن تأسيس هذه الدولة وتحالفها مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عودة للإسلام بشموله وتكامله، وحتى لو لم ننظر إلى تفصيلات موضوع المرأة بفرعياتها وحتى أسسها؛ لكن بنظرة عامة عودة الدعوة إلى أصالة الفهم الإسلامي البعيد عن تخر صات البدع والتقاليد المنحرفة عن الإسلام دعوة إصلاحية هدفها تحرير المجتمع رجاله ونسائه على حد سواء من ربقة الجهل والتخلف، وإذا قرأنا دعوات تحرير المرأة التي مرت بمجتمعاتنا العربية والإسلامية دائمًا نشاهد أن هناك في كل عصر ومصر مجموعة ونخب ثقافية تدعو إلى تحرير المرأة والقيام بإصلاحات، ودائما ينصب التركيز على المرأة؛ والغريب أننا لم نسمع في تاريخ الحركات الإصلاحية دعوة لتحرير الرجل!
في المقابل نحن لا نجد من الدعاة والعلماء إلا الوقوف في اتجاه الدفاع أمام أطروحات تحرير المرأة؛ فهل يعد هذا الموقف إيجابيًّا خاصة والأطروحات الإصلاحية التي تستهدف المرأة غالباً ما تغيب عنها الرؤية الشرعية؟
د. با دحدح : أولاً تاريخيًّا عندما نتحدث عن دعوات تحرير المرأة كمصطلح؛ فإننا نقرأ مصطلح حديث ظهر في القرن الماضي في منتصفه وأوائله ونحتاج مزيد بحث في هذه الدعوات المشهورة عند الناس مثل دعوات قاسم أمين وغيره.. ولا ننسى أيضًا أن هناك عناصر مختلفة من أهمها أن كثيرًا من هذه الدعوات ارتبطت أيضًا بالعنصر الخارجي الأجنبي الذي كان يمثل في ذلك الوقت عنصر الاستعمار: الاحتلال البريطاني في مصر، والفرنسي في سوريا وبلاد المغرب العربي. وأنه كان مؤسسًا لهذه الصورة التي ربطت باسم تحرير المرأة، وإن كان الاسم ليس صحيحًا وقد أسس لها عن توجه ؛لأنه يريد أن يصبغ هذه المجتمعات بصبغته: في مناهج التعليم، والحياة الاجتماعية، وفي الحياة الوظيفية. أيضًا هناك نقطة أحب أن أشير إليها وهي ما ارتبط بهذه الدعوات والقضايا التي اعتبرها استخدام للمرأة في الإغراء والإغواء والجانب الأنثوي منها، وهي قضية الفن وأكثر من بدأت بهم الفنون المسرحية والسينمائية والغنائية في العالم العربي هم من العرب غير المسلمين، وهؤلاء دخلوا بأسمائهم الفنية المسلمة. وهذا أيضًا يعطينا انطباعًا عن هؤلاء حتى ولو استبعدنا مسألة البراءة والإدانة هم ينطلقون من ثقافة وفكر مختلف، والعنصر الاجتماعي لم يتغير في حياتهم؛ فإذا كان لدي نصارى أو يهود في المجتمع؛ فهذا لا يعني أنهم سيصبغوا بثقافة المجتمع صبغة كاملة.. قد يؤثر فيهم المجتمع لكنهم يظلون مرتبطين بعقيدتهم ومبادئهم. و نقطة أخرى تتعلق بالقضية التي أشرت إليها، وفيها مغالطات كثيرة، إذ يُطرح سؤال: لماذا نقول إصلاح المرأة ولا نقول إصلاح الرجل؟ وهذا يدل على أنها قضية مقصودة فيها مغالطة وعدم وضوح رؤية، وحتى لا نتهم اتهامات جزافية نقول إن الربط بالمذهب العلمي المنهجي غير صحيح وأن ما يتم فيه نوع من القفز على الحقائق وهو نوع من تغيير العقل و إعطاء صور مبهرجة وربطها بقضايا ليست متصلة بها.
نحن نريد أن نتحدث عن أي قضية سواء كانت إصلاح المرأة أو أي قضية على مستوى المجتمع، بمنهج علمي وحقائق واقعية. عندما نتحدث عن هذا؛ ففي الأمر مغالطات كثيرة وتظهر في أمثلة متعددة. حتى الناحية الاقتصادية هناك فهم مغلوط باتجاه القضية، والحقيقة الآن أن الدراسات الاقتصادية تقف عكس دعاوى عمل المرأة.
وفي رسالة صدرت عن جامعة أم القرى بخصوص عمل المرأة وأثره الاقتصادي وهي دراسة أقيمت على مصر والسعودية أثبتت أن عمل المرأة لا يؤدي الجدولة الاقتصادية التي زعمت، فما تأخذه من الأجر ينفق بطبيعتها على نفسها وعلى متطلبات هذا الخروج أكثر، وليس هذا في مجتمعاتنا المحافظة بل حتى في المجتمعات الغير المحافظة؛ فهناك دراسة في اليابان أثبتت أن المعدل الذي ينتج عن عمل المرأة اقتصاديًّا لا يعادل إلا ثلاثين بالمئة من حجمها في أحسن أحوالها، وأحيانا يصل إلى عشرة بالمئة لأسباب وظروف كما يقولون موضوعية. ثم إن هناك من ادعى أن عدم عمل المرأة يعني أن نصف المجتمع معطل وأنا هنا أود أن أقول: إن كل موظف لا يستطيع أن يؤدي دوره كاملاً إلا إذا كان عنده أسرة متماسكة وزوجة تعينه، وبالتالي يحصل إنتاج في تربية الأبناء وأشياء عظيمة جدًّا لا يمكن أن يأتي الذكر لها، لكن هناك وهج إعلامي ومضامين براقة وحقائق غائبة ونوع من القفز على الخطوات يحاول البعض إبرازها حتى يتم ترديدها مثل: حقوق المرأة وتحرير المرأة ؛ دون أن نعطى مفردات ملموسة قائمة على أسس. وإلى الآن لم يظهر أحد تكلم في مثل هذه الموضوعات وأعطانا أرقامًا حقيقية، أما أن تأتيني بأرقام معينة هي نتائج نهائية تكون لعدد المتعلمات وتقابله بحاجة لعدد من الوظائف فهذا خطأ؛ إذ من قال إننا علّمنا كل إنسان من أجل الوظيفة؟! وعندما تتعلم المرأة ثم تعلّم عشرة من الأبناء، وتأهلهم لأن يكونوا متفوقين دراسيًّا أليس هذا استثمار؟!(18/241)
د. باحارث :في الحقيقة أود أن أضيف إضافة إلى الكلام الذي ذكرناه قبل ذلك عن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب -عليه رحمة الله-؛ فقد ذكر بعض الباحثين في الدولة السعودية الثالثة بعض الأنشطة للمرأة في تلك الفترة، وكان نشاطهن لطيفًا جدًا وهو نشر؛ فالقضية الغريبة هي: من أي شيء ستتحرر المرأة؟ ما هي النقاط التي نحررها منها؟ السؤال الذي يطرح من خلال هذه الدعاوى هو: ما هي الغايات والأهداف التي قامت عند أول دعوة لتحرير المرأة؟ في إحدى الأمصار الإسلامية حين راجعنا المسألة وجدناها تدور في قضيتين اثنتين: أما الأولى؛ فهي التعليم، وأما الثانية؛ فهي كشف وجه المرأة .. التعليم لا خلاف فيه، ولكن الواقع الذي حصل بعد ذلك هو ارتباط التعليم بالفساد.. هذه القضية حصلت على مستوى العالم بأجمعه، حتى عند الغرب ارتبط التعليم بالفساد، ولهذا فكثير من العلماء الفضلاء في بلادنا حين رفضوا تعليم المرأة لا من باب أنها تقرأ وتكتب ولكن الامتناع في هذا الموضوع خوفاً من الفساد وخوفاً من أن يتطور الأمر كما تطور في بعض الدول.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كم هو الزمن الفاصل بين كشف وجه المرأة وكشف ما اتفق العلماء على تحريمه من الفخذ والصدر والشعر؟ والإجابة العلمية هو ما لا يزيد على أربعين عامًا أي في نفس الجيل. ولهذا من ذهب إلى بعض البلاد التي حصلت فيها هذه الأزمة وكانت في أوائل القرن العشرين (تقريبًا في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات) الذي ذهب وجد المرأة في تلك البلاد ترقص في الملهى أمام الرجال لا تستر إلا العورة.
باحارث متطرقاً إلى أهمية الموضوعية في الطرح: لا بد أن نعطي نظرة متوازنة لأي موضوع بالنسبة لقضية عمل المرأة.. لا يعبد الله -سبحانه وتعالى- في هذه الأرض إلا بوجود الإنسان، والإنسان لا يمكن أن يبقى في هذه الأرض حيًّا صالحًا إلا بالعمارة؛ فأنت تحتاج إلى قضيتين: تحتاج إلى الإنسان أن يُخلق وأن يوجد، وتحتاج مع الإنسان إلى عمارة لإصلاحه؛ حتى تتحقق العبودية في الأرض. الله -سبحانه وتعالى- وزع المهمتين بين الرجل والمرأة؛ فأعطى مهمة تكثير النوع الإنساني للمرأة حتى تكثر هذا النوع، وربطها بالنسل برباط تكاد تكون قضيتها الكبرى، وأعطى للرجل الجانب الآخر قضية العمارة... الرجل في قضية التناسل دوره في غاية القصر في حين تجد المرأة في قضية التناسل دورها أكثر تجسداً ووضوحاً، و انظر إلى طول دورها وفي الحضانة بعد ذلك وفي الرضاعة، و الله -سبحانه وتعالى- أعطى الرجل المواهب للضرب في الأرض، وخلقه أيضًا من الأرض مباشرة في حين خلق المرأة من الرجل؛ فأصبحت مهمتها وميلها إلى طبيعة هذا الرجل والإحاطة به وخدمته حتى يستمر في عمارة الأرض، ومن هذا الجانب يتضح للقارئ أن المرأة حين تريد أن تعمل عمل الرجل وأن تنتج كما ينتج الرجل، والرجل أيضًا حينما يريد أن يعمل عمل المرأة وينتج ما تنتجه المرأة يسيران في اتجاه عكس الفطرة؛ فهل يمكن للرجل أن يذهب إلى ميدان المرأة وينتج كما تنتج بهذا التفصيل؟ هذا لا يمكن! مكان المرأة لا بد أن يبقى شاغرًا ولا يمكن أن يدخله أحد فلا يمكن للرجل أن يحمل على سبيل المثال!
وهذه قضية جوهرية تحتاج إلى بعض البيان، وهو محل تفصيلي خطير.
بعد أن أسسنا تاريخيًّا على بعض القواعد وبعض الركائز التي قدمها الإسلام، وبعد أن مررنا أيضًا على تجربة تاريخية وهي ميلاد هذه الدولة والدعوة الإصلاحية التي أشرقت بها؛ كيف تستطيع د.عدنان أن تكمل لنا رسم ملامح العلاقة بين الرجل والمرأة في واقعنا؟
.باحارث: ذكرنا كيف أن الله -سبحانه وتعالى- قسم المسؤولية بين الرجل والمرأة؛ فتتحقق العبودية له -سبحانه وتعالى- بأن تتكفل المرأة بتكثير النوع الإنساني، وكل ما جهزه الله فيها يدل على ذلك قطعًا، ثم كلف الرجل في الجانب الآخر بإثارة الأرض وهي العمارة؛ فكل منهم يحمل هذه المسؤولية المرأة حين تملّ من مشروعها في تكثير النوع لكونه مكررًا؛ فإنها تريد أن تدخل ميدان الرجال، ودخولها في مجال الرجل ليس بغريب تستطيع أن تدخل هذا الميدان، ولكن سوف يكون الصراع في مجال الرجل، والرجل لن يرحمها في هذا الصراع، أما إذا أراد الرجل أن يقع في ميدان المرأة؛ فلن يجد له فرصة في هذا الميدان. إذًا الصراع سوف يكون في ميدان الرجل. والله -سبحانه وتعالى- كلّف الرجل فطريًّا وشرعيًّا بأن يقوم هو على المرأة نفقة وإصلاحًا حتى تتفرغ لهذه المسؤولية؛ فالله -سبحانه وتعالى- جعل ثروات الرجال تفتت قطعًا شرعًا وفطرة لمن تحت أيديهم من النساء والأطفال؛ فالرجل اقتصاديًّا يخدم الاقتصاد حين يجمع الثروة، ثم يفتتها، ثم تفتت بعد ذلك بالإرث؛ أما المرأة تجمع المال شرعًا ولا تفتته إلا بالإرث فقط؛ والاقتصاديون يعرفون الخطر الذي يشكله هذا الأمر.
وهل تقصد من هذا الطرح إلغاء أهمية عمل المرأة؟(18/242)
د.باحارث موضحاً: عفوًا التطرف من جانب هو انعكاس لطرف آخر. أنا أتحدث عن أن الأصل في عمل المرأة ليس الخوض في مواطن الكد .. هذه أمور تتطوع بها تطوعًا لخدمة المجتمع طوعًا من عند نفسها، لا تلزم بشيء في ذلك، ولا أعرف أَحدًا يقول إن هذا فرض عين على النساء؛ إنما هو فرض كفاية غالبًا يحمل به الرجال وإنما هذه تأتي بالفطرة..
با دحدح متحدثاً :هناك نقطة أخرى من المهم طرحها وهو مصطلح تابع لهذا، مصطلح (المساواة) وهو مصطلح غير علمي وغير منطقي؛ لأن المساواة بين مختلفين لا بد أن تكون غير صحيحة، ولو لم تكن ظاهرة، ولكن لا نقول الإسلام جاء بالمراعاة وليس بالمساواة، لا لأن المساواة فضيلة تركت في الإسلام لكن لأن المساواة ليست صحيحة أصلاً وكما ذكر الدكتور عدنان لو أردنا المساواة اجعلوا الرجل يحمل ويلد ويرضع حتى نقول المرأة تعمل وتذهب في المصنع، لكن المراعاة مهمة: مراعاة طبيعة الرجل في وظيفته ومراعاة طبيعة المرأة في وظيفتها، وقدرات الرجل وقدرات المرأة. واليوم العلم أصبح يحدثنا بالتفصيل عن طبيعة المرأة في عقلها وعاطفتها وطبيعة الرجل في عقله وعاطفته؛ بل أصبحت بحوثًا ملموسة مادية معروفة لم يتدخل فيها العنصر العاطفي وإنما العنصر المادي العلمي الذي قررها، واليوم ألف الغربيون وليس نحن "المرأة من الزهرة والرجل من المريخ"، وهذه القضايا بعد دراسات علمية و اجتماعية مستفيضة.
باحارث: أريد أن أضرب مثالاً واحدًا لو سمحتم لي
تخيلوا أن هناك وظيفة أعلن عنها؛فتقدم لها رجل وزوجته فقبلت أوراق المرأة ولم تقبل أوراق الرجل، ثم تأتي الشريعة وتقول لهذا الرجل أنت ملزم بالنفقة عليها، وتقول الشريعة لهذه المرأة أنت لست ملزمة بالنفقة عليه، ولا أن تصرفي قرشًا من نقودك.. ماذا سوف نفعل؟ هل نقوم بتغيير شريعتنا، أم نقول لهذه الوظيفة أو لصاحب الوظيفة اعطها للرجل؛ لأنه سوف يفتتها قطعًا وسوف يذهب للمرأة، أما خيرها فلن يصل إلى الرجل إلا تطوعًا أو تحت ضغط كما يحصل الآن بين كثير من الأزواج مع زوجاتهم؟!
نتحدث الآن عن واقعنا، ونتحدث عن مشروع أمريكي بعد سقوط العراق ومشروع غربي إصلاحي ركز على المرأة ، وخصوصاً المرأة السعودية والتي كانت محور مناقشات وصلت حتى أبواب الكونجرس المغلقة... سؤالنا هو: لماذا المرأة السعودية في هذا الوقت ؟ وماذا يراد منها؟
با دحدح: أنا أحب أبدأ أولاً بالمصطلحات مرة أخرى أنا لا أرى أن نسميها دعوات إصلاحية أنا أسميها دعوات مصلحية هم يريدون مصلحتهم، وحيث ما كانت مصلحتهم عملوا لها وغلفوها وصدروها؛ وإلا كيف يتفق لي أن تكون هذه الدول أمريكا أو غيرها تريد مصلحتي وتاريخها ومذهبها الرأسمالي الذي تتبناه يعتمد على تكريس المصلحة المادية والقوة الإمبراطورية في يدها؟! إذًا لا بد أن تكون فلسفتها الفكرية هي التي تقود طروحاتها العملية هذا أولاً. وثانيًا: قضية ارتباط هذه الدعاوى بالشرق الأوسط الكبير يجب قبلها ألا ننسى أن هناك مصطلح سابق وهو الشرق الأوسط الجديد، هذا المصطلح ظهر بعد مدريد وبالذات بعد أوسلو، وكان الهدف منه واضحًا؛ بل منصوصًا عليه، وهو دمج إسرائيل في بيئة الدول العربية حتى وضعوا أهمية دخول إسرائيل في جامعة الدول العربية، وتسمى جامعة دول الشرق الأوسط ، وعقدت مؤتمرات اقتصادية في المغرب وفي الأردن والإمارات على اعتبار أن الاقتصاد قضية قابلة للترويج لما فشلت هذه المشروعات فووجهت برد الفعل الذي يرفض اندماج دولة عنصرية محتلة، ووجد أنه لا بد أن نوسع الدائرة ونخلط الأوراق ودخلت في لعبة الشرق الأوسط الكبير دول أخرى، حتى يكون ذوبان إسرائيل أو دخولها وليس إسرائيل، وإنما الفكر والطرح الصهيوني المسيحي اليميني الذي يهدف الآن ومن خلال العولمة ونظرة التجارة العالمية للهيمنة الاقتصادية، ومن خلال القوة السياسية إلى تسويق الديمقراطية الغربية، ومن خلال أيضًا الضغط العسكري إلى التسلط على المقدرات الاقتصادية؛ فالمسألة لا بد أن لا نأخذها بسياق محدد؛ فنفرح أن أمريكا قالت لنا إن المرأة عندكم لا تتعلم علموها فتبدأ مسيرة تعليمنا بالطريقة الأمريكية!!
بعد فشل مسألة المشروع الأول.. هل وجدوا بوابة المرأة أسهل للمحاولة؟(18/243)