(14/478)
حملة غربية للحد من زواج المسلم بالنصرانية
عبد الباقي خليفة 16/3/1424
17/05/2003
تشن الأوساط الغربية -على مختلف مستوياتها، سواء أكانت في الإعلام أو الكنائس، أو حتى الحكومات - حملة متواصلة منذ بضعة سنوات ضد زواج المسلمين من نصرانيات، خاصة بعد أن لاحظوا دخول عدد كبير من هؤلاء الزوجات إلى الإسلام بعد زواجهن من مسلمين، و يعد هذا هو السبب الحقيقي- أو الأول- للحملة الفاشلة التي تدعي أن المسلم يضطهد ويستغل المسيحية التي يتزوجها، وتوصي المجتمعات الأوروبية المسيحيات بعدم التفكير في الزواج من مسلم، وتخوفها بأكثر من افتراء على المسلم مصدرة تحذيرات من أمثال " المسلم سيضطهدك إذا تزوجك، وثقافته تختلف عن ثقافتك، سيتزوج عليك أخرى، سيفرض عليك الحجاب، سيحرمك الخروج من البيت ".
اتجاه للحد من زواج المسلم
وتشمل الحملة كذلك أنواع الزواج التي تشعبت لتشمل ما يطلق عليه "بزواج المصلحة" مثل " زواج الإقامة " أو " الجنسية " وكذلك آخر تقليعة ظهرت في المجتمع الغربي وهي " زواج المأوى ". أي أن يتزوج الإنسان من المرأة لتوفر له السكن، بعد أن كانت في السابق توفر له الإقامة والجنسية .. و قد عمدت بعض الدول الأوروبية إلى التضييق على زواج "المصلحة" من خلال سن قوانين تحد من تمتع الأجنبي المتزوج من المواطنة بالجنسية مباشرة بعد الزواج، ووضعت لذلك شروطا كثيرة، كما أن هناك نوعاً آخر من الزواج وهو الزواج الصوري، الذي يتم بالاتفاق بين الأجنبي والمرأة الغربية، دون أن يكون لهما أي ارتباط أو التزامات زوجية، وينتهي بمجرد تسجيل العقد، ويذهب كل في حال سبيله، بعد أن تقبض هي ثمن تلك الإجراءات. وقد أصبح الزواج من هذا النوع تجارة انغمست فيها قطاعات من النساء الغربيات، ورغم أن هذا النوع من الزواج موجود وسائد في أوربا منذ عدة سنوات، إلا أنه وعلى الرغم من تفشي زواج المسلم للمصلحة في المجتمعات الغربية، إلا أن الزواج الحقيقي لا يزال موجودًا، ويكلله النجاح في حالة إسلام المرأة، لكن المشكلة الكبرى تكمن في بقاء المرأة على دينها، والذي تظل آثاره السيئة خامدة فترة من الزمن، حتى إذا مارأت الزوجة مظاهر التدين الإسلامي قد بدت على زوجها، أو أن يحاول اصطحاب أطفاله للمسجد، فتنقلب الزوجة على وجهها، وتناصب زوجها العداء، حتى أن بعض النساء طلبن أن يأخذ الآباء أطفالهم إلى الكنيسة يوم الأحد، كما يأخذهم للمسجد يوم الجمعة.
هجمات منظمة
وأخذت الحملة طابعا هجوميا شاركت فيه محطات التلفزيون، من خلال إعداد مسلسلات تتحدث عن رفض المجتمعات الإسلامية لزواج المسلمة من نصراني؛ بسبب الدين، أطلقت فيها الخيال لشطحات كثيرة تقصد تنفير المجتمعات الغربية من الإسلام، وحث الغربيات على عدم الزواج من مسلم بطرق لا تختلف عن كتابات المستشرقين عن الإسلام والمسلمين في القرون الوسطى، إضافة للادعاء بأن المسلمات يناضلن من أجل خلع الحجاب، بينما الحقائق تؤكد أن المسلمات يضطهدن بسبب الحجاب، كما في تركيا وتونس وعدد من الدول الأخرى بأساليب مختلفة. كما ترفض الحكومات الاعتراف بالأحزاب الإسلامية في بعض الأقطار؛ لأنها تنادي بتطبيق الشريعة التي تتلهف إليها الجماهير، ولذلك يلجأ البعض للخارج لتعرضه للاضطهاد بسبب ذلك، وليس -كما يقول البعض من الغربيين - فرارًا من الشريعة .
القساوسة يقودون الحملة(14/479)
ويشارك القساوسة -بشكل فاعل- في هذه الحملة، إلا أن الكثير منهم يحاول أن يغلف حربه في إطار من الموضوعية الزائفة، واضعا بذلك السم في العسل ،ويجسد ذلك القس الإيطالي (كورسانيرو) الذي أدلى بدلوه في هذا المجال، وإن كان أخفى كثيرًا من الحقائق، فهو يقول: " كنا نعيش في مجتمعات مسيحية حتى عقود مضت، وكنا ننظر للزواج بمفهومنا باعتباره سرًا مقدسًا. فالله هو الذي يبارك الشخصين عند زواجهما، أما الآن فيمكن اختيار الزواج المدني البحت ". ويشرح ذلك قائلا: "هو عبارة عن عقد بين طرفين، وهو ما يقربنا من مفهوم الزواج الإسلامي. فمن يتزوج في الإسلام لا يرتبط بالطرف المقابل، سواء كان رجلا وامرأة فحسب، وإنما عائلتان تتحدان معا ". ويأسف القس على أن الكاثوليك لم يعودوا يفكرون بنفس الطريقة السابقة، ويقول" "إن هذا لم يعد واردًا فقد تراجع الكاثوليك، وأصبح الشاب والشابة الكاثوليكيان لهما القرار المنفرد، حتى و إن كان قرارهما متعارضا مع رغبة الوالدين ". وهنا يبدو التراجع عن مبدأ الحرية الغربية عندما توضع على المحك. ويضيف " وأعتقد أن سلطة الأبوين أصبح من الصعب ممارستها ". ويتابع "هناك مشاكل كثيرة في موضوع الزواج المختلط (زواج المسلمين من الكاثوليكيات)، ومنه الزواج المؤقت، والذي تفرضه ضرورات الواقع، فهو بالنسبة للمسلم وسيلة للحصول على الجنسية، أو المأوى " كما لا يفرق القس في حديثه بين الزواج الحقيقي وما يسميه بالمؤقت، بل ربما كان الأخير أحب إليه، وعندما قيل له بأن هناك أيضا الزواج الذي يتم بين المسلم و النصرانية بدافع الحب، قال " هذا الزواج الحقيقي " بيد أنه شكك في ذلك بالقول " ليس لدي إحصائيات، ولكن هناك عدم فهم في الزواج المختلط، وصعوبات تعترض زواج المسيحية من مسلم، ونسب انفصال مرتفعة؛ لأن كثيرًا من العلاقات ليست مبنية على الحب، وإنما على المصلحة ". وبدأ القس يتحدث عن الفروقات الثقافية والدينية وغياب الأسباب التي كانت مجرد مطية للرفض، وقال: " هناك معطيات تؤخذ كحقائق، ولكنها غير دقيقة، فالموقف الذي يتخذ من المرأة -سواء في أوروبا الشرقية التي تعيش فترة مخاض- يختلف عن وضع المرأة في المغرب مثلا، حيث إن تقبيل يد المرأة غير مقبول ". ولو كان القائل إنساناً عادياً لما أثير كلامه أي تعليق، ولكن القس بدأ يتملق مفاهيم المجتمع الغربي رغم بعده عن التعاليم الكنسية، كما لم يتطرق إلى مشاكل الزواج التي تحدث بين الكاثوليكيين أنفسهم، أو بين الإيطاليات والأجانب القادمين من أوروبا الغربية أو الشرقية، والتي تشير الإحصائيات إلى أنها أكثر عدداً وأكبر صعوبة من مشاكل الزواج التي تتم بين المسلمين والكاثوليكيات الإيطاليات، إضافة إلى أن أغلب النساء الإيطاليات اللاتي يتزوجن من المسلمين حوالي 80 % منهن سبق لهن الزواج من إيطاليين، وانفصلن عنهم بسبب الخلافات أو أمور أخرى. مما ينسف الأسس التي بنى عليها القس تصوراته .
الحرب من الداخل
والغرض الرئيس من تلك الحملة، هو وقف موجة الدخول في الإسلام في الغرب، من خلال تشويه المجتمع الإسلامي والتركيز على ما يراه بعض الغربيين حدا من حرية المرأة، من خلال عدد من كتابات بعض المنتسبين للعرب والمسلمين؛ ليحظوا برضا الغرب، ومن بين تلك الكراسات حكايات أحد المغاربة عن أمه التي بدأ يسرد قصتها، وكيف أنها نشأت في ظل أسرة مسلمة قضت على حريتها الشخصية وفكرها. وكعادة المتحدثين في حقوق المرأة، والذين يتخذون من بعض التقاليد والممارسات الخاطئة مطية للتعدي على قيم المجتمع الكلية والضمير الجمعي للأمة، مغفلين القيم الإسلامية وما أرسته من حقوق للمرأة حرمتها منها ما سواها من قيم، بل تحاول الدعاية الغربية التي تستند بشكل انتقائي لبعض ما يكتبه المنهزمون إلى نماذج خرافية أو شاذة في المجتمعات الإسلامية، وعلى ذلك نجد أن المجتمع الإسلامي يتعرض لغزو شامل، ومحاولة تفكيكه اجتماعيًا وأخلاقياً لا تقل عن محاولات تفكيكه سياسيًا وجغرافيًا، والطابور الخامس موجود في كل مفاصل عالمنا الذي سلمه الاستعمار لتلاميذه من العلمانيين والعملاء في كل القطاعات، وكما هو واضح فإن ما يردده الببغاوات عندنا مصدره مراكز استعمارية في الغرب، وجهاد هذا المسلك لا يقل عن الجهاد في الميادين الأخرى، بل ربما نحن أحوج ما نكون إليه من غيره
============(14/480)
(14/481)
إسرائيل للبيع!!
ياسر قطيشات 29/6/1424
27/08/2003
لا شك أن الكيان الصهيوني المسمى بـ"إسرائيل" هو أكبر خرافة في التاريخ البشري الحديث، فسياسة التنويم الذاتي التي تقوم بها إسرائيل بهدف تحويل معتقداتها إلى واقع قائم، وحقيقة أكيدة تجعل الإنسان البسيط يدرك أنها فعلاً خرافة وخزعبلات لا أساس لها من الصحة، فالخرافات اليهودية دخلت في صميم تطورات الزمان والمكان، بحيث شوهت السمات العظيمة (للتاريخ اليهودي)، وهذا على حد تعبير المفكر اليهودي (هيغل)، خاصة عندما تتخذ طابعاً مقدساً .
فمن حيث المكان؛ هناك خرافات فريدة تحتفل بها الدولة رسمياً، وقلما يسمع بها أحد حرصاً على هيبة الدولة - كما يدعون -، ففي عام 1976م ، أعلنت وكالة أنباء يهودية أن رئيس الدولة اليهودية باع إسرائيل إلى (جندي درزي) من مواليد إسرائيل، وكان هذا عملاً بخرافات التلمود خلال السنة الشميطة التي تستوجب إراحة الأرض من الزراعة كل سبع سنوات، على أساس أن الله نفسه استراح في اليوم السابع من خلق العالم - كما تدعي التوراة - !، وحيث إن هذا يعني توقف الزراعة سنة كاملة، فلا حل للمشكلة سوى بيع الأرض كلها شكلياً إلى أجنبي (محمد رمضان) الشخصية اليهودية.
إذاً فإسرائيل كل سبع سنوات تعرض نفسها للبيع تبعاً لتقاليد التوراة، ولكن هل قوة إسرائيل العسكرية وتترسها خلف ترسانتها النووية يمكن أن تقف حائلاً أمام بيعها نهائياً لأصحاب الحق والأرض وهم العرب؟ الإجابة على تلك الاشكالية تكون من خلال الحقائق والأحداث التالية:
أولاً:- يقول (ناثان فاتيستوك) الكاتب الفرنسي الصهيوني سابقاً: "إن من نصر إلى نصر تركض إسرائيل نحو خرابها" فهل بيعها أفضل أم خرابها؟.
ثانياً: يقول اليهودي (منوحين): "نحن أسوأ أعداء لأنفسنا، وإذا لم نقم بتقيم جديد لموقفنا الاخلاقي فسندمر أنفسنا"، هل بيع إسرائيل أفضل أم تدمير أنفسهم بأنفسهم أفضل ؟؟ .
ثالثاً : ويقول أحد العلمانيين الصهاينة إبان الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي: " لم أكن يوماً أؤمن بما تحتويه التوراة من افتراءات تدعم حقنا في فلسطين، ولكنني بعد قيام إسرائيل أيقنت أن نهايتنا قريبة"، فهل بيعها مطلوب أم نهايتها قادمة؟.
رابعاً : وقالت امرأة يهودية لزوجها عام 1948 بعدما أخبرها عن قيام إسرائيل: إن أخبار أحبارنا في التوراة الحقيقية تعلمنا أن قيام دولة الشتات لليهود سيكون نهايتها كأمة ودين".
خامساً :ويقول ضابط إسرائيلي لضابط فلسطيني أسير خلال حرب عام 1973: "عندما ندرك أن العرب سينتصرون؛ فسوف نستعمل القنابل الذرية، ونقضي عليهم وعلى انفسنا … !!" فهل البيع أم تدمير الذات؟ وهذا يؤكد أن اليهود يدركون أنهم سيهزمون يوماً ما، ولكن على يد المسلمين العرب وليس العرب لساناً وشعارات .
سادساً :تذكر دائماً وسائل الإعلام الإسرائيلية المسؤولين السياسيين بمصطلح ( دولة ) عد ذكرهم لإسرائيل، وهذا غير مالوف في أبجديات الأدبيات السياسية، فكلمة ( دولة ) لها مدلول نفسي يعكس مدى إمكانية إسرائيل للتأكيد على أنها فعلاً (دولة)، وهي تشك بذلك!، فهل تبيع إسرائيل نفسها أم تسعى وراء سراب الدولة؟.
سابعاً : ثلاثة وخمسون سنة على قيام إسرائيل والكيان الصهيوني لم يهنأ بالأمن والاستقرار، فخلال هذه المدة لم تنجح إسرائيل في أن تتحول من دولة عسكرية إلى دولة مدنية مؤسسية، ولم تنعم بطعم الطمأنينة الداخلية أو الخارجية بسبب اعتمادها على سياسة الإرهاب المستمر، أي إرهاب الدولة المنظمة التي تسعى إلى توفير الأمن الداخلي، وتفشل كل مرة في ذلك، وهي لا تعلم أين يكمن أمنها واستقرارها: هل في احتلال الضفة الغربية، أم في قمع الانتفاضة، أم في الجولان، أم في سياسة التوسع حتى الفرات والنيل، أم في الانكفاء الذاتي والدعوة إلى السلام المستحيل؟.
إن حالة إسرائيل أشبه باللص الذي يدرك أنه مهما نجح في الهرب من ميزان العدل والحق؛ فإنه ملاق حتفه ولا مناص من ذلك، وهذا ينسف نظرية الجريمة المنظمة الكاملة، فمهما حاولت إسرائيل أن تقنع العالم بأنها على قيد الحياة؛ يأبى الحق إلا أن يراها في عداد الموتى، فهل تبيع إسرائيل نفسها، أم تمسي في خبر كان؟ .
ثامناً : إن (ديجول) من أخلص أصدقاء إسرائيل، ولكنه لم يخف في رسالته إلى (بن غوريون) بعد حرب 1967م أن المجتمع الإسرائيلي "عدواني ودموي، وهذه السياسية والاستراتيجية لا بد أن تندثر مع مرور الزمن ".
صدق (ديجول) في ذلك؛ فسياسة العدوانية الدموية تحولت إلى جبن وخنوع داخلي، فالانتحار أصبح سمة ظاهرة في صفوف الجيش الإسرائيلي، وخلال الانتفاضة الحالية انتحر أكثر من عشرة جنود يهود. أما مشاعر الأمهات والآباء إزاء أبنائهم؛ فأصبحت نرجسية للغاية، وتخشى إرسال أبنائها للتطوع في الجيش الإسرائيلي، وتعتبر ذلك انتحاراً مباشراً، حتى إن إحدى الأمهات قالت : "لم نعد نثق بالجيش الإسرائيلي وبالقوة الخرافية لإسرائيل كما كانت سابقاً، فكيف يمكن أن آمن على ابني في جيش مهزوز غير واثق، فهل تباع إسرائيل أم تزول؟ .(14/482)
تاسعاً : قال (بيغن) ذات مرة للأمريكان: " ليس عليكم أن تلقوا علينا موعظة في الأخلاق ، وما عليكم هو أن تتذكروا ما فعلتموه في فيتنام …" أما اليوم الشبيه بالأمس؛ فهذا القول مردود للصهاينة أنفسهم، فعليكم أن تتذكروا ما فعله الفيتناميون في أمريكيا، فلا تجمعهما قواسم قوة مشتركة، أو معادلة واحدة، وعليكم أن تتذكروا ما فعلته المقاومة الإسلامية فيكم، وبنفس المقياس الأول، وهو عدم التكافؤ بين الطرفين بتاتاً عند الأخذ بعين الاعتبار الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية والقوة التي لا تقهر سابقاً، فهل تبيع إسرائيل أم تنتظر المواجهة؟ .
عاشراً : كانت إسرائيل بعد حرب عام 1967م تعتقد أنها ستقرر مصير الأراضي المحتلة، وبذلك تلعب المواجهة الشاملة بسياسة التوازن، كما تشاء ما دامت الكرة في ملعبها، ولكن ما حدث أن الأراضي المحتلة هي التي قررت مصير إسرائيل، وجعلتها تندم يومياً على احتلالها، لماذا؟ لأن الأراضي هي سبب عدم الأمن والاستقرار الداخلي الآن، فهي انطلاقة الانتفاضة الأولى والثانية والثالثة -إن شاء الله-، والسيناريو يكرر نفسه مرة أخرى، فالانتفاضة هي التي ستقرر مصير إسرائيل، وليس العكس، الانتفاضة عرّت إسرائيل أمام نفسها، وجعلتها بعد استخدامها لكل أساليب القمع والاضطهاد عاجزة عن الدفاع عن نفسها أمام الحجر!.
وأحدث الاستفتاءات الإسرائيلية التي نشرتها صحيفة " يديعوت أحرنوت" في 25 أيار0 2001م ، تبين أن ( 56% ) من اليهود يطلبون من الحكومة تجميد المستوطنات والانسحاب من أراضي السلطة الفلسطينية، وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم في الاستقلال، وهذا الاستفتاء يكشف عن نفسية اليهود التي أمست ومهزومة بسبب أطفال الحجارة، وهذا كاف للدليل على أن الانتفاضة هزمت إسرائيل وشارون معاً، وتبين أيضاً أن شعار شارون "الأمن أولاً" أصبح في آخر أولويات سياسته، حيث إن اليهود وما زالوا يطالبون بهذا إلى الآن حتى بعد مرور شهرين على توليه رئاسة الحكومة، فهل بيعها أفضل أم انهزامها بالحجارة؟.
حادي عشر: اعتقد بعض المحللين أن سياسة "اشتدي يا أزمة تنفرجي" هي سياسة شارون بعد وصوله إلى رئاسة الحكومة، ولكن ما حدث هو العكس، إذ إن اشتداد الأزمة جعل شارون يسعى إلى اشتداد الأزمة أكثر فأكثر ، ومعه تتعقد أكثر فأكثر .
نعم فكلما توجه الشعب نحو اختيار الزعيم اليميني المتطرف كلما عجل بشكل أو بآخر بنهاية إسرائيل وزوالها نهائياً، فهل بيعها أفضل أم زوالها قائم؟.
يبقى القول إن سرد الأحاديث والأدلة على زوال إسرائيل وبيعها كثيرة، بيد أن هذا غيض من فيض، وإسرائيل لا تستطيع أن تبقى طويلاً على قيد الحياة؛ بل والأكثر من ذلك أنها حتى لو انسحبت من الأراضي المحتلة عام 1967م ، وسمحت للفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلة؛ فإنها ستواجه نفس المصير المحتوم، وهو الصراع والتناحر الداخلي, فهي لا تستطيع أن تظل دون حرب خارجية أو داخلية، فالدولة الوحيدة في العالم التي كان الاحتلال والسلم معاً خطرين عليها من الداخل والخارج على السواء هي إسرائيل فقط، وهذا ليس تخريفاً أو مزايدة على الكيان الصهيوني، وإنما واقع قائم اعترف به القاصي والداني، حتى إن كاتب إسرائيل الأول (عموس ألون) صرح بذلك بشكل غير مباشر، عندما أشار إلى أن " من يعرف نفسية هذا البلد يدرك أنه لا يعلم إلى أين يسير به القدر" وقدره لا محالة حتماً في البيع القادم -إن شاء الله-، وأعني بالبيع هنا إما الزوال أو الزوال، وليس هناك احتمال ثالث لذلك، فهل من مُشترٍ؟ .
==============(14/483)
(14/484)
الأسرة وتنمية ثقافة الأبناء
من أصعب ما يواجهُ المرأةَ المسلمةَ المتعلمة المثقفةَ، التي تتطلّع إلى تنميةِ أسرتِها وتطويرِها هو ما يتعلق بثقافة أبنائها، سواء كانوا أطفالاً أم مراهقين أم شبابًا، بنينًا أم بنات.
وكنت أعتقدُ أن المشكلة خاصة بي، عندما لاحظتُ أن أبنائي لا يقرؤون إلاّ قليلاً؛ على الرغمَ من الإلحاح المستمرّ والتوجيِه سواء مني أو من أبيهم، الذي يشغلُه الأمر كثيراً.
ولكن بعدَ استطلاع آراء صديقاتي، وكلُّهنَّ صحفيات, أو مهندسات, أو طبيبات, أو معلمات، لاحظتُ أن هذا الهمّ مشترك ويشغلُهنَّ مثلي، وكلّهنَّ يشكينَ من انصراف أبنائِهن وبناتِهن عن القراءة، والاستعاضةِ عنها بالجرائد, والمجلات, والقنوات الفضائية، والإنترنت.
وهذه الوسائل تُقدِّم بعضَ الثقافة، وربما يُقدِّم بعضُها ثقافةً مغشوشةً, أو سطحية، أو موجَّهة لخدمةِ أغراضٍ مُعيّنة، ويبقى الكتاب هو المَعينُ الأول والأساسي الذي يجب أن يغترفَ منه الأبناءُ كما اغترفَ منه الآباء.
وما يصيبُ المرءَ من همٍّ وضيق هو أننا أثناءَ دراستِنا في مراحل التعليم المختلفة، وخاصّةً في المرحلة الجامعية، كنا نلتهمُ الكتب التهامًا، ونقرأ الشِّعرَ, والأدب، وكتب التاريخ, والثقافة, والفكر، فضلاً عن الكتب الشرعية.
وأنتج هذا الاهتمام مكتباتٍ منزلية تتفاوت في حجمِها, وأهميتِها من منزلٍ إلى آخر من منازل الجيل، الذي تربَّى في أحضان الصحوة الإسلامية المعاصرة، التي بدأت في السبعينيات من القرن الماضي، وكنا نعتقدُ أن أبناءَنا سوفَ يسيرونَ على نفسِ النهج؛ بل ويتفوّقونَ علينا، وسوف يستغلون هذا الكمّ الهائل من الكتب التي اخترناها بعنايةٍ عبرَ عشرات السنين، لكن النتيجة كانت مُخيِّبة للآمال! بعدَ أن أدار الأبناء ظهورَهم لهذا التراث الثقافي.
الهمةُ لنْ تضعُف
لكنْ على الرغمَ من هذا الفتور من جانب الأبناء؛ فإن الهمّة لنَ تضعُفَ من أجلِ توجيهِهِم ثقافيًا؛ لأن القناعة متوفِّرة بأن بناءَهم الثقافي والفكري هو أفضلُ ما يمكنُ أن نوجِّهَهُم إليه.
فخبرةُ الأيام تؤكد أن المحرومَ هو من يُحرمُ من هذا الخير، لا من يُحرمُ من الطعام, أو الشراب, أو الملبس.
وقد تعرّفنا في حياتِنا العلمية على علماء, وأساتذة جامعاتٍ مرموقين, وشعراء، ومؤلفين كانوا فقراءَ في طفولتهم، لا يكادون يحقِّقون قدرَ الكفاية من طعامِهم وملبسِهم؛ لكنّ الله وفقَهم إلى القراءة, والاطلاع, والثقافة؛ فأحبوا العلم ونبغوا فيه، وأصبحوا قادةً لمجتمعاتِهم.
ويحكي لي أحدُ رجالات القضاء البارزين، أن له ستةً من الأشقاء والشقيقات، وكان والدهم معلمًا بسيطًا يعيش من مرتبه الضئيل، ولا يعمل في الدروس الخصوصية، وكان يقضي حاجاتهم بالكاد، فإذا احتاج أحدُهم قميصًا قال له: مازال عندك قميصٌ يتحمّل عدّة شهور، فإذا قال: أحتاج إلى كتابٍ أعطاه أكثرَ من ثمنِ الكتاب.
وكانت النتيجة أن الأبناء جميعَهم شبّوا على حبِّ العلم, والثقافة, والتفوُّق الدراسي؛ وأصبحوا مستشارين, ووكلاء نيابة, وأطباء, وأساتذة جامعات.
وهكذا تيّقنتُ، يومًا بعدَ يومٍ، أن الأسرةَ يجبُ أن تهتمَّ بالكتاب, والثقافة، قبلَ أن تهتمَ بأيِّ شيءٍّ آخر.
إلاّ أن الأمر ليس مُجرّد كتبٍ يتمُّ قراءتها ـ فالموضوع ليس حشوًا ـ دونَ تمييز، وإنما يجبُ اختيار الكتاب الذي يقدِّم ثقافةً راقيةً محترمة، وأن يكونَ لكاتبٍ ثِقةٍ معروف بإتقانِه, وأمانتِه.
والكتاب الذي لا يضيفُ جديدًا لا قيمةَ له، والثقافة الجيدة تُجنِّبُ الابن خطورةَ التعرُّض لثقافةٍ خبيثة، قد تجرّه إلى الشكّ ,أو المغالاة ,والتطرُّف، أو إلى العُنفِ، والضلال، فهي توفِّرُ له عناءَ الدخولِ في متاهاتٍ، وإن كان من المُحبَّذ أن يعرفَ المُرتكزات الرئيسة فقط لمداخلِ الفكرِ السلبِّي؛ كي يُحصِّنَ نفسَه أمامَها، وحتى لا يقعَ فيها.
أهميّة الثَقَافةِ الشَرْعِيّة
ولكلِّ ثقافةٍ خصوصيتُها، وخصوصيّة الثقافة الإسلامية التحصُّن بالعلمِ الشرعيّ، فهو الأساسُ الذي سيُقامُ عليه البناءُ بعدَ ذلك.
وكم كان يُحزنُنِي أن أجدَ نفرًا من أهل الثقافة, والصحافة المعروفين، يأتيني ليقولَ لي: إنني أريدُ أن أُضَمِّنَ هذا المقالَ بعضَ الآيات, والأحاديث، ولكنني لا أعرفُ ذلك.
وهذا نِتاجٌ طبيعيّ لمن تربَّى على الفِكر العِلماني، ولم يكنْ له حظٌّ في علمٍ شرعيٍّ يعصمُه، ويفتحُ له الآفاق.
لقد صوّر العلمانيون للناس أنّ العلومَ الشرعيّة صعبة، ولكن لو جرَّب أحدُهم أن يقرأ كتابًا مُبسّطًا, وموثوقًا في العقيدة لأتمَّهُ في يومين مثلاً, أو ثلاثة، ولجنّبَ نفسَه كثيرًا من مخاطرِ مُخالفةِ, ومصادمةِ هذه العقيدة.
ولو جاهد أحدُهم نفسَه في اقتناء بعضِ الكتب في الفقه, والتفسير, والسيرة، ووضعهم في مكتبتِه، ورجعَ إليهم عندَ الحاجة؛ لأصابَ من الخير الكثير.
غَاياتٌ أسَاسِيّة
الأسرة المسلمة المثقفة ينبغي أن توجِّه أبناءَها إلى الاهتمام بالكتب النقدية، فنحن ينبغي ألا نخافَ من النقد، فثقافتُنا قويّة، ولا يخافُ من النقد إلا الضعفاء.(14/485)
النقد مطلوب؛ شريطةَ أن يكونَ صادقًا وأمينًا، ولا يسعى إلى التشكيكِ, والتثبيط؛ وإنما يسعى إلى علاجِ أوجهِ القصور.
والقراءة النقدية تُكوِّن الشخصية المُستقلّة، الشخصية المستبصِرة التي يصعُب احتواؤها.
العقلية النقدية تجيدُ التمييزَ بين الأشياء، ويصعُب غوايتُها بفكرِ العنف, والتطرّف، وكافة أشكال الفكر الضّال, والمُنحرِف.
والعقلية النقدية لا ترضى بسلبياتِ الواقع؛ وإنما تسعى إلى التغلُّب عليها وعلاجِها.
انفتاحٌ لا انْغِلاق
واجبُ الأبوين تعليمُ أبنائِهما ثقافةَ الانفتاح على الآخر، وعدم التقوقُع على الذات.
والانفتاح الثقافي يحدُث عندما يعتقدُ الإنسان أن كلّ واحدٍ من الناس عندَه جزءٌ من الحقّ؛ وبالتالي فلا بدّ من التواصل مع الجميع؛ من أجل الحصول على أفضل ما عندَهم من مناهجَ, وبرامجَ, وطُرُقِ تفكير.
ويجب الإشارة هنا إلى أن الصحوة الإسلامية في بلادِنا حينما اشتبكت مع التيارات اليسارية، أخذت منها الاهتمام بجانب العدالة الاجتماعية, وقضايا الجماهير, والعمل النقابي والطلابي، وحينما اشتبكت مع الليبراليين أخذت منهم الاهتمام بالحريات العامة.
ونحن لا نقصدُ بأن كلّ أحدٍ من الناس عندَه جزءٌ من الحقّ، أن ذلك في أمور الدين، لا، هذا أمرٌ محسومٌ عندنا؛ لكن جوانب الحقّ التي نقصدُها هي جوانب, وطرائق التعامل مع الحياة، وتطوير إدارتنا لشؤوننا، وتنميتنا لثقافتنا.
التواصُل مَعَ العَالَم
وعلى الأسرة المسلمة، وخاصّةً الأم، توجيه أبنائِها إلى التواصل مع الأدب, والفكر، والثقافة العالمية، والاطلاع على أفضل ما يُنتِجُه الغربُ, والعالم؛ بشرط ألاّ يكونَ فيه إباحيّة، وتشكيكٌ يؤثر سلباً على وجدان الأبناء.
ففي الغرب مثقفون, ومفكرون, وأدباء, ومؤرخون يتسمون بحسٍّ إنسانيٍّ راقٍ، ونحن نتعامل معهم تواصلاً مع الضمير الإنساني المشترك، الذي لديه اهتماماتٌ مشتركة؛ حتى نستطيعَ إثراءَ تجربتنا المعرفية, وتطويرِها، واكتسابَ خِبراتٍ جديدة.
فإذا استطاع الابن أو الابنة القراءة لهؤلاء بلغاتِهم الأصلية، فهذا خيرٌ؛ وإلاّ فالكتب المُترجَمَة هي الحلّ.
أدبُ الاخْتِلاف
إذا سار الأبناء على هذا النهج في تحصيل ثقافتِهم؛ فسوف يحدُثُ التنوّع لا محالة، وسينتج عنه اختلاف مع غيرِهم من الناس، وهنا ينبغي إرشادهم إلى جملةٍ من أدبِ الاختلاف.
فعليهم احترام من يخالفُهم, وعدم التسفيه من رأيه، والردّ عليه بأدب، وحصر أوجه الاتفاق أولاً, والتأكيد عليها، ثمّ تحرير مواضع النزاع, والخلاف.
فإذا استمع الطَرَف المُخالِف, وأحسن الحوار فبها ونِعمَت، وإلاّ ينتهي النقاشُ بأدب.
كما يجب أن يؤمنَ الابن, والابنة أن ما يعتقده من أفكارٍ قد يكونُ خطأ؛ ولهذا كانت مقولة فقهائِنا الذهبية هي:
"رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
عقلانِيّةٌ ورُشْد
وصلنا الآن إلى مستوًى ثقافيّ، رفيع ينبغي أن ينتجَ عقلانيةً ورُشدًا في التفكير، والسلوك، وهذا يعني إسقاط وسائل التفكير العاطفي والقبلي، وإعلاء وسائل التفكير العِلمِي العقلاني، الذي يُحلِّلُ الموضوعَ, ويُحدِّدُ أصولَه وثوابتَه, وفروعه، ثم يُحدّدُ عِلاجَه حسب ذلك.
ونعتقدُ أن ذلك مُعينٌ على التغلُّب على مشاكلِ الواقع المختلفة، وعلى الخلافات التي تحدُث مع الناس.
ولا يُتصوّر من مثقّفٍ بهذا المستوى أن يصدُرَ منه سلوكٌ غيرُ لائقٍ؛ لأن ذلك يقدحُ في الثقافةِ كلّها.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (الدين المعاملة).
ورأسُ الرُشد, والعقلانية في هذه الثقافة أنها تُحصِّنُ الأبناءَ من التطرُّف, والغلو، اللذين ينتُجان من ضحالةٍ في الثقافة، وفقرٍ في الفكر، ومعرفةِ وجهٍ واحدٍ من الحقيقة.
أما الشاب الناقد، المعتدل، عميق الثقافة، الرشيد في فكرِه، فمستحيلٌ أن يقعَ في هذه الهاويةِ السحيقة.
اندماجٌ لا عُزلَة
الأسرة المسلمة حريصةٌ على أن تعالجَ ما وقعت فيه الصحوة الإسلامية من مشكلاتِ جماعاتِ الانعزال عن الواقع؛ لذلك فهي توجِّه أبناءَها إلى أنهم جزءٌ من أمتِهم، ومجتمعاتِهم؛ فالجماعة هي الأمّة كلّها وليس التنظيم الصغير، والولاء هو لهذه الأمّة كلّها.
ويجبُ أن نُعلّمَ أبناءَنا كيف يثقون في أمّتِهم ويحبونَها، ولا يتعالون عليها، وإنما يخدُمون الناسَ ويحترمونهم، ويحضرون أفراحَهم, وأحزانَهم، ويُخفِّفون من متاعبِهم، ويتفاعلونَ معهم.
ومن أجلِ ذلك؛ فإن الثمرة النهائية المرجوّة من هذا الشاب المثقف الذي نُعدّه، هو أن يضعَ يدَه على عواملَ ضعفِ أمّتِه ويحلِّلها ويردّها لأسبابِها، وفي الوقت نفسه وبعدَ أن يكونَ قد قرأ زُبدةَ حضارة الغرب, وعرف نِقاطَ قوّتِها, وتميُّزِها؛ عليه أن يجعلَ من أولوياتِه اقتراح الحلول؛ لعلاج أزماتِ الأمّة التي يحبّها، والتي يتطلّع إلى نهضتِها وعزّتِها.
د / ليلى بيومى
=============(14/486)
(14/487)
الدستور المصري والكفاح الإخواني للإصلاح
مهنا الحبيل 1/4/1428
18/04/2007
المفارقة القوية في مضامين الوعي الحقوقي الدستوري للوطن العربي برزت في القاهرة هذه المرة؛ إذ أصبح الإخوان المسلمون طليعة النضال في مسيرة الكفاح الدستوري الذي يحقق ويوسع دائرة الحقوق واحترام الإنسان وسيادة الأمة وسلطان الشعب ورقابته على الدولة.
وعلى الرغم من أن إيمان الإسلاميين القاطع والجازم بأن كل هذه الحقوق المدنية والحياة الدستورية الكريمة هي من أولويات الفقه الدستوري الإسلامي، وبالتالي إيمانهم بمرجعية الإسلام كسلطة تشريعية مقننة لحقوق الشعب وسيادة السلطان الذي يرتضيه، وليس كأنموذج كنسي يهيمن على الحياة العامة وتبادل المصالح بين الدين وقيصر، وعدم تحقيق نص هذه المادة بوضوح في الدستور المصري لضمان إسلامية المرجع القانوني الذي يؤمن به الشعب المصري، والذي يضيف إليه بعداً أممياً واضحاً يوثق الرباط المقدس بين القيادة القومية العربية في أرض الكنانة وبين مرجعية الأمة في هويتها الحاسمة والتي تربطها بقضايا المصير من فلسطين وحتى المغرب العربي إلاّ أنهم بقوا صامدين في أرض النضال وإن لم يُستجب لمطلبهم.
إن عدم تحقيق هذه المادة لم يوقف سلسلة وقافلة الشهداء والمناضلين الذين ملأ بهم النظام المصري السجون والمعتقلات بعد أن شيع الإخوان في هدوء وصمت شهداء هذه المسيرة والتي كان آخرهم الأستاذ حسن الحيوان -رحمة الله عليه- وبعد أن بسطوا الشارع الوطني العام برداء الشباب الإسلامي في دعم وشراكة كاملة لمسيرة الحقوقيين الدستوريين في سبيل الأمة.
عجيب أمر هؤلاء الإخوان.. كنت منذ اعتقال الدكتور عصام العريان أنوي كتابة مقال استحضر فيه روحه العظيمة وقيمته الكبيرة ومفاهيمه الإسلامية الحقوقية حين كتب عن الأستاذ سعد الدين إبراهيم بعد اعتقاله واتهامه من النظام المصري، على الرغم من تباين الأصول الفكرية والانتماءات السياسية لدى الشخصين إلاّ أن عصام أبى إلاّ أن يحلق ويعلن مبادئه كما هي دعوته في التضامن مع سعد الدين إبراهيم غير المحتاج -في الأصل- إلى هذا التضامن لما هو معروف من وضعه الدولي وعلاقاته الواسعة.
ولكن حين يُسجن العريان مجدداً لم يكن ذلك التضامن أو ردة الفعل حاضرة كعادة الفعاليات الفكرية والسياسية في التعامل مع الإسلاميين في تضحياتهم ومعاناتهم في سبيل الحق والشعب؛ فكم مُلئت بهم السجون، وكم شهدت الأرض لأجسادهم وشهدائهم، ولكن النكران الذي دائماً يرفع في وجوههم يُغطّى برعاية الطغاة الدوليين والمحليين، حتى لا تُوظّف تضحياتهم في ضمير الشعب، ومع الأسف فإن العجز الذاتي في تطوير دعوات الوعي والفكر الإسلامي وطغيان الأخلاق الحزبية والتزاماتها المعقدة فوّت على إخوان مصر أن يستثمروا تلك التضحيات والسجل الإصلاحي، وهذا حقهم المشروع ديناً وعقلاً، ولكنها لن تضيع عند الله والناس.
وكم وددت لو أن الأخ الدكتور عصام العريان قد حجب رأيه عن قضايا التيار الإسلامي في الخليج الأدْرَى بوضعه ومدى ما يُصلح له وما يطرحه مفكروه في مواجهة النفوذ الأجنبي أو تطوير الوعي الإصلاحي، ليس من باب الإقليمية ولكن من إدراكي بأن هذه القضية المعقدة في الخليج يصدق عليها قطعاً.. أهل مكة أدرى بشعابها.
إن الشعور الجمعيّ المطبق على وجدان شريحة كبيرة من الأمة بالتعاطف الفوري مع حركة الإخوان المسلمين وإيمانهم بأن الإخوان كفكر رسالي، وليس كمواقف حزبية لا يزالون يمثلون القاعدة الصلبة لهوية الأمة ونبضها، مع تطور الفكر الحقوقي لدى طليعتهم، غير أن ما يُعلن -مع الأسف الشديد- من بعض التصريحات التي تصدر هنا وهناك تسيء لهذا الموقف، ولعل أكثرها إيلاماً وتأثيرا تصريح الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وهو فرس الرهان الشقيق للعريان لجيل البعث الإسلامي الجديد في إخوان مصر، وتأييده لتمثيل الحزب الإسلامي العراقي عبر قيادته الحالية للإخوان في قضية احتلال العراق حين قرر مبكراً المشاركة مع الاحتلال في برنامجه السياسي بعد الاحتلال في مجلس الحكم الذي أنشأه بريمر، فكان لهذا الموقف وقع الصاعقة على التيار الإسلامي في الخليج.
ولو كان د.أبو الفتوح حصيفاً، وقد كانت هناك أصوات عديدة تعلن انتماءها لمدرسة الإخوان في المقاومة العسكرية والسياسية المشرفة والعظيمة للشعب العراقي لأدرك أن الانتماء الحزبي لا يجوز أبداً أن يُطبق على قضايا الشريعة الحاسمة.
والخطورة أن تصريحات د.أبو الفتوح أعطت دلالة بأن هذه الحالة من نفوذ الاحتلال في المنطقة العربية بالإمكان أن تتعاطى معها بعض المجموعات الحزبية التي تنسب نفسها للإخوان بناء على هذا الموقف، وهو ما يهدم لدى الرأي العام الإسلامي ما قدمه د.أبو الفتوح من رصيد كان مهماً لحركة الوعي الإسلامي وانطلاقاتها التجديدية نحو الشعب والأمة.(14/488)
ولو علم د.أبو الفتوح ( ولا نعمم ذلك على قيادات الجماعة إنما نخصه بما صدر منه) ما فعلته وما قدمته المقاومة الإسلامية الوطنية العراقية لوقر في نفسه بأن من انتسب لهذه المقاومة هم من طليعة الشرف الأممية جمعاء، ومنهم من تربوا في مدارسهم الفكرية الإخوانية على وجه الخصوص، ولأدرك بأن المعركة التي نفذتها طلائع المقاومة وإخوانهم في المقاومة السياسية الحقيقية الممثلة في هيئة علماء المسلمين هي أبرز معركة خاضها الوطن العربي بعد فلسطين في مواجهة الامبريالية الدولية الاستعمارية والكيان الصهيوني والداعم الإقليمي المباشر لها، ونقول ذلك لا عاطفة بل واقعاً، وأن تلك المظاهرات التي سيّرها الإخوان في الشارع المصري العظيم تضامناً مع لبنان في عدوان تموز يستحق الشعب العراقي بل الأمة الممثلة بطليعتها المقاومة في العراق بمسيرات عديدة، وتضامن فعّال يمسح العرق عن أبطال العراق، وعن دموع الثكالى والأرامل على الجثث التي قُطعت في سبيل أن يكون العراق عربياً وإسلاميًا. أو ليست هذه مبادئ الإخوان المسلمين؟!
غير أن كل ذلك لا يُلغي أبداً حراك العديد من المنظمات النقابية والشعبية، والتي منها بعض كوادر الإخوان خاصة من شباب الجيل الصاعد في مدرسة الإخوان المسلمين الذي يصطفون في سبيل غوث الأمة ونجدتها، وما أن ينصرم الموسم الإغاثي حتى ينوب الأمن المصري عن الأمريكيين في مطاردة وملاحقة هؤلاء، إما لتضامن أممي شاركوا فيه أو كفاح دستوري حقوقي لأجل الشعب.
والمفارقة الأخرى هو أن من تحدث طوال حياته السياسية عن الدستور والحقوق والمساواة انتهى به الأمر في عريضة تعديل الدستور المصري إلى التحول إلى مسانده الاستبداد والالتحام معه في سبيل تهميش وتهشيم هوية الشعب المصري العظيم، والغريب أن الطائفية أصبحت فرساً تمتطيه الحركة العلمانية الاستئصالية في الوطن العربي، وعبر طريق يرصفه لها النظام الاستبدادي لكي تحارب الشعب في حريته وهويته، ويا لله كم صاحوا بنا باسم الشعب ولأجل الحقوق، وحين ادلهمت الخطوب، وقرر الشعب أن يخوض معركة الحقوق بناءً على هويته نُكّست راياته،م وأُعلن التنكيس ولكن عبر القصر وعبر واشنطن.
إنه قدر الشعب المصري أن تصفو راياته واضحة جلية لله وللوطن، وتتمحص الصفوف ليبقى فيها كل شريف وطني مخلص يهتف خلف الإخوان، ويهتف خلف عبد الوهاب المسيري مؤمناً بوعد الله:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر
==============(14/489)
(14/490)
مسلمو غانا .. بين الإرث الاستعماري والواقع المرّ
عبد الرحمن أبو عوف 29/3/1428
17/04/2007
أكد الشيخ عبد القادر السيد نباري، مدير المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في غانا أن المسلمين في غانا رغم أنهم يشكّلون أكثر من 35% من عدد سكان البلاد، إلاّ أنهم لا يلعبون دورًا سياسياً يناسب هذا العدد الكبير، معتبرًا أن الوزن السياسي الضئيل للمسلمين من مخلفات الإرث الاستعماري الذي عمل على تكريس النفوذ السياسي للوثنيين والنصارى.
وأوضح نباري في حوار مع شبكة (الإسلام اليوم) أن مسلمي غانا يعانون من مظاهر تمييز وتهميش شديدة خصوصاً في الالتحاق بالمدارس والجامعات، فضلاً عن أن الدستور العلماني للدولة لا يجعلها تقدم دعماً مالياً للمدارس ذات الهوية الإسلامية، وهو ما يصعِّد من أزمة الأمية في أوساط المسلمين، ويجعل مستوى وزنهم في المجتمع يتراجع.
وتابع مدير المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بالتأكيد على أن المسلمين لم يتأثروا سلبياً بشكل كبير نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بالإضافة إلى إخفاق حملات التحريض عليهم من قبَل قوى محاربة، مشددًا على أن ذلك يعود للعلاقات الوثيقة بالنصارى والوثنيين.
وحذر الشيخ نباري من أن تجاهل الدول الإسلامية لمسلمي غانا ستكون له عواقب وخيمة على هويتهم في ظل الزحف التنصيري الرهيب الذى يهدد جميع مدن غانا، مطالباً الجمعيات الإغاثية للعودة بكثافة إلى البلاد للتصدي للزحف.
وفي السطور التالية النص الكامل للحوار مع الشيخ عبد القادر نباري.
تُعدّ مناطق القرن الإفريقي من أهم الروافد الدعوية للإسلام في القارة السمراء. فهل لك أن تعطيَنا نبذة عن طرق دخول الإسلام إلى غانا؟
دخل الإسلام غانا عام 717 هـ عبر قوافل التجار العرب الذين وفدوا إلى البلاد، وكذلك عبر تجار ميائل الهوسا والفلاتا الذين كانوا يأتون من نيجريا ومن مالي، وكان السلوك الطيب والخلق القويم والأمانة العالية للتجار المسلمين سبباً كبيرًا في اقتناع أهل غانا بالإسلام، فتعاطَوْا إيجابياً مع الدعاة المسلمين، وأقبلوا بأعداد غفيرة على الإسلام بصورة مشابهة لأقرانهم في دول الغرب الإفريقي، واستمر هذا النمو في العقود والقرون الماضية حتى تحوّل الإسلام إلى الديانة الأولى في غانا، وفي غرب إفريقية جميعاً حتى وصلت نسبة السكان المسلمين إلى 30% من عدد سكان غانا الذين يصل عدد سكانها إلى (22) مليوناً يتركزون بصورة مكثفة في شمال البلاد في مدن تمالي وكوماسي في الغرب الأعلى، وهناك وجود إسلامي كذلك في العاصمة وفي مدينة بوكر فى الشرق الأعلى.
الإرث الاستعماري
على الرغم من حديثك عن الإسلام كديانة أولى في البلاد إلاّ أن الوزن السياسي للمسلمين لا يتناسب مع هذا الأمر فماذا تقول؟
• أشاركك في هذا الطرح، فالمسلمون لا يلعبون الدور السياسي في البلاد الذي يتناسب وأعدادَهم وأعتقد أن هذا الأمر يعود إلى الإرث الاستعماري؛ إذ نجح الاستعمار الإنجليزي في تدشين خريطة سياسية في البلاد، أوْسدت الأمر إلى النصارى والوثنيين، وهو الأمر الذي مازال مستمرًا حتى الآن، على الرغم من أن المسلمين قد نجحوا في الوصول إلى مناصب سياسية رفيعة في السنوات الأخيرة ، فمثلاً نائب رئيس الدولة مسلم، ويسمى علي محمد، ووزير العمل مسلم ويطلق عليه مصطفى علي، فضلاً عن شَغل مسلمين لمناصب دبلوماسية رفيعة المستوى مثل سفير غانا في السعودية بشير عبد الرازق، ووجود عشرات من كبار ضباط الجيش في غانا يعتنقون الإسلام، ومع ذلك فإن المناصب لا تعكس الوزن النسبي للمسلمين في المجتمع، ونأمل أن تتحسن هذه الأوضاع في المستقبل.
التقارير تؤكد أن المسلمين في غانا يعانون من مظاهر تمييز عديدة، هل يتسبب هذا التمييز على أداء شعائرهم الدينية؟
بالطبع المسلمون في غانا يعانون من مظاهر تمييز واضحة، وخصوصاً الالتحاق بالكليات والجامعات وفي تخصصات معينة كالطب والهندسة، وهو إرث استعماري بغيض، فقد يُجبر المسلم على تغيير اسمه ليلتحق بهذه الكليات.
أما فيما يخص العبادات والشعائر الدينية فالدستور في غانا علماني، لا يفرق بين مسلم وآخر في أداء الشعائر، ولا يوجد أي قيود على الصلاة أو بناء المساجد أو المراكز الإسلامية، بل إن الدوله تقدم دعماً للمساجد مادامت تحظى بطابع رسمي ومسجلة لدى الحكومة.
عانت دول إفريقية كثيرة مما أُطلق عليه "الحرب على الإرهاب" كيف واجهتم هذا الأمر؟
لم تتأثر غانا بشكل كبير إزاء ما يُسمّى "الحرب على الإرهاب"، ولم يُفرض على المسلمين في البلاد قيود، وأخفقت حملات التحريض على المسلمين، وهذا يعود إلى العلاقات المتميزة؛ التي تحكم المسلمين هناك بالنصارى والوثنيين، وهو ما كان له عامل كبير في عدم وجود تأثيرات سلبية على المسلمين في البلاد، ولا الموطنين بشكل عام.
تحدٍ كبير
يعدّ نقص الوعي الديني من المشاكل التي تقضّ مضاجع المسلمين في إفريقية هل يتكرر السيناريو في غانا؟(14/491)
نعم وهذا يعود إلى حزمة من الأسباب، يأتي في مقدمتها نقص الإمكانيات المادية، وندرة وجود العلماء والدعاة القادرين على تنمية الوعي الديني لدى المسلمين، والنقص الحاد في أعداد المصاحف والمراجع التي تتحدث عن مبادئ الإسلام وعبادته، وهذا مايفرض علينا تحديات كبيرة؛ لمعالجة هذه المشكله المزمنة.
وقد نجحنا عام 1985 في إنشاء المجلس الأعلى للدعوة والبحوث الإسلامية؛ للمساهمة في إخراج كوادر قادرة على حمل لواء الدعوة ونشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية في القارة الإفريقية وإيجاد روافد جديدة من الدعاة القادرين على تربية الأجيال الصاعدة بصورة بناءة؛ لتنشئتهم تنشئة سليمة، ليكونوا قدوة للأجيال الشابة ولهذا المعهد أفرع ثلاثة: في كوماس وتمبالي والعاصمة أكرا. وقد نجحت المعاهد الملحقة بالمجلس في إخراج أكثر من عشر دفعات متخصصة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية، ولا يكتفي المجلس بذلك، بل إنه يسعى لغرس التمسك بالكتاب والسنة النبوية ومقاومة المذاهب والفرق المشبوهة والمناوئة للإسلام.
لكن هل تقف مهام المجلس وفروعه عند هذه المهام؟
بالطبع لا، فهناك دور دعوي آخر يتمثل في بناء المساجد والمراكز الإسلامية في معظم أنحاء غانا وإقامة الدورات والمعسكرات الشرعية وحلقات تحفيظ القرآن الكريم، فضلاً عن كفالة الدعاة؛ لتفريغهم للعمل الدعوي.
وكما أن للمجلس دورًا اجتماعياً يتمثل في إقامة مشروعات لكفالة الأيتام، وكفالة طلبة العلم العاجزين عن دفع المصروفات، ومشاريع إفطار الصائم، والرعاية الصحية، والأضاحي، وحفر الآبار.
ولكن هل هذا الدور يكفي لتخريج كمٍ مناسب من الدعاة أم أن الأمر يحتاج إلى دعم عربي وإسلامي؟
نحن بحاجة شديدة لهذا الدعم عبر مضاعفة المنح المقدمة لطلاب غانا في الجامعات الإسلامية، فعدد المنح العشر التى نحصل عليها سنوياً ليست كافية على الإطلاق، ونطالب بمضاعفتها، خصوصاً أن الدولة لا تقدم أي دعم في هذا المجال، وهذا ما يضاعف التحدي أمامنا في ظل تنامي أعداد الجمعيات التنصرية المشبوهة التى تنتشر في طول البلاد وعرضها، ولا همّ لها إلاّ تذويب هوية مسلمي غانا، مستغلةً غياب العمل الدعوي بصورة مكثفة بالمقارنة بما كان في السابق.
الزحف التنصيري
لكن هل حقق هذا الزحف التنصيري نتائج ذات أهمية خصوصاً في أوساط المسلمين؟
لم تفلح جماعات التنصير في تحقيق نتائج مهمة على الساحة في غانا، خصوصاً في أوساط المسلمين، لدرجة أنه قد يئس الكثير من هذه المؤسسات من تحقيق نجاحات في أوساطنا، فركزت على التنصير في مناطق الوثنيين واللادينيين، خصوصاً جمعية مادرتس الكاثولوكية التى ينتشر مناصروها في جميع أنحاء البلاد، وعلى الرغم من الإمكانيات المالية الكبيرة التي تتمتع بها هذه الجماعات المشبوهة، والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها المسلمون، وضعف الوعي الديني لديهم إلاّ أن هذه الجماعات لم تنجح في اختراق صفوف المسلمين، بل على العكس تماماً فهناك إقبال من جانب نصارى غانا على اعتناق الإسلام، بل إن أكبر قسيس فى غانا قد أعلن إسلامه في الفترة الأخيرة، في ضربة قاضية لم تستطع هذه المنظمات الإفاقة منها حتى الآن.
وماذا عن التواجد الإسلامي للتصدي لهذا الزحف التنصيري؟
الوجود الإسلامي محدود للغاية، ويقتصر على لجنة مسلمي إفريقية، وجمعية إحياء التراث الكويتية، والندوة العالمية للشباب الإسلامي. وعلى الرغم من تأثر أنشطة هذه المؤسسات الخيرية بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما أطلق عليه الحرب على الإرهاب إلاّ أن هذا الوجود قد بقي ووطد من الصلات بين المسلمين في غانا والعالم العربي، فضلاً عن تفاعل مسلمي غانا الإيجابي مع هموم الأمة عبر خروج مظاهرات منددة بالرسوم المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصريحات بندكت السادس عشر ضد رسولنا الكريم.
==============(14/492)
(14/493)
تقرير (راند).. معايير أمريكية للإسلام المعتدل
القاهرة/علي عليوه 2/4/1428
19/04/2007
منذُ أيام صدر تقرير 2007 لمؤسسة (راند) الأمريكية للأبحاث، وهي المؤسسة التي تتبع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وتلعب دوراً مهمًّا في اتخاذ القرار داخل هذه المؤسسة الأمريكية الهامّة، وأشرف على إعداده (أنجيل سبارا) الذي كان يعمل بوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكية، ويقع في أكثر من مائتي صفحة، ويرسُم ملامح إستراتيجية للتعامل مع المسلمين المقيمين فيما أسماه بـ (العالم المسلم)، وليس الإسلامي، واستخدم مصطلحات ذات مدلولاتٍ جديدة مثل "المسلم المعتدل"، و"المسلم الراديكالي", و"دول الأطراف", و"دول القلب", وغيرها مستفيداً من الخبرة المخابراتية الأمريكية في التعامل مع الاتحاد السوفيتي إبّان الحرب الباردة.
الجديد في التقرير أنه وضع معايير جديدة للاعتدال والراديكالية لم تكن معتادة من قبل، وأهميته ترجع إلى أن توصيات التقارير السابقة لنفس المؤسسة هي التي طُبِّقت في العراق، وأثمرت تلك الحرب الطائفية الطاحنة بين العراقيين، ويوصي بنقل تلك الخبرة إلى البلدان العربية, والإسلامية الأخرى؛ للتسريع بعملية التقسيم والتفتيت.
الاعتدالُ في المفْهُومِ الأمريكي
ومن معايير الاعتدال التي وضعها التقرير رفض تطبيق الشريعة الإسلامية، وتبني منظومة القيم الليبرالية الأمريكية التي تقوم على الفصل بين الدين, والدولة، واعتبار العقيدة شأناً فردياً بين الإنسان وربه، ولا علاقة لها بتنظيم شؤون الحياة, ورفض العنف، وتبني منظومة حقوق الإنسان التي تعتبر الشذوذ و"تغيير الفرد لدينه" ضمن هذه الحقوق، وتمَّ وضع استبيان من أحد عشر سؤالاً؛ لتحديد الشخص المعتدل.
أما الراديكالي أو المتطرِّف فهو من يتمسَّك بتطبيق الشريعة الإسلامية، ويسعى لإقامة الدولة الإسلامية, ويتبنى الفكر السلفي, ويرفض الديمقراطية، والليبرالية الغربية، وما يرتبط بها من منظومات حقوق الإنسان المنبثقة عن المنظور الغربي، ويرى أن من حقِّه استخدام العنف كأداةٍ للتغيير.
ويتضمَّن التقرير تفاصيل التعامل الأمريكي مع المسلمين بعد تصنيفهم، منها الوقوف إلى جانب العلمَانيين, والليبراليين, والمعتدلين (وفق المفهومِ الأمريكي للاعتدال)؛ لضرب غير المعتدلين, و دعم المعتدلين مالياً, ومعنوياً، وتصعيدهم للمناصب القيادية داخل دولهم؛ ليكونوا أنصاراً للإدارة الأمريكية في سياستها تجاه العالَمَين العربي والإسلامي.
ويشير إلى أن أحد مصادر هذا التمويل سيتمُّ من خلال الميزانيات الضخمة لإذاعتي (الحرّة), و(سوا) الأمريكيتين التي بلغت عام 2007 أكثر من (671) مليون دولار، وهناك مطالب لزيادتها بـ(50) مليون إضافية، يُستخدمُ الجزء اليسير منها؛ لتشغيل المحطتين، والباقي سيُنفقُ بشكلٍ غيرِ مُعلن؛ لدعم المعتدلين والليبراليين, والعلمانيين.
وشدَّد التقرير على ضرورة تشجيع الدعاة الجدد، الذين ينشطون خارج الإطار الرسمي على وضع رؤى إسلامية جديدة، تؤيد الليبرالية, والعلمانية بما يُنتج إسلاماً جديداً منفتحاً, ومعتدلاً، وترويج هذا النوع من الإسلام بين العامة، ونشرِه بكلِّ الطُرُق المتاحة، وتشجيع هؤلاء الليبراليين, والعلمانيين, والمسلمين "المعتدلين" على تكوينِ جمعيّةٍ عالمية للاعتدال، يكون لها فروعٌ, وروابط داخل البلدان العربية, والإسلامية.
أهم ما يلفت الانتباه في التقرير أنه ينقل معركة الإدارة الأمريكية، ضدّ العالم الإسلامي من مستوى الغزو العسكري الحالي، إلى معركة فيما بين المسلمين أنفسهم الذين يُراد لهم أن ينقسموا إلى معتدلين, ومتطرفين، وفق المفهوم الأمريكي ثُمَّ يتمُّ إشعال فتيلِ الصراع بينهم، وبذلك يتمُّ إضافة سببٍ جديدٍ للصراعات الداخلية، والاقتتال إلى جانب الأسباب العِرقية, والطائفية الموجودة بالفعل، والتي يتمُّ تغذيتها لتزداد المنطقة احتقاناً للوصول بشكلٍ أسرع لمرحلة الفوضى الخلَّاقة التي أشارت إليها كوندليزا رايس؛ لتحقيق الشرق الأوسط الجديد.
اختراق الجيوش
ويتضمَّن التقرير توصيات أخرى، منها حجب التمويل عن الجماعات الإسلامية، وتدريب كوادر عسكريّة من المنتمين لجيوش الدول الإسلامية، من المُتّصِفين بالاعتدال على القِيم الأمريكية؛ للاستعانة بهم عند الحاجة, وتغيير المناهج الدينية في البلدان الإسلامية؛ لتكونَ أكثر ليبرالية، وتشجيع إنشاء الجماعات أو الشبكات المعتدلة لمواجهة الدعوات المتطرِّفة، حيثُ يشير التقرير إلى أن المسلمين الليبراليين والمعتدلين لا يملكون شبكات فعَّالة، كالتي أنشأها المتطرِّفون لتوفير الحماية للجماعات المعتدلة.
ويوصي بقيام الولايات المتّحدة بمساعدة المُعتدلين الذين يفتقرون إلى الموارد اللازمة لإنشاء هذه الشبكات بأنفسهم، وإيجاد مجموعات إسلامية تدعو لما يسميه البعض دين أمريكي جديد، مثل الدعوة لعدم تطبيق الحدود، و جواز إمامة المرأة للصلاة، وقبول التطبيع مع إسرائيل.(14/494)
ويدعو التقرير إلى تمزيق الشبكات المتطرِّفة، ويتطلَّب ذلك معرفة نقاط الضعف التي تعاني منها، ومن ثمَّ وضع إستراتيجية تستهدف تمزيق, وتفكيك هذه الشبكات، والعمل على تمكين المسلمين المعتدلين.
دعم جهود الحكومات, والمُنظَّمات الإسلامية المُعتدلة، للتأكد من أن المساجد لا يتمّ استخدامها منابر للأفكار المتطرِّفة، ودعم الإسلام المدني، ومنح الأولوية لمساعدة جهود المنظمات العلمانية، والمنظمات الإسلامية المُعتدلة؛ للقيام بأنشطة تعليمية, وثقافية ذات طابع جماهيري، و تطوير المؤسسات الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني.
==============(14/495)
(14/496)
الشيخ الغامدي :فطرتنا الإسلامية لها أثر في مواجهة الحداثة
أنور العسيري 23/3/1424
24/05/2003
• التعصب والقسوة سمة الشرطة والعسكر والمحاربين.
• واجب أهل الأمر والرأي من العلماء والولاة نصح الأمة وتعزيز قواها والتعبير عن إرادتها.
• التخلف والاختلاف قرينان إذا وجد أحدهما وجد الآخر.
هموم دعوية ومفاهيم ظهرت على الساحة العالمية، تستوجب على العلماء والدعاة أن يتعاملوا معها بشيء من الجدية مع قدر من الحذر، وتوظيفها التوظيف الصحيح في الثقافة الإسلامية، من مفهوم (المنهج المادي) إلى مصطلح (العولمة) مروراً بخطر المخططات الخارجية لتمزيق العالم الإسلامي، ودور المساجد والعلماء في هذه المرحلة، وانتهاءً إلى نفق (الحداثة).
أمور سلطنا عليها الضوء في هذا الحوار مع فضيلة الشيخ الدكتور (سعيد بن ناصر الغامدي) المفكر والداعية الإسلامي، وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد بأبها.
تناقض المنهجيات القائمة
سؤال: يقول المفكر الاستراتيجي الأمريكي (هنتنجتون)ما نصه: "إنه طالما ظل الإسلام
وسيظل كما هو الإسلام، والغرب يظل -وهذا غير مؤكد- كما هو الغرب، فإن الصراع الأساس بين الحضارتين وأساليب كل منهما في الحياة سوف يستمر في تحديد علاقتهما في المستقبل!.
برأيكم لماذا يعلن الغرب عن تهديد الإسلام لوجوده في هذا الوقت بالذات ؟
الجواب: ما قاله (هنتنجتون) عن الصراع بين الإسلام والغرب يحمل في طياته لغة استعدائية استفزازية تحريضية، لإيقاد المحرك المعنوي للسياسات العامة الغربية، والموقظ الوجداني لاتجاهات خشي أن تصاب بالاسترخاء بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
وينطوي في الوقت ذاته على رؤية استشرافية حقيقية من جهتين:
الأولى: جهة الغرب النصراني المتحالف -في جملته- مع اليهود ضد المسلمين.
الثانية: جهة التناقض بين منهجين متعاكسين في الاتجاه.
- منهج الإسلام القائم على:
1- الإيمان برب خالق، إله له الأمر والحكم.
2- إنسان مكرَّم مشرف، واجب عليه السير على منهاج خالقه في كل شؤونه ومناشطه وعلاقاته وتصرفاته.
3- كَون مخلوق مسخَّر للإنسان، يعبد الله كما يعبده الإنسان ويؤاخيه الإنسان ويحبه ويرتاده؛ للاستفادة من سنن التسخير الكونية فيه.
- منهج الغرب القائم على أصل مادي وإنكار إلحادي يتمثل في:
1- جحد وجود الرب كلِّية، أو جحد علاقته بالإنسان والكون، أو أنسنة الإله كما يزعم بعضهم.
2- تأليه الإنسان وادعاء قدرته المطلقة على الاستغناء عن رب خالق وإله متصرف، والزعم أن الإنسان قتل الله -حسب تعبير (نيتشه) الذي أصبح شعاراً للعلمانية الليبرالية- تعالى الله عما يقولون.
3- ادِّعاء التطور المطلق والصيرورة الدائمة، بناءً على مادية الكون والإنسان.
مواجهة أهداف مخططات التقسيم
سؤال: يتحدث الكثير من المحللين عن مشاريع لتقسيم المنطقة، ومحاولة بعثرة قيمها؛ لإفراز أجيال جديدة تؤمن بقيم الغرب وإسرائيل -التي هي نواته في المنطقة -كقيم عالمية مشتركة.
من هو المستهدف بنظركم في هذه المشاريع: الإنسان المسلم بكل تاريخه وحضارته، أم النقط والثروة ؟
الجواب: المستهدف من هذه المشاريع وغيرها مما لم يعلن، إضعاف المسلمين وتشتيتهم وإبقائهم في دائرة العجز والضعف والهوان والتبعية.
وإبعادهم عن أي مجال للقوة المعنوية أو المادية، وإزالة مقومات النهضة والاتحاد والقوة، هذه هي الأهداف الكبرى، وتأتي أوجه تنفيذها من خلال الغزو المسلح، أو السيطرة السياسية أو الهيمنة الاقتصادية، أو إشعال الفتن بين المسلمين أو استغلال نقاط ضعفهم.
نعم في بلدان المسلمين من هو أداة لتمرير هذه المقاصد وتسويق هذه المطالب وترويج هذه المشروعات الاستكبارية، ويتمثل هذا في وكلاء التوزيع الغربي من العلمانيين الفكريين والإداريين.
وفي أبناء الإسلام من يقاوم هذه الخطط ويقيم البديل الأصيل، ويكشف زيف وخطورة وكلاء الغرب ومخططاتهم 0
سؤال: مع توغل الأزمات في جسد الأمة، وتدافع العدو لمحاصرتنا... برأيكم ما المطلوب من الجميع اليوم ونحن على قارب واحد، وسفن العدو تبحر إلينا بقوة مذهلة ؟!.
الجواب: الواجب أن يقوم أهل الأمر والرأي -من العلماء والولاة- بواجبهم في نصح الأمة وتعزيز قواها والتعبير عن إرادتها، والاهتمام بعزتها ومكانتها وائتلافها ووحدتها.
كما أن الواجب على الشباب أن يستبصروا وينيروا عقولهم بالعلم النافع والتجربة المؤكدة، ويتحركوا وفق معايير الشرع والعقل والبرهان والمصلحة، وليس بمجرد العاطفة الصادقة، بل عليهم -في حال النوازل والفتن- أن يضبطوا عواطفهم بالعقل الصحيح المستند على الدين المنزَّل، كما يجب على المتعقلين من المسلمين أن يتيحوا مجالا لعواطفهم الإيمانية الصادقة؛ حتى لا يتحولوا إلى مجرد منظرين، أو فلاسفة يتعاملون مع أسخن القضايا ببرود عقلي وشتاء ذهني، ويجب على الطائفتين احترام الأخرى، وإعذارها وتلمس جوانب الخير فيها والبناء عليه، والبعد عن التركيز على العيوب والنواقص وأسباب الافتراق والاختلاف.
توظيف (العولمة) .. ومواجهة الحداثة(14/497)
سؤال: مع سطوع نجم العولمة انقسم المسلمون في النظرة تجاهها، فهل بالإمكان استغلال العولمة لإنضاج معرفتنا كمسلين، أم أن العولمة كائن مفترس لا يمكن مواجهته أو التعامل معه بأي طريقة كانت ؟!.
الجواب: العولمة لها -من حيث الجملة- جانبان:
الجانب الأول: فكري اعتقادي أخلاقي سلوكي، منهجي، ضمن إطار سياسي استعبادي استغلالي يقوم على فلسفة (افترس غيرك قبل أن يفترسك)، وعلى مبدأ (إسقاط الخصوصيات) الثقافية والأخلاقية والحضارية، وهذا يجب الحذر منه والتحرز من مخاطره وأمراضه، ومقدماته وتوابعه.
الجانب الثاني: تقني إداري مهاري معلوماتي، وهذا يمكن الاستفادة منه، وإسالة خبراته إلى أودية المسلمين.
ويجب التفريق بين هذين الأمرين تفريق يقوم على معطيات واقعية، وتحركات عملية وتصرفات ميدانية، وتنظيرات معلنة، وخطط مبرمجة، تفريق يعطي كل عاقل -ينتمي لأمته- القدرة على الفصل الحقيقي بين أهواء العصر ومقتضياته.
سؤال: الوقوف بوجه الحداثة كان أحد أهم سمات عملكم،هل يعتقد فضيلة الشيخ أن المجتمعات الإسلامية قد نجحت بوعيها الفطري بحقيقة الإسلام من تضييق الخناق على مثل هذه الأفكار الدخيلة؟
الجواب: لقد كان لرصيد الفطرة في قلوب المسلمين من الأثر ما جعل شبهات الحداثة والعلمنة تعيش في دوائر محدودة، كما كان لوقوف علماء الأمة ودعاتها ومثقفيها وأدبائها ما جعل زيف هذه المستوردات ينكشف بشكل كبير، ولكن هناك من أسباب بقاء هذه (الفيروسات) الفكرية ما نخشى معه انتشار هذه المذاهب الهدامة، واختطافها لبعض أبناء وبنات المسلمين، ومن هذه الأسباب:
1- الجهل بدين الله تعالى.
2- ظلم النفس بالمعاصي والذنوب والآثام.
3- الآلة الإعلامية الضخمة التي تشهر هذه الأمراض وتنشرها ،وتدعو إليها،وتزين أحوال المرضى الفكريين وتحسن من صورتهم.
4- الإحباطات والهزائم.
5- مواقف بعض الدعاة والعلماء والمتدينين التي قد توحي بالتخلف والجمود.
6- ضعف وسائل العرض المشوقة للدين وأحكامه، وآدابه، وضوابطه، ومعاييره،وثقافته.
7- الزهد المذموم في المشاركات الإعلامية،من قبل بعض الدعاة وطلاب العلم، والمثقفين.
8- التقليدية في عرض الأفكار ومناقشة الآراء ،وطرح النتاج الأدبي والثقافي.
حدود الاجتهاد
سؤال: هل فقدت الأمة- بعلمائها وعامتها في مرحلتها التاريخية هذه- الوعي اللازم الذي ينبغي استلهامه لفهم واقعها، ومن ثم القبول بالآخر المسلم؟ وكيف لعقل المسلم أن يتجاوز إشكالية الاختلاف مع المسلم؛ ليفتح أبوابه لإخوانه في كل مكان، ووفق كل اجتهاد مقبول؟!
الجواب: التخلف والاختلاف قرينان، إذا وجد أحدهما وجد الآخر، والبغي بالعلم أمر حذر الله منه، وبين أنه من أسباب فساد الأمم قبلنا (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة:213)
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19)
والتعصب والقسوة سمة الشرطة والعسكر والمحاربين، في حين أن اللين واللطف والرفق سمة الدعاة والمصلحين.
كما أن من أظهر صفات الأنبياء عليهم السلام الحب للناس والتسامح معهم والتلطف بهم، وقد قيل في التعصب ( العصبي عنيد أو غبي ).
أما أن كل اجتهاد مقبول فليس هذا على إطلاقه، فهناك اجتهاد مقبول وله شروط ولأصحابه مواصفات، وهناك اجتهاد مردود وباطل، والمطلوب هنا تعلم الطرق التي نستطيع فيها التناصح لا التفاضح، والمجادلة بالتي هي أحسن لا المعاركة بالتي هي أخشن.
وفي التصنيف الظالم والحكم الجائر خدمة للشر وأهله، وتشتيت لقوة أهل الإيمان المعنوية ، وتفتيت لروح التساند الواجب ، وخدمة لأعداء الأمة بإفناء قوة التلاحم المعنوية وأحاسيس الجسد الواحد، وجلب أسباب الهزيمة قال الله تعالى)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:46)
الثقافة ودور المثقفين
سؤال: للحضارة الإسلامية أوجه إبداع مازالت تشكل نواة لانطلاق الحضارة الحديثة ؛ إلا أن المفكر يتعجب وهو يرى هذا التاريخ المشرق في كل قيم العدل والخير والإيمان إزاء ضآلة التجربة الفكرية السياسية وعدم نموها. الأمر الذي شكل في عصرنا الحاضر مفتاحاً أساسياً لغزو الفكر الغربي، فمن المسؤول عن تقزيم العلاقة المهمة والتاريخية بين الإنسان الراعي والإنسان الرعية في كنف الدولة الإسلامية على مر التاريخ والعصور المتتالية؟(14/498)
الجواب: ليس الأمر على إطلاقه بهذه الطريقة، بل كان في الأمة في مدارج تاريخها الطويل إضاءات خيرة من التجارب المتميزة والنادرة في التاريخ في العلاقة بين الراعي والرعية، والتي كانت في سياقها التاريخي - آنذاك - من أندر النوادر ومن أغرب الغرائب حيث كان التعاون والتفاهم والتناصح؛ بل والمطالبة القوية بالإصلاح، بل وعزل الحاكم الفاسد، والعصيان المدني ضده، بل بيع بعض الحكام في السوق، وهناك من المناؤة لظلم الظالمين وفساد الفاسدين واستبداد المستبدين ما لم يوجد في أي أمة أو حضارة مقاربة زمنياً لأهل الإسلام، نعم لم تكن الأمور بالشكل الأمثل ولا بالطريقة الأجود،ولا وفق السنن الصافي الذي كان في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ولكننا لم نكن فقراء معوزين في هذا الجانب كما يحلو لكارهي التاريخ الإسلامي ومبغضي تحكيم شريعة الإسلام من العلمانيين والمتلوثين بكتبهم وأفكارهم، أما على من تقع المسؤولية فهي تقع أولاً على الحكام الجائرين، ثم على العلماء الساكتين، ثم على جماهير المسلمين الخائفين.
سؤال:ما الذي افقد المثقف رغبته في الاضطلاع بدوره الحقيقي في إعادة صياغة المجتمع الإسلامي وقيادته بالشكل الذي يتوافق مع عقيدته وقيمه وتاريخه؟
الجواب: ليس كل المثقفين افتقدوا الرغبة في الاضطلاع بدور حقيقي في إعادة صياغة المجتمع؛ بل هناك سعي حثيث من مثقفي المعسكرين الأساسين في بلاد المسلمين:
1- معسكر دعاة الإسلام وعلمائه ومصلحيه ومثقفيه.
2- معسكر دعاة العلمانية.
كل يسعى للتأثير في المجتمع وقيادته وتوجيهه، والمعارك العاصفة بين الفئتين ما زالت متأججة، بيد أن أهل الدعوة ورواد الصحوة لديهم من مقومات القوة وخصائص النصر والتمكين ما ليس لدى غيرهم من أصحاب الأفكار المستوردة.
ولاشك أن هناك من أهل الإسلام من :
1-أصابه العجز وأثقله الكسل.
2- من أرخاه الإحباط، فلحق بتكايا التواني واستسلم لخدر الأماني.
3-وبعضهم يطلب التغيير بالانفعال والتبديل العاجل ،وينسى أن لله سنناً في الأنفس والمجتمعات ، فيشتعل فجأة ثم يخبو فجأة ،ويعتقد أن التغيير والإصلاح لا يتم إلا بالقوة الجسدية0
4- وهناك من تحول إلى تقويض المنهج وهدم المسلك ، واقتناص العيوب والثغرات، والفرح بالعيوب والعثرات، والله المستعان.
دور المسجد .. وأسس الدعوة
سؤال: بينما تعصف الأزمات بالأمة من كل حدب وصوب؛ يتساءل كثير من الصالحين عن دور المسجد في كل هذه الأحداث، هل فقد مركزه القائد نتيجة ظهور بدائل أخرى للتعبير، أم أن ظروف التعتيم فرضت غيابه في هذا الوقت الحرج للأمة ؟
الجواب: سيبقى المسجد موئل سكينة، ومقام طمأنينة، وحصن إيمان، ومنبع إيقان.
أما الدور الكبير الذي يؤمل، والمنزلة الرفيعة التي كان عليها؛ فهذا أمر مطلوب ومقصد مرغوب. والدعاة والعلماء يقومون بجهود مشكورة في إعادة بعض أدوار المسجد، من: دروس تعليمية، وفتاوى، ونصائح، وجمع تبرعات، ومساعدة محتاجين، وصلح بين المسلمين، وغير ذلك من أوجه الخير المتنامي والحمد لله، وما زال الدرب والمدى واسعاً، والآمال عريضة، وكل آت قريب.
سؤال: أخيراً، كيف تلخص للدعاة الشباب الأسس الرئيسة التي يجب أن يلتزموا بها في طريقهم الشاق في الدعوة إلى الله؟
الجواب: يتم ذلك في تقديري عبر عناصر الخط التربوي المتكامل الموزون ، المستدرك للنقص في الواقع المعاصر، وهي:
1 - تثبيت العقيدة الصحيحة.
2 - الحرص على الصلاة بمعانيها الحقيقية الباطنة والظاهرة ، وسائر الفرائض .
3 - الالتزام بمعنى العبودية الشامل.
4 - الاتباع في أمر الدين بلا ابتداع، والابتكار والابتداع في أمور الدنيا المباحة، فإن من مصائب المسلمين ابتداعهم في الدين ، والبدعة في الدين ضلالة ، و جمودهم في أمور الدنيا ، والجمود فيها جهالة.
5 - الالتزام بأدب الأخوة الإسلامية،وأحاسيس الجسد الواحد .
6 - الفرح بالبذل والتعب اليومي، في أي سبيل مشروع، يحقق للأمة نهضتها وعزها .
7 - التعلم الذي يولد العمل .
8 - الشوق إلى الجهاد، والاستشهاد من دون تهور .
9 - الانضباط بالطاعة .
10 - التقلل من الدنيا، وطلب الخفة .
11 - ترقب الموت، ونسيان الأمل الدنيوي .
12 - حب الله في رجاء يضبطه خوف .
13 - مفاصلة الذين كفروا والذين نافقوا وبغضهم ومعاداتهم .
14 - الصبر على المحن والطاعات، والصبر عن المعاصي ، والصبر على طول الطريق وعنائه .
15 - الفقه في دين الله، والعلم بالواقع .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
============(14/499)
(14/500)
ماذا بعد تشريع الاحتلال في العراق
ياسر الزعاترة 27/3/1424
28/05/2003
- الغياب المدوي للدولة في حياة الناس، هي أول ملاحظات أي زائر إلى بغداد، ما يحيل البلاد إلى ساحة من الفوضى.
- (بول بريمر) بعد (جي غارنر) لم يقدم شيئاً حتى الآن، والعراقيون ينتظرون تنفيذ قرار إعادة الإعمال.
تقول القراءة الأولى لقرار مجلس الأمن الدولي (رقم 1483): إن الانتصار الأمريكي السهل والمدوي في العراق قد فرض على أركان التحالف المناهض للحرب أن ينحنوا على ركبهم راكعين أمام السيد الأمريكي، على أمل أن ينسى ما اقترفوه بحقه، فيما هو ماضٍ في عنجهيته، ومعلن أنهم بموافقتهم على القرار إنما يضعون نقطة بيضاء في صفحتهم السوداء ليس إلا، وهو ما تترجمه تلك المواقف التي يرددها كل من (باول) و(كوندوليزا رايس) حول الفرنسيين والألمان، فضلاً عن استجداءات الرئيس الروسي (بوتين).
تلك هي الصورة الأولى للمشهد، فيما يمكن أن يقال الكثير حول مسلسل الضغوط والتهديدات، ومعها بعض الوعود التي تلقتها تلك العواصم قبل مجيئها إلى مجلس الأمن، معلنة الموافقة على قرار يشرِّع احتلالاً لم يكن شرعياً، بل إن شعاره حول أسلحة الدمار الشامل لا يزال سخيفاً، بدليل أن شيئاً من تلك الأسلحة لم يكتشف بعد !.
ثمة قراءة أخرى للقرار المذكور لا تنفي كل ما قيل عن أن سطوة أمريكية أكبر على المشهد الدولي قد تبلورت إثر احتلال العراق، ومن ثم تشريع احتلاله ووضعه تحت الوصاية الأمريكية البريطانية، وتتعلق تلك القراءة بالجانب العراقي الداخلي.
الزائر لبغداد يلحظ أول ما يلحظ ذلك الغياب المدوي للدولة في حياة الناس، ما يحيل البلاد إلى ساحة من الفوضى. وغياب الدولة هنا هو غياب لكل تفاصيلها، حتى أن مولوداً جديداً لم يسجل منذ أكثر من شهرين، وكذلك شأن الأموات، إضافة إلى عمليات القتل اليومي والتصفيات، فضلاً عن غياب الخدمات الأساسية.
بعد هذه الأسابيع الطويلة بدأ العراقيون يستفيقون بالتدريج من الكابوس، (كابوس صدام حسين)، وحين يلتفتون حولهم لا يجدون غير القوات الأمريكية، فيما لا يعثرون على شيء يسير إلى الأمام، وهو وضع دفعهم إلى تحويل سخطهم إلى الاحتلال الذي يتهمونه بتعمد إذلالهم؛ كي يقبلوا بأي شيء، سواء كان احتلالاً ووصاية مباشرة ، أم حكومة دمية لا تمثل سوى نفسها على طريقة (كرزاي) في كابول.
(بول بريمر) بعد (جي غارنر) لم يقدم شيئاً حتى الآن، والحال أن قرار مجلس الأمن الدولي الجديد ربما أطلق عمليات إعادة الإعمار على نحو مختلف خلال الأسابيع والشهور القادمة، وهو ما ينتظره العراقيون.
العراقيون الآن لم يعودوا في انتظار الحكومة المؤقتة أو الانتقالية، بل أصبحوا في انتظار حكم الاحتلال المباشر على الأرض تحت أي لافتة كانت، ومعه قيام ذلك الاحتلال بمسؤولياته تجاه حياة السكان العراقيين، كما تنص على ذلك اتفاقية جنيف الرابعة.
نعم، العراقيون في حاجة إلى الحد الأدنى من حضور الدولة، حتى لو كانت تحت قيادة الاحتلال، وبعد ذلك سيكون لهم موقف آخر.
هنا يتبدى الوجه الآخر لقرار مجلس الأمن، وإذا كان من الصعب القول: إن الدول المناهضة للحرب قد وافقت على القرار لتسريع تداعياته الداخلية عراقياً، فإن من الصعب -بالمقابل- نفي ذلك، ويتمثل الوجه المشار إليه في تأثير القرار على نمط تعاطي القوى الحية في الشارع العراقي مع قوات الاحتلال. فخلال الأسابيع الماضية كان ثمة قدر من حسن الظن يمكن العثور عليه في ثنايا تصريحات قادة المعارضة الخارجية والداخلية، إضافة إلى انتظار الحكومة الانتقالية وطريقة التمثيل فيها، أما الآن فقد تحوَّل الانتظار نحو عودة شيء من الحياة إلى طبيعتها، سواء لجهة الأمن، أم لجهة الخدمات الأساسية.
لمعرفة تداعيات القرار أكثر، لا بد من النظر في طبيعة القوى السياسية الفاعلة على الساحة، ذلك أن القادمين من الخارج هم الأقل تمثيلاً للناس، باستثناء حالة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة الحكيم، والحال أن المجلس لا يمثل غالبية الشيعة، إذ إن مجموعة (مقتدى الصدر وحزب الدعوة) تبدو أكثر قوة وشبابية، مع اقتراب في مستوى التمثيل بين الطرفين، وقد يكون بالإمكان القول: إن مجموعة الصدر تماثل حزب الله في الحالة اللبنانية، فيما تمثل مجموعة الحكيم حركة أمل. وإذا كان خطاب المجلس رخواً إلى حد ما في تعامله مع الولايات المتحدة، فإن الطرف الآخر لا يبدو كذلك، حيث تنهض بين كلماته وبياناته قصة المقاومة كخيار لا بد منه في نهاية المطاف لدحر الاحتلال، اقتداءً بتجربة حزب الله في الجنوب اللبناني.
يحدث ذلك على صعيد السنة أيضاً، فالإخوان الذين خرجوا بلافتة الحزب الإسلامي لم يقيموا أي علاقة مع الأمريكان، وهم كانوا خارج هيئة المعارضة السباعية التي حظي فيها (العرب السنَّة) بمقعد لرجل مستقل هو نصير الجادرجي، أما الشيعة فكان لهم مقعد باسم المجلس، وآخر لحزب الدعوة، وثالث لأحمد الجلبي (كعلماني)، فيما للأكراد مقعدان (البرزاني والطلباني) ولحركة الوفاق (سنية علمانية) مقعد.(15/1)
الإسلاميون السنة بذلك لم يكن لهم وجود في دوائر المعارضة الخارجية، وهم لم يسعوا إلى ذلك قبل الاحتلال، ولم يعرض عليهم بعده، ولو عرض لما كان بإمكانهم قبوله؛ لأن قواعدهم وكذلك مرجعياتهم لا ترضى بالعمل تحت لافتة الأمريكان ابتداءً، فكيف حين يعلنون أنهم محتلون؟!
الآن يمكن القول: إن القوى الإسلامية (سنَّة وشيعة) قد غدت في وضع حرج، فمصداقيتها تحتم عليها رفض تشريع الاحتلال، وقواعدها تريد ذلك، فإلى أين تمضي، وهل لها مسار آخر غير المقاومة ؟.
الأكيد هو أن قرار مجلس الأمن الدولي قد قطع الطريق على محسني الظن بالاحتلال من لدن الإسلاميين في أوساط السنة والشيعة. وإذا كان أحمد الجلبي قد انتقد القرار، وكذلك (الباجه جي) وبعدهم (الحكيم) فإن الآخرين سيكون لهم ما هو أكثر من الانتقاد، وإن جرى انتظار التوقيت الأفضل، ولكن على قاعدة الإعداد للمقاومة، وليس على قاعدة انتظار عطف المحتلين وعقلانيتهم وحكمتهم
=============(15/2)
(15/3)
المسلمون الهنود والتطرف الهندوسي
أحمد أبو زيد 2/4/1424
02/06/2003
المسلمون في الهند مأساة أخرى من المآسي التي تحياها الأقليات المسلمة في العديد من دول العالم، فرغم أن نسبتهم 14% من عدد السكان، إلا أن تمثيلهم في مؤسسات الدولة لا يتعدى 3%، وهم يفتقدون القيادة الموحدة لمواجهة التطرف والتعصب الهندوسي الذي يتبنى أيدلوجية العداء للإسلام، ويسعى لمحو الوجود الإسلامي واستئصاله من الهند، حتى إن هدم المساجد والاعتداء عليها ومحاولة تدنيسها مسلسل مستمر في أنحاء الهند المختلفة، والمتطرفون الهندوس بعد أن هدموا المسجد البابري يخططون لهدم العديد من المساجد العتيقة، بزعم أنها بُنيت على أنقاض معابدهم. وقد استغلت الهند الحملة العالمية ضد الإرهاب، وأصدرت قانوناً جديداً يصادر حريات المسلمين وحقوقهم المشروعة.
والمسلمون الهنود يعتبرون أكبر أقلية إسلامية في العالم، وثاني أكبر تجمع إسلامي على وجه الأرض، وقد كانوا يمثلون ربع السكان في شبه القارة الهندية قبل الاستقلال وتقسيمها إلى دولتي الهند وباكستان، وقصة وصول الإسلام إلى الهند، ومعاناة المسلمين هناك قصة طويلة، وتاريخهم مع المعاناة ممتد في ظل حكام لا يعرفون إلا لغة التعصُّب، سواء كانوا من المحتلين البريطانيين أو من الهندوس.
دخول الإسلام الهند
وقد وصل الإسلام إلى الهند على يد (محمد بن القاسم) أثناء الفتوحات المعروفة في التاريخ الإسلامي بفتوحات السند أيام عهد الدولة الأموية، وعلى مدى قرون طويلة ظل المسلمون في شبه القارة الهندية أمة واحدة، ومع نهاية الاحتلال البريطاني -الذي استمر حوالي مائتي عام- انقسمت الهند عام 1947م إلى دولتين إحداهما هندوسية هي الهند، والثانية مسلمة هي باكستان -التي كانت تضم آنذاك بنغلاديش-، ونتيجة لذلك التقسيم ظهرت على مسرح الأحداث السياسية مشكلة إقليم (جامو وكشمير) المتنازع عليه بين الهند وباكستان.
والهند مجتمع متعدد الأعراق واللغات، وتبلغ مساحة أراضيها
(3,166,414) كم مربع، ويعيش فيها أكثر من مليار نسمة يمثلون سدس سكان العالم، وهي بذلك تعد ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان بعد الصين، وتبلغ نسبة المسلمين فيها 14% من مجموع السكان، أي حوالي 141,960,431 نسمة، وهناك تضارب حول تعداد مسلمي الهند، فطبقاً لإحصاء الحكومة الهندية عام 1991م، فإن عدد المسلمين يبلغ 96.65 مليون نسمة، غير أن تقديرات مسلمي الهند لأنفسهم تتراوح بين 150 و200 مليون نسمة، يعيش أكثر من نصفهم في ثلاث ولايات شمالية هي (أوتربرادش) وولاية (بهار) وولاية (البنجال الغربية)، وطبقاً لذات الإحصاء فإنهم يمثلون الأغلبية في 15 مديرية، والغالبية في منطقتي (جامو)، و(كشمير) ، ويعمل في قطاع الزراعة منهم قرابة 70% والباقون موزعون على قطاعات الخدمات والتجارة والصناعة.
وينقسم مسلمو الهند إلى قسمين هما: مسلمو الشمال ، ويتبعون المذهب الحنفي، ويتكلمون اللغة الأردية والبنغالية، ومسلمو الجنوب، ويتبعون المذهب الشافعي ويتحدثون اللغة التامولية، إضافة إلى وجود مسلمين شيعة في بعض الولايات، وبالأخص في حيدر آباد.
ورغم كبر حجم الأقلية المسلمة في الهند (14%)، فإن نسبة تمثيلهم في مؤسسات الدولة لا تتعدى 3%، وحسب بعض التقارير الرسمية فإن الأرقام تشير إلى أن تمثيل المسلمين في الوظائف الرسمية يتضاءل باستمرار، على سبيل المثال: فإن نسبة المسلمين السكانية الرسمية حوالي 15%، في حين أن نسبتهم في وظائف الخدمة الإدارية -حسب إحصاء عام 1981م - كان 3% وفي الشرطة 2.9%، وأن نسبتهم في وظائف حكومات الولايات والحكومة المركزية يتراوح 4.4% و6%، أما ولاية (أوتربرادش) فإن نسبتهم في شرطة الولاية كان 40% عام 1947م أي قبيل الاستقلال. أما الآن -وحسب إحصاء 1996م- فإنها 2% فقط.
مجتمع مغلق
وكأي أقلية في العالم بدأ مسلمو الهند في تنظيم شئون مجتمعهم الخاص -الذي حرصوا أن يكون مغلقا قدر استطاعتهم - وأنشأوا لهذا الغرض عدة جمعيات تهتم بشؤون هذه الأقلية، أهمها هو مجلس المشاورة الذي يتولى بحث القضايا التي تتعلق بهم وعلاقتهم بالمجتمع الهندي، وحل المشاكل الداخلية بينهم، ثم هناك الجماعة الإسلامية الهندية، وهي جماعة تقوم بدور دعوي وتثقيفي ونضالي لتثبيت أقدام الوجود الإسلامي في الهند، ثم جمعية علماء الهند التي ترعى شئون العلماء، وهناك أيضاً الجمعية التعليمية الإسلامية لعموم الهند، وهي ترعى شئون المدارس الإسلامية.
كما يوجد لدى الأقلية المسلمة في الهند جامعات لتدريس العلوم الإسلامية وأخرى للعلوم المدنية، ومن أهمها: جامعة (ديوبند)، وندوة العلماء في (لكنهو) التي خرجت عدداً كبيراً من كبار العلماء أمثال الشيخ أبي الحسن الندوي، وجامعة مظاهر العلوم، ومدرسة الإصلاح، والكلية الإسلامية في فانيا آبادي، والجامعة العثمانية في حيدر آباد، والجامعة الملية في دلهي. أما التعليم الأولي فيهتم بشؤونه مدارس ومكاتب منتشرة في أماكن وجود تلك الأقلية، وتعاني أغلبها من كثافة الفصول وقلة الكوادر المتخصصة.
أغلبية فقيرة(15/4)
وغالبية المسلمين في الهند هم عمال فقراء، أو فلاحون، أو حرفيون، وهم لا يتجهون إلى التجارة والصناعة؛ نتيجة عدم حصولهم على قروض من البنوك، وهيئات التمويل الرسمية، ومنع السلطات قيام مؤسسات مالية غير ربوية. فالأكثرية الساحقة من المسلمين هم من الفقراء، ولكن هناك فئة محدودة من المسلمين المثقفين ظهرت خلال الأربعين سنة الأخيرة، وبعد أن هاجرت النخبة المسلمة المثقفة من البلاد إلى باكستان عقب التقسيم.
والمسلمون في الهند لا ينفتحون على النظام الجديد، ولا يقبلون بأي جديد، خصوصاً إذا كان مصدره الغرب ، والثقافة الغربية ليست شائعة بينهم، والمؤسسات الثقافية التي يديرها المسلمون هي بحالة مزرية، ولذلك فإن الطبقة المتوسطة التي ظهرت بين المسلمين لجأت إلى المؤسسات الهندوسية الدينية، حيث يمكن أن يجدوا مطلبهم من الثقافة الحديثة، والعلوم، والتكنولوجيا، والهندسة.
فقدان القيادة الموحدة
والقضية الرئيسة بالنسبة للمسلمين في الهند هي فقدان القيادة، فليست لهم قيادة واحدة وموحدة، هذه أكبر قضية منذ بداية عهد الاستقلال، لأنه قبل الاستقلال كانت لهم منظمات وأحزاب وحركات وشخصيات، ولكن بعد التقسيم وظهور باكستان، وهجرة النخبة من الهند إلى باكستان خلت هذه البلاد، ثم لسبب أو لآخر قرر بعض الوجهاء المسلمين هناك حل التنظيمات السياسية.
والعوامل الداخلية والخارجية جعلتهم في حال دفاع مستمر عن أنفسهم، ليظلوا دوماً طائفة فقيرة وأمية ومجهدة لا تقوى على الإبداع، فضلاً عن تغيير واقعها، فماذا يمكن أن يكون مستقبل المسلمين في ظل هذا الواقع الأليم الذي يعيشون فيه، وفي ظل تنامي التيار الهندوسي المتطرف، هذا التيار الذي يتبني أيدلوجية العداء للإسلام كمصدر مزعوم للإرهاب المعتقد ؟!.
لقد ذهب وفد من هذه الحركة المتطرفة إلى إسبانيا لدراسة كيف تم استئصال المسلمين من ديار الأندلس، وتقوم أدبياتها على اعتبار أن المسلمين في الهند هم المسؤولون عن كل مشاكلها، وأن عليهم الرحيل عن البلاد، وأن للمسلم فقط مكانين إما باكستان أو القبر، وعلى هذا الأساس تواصل حملتها المتشددة تجاه المسلمين، واستطاعت هذه الحركة أن تستجلب الدعم المادي من الجاليات الهندية في الخارج .
مشكلات المسلمين
وإذا نظرنا إلى المشكلات التي تواجه مسلمي الهند، نجدها تتمثل في الآتي :
1. النزاعات التي تتكرر دائما بين الهندوس والمسلمين، والتي كان من أعنفها أحداث عام 1984 التي أسفرت عن مجازر راح ضحيتها آلاف المسلمين، وأحداث هدم المسجد البابري في 6 ديسمبر 1992م، حيث وقعت اشتباكات بين المسلمين وأعضاء حزب شيوسينا الهندوسي المتعصب، سقط فيها الآلاف من الجانبين.
2. الهوية الثقافية التي تشعر تلك الأقلية أنها مهددة بالذوبان في المجتمع الهندي الذي يغلب عليه الطابع الهندوسي، ويقول المسلمون الهنود: إن الحكومة تحاول تكريس هذا الطابع في المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، لذا فقد بذلوا جهوداً كبيرة -خاصة في بناء المؤسسات التعليمية - من أجل الحفاظ على هويتهم الإسلامية، إلا أن ثمار هذه الجهود لا تصل إلى مستوى الطموح المطلوب لأسباب منها: قلة الإمكانيات في المؤسسات التعليمية الإسلامية، وضعف التنظيم والتنسيق بين المؤسسات والجماعات الإسلامية في الهند.
3. انخفاض متوسط الدخل السنوي لمعظم أفراد الأقلية المسلمة، وتصنيفهم ضمن الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً، حيث يعيش أكثر من 35% من سكانها تحت خط الفقر.
برامج المرشحين الهندوس
وعندما نقرأ المحاور الرئيسية لبرامج المرشحين من الحركة الهندوسية المتطرفة، وفي خطبهم الحماسية خلال الانتخابات البرلمانية، نجد أن مطالبهم الرئيسة تركز على حرب المسلمين والعداء للإسلام وهي:
1. إعادة النظر في حقوق الأقليات للحد منها.
2. إلغاء قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، واستبداله بقانون مدني.
3. إلغاء الوضع الخاص لكشمير المتمثل في حكم ذاتي.
4. هدم العديد من المساجد العتيقة، بزعم أنها بُنيت على أنقاض معابدهم.
5. ضرورة شن حرب تأديبية ضد باكستان؛ لمواقفها تجاه الهند.
فهذا هو ما يخطط له المتطرفون الهندوس، ويعملون ليل نهار لتنفيذه، وفي مواجهة ذلك على المسلمين في الهند توحيد صفوفهم في مواجهة هذا التطرف والتعصب الهندوسي، الذي يسعى لمحو الوجود الإسلامي واستئصاله من الهند، وهدم المساجد والاعتداء على المقدسات، ولن يتحقق للمسلمين ذلك إلا بتنمية أنفسهم والارتقاء بأحوالهم المادية والاجتماعية والاقتصادية، والتفاعل مع مؤسسات المجتمع الهندي والمشاركة السياسية، حتى يعلو صوتهم في ظل مجتمع لا يعرف إلا الأقوياء.
حصاد التطرف الهندوسي(15/5)
وهذه الأفكار المتطرفة التي يحملها المتعصبون الهندوس كانت وراء عشرات المصادمات التي قادها المتطرفون الهندوس ضد المسلمين ومساجدهم، والتي ذهب ضحيتها آلاف المسلمين الأبرياء، فإذا ما تجاوزنا أحداث انفصال الهند وباكستان التي أودت بحياة مليون مواطن، فضلاً عن 17 مليون آخرين أجبروا على الهجرة، فإن الفترة بين عامي 1954م و 1963م شهدت وقوع 62 حادث مواجهة بين المسلمين والهندوس، أدت إلى سقوط 39 قتيلاً ، و527 جريحاً . وفي عام 1964م كانت الحصيلة 1070 حادث، و2000 قتيل، وأكثر من 2000 جريح . وبين عامي 1965م و1984م وقع 310 حادث، والحصيلة 160 قتيلاً ، و1685 جريحاً، وبين عامي 1985م و1991م كانت الحصيلة 620 حادثاً، و660 قتيلاً، و6 آلاف و950 جريحاً.
جريمة هدم البابري
وجريمة هدم المسجد البابري الواقع بمدينة (إيودهيا) في شمال الهند عام 1992م ، تعتبر من أعظم الجرائم الهندوسية التي أثارت العالم الإسلامي، فهذا المسجد يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، عندما بناه (بابر) أول إمبراطور مغولي حكم الهند، وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين اكتشف المتطرفون الهندوس قضية هذا المسجد، ونسجوا زعمهم الكاذب بأنه بُني على أنقاض معبد بمكان مولد (راما) الأسطوري المقدس لدى الهندوس، ولذا وجب نسفه والتخلص منه .. وجعلوها قضية شعبية، وقضية عامة للهندوس، وبدأوا ينظرون إلى هذا المسجد كأنه علامة وشعار للغزو المسلم لهذه البلاد.
وكانت أحداثه بالفعل بداية مرحلة تصاعدية جديدة من تطرف الهندوس وعدائهم للمسلمين، وكانت إيذاناً بحملة هندوسية دعائية، زعمت أن كل مساجد المسلمين العتيقة قد بنيت على أنقاض معابد الهندوس، وهي الحملة التي بررت هدم المسجد البابري في السادس من ديسمبر عام 1992، وما أعقبه من صدامات دامية أودت بحياة ألفي مسلم.
وتعود بداية العدوان على المسجد البابري إلى ما يزيد عن نصف قرن، ففي ليلة 22 ديسمبر 1949 هجمت عصابة مكونة من 50 -60 هندوسياً على المسجد البابري، ووضعوا فيه أصنامًا لذاك الممجّد لديهم المسمّى (راما)، وادعوا أن الأصنام ظهرت بنفسها في مكان ولادته !، وهو ما اضطر الشرطة إلى وضع المسجد تحت الحراسة مغلقاً لكونه محل نزاع.
وفي 3 نوفمبر 1984 سمح رئيس وزراء الهند الأسبق (راجيف غاندي) للهندوس بوضع حجر أساس لمعبد هندوسي في ساحة المسجد، وتبع هذا حكم صادر بمحكمة فايزباد بتاريخ 1 فبراير 1986 من طرف القاضي (ر.ك. باندي) -الذي أصبح عضواً في الحزب الحاكم حزب (ب.ج.ب) المسؤول عن هدم مسجد بابري -سمح فيه بفتح أبواب المسجد للهندوس، وإقامة شعائرهم التعبدية فيه، وحذَّر السلطات المحلية من التدخل في هذا الشأن.
وقامت جماعات الهندوس المتعصبة قبل سنوات باقتحام المسجد بقوة السلاح، والشروع في هدمه وتحطيمه، ووضع حجر الأساس وجلب مواد البناء، استعداداً لتشييد معبد الإله (رام)، وذلك لأن المسجد -في زعمهم- قد شيد على أنقاض معبد كان يقوم في ذلك الموقع نفسه، على الرغم من أن الأدلة الأثرية تؤكد أن المسجد إنما شيِّد على أرض خلاء.
وفي بداية الثمانينات قام الهندوسي المتطرف (محنت راغوبير) برفع قضية أمام المحكمة بشأن كون المسجد البابري قد بُني فوق معبد (راما) الأسطوري، إلا أن هذه المزاعم تم دحضها بحكم القضاء في أبريل 1985؛ لفقدان أي دليل تاريخي أو قانوني.
ولكن التحركات الصادرة عن الحكومة العلمانية هناك، قد شجَّعت المتطرفين الهندوس على ترتيب هدم المسجد بالكامل بتاريخ 6 ديسمبر 1992.
فقد قام عشرات الآلاف من الهندوس في مدينة أبوديا بالهند - يوم الأحد الحادي عشر من جمادى الآخر 1413هـ - 6 ديسمبر 1992، بتدمير مسجد بابري بالمدينة، بل ومسحه من الوجود، وهم يرددون أهازيج الانتصار، معلنين العزم على البدء في بناء معبد هندوسي مكان المسجد الذي يبلغ عمره ما يناهز الأربعة قرون ونصف، ومنادين في الوقت نفسه بأنه قد آن الأوان لخروج المسلمين من الهند.. في الوقت الذي التزم فيه المسلمون في المدينة منازلهم أو غادروها بحثا عن الأمن والأمان، ولكن الحشود الهندوسية الغوغائية التي اقتحمت المسجد بقوة السلاح، وفتكت بالمسلمين الذين حاولوا الدفاع عنه، وسط تواطؤ معلن من أجهزة الأمن الهندية، وتحت أنظار الدنيا بأسرها، حرصت على تدمير كل شيء، وبدأت بمحراب المسجد قبل كل شيء؛ ربما لما يحمله من رموز من ناحية، وربما لأن النقش الموجود في قلب المحراب، والذي يحدد تاريخ إنشاء المسجد على وجه الدقة، وهو ما يكذب مزاعمهم وتخرصاتهم عن وجود سابق للمعبد المزعوم.
وفي أعقاب هذه الجريمة النكراء عمَّت حوادث الشغب أنحاء الهند، وقتل فيها أكثر من ثلاثة آلاف شخص.
هدم المساجد مسلسل مستمر(15/6)
وجريمة هدم المسجد البابري التاريخي ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، حيث إن هدم المساجد والاعتداء عليها ومحاولة تدنيسها مسلسل مستمر في أنحاء الهند المختلفة، فبعد تدمير المسجد البابري، ادَّعى المتطرفون الهندوس أن مسجدين آخرين فيهما مقابر هندوسية، ويحاولون الآن الاستيلاء على مسجد آخر في نيودلهي، ومنعت الشرطة ناشطي حركة (فيشوا هندو باريشاد) ومنظمة الشباب التابعة لـ(بارانج دال)، من أداء شعائر هندوسية في مسجد (قوة الإسلام) في مجمع قطب، وتقول المجموعات الهندوسية: إنها تريد إعادة بناء معبد هندوسي يزعمون أن الحكام المسلمين دمروه، وكان في مكان المسجد !.
وفي جريمة مماثلة لهدم المسجد البابري الأثري، قام متطرفون هندوس بهدم مسجد أثري يعود إلى العهد المغولي في 27يوليو2001م، وبناء معبد هندوسي مكانه في زمن قياسي.. وهو مسجد أثري يسمى بمسجد (سواي بهوج) ببلدة (أسيند) الواقعة بمديرية (بهيلوارا) التابعة لولاية راجاستان الهندية .
وقد أنشأ هذا المسجد جيش الإمبراطور المغولي، حين عسكر بهذه المنطقة في القرن السادس عشر الميلادي، وهو مسجد من الطراز (القلندري)، الذي يكون من غير سقف، ويتضمن جداراً في ناحية الكعبة وقاعدة مرتفعة وثلاث منارات.. وهذا المسجد يتبع مجلس الأوقاف بالولاية، وهو تنظيم حكومي يرعى الأوقاف الإسلامية.
وتكتمت سلطات المنطقة على هذه الجريمة، فلم تصل أخبارها إلى عامة الناس إلا عندما خرجت صحيفة (هيندو) بهذا الخبر على صدر صفحتها الأولى. وقالت الصحيفة وقتها: إن تكتُّم السلطات يعود إلى خوفها من تدهور الوضع الأمني؛ نظراً لوجود توتر شديد في المنطقة بين الطائفتين المسلمة والهندوسية عقب هذا الحادث.
وقد وقع هذا الحادث الإجرامي عندما هجم نحو (300) هندوسي على المنطقة، فحرقوا الخيام ثم اتجهوا إلى المسجد وأزالوه من الوجود، كما فعلوا عند هدم البابري، ثم أحضروا مواد البناء، وأقاموا معبداً على الأنقاض، يتضمن قاعدة من المرمر وتمثالاً لبعض آلهتهم المزعومة، بينما شوهدت كوكبة من الشرطة بالمكان وبدون حراك.. ومن الواضح من سياق الأحداث وسرعة إنشاء المعبد أن العملية لم تكن عفوية، بل كانت الخطة معدة سابقاً.
وقد تم الكشف عن الحادث عندما تقدم أحد المسلمين من مدينة (أسيند) بشكوى لمجلس الوقف الذي يشرف على المسجد في ولاية (راجاستان). واتهم أمين مجلس الأوقاف (ناصر علي نقوي) سلطات المديرية بالتقصير في أداء واجبها، وطالب بإعادة المسجد كما كان سابقاً، وقال بأن السرعة التي أقيم بها المعبد تدل على أن العملية كانت قد حبكت مسبقاً.
قانون يصادر حريات المسلمين
وإلى جانب الاعتداءات المستمرة على مساجد المسلمين، تضيع حقوق المسلمين هناك وحرياتهم، في ظل قوانين جائرة فصِّلت خصيصا للمسلمين، فقد استغلَّت الهند الحملة العالمية ضد الإرهاب، وشهرت الحكومة الهندية سلاحًا جديدًا في وجوه المسلمين؛ لكبتهم ومصادرة حقوقهم المشروعة، بدعوى مطاردة الإرهابيين، واجتثاث الإرهاب، مستغله حملة بوش وأحداث 11 سبتمبر. وهذا السلاح الجديد يتمثل في قانون يصادر حريات المسلمين تقدمت به الحكومة، ويترتب عليه اضطهاد مَن تريد السلطات من المسلمين، والزج بهم في المعتقلات بتهمة الإرهاب، وحظي القانون الجديد بدعم وزير الداخلية (لال كرشنا أدفاني) الذي كان ضالعًا في هدم المسجد البابري، وهو يكره الإسلام والمسلمين كرهًا شديدًا.
وهذا القانون الجديد يصادر أبسط حقوق المرء الحر، ومن المعروف أن القوانين السوداء التي تهضم حقوق الإنسان وحريته في الهند ليست جديدة في البلاد، ولا هي بدعًا من الأمر، وقد ذاقت الأقليات في الهند -وخاصة المسلمين- ويلات تلك القوانين الجائرة.
فقد وضعوا من قبل قانوناً لمحاربة الإرهاب السيخي في البنجاب، ولمدة ستة أشهر فقط، إلا أنه بقي ساري المفعول لعشر سنوات طوال، واعتقل بسببه وعُذِّب في السجون كثير من الأبرياء في كل أنحاء البلاد، وكان معظمهم من المسلمين. والغريب أنه رغم أن القانون وضع لمحاربة الإرهابيين في البنجاب، فإن معظم المعتقلين كانوا من ولاية غجرات، لا من البنجاب!، ومن المسلمين، لا من السيخ! وهذا الذي يجعل المسلمين يتوخون الشر كل الشر من أي قانون لمكافحة الإرهاب، حيث تلصق بهم تهم الإرهاب ويعتقلون ويعذبون، وهكذا، كان المسلمون دومًا، ضحية كل القوانين الجائرة في البلاد.
ولقد ظلَّت السلطات الهندية - لا تحت حكم حزب بهارتيا جاناتا وحده، بل في ظل كل الحكومات الهندية السابقة- تتخذ مقاييس مقلوبة، تجعل البريء متهمًا والمجرم بريئًا. فالمسلمون الذين هُدّمت مساجدهم، وسُفكت دماؤهم، وذُبحوا بالآلاف، ونُهبت أموالهم، ودُمِّر اقتصادهم، وهُتِكت أعراضهم، ودُمِّرت مؤسساتهم التجارية نُعتوا بأنهم (إرهابيون)!، بينما اعتبر الهندوس الذين اقترفوا كل هذه الجرائم البشعة في حق المسلمين (وطنيين غيورين)! وتحريض رؤساء الجماعات الهندوسية المتطرفة أتباعهم على حمل السلاح (ضرورة أمنية).(15/7)
وعلى مدار السنوات الخمسين الماضية طُبقت في البلاد قوانين لمحاربة الإرهاب ومطاردة الإرهابيين، ولكن آثارها ذهبت أدراج الرياح . وكلما استبدل قانون بأشد منه تضاعف الإرهاب وتفاقم أمره، والسبب أن أيًّا من تلك القوانين لم يكن يستهدف الإرهاب، ولم يوجَّه يومًا نحو الإرهابيين، وإنما كانت فئات من الأقليات دون غيرها هم الضحية، كما أن تلك القوانين لم تعالج السبب الحقيقي للإرهاب، الذي هو سوء معاملة الجهات المعنية للأقليات واضطهادها، وهضم حقوقها المشروعة.
وعندما ننظر إلى فقرات القانون الجديد الذي بدأ العمل به بعد أحداث سبتمبر، نجد خطره البالغ على الحريات الفردية المضمونة في دستور البلاد وقوانينها الجنائية ولوائح البينة .
فالقانون يسمح للسلطات الأمنية أن تعتقل أي شخص تظن أن له علاقة بالإرهاب، أو يمكن أن تكون له علاقة، أو يمكن أن يرهب أحداً من المواطنين! وليس شرطاً التأكد من أن له يداً فيه، ولكن يكفي (عسى ويمكن).
ويسمح القانون الجديد للسلطات الأمنية أن تصادر أموال المتهم، بل وأموال أقربائه أيضاً، كما يسمح للسلطات المعنية أن تخفي أسماء الشهود، وهذا يمنع أولاً التحقيق مع الشهود، ويمكِّن السلطات المعنية ثانياً أن تدِّعي بوجود شهود، ولا خطر عليها ما دام القانون يسمح بإخفاء أسمائهم.
ومن أخطر فقرات القانون الجديد أنه يتيح للسلطات الأمنية والقضائية حرية الاختيار، بمعنى أن لها أن توجِّه التهم أو لا توجهها، وتسجن أو لا تسجن، تدين أو لا تدين! ويمكن لكل مطَّلع على أوضاع الهند، -وتحيز السلطات للهندوس على حساب المسلمين والأقليات الأخرى- أن يعرف كيف يكون اختيار هؤلاء؟.
ومن أخطر جوانب القانون الجديد اعتداؤه السافر على حرية التعبير والعمل الصحفي؛ إذ يفرض على الصحفيين الإفصاح عن المصادر التي استقوا منها معلوماتهم. وإن لم يصرِّح الصحفي بها يحق للسلطات أن تعتقله وتسجنه لمدة ثلاث سنوات.
وخلاصة هذا القانون الجديد أنه يعارضه كل من يهمه العدل والإنصاف، ولا يسانده إلا وزير الداخلية المعروف بتطرفه ومعاداته للمسلمين، والقلة القليلة الملتفة حوله. وقد طالبت المنظمات الإسلامية الهندية الحكومة بسحب القانون؛ لأنه يهضم حقوق الأقليات، وخاصة المسلمة، إلا أنه أجيز بأغلبية الحزب الهندوسي الحاكم بهاراتيا جاناتا .
المراجع :
1. جريمة المسجد البابري تتكرر في الهند - جريدة الرياض - العدد 12092 - الخميس 12 جمادى الأولى 1422
2. حملة هندوسية لإنشاء معبد على أنقاض المسجد البابري - جريدة العالم الإسلامي - العدد 1730 - 11ذو القعدة 1422هـ / 25 يناير 2002م
3. معبد هندوسي على أنقاض مسجد - الإسلام على الإنترنت - 31 يوليو 2001
4. الهند: قانون (POTO) يصادر حريات المسلمين! - أبو بكر محمد - كيرالا - الهند 1/12/2001 .
5. موقع قناة الجزيرة على الإنترنت - 24 يونية 1999م
=============(15/8)
(15/9)
حرب العقائد والدرس المستفاد
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، له العزة والكبرياء، يحكم مايشاء ويختار، والذين يمارون في عزته أو يتشككون في قدرته أولئك هم الحاسرون.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يديل أمما من الناس على أمم تارة، وقد تكون هذه الإدالة بداية النهاية.ويمتحن آخرين فيسلط عليهم أعداءهم، وقد يجعل الله في ثنايا المحن منحا إلهية، وقد يكون بداية النصير المؤزر على إثر الهزيمة الساحقة.وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده وناله وأصحابه من ألوان الأذى من أعدائه مالم يستكينوا معه أو ييأسوا ومازالوا يتضرعون حتى كان النصر والفتح المبين... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطاهرين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.اتقوا الله معاشر المسلمين، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } .إخوة الإسلام : المتتبع لتاريخ العلاقات مابين الغرب وشعوب الإسلام يلاحظ حقدا مريرا يملأ صدور الغرب حتى درجة الجنون، يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام والمسلمين. وهذا الحقد وذلك الخوف! ليس مجرد إحساس نفسي لا ظل له ولا أثر في الوجود، وإنما من أهم العوامل التي تبني وتبلور عليها مواقف الحضارة الغربية من الشعوب المسلمة سياسيا واقتصاديا وإعلاميا وسائر جوانب الحياة ا لأخرى.(15/10)
ولم تعد هذه المقولة مجازفة يطلقها المسلمون... 4، كلا والواقع ينطق والحقائق تشهد، والستار الوهمي يزاح، وكما شهدت أرض البوسنة والهرسك اليوم أبشع جريمة، وأسوأ كارثة في التاريخ المعاصر.. سفكت فيها دماء الأبرياء، أغتصبت النساء، وفصل بين الأبناء والآباء، مات الألأف من الأطفال وحيل بينهم وبين الرضاع.. ولم تنتهي الكارثة رغم سوئها عند هذا الحد فالهوية المسلمة يراد طمسها.. والأرض الخاصة لابد من تقسيمها والملأ يأتمرون ويخططون والسادة يباركون، والمنظمات والهيئات الدولية تحمي وتشرف على المخطط الآثم وتضطلع بمسؤوليتها في الجريمة النكراء، ويلف الصمت أمما أو دولا أخرى لها نصيبها في المغنم أو يكفيها أن يوأد الإسلام المتململ، وتنهى- ولو إلى حين- هذه الصحوة الإسلامية المتجددة.ودونك مذابح المسلمين في الشيشان والطاجيك، وبورما، وتايلند، وكشمير، والفلبين، وفلسطين والعراق وغيرها. وكأن من بنود النظام العالمي الجديد السماح لأي دولة تريد الاستقلال وتقرير حق المصير، أما الإسلام وأما المسلمون فيستثنون من هذه القاعدة ولابد من اضطهادهم والتضييق عليهم وعدم تمكينهم.إنها حرب العقائد بكل ما تحمله الكلمة من معاني ومضامين، وممارسة الاستعمار، ولكن بثوب جديد، وميدان المعركة خير دليل على كشف المؤامرة، وبيان هوية المقاتلين، والتصريحات بعدم السماح لدولة ترفع شعار الإسلام في أوربا لم تعد خافية، والجهود لمحاصر؟ هذه النبتة الإسلامية مسؤولية مشتركة حتى ولو كانوا من بني جلدتهم.أيها المؤمنون وإن من السذاجة والتغفيل أن نتصور حرب العقائد وليدة اليوم، وأن عدواة الغرب لنا معاشر المسلمين نبتت هذه الأيام. كلا.. فالتخطيط قديم، والنية للعداء مبيتة، والتصريحات قديمة وإن رغمت أنوف المخدوعين، وهاكم البينة وإليكم الدليل، يقول (أيو جين روستو) رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية... ومستشار الرئيس جونسن لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967 م: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافاث بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة.. إلى أن يقول: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي ولاتستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها). فهل بعد هذا من صراحة؟ .إذا كانت هذه سياسة أمريكا فقبلها أوربا وقد قال مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952 م- وليت المسلمين يعون ما يقوله الآخرون عنهتم. يقول هذا المسؤول: ليست الشيوعية خطرا على أوربا فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدا مباشرا وعنيفا هو الخطر الإسلامي. فالمسلمون عالم مستقل كل الإستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع- هكذا يقول الكاتب من وجهة نظره المادية، وإلا فهناك أسباب أخرى لانطلاقة المسلمين الكبرى- انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ... إلى أن يقول الكاتب: إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافا تاما، فهو حائر، وهو قلق، وهو كارة لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر... إلى آخر ماقال .إخوة الإسلام هذه التصريحات الجلية بالعداوة من جانب، وبالتخوف من الإسلام القادم من جانب آخر إذا انضم إليها الواقع المشهود بتآمر الغرب ووحشيته وتآمره على الإسلام والمسلمين في أرض البوسنة والهرسك مثلا باتت سهاما موجعة وضربة قاصمة للعلمانيين في ديار المسلمين أولئك الذين ما فتأوا ينافحون عن الغرب ومؤسساته ويوهمون أمتهم أن الدول المتحضرة لم تغد تقيم للدين وزنا في سياستها وبرامج تخطيطها، وينبغي- حسب نظرتهم الهزيلة- أن يبقى الدين علاقة شخصية بين الفرد وخالقه، لاعلاقة له بتنظيم أمور الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية وا لاعلامية وسواها. أجل لقد واتت الفرصة لكل مخدوع بشعار العلمنة والتغريب أن يكشف القناع عن عينيه، وأن يسمح لأذنيه بسماع مالم يكن يسمح به من قبل، وستتكشف له الحقائق دون غموض، وهذه راعية العلمنة ومصدرة أفكارها تؤوب إلى ديانتها وإن كانت محرفة، وتتخذ من الدين والمعتقد منطلقا أساسيا لسياستها، وتبقي العلمنة شعارا أجوف تخدع به المساكين، وتصدره بضاعة مزجاة لمن لازال في قلبه مرض من(15/11)
أبناء المسلمين، وإذا سقطت العلمانية وأفلس العلمانيون في ديار الغرب، فلا تسأل عن مصيرها في ديار المسلمين، وربك يحكم مايشاء ويختار، فبالأمس سقطت الشيوعية الشرقية وأذنابها داخل يحميها، واليوم تتهاوى العلمانية الغربية ومؤلسساتها وغدا وبعد غد ستتهاوى بإذن الله كل نحلة ضالة، وسينفضح كل نظام مزور مهما خدع الأبصار برهة من الزمن. ويبقى دين الإسلام دين الله في الأرض منسجما مع نظام الكون كله، ويبقى المسلمون يسبحون بحمد ربهم، ويشاركون غيرهم من مخلوقات الله تسبيحهم. ووعد الله حق، ولكن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وانصتوا لعلكم ترحمون لقوله تعالى {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} .نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره ولايحمد على مكروه سواه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد أيها المسلمون فطالما تحدث الغرب ومؤسساته وأذنابه عن الأصولية الإسلامية وعن تطرف المسلمين وتعصبهم وخطرهم، وهاهي الأحداث تكشف بجلاء أين مكمن التطرف وأين يكون العداء، فالغرب لايكتفي برفع شعار الدين راية لحروبهم ومساعداتهم، ولا ينتهي عند حد الدفاع عن الصليب مقابل الهلال، بل- ولفرط تطرفهم- يصرون على الدفاع عن مذاهب النصرانية المتنافرة، ويتفقون على اقتسام الغنيمة بين فصائل الكاثوليك والبروتستانت، والأرثوذكس، ففي الوقت ا لذي تساند (المانيا) وأوربا ا لكاثوليكية (الكروات) يبقى (الصرب) في حماية من روسيا واليابان وبقية الدول التي لاتدين بالكاثوليكية. فهل بعد هذا التطرف من تطرف، وحروب اليوم تذكرنا بالحروب الصليبية السابقة فأين المعجبون بالغرب والمروجون لشعاراته الوهمية من الديمقراطية والحرية والعدالة. وحقوق الإنسان أتراهم اليوم يعيدون حساباتهم، ويعلنون انخداعهم فيما مضى، فينصحون لأنفسهم، ويصدقون مع أمتهم، أم تراهم يراوغون ويخادعون ولاتزال عقدة الشعور بالنقص تصاحبهم، والفتنة بالفكر المستورد تطاردهم.(15/12)
أيها الإخوة المؤمنون وبرغم فداحة ماتسمعون من جرائم تقشعر لهولها الأبدان من أمم الكفر على شعوب الإسلام فالحقيقة الغائبة أكبر، والمخطط أعتى وأقسى، وكل يوم تكشف لنا حقائق وإحصاءات لم تتكشف بالأمس، لن يكون آخرها اكتشاف قبور جماعية لمايقرب من ثلاثة آلاف مسلم ومسلمة من شعب البوسنة ردموا فيها بالجرافات في الأحداث المؤلمة الأخيرة، وأمثال هذه الأحداث تؤكد لنا استمرار العداوة بين المسلمين وأهل الكتاب التي أخبرنا عنها ربنا بقوله {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم... }، وتذكرنا بعدم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، كما قالى تعالى {يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق }.. إلى قوله تعالى {وودوا لو تكفرون }.أمة الإسلام.. ومع الصمت والتخاذل والقعود عن نصرة المسلمين المستضعفين فلن تقف العداوة عند هذا الحد. فالهدف اقتلاع الإسلام من جذوره، والمخطط يشمل المسلمين كلهم، وما أجمل ماقيل (فبعد أن ينجز الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس مهمتهم في أوربا لابد وأن يتطلعوا عبر البحر الأبيض المتوسط صوب أراضي المسلمين ليكملوا مايقوم به اليهود) .فهل نعي حقيقة المؤامرة وحجمها، وهل نتخذ من أساليب الوقاية وأسبابها مانحفظ به على أنفسنا وعقيدتنا ولكن هل نتجاوز مجرد الحديث إلى ما بعده من دروس وعبر، وهل نتجاوز مرحلة البكاء والعويل إلى مرحلة الجد والاستعداد للمستقبل القريب، فنتعاون جميعا وبكل ما أوتينا من قوة للوقوف صفا واحدا في وجه العدو الحقيقي لنا، هل نتجاوز الخلافات الوهمية التي يصنعها المغرضون، هل نتجاوز الحدود المرسومة من قبل المستعمرين لتقطيع أوصال الأمة وإشغالها عن قضاياها المهمة والمصيرية، هل نعود عودة صادقة لكتاب ربنا وسنة نبينامحمد صلى الله عليه وسلم ، وكتابنا أصدق الكتب المنزلة، ونبينا خاتم المرسلين، في وقت عاد فيه الآخرون إلى كتبهم المحرفة ودياناتهم المنسوخة؟ هل نحافط على طاقاتنا؟. إن عالم اليوم لامكان فيه لمن يعيش بدون هوية، وإذ تشبث اليهودي والنصراني والبوذي وسواهم بعقائدهم أفيليق بنا معاشر المسلمين أن نعيش هملا نقتات على موائد الآخرين، ونستطعم منهم وكأننا حفنة من المساكين... أين العزة بالإسلام..، أين الغيرة للقرآن وأين نضع خيريتنا وشهادتنا على الأمم بنص القرآن{كنتم خير أمة أخرجت للناس} {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس..} .أن من واجبنا أن ندعم كل مبادرة خيرة صادقة للتضامن مع شعب البوسنة والهرسك، على أن لايتوقف هذا الدعم، وذلك التضامن حتى ينتصر المضطهدون، ويفضح المعتدون، وأن يشمل هذا الدعم والمساندة بقية المسلمين المضطهدين في أنحاء الأرض. إن على وسائل الإعلام بقنواتها المختلفة وفي عالمنا الإسلامي كله، مسؤولية توعية الشعوب بحقيقة المؤامرة، وشراسة الهجمة، والهدف من وراء اللعبة، ولاينبغي أن نقل مصداقية إعلام عن إعلام الغرب حين يشوهون صورتنا ونحن المسلمون المضطهدون ويلهبون مشاعر شعوبهم ضدنا وهم الكفرة المعتدون؟. ومع ذلك كله فينبغي أن لانقف عن حدود التوعية المبرمجة لقضايانا مع أهميتها، ولانكتفي بمجرد المساندة المالية للمضطهدين مع مسيس الحاجة إليها، بل لابد من التفكير بربط علاقات ثقافية مع الشعوب المسلمة يحكمها الإسلام، ولابد من إقامة علاقات اقتصادية مع الشعوب المسلمة لايكون الربح المادي هدفها، بل تهدف إلى إيجاد فرص اقتصادية يستغني بها المسلمون عن استجداء الآخرين. ولابد من تعاون عسكري جاد في محيط الأمة المسلمة، تتقلل منه في البداية عن معونات الأمم الأخرى وتستغني به مستقبلا عن أي صفقة أخرى لاتعطى حتى تؤخذ تنازلاث تقايضها، أو تعطى صراحة لفتة وتحرم أخرى كما يجري اليوم مع المسلمين البوسنة و الصرب النصارى.وحين نصدق مع ربنا، ونتمثل إسلامنا فلن يضرنا كيد الكائدين {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } ولن يستطيعوا إطفاء نور الإسلام {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} . والله غالب على أمره.
=============(15/13)
(15/14)
ماذا قدم الإسلام للمرأة ؟
أخواتي الكريمات: حديثنا اليوم إليكن حديث قديم جديد مألوف متكرر أنه مساحة للحوار وفرصة للتشاجي والتشاكي حول قضية من أصخم القضايا المطروحة على الساحة الفكرية، ألا وهي المرأة. خاض فيها من خاض وبحث فيها من بحث وقال فيها من قال بحق حينا وبباطل أحياناً أخرى وادعى إنصاف المرأة وتباكى على حقوقها الضائعة المسلوبة زعموا بدموع التماسيح طائفة من الأقلام تطوعوا للدفاع عن قضيتها أعني المرأة تطوع الفضولي الذي لم يفوض وإن شت قلت كتيبة من الكتاب المجندين من عملاء الفساد والتخريب {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}. والجميل هذه المرة والرائع في هذا البحث والحوار أن الذي يناقش قضية المرأة هي المرأة نفسها، هي تعرب عما في نفسها وتتحدث عما في خاطرها دون وصي أو ولي فتعالين: نتعرف على البداية وما هي قضية هذه المعركة! هكذا صورت معركة هي حقا معركة سلاحها الأقلام والأفهام ووقودها النساء والمداد وساحتها جبهة عريضة من وسائل الإعلام بشتى صورها وأنماطها وإن كان هذا الاستعراض غير مطلوب مني وقد يتداخل في المساحة المقررة لأخريات ولكنها مقدمة لا بد منها فلتحتملنها ولو على مضض.
أولاً وقبل كل شيء: لنعرف أن الحضارة التي يدعى إليها في هذا العصر حضارة غربية وإن شئت قلت حضارة إباحية كافرة، حضارة أجنبية يهودية ونصرانية شاء ما شاء وأبى من أبى حقا إن الحضارة الآن تكتب من الشمال كما يقولون. ومع ذلك الانفجار العلمي والتقني الهائل الذي بهر العقول بمنجزاته وصناعاته والذي يحمل الماركة الغربية التي شع منها شعاع الحضارة المادي المعاصر، مع ذلك كله طفح على الساحة فيض من الأفكار المنجرفة المنحرفة والتي أرادت أن تتعامل مع الإنسان ومنه المرأة كما تتعامل مع الآلة تماما وأرادت أن تخضع قيمة وأخلاقه بل وعقائده للتجارب كما تخضع عناصر المادة لذلك في المعامل والمختبرات ومع استيراد الآلات والمصانع من الغرب للشرق وردت أو استوردت أخلاق غريبة عجيبة في الإنسان والكون والحياة بهر الشرق بها كما بهر بالمنجزات الغربية واعتبرت مسلمات ثبوتية لا تقبل النقاش ويكفي لكثير من الناس في الشرق المهزوم مبرراً لصحتها إنها وردت من الغرب وهبت معها رياح التغيير. ولئن كان للتمرد على الدين والقيم في الغرب إبان التحول من القرون الوسطى وعصور الظلمات إلى العصر الصناعي والثورة العلمية ما يفسره ولا يبرره أقول يفسره ولا يبرره، فهل يوجد في شريعة الإسلام وبلاد المسلمين مثل ذلك اليوم.
أخواتي الكريمات:
إن الكنيسة الغربية النصرانية خرجت على الناس في العصور الوسطى بنظريات أبعد ما تكون عن روح الشريعة ونقاء العقيدة في الكون والحياة والإنسان نظريات في الوجود تصادم الحقائق العلمية الثابتة ونظريات في الكون تصادم المحسوس والملموس ونظريات في الإنسان والمرأة بالذات تعارض الفطرة والدين مثل الأساقفة والكرادلة والبابوات والأباطرة هل المرأة لها روح أم لا؟ هل هي كائن شيطاني أم إنساني؟ هل وهل؟؟ إلى غير ذلك من النظريات التي أصيخت بها الأسماع وشغلت بها الساحات الفكرية وامتحنت بها العقول على طريقة الجدل البيزنطي المشهور. هل الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة، وأيهما كان أولاً، والويل كل الويل لمن كذب أو يرتاب فصكوك الحرمان والمقاصل جاهزة معدة وكلها تحت رواق الكنيسة رمز الدين والإيمان ومع إشراقة شمس الحضارة الإسلامية على العالم ومنه على أوروبا الغارقة في ذلك الوقت في غياهب الجهل والخرافة والتزمت استيقظت أوروبا وكان العالم في الظهيرة وحان في ذلك تنفس عظيم لمجموعات البحث والكشف العلمي المضطهدة والتي كنت تتململ في قمقمها وأكتشف الناس كذب وزيف هذه النظريات بانبلاج شمس الحضارة (وشمس الحقيقة تحرق المغالطات). فثار الناس في أوروبا على الكنيسة والبابوات والأباطرة المتواطئين معهم لتقاطع المصالح وتلافيها بينهم، ثاروا ثورة عارمة على الدين كله فكانت (العلمانية) فصل الدين عن الدولة في المدنية الحديثة، ثاروا على الكنيسة التي حرمت العلم الصحيح والتفكير السليم التي ظلمت المرأة وتتبعتها بالحرب والإبادة بحجة أنها عنصر شرير فاسد.
أقول مجدداً: أخواتي الكريمات إن كان لهذه المعركة في قضية الكون والحياة والوجود ما يفسرها في عالم الغرب فهل يوجد هذا في عالم الشرق إن كان لهذه الثورة على الكنيسة ما يعلله فهل يوجد لحرب المسجد من مبرر إن كان لإعلان الثورة على النصرانية أسباب فهل يوجد سبب واحد لإعلان الحرب على دين الإسلام. أخواتي: هكذا أردت أن أرجع بكن إلى الوراء لتتبع فلول القضية وجمع شتاتها حتى لا تفهم مبتورة مجردة أنها قضية ضخمة كبيرة خطيرة ليست قضية خاصة بالمرأة وحدها.(15/15)
فأولاً أقول: ينبغي تقرير مسألة أحسبها فاصلة في القضية وهي: أن أحداً أو محوراً قد يتفوق في جانب الحياة دون جانب ولا يعني تفوقه في جانب تفوقه في كل الجوانب. نقترب من الحقيقة أكثر: لنفترض أن الغرب حاز السبق في الصناعة والتقنية وسجل إنجازاً واضحاً فهل يعني ذلك أن جميع ما جاء منه من نظريات ودراسات اجتماعية ومدنية وأخلاقية حق لا يقبل النقاش؟ وهكذا حلا للبعض أن يصور لكن نظرة إلى واقع الغرب ونظره إلى منهج الإسلام تنسف كل هذا الفهم المغلوط من القواعد. نظرة إلى الأسرة الغربية وما تعيشه من جحيم التفكك والتمزق والقطيعة والنظرة إلى المجتمعات الغربية وما تحياه من أثرة وجشع وأنانية يسحق العجزة والضعفاء والأيتام والمعلقات والمطلقات والمعوقات تحت جنازير الحياة الرأسمالية البائسة التافهة الحقيرة، مثلها أو قريب منها في الشرق الاشتراكي. ونظرة إلى شباب الغرب وما يعيشه من مخدرات وعلاقات وصداقات محرمة. ونظرة إلى المرأة وما تعيشه من بؤس وشقاء واستضعاف إلى درجة الاستبعاد وإقحام لها في مجالات الرجال بحجة المساواة حتى زاحمن الرجال في سفلتة الطرق وقيادة الشاحنات وقطع الصخور وحتى قطعت يديها الآلات والمكائن وشحب لون وجهها وأذهب أنوثتها دخان المصانع وغبار الطرق ناهيك عما تعيشه من وضع أخلاقي مدمر، ومعذرة مرة أخرى على تجاوز الموضوع المقرر ولكنها مقدمة ضرورية أقول نظرة إلى هذا كله ثم كرة أخرى إلى شريعة الله الطاهرة المطهرة كما هي في القرآن والسنة تكذب ذلك الفهم المنكنوس والفكر المنحوس وتدحضه وتدفعه فإذا هو زاهق فلكم الويل مما تصفون. نظرة الإسلام للمرأة والآن إلى نظرة الإسلام للمرأة أقدمها باجتهاد شخصي ونظرة قاصرة فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.
أخواتي العزيزات: ينبغي أن نفهم أولا وقبل كل شيء: أنها مسألة دينية إلهية لا بد فيها من استسلام العبد والأمة إلى الإله المعبود والتحاكم إلى شرعه والإسلام يعني الاستسلام على منهج الخليل: إذ قال له ربه { أَسْلِمْ َ } قال {إأَسْلَمْتُ}ولا تثبت قدم الإسلام على ظهر التسليم والاستسلام، ومن شغب على الشريعة وعاند الله في شرعه وضاد الخالق في حكمه فذلك خارج عن الإسلام ملحد بالله العظيم، والله يقول {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} أي الطائعين لله المستسلمين لحكمه ويقول المولى أيضاً: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} فالمنازعة مرفوضة، والمعاندة مردودة ومن نازع في حكم الله ورسوله في المرأة فهو كمن ينازع في عدد الصلوات والركعات وانصبة الزكوات. إذ تقرر هذا فإن الإسلام حدد نظرته للمرأة من خلال المعالم والسمات التالية:
أولاً: إن المرأة شقيقة الرجال، قال رسول الله صلى الله عليه ونسلم : "إنما النساء شقائق الرجال" {صحيح أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن عائشة وأخرجه البزار من حديث انس نحوه بلفظ مقارب}. وهي مخلوقة من عنصر الرجل ومادته لا فرق بينهما في أصل الخلق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً}. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.وبهذا يفهم البون الشاسع والبحر الواسع بين الإسلام والنصرانية المحرفة التي تشكك هل المرأة عنصر طاهر أم رجس أم نجس؟ وهل هي كائن شيطاني أو إنساني؟ وهل لها روح أم لا ؟ الخ….(15/16)
ثانياً: الله سبحانه وتعالى فرق ين تكوين المرأة والرجل نفسياً وعقلياً ومزاجياً ووظيفيا وجعل بينهما فرقا كبيراً بين تكوني الليل إذ يغشى النهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فشتان بين الرجل بصلابته وجلده وشدته وقوته وبين المرأة وأنوثتها وضعفها وسرعة انفعالها وتأثرها وحيضها ونفاسها، وهذه ليست عيوبا ولكنها أمور خلقت في المرأة وبهذا يعلم بأن لكل عمله المناسب ووظيفته اللائقة والمداخلة بينهما ظلم وجور وإجحاف صارخ وإذا أردتن فهم المسألة فأقلبنها وبضدها تتبين الأشياء. ولن أتكلف البحث عن الأدلة الشرعية على ضعف المرأة عقليا وبدنيا ونفسيا وهي موجودة ومفورة لكن اكتفى بالنظرة إلى الواقع والتاريخ والحياة وأعنى هنا الأغلب والحكم للأغلب وإلا فرب امرأة خير من ألف رجل ثم إن هذا الضعف ليس نقصاً ولا عيباً فيها ولكن فطرة الله سبحانه وتعالى له الحكم عديدة لا يحيط بها حصر أو وصف. أقول كم عدد المخترعات من النساء وما نسبة المؤلفات منهن إلى الرجال، وهل عرف منهن قائدات جيوش؟ وصانعات حروب وفاتحات مدن؟ إلا النزر اليسير وما نسبة السياسيات البارعات ورئيسات الدول حتى لدى الدول التي صدرت لنا منها هذه الأفكار الجانحة في أمريكا مثلاً، هل أعتلي عرش الجمهورية رئيسة واحدة منذ عهد (إبراهام لنكولن) و(جورج واشنطن) إلى اليوم. فلماذا يا أمريكا عدم الثقة بالنساء أم أنه نداء الفطرة الغالبة القاهرة.
ثالثاً: ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة تماما في التكاليف الشرعية وذلك من حيث الثواب والعقاب والخير والشر فلا تحمل نفس جريمة غيرها ولا تزر وزارة وزر أخرى يتبين هذا من خلال حشد هائل من نصوص المصدرين مثال لذلك: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً}.{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}. غير أن هاهنا نقطة تسجل لإسلامنا العظيم وشريعته الغراء وهي: أنه أعفى المرأة اعترافاً بضعفها من المهام الشاقة والوظائف الصعبة التي كلف بها الرجل من ذلك الجهاد، صلاة الجماعة والجمع والعمل والقوامة مثلاً، ومع ذلك فلها أجر الجهاد كاملاً غير منقوص، قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد قال: "لكن أفضل من الجهاد حج مبرور" وفي رواية قالت: هل على النساء جهاد؟ قال: "عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمر"، ثم أن هناك أمور أعفيت منها المرأة صيانة لها وحفاظا علهيا كالأذان والإقامة فإنهما لا يشرعان للنساء. فما أروع شريعتنا وديننا إذا راعت الحال للجنسين وكلفت بمقتضاها، تنزيل من حكيم حميد {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، تصورون يا أخواتي لو كان الجهاد علينا فرض كالرجال، من التي تسل سلاحها، من التي ترد رماحها، إنها لا تستطيع ملازمة ساحة المعركة ولا تنطح العدو ولا تطيق من ذي تطيق نطاحها الحرب باشباحها ومخاوفها وصياحها ولهذا أراحها الله وأباحها إن أقبلت أشباحها، أو أزهقت أرواحها، أو ودعت أفراحها.(15/17)
رابعاً: أن الإسلام كرة المرأة وأعزها بحق وحقيقة بما لم تظفر به في شريعة ما قديماً وحاضراً وحظيت بمكان ومكانة عظيمة في شريعة الله الخالدة وانتشلها الإسلام من وضع جهنمي مأساوي كانت تعيشه قبل تكريم الإسلام لها ولنضرب من الواقع أمثلة يتضح بها سمو مكانة المرأة في الإسلام. ففي شريعة حمورابي الملك الأشوري لا يسمح للمرأة بالخروج من بيتها إلا مع زوجها أو إلى قبرها، وفي شريعة الرومان كما سبقت الإشارة إليه واليهود يعاملونها على أنها رجس من عمل الشيطان وإذا حاضت لا تخالط ولا تؤاكل ولا تعاشر، فقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: "خالفوا اليهود واصنعوا كل شيء إلا النكاح" ولدى النصرانية يعتبرون المرأة أصل الخطيئة وأنها أغوت آدم حتى أكل من الشجرة وفي أسفارهم المكذوبة على الله في التوراة والإنجيل إن الله عاقبها على ذلك بآلام الحيض والنفاس والوضع والولادة. وفي الجاهلية العربية يعدونها من سقط المتاع لا يملك بل تملك كسائر المتاع فإذا مات زوجها تسابق الورثة عليها فمن ألقى رداءه عليها أولا ملكها ولا تعطى من الإرث شيئاً يقولون كيف نعطي من لا يركب فرساً ولا يحمي عشيرة ولا ينكأ عدوا ولا يحمل سيفاً! وإذا بشر أحدهم بظل وجه مسودا وهو كظيم وربما وأدها حية في التراب ولهم في ذلك أخبار بشعة، فجاء الإسلام حاميا لها بتعاليمه التي أحدثت ثورة عارمة على وضع مأساوي تعيشه المرأة فأعطاها الحق في الميراث {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}. وحماها بعد الولادة وندد بأفعال الجاهلين في وأدها وأعتبرها جريمة كبيرة وعظيمة وسيسألون عنها: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
خامساً: ثم أوصى بها وصاية متنوعة: قوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه أوصى بحفظ حقها بوجه عام من ذلك: "إني أحرج حق الضعيفين المرأة واليتيم"، وقال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وقال: "استوصوا بالنساء خيراً" والتمس لها العذر في ضعفها فلا تؤاخذ بكرهها وطلاقها، وقال: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر" وقال: "الدنيا متاع المرأة الصالحة"…ألخ. وأوصى بها أماً: فإن أعظم حق بعد حق الله ورسول صلى الله عليه وسلم حق المرأة الأم: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}. ولما سأله الصحابة من أحق الناس بحسن صحابتي قال: "أمك، ثلاثاً قال ثم من قال أبوك". وأوصى بها بنتاً: فهي البنت التي من عالها وأحسن إليها كانت له ستراً من النار وحجاباً منها. وأقف هنا لأتذاكر معك أختي العزيزة كيف يحسن الوالدان إلى البنت ما الإحسان الذي يشير إليه رسول ا صلى الله عليه وسلم هنا ويحث عليه، أهو بشراء الجديد وأكل الحلوى المتنوعة والتسكع مع البنات في مراكز التسويق؟ هل هو يتنميق الملبس وتعدده؟ هل هو بإلقاء الحبل لها على الغارب تيم حيث شاءت دون حسيب أو رقيب؟ لا إن هذه أمور ليست مراده وإن أنزلق في بعضها كثير من الأباء والأمهات فضاعوا وأضاعوا بين التفريط والإفراط. إن الإحسان المطلوب شرعاً للبنت هو صيانتها وحفظها كما تحفظ الجوهرة الثمينة، وتصان مشاعرها فلا تعنف ولا تجرح بل تكرم وتربى تربية إسلامية صحيحة على العقيدة السليمة وعلى دأب نساء خير الأمة. كما أوصى بها زوجة: فهي الزوجة التي أوصى بها الرسول صلى الله عنه وسلم في أحاديث سلف بعضها فماذا تريدين أختاه بعد هذا والجنة تحت أقدامك ورضا الله من رضاك وسخطه من سخطك - الله أكبر - ولو كره الكافرون.
رغم الشقي أخو الجهالة …المفتري إفكاً لدين محمد
الزاعم الكذب الجزاف بأنه …قدر النساء بها كقدر الأبعد
حاشا وكلا والذي فلق …بل حظها حظ العزيز الأسعد
أم لها عدد الحقوق ثلاثة …بنت حجاب جهنم إن ترشد
وهي العقلية كم أتت من …يوصى بها خيراً بسنة أحمد
أخت العقيدة تلك شرعة …عضي عليها بالنواجذ واليد(15/18)
سادساً: أوصى بها أن تستأذن فيما يخصها ويعنيها في النكاح والمبايعات ونحوها واعتبر الإسلام رضاها في النكاح عكس ما كانت الجاهلية تفعل، واعتبر لها الملكية كالرجل لا تنازع ولا يحجر عليها إلا لسفه أو فلس كالرجل ولها حقها في المهر والنفقة والكسوة والمسكن وأحب الرجال إلى الله وأكرمهم من أسخاهم بذلك نفسهاً، وسجل لنساء كمواقف محمودة مشهودة: (كمل من النساء أربع)، ورفرف لهن في سماه المجد رايات خالدة وسجل الإسلام والتاريخ مشاهد فاضلة كامرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وأم موسى، وسارة، وهاجرة، ومريم، وخديجة، وعائشة، ألخ… رضي الله عنهن. وأعطاها الحق في التعامل بالبيع والشراء والهبة والإجارة والصلح، والشركة والوقف كالرجل وغير ذلك من عقود المعارضة والإرفاق. وحماها نفسياً وعاطفياً أن تضار بولدها في الرضاع والنفقة وأن تخرج من بيتها إن طلقت رجعيا: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنّ}وغير ذلك من أحكام وليس المقام مقام حصر والمطلوب تدبر القرآن ومراجعة دواوين السنة الحافلة بالأحكام الرائعة ولسنا بذلك نحاكم الإسلام أو نضعه في قفص الاتهام أو حتى ندافع عنه معاذ الله فهو شريعة الله الباقية ودستوره الصالح بل المصلح لكل زمان ومكان.
أخواتي الفاضلات: أعذرنني إن أطلت وحتى يأخذ موضوعنا شكله المتكامل لا بد أن نجيب على تساؤلات تطرح شغبا وكيداً وربما أوحدت لدى البعض شبها من المناسب إيضاحها وكشفها، من ذلك:
1- لماذا جعل الإسلام العصمة بيد الرجل؟
والجواب : لأن المجرب المعروف بالطبع أن المرأة أسرع انفعالا وأقل تفكيراً في العواقب، فتصور لو كانت العصمة بيدها ما الذي كان قد يحدث وهناك قصة طريفة، يحكى أن رجلاً أراد أن يداعب زوجته فاتاها يوما وتظاهر بالحزن ولما سألته قال: قيل لنا إن العصمة نقلت اليوم إليكن وأخشى أن تطلقيني فطفقت تحلف له الأيمان وتؤكدها وتوثقها أنها لا تفعل أبدا لو عاش معها قرونا كثيرة، غير أنه لم تغب شمس ذلك اليوم حتى نشب خلاف عادي بينهما فانتهي إلى أن طلقته مائة طلقة، وهناك كشف لها الحقيقة.
2- لماذا جعلت المرأة على النصف من الرجل في الشهادة، شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل وكذلك في الميراث والعقيقة والدية؟
الجواب: أما الشهادة فينبغي أن يعلم هذا في الأمور المالية فقط قال تعالى في آية الدين في سورة البقرة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان} ذلك أن الرجل أكثر ممارسة للبيع من المرأة وأكثر ضبطاً، ولذا فإنه في بعض الأحكام الأخرى تقبل شهادة امرأة واحدة عدله ولا يسقطها أو يعادلها شهادة ألف رجل كأمور النساء في بكارة ورضاعة وعيوب تحت الثياب وغير ذلك. إذن المسألة تخصص لا غير. وأما الدية فلأن الخسارة الواقعة أو المتوقعة بفقد الرجل أفدح من المرأة إن يكسب وينفق على أهله فهي خسارة واقعة وإن كان صغيراً فهي متوقعة عكس النساء اللاتي كفين مؤونة النفقة والسكن والمشاركة في تحمل ديات قتل الخطأ وشبه العمد من العصبة، وذلك في الغالب هو جواب الميراث والعقيقة. بل فيه فوارق كان يحسن ذكرها.
3- لماذا القوامة والولاية في النكاح والمحرم في السفر؟
الجواب: إن ذلك ليس لإهانة المرأة بل لصيانتها من التكسب في القوامة ومعاشرة الرجال وصيانتها من مباشرة العقد في النكاح المشعر بتوقانها إلى النكاح وهو ما تأنفه الطباع وتستحي منه المرأة ولأنها كثيراً ما تخدع بالمظاهر ويغرها الظاهر. وهكذا المحرم في السفر لحفظها وصيانتها وما أكثر أخطار السفر.
4- لماذا القرار في المنزل؟ الجواب: إن هذا أمر إلهي {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُن} وذلك لتتفرغ لأشرف وظيفة وأنبل رسالة لا يطيقها غيرها، ولا يقواها ويحسنها الرجال كالحمل والولادة والإرضاع والتربية ومن هنا يعلم كذب من قال نصف المجتمع معطل وه لخرج العلماء والدعاة والهداة والساسة والعباقرة والقادة إلا من حجور بنات حواء..!
5- لماذا الحجاب وكيف توصت المرأة بالفتنة ويحذر منها الرجال؟ هل هي شبح؟
الجواب: إن ذلك لتكريمها أيضاً وأن الأشياء الثمينة تحفظ كالجواهر والأطياب، وهل هناك أثمن من المحارم وأشرف ولأن وجودها خارج المنزل حالة طارئة والأصل قرارها في البيت وعند النساء فلتحجب حتى تعود لأصل مكانها. وأما التحذير مناه وأنها فتنة، ألخ..، فليس لأنها شيطان أو عفريت من الجن وإن صورها الشطيان في أعين الرجال كذلك فتنة وإغراء، ويذكر أن امرأة سألت أحد الدعاة عن هذه المسألة فقال يا أخيتي: أليس المال والبنون فتنة كما ذكر الله فقالت: بلى، فقال: هل تكرهين المال والبنين لأنها فتنة، قالت: لا، قال: نحن كذلك لا نكره المرأة بل نحبها كالمال والبنين وإن كانت المرأة فتنة. إذن هذه الضوابط وغيرها لا تزيل التكريم بل تزيده وعندما استدركت النساء في زمن النبوة واعترضن على بعض الأمور كان هنا الاعتراض متسما بسمات:
1- إنهن اعترضن على أمور تتعلق بالوضع الديني حرصا منهن على المسابقة في الخيرات.(15/19)
روى البخاري في كتاب العلم من صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم "غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن فكان فيما يقال لهن ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار… الحديث".
2- كان ثنائيا بينهن وبين من يملك إنصافهن بأمر ربه لم ينشرن هذه الشبه التي ترددت في خواطرهن بين الملأ والنساء مع أن القلوب صالحة آنذاك والإسلام عزيز.
3- لم تتمن المرأة المسلمة أمراً تعلم أن الله قد فضل به الرجال إذ لم تنازع في القوامة، الحجاب…. بل أرادت أمراً هو من أجل دينها فقط، هذا أدب النبوة وتربية المصطفى لهم قال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}. وروى الإمام أحمد قال: حدثنا سفيان الثوري عن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة يا رسول الله: "يغزوا الرجال ولا نغزو ولنا نصف الميراث فأنزل الله ولا تتمنوا ما فضل الله…". ورواه الترمذي عن أبي عمر عن سفيان به نحوه ورواه الحاكم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه بلفظ (لا نقاتل فنستشهد ولا نقطع الميراث).
4- إن للطلب والاعتراض حدود نتعلمها من قصة أسماء بنت السكن خطيبة النساء رضي الله عنها تلك المرأة التي سألت أمور تتعلق بالدين مبتغية الأجر والثواب من ربها حتى أثنى رسول ا صلى الله عليه وسلم على مقالتها قائلاً: "هل رأيتهم مقالة امرأة أحسن من مقالة هذه في دينا؟".
وثمة توصيات أبعث بها لمن يريد أن يتكلم بلسان المرأة المسلمة أو يخوض في قضاياها:
1- تقوى الله ووزن القضايا بميزان صحيح فلا يجعل من الأمور الهامشية التافهة مشكلة يرتفع صوته طالبا الحل لها.
2- لا يحق لمن لا ينتمي للإسلام أن يعتبر نفسه وصياً على المرأة وكيلاً على ما يتعلق بها.
3- عند معالجة ما يتعلق بالمرأة تراعي محدودية النقاش فلا ينشر الخواطر والتساؤلات على صفحات المجلات والصحف بل تبحث بحثا جاداً مع من يملك إقامة الحل.
4- من يعطي رأيا في تحديد الأمور المتعلقة بالمرأة لا بد أن يكون ملتزما منصفا ذا إدراك للواقع والعواقب والنفسيات.
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
==============(15/20)
(15/21)
الحقائق الخفية لمسلمي (الحبشة) (1/3)
الحقائق الخفيّة لمسلمي (الحبشة) سابقًا (إثيوبيا) حاليًا
الحبشة - عمار بن بلال 14/1/1426
23/02/2005
يتعرض المسلمون وتتعرض العقيدة الإسلامية لانتقادات وحملات وتشويهات باستخدام مختلف الأساليب والوسائل والألفاظ والافترات؛ فمرة يُتهم الإسلام بالرجعية ومرة أخرى بالتشدّد والتطرّف. وأخيراً وليس آخراً بالإرهاب.
كان على مسلمي الحبشة وعلى عقيدتهم النصيب الأكبر من الضغط والقمع والاضطهاد والتنكيل والأذى والحرمان حتى من أبسط حقوقهم الإنسانية وذلك من خلال الأنظمة المختلفة التي تعاقبت على إدارة هذه البلاد، ومن خلفها الدول المسيحية الرأسمالية الغربية وما سبقها من الحروب الصليبية والاستعمار الغربي والدول الشيوعية.
وقد ساعد هذه الأنظمة أعداءُ الإسلام والمسلمين على تحقيق أهدافها ومآربها. وقد لحق بالمسلمين في هذه البلاد من الجهل والتخلف والفقر من خلال ما فرضته عليهم الأنظمة المختلفة حتى تكون هذه صورتهم المطلوبة.
وقد مرّت على هذه البلاد عدة أنظمة وهي على النحو التالي:
1- أنظمة ملكية إقطاعية لفترة طويلة استمرت حتى عام 1967م، ومن خلالها (5) سنوات نظام استعماري إيطالي.
2- أنظمة شيوعية عسكرية من 1967-1984م.
3- أنظمة ديمقراطية (علمانية) منذ عام 1984 ولا تزال.
ففي كل هذه الأنظمة المختلفة كيف كان وضع الإسلام والمسلمين في هذه البلاد؟
هذا ما سنتحدث عنه بالتفصيل على أن يُؤخذ في الاعتبار العوامل التالية:
1- إن ما أُشير إليه في هذا التقرير هو جزء بسيط جدًا أو قطرة من الغيث من الواقع الحقيقي.
2- عند الحديث عن هذا الموضوع نضع أمامنا مراقبة الباري جلّت قدرته ومن خلال قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).
3- من خلال ما لديكم من الوسائل الإعلامية السمعية والبصرية والمقروءة وبالذات الموقع الإعلامي، ونحن حُرمنا من تملكها نظرًا لقدراتنا المادية والعلمية والإدارية والنظامية رغبنا تزويدكم بهذه المعلومات على أن تقوموا بنقلها عبر هذه الوسائل لإخواننا في العقيدة الإسلامية حتى يكونوا على علم وبصيرة بما عليه إخوانهم المسلمون، وما كانوا عليه في الحبشة (إثيوبيا) في الماضي وفي الحاضر.
الحبشة
هي البلاد التي أنجبت من لقمان الحكيم، النجاشي، بلالاً، أم أيمن حاضنة سيد الخلق محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ووالدة حِبّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد، وأمثال مهجع الحبشي، وأبي بكر الحبشي، وشقران الحبشي، وذو مخمر الحبشي، وهلال الحبشي، ويسار الحبشي و غيرهم فكلهم كانوا من الصحابة الأجلاء الذين وقفوا بجوار صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة والمحنة، ولا شك أن العناية والاهتمام الذي ناله المصطفى صلى الله عليه وسلم من أم أيمن وبالذات بعد وفاة والدته وهو صغير حتى قال فيها "أم أيمن بعد أمي" ومنه نال الأحباش حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال فيهم: "من أدخل في بيته حبشيًا أو حبشية أدخل الله في بيته بركة".
ومن ناحية أخرى هي البلاد التي أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما كان وأصحابه الكرام في محنة ومشقة وحصار بأن يهاجروا إليها قائلاً: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه".
وكان نتيجة ذلك أن أصبحت الحبشة بلاد الهجرتين ودخل الإسلام فيها قبل أن يدخل الطيبة الطيبة. وكان نصيبها أن استقبلت أعظم وأفضل وخيرة وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأوائل أمثال: عبد الله بن جحش، عبد الرحمن بن عوف، جعفر بن أبي طالب، عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومصعب بن عمير، وأبو عبيدة بن الجراح، وعثمان بن مظعون، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، وعتبة بن غزوان، وعبدالله بن مسعود وغيرهم.
وكان من الأفضل والأولوية ففي أن تكون هذه العوامل والظروف والمواقف وسائل لأن تنال الحبشة وبالذات المسلمون فيها جل الاهتمام والعناية من إخوانهم في العقيدة الإسلامية وبالذات عرب الجزيرة العربية من خلال توطيد وتطوير العلاقات المختلفة السياسية منها والاجتماعية والثقافية والاقتصادية إلا أن الذي حدث هو العكس للأسف الشديد أن التباعد والانفصال والانقطاع والتجاهل كان سيد الموقف من خلال العصور المختلفة، حتى أصبح يُقال: "فهل هناك يوجد مسلمون في إثيوبيا (الحبشة) "وحتى تم تسجيلهم في الهيئات والمنظمات الإسلامية العالمية كأقلية إسلامية. وتم التلفيق والتزوير والتضليل في نسبهم السكانية في أنهم يمثلون خمسة وعشرين في المائة من عدد السكان في البلاد. ويا ترى من كان السبب في ذلك؟ ومن يقف وراء هذا الظلم الشنيع؟ ولماذا تم اتخاذ ذلك من الأهداف والوسائل الخبيثة؟ ومن المستفيد من وراء ذلك؟
مسلمو الحبشة غالبية عظمى من عدد سكان إثيوبيا البالغ سبعين مليون نسمة حسب الإحصائية الأخيرة، ويمثل المسلمون فيها ستين في المائة فأكثر.(15/22)
تعرض المسلمون في هذه البلاد إلى جميع وسائل التنكيل والقتل والاضطهاد والتشريد والحرمان ومن أبسط الحقوق، وتم قفل البلاد أمام جميع وسائل الإعلام العالمية المختلفة السمعية منها والبصرية والمقروءة حتى لا تنكشف وتتضح هذه الجرائم البشعة.
مُنع المسلمون الخروج من البلاد نهائيًا وتم منع دخول المسلمين من الخارج إليهم فلا يُسمح لمسلم في البلاد الاتصال بأي وسيلة كانت بإخوانهم في العقيدة الإسلامية في العالم.
ويُسمح لكبار السن من مسلمي إثيوبيا (وفي أضيق الحدود وبعد البحث والتحري والمراجعة) بالحج والعمرة، ويكون هؤلاء في أجواء من المراقبة والمتابعة لتحركاتهم ولقاءاتهم وتنقلاتهم أثناء تواجدهم في الأراضي المقدسة في مكة والمدينة.
أما الشباب من المسلمين فليس بالإمكان الخروج من البلاد نهائيًا فكل الذي استطاع الخروج منهم من البلاد وهم يُعدون على الأصابع استطاعوا استخدام طريق البر مشيًا على الأقدام للوصول إلى السودان ومن ثم الوصول إلى مصر والالتحاق بالجامع الأزهر للدراسة أو تغيير الإتجاه للوصول إلى السعودية، ومن ثم الالتحاق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وهذه الفئة القليلة وحتى بعد نيلها الشهادة الجامعية لا تتوفر لها الوظائف المناسبة داخل البلاد للعمل فيها؛ مما يضطرهم للبقاء خارج البلاد والعيش في حياة الغربة بعيدين عن الأهل والوطن. ومن رجع منهم إلى البلاد (وبعدد محدود جدًا) التحق -وبشق الأنفس- بالمحكمة الشرعية التي هي أصلاً محكمة صورية لا صلاحية لها، ولا مكانة لها في المجتمع. حيث من ينتسب إليها كموظف يعتمد له رواتب شهرية لا تزيد عن مئتي بر شهريًا، في حين ينال الموظف المعتمد في المحاكم المدنية الأخرى ما بين ستمائة وسبعمائة بر شهرياً. ناهك أنه لا يتم اعتماد هذه الشهادات الجامعية المصرية والسعودية من قبل الجهات الرسمية الحكومية كشهادات معتبرة رسمية مما اضطر المتخرجين من الجامعات العربية والإسلامية البسطاء أصلاً للبقاء خارج البلاد كمهاجرين.
وهنا نعود لننظر إلى أوضاع المسلمين في الأنظمات المختلفة التي مرت بهذه البلاد.
أولاً : المسلمون في عهد الأباطرة والملوك الذين حكموا هذه البلاد واستمر حكمهم حتى عام 1967م. وهنا نذكر على سبيل المثال فقط عهد الأمبراطور تيدروس، ويوحنا، ومنليك، وهيلا سلاسي.
في عهد الأمبراطور تيدروس: كان هذا الملك يعتبر الحبشة والمسيحية صنوان لا يفترقان؛ لذا عمل جاهدًا على اعتناق المسلمين المسيحية. وعندما أصبح تيدروس في أوج قوته عمل على تحقيق ثلاثة أهداف هامة:
1- القضاء على سلطة الطبقة الاستقراطية والاقطاعية في البلاد.
2- القضاء على قبيلة الجالا أو اعتناقهم المسيحية.
3- طرد جميع المسلمين الذين لا يعتنقون المسيحية من البلاد.
في عهد الأمبراطور يوحنا الرابع للفترة (1872-1889م).
ولقد تميز عهده بشدته وقسوته على المسلمين وحدد فترة أقصاها ثلاث سنوات حتى يتحول المسلمون إلى الدين المسيحي، وفرض على المسلمين أن يبنوا كنائس على نفقتهم بجوار مساكنهم، وأن يأكلوا اللحوم التي ذُبحت على أيدي المسيحيين، وأن يدفعوا عشورًا خاصة للقسيس والكنائس التي في منطقتهم وأخذ يستعمل مختلف الوسائل لتعذيبهم والحطّ من شأنهم فلجأ كثيرون منهم إلى الفرار من الهضبة إلى المناطق البعيدة عن سلطانه، بينما اضطر الكثيرون إلى التظاهر باعتناق المسيحية حتى يأمنوا على أنفسهم وعلى أرزاقهم، لكنهم ظلوا في صميم قلوبهم مسلمين متسترين على إسلامهم حتى إذا حانت ساعة وفاة أحدهم نطق بالشهادتين.
وفي سنة 1878م عقد الملك يوحنا مجمعًا يضم رجال الكنيسة الحبشية، ونادوا به حكما أعلى في المسائل الدينية وقرروا وجوب الاقتصار على دين واحد في كافة البلاد وأعطى المسيحيين على اختلاف طوائفهم الذين لا يعتنقون مذهب اليعاقبة مهلة عامين ليصبحوا بعدها متفقين في الرأي مع كنيسة البلاد. وألزم المسلمين باعتناق المسيحية في خلال ثلاث سنين وأذاع الملك مرسوماً بعد ذلك بأيام قليلة أوضح فيه أن مهلة ثلاث السنوات التي منحها للمسلمين ليست بذات أهمية؛ وذلك أنه لم يقتصر على إلزامهم ببناء كنائس مسيحية في مناطقهم كلما احتاج المسيحيون إليها. وكذلك دفع العشور للقساوسة الذين في مقاطعاتهم فحسب بل إنه أنذر الموظفين المسلمين بأن يختاروا خلال ثلاثة شهور بين قبول التعميد واعتناق المسيحية أو التخلي عن وظائفهم.
ويقول (مساجأ) أحد الكتاب أن الملك (يوحنا) أرغم في حوالي سنة 1880م ما يقرب من خمسين ألف من المسلمين على التعميد ناهيك عمن قتلهم وأبادهم.
عهد منليك (1865-1913م)
تميّز حكم منليك بخواص ثلاث بالغة الأهمية وهي:
1- امتداد إمبراطوريته إلى الجنوب الغربي مستولياً على الممالك الإسلامية والقضاء عليها.
2- احتفاظه باستقلال الحبشة ودفاعه عنها ضد الحملة الإيطالية في سنة 1896م.(15/23)
3- القضاء على سلطة الملوك والأمراء وجعل الدولة وحده واحدة وبالذات الإسلامية منها. وكسر شوكة الإسلام، ولقد كان المبشرون ومن جلبهم من المندوبين العسكرين من أوروبا خير المستشارين لمنليك لتحقيق هذه الغاية.
العهد الأول للأمبراطور (هيلا سلاسي):
نال لقب الملك في عام 1928م واعتبر نفسه ملكًا للملوك وسمّى نفسه "الأمبراطور هيلا سلاسي" الأول في عام 1930م، ولهذا الملك صفة هامة استخدمها لتحقيق مآربه ومكائده ضد الإسلام والمسلمين أكثر من غيره من الملوك السابقين فلم يشأ أن يستخدم عنصر القوة والقتل المباشر على المسلمين بل استخدم أساليب ووسائل سياسية أكثر مكرًا وحقدًا وطغينة وخداعًا.
فعندما وقف أمام عصبة الأمم في عام 1928م للدفاع عن حق بلاده واستقلالها من إيطاليا نطق بكلمة قال فيها:"إنه يريد وحدة الدين واللغة لبلاده ويعمل جاهداً لتحقيق هذه الغاية". وحدة الدين المسيحية وحدة اللغة اللغة الأمحرية.
وعليه بعد استلامه للسلطة لم يلجأ إلى الأساليب السافرة من الاضطهادات الدينية الإجبارية التي كانت سائدة في عهد الملوك الذين سبقوه في حكم البلاد بل تظاهر بأن حرية الدين مكفولة وألغى ما يتعارض مع ذلك من قوانين. لكنه اتبع نفس الإجراءات السابقة بالنسبة للمسلمين وأقرها بطريقة مستترة بأن سمح للمسلمين بمزاولة النشاط التجاري على أن يبعدوا عن الوظائف والمناصب العامة ومن جميع ما يتعلق بحياة البلاد السياسية. وجعل بين المسلمين وبين الطبقة الحاكمة فاصلاً واضحًا. وقد أخذت أساليب التفرقة طابعاً رسمياً؛ إذ إن الدستور الجديد الذي أصدره ربط بين الجنسية الحبشية والدين المسيحي ربطًا متينًا قضى على آمال المسلمين في تحسين مستواهم؛ فاعتبر المسلمين لاجئين لديه فليست لهم ولا عليهم الحقوق والواجبات الممنوحة للمواطن الحبشي. وما سمح للمسلمين من مجال فقط هو النشاط التجاري والزراعي والرعي فقط، لكن الضرائب والعلاوات والأتوات التي فرضت عليهم للحكام وأعوانهم وللكنيسة ومنسوبيها لم يُعط لهم المجال لتحقيق ما يصبون إليه من الرقي إلا ما يسد رمق عيشهم فقط.
المسلمون من خلال الاحتلال الإيطالي للبلاد:
منذ اللحظة الأولى أعلن الإيطاليون أنهم سيحمون الإسلام والمسلمين وسيعاملونهم على قدم المساواة مع المسيحيين. وأعلن موسولوني أنه سيضمن لهم السلام والعدل والرفاهية، وسيعمل على احترام القوانين الإسلامية. ولم يكن مسموحًا للمسلمين في الحبشة أن يقيموا مساجد جيدة البناء، ولكن الإيطاليون صرحوا ببناء مساجد جديدة لهم في كل مكان يوجد به مسلمون. وقامت الحكومة بتعيين القضاة الشرعيين لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأُدخل تدريس اللغة العربية في جميع المدارس التي أُنشئت للمسلمين. ولقد كتب الأمير شكيب أرسلان في هذا الموضوع مقدمة كتاب: (المسلمون في الحبشة) في إبان الاحتلال الإيطالي بهؤلاء الذين يتباكون على احتلال الحبشة يقول: "أفلا تذكرتم سلطنة هرر الإسلامية التي أغار عليها الملك منليك الثاني السابق، ونسف استقلالها واستحلها وذبح من أهلها خمسة آلاف رجل في شوارع هرر، وضبط أملاك كثير من المسلمين وجعل مسجدهم الأعظم كنيسة. ومنع استعمال اللغة العربية... الخ.
العهد الثاني للأمبراطور هيلا سلاسي يبدأ من عام 1942م:
قامت الحملات البريطانية بطرد الإيطاليين من شرق أفريقيا وإعادة عرش إثيوبيا إلى الأمبراطور هيلا سلاسي. وقد سبق كلامنا عن حالة المسلمين في عهد هيلا سلاسي الأول، أما ونحن نتكلم عن عهده الثاني فإن أشياء كثيرة قد تغيّرت بين العهدين وكان منها انتعاش المسلمين بفضل سياسة المساواة التي اتّبعها الطليان، فلقد وجد المسلمون في هذه المساواة فرصة نادرة للانطلاق حتى أصبح عماد البلاد متوقف عليهم لكثرة عددهم ونشاطهم وإقبالهم على الزراعة والتجارة والصناعة الناشئة. ولكن ما أن عاد الأمبراطور إلى الحكم مرة أخرى حتى أخذ يعمل في هدوء وبراعة لكي يعيد المسلمين إلى ما كانوا عليه في السابق من حرمان وإهمال وظلم ويرخي عليهم ستارًا كثيفًا من النسيان يحجبهم عن العالم ويحجب العالم عنهم.
ومما يؤسف له أن الأمبراطور استعمل هذا الدهاء ا لنادر والخبرة التي لا تُجارى في محاربة المسلمين والإسلام، واستعمل نفس الخبرة في حجب أخبار المسلمين في بلاده عن العالم الخارجي في الوقت الذي يعمل فيه على إظهار نفسه بمظهر الحاكم المتسامح، بل المفرط في تسامحه، وعاونته على ذلك أجهزة الإعلام الغربية التي تسيطر على إعلام العالم، حتى أصبح من المستحيل على من ليست له دراية بتلك البلاد معرفة الحقيقة، ولا يمكنه الاعتماد على ما تكتبه وتنشره وسائل الإعلام الزائفة التي تسيطر عليها الدولة، ولم يعد هناك سبيل للاطلاع على الأمور ومعرفة الأوضاع الصحيحة إلا بزيارة البلاد، وزيارة البلاد للمسلمين ليس بالأمر الهين.(15/24)
سلاح رهيب يتقنه الأحباش ويتفقون فيه في عهد الأمبراطور هيلا سلاسي، وهو سلاح الإهمال والنسيان سددوه إلى المسلمين، فسرعان ما فقد المسلمون جميع ما كسبوه في عهد المساواة الذي ساد في عهد الطليان، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، وأصبح محرّمًا على المسلم مرة أخرى تولي الوظائف الهامة، أو الالتحاق في الجيش، أو الخدمة في الشرطة، أو التمتع بوسائل التعليم الحديثة التي تعتني بها الدولة غاية العناية، وتنفق عليها جانبًا هاماً من أموال الدولة، الذي تحصل على أغلبه من الضرائب التي يدفعها المسلمون، وإنك لا تجد مسلمًا موفدًا في بعثة من تلك البعثات التي تعلق الدولة عليها آمالها للمستقبل. وخلاصة القول هو أن ما يمكن أن يتصوره القارئ من وسائل الظلم والإهمال وسوء المعاملة يجده مطبقًا في أسوأ حالاته في هذا الحكم، في هدوء وبرود وبراءة. والوضع الذي كان سائداً في الحبشة في هذه الفترة هو طبقة متميزة حاكمة تتألف من المسيحيين، فمنها الحاكم والموظفون في جميع الدرجات ومنها الجيش والشرطة ورجال الأمن، وقليل منهم يعملون في الزراعة والباقون لا يزالون يعيشون في حالة مذهلة من التخلف والبداوة تبذل الحكومة أقصى جهدها لرفع شأنهم وتخصهم بعنايتها حتى تغير من أحوالهم في أقصر وقت حتى تزداد قوة المسيحيين تمكّنًا وثباتًا، هذا بالإضافة إلى رجال الكنيسة الذين بلغ عددهم حوالي ثلث عدد المسيحيين ويعيشون على موارد ثلث أراضي الحبشة الموقوفة لهم؛ إذ بلغ عدد كنائسهم أكثر من ثلاثين ألف في طول البلاد وعرضها وبلغ عدد الكهانات أكثر من أربعين ألفًا يقومون بالإشراف على إدارة الكنيسة والتنصير ونشر الإلحاد والضلال بجانب أنه تم تعميم بناء الكنائس في الأرياف والقرى والمدن وبالذات في المناطق الإسلامية حتى ولو لم يكن فيها مسيحيّ، أما الطبقة الأخرى فهي من المسلمين الذين هم غالبية أهل البلاد وتتكون منهم الطبقة المحكومة، تُطبّق عليهم أساليب التفرقة التي سادت منذ أقصى عصور التاريخ، وكذلك في العصور الوسطى، من تقسيم الشعب إلى سادة وعبيد، فالمسيحيون هم السادة والمسلمون هم العبيد عليهم حراثة الأرض ومزاولة الحرف والتجارة ودفع عملية الحياة في البلاد تسوقهم الطبقة الحاكمة إلى ذلك سوقًا، وتجبي منهم الضرائب والعشور، وتفرض عليهم أداءها عدة مرات كل ما شاء حكام المناطق ورجال الأمن الحصول عليها، ثم بعد ذلك كله يُحرم المسلمون من التمتع بحقوقهم كمواطنين، بل تُطبق عليهم قوانين مستوردة تكسر من شوكتهم وتحيطهم بسياج لا يمكن تخطيه، وتضغط عليهم للبقاء في أوضاعهم بحيث لا يتمكنون من أن تقوم لهم قائمة.
ومن أهم الأساليب التي تدفع الحكام المسيحيين إلى الإمعان في الضغط والظلم وتضييق الخناق على المسلمين في هذا الفترة معرفتهم التامة بالحقيقة الخافية عن العالم، وهي أن المسلمين أصبحوا غالبية بين أهل البلاد ويتمّيزون بصفات لا تتوفر لدى المسيحيين، ولقد أجمع جميع الكتاب والمؤرخين والرحالة الأجانب على أن المسلمين يتميزون بالنشاط والذكاء والدأب على العمل ويُعرفون بنظافتهم وتفوقهم في مجال المدنية وتفتح الذهن والاستعداد الطبيعي لسرعة التقدم إذا أُتيحت لهم سبل العلم والمعرفة، لذلك اتفقت كلمة حكام الأحباش على الإمعان والإصرار والعناد على ما يفرضونه على المسلمين من حرمان وإهمال. ويعلم الحكام أيضًا من حوادث تاريخهم القريب إلى الأذهان، أن المسلمين إذا تجمعت كلمتهم أصبحوا خطرًا لا قبل لهم بمواجهته؛ لذلك يعتمد الحكام في استمرار الوضع الراهن بتقطيع أوصال المسلمين والمقاطعات الإسلامية ومواجهة ومحاربة كل بادرة من بوادر الاتصال بينهم في الداخل، وفيما بينهم وبين إخوانهم في العقيدة بالخارج، بل يعمد المسؤولون على إثارة الخلافات والنعرات القبلية والطائفية والعنصرية بين المسلمين ويعملون على توسيع أسباب الشقاق والخلاف بينهم، والحكام في هذا السبيل لا يعدمون الوسائل المتعددة، فهم يضربون فريقًا بفريق ويشترون ذمم بعض ضعاف النفوس، ويخصون بوظائف الأئمة وقضاة الشريعة من يدين لهم بالطاعة والولاء، وإذا لمسوا من أي مسلم نزعة إلى التحرر أو الاحتجاج نزلت به أقسى أنواع المعاملة من تشريد وحرمان وسجن، ثم اغتيال إذا استدعى الأمر ذلك، وهذا هو الواجب الأول المناط على الحكام الذين يعيّنهم الأمبراطور على مختلف مقاطعات الدولة.(15/25)
فقد ظل الأمبراطور يعمل جاهدًا للاستمرار في استخدام هذه الأساليب طوال خمسين سنة وتحت شعار هام كان ينادي به وبمباركة الكنيسة (إثيوبيا جزيرة مسيحية) وخلاصة القول في هذه المرحلة إنّ ما سُمح للمسلمين من المهن المُناطة بهم هي: الزراعة والرعي والتجارة فقط. ولكل منهم القيام بتسديد الضرائب والأتاوات والعلاوات والعشورات للحكام وللكنيسة؛ فكما سبق أن قلنا: إنه تم توظيف ثلث أرض البلاد للكنيسة، وما تبقى من الأراضي للحكام وأتباعهم، وعليه فإن على المزارع والراعي المسلم (المحروم أصلاً تملّكه لآلية ووسائل الإنتاج) أن يعمل جاهدًا على تسديد هذه الضرائب والأتاوات والعلاوات للحكام والكنيسة ويتمثل ذلك ماديًا وعينيًا، فمثلاً لو قلنا: إن مزارعًا مسلمًا قام بمزاولة مهنة الزراعة فعند حصد محصولاته الزراعية في نهاية السنة وقبل أن يأخذ شيئًا لبيته لإعالة أبنائه أو أسرته يقوم بشحن جزء من هذا المحصول على دابته قاطعاً المسافات الطويلة ماشيًا على الأقدام للحكام أو للكنيسة التي تملك هذه الأرض، أو لمن يتم تفويضه من قبلهم؛ لتسليمها لهم عينة من هذا الإنتاج الزراعي موضحًا الكمية التي حصل عليها. ويأتي بعد ذلك تسديد الضرائب ماديًا، أي أن الفلاح المسلم يضطر لدفع الضرائب والأتاوات مرتين في السنة على الأقل عينيًا وماديًا، وإذا لم يقم أو يتأخر بتنفيذ ذلك يتم سحب الأرض منه وطرده، ناهيك عما يدفعه من الرشاوي والعلاوات لرجال الأمن ومنسوبي الحكام المعتمدين في هذه الأقاليم والمحيطين بموقعه وموقع سكنه ومزارعه والغريب في الأمر أن من يرتد عن عقيدته الإسلامية بإمكانه الحصول والتملك على قطعة أرض إن كان فلاحًا أو الإنضمام إلى الوظائف في الدولة وبالذات في الميادين العسكرية والشرطة والأمن، وبالتالي التمتع بميزة الترقية والحصول على المنح والعلاوة المختلفة
المسلمون في عهد الحكومة الشيوعية العسكرية (1967-1984م)
كان لهذا النظام جانب إيجابي وجانب سلبي بالنسبة للمسلمين والإسلام في هذه البلاد.(15/26)
أما الجانب الإيجابي: عندما أعلن النظام المبادئ الشيوعية في البلاد كان عليه أن يضرب بالدرجة الأولى الفكرة الإقطاعية والملكية الخاصة فإذا عرفنا أن ملكية الأرض كانت مقسمة بين النظام الحاكم الملكي وأعوانه ومنسوبي الحكام من الجيوش والحاشية وبين الكنيسة المرشد الروحي العالي للحكام المستبدين، فإن المتضررين والمتأثرين من النظام الشيوعي كانت الطبقة الحاكمة وأتباعها والكنيسة بالدرجة الأولى، فلم يكتفي النظام بالتأميم على الأراضي ووسائل الإنتاج بل تطور الأمر إلى تأميم المباني الخاصة في المدن، وكانت غالبيتها تعود ملكيتها للأطراف المذكورة آنفًا. بالإضافة عن ذلك فإنه ونظراً لقلقه من معارضة النظام الإقطاعي البائد قام بإعدام كبار المسؤولين من المدنيين والعسكريين وأعوان الإمبراطور لما حس منهم الخوف والقلق على نظامه ومبادئه وخططه وبرنامجه الشيوعي والاشتراكي، وكون أن المسلمين لم يكونوا جزأ من هذه القيادة العليا، ولم يكن لهم دور في ذلك فإنه لم يتعرض منهم أحد لهذا القصاص. ومن ناحية أخرى فإن هذا النظام ساعد على تقليص سلطة الكنيسة وتقليص مواردها المالية واتهامها بأنها كانت الساعد الأيمن لحكم الأباطرة في ا لبلاد مما ساعد على تخلف البلاد اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا حيث إن الكنيسة تعم بالجهلاء والمخرفين والمتخلفين عقليًا وفكريًا الذين قاموا بنقل خرافاتهم وجهالاتهم إلى الشعب عموما تحت شعار الصليب الذي يحملونه على صدورهم وبأياديهم ودعوة المواطن المسيحي إلى الاقتداء بهم حتى أصبح المواطن لا يخطو خطوات في أعماله وفي أفكاره وفي معتقداته إلا بمشورة القس أو الأب الروحي كما يسمونه؛ مما نتج أن عدد الأيام التي كان يعمل بها المواطن المسيحي زراعيًا وتجاريًا وتعليميًا أقل من عشرين في المائة من عدد أيام السنة. مما سبب التخلف في البلاد في جميع الميادين. لذا وجد هذا النظام في الكنيسة السبب المباشر فيما آلت إليه البلاد من التخلف نتيجة سيطرتها الروحية والمالية على الأباطرة وعلى الشعب، ومن جانب آخر فإن هذا النظام الشيوعي قد قام بتقليص علاقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية بالأنظمة الرأسمالية الغربية الإقطاعية، وهي مولد ومنبع الهيئات والجمعيات التنصيرية فاتجه مباشرة صوب الدول الاشتراكية والشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي الروسي آن ذاك وكانت نتيجة ذلك أن تقلّص دور الجمعيات والهيئات التنصيرية الغربية التي تحظى وتنال الدعم والمساندة والرعاية من الأباطرة والكنيسة في البلاد. كما أن هذا النظام وجد الظلم والقمع الذي كان مطبقًا على المسلمين في هذه البلاد من قبل الحكام والكنيسة لذا رغب إزالة بعض هذه الصعوبات ومساعدة المسلمين في بعض الجوانب فسمح لهم ببناء المساجد والمدارس الإسلامية في بعض المدن التي كان يحرم فيها الإقامة على المسلمين ودفن موتاهم بحجة أنها مدن مقدسة لدى المسيحيين وتحمل أسماء تتعلق في مضمونها بعقيدتهم المسيحية كما يزعمون مثل: دبر زيت، دبر برهان، دبر مارقوس، دبر سينا وهكذا، ففي مثل هذه المدن ليس فقط إقامة المساجد ورفع الأذان أو إنشاء مدارس إسلامية لم يكن يسمح بأن يقيم فيها مسلم أو يدفن فيها إن مات أو يبيت فيها لو تعطلت مركبته؛ لأنه في اعتقادهم يعتبر نجسًا. ناهيك عن هذا فإن أي غرفة في فندق ما بات فيها مسلم أو ما عون أكل فيه المسلم أو قدح شرب به هذا المسلم يتم فورًا استدعاء القس المعتمد في الحي لإجراء الطقوسات اللازمة لتطهيرها، هكذا كانت الكراهية للمسلم في هذه الأماكن.
كما أن هذا النظام بدأ ولو بطريقة مبسطة ومحدودة الانفتاح مع العالم العربي والإسلامي وبالذات مع الدول العربية ذات الميول الاشتراكية. ولأول مرة بدأ بتبادل التهاني مع الحكام في الدول العربية والإسلامية في المناسبات والأعياد المختلفة، مع السماح لبعض الدول العربية في افتتاح سفارات أو بعثات دبلوماسية لدى البلاد وتبادل الزيارات لبعض المسؤولين في الدولة.
أما الجانب السلبي لهذا النظام بالنسبة للمسلمين يتمثل فيما يلي:
جاء النظام بالمبدأ الشيوعي الإلحادي كأساس وتمثل في رأس هرم السلطة ومنه يتم تطبيق هذا النظام وهذا المبدأ في جميع السلطة التشريعية والتنفيذية كلها لا بد أن يدين أعضاؤها ومنسوبوها بالمبدأ الشيوعي الإلحادي؛ لذا نجده وبناء على أن الانضمام للعمل في الأجهزة المختلفة في الدولة يشترط أن يكون المنتسب فيها عضوًا أو كادرًا للحزب الشيوعي الحاكم بما فيه الأجهزة والميادين العسكرية والنسائية والشبابية والرياضية والدبلوماسية والثقافية إلخ...(15/27)
ومن أجل الانضمام لهذه العضوية يجب ويتطلب على الشخص أن يقسم بعدم انتمائه لأي دين أو ملة ما إسلامية أو مسيحية أو بوذية أو غيرها، وهذا الشرط لم يساعد المسلمين الغيورين على دينهم وعقيدتهم الانضمام إليه؛ لأنه ليس من السهل للمسلم الحقيقي أن يقسم ويحلف بالكفر على خالقه ورازقه الواحد الأحد. ومن ثم يرتدي اللباس الأزرق السماوي وعليه شعار المنجل والمطرقة مضمونة أنه عضو في الحزب الحاكم أو في كوادره، عقيدته الإلحاد يؤمن بعدم وجود خالق والعياذ بالله.
لم يسمح الظلم بتطوير العلاقات اللازمة مع الدول الإسلامية والعربية وبالذات الخليجية منها. ولم يسمح للمسلمين الاتصال بإخوانهم من العرب والمسلمين على الوجه المطلوب. ولم يطور مكاتبه الدبلوماسية في الدول العربية والإسلامية بالأجهزة والكوادر الكفؤة لتطوير العلاقات المختلفة بين إثيوبيا وبين هذه البلاد، وكانت حجة هذا النظام أنه يرى أن الدول الإسلامية والعربية وبالذات الدول الخليجية تقف وراء الانفصاليين في الشمال وبالذات في أرتيريا. وتقدم لهم المساعدات العينية والمادية والعسكرية المختلفة لتحقيق الانفصال عن البلاد وضرب وحدة البلاد.
تأميم وسائل الإنتاج والممتلكات الخاصة كان لها نصيب من الأضرار على المسلمين أيضًا وكما علمنا أن النظام قام بتأميم وسائل الإنتاج وعدم السماح بالملكية الخاصة في كل شيء، فإذا علمنا أن المجال الذي أتيح للمسلمين في السابق كان الزراعة والرعي والتجارة، فإن تدخل الدولة في هذه الميادين قد أضرّ أيضًا بالمسلمين حيث أدّى إلى عدم تطوير مجالات عملهم وبالذات المجال التجاري وتحديد الاتجاه للعمل مع الدول الشيوعية في جميع الميادين المختلفة.
اتجاه هذا النظام على تقليص النشاط الديني واعتباره أفيون كما يسميه الشيوعيون، وعليه قد فُتح ميدان الإلحاد والفساد والانحلال مما كان له نتائج سلبية على شباب المسلمين الذين هم أصلاً يفتقرون لمبادئ عقيدتهم الإسلامية نتيجة عدم توفر المدارس الدينية، لذا نجد انتشار الفساد والإنحلال الخلقي والاجتماعي وتفتت الأسر المسلمة وعدم تحكم الآباء في أبنائهم وبناتهم والزوج على زوجته وانتشار النوادي والملاهي الليلية كان له نتائج سلبية على عقيدتهم.
الموقع الجغرافي السكاني للمسلمين في إثيوبيا:
الموقع الجغرافي السكاني للمسلمين في الحبشة وآثار الحروب والمجاعة والقحط والتخلف والفقر الذي تعرضت وتتعرض له مناطقهم بين حين وآخر، وكان لها نتائج سلبية على حياتهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وكما سبق أن ذكرنا أن الحكام الأباطرة قد فرضوا على المسلمين اعتناق الديانة المسيحية، ومن رفض منهم طُرد من عمله، وأُجبر على الرحيل والخروج من المدن، ومُنع المسلمون من الانضمام إلى الوظائف المختلفة في الدولة في كل المجالات المختلفة المدنية منها والعسكرية، لذا سُمح لهم فقط بمزاولة مهنة التجارة لمن بقي منهم في المدن والزراعة والرعي لمن تم طردهم إلى الأرياف على أساس أن يبقوا موالين للحكومة والكنيسة بدفع الضرائب والإتاوات المختلفة مقابل استخدامهم الأراضي للزراعة والرعي. ولذا نجد أن المناطق التي أوى إليها المسلمون هي المناطق المنخفضة في إثيوبيا التي هي أصلاً لا تتوفر فيها الوسائل العصرية اللازمة مثل المواصلات والنقل والطرق ووسائل الإعلام والاتصالات المختلفة وخدمات الماء والكهرباء والهاتف والمدارس والمستوصفات والمستشفيات وجميع ما يتعلق بالمظاهر المدنية والعصرية وكان الهدف من وراء هذا كله بأن يبقى المسلم الحبشي نسيًا منسيًا داخليًا وخارجيًا. بالإضافة عن ذلك فإن الوسائل التي يستخدمونها في مهنتهم الزراعية هي وسائل بدائية بحتة ويعتمدون بالدرجة الأولى على الأمطار فقط لتحقيق مطالب معيشتهم الزراعية والرعي.(15/28)
وعندما حدثت المجاعة في الأعوام 1965 و 1977م وما بعدها حسب التقويم الإثيوبي كانت أكثر المناطق التي نالت النصيب الأكبر من هذه المجاعة هي المناطق الإسلامية، وعندما دعت الحاجة إلى الاستنجاد بالمساعدات الخارجية فإن الذي لبّى هذا النداء بالدرجة الأولى كانت المنظمات والهيئات المسيحية التنصيرية الغربية حيث وجدت ضالّتها، وما كانت تبحث به عن وسائل لتحقيق مآربها وأهدافها وخططها، وبالذات بعد تقليص سلطة الكنيسة ومن ورائها في هذه الفترة من قبل النظام الشيوعي في البلاد. وتحت شعار تقديم العون والإعانة والإغاثة انكبت هذه المؤسسات التنصيرية الغربية وحلت في الأقاليم وشرعت تقدم عونها المادي والمعنوي الممزوج بسمومها وتنصيرها وتشير الإحصائية أنه في مراكز كل من باتي وكورم في شمال البلاد بولاية وللو المسلمة بالذات تم تنصير أكثر من ثمانين ألفًا من أطفال المسلمين وتم جلبهم إلى المدن بإقامة الملاجئ والمراكز المختلفة، وجزء منهم تم أخذه إلى خارج البلاد تحت شعار التبني وتربية الأيتام، وهكذا كانت هذه الفترة فرصة كبيرة للقيام بعملية التنصير والتكفير لأبناء وأطفال المسلمين، وتم ذلك في غياب المؤسسات والجمعيات ووسائل الإعلام العربية والإسلامية نهائيًا، ولا شك أن هذه الفترة كانت فرصة لميلاد العديد من المؤسسات والجمعيات التنصيرية المحلية التي أقامتها المؤسسات الغربية للتعاون معها في كل الفترات المختلفة على أن تظل المؤسسات الغربية في تقديم العون المادي والمعنوي ومن هذه المؤسسات التي ولدت في هذه الفترة (مؤسسة أببيش غوبنا) الكائنة في أديس أبابا والتي تحتضن بداخلها أكثر من خمسة آلاف طفل وشباب من الأيتام وغير القادرين، وهي المؤسسة التي نالت الوسام من الحكومة البريطانية في العام الماضي ويزورها الحكام والزعماء الغربيون عند زيارتهم للبلاد، ويقدمون لها كل العون والإعانة والتشجيع للاستمرار في مهمتها، والغريب في الأمر أن هناك سماسرة يزورون ويطوفون المناطق الإسلامية المختلفة في البلاد والمتضررة بالمجاعة والقحط بين حين وآخر لجلب الأطفال إلى مثل هذه المؤسسات بحجة تقديم العون والإعانة وتربيتهم ثم تحويل عقيدتهم إلى النصرانية، ولا يسعنا المجال لذكر التفاصيل عن هذه المصائب في هذه الخانة لكن نقدم للقارئ الكريم وللغيورين على دينهم الإسلامي جزءاً من هذه المعلومات لمعرفة القليل من الكثير في هذا الموضوع.
المسلمون في عهد ما يسمى الفترة الديمقراطية الحالية منذ عام 1984م ولا يزال:
من المعلوم أن النظام الحالي الذي تشرف عليه الجبهة الوطنية المتحدة هي أساسًا جبهة معارضة للنظام العسكري المنحل، وكانت تحمل الفكرة الماركسية ولادة ونشأة إلا أنها وعندما استلمت السلطة في البلاد وجدت نفسها في وقت تندحر وتتحطم فيه الفكرة الماركسية واللينينية الشيوعية عالميًا، ورأت تزلزل الفكرة الشيوعية وتشتتها وتفكك الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين وتساقط الزعماء الشيوعيين واندحارهم واحدًا بعد الآخر، وعليه وجدت نفسها مضطرة إلى تغيير اتجاهاتها والتمشي مع الفكرة العالمية الجديدة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، لذا أعلنت الفكرة الديمقراطية كلمة حق أريد بها الباطل للتمشي مع الأوضاع العالمية المستجدة خارجيًا وداخليًا، فأعلنت حرية التعبير والتجمع والمظاهرات والانتقادات وتشكيل الأحزاب وإقامة الاتحادات المختلفة وتأسيس البرلمان وحرية الأديان وعدم تدخل الدولة في الدين، فظهرت الصحف والمجلات المختلفة المعبرة عن كل الآراء المختلفة ومع هذه التطورات الجديدة وجد المسلمون فرصة للتعبير عما كانوا يعانونه من المشقة والضغط والحرمان لحقوقهم فظهرت بعض المجلات والصحف الإسلامية والأحزاب السياسية الإسلامية كما أنه ولأول مرة لوحظ مشاركة المسلمين في القيادة السياسية، وتم السماح للمسلمين لشغل بعض الوزارات وبعض الإدارات، ولكن الملاحظ أن الأساس الذي تم الاعتماد عليه لشغل هذه المناصب للمسلمين هو معيار الانتماء القبلي والحزبي أكثر مما هو الاعتماد على الأساس الديني بجانب أن هذه الوزارة أو الإدارة التي تم السماح للمسلمين لشغلها هي وزارات أو إدارات غير مهمة وغير أساسية وغير حساسة ودائمًا تتعلق بالتجارة والصناعة والمعادن والسياحة؛ فكلها وزارات مالية أكثر مما هي سياسية وعسكرية، فأما الوزارات الحساسة مثل الدفاع والداخلية فظلت في أيدي المسيحيين هذا على المستوى الفدرالي في البلاد. أما على المستوى الإقليمي وبالذات الأقاليم الإسلامية فإنه لوحظ تولي العديد من المسلمين إدارة الأقاليم في الأمور المختلفة إلا أن الشرط الأساسي لا يزال هو الإنتماء الحزبي أساساً للوصول إلى مراكز القيادة في الإقليم.(15/29)
ومن جانب آخر فإنه ومع بداية هذا النظام وما أعلنه من الانفتاح والحرية وعدم تدخل الدولة في الدين وهذا ما تحقق فعلا للكنيسة، ولكن ظهرت بعض الانفراجات للمسلمين وقبل أحداث المسجد الكبير في شهر رمضان عام 1987م حسب التقويم الإثيوبي، فظهرت مؤسسات إسلامية عالمية تفتح مكاتب لها في البلاد مثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، وإن كان تم فتح مكتبها من قبل، وهيئة الإغاثة الإسلامية ومؤسسة موفق الخيرية، والمنتدى الإسلامي ومن بعدها مكتب لجنة أفريقيا، ومؤسسة الحرمين، ومؤسسة الأمير سلطان الخيرية، وبدأت كلها تقدم بعض المساعدات في الإغاثة وإقامة المدارس والمساجد في الأقاليم الإسلامية التي تعاني من الفقر والتخلف والجهل والقحط والمجاعة، وبدأ المسلمون لأول مرة يقيمون مراكز لتحفيظ القرآن الكريم والمشاركة في المسابقات الدولية، واستقبال الدعاة من الخارج والأئمة والخطباء وبالذات في شهر رمضان المبارك.
إلا أن هذه الشمعة وهذا البصيص والإضاءة الخفيفة لم يدم طويلاً وبدأ يضمحل ويتقلص لأسباب داخلية وخارجية مع ظهور التسميات المختلفة للعقيدة الإسلامية من أنها فكرة رجعية وتشدّدية وتطرّفية وآخرها وليس آخرها إرهابية. بجانب التخلف الثقافي والإداري والمالي للمسلمين مع ما تعرضت له المناطق الإسلامية من القحط والمجاعة والفقر مرارًا وعدم وجود مركز إسلامي موحد وقوي يعبر عن آرائهم ومشاكلهم والقيام بجمع كلمتهم ويقوم بالحماية لحقوقهم ومطالبهم لم يتم استغلال هذه الفترة على الوجه المطلوب كما استغلتها الجهات المختلفة الأخرى وبالذات المسيحية وعلى رأسها الكنيسة، وقد كانت الحكومة في هذه الفترة حكومة انتقالية لفترة محددة تقوم من خلال هذه الفترة الانتقالية في إعداد الدستور العام الجديد للبلاد يتمشى مع الوضع الجديد. لذا تم تكوين الأجهزة الفنية والإدارية اللازمة لإعداد الدستور الجديد في البلاد. وأثناء إعداد هذا الدستور لاحظ المسلمون إهمال حقوقهم وواجباتهم والأهم من ذلك ما يتعلق بمحاكمهم الشرعية. وكما سبق أن أوضحنا أنه لم يكن يوجد جهاز إداري قوي يهتم بأحوالهم وأمورهم، وأن بما يُسمى المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية غير قادر وغير جاهز إداريًا وفنيًا للقيام بالنيابة عن المسلمين في البلاد، مع ضخامة حجم هذه المشاكل وتراكمها، لذا قرر المسلمون ومن خلال تجمعاتهم في المساجد والخلاوي وفي بعض المؤسسات الإسلامية الصغيرة أمثال منظمة الشباب الإسلامي وهيئات العلماء وأنصار السنة ولجنة تطوير وضع المحاكم الشرعية وغيرها الخروج بمظاهرة ضخمة للتعبير عن مطالبهم وحقوقهم المهضومة وإصلاح شأن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وبالذات فإن هذه الفترة كانت فترة إعداد الدستور العام للبلاد، وقد انتهت اللجنة المعتمدة في ذلك من دراسة ووضع ما يجب اعتماده من البنود في دستور البلاد، وتجاهلت كل ما يتعلق بالمحاكم الشرعية للمسلمين وحقوقهم.
فتم تكوين لجنة من المسلمين لإعداد هذه المظاهرة شملت العلماء والتجار والأساتذة والطلاب والنساء وموظفي الدولة من المسلمين وبالذات القضاة منهم؛ فتم تحديد اليوم والساعة للخروج بالمظاهرة وذلك في يوم 19 هدار 1987 حسب التقويم الإثيوبي، وقد تجمع أكثر من مليون مسلم اكتظت بهم الشوارع للوصول إلى قصر الرئاسة، وكان من البرنامج أن يقوم رئيس الوزراء آنذاك تامرات لايني في استقبال المتظاهرين للتباحث حول مطالبهم. إلا أن ضخامة هذه المظاهرة وكثرة المشاركين فيها دعت وألزمت تغيير البرنامج في أن يستقبل رئيس الحكومة الانتقالية آنذاك ورئيس الوزراء حاليًا السيد ملس زيناوي وبحضور الوزراء آنذاك تامرات لايني استجيبت مطالب المسلمين وأهمها ما يتعلق بالمحاكم الشرعية، وإصلاح وضع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وتحقيق مطالب المسلمين من الحقوق والواجبات ورفع الظلم وعدم التدخل في شؤونهم الدينية وما يتعلق بحقوق المرأة من الحجاب وغيرها وفق مضمون العقيدة الإسلامية وكذا ما يتعلق بالطلاب المسلمين في المدارس المختلفة، والسماح لهم بأداء الصلاة في أوقاتها وغيرها من المطالب. وكانت النتيجة أن تم تكوين لجنة من الحكومة ومن الشخصيات المسلمة للتباحث حول هذه المطالب وتحقيقها.(15/30)
إن ضخامة هذه المظاهرة كانت لها فوائد وآثارات كبيرة إيجابية أهمها، اضطرار لجنة إعداد الدستور العام للبلاد في الرجوع لدراسة وإضافة ما يتعلق من الحقوق والواجبات للمسلمين الإثيوبيين، وبالذات ما يتعلق بمحاكمهم الشرعية. وطرد أعضاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذين عجزوا عن تقديم أي فوائد بما يعود بالنفع والصلاح على المسلمين الإثيوبيين، وتكوين لجنة مؤقتة لإعداد ودراسة وضع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ليكون بالوجه العصري المطلوب ويتمشى مع التطورات الحالية، فتم تكوين هذه الجنة من كل من الأساتذة والعلماء والإداريين والقضاة والمثقفين والشباب ورجال المال والأعمال والشخصيات المرموقة التي لها مكانة لدى الأسرة المسلمة، فوضعت هذه اللجنة مخططاتها وبرنامجها لتحقيق ذلك ولقيت التأيد الشعبي من المسلمين من الأقاليم المختلفة في المدن والقرى.
وأن ضخامة هذه المظاهرة وكثرة المشاركين فيها وما أظهر من الأعداد الهائلة للمسلمين، قد أزعج البعثات الدبلوماسية الغربية فقامت كل من الكنيسة والسفارة الأمريكية والإنجليزية بالاتصال مع الجهات المختلفة لمعرفة ودراسة مضمون وأهداف ودواعي ونتائج هذه المظاهرة وهل بإمكان المسلمين مستقبلاً أن يكون لهم تأثير سلبي وخطورة عليهم وعلى أهدافهم وخططهم المستقبلية في المنطقة. وصرح السكرتير الأول في السفارة الأمريكية آنذاك: إن هذه المظاهرة الضخمة ليست وليدة يوم وليلة بل وإنما تم إعدادها منذ وقت بعيد، وأن من ورائها جهات وحكومات أجنبية إسلامية، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك.
المهم إن هذه المظاهرة قد فتحت الأعين لكل المسلمين في الأقاليم المختلفة في البلاد، ومنذ هذه اللحظة والذين رأوا توحد صفوف المسلمين فبدأت الدسائس والوشايات للمغرضين والحاقدين على تحسين وضع الإسلام والمسلمين في هذه البلاد، فتمثل ذلك في الكنيسة ومن ورائها ومن المسؤولين المتصلبين في النظام، ومن بعض المنتفعين ممن ينسبون أنفسهم إلى الإسلام من المنافقين. فبدأت التدخلات السافرة وإيجاد الفتن والقلاقل بين المسلمين وحدثت مشكلة 22 من شهر رمضان المبارك 1987 حسب تقويم الإثيوبي في المسجد الكبير بالعاصمة أديس أبابا وبرغم أن المشكلة لم تصل إلى الحد الذي يستدعي رجال الأمن والشرطة والجيش في ذلك إلا أن الجهات الحاقدة، والتي سبق أن أضمرت حقدها على وحدة صفوف المسلمين وجدت هذه الفرصة مناسبة فأمرت رجال الأمن والشرطة بالتدخل في الأمر، وبدأت بإطلاق الرصاص على المسلمين وقتل من قتل من المسلمين وجرح العديد منهم. فبعد ذلك تمت الإغارة والحملة على مكاتب ومنازل أعضاء اللجنة المؤقتة لإدارة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية والقبض عليهم واغتيال الشهيد العجوز القعيد الكفيف البصر سراج موسى أحد أعضاء اللجنة المؤقتة وأمين صندوقها، وتم القبض على خمسة وثلاثين عضوًا من العلماء والأساتذة والإداريين والقضاة والشباب ورجال المال والأعمال من أعضاء اللجنة المؤقتة للمجلس وتم إيداعهم في السجن المركزي. وتم إغلاق المسجد الكبير أمام المصلين مدة خمسة أيام من أواخر شهر رمضان المبارك. وهكذا تم القضاء على بصيص الأمل الذي ظهر للمسلمين في هذه البلاد فتم استمرار الحبس لهؤلاء الأعضاء؛ فمنهم من قضى ثلاث سنوات، ومنهم خمس سنوات ومنهم ثماني سنوات، وكانت النتيجة النهائية لدى المحاكم التي نظرت في هذه القضية أن هؤلاء الأعضاء المحجوزين ليست لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة مما ادعته الحكومة عليهم من الادّعات الكاذبة
وفي خلال هذه الفترة من الحجز لهؤلاء الأعضاء تم اتخاذ الآتي:
1- إغلاق جميع المؤسسات الإسلامية الصغيرة مثل منظمة الشباب الإسلامي وهيئة العلماء وأنصار السنة والجماعة.
2- تكوين أعضاء للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية من كوادر الحزب الحاكم ومن العلماء الصوفيين واستبعاد أهل السنة والجماعة والمثقفين.
3- أما ما يتعلق بالمؤسسات الإسلامية العالمية البسيطة التي سبق أن ذكرنا أنها فتحت مكاتب لها في البلاد وبالذات بعد أحداث 11 سبتمبر وإعلان الرئيس الأمريكي "معي أو ضدي" وتحميل الشريعة الإسلامية ومن ورائها المؤسسات الإسلامية بمنظمات إرهابية ولتحقيق المطلب الأمريكي قامت الجهات المختصة بالقضاء على هذه المؤسسات، وإقفال وإغلاق نشاطاتها ومكاتبها فلم تبق مؤسسات إسلامية إلا مكتب هيئة الإغاثة الإسلامية وهي محصورة من كل الجوانب فلم تستطيع تقديم خدماتها البسيطة، وحتى لم تتمكن في هذه السنة القيام بأعمال إفطار الصائم وتوزيع الأضاحي وتقديم دعوة لأداء الحج الممنوحة من قبل خادم الحرمين الشريفين وعلى نفقته لبعض العلماء والمشايخ.(15/31)
وتأتي هذه المواقف المؤسفة على المؤسسات الإسلامية مع الانفراج الكبير الذي مُنح للكنيسة؛ مع الإدعاء بعدم تدخل الدولة في الدين ومع حرية الاقتصاد والانفتاح قد فتح المجال للكنيسة في أن تستغل هذه الفرصة، وفي نفس الوقت مع الحصار والضيق الذي يتم على المسلمين وتلفيق التهم الإرهابية على الإسلام والمسلمين، وسيطرة السفارة الأمريكية على المؤسسات الأمنية والإدارية والماليّة والعسكريّة في البلاد وفي المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية جاءت فرصة للكنيسة للقيام بأعمال التنصير والإلحاد في البلاد وبالذات في المناطق الإسلامية، وقد ساعدها على تحقيق ذلك الوسائل التالية:
1- سيطرة السفارة الأمريكية على كل الأمور بحجة محاربة الإرهاب.
2- إعادة الممتلكات الخاصة للكنيسة من الأراضي والمباني والممتلكات التي سبق أن تم تأميمها من قبل النظام الشيوعي، وكما سبق أن ذكرنا أن ثلث الأراضي في البلاد كانت مملوكة للكنيسة، ومع حرية الانفتاح الاقتصادي في البلاد فقد وجدت نفسها تملك أنفس الأماكن وأعظمها وأوسعها، وبالذات في العاصمة أديس أبابا، وبدأت في عملية التعمير والبناء للعمائر الشاهقة والمكاتب والدكاكين المتنوعة في العديد من الأماكن المختلفة وسط العاصمة، وتأجيرها مما عاد عليها الإيرادات الضخمة حتى أصبحت تملك دخلاً يفوق دخل الحكومة، ويُقال أنها وبعد ثلاث سنوات من الآن بإمكانها إقراض الدولة.
3- تدفق العديد من المؤسسات الغربية التنصيرية بحجة تقديم العون والإعانة وقد بلغ عددها حتى الآن أكثر ألف وأربعمائة منظمات تنصيرية غربية تقوم بأعمال التنصير والإلحاد، وتركز نشاطها في الأقاليم الإسلامية المختلفة، وقد انتهزت فرصة غياب المؤسسات الإسلامية لتقوم بأعمالها الخبيثة بكل يسر وسهولة علما أنها لم تجد معارضة أو عرقلة من أي جهة حكومية أو غير حكومية بل نالت كل التأييد والتشجيع والمساندة.
4- تم ربط جميع المؤسسات التي تقوم بأعمال الإغاثة والمساعدة بالكنيسة مباشرة حتى ولو كانت مؤسسة محلية صغيرة، وألزمت اللوائح والنظم بأنه لابد من أن تكون جميع المؤسسات تحت إشراف الكنيسة حتى ولو كانت مؤسسة إسلامية محلية وإلا لن تستطيع مباشرة أعمالها، ويتم سحب التصاريح الممنوحة لها.
5- المساعدات التي تُقدم بحجة الإغاثة والتمويل والإقراض والتسليف من الدول والمؤسسات الغربية ترتبط مباشرة بالكنيسة حتى ولو كانت هذه المساعدات مخصصة للحكومة. ومن قبل الكنيسة يتم توزيعها داخل البلاد على حسب ما تراه الكنيسة مناسبًا في ذلك وبالذات الأقاليم الإسلامية.
6- تُعقد مؤتمرات وندوات محلية وعالمية مسيحية عديدة بين فترة وأخرى بإشراف الكنيسة يتم فيها ويركز البحث والدراسة على الوقوف أمام المد الإسلامي في شرق أفريقيا، وتشرف على هذه المؤتمرات إدارة الفاتكان من إيطاليا مباشرة حيث إن مندوبها أو سفيرها المعتمد في العاصمة الإثيوبية يشرف على هذه المهمة.
ففي مقابل هذا النشاط الكنسي الإثيوبي والتنصير العالمي ودور الفاتيكان في ذلك والسفارة الأمريكية واستسلام الحكومة إلى ذلك فكيف نجد حاليًا وضع الإسلام والمسلمين في هذه البلاد؟
فتحت شعار محاربة الإرهاب تم اتخاذ الخطوات التالية:
أولاً : كما سبق أن ذكرنا تجميد نشاط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية من خلال عدم السماح بإدارته من أشخاص ذوي الكفاءة الإدارية والفنية العصرية المنتخبة من المسلمين مباشرة بل تم توظيف واعتماد أشخاص غير مؤهلين من أي كفاءة تُذكر بل وإنما تم اعتمادهم على أساس انتمائهم للمبادئ الصوفية كأساس بالنسبة لمن تم تسميتهم علماء، وعدم السماح لأهل السنة والجماعة الالتحاق بالمجلس نهائيًا باعتبارهم ينتمون إلى المذهب الوهابي، كما يدّعون وأن هذا المذهب هو المصدر الأساسي للإرهاب كما يزعمون. أما الكوادر الإدارية لإدارة هذا المجلس فتم اعتماد أشخاص ليست لهم دراية بما يتعلق بالإسلام بل تم اختيارهم على أساس ولائهم للحزب الحاكم وغالبيتهم عبارة عن مندوبين للاستخبارت المحلية والسفارات الغربية.
ويرأس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية حاليًا شخص
مريض وهو من تلاميذ ومريدي عبد الله الحبشي (الهرري) المقيم في لبنان، والذي سبق أن أصدر فيه الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز -رحمه الله- فتوى بأنه خارج عن الملة الإسلامية، وعليه فعندما تم اعتماده رئيسًا للمجلس حضر برفقته أعوان عبد الله الهرري وقاموا بإلقاء محاضرات في المسجد الكبير بالعاصمة أديس أبابا تضمنت محاضراتهم هجومًا واتهامات باطلة على السعودية في أنها ترعى الإرهاب من خلال المذهب الوهابي، ومنذ شهور تم إعداد مسودة دستور يتعلق بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومن أهم البنود التي لوحظت في هذه المسودة ما يلي: منع الوهابيين والمتطرفين والمتشددين المشاركة في عملية الترشيح وعدم السماح لهم بالمشاركة في أية أعمال تتعلق بالإسلام والمسلمين ماديًا ومعنويًا وإداريًا وعدم السماح لهم بإقامة أية مشاريع إسلامية في البلاد.(15/32)
أما الشخص الذي تم اعتماده ليرأس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في الإقليم الإداري الرابع (أديس أبابا) فقد لقب نفسه المفتي الأكبر وهو من الأشخاص الصوفيين المتشددين، ومن أهم القرارات التي أصدرها وتم تعميمها على المساجد المختلفة ما يلي:
1- اعتبار الوهابية (السلفية) مذهب كفر واعتبار أهل السنة والجماعة كفارًا يجب محاربتهم.
2- منع تداول كتب الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب أو ابن القيم أو ابن تيمية ومنع دخولها إلى البلاد.
3- عدم جواز أداء صلاة التراويح في المساجد في شهر رمضان بقراءة جزء، والاكتفاء بالسور القصيرة فقط، واعتبار صلاة التراويح بقراءة جزء وختم القرآن في رمضان بدعة سنتها الوهابية.
4- عدم جواز أداء صلاة التهجد في المساجد، وكذلك الاعتكاف في المساجد في شهر رمضان، وأصدر تعميمًا إلى إدارات الشرطة المختلفة في العاصمة بالقبض على أي مسلم يتجه إلى المساجد بعد الساعة العاشرة ليلاً.
5- التركيز والاستعداد في كل سنة بالاحتفال بالمولد النبوي وأن من يعارض ذلك يعتبر كافرًا.
6- منع توسيع مراكز تحفيظ القرآن الكريم في المساجد وغيرها وعلى حسب مفهومه أن القيام بحفظ القرآن الكريم للشباب بالذات الهدف منه الحصول على الجوائز المالية، وأن هذا الهدف هو من سنن الوهابية لهذا أصدر فتوى بأن ذلك غير جائز.
7- منْع الأشخاص الذين يعفون لحاهم ويلبسون الثياب القصيرة من أداء فريضة الحج بحجة أنهم وهابّيون ويسافرون إلى السعودية من أجل الالتقاء بزعمائهم هناك، وأنهم يمثلون خطرًا على البلاد.
8- توظيف الأئمة والخطباء والمدرسين في المساجد من الصوفيين فقط، ومنع أهل السنة والجماعة في القيام بهذه المهمات حتى الدعوة في المساجد.
9- منع الحصول على المساعدات المالية من الدول الخليجية بالذات حيث إنها مراكز للوهابيين والإرهابيين.
10- حجب المشاركة للمسلمين وطلاب تحفيظ القرآن الكريم في المؤتمرات والندوات والمسابقات الإسلامية الدولية. مثل السعودية والإمارات وليبيا والسودان وإيران.
11- منع الأئمة والدعاة والخطباء الأجانب من دخول البلاد، وهذه التعليمات صدرت من الجهات الأمنية بناء على توجيهات المفتي، ففي خلال السنة الهجرية المنتهية وفي خلال شهر رمضان المبارك قدم علماء من الأزهر الشريف وليبيا وإيران من أجل الإمامة للمصلين في رمضان وإلقاء الخطب الدينية، وكذلك دعاة من باكستان فتم حجزهم وطردهم من البلاد في خلال أربع وعشرين ساعة من دخولهم البلاد، وتمت إعادتهم إلى بلادهم فورًا.
12- منع المؤسسات الإسلامية العربية بالذات في إقامة المشاريع وتقديم العون والإعانة للمنكوبين المسلمين في البلاد، وإذا أرادوا ذلك فإن عليهم تسليم المبالغ نقدًا ومباشرة إلى المجلس ومن ثم يقوم المجلس باختيار المشاريع الذي سيتم إقامتها سواء أكانت مدارس أو مساجد، واختيار الأماكن التي يراها مناسبة وموافقة لأهدافه ورغباته.
13- فيما يتعلق بأعمال الحج والعمرة فقد تقرر من قبل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومن قبل المجلس الإسلامي التابع للإقليم الرابع عشر الإداري في أن يسافر برفقة الحجيج مندوب عن الجهتين مهمته القيام بعملية المتابعة المراقبة للحجاج الإثيوبيين في المشاعر المقدسة لمتابعة الأشخاص أو الهيئات أو المنظمات الإسلامية الذين يلتقون بالحجاج الإثيوبيين وبالذات مع الوهابيين في هذه الأماكن، ومن المقيمين الإثيوبيين في السعودية والذين غالبًا ما يتم اعتبارهم وهابيين ومتطرفين لذا نجد أنه في هذه السنة تم إيفاد ستة أشخاص من أعضاء المجلس للقيام بهذه المهمة، وعلى رأسهم رئيس المجلس الإسلامي للإقليم الرابع عشر.
ثانيًا: ومع بلوغ وضع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ومنسوبيه هذه الدرجة من الضعف والهوان نجد مقابل ذلك نشاط الكنيسة قد وصل إلى مرحلة من التقدم والازدهار، وإعداد الخطط والبرامج للقضاء على أي نمو وتقدم للإسلام والمسلمين، ومنذ سنة خلت قامت لجنة أمريكية لدراسة الوضع الإسلامي للمسلمين في شرق وغرب الدول الأفريقية وآثار السلفية فيها، وتوصلت اللجنة إلى نتائج أهمها تنشيط دور الصوفية ومساعدتها ماديًا ومعنويًا، وتوسيع مجالها ومهمتها حتى تصل وتعم جميع المدن والقرى والأرياف وأنها هي الوسيلة الوحيدة لمحاربة وإيقاف زحف أهل السنة والجماعة. بجانب دعم الكنيسة في توسيع نشاطها فمثلاً في الوقت الذي لا يُسمح للمسلمين الحصول على متر واحد لإقامة المساجد في البلاد نجد افتتاح أكبر كنيسة في أفريقيا تسمى (كنيسة مد هاني ألم) وتقع على مسافة قريبة من المطار الدولي في العاصمة أديس أبابا، وقد تم تشييد هذه الكنيسة على مساحة بلغت أكثر من خمسين ألف متر مربع وبتكلفة بلغت أكثر من ثلاثة وثلاثين مليون بر إثيوبي، أي ما يعادل أربع ملايين دولار تقريبًا في بلد يعاني شعبه من مشقة الحصول على الخبز، وهي من أكبر البلاد تخلفًا وفقرًا ولا يزيد متوسط دخل الفرد في السنة ثمانية دولارات.(15/33)
ثالثاً: وسائل الإعلام الرسمية وبالذات الإذاعة والتلفزيون والتي تُسمّى جوهريًا صوت الشعب لم تُسخّر في خدمة الإسلام والمسلمين؛ ففي الوقت الذي تقوم بتغطية نشاطات الكنيسة الصغيرة والكبيرة داخل العاصمة وخارجها لم تستجب لدعوة المسلمين إليها، ورفضت تغطية افتتاح مسجد تم بناؤه على نفقة الأمير الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في حي قيرا بالعاصمة.
رابعًا: تكتظ البلاد والعاصمة أديس أبابا بالذات بالمدارس التبشيرية المتنوعة وبالذات حضانات الأطفال والمدارس الابتدائية، والتي تشرف عليها المؤسسات التنصيرية المتمثلة في الكنيسة البروتستا نتية والأرثوذكسية المدعومة ماديًا وإداريًا من كل من أمريكا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا والسويد وغيرها من الدول الغربية التي تقوم بتمويل هذه المدارس بالمواصلات والإعانات المالية، واعتماد الميزانيات الضخمة والرواتب المغرية للمدرسين من أجل القيام بعملية التغذية والتنصير للأطفال ويتسابقون لتحقيق مآربهم في حين أن لكل سفارة غربية معتمدة في البلاد لديها المدارس الخاصة التابعة لها. مقابل ذلك نجد عدم السماح ووجود مدارس وروضات الأطفال للمسلمين، وإذا أراد أي شخص مسلم إنشاء روضة أطفال أو مراحل ابتدائية إسلامية فيتطلب منه ذلك عدم إدراج المواد الدينية أو العربية، وإلا فلن يحصل على اعترافات رسمية لهذه الشهادات لدى الجهة الحكومية المختلفة مما يترتب على هذا المشروع أن يولد ميتاً. المدرسة الوحيدة الإسلامية هي المدرسة الأولية التي تمول من قبل رابطة العالم الإسلامي، فقد كثر القيل والقال فيها فمنذ شهور قام مندوب من السفارة الأمريكية في أديس أبابا، ومندوب من سفارة الفاتكان بزيارة مقر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في أديس أبابا والالتقاء بأعضائه، وأشار المندوبان أن المدرسة الأولية خطيرة يجب القضاء عليها لأنها تنتج شبابًا متطرفين ووهابيين.
بجانب هذه المدارس التنصيرية الخاصة فهناك العديد من الكليات اللاهوتية المتنوعة تم الاعتراف بها رسميًا من قبل الجهات الرسمية مهمتها إخراج العديد من الجامعيين المتنصرين للقيام بمهمة التنصير في المدن والقرى المختلفة في البلاد لتحقيق مطالب الفاتيكان للوقوف أمام المد الإسلامي في أفريقيا. وهكذا نجد أوضاع الإسلام والمسلمين في هذه البلاد وما آلت إليه ظروفهم وأحوالهم من سيئ إلى أسوأ بحجة محاربة التطرف والإرهاب ومفهوم الإرهاب لدى هؤلاء الجهلة يتمثل على النحو الذي ذكرناه آنفًا، إذ لا يوجد مرونة في التعامل مع هذا المفهوم رغم أن أمريكا وهي التي اخترعت هذا المفهوم أساساً نجدها تتعامل مع الإسلام والمسلمين لديها باختيار الأساليب المناسبة بين فترة وأخرى، إلا أن مفهوم الإرهاب لدينا قد تم اعتماده على أساس محاربة الإسلام والمسلمين حتى من أبسط الحقوق، وهكذا نجد حالة المسلمين في إثيوبيا يُرثى لها وتبكي لها العيون في زمن الحرية والتحرر والانفتاح الإعلامي والثقافي وتطور وسائل المواصلات والاتصالات، وفي وقت تحوّل العالم فيه إلى قرية واحدة إلا أنهم يبذلون جهدهم من أجل تجميد النمو والتطور للمسلمين وأن يواكب هذا المواطن المسلم الإثيوبي هذه التطورات، وبإذن الله وإرادته سوف تنجلي هذه الغيوم، وسوف يظهر الحق، ويتحقق قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) صدق الله العلي العظيم، والله نسأل أن يفرّج كربنا ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا.
في خلاصة هذا التقرير المختصر للواقع الحقيقي نجد:
أولاً: في عهد أباطرة وملوك إثيوبيا كانت القيادة مسيحية متصلبة شكلاً ومضمونًا تحت شعار إثيوبيا جزيرة مسيحية.
ثانيًا: في عهد النظام العسكري الشيوعي إثيوبيا مسيحية صليبية بغطاء شعار شيوعي هو المنجل والمطرقة.
ثالثاً: في العهد الحالي إثيوبيا مسيحية علمانية تحت شعار الديمقراطية وتحت قيادة أحفاد الملك يوحنا.
=============(15/34)
(15/35)
الغرب يشن "حروباً روحيّة" على الشرق المسلم
غادة الكاتب 6/2/1426
16/03/2005
كشفت مصادر أكاديميّة عن ارتفاع أعداد المؤسسات والهيئات التنصيريّة العاملة في الدول العربيّة والأفريقيّة الإسلاميّة فضلاً عن قيامها بإصدار عدد كبير من المجلات والصحف الناطقة باسمها، وذلك تحت غطاء المساعدات والإعانات الدوليّة.
وقال إبراهيم الخولي الأستاذ المتفرغ في جامعة الأزهر: إن عدد مؤسسات التنصير وإرسالياته ووكالات الخدمات النصرانية بلغ (120880) مؤسسة، في حين بلغ عدد المعاهد التي تُؤهل المُنصِّرين وتُدرِّبهم (99200) معهد.
وكان الخولي قد كشف خلال برنامج تلفزيوني حول (فهم المسلمين للعلمانية) عن حقائق وإحصائيات تبرز مدى خطورة الحرب التي تشنها الكنائس الكاثوليكية و الإنجيلية على الإسلام؛ إذ أكد أن عدد المُنصِّرين المحترفين الموجودين على رأس العمل التنصيري بلغ (4208250) منصّراً.
وتحمل هذه الجماعات إلى الدول التي تنوي تنصيرها، كميّات كبيرة من الأناجيل باللغة العربية وأشرطة الفيديو والمنشورات، بزعم محاولتهم "إنقاذ المسلمين" حسب أحد قادة تلك الجماعات.
وتمتلك مؤسسات التنصير (82) مليوناً من أجهزة الكمبيوتر، في حين بلغ عدد المجلات التي تُصدرها مؤسساتها (24900) مجلة، أما عدد الكتب فبلغ في عام واحد (88610) كتب.
وتتولى جامعة الكنيسة الإنجيلية في الولايات المتحدة إعداد المُنصِّرين وتدريبهم، وتقوم بتمويلهم والإشراف عليهم ومتابعة نتائجهم.
ولا يقتصر نشاط هذه الجماعات على المجلات والدوريات والكتب، بل يتعداها إلى محطات إذاعية وتلفزيونية، والتي بلغ تعدادها (2340) محطة تقتصر برامجها على بث برامج التنصير. إضافة إلى ) 10677) مدرسة و روضة أطفال يدرس طلابها البالغ عددهم تسعة ملايين طالب مناهج تهتم بنشر ثقافة الإنجيل، والترويج للتنصير. أما في المجال الطبي فإن عدد المستشفيات التي تملكها هذه الكنائس هو(10600) مستشفى.
ويطالب مؤيدو برامج التنصير وأهداف الكنسية الإنجيلية الدول الإسلامية بالتوقف عن طبع المصاحف، في حين تشرف هيئات التنصير على توزيع نُسخ الأناجيل مجاناً، حتى بلغ ما وزّعته منها في العالم العربي والإسلامي (53) مليون نسخة خلال عام واحد.
ولأنه من الصعب إقناع المسلمين باعتناق الديانة المسيحية، حسب اعتراف المنصّرين الأميركيين أنفسهم، فإن الكنيسة الإنجيلية تسعى إلى تدريب المنصّرين على أيدي خبراء وعلماء نفسيين، ومحاضرين في علم اللاهوت مهمتهم دحض التعاليم الإسلامية، كما يقوم المنصّرون من خلال ورش عمل في الكنيسة بدراسة عميقة ومكثفة لكافة الجوانب الحياتيّة والاقتصاديّة والدينيّة، والتقسيمات الطائفيّة، والميول السياسيّة للمناطق التي سيذهبون إليها، ومنها المنطقة العربية.
المراهقون هدف والبالغون قنابل موقوتة
تشهد بلدان مثل الأردن والعراق ومصر وبعض الدول الخليجية نشاطاً ملحوظاً لجماعات التنصير، التي نجحت حتى الآن في تحويل بعض الشباب والشابات من المسلمين أصحاب الظروف الاجتماعية أو المادية البائسة عن دينهم، وتتوجّه هذه الجماعات إلى فئة المراهقين والمراهقات من الشباب، حيث تقوم بالدعاية لنفسها من خلال أنشطة رياضيّة وثقافيّة وفنيّة، تتخلّلها دعوات صريحة للتنصير، وتشجيع لهؤلاء الشبان على الدخول في المسيحيّة، ويلقى المراهقون أو الشباب المغرّر بهم، ترحيباً مبالغاً فيه من قبل جماعات التنصير، ويتمّ دمجهم في جماعات تعمل على غسل تدريجي لأدمغتهم، وعلى تلبية احتياجاتهم المادّية مهما كانت.
ولا يقتصر التخوف من هذه الجماعات التنصيريّة على المسلمين وحدهم فقط، بل يتعدّاه إلى المسيحيين من الطوائف الأخرى أيضاً؛ إذ نشرت بعض الصحف الأردنية مقالات لكتاب وحقوقيين مسيحيين تحدّثوا فيها عمّا أسموه "التنصير الموجه الذي تنشره وتروج له جماعات غربية تأتي إلى المملكة تحت غطاء العمل أو الدراسة"، وكان المحامي الأردني الراحل سليم صويص قد كتب عن هذه الظاهرة التي أطلق عليها مسمى "المسيحية الصهيونية"، وانتقد فيها قدوم أعداد هائلة من المنصّرين الإنجيليين الغربيين إلى الدول العربية مثل: لبنان والأردن وسوريا، وقيامهم بحملات تنصير "إنجيلي" استهدفت وتستهدف جميع الطوائف المسيحية الأخرى، بالإضافة إلى المسلمين.
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة التي يمنع قانونها التبشير من جانب غير المسلمين، قضت محكمة إماراتية عام 1993 بالسجن (6) أشهر على بريطاني لتوزيعه مطبوعات مسيحية على إيرانيين. وفي آذار(مارس) من عام 2005، ذكرت صحيفة (جالف نيوز) أن سلطات دبي حققت مع منصّرتين أميركيّتين تنتميان لرابطة (توم كوكس) الإنجيلية، وهما ماري بوش وفيفيان جيلمر للاشتباه في توزيعهما اسطوانات مدمجة بها مواد مسيحية ونسخاً من الكتاب المقدس في الإمارة.
وتضم إمارة دبي كنائس للمسيحيين إلى جانب مساجد المسلمين على اختلاف مذاهبهم، في محاولة لتطبيق منظومة التسامح الديني بين جميع قاصدي الإمارة من الوافدين.(15/36)
أما في الأردن، فقد استطاعت جماعات التنصير إغواء شاب قاصر عن دينه، وفي حين تمكنت والدة الفتى بمساعدة الأجهزة الأمنية من تسفير الزوجين الأميركيين القادمين إلى الأردن من القدس، بعد اختطافهم الفتى القاصر في محاولة لتسفيره، لم تفلح جهود الوالدة ولا أجهزة الأمن الأردنية التي أحيطت علماً بالحادثة، في إيقاف تدفّق جماعات التنصير إلى الأردن، مستفيدين من مشروع التقارب بين الأديان الذي يعتبر الأردن واحدة من الموقعين عليه.
وفي إشارة لتقصير الأحزاب الإسلامية والإسلاميين في التصدي للظاهرة تقول والدة الفتى التي رفضت ذكر اسمها: " لجأت لأكثر من طرف، ومنهم بعض الأحزاب الإسلامية المعروفة، لكن للأسف لم يحركوا ساكناً، فمن مطالب بقتل ابني القاصر كونه يعتبر مرتداً، إلى رافض للتدخل خشية الاتهام بإثارة نزعات طائفية". وتؤكد والدة الفتى أن استدراج ابنها تم عن طريق إغوائه بفتاة جميلة استدرجته بدورها إلى مقر العائلة الأميركية لتقوم بتنصيره".
حروب روحيّة في العراق وأزمة سياسيّة لبوش
يكشف تقرير نشرته صحيفة (ديلي تلجراف) البريطانية عن نشاطات جماعات أصولية مسيحية تعمل سراً في العراق المحتل، حيث يشير كاتب التقرير إلى أن جماعات التنصير الأميركية أعلنت ما أسمته "حربا روحية"، للاستفادة من الوضع الحالي الذي لا تزال فيه واشنطن تسيطر على مقاليد الأمور.
ويشير التقرير إلى أن أتباع الحركات التنصيريّة يتدفقون على العراق حاملين نسخ الإنجيل بالعربية، وأشرطة سمعية ومرئية مصمّمة لإقناع المسلمين بالارتداد عن دينهم، حسب الصحيفة، التي أضافت أن "مجلس التنصير العالي الذي يعتبر واحداً من فروع الكنيسة المعمدانية الجنوبية يقود عمليات التنصير في العراق، حيث يتمّ إدخال المنصّرين تحت ذريعة العمل في مؤسّسات الإغاثة الدولية"، وذكرت الصحيفة أن مدير المجلس وجّه "نداء حاراً لأتباع الكنيسة البالغ عددهم (16) مليون شخص للسفر إلى العراق أو دعم جهود التنصير هناك". وأوردت الصحيفة مقتطفات من هذا النداء جاء فيها "إن المعمدانية الجنوبية صلّت كثيراً أن يفتح الرب باب العراق لرسالة الإنجيل"، وكذلك "إن المعمدانية الجنوبية وأعضاءها يجب أن يعلموا أن هناك حرباً على الروح في العراق، وتنافساً مسيحياً ـ إسلامياً على عقول العراقيين".
وفي إشارة إلى وجود دور سياسي لهذه الجماعات تقول الصحيفة: "إن المنصّرين يمثلون أزمة ومعضلة لبوش الذي حاول لفظياً عدم المواجهة مع المسلمين إلا أن المسيحيين المتعصبين يمثلون قاعدة انتخابية كبيرة له".
ولم يخف مدير إغاثة الكوارث بالمؤتمر العام المعمداني في أوكلاهوما (سام بورتر) أن منظمته تقوم بما أُطلق عليه "نشر محبة الرب" تحت ما أسماه "أعمال إغاثية" في العراق، مشيراً إلى أن "القيام بذلك النشاط ليس فرصة كبيرة للقيام بأعمال إنسانية فقط، ولكن لنشر محبة الرب " على حد وصفه.
ويشير الصحافي البريطاني (دايفيد ريني) إلى أن المنصّرين الأميركيين يعملون بشكل سري ومنظم تحت ستار "العمل ضمن هيئات الإغاثة الإنسانية"، ويضيف "لقد جلبت هذه الجماعات التنصيرية الأناجيل المترجمة إلى العربية وأفلام الفيديو عن يسوع المدبلجة بالعربية إلى العراق، تحت شعار " حماية المسلمين من دينهم الفاسد".
ادّعاءات بتحقّّق معجزات وخوارق
ويتحدث المنصّرون عن نجاحات لهم في العراق، زاعمين أن بعض المعجزات والخوارق الطبيعية تحققت على أيديهم، فهذه سيدة من أوهايو واسمها (جاكي كوني) وتبلغ من العمر (72) عاماً تدّعي أن "الرب قد أوحى إليها الانضمام إلى فريق المنصّرين في العراق، والذي يضم(21)عضواً، وتشير إلى أنها وخلال عملها مع الفريق هناك، قابلت في الفندق الذي تقيم فيه في العاصمة بغداد، سيدة عراقية مسلمة تحتاج إلى عملية جراحية عاجلة في ساقها، وتضيف (كوني): "قمت بالصلاة من أجل هذه السيدة، وحين قابلتها مرة أخرى في المساء وجدت أنها شفيت" حسب (كوني) التي زعمت أنها "تركت السيدة الكردية وأخاها وهم يسألون عن يسوع، وقد أعطيتهم نسخة من الإنجيل بالعربية وشريط فيديو عن يسوع بالعربية، وتركتهم وهم يعتقدون أنهم مسيحيون الآن".
كذلك يقول أحد العاملين في هذا الفريق، ويُدعى (جيم والكر): "لقد جلست مع عدد من الأطفال العراقيين في إحدى القرى، وكانوا غاية في الانتباه إليّ وأنا أحدثهم، كما أنهم لم يتناولوا الطعام بشكل جيد؛ لأن حاجتهم الأولى كانت معرفة المحبة ويسوع".
ويسعى المنصّرون المتواجدون في العراق للاستفادة من عدم الاستقرار الأمني الذي تعاني منه البلاد، ويحاولون جاهدين تحقيق أهدافهم قبل خروج قوات الاحتلال الأميركية المزعوم من أرض البابليين، ونقل السلطة لأيدي العراقيين.
دخول غير شرعي(15/37)
ويأتي العديد من المنصّرين إلى بلدان الشرق الأوسط بتأشيرة دراسية أو كمبرمجي حاسوب أو غيرها من الأعمال، ثم يشرعون في ممارسة نشاطهم التبشيري في السر والكتمان، ولا يستخدم المنصّرون ومنهم الكوريون لغتهم الخاصة أثناء محاولتهم تنصير الأشخاص، وإنما لغة البلاد التي يمارسون فيها نشاطهم، أو يلجؤون إلى اللغة الإنجليزية
==============(15/38)
(15/39)
ملامح المستقبل
قراءة/ عبد الله محمد الرشيد 12/2/1426
22/03/2005
الكتاب/ ملامح المستقبل
المؤلف/ د. محمد الأحمري
الناشر/ مكتبة العبيكان
الطبعة/ الأولى 318
إن مفهوم المستقبل مرتبط "بالتخطيط، والبناء، والنهضة، والإصلاح، والتجديد، والتحرّر والأمل... المستقبل يوسّع فسحة الأمل".
هكذا ابتدأ الدكتور محمد بن حامد الأحمري كتابه المتفائل (ملامح المستقبل) الذي يُعدّ رحلة مغامرة في فهم الحاضر والمستقبل، ورحلة عميقة في السياسة والثقافة والاقتصاد واللغة والروح، ورصد توجهات المستقبل بأسلوب يجمع بين المعلومة والخبر ليصل لفكرة جامعة.
ويعبّر المؤلف في مقدمة كتابه عن حاجة المسلمين إلى الرغبة في التنبّؤ، مشيراً إلى أنه شعور فطري صحيح يدفع المظلوم للانتصاف والظالم إلى التعقل.
ويضيف المؤلف "فقضية الإسلام والمسلمين وأفكارهم ومستقبلهم هي قضية العالم اليوم، وهي شغله الشاغل، وقد عمدت في هذه الدراسة إلى رصد المؤشرات المؤثرة في حاضر و مستقبل المسلمين وعلاقاتهم بأنفسهم وبالعالم من حولهم، جاعلاً من الوصف للواقع، والرصد لما تمّ إنجازه وسيلة لاستشراف المستقبل، والتعرّف على ملامحه وتوجّهاته".
والكتاب عرض لقضايا وأفكار متفرقة مثل: سيادة اللغة العربية، وقوة الإعلام، وانتشار الوعي العام، والصّلة مع الغرب والعالم، والعولمة و العلمانيّة والقوميّة، وكسر حواجز العزلة الضارّة، كما أشار إلى قضايا تمسّ الثقافة الغربية وتوجهاتها وموقفها وسر ضعف جاذبيتها، وقلة المشاريع الفكرية الكبيرة فيها اليوم، كما كشف عن نوع المثقفين الغربيين الذين يؤثرون على فكرنا ومستقبلنا.
كما أبرز المؤلف قضية صعود الثقافة المقاومة التي تمثل انتصاراً للثقافة الإسلامية ونهضة فكرية كبيرة في انتشار الكتاب الإسلامي والفكرة الإسلامية، التي ساهمت في العودة للذات، والثقة بالنفس أمام الكتب المترجمة الغثّة.
وتفاءل الكاتب بظاهرة النمو السكاني في العالم الإسلامي؛ إذ قرّر تحت عنوان (إنما العزة للكاثر) أن هذا النمو سيكون له آثاره الكبيرة على مستقبل العالم. ويضيف: "إن عدد السكان عامل حاسم في صعود قوة الشعوب وانهيارها، وحين يزيد عدد السكان وتضيق بهم الآفاق يجدون دروباً للتوسع والانتشار، ويقتحمون أرضاً جديدة وآفاقاً أوسع".
كما يرصد المؤلف نمو ظاهرة التضحية والفداء، ففي ظل هذه المجازر التي تُرتكب في حق المسلمين سيكون لها أثرها في النفوس، وتجبر المسلمين على استعادة الجهاد وذلك باعتراف الكتّاب الأمريكيين، وسوف تلهب ما أسماها المؤلف (شهيّة الاستشهاد)؛ لأن هناك حملة ثقافية إرهابية تُقال وتُكتب وتُنشر وتُطبق كل يوم ضدّ المسلمين.
وتحت عنوان (من كوكاكولا إلى مكة كولا) يؤيد المؤلف بشدة المقاطعة الاقتصادية الشعبية لكل الشركات التي تدعم في النهاية منتهكي حقوق البشر؛ لأن المقاطعة الرسمية قد ولّى زمنها، وأصبحت الدول أقل قدرة على فرض أي نوع من الحماية ضد أي منتج ترعاه دولة قوية، أو شركة قوية، أو عصابة ماهرة، أو شخصية نافذة، وأصبحت المقاومة الشعبية هي المؤثرة ضد أي منتج فاسد، أو شركة مستهترة بكرامة الإنسان أو تضر بالمجتمع، ويرى الكاتب أن للمقاطعة الاقتصادية آثاراً مهمة أخرى تتجاوز الجوانب الاقتصادية إلى أبعاد أخرى ثقافية ونفسية واجتماعية في غاية الأهمية؛ فالمقاطعة تشيع جواً من الموقف والمشاعر العامة، والمشاركة في ممارسة حقوق الأمة، وتوطين الإنسان على رفض الظلم.
الكتاب حفل بأفكار أخرى كمسألة الدولة في ظل العولمة، والهواجس الدينية، ورؤى حول التراجعات، وقضية تركيا وإسرائيل والنساء، و أنموذج تحرير تركيا من العلمانيّة، والعلمانيّة الحسنة والسيئة، والموقف من الغرب العزلة أم التواصل، والهيمنة أو التبعيّة، وأوهام القوة والضعف. وغيرها من الرؤى الفكرية الرصينة التي يجمعها إطار ما يمكن تسميته: (تاريخ المستقبل).
ويمكننا أن نقول: إن هذه الأفكار المتناثرة هي ملامح لزمن قادم، وبداية لمرحلة تاريخية جديدة، شهد العالم ظواهر بدايتها؛ فالعالم الإسلامي يتجه نحو تجديد الحياة الإسلامية بشتى جوانبها الروحية والثقافية والاجتماعية والحضارية، وهناك دلالات كثيرة في ميادين عديدة، ومن أهداف الكتاب رصد التحوّل، والتعريف بما تحقق من جوانب النمو والقوة.
ويهدف الكتاب إلى وضع إشارات لجوانب سلوكيّة وثقافية مؤثرة، والحثّ على تبني بعض الإيجابيات، وتجاوز اليأس القاتل، والخلاص من بعض الدوافع الجبريّة التي تتسلّل باسم التاريخ أو الثقافة، والبحث في جوانب الاستقلال الفكري والذهني في عالم الإسلام.
ومن أهداف الكتاب تفتيت الطرح السلبي الذي يُبرز الجانب السلبي لدى الأمة، ويسوّق لنا السلبيات وعوامل التخلف التي تنخر في المجتمع الإسلامي بصورة متشائمة، لكنها مع التأمل قد لا تكون كذلك، وقد يكون وجودها سبباً في نشوء الردّ عليها أو بروز نقيضه.(15/40)
ويقرّر المؤلف أن صياغة مستقبلنا يحتاج إلى مزيد من الدعوة والاجتهاد، أو الجمع للموجود، والإقناع للأمم والأفراد وبذل الجهد في الترقّي بهم، وإيماننا المتواصل بأننا نملك الخير للبشرية في كل مكان.
=============(15/41)
(15/42)
الإنتصار لأهل السنة والجماعة(1-2)
فإن من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله عز وجل وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن هم قاموا بشرعه ونصروا دينه قال تعالى : {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وإن القيام بشرع الله ليعظم أمره، ويجل فضله في أوقات غربة الدين وتسلط أعدائه عليه .ولا يخفى على أحد ما يتعرض له دين الله تعالى في هذه السنوات الأخيرة من هجمة شرسة من أطراف متعددة داخلية وخارجية، الأمر الذي يستوجب من حملة المنهج الحق المبادرة الجادة، والعمل الدؤوب ؛ لصد هذه الهجمة على أعقابها ؛ إعلاء لكلمة الله واقتداء بهدي المرسلين وإبراء للذمة .ومن هذا المنطلق قمت بإعداد هذه الورقة المختصرة أذكر فيها جملة من القضايا والموضوعات التي ينبغي تسليط الضوء عليها على وفق منهج أهل السنة والجماعة عن طريق الدروس والمحاضرات والكتب والمؤلفات، والمساهمة في الصحف والمجلات والمنتديات، وكتابة الرسائل العلمية، وإنشاء مراكز علمية ومواقع على الإنترنت، مرورا بالمناصحة مع العلماء والمسؤولين، وفضح العلمانيين والمنافقين، ورصد أقوال المنحرفين والمخالفين إلى غير ذلك من وسائل وأساليب الغرض منها تحقيق هذا المقصد العظيم.وقد قسمت هذه الورقة إلى أربعة أقسام :
الأول : العقيدة والمنهج.
الثاني : المصطلحات .
الثالث : المرأة .
الرابع : موضوعات متفرقة.
أولا : العقيدة والمنهج:
جُمِع تحت هذا العنوان الموضوعات التي تتعلق بشكل مباشر بعقيدة ومنهج أهل السنة و الجماعة .
1-مفهوم الغلو:
يكثر في الآونة الأخيرة نسبة الغلو إلى منهج أهل السنة فيتعين على أتباع هذا المنهج أن يبرزوا الطبيعة المعتدلة لهذا الدين بين الأديان ولهذا المنهج بين المناهج المبتدعة، وفي المقابل عليهم أن يظهروا صور الغلو عند اليهود والنصارى وعند أهل البدع والمنحرفين.
2- التكفير والخوارج:
التكفير باب من أبواب العقيدة يراعى فيه الضوابط الشرعية، ولا يكون دين لا تكفير فيه، مع التحذير من التوسع في إطلاق التكفير والتحذير من بدعة الإرجاء التي تقصر التكفير على الاستحلال، وينبغي تحرير الفرق بين التكفير عند أهل السنة والجماعة والتكفير عند الخوارج.
3- نواقض الإسلام:
ينبغي أن يبين للناس أن للإسلام نواقض تخرج منه منصوصاً عليها في الكتاب والسنة، مع التذكير بما استجد من الصور المعاصرة لها.
4- الولاء والبراء والجوانب العملية لهما:
ترسيخ هذا المفهوم العقدي في نفوس الناس مع بيان من يكون له الولاء الكامل أو البراء الكامل ومن يجتمع في حقه ولاء وبراء, وبيان ما يترتب عليهما من أحكام شرعية، وتفنيد الشبه التي تثار حول هذه العقيدة.
5- العلاقة مع الكفار:
ينبغي توضيح وجوب عداوة الكفار وبغضهم، وأن العداوة غير الاعتداء، وأنه لا يتنافى مع العدل معهم، ولا الإحسان إلى غير الحربي منهم، مع الحرص على دعوتهم للإسلام.
6- العلاقة مع أهل البدع:
يجتمع في المبتدع ولاء وبراء فتبذل له حقوق الإسلام ويحرص على دعوته، ويحذر منه ومن بدعته، ولا يمكَّن له ولا يعلى من شأنه، وأما من أظهر بدعة كفرية فهذا له شأن آخر.
7- عداوة الكفار لأهل الإسلام:
لا يزال الكفار في قتال وعداوة لأهل الإسلام وأتباع المنهج الحق وما الحملة الصليبية المعلنة إلا شاهد على ذلك، فيؤكد على أن عداوتهم دينية، وأنهم لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبعوا ملتهم.
8- مظاهرة المشركين على المسلمين:
ينبغي توضيح خطورة مظاهرة المشركين على المسلمين وأنها من نواقض الإسلام كما نص على ذلك العلماء.
9- الثوابت والمتغيرات:
تسمع دعاوى كثيرة تلغي وصف الثبوت عن الشريعة، وأخرى تدعي احترام الثابت وهي في الحقيقة تنفي عن أكثر الثوابت هذا الوصف فيتعين إبراز الثوابت والذب عنها وإيضاح معنى الثابت والمتغير.
10-مظاهر الشرك والبدعة:
للشرك والبدعة مظاهرهما التي لابد أن تبين ويحذر الناس منها ويرد على دعاتها.
11-مصدر التلقي ومنهج الاستدلال:
توضح هنا مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة مع التمييز بين المصادر الأصلية والفرعية ويوضح أيضا منهجهم في الاستدلال، وموقفهم من العقل، كما يبين أن أهل السنة يعطون النص حظه من الدلالة دون غلو ولا تقصير، ويُركز على مكانة فهم السلف لمعاني النصوص، مع كشف مصادر التلقي عند أهل الأهواء والبدع.
ثانيا : المصطلحات .
الحديث هنا عن مصطلحات متداولة ينبغي تحريرها وتبيين موقف الشرع منها، مع التنبه لطبيعتها المجملة غالباً، وعلى دعاة الحق التنبه لشََرَك مثل هذه المصطلحات.
1- الإعتدال :
لابد من توضيح هذا المصطلح على قاعدة أن الاعتدال ما وافق الشرع، وأن مخالفة الشرع إما غلو وإما جفاء كلٌ بحسبه، ومن المهم التنبيه هنا على مصطلح الوسطية، وأن لها تعريفا شرعيا، مع بيان أحق الناس بوصف الاعتدال والوسطية، مع التحذير من الاستخدام السيء لهذا المصطلح .
2- الوحدة الإنسانية :(15/43)
يبين هنا أن الوحدة المطلوبة شرعا هي الوحدة الإسلامية على أساس اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وأن أي دعوى توحيد أو تقريب تخالف هذا الطرح غير مقبولة ؛ لأنها تتضمن هدما لأصول الإسلام سواء أكان تقريباً بين الأديان أو تقريباً بين الفرق .
3- السلم المدني :
هذا المصطلح المتضمن لدعاوى التعايش والتسامح يحمل في طياته معان صحيحة وأخرى فاسدة فلا يعطى حكماً واحداً بل لكل معنى حكمه الخاص به، وينبه في هذا السياق على ما يسمى بالسلام العالمي وأنه دعوى مستحيلة الحدوث تحت مظلة الحضارة الغربية التي قامت على الاعتداء ونهب خيرات الشعوب المستضعفة فهم أكثر من يطلقه وأكثر من يخالفه .
4- الحرية :
الحرية حق مكفول لكل أحد بضوابطه الشرعية، ويؤكد هنا على زيف دعاوى الحرية عند الغرب وأشباههم, وعلى أن الحرية المنفلتة جرَّت على البشرية ألواناً من العذاب والمعاناة.
5- اليسر والسهولة :
يكثر في الآونة الأخيرة التميع في الفتوى وتجميع الرخص بزعم التيسير ورفع الحرج فيبين هنا الفرق بين الأمرين، ويوضح هذا المصطلح الشرعي على وجه يمنع الاستخدام السيئ له المقتضي للتفلت من الشرع .
6- الأصولية و التطرف:
ينبز دعاة الحق بمثل هذه المصطلحات, فلا بد من إبراز المعيار الذي يعرف به التطرف في الشرع, ولابد من ذكر صور التطرف عند المخالفين, والتنبيه على أن التطرف قد يكون جفاء الأمر الذي يقع فيه عامة من يتهم المتدينين به, ويؤكد هنا على الأصل الغربي لكلمة الأصولية وخطأ إسقاط هذا المصطلح على أهل التدين .
7- العلمانية والليبرالية:
مصطلحان متقاربان يمثلان مفاهيم غربية يراد فرضها على المسلمين، وهي مخالفة للإسلام، مقتضية لردة صاحبها، وحيث إن أصحابها يطرحون شبهات فلا بد من العناية بالرد عليها .
8- الديموقراطية :
أسلوب غربي في الحكم يراد تعميمه على كل المجتمعات بزعم أنه الأصلح للبشرية، فلابد من بيان كونه جاهلية معاصرة، وعلى أن الجوانب الحسنة فيه موجودة في الشرع، مع التأكيد على أن السيادة هي للشريعة الإسلامية، وأن نقد الديمقراطية لا يعني الثناء على أساليب التعسف والظلم في الحكم.
فإن من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله عز وجل وعد عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن هم قاموا بشرعه ونصروا دينه قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }وإن القيام بشرع الله ليعظم أمره، ويجل فضله في أوقات غربة الدين وتسلط أعدائه عليه .ولا يخفى على أحد ما يتعرض له دين الله تعالى في هذه السنوات الأخيرة من هجمة شرسة من أطراف متعددة داخلية وخارجية، الأمر الذي يستوجب من حملة المنهج الحق المبادرة الجادة، والعمل الدؤوب ؛ لصد هذه الهجمة على أعقابها ؛ إعلاء لكلمة الله واقتداء بهدي المرسلين وإبراء للذمة .ومن هذا المنطلق قمت بإعداد هذه الورقة المختصرة أذكر فيها جملة من القضايا والموضوعات التي ينبغي تسليط الضوء عليها على وفق منهج أهل السنة والجماعة عن طريق الدروس والمحاضرات والكتب والمؤلفات، والمساهمة في الصحف والمجلات والمنتديات، وكتابة الرسائل العلمية، وإنشاء مراكز علمية ومواقع على الإنترنت، مرورا بالمناصحة مع العلماء والمسئولين، وفضح العلمانيين والمنافقين، ورصد أقوال المنحرفين والمخالفين إلى غير ذلك من وسائل وأساليب الغرض منها تحقيق هذا المقصد العظيم.وقد قسمت هذه الورقة إلى أربعة أقسام :
الأول : العقيدة والمنهج.
الثاني : المصطلحات .
الثالث : المرأة .
الرابع : موضوعات متفرقة. ورغبة في مزيد من الإيضاح تم وضع إضاءات وإشارات مختصرة تحت كل عنوان ينبغي التركيز عليها في المقام الأول .ومما يحسن التنبيه عليه أن هذه الورقة سبق نشرها بعنوان (الانتصار للمنهج السلفي) وحيث أني أفدت فيها من بعض طلبة العلم، فقد كتبت في آخرها أعده مجموعة من طلبة العلم.لكنها لم تأخذ حقها من النشر الكافي لذا رأيت إعادة نشرها بعد إجراء بعض التعديلات.سائلا المولى عز وجل الإخلاص في القول والعمل، وأن يكتب الأجر لمن قام بإعداد هذه الورقة ونشرها، إنه خير مسئول.
أولا : العقيدة والمنهج:
جُمِع تحت هذا العنوان الموضوعات التي تتعلق بشكل مباشر بعقيدة ومنهج أهل السنة و الجماعة .
1- مفهوم الغلو:
يكثر في الآونة الأخيرة نسبة الغلو إلى منهج أهل السنة فيتعين على أتباع هذا المنهج أن يبرزوا الطبيعة المعتدلة لهذا الدين بين الأديان ولهذا المنهج بين المناهج المبتدعة، وفي المقابل عليهم أن يظهروا صور الغلو عند اليهود والنصارى وعند أهل البدع والمنحرفين.
2- التكفير والخوارج:
التكفير باب من أبواب العقيدة يراعى فيه الضوابط الشرعية، ولا يكون دين لا تكفير فيه، مع التحذير من التوسع في إطلاق التكفير والتحذير من بدعة الإرجاء التي تقصر التكفير على الاستحلال، وينبغي تحرير الفرق بين التكفير عند أهل السنة والجماعة والتكفير عند الخوارج.
3- نواقض الإسلام:(15/44)
ينبغي أن يبين للناس أن للإسلام نواقض تخرج منه منصوصاً عليها في الكتاب والسنة، مع التذكير بما استجد من الصور المعاصرة لها.
4- الولاء والبراء والجوانب العملية لهما:
ترسيخ هذا المفهوم العقدي في نفوس الناس مع بيان من يكون له الولاء الكامل أو البراء الكامل ومن يجتمع في حقه ولاء وبراء, وبيان ما يترتب عليهما من أحكام شرعية، وتفنيد الشبه التي تثار حول هذه العقيدة.
5- العلاقة مع الكفار:
ينبغي توضيح وجوب عداوة الكفار وبغضهم، وأن العداوة غير الاعتداء، وأنه لا يتنافى مع العدل معهم، ولا الإحسان إلى غير الحربي منهم، مع الحرص على دعوتهم للإسلام.
6- العلاقة مع أهل البدع:
يجتمع في المبتدع ولاء وبراء فتبذل له حقوق الإسلام ويحرص على دعوته، ويحذر منه ومن بدعته، ولا يمكَّن له ولا يعلى من شأنه، وأما من أظهر بدعة كفرية فهذا له شأن آخر.
7- عداوة الكفار لأهل الإسلام:
لا يزال الكفار في قتال وعداوة لأهل الإسلام وأتباع المنهج الحق وما الحملة الصليبية المعلنة إلا شاهد على ذلك، فيؤكد على أن عداوتهم دينية، وأنهم لن يرضوا عن المسلمين حتى يتبعوا ملتهم.
8- مظاهرة المشركين على المسلمين:
ينبغي توضيح خطورة مظاهرة المشركين على المسلمين وأنها من نواقض الإسلام كما نص على ذلك العلماء.
9- الثوابت والمتغيرات:
تسمع دعاوى كثيرة تلغي وصف الثبوت عن الشريعة، وأخرى تدعي احترام الثابت وهي في الحقيقة تنفي عن أكثر الثوابت هذا الوصف فيتعين إبراز الثوابت والذب عنها وإيضاح معنى الثابت والمتغير.
10- مظاهر الشرك والبدعة:
للشرك والبدعة مظاهرهما التي لابد أن تبين ويحذر الناس منها ويرد على دعاتها.
11- مصدر التلقي ومنهج الاستدلال:
توضح هنا مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة مع التمييز بين المصادر الأصلية والفرعية ويوضح أيضا منهجهم في الاستدلال، وموقفهم من العقل، كما يبين أن أهل السنة يعطون النص حظه من الدلالة دون غلو ولا تقصير، ويُركز على مكانة فهم السلف لمعاني النصوص، مع كشف مصادر التلقي عند أهل الأهواء والبدع.
ثانيا : المصطلحات :
الحديث هنا عن مصطلحات متداولة ينبغي تحريرها وتبيين موقف الشرع منها، مع التنبه لطبيعتها المجملة غالباً، وعلى دعاة الحق التنبه لشََرَك مثل هذه المصطلحات.
1- الإعتدال :
لابد من توضيح هذا المصطلح على قاعدة أن الاعتدال ما وافق الشرع، وأن مخالفة الشرع إما غلو وإما جفاء كلٌ بحسبه، ومن المهم التنبيه هنا على مصطلح الوسطية، وأن لها تعريفا شرعيا، مع بيان أحق الناس بوصف الاعتدال و الوسطية، مع التحذير من الاستخدام السيء لهذا المصطلح .
2- الوحدة الإنسانية :
يبين هنا أن الوحدة المطلوبة شرعا هي الوحدة الإسلامية على أساس اتباع الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، وأن أي دعوى توحيد أو تقريب تخالف هذا الطرح غير مقبولة ؛ لأنها تتضمن هدما لأصول الإسلام سواء أكان تقريباً بين الأديان أو تقريباً بين الفرق .
3- السلم المدني :
هذا المصطلح المتضمن لدعاوى التعايش والتسامح يحمل في طياته معان صحيحة وأخرى فاسدة فلا يعطى حكماً واحداً بل لكل معنى حكمه الخاص به، وينبه في هذا السياق على ما يسمى بالسلام العالمي وأنه دعوى مستحيلة الحدوث تحت مظلة الحضارة الغربية التي قامت على الاعتداء ونهب خيرات الشعوب المستضعفة فهم أكثر من يطلقه وأكثر من يخالفه .
4- الحرية :
الحرية حق مكفول لكل أحد بضوابطه الشرعية، ويؤكد هنا على زيف دعاوى الحرية عند الغرب وأشباههم, وعلى أن الحرية المنفلتة جرَّت على البشرية ألواناً من العذاب والمعاناة.
5- اليسر والسهولة :
يكثر في الآونة الأخيرة التميع في الفتوى وتجميع الرخص بزعم التيسير ورفع الحرج فيبين هنا الفرق بين الأمرين، ويوضح هذا المصطلح الشرعي على وجه يمنع الاستخدام السيئ له المقتضي للتفلت من الشرع .
6- الأصولية و التطرف
ينبز دعاة الحق بمثل هذه المصطلحات, فلا بد من إبراز المعيار الذي يعرف به التطرف في الشرع, ولابد من ذكر صور التطرف عند المخالفين, والتنبيه على أن التطرف قد يكون جفاء الأمر الذي يقع فيه عامة من يتهم المتدينين به, ويؤكد هنا على الأصل الغربي لكلمة الأصولية وخطأ إسقاط هذا المصطلح على أهل التدين .
7- العلمانية والليبرالية
مصطلحان متقاربان يمثلان مفاهيم غربية يراد فرضها على المسلمين، وهي مخالفة للإسلام، مقتضية لردة صاحبها، وحيث إن أصحابها يطرحون شبهات فلا بد من العناية بالرد عليها .
8- الديمقراطية :
أسلوب غربي في الحكم يراد تعميمه على كل المجتمعات بزعم أنه الأصلح للبشرية، فلابد من بيان كونه جاهلية معاصرة، وعلى أن الجوانب الحسنة فيه موجودة في الشرع، مع التأكيد على أن السيادة هي للشريعة الإسلامية، وأن نقد الديمقراطية لا يعني الثناء على أساليب التعسف والظلم في الحكم .
ثالثا : المرأة:(15/45)
من أبرز ميادين المعركة بين الحق والباطل المرأة فالكفرة يعتقدون أنها أقوى وأسرع طريق لإفساد المسلمين, وأهل الإسلام يعتقدون أن في صلاح المرأة صلاح المجتمع، وفي الميدان ليبراليون ماجنون يريدون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فكان لزاماً إبراز منهج السلف الصالح تجاه قضايا المرأة وعدم الاقتصار على الوقوف موقف المدافع.
1- عمل المرأة:
يبين أن الأصل قرار المرأة في بيتها، وأن خروجها للعمل لابد أن يراعى فيه الضوابط الشرعية مع بيان ما تعانيه المرأة العاملة لاسيما في بلاد الغرب، مع إظهار مقصد أعداء الدين من خروج المرأة، والحرص على رد الشبهات حول عمل المرأة.
2- حقوق المرأة وتكريم الإسلام لها:
لابد من إبراز مظاهر تكريم الإسلام للمرأة والحقوق الشرعية لها، وبيان إهانة المجتمعات الغربية لها كما يوضح أن كثيرا مما يدَّعى أنه من حقوق المرأة ليس كذلك مما يفهم معه خطورة ما في هذه العبارة من إجمال.
3- ظلم المرأة:
جاء الإسلام ليرفع الظلم عن المرأة، فيحسن بأصحاب المنهج الحق أن لايقفوا موقف المدافع عنه لكثرة ما يتهم به من ظلم لها فعليهم بالمقابل ذكر صور ظلم المرأة عند دعاة التحرير وفي بلاد الغرب.
4- دور المرأة في المجتمع:
على دعاة الحق بيان دور المرأة الواسع في إطاره الشرعي في مجتمعها وأنها بتطبيقه ليست معطلة عن العمل، وعليهم بيان المقاصد السيئة لمن يزعم أن المرأة نصف المجتمع المعطل.
5- المرأة والولايات العامة:
يُوضح الحكم الشرعي لتولي المرأة الولاية العامة، كما يرد على الشبهات التي تثار حول هذه القضية مع التأكيد على خطورة التقليد الأعمى للغرب.
6- تحرير المرأة:
لابد من إيضاح المقاصد من هذه الدعوى وأن ما يسمى بتحرير المرأة لم يساهم أبدا في النهضة الحضارية، و أن التحرير دعوى مرفوضة لأنها لم تُستعبد أصلا حتى يُدعى لتحريرها..
7 - حجاب المرأة:
يؤكد على أهمية الحجاب والحياء للمرأة، والتحذير من دعاة السفور، والتأكيد على خطر الموضة على المرأة المسلمة، وعلى أهمية تميزها ظاهراً وباطناً، مع تفنيد الشبهات التي تثار حول الحجاب، وأنه لا يتنافى مع حريتها الشخصية.
8 - قيادة المرأة للسيارة:
لابد لأصحاب المنهج الحق من بيان الآثار السلبية لمثل هذا الأمر، وإبراز فتاوى العلماء في هذا الباب، والرد على كافة الشبهات، ولفت النظر إلى أنه الحاجز الذي بكسره يتم تغريب المرأة.
رابعا : موضوعات متفرقة :
1- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب :
من مظاهر الطعن في منهج أهل السنة والجماعة الكلام على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب همزاً ولمزاً، وإثارة الشكوك والشبهات حولها، الأمر الذي يستوجب التصدي لمثل هذه الطعون وتفنيد الشبهات، وتقرير أصول هذه الدعوة وبيان وسطيتها و مراعاتها للمصالح و المفاسد، مع تحذير الأخيار أن يكونوا أداة للطعن فيها .
2- الحسبة :
ينبغي إحياء هذه الشعيرة في نفوس الناس، و إعانة أهل الحسبة مع بيان الآثار الإيجابية لهم في صيانة المجتمع، وأن خطأ المحتسب كخطأ غيره من أفراد المؤسسات الأخرى ولا يعود هذا الخطأ على أصل هذه الشعيرة بالنقض، وذلك على فرض صحة وقوع هذه الأخطاء و إلا فإن أكثرها أباطيل وأكاذيب.
3- الحوار:
مع تزايد المطالبات بالحوار من مختلف التيارات، ينبغي التأكيد على أن يكون المقصود منه الوصول إلى الحق بالحجة والبرهان، مع إجراء قاعدة المصالح والمفاسد في هذا الباب، والتنبيه على أن الحوار وسيلة كغيره فلا يطغى على غيره من الوسائل فيلغيها.
4 - سد الذرائع:
التأكيد على شرعية هذه القاعدة واتفاق الفقهاء عليها وعلى أثرها في تحجيم الفساد، وأنه لا سبيل إلى إلغائها أو التضييق عليها متى ما طبق بضوابطه الشرعية، وأن الطعن فيها ومحاولة تجاوزها مؤذن بفساد عريض، كما يجب الرد على كافة الشبهات المثارة في وجه هذه القاعدة أو على تطبيقاتها الصحيحة في الواقع.
5- الجهاد والإرهاب :
يؤكد على أن الجهاد من ثوابت الدين، وأنه جهادان دفع وطلب، مع بيان المشروع منه وما أدخل فيه خطأ أو ظلماً، والدعوة إلى دعم المجاهدين في الثغور، ويحسن في هذا السياق الإشارة إلى ما تمارسه قوى الكفر في العالم ضد الإسلام وأهله وبيان من هو الجدير بوصف الإرهاب المذموم، ولابد من التفريق بين مفهوم الإرهاب في الشرع ومفهومه عند الغرب الذي هو ترجمة خاطئة للكلمة الإنجليزية (Te r ro r ism) وترجمتها الصحيحة التخويف بغير حق .
6- مناهج التعليم:
صد الهجمة الشرسة على مناهج التعليم الشرعية بحجة أنها تغذي الغلو والتكفير والإرهاب، ببيان أن ما اشتملت عليه من أصول وثوابت، ورد مختلف الشبهات عنها، وفضح المطالبين بالتغيير من أعداء الداخل، وأسباب هذه المطالبة، مع إبراز معالم العنف والتطرف والغلو في مناهج المخالفين من كفرة حاقدين ومبتدعة ضالين، كما ينبغي التأكيد على أن مناهج التعليم الشرعية متعلقة بصبغتنا الإسلامية وأن التنازل عنها تنازل عن هذه الصبغة الهوية.
7- الفتيا والاجتهاد:(15/46)
تقرير أن الفتيا ليست حقاً مشاعاً لكل أحد بل لها شروطها وأحكامها، وأن أهلها هم العلماء، مع التأكيد على مجالات الاجتهاد وأنه لا يدخل في أصول الدين وثوابته، وذكر الضوابط الشرعية لقاعدة لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان.
8 - تجديد الخطاب الديني:
ينبغي توضيح حقيقة هذا الشعار وما يراد منه عند بعض حملته الذين يرفعونه تلبيساً وتدليساً لتمرير ما يريدون تمريره من مفاهيم باطلة ويعبثوا بما شاءوا من أصول شرعية ويتلاعبوا بمضمون الخطاب الشرعي، موهمين أن التجديد واقع على وسائل تبليغ هذا الخطاب لا مضمونه، فينبغي التبيين والتفصيل وبيان ما يصح دخوله شرعاً تحت هذا الشعار وما لا يصح .
9 - الجمعيات الخيرية:
الجمعيات الخيرية اليوم تتعرض لتضييق شديد وحرب شعواء من العالم الغربي تحت شعار محاربة الإرهاب، فينبغي نصرة هذه الجمعيات بالقول والفعل، والتأكيد على أهميتها وآثارها وفضائلها، ورد التهم الباطلة عنها، والتأكيد على الازدواجية التي يتعامل بها العالم الغربي مع هذه الجمعيات، فبينا هو يحارب الإسلامية منها إذ هو يدعم التنصيرية. اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
=============(15/47)
(15/48)
المرأة والدعوة ..طريق الورد والشوك…
أرجو من حضراتكم التعرض لبعض العقبات التي تواجه المرأة المسلمة في عملها لدعوة الله عز وجل، وكيف يمكنها التغلب على هذه العقبات حتى يمكنها أن تقدم أفضل ما لديها من إمكانات وقدرات في سبيل الله.…السؤال
الدعوة النسائية …الموضوع
……الحل …
…يقول فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة:
لاشك أن الشيطان لن يترك دعاة الحق في مسيرتهم دون أن يضع لهم العقبات في طريقهم أملاً في ثنيهم عن الوصول إلى أهدافهم وتحقيقها؛ وإن لم يستطع فلا أقلّ من تعطيلهم وتأخيرهم؛ ولذا نجد أن هناك عقبات كثيرة تعترض المرأة الداعية، كما يعترض الرجل الداعية عقبات أخرى كثيرة، فمن العقبات التي تعترض المرأة الداعية:
أولاً، عقبات نفسية:
- الشعور بالتقصير:
إن كثيرًا من الأخوات الداعيات تشعر بأنها ليست على مستوى المسؤولية التي ألقيت عليها، وهذه في الحقيقة مكرمة وليست عقبة.
إن المشكلة تكون إذا شعرت الفتاة بكمالها أو أهليتها التامة، ومعنى ذلك أنها لن تسعى إلى تكميل نفسها، أو تلافي عيبها، ولن تقبل النصيحة من الآخرين؛ لأنها ترى في نفسها الكفاية، أما شعورها بالنقص أو التقصير فهو مدعاة إلى أن تستفيد مما عند الآخرين، وأن تقبل النصيحة، وينبغي أن تعلم الأخت الداعية أنه ما من إنسان صادق إلا ويشعر بهذا الشعور،
فكلما زاد فضل الإنسان زاد شعوره بالنقص، وكلما زاد جهله وبعده زاد شعوره بالكمال.
وباختصار فإنه مادامت الروح في الجسد فلن يكمل الإنسان، وكلما شعرنا بالتقصير وهضم النفس كان أقرب إلى الله تعالى وأبعد عن الكبر والغرور.
- التخوف والإحجام:
فمن العقبات أيضًا التخوف والإحجام والتهيب من الدعوة والكلام أمام الأخريات.
وهذا لا يمكن أن يزول إلا بالتجربة والممارسة.
ففي البداية: من الممكن أن تتكلم الفتاة وسط مجموعة قليلة، أن تلقي حديثًا مفيدًا -ولو كان مكتوبًا في ورقة-، ثم مع مجموعة أكثر عددًا، ثم تشارك في المسجد، والدروس التي تقام في المدرسة، ثم تبدأ بعد ذلك في إعداد بعض العناصر وتقوم بعد ذلك بإلقاء كلمة بطريقة الارتجال.. ولابد من التدرج، وإلا ستظل المرأة، وسيظل الرجل يقول: لا أستطيع!
ثانيًا، عقبات اجتماعية، ومن أهمها فساد البيئة:
فإذا كانت البيئة التي تعمل فيها المرأة الداعية فاسدة، سواء كانت هذه البيئة: مدرسة، أو مؤسسة، أو مستشفى، أو معهدًا؛ فإن ذلك يؤثر على المرأة تأثيرًا شديدًا، ويضغط عليها ضغطًا كبيرًا.
* هناك بعض الحلول يمكن أن تساهم في إزالة تلك العقبات، أو تخفيفها في بعض الأحيان، من أبرزها:
1- متابعة العلماء والدعاة الغيورين بكل ما يحدث داخل تلك المجتمعات، فإنها ليست أسرارًا ولا خفايا، كيف وهي تنشر في بعض الصحف العالمية، حتى إذا تحدثت طالبة -مثلاً- أو راسلت أحد الدعاة حُقِّق معها بحجة أنها نشرت أسرار الجامعة، أو نشرت أسرار المستشفى.. كيف يحدث هذا؟!
2- النزول للميدان مهما كانت التضحيات، فالهروب من هذه المجالات عبارة عن هدية ثمينة نقدمها بالمجان للعلمانيين والمفسدين في الأرض، وأرى -اجتهادًا- ضرورة خوض هذه الميادين، وتحمل الفتاة ما تلقاه في ذات الله -عز وجل- إلا إذا خشيت على نفسها الفتنة، ورأت أنها تسير إليها فعلاً؛ لضعف إيمانها، أو قوة الدوافع الغريزية لديها، أو ما شابه ذلك، فحينئذ السلامة لا يعدلها شيء.
ويجب أن تظل الدعوة هاجسًا قويًا للأخت مع كل الأطراف، فلا تعين الشيطان على أخواتها الأخريات، فحتى تلك التي يبدو فيها شيء من الجفوة في حقها، أو الصدود عنها، أو سوء الأدب معها، يجب أن تتحمل منها، وتتلطف معها، وتضع في الاعتبار أنها من الممكن أن تهتدي، والله تعالى على كل شيء قدير: (إنك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).
3- أن يسعى الدعاة والتجار والمخلصين جاهدين إلى إقامة مؤسسات إسلامية أصيلة نظيفة مستقلة لتوفير البيئة المناسبة.. فلم يعد مستحيلاً إنشاء مستشفى نسائي خاص، ولم يعد مستحيلاً إقامة أسواق نسائية خاصة؛ بل هي موجودة بالفعل، ويجب أن تطوّر وتوسع، ولم يعد مستحيلاً إقامة مدارس نسائية خاصة، وليس من المستحيل إقامة جامعات خاصة بالنساء في هذا البلد وفي كل بلد.
وقد رأيت بعيني جامعات تضم ألوف الطالبات في قلب أمريكا، ليس فيها طالب واحد على الإطلاق، مع أن دينهم ليس هو الذي أملى عليهم ذلك، ولكنهم رأوا في ذلك مصلحة ما.
ثالثا، عدم التجاوب من الأخريات:
من العقبات التي تواجهها المجتمعات الدعوية النسائية، عدم التجاوب من الأخريات من النساء، ورفض بعضهن للدعوة.
وبدءًا أقول: هذه الأمة أمة مجربة، فلست أنت أول من دعا؛ وإنما دعا قبلك كثيرون وكثيرات، وكان التجاوب كثيرًا وكبيرًا، والكفار الآن يدخلون في دين الله أفواجًا، فمن باب أولى أن يستجيب المسلمون لله وللرسول إذا دعوا إلى ما يحييهم.
* وأرى أن أسباب عدم التجاوب تنقسم إلى:
أ- أسباب ترجع إلى المدعوة نفسها:(15/49)
وذلك كأن تكون شديدة الانحراف، أو طال مكثها في الشر وأصبح خروجها منه ليس بالأمر السهل، وأصبحت جذورها ضاربة في تربة الفساد، أو صعوبة طبعها وعدم ليونتها ووجود شيء من العناد لديها، وقد يكون ذلك راجعًا لوجود قرينات سوء يدعينها إلى الشر.. وهذا كله يمكن أن يعالج بالصبر وطول النَّفَس، والأناة، وتكثيف الجهود، وربط هذه الفتاة ببيئة إسلامية جديدة تكون بديلاًَ عن البيئة الفاسدة التي تعيش فيها، وقد يكون عدم قبولها للدعوة؛ بسبب كبر سنها كما مرَّ، فيعالج ذلك بالوسائل المناسبة.
ب- أسباب ترجع إلى الداعية نفسها:
مثل عدم استخدامها الأسلوب المناسب الذي يتسلل إلى قلب المدعوّة ويؤثر فيها، وقد يعود ذلك إلى غلظتها وقسوتها، أو شدة تركيزها على أخطاء الآخرين، أو شعور الأخريات بأن الداعية تمارس نوعًا من الأستاذية أو التسلط عليهن مما يحرضهن على مخالفتها ومعاندتها؛ لأنهن يرين عملها هذا مسًّا للكرامة أو جرحًا للكبرياء، والشيطان حاضر يؤجج في الفتاة مشاعر الكبرياء والعزة، فترفض الدعوة ولا تقبلها.
* أما علاج هذه العقبة، فيمكن طرحه في الأمور التالية:
- أن تحرص الفتاة الداعية على استخدام أسلوب الالتماس، والعرض، والتلميح، دون المواجهة كلما أمكن ذلك، وألا تُشعر الأخريات باستعلائها عليهن أو أنها فوقهن، ولا تشعرهن بالأستاذية أو التسلط عليهن.
- العناية بشخصية المرأة: عقيدة، وثقافة، وسلوكًا، ومظهرًا، ومخبرًا، دون إهمال الأمور المعنوية المهمة والأساسية، بسبب الاشتغال بالقضايا المظهرية فحسب.
ومع الأسف، فإن 90% من الأسئلة التي تصلني، لا تكاد تتجاوز شعر الرأس إلى أكمام اليدين، أو حذاء القدمين!!
أين عقيدة المرأة؟! أين أخلاقها؟! أين معرفتها بعباداتها؟! أين معرفتها بالصلاة، بالصيام، بالحج؟! أين معرفتها بحقوق الآخرين؟! أين.. أين..؟!
- عدم تتبع الزلات والعثرات، فما من إنسان إلا وعليه مآخذ وله زلات، وليس من الأسلوب التربوي التركيز على ملاحظة الزلات، فقد كان رسول ا صلى الله عليه وسلم يثني أحيانًا ويمدح الإنسان بخصال الخير الموجودة فيه، وكتب المناقب في البخاري، ومسلم، وكل كتب السيرة مليئة بمثل ذلك، فيثني على الإنسان بخصال الخير الموجودة فيه حتى ينمو هذا الخير ويكبر، وحتى يقتدي به الآخرون في ذلك، وليس من شرط ذلك مدح الإنسان بشخصه فقط، ولكن مدح الفئة، أو الأمة، أو الطائفة بالخير الموجود فيهم، يدعوهم ذلك إلى مزيد من الخير، وإلى التغلب على خصال النقص الموجودة لديهم.
ولا يمنع هذا أن يُلاحظ على الفتاة أحيانًا شيء من النقص، فتُنصح به في رسالة، أو حديث أخوي مباشر، أو مكالمة هاتفية… أو غير ذلك، لكن لا يكون هذا هو الأصل؛ بل يكون أمرًا طارئًا، حدث لوجود غلط معين.
- عدم محاصرة المرأة المخطئة أو المقصرة، أو المسارَعة في اتهامها، فنحن لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس، ومالنا إلا الظاهر؛ ولسنا مغفلين بكل تأكيد، لكننا لا نطلق لخيالنا العنان في تصور فسادٍ مستورٍ أمره إلى الله تعالى، إن شاء عذَّب وإن شاء غفر، والله تعالى يقول: (رحمتي سبقت غضبي)، فأحيانًا يتصور الإنسان فسادًا ويغلب على ظنه أنه واقع، لكن ليس هناك داعٍ للبحث عن حقيقته مادام أمره مستورًا ليس عندك أدلة عليه ولم يظهر لك، وما ظهر منها من شيء أخذناه به؛ وقد يتبين لك فيما بعد أن ما كنت تظنينه لم يكن صحيحًا وأن الأمر كان بخلاف ذلك.
وبين اليقظة وسوء الظن خيط رفيع، فبعض الناس عنده تغفيل، والتغفيل مذموم، قد يرى الفساد فيتجاهله ويتغافل عنه؛ لكن ينبغي أن يكون الإنسان يقظًا واعيًا مدركًا، وفي نفس الوقت يجب ألا يسيء الظن بالآخرين
===============(15/50)
(15/51)
بين التقليد والتجديد
د.عدنان علي رضا النحوي 4/7/1424
01/09/2003
لقد اختلطت المصطلحات في واقعنا اليوم ، واختلطت دلالاتها ، وزاد الأمر سوءاً ما طرحته الحداثة والعلمانيّة ومذاهبها من مصطلحات ومواقف غذّاها الإعلام كثيراً ، وبخاصة الإعلام الغربي بأشكاله المتعددة ووسائله المتنوعة ، حتى بدا كأنه طوفان ! .
ظهرت مصطلحات : الأَصالة ، المعاصرة ، التقليد ، التجديد ، التطور ، النمو ، وغير ذلك من المصطلحات التي ظلّت " عائمة " لا تحمل معنى محدَّداً ، أو تحمل معاني مختلفة ، كل معنى يمثِّل طائفة ، يدور بيْنها الصراع .
منذ القرن التاسع عشر أخذت تظهر بوادر هذا الغزو . ونشأت طائفة تدعو إلى تبعيّة كاملة للغرب : فكراً وسلوكاً وعادات ، أدباً واقتصاداً وسياسة . وظهر ذلك في مرحلة كان المسلمون فيها ضعفاء ، فأثر الغزو فيهم تأثيراً كبيراً ، وظلّت المصطلحات تتردّد في تناقضاتها أو تغيب عائمة دون وضوح.
ما المقصود بالتقليد ؟ ! وإذا كان هناك تقليد فتقليد مَنْ ؟ ! وما المقصود بالتجديد ؟ ! وإذا كان هناك تجديد فما نهجه ؟ ! وما ميدان التقليد والتجديد ؟ ! هل هو محصور في شكل القصيدة العربيّة ؟ ! هل هو في ميدان الشعر فحسب ؟ ! هل هو في ميدان الأدب كله ؟ ! هل هو في الفكر كله وفي السعي والعمل ؟ ! وما ميزان ذلك ؟
العالم انطلق في أجواء الفضاء يشقُّها ، ورمى بيننا ما يشغلنا عن حقيقة النمو والتطور والتجديد . شُغِلنا قرابة قرنين بمثل هذه القضايا حتى أصبح التجديد يعني " التبعيّة العمياء " للغرب في قضايا لا تبني مستقبل الأمة . كلُّ الصراخ والدويّ من أجل اتباع الغرب أورثنا نماذج الملابس وقشور الفكر واضطراب الرؤية . والعجيب العجيب أننا لم نحرص على أن يكون التجديد هو إعداد القوة ونمو الصناعة وامتلاك أسبابها ، حتى ظل العالم الإسلامي بصورته العامة واهياً متخلفاً لم يسعفه شكل القصيدة ، ولا ما يسمى بالشعر الحرّ ، ولا التفعيلة ، وإنما زادت الخلافات حول هذه القضايا ، وبقى المسلمون في وهن وهزائم وخذلان !
قبل أن نحدّد موقف الأديب أو الشاعر أو المفكر من التجديد أو التقليد يجب أن نحدّد ما المقصود بالتجديد والتقليد ، وأن نحدّد ميزان ذلك ومراجعه .
أهل الحداثة اتّبعوا مذاهب الغرب العلمانيّ وحداثته ، واعتبروا ذلك هو التجديد . اتبعوه في تبعيّة عمياء ، حتى في ما يخالف الإسلام صراحة . وحاربوا كل قديم في أمتنا بنصوص صريحة ، ومن بينها الدين واللغة ! وأعلن بعضهم كلمة الكفر صريحة مدوّيّة . ولكنهم استثنوا من القديم كله أساطير اليونان وخرافاته التي ظلت تمثل محوراً في أدبهم وفكرهم ، وفي الفكر الغربي العلماني .
ولقد أثر هذا الاتجاه في واقعنا ، حتى أصبح بيننا من يدّعي محاربة الحداثة ولكنه في حقيقة أمره تابع لها ناشر لمذاهبها .
ولا أدلّ على ذلك مما يسمى بالشعر الحرّ ، الذي وفد إلينا من الغرب ، من العلمانيّة ـ من الحداثة ، مصطلحاً وشكلاً وأسلوباً . وظل الحداثيون يدعون إليه بإصرار ، حتى تبنّاه بعض الشعراء دون توافر حجّة من علم أو دين أو مصلحة .
لا شكّ أن هؤلاء ليسوا بمجدّدين ولكنهم مقلّدون ، قلّدوا الحداثة ، قلّدوا العلمانيّة ، قلّدوا الغرب الذي يدّعون محاربته ، ثم يتبنّون أفكاره ومذاهبه . أخذوا عن الغرب القشور وأسوأ ما لديه ، أخذوا عنه ما نحن لسنا بحاجة إليه ، وما لا يزيدنا قوّة وعزيمة ، ولا يسدُّ فراغاً في واقعنا . ولم يأخذوا العلم الذي نحن بحاجة إليه ، ولا الصناعة ، ولا السلاح ، وبقينا عالة على الغرب العلماني الحداثي في أخطر ما يحتاجه الإنسان ، ولم يُقدِّم لنا ما يسمّى بالشعر الحرّ ولا شكل القصيدة أيّ إسعاف . وظل هذا الحال منذ قرنين حتى يومنا هذا والغرب يفرك يديه فرحاً بنجاحه بإشغالنا بقشور الحياة ، وصَرْفِنا عن أسباب القوة والعزيمة ، والنهوض والوثوب ، والإفاقة واليقظة ، وكأنه صبّ في عروقنا خدراً انساب وتسلّل ، وأخذنا غفوة طويلة بين دوىّ الأحلام ، وهتافات الغيبوبة . لقد وضحْتُ رأيي في ذلك كله بصورة جلية في دراسات متعددة منها : المسلمون بين العلمانيَّة وحقوق الإنسان الوضعية ، الحداثة في منظور إيماني ، تقويم نظرية الحداثة ، الأسلوب والأسلوبية بين العلمانيّة والأدب الملتزم بالإسلام ، الشعر المتفلّت بين النثر والتفعيلة وخطره ، الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ، النقد الأدبي المعاصر بين الهدم والبناء . وكتب أخرى .
الذين يُسمَّون بالمجدّدين اليوم هم في الحقيقة يمثلون أسوأ أنواع " التقليد الأعمى " هم قلّدوا الغرب في شكل القصيدة وما جدّدوا من أنفسهم شيئاً ، حتى إنهم سطوا على المصْطَلحات والمعاني وادّعوها لأنفسهم ، وكما يقول د . المسدي ما معناه : لو قام أصحاب الحداثة الغربية من قبورهم ورأوا كيف أنهم فقدوا حق " الريادة " حين نُسبت إلى غيرهم ، لأسفوا وغضبوا لذلك !
كل مظاهر التجديد التي يتغنى بها الكثيرون في واقعنا اليوم هي " تقليد أعمى " وتبعيّة عمياء لم تعطِ الأمّة أي خير ولم توفّر لها أيّ قوة .(15/52)
من المؤسف حقّاً أن نرى التجديد محصوراً في شكل القصيدة ، وأن نرى أن أسس لغتنا وأدبنا الثابتة أصبح اتباعها يسمى تقليداً سيِّئاً .
هذه كلمات تمهيديّة سريعة لابد منها قبل طرح التصور للقضايا موضع البحث .
أومن أن الجهد البشري يجب أن يكون نامياً في الحياة الدنيا ، متطوراً مع الحياة وأحداثها . وأومن أن النمو والتطور يجب أن يكونا قائمين على أسس ثابتة راسخة وجذور عميقة لا يمسها التحوير ولا التحريف . ذلك لأن هذه الأسس هي مصدر القوّة لكل نمو ، وهي النبع الفياض الذي يظلّ يروي كل عطاء نامٍ متطور . [ تقويم نظرية الحداثة : الباب الثالث الفصل الرابع ] .إن الأمة التي لا أسس راسخة لها تظل تتيه في عواصف وظلمات وزخارف ، لا تقدّم للبشرية إلا الفتنة بعد الفتنة والفساد بعد الفساد والظلم بعد الظلم والفجور بعد الفجور .
"التجديد " يجب أن يكون ذاتيّاً ، نابعاً من جوهر الأمة ورسالتها ونهجها . التجديد يجب أن يهب الأمة قوة وعزيمة ، ويسدّ حاجة أساسية في نموها " التجديد "يجب أن يكون له هدف واضح . وبالنسبة لنا نحن المسلمين يجب أن يكون الهدف ربانيّاً ، لأننا أمة تحمل رسالة أُمرتْ أن تبلّغها للناس كافة .
" التجديد "يستفيد من التجارب البشريّة بما يدخل في حاجة الأمة ليزيدها قوة وعزيمة وعزة ، لا ليشغلها عن عظائم الأمور ، ويرميها بسفسافها.
وأضرب مثلاً لمفهومين مختلفين للتجديد والنمو والتطور . فلو نظرنا إِلى شجرة طبيعيّة تحمل الورد الذي يتجدَّد مع الأيام في موسمه ، فالورد ينمو من الشجرة نفسها ، من جذورها وأَغصانها وأوراقها ، ومن تربتها وريّها ، وما تلقاه من جهد وعناية . هذه العوامل كلها تعمل لتخرج الوردة في أجمل صورها آية من آيات الله . أفنقول عن هذه الوردة ومثيلاتها إنها شيء قديم ، إنه تقليد ، نريد أن نبحث عن جديد ؟ ! نعم ! هذا ما اتجهت إِليه مذاهب الحداثة . فهذا " مايا كوفسكي " زعيم الحركة المستقبلية يدعو الشمس لتنزل إليه وتشرب معه كوباً من الشاي ، كل ذلك كي يعيق شروقها وغروبها الأبديين.
كلما تفتّحت الوردة على شجرتها كان ذلك تجديداً ، يبعث الجمال بأحلى صورة على سنن الله الثابتة ، تتجدد الحياة معها . وانظر إلى هذه الصورة الرائعة يعرضها لنا كتاب الله ليبيّن لنا كيف تتجدّد الحياة وكيف يكون التجديد:(..وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربَت وأنبتت من كل زوج بهيج) [الحج :5]
هذه الوردة الطبيعية ، لا تمثل التقليد كلما طلعت ، وإنما تمثل التجديد بأعظم صوره ، آيةً من آيات الله . فلو جاء أحدهم وقطع الوردة وألصق مكانها وردة صناعية بعد أن غير تنسيق أوراقها وغيَّر عددها حتى ذهب جمالها الأصلي ، أفنقول إِن هذا تجديد ؟!
فشعر التفعيلة أَشبه بهذه الوردة التي تَغَيَّر عدد أوراقها كما تَغَيَّر عدد التفعيلات ، وتَغَيَّر تنسيقها ، وذَهب عبقها الأصلي ، كما ذهب في شعر التفعيلة النغمة العبقريّة التي بنتها آلاف السنين.
أفتكون هذه الوردة المصطنعة تجديداً،والوردة التي أنبتها الله تقليداً وشيئاً قديماً ؟ !
إن الشعر العربيّ نما بصورة طبيعية خلال آلاف السنين ، ترعاه سنن الله في الحياة كما ترعى اللغة العربيّة بجميع خصائصها ، حتى إذا نزل بها الوحي الكريم كانت قد اكتمل نضجها وبناؤها ونسيجها ، وثبتت جميع خصائصها نثراً وشعراً ، حتى يتيسّر للناس تدبُّر منهاج الله في جميع الأجيال وجميع العصور ، وحتى يتيسّر للعلماء اكتشاف خصائصها الثابتة من نحو وصرف ، وبلاغة وبيان ، وعروض وبحور.
وكيف يكون اتباع هذه الخصائص في اللغة العربية تقليداً ، واتباع الغرب العلماني تجديداً . إن التفعيلة والنثر تقليد لا إبداع فيه ، وتبعيّة لا تجديد فيها.
ولو أجزنا العدوان على الأوزان والقوافي تحت شعار التجديد ، لجاز عندئذ عند بعضهم المطالبة بتغيير أسس البلاغة والبيان كذلك . وهذا ما تطلبه الحداثة ، ولجاز كذلك المطالبة بتغيير قواعد النحو والصرف والأحرف والكتابة ، وهذا ما تسعى إِليه الحداثة ، وما يسعى إليه كثيرون بإلحاح.
إِنّ النصّ الأدبي حين يتولّد في فطرة الأديب المسلم بتفاعل القوى المغروسة في الفطرة حسب ما توضحه " نظرية تولد النصّ الأدبي"وحسب " قانون الفطرة (1)التي تخرج منه هذه النظرية ، حين يتولد النصّ على هذا النحو لا يمكن أن يكون فيه تقليد . كل نصّ يخرج عندئذ كما تخرج الوردة على شجرتها.
الشاعر المسلم الذي ينشأ بين الكتاب والسنة واللغة العربيّة ، الشاعر الذي وهبه الله موهبة الشعر لتطلق التفاعل في فطرته ، تكون كل قصيدة عطاءً جديداً ، يظل يتجدَّد كما تتجدّد الوردة والزهرة والثمرة . فكيف يكون تقليداً ؟ !
" التقليد " تعبير عن عطاء جاف ميّت لا حياة فيه ولا يتجدّد . " التقليد " تعبير عن عطاء لا موهبة فيه ، ولا يكون ثمرة تفاعل في ذات الشاعر أو الأديب.
قانون " الفطرة ونظريَّة تولّد النصّ الأدبي " يقومان على الآيات البينات والأحاديث الشريفة التي تبيّن لنا أن كلّ إنسان يولد على الفطرة ، وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه.(15/53)
وقد غرس الله برحمته وحكمته ميولاً وغرائز وقوى في الفطرة . وأهم هذه القوى " الإيمان والتوحيد " ، وكأنّ هذه القوة تمثل النبع الصافي الذي يروي سائر القوى ريّاً متوازناً حتى تقوم كل قوة أو ميل أو غريزة بالمهمة التي خلقها الله لها . فإن لم يتمّ الريّ المتوازن بسبب الآثام ، أوإذا انقطع بسبب ذلك ، فلا تقوم هذه القوى بمهمتها . ومن ناحية أخرى فإن هذا النبع الصافي للإيمان والتوحيد يقوم بتصفية ما يدخل الفطرة من زاد الواقع الخارجي ، من علوم وخبرة وغير ذلك ، حتى يظل هذا الزاد في فطرة المؤمن نقياً . والنيّة الخالصة لله هي التي تفتح نبع الإيمان والتوحيد ليروى القوى والميول والغرائز بالريّ المتوازن . ومن القوى في الفطرة قوتان كأنهما قطبان هامّان هما : الفكر والتفكير ، والعاطفة والشعور . وعليهما تستقرّ شحنات الزاد من الواقع ، كما تستقرّ الشحنات على قطبين مغناطيسيين . وتنمو هذه الشحنات مع نموّ زاد الواقع ، حتى تأتي لحظة يحدِّدها قدر الله ، تصبح الشحنات على القطبين قابلة للتفاعل ، فتأتي الموهبة التي يضعها الله فيمن يشاء من عباده ، فتشعل التفاعل ، وينطلق العطاء شعلة حيّة غنية على قدر صفاء الإيمان والتوحيد وإخلاص النية ، وعلى قدر الزاد الذي يكوِّن الشحنات ونوعه ومادته.
إن العطاء الذي يخرج من هذا التفاعل في ذات الإنسان لا يمكن أن يكون تقليداً ، لأنه غنيّ بالحياة التي تتجدّد مع كلّ عطاء. إنه التجديد الممتد والإبداع الغني على قدر غِنى العوامل التي ولدته : الإيمان والتوحيد ، النيّة ، التفكير ، العاطفة ، زاد الواقع وأهمه منهاج الله ، الموهبة.
ولو أخذنا قصائد الشعراء المجيدين المبدعين قديماً وحديثاً ، ممن تخرج قصائدهم محافظة على الوزن والقافية ، لوجدنا أنّ كل قصيدة موضوع جديد ، وصورة جديدة ، وحركة جديدة ، إنها شيء جديد زادها الوزن والقافية لألأة وجمالاً ولذلك جاءت قصيدتي:
لآلئ الشعر أوزان وقافية
التقليد مهمّة من لا يملك عناصر العطاء المتجدِّد ، العناصر التي تولّد عطاءه وتطلقه من ذاته ، نابعاً من ثوابت عناصره وزاده ، من جذور عميقة في الفطرة ، لا يشوّهها ولا يحرفها . المقلّد هو من لا يملك إلا أن يبحث عن هذا وذاك ليقلّده ، أو عمّن يظنهم الأقوياء فيخدع بهم حتى يكتشف أنهم المنحرفون الضالون المجرمون ، فيُشغَل بقشورهم وزخرفهم الكاذب ، ويخفون عنه جوهر القوة وحقيقة الإِبداع. (1) -" الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته ": الباب الثاني ـ الفصل الأول. " النهج الإيماني للتفكير" الباب الرابع ـ الفصل الثاني
==============(15/54)
(15/55)
الصّفقة الخاسرة
أ. د. عماد الدين خليل 15/3/1426
24/04/2005
تعود "قضية" المرأة في العقدين الأخيرين لكي تحتل موقعاً متقدماًً في ساحة الصراع الفكري، وتكون واحدة من أكثر المواضيع سخونة في العالم.
قبلها كان الغربيون هم الذين "يغزوننا" بأفكارهم ومعطياتهم وتقاليدهم بخصوص المرأة والأسرة، وكل المفردات المرتبطة بهذين القطبين الأساسيين في الحياة الاجتماعية .. كنا نستورد، وكانوا يصدرون .. وكانت تجارة رائدة أن يظهر في ديارنا مقاولون أو متعهدون كبار يمارسون مهمة الاستيراد هذا بحساب الجملة.. وكانت الصفقات تتم دون معاينة جادة للبضاعة، فكانت تحمل وهي تتدفق على موانئنا الكثير من المزيف والمغشوش الذي سرعان ما انتشر في أسواقنا، وملأها بالبضائع المدسوسة التي ضاعت في غبشها المرأة المسلمة، وتعرّضت الأسرة للاهتزاز والدمار بكل ما تنطوي عليه هذه المؤسسة من قيم تربوية تصنع مجد الأمم والشعوب، أو تقودها إلى البوار.
كانت المرأة والأسرة هناك في ديار الغرب تعانيان من ألف مشكلة ومشكلة فنُقلت إلينا كما لو كانت هي الحل، فكانت خسارتنا مضاعفة على كل المستويات وبكل المقاييس. استبدلنا الأعلى بالأدنى، بمعيار معكوس كان يصور للمتعاملين على أنه هو المقياس المطلوب والضروري في القرن العشرين.
وكانت تغذي المحاولة المعكوسة هذه، وتحرسها، وتمضي بها إلى نهاية الشوط شبكة من السماسرة في عالم الفكر والإعلام والاجتماع، قد يختصمون على كل شيء إلا في هذه.. وكانت الأصوات " المعارضة" التي ترتفع لكي تدين السمسرة الماكرة، تُكبت أو تُعزل، وأحياناً يغيب أصحابها بهذه الحجة أو تلك.
صوت الطهر والنظافة والاستقرار والأمن والتوحد كاد يضيع قبالة أصوات المهرجين الذين أريد لهم أن يدخلوا المضمار، وأن يحظوا بالفوز بأي ثمن.
كانوا يصدرون مشاكلهم عبر موانئ الفكر المفتوحة على مصراعيها، ومن خلال شبكة المستوردين والسماسرة، مخيّلين للمسلمين أن المرأة المسلمة هي التي تعاني من المشاكل والأزمات، وأن الأسرة المسلمة بحاجة إلى تعديل الوقفة الجانحة من أجل كرامة المرأة وحقها الإنساني المشروع في الحياة الحرة الشريفة!! وبهدف تجاوز الهضم والإجحاف والتحقير التي عانت منها عبر القرون.
الاستقرار النفسي، والأمن الأسري، والطهارة الخلقية، والطفولة الآمنة المتوحدة.. أصبحت مآخذ على الحياة الإسلامية، سعى السماسرة إلى استيراد الحلول المناسبة لتداركها .. والحلول كانت سموماً مركزة أطاحت بالاستقرار والأمن والطهارة، ودست في شرايين الحياة الإسلامية: الفساد والعهر والشذوذ والتفكك والخوف والدمار.
ومنذ بدايات القرن الماضي حدثنا المتحدثون والكتاب عن حدث يحمل دلالاته العميقة في هذا المجال. لقد كانت (اسطنبول) عاصمة الخلافة الإسلامية واحدة من أنظف مدن
العالم في مجالات العلاقة بين الرجل والمرأة، فلما دخلها الغربيون تحت مظلة الإصلاح والتحديث .. لمّا غزتها قوانين (بونابرت) الوضعيّة وأبعدت مفردات الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً.. لما أخذ الطلبة الأتراك يذهبون إلى عواصم الغرب ويرجعون بالشهادات
أو بدونها .. بدأ الطفح الأحمر يظهر على جلد (اسطنبول) .. والزهري والسيلان وكل السموم الجنسية المدمرة تتسرب في شرايينها. ويذكر (شمتز دوملان) في كتابه (الإسلام) أنه " عندما (غادر الدكتور مافرو كور داتو) الأستانة سنة 1927 م إلى برلين لدراسة الطب لم يكن في العاصمة العثمانية كلها بيت واحد للدعارة. كما لم يُعرف فيها داء الزهري وهو السفلس المعروف في الشرق بالمرض الافرنكي، فلما عاد الدكتور بعد أربع سنين تبدّلت الحال غير الحال. وفي ذلك يقول الصدر الأعظم (رشيد باشا) في حسرة موجعة: إننا نرسل أبناءنا إلى أوروبا ليتعلموا المدنية الافرنكية فيعودون إلينا بمرض الداء الافرنكي".
كانت الخطوة الأولى .. الخطوة الضرورية.. وأعقبتها بقية الخطوات .. صار العملاق العثماني الذي دق أبواب فينا، رجلاً مريضاً، وراحت السكاكين تعمل في جسده الممزق، حتى انتهى الأمر إلى قتله تماماً على يد واحد من المحسوبين على جغرافية الإسلام.. وجاء من بعده عشرات القادة لكي يواصلوا المهمة. ومن قبلهم ومعهم، وربما بعدهم، استمرت شبكة السماسرة في دوائر الفكر والثقافة والإعلام والاجتماع تمارس مهمتها المعكوسة، فترفع شعار تحرير المرأة لكي تصل بها في نهاية الأمر إلى التعهير!
عدد ليس بالقليل من النساء الغربيات أنفسهن، كما سنرى، كن يجدن في الحياة الإسلامية.. في جمال المرأة والأسرة والطفولة المثل الأعلى والصيغة المرتجاة للأمن والاستقرار والعطاء والسعادة.. وكن يتُقْن إلى التمتع بعشر معشار ما تتمتع به المرأة(15/56)
المسلمة. وأغلب الظن أن عدداً من القراء والمتابعين لا يزالون يذكرون، من بين وقائع كثيرة، ذلك المؤتمر النسائي الحاشد الذي نظمته وزيرات المرأة والأسرة في الحكومات الألمانية الإقليمية عام 1991 م والذي كان بمثابة تظاهرة نسائية رسمية ضخمة استهدفت تأكيد دور المرأة في المجتمع الألماني، وقد طالبت النساء في المؤتمر بالحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وخاصة بالنسبة لاحتفاظ المرأة الألمانية باسم والدها بدلاً من إجبارها على حمل اسم زوجها. وحيّت النساء المحتشدات قرار المحكمة الدستورية في ألمانيا (الاتحادية) الذي أقرت فيه بعدم حتمية قيام المرأة بحمل اسم زوجها، وأنه لها الحق في الاحتفاظ باسم والدها إن أرادت ذلك.
قبل ذلك بحوالي العقدين من الزمن كانت الساحة الإيطالية قد شهدت هجوماً مضاداً آخر في مواجهة الميل بالمرأة والأسرة عما أراده لها الله سبحانه .. تلك الضغوط المتواصلة في البرلمان الإيطالي .. على بعد خطوات من الفاتيكان زعيمة الكاثوليكية في العالم .. والتي تزعمها أشد البرلمانيين ليبرالية، من أجل إقرار حق الطلاق للرجل الإيطالي، بعد حجبه القرون الطوال.
بل إن بعض النسوة الغربيات انتمين إلى الإسلام من أجل أن يذُقْن التجربة ويبعدن عن مواطن التفكك والرذيلة والعفن والقلق والسعار الذي يحكم حياة المرأة الغربية، حتى لم تعد الكثيرات منهن يأمن على أزواجهن من المعاشرة اللاشرعية، ولم يعد الأزواج أنفسهم يأمنون على الذراري والأبناء، ويضمنون انحدارهم من الأصلاب!
هذا كله يتسرب بدعاوى السماسرة الذين أطلقوا على أنفسهم دعاة تحرير المرأة.. يتسرب إلى حياتنا فيستبدل الذهب بالتراب، ويكون هذا الذي كان ..
وليس ثمة أمة كهذه الأمة المسماة تجوّزاً " بالإسلامية " تجهل كل فن مجدٍ في صيرورة الحياة وتناميها، ولكنها تحذق فن هدر الطاقة، والتفريط بعناصر التميّز والتفوّق، واستبدال الغالي بالرخيص.
في سياقات عديدة تمّت الصفقات الخاسرة في التاريخ الحديث والمعاصر لهذه الأمة .. في مجال الاقتصاد والسياسة والحرب والعلم و الأخلاق.. وهاهنا في سياق المرأة والأسرة، كان القانون نفسه يعمل عمله بوساطة جيش من السماسرة وأدعية التقدّميّة والتحرر، لكي يفرط بواحدة من أكثر الحلقات في الحياة الإسلامية تميّزاً وتفوقاً، ويحلّ محلها: التفكك والعفن والرذيلة والخراب والشذوذ والزهري والسيلان.. وأخيراً الإيدز الذي بدأ يدق الأبواب.
هذا كله كان، ولا يزال قائماً حتى اللحظات الراهنة في ديارنا، رغم أنه حوصر إلى حد كبير بقوة معطيات الصحوة الإسلامية ومطالب الفطرة البشرية التي تميل إلى الطهر والعفاف والنظافة والاستقرار، والتي لن تحظى بتحققها المأمول إلا في إطار هذا الدين.
ألا أن المفاجأة التي حدثت، فيما لم يكن أحد يحسب له أيما حساب، إن المكر السيئ حاق بأهله، وتلك هي واحدة من سنن الله سبحانه في خلقه. وليس المقصود هنا حشود السماسرة الذين مرّروا العملية؛ فهؤلاء ليسوا بأكثر من أدوات أو آلات للتوصيل.. وإنما الحياة الغربية نفسها التي أخذت تتلقى الهجوم المضاد في قضية المرأة.. في عقر دارها.. عبر العقدين الأخيرين على وجه الخصوص. وأصبح هذا "الغزو" إذا صح التعبير، أو الهجوم المضاد، يمثل بمرور الوقت هاجساً ملحاً في دوائر الحياة الغربية على مستوى السلطة والمجتمع، وأخذ يتصاعد حتى كاد يدفع بعض القيادات الغربية إلى تجاوز ما يُسمى هناك بالثوابت الديموقراطية من أجل وقف الظاهرة التي أخذت تهدّد الحياة الغربية، على ما تصوّروه هم بحكم التقاليد الفكرية والسلوكية وضغط الأعراف والمسلمات الخاطئة القادمة من عمق الزمن الأوروبي.
أمامي الآن مقال للمفكر الفرنسي (برنارسيشير) بعنوان "الحجاب العرب .. ونحن" ينطوي على بعض المعطيات المهمة، وهي تمس كما يبدو من العنوان، إحدى الحلقات المهمة في موضوع المرأة المسلمة، ولا أقول قضيتها، ألا وهو (الحجاب).. فها هو الحجاب يقتحم العري الفرنسي.. التهتك الباريسي المعروف، ويفرض حضوره في قلب المجتمع.. فكيف كانت رؤية الفرنسيين أنفسهم للظاهرة؟ كيف كانت ردود الأفعال؟
حين تحجّبت بعض الفتيات في (الليسيه) يقول (سيشير)، تحركت الطبقة السياسية، وراح يدلي كل بدلوه حول الاحترام الواجب تجاه بلد الضيافة، وهو يقصد ضرورة احترام التقاليد الفرنسية من قبل أولئك الغرباء الذين قبلتهم فرنسا ضيوفاً عليها، بغض النظر عن القيم الأخلاقية لهذه التقاليد، حتى إن أحد الوزراء هدّد باتخاذ موقف، واجتمعت أخيراً الهيئة الدستورية، في حين كاد يعلن بعض المثقفين - جهاراً - أن الوطن العلماني في خطر!(15/57)
ويمضي (سيشير) إلى القول بأنه مهما بلغت قدرة عملاء العروض المشهدية على التلاعب والتأثير - وهم لم يترددوا في ممارستها بوقاحتهم المألوفة - فإن حادثاً كهذا لا يكتسب مثل هذه الأهمية ولا يثير مثل هذه الأصداء، إلا إذا كان يمس الطبقات العميقة من الوعي الاجتماعي. وبما أن من تحرّك هذه المرة ليس من أتباع (الساسة الفاسدين)، وإنما من المفكرين اللامعين الذين اجتاحتهم فجأة موجة من الغضب المفرط.. فيجب أن نبحث عن الدوافع البعيدة.. إنها أعراض (بواتييه) المرضية!
إذن فإن تراكمات التأريخ والعمق الصليبي للمثقف الفرنسي الذي لا يزال يتذكر محاولة الاقتحام الإسلامي للأرض الفرنسية وهزيمته عند (بواتييه)، هي التي تستفز في تحليل (سيشير) العقل الغربي لمجابهة ظاهرة الحجاب الإسلامي، حتى لو أدّى الأمر إلى
خرق الثوابت الديموقراطية وضرورات "التسامح وجمال الاختلاط العرقي" التي يدّعيها الفرنسيون. ويبدو لي - يقول سيشير -: إن أعراض (بواتييه) المرضية إنما تشهد على جهلنا العميق بحقائق الإسلام كما تشهد في الوقت نفسه على عودة غريبة للمكبوت تجعل
العربي (المسلم بالأخص) يحل وقتياً محل اليهودي في الاستيهام العنصري والمتوتر لغيريّة AL te r oite )) قوية تنذر وتهدّد.
إنه "النسيان المذهل" و "النفي المجنون" كما يعبر (سيشير)، لأفضال الحضارة الإسلامية على الغرب"، وإذا كان العرب قد بهروا ذاكرتنا القديمة وأربكوها إلى هذا الحد ، فذلك لأنهم كشفوا عن قدرتهم على ابتكار الحضارة الأكثر ألقاً وغنى ، عندما كنا لا نزال نحن في طور التخلف، وقد لعبت الكنيسة المسيحية، في إطار هذا الكبت الكبير، دوراً لا تُحسد عليه أبداً، وآن الأوان لكي تعترف بذلك خصوصاً وأن مذهبها ما كان ليتكون لولا أن سلبت الكنز النفيس الذي وصلها من الفكر الإسلامي، ثم عملت على طمس معالمه المدهشة ".
إن الفرنسيين، والغربيين عموماً هم ضحايا التعصب - كما يقرر سيشير - ضحايا تشويه تجعلهم يتصورون أن تأريخهم هو التاريخ الوحيد الممكن، ويجعلهم يسقطون من خلال هذه الأفكار (وعسكرياً من خلال الأفعال) تحديدهم للسياسة على وقائع تاريخية وثقافية تبدو لهم متطرفة لدرجة أنهم يمضون وقتهم في ترسيخ سوء التفاهم.
وبوصفي مدرساً - يقول سيشير - فإنني أتساءل كيف لا ترون أن المشكلة الملحة ليست الحجاب، وإنما الانهيار العام لثقافة لا تعني رجال السياسة عندنا؟" وتقولون: إنكم تريدون حماية هُويّة؟ وأية هُويّة؟ ولأن الجواب لن يكون سهلاً فمن الأفضل فتح باب المناقشة والانحياز إلى الفكر وليس إلى الخوف!
" لقد أحالتنا الحيوية الدينية الإسلامية فجأة، إلى وعي مخيف، ولقد عبّر عنها بعض المثقفين المستنيرين من خلال ردود فعل مرعبة وتشنّجات غير عقلانية"
هذا بعض ما يخلص إليه (سيشير) وهو يعالج ردود الفعل الفرنسية تجاه ظاهرة الحجاب في سياق الموقف المسيحي العام من خلال الظاهرة الإسلامية ببعدها الديني وعمقها التاريخي، وهو موقف لا يعكس فكر أو عاطفة الشرائح الدنيا في المجتمع، أو حتى الساسة (الفاسدين)، ولكن المثقفين والمفكرين اللامعين
============(15/58)
(15/59)
الإسلاميون.. وفخ المشاركة في السلطة
د. محمد مورو 4/4/1426
12/05/2005
بداية فإن فكرة المشاركة في السلطة من قبل أي جماعة سياسية أو اجتماعية أو من أي لون وطيف هي فكرة طبيعية ومشروعة، وكذا فإن هدف الوصول إلى السلطة في حد ذاته ليس هدفاً مجرداً بل هو مشروع ومقبول والحرص عليه ليس عيباً على الإطلاق .
وبالتالي فإن وصول الإسلاميين إلى السلطة أو مشاركتهم فيها هو أمر طبيعي بل أكثر من طبيعي، واستهدافهم لذلك لا يعيبهم بل إن حرمانهم من الوصول إلى السلطة بوسائل متعددة منذ نشأة تلك الحركات كان جريمة ضد الشرعية وضد رغبة الناس وضد مبادئ القانون ـ أي قانون.
وبالنسبة لي، فإنني أعتبر التيار الإسلامي في بلادنا العربية هو الأكثر تعبيراً عن وجدان الناس وعن مصالحهم دون أن يكون له الحق في أن يحتكر الإسلام طبعاً أو يقصره على نفسه، ومن هنا فإن وصوله إلى السلطة هو هدف نبيل .
وأعتقد أن الحركات الإسلامية هي الامتداد الطبيعي لحركة التحرر الوطني ضد الاستعمار والتي كانت إسلامية الجوهر والسلوك تماماً منذ عمر مكرم وجمال الدين الأفغاني والنديم ومصطفى كامل ومحمد فريد وعبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري وعمر المختار وعز الدين القسام .. الخ، ومن ثم فهي استجابة طبيعية لمواجهة الاستبداد ، وطريقاً للنهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وتجاوز حالة التخلف وتحقيق الحرية والتحرر والعدل الاجتماعي . وهي بحكم تكوينها وبحكم وجدان الناس صاحبة البرنامج الأكثر قبولاً والأكثر قدرة بالتالي على مواجهة التحديات .
ولكن فكرة المشاركة في السلطة أو الوصول إلى السلطة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي إحدى آليات تحقيق برنامج النهوض الشعبي الإسلامي المنشود، وبالتالي فهي مرتبطة بمجموعة العوامل الداخلية والإقليمية والدولية في زمن معين، وهكذا فإن طرح هذه المسائل في الوقت الراهن يقتضي بالضرورة تحليل مجموعة هذه العوامل المرتبطة بالموضوع.
طريق مسدود
على المستوى الداخلي فإن أوضاعنا العامة وصلت إلى حالة من التأزم المزمن في الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ومحاولات النهضة ومشروعات التحرر كلها تقريباً وصلت إلى طريق مسدود، وفشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها، وتحولت بدورها إلى عبء كبير على كاهل الناس والأمة، وعلى مستوى التحديات الخارجية المحيطة "الاستعمار ـ الصهيونية ـ التبعية" كان الفشل ذاته هو سيد الموقف . وإذا كانت الليبرالية قد سقطت منذ عام 1948 ، والاشتراكية عام 1967 ، والحكم العسكري عموماً سقط ولا يزال، وكذا تجارب العلاقات مع أمريكا وقبلها الاتحاد السوفيتي ...الخ ؛ فإن هذا يبرر بحث الناس عن الطريق الإسلامي كحل لم يعد هناك بديل عنه . وهذا يرجح ويزكي فكرة مشاركة الإسلاميين في السلطة أو حتى الحكم منفردين .
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالسماح للإسلاميين بالمشاركة في السلطة أو الوصول إليها ـ وهو الأمر الذي ترفضه القوى الدولية والإقليمية والمحلية النافذة حتى الآن ، هذا السماح ليس برئ المقصد ولا حباً في حل المشكلة ولا إيماناً مفاجئاً بحق القوى السياسية في الوصول إلى السلطة، إنه في رأيي مجرد فخ على أساس أن مشاركة الإسلاميين في السلطة مع وضع ضمانات معينة تجعلهم غير قادرين على تنفيذ برامجهم الحقيقية هو نوع من التوريط لهم وإضعاف موقفهم الجماهيري ومن ثم تحويلهم إلى شيء آخر غير إسلامي "يمين محافظ أو غير محافظ مثلاً في إطار علماني" . وفي نفس الوقت فإنهم وحدهم القادرون على تهدئة الشارع العربي والإسلامي المنفلت والذي تزيده حالات الاستفزاز الديني والقومي والوطني الذي تقوم به الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة ومن ثم يمكنه التحول إلى نوع من المقاومة غير المؤطرة . وهي خطر شديد على الاحتلال الصهيوني الأمريكي ، وهكذا فالهدف من السماح للإسلاميين بالوصول إلى السلطة في ذلك الوقت هو نزع فتيل هذا الخطر ـ وبالتالي فالقبول بتلك المهمة هو أمر خطأ وخطر ولا يمكننا بالطبع أن نعمل مانعة صواعق لصالح الأمريكان .
النقطة الهامة التي ينبغي أن نأخذها في اعتبارنا هنا هي أن العالم أصبح شديد التداخل، وهناك عولمة اقتصادية متوحشة لا تسمح بسهولة بتحقيق أي نوع من التنمية المستقلة وبالتالي عدم القدرة على تحقيق برنامج اقتصادي حقيقي لصالح عموم الناس، وهناك انفراد أمريكي بالقوة في العالم، ومن ثم فإن أي حكومة وطنية مهما كان برنامجها، ومهما كانت كفاءة رجالها وعناصرها غير قادرة على المناورة ، وسوف تخضع في المحصلة لهذا العامل الصعب "العولمة ـ هيمنة أمريكا على العالم"، ومع الأخذ في الاعتبار أننا أمة في حالة هزيمة تكنولوجية، وأن الفجوة التكنولوجية لا يمكن سدها بوسائل تقليدية أو بوسائل مستمدة من نفس طريقة التفكير الغربية في التنمية ، لأدركنا على الفور أن المشاركة في السلطة قد لا تحقق الكثير مما يتوقعه الناس، وفي نفس الوقت قد تحدث نوعا من الانصراف الجماهيري عن المشروع الإسلامي وإحداث نوع من الشوشرة على منطلقاته النظرية .
رأس حربة ضد المشروع الأمريكي(15/60)
والأفضل طبعاً أن تتحول الحركات الإسلامية إلى نوع من حركات التحرر الوطني ـ في المعارضة ـ تكون رأس حربة ضد المشروع الأمريكي الصهيوني، وتفرز وسائل وأطر لتحقيق هذه المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي والصهيوني وأن تشارك بقوة في عملية مقاومة العولمة في مفهومها الاستئصالي للآخر ، وأن تقدم الإسلام كبديل في مواجهة المشروع الإمبراطوري الرأسمالي الإمبريالي، وأن تتحول الحركات الإسلامية بالتالي إلى طليعة لهذه الحركة العالمية وأحد أهم قواها الثورية . وهذا بالطبع يقتضي إعادة هيكلة الحركة وإعادة بناء مستوياتها النظرية والفكرية، هذا من حيث العموم، ومن حيث الخصوص، فإن الحركة الإسلامية في مصر لا يمكنها بالطبع تجاهل هذه النقطة أو السكوت عنها وإلا فقدت مصداقيتها التاريخية، وبديهي أن السماح بمشاركة الإسلاميين في السلطة في تلك الدول لن يكون معتبرا ولا مسموحاً به أمريكياً ما لم يكن هناك ضمان علني أو سري لقبول تلك الحركات بمشروعية إسرائيل حتى ولو في إطار قرار 242 مثلاً، مع عدم السماح لها طبعاً بالتصدي للقمع الإسرائيلي أو المطالبة بالانسحاب إلى أراضي 1967 الخ ... وهو أمر غير أخلاقي طبعاً، لأن عدم الاعتراف بمشروعية دولة إسرائيل هو أحد أهم أسس قيام وانتشار الحركة الإسلامية في مصر وفي غيرها من الأقطار العربية والإسلام
=============(15/61)
(15/62)
فشل آمال الغرب في دمج مسلميهم
نور الإسلام_ 28/2/1428 هـ - الموافق17/3/2007 م_ تحت هذا العنوان كتب جنيف عبدو مؤلف كتاب "مكة والشارع الرئيس.. حياة المسلم في أميركا بعد 11سبمتبر/ أيلول"، مقالا في صحيفة واشنطن بوست يستهجن فيه تسليط وسائل الإعلام الأميركية -وعلى رأسها سي.أن.أن- الضوء على مؤتمر عقده من يصفون أنفسهم بأنهم مسلمون علمانيون بمدينة سانت بطرسبرغ الأميركية، كحركة علمانية جديدة تدعو إلى تصحيح ما تزعم وجوده من أخطاء في الإسلام عبر ما يسمونه "إصلاح الإسلام".
وقال إن أجندة هؤلاء العلمانيين تحظى بالدعم لأنها تعكس الرؤية الغربية لمستقبل الإسلام: إصلاح الإيمان بحيث يتشبع بالقيم الغربية، مشيرا إلى أن مشكلة هذه الوصفة هي أنها بعيدة كل البعد عن الواقع لأنها مبنية على مبدأ أنه إذا تغذى المسلمون على وجبة ثابتة من النفوذ الغربي، فإنهم سيتبنون الحداثة والعلمانية وكل شيء يقدمه الغرب.
غير أن الكاتب دعا إلى النظر في الحقائق التي تنطوي على إحياء الإسلام في العالم على مدى السنوات الـ30 الماضية في الشرق الأوسط وأفريقيا، مستشهدا بارتداء معظم النساء في مصر لغطاء الرأس، فضلا عن ظهور الجماعات الإسلامية على الساحة السياسية. كما أشار إلى أن المسلمين في أوروبا وأميركا الذين يعيشون الحياة الغربية باتوا أكثر الناس اعتناقا للقيم الإسلامية، مضيفا أن عددا كبيرا من المسلمين في بريطانيا يطالبون بإنشاء محكمة على أسس إسلامية.
وخلص إلى أن كل هذه الأمثلة تعني أن الآمال الغربية التي ترمي إلى دمج كامل للمسلمين في الغرب من غير المرجح أن تتحقق، وأن مستقبل العالم الإسلامي هو أنه سيكون إسلاميا أكثر منه غربيا. ولذلك يقول الكاتب إن من الحكمة أن تولي الولايات المتحدة اهتماما أكبر للأغلبية الأقل ثرثرة عوضا عن مناصرة الأصوات المسموعة من الأقلية العلمانية التي تجذب اهتمام وسائل الإعلام.
============(15/63)
(15/64)
العدالة والتنمية تحت مقصلة العلمانية التركية
رضا عبد الودود / القاهرة 25/5/1426
02/07/2005
بنظرة دقيقة على المشهد السياسي التركي يبدو للوهلة الأولى تفاقم الأزمات السياسية والاجتماعية التي تنذر بصيف ساخن لحكومة حزب العدالة والتنمية ، فبين ضغوط أمريكية متلاحقة ضد حكومة أردوغان لمعاقبته على موقفه الوطني من احتلال القوات الأمريكية للعراق ورفضه دخول القوات الأمريكية من الأراضي التركية ، مما دفع واشنطن لتفعيل ورقة الأكراد في الشمال العراقي واستخدام ورقة شرق الأناضول والحدود البحرية مع اليونان والورقة القبرصية وعرقلة جهود الانضمام للاتحاد الأوربي .
ووسط هذه التحديات أخذ البساط ينسحب من تحت أقدام حزب العدالة والتنمية بعد أن فقد الأغلبية المطلقة التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في 3 نوفمبر 2002 عندما استحوذ على ثلثي عدد المقاعد البرلمانية (368 مقعداً من مجموع 550 مقعداً). وهو ما مكنه خلال العامين الماضيين أن يقوم بإجراء تعديلات دستورية واستصدار قوانين جديدة دون الحاجة لاستفتاء عام أو طلب الدعم من أي من الأحزاب داخل المجلس.
الاستقالة من العدالة
وقد بدأت هذه الأزمة الجديدة التي تواجه الحزب الحاكم في التفاقم عندما تقدم 11 عضواً من نوابه بتقديم استقالاتهم خلال الآونة الأخيرة (فبراير ومارس 2005) خاصة أن وزير الثقافة التركي والنائب بالبرلمان "أرجان مومجو" الذي ساهم بشكل فعال في حصول الحزب على الأغلبية المطلقة عام 2002 كان أبرز هؤلاء المستقيلين عن الحزب في 15 فبراير الماضي ليترك علامات استفهام كثيرة حول خروج 20 آخرين على الأقل من النواب عن الحزب الحاكم وتوجههم إلى إعادة إحياء دور حزب الوطن الأم (يمين الوسط) الذي كانوا ينتمون إليه في الماضي القريب بعد عدم تمكنه من الحصول على نسبة 10% من أصوات الناخبين التي تسمح للحزب رسمياً بدخول البرلمان، حيث لم يحصل الحزب إلا على نسبة 5.1% في انتخابات عام 2002، لكن مع تحول أعضائه الأصليين عن حزب العدالة والتنمية الذي دخلوا تحت مظلته في الانتخابات، فقد أصبح لحزب الوطن الأم الآن 6 مقاعد برلمانية، وعلى نفس الشاكلة، فقد انخفض عدد مقاعد الحزب الجمهوري المعارض أيضاً بعد سلسلة من الاستقالات من 178 مقعداً عام 2002 إلى 162 مقعداً الآن، وهو الأمر الذي سمح بدخول أحزاب أخرى للبرلمان مثل حزب الطريق القويم (6 مقاعد) والحزب الديمقراطي الاجتماعي (5 مقاعد) فضلاً عن ارتفاع عدد مقاعد المستقلين من 9 مقاعد إلى 12 مقعداً.
ورغم أن حزب العدالة والتنمية لم يفقد بعد الأغلبية البسيطة (276 مقعداً كحد أدنى)، فإن مجموعة الاستقالات السابقة عن الحزب أصبحت تحتم عليه -بعد انخفاض عدد مقاعده بالبرلمان إلى 357 مقعداً- أن يلجأ للتفاهم مع الحزب الجمهوري المعارض أو يلجأ لحزبي الطريق القويم والوطن الأم كلما أراد إدخال تعديلات دستورية جديدة، وبمعنى أوضح، سيكون مضطراً للدخول في مساومة على كل مشروع تعديل يتعلق بالدستور مع أحزاب المعارضة التي ستطلب المقابل أو ستعوق المشروع.
حرب العلمانية ضد القرآن
كما شهدت الساحة التركية تفاعلات أخرى حيث احتدمت الحرب السياسية الباردة بين ركني الحكم في تركيا القصر الجمهوري ورئاسة الوزراء حالياً لتصل إلى ذروتها بعد إعلان (رئيس الجمهورية) أحمد نجدت سيزار عن معارضته المطلقة لتخفيف العقوبة على تنظيم دورات تعليمية لقراءة القرآن الكريم دون إذن من السلطات وفقاً للتعديل الجديد في قانون العقوبات مقابل ذلك يصر رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان على إدراجها في القانون الجديد . وتتخوف الفئات التي تقف ضد هذا القانون من أن تؤدي دورات حفظ القرآن الكريم إلى صياغة عقول وأفكار تهدد فيما بعد النهج العلماني السائد في البلاد، أما الذين يدافعون عنه ويرفضون وضع شروط على تعليم القرآن الكريم يرون بأن إتاحة التعليم الديني للمجتمع في حد ذاته رمز لتأكيد الممارسة الديمقراطية. وما يزيد مخاوف حزب الشعب الجمهوري أن أنباء تتردد عن خطوة لاحقة تدعو لها أصوات داخل حكومة حزب العدالة والتنمية لتدريس تعاليم الإسلام ضمن مناهج المرحلة الثانوية.
محاولات إلغاء قانون الملابس
وفي ضوء الحرب الباردة الدائرة على الساحة السياسية التركية بين التيار العلماني وحكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي بدت في الأفق انفراجة في محاولات أردوغان إلغاء قانون الملابس الذي يحظر ارتداء الحجاب بإعلان أركان مومجو (رئيس حزب الوطن الأم التركي) التضامن مع رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان للتحرك في البرلمان لوقف قانون حظر الحجاب بدلاً من التوجه إلى الاستفتاء الشعبي لرفع الحظر عن الحجاب، وفق ما اقترحه أردوغان أخيرًا. حيث يملك حزب العدالة والتنمية 356 مقعدًا مقابل 13 مقعدًا لحزب الوطن الأم، بما يعني أن لدى الحزبَين أكثر من أكثرية الثلثين اللازمة لتعديل الدستور وإجراء تغييرات جذرية في بنية قانون التعليم العالي ومؤسسته.(15/65)
ويرجع حظر الحجاب في تركيا إلى عام 1925 عندما صدر قانون القيافة الذي ظهر مع ثورة أتاتورك، وينص على ارتداء القبعة، وإلغاء ارتداء الطربوش والطاقية للرجال،
ويحظر على المرأة العاملة بدواوين الدولة والحكومة والمدرسة والجامعة ارتداء التنورة (الجيب) الطويلة ، وارتداء البلوزة أو الجاكيت أوالبنطال ، وبالتالي أصبح الحجاب بصورته الشرعية مخالفًا لقانون القيافة الذي يعدُّه علمانيو تركيا من الإنجازات والمكتسبات والثورة الاجتماعية التي أتى بها أتاتورك للشعب التركي.
وبموجب هذا القانون تمَّ منع وإسقاط العضوية البرلمانية عن النائبة المحجبة مروة قاوقجي في عام 1999م.كما أن القانون نفسه يحول بين الفتيات التركيات المحجبات والتعليم؛ حيث يحظر عليهن دخول الجامعات والفصول الدراسية وهن مرتديات الحجاب، كما تعاني كثير من زوجات المسئولين المحجبات من الظهور في الحفلات الرسمية التي تستوجب حضورهن مع أزواجهن، خاصةً مع وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي إلى الحكم.
وقد بدأت عملية الانفراج في مناقشة فكرة الحجاب في تركيا مع دخول حزب العدالة إلى السلطة، وتحديدًا عندما شاركت زوجة رئيس البرلمان التركي في مراسم توديع رئيس الدولة أحمد نجدت سيزر عام 2002م وهو متوجه إلى العاصمة التشيكية براغ لحضور قمة زعماء حلف الأطلنطي "ناتو". وحينها قال "بولنت آرينش" رئيس البرلمان التركي: "ليس لأحد الحق في التدخل في شكل ونوع ملابس زوجتي، خصوصًا أن ملابسها ليست ضد القانون أو الدستور"، ولم تكن هذه التصريحات التي أطلقها رئيس البرلمان لتحُول دون التصعيد العلماني في وسائل الإعلام، فقد اهتمت الصحف التركية بالأمر واعتبرته حدثًا ملفتًا، حتى إن الصحافة التركية وصفته بأنه حدث تاريخي يدخل معه الحجاب للمرة الأولى في بروتوكول الدولة التركية العلمانية، خاصةً وأن "بولنت أرنج"- رئيس البرلمان- تولى لمدة 3 أيام بالوكالة مهامَّ رئيس الجمهورية لحين عودة سيزار، وهو ما أثار ردود فعل واسعةً وسط النخب العلمانية في وقتها.
وتكثفت جهود الإسلاميين في تركيا- خاصةً النساء- في مقاومة قانون القيافة، وبدأت ردود فعلهن من التظاهر في الجامعات التي ترفض دخولهن مدرَّجات التعليم بحجابهن وتواصل التصعيد على مستوى القضاء التركي، ثم وصل الأمر إلى التقاضي أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في ستراسبورج بفرنسا عام 2002 للنظر في ملف دعوى طالبتَين تركيتَين مرفوعة ضد الحكومة التركية؛ بسبب منعهما من مواصلة الدراسة لارتدائهما الحجاب، وتقدمت في الوقت نفسه 305 طالبات محجبات بدعاوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وطالبن هيئة المحكمة بإصدار قرار يسمح لهن بمواصلة دراستهن دون إجبارهن على ترك الحجاب.
وبعد دخول حزب العدالة والتنمية- ذي التوجه الإسلامي- أعلن رجب طيب أردوغان أن حزبَه سيطرح مشروعَ قانونٍ لإلغاء قرار منع ارتداء الحجاب في المصالح الحكومية والمؤسسات التعليمية.
============(15/66)
(15/67)
العلاقات الفرنسية العربية في المرحلة القادمة
عاصم سيد 12/4/1424
12/06/2003
- فرنسا حافظت علي ارتباطاتها الغربية ولكن بصوت أكثر انفتاحا على الجنوب وبلدان الكتلة الاشتراكية.
- أي فيتو فرنسي في مجلس الأمن على قرار الحرب الأمريكي كان سيعني ضمنا حدوث "انقلاب " تاريخي في سياسة فرنسا الخارجية مع أمريكا.
- الإرث التاريخي الناجح الذي تركه فرانسوا ميتران ساعد شيراك على رسم ملامح دور فرنسي جديد في العالم بشكل عام،والمنطقة العربية بشكل خاص.
- مستقبل العلاقات العربية الفرنسية لا يؤهلها أن ترتقي لمستوى التحالف؛ لأن فرنسا لها ثوابتها، والقرار لا يملكه العرب.
فرنسا صاحبة تاريخ قديم في الاستعمار، واستعمارها يوصف بأنه الأشرس في فرض الثقافة واللغة الفرنسية، وإحداث التغيير في القيم والمعتقدات الدينة في الدول التي استعمرتها.
ولم تكن الجزائر وحدها هي المثال، ولم تكن دول أفريقيا كذلك هي العنوان، لكن لانتشار اللغة الفرنسية وإنشاء الفرانكفونية واستمرارها رغم تراجع الدور الفرنسي في العالم لحساب الدور الأمريكي أمثلة متجددة.
تراجعت فرنسا استعماريا وضعفت لكنها أبداً ظلت المنافس الاستعماري للغة الإنجليزية والاستعمار الإنجليزي والأمريكي .
وفرنسا أيضا هي الدولة التي عادت للمنافسة الاستعمارية مع الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أسرع من مثيلاتها الأوربيات .
وقد لاحظ المراقبون وغير المراقبين للأوضاع الدولية الأخيرة ميلاً فرنسياً تجاه العرب، وابتعاداً عن الموقف الأمريكي، وأثار الموقف الفرنسي في مجلس الأمن الدولي والرافض للاستخدام الفوري للقوة ضد العراق تساؤلات عديدة تتعلق بمستقبل العلاقات الأمريكية الفرنسية، ومدى قدرة فرنسا العملية على لعب دور قوي ومؤثر في المنطقة العربية .
ولم يكن هذا الموقف هو الأول، ولن يكون الأخير في تاريخ الرفض أو الاحتجاج الفرنسي علي بعض التوجهات الأمريكية، فقد اعتادت فرنسا أن تتميز بمواقفها من الولايات المتحدة منذ عهد الجنرال ديجول .
الميراث الديجولي
وقد حافظت فرنسا عقب تأسيس الجمهورية الخامسة عام 1958 وإطلاق الجنرال ديجول لقطار الوحدة الأوربية على انتمائها للتحالف الرأسمالي الغربي، ولم تنضم إلى أي تكتل أو منظومة دولية من شأنها أن تواجه الولايات المتحدة، فحافظت علي ارتباطاتها الغربية ولكن بصوت أكثر انفتاحا على الجنوب وبلدان الكتلة الاشتراكية، حيث حرصت على أن تتخذ كثيراً من المواقف الاستقلالية عن الولايات المتحدة كالخروج عام 1966 من التشكيل العسكري لحلف الأطلنطي ـ ثم عودتها عام 1995 ـ ورفض إعطاء أسلحة لإسرائيل بعد حرب 1967 ، ولكنها ظلت جميعها مواقف غير انقلابية على ساحة العلاقات الدولية وعلى مستوي العلاقات الأمريكية الفرنسية .
هذه المواقف لم تعن أنها كانت دون جدوى، بل على العكس كثيراً ما ساهمت في تخفيف حدة الإحباط لدى الشعوب العربية من السياسات الأمريكية، ولكنها لم تنجح في وضع مشروع مضاد للمشاريع الأمريكية، سواء بالنسبة لملف الصراع (العربي ـ الإسرائيلي) أو ملف الأزمة العراقية .
و بدأت واشنطن ولندن عدوانهما على العراق بدون غطاء من مجلس الأمن بعد أن سحبا مشروع القرار، وقد كان الفيتو الفرنسي جاهزاً، وأي فيتو فرنسي في مجلس الأمن على قرار الحرب الأمريكي كان سيعني ضمنا حدوث "انقلاب " تاريخي في سياسة فرنسا الخارجية القائمة علي محاولة ترشيد السياسات الأمريكية .
وكان زعماء فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولكسمبورغ قد أعلنوا في بروكسل بعد الاحتلال الأمريكي للعراق قرارهم بتشكيل مقر قيادة عسكرية أوروبية، وخطط إنشاء نواة لوحدة تخطيط وقيادة مشتركة للعمليات العسكرية بمعزل عن حلف الناتو.
مرتكزات أساسية في السياسة الفرنسية
إن الرئيس الفرنسي (جاك) يكرر كثيراً أنه لابد أن تكون السياسة العربية التي تنتهجها فرنسا أحد الأبعاد الأساسية لسياستها الخارجية، وفقاً للتوجيهات التي أعطانا إياها الجنرال ديجول عندما قال في عام 1958: " كل الاعتبارات تقضى بأن نظهر من جديد في القاهرة، و دمشق و عمان، وفى كل عواصم المنطقة، كما كنا على الدوام في بيروت، أصدقاء و أعوان، وهى رؤيا ما زالت توجه السياسة الفرنسية حتى الآن".
ويقول محللو السياسة الخارجية الفرنسية: إن سياسة فرنسا تجاه العالم العربي ترتكز على عدد من المبادئ الكبرى، المستلهمة من علاقة رفيعة نسجها الفرنسيون و العرب منذ زمن بعيد:
وأول هذه المبادئ يقضى بأن يتحاور الطرفان بصفتهما شريكين على قدم المساواة، يكن كل منهما للآخر المودة و التقدير، و لابد لهذا الحوار أن ينمو في ظل الاحترام المتبادل لشخصية الآخر و هويته .
و المبدأ الثاني: هو حرص فرنسا على حق الشعوب في تقرير مصيرها بكل حرية، و تأكيد استقلالها و حقها في حياة آمنة، و تعتبر فرنسا أن هذا المبدأ الجوهري لابد أن ينسحب على كل الشعوب دون استثناء.
والمبدأ الثالث: هو تأييد فرنسا لتطلعات الشعوب العربية إلى التضامن والوحدة.(15/68)
والمبدأ الرابع: هو تأييد فرنسا لتطلعات العالم العربي إلى الانفتاح والسلام، وأن فرنسا إلى جانب كل من يحارب التطرف والتعصب وقوى الكراهية.
و تستمد هذه السياسة الفرنسية قوتها من عاملين أساسيين: أولاً: المعرفة القديمة المتبادلة بين الفرنسيين و العرب، والتي عززت أواصر الصداقة بينهما على امتداد مئات السنين، والتي تتسم اليوم بحيوية نابضة أكثر من أي وقت مضى، ثم إنه في فرنسا تتواجد في أكبر جالية مسلمة في أوروبا، تقدر بأربعة ملايين نسمة .
شيراك يكمل ما بدأه ميتران
نستطيع أن نقول: إنه منذ وصول شيراك إلى الحكم وهو يحاول رسم ملامح دور فرنسي جديد في العالم بشكل عام، والمنطقة العربية بشكل خاص، وساعده على ذلك الإرث التاريخي الناجح لسلفه فرانسوا ميتران الذي كان ينتمي إلى المعسكر الاشتراكي، إلا أنه يعتبر أكثر ديجولية من اليمينيين أنفسهم، فالرئيس ميتران هو صاحب فكرة تمحور أوروبي كبير يضع في الاعتبار المصلحة الأوروبية ويواجه أحادية الهيمنة الأمريكية التي تنبأ بها ميتران قبل تفكك الاتحاد السوفيتي، وكانت النتيجة هي الشكل الحالي للاتحاد الأوروبي.
هذا الإرث ساعد شيراك على بعث الدور الفرنسي من جديد، خاصة أنه اكتشف أن النجاح الذي حققه ميتران ظل مقصورًا على شرق القارة الأوروبية، وبعض دول أفريقية كانت مستعمرات فرنسية وما زالت مرتبطة اقتصاديًا وتاريخيًا بفرنسا، فحاول شيراك البحث عن دور فرنسي في "الشرق الأوسط"، إلا أنه اصطدم بحائط أمريكي منعه من تفعيل خططه الطموحة. فهذه المنطقة كانت وستظل مناطق نفوذ أمريكية غير مسموح بالاقتراب منها، إلا أن الإدارة الأمريكية -وعندما استشعرت خطرًا حقيقيًا من باريس- حاولت أن توجه عدة ضربات دبلوماسية تحت حزام الإليزيه، وبدأت بالجزائر، فعملت على تقليص النفوذ الفرنسي هناك، عن طريق الاستحواذ على عقود البحث والتنقيب عن النفط والغاز ومنحها للشركات الأمريكية، وهو الأمر الذي شكل خسارة فادحة للشركات الفرنسية التي كانت تحتكر هذه الصناعة لعقود طويلة ماضية.
أكثر من ذلك، فقد نجحت واشنطن في صب الزيت على رماد العلاقات الفرنسية الجزائرية المتوترة في الأصل، وظهر الرئيس بوتفليقة أكثر من مرة في عدة لقاءات متلفزة ليؤكد حتمية الارتكان إلى الحائط الأمريكي، بعدها لاحت في الأفق بوادر تنسيق بين الجزائر وواشنطن فيما يخص وقف عنف الجماعات الإسلامية المسلحة التي رفعت السلاح في وجه الدولة، وهو الدور الذي راوغت باريس الجزائر أكثر من مرة بصدده؛ بل وخرجت أقلام جزائرية تتهم فرنسا بلعب دور في أحداث العنف التي تشهدها الجزائر.
فرنسا والقضية الفلسطينية
وبقدر ما يصرّ الموقف الفرنسي الرسمي على "حق إسرائيل في البقاء ضمن حدود آمنة" بالتنديد بالعمليات الاستشهادية، فإنه يؤكد على حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة، ويشدد دائما على عدم المساس بالسلطة الفلسطينية، وعدم استهداف رمزها عرفات، ولعل هذا التركيز الخاص على رمزية عرفات يندرج في نطاق البحث عن نوع من الشرعية كمدخل لإثبات الحضور الفرنسي عن طريق ورقة السلطة الفلسطينية، للضغط على الطرفين الإسرائيلي والأمريكي، ولحماية المصالح الاستراتيجية الفرنسية في المنطقة.
ومعلوم أن فرنسا حريصة على دعم حضورها على كل المستويات، وإيجاد موقع لها في هذه المنطقة شديدة الأهمية وبالغة التعقيد، والتي تُعدّ مهداً للأديان والحضارات، ومخزونا للطاقة، وتريد ربط حضورها التاريخي في لبنان وسوريا، بحضور فاعل في الوقت الحاضر وفي المستقبل، يمتد من البعد الاستراتيجي الذي يكرّس القوة السياسية المعنوية لبلد عضو دائم في مجلس الأمن، إلى البعد الاقتصادي الذي يضمن الاستثمارات الفرنسية، خاصة في لبنان وفي بلدان الخليج، وبيع الأسلحة والتكنولوجيا الفرنسية، ومنافسة المنتجات الأوروبية والآسيوية، والمساهمة في إعادة تعمير العراق وإيران بعد الحرب التي دمرت البنية الاقتصادية والعسكرية لهذين البلدين، مروراً بالبعد الثقافي باعتباره مدخلاً أساسياً في إثبات مثل هذا الحضور عن طريق الوصول إلى العقول وإلى عالم الأفكار والتصورات، وكسب عاطفة الناس، واستثمار الفكرة الرائجة التي تصوّر فرنسا بأنها بلد حقوق الإنسان التي أفرزتها الثورة الفرنسية، ولأهلها ذوق رفيع وحس مرهف وسلوك حضاري متمدن، على عكس الأسلوب الأمريكي المرتكز على المظهر الخارجي للقوة العسكرية الضاربة، وعلى غرس ثقافة الدولار و(كوكاكولا) و(ماكدونالدز)، و(كاوبوي).
وإزاء حجم المصالح، تسعى فرنسا في عهد شيراك إلى تجاوز التحديات القائمة وتزعُّم الدور الأوروبي في "الشرق الأوسط" بخلفية اختراق الأحادية القطبية الأمريكية المهيمنة على صناعة القرار الدولي.
فرنسا والمغرب العربي(15/69)
على الرغم من تردد العديد من المسؤولين الفرنسيين المتكرر على العواصم المغاربية الثلاثة: تونس والجزائر والرباط، ومتابعتهم الدقيقة لشؤون المغرب العربي والتطورات الجارية فيه على كافة الأصعدة، فإن زيارة الرئيس جاك شيراك على النحو الذي جرى مؤخرا يومي 1 و2 ديسمبر 2001 - أي: زيارته للدول الثلاثة في جولة واحدة - كانت الأولى من نوعها منذ وصول الزعيم الديغولي إلى قصر الإليزيه سنة 1995، وهو ما يعكس دقة الوضع الدولي بشكل عام، والخطر الذي يستشعره المسؤولون الفرنسيون على مصالحهم الدولية والإقليمية في هذه المنطقة خصوصاً.
لقد قدم شيراك إلى عواصم المغرب العربي في زيارته الأخيرة، وعينه على مسألتين: أولاهما ضمان بقاء الدول الثلاثة في إطار يسمح لباريس بالتأثير على مواقفها فيما يتعلق بالقضايا الدولية المتفجرة، وفي مقدمتها قضية الحرب ضد الإرهاب، وثانيهما ضمان استقرار هذه الدول، باعتبار أن هذا الاستقرار جزء لا يتجزأ - برأي الفرنسيين - من استقرار بلدهم، حيث يعيش قرابة خمسة ملايين مسلم في فرنسا، وكثيراً ما يُنظر إليهم على أنهم خزان بارود قابل للانفجار في أي وقت.
وقد تحرك شيراك في زيارته المغاربية ضمن المحددات التقليدية للسياسة الفرنسية في المنطقة، التي تقوم أساسا على الدفاع عن المصالح الفرنسية المتعددة في المغرب العربي ، لكن ذلك لم يكن ليحجب ظهور دوافع جديدة لمثل هذه الزيارة، انبثقت بالدرجة الأولى عن أوجه الصراع البارد القائم بين باريس وواشنطن على النفوذ في شمال أفريقيا، كما لم يكن لينأى عن مجموعة من الأزمات العالقة بين باريس والعواصم المغاربية، جراء خلاف حاد في وجهات النظر حول قضايا ساخنة لا يمكن تجاهلها.
السياسة الفرنسية في المغرب العربي
فرنسا ستظل حبيسة محددات ثلاثة في صلاتها بالدول المغاربية، وهي محددات مرتبطة عموما بمصالح فرنسا، لا بمصالح المستعمرات السابقة، التي تطالب دائما بأن تظل متخلفة وفقيرة ومستقرة في الوقت ذاته، وهذه المحددات هي كما يلي:
أولاً: المصالح الاقتصادية و(الجيو- استراتيجية).
يعتبر المغرب العربي منطقة نفوذ اقتصادي فرنسي منذ 1831(تاريخ احتلال فرنسا للجزائر)، وعلى الرغم من تفريطها في إدارة المنطقة المغاربية بشكل مباشر - كما كان الشأن إبان الحقبة الاستعمارية -؛ فإن فرنسا استطاعت أن تبقي تونس والمغرب والجزائر ضمن فلكها الاقتصادي من خلال آليات ما يعرف بـ"الاستعمار الجديد" أو "الاستعمار غير المباشر"، الذي يعتبر من حيث الجدوى أكثر فائدة لفرنسا من الاستعمار القديم أو التقليدي.
وتنظر فرنسا إلى المغرب العربي على أنه خط أحمر في نفوذها الدولي، مستعدة لخوض الصراع من أجله، حتى لو كان منافسها طرف في حجم الولايات المتحدة الأمريكية، التي حافظت بدورها على أوراق هامة في السياسة المغاربية منذ الحرب العالمية الثانية، معوضة بذلك بريطانيا العظمى التي كانت طيلة القرن التاسع عشر منافساً قوياً للمطامع الفرنسية في شمال أفريقيا.
وتمتلك فرنسا اليوم شبكة كبيرة من المصالح في المغرب العربي، في مقدمتها المصالح الاقتصادية، حيث تتصدر الدولة الفرنسية قائمة الشركاء والمستثمرين على السواء في الدول الثلاثة، بنسبة تناهز الثلث (30%) في أرقام المبادلات والاستثمارات، كما تعد زبوناً هاماً للجزائر في مجال المحروقات، ولتونس في مجال السياحة وزيت الزيتون، وللمغرب في الصادرات الزراعية والنسيج وبعض مشتقات الفوسفات.
ثانياً : الفرانكوفونية.
القلق الفرنسي حيال نفوذ باريس في المغرب العربي ليس قلقاً اقتصادياً وإستراتيجياً فحسب؛ بل هو قلق ثقافي وأمني أيضا. ففرنسا ترتبط بالمنطقة المغاربية بصلات داخلية وخارجية وثيقة، لا يمكن تجاوزها بسهولة. وقد بدا تأثيرها كمحدد للسياسة الخارجية واضحاً في الكثير من الأوقات، وخصوصاً في لحظات الأزمات الدولية الكبرى، كما كان عليه الحال في حرب الخليج الثانية، أو خلال حرب أفغانستان الحالية.
وقد أكد الرئيس الفرنسي الراحل "شارل ديغول" -مؤسس الجمهورية الخامسة- على أهمية العناصر الثقافية والاجتماعية في تدعيم مصالح فرنسا في المنطقة المغاربية، حيث دعا الفرنسيين (حين قرر منح الجزائر استقلالها عام 1962) إلى الإبقاء عليها "فرانكفونية" (ناطقة بالفرنسية) إن أرادوا الحفاظ على تدفق بترولها في قنواتهم، وهيمنة سلعهم على سوقها.
ويسرى أمر الفرانكفونية على الحالتين التونسية والمغربية أيضا، حيث ما تزال فرنسا تعمل على الحفاظ على هيمنة النخب الناطقة بالفرنسية على مراكز القرار، انطلاقا من قاعدة "أن خير مكان يحافظ على مصالح فرنسا في المغرب العربي، هم المغاربة الناطقون بالفرنسية والمؤمنون بما يسمى قيم الحضارة الفرنسية، وعلى رأسها العلمانية".
ثالثاً : المهاجرون.(15/70)
وبالإضافة إلى الهم الفرانكفوني الذي تحمله فرنسا على الصعيد المغاربي، أبرزت الأزمة الطاحنة - التي بدأت تعيشها الجزائر منذ بداية التسعينيات - هماً آخر للساسة الفرنسيين، كثيراً ما أقلق مضجعهم في السنوات الأخيرة، وليس هذا الهم سوى الملايين الخمسة من المهاجرين من المغرب العربي، الذين استوطنوا فرنسا، وتحولوا إلى مواطنين في دولتها.
ويبدي الكثير من الساسة الفرنسيين انزعاجهم من أن يشكل المهاجرون المسلمون فيها قواعد خلفية لما يسمونه بـ"الإرهاب"، خصوصاً مع ظهور مؤشرات تدل على أن ولاء هؤلاء المهاجرين ما يزال لأمتهم الأصلية، وأن نقمة بعضهم على مستعمر بلدانهم السابق لا تقل عن نقمة شعوب بلدانهم التي ينحدرون منها، والتي ما تزال تنظر لفرنسا بعين الريبة والشك في نواياها إزاء واقعهم ومستقبلهم.
فرنسا في المشرق العربي
أما في المشرق العربي فإن علاقات فرنسا متميزة مع الدولتين اللتين كانت تحتلهما وهما سوريا ولبنان ، والعلاقات الفرنسية اللبنانية أكثر من متميزة.
وقد حظي الموارنة -على مدى فترات طويلة- بعطف فرنسا ومساعدتها. وخير دليل عليهما، ما جاء في رسالة لويس التاسع -ملك فرنسا- عام 1250م إلى موارنة لبنان: "إننا موقنون أن هذه الأمة التي قامت تحت اسم القديس مارون؛ هي جزء من الأمة الفرنسية".
ويُعيد المؤرخون، الفرنسيون واللبنانيون تاريخ العلاقات (الفرنسيةـ المارونية) إلى الحروب الصليبية؛ بل إلى شارلمان، ولكن من المسلَّم به أن حق فرنسا في حماية الكاثوليك في لبنان يعود إلى معاهدة 1535، وترسخت الحماية الفرنسية بتعهد لويس الرابع عشر عام 1649 بحماية الكنيسة المارونية وطائفتها.
"لبنان أُنشئ لأسباب دينية"، هي خلق ملجأ لمسيحيي الشرق، كما يرى المفكرون الفرنسيون، وهذا هو السبب الأساسي الذي دعا القوى الأوروبية لإنشاء متصرفية جبل لبنان ذي الحكم الذاتي عام 1860، وهو عينه ما دعا فرنسا إلى إنشاء دولة لبنان الكبير عام 1920.
إن سياسة فرنسا في لبنان غذت فيه الانقسام الطائفي، والتجزئة بمختلف أشكالها. لقد شعرت فرنسا بخطر التيار القومي العربي الوحدوي، فعملت على ضربه بشتّى الوسائل، ولم تكتفِ بسلخ مناطق عن سورية وضمها إلى لبنان الدولة التي يهيمن عليها المسيحيون؛ بل عمدت إلى تقسيم سورية نفسها دويلات على أساس طائفي، عيّنت عليها حكاماً فرنسيين؛ فأنشأت دولة في جبل الدروز، وأخرى في اللاذقية وجبال العلويين، ودولة في لواء الإسكندرونة، وأخرى في الداخل السوري. وقد وجدت السياسة الفرنسية أرضاً خصبة في لبنان، لا سيما بين زعماء المسيحيين، الذين استماتوا في المطالبة بالانتداب الفرنسي، مما أشعر سكان المناطق -التي سلخت عن سورية وضمت إلى لبنان- بالظلم الذي سيلحق بهم، من جراء تسلط الانتداب الفرنسي، ومحاباته لفئة من أبناء وطنهم.
ولم يترك الفرنسيون مجالاً لزرع الفتن بين الطوائف، إلاّ استغلّوه؛ فلم يترددوا في سياسة قهر المناطق الإسلامية، وحرمانها أبسط حقوقها الاقتصادية، في مقابل تنمية المناطق والقطاعات التي تتلاءم مع أهدافهم التجارية؛ فحصل المسيحيون منها على نصيب الأسد، أمّا المسلمون الذين رفضوا منذ البداية التعاون مع الانتداب؛ فاستغلّوا عيوبه، ونادوا بالانفصال عن لبنان. ولم تقتصر التفرقة على المسيحيين والمسلمين، بل تعدّتهما إلى المسيحيين أنفسهم، فالروم الأرثوذكس، امتعضوا من العناية الخاصة، التي أظهرها الفرنسيون نحو الموارنة، وأحجموا عن إظهار الولاء الكامل لدولة كان الموارنة فيها العنصر المسيطر.
وهكذا فإن العلاقة المتميزة بين فرنسا وموارنة لبنان هي العنصر الحاكم في العلاقات الفرنسية اللبنانية، وهذا ما يفسر لجوء العماد ميشيل عون وأمثاله إلى فرنسا ، وتدخل باريس لعدم القبض عليه، بعد الجرائم التي ارتكبها، ثم لجوؤه إلى السفارة الفرنسية في بيروت ومنها إلى باريس.
وما تعقده فرنسا من مؤتمرات لإعادة إعمار لبنان لا يغيب عن هذا السياق الحاكم.
حديث عن المستقبل
بقي أن نقول: إن مستقبل العلاقات العربية الفرنسية لا يؤهلها أن ترتقي لمستوى التحالف؛ لأن فرنسا لها ثوابتها التي حددناها سواء بالنسبة للمغرب العربي، أو المشرق العربي، أو القضية الفلسطينية.
وفرنسا من ناحية أخرى دولة أوروبية استعمارية، ورائدة التنصير في العالمين العربي والإسلامي. فرنسا تبحث عن مصالحها وتريد أن تكسر الهيمنة الأمريكية على العالم بالتعاون مع ألمانيا، وهي تطلب المساعدة العربية، لكن العرب لا يقتربون منها خوفاً من أمريكا!.
هناك مصلحة عربية في تحالف مؤقت مع فرنسا طالما أن المصالح الفرنسية الأمريكية مختلفة، ولكن القرار لا يملكه العرب، وأغلب الظن أنهم سيفوتون الفرصة وسيفضلون السر الأمريكي على شق عصا الطاعة
=============(15/71)
(15/72)
الليبراليون والدعوة إلى نقد الثوابت...
الليبرالية، العقلانية، التنوير، النهضة، الإصلاح، الحداثة، الإنسانية.. الخ، أسماء برّاقة لفكر واحد منحرف هو امتداد للفكر الإعتزالي القديم ولكن بوجه عصري جديد، هذا الفكر بصورته العصرية ظهر قبل أربعة عقود من الزمان، ثم اندثر، وها هو الآن يطل بوجهه القبيح مستغلاً تراجع الصحوة الإسلامية المباركة التي تمّ التآمر الدولي لإيقاف مدها الكاسِح، باسم مكافحة الإرهاب، دون تفريق بين مُحقّ ومُبطل، ومُصلح ومُفسد..
ولمّا كانت هذه الصحوة المُباركة بثوبها السَّلفي الطَّاهر النَّقي هي العدوّ التقليدي لهذا الفِكر الإعتزالي القديم والحديث، فلا غرابة أن يكون أصحاب هذا الفِكر جُزءاً من تلك المؤامرة كطابور خامس للأعداء.
ومنذ تراجع هذه الصحوة المباركة ـ وهو تراجع مؤقت للتمييز والتمحيص ـ وأصحاب هذا الفِكر يشنّون حرباً شعواء على السَّلفية، وينعِتونها بأقبح الصِّفات مستقوين بالعدوّ الخارجي، وقد بدأوا أوّلاً بنقد الفروع والجزئيات، ثم انتهى الأمر بهم إلى الدعوة إلى نقد الثوابت، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى.. الخ وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم بلاهة وفِتنة بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفِكر النَّقدي شرارة الإنطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إنَّ النقد للأفكار والرُؤى والأوضاع والأعراف والتَّقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرِّك الحضارة وهو صانع التَّقدم في كل مجالات الفِكر والفِعل وهو الشَّرارة التي فجَّرت طاقات الإنسان وصَنَعت له أمجاد الفِكر والعِلم ووفَّرت له أسباب الإزدهار فالأُمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حقَّقت طُموحاتها وأنجزَت إثبات ذاتِها ووقفت شامخة بين الشُّعوب في سِباقات الفِكر والفِعل أمَّا الأُمم التي أخمدت هذا المُحرك الأكبر أو تجهله أو لا تُحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مُبارحة خنادِق التَّخلُّف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأنَّ حِرمانها من النَّقد والمُراجعة حرّمها من اكتشاف نقائِصها كما حرّمها من التَّعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائِل فبقيت تتوهَّم أنَّها الأفضل والأرقى وظلَّت رهينة هذا الوهم .."
فهو قد ساوى بين الأفكار والرُؤى والأوضاع والأعراف والتَّقاليد.. وبين المُسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنّقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المُحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصَّحيح الذي لا يقبل النَّقد، بل يعدّ هذا التّفريق بين الدِّينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيُّها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سِواه باطل، فإنّك حينئذِ تدّعي امتلاك الحقيقة المُطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن نُدرك عَظَمة هذا السبق المُذهل إلا إذا تذكَّرنا أنَّ أصعب معضلة واجهت الإنسانيَّة وسبَّبت لها الفظائِع والشُّرور وعرقلَت مسيرتَها الحضاريَّة هي الإنغلاق الثَّقافي الناتج عن توهُّم الكمَال واعتِقاد كل طرف من المختلفين أنَّه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المُطلقة وأنَّ كل الأطراف الأخرى غارِقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصناً عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والإقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر.(15/73)
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ". فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغُموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحرراً من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الإنهزامية والتبعية والإنحراف الفِكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ). وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إنَّ الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والإختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والإستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".(15/74)
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!)بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيَّما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر.. ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!! ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أنَّ الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ". وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلاَّ الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والإتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم.. ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة. وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة العوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟! وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقاً معرفياً أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".(15/75)
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضاً إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصاً أنَّ أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الإجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...." إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
فمن يوقف هؤلاء عند حدّهم..
=============(15/76)
(15/77)
لا يزال بعض العلماء يعيشون زمانهم
حوار : عبد الله الرشيد / الرياض 28/8/1426
02/10/2005
- هناك من يفتش في ملفات أغلقها المسلمون منذ قرون
- ضبط العلماء لانفعالاتهم وتحكيمهم للعقل صوّرهم بمظهر المغيبين
نفى المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور صلاح الصاوي - الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا - أن تكون الأمة الإسلامية تعيش في حالة "أزمة" جراء التقلص في إعداد العلماء الموسوعيين من أصحاب "الكاريزما" العالية في أوساط المجتمعات, وقال: إن بالعالم الإسلامي الآن مجموعة كبيرة من العلماء الأكفاء, غير أن الشيخ الصاوي أقرّ بخسارة الأمة لجيل من العلماء يصعب تعويضهم في إشارة إلى الشيخ "ابن باز" و"ابن عثيمين"، والألباني، والسيد سابق ...وغيرهم.
وعدّ الشيخ صلاح الصاوي في حوار له مع (الإسلام اليوم) أن الاعتقاد بخلو عصر من العلماء أمر لا يستقيم ؛ إذ إن الله تعالى "يقيّض لدينه وميراث نبيه في كل عصر عدولاً تقوم بهم الحجة، وتبقى بهم الأمة على المحجة".
ولدى سؤاله عن الغياب الملاحظ لبعض العلماء المعاصرين الكبار قال الصاوي: "إن الغياب المشاهد للعلماء عن الساحة سببه أنهم يلجمون نزوات الانفعالات بلجم العقول وضوابط الحكمة، فيحسبهم بعض الناس مغيّبين وما هم بمغيّبين".
وشدّد الشيخ صلاح الصاوي على ضرورة المزج بين "خبرة الخبراء وفقه الفقهاء" للخروج برأي سديد حول المستجدات والنوازل الحديثة، معتبراً أن قيام مرجعية علمية تضم نخبة من العلماء المعاصرين هو من "الواجبات"...
هل ترى أن هناك أزمة حقيقية في أوساط العلماء، بسبب تقلص الرموز الكاريزمية، ومحدودية تأثيرهم وغلبة الخوف على صياغة مواقفهم؟
ابتداء: لا يخلو وجه الأرض من قائم لله بحجة، ولا تزال طائفة من أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمين على الحق لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحداً إلا الله، ينفون عن الدين تحريف الغالين وتأويل المبطلين وانتحال الجاهلين، وهؤلاء هم الفرقة الناجية التي لا يخلو منها زمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وينطفئ سراج الحياة.
ومن ناحية أخرى لا يخفى أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، كما أخبر بذلك المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وقد شهدت العقود الأخيرة رحيل كثير من قيادات العمل الإسلامي المعاصر، لقد رحل الشيخ "ابن باز" والشيخ "ابن عثيمين"، والشيخ الألباني، والشيخ سيد سابق، والشيخ مناع القطان وكثيرون آخرون، ولا شك أن رحيل هؤلاء قد أوجد فراغاً لا يُستهان به، وجيل الكبار يعسر تعويضه، الأمر الذي يشكل ملامح أزمة حقيقية نسأل الله أن يجبر كسر الأمة في رحيل علمائها، وأن يعوّضها عنهم خيراً، ويبقى في النهاية أن هذه الأمة ولود، وأنها كالغيث لا يُدرى أوله خير أم آخره، وأن الله يقيّض لدينه وميراث نبيه في كل عصر علماء تقوم بهم الحجة، وتبقى بهم الأمة على المحجة!.
وما موقفكم من التجديد الناشئ في مفردات الخطاب العلمي في بعض المسائل والمواقف، كالانتخابات والتحالفات السياسية والتعددية السياسية، وما إلى ذلك مما يتعلق بالحراك السياسي السلمي؟
ابتداء أرجو أن نفرّق بين نوعين من أنواع التغير في الخطاب الدعوي:
أولهما: تغير أصاب بعض الثوابت، وزلزل أصولاً مستقرة قالت الأمة فيها كلمتها، وأغلقت ملفها منذ قرون، وهذا يعكس أزمة حقيقية، بل يمثل كارثة فكرية ودعوية ومنهجية أسأل الله أن يقي الأمة شرها، وأن يرد من ابتلوا بها إلى دينه رداً جميلاً! لقد رأينا في بعض المواقع خاصة في الأوساط الغربية من يجادلون في فرضية الحجاب على سبيل المثال، وأنا هنا لا أقصد الإشارة إلى الخلاف المعروف حول الوجه والكفين، وإنما أقصد تغطية ما سوى الوجه والكفين، وأصبحت هذه القضية الجوهرية تُقدّم على أنها مسألة خلافية في قضية فرعية ، وقد رأينا من يجادل في إطلاق كلمة الكفر على من لم يدن بدين الإسلام من غير المسلمين، وقد رأينا من يجادل في حرمة الربا في المجتمعات الغربية، وقد رأينا من يجادل في معالم أساسية في قضية الولاء، ويتحدثون عن الاندماج الكامل في حضارة هذه المجتمعات تحت دعاوى الاستنارة والعقلانية والواقعية ... الخ، ومثل هذا الخلل لا سيبل إلى تسويغه، ولا وجه لتخريجه مهما حاول المبطلون واجتهد المستنيرون!.
أما الثاني: فهو تغيّر طرأ على بعض القضايا الاجتهادية التي تُبنى على أساس النظر العرفي أو على أساس النظر المصلحي، ولا يخفى أن الفتوى في مثل هذا تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال، فما بُني من الفتوى على العُرف تغيّر بتغيره، وما بُني منها على الاستصلاح تغيّر بتغيّر وجوه المصلحة وهكذا، وجل ما أشرت إليه من القضايا كان النظر فيها مصلحياً، فليس بغريب تغيّره بتغيّر وجوه هذه المصالح.(15/78)
هذا.. ويغلب على التجديد الناشئ في الخطاب العلمي المتعلق بهذه المسائل أنه يرجع في الجملة إلى اختلاف العصر والزمان، وليس اختلاف الحجة والبرهان، فقد جدت متغيرات كثيرة في الساحة الدعوية، وتجدّد معها الموقف الفقهي والدعوي تجاه كثير من هذه القضايا، ويبقى بعد ذلك أن النظر في هذه المسائل دقيق وشائك، ففي أزمنة الفتن وغربة الدين يكثر اختلاط المصالح بالمفاسد، فلا تكاد تتمحض مصلحة في كثير من المواقف، بل الاختلاط الذي ينشأ عنه الالتباس والإيهام، فهو بحق مزلة أقدام ومدحضة أفهام، والمعصوم من عصمه الله -عز وجل- ولا يخفى أن مرد الخطأ والصواب في هذه الاجتهادات إلى توفيق الله -عز وجل- للمباشرين لها بحيث ينضبط الأمر في أيديهم على موازين الشريعة ومعاييرها ومقاصدها.
هناك من يرى أن الجماهير متقدمة في مبادراتها ووعيها -أحياناً- على قياداتها السياسية والفكرية وحتى "العلمانية"، فبرأيك لماذا أصبح الوعي خارج العلماء والدعاة أكثر حيوية وفعالية؟
أول ما نقف عنده هو هذا التعميم، فلا يصلح إطلاق القول بأن الوعي خارج العلماء والدعاة أصبح أكثر حيوية وفاعلية، بل لا يزال من العلماء والدعاة من يعيشون زمانهم، ويعرفون أحواله ولكنهم يلجمون نزوات الانفعالات بلجم العقول وضوابط الحكمة، فيحسبهم بعض الناس مغيبين وما هم بمغيبين، ولكنهم أهل علم وحلم وبصيرة وتأمّل في العواقب واعتبار بالمآلات! وأرجو ألاّ تكون من ذلك ذريعة -وإن كانت غير مقصودة- إلى مظاهرة العلمانيين في الحض على علماء الشريعة وشن الغارة عليهم، ورميهم بالتهم والمناكر لتسقط حرمتهم ومهابتهم من النفوس؛ فيسقط بسقوط ذلك ما يحملونه من مواريث النبوة!
حق العامي هو تقليد العلماء، وأن يسأل من يثق في أمانته وعلمه، لكن كيف يمكن للعامي أن يضع ثقته في عالم يدين الله بفتواه، وهو لا يملك المعايير والآليات التي على أساسها يقيم هذا العالم؟
الموقف الشرعي في نوازل هذا العصر بل وفي باب الفتيا بصفة عامة إنما يتكون من خلال المزج بين خبرة الخبراء وفقه الفقهاء، فالفتوى -كما يذكر أهل العلم- "معرفة الواجب في الواقع"، فلا بد فيها من المعرفة بكلا الأمرين: الواجب والواقع، أي خبرة الخبراء وفقه الفقهاء، وأي خلل في أحد هذين الجانبين ينعكس على الفتوى بالخلل والقصور لا محالة، فإذا قصّر المستفتي في عرض نازلته أو طاف به في عرضها على المفتي طائف من الهوى فلا يلومنّ إلا نفسه! لأن المفتي أسير المستفتي، والمفتي إنما يفتي على نحو ما يسمع، كما أن القاضي إنما يقضي على نحو ما يسمع، وقد رأيت بنفسي في كثير من المواقع كيف يكون التأثير على المفتين واستنطاقهم على نحو معين تنسجه أهواء المستفتين، فيكون الغش في عرض النوازل والمبالغة في تصوير الحاجات؛ لتصبح من قبيل الضرورات، فكيف يُلام في ذلك علماء الشريعة إذا كان المستفتي عيياً أو صاحب هوى؟!
لقد صُوّر لفضيلة المفتي السابق لمصر أن المحجبات في الغرب يتعرّضن لخطر القتل، وانتهاك الأعراض بسبب الحجاب فهل يجوز لهن الترخص بخلعه؟ فأجاب فضيلته بالإثبات، وطيرت الصحف ذلك كل مطير، وفتوى فضيلته صحيحة لو صحّ تصوير النازلة على النحو الذي صُوّرت به وهو غير صحيح، ثم تبقى لها في هذه الحالة بقية، تتمثل في أن على المرأة المسلمة التي استضعفت عن إقامة فريضة الحجاب أن تهاجر إلى بلد آخر لا تتعرض فيه لمثل هذه الفتنة عند القدرة على ذلك، وآية سورة النساء في الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، والذين يعتذرون بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض دليل ظاهر على ذلك.
ومن ناحية أخرى فإن على حملة الشريعة أن يتفطنوا لمثل هذه الأحوال، وأن يكونوا على صلة متجددة بما يطرأ في زمانهم من نوازل ومتغيرات، وألاّ تعجّلهم إلحاحات بعض المستفتين فتخرجهم عن منهج الرويّة والتثبّت، واستجلاء الأمور بدقة تتناسب مع جلال الفتوى وخطورة منزلتها، وأن يذكّروا طالب الفتوى بالله -عز وجل- وأن يعلّموه أن فتوى المفتي لا تُحل حلالاً ولا تحرّم حراماً، بل الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.
إنه لا يجمل بفقيه من الفقهاء في واقعنا المعاصر -مثلاً- أن يُسأل عن رأيه في شركات التأمين فيفيض في القول في أهمية الأمن وضرورته للمجتمعات، ويفوته النظر إلى ما تتضمنه عقود التأمين من غرر وميسر وربا ونحوه من أسباب فساد العقود.
ومن ناحية أخرى فإن على المستفتي أن يبين الواقع للفقيه حتى تكون فتواه مطابقة لهذا الواقع، وأحسب أن المجامع الفقهية المعاصرة تنحو هذا المنحى ؛ فهي تضم في صفوفها كوكبة من الفقهاء والخبراء، ومن ثم كانت قراراتها أقرب إلى القبول العام من الفتاوى الفردية التي تُنسب إلى هذا العالم أو ذاك.
ما مفهوم المرجعية الدينية عند أهل السنة مقارنة بالمراجع الدينية لدى غيرهم ؟(15/79)
العلماء عند أهل السنة ذرائع لمعرفة الحكم الشرعي، وطاعتهم إنما تجب لهم على هذا الاعتبار، فليست لهم طاعة ذاتية ولا طاعة مطلقة، ولا حق لهم في التشريع المطلق بحال، بل يقتصر دورهم على فهم النصوص والاستنباط منها والتخريج عليها والرد إليها، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وهم في النهاية بشر من البشر يخطئون ويصيبون، ولكن عصمة الأئمة عند الشيعة تعطى لأئمتهم مقاماً آخر لا يقرّ به أهل السنة إلا للأنبياء دون غيرهم من الناس، وهذه النقطة من نقاط الخلاف الجوهرية بين السنة والشيعة.
أما الأحبار والرهبان عند النصارى فإنهم يملكون حق التشريع المطلق؛ فالحلال ما يحلونه والحرام ما يحرمونه، ولو جاءت التوراة والإنجيل بخلاف ذلك، وهذه هي الربوبية التي كانت في بني إسرائيل، والتي نعاها عليهم القرآن الكريم في قول الله عز وجل: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً).
هل تؤيد قيام مرجعية علمية عامة تضم نخبة علماء الأمة يكون لحكمها صفة الإجماع مجازاً؟
قيام مرجعية علمية تضم نخبة من علماء الأمة أمل كبير وحلم جميل، والسعي إلى إقامته من جملة الواجبات، ويبقى النظر فيما يعترض سبيله عملياً من المعوقات والصعوبات، كالمعوقات السياسية والحزبية والمذهبية والأمنية ونحوه، لا تكفي الأماني وحدها لتحقيق المقاصد النبيلة والجميلة في هذه الدنيا، بل لا بد من النظرة الواقعية التي تتعامل مع المعوقات، وتتلمس السبل إلى تذليلها والتغلب عليها، وعلى كل حال ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه، فإذا لم يمكن تحقيق ذلك على مستوى عموم الأمة، وأمكن تحقيقه على مستوى قطر من أقطارها فلنبدأ بذلك، وأول الغيث قطر ثم ينهمر كما يقولون!
المجامع الفقهية والهيئات العلمية هل يكون لقراراتها طابع الإلزام لنطاق الإقليم الذي نشأت فيه؟
أما الإلزام بالمعنى الشرعي الدقيق فلا، لأن ما تصل إليه هذه المجامع -على عراقة بعضها وامتداد رقعة تمثيلها- لا يمثل الإجماع إلا على سبيل المجاز كما تفضلت، ولكنها على كل حال تمثل موقفاً فقهياً ناضجاً ومدروساً ومحققاً ومدققاً يعسر تجاوزه إلا باجتهاد يرقى إلى مستواه، وتتحقق فيه مثل مقوماته وخصائصه. ويبقى أن حق الاجتهاد والمخالفة مكفول لحملة الشريعة ما دام في إطار النظر المعتبر في الأدلة
هناك من يفتش في ملفات أغلقها المسلمون منذ قرون
- ضبط العلماء لانفعالاتهم وتحكيمهم للعقل صوّرهم بمظهر المغيبين
نفى المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور صلاح الصاوي - الأمين العام لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا - أن تكون الأمة الإسلامية تعيش في حالة "أزمة" جراء التقلص في أعداد العلماء الموسوعيين من أصحاب "الكاريزما" العالية في أوساط المجتمعات, وقال: إن في العالم الإسلامي الآن مجموعة كبيرة من العلماء الأكفاء, غير أن الشيخ الصاوي أقرّ بخسارة الأمة لجيل من العلماء يصعب تعويضهم.
وشدّد الشيخ صلاح الصاوي على ضرورة المزج بين "خبرة الخبراء وفقه الفقهاء" للخروج برأي سديد حول المستجدات والنوازل الحديثة، معتبراً أن قيام مرجعية علمية تضم نخبة من العلماء المعاصرين هو من "الواجبات"...
وهذا هو الجزء الثاني والأخير من هذا الحوار
ما موقفكم من تزايد المجامع الفقهية وتعددها، وهل أنتم تؤيدون التوسع في إنشاء المجامع الفقهيّة؟
نؤيد ذلك على أن تنشأ هيئة عليا للتنسيق بين قراراتها على النحو الذي يجري في هيئات الرقابة الشرعية داخل المصارف الإسلامية المعاصرة؛ منعاً للتضارب والالتباس.
بصفتكم أميناً عاما لمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، لماذا أُنشئ المجمع؟
أنشئ المجمع لتحقيق جملة من المقاصد والغايات نذكر منها:
- إصدار الفتاوى فيما يعرض عليه من قضايا ونوازل لبيان حكم الشريعة فيها.
- وضع خطة لإعداد البحوث والدراسات الشرعية التي تتعلق بأوضاع المسلمين في المجتمع الأمريكي، وما يجد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تواجههم في هذا المجتمع، وبيان الحلول الفقهية المناسبة لها، والإشراف على تنفيذها.
- دراسة وتحليل ما يُنشر عن الإسلام والتراث الإسلامي في وسائل الإعلام، وتقويمه للانتفاع بما فيه من رأي صحيح، أو تعقّب ما فيه من أخطاء بالتصحيح والرد.
- معاونة المؤسسات المالية الإسلامية بإعداد البحوث والدراسات، وابتكار صيغ التمويل وعقود الاستثمار، وتقديم ما تطلبه من الفتاوى والاستشارات، وتدريب كوادرها على ذلك.
- إقامة دورات تدريبية لأئمة ومديري المراكز الإسلامية في مختلف المجالات الفقهية كقضايا الأسرة والقضايا المالية وقضايا التحكيم الشرعي وغيرها.
- دعم التعاون بين المجمع والهيئات والمجامع الفقهية الأخرى للوصول إلى ما يشبه الإجماع الكوني على الملزم من قضايا الأمة وثوابتها.
- معالجة قضية المواطنة، وما تفرضه من حقوق وواجبات على المسلمين الذين يتمتعون بحق المواطنة في الغرب.(15/80)
- دعم أنشطة لجان التحكيم الشرعية التي تقيمها الجاليات الإسلامية في البلاد الغربية، ومراجعة ما ترفعه إليه من قرارات وتوصيات، وإعداد تقنين ميسر للأحكام الفقهية في أبواب الأسرة والمعاملات المالية يكون مرجعاً لجهات التحكيم الناشئة في الغرب.
- إنشاء صندوق المجمع للزكاة والتكافل الاجتماعي في حدود ما تسمح به القوانين والنظم، والحصول على موافقة الجهات المختصة على ذلك.
متى تأسس المجمع؟ وهل لأحداث الحادي عشر من سبتمبر دور في قيامه أو تغيير آلية عمله؟
تأسس المجمع في أكتوبر عام 2002، وكان مؤتمره التأسيسي في واشنطن الكبرى، ولا شك أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما أوجدته من تراجعات منهجية واختلالات عقدية وفقهية في بعض المواقع ضاعف من الدور المنوط بالمجمع، وأكد على ضرورة مرابطته على مواقع الحراسة للدين والمحافظة على الثوابت والمحكمات.
سؤال غالباً ما يتكرر وهو كيف يفتي لأمريكا من ليس له اتصال بالواقع الأمريكي؟
توجد بالمجمع لجنة دائمة للإفتاء وهي مقيمة داخل الولايات المتحدة، وتتولى الرد على القضايا اليومية التي ترد إلى المجمع، وتصدر قرارها في ذلك بالأغلبية؛ فإن أشكل عليها أمر رفعته إلى مستشاري الإفتاء، وهم وإن كانوا متفرقين في بلدان عديدة ولكن ذلك يتم من خلال (الإيميل)، وموقع المجمع على الإنترنت؛ الذي يتيح التواصل بسلاسة رغم التفرّق في الأقطار والقارات على النحو الذي ترونه في موقعكم المبارك (الإسلام اليوم).
ما أهم خصوصيات المجمع، وما أبرز ثوابته الإدارية؟
o التخصص، فكل أعضائه من حملة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية.
o الحيادية، فهذا المجمع ملك للأمة، ومشترك علمي عام يلتقي عليه العاملون لدين الله في مشرق أو مغرب، بعيداً عن التكتلات الحزبية أو التجمعات التنظيمية المعاصرة.
o ترسيم آلية مستقرة تحقق الجمع بين العلم بالشرع والدراية بالواقع، فبالإضافة إلى الفقهاء يوجد بالمجمع عدد من الخبراء لا يقل عددهم عن الفقهاء، وهؤلاء يمكنون الفقهاء من الرؤية المستبصرة والفاحصة للواقع الذي تطبق عليه الفتوى؛ لأن الفتوى كما يقول أهل العلم: معرفة الواجب في الواقع. إن المجامع الفقهية في العالم تدرس قضايا طبية -مثلاً- كزرع الأعضاء، والتلقيح الصناعي، والاستنساخ البشري ونحوه، ولم يقل أحد إنه لابد أن يكون الفقيه طبيباً حتى يتسنى له الإفتاء في هذه القضايا. وإنما يكفي التعرف على تفاصيل هذه القضايا من خلال من ينتسبون إلى هذه المجامع من الخبراء، وإن كانوا لا يشاركون في التصويت عند اتخاذ القرار الفقهي.
o وهؤلاء الخبراء منهم من يحملون الخبرة الفنية كالاقتصاديين والقانونيين والسياسيين والإعلاميين والجيولوجيين والأطباء وغيرهم، ومنهم يحملون من الخبرة العملية الميدانية كأئمة ومديري المراكز الإسلامية، أو من يعملون في المؤسسات الإسلامية المالية أو الإعلامية ونحوها.
ما أهم إنجازات المجمع في هذه الفترة القصيرة التي مضت على تأسيسه؟
الإنجازات كثيرة -ولله- الحمد نذكر منها:
أولاً: على صعيد تأسيس المجمع وتوطينه القانوني
- استكمال التوطين القانوني للمجمع على الساحة الأمريكية وفقه الأنظمة السائدة.
- الحصول على عضوية المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة ومقره جمهورية مصر العربية.
- افتتاح مكتب للمجمع بالقاهرة في المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، وتجهيزه فنياً بما يتيح التواصل مع خبراء المجمع وأعضائه حيثما كانوا
- تجهيز موقع للمجمع على الإنترنت (amjaonline.o r g)
ثانياً: على الصعيد الفقهي والأكاديمي
وقد عمل المجمع على تحقيق أهدافه على محاور: فقهية وبحثية وأكاديمية.
أولاً: على الصعيد الفقهي
أ- الإفتاء
•الاتصال بالخبراء لاستقراء النوازل الشائعة في أوساطهم، والكتابة حولها إلى المجمع لتنظرها لجنته الدائمة للإفتاء، ليكون هذا نواة الموسوعة الفقهية للمغتربين
•الاتصال بلفيف من العاملين في السجون الأمريكية للكتابة إلى المجمع حول أهم النوازل الشائعة في السجون؛ ليكون هذا نواة الموسوعة الفقهية للمسجونين.
• ترتيب خطين للفتوى: أحدهما تُستقبل من خلاله أسئلة المستفتين: من الأئمة والخطباء، والآخر لاستقبال أسئلة المستفتين من العامة.
ب: الدورات والمحاضرات
•عقد المجمع دورته التدريبية الأولى لأئمة ومديري المراكز الإسلامية، بسكرمنتو بولاية كاليفورنيا تحت عنوان "نوازل الأسرة المسلمة في المجتمع الأمريكي"، وقد حضرها ما يزيد على ثلاثين إماماً، وانتهت الدورة إلى سلسلة من التوصيات المهمة، رُفعت فيما بعد إلى المؤتمر الثاني السنوي للمجمع، وضمنها المجمع ضمن قراراته الصادرة عنه.(15/81)
•عقد المجمع دورته التدريبية الثانية في سكرمنتو بولاية كاليفورنيا كذلك تحت عنوان "استثمار الأموال في الإسلام"، وقد حضرها ما يزيد على أربعين إماماً، وحاضر فيها من الإمارات رئيس المجمع فضيلة الأستاذ الدكتور حسين حامد حسان على مدى يومين متتاليين ولمدة تزيد على اثنتي عشرة ساعة بوساطة تقنية (الفيديو كونفرنس)، كما حاضر فيها من الرياض كل من فضيلة الدكتور يوسف الشبيلي عضو المجمع، وفضيلة الدكتور سعد الشثري عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية من خلال نفس التقنية، وحاضر فيها مباشرة كل من فضيلة الدكتور صلاح الصاوي، وفضيلة الدكتور معن القضاة، وفضيلة الشيخ وليد منيسي، وقد تبني المؤتمر الثالث للمجمع جل هذه التوصيات.
• ويرتب المجمع الآن لعقد دروة في فلوريدا وأخري في هيوستن في ديسمبر القادم -بإذن الله- وسوف يوجه الدعوة كما -هي العادة- إلى خمسين إماماً من مختلف المناطق.
•عقد المجمع أربع دورات فقهية معتمدة بالتعاون مع الجامعة الأمريكية المفتوحة: اثنتان منها في كاليفورنيا.
الأولى: حول فقه العلاقات الدولية في الإسلام.
والثانية: حول فقه الأسرة في الشريعة الإسلامية.
والثالثة: في هيوستن حول فقه الزكاة.
والرابعة: في ميرلاند حول فقه المواريث في الشريعة الإسلامية.
•عقد المجمع عشرات الندوات الدعوية والفقهية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وكان لها أطيب الأثر في ضبط مسار الفتوى، والرد على طرفي الغلو والتفريط.
ثانياً: على صعيد البحوث والدراسات
أ- البحوث والدراسات باللغة العربية
• طباعة عشرين إصداراً ضمن "سلسة إصدارات المجمع" باللغة العربية، وهي:
•الشروع في سلسلة "قرارات المجامع الفقهية"، وتجهيز إصدارين من هذه السلسلة باللغتين العربية والإنجليزية، وهما:
•القرارات المالية للمجامع الفقهية.
•القرارات الطبية للمجامع الفقهية.
إذ تم جمع معظم قرارات المجامع الفقهية المعتبرة عند مجموع الأمة، المتعلقة بهذين الأمرين وتصنيفها وترجمتها ووضعها في تصميم رفيع المستوى وتجهيزها للطباعة.
ب- البحوث والدراسات باللغة الإنجليزية
• طباعة إصدار واحد ضمن (AMJA Se r ies) باللغة الإنجليزية وهو: Banking and Inte r est)).
• ترجمة كتاب الاستثمار الإسلامي صيغه وطرق تمويله، وهو حالياً تحت الطبع.
•ترجمة كل من القرارات المالية للمجامع الفقهية والقرارات الطبية للمجامع الفقهية.
• ترجمة الأسئلة المتعلقة بالمساجين وأجوبة المجمع عنها.
ثالثاً: على الصعيد الأكاديمي
أسهم المجمع في تأسيس ( أكاديمية الشريعة في أمريكا) وذلك بولاية فلوريدا وتابع استكمال بنائها الإداري والأكاديمي، وقد باشرت نشاطها الأكاديمي منذ مطلع فبراير 2005، وهي الآن في فصلها لدراسي الثاني والحمد لله.
وأكاديمية الشريعة مشروع تعليم واعد يشرف عليها نخبة من الأساتذة المتخصصين في علوم الشريعة، و تسعى إلى تقديم مقررات دراسية حرة ومعتمدة في قضايا الفقه والأصول، بالإضافة إلى برامج أكاديمية متكاملة تنتهي بتحصيل الطالب لدرجة جامعية في الشريعة بالتعاون مع المؤسسات التعليمية المحلية والعالمية.
وتتميز الدراسة في الأكاديمية بقيامها على المشافهة والتلقي المباشر، بصفته الوسيلة المثلى لتلقي العلم الشرعي بإجماع الأمة، وذلك من خلال:
•التعليم المباشر داخل قاعات المحاضرات من خلال أساتذة الأكاديمية الموجودين محلياً على الساحة الأمريكية.
•التعليم المباشر داخل قاعات المحاضرات من خلال تقنيات (الفيديو كونفرنسينج ) حيث تنقل المحاضرات صوتاً وصورة إلى الدارسين، ويستطيعون الحوار المباشر مع المحاضرين صوتاً وصورة كذلك بمستوى متميز من وضوح الصوت والصورة على النحو الذي يحدث في القنوات الفضائية، وذلك للاستفادة من الخبرات الأكاديمية المتميزة للأساتذة في مختلف بلدان العالم.
رابعاً: على الصعيد التقني: مشروع (علماء بلا حدود)
وهو برنامج واعد طموح يوظف التقنية المتقدمة في عالم الاتصالات ( الفيديو كونفرنس) لخدمة العلم الشرعي على أوسع مدى ممكن، ويتجاوز به الحدود الجغرافية والسياسية والإقليمية مع المحافظة على التواصل الحي والمتجدد بين المحاضر والمستمعين أينما كانوا! فهو تواصل حي مباشر يختزل الزمان والمكان ويوفر الجهود والنفقات مع المحافظة على كل أو جل مميزات التعليم المباشر الذي يجمع فيه الدارس والمدرس قاعة محاضرات واحدة، والدعوة المباشرة التي يجتمع فيها الدعاة والمدعوون في مكان واحد.
ومن مزايا هذا المشروع:
تدويل العلم الشرعي، ونقله إلى كل مكان تتوفر فيه هذه التجهيزات، وما أيسرها بالنسبة للمراكز الإسلامية في الغرب.
تيسير المحاضرات واللقاءات الدعوية العامة الأسبوعية والشهرية، إذ يقوم هذا الأسلوب بديلاً عن سفر المحاضرين، وما يتضمنه من تحمل نفقات وأعباء السفر مادية كانت أو غير مادية، بالإضافة إلى ما يعنيه ذلك من تيسير التواصل مع المحاضرين عبر العالم.
توثيق العلاقة بين المراكز الإسلامية المختلفة التي تتعاون فيما بينها على إقامة هذا المشروع.(15/82)
توفير النفقات والجهود، فالمحاضرة الواحدة يمكن أن تُبث في نفس الوقت إلى عدد من المراكز الإسلامية.
ولقد تم الاتصال بعدد كبير من الشركات التي تُعنى بتوفير هذه الخدمة في الغرب وأُجريت تجارب عديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها وأصبح لدى القائمين على المجمع تصور دقيق ومفصّل لأنسب هذه العروض وأكثرها ملاءمة لظروف المجمع وطموحاتها المستقبلية، كما تم تزويد مكتب المجمع بالقاهرة بمحطة متكاملة للبث من خلال هذه التقنية، وقد استخدمت هذه المحطة بالفعل في بث عشرات المحاضرات في مختلف أنحاء الولايات الأمريكية، كما استخدمت في مناقشة رسالة دكتوراه لأحد طلاب الجامعة الأمريكية المفتوحة، حيث كان ثلاثة من أعضاء هذه اللجنة في مصر وتم مناقشة الطالب خلال مؤتمر الدعوة السنوي المنعقد في هيوستن.
ما هي المسائل والقضايا التي يتميز بها الواقع الأمريكي عن غيره في قضايا فقه الأقليات؟
الواقع الأمريكي كغيره من بقية دول الغرب له خصوصية من حيث الزمان والمكان والمخاطبين والإلزام القانوني ونحوه، فهم يعيشون في غربة الزمان فهذه هي الغربة الثانية للإسلام وهي أشد وطأة من الغربة الأولى، وربما أكثر إيلاماً، وهم يعيشون غربة المكان بإقامتهم خارج ديار الإسلام في لجج من الفتن تئن فيها الرياح، وهم يعيشون داخل ترسانة من القوانين والتشريعات تنظم كل شيء، وتقنن كل شيء، ولا سبيل إلى الفكاك من هذه النظم ولا إلى التفلت من قبضتها، وقد أفرز هذا الواقع جملة من القضايا الجديدة التي لا عهد للأمة بها من قبل أو كان لها في تاريخها طابع الندرة ولم تنتشر بمثل هذا الانتشار، وهذا يقتضي تفعيل الأصول الاجتهادية المتعلقة بفقه الأحوال الاستثنائية كقواعد الضرورات، والحاجات التي تنزل منزلة الضرورات، وعموم البلوى، ورفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، وتغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان والأحوال.. الخ، وهي تملك مخزوناً اجتهادياً هائلاً يستوعب كل متغيرات هذه المجتمعات وتنبثق منه حلول فقهية ناضجة لمشكلات أبنائها.
هل للمجمع تعاون مع منظمات فقهية تعمل في الإطار نفسه سواء في أمريكا أو أوروبا؟
المجمع يسعده ذلك بل جعله من جملة أهدافه ومبادئه في وثيقة تأسيسه، وهو يتخذ ما يتسنى له من الخطوات في هذا الصدد، ونرجو أن يحمل المستقبل الكثير من الإنجازات على هذا المحور بإذن الله.
==============(15/83)
(15/84)
الاستنساخ
د.عبد الرشيد قاسم 25/10/1425
08/12/2004
المبحث الأول: …حقيقة الاستنساخ
المبحث الثاني:… كيف تمت عملية الاستنساخ
المبحث الثالث: … الحكم الشرعي في الاستنساخ
المطلب الأول: … الاستنساخ الجنيني ( الاستتآم )
المطلب الثاني: … الحكم الشرعي في الاستنساخ الخلوي
تمهيد :
تطور العلم في القرن العشرين الميلادي فقفز قفزات جبارة في شتى العلوم وكان لها تأثير كبير في تغيير مجريات الأحداث وأنماط الحياة ومن أبرز ما ظهر في هذا القرن ما يلي :
1 - الثورة الذرية: حيث تمت صناعة قنابل ذرية واستخدمت على اليابان في مدينتي هيروشيما ونجازاكي عام 1945 م ، معلناً بذلك الانتقال من عصر الكهرباء والأسلحة التقليدية إلى عصر الذرة بكل مخاوفه وهواجسه وويلاته .
وتمتلك عدد من الدول قنابل ذرية تقدر قوتها بما يكفي لتدمير الأرض ست مرات .
2 - ثورة الإلكترونيات :
حيث ظهر علم السيبرنطيقا Cybe r netics وكان ظهوره بمثابة الأساس لتقنية الحاسوب ( الكمبيوتر ) فيما بعد ، ومن ثم ثورة الانترنت Inte r net الذي أورث ثورة عارمة في المعلومات المختلفة في شتى الميادين بلا ضابط وتنشأ يوماً بعد يوم مئات المواقع وتدخل يومياً ملايين المعلومات المختلفة في شتى الميادين وبعدة لغات .
3 - غزو الفضاء :
حيث تمكن الروس من إطلاق أول قمر صناعي (سبوتنيك 1) عام 1957 م ، وتوالت بعدها المحاولات التي كان منها هبوط الإنسان على سطح القمر وإرسال مركبات للمريخ وزحل والكوكب الأخرى لدراسة أحوالها ، وتم وضع أقمار صناعية حول الأرض لأغراض متعددة منها تسهيل الاتصالات والتجسس ونقل الأحداث من شتى بقاع العالم مباشرة .
4 - الثورة البيوتكنولوجية ( الحيوية ) :
واتخذت عدة أشكال أشهرها :
1 - زراعة الأعضاء: حيث تم عام 1967م أول عملية زرع قلب بشري وحظيت بالنجاح ، ثم توسعت عمليات النقل والزرع حتى سجلت الكلى والبنكرياس والكبد والقلب والرئة معاً ،وقد تطور الأمر في البلاد الإسلامية ليشمل إنشاء مراكز للتبرع بالأعضاء بعد الموت .
2 - التلقيح الصناعي :
حيث نجحت أول عملية للإخصاب الصناعي عام 1978م وكانت ولادة أول طفلة سميت لويزا براون ، ثم أنشئ بعدها بعامين بنك المني حيث يودع فيه مني الرجل وبييضات المرأة لأغراض مختلفة وتوالت بعدها التقنيات المستجدة كتأجير الأرحام والأم البديلة والتحكم في جنس الجنين وبنك العباقرة وغيره .
3 - الهندسة الوراثية :
حيث تم الكشف عن الحمض الريبي النووي DNA ونال صاحبه جائزة نوبل عام 1962م ثم تم الكشف عن أنزيمات التحديد أو التقييد اللازمة لقص ذلك الحمض في مواقع محددة ، وتدريجياً بدأ مصطلح هندسة وراثية Genetic Enginee r ing يتداول بين الناس لتشكل تلك الهندسة في ذاتها ثورة من أخطر الثورات العلمية وهي ثورة حقيقية تعتمد على مادة الحياة وهي الخلية وبداخلها الجينات وهي ثورة تشارك فيها ثلاثة علوم أساسية هي علوم الوراثة والخلية والأجنة وتقوم على فكرة التحكم في الجهاز الوراثي للإنسان ومن ثم إمكانية برمجة الجنس البشري وفق تصميمات معدة سلفاً ، وبذلك بدأ العلماء في تعديل أو العبث في أهم خصوصيات الإنسان وهي الشفرة الوراثية .
4 - الاستنساخ :
حيث فوجئ العالم عام 1997 م باستنساخ النعجة ( دوللي ) على يد العالم
إيان ويلمت وتوالت بعدها التجارب حتى أعلن في اكريكا عن استنساخ اثنين من القرود من خلايا جنينيه أعلن في أمريكا عن استنساخ اثنين من القرود من خلايا جنينية وأعلن في اليابان عن نجاح استنساخ ضفادع وقد وقف العالم ضد فكرة سريان الاستنساخ لعالم البشر حتى سمحت بريطانيا لاحقاً بإجراء التجارب تحت ضوابط معينة لأغراض خاصة(1).
فما هي حقيقة الاستنساخ وما هي آثاره ولماذا وقف العالم ضده ؟ وما هو الموقف الشرعي منه ؟ هذا ما سيكون الإجابة عليه في المباحث التالية :
المبحث الأول : حقيقة ا لاستنساخ
الاستنساخ في اللغة بمعنى : النقل ، يقال نسخت الكتاب نسخاً أي : نقلته من صورته المجردة إلى كتاب آخر ، ويأتي أيضاً بمعنى الإزالة ، يقال نسخت الشمس الظل أي : أزالته(2) .
أما معناها في الاصطلاح فهو عبارة عن : زرع خلية إنسانية أو حيوانية جسدية تحتوي على المحتوى الوراثي كاملاً في رحم طبيعي أو صناعي وذلك بغرض إنتاج كائن حي ( حيوان أو إنسان ) صورة طبق الأصل من نظيره صاحب الخلية الأولى(3).
أقسامه :
ينقسم الاستنساخ إلى قسمين :
أ - الاستنساخ الحيواني والنباتي
ب - الاستنساخ البشري وهو ثلاثة أنواع :
1 - الاستنساخ الجنيني ( الاستتآم )
وهو العمل على فصل خلايا بييضة ملقحة بخلية منوية بعد انقسامها إلى خليتين أو أكثر لتصبح كل خلية منها أيضاً صالحة للانقسام أيضاً بعد تهيئة ظروف نموها وانقسامها ، وهكذا يتوالى الانقسام والفصل في كل خلية ثم تزرع بعض هذه الخلايا في رحم الأم ، ويتم تبريد الباقي ليحتفظ به إلى وقت اللزوم .
2 - الاستنساخ العضوي :
وهو العمل على استنساخ العضو الذي يحتاج إليه الإنسان في حياته حال حدوث عطب في هذا العضو .
3 - الاستنساخ الخلوي ( التنسيل )(15/85)
وهو زرع خلية جسدية ( تحتوي على 46 كروموزوم ) مكان نواة منزوعة من بيضة ليتولى السيتوبلازم المحيط بالنواة الجديدة حثها على الانقسام والتنامي من طور إلى طور من أطوار الجنين الذي يكون بعد ولادته صورة مطابقة لصاحب تلك الخلية الجسمية من الناحية المظهرية(4) .
كيف بدأ الاستنساخ ؟
عندما نجح العلماء في معالجة البقرة ( روزي ) التي يمكنها إفراز حليب مقارب لحليب الأم البشرية بعد القيام بهندستها وراثياً هي وثمان بقرات أخر لإنتاج البروتين الآدمي ألفا لاكتالبومين Alpha-Human Lactalbumin ، وقد كلفت عملية إنتاج ( روزي ) وحدها 4 ملايين دولار أمريكي .
فكر ( ويلموت ) و ( كامبل ) في الحفاظ على هذه الخاصية في البقرة حيث أنه إذا تم التزاوج الطبيعي بين ( روزي ) وذكر آخر فقد تفقد الجين الوراثي الذي تم تهجينها به أثناء عملية اندماج الخلية المنوية بالبييضة لتكوين النطفة ، وبالتالي يضيع كل الجهد الذي بذله للوصول إلى هذا الاكتشاف ، ومن هنا بدأ العالم ( ويلموت ) يفكر في إمكانية حل المشكلة عن طريق الاستنساخ الجسدي أي من خلال أخذ نواة خلية من ثدي روزي تحتوي على كل صفاتها الوراثية بما في ذلك الجنين الذي يضع بروتين ( لاكتالبومين ) وتفرزه في لبنها ، ودمج هذه النواة مع بييضة نعجة أخرى بعد تفريغها من النواة التي تحمل كل صفاتها الوراثية ، لكي يكون الناتج جنيناً يحمل كل الصفات الوراثية لروزي التي أخذت منها الخلية الجسدية ، وهو مالا يمكن أن نضمنه لو تم تلقيح بييضة روزي التي تحمل نصف صفاتها الوراثية بخلية منوية من ذكر يحمل النصف الآخر وهكذا بدأت فكرة الاستنساخ(5).
المبحث الثاني : كيف تمت عملية الاستنساخ
إن الاعتقاد الطبي السائد كان يقوم على فكرة حصر عملية التكاثر عن طريق الخلايا الجنسية فقط إلا أن تقنية الاستنساخ صححت هذه الفكرة :
وقد تمت العملية على النحو التالي :
1 - تم أخذ خلية لبنية من ضرع النعجة ( أ ) وعمرها ست سنوات ووضعت في المعمل لتنميتها ووضعت في وسط حامضي يحتوي على نسب قليلة من المواد اللازمة لنموها لمدة خمسة أيام وبذلك تخرج الخلية من طور النمو إلى طور الراحة والتجويع .
2 - تم سحب بييضة من مبيض النعجة ( ب ) بواسطة إبرة خاصة ، ثم تفريغها من نواتها ووضعها في سائل كيميائي لإبطاء حركة نموها .
3 - تم حقن خلية ثدي النعجة ( أ ) في البييضة المفرغة للنعجة ( ب ) ثم تسليط كهربائي ضعيف عليها لإتمام عملية الالتحام والاندماج ، حيث تقوم الجزيئات في البييضة عندئذ ببرمجة الجينات في الخلية الثديية لإنتاج الخلية الأولية للجنين .
4 - تم وضع هذه الخلية المندمجة في محلول كيميائي لتنميتها .
5 - عند بلوغها مرحلة معينة من النمو والانقسام إلى خلايا متعددة تم نقلها إلى رحم النعجة ( ج ) لاحتضانها .
6 - بعد 160 يوماً تم ولادة النعجة التي سميت دوللي وعند تحليلها كروموزمياً ثبت أنها صورة طبق الأصل من النعجة ( أ ) التي أخذ منها الخلية الأصلية وليس من النعجة ( ب ) التي أعطت البييضة أو النعجة ( ج ) التي احتضنت البييضة طوال فترة الحمل(6).
وفي 24 شباط 1997م أعلن الدكتور ( أيان ويلموث ) وفريقه عن استنساخ
شاة استنساخاً جسديا وأسموها " دوللي " حيث أن هذه النعجة صارت أشهر نعجة في التاريخ حيث اشترك في وجودها ( ثلاث أمهات ) بدون أب الأولى أعطت الخلية المانحة للمورثات من ضرعها والثانية أعطت البييضة والثالثة حملت البييضة في رحمها حتى ولدت جنينيها الكامل وقد جاء هذا النجاح بعد 277 مرة وقد لوحظ على النعجة ما يلي :
1 - أن تركيبها الكروموزومي يتطابق تماماً مع النعجة ( أ ) التي أخذت الخلية منها .
2 - أنها كائن ثدي كامل سليم التكوين وقد ولدت ابنتها في نيسان 1998م بشكل طبيعي .
3 - أن الخلايا التي تحملها عمرها ( 6 )سنوات وليست كالنعاج الطبيعية وبالتالي ستصل لمرحلة الشيخوخة مبكراً .
وقد كانت المواقف متباينة تجاه الاستنساخ كما هو الشأن في عامة القضايا العلمية فالفريق المؤيد للاستفادة من الاستنساخ بضوابط يرى أنها ذات فوائد للأسباب التالية :
1 - أنه حل فاعل للرجال المصابين بالعقم الذين لا يوجد في منيهم خلايا منوية وكذلك للنساء اللواتي لا تقبل بييضاتهن التلقيح ، فالاستنساخ هو الحل الوحيد حتى الآن لأمثال هؤلاء(7) .
أما المجتمع الغربي الكافر فمشاكل العقم عندهم تحل عن طريق التبني أو أخذ خلايا منوية أو بييضات من متبرعين .
2 - أن بعض الرجال والنساء يفقدون قدرتهم على الإنجاب نتيجة تلقيهم علاجاً كيميائياً أو إشعاعياً بسبب إصابتهم بمرض السرطان ، وتعتبر هذه الوسيلة الوحيدة لهم كي ينجبوا كما في الحالة الأولى .(15/86)
3 - أن الاستنساخ يمكن أن يكون حلا لبعض المرضى من الرجال والنساء الذين يعانون من الفشل الكلوي حيث أن هؤلاء يعانون بشدة من نقص الأعضاء المتوفرة ويحتاجون لثلاث جلسات أسبوعية على الأقل لعمل الغسيل الكلوي الذي يستغرق ساعات طويلة ، ولو حالفهم الحظ ووجدوا متبرعين للكلية فسوف تعمل بأجسادهم لعدة سنوات فقط ثم سيحتاجوا بعدها لعملية نقل كلى أخرى بسبب رفض جسمهم لها بسبب اختلاف فصائل الأنسجة .
بينما لو تمكن الإنسان من عمل نسخة منه فإنه يضمن الحصول على أعضاء كثيرة خلقها الله مزدوجة عند الإنسان مثل الكلى والرئتين والمبايض أو الخصيتين بل حتى يمكنه الحصول على جزء من الكبد أو نخاع العظم دون التأثير على الإنسان المنسوخ مع ضمان استمرار عمل الأعضاء المنقولة في المريض بكفاءة ؛ لأنها من نفس الفصيلة(8).
4 - أن العباقرة في عالمنا محدودين ، وهم يقدمون للبشر خدمات كبيرة ، وربما مات العالم وترك فراغاً لا يسد إلا بعد فترة من الزمان ، فلو أمكن أخذ عدة نسخ منه لأمكن إنجاب عباقرة آخرين لمصلحة البشرية .
5 - في حالة فقدان أي زوجين لطفل أو أكثر من أطفالهم بسبب المرض أو الحوادث يمكن التخفيف من هذه المصيبة بأخذ خلية ومن ثم زرعها في الرحم بعد إجراء العمليات المناسبة فتحصل على نسخة طبق الأصل من الطفل المفقود .
6 - اختيار جنس الجنين في المستقبل حسب الظروف العائلية ؛ لأن الطفل يكون نسخة طبق الأصل من الخلية الملقحة بالبييضة(9).
هذه أبرز الفوائد التي يمكن الحصول عليها من خلال هذه التقنية - بغض النظر عن حكمها الشرعي - .
الاعتراضات الواردة على تقنية الاستنساخ :
1 - أن الاستنساخ مدعاة لتكثير الجريمة وانتشار الفساد وتضييع الحقوق حيث يصعب التعرف على الجاني في الجريمة التي يكون الدليل فيها بصمات الأصابع أو حمض النوويك وهو دليل يفي بتحديد شخص واحد تماماً حتى الآن ، وكذلك في القضاء حيث يلتبس على الشهود الجاني ، والزوجة قد يتعذر عليها التفريق لا سيما إذا كانت حديثة الزواج وهكذا الأمور الأخرى .
2 - أن هناك التباس وإشكال كبير في علاقة المستنسخ فلو صنعت عذراء نسخة لها من أحد خلاياها ثم أودعت الزريعة في رحمها لتنمو حتى الميلاد ، كيف يكون الحمل شرعياً وهي لا زوج لها ؟ وما علاقتها بالمولودة ؟ هل ولدت نسختها أو توأمتها ( أختها ) أو ابنتها ؟
3 - أن الاستنساخ مدعاة لفتح أبواب شائكة وقضايا معقدة وأمور تتنافى مع الشرع ومن ذلك :
1 - إحداث نسخة بعد موت الشخص ولو بعد عشرات السنين وبعد توزيع التركة .
2 - قد تستغني المرأة عن الزواج الشرعي للحصول على الولد حيث يتم تخصيب بييضتها بخلية من جسدها ثم الحصول على الطفل بلا حاجة للأب وهذا يؤدي لخلخلة
اجتماعية ونفسية معقدة حيث يفقد الطفل العواطف الأبوية(10).
3 - أن ذلك مدعاة لشيوع الفاحشة ، حيث ترغب النساء في الحصول على طفل لها طبق الأصل من رجل مميز كلاعب أو فنان أو عالم بالحصول على خلية منه والقيام بالتخصيب كما هو حاصل في بنوك العباقرة في الغرب ..
4 - ينجم عن الاستنساخ اختلال التوازن السكاني بسبب الاستغناء عن أحد الجنسين وفقدان التنوع الذي هو أساس المجتمع فالاختلاف حكمة إلهية "ولو شاء لجعلكم أمة واحدة " (11).
5 - قد يؤدي الاستنساخ إلى إنتاج أشخاص مشوهين أو مجرمين لديهم الاستعداد للإفساد أو التخريب .
أو تتسابق الدول لاستنساخ أفراد ذوي صفات معينة مما يمهد للحروب واعتبار هؤلاء أسلحة تهدد الشعوب الأخرى(12).
6 - إمكانية التلاعب بالجينات والخلايا والأجنة حسب الرغبات والأهواء واستعمالها للكسب والتجارة وهذا كله مسخ للإنسان وامتهان لكرامته .
7 - احتمال حدوث خلل تقني أثناء إجراء عملية الاستنساخ مما ينتج عنه تشوهات جسمية وعقلية ونفسية لم نسمع بها من قبل .
8 - استبدال الطريقة الطبيعية للتكاثر وعمارة الأرض واختلال النظم الاجتماعية كالزواج والأسرة والأبوة والبنوة والميراث وغير ذلك من أسس النسيج الاجتماعي(13).
المبحث الثالث : الحكم الشرعي في الاستنساخ
لابد من إفراد كل نوع من الاستنساخ بحكمه الخاص ، ومن الخطأ تعميم فكرة الاستنساخ ابتداء .
أولاً : الاستنساخ النباتي والحيواني
يختلف الاستنساخ النباتي والحيواني كثيراً عن الاستنساخ البشري ، لأن هذه المخلوقات جاءت لمصلحة البشر ومسخرة لخدمته والانتفاع بها ، بخلاف بني آدم الذي كرمه الله سبحانه .
وقد ذهب عامة الفقهاء المعاصرين إلى جواز الاستفادة من تقنية الاستنساخ في غير البشر بما يعود عليهم بالنفع ؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل مصالح العباد وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها .
ويستدل للجواز بما يلي :
1 - قوله تعالى : "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً " (14).
2 - قوله تعالى :"ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض "(15).
3 - قوله تعالى : "والأنعام خلقها لكم فيها دفٌ ومنافع ومنها تأكلون "(16).
وجه الدلالة :
أن الأرض وما فيها من نبات ودواب وغير ذلك مسخرة لنفع الإنسان ، فيجوز الانتفاع بتكثيرها باستنساخها وغير ذلك .(15/87)
4 - حديث ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله
عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها "(17).
5 - قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة "(18).
حيث أن كل عمل يصب في دائرة الإباحة حتى يأتي الدليل المانع لذلك .
6 - قاعدة " الضرر يزال "(19).
حيث تبين أن الاستنساخ الحيواني والنباتي سيكون سبباً في توفر الثمار الكثيرة واللحوم الوفيرة والألبان بكميات هائلة مما يدفع ضرر التخوف من نقص موارد الأرض ، إضافة إلى تطلع العلماء إلى أنه سيكون سبباً في درء العديد من المضار والمفاسد نحو مقاومة بعض الأمراض المورثة والتغلب على نقص الدم وقلة الأعضاء .
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة عام 1418هـ - 1997م " يجوز شرعاً الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد "(20).
وجاء في قرار الحكم الشرعي للجنة الطبية الفقهية بالأردن : " أولاً : استنساخ أو تنسيل النبات و الحيوان جائز ضمن الضوابط الشرعية التالية :
1 - أن تتحقق المصلحة الشرعية المفيدة من هذه الإجراءات .
2 - أن لا تدخل تحت باب العبث وتغيير خلق الله ، بمعنى العمل على إيجاد المسخ .
3 - أن لا يترتب عليها ضرر يربو على المصلحة المرتجاة .
4 - أن لا يترتب عليها إيذاء أو تعذيب للحيوان .
وقد خالف في هذا القرار الأستاذ الدكتور عمر الأشقر حيث رأى حرمة استنساخ الحيوان لمخالفته سنة الله في التكاثر والخلق "(21).
وهذه المخالفة التي انفرد بها عمر الأشقر مبنية على أن سنة الله في التكاثر تكون بين الذكر والأنثى حتى في الحيوان ، ووضع خلية جسدية في بييضة منزوعة النواة أمر مخالف لسنة الله في التكاثر ويخشى أن تظهر مفاسد وأضرار لهذا النوع ، لأن فتح باب الجواز في الحيوان قد يفتح المجال لإجرائه في الإنسان .
وقد أجيب عن هذا الاعتراض بأن التفريق بين خلق الله وسنن الله ليس له مستند شرعي يدل على التحريم وفرق عظيم بين قياس الإنسان على الحيوان فالجواز في الحيوان لا يعني البتة جوازه في الإنسان .
والرسولل عليه الصلاة والسلام قال في قضية تأبير النخل حيث لم تثمر : " أنتم أعلم بأمور دنياكم "(22) .
فهذه قاعدة في جواز استخدام العقول والوسائل المختلفة التي تحسن شأن الحيوان والنبات ضمن الحدود الشرعية لا سيما أن الله أمرنا بإعمار الأرض واستخلفنا فيها(23).
وهذا التفريق يلزم منه تحريم أشياء كثيرة استجدت في حياتنا مثل حرمة أكل الدجاج الذي خرج بالفقس الصناعي ، لأنه لم يخرج عن طريق رقاد الدجاجة على البيض كما هو معهود ، وهو نوع من التكاثر الصناعي وهذا التحريم لم يقل به أحد من العلماء فيما أعلم والعلم عند الله .
ومن ثمرات تطبيق هذه التقنية :
1 - نجح اليابانيون في إنتاج سلالة من الأبقار كلها إناث في المختبر - فانتفت الحاجة إلى الذكور وبالتالي الاستمرار في إنتاج الحليب وتحقيق الكفاية من اللحوم .
2 - زراعة حقول ذات مساحات شاسعة من خلايا نبتة واحدة ، حيث تكون جميع النباتات الناتجة نسخاً متشابهة تماماً ولها نفس الخصائص من حيث كبر الثمرة وطعمها ومدى مقاومتها للأمراض .
3 - مواجهة مشكلة التلوث بإيجاد سلالات من البكتريا تقوم بتخليص البيئة من الملوثات بعد التحكم الجيني بها .
4 - تمكن العلماء باستخدام الكائنات الدقيقة الحية من إنتاج أصعب الأدوية وأندرها مثل الأنسولين المنظم لسكر الدم والسوماتاستاتين المنظم لأعمال بعض الغدد في الجسم والانترفيرونات التي تستخدم في علاج السرطان(24).
ثانياً : الاستنساخ البشري :
المطلب الأول : الاستنساخ الجنيني ( الاستتآم )
وصورته تكون بتلقيح البييضة بماء الزوج وعند الانقسام تفصل الخلايا كل خلية على حده لتكون نسخاً متعددة ثم تودع في رحم الزوجة(25).
وقد بدأت فكرة هذا النوع عام 1993 م من العالمين الأمريكيين ستيلمان وهول حيث أخذا ( خلية منوية تحتوي على 23 كروموزوم ) ولقحا بييضة ( تحتوي على 23 كروموزوم ) لينتجا بييضة ملقحة بنواة ذات 46 كروموزوم ثم انقسمت هذه الخلية الملقحة لتعطي أربع خلايا .
والأمر الجديد في بحثهما ما يلي :
1 - أنهما توصلا إلى أنزيم ومواد كيميائية استطاعت أن تذيب الغشاء البروتيني السكري المحيط بهذه الخلايا فانفصلت عن بعضها البعض .
2 - توصلا إلى مادة جديدة من الطحالب البحرية لإصلاح جدار الخلايا المنفصلة وتغطيتها حتى لا تتأثر .
3 - أخذا كل خلية من هذه الخلايا وقاما باستنساخ كل واحدة على حدة لتنتج ( 4 ) خلايا مرة أخرى أي الناتج ( 16 ) خلية ثم فصلا هذه الخلايا واستنساخها على ( 64 ) .(15/88)
ثم جمدوا هذه الخلايا التي هي البداية الأولى للجنين وأخذوا واحدة فقط لتنميتها حتى وصلت إلى 32خلية ولم يكملا العمل خوفاً من الجوانب الأخلاقية وهذا البحث جرى بعيداً عن أعين اللجان الأخلاقية وأذيع في أحد المؤتمرات عام 1993م وأثار زوبعة من الخلاف من علماء الدين وعلماء الأخلاقيات إلا أن علماء الخلايا والبيولوجيا منحوهما جائزة أحسن بحث في المؤتمر(26).
وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم هذه الصورة على النحو التالي :
القول الأول : التحريم وعليه جمهور العلماء المعاصرين وعليه قرر مجمع الفقه الإسلامي بجدة .
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي " تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين
أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري "(27).
القول الثاني : جواز استنساخ الجنين وعليه قرار اللجنة الطبية الفقهية بالأردن .
وقد جاء في ملخص الحكم الشرعي للاستنساخ الجنين البشري : " فصل الخلايا من البييضة الملقحة بعد الانقسام الأول أو الثاني أو الثالث أو بعد ذلك بقصد استعمالها لإحداث الحمل في فترة الزوجية جائز شرعاً ، وتحكمه القواعد ذاتها التي تحكم موضوع التلقيح الاصطناعي الخارجي ( طفل الأنابيب ) In-Vito r -Fe r tilization (IVF) وقد وافق الفقهاء الحضور بالإجماع على ذلك … وقد تحفظ على هذا الرأي كل من الشيخ الدكتور راجح الكردي والشيخ الدكتور عبد الناصر أبو البصل ، الذي كان رأيه أن الاستنساخ الجنيني غير جائز إلا في حالة امرأة لديها مشكلة في ثبات الحمل ، فيجيز الاستنساخ والتجميد لهذه الغاية فقط "(28) .
المناقشة :
استدل المانعون بالأدلة والاعتراضات التي تمنع الاستنساخ ( الجسدي ) ورأوا أنها تأخذ نفس الحكم لكونها كالاستنساخ الجسدي من حيث الأصل .
أما القائلين بالجواز فرأوا أنها تأخذ حكم التلقيح الصناعي الخارجي لأن هذه العملية قائمة بين رجل وزوجته في ظل العلاقة الزوجية ولا علاقة لطرف ثالث في العملية ولها فوائد وهذه التقنية تفيد في الآتي :
1 - أنها علاج لبعض حالات العقم لدى المرأة والرجل فالمرأة التي تعاني مشكلة الفقر في التبويض ، والرجل الذي تكون خلاياه المنوية ميتة أو بها تشوهات إلا القليل منها فإن هذه التقنية تساعده في الإنجاب .
2 - أنه يمكن الاستفادة منها في تشخيص الأمراض الوراثية في المختبر فالنسخة التي تم استنساخها يمكن فحصها فإن كان ثمة مرض وراثي أهملت جميع النسخ ولم تودع في الرحم وبذلك نتحاشى ولادة أطفال مشوهين .
أدلة المانعين :
1 - قاعدة " يتحمل الضرر الخاص أمام الضرر العام "(29).
حيث أن المصلحة الجزئية لحالات محدودة ممن ابتلوا بالعقم والتي تحل مشكلة بعض الأسر لا تعارض هذه المفسدة بالمفاسد المترتبة بفتح أبواب الاستنساخ الجنيني حيث أن احتمال الاختلاط والعبث بالخلايا وارد خاصة في هذا الزمان الذي ضعفت فيه الأمانة وقاعدة سد الذرائع أخذ بها عامة العلماء .
2 - أن النطفة أصل الإنسان ، والإنسان مكرم وهو جنين منذ تكونه فلا يصح العبث بالنطفة ولا مساسها دون حاجة داعية لذلك واحتمال إجهاض النطفة أثناء العملية وارد(30).
3 - إن المحاذير الواردة في الاستنساخ الخلوي أكثرها موجود في الاستنساخ الجنيني .
الترجيح :
يظهر لي جواز الاستنساخ الجنيني عند وجود الحاجة الماسة أو الضرورة إليها كما هو الشأن في علاج بعض مشاكل العقم لكون الطريقة من حيث المبدأ سليمة .
أما في الأحوال العادية كالرغبة في الحصول على أجنة متشابهة فلا يجوز ؛ لأن الأصل في التلقيح الصناعي الجواز عند الضرورة و " الضرورة تقدر بقدرها " فلا يتوسع في استباحة المحظور والله أعلم .
وقد جاء في البيان الختامي لندوة ( رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة ) الصادر عن المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة في الدار البيضاء في صفر - 1418هـ - يونيو 1997م في شأن استنساخ الجنين البشري " ترى الندوة أن الطريقة من حيث مبدأ التلقيح سليمة ، لكن تقويمها من ناحية النفع والضرر لا يزال في حوزة المستقبل ، ومن منافعها القريبة المنال إمكان تطبيق الوسائل التشخيصية على أحد الجنينين أو خلايا منه ، فإن بانت سلامته سمح بأن يودع في الرحم ، وكذلك التغلب على بعض مشاكل العقم وينطبق عليها كل الضوابط المتعلقة بطفل الأنابيب "(31).
الاستنساخ والعقيدة الإسلامية :
توهم بعض الناس أن الاستنساخ يتصادم مع العقيدة الإسلامية القاضية بأن الخلق والإيجاد لله وحده ، وأن هذا الاستنساخ الذي هو من فعل البشر يضاهي خلق الله .
وقد جاء هذا التوهم نتيجة الإثارة الهائلة التي واكبت عملية الاستنساخ والعبارات التي صدرت بها بعض الصحف الغربية والعلمانية هذا الاكتشاف مما جعل البعض ينكر الاستنساخ أصلاً أو يظن أن في ذلك تحدي للخالق وهذا وهم ظاهر .
ويمكن الإجابة على هذه الشبه بما يلي :(15/89)
1 - أن الاستنساخ ليس خلقاً ، بل هي طريقة جديدة للتكاثر غير الطريقة المعهودة في البشر فالخلية المستنسخة والبييضة كلها من خلق الله ، ولم تكن معدومة فأوجدت . بل غايته التلقيح بصورة جديدة فقط . فالعلماء يتعاملون مع عناصر مخلوقة من عند الله فالخلية من النعجة والنعجة لم يوجدها العلماء بل هي من خلق الله ، وعملية الانقسام الخلوي التي تتم بوسائل حيوية بالغة التعقيد داخل الخلية نفسها وكلها موجودة ولم يخلقها العلماء .
والخلق عند الإطلاق يدل على الإيجاد من العدم ويدل لذلك :
أ - قوله تعالى : "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً" (32).
ب - قوله تعالى : "أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً" (33).
ج - قوله تعالى : "إنه يبدأ الخلق ثم يعيده"(34).
2 - أن الله سبحانه أوجد القابلية للتكاثر في خلقه بهذه الطريقة وغاية ما فعله الإنسان هو اكتشاف هذه الخاصية وتسخيرها لخدمته ولا يعد هذا خلقاً كما هو الشأن في النبات حيث يمكن غرس غصن البرتقال في شجرة ليمون لتحمل شجرة واحدة ثمرتين أو تهجين نباتين مع بعضها لينتج ثمرة تحمل صفتين مثل ( الليم ) وكذلك الشأن في الحيوان مثل البغل الناتج من الحصان والحمار ، فكل هذا لا يعد خلقاً ولا يتعارض مع سنن الله .
3 - أن العمل لو كان فيه معنى الخلق ، فليوجد العلماء خلية أو بييضة من العدم أو من التراب كما هو شأن الخالق وهذا ما يستحيل تصوره عقلاً فضلاً عن إمكانية تحقيق ذلك لدى البشر .
وقد أعلمنا الله أن الآلهة التي يعبدها البعض لن تستطيع أن تخلق ذبابة صغيرة ولو اجتمعوا لذلك وإن سلب الذباب منهم شيئاً لن يستطيعوا رده البتة .
وهذا التحدي قائم أبداً لا يمكن للبشر أو غيرهم خرق هذا التحدي(35)، قال
تعالى : "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " (36).
هل يتنافى وقوع الاستنساخ في البشر مع العقيدة الإسلامية ؟؟
ظن البعض أن عملية الاستنساخ يستحيل وقوعها في البشر لأن ذلك يتنافى مع دلالة بعض النصوص كقوله تعالى : "يخرج من بين الصلب والترائب " (37) ، أي صلب الرجل وترائب ( صدر ) المرأة . والاستنساخ البشري قد يقع من أي خلية من الرجل مع بييضة المرأة أو خلية من المرأة نفسها مع بييضتها دون الرجل .
والجواب على هذا التوهم ما يلي :
1 - أن ولادة الطفل بالطريقة المعهودة لا يعني عدم وقوع غيرها ، فالنصوص دلت على الطريقة المعروفة ولم تنف ما سواها ، فالآية في سياق الخبر لا الحصر .
2 - أن المراد بقوله تعالى يخرج من بين الصلب والترائب ( الإنسان ) وليس كما هو مشهور أن ذلك مني الرجل من الصلب وماء المرأة من الصدر فالآية في سياق الخبر عن الإنسان ويفهم هذا من السياق على النحو التالي :
"فلينظر الإنسان مم خلق" - الخبر عن الإنسان -
"خلق من ماء دافق" - أي الإنسان -
"يخرج من بين الصلب والترائب" - أي الإنسان -
"إنه على رجعه لقادر" - أي الإنسان -
وهذا التفسير يدل عليه علم الأجنة حيث أن وضع الجنين في البطن عند خروجه يكون رأسه لأسفل ويمتد جسمه ليصل الصدر مع الظهر فهو يخرج من بين الصلب والترائب(38) .
المطلب الثاني : الحكم الشرعي في الاستنساخ الخلوي
والمراد به إحداث تلقيح بالبييضة عن طريق خلية من الجسم غير منوية كما تقدم ، وهذا النوع هو الذي تناولته وسائل الإعلام والكتاب وعليه الاعتراضات الكثيرة وقد نجحت في مجال الحيوان ويتوقع نجاحه في الإنسان ، وقد تقدم بيان موقف المؤيدين والمعارضين لقضية الاستنساخ .
أما الحكم الشرعي يمكن تلخيصه على النحو التالي :
القول الأول : التحريم وهو رأي عامة الفقهاء المعاصرين منهم محمد بن صالح العثيمين ، وعبد الكريم زيدان ، ويوسف القرضاوي ،ونصر فريد واصل ، ومحمد سيد طنطاوي ، ومحمد سعيد البوطي ، ومحمود السرطاوي ، وعجيل النشمي ، وعبد الستار أبو غدة ، وعبد الله بن منيع ، ومحمد الأشقر ، ووهبه الزحيلي(39).
وعليه قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي وقرار اللجنة الفقهية الطبية بالأردن(40).
القول الثاني : التوقف
وهو رأي محمد تقي الدين العثماني والشمري .
وهذا القول جاء بناء على أن الاستنساخ البشري ليس إلا نظرية وخيال ، ولم يأت إلى حيز الوجود ، ولكون المعلومات والصورة الحقيقية بهذا النوع لم تتضح بعد وقد كان بعض السلف يقول : " لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله "(41).
القول الثالث : تأييد الاستنساخ البشري
وهذا الرأي ذهب إليه من لا يعتد بقوله شرعاً من الشيعة والصحفيين والأطباء وغيرهم فلا يعول عليه(42).
الأدلة :
استدل القائلون بتحريم الاستنساخ البشري ( الخلوي ) بالأدلة التالية :
1 - قوله تعالى : "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم "(43).
وجه الدلالة :
أن التمايز بين أبناء البشر ضرورة للناس اقتضتها حكمة الباري سبحانه وتعالى والاستنساخ وشيوعه ينافي هذه الحكمة .
2 - قوله تعالى : "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً " (44).(15/90)
وجه الدلالة :
الأمشاج هو المزيج المختلط بين ماء الرجل وماء المرأة وهذا الخليط في الاستنساخ ينتهي بنزع النواة من البييضة ، فيكون خصائص الأنثى معدومة وهذا نوع من تغيير خلق الله(45).
3 - قوله تعالى : "وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى "(46).
4 - قوله تعالى : "فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب" (47).
وجه الدلالة :
أن الاستنساخ يتعارض مع النصوص الشرعية الدالة على طريق معهود للتكاثر عن طريق الزوجين بمائهما فقط(48).
5 - قوله تعالى : "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (49).
وجه الدلالة :
أن الزواج هو أساس التكاثر في الشرع وهو سبيل إيجاد المودة والرحمة ، وفي الاستنساخ مساس بالعلاقة التي أوجدها الله في النكاح ليكون من آثاره حصول الأولاد وانتسابهم ، إضافة إلى أن الاستنساخ يخالف معنى التخليق الشرعي (من أنفسكم ) لأن
الكائن الجديد لا يحمل صفات الأبوين معاً(50).
6 - قوله تعالى : "فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" (51).
وجه الدلالة :
أن النسخ يصطدم بفكرة الموت وهو سبيل الخلود عند بعض الباحثين عنه ، والخلود من الأفكار الشيطانية وكل سبيل يؤدي إليه له حكمه(52).
7 - قوله تعالى : "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء" (53).
وجه الدلالة :
الآية تقرر أن بث الرجال والنساء وهم الذرية ناتج من الزوجين لقوله سبحانه : "وبث منهما" والقول بأن الإنجاب يصح من المرأة نفسها يعارض هذه الآية(54).
8 - حكاية الإجماع :
حيث انعقد إجماع الأمة سلفاً وخلفاً على المعاني المتصلة بطريقة التكاثر البشري من خلال الاتصال الجنسي بين الزوجين .
قال نور الدين الخادمي: "إن الإجماع لم يكن شرعياً فقط إن لم يصدر من علماء الشرعية ومجتهديها فحسب ، وإنما صدر من جهات فكرية وسياسية مختلفة وانعقد من قبل هيئات ومنابر ومؤسسات وهياكل متعددة التخصصات والفنون والمعارف والاهتمامات ، فقد كان إجماعاً شرعياً وعالمياً ،واتفاقاً عاماً على وجوب منع هذا النوع من الاستنساخ الخسيس ، ولزوم حظر تجاربه ومنجزاته "(55).
7 - قاعدة " سد الذرائع " وقواعد الشريعة الأخرى " الضرر يزال " و " كل ما أدى إلى الحرام فهو حرام "(56).
حيث أن الاستنساخ يؤدي إلى مفاسد كثيرة سبق بيانها ومن أعظمها علاقة المستنسخ بالأصل هل هي البنوة أم الأخوة وإذا كانت الأخوة هل سيكون مثل الأخ الشقيق أم كالأخ لأم ، وكذا البنوة هل يتساوى مع ابن الصلب مما يؤثر على قضية الميراث والولاية والمحرمية والوصية وأحكام عديدة .
إضافة إلى اختلال الناحية الأمنية إذا حصلت جريمة حيث تتشابه بصمات الأصابع وكذلك البصمة الوراثية وكذلك يضطرب أمر القضاء إذا تعدد الشهود المتشابهين تماماً وفي حالة النكاح لا تدري المرأة زوجها من شبيهه المستنسخ إذا كانوا متعددين وأمور عديدة تنتج من ا لاستنساخ .
قال ابن تيمية : " ليس كل سبب نال به الإنسان حاجته يكون مشروعاً ولا مباحاً وإنما يكون مشروعاً إذا غلبت مصلحته على مفسدته مما أذن فيه الشرع
والمسلم يعلم أن الله لم يحرم شيئاً إلا ومفسدته محضة أو غالبة "(57).
ويظهر لي :
أن الأدلة التي ساقها الجمهور لتحريم الاستنساخ لا يخلوا من نظر ؛ لأن الشرع إذا أخبر عن طريق معهود للتكاثر لا يعني تحريم غيره فطفل الأنبوب جائز عند الجمهور رغم مجيئه بطريقة غير معهودة بل بتلقيح صناعي وليس هناك ثمة دليل يمنع إنجاب الولد بخلية جسدية إذا تعطلت الخلية المنوية .
لذا أرى أن التحريم للاستنساخ ليس في ذاته بل لغيره وذلك لما تجره من المفاسد الكثيرة للقاعدة الفقهية "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح " أما المصالح الفردية التي يمكن أن يستفاد منها فلا تعارض المصلحة العامة للبشر لكونها هي المقدمة عند التعارض للقاعدة الفقهية " يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام "(58).
ومع هذا فلا شك أن الأطباء سيمضون في تجاربهم لا سيما وأن بعض الدول كبريطانيا سمحت بإجراء هذه التجارب رسمياً ، ولعلهم ينجحون في تجاربهم في استنساخ البشر فإذا تم ذلك فيرى بعض الباحثين أنه لا مانع من إعطاء فرصة وحيز من الاجتهاد في إعادة النظر في حكم بعض الحالات الفردية كأخذ خلية جسدية من زوج عقيم لا يمكن الإنجاب إلا عن طريق الاستنساخ وتوضع في رحم زوجته أثناء قيام الزوجية والله أعلم.
(1) انظر : الاستنساخ قنبلة العصر لصبري الدمرداش ص 13 - 19 ، حول الهندسة الوراثية وعلم الاستنساخ لمحمد صالح المحب 143 - 180 ، عصر الهندسة الوراثية لعبد الباسط الجمل ص 11 - 99 ، ثبت علمياً حقائق طبية جديدة لموسى محمد ص 125 ، آيات الله المبصرة لتوفيق علوان ص 131.
(2) انظر : مادة ( نسخ ) : معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص 1026 ، المصباح المنير للفيومي ص 310 ، المعجم الوسيط ص 917 .
(3) انظر : ا لاستنساخ البشري لتوفيق علوان ص 13 .(15/91)
(4) انظر : رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة بحث الاستنساخ لحسن الشاذلي 2 / 267 وبحث الاستنساخ البشري بين الإقدام والإحجام لأحمد رجائي الجندي 2 / 133 - 135 بحث الاستنساخ ( الكلونة ) لصديقة العوضي 2 / 165 - ضمن مطبوعات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية - .
(5) انظر : الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص 130 .
(6) انظر : الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص 144 ، اعطني طفلاً بأي ثمن لسمير عباس ص 303 ، آيات الله المبصرة لتوفيق علوان ص 146 .
(7) وقد تقدم أن الأطباء استطاعوا بفضل الله مساعدة زوجين في الإنجاب عن طريق خلايا مستديرة من أنسجة خصية الزوج وحقنها في بييضات الزوجة بواسطة الحقن المجهري وذلك لعدم وجود أي خلايا منوية لدى الزوج .
(8) انظر : أعطني طفلا بأي ثمن لسمير عباس ص 306 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 324 بحث الاستنساخ لصالح الكريم .
(9) انظر : الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص186 - 194، أعطني طفلا بأي ثمن لسمير عباس ص 307.
(10) انظر : بين جنون البقر واستنساخ البشر للسيد وجيه ص 127 - 133 ، البيولوجيا ومصير الإنسان لسعيد الحفار ص 109 ، عصر الهندسة الوراثية لعبد الباسط الجمل ص 130 .
(11) سورة النحل : 93 .
(12) انظر : حول هندسة الوراثة وعلم الاستنساخ لمحمد صالح ص 183 ، الاستنساخ قنبلة العصر لصبري الدمرداش ص 92 .
(13) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 97 - 98 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 324 - 327 بحث الاستنساخ لصالح الكريم .
(14) سورة البقرة : 29 .
(15) سورة لقمان : 20 .
(16) سورة النحل : 5 .
(17) أخرجه الدارقطني 4 / 184 برقم 42 ، وحسنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 275 .
(18) انظر : الضرر في الفقه الإسلامي لأحمد موافي 2 / 935 ، قاعدة اليقين لا يزول بالشك للباحسين 107، رفع الحرج في الشريعة الإسلامية لصالح بن حميد ص 107 بلفظ " الأصل في المنافع الإباحة " قواعد الفقه للبركتي ص 59 .
(19) انظر : الأشباه والنظائر لابن السبكي 1 / 41 ، المبادئ الفقهية لمحمد درويش ص 19 ، القواعد الكبرى للعجلان ص 90 الاستنساخ لنور الدين الخادمي ص 133 ويرى أن هذا النوع يمكن أن يكون مندوباً أو واجباً حسب الحاجة إليه .
(20) انظر : قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص 216 .
(21) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 119 .
(22) أخرجه مسلم كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً برقم 2363 .
(23) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 114 - 117 المناقشات الفقهية لموضوع الاستنساخ والرد لإبراهيم الكيلاني وزير الأوقاف السابق بالأردن .
(24) انظر : الاستنساخ لنور الدين الخادمي ص 147 ، الاستنساخ قنبلة العصر لصبري الدمرداش ص 79 ، الهندسة الوراثية والأخلاق لناهد البقمي ص 96 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 244 ، 283 بحث الاستنساخ البشرى لأحمد الجندي و الاستنساخ لصالح الكريم .
(25) انظر : الاستنساخ البشري لتوفيق محمد ص 29 .
(26) انظر : مجلة المجمع الفقهي العدد العاشر 3 / 242 - 243 بحث الاستنساخ البشري لأحمد الجندي .
(27) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 421 والطريقتين هي الاستنساخ الجنيني والاستنساخ الخلوي ( الجسدي ) .
(28) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 173 ، والفقهاء الموافقون محمد الأشقر ومحمد شبير وعمر الأشقر وهمام سعيد وفضل عباس .
(29) انظر : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87 ، شرح المجلة للباز ص 31 ، النظريات الفقهية للزحيلي ص 226 .
(30) انظر : دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة بحث عمليات التنسيل ( الاستنساخ ) وأحكامها الشرعية لعبد الناصر أبو البصل 2 / 657 .
(31) انظر : رؤية إسلامية لبعض المشكلات الطبية المعاصرة 2 / 509 - 510 .
(32) سورة مريم : 9 .
(33) سورة مريم : 67 .
(34) سورة يونس : 4 .
(35)انظر:الاستنساخ البشري بين القرآن والعلم الحديث لتوفيق علوان ص35-38،الاستنساخ البشري لفوزي محمد ص 214 ، موقع الإسلام على الإنترنت islamonline.net مقالة نحو اجتهاد لضبط قضية الاستنساخ .
(36) سورة الحج : 73 .
(37) سورة الطارق :5-8 .
(38) انظر : القرار المكين لمأمون شقفة ص 34 ويبدو لي أن البار تكلف في تفسير الآية علمياً حين ذكر أن التغذية الحاصلة للخصية والمبيض بالدماء والأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها أي من بين الصلب والترائب لذا فتكون المني في الخصية نسب للصلب باعتبار أنه استقى مواد التكوين من العروق والأعصاب المتدلية من الظهر وكذلك الشأن بالنسبة للمرأة وهذا خلاف الظاهر والله أعلم انظر كتابه خلق الإنسان ص 116 .
(39) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي - المناقشات الفقهية - العدد العاشر 3 / 392 ، 412 ، 371 ، جريدة المسلمون العدد 647 في 27 يونيو 1997م .
(40) انظر : قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي ص 216 ، قضايا طبية معاصرة 2 / 157 .
(41) انظر : مجلة مجمع الفقه الإسلامي - المناقشات الفقهية - العدد العاشر 3 / 368 ، 373 ولاحظ أن هذه المناقشات كانت عام 1418هـ / 1997م .(15/92)
(42) انظر : أعطني طفلا بأي ثمن لسمير عباس ص 308 ، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد العاشر 3 / 220 - 226 ، جريدة الشرق الأوسط مقال الاستنساخ البشري بين الحرمة والإباحة لعبد الهادي الحكيم بتاريخ 23 / 6 / 2001م .
(43) سورة الروم : 22 .
(44) سورة الإنسان : 2 .
(45) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 137 ، المناقشات الفقهية - والاستدلال لإبراهيم الكيلاني .
(46) سورة النجم : 45 .
(47) سورة الطارق : 5 - 7 .
(48) انظر : قضايا طبية معاصرة 2 / 128 - المناقشات الفقهية - .
(49) سورة الروم : 21 .
(50) انظر : الأحكام الطبية المستجدة لمحمد النتشة 1 / 247 ، قضايا طبية معاصرة 2 / 131 - المناقشات الفقهية - .
(51) سورة طه : 120 .
(52) المصدر السابق .
(53) سورة النساء : 1 .
(54) انظر : دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة بحث عمليات التنسيل ( الاستنساخ ) وأحكامها الشرعية لعبد الناصر أبو البصل 2 / 678 .
(55) انظر : الاستنساخ لنور الدين الخادمي ص 84 - 85 وهذا الإجماع الذي حكاه غريب جداً ، وأعجب منه أن يدعي أنه على مستوى جميع التخصصات والفنون وهناك عدد كبير من الأطباء المسلمين وغيرهم يرحبون بهذا النوع ويؤيدونه ومن المؤيدين من الغرب الباحث فليتشر من جامعة فرجينا وادوارد من جامعة كامبردج - وهو أول من أجرى عمليات طفل الأنبوب - والباحث فيشل من إنجلترا وسيدل من جامعة كولورادو والباحث الشهير دات من كندا ودواكن من أكسفورد وديش من بريطانيا وهولمان وفليك ودوكاس من أمريكا ، انظر : الاستنساخ البشري بين التحليل والتحريم لفوزي محمد ص 248 - 249 .
(56) انظر هذه القواعد : النظريات الفقهية لمحمد الزحيلي ص 223 ، الوجيز للبورنو ص 201 ، روضة الفوائد لمصطفى مخدوم ص 51 ، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2 / 328 ، مجلة المجمع الفقهي العدد العاشر 3 / 378 المناقشات الفقهية .
(57) انظر : طريق الوصول إلى العلم المأمول جمع عبد الرحمن السعدي ص 203 .
(58) انظر القاعدة : الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 87 ، شرح المجلة للباز ص 31 القاعدة 26، الضرر في الشريعة الإسلامية لأحمد موافي 2 / 944 ، النظريات الفقهية للزحيلي ص 226 .
==============(15/93)
(15/94)
العولمة وأثرها على الهوية[1/2]
د. خالد بن عبد الله القاسم 2/5/1427
29/05/2006
- تعريف العولمة
- تعريف الهوية وأهميتها
- الآثار السلبية للعولمة على الهوية
* تعريف العولمة
العولمة كظاهرة بدأ انطلاقها في بداية هذا القرن الهجري في الثمانينات الميلادي وهي مرتبطة بثلاث أحداث كبرى سياسية،وتقنية، واقتصادية.
1- السياسية: حيث انتهاء المواجهة بين الشرق والغرب، وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشرقي.
2- التقنية: وهي الثورة المعلوماتية، حيث شهدت هذه الفترة طفرة تقنية هائلة في مجال الاتصالات الإلكترونية وانتقال المعلومات، حيث ساهمت مساهمة فعالة في حدوث العولمة. .
3- الاقتصادية: وظهور منظمة التجارة العالمية عام 1995م، ومقرها جنيف لتخلف الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية (الجات) وكتتويج لانتشار مذهب التبادل الحر واقتصاد السوق الذي بات أيديولوجية تسيطر على العالم شرقه وغربه، وهو ما وافق عليه قادة العالم عام 1998م، أثناء مشاركتهم في الاحتفال بمرور 50 عاماً على الجات(1)، وظهور الشركات متعددة الجنسيات.
لم توجد العولمة في السابق مع سيطرة أمم عسكرياً واقتصادياً كالحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية وبريطانيا ولكن في الوقت الحاضر اجتمع سيطرة القطب الواحد مع التقدم المذهل في الاتصالات والمواصلات ..
تختلف تعاريف العولمة بين المفكرين حيث يركز كثير من الكتاب على الجانب الاقتصادي وينبه على خطورتها من هذا الجانب بزيادة الفقر وتكدس الأموال وخدمة الشركات الكبيرة واضمحلال الصغرى أو إيجابيتها من انفتاح الأسواق وزوال الحواجز عن الأيدي العاملة، ومنهم من يبشر بها باعتبارها تحرر من الدول المغلقة وانطلاق نحو العالمية والتقدم.
ومنهم من يركز على الجانب الثقافي وأضراره، ومنهم من يأخذها بمفهومها الشامل، وهذا الاختلاف بسبب ذكر كل واحد جانباً من الموضوع وهو يذكرنا بمثل الذين دخلوا على الفيل في غرفة مظلمة فكل منهم عرفه بما لمسه منه.
ومع اختلاف تعريفات العولمة إلا أنها تأخذ عدة ظواهر:
- التقدم الهائل في وسائل الاتصال، لا سيما ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية.
- هيمنة الغرب لا سيما أمريكا وسقوط المعسكر الشرقي، وتأخذ هذه الهيمنة أبعاداً عسكرية واقتصادية وثقافية وسياسية.
- بروز المؤتمرات المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسيات.
وهذه التعريفات تتباين في درجة قبولها وخطورتها، حيث نجد أن أكثر المفكرين المسلمين ينبه على خطورتها مع التركيز على الاقتصادي كما فعل د. سعد البازعي حيث يقول: "العولمة هي الاستعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيماً تدعم انتشار تلك المصالح وترسخها، إنها الاستعمار بلا هيمنة سياسية مباشرة أو مخالب عسكرية واضحة. إنها بكل بساطة عملية يدفعها الجشع الإنساني للهيمنة على الاقتصادات المحلية والأسواق وربطها بأنظمة أكبر والحصول على أكبر قدر من المستهلكين، وإذا كان البحث عن الأسواق والسعي للتسويق مطلباً إنسانياً قديماً وحيوياً ومشروعاً، فإن ما يحدث هنا يختلف في أنه بحث يمارس منافسة غير متكافئة وربما غير شريفة من ناحية ويؤدي من ناحية أخرى إلى إضعاف كل ما قد يقف في طريقه من قيم وممارسات اقتصادية وثقافية"(2).
بينما يركز آخرين على الجانب الثقافي وربما سموها اختراقاً كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري حيث قال: "أن العولمة تعني: نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي .. والهيمنة، وفرض نمط واحد للاستهلاك والسلوك"(3). أو فرض النموذج كما يصفها الدكتور محمد سمير المنير حيث يقول: "فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماطه واستهلاكه على الآخرين، وإذا كان الفرنسيون يرون في العولمة صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي .. "(4). أو غزو شامل كما اعتبرها أسعد السحمراني حيث قال: إن العولمة/الأمركة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية، كل ذلك يعملون له باسم العولمة وحقوق الإنسان(5).
والتصريح بأنها أمركة تصريح صحيح باعتبارها المؤثر الأقوى وقد أكد على أن جوهر العولمة هو النمط الأمريكي، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية، وأنماط العيش والسلوك الأمريكي(6).
وربما تكون صهينة لا سيما واستثمار اليهود الذين يقودون الغرب وأمريكا تحديداً للعولمة للسيطرة على العالم من الاستعمار إلى الاستحمار (ركوب الأمم واستغلالها دون القضاء عليها) (7).
بينما نجد البعض يجعلها مجرد انتماء عالمياً، كما عرفها الدكتور صبري عبدالله حيث قال: "بأنها ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيه للعالم كله، عبر الحدود السياسية للدول"(8).(15/95)
بل إن البعض يجعل العولمة الثقافية مجرد خدعة لإلهاء الشعوب عن الغزو والمصالح الاقتصادية، حيث يقول حسن حنفي "يتم تصدير صراعات الحضارات للنطق بما كان مسكوتاً عنه سلفاً ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة، ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء الشعوب الهامشية بثقافاتها التقليدية، بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض النتاج عوداً إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية، في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية"(9).
ونجد سمير الطرابلسي ينبه إلى خطورة العولمة التي تشكلها الولايات المتحدة بجميع جوانبها المهمة حيث يعرفها بأنها الرؤية الاستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والرامية إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها، وأطماعها، سائرة نحو ذلك الهدف على ثلاثة مسارات متوازية: الأول: اقتصادي وغايته ضغط العالم في سوق رأسمالية واحدة، يحكمها نظام اقتصادي واحد، وتوجه القوى الرأسمالية العالمية (الدول الصناعية السبع والشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية) وتضبط حركته قوانين السوق وآلياته. والثاني: سياسي ويهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنسانيين، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني. وأخيراً المسار الثقافي الذي يهدف إلى تقويض البنى الثقافية والحضارية لأمم العالم، بغية اكتساح العالم بثقافة السوق التي تتوجه إلى الحواس والغرائز، وتشل العقل والإرادة، وتشيع الإحباط والخضوع، وتشهد منطقتنا العربية ترجمة لهذه التوجهات من خلال مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية(10).
وفي تقديري أن هذا أفضل تعريفات العولمة التي وقفت عليها، وبالإمكان القول أن العولمة:- وصف لظواهر متعددة يجمعها جعل العالم متقارباً مثل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والمواصلات والفضائيات والإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، مع سلطة القطب الواحد (أمريكا بقيادة صهيونية) الذي يسعى لعولمة اقتصادية وعسكرية تحقق مصالحه كما يسعى لعولمة ثقافية بفرض قيمه وثقافته (وهذه النقطة هي ما تعنينا) حول عولمة الثقافة المهدرة للهوية.
العولمة نموذج من مخططات الاستعمار التي نبه عنها وكتب فيها، الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وهذا قبل ظهور مصطلح العولمة، وقد كتب يقول: غوليامو فرير الفيلسوف الكاتب الإيطالي الشهير في علم الاجتماع والتاريخ لا في إيطاليا فحسب بل في أوروبا بأجمعها، وإذا كتب كتاباً أو نشر مقالة تجاوبت لها أصداء الشرق والغرب وتركت دوياً. نشر الفيلسوف المؤرخ المشار إليه كتاباً أخيراً باسم "وحدة العالم" لا يزيد على مئات معدودات من الصفحات طاف فيه على جميع الحوادث الجارية على سطح الكرة الأرضية، ودقق في مصادرها وأسبابها، فذهب إلى أنها مع تناقضها وتصادمها بعضها ببعض سائرة في الحقيقة على نظام ثابت مستقيم، ووصل إلى هذه النتيجة وهي:
أن مشروع الفتح والامتداد الذي يتابعه العالم المتمدن "أي الأوروبي" منذ أربعة قرون، والذي بدأ بطيئاً وانقلب سريعاً في آخر الأيام، يظهر للمتأمل أنه آيل إلى "توحيد العالم الإنساني" ولم يكن هذا "التوحيد" ليتم بدون جهد وبدون بلاء، لأن البشر خلقوا أطواراً، وبينهم من التدابر والتقابل ما يؤذن بالأخذ والرد والعكس والطرد، وهناك أسباب عديدة للحب والبغض والقرب والبعد، مع هذا كله تجد العالم سائراً إلى الوحدة، فإذا نظرنا إلى كيفية النظام السائد الآيل إلى هذه الوحدة وجدناها: بالإنجيل، وبالسيف، وبالإفناء، وبتبادل المساعدات، وبتبادل طلقات المدافع ....
ثم يقول: هذه خلاصة نظريات الفيلسوف الإيطالي فريرو، وظاهر أنه يقصد بالإنجيل "الثقافة الغربية" التي هي وحدها تمشي في آسيا وأفريقيا وفي يدها الواحدة "السيف" وفي الأخرى "ضماد للجرح"، وهي وحدها تفتنُّ في رق استئصال البشرية، وفي طرق توفير صحة البشر، تجمع في وقت واحد بين الضدين، وهي التي بين يديها الجندي من جهة، والقسيس من جهة أخرى(11).
وبعد هذه الجولة في ماهية العولمة وحدودها لا سيما الثقافية؛ نسأل: هل العولمة أمر حتمي؟ فالجواب: نعم ولا، نعم باعتبار ما وصلنا إليه، ولا باعتبار إمكانية مقاومتها والحد من آثارها السلبية، وهذا ما سنتناوله في الفصل الثالث.
* تعريف الهوية وأهميتها
ما هي الهوية: الهوية مأخوذة من "هُوَ .. هُوَ" بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت "التعريفات" يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب(12).(15/96)
فهوية الإنسان .. أو الثقافة .. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء -إنساناً أو ثقافة أو حضارة- الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة(13).
"إن هوية أية أمة هي صفاتها التي تميزها من باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية"(14).
والهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى(15).
اللغة هي التي تلي الدين، كعامل مميز لشعب ثقافة ما عن شعب ثقافة أخرى(16).
ثم يأتي التاريخ وعناصر الثقافة المختلفة في صنع الهوية.
وأهم عناصر الهوية الدين حيث في الحروب تذوب الهويات متعددة العناصر، وتصبح الهوية الأكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة، وغالباً ما تتحدد هذه الهوية دائماً بالدين(17).
وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد "من أنا؟"، "ولمن أنتمي؟"، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
والهوية في غاية الأهمية ومنها تنطلق المصالح حيث الناس لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم، فسياسة المصالح تفترض وجود الهوية.
وإذا كانت هذه هي الهوية وهذه أهميتها لكل أحد فإن الهوية عند المسلمين أكثر أهمية، والإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته ولغته هو هوية مشتركة لكل مسلم، كما أن اللغة التي نتكلم بها ليست مجرد أداة تعبير ووسيلة تخاطب، وإنما هي: الفكر والذات والعنوان، بل ولها قداسة المقدس، التي أصبحت لسانه بعد أن نزل بها نبأ السماء العظيم، كما أن العقيدة التي نتدين بها ليست مجرد أيديولوجية وإنما هي: العلم الكلي والشامل والمحيط، ووحي السماء، والميزان المستقيم، والحق المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي منظومة القيم التي تمثل مرجعيتنا في السلوك، فهي ليست نسبية ولا مرحلية(18).
وقد أدرك الأعداء ذلك حيث أن الصليبية والشيوعية والصهيونية اليوم ترى أن استعادة المسلمين لهويتهم الإسلامية وانتمائهم القرآني هو أكبر الأخطار، ومن ثم فإن كل قوى التغريب والغزو الثقافي ستطلق في هذا الاتجاه، ويقوم الاستشراق والتنصير بدور كبير(19).
كما أن الغرب أحرص ما يكون على هوياتهم، وعلى ذوبان المسلمين المهاجرين في مجتمعاتهم، بل إن هناك مؤسسات ووزارات خاصة للاندماج وتذويب الهويات.
وأوروبا ترفض تركيا بسبب الهوية ليس إلا، وكما قال الرئيس أوزال في سنة 1992م: سجل تركيا بالنسبة لحقوق الإنسان سبب ملفق لعدم قبول طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، السبب الرئيسي هو أننا مسلمون وهم مسيحيون(20).
فالقوى الأوروبية يظهرون صراحة أنهم لا يريدون دولة إسلامية (تركيا) في الاتحاد الأوروبي، ولا يسعدهم أن تكون دولة إسلامية أخرى (البوسنة) أنها حرب هويات كما يقول هنتجنتون حيث نجد تركيا تعيد تأكيد دورها كحامية للبلقان وتدعم البوسنة، في يوغوسلافيا السابقة، وروسيا تساند الصرب الأرثوذوكسية، وألمانيا تساعد كرواتيا الكاثوليكية، والدول الإسلامية تهرع لمساعدة الحكومة البوسنية، والصرب يحاربون الكروات ومسلمي البوسنة ومسلمي ألبانيا(21).
* الآثار السلبية للعولمة على الهوية
انطلاقاً من الفصل الأول من أن العولمة وصف لظواهر متعددة كالتقدم المذهل في وسائل الاتصال والانفتاح المعلوماتي وذهاب الحواجز بين الدول مع سلطة القطب الواحد الذي يسعى للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية.
وهذا ما حدا بالبعض إلى أن يسميها الأمركة، وللأسف إن أمريكا لا تهدف إلى تطبيق قيمها فحسب، بل إنها تنطلق من مصالحها الذرائعية المجردة من المبادئ والتي تكيل بمكيالين والتي تشكل خطورة عظيمة على القيم والأخلاق والهويات لا سيما الإسلامية.
وهذه أمثلة:
يحرم الشيشان من الإنفصال عن روسيا .. ويجبر أهل تيمور على الانفصال من اندونيسيا بتدخل من استراليا ودعم من الغرب ..
وكذلك تنفصل تماماً دول البلطيق وجورجيا من روسيا بينما الدول الإسلامية فاستقلاها غير كامل.
ودية الأفغاني الذين قتلوا في عرس 200 دولار وقد اعترفت أمريكا بالخطأ بينما من قتل في لوكربي 10.000.000 دولار أي 50.000 ضعف.
العولمة أن تُهاجَم دولة ذات سيادة حتى دون إذن من الأمم المتحدة لشبهة أسلحة الدمار الشامل، وتُترَك دولة قريبة منها تمتلك أسلحة دمار شامل وتحتل أرض غيرها مخالفة لقرارات الأمم المتحدة ..
أمريكا تمارس دوراً منفرداً حيث تدعم إسرائيل، وترفع الفيتو بعد الآخر لتتمكن من العدوان، وتعتدي على العراق بحجج واهية وحتى دون موافقة مجلس الأمن التي لها أكبر نفوذ فيه، وتأخذ المعتقلين من أفغانستان إلى قوانتنامو دون محاكمة عادلة، وتحارب الجمعيات الإسلامية وترهبها وتجمد أموال من تريد منها دون أدلة ..(15/97)
المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال ارهابية، والمحتل مدافع عن نفسه، والجماعات الإسلامية في أفغانستان المقاومة للاحتلال الأمريكي وحكومته ارهابية، بينما نفس الوضع كان إبان الاحتلال السوفيتي ولكن تلك الجماعات كانت مقاومة مشروعة مدعومة، مما يعني وجود اختلال حاد في موازين العالم تحت إمرة الحضارة الغربية الصليبية الصهيونية.
وهذا صمويل هنتجنتون في صدام الحضارات والذي يدعو للتعصب للحضارة الغربية ومحاربة ما عداها لا سيما الإسلامي، وهو في كتابه مرة بعد مرة يمارس تحريضاً على الإسلام وتخويف الأوروبيين منه، للإنضواء تحت أمريكا والغرب وإشعال فتيل التعصب الديني.
وهذا ما حدا بتوم فريدمان للقول: نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق(22).
وفي آخر سنة 2003م كانت استطلاعات الرأي في أوروبا أن أمريكا ثم إسرائيل تمثل أكبر خطورة على السلام العالمي.
فالعولمة هجمة صهيونية شرسة لا تتقيد بالمبادئ، وفي أحسن أحوالها أمركة وتغريب ما لم نقم بدور فعال لتخفيف آثارها والتأثير فيها، وهي حتى لكثير من الغربيين ليست خير للعالم حتى في الجانب الاقتصادي الذي يبشر به البعض، حيث نجد أن هانس بيتر مارتين في كتابه الشهير (فخ العولمة) والذي ركز على العولمة الاقتصادية، يؤكد أن العولمة فخ كبير مليء بالأكاذيب وهي في النهاية تزيد الفقراء، ونجد في الفصل الخامس من الكتاب على سبيل المثال عنوان (أكاذيب ترضي الضمير: أسطورة الميزة على استقطاب الاستثمارات وخرافة العولمة العادلة) (23) كما أن الشعوب حتى الغربية تخرج في مظاهرات شعبية عارمة معارضة لكل مؤتمرات العولمة لما يرونه من إضرار بهم.
ونجد أن الغرب لا يسعى لنشر قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمر نيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث .. إلخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(24) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، مراهقين ومراهقات، قادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء، حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م. أي أنه أكثر من مباح، فالسعي لتحقيقه بجميع البلدان في أسرع وقت ممكن، وقبل سنة 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(25).
بل ونجد ممارسات منفردة، حيث نجد أن أمريكا تضغط تارة باسم حقوق الإنسان (والتي أهدرته في أبو غريب وجوانتامو ومذابح أفغانستان وقصف الفلوجة) وتارة باسم الديمقراطية والحرية لتمرير ما تريد على دول العالم التي لا توافقها.
بينما الحرية والديمقراطية الغربية والقانون الدستوري جعل الغرب يسقط نتائج الانتخابات في تركيا والجزائر ونيجيريا (مشهود أبيولا) لأن الناجحين إسلاميين!!
للأسف أن الغرب حريص على فرض قيمه الاجتماعية والثقافية وعولمتها والتي تمثل أسوأ ما عنده بينما لا يسعى إلى عولمة العلم والتقدم حيث يجب الاحتفاظ به.
إن مما يزيد خطورة العولمة ضعف العالم الإسلامي وهزيمته أمام الغرب وهذا ما يزيد اختراق العولمة الثقافية للهوية، كما قال ابن خلدون "المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وسائر أحواله وعوائده"(26).
فضلاً أن العولمة تحمل فكرة استبداد القوي الذي يسخر إرادات الشعوب الضعيفة لصالحه، وتكمن في فكرة سيطرة المهيمن على الاقتصاد العالمي والقوة العسكرية والإدارة السياسية على شعوب العالم الفقيرة، بل والسعي لإفقار ما ليست فقيرة، وتكمن كذلك في فكرة الإذابة التي يقوى عليها من يمتلك أدوات الاتصال والتحكم بها، وبالمعلومات وبإنتاجها، وتدفقها دونما مراعاة لثقافات الشعوب وحاجاتها وخصوصياتها وإمكاناتها(27).(15/98)
كما أن مما يزيد خطورة العولمة ذراعها الإعلامي الخاضع للسيطرة الصهيونية والتي تمسك بخيوطها، تسير هذه القوة في السيطرة مع القوة الغاشمة العسكرية في فرض العولمة على الآخرين، فوظيفة المنظومة الإعلامية هي أن تتسلى وتتلهى وتعلم وترسخ القيم والمفاهيم والمعتقدات وأنماط السلوك الأمريكي على الآخرين، كما يرى أحد الخبراء الأمريكين، ولتحقيق ذلك صارت ميزانية الإعلام موازية تماماً لميزانية الدفاع في بعض الدول، فإحصاءات عام 1986م تقول إنه بلغ رقم اقتصاد الإعلام في الغرب والاتصالات مبلغ (1175) بليون دولار تقريباً منها (505) بلايين للولايات المتحدة الأمريكية، و (267) بليوناً للجماعة الأوروبية، و (253) بليوناً لليابان، و (150) بليوناً فقط للآخرين في العالم .. هذه الميزانيات الضخمة للإعلام في الشمال جعلته يتحكم بقوة في الإعلام المتدفق، في اتجاه الجنوب الأمر الذي أحدث خللاً في المنظومة الإعلامية، وقد فشلت جميع الجهود والمبادرات التي بذلت في إطار الأمم المتحدة لوضع أسس لقيام نظام إعلامي جديد يحقق التوازن بين الشمال والجنوب(28).
وهناك الدراسات الكثيرة التي تبين معاناة شعوب شرقية (ليست إسلامية) وسائرة في الفلك الغربي كاليابان وكوريا الجنوبية من العولمة ومن الدراسات الميدانية التي تمت لمعرفة تأثير المواد التلفزيونية الأمريكية على الشباب الكوري الجنوبي قام بها Kang & Mo r gan ومن نتائج هذه الدراسة أن هذه المواد أدت إلى تأثير بالغ على القيم التقليدية الكورية، فأصبحت الفتيات الكوريات أكثر تحرراً من القيم الأسرية والأخلاقية، ويعتقدن أنه لا حرج من الممارسة الجنسية خارج الزواج، وأن ذلك من قبيل الحرية الجنسية، وأصبحن يرتدين الملابس الأمريكية، ويحتقرن العقيدة الكونفوشيوسية(29).
كما أننا نجد دولاً كالفلبين وهي دولة تصنف أنها نصرانية سائرة في الفلك الأمريكي حيث نجد في دراسة أجريت على (255) طالباً فلبينياً وجد أن التعرض للمواد التلفزيونية الأمريكية قد ارتبط إيجابياً بتأكيد هؤلاء الطلاب على قيمتي: "المنفعة والمادية"، باعتبارهما القيمتين الأكثر أهمية في حياتهم، في حين تدنت لديهم قيم فلبينية أصيلة مثل: الصفح، والتسامح، والتضحية، والحكمة(30).
وإذا كانت بعض دول الغرب نفسه أو من هو قريب منها يشكو من عولمة الثقافة على الهوية، حيث نجد أن فرنسا مع أنها غربية نصرانية، ولكن بسبب اختلاف اللغة فإنها أكثر الدول الغربية تشكو من عولمة الثقافة ومن هيمنة اللغة الإنجليزية، والخوف على الهوية الفرنسية ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء، لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي الأمريكي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة(31).
بل أن هناك دراسة في استراليا وهي بلد غربي نصراني يتحدث الإنجليزية أي مشارك للولايات المتحدة في الهوية تقريباً يشكو من مواد التلفزة الأمريكية على الأطفال، لأنها تؤدي إلى فقدان الانتماء وإلى أزمة أخلاقية وغربة ثقافية(32)، وكذلك كندا حيث عبرت وزيرة الثقافة الكندية شيلا كوبي عن انزعاجها من الهيمنة الثقافية الأمريكية، وتداخلها قائلة: من حق الأطفال في كندا أن يستمتعوا بحكايات جداتهم، ومن غير المعقول والمقبول أن تصبح (60%) من برامج التلفزيون الكندي مستوردة، وأن يكون (70%) من موسيقانا أجنبية، وأن يكون (95%) من أخلاقنا ليست أمريكية(33).
وهذه الأمثال توفرها مئات الدراسات في أنحاء العالم من خوف المثقفين على هوية شعوبهم من العولمة الأمريكية، ألا يحق لنا كمسلمين ونحن نحمل أعظم عقيدة وخير لسان نزل به القرآن، وأعظم تاريخ بالإضافة إلى القيم الحضارية العالية أن نخشى على تلك الجواهر من أثر العولمة على الهوية إن أخطر ما تحمله العولمة تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، لما تدعو له من وحدة الأديان، وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها، وتهدمها من أصلها،لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتغيير، ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي. "كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً، فالكون في نظر العولمة الثقافية والفكرية لم يخلق تسخيراً للإنسان، ليكون ميدان امتحان للناس لابتلائهم أيهم أحسن عملاً!!، والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى !! وهذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة"(34).
إن هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة(35).(15/99)
إن المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة، والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً لنفس القانون المادي الصارم وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي، ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي، ولذا فإن ثمة نموذجاً واحداً للتطور، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه دائماً نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان / الطبيعة) (36).
وإذا انتقلنا من العقائد التي هي أصل الهوية إلى اللسان واللغة التي هي أداة التفاهم والتواصل، وهي وعاء الفكر وقالبه الحي، وما نراه اليوم من طغيان الثقافة الغربية، حيث تشكل اللغة نسبة عالية من الإسهام في نقلها، ولا أدل على ذلك من أن (88%) من معطيات الأنترنت باللغة الإنجليزية، و(9%) بالألمانية، و(2%) بالفرنسية، و(1%) يوزع على باقي اللغات(37).
ويبين هنتجنتون في كتابه صدام الحضارات أهمية اللغة في الصراع حيث أن توزع اللغات في العالم عبر التاريخ يعكس توزع القوة العالمية فاللغات الأوسع انتشاراً: الإنجليزية، الماندارين، الأسبانية، الفرنسية، العربية، الروسية. إما أنها أو كانت لغات دول إمبراطورية جعلت شعوباً أخرى تستخدم لغتها. كما أن التحولات في توزع القوة، تؤدي إلى تحولات في استخدام اللغات، حيث قرنان من القوة البريطانية والأمريكية الاستعمارية والتجارية والصناعية والعلمية والمالية، تركا ميراثاً ضخماً في التعليم العالي والتجارة والتقنية في أنحاء العالم(38).
أن إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي تشير إلى أن شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ومصر، ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على نصف إجمالي المواد المبثة إذ تبلغ (58.2%)(39). ومعلوم أثر هذه البرامج على العقائد والقيم والأخلاق والعادات واللغة.
أما إذا انتقلنا إلى السلوك والأخلاق فإن المبادئ الأخلاقية التي تتهاوى في الغرب يوماً بعد يوم حيث سيادة المصالح والمنفعة واللذة و تعظيم الإنتاج والاستهلاك.
هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين (أي الغربيتين) وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته(40).
كما تسوق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة. "ومن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة: محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gende r بدل كلمة Sex"(41).
والتأثير الأخلاقي هو أسرع من غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية(42).
علماً أن العرب هم أكثر الشعوب مشاهدة للتلفاز(43).
بل حتى في الجانب الاقتصادي فالإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية (20%) يستهلك ما يزيد على (80%) من مواردها الطبيعية(44).
|1|2|
(1) انظر: مجلة حصاد الفكر، العدد 135، جماد الأول 1424هـ - 2003م، عرض لكتاب بدائل العولمة للدكتور سعيد اللاوندي، عرض عبدالباقي حمدي، ص: 36.
(2) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ سعد البازعي بعنوان المثقفون والعولمة والضرورة والضرر، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م، ص: 73.
(3) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 29.
(4) العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 129.
(5) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ أسعد السحمراني، أستاذ بكلية الإمام الأوزاعي بلبنان، بعنوان تسويق الاستهلاك وترويج الكاوبوي والهامبرجر، الطبعة الأولى 1420هـ - 1999م، ص: 129.
(6) المصدر السابق، ص: 28، نقلاً عن الأسبوع الأدبي، العدد 602، ص: 19، بتاريخ 14/3/1998م.
(7) انظر مجلة البيان، العدد 136، ص 91، مقالة العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة لـ خالد أبو الفتوح.
(8) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 28.(15/100)
(9) الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، حسن حنفي، بحث ضمن كتاب العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى 1999م، ص: 33.
(10) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، الطبعة الأولى، رجب 1420هـ - 1999م، مقال للأستاذ سمير الطرابلسي بعنوان العرب في مواجهة العولمة ص: 51-52 .
(11) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، الدمام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1399هـ - 1979م، ص: 198-199.
(12) انظر: التعريفات، الشريف الجرجاني، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م، ص: 314.
(13) انظر: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 6.
(14) ندوة الهوية العربية عبر حقب التاريخ، للمدة 25-26/6/1997م، المجمع العلمي بغداد، الكلمة الافتتاحية للندوة، ص: 7.
(15) انظر: العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 146.
(16) صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 116.
(17) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(18) انظر مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 46.
(19) انظر حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني، أنور الجندي، دار الاعتصام، سلسلة الرسائل الجامعة، (د. ط. ت)، ص: 7.
(20) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 433.
(21) انظر: صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 204-205.
(22) العولمة وأثرها على اقتصاد الدول، ص: 28، نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/3/1997م.
(23) فخ العولمة، هانس بيتر مارتن، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998/1419هـ، ص: 253.
(24) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(25) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية، الفصل الثامن الفقرات 31-35. نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27.
(26) جعل هذا عنوان للفصل الثالث والعشرون من الفصل الثاني، انظر مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، ص 147، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، د. ت.
(27) انظر العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، كلمة عميد كلية الآداب أ. د. صالح أبو ضلع، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 11.
(28) انظر العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 130-131.
(29) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(30) العولمة والتحدي الثقافي، د. باسم علي خريسان، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، ص: 132.
(31) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 12 .
(32) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(33) نحن والعولمة من يربي الآخر، مقال للأستاذ أنور عشقي، بعنوان: الشياطين تختبئ في التفاصيل، كتاب المعرفة (7) الطبعة الأولى، 1420هـ 1999م، ص: 177.
(34) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 274-275.
(35) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 129.
(36) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 127.
(37) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م، ص: 111.(15/101)
(38) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(39) العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تعقيب نبيل الدجاني، الطبعة الثانية، 1998م، ص: 335.
(40) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 220.
(41) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 276-279.
(42) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 10.
(43) ضياع الهوية في الفضائيات العربية، د. عائض الردادي، كتيب المجلة العربية، العدد السابع والثلاثون، محرم 1421هـ، ص: 7.
(44) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 217.
===============(15/102)
(15/103)
رئيس المجلس الإسلامي بالسنغال:محنة مسلمي السنغال في ظل هيمنة الفرانكفونية
حوار: عبد الرحمن أبو عوف 27/11/1427
18/12/2006
أكد الشيخ سيد غالي لو رئيس المجلس الوطني الإسلامي في السنغال أن مسلمي البلاد يواجهون أوضاعًا سياسية واجتماعية واقتصادية صعبة، بسبب سيطرة النزعة الفرانكفونية وهيمنة الموالين لها على مقدرات الشعب السنغالي، وهو ما يُعدّ خصمًا من رصيد المسلمين وأصحاب الثقافة العربية والإسلامية.
وتابع الشيخ غالي في حوار مع (الإسلام اليوم) أُجرى معه على هامش مشاركته في المؤتمر العالمي العاشر للندوة العالمية للشباب الإسلامي بالقاهرة:
بالتأكيد إن وجود رؤساء جمهورية مسلمين في السنغال لم يخفف من وطأة الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون في السنغال؛ إذ إن ضيوف وواد من عرابي الفرانكفونية، والذين يفضلون ألاّ يكون للإسلام أدنى تأثير في حياة الشعب السنغالي، ناهيك عن أن عهدهما شهد سيطرة الفرانكفونيين على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السنغال، ولفت رئيس المجلس الوطني الإسلامي إلى أن الثقافة العربية والإسلامية تواجه تحديات كبيرة في السنغال، فمن يمثلون هذه الثقافة لا يشغلون مناصب مرموقة، ولا يحصلون على وظائف في الدولة وتضربهم البطالة بعنف، في وقت يحصل غيرهم على أعلى المناصب، حتى ولو لم يكن لديهم كفاءة لشغل هذه المناصب.
وأوضح الشيخ غالي لو أن التآمر على الإسلام والعربية على الرغم من ضراوته لم يحقق ما كان يسعى إليه أرباب الفرانكفونية، فهناك إقبال غير مسبوق على تعلم العربية، وكذلك حفظ القرآن والدراسات الإسلامية، في تأكيد واضح على أن الهوية الإسلامية للسنغال تُبعث من جديد.
والتفاصيل الكاملة للحوار في السطور التالية:
في البداية هل تلقي لنا الضوء على أوضاع الشعب السنغالي المسلم؟
أولاً السنغال تُعدّ إحدى دول الغرب الإفريقي، حيث يشكل المسلمون 95 % من مجمل سكانها، البالغ أحد عشر مليوناً ؛ فيما يشمل الـ 5% الباقية مسيحيين كاثوليك، ووثنيين لا دينيين؛ وللسنغال ظروف خاصة لها، فعلى الرغم من الأغلبية الساحقة للمسلمين إلاّ أنهم يعانون اضطهادًا رهيبًا وغير مسبوق، ويتحمل مسئولية هذا الاضطهاد قوات الاحتلال الفرنسي التي أحكمت سيطرتها على بالسنغال لمدة ثلاثة قرون، خلفت وراءها بيئة ثقافية وسياسية واجتماعية طاردة للإسلام وداعمة للفرانكفونية ومن يسيرون في دربها.
ولك أن تستزيد من حجم المأساة فتعلم أن أي سنغالي حصل على أعلى الشهادات وحتى ولو كانت درجة الدكتوراه في اللغة العربية والثقافة الإسلامية لا يجد فرصة عمل إلاّ نادرًا ولا يتجاوز العمل في مدرسة، بعكس من يحمل حتى ولو مؤهلاً متوسطًا أو حتى تحت المتوسط في اللغة والثقافة الفرنسية؛ فتُفتح له الأبواب الموصدة.
وقد عزز الدستور السنغالي هذا الأمر بالتأكيد على أن الفرنسية هي اللغة الرسمية، من هنا فإن المسلم مضطهد ثقافيًا وسياسيًا؛ إذ يُمنع تأسيس الأحزاب على هوية إسلامية، فيما يُسمح بتأسيس أي أحزاب على أسس شيوعية أو فرانكفونية .
علمانية فرانكفونية
أليس مستغربًا ما تقوله في ظل اعتلاء مسلمين منصب الرئاسة في ربع قرن الأخير؟
هذا ما يزيد الطين بلة، فقد سبق عبده ضيوف وعبد الله واد الرئيس سنيجور الذي حكم البلاد عشرين عامًا وضع فيها أسس اختراق الفرانكفونية للمجتمع السنغالي، في أبشع صورة خصوصاً أنه كاثوليكي متعصب جدًا، ولم يختلف الأمر مع عبده ضيوف وواد، فالاثنان على الرغم من أنهما مسلمان غير أنهما علمانيا النزعة، فرانكفونيا الهوى، إضافة إلى أنهما متزوجان من زوجات مسيحيات وهاتان الزوجتان ليستا ككل الزوجات، فهن الدجاجة التي تلعب دور الديك وتسيطران سيطرة تامة على الحياة السياسية من اختيار الوزراء وكبار المسؤولين بشكل كرّس سيطرة الهوية المسيحية والفكر الفرانكفوني.
ما حجم تجذّر الفرانكفونية وهيمنتها في المجتمع السنغالي؟
عرابو الفرانكفونية في منطقة الشرق الأوسط وإفريقية أربعة يأتي على رأسهم سنجور والحبيب بورقيبة وشارل حلو، خصوصاً جامبي وتسنجور الذي استحوذ على مكانة رفيعة لدى الفرانكفونيين الذين أنشؤوا جامعة باسمه في الإسكندرية، وليس باسم كندي أو فرنسي، من ثم فإن الفرانكفونية اخترقت مجتمعنا بشكل رهيب وغير مسبوق، فالمحلات أسماؤها فرنسية والشوارع ووسائل الإعلام؛ لدرجة أنك حين تتجول في العاصمة دكار فتتخيل أنك في باريس أو مارسيليا.
هذا الانتشار الرهيب .. هل امتد إلى التعليم ومؤسساته؟
التعليم من أشد المجالات تأثرًا بالفرانكفونية ، حيث ينتشر في السنغال التعليم الملائكي أو العلماني ، ويشمل جميع المدارس الحكومية والخاصة، الذي تلعب فيه الفرنسية الدور الأكبر، وهو التعليم المعترف به لدى الدولة، أما التعليم الديني الإسلامي فلا تعترف به الدولة، ولا يُقدم له أي دعم، مستندين إلى أن الدستور ينص على أن السنغال دولة علمانية.
ثورة وغضب
ما موقف المسلمين من هذا التغييب الحكومي غير المسوّغ؟(15/104)
لقد استمر الوضع السابق في العقود الخمسة الماضية، إلى أن ثارت الأغلبية المسلمة، وهددت الحكومة بأنها لن تدفع بأبنائها إلى المدارس إذا لم تدخل العربية والمواد الشرعية الإسلامية في هذه المدارس.
وهو ما أجبر الحكومة على الانصياع لمطالب الأغلبية المسلمة، غير أن الحكومة اشترطت حتى على المدارس الأهلية تدريس المنهج الرسمي الفرانكفوني حتى لو كانت هذه المدرسة إسلامية.
ولك أن تعرف الموقف المؤسف للدولة السنغالية من التعليم الديني لدى زيارة الرئيس السنغالي عبد الله واد للقاهرة، حيث عقد لقاء مع عديد من الطلاب السنغاليين الذين يدرسون في الأزهر، وطالبهم بالعودة للسنغال للعمل في مجال الزراعة، بدلاً من إضاعة أعمارهم في تعليم ديني لن يوفر لهم عملاً ولا مستوى معيشة مناسبًا.
وكذلك يجب أن تعرف أن يوم الجمعة هو يوم عمل في السنغال، أما يوما الإجازة الرسمية فهما السبت والأحد، حيث يحصل المسلمون على ساعتين راحة يوم الجمعة لأداء الصلاة؛ على أن يتم تأخير ميعاد الدوام من الثالثة إلى الخامسة لتعويض الساعتين اللتين يؤدون خلالها الصلاة.
صحوة إسلامية
لا شك أن هذا المد الفرانكفوني الكبير قد أثر على وضعية اللغة العربية في السنغال؟
نعم كان تأثيره فظيعًا، فقد كانت العربية هي اللغة الأولى والرسمية في السنغال قبل الاستعمار الذي حاصرها ومنع انتشارها في السنغال لعقود طويلة، غير أن هناك إقبالاً كبيرًا عليها في الآونة الأخيرة، وعلى حفظ القرآن في الكتاتيب التي أُعيد افتتاحها، ونجحت في جعل ثلث الشباب السنغالي يقبلون على العربية والقرآن، بعد أن كان هذا الإقبال قد تراجع على إثر الدعاية السوداء بأن العربية والإسلام لا يُؤمّنان مستقبلاً، كما زعم الرئيس عبد الله واد لدى زياراته لإحدى المؤسسات الإسلامية، وزاد بالتهكم على الإسلام والقرآن.
وماذا عن الأوضاع الاقتصادية لمسلمي السنغال؟
شديدة الصعوبة ويعاني أغلبية المسلمين من الفقر والعوز والمرض، وتنتشر البطالة بين صفوفهم، وهو ما كانت المساعدات الدولية العربية والمسلمة تحاول أن تخفف من وطأته عليهم، ولكن هذه المشاكل لا تزال مستمرة وتلقي بظلال ثقيلة على المسلمين.
التنصير في السنغال
كل ما تقوله يوفر بيئة حاضنة للمنظمات التنصيرية التي تتخذ من هذه الأوضاع وسيلة لتحقيق أهدافها عبر غزو منظم.. فماذا عن التنصير؟
التنصير في السنغال لا يحتاج إلى غزو، فالمئات من المنظمات التنصيرية تعمل في السنغال على قدم وساق، ولا تجد هذه المنظمات أدنى صعوبة، فالأثرياء من أبناء المسلمين يذهبون إلى هذه المدارس لتلقي علومهم، وهناك إقبال على المستشفيات التي تحمل شعار الصليب الأحمر؛ في وقت لا توجد المستشفيات التي تحمل شعار الهلال الأحمر.
كما أن الأعياد المسيحية تحوّلت إلى أعياد رسمية، وليس عيدي الفطر والأضحى، وعلى الرغم من ذلك فإن إستراتيجية التنصير في السنغال تعتمد على إيجاد تباعد وهوة بين المسلم ودينه الحنيف، بحيث لا يلعب الدين دورًا في حياته، وهو ما يُعدّ أفضل لديها من أن يكون مسيحيًا.
كذلك ينتشر المنصرون بين القبائل الوثنية، فهم يفضلون استمرارها في عبادة الأصنام دون اعتناق الإسلام الذي يُعدّ الدين الأكثر اعتناقًا في أوساط الوثنيين.
في ظل هذا المد التنصيري ألا يُواجه هذا بعمل خيري إسلامي؟
الجمعيات الخيرية الإسلامية كانت تقوم بدور فاعل في السنغال نحو كفالة الأيتام وإنشاء المدارس والمستشفيات وإغاثة الملهوف وحفر الآبار، إلاّ أن هذا العمل قد تراجع في الآونة الأخيرة من أحداث سبتمبر، ولم يبق منه إلاّ اليسير، وأُصيبت معظم الجمعيات الإسلامية بالشلل، وأغلقت أبوابها باستثناء الندوة العالمية للشباب الإسلامي ولجنة مسلمي إفريقية.
تحدثت طويلاً عن سيطرة الاتجاه الفرانكفوني، غير أن الدول العربية والإسلامية ما زالت تحتفظ بعلاقات وثيقة مع نظام الحكم لديكم؟
الدول العربية والإسلامية مجتمعة تؤيد جميع الحكومات التي تعاقبت على السنغال منذ سنجور وعبده ضيوف ووصولاً إلى عبد الله واد، وتغدق عليها المساعدات التي لا تستفيد منها الأغلبية المسلمة، وكذلك منظمة المؤتمر الإسلامي التي حظيت السنغال باستضافة اجتماعين كبيرين لها في أقل من عقد واحد وهو أمر غير معهود؛ فضلاً عن أن السنغال كان مقررًا أن تستضيف كثيراً من اجتماعات المؤتمر الإسلامي في الفترة الأخيرة، غير أن تأخر بعض الأعمال الفنية قد حال دون عقده.
ويمكن أن نفسر هذا السعي من جانب الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالخوف أن تقع السنغال بالكامل في براثن الفرنسيين والأمريكان.
النفوذ الصهيوني في الغرب الإفريقي
تحدث مراقبون كثيرًا عن تحوّل داكار العاصمة السنغالية إلى مركز للنفوذ الصهيوني في الغرب الإفريقي .. كيف ترد على هذا القول؟(15/105)
الوجود الصهيوني في السنغال قوي جدًا، وتمارس الأجهزة الاستخباراتية نشاطًا واسعًا، خصوصًا في المشاريع الكبيرة مثل الزراعة والمياه والإسكان وإنشاء المستشفيات، كما أن لهم دورًا بارزًا في الإعلام ولهم محطات إعلامية خاصة بهم، ناهيك عن النفوذ السياسي الكبير لهم في البلاد.
بعد كل هذه التطورات والأحداث .. كيف ترى مستقبل الإسلام في السنغال؟!
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) صدق الله العظيم، فعلى الرغم من كل المؤامرات والسيطرة الفرانكفونية فإن للإسلام مستقبلاً متميزًا في السنغال، وليس أدل على ذلك من إقبال الشباب على التعليم الديني، على الرغم من أن الدولة لا تعترف به، وكذلك الإقبال الرهيب على الكتاتيب وحفظ القرآن، وهو ما ينبئ بوجود أجيال قادرة على التصدي للمد الفرانكفوني الرهيب.
============(15/106)
(15/107)
الفكر الإسلامي على مفارق طرق
الأستاذ / جمال سلطان 22/4/1424
22/06/2003
عندما وقعت واقعة تماثيل بوذا في أفغانستان، وإعلان حركة طالبان المفاجئ عن عزمها على إزالة هذه التماثيل ، وما صاحب ذلك من حالة هوس في العالم أجمع ، بدا المشهد الإسلامي مثيرا للدهشة والحيرة ، بقدر ما هو مثير للقلق ، وبدا أن هناك بونا شاسعا بين المواقف " الإسلامية " من هذه القضية ، وكأنها مواقف تصدر من مناهج وأيديولوجيات مختلفة ، وليست من منهج واحد لدين واحد ، لقد كان هناك من دافع عن هذه التماثيل واعتبرها لونا من الجمال والإبداع الإنساني ينبغي المحافظة عليه والعناية به ، حتى أن كاتبا صحفيا مصريا " إسلاميا " وينتمي إلى جماعة إسلامية كبيرة ومشهورة ، كتب يقول أن هذه التماثيل نعمة من الله ، وأن هدمها يمثل أبلغ إساءة للإسلام وللقرآن الكريم ! ، وفريق آخر رأى أن هذه التماثيل أصنام وأنها يتوجب إزالتها وتحطيمها لأن قطب رسالة الإسلام هي إزالة الأصنام وهدمها ،وبين هذا الطرف وذاك درجات شديدة التباين في الموقف ، وألوان شتى من التمايزات ، بين من يرى جواز التماثيل ومن يرى حرمتها ، ومن يرى حرمتها ولكن المصالح الشرعية تقتضي الحفاظ عليها وحمايتها ، ومن يرى أن لا مفسدة في الدنيا أعظم من مفسدة نشر الأصنام التي تعبد والدفاع عنها وفتح الباب أمام إحياء الوثنية من جديد . ولم يكن هناك حوار فكري حقيقي ، وإنما كان هناك صراع عنيف بين هذه التوجهات والآراء والمناهج ، يتهم هذا ذاك بالإساءة للإسلام ، ومخالفه يتهمه بإهدار معالم الشريعة ، ويتهم الأول الثاني بالغباء العلمي ! ، ويتهم الثاني الأول بتمييع الدين والتساهل المسف ، وهكذا ، وكان كل فريق يصدر عن ما يمكن اعتباره منظومة فكرية ومنهجية مختلفة عن الآخر ، ولقد كان هذا الاختلاف ـ في الحقيقة ـ موجودا من قبل هذه الواقعة ، ومعالمه حاضرة في أكثر من موقف سياسي أو اجتماعي أو قيمي أو عقائدي ، كالخلاف الشهير حول بعض جوانب حجية السنة ، والموقف من الحجاب والنقاب وبعض الأحكام الفقهية للمسلمين المهاجرين في الغرب ، وغيرها ، ولكن واقعة تماثيل بوذا فجرت المسألة تفجيرا عنيفا وواسع النطاق ، ربما لأنها تتعلق هذه المرة بصلب العقيدة ذاتها وشعار الإسلام نفسه ، الأمر الذي أفاد في كشف الغطاء عن مخاطر حقيقية تتهدد الفكر الإسلامي ، مهما حاولنا إنكارها أو التقليل من مخاطرها ، وأنها تضع الفكر الإسلامي كله على مفارق طرق شديدة الحساسية والخطر .(15/108)
وقبل أن نقف أمام تفاصيل المشهد الحالي ، وتياراته ومناهجه ، يكون من الضروري رصد تطورات الحالة الفكرية الإسلامية في العصر الحديث ، منذ بدايات ما يسمى بالنهضة الحديثة وحتى اليوم ، لأن الكثير من التفاصيل إنما تعود إلى جذور بعيدة في شجرة الفكر الإسلامي المعاصر ، يصعب إدراك الصورة العامة الحالة دون العودة إليها والنظر في تياراتها . عندما انكشف العالم الإسلامي أمام التحولات الحضارية الغربية الكبيرة ، وعندما تحول التحدي الحضاري إلى تحد عسكري مباشر ، من خلال قيام الجيوش الأوربية باستباحة أراضي العالم الإسلامي ـ إلا قليلا ـ حيث ذهب كل مستعمر بجزء من " الكعكة " الإسلامية ، أكبرها لبريطانيا ، وبعدها فرنسا ثم إسبانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا ، وجد المسلمون أنفسهم أمام صدمة حضارية قاسية ومريرة ، وبدا العقل الإسلامي يطرح السؤال الذي طالما تأخر طرحه ، وهو السؤال الذي جسدته رسالة مسلمي جزيرة " جاوه " ـ إندونيسيا حاليا ـ إلى السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار : لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدمت أوربا ، وهو السؤال الذي عرضه رشيد رضا على الأمير شكيب أرسلان الذي أجاب عليه تفصيليا ثم نشرت الرسالة والجواب عليها في كتاب بعد ذلك يحمل نفس الاسم ، في تلك الفترة كانت الصدمة هي شعار المرحلة ، والصدمة بطبيعة الحال لا تدع مجالا للفكر أن يقيم لوحة الواقع تقييما متكاملا وعقلانيا وراشدا ، لأن الصدمة تولد حالة الذهول ، وفي هذه الحالة يكون الإنسان أكثر احتياجا إلى المحافظة على موطئ قدمه ، ومكانه ، حتى لا تزل قدمه فيما هو هلاك له ولا يدري ، أو أن تزداد خسارته إذا ترك مكانه الذي هو فيه إلى تراجع أكثر وأخطر وأفدح وهو غير مدرك لاتجاهات الفعل الحضاري وريح التقدم ، وهكذا كان العالم الإسلامي في تلك المرحلة ، مرحلة الحفاظ على الذات والهوية والدين واللغة من الاستباحة والانمحاق أمام تيارات الفكر والتحضر الغربية البالغة الحيوية والعميقة النفاذ والتأثير ، ولذلك شهدت هذه المرحلة المبكرة العديد من المعارك التي تمثل " معركة دفاعية " إن صح التعبير ، هدفها الدفاع عن الأصالة ضد موجات التغريب التي تتسلل من خلال مستشرقين أو تلاميذهم أو بعض الشباب الجديد المتهور المنبهر بأوربا وحضارتها وأخلاقها وفكرها ، فكانت هناك معركة مثل معركة العلماء والمحافظين مع قاسم أمين وكتابيه " تحرير المرأة " ثم " المرأة الجديدة " وشنوا فيها حربا شعواء عليه ، وللحقيقة أن جمهور الأمة كان مع العلماء في هذه المعركة ، والقلة المتغربة هي التي ناضلت مع قاسم ، لأن عموم الناس كانت تستشعر القلق ، وإن كانت عاجزة عن طرح بدائل أو حتى تصورها ، ثم كانت معركة على المنوال نفسه مع علي عبد الرازق وكتابه " الإسلام وأصول الحكم " حيث حاول الرجل إهدار الشريعة الإسلامية جملة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون بأفرعه كافة ، بل أهدر وجود شيء اسمه الخلافة أو الدولة في الإسلام ، والحقيقة أن من يقرأ كتاب علي عبد الرازق يهاله مبلغ الضحالة الفكرية والمنهجية في هذا الكتاب ، فهو بالتعبير الدارج " تافه " ولا يتأسس على منطق سوي ولا حجة بليغة ولا عقلانية مفهومة ، ويصعب تصور أن من كتبه قد مر يوما على الدراسات الشرعية أو التاريخية في الإسلام ، ولكن القلق الذي سببه الكتاب كان كبيرا ، وذلك أن العالم الإسلام كان قلقا من حالات الانهيار المتلاحقة ، وكان آ خرها انهيار دولة الخلافة العثمانية ، التي وإن كانت طللا هشا وشكليا وقتها بفعل الدمار والتخريب الذي فعلته جماعة " الاتحاد والترقي " والمؤامرات المتعددة من الدول الأوربية ، إلا أنها كانت تمثل ـ حتى ذلك الحين ـ رمزا في الوجدان الإسلامي على عالمية الأمة المسلمة وهيبتها التاريخية ، وأيضا شاهدا حيا على تواصل حضور القوة السياسية الإسلامية ـ من خلال دولة الخلافة ـ منذ الخلافة الراشدة وحتى نهاية الدولة العثمانية بلا انقطاع ، ولم يكن العقل والضمير الإسلاميان يستوعبان كيف يمكن تصور حياة الأمة من غير سياج الخلافة ، ولعل من أبرز ما يدلنا على هذا القلق والحيرة ، أن علماء الأزهر ، وأغلبهم حنفية ، ظلوا يصلون الظهر جماعة يوم الجمعة عقب صلاة الجمعة ، عقب إعلان الكماليين إسقاط الخلافة ، وذلك لأن فقه الأحناف يربط إقامة الجمعة بنصب الإمام أو الخليفة ، وظل هذا الحال عدة سنوات في مصر قبل أن يستوعب الناس صدمة موات دولة الخلافة .(15/109)
في أعقاب هذه المرحلة ، مرحلة الصدمة ، بدأت الأمة تعاني من اختراق فكري وعقيدي وأخلاقي واسع النطاق ، من خلال ظهور تيارات سياسية وافدة مثل الحركات القومية العلمانية ، والحركات الشيوعية ،وتيارات الإلحاد الديني ، وهي تيارات كانت تستلهم مددها وحيويتها من مجمل الأوضاع المحيطة بها في العالم الإسلامي ، أكثر مما تملكه من فكر أو رأي أو مصداقية ، فقد استمدت الحركات الشيوعية قوتها من مظاهر البؤس الاجتماعي التي كانت تعيشها جماهير الأمة ، وكذلك الظلم السياسي ونحو ذلك ، في الوقت الذي لم يتقدم الفكر الإسلامي بطرح بديل يواكب هذه التحديات الجديدة ، والوعي بها في المجتمع الإسلامي ، وكان من أسوأ المواقف التي وجد الفكر الإسلامي نفسه فيها أن يكون موقفه هو الموقف الدفاعي ضد الشيوعية كعقيدة ملحدة ومخربة للقيم الاجتماعية والأخلاقية ، وهي كانت بالفعل كذلك ، ولكنها كانت أيضا مشروعا للتحرر الاجتماعي والعدالة ونحو ذلك ، وكان من المفترض أن يتقدم الفكر الإسلامي بطرح بديل يقطع الطريق على متاجرة هذا التيار الإلحادي بالقضية الاجتماعية ، وهو ما لم يحدث إلا في فترات متأخرة ، في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين ، عندما كتب سيد قطب ـ على سبيل المثال ـ العدالة الاجتماعية في الإسلام ، وكتب الغزالي ومصطفى السباعي وغيرهم ، وهو ما سوف نعود إليه . وكذلك كانت تيارات المد القومي الجديدة ، والتي نبتت أساسا بالشام ، فالتحمت ـ بحكم المولد والمخاض ـ بالخلفية الطائفية ، حيث برزت الحركة القومية على يد عناصر مسيحية ، كان لها بالضرورة حساسية خاصة مع الإسلام والفكر الإسلامي ، وبالتالي ، ولدت فكرة القومية متباعدة عن الإسلام ومفارقة له ، وبمرور الوقت والتقارب بين التيار القومي والتيارات اليسارية ، حملت الحركة القومية بأبعاد معادية للدين وكارهة لأي دور له سياسيا أو اجتماعيا أو تشريعيا ، ومرة أخرى لم يملك الفكر الإسلامي طرحا بديلا ، يملك الحيوية والجرأة وروح التقدم ، لقطع الطريق على هذا الانحراف بالوعي القومي، وقد كان الأمر ميسورا تماما ، لاحتواء الروح القومية التي تنامت في أعقاب تولي الكماليين للسلطة في تركيا ، ولكن الفكر الإسلامي كان ما زال في أجواء الصدمة ، والرغبة على الحفاظ على الأصالة والهوية ، دون بذل جهد جاد وحقيقي لدعم هذه الهوية في عالم جديد .(15/110)
والمثير للدهشة أن الجهد الحقيقي الوحيد الذي يمكن الإشارة إليه في ذه المرحلة ، كطرح لبديل إسلامي يواكب التيارات الجديدة ، كان في تفسير القرآن ونصوصه في ضوء التطورات العلمية الجديدة ، فقد اجتهد عدد من العلماء والباحثين ، لكي يقربوا معاني القرآن من الجيل الجديد المهووس بالاكتشافات العلمية والتقدم المذهل الذي وصل له الغرب عن طريق البحث العلمي ، فظهرت كتابات يمكن القول بأنها محاولة لرفع معنويات الإنسان المسلم المضطرب والقلق أمام هذه التطورات العلمية المتسارعة ، فكانت جهود الشيخ طنطاوي جوهري ، وكتابه " الجواهر " وهو محاولة لتفسير النص القرآني بما يتوافق مع النظريات العلمية الجديدة ، وكذلك كتابات الأستاذ محمد فريد وجدي ، والطريف أن فريد وجدي ـ على سبيل المثال ـ حاول تفسير سورة الفيل ، في ضوء العلم الجديد ، وكان الرجل قد تخيل أن العقل البشري في ضوء العلم الجديد والنزعة العقلية لن يسعه استيعاب أن حجرا يقذفه طائر على فيل فيحوله إلى " عصف مأكول " في لحظة ، فتأول الرجل ـ دفاعا عن القرآن ـ المسألة بالقول أن الآية مجرد دلالة رمزية على مرض مثل الطاعون ، أرسله الله فأهلك الأفيال وجيش أبرهة ، وليس القصد هو أن الطير قذف حجارة فدمرت الأفيال بهذا الشكل ، ولا شك في أن فريد وجدي لو عاش إلى أيامنا هذه لأدرك أن تأويله الغريب ليس له ما يبرره على الإطلاق ، لأن العلم الحديث نفسه اكتشف الآن أن حجرا " نوويا " يحمله طير أو طائرة ، لا يبيد فيلا فقط ، بل يبيد مدينة بكاملها ، وما عليها من بشر وشجر ونفس منفوسة . وجدير بالذكر هنا ، أن هذه النزعة ، وإن كانت قد أساءت من حيث أرادت الإصلاح ، إلا أنها كشفت لنا عن اتجاه جديد ، بدأ يتنامى مع الوقت في الفكر الإسلامي ، وهو اتجاه تأويل الإسلام ومعالمه بما يتوافق مع النظريات والأفكار الغربية الجديدة ذات السحر والحضور ، وكانت هذه من أخطر نقاط التحول في الفكر الإسلامي ، وكانت هذه الظاهر قد برزت في الخمسينات والستينات بوضوح ، من خلال الكتابات التي حاولت أن تقرب الإسلام من الفكر الاشتراكي، وتجعل الإسلام دينا اشتراكيا ، ويذكر القراء كتابا لأحد نبلاء الفكر الإسلامي ورجاله الكبار ، الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله " اشتراكية الإسلام " ، وهي نزعة استغلها جيدا فريق جديد من اليسار العربي للإعلان عن توافق الاشتراكية والإسلام ، وأن الإسلام دين اشتراكي ، ويدعو إلى الاشتراكية ، وظهرت نزعة لتفسير الإسلام ونصوصه وشخصياته التاريخية وأحداثه بما يخدم الفكر الاشتراكي ، وقد تبلورت هذه النزعة في ظهور تيار " اليسار الإسلامي " في أوائل السبعينات ولكنه انزوى سريعا لأنه لم يكن يحمل أية مشروعية للحياة ، وكذلك انطفأت سريعا الكتابات التي تحدثت عن اشتراكية الإسلام للسبب نفسه .(15/111)
ومع السبعينات ، ظهرت حركة الإحياء الإسلامي الكبيرة في العالم الإسلامي ، وهي حركة مدهشة كانت لها امتدادات متوالية وعفوية في مختلف أنحاء العالم ، وكانت عفويتها هذه أهم أسباب عجز النظريات الاجتماعية المختلفة عن تفسير أسباب نشأتها ، وإذا كانت هذه الصحوة قد تفاعلت فيها أفكار متعددة ، وظهرت فيها كتابات متنوعة ، إلا أن هناك كتابات معينة هي التي طبعت هذه الصحوة بطابعها ـ النفسي على الأقل ـ وتركت بصمتها واضحة على أبناء ذلك الجيل ، وليس من شك في أن كتابات الأستاذ سيد قطب ، رحمه الله ، كانت النموذج الأوضح في ذلك المجال ، حيث تواكبت مع الروح الجديدة للصحوة الإسلامية ، وظهور انكسار واضمحلال الأفكار والإيديولوجيات التي كان لها صخب كبير على مدار نصف قرن ، وكان لها السلطة والصولجان ، فأتت كتابات سيد قطب المشبعة بروح الاستعلاء الإيماني الكبير على واقع الناس وتحولات الحياة ، بشرقيها وغربيها ، أتت لتمتزج مع روح هذه المرحلة ، وكان من نتائج هذا التحول ظهور نزعة مغايرة لتلك التي سادت في المراحل السابقة ، نزعة تحتقر الحضارة الغربية ، وتهون من أمرها ، وتطرح عوراتها ومثالبها بدلا من الانبهار بإنجازاتها ، واتجه الفكر الإسلامي ـ من ثم ـ للبحث عن معالم المفارقة مع هذه الحضارة بكل تجلياتها وإفرازاتها ، وليس عن أوجه الاتفاق معها ، وكانت هذه الروح الجديدة ضرورية للغاية لاستعادة الفكر الإسلامي لثقته في ذاته ودينه وتراثه ، ولكي ينفض عن كاهله ، بقوة ويقين وإصرار ، عوالق مراحل التيه والذهول والاضطراب التي عرفتها الأمة في عصرها الحديث ، ولكن بالمقابل كانت لهذه النزعة أخطارها وأخطاؤها ، إذ أنها، ككل موقف يقوم على رد الفعل ، غالت في الاستعلاء على الواقع ، والقطيعة معه، إلى الحد الذي حرمها من إمكانيات التواصل معه والتأسيس لمشروعها البديل الذي يحتوي هذا الواقع وينتقل به نقلة جديدة إلى الأمام ، وامتدت هذه القطيعة لتشمل كل معالم الواقع ، فلم يكن للحركة الإسلامية مشروعها السياسي أو مؤسساتها الاقتصادية ، أو نشاطها الأهلي ، أو حضورها الإعلامي ، أو غير ذلك من معاني الحضور وتجلياته ، الأمر الذي حرمها كثيرا من ريادة الفعل الاجتماعي والسياسي ، وجعل بعض فصائلها يتجه إلى ألوان من الرعونة السياسية عندما حاول أن يصرف " فائض القوة " لديه في عمل سياسي أو جماهيري .
ثم أتت المرحلة الأخيرة التي نعيشها الآن ، وهي المرحلة التي يمكن تحديد نشأتها ـ تقريبا ـ بأوائل الثمانينات ، والتي شهدت وما قبلها عددا من الأحداث الجسام ، منها قيام الثورة الإيرانية وما مثلته من عوامل جذب وتحريك لأشواق النصر عند الإسلاميين ، وكذلك حادث اغتيال الرئيس السادات في عملية مثيرة ، وكذلك في الصراع الدموي بين الحركة الإسلامية والنظام السوري ، هذه الأحداث دشنت مرحلة جديدة في العمل الإسلامي ، يمكن وصفها بمرحلة البحث عن المستقبل ، فبعد أن مر الفكر الإسلامي بمراحل الصدمة والذهول ، ثم مرحلة البحث عن مواءمة مع الفكر الغربي ، ثم مرحلة الاستعلاء وإثبات التميز ، بدأت المرحلة التي لا بد وأن كان يصلها الفكر الإسلامي ،وأن يجد نفسه في مواجهة السؤال الكبير ، وماذا بعد ..؟ ، وكيف ندخل في عالم اليوم وتحدياته ، فكانت هذه هي مرحلة التأسيس لمشروعه المستقبلي الذي يعبر عن هويته وأصالته ، في الوقت الذي يعبر فيه أيضا عن قدرته على مجابهة تحديات الواقع المعاصر ، على مختلف الأصعدة ، وأن يطرح مشروعه الذي يؤسس فيه لحضارة جديدة وعالم جديد أكثر عدلا واستنارة ورشدا . هذا التفكير الجديد ، التفكير المستقبلي ، وضع الفكر الإسلامي على مفارق طرق ، لأن الأخطر دائما ليس ما ترفضه ، وإنما ما تقوله أو تبدعه .(15/112)
وقد أفرز هذا الانفتاح التفكيري تيارات ومناهج متعددة للنظر في المستقبل الإسلامي وصياغة مشروع للنهضة ـ إن صح التعبير ـ يعبر تعبيرا راشدا وحقيقيا عن روح الإسلام ودوره في الحياة الإنسانية ، ويمكن استجماع شتات هذه التيارات في ثلاثة اتجاهات ، وإن كان كل اتجاه منها يحمل بداخله بعض التباينات في طرح منتسبيه في الدرجة والحدة ، إلا أن الوجهة العامة والخطوط الأساسية متجانسة إلى حد بعيد . الاتجاه الأول ، وهو اتجاه سلفي واضح النزعة ، يأوي إلى نصوص الوحي ، بصرامة كاملة ، ويأوي إلى السنة المشرفة فيما يعن من مسائل ، صغيرها وكبيرها سواء ، بحكم أن السنة هي الموضحة والشارحة للنص القرآني ، كما أنه تيار يصدر عن قناعة بأن انفلات الفكر من إطار الوحي ودخوله في باب الاجتهاد العقلاني الواسع يوقعه حتما في المعسكر المعادي أو المفارق للوحي ، ويتحول بمرور الوقت إلى عنصر هدم وتخريب في قواعد الإسلام حتى وإن ظن أنه يحسن صنعا ، ويهتم هذا التيار بشكل كبير بالقضايا العقدية ، وتفاصيلها ، والفروق المنهجية والعقدية بين التيارات الإسلامية المختلفة قديمها وحديثها ، وفي الوقت الراهن برز اهتمام هذا التيار بمسألة القبور والأضرحة وما يقع فيها من بدع الطواف والاستغاثة والنذر ونحو ذلك مما لا يجوز إلا لله ، وخاضوا حروبا مريرة مع هذه البدع في العالم العربي وفي أطراف العالم الإسلامي المختلفة ، وحيثما حلوا ، كما يولي هذا التيار اهتماما واضحا بالهدي الظاهر والالتزام به ، من الزي واللحية والنسك والتزام المساجد وعمارتها والآداب النبوية وإحيائها في السلوك العام ، والذي لا شك فيه أن هذا التيار يمكن القول بأنه الوجه الأكثر حضورا وبروزا في الصحوة الإسلامية الأخيرة التي عرفتها الأمة ، من حيث الجهد الضخم الذي بذله أبناؤه والروح الجديدة التي بثوها في جنبات الأمة ، والبصمة الواضحة التي وضعوها في الحياة الاجتماعية والدينية بشكل خاص ، بل إن الصدمة الكبيرة التي أحدثها الحجاب والنقاب واللحية ومعالم الهدي الظاهر ، إنما خاض معتركها هذا التيار بكل جسارة ، وهذه الجوانب كانت بمثابة الراية التي تمثل حضور الصحوة الإسلامية في بلاد المسلمين . ولكن هذا التيار كان يشوبه العديد من الأخطاء والسلبيات التي تعوق مسيرته في قيادة الأمة ، وإكمال مشروع حضاري ملائم لها ، بل إن غياب هذا المشروع عن وعي وطرح رواد هذا التيار ، كان من أبرز المعالم السلبية فيه ، إن هذا التيار عرف ما يرفض أكثر مما عرف ما يقول أو ما يطرح ، وكان من الصعب أن تصنع مستقبل أمة بمجرد الوقوف عند معاني الهدي الظاهر ، أو حتى عند التنبيه على أخطاء عقدية تقع من بعض أبناء الأمة ، الناس كانت في حاجة إلى مشروع سياسي يحتوي طموحاتها ويحقق لها الإحساس بالكرامة الإنسانية في أوطانها ، وكانت في حاجة إلى رؤى جهادية تحقق لها آمالها في صراعها مع اليهود وغيرهم ، وكانت في حاجة إلى مشروع اجتماعي يحقق لها الاطمئنان والاتزان في البناء النفسي للمجتمع واحتواء نزعات الشطط والانفلات الموارة داخله ، ومحاصرة الغزو القيمي والنفسي الخطير للغاية الذي ينفذ كل يوم إلى ساحة الدار ونحن عاجزون عن وقفه أو مدافعته ، كانت الأمة في حاجة إلى بناء ثقافي وفكري وفني وإنساني جديد يستوعب طاقات فطرية عند الإنسان المسلم ، وخاصة عند ملايين الشباب والشابات الباحثين عن المتعة الحلال وتنفيس طاقاتهم في مسالك آمنة ، وكل هذا مع الأسف لم نلحظه في أطروحات التيار السلفي ، الأمر الذي أدى إلى وجود فراغات ومساحات من الفوضى في الحالة الإسلامية تقدمت قوى وتيارات أخرى لمحاولة ملئها وقيادة الأمة من خلالها .(15/113)
التيار الثاني ، وهو التيار السياسي والحركي ، وهو ينتظم في جماعات وأحزاب سياسية متعددة ، وهو تيار يعود إليه الفضل في تسجيل الحضور السياسي الفاعل والمثير للدعوة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم ، وكان وما يزال يمثل المجال الحيوي لاستيعاب طاقات أجيال من الإسلاميين ممن يملؤهم الشوق لتسجيل حضور الشريعة الإسلامية في مؤسسات الدولة الحديثة ، والدفاع عن حق الإسلاميين في المشاركة في الحكم أو الشورى أو الهموم العامة في الدولة ، وإن كان هذا التيار يتوزع على جبهات عديدة منها من قبل العمل من خلال مؤسسات الدولة العلمانية لدفع صائلة قوانين العقوبات التي تضطهد العمل خارج القانون الرسمي للدولة ، ويحمد لهذا التيار أنه أعطى الصحوة الإسلامية نوعا من الهيبة في العمل العام والسياسات المحلية والدولية ، ولكن المشكلة الكبرى في هذا العمل هي في التبعات التي تعلق بأي نشاط سياسي ، وهي خفة الضبط العقدي والمنهجي والقيمي لخدمة ما تراه الحركة مصالح عملية أو سياسية ، كما أن التربية في صفوف أبنائها ترتكز على تنشيط الوعي العام بأحوال الأمم والواقع السياسي المحلي والدولي على حساب عمق التربية العقدية والسلوكية ، ولعله مما يلاحظ عامة على تلك التوجهات قلة الاهتمام بالسنن ومعالم الهدي الظاهر ، بل هناك نوع من الاستخفاف بها وربما التهكم على الملتزم بها ، والأمر الجدير بالملاحظة أن التيار الحركي السياسي الذي ينشط خارج المؤسسات الرسمية ، في تنظيمات لها طابع سري أو غير قانوني ، هي ـ من بين أبناء ذلك التيار ـ التي تكون أقرب إلى التربية العقدية ، وهي ملاحظة تحتاج إلى تحليل بلا شك ليس هنا مكانه .
ويبقى التيار الأخير وهو ذلك التيار الذي ينزع إلى الاجتهاد العقلاني في فهم النصوص والواقع الدعوي والعام ، وهو تيار قوي يملك أصحابه قدرا عاليا من رجاحة العقل ، ويملكون ـ عادة ـ خبرة عميقة بالحالة الثقافية والسياسية في المجتمع المحلي والدولي ، كما أنه بالنظر إلى أن كثيرا من أقطاب هذا التيار هم من المتحدرين من تجارب عقدية ومنهجية مغايرة للمنهج الإسلامي وعقيدته ، من ماركسيين وقوميين وبعثيين وليبراليين لا دينيين ، فإن في مواقفهم الفكرية قيمة كبيرة في التصدي لرموز التيارات التي كانوا ينتمون إليها ، وقدرة عالية على دحض حججهم ، وكشف عوارهم وفضح تناقضاتهم وهشاشة موقفهم الفكري ، ولا شك في أنهم أفضل من قاموا ويقومون بهذا الدور ، ولكن هذا السبب الذي منحهم هذه الإيجابية في النشاط الإسلامي العام ، هو نفسه السبب الذي مثل نقطة الضعف الواضحة في نشاطهم ، وذلك أن علاقة هذا الفريق بأصول الشريعة ليست حميمة ، وحسهم الفقهي والتراثي فيه غربة ، وبناءهم العقلي والنفسي اكتمل قبل تشربهم لروح الإسلام ، ولذلك تأتي رؤاهم في العديد من القضايا الإسلامية العامة ، وخاصة ما يتصل منها بالسنة أو شؤون العبادات أو أصول التشريع ، تأتي ناشزة ، ومفارقة لإجماع أهل العلم ، كما أن لديهم جرأة مدهشة على تجاوز النص الشرعي إذا لم يوافق تأملهم العقلي ، والخطير أن عقلهم العلمي لم يتأسس ويتبحر في غمار العلوم الشرعية ، ولم يألف وعي الفقهاء والعلماء بالمشتبهات وتخريج ما غرب على العقل العام من الأحكام والنصوص ، ولذلك يستسهلون إسقاطها أو تجاوزها ، وترى منهم جرأة عجيبة في هذا الباب ، بل هناك حالة من الاستعلاء غير الصحي في مواقفهم تجاه أبناء الدعوة الإسلامية ممن لا يوافقونهم في نزعتهم ، وأخطر ما في أمر هذا التيار أنهم اقتربوا من بعض " المشايخ " إنسانيا وفكريا ، وأثروا فيهم تأثيرا كبيرا ، وخاصة عندما دخلوا إليهم من باب نظر الغرب إلى الإسلام ، وتحسين صورة الإسلام أمام الإنسان الغربي الجديد ، وما تصوروه تيسيرا على الناس في الأحكام ونحوها ، في حين أنه ينتهي إلى إضعاف وجود الدين ودوره في حياتهم وفتح باب الاستهانة بالأحكام الشرعية ، وقد تولدت الكثير من التفريعات والتقعيدات غير الحميدة من هذا التيار أثرت سلبيا على اعتصام الأمة بالكثير من معالم الشريعة والجرأة على الاستهانة بها ، من مثل تقسيم الدين إلى لباب وقشور ، واستبدال مصطلح التجديد بمصطلح الاجتهاد ، للهرب من الواجبات العلمية التي يفرضها استحداث النظر في قضايا الشريعة ، وغير ذلك من أمور .(15/114)
هذه هي التيارات الثلاثة التي توجه الحالة الإسلامية اليوم ، في مرحلة البحث عن مستقبل للمشروع الحضاري الإسلامي ، وهي في الحقيقة تيارات على قدر ما فيها من تباين على قدر ما فيها من تكامل وتعاضد ، إذا حسن إجراء حوار علمي وحضاري وديني جاد بين رموزها ، وإذا أمكن السيطرة على نوازع الغلو في كل تيار ، وهي موجودة في الجميع ، وفي تقديري أن مستقبل المشروع الحضاري الإسلامي مرهون بمثل هذا الأمل في تكامل هذه الجهود ومن ثم امتزاجها في تيار عام يعيد بناء الشخصية المسلمة ، ويعيد بناء الأمة ، والدولة ، ثم يعيد بناء الخطاب الإسلامي العام إلى العالم كله . إن النهضة الإسلامية في تصوري لا يمكن أن تقوم إلا على بناء سلفي متين ، لأن هذه النهضة في أساسها هي نهضة دين ، فهو قطب وجوده ووجودنا ، ودين الله هو نص كتابه وسنة رسوله ، ومنهج السلف الصالح الذي تأسست عليه هذه الأمة العظيمة التي ننتسب إليها ، ومن أراد أن يجتهد أي اجتهاد ، علمي أو سياسي أو دعوي أو حضاري وينسب ذلك إلى الإسلام ، فعلى هذا النهج الواضح ، بلا التواء ولا مجاملات ، فالأصل العام في النهضة الإسلامية ، أنها نهضة أمة الكتاب والسنة، أمة الوحي ، فهو الراية وهو الدليل وهو الرائد ، وعندما نفقد التزامنا بالكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح ، فإن سفن النهضة تنفلت من مسارها خبط عشواء ، تتجاذبها الرياح رياح الفكر ورياح الفتن ورياح الشهوة ، ثم تغرق بها في قرار سحيق ، وعلى جانب آخر فإن هذه النهضة لا بد وأن يكون لها حضورها الواعي في معترك الحياة الإنسانية بكافة تشعباتها ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، لأننا نبني أمة بشرية ، وللبشر احتياجاتهم ، وللأجيال طاقاتها التي تحتاج إلى أن تفرغ في مشروعات بديلة آمنة ، وعندما تتوقف أنت عن ذلك وتنعزل فسوف يتقدم غيرك ويقود هذه الطاقات ، إنه من الميسور أن يمارس المسلم الآن دور رجل المرور في شوارع الفكر والأخلاق والاقتصاد والسياسة ، فيحذر هذا من ذاك الطريق ، وينهى الآخر عن هذه المركبة ، ولكن دون أن يكون قد خطط سبلا وطرقا وخدمات بديلة تضبط مسار الفعل في المجتمع وتستوعب توسعات النشاط وتوسعات الطموح عند الناس ، وأن يقوم بتنفيذها أو بعضها بالفعل ، وكذلك فمشروع المستقبل الحضاري لا يمكنه تجاهل عطاء الفكر الإنساني ، وخاصة المفكرين الإسلاميين ، ودورهم في تحريك الوعي الإسلامي والدفاع عن الإسلام ضد خصومه ، وحماية العقل الإسلامي من كثير من المخاطر التي تهددته من تيارات ومناهج وافدة ، كما لا يمكن أن يتجدد عطاء الإسلام في حياة الناس من غير أن تتجدد اجتهادات تتأمل في مستجدات الهموم والخطوب ، وتطرح البديل الشرعي الذي ربما لم ينتبه له القدماء ولم تصطدم به آلة الفقه في السابق ، ولا بد وأن تكون هناك رحابة صدر في احتمال ما ينجم عن مثل هذه الاجتهادات من أخطاء أو مثالب ، يمكن تداركها والإبانة عن زللها والتحذير منها ، ولكن دون أن نجرح أصحابها أو نهيل على تاريخهم التراب .
وبعد ..
فقد كانت هذه إطلالة عامة بطبيعة الحال ، على تحولات الفكر الحضاري في العالم الإسلامي في العصر الحديث ، تحتاج إلى حوار ونقد وتمحيص وإضافة وحذف ، كما تحتاج إلى كثير من إحسان الظن بصاحبها ، الذي يعترف بأن بضاعته في هذا الشأن " مزجاة " ، فإن أحسنت فمن الله وبرحمته ، وإن زللت فمن نفسي والشيطان ، والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الخاتم وعلى آله وصحبه أجمعين .
===============(15/115)
(15/116)
الإسلام أعطى المرأة حقوقاً لم تحصل عليها في الغرب
يزعم الغربيون أنهم حريصون على تحرير المرأة، وخصوصاً المرأة المسلمة، وقد حرصت حركات تحرير المرأة المسلمة - كما أطلقوا عليها - على جعل المرأة المسلمة تقف خصماً أمام الرجل المسلم، وتقف خصماً ضد شريعة الإسلام الغراء، وتمتلئ تلك المنظمات الداعية إلى تحرير المرأة المسلمة رعباً وهلعاً كلما قيل هناك من يطالب بتطبيق حكم الشريعة، وتنفرج أساريرها فرحاً وسروراً كلما وجهت ضربة إلى الشرع الحنيف عن طريق سن المزيد من القوانين الوضعية العلمانية المستمدة من قوانين الغرب.
وتجلّى الاهتمام الغربي بقضية تحرير المرأة في الهجمة الشرسة المباشرة وغير المباشرة من قبل الغربيين على الشريعة الإسلامية، وتشجيعهم للمرأة على الخروج على تعاليم دينها التي التزمت بها طوال أربعة عشر قرناً، ويزعمون ان المسلمين يسيئون إلى المرأة، ويكبتونها، ويجبرونها على الالتزام بزي معين وهيئة معينة وهو ما يتعارض مع حقوق المرأة - كما يدّعون -.
والمتتبع لهذه التخرصات التي تنبع من الغرب، وتجد من يروج لها بين المسلمين لا يجد مشقة في الرد عليها، حيث كرّم القرآن الكريم المرأة ووضعها في أعلى منزلة.. وبشهادة المنصفين من مثقفي الغرب فقد أعطى الإسلام للمرأة حقوقاً لم تحصل عليها المرأة في الغرب، ولو قاس المنصفون ما كانت عليه المرأة في الجاهلية، وما صارت إليه بعد بزوغ شمس الإسلام الساطعة لعلم أن الإسلام أنصف المرأة ووضعها في مكانها الذي يجب أن تكون فيه من غير إفراط ولا تفريط وليس أدل على ذلك من اعتراف الإسلام للمرأة بحق النسب إلى أبيها بعد زواجها بعكس المرأة في ظل الحضارة الغربية التي لا زالت حتى اليوم تنسب لزوجها وليس لأبيها، كما أقر الإسلام مساواة المرأة بالرجل في الثواب والعقاب فقال تعالى (( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثي بعضكم من بعض )) الآية والشواهد في هذا السياق متعددة وكثيرة.. و صلى الله عليه وسلم عرف للمرأة مكانتها فقد رد r عن الصحابي الذي سأله « من أحق الناس بحسن صحابتي فقال له صلى الله عليه وسلم أمك، قال ثم من، قال: أمك، قال ثم من، قال: أمك، قال: ثم من، قال: أبوك» وقول صلى الله عليه وسلم «الجنة تحت أقدام الأمهات".
ولهذا لو قارنت الفرق الشاسع بين أكرم المسلمين للمرأة خاصة الأم لوجدت الاحترام والمودة والبر أما تعامل الغرب مع المرأة خاصة الأم لوجدت أن المرأة عندهم إذا كانت شابة فهي سلعة يباع لحمها وشرفها بأرخص الأثمان وإذا كبرت في السن القى بها ابنها في الملجأ ان هذا التعامل الغربي الجواني مع المرأة يقابله تعامل الملتزمين بالإسلام مع المرأة المتمثل في بر الأم وإكرام الزوجة والإحسان إلى القريبات في تعامل حضاري راق ومع ذلك تجد أن العالم الغربي الحيواني يشن حرباً شرسة على المرأة المسلمة ويريدها أن تخرج من سترها وشرفها وعفافها وتكون سلعة مبتذلة رخيصة ويدعون أنهم يريدون أن يحرروا المرأة من شرفها وكرامتها وعفتها وزمر لهم وطبل دسائس الماسونية بين المسلمين ومع ذلك فإن الله ناصر لدينه ومعز للمتمسكين بالإسلام ولو كره الكافرون هذا والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
============(15/117)
(15/118)
دبلوماسية الحرب الأمريكية على العالم
عرض:أنور بن علي العسيري 21/4/1424
21/06/2003
الكتاب : هل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية
نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين ؟ .
المؤلف: هنري كيسنجر.
الناشر :دار الكتاب العربي ، بيروت .
ترجمة :عمر الأيوبي.
عدد الصفحات:328 صفحة .
يثير هذا الكتاب المغلف بالرؤى الاستراتيجية فكرة السيطرة التي تراود النخب الفكرية السياسية الأمريكية هذه الأيام .. فمع توافد الكتب التي يؤلفون على دور النشر العالمية يتفاجأ الجميع بهدف إمبريالي واحد لا يكاد ينفك عن جميع نقاشات هذه الأقلام . غزو العالم بات هدفاً أمريكيا واضحاً . ومع هذا الكتاب الذي يحق لنا أن نطلق عليه " دبلوماسية الحرب الأمريكية على العالم " يحمل " كيسنجر " العالم برمته على كف أمريكا ليديره بالاتجاهات التي تحقق مكاسب هذه الدولة العظمى ، فمن محاورة هذه الدولة إلى اقتلاع الأخرى ، ومن دعم لذلك التكتل البعيد إلى تفكيك أي محاولات تكتل في المنطقة القريبة بما يحقق هدف الوجود الأمريكي الإمبريالي الجديد .. لقد باتت الكرة الأرضية برمتها ملعباً وساحة مهمة لاطماع هولاكو العصر الجديد .. من هنا آثرنا أن نفتح نافذة على هذه العقول المتأصلة في عالم الاستبداد لنتيح لقرائنا فرصة التقاط الأفكار وقراءتها من عقول أصحابها ؛ ولذا فقد جاء هذا الكتاب المدجج بنظريات الاحتلال ومراوغات السلطة ومحاولات اللعب على الثغرات وتأجيج نارها في مناطق العالم محاولة لفهم هذه الرؤية للعالم ، علّنا أن نعيها كمسلمين في لحظة تاريخية من عمر امتنا الاسلامية المشرق.
الفصل الأول :
أميركا في القمة : إمبراطورية أم زعيمة ؟
تتمتع الولايات المتحدة في فجر الألفية الجديدة بتفوق لم تضاهه حتى أعظم الإمبراطوريات في الماضي ، فمن صناعة الأسلحة إلى تنظيم العمل ومن العلوم إلى التكنولوجيا ومن التعليم العالي إلى الثقافة الشعبية تمارس الولايات المتحدة سيطرة لامثيل لها في كل أنحاء العالم ، والولايات المتحدة تعتبر نفسها مصدر المؤسسات الديمقراطية في العالم ، مما جعلها بشكل متزايد تنصّب نفسها حكما على نزاهة الانتخابات الأجنبية ، وتفرض عقوبات اقتصادية أو تفرض ضغوطا أخرى إذا لم تستوف معاييرها .
ونتيجة لذلك تنتشر القوات الأمريكية حول العالم من سهول أوروبا الشمالية إلى خطوط المواجهة في شرقي آسيا ، وتكاد تتحول هذه المحطات للتدخل الأمريكي ( حفظ السلام) إلى التزامات عسكرية دائمة ، ففي البلقان تؤدي الولايات المتحدة الوظائف نفسها في جوهرها التي قامت بها الإمبراطوريتان النمساوية والعثمانية عند منقلب القرن الماضي ، أي حفظ السلام بإقامة محميات مقحمة بين المجموعات الاثنية المتحاربة وهي تسيطر على النظام المالي الدولي بتوفير أكبر مجمع لرأس المال الاستثماري ، والملاذ الأكثر جاذبية للمستثمرين وأوسع سوق للصادرات الأجنبية ، وتحدد الثقافة الشعبية الأمريكية معايير الذوق في كل أنحاء العالم حتى عندما توفر شرارة الاستياء الوطني بين الحين والآخر!!
الطبيعة المتغيرة للبيئة الدولية:
إن فهم الوضع المعاصر بالنسبة للأمريكيين يجب أن يبدأ بالاعتراف بأن الاضطرابات الحاصلة فيه ليست انقطاعات مؤقتة لوضع راهن ، بل إنها تدل على تحول حتمي للنظام الدولي ، ناجم عن حدوث تغيرات في البنية الداخلية لكثير من المشاركين الأساسيين فيه .
إن مصطلح العلاقات الدولية بحد ذاته هو في الواقع حديث النشأة نسبيا ؛ لأنه يقتضي أن تكون الدولة القومية حتما أساس تنظيمه ، غير أن هذا المفهوم لم ينشأ في أوروبا إلا في أواخر القرن الثامن عشر ، وانتشر حول العالم عن طريق الاستعمار الأوروبي إلى حد كبير ، واليوم يواجه النظام الوستفالي أزمة منهجية وتخضع مبادئه للتحدي ، رغم عدم التوصل إلى بديل متفق عليه بعد ، لقد جرى التخلي عن سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لصالح مفهوم التدخل الإنساني العالمي!! أو الولاية القضائية العالمية .
ومن هنا فإن الدولة القومية التاريخية باتت تدرك أن حجمها غير كاف لكي تلعب دورا عالميا رئيسا ؛ لذا أخذت تسعى لتجميع نفسها في وحدات أكبر.
التحديات التي تواجه أمريكا :
وجدت الولايات المتحدة نفسها في عالم لم تعد تجربتها التاريخية سوى القليل منه ، فقد رفضت مفهوم توازن القوى نظرا لوجودها آمنة بين محيطين عظيمين ، مقتنعة أنها قادرة على أن تنأى بنفسها عن نزاعات الأمم الأخرى ، أو أن بوسعها إقامة السلم العالمي بالإصرار على تطبيق قيمها الخاصة للديموقراطية وتقرير المصير .(15/119)
ومن الشعور بالأمن الذي رافق أمريكا كما يرى " كيسنجر " تستولي معركة القوى الداخلية الأمريكية على نصيب الأسد في هذه الصعاب التي تواجه أمريكا ، فالمؤلف يرى أن السبب الأعمق للصعوبة التي واجهتها أمريكا في تسعينيات القرن العشرين في تطوير استراتيجية متماسكة للعالم ، هي في هذه القوى المتنازعة بشأن الدور الأمريكي وهي : قوى المحاربين القدامى في الحرب الباردة الذين يسعون لتكييف خبراتهم مع ظروف الألفية الجديدة ، وأنصار حركة الاحتجاج على فيتنام الذين يسعون لتطبيق دروسها على نظام العالم الجديد الناشئ ، وجيل جديد شكلته تجارب تجعل من الصعب عليه استيعاب مفاهيم جيل الحرب الباردة أو مفاهيم المحتجين على فيتنام . إن محور الحل الذي يراه " كيسنجر " قد رسمته آخر حروف الفصل الأول ( على الولايات المتحدة أن تترجم قيمها إلى إجابات عن بعض الأسئلة الصعبة ، ما الذي علينا الحؤول دون حصوله من أجل بقائنا بصرف النظر عن مقدار إيلام الوسائل ، وما الذي علينا أن نعمل جاهدين لإنجازه لكي نكون صادقين مع أنفسنا بصرف النظر عن مقدار ضآلة الإجماع الدولي المتحقق ولو اضطررنا الى العمل بمفردنا!! ) .
وهذه الرؤية الواضحة لحروف هذا الكتاب تعد فيصلا في كل ماستقدم عليه أمريكا لاحقا في العالم ، وهي مرآة لما تفعله اليوم في العالم الكبير!!
الفصل الثاني :أميركا وأوروبا.
عالم الديموقراطيات:
انتصر المثل الأعلى الولسوني للنظام الدولي الذي استند إلى الالتزام بالمؤسسات الديمقراطية وحل النزاعات عن طريق المفاوضات بدلا من الحرب ؛ ولهذا السبب ولمدة تزيد على نصف قرن ، خدمت شراكة دول شمال الأطلسي كحجر الزاوية للسياسة الخارجية الأمريكية ، وحتى بعد زوال الخطر السوفيتي ظلت الشراكة الأطلسية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الدعامة الأساسية للنظام الدولي .
تحول العلاقات الأطلسية :
إن الانحراف في العلاقات الأطلسية لا تسببه سياسات معينة لقادة فرديين ، لكن هذه السياسات تعكس أربعة تغيرات في العلاقة التقليدية :
تفكك الاتحاد السوفيتي .
توحيد ألمانيا.
الاتجاه المتنامي للتعامل مع السياسة الخارجية كأداة للسياسة المحلية.
تشكل الهوية الأوروبية .
منذ دخول أمريكا في الحرب العالمية الأولى سنة 1917 وسياستها ترتكز على الاعتراف بأنه من مصلحتها الجيوسياسية الحؤول دون سيطرة قوة معادية محتملة على أوروبا ، وللدفاع عن تلك المصلحة تخلت الولايات المتحدة عن عزلتها التقليدية بعد الحرب العالمية الثانية ، ودخلت في صراع طويل مع الاتحاد السوفيتي.
و هكذا تتقرر في نظر " كيسنجر " أهداف أمريكا في أوروبا وهي ما يشهده العالم في كل مناطق التقسيم السياسي الذي فرضته الرغبة الأمريكية بالاستفراد بدول العالم عبر فرز مكامن قوتها ، وتنفير أي محاولة تقارب قد تتيح قوة جديدة قادرة على تقديم نفسها كبديل منافس أو على الأقل كقدرة استراتيجية تحمي ذاتها.
الفصل الثالث : نصف الكرة الغربي عالم الديموقراطيات .
الثورة في المنطقة :
إذا اعتبرنا أن المؤسسات السياسية والاقتصادية تحدد طبيعة الدور الدولي في المنطقة فبالإمكان مقارنة أمريكا اللاتينية بالدول المحاذية لشمال الأطلسي ، فأنظمتها السياسية ديمقراطية واقتصادياتها تتوجه بشكل متزايد نحو السوق ، والنزاعات بين دولها تحل عن طريق المفاوضات أو التحكيم ، لكن يوجد عالم أمريكي لاتيني آخر متخلف وبعيد عن المشاركة التكنولوجيا المتطورة والإنترنت .. وهذا الوصف لحال أمريكا تتركز أهميته لدا كيسنجر (المصلحي ) الأمريكي في قدرة أمريكا على التعامل مع هذا الجزء القريب منها ، والذي سيحقق لها أقصى منفعة ربحية ممكنة وفق قواعد السوق السياسي الذي تقوده أمريكا في عالمها الجديد!!
الفصل الرابع :آسيا عالم التوازن .
التعقيدات الجيوسياسية في آسيا :
خلال النصف الأول من القرن العشرين خاضت الولايات المتحدة حربين لمنع قيام قوة معادية من السيطرة على أوروبا ، وبعد الحرب العالمية الثانية لم تكن هناك دولة أوروبية غربية تملك ما يكفي من القوة للسيطرة على أوروبا أو مستعدة للجوء إلى الحرب كأداة سياسية ضد جيرانها .. إذن تهديدات الأمن كانت من الخارج!!(15/120)
وبإلقاء نظرة على الخارطة السياسية والاقتصادية لآسيا تتضح أهمية وتعقيدات المنطقة ، فهي تضم بلدا صناعيا متطورا مثل اليابان باقتصاد أكبر من اقتصاد أي بلد تاريخي في أوروبا ، وثلاثة بلدان قارية هي الهند والصين وروسيا ، وبلدين كوريا الجنوبية وسنغافورة قريبين من امتلاك الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية للدول الصناعية المتقدمة ، وبلدين كبيرين هما الفلبين وإندونيسيا ، وتنتشر أعداد كبيرة من السكان المسلمين في ماليزيا واندنويسيا ، وهما أكثر الشعوب الإسلامية عددا في العالم . ولا يمكن لتكتل آسيوي عدائي يضم أكثر الدول اكتظاظاً بالسكان وموارد هائلة مع بعض أكبر الشعوب الصناعية أن يتفق مع المصالح القومية الأمريكية ؛ ولهذا يتعين على الولايات المتحدة الإبقاء على وجود لها في آسيا ، ويتعين أن يكون هدفها الجيوسياسي منع تحول اندماج آسيا إلى تكتل غير صديق ( وهو المرجح حصوله في ظل وصاية إحدى القوى الرئيسة ) .
والتحدي الجيوسياسي كما يرى كيسنجر - والذي تلعب على أوتاره امريكا- هو ليس في إلحاق الهزيمة بدول الجوار بقدر ما هو في كيفية منع هذا التحول من الإتحاد ضدها ، فكابوس اليابان هو العملاق الصيني ، وتستند هواجس الصين من المخططات اليابانية والروسية إلى قرن من التجارب ، ولطالما كانت الحدود بين الصين والهند سببا للنزاعات لأكثر من نصف قرن وقبل ذلك كانت مصدرا للمنافسة بين الصين والإمبريالية والحكام البريطانيين في الهند ، وبعد عرضه العام هذا بدء المؤلف في تحليل هذه القوى من زوايا التاريخ والاستراتيجية بما يحقق القدر الأكبر من الإنجاز والسيطرة لإمبراطورية العصر الجديد الولايات المتحدة الأمريكية!!
وفي معرض توصيفه للوضع الهندي تطرق لما اسماه بالقوس الممتد من سنغافورة إلى عدن ؛ إذ وكما يرى في كتابه أن المصالح الهندية والأمريكية تتوازى ، فكلاهما لا يرغب في إسلام أصولي يسيطر على المنطقة حتى ولو كانت دوافعهما مختلفة فيما يتعلق بسياستهما المحلية ، لكن الهند تظل قلقة من الأصولية الأفغانية اكثر من قلقها من الأصولية الإيرانية .
إلى أين نذهب من هنا:
نبغي على السياسة الأمريكية في آسيا أن تحرر نفسها من الشعارات السطحية وتبدأ بالأفعال على أساس بعض المبادئ العملية التالية :
أولا : تكمن مصلحة أمريكا القومية في آسيا في منع أي قوة من فرض هيمنتها على القارة !!
ثانيا : أفضل طريقة لدفاع الولايات المتحدة ضد أي تهديد معاد هو ترسيخ وجود عسكري متفوق .
ثالثا: ينبغي إجراء حوار مكثف مع الهند فالمصلحة الأمريكية الجيوسياسية أساسا بالاضافة إلى قلق الهند من تأثير الأصولية الإسلامية على شعبها ستساعد على البدء في حوار استراتيجي بناء .
رابعا : يمكن صياغة العلاقات الصينية الامريكية وفقا للسياسة الامريكية ، ويجب الاعتراف بأن الصين جزء لايستغنى عنه من سياسة آسيوية بناءة .
الفصل الخامس: الشرق الأوسط وأفريقيا .
عوالم آخذة في التحول:
في صراعات الشرق الأوسط تنبع الدوافع العاطفية من قوى مشابهة لتلك التي كانت في أوروبا في القرن السابع عشر فقد مزقت الانقسامات الدينية والأيدلوجية المنطقة أقساما شتى ، وأبرز هذه الانقسامات الصراع العربي الإسرائيلي ....لكن التصدعات في العالم الإسلامي لاتقل حدة إن لم نقل وضوحا .
يعاني العالم الإسلامي من انقسامات خاصة ، بعضها يمثل استمراراً لصراع تاريخي بين حضارتي النيل وبلاد مابين النهرين .. بين أنظمة علمانية متطرفة مثل النظام العراقي وأنظمة علمانية معتدلة مثل النظام في مصر ، بين الأصوليين وأبرزهم الحكومة الإيرانية والأنظمة العلمانية مثل النظام السوري ، بين الحكومات في المملكة العربية السعودية ودول الخليج وجيرانها الأكثر حداثة ، بين العرب والفرس ، وبين مذهبي الإسلام السني والشيعي .
الصراع العربي الإسرائيلي:
في العام 2000م صار العالم معتاداً على عبارة السلم في الشرق الأوسط لدرجة أنه بات من شبه المنسي التاريخ القاسي والمرير الذي سبق هذه العملية وتحتاج المفاوضات العربية الإسرائيلية إلى التوفيق بين القضايا الإقليمية والاستراتيجية أي مادة الدبلوماسية ومسائل الأيديولوجيا والدين والشرعية ، أي مادة اللاهوت ولعل العقبة الأساسية أمام بلوغ دبلوماسية السلام ذروتها هي المفاهيم المتباينة لفرقاء المعنيين تجاه عملية السلام فالإسرائيليون والأمريكيون يعرفون السلام بأنه تسوية تنهي الدعاوى وتحدد وضعية شرعية دائمة ، بعبارة أخرى انهم يطبقون مفاهيم الديمقراطية المتحررة للقرن العشرين !! لكن العرب وخصوصا الفلسطينين يعتبرون إسرائيل دولة دخيلة في الأراضي العربية ( المقدسة ) ، قد يقبلون تسوية حول الأرض لعدم وجود بديل أفضل لكنهم سيتعاملون مع القضية كما أذعنت فرنسا لضم ألمانيا للالزاس واللورين سنة 1980م كضرورة ممزوجة بالتصميم على الانتظار ريثما تحين فرصة لاستعادة ما فقد !!
في المقابل فقد بدأت الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية تتشابك في اللحظة التي وصلت فيها دبلوماسية السلام في الشرق الأوسط إلى مرحلتها الأخيرة !! .(15/121)
إلى أين نتجه:
تحققت الإنجازات الدبلوماسية الرئيسية في الصراع العربي الإسرائيلي من ظرفين مترابطين الأول كان الدور المهيمن للولايات المتحدة في تشكيل المناخ السياسي والإستراتيجي للشرق الأوسط والثاني كان أدق واكثر تناقضا في الظاهر : حكومة إسرائيلية مدافعة بعناد عن مصلحتها القومية لا تتزعزع من أية ضغوطات تمارسها عليها دول الجوار .!!
بعد هذه الكلمات التي تمثل اعترافا صريحا بلعبة السلام المفتعلة وتوزيع الأدوار المرعب بين حليفين استراتيجيين ساق المؤلف تباشير هذه الانتصارات التي حققتها هذه الدبلوماسية في عصر سقوط العرب ، وتعالي صوت الحل العلماني الذي لايفهم إلا لغة الإذعان في مفاوضات السلام .
العراق:
وقع العراق تحت الانتداب البريطاني عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى عندما قسمت الإمبراطورية العثمانية في الشرق الأوسط بين فرنسا وبريطانيا..
بإنشائها لخدمة مصالح استراتيجية واقتصادية تولى الحكم في الدولة الجديدة متعددة الاثنيات بعد نيلها الاستقلال سلالة هاشمية وخدمت كدعامة للاستراتيجية البريطانية في الخليج ، وفي العام 1958م تمت الإطاحة بهذه السلالة في أعقاب الذل الذي لحق ببريطانيا في عملية قناة السويس سنة 1956م وتولى الحكم حزب البعث القومي الراديكالي والذي ظهر من بينهم صدام حسين كحاكم فعلي في السبعينيات ..
ولقد أجبر بقاء صدام السياسي الولايات المتحدة على اتباع سياسة " الاحتواء المزدوج " ضد كل من إيران والعراق .. وهكذا بدا أن المسالة التي تطرحها العقوبات الذكية المقترحة كبديل هي هل ستنتهي كطريقة للتنازل أو كشكل من أشكال الضغط الذي سوف يتوقف على أية حال ... وفي هذا الإطار النوعي لتحليل عراق أكثر ملائمة لأمريكا من وجهة نظر " كيسنجر " يدعو لعدم الاستعجال في تحديد شكل عراق ما بعد صدام ، وهو يقول : إنه ليس من المبكر التركيز على شكل العراق المأمول بعد رحيل صدام ، ينبغي ألا يكون العراق قويا جدا بالنسبة إلى ميزان القوى في المنطقة ولا ضعيفا جدا للحفاظ على استقلاله ضد جيرانه الطامعين وبخاصة إيران وللمحافظة على رصيد أمريكا في الخليج ، فإن السياسة الهادفة الحازمة أفضل من التخبط الذي ميز التسعينات ، وهذا مهم أيضا بالنسبة إلى علاقة أميركا بإيران أكبر قوة في المنطقة .. لن تكون الولايات المتحدة قادرة على التلطيف من حدة إيران الأصولية إذا لم يمكنها التعامل مع عراق مهزوم .. أو إذا رأى قادة طهران وهم ينظرون عبر حدودهم مقدار سهولة وفعالية تحدي الولايات المتحدة فما الدافع الذي يحفز الحكام هناك عندئذ على انتهاج طريق معتدل!!
الفصل السادس :سياسة العولمة
لأول مرة في التاريخ يظهر للوجود نظام اقتصادي عالمي واحد فالأسواق في جميع القارات تتفاعل باستمرار والاتصالات تتيح التجاوب الفوري مع أي فرص جديدة أو توقعات منخفضة ، وآليات التسليف المعقدة توفر سيولة غير مسبوقة كما شجعت العولمة على زيادة سرعة التطور التكنولوجي والثراء بمعدلات لم يكن في وسع أحد أن يتصورها في العصور السابقة ...
وكانت الولايات المتحدة ولاتزال القوة المحركة التي توفر الدينامية المحركة للعولمة وهي المستفيد الأول من القوى التي أطلقتها ... لكن معظم الخبراء يتفقون على أن نظام السوق يخضع لدورات ، وأن انكماشا اقتصاديا سيحدث عاجلا أم آجلا والتوسع الاقتصادي الامريكي الذي يبدو بدون حدود مقيد بالدخول في فترات ركود إن عاجلا أم آجلا!!
الفصل السابع :السلام والعدل :
ربما كان التحول الأكثر دراماتيكية في طبيعة الشؤون الدولية المعاصرة القبول العام بأن هناك مبادئ عالمية معينة ينبغي أن تفرض إما عن طريق الأمم المتحدة ، وإما في الحالات القصوى عن طريق مجموعة من الدول .
مثل الناتو في كوسوفا
ولقد كان لدى النظام الدولي المستند إلى معاهدة " وستفاليا " جواب لمشكلة الانتهاكات بين الدول أي اللجوء للحرب لكنه لم يوفر أي حل للعنف ضمن الدول الناتجة عن الحروب الأهلية والنزاعات العرقية ، ولِمَا يعرف اليوم بانتهاكات حقوق الإنسان فقد تعامل مع مشكلة السلم وترك العدالة للمؤسسات المحلية . ويرى الناشطون المعاصرون في مجال حقوق الإنسان خلاف ذلك فمن وجهة نظرهم ينبع السلام تلقائيا من العدل ولا يمكن وضعه تحت شكل من أشكال الدول القومية أو على أي دولة ويتعين وضعها تحت شكل من أشكال السلطة المتجاوزة للسلطة القومية والمخولة باستخدام القوة لتحقيق العدل أما المدافعون عن المبادئ الوستفالية فيثقون برجال الدولة اكثر من ثقتهم بالقضاة .
ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001م
التحدي الجديد للإرهاب:(15/122)
ألمّ بالعالم حدث مهم جداً بعد كتابة هذا الكتاب ألا وهو الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة في 11 أيلول / سبتمبر 2001 م لقد كانت مأساة إنسانية عظيمة لكنها حددت أيضا نقطة تحول تفصل الظواهر السطحية عن الاتجاهات التي تقوم عليها ، وتجبر على نبذ الرائج وما يتماشى مع الأهواء وتتطلب وضع رؤية مستقبلية لقداحتل رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير موضع الصدارة في وضع الإطار الأخلاقي والسياسي للتعاون الأطلسي بشأن الإرهاب ، في المقابل كانت المواقف أكثر غموضا بالطبع في العالم الإسلامي فقد اضطرت كثير من الدول الإسلامية ( العلمانية ) إلى عدم الإعلان عن دعمها للولايات المتحدة بسبب الرأي العام مع أنها تشعر بقلق شديد من الأصولية ، وقد ساعد الموقف المتفهم تجاه الأصدقاء التقليديين للولايات المتحدة والغرب مثل المملكة العربية السعودية ومصر في توسيع الائتلاف في العالم العربي
حلف الأطلسي والعراق :
عندما تجاوز هدف المسعى الأمريكي القضاء على المجموعات الإرهابية المحددة في بلد محدد إلى القضاء على إمكانية توزيع أسلحة الدمار الشامل بدأ الإجماع داخل الائتلاف يضعف بل يتفكك في بعض جوانبه ، فخلال أشهر من الإجماع شبه التام فيما يتعلق بعملية أفغانستان أثارت دعوة رئاسية إلى الحرب غير مسبوقة من الحدة ، ومع ذلك أثار بوش مسألة مركزية بالنسبة إلى الأمن الدولي ألا وهي الترابط بين المنظمات الإرهابية الكبيرة والفتاكة وحسنة التنظيم ( مثل القاعدة) وبين الدول التي استخدمت الإرهاب ودعمته ( مثل كوريا الشمالية وإيران ) والدول التي طورت أسلحة الدمار الشامل ( واستخدمتها مثل العراق)
لاشك في انه يجب التعامل مع الدول الثلاث التي ذكرها الرئيس بوش بوسائل تتناسب مع أوضاعها الخاصة فالعراق يشكل التحدي الأكثر إلحاحاً ، وتتطلب إيران السياسة الأكثر تعقيدا وكوريا الشمالية تشبه العراق على الصعيد الداخلي إن مجال الدبلوماسية مع العراق هو الأضيق ، ويؤمل في أن يكون الأرحب مع إيران ؛ ولذلك أشار بوش ووزير الخارجية كولن باول إلى عدم وجود نية للتعامل مع إيران وكوريا الشمالية بوسائل عسكرية ، لكن محك أي سياسة سيكون في النهاية درجة التمكن من السيطرة على المخاطر التي تتهدد الأمن العالمي نتيجة امتلاك أنظمة خطيرة لأسلحة الدمار الشامل
===============(15/123)
(15/124)
700 خطة لتنصير العالم
نور الاسلام_ في دراسة نشرت مؤخرا حول خطة لتنصير العالم - قال موشيه دايان في أعقاب حرب يونيو 1967 : " إن العرب لا يقرأون " وهذه الملاحظة تنطبق بشدة على مخططات المنصرين ، فهم من خلال ما ينشرونه لا يخفون أهدافهم مطلقاً ، ولكننا نجهلها إلا عندما تتحقق على أرض الواقع ؛ لأنه لا توجد لدينا مؤسسة تدرس بعمق ما يرمون إليه من خطط ومشاريع ، بل ونحن نستخف بالقادرين على إجراء دراسة كهذه ، ثم نفاجأ بعد عقود بأن المناطق كذا وكذا قد أصبحت نصرانية .. !! واليوم يجري العمل التنصيري الصامت ـ والنشيط في آن واحد ـ عبر 3 آلاف منظمة تنصيرية على هامش العالم الإسلامي ، حيث حدد المنصّرون ـ بدقة ـ القبائل الأمية الفقيرة المستهدفة باعتبارها مجموعات يمكن أن تقبل على التنصر . وهناك جهود منظمة ضخمة للتنسيق والبرمجة لأجل إيصال صوت المسيحية إلى الشعوب التي لم يصلها وقد عقدت لأجل هذه مؤتمرات ضخمة للمنصرين خلال ربع القرن الماضي . وكان أهم هذه المؤتمرات مؤتمر " لوزان " بسويسرا ، الذي انعقد سنة 1974 ، لوضع استراتيجية عالمية لإيصال الصوت النصراني إلى كل إنسان على وجه الأرض بمجيء سنة 2000 م . وتم عقد مؤتمر ضخم آخر للغرض نفسه في يوليو 1989 " بمانيلا " عاصمة الفلبين ، شارك فيه 4000 شخص ، من 190 دولة في أنحاء العالم .و قد ظهرت في الولايات المتحدة مؤخراً حول خطط المنصرين لتحويل الكرة الأرضية كلها إلى النصرانية ، وقد ألفها كاتبان مسيحيان بارزان هما ( دافيد باريت ) محرر دائرة المعارف المسيحية و ( جيمز ريبسوم ) خبير شؤون التنصير . وقد اشترك كلاهما - حسبما يقول الكاتب - في وضع 36 مشروعاً تنصيرياً ، من بين المشاريع التنصيرية الثلاثمائة والثمانية والخمسين " 358 " التي نفذت خلال الفترة 1953 - 1988 .ودافيد باريت اسم خطير في عالم التنصير العالمي ، وهو يلعب دوراً رئيسياً في تخطيط برامج الكنائس الغربية ، وهو في الوقت نفسه مستشار الفاتيكان لشئون التنصير العالمي . و تكشف هذه الدراسة عن 788 مشروعاً ينفذها 5000 منصِّر أو أكثر خارج حدود بلادها بمعدل 1200 مشروع تنصيري عالمي في عصرنا الحالي.!
واستخدم المنصرون إلى جانب القهر والسلطة السياسية ، قوة المال ووسائل الدعاية ، ويخبرنا المؤلفان في صدد ذكر الأوضاع المالية للكنائس العالمية أن المسيحية العالمية المنظمة تنفق الآن أواخر الثمانينات 145بليون دولار سنوياً ، ويعلم في أجهزتها 4.1 ملايين عامل متفرغ ، وهي تدير 13000 مكتبة عامة كبرى ، وتنشر 22000 مجلة بمختلف اللغات عبر العالم ، كما تنشر 4 بلايين نسخة من الكتب في العام الواحد ، وتدير 1800 محطة إذاعية وتلفزيونية في أنحاء العالم ، وتستخدم المنظمات الكنسية 3 ملايين جهاز كمبيوتر .. والكتاب يصف أخصائيي الكمبيوتر المسيحيين بأنهم جيش مسيحي من نوع جديد . والعمل التنصيري الخارجي هو أهم ما يشغل الكنائس المنظمة هذه الأيام و التي يعمل بها 262.300 داعية متفرغين ، وهم يكلفون الكنائس 8 بلايين دولار سنويًا ، وكل سنة يصدر 10000 كتاب وبحث جديد حول التنصير الخارجي .
ويقول المؤلفان في صدر ذكر الاحصائيات : أن الكنيسة قد وظفت 160 مليون سنة عمل للتنصير على وجه الأرض خلال القرون العشرين الماضية ، بتكلفة إجمالية تبلغ 350 بليون دولار ، بمعدل 2.200 دولار للداعية الوحد في السنة ، أما المشاريع التنصيرية السبعمائة الثمانية والثمانون 788 التي تتناولها هذه الدراسة فقد استهلكت ملايين سنة عمل و45 بليون دولار .
وطبقاً لهذه الدراسة ينشط في أنحاء العالم الآن 387 مشروعاً تنصيرياً عالمياً ، و254 منها تحرز التقدم والنتائج المرجوة ، والدراسة تصف 254 مشروعاً من هذه المشاريع بمشاريع واسعة النطاق ، وهي التي ينفق كل واحد منها على العلم التنصيري عشرية آلاف ساعة عمل ، أو أكثر من عشرة ملايين دولار سنويا ، على مدى عشر سنوات .
و33 مشروعاً من هذه المشاريع هي ما تطلق عليه الدارسة وصف " المشاريع الضخمة " وهي التي ينفق كل واحد منها مائة ألف سنة عمل ، أو مائة مليون دولار سنوياً ، أو ألف مليون دولار عبر عمرها، وأكبر هذه المشاريع الضخمة ينفق الآن 550 مليون دولار سنوياً على أنشطتها التنصيرية في أنحاء العالم .
وتعترف الدارسة بأنه رغم هذه الجهود الضخمة لا تزال هناك شعوب لم تصلها رسالة المسيحية ، أو لم تنجح المسيحية في أوساطها ، وقد قام الباحثون الكنسيون الآن بالتعرف الدقيق على هذه الشعوب التي لم تصلها المسيحية ، وبالتالي تمكنوا من تقسيمها إلى 3000 وحدة متميزة ، ويوجه 5000 منصر ـ ذو تدريب وكفاية ـ جهودهم المستمرة نحو تنصير هذه الشعوب . وهم يتحركون من مراكز يشعرون فيها بالأمان السياسي ، وهم يتمتعون بأحدث وسائل الاتصال .(15/125)
وأكبر عقبة يواجهها المنصرون هي أنه لا يسمح لهم بالتحرك القانوني في كثير من مناطق العالم ، وأنهم يواجهون معارضة إديولوجيات دينية أو قومية تمنع نشاطهم . ويقول المؤلفان : أنه اليوم نحو 65 دولة في العالم قد أغلقت أبوابها في وجوه المنصرين ، وهناك معدل 3 دول تنضم إلى هذه القائمة سنويًا .
وقد تغلب المنصرون على هذه الصعاب وهم يديرون أجهزة سرية واسعة النطاق بينما يعكف خبراؤهم على البحث عن وسائل سرية جديدة ،وأساليب للدخول إلى مجتمعات مغلقة . والمنصرون لا يعبؤون بقضية أن أساليبهم هذه غير أخلاقية وغير قانونية . ويقول المؤلفان ، وهما يتناولان هذا الجانب السري من نشاط المنصرين : " إنهم لم يتورعوا عن العمل غير الشرعي أو السري ، وهو أمر يشهد عليه تاريخ الحركة التنصيرية . والمنصرون المبعوثون إلى هذه المجتمعات المغلقة التي تمنع النشاط التبشيري هم أنواع شتى ، حسب ظروفهم ، وحسب ظروف المجمتع الذي يعملون فيه . ولكل نوع مصطلح خاص به ، له مفهومه المعروف في الوسط التنصيري . ومن أهم هذه المصطلحات :
ضارب الخيمة - المقيم - السري - العامل في الظلام - السائح - ناقل الرسائل - المهرب - غير المقيم .
وظائف علمانية :
ويعرف المنصرون من خلال بحوثهم وتجاربهم العملية أن أكثر البلاد انغلاقاً على نفسه يحافظ على بعض العلاقات مع الغرب كالعلاقات التجارية والدبلوماسية والفنية والسياحية . وبالتالي يتم ارسال المنصرين إلى هذه المجتمعات المنغلقة لكي يعملوا في وظائف علمانية كفنيين ودبلوماسيين واطباء وعمال اجتماعيين ، بينما هم في الحقيقة يعملون لحساب منظمة تنصيرية ولتحقيق أهدافها في ذلك المجتمع .
ويطلق على هؤلاء وصف "ضاربو الخيام " وهذه القناة منظمة جداً .
أما " السري " فهو منصر متفرغ يعمل بصورة غير قانونية في بلد ما يحظر النشاط التنصيري . ويقول المؤلفان إن غالبية العمل التنصيري تتم في المجتمعات المنغلقة بهذا الأسلوب .
أما " العامل في الظلام " ( وهو أصلاً مصطلح تستخدمه الوكالات الاستخبارية لعناصرها المندسة في مظمة مستهدفة ) فهو في المصلطلح التنصيري عامل تنصيري أجنبي غير متفرغ يقيم في بلد ما بصورة غير قانونية .
أما " ناقل الرسائل " فهو زائر من الخارج ينقل الراسائل بين المتنصرين المحليين والمنصرين السريين النشيطين في بلد ما ، والسائح أيضاً يقوم بهذه المهمات ، ويدخل مائة مليون مسيحي إلى البلاد المحظورة عبر العالم سنويًا لأغراض مختلفة ، ويتم إقناع آلاف منهم بأن يعملوا " كناقلي رسائل " للوكالات التنصيرية الغربية .
و" المهرب " هو خبير متفرغ يعلم كمتنقل بين مختلف المحطات التنصيرية لنقل المواد والمعلومات والأموال ، وأشهر هذا النوع من العمال السريين هو المنصر المعروف بـ "الأخ اندرو" مؤلف كتاب مهرب الله ( أي المهرب في خدمة الله ) . هذه الأنواع السالفة هي كلها أوصاف للمنصرين الأجانب ويقصد به عموماً المنصرون من أوروبا الغربية و أمريكا الشمالية .
ويوجد إلى جانب هؤلاء نشطاء تنصيريون من المسيحيين المحليين في المجتمعات المنغلقة المستهدفة للتنصير .
ويقسم هؤلاء النشطاء المحليون إلى اقسام عديدة منها :
- غير مسجل .
- التحت السطحي .
- ناقل الرسائل .
- الفدائي .
والتحت السطحي على سبيل المثال هو عنصر محلي يماثل في عمله المنصر الأجنبي الذي ينعت بـ " العامل في الظلام " وهو يحمل رسائل ناقلي الرسائل الأجانب ويقوم بإيصالها إلى أهدافها المحلية .
شبكة تنصيرية ضخمة :
ويقول المؤلفان بشيء من الافتخار : "هناك شبكة تنصيرية ضخمة تحت السلطة تعتمد أساساً على الكلمات الشفهية ، فلا توجد هنا رسائل مكتوبة ولا مكالمات هاتفية " وتعمل هذه العناصر الأجنبية والمحلية في وئام شديد.
============(15/126)
(15/127)
مستقبل الإسلام السياسي
مركز الشمال لتنظيم المعرفة 19/2/1426
29/03/2005
اسم الكتاب: مستقبل الإسلام السياسي
المؤلف: غراهام فولر
نيويورك، بالغراف مكميلان، 2004
G r aham Fulle r
The Futu r e of Political Islam
يناقش هذا الكتاب سؤالين رئيسيين: هل يمثل الإسلام السياسي آخر معاقل المقاومة للحضارة الإسلامية أمام مدّ العولمة ذات الطابع الأمريكي، أم أنه يمثل بداية دمج الإسلام مع الحاضر بحيث يتمكن المجتمع المسلم والحضارة الإسلامية من الدخول للقرن الجديد أكثر ثقةً بأسسها الحضارية؟
وللإجابة عن هذة التساؤلات وغيرها يناقش (فولر) عبر فصول كتابه العشرة ما إذا كانت ظاهرة الإسلام السياسي مجرّد حالة انتقالية لمرحلة صعبة في تاريخ العالم الإسلامي أم أنها بداية تحوّل وتغيير حقيقيين.
يبدأ (غراهام فولر) من أشواق المسلمين لاستعادة مجد الماضي، وما حققته الحضارة الإسلامية على المسرح العالمي، والتي أعقبها حالة من التراجع الحضاري والتهميش، وما يلعبه هذا من دور في بناء تصورات المستقبل، ويتتبع بدايات الحركات الإسلامية وتطورها وإمكانياتها في إحداث تغيير حقيقي، ثم ينتقل إلى الزمن المعاصر، ويتناول الأدوار المتعددة التي يلعبها الإسلام السياسي اليوم عبر المجتمعات المختلفة، ويؤكد أن جميع هذه الأدوار ليست واضحة وجلية لمعظم الدارسين الغربيين بالرغم من أن هذه الأدوار المتعددة هي التي سُتبقي للإسلام السياسي دوراً رئيساً على المسرح السياسي في العالم الإسلامي، فالثقافة السياسية في العالم الإسلامي اليوم تركّز على عدد من القضايا الأساسية كالعدالة الاجتماعية، والحاجة لبوصلة أخلاقية، وحفظ الحضارة الإسلامية، وإعادة بناء قوة وكرامة العالم الإسلامي، والمنعة ضد تهديدات القوى الخارجية، ومشروعية الحكومات، والرفاه الاجتماعي، والعدالة الاقتصادية، وأهمية وجود حكومة نظيفة وفعّالة، ويلاحظ فولر أن الجدال والنقاش على المستوى الشعبي ليس حول قيام دولة إسلامية أو علمانية؛ وإنما ينصب على ماهية النظام الحكومي وأي الأحزاب أقدر على تناول وتحقيق هذة القضايا الأساسية.
إن الإسلاميين مجموعة متنوعة من الحركات السياسية والمبادئ والفلسفات التي تستقي جميعاً من الإسلام لتنتج أجندات وبرامج مختلفة في أزمان مختلفة. إلا أن هذه الحركات في مجملها تمثل أداة إسلامية حضارية للتعبير عن مجموعة واسعة ومتنوعة من الحاجات السياسية والاجتماعية، وشكل التعبير الإسلامي المحلي يعكس الثقافة السياسية المحلية، والحاجات والتطلعات الخاصة لمجتمع معين تحت قيادة معينة في زمن معين.
وفي العموم، عادةً ما يكون خطاب الإسلاميين ذا نزعة وطنية معادية للغرب، غير أنهم قد يُبدون قدراً من البراغماتية في هذه المسألة أيضاً إذا لم يواجهوا تحدّياً وجودياً من الولايات المتحدة.
ونظراً إلى أن الإسلاميين لم يُجَرّبوا بعد في السلطة، فإنهم يتمتعون بشعبية بين الناس في حين أن باقي الأيدولوجيات جُرّبت وأثبتت عدم نجاحها.
ويشير (فولر) إلى أن الصراع بين الأصوليين والمعتدلين ما زال في بداياته، وهو ما أنتج هذا التدرج الكبير عبر الطيف الإسلامي. وبالرغم من أن الأصولية ليست بالشيء الجديد إلا أن الضغوط السلبية محلياً وعالمياً على المجتمعات المسلمة من شأنها أن تعزّز من ردة الفعل الحضارية بالعودة نحو الأصول، بمعنى أن الأصولية الإسلامية ستجد تربة خصبة في أوساط البيئات ذات الظروف المعيشية والاجتماعية القاسية في العالم الإسلامي.
وفيما يتعلق بالمعطيات الدولية وما يحدث على المسرح السياسي العالمي من تداعيات لتيار العولمة الطاغي، فالإسلاميون في موقفهم وتعاطيهم مع هذا التوجه العالمي لا يختلف كثيراً عن العديد من الحركات التحرّرية والوطنية في العالم الثالث سواء تلك في أمريكا اللاتينية أو في أفريقيا أو في شرق آسيا، غير أن هذه الحركة التغييرية كغيرها مضطرة للتعامل مع تحدي التحديث والتمدّن، وما ينجم عنه من تغييرات اجتماعية واقتصادية وسياسية. بحيث تعمل على رفع وطأة ضغوط الحياة المدنية وتقدّم إطاراً أخلاقياً وقيمياً عاماً يحافظ على التماسك والانضباط الاجتماعي، ولذلك يرفع الإسلاميون شعار العدالة الاجتماعية ضمن الإطار الاجتماعي التقليدي ويعارضون كل ما هو غربي وأمريكي.
الإسلام والإرهاب
بالرغم من أن الإسلام السياسي والحركات الإسلامية كانت دائماً تحت الضوء تحديداً لإنها ناشطة في واحدة من أهم بقاع العالم اقتصادياً وسياسياً، إلا أن الاهتمام تزايد بفهم ودراسة هذة الحركات بعد أحداث 11 سبتمبر، واللافت أن تداعيات هذة الأحداث، والتي أنتجت الحملة الدولية للحرب على الإرهاب أحدثت تعاطفاً شعبياً واسعاً مع أنصار بن لادن، ليس تأييداً للإرهاب كفعل، وإنما تأييداً للنيل من الغطرسة الأمريكية والأنظمة القمعية التي استغلت الحملة للانقضاض على معارضيها والتنكيل بهم بتهمة الانتماء لتنظيمات إرهابية.(15/128)
وبالرغم من أن أفراد تلك الحركات المتطرفة قليلون بالمقارنة بتعداد العالم الإسلامي إلا أن الغالبية الصامتة التي تؤيد وتناصر هذة الحركات لمجرد أنها ترى فيها محاولة جريئة لتغيير واقع بائس، هي التي يجب أن تحظى باهتمام الغرب وفقاً لفولر. ذلك أن الاستياء والغضب اللذين يعتملان في أوساطها سيصنعان الأجيال القادمة من المتشدّدين لتخلف تلك القيادات والكوادر يتم القبض عليهم في الحملة الحالية.
لكن، هل الإسلام أو الانتماء للحركات الإسلامية ينتج بالضرورة أفراداً يميلون للعنف؟ أم أن المسألة تخضع لطبائع الأفراد والنزعات الشخصية؟ (فولر) الذي يطرح هذه التساؤلات يصرّ على أن الإسلام في أصله ليس دين عنف، وإنما دين سلام وعدل كغيره من الأديان.
وفي حين أن بعض الحركات تصمم على صياغة أفكار متطرّفة ومتشدّدة نرى حركات أخرى تنهج نهجاً معتدلاً وكلتاهما مرجعيتهما الإسلام. أما نزوع الأفراد نحو العنف فذاك يعود للفرد نفسه ودرجة غضبه وأسلوبه في التغيير، ومما لاشك فيه أن الظرف المعيشي في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ككل تجعل الفرد معبأ ابتداءً ومستفزاً قبل أي تعبئةٍ أيدولوجية. ولذا فإن الإسلام يبدو لكثيرين وسيلة مناسبة لإحداث فعل تغييري في واقعهم أكثر من غيرها.
الإسلام والغرب
لعل مسألة الإسلام والغرب هي أكثر القضايا الحاسمة في مستقبل الحركات الإسلامية. هل ما تنبّأ به صامويل هننغتون حقيقة واقعة وأن صدام الحضارات أمر لا مناص منه؟ أم أن هناك عوامل موضوعية تتسبب في الإحتكاك القائم بين الغرب والعالم الإسلامي؟
مما لا شك فيه أن العالم الإسلامي يتميز من بين باقي بقاع العالم غير الغربي بامتلاكه فلسفة وعقيدة شاملة ومتماسكة للحكم والقانون والمجتمع. الأمر الذي يتيح للإسلام السياسي استمداد أكبر مصادر قوته من محاولة تمثيل هذا البديل الحضاري في الحكم والاجتماع لمقابلة النموذج الغربي السائد.
من جانب آخر فإن ليس بالإمكان تناول الإحتكاك بين الغرب والعالم الإسلامي دون التطرق لمسألة قيام إسرائيل والدعم الغربي، ذلك أن إسرائيل -للعديد من العرب- رمز ونتيجة للحقبة الاستعمارية، وبقاء القضية الفلسطينية معلقة يُبقي مشاعر العداء للغرب متّقدة. فجميع المسلمين مستفزّون ومحبطون بسبب الاحتلال الإسرائيلي الظالم للضفة الغربية وغزة، ومع حضور وضع القدس في الصراع صار العالم الإسلامي يتعامل مع الصراع انطلاقاً من زاوية أن هناك مقدّسات في خطر. وستبقى العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب في هذا الوضع المتهاوي والمتدهور حتى يتم التوصل لتسوية عادلة بنظر الجميع.
إن الهوة اليوم بين الغرب والعالم الإسلامي كبيرة جداً، فالغرب وإن كان ليس مطالباً بتبني جميع قيم وأفكار المسلمين ولا الإسلاميين، إلا أنه لا بد له من تحري وفهم مصدر وطبيعة هذة الهوة القائمة وأن يعمد جدياً إلى معالجة هذا الأمر واحتوائه قبل أن يصل لحدّ التفجّر.
مستقبل الإسلام السياسي
من المتوقع في العقدين القادمين أن تتزايد الضغوطات على الحركات الإسلامية مع تحقيقها لمكاسب سياسية على امتداد العالم الإسلامي. وسُيتوقع من الحركات المعتدلة، والتي لن تلقى المزيد من تحدّيات الوجود والبقاء أن تقدّم للجمهور بعض الإجابات والحلول الفعّالة لمشاكل الواقع.
من جانب آخر ومع استمرار السياسات الخارجية الأمريكية على ما هي عليه وإصرارها على الحرب ضد الإرهاب بشكلها الحالي فإن العلاقة بين الإسلام والولايات المتحدة ستبقى في تدهور، وستتأجّج مشاعر العداء في العالم الإسلامي تجاه أمريكا بل وستتزايد العمليات التي تستهدف الأمريكيين؛ مما سُيبقي أمريكا في حالة تصادم مع العالم الإسلامي. وهذا سينعكس على الجبهة الداخلية؛ إذ ستتعزز حالة التوتر القائمة بين المسلمين في الغرب والمجتمع الغربي الأمر الذي سيهدّد حقوقهم المدنية، وفي الوقت ذاته تقوم الأنظمة في العالم الإسلامي بالتضييق وملاحقة الحركات والمنظمات الإسلامية مما سيدفع بالكثير منهم نحو التطرف. بل قد يشتّت الكثير من تلك الحركات عن الأهداف الأساسية التي قامت لإجلها؛ كبناء المجتمع المسلم سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً وعسكرياً. إذ سينصب اهتمامها على الدفاع عن نفسها وربما الانتقام. الحركات الوحيدة التي قد تُبقي على شيء من التوازن والإعتدال وتصرف جُلّ جهدها نحو بناء نسيج اجتماعي متماسك وجو سياسي سليم هي تلك الموجودة في ظل أنظمة تحافظ على حد أدنى من الممارسة الديموقراطية.
سينزع الإسلاميون لدعم حركات التحرر والانفصال للأقليات المسلمة في الدول غير المسلمة مثل الشيشان وكشمير وغيرها. أما محلياً فإن الإسلاميين سيكونون من أهم أدوات الإصلاح والتغيير في مجتمعاتهم خاصةً تلك المنغلقة.(15/129)
كتاب "مستقبل الإسلام السياسي" لـ(جراهام فولر) من الكتب القليلة التي تنظر لظاهرة الإسلام السياسي بقدر من الموضوعية، ففولر على خلاف غالبية الكتاب الغربيين وضع نفسة على نفس الأرضية الحضارية التي تقف عليها تلك الحركات وحاول دراستها وتقييمها من ذي المنظار متخلياً إلى درجة كبيرة عن المعايير والرؤية الغربية في تقييم الأمور، ونقول إلى درجة كبيرة؛ لأن (فولر) في محاكمته لأداء نموذج السودان وإيران بل حتى في رسمه للشكل الأمثل للحكم والسياسة الذي ينبغي أن تصبو إليه تلك الحركات لم يرى أفضل من الديموقراطية الغربية كنهاية مثلى، غافلاً أن الحضارات المتنوعة قادرة على إفراز نُظم تنسجم معها بصرف النظر عن شكلها، فالمطلوب هو الوصول لنظام سياسي يحقق الحكم الصالح الذي يضمن العدل والحرية للجميع.
وعلى ذلك علّق فولر لـ(الإسلام اليوم): مبدئياً أنا منفتح لئن يجد العالم الإسلامي نموذجه الخاص، ولكن كيف نحقق ذلك مؤسسياً. أقصد المجتمع الإسلامي وإرثه السياسي يضع قيمة وتركيزاً على مصداقية وصدق الحاكم ولكن كيف نؤسس لذلك، كيف نترجم مؤسّسياً ضوابط الحكم الصالح، وكيف يأتي شخص للحكم ويعزل منه. في حين أن النظام الديموقراطي مبني أنه لا يمكن أن تولي شخصاً وتسلمه بشكل مطلق الإدارة معتمداً على قيمه ومثله، وإنما تأخذ بعين الإعتبار أن البشر يفسدون وينحرفون، ولذلك هناك نظام ومؤسسة تمكن من التخلص من أولئك سلمياً. فالقضية: ماذا نفعل حين يأتي للسلطة حاكم غير عادل بنظر المحكومين؟ يبنغي أن يكون هناك نظام يمكّن المحكومين من تحقيق رغباتهم وطموحاتهم أو على الأقل أن يكون لها تأثيرودور في أداء الحاكم".
من جانب آخر (فولر) والذي يؤكد في أكثر من مكان من كتابه أن حالة العداء للغرب وأمريكا في العالم الإسلامي مرجعها بالأساس للتدخل الأمريكي بالشأن المحلي والسياسات الأمريكية في المنطقة، غير أنه يعود لأن يطرح شكلاً لهذا التدخل، وكأن العالم الإسلامي "قاصر" يحتاج من يدير له شوؤنه. (فولر) فسّر ذلك لـ(الإسلام اليوم) قائلاً: "في العالم الحقيقي الأقوياء يتدخلون بشوؤن الضعفاء وتلك حقيقة تاريخية، وهذا جزء من الطبيعة الإنسانية. وأظن حتى في حالة وجود أمريكا مسالمة ستبقى تتدخل ولو جزئياً، فالعالم الإسلامي يقع في بقعة تمتلك إمكانيات مالية ونفطية مهمة لسائر العالم. غير أنني أعتقد أن مشكلة العالم الإسلامي والعربي أنه ما زال شاباً، فبعض دوله لا يتجاوز عمرها السياسي الخمسين عاماً، ولم يُعطَ فرصته لينمو ويتطور وحده. ولا أظن في المقابل أيضاً أن الأنظمة الملكية أو الحكام المنتخبين للأبد سيساعد أو يحل المشكلة. لكنني أعتقد أن الولايات المتحدة يمكنها أن تقدم الكثير في مجالي التعليم والصحة، وهذه مجالات مهمة ومفيدة للعالم الإسلامي، وهناك مؤسسات تعليمية كالجامعة الأمريكية في القاهرة، وتلك التي في بيروت وغيرها أدّت أدواراً مهمة ولم يُنظر لها على أنها مؤسسات استعمارية.
أظن أن أمريكا ينبغي أن ينصبّ جهدها ليس فقط على كسب الأصدقاء والحلفاء، وإنما مساعدة الدول على النمو والتوقف عن التدخل في الشأن السياسي. فما تقوم به الولايات المتحدة في سياساتها الخارجية ما هو إلا خيانة لقيمها المحلية".
وعن رؤيته لشكل وتطور دور الإسلام على المسرح السياسي فيقول (فولر): " لا أستطيع القول إن الدين لا يمكن له التأثير على السياسة، أو أنه لا يمكن السماح له بذلك، ولكن أظن أن التسوية الأمريكية والأوروبية في هذا الإطار هي الأنسب. بمعنى إن كان هناك قيم أخلاقية يؤمن بها فريق من الأمة فيجب تضمينها في السياسة ،ومحاولة عكسها على شكل تشريعات دون إلغاء حق الآخرين في محاولة ممارسة نفس التأثير لتضمين ما يؤمنون به".
================(15/130)
(15/131)
الإصلاح العربي ومحاولة إقصاء الإسلاميين !
طه عبد الرحمن 19/2/1426
29/03/2005
بالرغم من حرص مكتبة الإسكندرية على دعوة قرابة 400 شخصية من المفكرين والمثقفين بالعالم العربي في مؤتمرها الثاني للإصلاح العربي، مثلوا اتجاهات فكرية مختلفة،إلا أنه بدا واضحاً إقصاءها للتيار الإسلامي بمختلف اتجاهاته .
وأياً كان هذه الموقف متعمداً أو غير مقصود، إلا أن تجنيب التيار الإسلامي للمشاركة في الفعاليات كان واضحاً لكافة المراقبين للمؤتمر الذي استمر ثلاثة أيام، وربما أن استثناء البعض أن ذلك الإقصاء كان متعمداً أن كافة المنتمين للفكر الإسلامي، وممن يحسبون على الحكومات العربية، لم يشاركوا أيضاً في الفعاليات .
إلا أن التيار الإسلامي كان الحاضر الغائب في مناقشات المؤتمر الذي انقسم إلى 12 لجنة، وذلك عندما طالب الدكتور أسامة الغزالي حرب ـ بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ـ بإدماج التيارات الإسلامية الديمقراطية في الشرعية السياسية بالعالم العربي، إيماناً بأن المشاركة السياسية هي السد المنيع لضمان الاستقرار الوطني .
وقد دفعت هذه المطالبة بالشاعر العلماني أحمد عبد المعطي حجازي إلى اعتراضه على المشاركة، بحيث لا يسمح بدمج هذه التيارات الإسلامية، إلا في حالة إيمانها بالنهج العلماني الرامي إلى فصل الدين عن الدولة، وقبولها بالتعددية، والسماح بالتيارات غير الإسلامية بمشاركتها في الحكم، في حال حدوث تداول للسلطة .
ومن بين الخلافات التي خيمت على مناقشات المؤتمر قبيل ختامه، تلك التي جرت بين الباحث الدكتور عماد علي حسن، ود. محمد كمال مسئول الإعلام بالحزب الوطني الحاكم في مصر، عندما انتقد الأول وجود ما يسمى بضوابط أمام الترشيح لرئاسة الجمهورية في ظل تعديل الدستور المصري أخيراً بشأن انتخابات رئيس الجمهورية بالاقتراع السري المباشر .
كما انتقد د. حسن محاولات الالتفاف على هذا التعديل بالشكل الذي يسمح للحزب الحاكم بالتحكم في المرشحين لانتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها في شهر سبتمبر المقبل، وذلك عندما يتم رئاسة اللجنة المعنية بضوابط الترشيح إلى رئيس مجلس الشعب (البرلمان)، والذي يتمتع بصفة حزبية في الحزب الوطني الحاكم .
وقد دفع هذه النقد بمسئول الإعلام بالحزب الوطني إلى استنكار الانتقادات السابقة، خاصة في ظل الحضور العربي الكثيف في المؤتمر، وهو ما دفع بعماد علي حسن إلى القول "بأنه في حال قبول مثل هذا النقد، فإن ذلك يعني قبول الحزب الحاكم للآراء المخالفة له، وهو ما يرفع من أسهم ديمقراطية الحزب الوطني أمام الحضور العربي" . ومن عجائب ما بدا في مناقشات الحضور أثناء الاستعداد لرفع جلسات المؤتمر، تلك المطالبات النسائية التي تزعمتها الكاتبة المصرية إقبال بركة بمطالبتها بأن يتوجه المؤتمر الثالث المقبل لمناقشة كافة قضايا المرأة في العالم العربي، وأن يكون جل حضوره من العنصر النسوي في العالم العربي، مما أثار الحضور الرجالي في المؤتمر الذين طالبوا بأن يحصلوا على حقوقهم، بعد أن أصبحوا أقلية، وأصبح الصوت الغالب هو للنساء المطالبات بالحقوق، وفي الوقت نفسه رفض الحضور عدم تمرير مثل هذه التوصية ضمن توصيات لجان المؤتمر .
وفي الوقت الذي طالب فيه بعض الحضور بأن يكون هناك حضور رسمي عربي محدود للالتزام بتوصيات المشاركين، أكد الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير المكتبة أن الحرص على عدم دعوة الجانب الحكومي العربي كان مقصوداً، وأن إلقاء الرئيس المصري لكلمته قبيل الجلسة الافتتاحية للمؤتمر كان تشجيعاً وتحفيزاً لحضور المؤتمر . وقال: إن لجان المؤتمر حرصت على أن تكون المناقشات هي لأطراف المجتمع المدني من المشاركين، بعيداً عن التواجد الرسمي، وفي هذا الإطار . دافع سراج الدين عن عدم تبعية المكتبة لأية جهة رسمية، عندما أشار إلى أن المكتبة لا تتبع أية جهة حكومية، وأنها تخضع فقط لرئيس الجمهورية، وليس لمؤسسة الرئاسة، فضلاً عن أن مجلس أمناء المكتبة هو الذي يحدد لها خطتها، وهو المجلس الذي يتغير مرة كل ثلاثة أعوام .
أجواء دعائية
وقد سيطرت على أجواء الجلسات الرسمية للمؤتمر استعراض جوانب الدعاية لرعاة المؤتمر مثل الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا ، منظمة المرأة العربية، مجلس الأعمال العربي، منتدى البحوث الاقتصادية، حيث ركز ممثلو هذه المؤسسات على الدور الدعائي لها، مقابل غض الطرف عن الحديث في مضمون المؤتمر وهو الإصلاح . معتبرين أن تجاربهم ناجحة ينبغي التعرض لها .
إلا أن د. سمير رضوان ـ المدير التنفيذي لمنتدى البحوث الاقتصادية ـ أراد مس جوهر قضية الإصلاح، عندما أشار إلى تلبية مؤسسته للاحتياجات العاجلة في مجال الإصلاح ودورها في مؤتمر إعادة إعمار البلاد الخارجية من الصراع، والمساهمة في رصد نقاط القوة للتنمية مثل اعتماد عدد من البلاد العربية لبرامج إصلاحية ذات مدة زمنية وأرقام محددة .(15/132)
فيما رغب الدكتور محمد فائق ـ وزير الإعلام المصري الأسبق ـ إصباغ الجانب السياسي على كلمته عندما اعتبر أن الانفتاح على تجارب العالم الإصلاحية ضرورة حتمية؛ مشيراً إلى أن الحكومات العربية، بذلت جهوداً كبيرة للإصلاح في المجالات المختلفة .
وأكد أنه رغم هذه الإصلاحات إلا أنها لم تنعكس على السياسات، حيث ظلت حالة الطوارئ في معظم الدول العربي قائمة، للمقاومة العراقية والفلسطينية وانتفاضة الشعب اللبناني بعد حادث اغتيال الحريري .
وطالب الدول العربي بأن تستبق مطالب الخارج، وأن تلبي مطالب الداخل للخروج من مشكلة التدخل الخارجي للإصلاح، معتبراً أن الديمقراطية مطلب أساسي داخل أي بلد لتحقيق الحكم الصالح ولتحقيق الإصلاح .
ومن أكثر الكلمات التي حملت رفضاً واضحاً للإصلاح المفروض من الخارج . جاءت كلمة المفكر الفلسطيني "عوني فرسخ" ، والتي تناولت "الإصلاح بين الطروحات الأمريكية والطموحات العربية"، والتي أشار فيها إلى حدوث نقلة نوعية في سياسات الإدارات والأجهزة الأمريكية، تجاه "الأصدقاء" والحلفاء العرب والمسلمين، بعد انقضاء زمن الحرب الباردة، وتكثيف الضغوط عليهم بغرض تكيفهم مع طروحات الإصلاح الأمريكية مهما كانت مجحفة .
وخلال مناقشات محاور المؤتمر الثاني للإصلاح العربي، اعتبر المشاركون أن التمويل قضية هامة ينبغي مناقشتها في مختلف المحاور، وأن يتم رفض أي شكل من أشكال التمويل الخارجي لمؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي .
كما أبدى كثيرون تحفظهم على عنوان المؤتمر في "التجارب الناجحة"، والتركيز على مثل هذه التجارب، في الوقت الذي طالبوا فيه بضرورة التركيز على رصد التجارب الفاشلة في المقابل، وأن هناك لجان للمتابعة والرصد .
وقد دفع ذلك بالدكتور إسماعيل سراج الدين إلى التأكيد على أن المكتبة قامت بالفعل بتنفيذ ذلك بتأسيسها لمنتدى الإصلاح العربي في يوم ختام المؤتمر الأول، وتدشين موقع له على شبكة "الإنترنت" وناطق باللغتين العربي والإنجليزية . واعتبر أن المكتبة، قامت بتنظيم عدة مؤتمرات محلية، وعربية ودولية، ناقشت جوانب حرية الرأي والتعبير، وتركيزها على الإصلاح القطري في داخل مصر .
ويقول: إنه لذلك تناولت المكتبة جوانب التعليم، الشباب، الاقتصاد، المرأة، فضلاً عن استعراض تجارب الإصلاح للآخرين مثل التجربة الماليزية . وأكد في سياق حديثه عن آليات تنفيذ "وثيقة الإسكندرية" في العام الماضي بقيامها بتدشين مرصد إليكتروني تحت مسمى "انفومول INFOMOL" لعرض تجارب منظمات المجتمع المدني العربية بأنشطته، بحيث يكون لكل منظمة موقع خاص بها داخل هذا المرصد، يحتوي على اسم المنظمة وطريقة الاتصال بها ومجال عملها وأنشطتها وكافة الأخبار المتعلقة بها .
إنصاف المقاومة
وإذا كانت وثيقة الإسكندرية قد أثارت جدلاً منذ إصدارها في العام الماضي، فإن المشاركين في المؤتمر الثاني هذا العام، حرصوا على عدم إصدار توصيات مشابهة أو إصدار بيان ختامي أو إعلان الإسكندرية، واكتفوا بتقديم توصيات في جلستين عائمتين، من خلالها تم إقرار التوصيات النهائية للمؤتمر في شكل توصيات مكتوبة لكل محور على حدة .
وأعلن المشاركون رفضهم الخلط بين حق المقاومة الشرعية للاحتلال وبين الإرهاب باستخدام العنف الأعمى، ورفض الكيل بمكيالين تحت دعوى نشر ثقافة السلام، في الوقت الذي يتم فيه ضرب السلام بعرض الحائط، مما يشير إلى أن العالم أصبح يتعرض لتناقضات، وأصبح العرب يعانون من ازدواجية سياسة الكيل بمكيالين، وهي عقبة ومعوق لبناء ونشر ثقافة السلام .
وأدان المشاركون ازدواج المعايير الدولية تجاه حقوق المقاومة الفلسطينية والعراقية للاحتلال الإسرائيلي والأمريكي . ورحبوا بتوقيع اتفاق السلام في جنوب السودان، الذي اعتبروه أنهى حرباً أهلية، دامت لأكثر من عقدين . فيما أعربوا عن بالغ قلقهم من استمرار الحرب الدائرة في إقليم دارفور .
وفي سياق مساندة حق تقرير المصير للشعبين الفلسطيني والعراقي . أكد المشاركون أن الاحتلال أصبح يشكل أسوأ انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن احتلال الأراضي العربية يتناقض مع الدعوة لتعزيز الحريات التي يدعو المجتمع الدولي البلدان العربية بإلحاح لتبنيها، وتعزيز جهود البلدان العربية لتغليظ العقوبات في جرائم التعذيب والمعاملة القاسية والمهنية للسجناء .
وفي هذا الإطار . دعا المشاركون في المؤتمر إلى تنقية التشريعات الوطنية من القوانين المقيدة للحريات العامة وإلغاء كافة المحاكم الاستثنائية، وإنهاء العمل بقوانين الطوارئ التي تحجب الضمانات الدستورية والقانونية، وإزالة العقوبات السابقة للحريات في قضايا الرأي والنشر، واعتبار احترام حقوق الإنسان الركيزة الأساسية لكل مشروعات الإصلاح في الوطن العربي .(15/133)
وجه المؤتمرون نداءاً إلى الحكومات العربية بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإنشاء مركز لإعادة تأهيلهم بعد الإفراج عنهم، ورصد كل ما يقع من حالات انتهاك لحقوق الإنسان من خلال المنظمة العربية لحقوق الإنسان . وأوصى المشاركون بإنشاء مرصد عام لمتابعة حركة الإصلاح في العالم العربي، لعدم الاعتماد على التقارير الدورية التي تستغلها بعض الدوائر الغربية في الضغط بها على البلدان العربية، والتصديق على الميثاق العربي لحقوق الإنسان من جانب جميع الدول العربية، ورفع القيود عن ممارسة الجمعيات الأهلية لعملها بالعالم العربي، وإعداد برامج سياسية وشعبية لرفع الوعي بحقوق الإنسان بالمنطقة العربية .
============(15/134)
(15/135)
القلم الطيب والقلم الخبيث
الحمد لله ((الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)) أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ تفرد بالخلق والملك والشرع ، فلا يقع شيء إلا بأمره ، ولا شرع يوصل إلى رضاه إلا شرعه (( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) (الأعراف : 54) . وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله؛ أرسله الله تعالى على حين فترة من الرسل ، ففتح به أعينا عميا ، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، من أطاعه نجي من النار ، وأدخل الجنة برحمة الله تعالى له، ومن عصاه فإنه يضر نفسه ولا يضر الله تعالى شيئا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد : فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فإنكم في زمن كثرت فيه فتن السراء والضراء ، وغرق في لججها من غرق ، وعصم الله تعالى من عصم ، ولا نجاة إلا بلزوم التقوى ((وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )) (الزمر: 61) .
أيها الناس: كانت البعثة النبوية ميلادا جديدا لأمة جديدة أراد الله تعالى لها الخيرية على كل الأمم التي قبلها ، واختصها بأحسن كتبه ، وامتن عليها بخاتم رسله ((لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )) ( آل عمران : 164) .
نعم والله كانوا قبل بعثت صلى الله عليه وسلم في ضلال الشرك والجهل الذي أورثهم الذل والضعف والتفرق، وسوغ لهم أنواعا من الإثم والظلم والفساد.
إنها أمة أمية لا تعرف القراءة ولا الكتابة ولا الحساب إلا نُزَّاع منهم كانوا يقرأون لهم ويكتبون ويحسبون ، قال النبي عليه الصلاة والسلام:((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب))[1].
وأول ما نزل على رسولها صلى الله عليه وسلم الأمر بالقراءة، و جاء ذكر القلم في أول الآيات المنزلة ؛ مما يشي بأهمية القلم وشرفه ومكانته (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) (العلق : 1-5) .
إن الله تعالى قادر على أن يعلم البشر دون الحاجة إلى القلم ، ولكنه سبحانه أراد أن يكون القلم وسيلة التعليم ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)) وزاد من شرفه وعلوه إقسام الله تعالى به على الوحي المكتوب (( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ )) (القلم : 1-2) .
والقلم أول مخلوق ليكتب به القدر ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة )) [2] .
وكما بين صلى الله عليه وسلم أن القلم خلق أولا لكتابة المقادير فقد بين عليه الصلاة والسلام تاريخ القلم في البشر ، وذكر أول من كتب به من الناس فقال عليه الصلاة والسلام عن إدريس عليه السلام (وهو أول من خط بالقلم ).
وبالقلم تكتب مقادير العام في ليلة القدر ((فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )) (الدخان : 4) .
وبالقلم يكتب مصير الأجنة في بطون أمهاتهم ؛ كما روى مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه يبلغ به صلى الله عليه وسلم قال:(( يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقي أو سعيد ؟ فَيُكْتبان، فيقول: أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص)) .
وبالقلم يكتب الملائكة أقوال المكلفين وأفعالهم : ((مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )) ( ق : 18) .
أي بكتابة ما يصدر عنه كما في قوله سبحانه : (( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )) ( الانفطار : 1.-12) .
وبالقلم يكتب الناس ما يحتاجون إلى كتابته مما تنتظم به مصالح دينهم ودنياهم ، وأعلى ذلك وأشرفه كلام الله تعالى ، وقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كتابا يكتبون الوحي ، وقصرهم على ذلك في أول الإسلام فقال عليه الصلاة والسلام :(( لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)) [3].
ثم رخص لهم في كتابة كل ما يصدر عنه من قول أو فعل ، كما روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: ((كنت أكتب كل شيء اسمعه من رسول ا صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش عن ذلك ، وقالوا: تكتب ورسول ا صلى الله عليه وسلم يقول في الغضب والرضا ؟ فأمسكت حتى ذكرت ذلك لرسول ا صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق))[4].(15/136)
وربما قدم عليه وفد من الوفود فعلمهم سنة من السنن ، وبلغهم شيئا من العلم فيطلب بعضهم أن يكتب له ذلك فيقول عليه الصلاة والسلام : ((اكتبوا لأبي فلان) .
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن مما يجري أجره للمسلم بعد موته علما ينتفع به ، وأعظم وسيلة لحفظ هذا العلم المنتفع به : كتابته ، وانظروا إلى كثرة ما خطته أقلام أسلافكم من أنواع العلوم والمعارف حتى وصل إليكم تدركوا قيمة القلم والكتابة.
وبالقلم تكتب تواريخ الأمم وأيامهم ، وتدون أقوال العلماء والحكماء وأخبارهم ، وتحفظ تجاربهم وأعمالهم ، وما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه في هذا العصر من تنوع العلوم والمعارف ، وتقدم العمران والصناعات إلا بما دون من تجارب السابقين وأبحاثهم وخبراتهم ، ولا يمكن أن يتخيل حال البشر في هذا العصر بلا قلم وعلم وكتابة إلا كحال الحيوان الذي لا يعقل شيئا.
وبالقلم تكتب عقود الناس وشروطهم في السلم والحرب ، وفي التجارة والبيع ، وفي القرض والرهن والدين وغير ذلك (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ )) (البقرة : 282) .
وفي صلح الحديبية قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : ((اكتب الشرط بيننا)) ((هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشا)) ، ودعا عليه الصلاة والسلام ملوك العالم إلى الإسلام بكتب كتبها وأرسلها إليهم.
وبلغ من عنايت صلى الله عليه وسلم بالقلم أنه جعل فداء من لم يستطع فداء نفسه بالمال من أسرى المشركين في بدر أن يعلم الواحد منهم عشرة من غلمان المدينة الكتابة ، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك. وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ((علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن)) [5].
ورخص عليه الصلاة والسلام للنساء في تعلم الكتابة ؛ كما في حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها قالت:(( دخل علي رسول ا صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة)) [6].
والكلمة المنطوقة والمكتوبة إما أن تكون مما ينفع الناس في معاشهم أو معادهم ، وتلك هي الكلمة الطيبة ، وإما أن تكون مما يضر الناس وهي الكلمة الخبيثة.
والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ، كما أن الكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة ، وهذا التقسيم ضربه الله تعالى مثلا في القرآن ؛ ليسارع الناس إلى طيب الكلم ، ويجانبوا خبيثه : ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ )) ( إبراهيم : 24-26 .
وإنما يعرف الكلام الطيب من الخبيث منطوقا كان أم مكتوبا بعرضه على الكتاب والسنة دون اعتبار لقائله ومصدره ، فما كان موافقا للكتاب والسنة فهو الكلام الطيب الذي يرفع إلى الله تعالى : ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ))( فاطر : 1.) .
وما كان معارضا لهما فهو الكلام الخبيث ، ولا يصدر الكلام الطيب إلا من طيب وطيبة ، كما أن مصدر الكلام الخبيث كل خبيث وخبيثة : (( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ )) ( النور : 26) .
قال جمهور السلف: الكلمات الخبيثة للخبيثين ، ومن كلام بعضهم: الأقوال والأفعال الخبيثة للخبيثين.
والكذب من أخبث الكلام ؛ لما فيه من تزوير الحقائق ، وترويج الباطل ، وغش الناس ، فإذا كان هذا الكذب يبلغ الآفاق عبر صحيفة مكتوبة ، أو قناة معروضة ، أو إذاعة مسموعة ازداد خبثا إلى خبثه ، ولما كان كثير من القائمين على وسائل الإعلام في هذا العصر من أصناف الخبيثين والخبيثات فإنهم يروجون لكل فكر ومنهج وسلوك خبيث ، ويمتهنون الكذب المفضوح في ذلك ، ولا يحترمون عقول المتلقين عنهم ، ولا يخجلون من كذبهم ، وقد دأب عوام الناس على وصف ما يشككون في صحته بأنه كلام جرائد ، أو كلام إعلام .
وقد حذر صلى الله عليه وسلم من خطورة هذا المسلك الخبيث ، وبين (( أن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزلّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) [7] .
ورأى عليه الصلاة والسلام من أصناف المعذبين كذابا يبلغ كذبه الآفاق فسأل جبريل عنه فقال عليه السلام (( أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة )) [8].
والمسلم كما هو مأمور بمجانبة كل خبيث وخبيثة من الناس، فهو كذلك مأمور بمجانبة الخبيث من الكلام سماعا من قناة أو إذاعة، أو قراءة من صحيفة أو مجلة أو رواية أو كتاب أو غير ذلك ؛ لأن الكلام الخبيث يفسد قلبه، ويصرفه عن طيب الكلام.(15/137)
وإذا كان المسلم مأمورا باجتناب اللغو منطوقا كان أم مكتوبا وهو في الشر والإفساد أخف من الخبيث ، فكيف إذا بخبيث المنطوق والمكتوب.ومن صفات عباد الرحمن: ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً )) ( الفرقان : 72) .
((وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )) (القصص : 55) .
والإعراض عن اللغو يكون بالإعراض عن مصادره ووسائله التي ابتلي الناس بها في هذا الزمان أشد ابتلاء.
وجاء النهي عن حضور المجالس التي يخاض فيها بدين الله تعالى جهلا أو استكبارا ، وجعل الله تعالى أهلها ظالمين : ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )) ( الأنعام : 68) .
بل جاء أن من جالس المستهزئين بآيات الله تعالى فهو منهم ولو لم يكتب أو يقل شيئا: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً )) (النساء : 14.) .
فكم من المسلمين من يقتني من وسائل الإعلام من صحف ومجلات وفضائيات قد كرست مهمتها للاستهزاء بدين الله تعالى، والتلاعب بشريعته ، وإخضاعها لإراء البشر وتخبطاتهم، ولا يحرك ذلك ساكنا عند من يقتنيها، بل يضحك ملء فيه، وينام ملء جفنه ، وكأن دين الله تعالى لا يعنيه ، ولسان حاله أن للبيت ربا يحميه ، وقد أسلم نفسه وأهله وولده لما يكتب وينطق من خبيث الكلام ورديئه ،وهو يعلم أنه سيحاسب عن ذلك كله، فنعوذ بالله تعالى من استحكام الغفلة، وتمكن الهوى ، وذهاب الغيرة على حرمات الله تعالى ، ونسأل الله تعالى أن يخفف عنا وعن المسلمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله؛ أنار الطريق للسائرين ، وجعل من عباده هداة مهتدين ، لا ضالين ولا مضلين، أحمده حمد الشاكرين ، وأستغفره استغفار المذنبين، وأشهد ألا إله ألا الله وحده لا شريك له، رب العالمين، وإله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إمام المرسلين ، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا الذنوب فإنها رافعة النعم ، جالبة النقم : ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )) ( إبراهيم : 7) .
أيها الناس: الكتابة نعمة من الله تعالى يمن بها على من يشاء من عباده ، ولا خير في قلم لا ينفع صاحبه عند الله تعالى ، فإذا كان قلمه مصدر ضرر عليه في دينه فبئس القلم وبئس صاحبه ، وكسره خير من بقائه.
إن الكتابة أضحت حرفة في هذا الزمن ، وكل صاحب فكر ومبدأ ينافح عن فكره ومبدئه بقلمه.ومن الكتاب من يتأكل بكتابته فينتقل من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين، ويثني اليوم على ما كان يشتم بالأمس ؛ لأنه يكتب لمن يدفع أكثر، أو يدور مع القوي حيث كان، وكثير من كتاب الصحف والمجلات كانوا أيام الماركسية من أشد أعداء الليبرالية الإمبريالية ، وبعد أفول الشيوعية انتقلوا بكل صفاقة ووضاعة إلى الليبرالية يتسولون على أبوابها ، ويخطبون ودَّ أصحابها ، حتى صاروا أشد إمبريالية من أهلها.
ومن أصحاب الأقلام من يتأكل بالشهوات والغرائز ، فيتقيأ انحرافاته وشذوذاته الجنسية على أوراقه ؛ ليشكل منها رواية تغوي القارئين والقارئات ، وتستهوي المراهقين والمراهقات ، وإذا ما أراد شهرة واسعة ، ورواجا لروايته ، وحماية له ولها في الدوائر الصهيونية والصليبية والعلمانية فما عليه إلا أن يضمن روايته سخرية بالله تعالى وبملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر ؛ وعلى قدر سخريته بمقدسات المسلمين ينال نصيبه من الحماية والرعاية ، ويحصد الجوائز والهبات والأوسمة، ولربما بلغ بذلك جائزة نوبل للأدب ، كما حازها الكاتب الهالك نجيب محفوظ على روايته التي سخر فيها بكل مقدسات المسلمين ، وأعلن في نهايتها موت الإله لصالح المادية ، في رمزية جبانة ، وإلحاد صارخ ، وزندقة ظاهرة ، تعالى الله عن إلحاده علوا ظاهرا.(15/138)
إن هذا الكاتب الهالك الذي امتلأت الصحف بالكتابة عنه ، وأفردت لسيرته وغوايته صفحات كاملة لا تفرد لموت العلماء بل ولا للزعماء ما هو في واقع الأمر إلا خبيث يحمل قلما خبيثا ، سطر به فكره الخبيث.فهو حامل همِّ إحياء الفكر الفرعوني ، وهو الداعي إلى الفكر الاشتراكي، ويكفيه سبقا في الإلحاد والزندقة أنه التلميذ الوفي للنصراني القبطي سلامة موسى الحاقد على كل شعيرة من شعائر المسلمين ، الذي كان يتطلع إلى نقل مصر من إسلامها إلى الفرعونية.
إن هذا الروائي الهالك لم يخرج في جل رواياته عن أصلين عاش حياته من أجلهما ، وسخر قلمه في خدمتهما : وهما الدعوة إلى الإلحاد باسم العلم في مقابل الدين ، ونشر الإباحية والشذوذ في أوساط المسلمين، قابله أحد المعجبين به فقال له ( من الواضح أنك أصبحت تميل إلى الفكر الماركسي، فالماركسيون في رواياتك هم الأبطال الشهداء ، وحاملوا الزهور الحمراء ، وهم الذين يضيئون الحياة بنور الأمل في الظلمات... فرد عليه الروائي الهالك : لقد شخصتني فأجدت التشخيص ) وقام أحد مريديه والمعجبين به وبرواياته بقرأتها وسبر موادها، فعرف القاسم المشترك بينها ، وأعلن نتيجة ذلك فقال: حفلت رواياته بحشد هائل من البغايا والراقصات والقوادين والديوثيين واللصوص والنشالين والفتوات وصانعي العاهات والمرتشين والملحدين.
وفي مقام آخر يزعم أن الغربيين حلوا المشكلة الجنسية بنشر الإباحية ، وأن هذا الحل في نظره ناجع في بلاد المسلمين، فيقول: أما عن حل المشكلة الجنسية في مجتمعنا فأنا لا أستطيع أن أقوله ، ولا أنت تكتبه ! ولكنني أستطيع أن أقول: ( أوروبا تمكنت من حل المشكلة الجنسية بطريقتها الخاصة، تجد أن البنت عمرها خمسة عشر عاما تلتقي في حرية تامة مع أي شاب ، لا مشكلة جنسية، ولا مشكلة عفاف ولا بكارة، وحتى إذا أثمرت العلاقة طفلاً ، فالطفل يذهب إلى الدولة كي تربيه إذا كانت أمه لا تريد ) هكذا يريد لبنات المسلمين أن يكن بغايا وفاسقات كما كان نساء الغرب.
لقد مضى هذا الهالك إلى رب عدل سيحاسبه على ما خط بقلمه ولا يظلمه شيئا ، ولكن الجريمة كل الجريمة، والتزوير كل التزوير ما يمارسه كثير من الإعلاميين والصحفيين من تضليل العقول ، وممارسة الكذب على المكشوف بالإشادة بهذا الهالك مع إخفاء حقيقة فكره وانحرافه عن الناس، بل والاستماتة في الدفاع عنه، والنيل ممن يفضحونه ، وسيلتهم في ذلك :الكذب والتزوير.فأين احترام العقول ؟! بل أين احترام زبائنهم من قراء صحفهم ؟! أفلا كان عندهم من الشجاعة أن يظهروا حقيقة فكره لقرائهم ، ثم يختار القراء بين دينهم وبين روائيهم الهالك ؟!
لقد كذبوا ثم كذبوا ، ودافعوا عن إلحاده وزندقته ، ووصفوه بالراحل الكبير ، وبالقامة الشامخة في بلاد المسلمين ، ونقلوا كما كبيرا من أقوال زملائه وتلامذته ومريديه ، ولم ينقلوا شيئا من أقوال من أبانوا حقيقة فكره، بل هاجموهم ووصفوهم بأبشع الأوصاف ، فأين هي الموضوعية التي يتشدقون بها، وأين هي دعوتهم إلى قبول الآخر واحترام الآراء الأخرى ؟ وإن تعجب فعجب من وصف بعض الصحف لروائيهم بأنه متدين ، فيا لضحالة عقولهم ، ويا لسخافة أقلامهم ، ولو خرج صاحبهم من قبره لوبخهم أشد التوبيخ ؛ لأنه كان يفاخر بحربه للدين ، فكيف يصفونه بالمتدين، نعوذ بالله من الهوى والردى ، ونسأله الهدى والتقى اللهم يا حي يا قيوم إن هذا الروائي قد تطاول على ربوبيتك وعلى ملائكتك وكتبك ورسلك ، وسخر بشعائر دينك ، اللهم فعامله بما يستحق فأنت الحكم العدل، اللهم من أثنى عليه وهو يعلم حاله فاحشره معه ، ومن أثنى عليه وهو لا يعلم حاله فتب عليه من زلته ، وأنر بصيرته ، وخذ بيده للبر والتقوى.اللهم واهد ضال المسلمين ، وأصلح أحوالهم، وأمنهم في أوطانهم ، واكفهم شر الأشرار وكيد الفجار، والحمد لله رب العالمين .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد..
[1] متفق عليه0
[2] رواه أبو داود0
[3] رواه مسلم .
[4] رواه أحمد0
[5] رواه أبو داود0
[6] رواه أحمد0
[7] متفق عليه0
[8] رواه البخاري
=============(15/139)
(15/140)
صورة المسلمين والعرب في العالم1/2
إعداد: خلود العيدان * منيرة الدهش 11/3/1426
20/04/2005
لماذا (صورة المسلمين والعرب في العالم) كانت قضيتنا الأولى؟!
إن حماسنا للبحث في هذه القضية..
كان للإجابة عن تساؤلات تشغل فكر الفرد المسلم العربي تجاه..
صورته، حقيقته، هويته، ولماذا هو مشوه في عيني الآخر؟
وتساؤلات شتى تملأ سماء الفكر العربي (الغض) في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه.
كما أن حقيقة أن (لا دخان بلا نار) تلح بشدة للبحث عن الحقيقة أياً كان مذاقها.
فإن كان بهتاناً فلم الاستمرار..ولم لم نوقفه؟
وإن كان حقيقة فإلى متى؟ ولماذا لا نشرع بالتغيير.
ورغم هذه المقدمة المشحونة بعلامات الاستفهام..
إلا أن عذوبة الفهم القرآني لأبجديات البحث في هذا الكون تمنحنا هدوءً ونفساً عميقاً لنشرع في قضيتنا..
فلنتأمل الآية الـ(16) من سورة (لقمان):
(يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير)
ولك أن تعلو وتسمو بجمالية المعنى و(تتأمل) لـ(ـتفهم) ما الذي يجري في زمن اختلطت فيه (الحقائق)؟!
لنشرع الأبواب المغلقة:
لقد وضعنا بين أعيننا الهدف الأسمى الذي يحركنا كشباب مسلم عربي والمسؤولية التي أوجدتنا على هذه الأرض..فوجدنا أن..
(معرفتنا للآخر تمنحنا أفقاً أوسع لإمكانية (فهمه) فـ(تفهيمه)، ولمعرفة واقعنا لـ(ـتغييره)..)
كان اختيارنا لهذه القضية من واقع (الأزمة) التي يمر بها عالمنا الإسلامي والعربي لعلنا نكون إحدى المفاتيح لأبواب مستقبل إسلامي عربي مختلف.
ما سبب التأخير؟ وهل عقارب الساعة في حساباتنا!
لاشك أننا نصحو ونغفو ونحن نرى صورنا مجسدة في شاشات التلفزة أو تشبعها أراء المحللين (التلفزيونيين) ركلاً وضرباً إن صح التعبير..إن رد الفعل الذي (أضحى) طبيعياً! هو المسارعة في (إلقاء القبض) على جهاز التحكم و(اتخاذ القرار) بتغيير القناة لـ(ـيسجل) التاريخ الإنجاز الأعظم لتلك (اليد الناعمة)!
إن التأخير في إنقاذ صورتنا الإسلامية والعربية في عيني الآخر لاشك تحمل أسباب عدة قد يكون أهمها:
القناعة بمبدأ (أن ما باليد حيلة)! ويصاحبها أن (هم) من فعلوا وأخطئوا و،،،
بغض النظر إن كان (هم) عائدة على الآخر أو المسؤول.
نحن هنا لا نغفل الطرف الثاني أياً كان ولكن أنحمله كل العبء؟!!
* تحت المجهر و بعدسة الآخر كيف نبدو!
نظر الأوروبيون إلى حياة المسلمين الأخلاقية نظرة مزدوجة، إذ نظروا إلى حجاب المرأة المسلمة كتعبير عن "السرية والقهر" والفصل بين الرجل والمرأة، وفي نفس الوقت نظروا إليه على أنه مصدر "فجور واستباحة أخلاقية مستترة" خلف الحواجز والأسوار.
وقد انتقلت هذه الصورة المشوهة كما يرى (جون إسبوزيتو) أستاذ دراسات الأديان والعلاقات الدولية بجامعة جورج تاون الأميركية في كتاب "التهديد الإسلامي.. حقيقة أم أسطورة؟" الصادر عام 1992.. انتقلت إلى بعض أهم قادة الإصلاح الفكري والديني في أوروبا وعلى رأسهم زعيم حركة الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر الذي نظر إلى الإسلام على أنه:
"حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح لا يمكن جلبها للمسيحية لأنها مغلقة أمام المنطق، ولكن يمكن فقط مقاومتها بالسيف".
كما يقول المستعرب الياباني (نوبوآكي نوتوهارا) في كتابه (العرب وجهة نظر يابانية):
"سافرت إلى البلدان العربية وكنت قد تجاوزت الثلاثين من عمري ورأيت وقرأت وتحدثت إلى الناس في كل مكان نزلت فيه.لقد عاينت بنفسي غياب العدالة الاجتماعية وتهميش المواطن واذلاله وانتشار القمع بشكل لايليق بالإنسان.وغياب كل أنواع الحرية كحرية الرأي السلوك والمعتقد وغيرها.
كما عرفت عن قرب كيف يضحي المجتمع بالأفراد الموهوبين والأفراد المخلصين،ورأيت كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن".
المفاهيم الإسلامية عالمياً:
اعتمد البناء المفاهيمي للإسلام عالمياً على وجود مكثف في الخطاب الإعلامي لـ(ـتصنيفات) على شاكلة "الإرهاب الإسلامي"، "المحاربين الإسلاميين"، "الإرهابيين الإسلاميين"، "الديكتاتور الإسلامي"، "الهجمات الإسلامية"، و"الإرهاب الإسلامي المتشدد"،"الظاهرة الإسلامية".
كما جاء في تعريف العربي أبان المرحلة الستينيات والسبعينيات في القاموس الأمريكي المسمى روجيت ثيساورس r oget Thesau r us بكونه "جلف، نذل، أخرق، مخادع، ساذج". ولم تحذف هذه النعوت القبيحة إلا بعد جهود وضغوط بذلتها المنظمات العربية في أمريكا.
***
الصورة ، الألوان، الظلال ،،، (نحن والآخر) وما الذي قيل؟!
* على المسلمين أن يتوصلوا إلى حل لإشكاليات كثيرة داخلية قبل أن يطالبوننا بصورة أكثر توازنا.
( ناثان كاردلس رئيس تحرير خدمة لوس انجلوس تايمز الأمريكية)
* إنه لم تشوه سمعة جماعة دينية أو ثقافية أو قومية ويحط من قدرها بشكل مركز ومنظم كما حدث للعرب.
(نيكولاس فون هوفمان الصحفي بجريدة "واشنطن بوست")(15/141)
*: إن المنطقة العربية ليست راكدة، إنها مكان حيوي. وأمر آخر عن هذه المنطقة إذا نسينا، لقد اجتزنا ثورات، لقد مررنا بثورة الكومنولث والثورة الصناعية لقد اجتاز الغرب صدمات هائلة قبل أن يصل لما هو عليه اليوم، فهل من المتوقع أن يصبح المسلمون بعصا سحرية مستنيرين في غضون سنوات قلائل؟
(حمزة يوسف عمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، وهو أمريكي المولد واعتنق الإسلام)
*من المستحيل أن نتوقع أي تقدم أخلاقي وفكري ومادي أينما يسود المحمديون.
(الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت)
*إذا كان الإسلام قد عانى من جاهلية العرب ربع قرن ، فقد ظل يعاني من جاهلية الغرب قروناً طوالاَ !
وقد تأثر الإعلاميون الغربيون بشكل فاضح بالروح العدائية التي نفخها المستشرقون ومعظمهم من اليهود.
( كتاب " ربحت محمّداً ولم أخسر المسيح")
* هناك من يريد تشويه صورة الإسلام ونحن، رجال الدين، علينا مسؤولية تصحيح ذلك...إن المثقفين المسلمين أخفقوا في المساهمة بشكل ملحوظ في العلوم وغيرها من الميادين في القرنين الماضيين.
( جورج كيري كبير أساقفة الكنيسة الأنجليكانية )
* أنه لابد أن نعمل في الداخل الإسلامي، كما لابد علينا أيضا أن نعمل في الخارج لأنه لم يعد هناك حواجز وفواصل بين الداخل والخارج.
(د/علي جمعة مفتي الديار المصرية)
* المسلمون القدامى كانوا يتعاملون مع الغرب من منطلق الندية والقدرة على الانتقاد والانتقاء، بعكس الفنانين والمثقفين قبل الثورة الذين تعاملوا مع الغرب من منطلق الإحساس بالدونية.
(تقول ذيبا مير حسيني/مخرجة إيرانية)
* أكد ( ناثان كاردلس رئيس تحرير خدمة لوس انجلوس تايمز الأمريكية):
أنه كصحفي أمريكي لايملك من معلومات عن الإسلام إلا ما ينقله الصحفيون والساسة المسلمون أنفسهم!
* إن الصحفي الغربي اعتاد علي التفكير بمنطق السياسة والاجتماع و ليس التفكير بمنطق الدين و العقيدة كما اعتاد الإعلامي العربي والمسلم .
( خوسيه لويس برسبال من راديو كووب الاسباني)
* توجد مساحة ضخمة في وسائل الإعلام الغربية تهاجم الإسلام والمسلمين وتسخر منهم، وتصف "الإرهاب" بأنه إسلامي، في حين أنها لا تصفه بأنه مسيحي أو يهودي أو بوذي.
(د/علي جمعة مفتي الديار المصرية)
* لقد كانت هناك عنصرية ضد المسلمين هنا(فرنسا) من قبل غير أنها زادت سوءا بسبب الخلط اليوم بين الإسلام والمسلمين والإرهاب. إن الجدل الدائر حول حظر الحجاب في المدارس يتذرع بعلمانية المجتمع، بينما في الواقع هو يتشكك بالإسلام.
(يوسف معمري من المجلس الإسلامي لمارسيليا (بفرنسا)
* لدينا بلهاء في الغرب يزعمون أن المسلمين شياطين وبالمثل لدينا بلهاء بين المسلمين يزعمون أن الغرب شيطان.أنا آسف.
البشر كلنا فينا الخير والشر. هناك أشخاص طيبون في الغرب وهناك أشخاص طيبون في العالم الإسلامي - وهناك أشرار في الغرب وهناك أشرار في العالم الإسلامي، ومعظم الناس فيهم خليط من الخير والشر يعتمل داخلهم. إننا لا نعيش في القرون الوسطى. حينما يخرج مليون بريطاني في مظاهرات ويقولون لا تخوضوا الحرب باسمنا ويعتصمون وقوفا وجلوسا في البرد القارس لخمس ساعات، رأيت ذلك في هايد بارك، لا يمكنك أن تقول هؤلاء صليبيون ولا يمكنك أيضا أن تبرر تفجير منازلهم، إنهم أشخاص خيرون يعبأون فعلاَ.
(حمزة يوسف عمل مستشارا للبيت الأبيض وللجامعة العربية للشؤون الإسلامية، وهو مؤسس معهد الزيتونة في كاليفورنيا، وهو أمريكي المولد واعتنق الإسلام)
*إن العقل المسلم قد أغفل السنن الإلهية الكونية والأسباب الطبيعية المباشرة لحدوث الأشياء والتوصل للنتائج وقد أعفى نفسه من التدقيق في اتباع كل سبب بعينه لما يريد أن يتوصل إليه (متوهماً) أن الله سبحانه وتعالى سيحقق له كل شئ بإرادته وهو متقاعس لا لشئ إلا لكونه مسلماً وهذا فهم خاطئ لحقيقة الدين.
(د/محمد جابر الأنصاري)
*أن نظرة الغرب الحديثة للإسلام ولدت في فترة كانت علاقة أوروبا بالإسلام فيها علاقة خوف وقلق، مما دفع الأوروبيين لتعريف الإسلام تعريفا "ضيقا كاريكاتوريا" كدين يملؤه "العنف والشهوة" يقوم على "الجهاد العنيف" في الحياة الدنيا و"الملذات الحسية الموعودة" في الآخرة.
( دانيال فيتكس -وهو أستاذ آداب بجامعة ولاية فلوريدا الأميركية)
* أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
( إدوارد سعيد)
*أن "فهم مواجهات أميركا مع الشرق الأوسط بعد عام 1945 يتطلب فهم الخلفية الثقافية والصور النمطية العنصرية التي يعتقد بها غالبية الأميركيين" تجاه الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
(دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" الصادر عام 2002)(15/142)
* وبعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست خفت موجة العداء للسامية إلى حد ما -في أميركا- بعدما بدأ الأميركيون في النظر إلى اليهود على أنهم "غربيون" بينما استمروا في النظر إلى المسلمين على أنهم "شياطين" و"إرهابيون معادون للغرب".
(دوغلاس ليتل في كتاب "الاستشراق الأميركي.. أميركا والشرق الأوسط منذ 1945" الصادر عام 2002)
* هناك جرائم لا نتحمل مسؤوليتها مباشرة ، أي لم نشارك فيها، ولكن لا بد أن نتحمل مسؤوليتها...لذلك فالعالم مسؤول عن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني)
(المستعرب الياباني نوبوأكي نوتوهارا)
* إننا نجني اليوم الثمار المرة للإهمال العربي و الإسلامي.
(د/ عبد القادر طاش رئيس تحرير صحيفة البلاد السعودية سابقاً)
سجل التاريخ عربياً كان أم غربي فهل نقرأ:
- نيغاتيف الصورة:
وضح ديفد بلانكس ومايكل فراستو في مقدمة كتاب لهما صدر عام 1999 عن "رؤية الغرب للإسلام في العصور الوسطى"،
فيقول الكاتبان:
( إن الأوروبيين في تلك الفترة كانوا محاصرين بحضارة أكثر قوة وتقدما وهي حضارة الإسلام، وأنهم فشلوا في هزيمة هذه الحضارة خلال الحروب الصليبية كما رفضوا فهمها، لكنهم شعروا دائما بتهديدها الحضاري والديني لهم، لذا لعب الإسلام دورا أساسيا في تشكيل الهوية الأوروبية ومن ثم الغربية الحديثة.)
ويرى المؤلفان (أن الإسلام لعب دورا شبهاه "بنيغاتيف الصورة" في تشكيل رؤية الأوروبي المسيحي المثالية لنفسه، إذ عمد الأوروبيون إلى تشويه صورة منافسيهم (المسلمين) كأسلوب لتقوية صورتهم الذاتية عن أنفسهم وبناء ثقتهم في مواجهة عدو أكثر قوة وتحضرا).
- لم يكن لفهمه!:
يرى إدوارد سعيد في سلسلة من مؤلفاته على رأسها "الاستشراق" الصادر عام 1978 أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.
وخلال هذه المرحلة نظر الغرب إلى الشرق -بما في ذلك العالم الإسلامي- بأسلوب أصبح الآن نموذجا يدرس عن التشويه المتعمد الذي يمكن أن تقوم به حضارة ما لصورة حضارة أخرى. ومن أهم عناصر هذا الأسلوب ما يلي:
1. النظر إلى الشرقي أو إلى المسلم على أنه الآخر المستقل تماما عن الأنا أو الذات الأوروبية.
2. تنظيم علاقة الأوروبي مع الآخر عبر سلسلة من الثنائيات الفكرية يضع كل منها الآخر الشرقي أو المسلم في مقابل الأنا الأوروبي على طرفي نقيض في مختلف جوانب الحياة، فمثلا تم النظر إلى الشرقي على أنه متخلف وحشي في مقابل الغربي المتقدم المتحضر، أو على أنه جاهل فقير في مواجهة الغربي المتعلم الثري، أو على أنه داكن ضعيف في مقابل الغربي الأبيض القوي.
3. وقفت المؤسسات الاستعمارية خلف التقسيم الثنائي السابق لدعمه سياسيا واقتصاديا وثقافيا على أرض الواقع من خلال مساعيها لربط الشرق -بما في ذلك العالم الإسلامي- بأوروبا من خلال روابط مؤسساتية استعمارية تضمن بقاء الشرق الطرف الأضعف على طول الخط في علاقته بالإمبراطوريات الأوروبية. ولذا سعى الاستعمار لتكريس استغلاله واستنزافه الاقتصادي للشرق، وإضعاف اللغات والأديان والثقافات الشرقية الأصلية، ومحاربة ظهور الحركات السياسية والاجتماعية الوطنية في الشرق والعالم الإسلامي على مدار عقود الاستعمار.
4. وقف الغرب موقفا منزعجا ومتشددا وأحيانا انتقاميا تجاه الجماعات الشرقية أو المسلمة التي خرجت عن التقسيم الثنائي السابق وحاولت امتلاك أدوات القوة الغربية مثل اللغة وقوة الاقتصاد وفهم السياسة والقانون وأساليب العمل الإعلامي للتقريب بين مواقف المجتمعات الشرقية المستضعفة والغرب المستعمر.
5. النظرة السابقة لعبت دورا مزدوجا خطيرا في تشكيل صورة الإسلام والمسلمين لدى الغرب: الأول تشويه هذه الصورة، والثاني تبرير الاستعمار الأوروبي واستنزاف أوروبا المنظم لثروات الشرق والعالم الإسلامي تحت عنوان تحريره ومساعدته على الرقي والتحضر.(وهل يذكرنا هذا بعراقنا الحالي!)
- هل شاركنا في التشويه؟!
إن وضعنا كفتي ميزان معتدلة بين أعيننا فسنرى في مقابل كل تقدم من طرفهم تراجع من طرفنا لا مواجهة سريعة ونبذ لتلك الأخطاء التي أودت بصورتنا عالمياً..
وكما قال الأستاذ علاء بيومي مدير الشؤون العربية بمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير):
(إن الخلفية الثقافية والحضارية لصورة الإسلام في الولايات المتحدة ليست السبب الوحيد لما يشوب علاقة أميركا بالعالم الإسلامي في الفترة الحالية من توتر، فهناك عوامل أخرى عديدة تساهم في ذلك من بينها التصرفات المشينة التي تقوم بها بعض الأطراف المسلمة أو الأميركية ضد الطرف الآخر، وتراث الأفكار النمطية السلبية التي يمتلكها كل طرف عن الآخر، ودور المصالح المادية في إشعال الخلاف بين الطرفين.)
***
الجاليات الإسلامية والعربية (هناك) ما الذي يجري؟!
الجاليات المسلمة في العالم ما بين السلب والإيجاب:(15/143)
- يبدو أن هناك حالياً عوامل تتحكم في التعامل السلبي للغرب مع الجاليات الإسلامية وأبنائها ـ رغم تفاوت ذلك من دولة إلى أخرى ـ ويمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي :
*من يدفع الثمن؟
إن الحكم المسبق على الإسلام؛ والاعتماد على الروايات الشاذة لدعم الأفكار الخاطئة التي تجعل الإسلام في موضع الإدانة كل ذلك عمل على تكريس تلك الصورة القاتمة التي نراها اليوم.
والتي يدفع ثمنها الجاليات المسلمة خارج نطاق العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية قد خطت خطوات مهمة باعترافها بالإسلام، وتم بالفعل في بعض الدول الأخرى إعطاء حقوق مدنية للمهاجرين.
فإنه لا تزال هناك عراقيل ومعوقات كثيرة لتطبيق ذلك في باقي دول العالم.
كما أن هناك استمراراً في اعتبار بعض المظاهر الإسلامية، كالحجاب مثلاً، رمزاً للتعصب والتحجر الفكري، وهناك من يرفض السماح بدراسة المحجبات بدعوى الحفاظ على مبادئ علمانية المدرسة الأوروبية.
كما أن نظرات الآخر تحاصره في كل مكان، وفي بعض الأحيان تقترن بالإذلال والكراهية والعنصرية المكشوفة.
* أشقائنا في مواجهة الآخر..في أي الاتجاهات يسيرون؟!
- الآثار المترتبة على التوجه الإعلامي الشديد اللهجة تجاه المسلمين:
إن طريقة نقل وسائل الإعلام العالمية للأحداث التي تجري في العالم الإسلامي وخصوصاً متابعتها لبعض الخلافات والحروب، تخلف آثاراً واضحة على تعامل الآخر مع المسلمين هناك.
فغالباً ما يعيش العالم اليوم تحت تأثير كابوس الخوف الذي يثيره اهتمام الإعلام الغربي بظاهرة التشدد والتطرف المرتبط بـ(ـالإسلام) ووصفها بأنها أخطر ما يتهدد قيم الغرب المعاصر.
- الآثار المترتبة على صورة العربي المسلم في المناهج الدراسية في العالم:
العربي المسلم خارج حدود أرضه مغترب شاء أم أبى..فالغربة حقيقة لا مفر منها..
إلا أن هذا الإحساس الذي يصاحبها لا يمنع من أن ذلك الفرد يمارس حياته بكافة مناشطها..ينجح ويخفق..
ينتمي للمكان،يألف الصحبة، يحسن السباحة في محيطه الجديد،يجلس بجانب الآخر على ذات المقعد ويتلقى التعليم نفسه. ويسمع ويقرأ صورته بأعينهم..
فالنظرة له من قبل مجتمعه المدرسي لاشك تترك أثراً عميقاً يتدخل في انتمائه ومغالطات في تكوين هويته الإسلامية والعربية بل ربما تجاوزت ذلك في تذبذب قناعته تجاه دينه وهويته.
* دور الجالية الإسلامية في الإساءة إلى صورة الإسلام في العالم :
وهنا لا بد من التأكيد على أنه تحت تأثير الغربة والتهميش ساهم بعض أفراد الجالية المسلمة أنفسهم في الإساءة إلى صورة الإسلام بالغرب.
ويمكن الإشارة إلى أهم السلبيات في هذا الباب :
ـ استغلال العاطفة الدينية القوية لدى الشباب الذين يبحثون عن انتمائهم، لإثارة مشاعر التعصب والتطرف لديهم.
ـ تعدد المرجعيات الدينية التي تتجاذب بعض القيادات الإسلامية وتؤدي إلى صراعات وقلاقل لا تخدم في شيء صورة الإسلام بالغرب.
ـ استغلال المناخ الملائم للعمل السياسي بالغرب، وتسخير الإسلام لخدمة أهداف سياسية ومصلحية زائلة.
*ماذا عن الصورة الإيجابية التي رسموها هناك؟!
قطعاً هناك نماذج يفخر لصداها كل نبض مسلم عربي..
وهي السند الذي مازالت صورتنا في العالم تحاول الاستناد عليه..
ولكن علينا تدعيم ذلك (السند) لكيلا يحترق (الغصن) الذي سنزرع بفضله إن شاء خالقنا..
مروجاً إسلامية وعربية يتغنى بمرآها العالم أجمع..
إن دعمنا لأشقائنا وتواصلنا معهم لاشك يمهد الطرق للوصول للهدف.
***
(نحن) في مناهجهم!
(المصـ)ـدر،(المصـ)ـداقية..
كلمتان اجتماعهما مطلب في توثيق المعلومات التي تقدم في المناهج الدراسية أياً كانت الأرض ولكنهما أضحيا مجرد كلمتين تربطهما بدايات الحروف فحسب.!
أين؟!
هذا ما يتضح في بعض المناهج لدول مختلفة حول العالم..
ولنكن أكثر وضوحاً فالإسلام،المسلمين والمجتمعات العربية مادة تفتقد للمصدر (الموثوق) في تلك المناهج..
لماذا؟!
(من جانبهم):
تشكل كتب المستشرقين رغم إغفالها للحياد العلمي المصدر الرئيسي إن لم يكن الرسمي في إعداد المناهج خارج نطاق العالم الإسلامي والعربي على أفضل تقدير!
ويمتد بنا إدوارد سعيد إلى جذور الاستشراق قائلاً في كتابه "الاستشراق":
( أن معرفة الغرب للإسلام في هذه المرحلة كانت بغرض السيطرة عليه وليس فهمه، وأن عمليه المعرفة هذه تمت بشكل منظم نسبيا تعاونت فيه مؤسسات الفكر والمعرفة الأوروبية تعاونا وثيقا مع مؤسسات الاستعمار الأوروبية الرسمية بهدف مدها بالمعرفة اللازمة للسيطرة على المجتمعات المستعمرة.)
(من جانبنا):
أين هي المراجع الإسلامية التي تحاور الطرف الآخر؟!
وأين المسلمين أصحاب (القلم،الفكر،التأريخ والحقيقة) ليمنحوا العالم مصدراً (أصيلاً).
وليضيفوا بلون التوثيق بريق الحقيقة في صورة الإسلام بين دفتي كتاب.
ولن نغفل عن أن المناهج العربية تحظى بنصيب الأسد بالقصور الشديد في إعداد الفرد لفهم الآخر.
وللحقيقة أيضاً جانب:(15/144)
إن صورة الإسلام في المناهج حول العالم تتفاوت بين اعتدال وبين تشويه بين حقيقة وبين افتراء تبعا لعوامل شتى منها ضعف الجالية الإسلامية ومدى قوة اللوبي الصهيوني داخلها ولا شك مصالح الدولة أولاً وأخيراً!
جولة مع (صورتنا) في المناهج الدراسية حول العالم :
*البرازيل:
يوجد في المناهج الدراسية ما يقارب من أربع إلى خمس صفحات تقدم معلومات خاصة عن الإسلام .
يركزون فيها على قضايا المرأة وإجبارها على الزواج من قبل ولي أمرها و تحكمه في مهرها.
حتى إن بعض الكتب تتحدث عن أن المرأة في الإسلام ليست بشرا!
و لا يوجد لها روح وبعضها يتحدث عن مكة وأن الذي بناها هو صلى الله عليه وسلم وبعض من صناديد العرب!
وخصص كتاب الأدب البرازيلي للصف السادس درسا كاملا عن الإسلام بعنوان " الإسلام اليوم" "ص132" ومن أهم ما قالوه عن الإسلام في هذا الدرس:
"إن الإسلام دين مهم على الأرض العربية ...وإن المسلمين ليسوا من العرب فقط فهناك مسلمون في آسيا وأوروبا وأفريقيا ومصر وباكستان وتركيا. والإسلام الذي أسسه محمد هو الأكثر انتشارا في العالم اليوم".
وهنا تتضح الرؤية لأساسيات الفهم للإسلام في المناهج البرازيلية ولكن لابد من أخطاء تيكمها المصدر الغير موثوق كما يحكمها الفهم الخاطئ لحيثيات المعلومة وإن كانت صحيحة.
فمن أهم المسائل التي يحتج عليها الغرب -كما يقول الكتاب-:
التعصب والمعاملة السيئة للمرأة مثل: إجبارها على الحجاب.
منعها من المشاركة مع أي نشاط مع الأجانب من الرجال.
في حالة السفر يحتجن إلى الإذن من الأب أو الزوج.
يستعملن مداخل مخصصة لهن في البيوت.
عند المرض يجب عليهن الذهاب إلى طبيبة.
معرضات للرجم في حالة الزنا.
وهذه المعاملة التي تعامل بها المرأة - كما يقول الكتاب- تستحق الثورة لأنها تجرح الحقوق الأساسية للإنسان ولا نستطيع أن نقول أن هذه المعاملة موجودة في كل البلاد الإسلامية.
*كوريا:
تتسم المناهج الكورية باعتدال الصورة إلى حد كبير..وتعرض المناهج الدراسية أصل الإسلام وكيف بدأت الدعوة الإسلامية على يد صلى الله عليه وسلم "محمد".
وتعرض الأحداث بعد وفاة صلى الله عليه وسلم حيث اختار العرب خليفة لهم من أتباعه ويتمتع الخليفة بسلطات سياسية ودينيه قويه ومدد واسع من النفوذ الإسلامي من خلال قتال غير المسلمين ومن خلال الفتوحات السلمية .
ولم يجبر المسلمون أي خاضع لهم (ضحية) على تغيير ديانته مادام التزم بدفع الجزية ( الضرائب).
بشكل عام معظم الكوريين لا يعرفون الإسلام على النحو الصحيح..
يعرفون أن المسلمين يؤمنون بالله وإن لم يعرفوا معنى كلمة " الله" ويعتقد الكوريون أن "الله" إله مختلف.. والمسيحيون منهم يعتقدون أن محمد مؤسس دين الإسلام!ولا يعرفون حتى كلمة"رسول الله". ويعتقدون أن المسيح هو الرب وممثل الرب باعتباره في رأيهم ابن الله..
والبعض يفهم الإسلام على أنه: " يد ترفع القرآن وأخرى تمسك السيف"..(!)
ألمانيا:
Ku r sbuch r eligion,Neuausgabe 7/8, Ve r lag Mo r itz Dieste r weg Ve r lag, F r ankfu r t ammain, 1991 أحد كتب مادة التربية الدينية المقررة على الصفين السابع والثامن في إحدى الولايات الألمانية..
يعرض الإسلام على أن " كل مسلم مكلف بمقاتلة أعداء الإسلام، الذين لا ينصاعون للقرآن، تبعا لمبدأ الجهاد ، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى يمكن تحقيق الهدف السياسي المتمثل في جمع المسلمين العرب في دولة واحدة"
ومن المعلومات الساذجة اعتبار أن "أهداف الحج هي تقبيل الحجر الأسود والحق في ارتداء عمامة خضراء أو حمل لقب حاج كما أن موسم الحج ينتهي بوجبة فاخرة في مكان تدعى ( ميكا)"!
وفي كتاب آخر اسمه: Lesehefie Ethik, We r tc und No r men, Philossophie Islam; P r of. D صلى الله عليه وسلم D صلى الله عليه وسلم Pete r Antes und Manf r ed Poppe r l, E r nst Klett Ve r lag, Stuttga r t, 1.Aufl., 1990.
نرى الكاتب يسوق في ص10 حوارا في منتهى السخف بين ألماني وبين شابة تركية عفيفة ترتدي الحجاب وتلتزم بخلق الإسلام، يحاول فيه الألماني إقناعها بأن الحجاب دليل على التخلف، وقمع الرجل للمرأة، وأنه يحرمها من الذهاب إلى السينما وحياة الشباب.
والكتاب ينسب إلى طائفة الأحمدية التي يعتبرها إحدى طوائف الإسلام،كما يتوجب الإيمان " برسل الله كلهم، نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى وبوذا وكريشنا ومحمد"؟!
وأخيرا نجد في كتاب: Ku r sbuch r eligion 7/8, Leh r eband Cawe r Ve r lag, Stuttga r t, Dicste r weg Ve r lag, F r ankfu r t a. M., 1999.
وهو يختلف عن غيره، لأنه كتاب المعلم، بحيث نتعرف على ما يجب على المعلم تحقيقه في الدرس، لنجد تأكيد فكرة انتشرت أخيرا في ألمانيا، وهي " لا وجود لإسلام واحد، بل هناك أنماط كثيرة لهذا الدين، تختلف عن بعضها البعض بشدة". وتحذير المعلم من تأكيد أن "إلهنا وإلهكم واحد" لان المسلمين لا يقبلون بذلك، ويعتبرون هذا القول إهانة للذات الإلهية؟
وزعم -الكتاب- أن للشيخ في المسجد مكانة لا تسمح لأحد أن يعترض على تفسيره للآيات القرآنية!(15/145)
وأشار إلى أهميه الصلاة بالقول" إن محمدا طالما شدد على ذلك بقوله أقيموا الصلاة في القرآن"
وهنا يتضح لنا الخلط إن لم يكن التجاهل بأن القرآن ليس من عند الله (سبحانه وتعالى)!
روسيا:
كان العرض السوفيتي للتاريخ وللمسلمين قريب من الموضوعية خاصة في تناوله للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن حين انتهى العهد السوفيتي أصبح الإعلام روسيا تحت سيطرة شبه كاملة للوبي الصهيوني ونجد هذه الصورة جلية في المناهج الدراسية والتربوية في المدارس الروسية، وخصوصا في كتب التاريخ، وبالرغم من وجود مؤرخين و مربيين حافظوا على قدر من الموضوعية إلا أن الغلبة كانت للتيار المنحاز الذي غدت كلمة "عربي" أو "مسلم" صنوا للتخلف والتزمت وممارسة العنف والإرهاب.
ويقر مكسيم براندت مؤلف كتاب " تاريخ القرون الوسطى" للصف السادس بأهمية رسالة التوحيد ودورها في نقل العرب من حال الجاهلية ودركها إلى حال زاهرة لاحقا. إلا أن كتاب يكاترينا اغيبالوفا وغريغوري دونسكوي عن المرحلة ذاتها يحفل بالمغالطات وإخفاء الحقائق . إذ أن المؤلفين يحاولان ( ص72-73) اعتماد مبدأ "التبسيط الافتراضي" إن صح التعبير فيقولان: إن الإسلام " يعد المؤمنين بالشبع والمرح" في الجنة ويتوعد الكفار بـ " نار جهنم" ، وفي مكان آخر يزعمان " أن الإسلام يدعو إلى محاربة أبناء الديانات الأخرى" من دون كلمة واحدة كما ورد في القرآن عن احترام أهل الكتاب. ويزعم الكاتبان أن أهل السنة يختلفون عن الشيعة في كونهم" يعتقدون بوجود كتابين مقدسين هما القرآن والسنة".
ويحمل المؤلف العرب مسؤولية " السعي لتدمير دولة إسرائيل" ويرى أن ذلك سببا لاندلاع حرب 1948م التي قال : إن إسرائيل في أثرها " وسّعت بعض الشيء أراضيها!!" فالتلميذ سيعتقد أن الحديث يدور عن بضعة دونمات تم "غنمها" عقابا للعرب " المعتدين" ويظل جاهلا بان إسرائيل كادت تضاعف مساحة الأرض التي تحتلها.
وهكذا تتكون ملامح صورة العربي: الثري المتخلف والجاهل البعيد عن المدينة والطارئ على الحضارة، وتزداد الصورة قتامة عند مقارنتها بخصوم العرب من المستعمرين البريطانيين والفرنسيين الذين سعوا إلى "تمدين" المنطقة ولكنهم جوبهوا بـ" الجحود".
الهند:
أصدرت منظمة صلى الله عليه وسلم S.S (منظمة الخدمات القومية الهندوسية المتطرفة) عدة مؤلفات منها:
"سيدات المغول"، "تراث الحكم المسلم" و "نظم الحكم الإسلامي". وكانت عامرة بالمغالطات!
وأضحت هذه المؤلفات مصدرا أساسيا لواضعي المناهج الدراسية للمدارس الحكومية من قبل الوزارة أو المجلس القومي للبحث والتربية.
ومن النماذج التي تعكس صورة العرب والمسلمين في تلك الكتب :
- كتاب باللغة الهندية ذكر أن الرسول -محمد r- حينما بعث كان عمره 48 سنة، والكلمات والنصائح التي كان يوجهها الرسول إلى أتباعه سجلوها ثم جعلوها صحيفة سموها "القرآن"
- وفي كتاب التاريخ لتعليم الثانوية، جاء فيه أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - فر من مكة إلى المدينة
خوفا، فجعله (فرارا) وليس هجرة، وتلك إهانة وخسة.
- وورد في كتاب آخر في التاريخ لتعليم المتوسط: أن السلطان أورنك زيب (الذي عده الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله خامس الخلفاء الراشدين) جاء بأعمال معادية للهنادك. واتهموه بأنه قطع جسم أحد البراهمة "كوكل" إربا إربا، و أجبر أسرته لاعتناق الإسلام!
وكذلك أمر بقتل زعيم السيخ "كو بند سنكه" لأنه رفض أن يدخل الإسلام!
وأصدر أمره بأن يبلط ابناه بالجدران لعدم اعتناقهما الإسلام.
وبسبب هذه الإساءة إلى الشعب الهندي عامة والمسلمين خاصة، اجتمع المفكرون وأعضاء هيئة التدريس في المدارس والكليات والجامعات وأيدهم رجال الدين والمحركات الثقافية والتعليمية من المسلمين والبوذيين والمسيحيين والسيخ وغيرهم، وقدموا احتجاجهم الشديد وأصدروا قرارات رفعوها إلى وزارة التعليم والحكومة، ولم يعودوا إلا بالوعود بالتفكير!
إيطاليا:
تقول الدكتورة كورسيللي- والتي قضت فترة تقترب من عشرين عاما في تدريس المناهج المقررة على الطلاب الإيطاليين في المدرسة الإيطالية بالقاهرة- عن صورة الشخصية العربية: "إنها بصفة عامة تقدم بشكل سيء، وأن الانطباع العام الذي يمكن أن يخرج به الطالب من المناهج المدرسية هو أن العربي شخص متخلف حضاريا، وبعيد كل البعد عن أنماط التفكير الحديثة".
وتضيف أن المناهج الثابتة مثل التاريخ والجغرافيا، فهي تحتاج إلى تحديث، فلا تزال هذه الكتب تتحدث عن الصحراء وسكانها من البدو والحياة البدائية التي يعيشونها، متجاهلة ما طرأ على هذه الحياة من تقدم في جميع المجالات، وخصوصا في مجالات يعمل فيها الإيطاليون أنفسهم، مثل: البترول والكيماويات.(15/146)
وتقول: يمكن أن نلحظ تقدما في المعالجة الغربية للمجتمع العربي، فمن قبل كان ينظر إليه من المنظور الاقتصادي فقط، باعتباره رجل بترول ثريا ماليا متخلفا فكريا وحضاريا، أما الآن فهناك اتجاه لفهم التكوين الثقافي العربي ولدراسة اللغة العربية، وهناك أقسام للغة العربية في الجامعات الأوروبية حاليا، كما أن هناك جماعات من منظمات ومدارس وكليات تأتي لدراسة اللغة العربية في البلاد العربية. وكل هذا يصب في محاولة فهم العرب على نحو أفضل. ويمكن القول إن الثقافة أصبحت قبل الاقتصاد كمنظور للرؤية الأوروبية للعرب حاليا.
أسبانيا:
في مناهج التعليم الأساسي القديم في أسبانيا، كان يعرف الإسلام بما يلي: "هو الدين الذي ابتدعه محمد، يسمح بتعدد الأزواج ويأمر بقتل غير المسلمين، ويحرم الخمر والخنزير، لأن محمدا كان ثملا ذات يوم فعضه الخنزير، ولما استفاق حرم الخمر والخنزير معا"
من أكثر الأمثلة بشاعة حينها ما ورد في قاموس Tcso r o de la Lengua Castellana
يعرف القرآن بما يلي: "هو ذاك الكتاب اللعين المليء بالسخافات الذي ألفه محمد بمساعدة الأريسي الكافر يحيى الأنطاكي وعالم الرياضيات اليهودي أشكول! وهذا ما يجمع عليه المؤرخون الذين تناولوا حياة ذاك الشرير الفاسد المسمى (محمد)".
وحدث التغير والتصحيح الذي لم يصل بعد لبقية مناهج العالم..
حيث كانت المناهج المدرسية القديمة تذكر أن القرآن :"لاُ يعرف على وجه الدقة إن كان محمد مؤلفه أو ناقله"،وأن "النسخة المعتمدة هي من عمل سكرتيره زيد بن ثابت".
أما الآن فإن المناهج الحديثة تتحدث عن القرآن الكريم بموضوعية من حيث إنه كتاب المسلمين المقدس، وعن بدء الوحي، وجمع القرآن، وتقسيم نزوله....
لم تعد الأوصاف القذعية ترى في كتب المناهج الدراسية عن محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل: "المجنون، الذي ظن أنه تلقى وحيا من السماء، والذي ألف القرآن" بل حلت محلها أوصاف جديدة مثل: "الداعي إلى المثل الأخلاقية، الذي أوجد مدرسة متوافقة مع العقلية العربية".
- أما بالنسبة للجهاد، فقد قيل: "الحرب المقدسة هي أهم ما يأمر به الدين المحمدي"، فما زال التعريف للجهاد هو الأمر الوحيد الذي لم ينله تطوير المناهج الدراسية الإسبانية، وسبب ذلك هو أن العقلية الغربية تفرق بين الدين والدولة، فالدولة من حقها شن الحروب، أما الدين فلا.
فرنسا:
لا تفرق نصوص الكتب المدرسية في كتب القراءة الفرنسية في المرحلة الابتدائية بين مفردتي: "البدو" و"العرب" وتستخدمها بغير تمييز للدلالة على الشخصيات نفسها. وتتسم شخصيات "العرب"أو"البدو" في القصص بطابع الدونية إذا كانوا تابعين، أو بطابع عدائي إذا نجحوا في الهرب من نطاق نفوذ الشخصيات الفرنسية. ويبدو نقص الشخصيات العربية أو البدوية خلقيا وعقليا واقتصاديا ومهنيا حينما يتم مقارنتهم بصفات أو أدوار لشخصيات فرنسية في هذه القصص أو الكتب.
إن الصورة التي يمكن استخلاصها للعرب من تحليل كتب القراءة للمرحلة الابتدائية تولد لدى التلاميذ صورة مزيفة عن الآخرين وعن أنفسهم، فهي توحي للتلاميذ الفرنسيين اقتباسا من الماضي بإحساس التفوق الطبيعي، كما توحي للتلاميذ من ذوي الأصل العربي بإحساس سلبي ناشئ عن تحقير شأنهم وتشويه صورتهم.
وتصف كتب التاريخ الفرنسية أداء أوائل الأبطال الوطنيين الفرنسيين بالدفاعي البطولي المنتصر، بينما تميز العرب بمجموعة من الأفعال المعبرة عن التوسع أو العدوان.
أما كتب التاريخ الفرنسية للمرحلة الثانوية، فتتفق على تقديم مضمون الوحي الإسلامي والمبادئ الأساسية للإسلام، وتخصص لها مكانا مهما، ولكن لا يذهب أي كتاب إلى أبعد من هذا التقديم الشكلي للدين الإسلامي
ويجدر الإشارة إلى أن الكتب المدرسية للجمهورية الفرنسية الثالثة (1870-1914 م) كانت تصف الإسلام بأنه "دين مسخ ابتكره محمد الذي ادعى أنه نبي", لكن الكتب المدرسية الحالية تبدي احتراما أكبر للإسلام وتقدمه على اعتبار أنه دين توحيدي عالمي.
أمريكا:
رصدت اللجنة العربية لمكافحة التمييز (ADC) مجموعة من الصور النمطية السلبية الموجودة داخل مناهج التعليم الأمريكية عن المسلمين والعرب.
وقد قسمت اللجنة صور المسلمين والعرب النمطية السلبية إلى سبع مجموعات رئيسة، وهي:
- أولا: الصور النمطية العامة، وتصف هذه المجموعة العرب جميعا بأنهم "راكبو جمال"، "يضعون نشافات على رؤوسهم"، "عبيد الرمال"، "كل العرب مسلمون وكل المسلمين عرب"، "القبيلة"، "البدو"، "الواحة"، "الجمال"، "الصحراء"، "الحريم"، "الشيخ".
- ثانيا: صور نمطية عن العالم العربي، وتصور هذه المجموعة العالم العربي على أنه "ساحة تنافس يعيش فيها الأبطال الغربيون مغامراتهم العاطفية"، "ألف ليلة وليلة"، "الجن"، "البساط السحري"، "الأميرات"، "وزير شرير ظالم".
- ثالثا: صورة نمطية عن المسلمين، وتصور هذه المجموعة المسلمين على أنهم "سفاحون"، "إرهابيون"، "محاربون"، "مضطهدون للمرأة"، "الجهاد"، "الحرب المقدسة".(15/147)
- رابعا: صور نمطية عن الفلسطينيين، وتصور هذه المجموعة الفلسطينيين على أنهم "يحاولون تدمير إسرائيل وإغراقها في البحر"، "مفجرو طائرات"، "إرهابيون".
- خامسا: صورة العرب الصالحين، وهؤلاء ينظر إليهم على أنهم "شخصيات ثانوية دونية"، "سلبيون"، "قلما يكونون أبطالا".
- سادسا: صورة الرجل العربي، وينظر له على أنه "شيخ بترول"، "ثري جدا"، "مسرف"، "يريد شراء أمريكا بماله"، "طماعون"، "غير متعلمين"، "غير أمناء"، "ديكتاتور"، "فاسد"، "عنيف"، "بربري"، "يكره اليهود والأمريكيين"، "غير عقلاني"، "عصبي المزاج"، "يخطف النساء والشقراوات الغربيات"!.
- سابعا: صورة المرأة العربية، وينظر لها على أنها "مضطهدة من الرجال العرب والمسلمين"، "حريم مترفات"، "راقصات عاريات"، "سيدات جميلات يقعن في حب الرجل الغربي الذي ينقذهن من شر الرجل العربي"!، "أسيرات منازل"، "سلبيات"، "غير متعلمات"، "بلا وجوه ولا شخصيات ولا أصوات"!.
ولكن تناول هذه الصورة النمطية لا يكفي وحده لتقديم صورة منصفة عن الجهود التي تبذلها المنظمات الأمريكية المختلفة، الخاصة منها والحكومية لمكافحة تحيز المناهج التعليمية الأمريكية ضد أبناء الجماعات العرقية والدينية المختلفة بما في ذلك المسلمون والعرب. فمن الواضح أن في الولايات المتحدة حركة كبيرة وناجحة لمكافحة التمييز ونشر التعددية الثقافية.
وقد اكتسبت هذه الحركة زخما جديدا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر خصوصا فيما يتعلق بتعاملها مع قضايا التحيز ضد المسلمين والعرب في مناهج التعليم الأمريكية. ويمكن رصد هذا الزخم على مستويين أساسيين،
أولهما: اهتمام بعض أكبر المنظمات التعليمية الأمريكية بتطوير أبحاث ومناهج وبرامج دراسية تعالج مشكلة التحيز ضد المسلمين والعرب في المناهج التعليمية الأمريكية بعد أحداث سبتمبر 2001 م.
وثانيهما: اهتمام المؤسسات التعليمية الأمريكية المختلفة على شتى المستويات اهتماما كبيرا بدراسة أحداث الحادي عشر من سبتمبر من حيث أسبابها وأبعادها وآثارها، إلى الحد الذي دفع جامعة مثل جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس ((UCLA إلى وضع 49 مادة بحثية متعلقة بهجمات سبتمبر، الأمر الذي أدى إلى زيادة اهتمام هذه المؤسسات بتدريس المواد التعليمية التي تتناول المسلمين والعرب والإسلام والعالم الإسلامي.
تقول الباحثة مارفين وينجفيلد والباحث بشرى كارمان في دراسة لهما بعنوان "المعلمون الأمريكيون والصور النمطية عن العرب":
يتعلم الطلاب المسلمون والعرب في المدارس الأمريكية العديد من الأفكار الإيجابية عن تاريخ وثقافة جماعات أخرى عديدة، ولكنهم يفتقدون هذه الخبرة التعليمية الإيجابية عند الحديث عن الحضارتين العربية والمسلمة.
وقد وجه إدوارد سعيد نقدا واسعا للمؤسسات الأكاديمية الأميركية فيما يتعلق بأسلوب دراستها للإسلام في كتابه "تغطية الإسلام.. كيف يحدد الإعلام والخبراء رؤيتنا لبقية العالم؟" الصادر عام 1997، إذ يقول إن برامج دراسات الإسلام بالجامعات الأميركية تحددها في الغالب "الضغوط المعاصرة الملحة" المسيطرة على العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، كما يهيمن عليها عدد من الأفكار العامة المنعزلة عن الواقع وعما يدور في العلوم الاجتماعية الأميركية الأخرى.
ويرى سعيد أن الأوضاع السابقة جعلت من "المقبول أن يقال عن الإسلام (بالجامعات الأميركية) ما لا يقبل قوله عن اليهودية أو عن الآسيويين أو عن الأفارقة، وجعلت من الممكن أن تكتب دراسات (أميركية) عن التاريخ والمجتمعات الإسلامية تتجاهل جميع المبادرات الكبرى في نظريات التفسير الاجتماعي".
اسرائيل:
قبل أن نقوم بتقديم بعض من الكتب المقررة،أردنا أن نورد بعضا مما جاء في كتاب (المرتكزات والقيم التربوية الصهيونية):
- اعتبار فلسطين والهضبة السورية (الجولان) أرضا يهودية، والأقطار العربية المحيطة بها دولا أجنبية، لا علاقة لها بفلسطين قوميا، وعقائديا، وتاريخيا.
- اعتبار العرب -أصحاب الأرض الشرعيين- محتلين في قلب وطنهم فلسطين، واعتبار الفتح الإسلامي احتلالا، وغزوا تاريخيا للأرض التي تعتبر في نظر اليهود ملكا لهم.
- تعمد إغفال التاريخ العربي، والعربي الإسلامي في فلسطين في مختلف العصور.
- الادعاء المتواصل بوجود أرض وممتلكات لليهود خارج حدود فلسطين، في حوران وجنوب الجولان وفي الأردن.
- تحميل العالم بأسره مسؤولية ما جرى لليهود دون تمييز.
- اعتبار سائر المعابد والكنائس والمساجد أماكن أثرية يهودية، بنى المسلمون والمسيحيون دور عبادتهم ومؤسساتهم على أنقاضها، زاعمين أن الحرم المقدس الشريف أقيم على أنقاض هيكل سليمان.
وفي إطار هذه المرتكزات، والأهداف التي وضعها المؤلف -بتكليف من وزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية- قام عدد من المؤلفين الإسرائيليين بوضع الكتب الدراسية لمختلف المراحل. نورد بعضا منها، ومما جاء فيها:
كتاب: هذا موطني، تأليف/ ش. شكيد:
كل ما مر بالقدس ليس سوى غزوات عابرة حتى سعدت بعودتنا لتصبح عاصمة إسرائيل مرة أخرى.
شرق الأردن جزء من أرض إسرائيل.(15/148)
عن طريق استخدام القوة، يتعلم العرب بسرعة كيف يحترمون الحارس اليهودي.
وأيضا كتاب: وقائع شعب إسرائيل من ظهور الإسلام حتى استقلال الولايات المتحدة، تأليف/ ب.أحياه - و- م.هرفاز:
وهذا الكتاب مقرر للصف السابع ابتدائي. ويبرز فيه الحقد على الإسلام، وتزوير التاريخ العربي، وتنتشر فيه المغالطات الصارخة.
مثلا:
اعتبار الإسلام دين المحاربين، والزعم بأن اليهود قد أثروا في العرب، وأن الإيمان الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما كان استلهاما من اليهود. ويزعمون أن الرسول حاول اجتذاب اليهود إليه، فأمر أتباعه أن يتوجهوا في صلاتهم إلى القدس، وأن يصوموا يوم الغفران، وأن اليهود قابلوا ذلك بالسخرية، وعندما أدرك أنهم بعيدون عنه، غير موقفه تجاههم، وأخذ يقسو عليهم، وألغى صوم يوم الغفران، وعين صوما آخر يستمر شهرا يدعى رمضان، كما غير القبلة من القدس إلى مكة.!!!
وكتاب: علم التربية المدنية، تأليف/ شالوم أبخر، لطلاب المدارس الثانوية. والذي ورد فيه الكثير من الافتراءات على العرب، بهدف ترسيخ العداوة والحقد في نفوس الطلاب اليهود. ومن ذلك:
العرب يعدون لحرب إبادة ضد إسرائيل بحيث يقذفون بالسكان اليهود في البحر.
أغراض العرب الظاهرة والمعلن عنها ليس فقط احتلال المنطقة الإسرائيلية، بل أيضا الإبادة الشاملة للاستيطان اليهودي، لذلك فإن القتل الجماعي (المحتمل) الذي تتعرض له إسرائيل لا مثيل له في أي مكان آخر في العالم.
كما تدخل قصص الأطفال للطلبة اليهود ضمن الحرب النفسية التي تقوم بها السلطات الصهيونية لتقوية نفوس أبنائها، وتعزيز موقفها وغرس روح العداء والتفوق والاستعلاء في نفوس الأطفال.
لذا فقد عمدت السلطات الإسرائيلية إلى إصدار سلاسل من القصص لتحقيق غايتها.
ومنها: سلسلة قصص "داني دين". وهو شخصية أسطورية، خارقة، متفوقة قادرة على هزيمة العرب مهما كانت قدرتهم العسكرية.
وقد سأل البروفيسور (اديركوهين -أستاذ آداب الأطفال بجامعة تل أبيب) بعض الأطفال الإسرائيليين عن نوايا العرب تجاههم، فجاءت غالبية العبارات كالتالي "العرب يريدون قتلنا واحتلال مدننا وإلقاءنا في البحر" وهي العبارات التي انعكست وظيفيا في سلوك الأطفال الإسرائيليين في تعبيرهم عن الرغبة في التخلص من وجود العرب في فلسطين باعتباره وجودا لأجانب خطيرين يجب التخلص منهم، أولا إثباتا للحق اليهودي في الأرض، وثانيا لتجنب الخطر العربي.
=============(15/149)
(15/150)
مسلمو ألمانيا بين الخديعة والتحديات!
بسيوني الوكيل 23/2/1426
02/04/2005
رغم مضي نحو خمسة قرون على خروج الإسلام من أوروبا وسقوط الأندلس..فقد عاد الإسلام من جديد في أوروبا , وخاصة منذ منتصف القرن العشرين , ولقد اختلفت العودة الجديدة للإسلام إلى أوروبا عن قدوم الإسلام في المرة الأولى في منهجها وأسلوبها وأهدافها، وفي أوضاع أوروبا والدول الإسلامية ومن ثم أصبح المسلمون في دول المهجر خاصة الدول الإسلامية عامة، وكذلك الدول الأوروبية والأمريكية يواجهون تحدياً خطيراً يستدعي مواجهته بأسلوب بنّاء، ولعل من أبرز العوامل التي تساعد على حفظ الدين هو العلم بتعاليم الإسلام وشريعته، ويعتبر التدريس أفضل وسائل نشر العلم لما يتميز به من التنظيم والتدرج في توصيل المعلومة، ولكن الجدير بالملاحظة هو إقرار بعض الحكومات مثل ألمانيا تدريس الدين الإسلامي كمادة لأبناء الجاليات الإسلامية، فهل هو نوع من إبراز حرية الأديان؟
أم أنه وسيلة لإخراج جيل مسلم على شاكلة غربية غير النموذج الذي لا يقبله الغرب ـ المتشدّد ـ أي نموذج للإسلام حسب الطلب الغربي.
اتجاه جديد
يُعدّ تعليم الدين الإسلامي بالمدارس الحكومية الألمانية اتجاهاً جديداً؛ إذ لم يكن متوافراً في الماضي سوى الدروس الخصوصية لتدريس الدين الإسلامي والتي وُجدت منذ أن بدأت أول جماعة من المهاجرين الأتراك بالوصول لألمانيا في الستينيات.
ولكن مع بداية العام الدراسي في عام 2003 أعلنت بعض المدارس في ولايتي سكسونيا السفلى وبافاريا وفي مدينة برلين، في سابقة هي الأولى من نوعها عن تدريس مادة جديدة للطلاب المسلمين بهذه المناطق، ألا وهي الدين الإسلامي.
إذ أعلنت وزارة التعليم التابعة لولاية سكسونيا السفلى: إن هذا النموذج الجديد بتدريس الدين الإسلامي باللغة الألمانية للطلاب والطالبات المسلمين بالولاية التي يعيش بها حوالي (40) ألف طالب مسلم، تم اختباره في (8) مدارس للتعليم الابتدائي بالولاية بالتعاون مع بعض المنظمات الإسلامية بألمانيا.. مؤكداً أن الأبوين سيقرّران بمحض اختيارهما ما إذا كانا يرغبان في إدخال أولادهم لفصول تعليم الدين الإسلامي، مشيراً إلى أن تلك الفصول تهدف إلى دعم التآلف والاندماج والتسامح وفهم الدين الإسلامي بصورة صحيحة.
ضغط المسلمين
ونتيجة للطلبات التي تقدمت بها جمعيات إسلامية، وبعد سنوات عديدة من مماطلة وزارت التربية المحلية لم يقتصر النجاح في تدريس الدين الإسلامي على ولايتي بادن- فيرتمبرج وهيسن فقد حققت الجمعيات الإسلامية في العديد من الولايات نجاحاً نسبياً على مدى العقد الماضي في دفع وزارات التربية المحلية بها لاتخاذ خطوات نحو تدريس الإسلام.
ففي ولاية ساكسونيا السفلى، يشرف مجلس الشورى الذي يضم التجمعات الإسلامية بالولاية على تدريس حصص للدين الإسلامي في (8) مدارس بالولاية،
وفي برلين، يتولى الاتحاد الإسلامي في الولاية -المكون من (25) مؤسسة دينية- مسؤولية تدريس حصص للدين الإسلامي في (37) مدرسة حكومية يدرس بها (3200) تلميذ مسلم، وذلك تطبيقاً لقرار أصدرته المحكمة الإدارية العليا في برلين عام 2000.
وفي ولاية شمال الراين -التي تصل فيها نسبة التلاميذ ذوي الأصول الأجنبية في سن الخامسة عشرة إلى 32% من إجمالي عدد التلاميذ في نفس السن- أقرت المحكمة الإدارية الاتحادية في مدينة ليبزج عام 2005 بأحقّية المنظمتين الإسلاميتين؛ "مجلس الإسلام في ألمانيا" و"المجلس المركزي الإسلامي"، في التنظيم والإشراف على دروس التربية الدينية في المدارس الحكومية في الولاية.
وكانت وزارة التعليم في ولاية شمال الراين قد أبدت تفهّماً نسبياً إزاء التعامل مع قضية تدريس الدين الإسلامي في مدارسها، وبدأت الوزارة منذ عام 1999 في تجربة تدريس مادّة الدين الإسلامي كمادّة مقررة باللغة الألمانية على (5) آلاف تلميذ مسلم في (110) مدارس حكومية بالولاية. أما ولاية هامبورج فيتم تدريس الدين الإسلامي بالمدارس منذ نحو عام
الهدف دمج المسلمين
وتؤكد الوزارة أن تعليم الدين الإسلامي بألمانيا لا يُعدّ فكرة جديدة حيث إنه منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتحدة، يسعى صنّاع القرار السياسي بألمانيا لإيجاد حالات حقيقية من اندماج الجالية الإسلامية التي تقدر بـ(3.5) ملايين نسمة بألمانيا التي يبلغ إجمالي عدد سكانها (82) مليوناً.. مشيراً إلى أن فصول تعليم الدين الإسلامي ستهدف إلى تعليم أساسيات الدين وتعاليمه.
ولم يقتصر الأمر على المدارس فقد قامت جامعة مونستر بإنشاء قسم جديد بمركز الدراسات الدينية التابع للجامعة يتخصص في تقديم دورات تدريبية ودراسات لتأهيل معلمين يدرّسون الإسلام.
ويقول الدكتور محمد سفين كاليش المسؤول عن القسم الجديد بالجامعة: إن المعلمين المؤهلين سيتمكنون فقط من تدريس الإسلام في المدارس الإسلامية المتخصصة في تعليم القرآن في ألمانيا.(15/151)
وبرّر كاليش إنشاء هذا القسم بزعم"عدم توافر كفاءات مناسبة لتدريس الإسلام في المدارس الألمانية حتى الآن"، مشيراً إلى أن تأهيل هؤلاء المدرسين سيتم بصورة علمية لتخريج علماء يتناسبون مع الصورة التي ترغب فيها الحكومة الألمانية.
وتتضمن شروط الالتحاق بالقسم الجديد -بحسب كاليش- أن يكون الشخص المتقدم "مسلماً، وأن يكون مؤهلاً من قبل كمعلم، أو على الأقل قد بدأ في دراسة كيف يكون معلماً".
وأوضح قائلاً: "التدريس في القسم سيكون باللغة الألمانية؛ لأننا نرغب في أن يصبح الدين الإسلامي جزءاً من المجتمع الألماني؛ ولذلك فعلى المسلمين في هذه الحالة تعلم دينهم باللغة الألمانية وجميع المصطلحات المتعلقة بذلك حتى يستطيعوا أن يجدوا مكاناً لهم في المجتمع الذي يعيشون فيه".
مسلمو ألمانيا يتحفظون
رغم إعلان بعض الولايات الألمانية البدء في تدريس الدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين إلا الأمر ليس على ظاهره فقد عبر د. "أحمد خليفة" الأمين العام للجماعة الإسلامية عن تحفظه على مشروع تدريس الدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين في المدارس بولاية بافاريا، والمزمع تنفيذه، مشيراً إلى أن المشروع بصورته المعلنة لن يلبي احتياجات المسلمين التعليمية.
وبرّر "خليفة" ذلك بأنه لم يتم تحديد الجهة المخولة بالإشراف على وضع المناهج، كما أنه لم يوضّح محتوى هذه المناهج، ولا الصفات المطلوبة في المعلمين المرشحين للتدريس كقدوة أمام التلاميذ المسلمين.. وشدّد الأمين العام للجماعة -التي تدير عدداً كبيراً من المؤسّسات الإسلامية والمساجد في ألمانيا- على رفض معظم الهيئات الإسلامية الألمانية إشراف وزارة التعليم التركية على وضع المناهج؛ لأن عملية تدريس الدين الإسلامي هي عبارة عن توصيل المعلومة الدينية للتلاميذ المسلمين الموجودين في ألمانيا، وهو حق كفله الدستور الألماني للمؤسسات الإسلامية الألمانية وليس لسلطات خارجيّة.
ولعل هذا التحفظ جاء عقب إعلان وزيرة الثقافة في ولاية بافاريا السيدة "هول ماير" عزم الوزارة البدء في تخصيص حصص للدين الإسلامي باللغة الألمانية للتلاميذ المسلمين في خمس من المدارس الابتدائية الرسمية بالولاية.مؤكدة أنها
اتفقت مع وزارة التعليم التركية على خطة التدريس التي ستساعد على اندماج التلاميذ المسلمين في المجتمع الألماني وتكريس هويتهم الدينية.
عنصريّة أوروبيّة
ورغم أن المسؤولين رحبّوا بإدراج حصص التربية الإسلامية ضمن البرامج الدراسية، إلا أنهم اشترطوا وجود شريك في الحوار من الجانب الإسلامي ليكون مسؤولاً أمام السلطات عن إدارة برامج ومحتوى المواد التي ستدرس.
وكانت وزارة التربية المحلية في مدارس ولاية هيسن قد خصصت حصصاً رسمية للتربية الدينية للكاثوليك والبروتستانت واليهود والسريان الأرثوذكس والأرمن، وعدد آخر من الجمعيات الممثلة للطوائف الدينية في الولاية.
على النقيض من الموقف مع المسلمين رفضت الوزارة في هذه الولاية منذ سنوات تخصيص حصة مماثلة للدين الإسلامي للتلاميذ المسلمين في مدارس الولاية، رغم أن عدد هؤلاء التلاميذ يزيد في هذه الولاية عن (70) ألف نسمة؛ وهو ما يجعلهم ثاني أكبر مجموعة دينية من التلاميذ بعد التلاميذ النصارى، ورفضت وزارة التربية في هيسن أوائل التسعينيات طلبات تقدمت بها إليها منظمات إسلامية مختلفة لمنحها الحق في الإشراف على تدريس الدين الإسلامي في مدارس الولاية، وبررت الوزارة -حينذاك- رفضها بعدم اتحاد المنظمات الإسلامية في جمعية واحدة تمثل المسلمين أمامها.
لكن بعد اتحاد المنظمات الإسلامية في منظمة واحدة عام 1997 رفضت الوزارة طلباً جديداً بتدريس الدين الإسلامي متذرعة هذه المرة بأن تنوع المنظمات الإسلامية المنضوية في الهيئة الجديدة لا يعكس وحدة حقيقية بين المسلمين، كما أبدت الوزارة تشككها في تمثيل الهيئة الجديدة المكونة من (11500) عضو لجميع مسلمي هيسن المقدرين بنحو (300) ألف نسمة.
وتدخل وزير داخلية هيسن السابق "بوكل" في القضية، معتبراً أن رفض مؤسسة ديانات التركية -ذات الاتجاهات العلمانية- الاعتراف بتمثيل الهيئة الجديدة للمسلمين مبرر كافٍ لرفض طلب الهيئة.
كما انتقد المسلمون في ولاية شمال الراين المقدر عددهم بمليون نسمة قيام وزارة التربية بإعداد مناهج الدين الإسلامي في معهد المعلمين التابع لها، ولم تترك إعدادها للمسلمين مثلما فعلت مع المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت ومع اليهود.
==============(15/152)
(15/153)
سقوط أكاييف .. وبداية الزلزال في آسيا الوسطى
عبد الرحمن أبو عوف 20/2/1426
30/03/2005
لم يكن يدور بخلد الرئيس القرغيزي عسكر أكاييف أن تزوير الانتخابات البرلمانية التي جرت جولتها الأولى في السابع والعشرين من فبراير الماضي، والثاني في الـ13 من مارس سيكون بداية النهاية لنظامه .. فإصرار أكاييف على ضرورة سيطرته التامة على البرلمان، والتزوير الفاضح الذي شاب العملية الانتخابية لصالح ابنه وابنته الموالين له، أنهى إلى الأبد سطوته على الحياة السياسية في قرغيزستان، والتي بدأت عام 1990 وانتهت إلى كازاخستان المجاورة، وهو التاريخ الذي شهد اعتلاء أكاييف - وهو أكاديمي متخصص في الفيزياء- سدّة السلطة في البلاد قبل عام من تحقيقها الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي السابق.
وقبل أن ندلف في التطورات الحالية في قرغيزستان جدير بنا أن نذكر نبذة عن هذه الدولة الفقيرة، والتي استقلت في سبتمبر عام 1991 عن الاتحاد السوفيتي ؛ فقرغيزستان أحد جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، وتبلغ مساحتها (5و 198)ألف كيلو متر ويبلغ عدد سكانها (3و5) مليون نسمة 48 % منهم قيرغيز مسلمون، وأما باقي 52 % فيتوزعون ما بين روس وصينيين وأوزبك، وعديد من الأقليات الأخرى من طاجيكستان وكازخستان، ومنذ حصلت قيرغيزستان على استقلالها اختارت أن تسير في نهج الإصلاحات الشاملة، وهو ما أدى إلى تدهور حاد في الأحوال المعيشية لدولة تُعد من أفقر الدول في منطقة آسيا الوسطى لا يزيد ناتجها القومي على (3و1) مليار دولار، ولا تتمتع بكثير من الثروات الطبيعية اللهم إلا كميات قليلة من الذهب الذي وقفت الأوضاع المضطربة دون استثماره بشكل كامل تعود آثاره على الشعب الفقير.
الأوضاع الاقتصادية المتردّية لا تقف وحدها سبباً في اضطراب الأحوال في البلاد التي تنقسم إلى جزأين شمالي وجنوبي، ويسيطر أهل الشمال ومنهم الرئيس أكاييف ورئيس الوزراء تاتاييف على معظم المناصب القيادية ومقدرات البلاد الاقتصادية
غضب جماهيري
سيطرة الشماليين على الساحة السياسية والثروة الاقتصادية كانت تشكل هماً كبيراً لنظام أكاييف، فكثيراً ما علت أصوات الجنوبيين وخرجوا في مظاهرات، وتسببوا في اضطرابات أزعجت النظام الذي كان يوصف بأنه أكثر الأنظمة ليبرالية في منطقة آسيا الوسطى.
ورغم محاولات النظام احتواء هذا الغضب إلا أن الأمور بدأت تخرج من تحت سيطرته بنهاية عام 2002 عندما شهدت العاصمة بيشكيك مظاهرات شديدة طالبت بضرورة تبني النظام لإصلاحات سياسية، ووقف الحملات الأمنية على نواب المعارضة والكفّ عن معالجة شؤون البلاد بالنهج الأمني البحت، هذه المطالب كانت أول علامات نهاية شهر العسل بين أكاييف والشعب فالمظاهرات لم تكن في المدن الجنوبية فقط بل امتدت لغيرها فقوبلت من جانب أكاييف بإجراءات رمزية تمثلت في تشكيل لجنة تحقيق في الأحداث، وإلغاء قرارات زيادة أسعار المحروقات، ولكن هذه القرارات لم تفلح في إنهاء غضب الشعب؛ إذ واكبت التطورات تقديم أكاييف تنازلات للصين حول ترسيم الحدود بين البلدين، وهو الأمر الذي تنامى معه غضب الجنوبيين الذين يكنون عداءً بالغاً لنظامه وللصين، وأدى هذا التوتر بأكاييف إلى إقالة المسؤولين عن الأزمة وعلى رأسهم رئيس الوزراء.
تصاعد المعارضة
ومنذ ذلك التاريخ والمعارضة تزداد قوة وتكتسب أرضية جديدة وهو ما يعد خصماً من رصيد نظام أكاييف، ونمت حالة من الاحتقان الشعبي. الاضطرابات الشديدة في مناطق الجنوب التي تقطنها أغلبية أوزبكية قابلها أكاييف بعنف شديد وقصف جوي مكثف على مدينة أواش التي يزيد عدد سكانها على نصف مليون نسمة، وتُعدّ معقلاً للجماعات الإسلامية الأوزبكية التي فرت من عصف نظام كريموف المستبد، وكذلك ينشط فيها بعض الكوادر الإسلامية القرغيزية التي ما زالت في أول الطريق ويصعب وضعها في إطار تيار إسلامي حتى ولو كان معتدلاً.
المسلك العنيف لأكاييف ضد الجنوبيين فَقَد أي تعاطف شعبي، وأجبره على تقديم سلسلة من التنازلات لعديد من القوى الإقليمية والدولية عدها الكثيرون خطايا لهذا النظام البائد، ومن أوائل هذه القوى نظام كريموتف في أوزبكستان الذي كثيراً ما تحرشت قواته بحرس الحدود القرغيزي، وقصفت طائراته المدن الحدودية علاوة على قيام السلطات في طشقند بتلغيم المناطق الحدودية لمنع تسلل الإسلاميين، وإزاء هذا التحرش شنت قوات البلدين قصفاً مشتركاً للمناطق الحدودية تنفيذاً لبروتوكول وقّعه الطرفان للتصدي للإسلاميين وتصفيتهم أدّى هذا القصف إلى مصرع (2000) من نشطاء الحركة الإسلامية، ومئات من المدنيين نتيجة عشوائية القصف.
العداء السافر للإسلاميين(15/154)
وهذا القصف كما يرى المراقبون يُعد إجراء من مساعي أكاييف للجم موجات أوزبكستان والصين في أراضي قرغيزستان، حيث تمارس الدولتان ضغوطاً شديدة للعصف بالإسلاميين المتعاطفين مع المجاهدين الأيجور الصينيين الذين لهم امتداد في الأراضي القرغيزية والمعارضون لنظام كريموف، وقد حملت الضغوط المتتالية نظام أكاييف على القبض على الإسلاميين وتقديمهم لمحاكمات صورية ألقت بهم في السجون، وقوبلت بانتقادات شديدة من جماعات حقوق الإنسان، وهذه المحاكمات التي شكلت أول نواة في الجنوب لمعارضة حقيقية لحكم أكاييف.
تنازلات أكاييف المتعددة لم تقف عند هذا الحد بل إنه سمح للأمريكان بإقامة قاعدة عسكرية قرب العاصمة بتشكيك، وهي القاعدة التي تحولت إلى دولة داخل الدولة، وإضافة إلى موافقتها على حصول الرعايا الأمريكان على تسهيلات تكفل لهم حرية الدخول والخروج من البلاد دون قيود ناهيك عن حرية حمل السلاح.
قاعدة نفوذ صهيوني
يرى المراقبون أن الموافقة على إقامة هذه القاعدة كانت لخطب ود الأمريكان، وجلب حمايتهم لإنقاذ نظامه من طموحات الصين وأوزبكستان التي كثيراً ما تتحرش بقرغيزستان، وكانت آخر مظاهر هذا التحرش إحلال القوات الأمريكية لوادي سرجوب القرغيزي، والتهديد بقطع إمدادات النفط والغاز الطبيعي عن بشكيك إذا لم تسدّد ديونها بالأسعار التي حددتها طشقند.
لم يقف أكاييف في خطب ودّ الأمريكان عند هذا الحدّ لكنه حوّل بلاده إلى محطة لنفوذ الموساد الإسرائيلي الذي يتخذ من بشكيك مقراً للانطلاق إلى مناطق آسيا الوسطى للمشاركة بفعالية في الحرب المزعومة على الإرهاب لدرجة أن الوحدات الصهيونية التي لعبت دوراً مهماً في تصفية نظام طالبان والحركات الإسلامية في أوزبكستان كانت تنطلق من قرغيزستان.
فقر وفساد
تنازلات أكاييف التي قدمها بدون حساب، لم تفلح في تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد حيث يعاني أكثر من 30 % من الشعب من البطالة ويعيش أكثر من 70 % تحت خط الفقر بينما يعيش النظام وحاشيته في بحبوحة محروم منها غالبية الشعب، ويعد من الأمور العادية في البلاد بالإضافة إلى انتشار الفساد والرشوة، وكذلك لم ينجح أكاييف في إنهاء حالة الاحتقان السياسي كمدخل في مواجهة مع المعارضة بشقيها العلماني أو الإسلامي إن جاز القول بوجود تيار إسلامي، لأن هذا التيار لا يزال في أول الطريق، ولم يسبب إزعاجاً لنظام أكاييف، ولم يبدأ في لعب دور يذكر إلا بعد أحداث مارس الماضي عندما قصفت طائرات أكاييف وكريموف معسكرات لحزبي النهضة والتحرير الأوزبكيين اللذين يتخذان من منطقة الحدود القرغيزية محطة لانطلاق هجماتهم لإنهاء عصر نظام كريموف الدموي، ويكتفي النشطاء الإسلاميون حالياً بدور دعوي محض ويركزون جهودهم في إنشاء المساجد والمدارس الإسلامية لتوعية (2) مليون قرغيزي يعانون من تدني معارفهم الدينية لانقطاع صلاتهم بالعالم الإسلامي وافتقارهم للكوادر المؤهلة، وقيام السلطات بطرد منظمات الإغاثة الإسلامية المتعددة التي تعمل في البلاد في إطار الحرب الدائرة على هذه المنظمات بإيعاز من واشنطن التي تقدم معونات (800) مليون دولار سنوياً لإنعاش ميزان المدفوعات المنهار مقابل هذا التعاون في الحرب ضد الإسلام.
ويُعدّ هذا الاستعراض لخطايا نظام أكاييف والتي أدّت إلى إسقاطه بصورة لم يكن يتوقعها أحد حتى أكثر المتفائلين في صفوف المعارضة أو المراقبين الدوليين؛ فالدعم الأمريكي الصهيوني وحتى الروسي الذي كان يُقدّم لنظام أكاييف لم ينجح في لجم الغضب الشعبي العارم الذي قام بثورة قرنفلية أطاحت بالنظام في أقل من عشرة أيام وتكرارها في دول أخرى أمر مرجح جداً.
وكان غضب المعارضة العارم له ما يبرره؛ إذ إن أكاييف الذي زوّر الانتخابات كان يستعد لإحداث تعديل في الدستور يتيح له الاستمرار في السلطة لخمس سنوات قادمة رغم الوعود التي قدّمها في السابق بالتنحي نهاية هذا العام ولكن الشعب القرغيزي الذي أمضى أكثر من (70) عاماً تحت بطش العصابات الشيوعية انتفض ضد الفساد السياسي والاقتصادي الذي امتاز به حكم أكاييف الذي لم يفلح في تحقيق نهضة اقتصادية توجد لنظامه القدرة على مواجهة ثورة الشعب، وهي الثورة التي اندلعت قبلها في جورجيا وأوكرانيا، ويُنتظر لها أن تقض مضاجع نظم عديدة مجاورة مثل نظامي كريموف الدموي في أوزبكستان التي يواجه معارضة قوية، وصابر مراد نيازوف في تركمانستان الذي يعيش خارج إطار الزمن، والغضب على النظامين السابق ذكرهما يفوق بكثير ما كان يتعرض له نظام أكاييف الذي تخلّى عنه الصديق قبل العدو؛ فواشنطن التي سمح لها أكاييف بوجود عسكري لم يتعد موقفها الإعراب عن ضبط النفس للحفاظ على الاستقرار في البلاد، وكذلك موسكو التي لها قاعدة جوية بالقرب من العاصمة في التعاون مع النظام الجديد مبدية استعدادها لقبول أكاييف كلاجئ سياسي.
زلزال قوي(15/155)
ويتوقع المراقبون أن يكون سقوط أكاييف بداية لزلزال في منطقة آسيا الوسطى يطيح بالديكتاتوريات القائمة والتي لن يشفع لها موالاتها لواشنطن وموسكو اللتين لن تستطيعا التدخل لكبح جماح الشعوب التي عانت كثيراً من بطش هذه الأنظمة التي أذلت شعوبها وأقامت معسكرات تعذيب تفوق ما كان يقوم به النازي أو المجرم ستالين.. لذا فالمنطقة حبلى بالمشاكل، ولن يكون خلع أكاييف إلا بداية لسقوط مستبدين آخرين وهم كثير.
وعلى أي الأحوال فإن الأوضاع في قرغيزستان سواء الاقتصادية أو السياسية قد يحدث بها تحسن مطّرد ينهي المعالجات الأمنية للشأن السياسي ويخفف من القيود الشديدة المفروضة على المعارضة خصوصاً على الكوادر الإسلامية التي يتوقع لها أن تتنفس الصعداء، وتقطف ثمار جهودها وتنتهي للأبد مظاهر التمييز الذي عانى منها الجنوب القرغيزي ذي الهوية الإسلامية التي تظهر بجلاء في هويتهم ومساكنهم وملابسهم وهي المنطقة التي عانت من عصف نظام أكاييف طوال (15) عاماً.
==============(15/156)
(15/157)
محوريّة الجسد في خطاب المرأة
محمد العبدالكريم 20/2/1426
30/03/2005
مهما قال التأريخ عن الماضي والكبرياء عن المستقبل، ستظل المرأة "السعوديّة" رهينة لخطاب الجسد المتسرمد في روح الطرح الفكري عند المثقف السعودي، المسكون بالشك تجاه ثقافته العربية والإسلامية بأنها: ثقافة ذات جذور عنصرية تجاه المرأة، وأن الذي أعطاها بعض حقوقها ليس الإسلام بالطبع، فالإسلام في زعمه أكّد على مفاهيم "العيب" وأغلق منافذ الحرية.
إن محوريّة الجسد في الطرح العلماني تُعتبر أهم معيار لقياس الحقوق
فسيدة الأعمال والطبيبة.. لا يُقاس إنجازها وإنتاجها ما دامت تحترم جزءاً ولو يسيراً من أصولها وقيمها.
ولذا فإن فتاة تافهة متبذلة هي أكثر رقياً وقبولاً من أخرى مبدعة ومحافظة على الفضيلة بمعناها الشرعي ومفهومها الفطري .
إنه لمن المؤسف أن يسعى بعض أطياف هذا التيار إلى تكريس صورة نمطية لا تحتمل إلا خياراً واحداً، إما أن يكون نموذج الفتاة العصرية: نساء متبذلات خارجات عن نسقنا القيمي والأخلاقي، أو نحن متخلفون لا نعي معنى حقوق المرأة!!
والمشكلة لم تقف عند هذا الحد، بل زاد الأمر سوءًا: حين أغرق بعض "الوعاظ" في حماية الجسد، ورتب الدنيا وسنن الكون على فتنة النساء، فحرم المجتمع، وحُرمت كثير من المبدعات من الحضور والتواجد وأصبحن خلف "قضبان "الذريعة!
لقد آن الأوان كي يعرف الآخرون أن هناك نموذجاًَ مغايراً يضيف بعداً آخر إلى حماية الجسد، ويكرّس الحاجة محوراً رئيساً في التعامل مع المرأة، ويؤمن بأن العناية بعقلها وروحها ... يحميها ويعطيها كامل حقوقها.
فلا النموذج العلماني ولا الطرح "الوعظي" قادر على الخروج من مأزق الحقوق، فهما نقيضان متعاكسان، وكلاهما يفهم الحقوق من خلال معطيات الآخر، ويبني مشروعه من خلال ممارسات الإسقاط اللا أخلاقية المتبادلة بين الطرفين.
إن الهوس الجنسي والتعليقات والمسامرات والنكت الجنسية... هي منتجات لخطاب الجسد.
وأزعم أن المدخل الجنسي فيما يتعلق بشؤون المرأة صار مستحكماً في تفسير ما لها من حقوق وما يلزمها من واجبات، فلا غرابة أن تتعبّأ الثقافة الاجتماعية بالنظرة الجنسية خصوصاً مع تدعيمها بنظريات القبيلة وقيود العادات والتقاليد.
لا أريد الإسهاب في الحديث عن مركزيّة الجسد في خطابنا الثقافي بشتى أطيافه، فالحديث عن النتائج طويل وكارثي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولكن لعل في الانتقال إلى مفهوم المرأة في الثقافات الأخرى ما يؤكد على أنها ليست معزّزة أو مكرمة كما قد يتصوّر بعض المثقفين الذين يستلطفون الحديث عن المرأة الغربية، ويعجبون بها كنموذج وخيار لا حياد عنه للمرأة العربية.
وبداية أقول لقد حاولت في هذه العجالة التطواف على خزائن الآخرين شرقاً وغرباً حتى أنقل نظرتهم تجاه المرأة وما شاع في أدبياتهم عنها، فوجدت أن الأمثال والحِكم خير دليل في فهم ثقافة الشعوب.
هذه الأمثال والحِكم تختزل في جملها القصيرة ماهية المرأة وكنهها، وتعبر عن ثقافتهم تجاه النساء، وتعرب في الغالب عن نظرة دونيّة أشدّ مما يمكن أن يدركه كتابنا.
إن صورة المرأة عند اليابان يعبر عنها مثل سائد لديهم يقول: "الشيطان أستاذ الرجل وتلميذ المرأة".
بمعنى أن المرأة بلغت استحقاقها من السوء والخبث... حتى صارت أستاذة للشيطان عياذاً بالله، ونفس المعنى عند الإيرلنديين الذين يقولون: المرأة تغلب الشيطان.
أما في تراث الإنجليز فلهم أمثلة كثيرة منها:
ـ المرأة شعر طويل وعقل قصير!
ـ ومن تزوج امرأة لها ثلاث بنات تزوج أربعة لصوص.
ـ ولا سلاح للمرأة إلا لسانها.
ـ والنساء والجسور دائماً تحتاج إلى ترميم.
أما المرأة القبيحة فهي مرض للمعدة، والمرأة الجميلة فهي وجع للرأس.
ويقولون أيضاً: آخر ما يموت في الرجل قلبه وفي المرأة لسانها.
هذه الأمثال الشعبية في تراث الإنجليز ليس فيها مثل واحد يدل على احترام المرأة .
أما المثل التشيكي فهو يلغي الثقة بالمرأة: فلا تستند إلى الجدار المائل، ولا إلى المرأة. وعند البلجيك المرأة هي سبب الخراب فيقولون: يخرب البيت ثلاثة: زوجة شابة، وخبز جديد، وخشب أخضر.
وإذا انتقلنا إلى الفرنسيين الذين يعبدون الحرية، ويقدّسون جسد المرأة فهم يقولون:
ـ لا أصعب من أن تجد بطيخة طيبة وامرأة طيبة.
ـ والمرأة والمال يضيّعان الرجل.
ـ الرجل هو النار، والمرأة هي الحطب، وإبليس هو الهواء.
ـ سلاح المرأة لسانها فكيف تدعه يصدأ بعدم الاستعمال.
ثلاثة أنواع من الرجال لا يفهمون المرأة: الشباب والشيوخ والكهول.
أما الألمان فهم ليسوا بأقل نظرة من اليابانيين في تفوق المرأة على الشيطان في الخبث والدهاء فيقولون:
ـ مالا يقدر عليه الشيطان تقدر عليه المرأة.
ـ والشيطان يكفيه عشر ساعات ليخدع رجلاً، والمرأة يكفيها ساعة واحدة لتخدع عشرة شياطين.(15/158)
والمثل اليوناني يقول: (لا تثق بالمرأة حتى وإن ماتت) (وُعود المرأة تُكتب على صفحات الماء).وهناك مثل لاتيني يقول: (من له بيت هادئ ليست له زوجة) (وعندما تفكر المرأة بعقلها فإنها تفكر في الأذى). وأما الروس فيقولون: (الكلب أعقل من المرأة؛ لأنه لا ينبح على سيدة) ويقولون: (للمرأة سبعة وسبعون رأيا في آن واحد). البلغاري يقول: ( لا تثق بشمس الشتاء ولا بقلب المرأة ).
والسويدي يقول: (قلب المرأة يرى أكثر من عيون عشرة رجال) .
والألباني يقول: (لا شِجار بلا امرأة).
والدانمركي يقول: (الزوج الأصم والزوجة العمياء هما أسعد الأزواج).
والأسباني يقول: (المرأة كظلك اتبعها تهرب واهرب منها تتبعك). و(لا تثق بالمرأة الصامتة ولا بالكلب الذي ينبح).
والصيني يقول: (النساء كالحكام قلّما يجدن أصدقاء مخلصين).
و(يستطيع الرجل أن يحمي المرأة من كل رجل إلا نفسه). (والمرأة كالسجادة كلما ضربتها بالعصا تخلصت من الغبار العالق بها ونظفت). و(إذا أخفق الشيطان في التسرب إلى مكان أوفد إليه امرأة) .
وهناك الكثير مما قيل في المرأة في جميع الثقافات وعند كل الشعوب، والمتفق عليه بين معظم تلك الثقافات: أن المرأة أقل شأناً، وأدنى ذكاءً، وأقل عقلاً من أن يُجعل لها كل هذا الاهتمام والتقدير.
ونحن أيضاً لا نبرئ أمثلتنا الشعبية وثقافتنا الاجتماعية فهي مليئة بالتشوّهات التي أُضيف إليها بعد الجسد .
أما صورة المرأة في منظور الشريعة فيجب أن تتفاصل عن الثقافة الاجتماعية السائدة المعبّأة بالنقص والازدراء.
وما يوجد في شريعتنا من وصف للمرأة بأنها ناقصة عقل ودين قد بين في ذلك المعنى، ولا حاجة للخلط والإسقاط والإسفاف في الربط المتكلف الذي يمارسه بعض المتعالمين على شريعة الله.
وقد أشار المنفلوطي -رحمه الله- إلى معنى جميل حول وصف المرأة بنقصان العقل، وذكر الفرق بين العقل والذكاء، وأن الحديث لا يستنقص من ذكاء المرأة، ولكنه يشير فقط إلى نقصان العقل، والعقل يختلف عن الذكاء؛ لأن من النساء من تفوق الرجال ذكاءً وفطنة. بدليل أن اللص المحترف يوصف بالذكاء ولا تسطيع وصفه بالعقل
=============(15/159)
(15/160)
السياسة الأمريكية ..ومشروع الإصلاح في العالم الإسلامي
د. أنور هدام * / واشنطن 26/10/1426
28/11/2005
منذ الحرب العالمية الثانية - التي ضمنت الولايات المتحدة بعدها الحصول على منابع الثروة الحيوية عبر توظيف علاقات السوق- كان الهدف الأساسي للسياسة الأمريكية الخارجية هو كيفية ضمان رفاه الشعب الأمريكي في المقام الأول ، وذلك بعد أن ساهمت الولايات المتحدة في تقويض النظام النازي الذي سيطر على أوروبا ، وقامت بدورها من أجل إعادة بعث أوروبا الغربية لضمان استقلالها و أمنها أمام الزحف الأحمر.
لقد لاحظنا بأن الدعم الأمريكي فيما يسمى بمشروع مارشال كان مشروطا بتوحد أوروبا الغربية وتنسيق الجهود فيما بينها لتحديد أهداف الإقلاع الاقتصادي ، وتجاوز مشكلات التنمية مع الاحتفاظ بخصوصيات الشعوب وهويتها.
وقد أعقبت ذلك فترة من الاستقرار السياسي ، وتحرك عجلة الاقتصاد خاصة في أوروبا الغربية واليابان ، رغم مضاعفات ما يسمى بالحرب الباردة، وهو نفس الأثر الذي تركته السياسة الأمريكية في الكتلة الشرقية بعد نهاية الحرب الباردة و إعلان ميلاد النظام العالمي الجديد.
بينما نلاحظ أن بلادنا الواقعة في الحزام الأخضر بتعبير مالك بن نبي رحمه الله، أي بلاد العالم الإسلامي ، قد أُهملت ولم تستفد من هذه الجهود العالمية لتحسين أوضاع الشعوب ، كما حدث في أوروبا الشرقية أو أوروبا الغربية ، أو في جنوب شرق آسيا.
قد يبدو من غير الواضح التناقض الناجم عن إبداء الرغبة في تعميم قيم الديمقراطية وحرية التعبير واحترام اختيار الشعوب كما تعبر عن ذلك أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية خصوصا والغربية عموما ، بينما نجدها في نفس الوقت تغض الطرف عن السياسيات القمعية المنتهجة في أغلب الأنظمة الموجودة في منطقة الحزام الأخضر. وبقيت مطالب شعوبنا في تحرير الفضاء السياسي وتوسيع مجال الحريات العامة خاصة حرية التجمع وحرية التعبير والنقد ، لا تحظى بأي تجاوب لدى الساسة الغربيين.
يبدو أن هناك سياسة "غض الطرف" وسياسة "التجاهل" والتي قد تقود إلى مآس كبرى كما حدث ويحدث في فلسطين المحتلة ، وكما حدث في البوسنة والهرسك ، وفي أفغانستان وفي العراق وفي الجزائر وفي بوروندي وغيرها من الدول الأخرى.
إن الموقف السلبي حيال نداء الشعوب المسلمة ومطالبتها بالتحرر والتغيير السياسي السلمي الحضاري، جعل هذه الشعوب تبدي شكوكها تجاه السياسات الغربية المعلنة ، لأن هذه الازدواجية في التعاطي مع قضايا الشعوب تغذي نظرة المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين.
واليوم يتم الحديث من جديد عن الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي، ولم يعد هذا مطلب القوى السياسية الوطنية والإسلامية فحسب ، بل تحول إلى مطلب عالمي تسعى القوى العظمى لطرحه كألوية في سياساتها الدولية. ورغم أن القوى الديمقراطية الطامحة لتحرير شعوبها من هيمنة الديكتاتورية لا تزال تعاني الأمرين خاصة أن الأنظمة تستفيد من المناخ العالمي الخاص بما يُعرف بالحرب على الإرهاب، وتسوق نفسها على أساس أنها أكبر ضامن لمصالح الغرب في المنطقة، إلا أن الأوساط الصانعة للسياسة الغربية وخاصة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية ، بدأت تنظر للمسألة بشكل مختلف. حيث هناك محاولة لتصحيح الصورة والنظر للمسألة باعتبارها الأساس لمشكلة الفساد السياسي وغياب الديمقراطية الحقيقية.
وعلى أية حال، وبغض النظر عن الدوافع المختلفة التي تختفي وراء دعوى فرض الديمقراطية في العالم الإسلامي و لو بصورة شكلية وسطحية، إلا أن هذه النظرة تدل على حدوث تطور هام جدا في نظرة صانع القرار الدولي للمشكلات العالمية التي تؤثر على التوازن والسلم العالميين. وهذا التطور هو حصيلة عملية تقييم جادة لمرحلة الحرب الباردة هذه ، وأثرها السلبي على العالم الإسلامي، هذا التقييم الذي قامت به العديد من المؤسسات البحثية التي لديها تأثير واضح على صناع القرار الدولي في مختلف المواقع سواء في أروقة الأمم المتحدة أو في كواليس البيت الأبيض وقصر الأليزيه.
لقد خلصت هذه المراكز إلى أن دعم النظم الديكتاتورية الغاشمة لم يعزز السلم العالمي ولم يدفع بمسارات السلام إلى نهاياتها المتوقعة ، بل أحدث فوضى عالمية لم تكن متوقعة ،وسمحت بنشر الاضطراب في أصعدة أخرى خاصة مجال التوازن الاقتصادي ، الذي بات يلعب لصالح العمالقة الأسيويين وعلى رأسهم الهند والصين ثم بعد ذلك كوريا و تايوان و تايلاند وماليزيا وسنغافورة .. وأخيرا إمارة دبي التي أصبح نفوذها المالي ودورها في التبادلات الاقتصادية يتعزز يوما بعد يوم.
وفي المقابل تعرضت كثير من الشركات العملاقة ذات المنشأ الأوروبي إلى اهتزازات شككت في مدى نجاعتها الاقتصادية بداية من شركات النسيج الأوروبية التي قامت بتسريح أزيد من نصف عمالها ورمتهم في خنادق البطالة، ومرورا بشركات المواد الغذائية المعلبة التي فقدت السيطرة على الأسواق الدولية.(15/161)
في الولايات المتحدة لعبت لجنة الكونجرس في التحقيق في أحداث 11 سبتمبر دورا بارزا في طرح النقاش الجدي وذلك عندما طرحت السؤال: لماذا يوجد هنالك إرهاب؟ ومن ثم البحث عن جذور الظاهرة، وحيث يلعب الاستبداد السياسي دورا بارزا في صناعة الانسداد وغلق منافذ التغيير السلمي وتحويل الطاقة الشبابية المعطلة إلى قنابل بشرية موقوتة يمكنها أن تنفجر في أي حين.
ومهما قيل عن الإدارة الأمريكية الحالية، فإنه يبدو أنها المرة الأولى التي بدأ الحديث فيها عن جذور التطرف ليس فقط في الجانب الاجتماعي ولكن أيضا في الجانب السياسي الذي لا يسمح بتوزيع عادل للثورة ، واحترام قرارات الشعوب ، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد الاقتصادي وشيوع الرشوة والمحسوبية ، ومن ثم حدوث الاختناق الاجتماعي وبالتالي الانفجار السياسي والأمني.
لقد بتنا اليوم وللمرة الأولى نسمع كثيرا من صانعي القرار يتحدثون عن خطورة الاستبداد وخطورة الديمقراطية الشكلية ، باعتبارهما يمثلان تهديدا للسلم و الرفاه العالمي لأنهما يقطعان الأمل من القلوب، ويكرسان السلبية وروح الانتقام.
لقد دعت إدارة بوش الثانية إلى تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، تلك السياسة التي لم تتغير طيلة الستين سنة الماضية، ولأول مرة لم تعد مواقف الدول من القضايا الخارجية محل اهتمام فقط بل كذلك علاقات الحاكم والمحكوم وسياساتها الداخلية أيضا محل اهتمام شديد. وتحت وقع هذا الضغط الذي يمارسه "الأخ الأكبر" (Big B r othe r ) لبعض الأنظمة في المنطقة نجد تحسنا ملحوظا لملف العمل السياسي وملف حقوق الإنسان في بعض الدول. وهاهي الانتخابات المصرية الأخيرة تدل على أن هذه الأنظمة بدأت تفقد السيطرة .
وأما بالنسبة لمختلف القوى السياسية في العالم الإسلامي فعليهم أن يدركوا أن سرعة تحرك الأحداث الدولية والتطورات المختلفة التي يتداخل فيها السياسي بالأمني والاقتصادي بالأيديولوجي، أصبحت كبيرة جدا بالمقارنة مع السنوات الماضية ، ولذلك بات من الواجب على قوى التيار الحضاري أن تكون قادرة على قراءة الأوضاع بشكل صحيح ، وتفهم اتجاهات التاريخ كي تستطيع أن توازن بين خياراتها الإستراتيجية وفعلها اليومي الديناميكي ، وتكون لها قدرة لاستشراف المستقبل ، تسمح لها بتجنب جميع الانزلاقات والمطبات الدولية. وأي غفلة عن هذه السرعة الهائلة التي تحرك المسارات الدولية سيؤدي إلى فقدان السيطرة والموقع في الحدث الدولي بلا شك.
وفي ظل هذا التسارع اهتمت العديد من المؤسسات البحثية في العالم الغربي ومنها مؤسسة "راند" الأمريكية بمناقشة قضايا الإصلاح في العالم الإسلامي. والجديد في هذا المشهد الفكري أن هناك اهتماما متزايدا بدور الحركات الوطنية والحركات الإسلامية في قيادة منظومة العمل السياسي في هذه البلاد ، سواء تعلق الأمر بالنفوذ المتصاعد للمسلمين في الهند، أو الدور الفاعل للحزب الإسلامي في تركيا في تحييد الجيش ، والالتفاف على العلمانية الأتاتوركية المتطرفة ، أو تفاعلات المشهد السياسي الجزائري بين المصالحة الوطنية الحقيقية والمصالحة الاستئصالية ، التي تصنف المواطنين إلى درجة أولى ودرجة ثانية، أو مواطنين و "أنديجان"(1) كما كان يفعل الاستعمار الفرنسي.
وأحب هنا أن أقف بسرعة عند بعض أهم ملامح الموجة الإصلاحية الجديدة التي تصدر من الغرب ، وأجبرت معظم الدول الديكتاتورية المتسلطة على رقاب الناس في العالم العربي على تغيير سياساتها المحلية حتى تتحايل على المجتمع الدولي.
فشل التخويف بالحركة الإسلامية كإستراتيجية استئصالية :
نذ البداية كان رهان القوى العلمانية في العالم الإسلامي هو صناعة بُعبُع لتخويف الغرب به: "فإذا طالبتمونا بديمقراطية حقيقية فإن الوريث لنا هو التيار الأصولي والحركات الإسلامية". كان العلمانيون يتصورون أن صناعة هذا البُعبٌع كافية لإبعاد شبح المطالبة بالإصلاح الحقيقي القائم على التعددية الفكرية واحترام إرادة الشعب ، وتوقيف المهازل الانتخابية التي تسيرها عصابات التزوير المفضوح.
لقد كانت إستراتيجية التيار التغريبي هي التلويح المستمر بخطر "الغول الأصولي" الذي يريد إعادة الناس إلى القرون الوسطى، من أجل الحفاظ على المكاسب غير الشرعية ونهب المال العام. فمن خلال التلويح بهذا الغول كانت النظم التي تساقطت شرعيتها وفقدت مصداقيتها تريد أن تخلد نفسها في سدة الحكم، وتبرر كل السياسات القمعية الدامية التي راح ضحيتها مئات المواطنين الأبرياء في مصر وسوريا والعراق وتونس والمغرب والجزائر وغيرها. وأصبحت معظم هذه الدول تسير عن طريق الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ ومجالس معينة في شبه انتخابات لا ترقى إلى أدنى مقاييس النجاعة القانونية والديمقراطية.(15/162)
لكن الغرب بدأ يتخلص من النظرة النمطية التي كان يسوقها دعاة العلمانية العربية عن الحركات الإسلامية. ونظرة بسيطة للكتب والمنشورات التي طبعت في العالم الغربي حول التيار الإسلامي في السنوات الأخيرة تجعلنا نقف على مادة فكرية وبحثية راقية ، تراوحت بين رسائل الدكتوراه ودراسات بحثية ألقيت في ملتقيات فكرية ، خصصت لبحث مشروعات الحركة الإسلامية وعلاقتها بالغرب وبمفهوم الإصلاح وبالديمقراطية.
ومن الواضح في هذه الدراسات أن معظمها بدأ يفرق بين صورة الحركة الإسلامية كما يروجها الكتاب المرتزقة وأئمة العلمانية المتطرفة و الأنظمة الديكتاتورية القمعية ، وصورتها الحقيقية من خلال العودة إلى خطابها ومواثيقها ورصد حركتها في الشارع الشعبي.
فالنظم الديكتاتورية والكتاب التغريبيون يسعون لترويج صورة المجموعات الهامشية التي يراد إلحاقها وتصنيفها ضمن نسيج الصحوة الإسلامية. وعادة ما تكون هذه التيارات الهامشية تتبنى أفكارا غاية في البساطة والسذاجة ، والأخطر من ذلك كونها تيارات قابلة للاختراق الأمني ، ومن ثم التوظيف السياسي والإعلامي و المخابراتي متى احتاجت الأنظمة لذلك.
وفي نفس الوقت تقوم هذه الأنظمة بتجاهل الصوت الإسلامي العريض المعتدل الوسطي لأنها تعتبره خطرا حقيقيا على وجودها ويهددها باستمرار في مهمة سيطرتها على شؤون الدولة والمجتمع خارج إطار الشرعية.
بدأ الباحثون في الغرب يهتمون بالنسيج الإسلامي العريض المعتدل، بل هناك بعض الأصوات لا تخفي رغبتها في إدماج هذه الأصوات المعتدلة في العملية السياسية حتى يتم الفصل بينها وبين قوى الميوعة أو الإرهاب.
وفي ظل هذا الحرج والضغط المتزايد على الأنظمة عمدت هذه الأخيرة لبناء واجهات "إسلامية" مزيفة ، واستعمالها كجزء من الديكور الديمقراطي المغشوش. وهو نفس ما قام به الاستعمار عندما حارب بلا هوادة حركة الإصلاح الإسلامي ممثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، وقام بالترويج لكل أنواع المتدينين المزيفين سواء كانوا من بعض الطرق الصوفية المنحرفة البعيدة عن التصوف الحقيقي ، والتي اعتبرت الاستعمار قضاء وقدرا ومن يحارب الاستعمار فهو يحارب قضاء الله وقدره، أو تلك التي مارست أصناف التضليل الديني وتشويه سمعة ومكانة العلماء.
أملنا أن يعود التيار التغريبي لصوابه و أن لا يحاول معاكسة أو عرقلة عجلة التاريخ، فإن عالمنا الإسلامي يمر بمرحلة دقيقة، حيث إن الظروف الدولية و الإقليمية و المحلية تفرز اليوم فرصا تاريخية من أجل إقدام مختلف بلدانه على إصلاحات حقيقية تمكن شعوبنا من إقلاع حضاري.
الديكتاتورية وباء يجب أن يحاصر
لأول مرة يقف رئيس دولة أمريكي ليقول للعالم بأننا أخطأنا طيلة ستين سنة في دعم النظم الديكتاتورية في العالم ، سواء نظام ماركوس في الفلبين أو الأنظمة العسكرية القمعية في أمريكا الجنوبية أو غيرها من النظم في العالم العربي وفي أفريقيا وآسيا.
هذا الاعتراف لم يأت من فراغ بل هو حصيلة تقييم دقيق لمخاطر تصعيد الضغط على الشعوب ، وحكمها بأنظمة ورقية تستند فقط إلى لغة القمع والقتل والتعذيب ومصادرة حرية التعبير والرأي .
إن الاستبداد خطر على النمو الاقتصادي ، وخطر على حركة التبادل الدولي ويؤدي في حالات كثيرة إلى اضطراب أسعار العملات و تذبذب أسعار النفط ، وكلها عوامل تؤثر في استقرار النمو الاقتصادي.
إن هذه الحساسية المفرطة تدفع الجميع إلى نبذ كل أشكال الديكتاتورية والاستبداد المحلي والعالمي، وقديما قال ابن خلدون رحمه الله:"الظلم مؤذن بخراب العمران". و هذه القاعدة الاجتماعية التي استخلصها العلامة ابن خلدون هي التي يبدو أن منظري العلاقات الدولية اليوم قد فقهوها جيدا ، و أملنا أن يتحرك السياسيون على ضوئها ، و أن لا يصغوا لتحرشات الدكتاتورية و أكاذيب استخباراتها.
لقد شدد العديد من الباحثين و المختصين في السياسة الدولية على أهمية خلق دينامكية جديدة في العالمين العربي والإسلامي ، وذلك بفسح المجال لجميع القوى الوطنية والإسلامية الفاعلة في مجتمعاتها ،حتى تتخلص هذه المجتمعات من بذور العنف وتتجه نحو البناء والتعمير.
و للأسف نجد أن هذه الأنظمة تعمل على التمديد في عمرها وذلك بتحويل العنف إلى سلوك ومنهج سياسي تقايض به المجتمع الدولي دون اهتمام بصحة المجتمع المحلي واستقراره ونموه الاقتصادي.
حتى إذا خفتت حدة الصراع وتراجعت يشهد المجتمع دون سابق إنذار موجة جديدة من العنف غير المبرر. وفي نفس الوقت نجد إعادة تأهيل العنف حتى يتحول إلى عنف اجتماعي واسع النطاق. وإلا كيف نفسر إلقاء القبض على أكثر من 500 شخص في شهر رمضان الماضي في بلد مثل الجزائر بتهم العنف الاجتماعي المدني. ألا يدل هذا على أن العنف بدأ يتهيكل في أشكال جديدة ؟ ومن يعطيه قوة الحركة ؟ أليست هي الدوافع القائمة على الهروب من الواقع المؤلم المشبع بصور الإحباط والبطالة.(15/163)
لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو كيف ستقوم هذه الأنظمة بتغيير جلدها حتى تتكيف مع موجة الإصلاح التي أصبحت مطلبا دوليا قبل أن تكون مطلبا سياسيا وطنيا ، وضرورة اجتماعية ملحة؟
وإذا أردنا الحديث عن إصلاح حقيقي في مجتمعاتنا الإسلامية لا بد أن نقف عند محطات أرى بأنها هامة جدا، ودونها لا يمكن الحديث عن الإصلاح الحقيقي:
الإصلاح السياسي أم الإصلاح الحضاري ؟
من المغالطات الكبرى حصر المشكلة في الإصلاح السياسي فقط. وكأن المشكلة تتعلق بالجانب السياسي ، دون النظر إلى العمق الحضاري للمشكلة الذي يؤثر بشكل كامل على كافة المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية و الاقتصادية. وحيث العامل السياسي على أهميته يتحول إلى الجزء البارز من جبل الجليد فقط.
ولذلك رؤيتنا أن تجزئة عملية الإصلاح وتحويلها إلى عنوان جديد لمعركة سياسية يختزل أبعاد التغيير الحقيقية. فالتغيير شامل له بعد حضاري لا ينحصر فقط في المشكلة السياسية. فمجتمعاتنا في حاجة ماسة ليس فقط إلى انتخابات نزيهة وديمقراطية حقيقية ، ولكن إلى ضمان الحريات وحقوق المواطنة لجميع فئات المجتمع دون تمييز، وإلى فعالية في مجال التربية واستقرار اجتماعي وأسري ، واعتزاز بالهوية الثقافية واحترام ثوابت الأمة والمجتمع ، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإلى تأسيس دولة القانون القائمة على الحق والعدل لتكون أداة في يد المجتمع تمكنه من إقامة النظام المجتمعي الذي يرضاه ، وإلى تنظيف الخدمة العامة والإدارة من الفساد والرشوة والمحسوبية ، وإلى نمو اقتصادي... فكل هذه المجالات هي جزء من عملية ديناميكية شاملة.
وأول خطوات الإصلاح تنطلق من الإنسان من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية ، و إعادة ثقته بنفسه ووطنه ومجتمعه و أمته ، وتعزيز فعاليته الاجتماعية وتقوية دوره في حركة التاريخ الاجتماعي، حتى لا يشعر بالدونية و التهميش.
من شروط الإصلاح :
إن التيار الحضاري، كقوة حية وفعالة يحتاج إلى مزيد من التأمل في فرص التغيير و الإصلاح التي يوفرها الوضع الجيوسياسي العالمي، خاصة أن الخط الأصيل استطاع أن يحافظ على مسافة متوازنة بينه وبين النظم الديكتاتورية ، والممارسات التي تخل بالتزامات الحركة اتجاه المجتمع. وهذا ما يجعل مصداقيته الاجتماعية والتاريخية لا تزال قوية يمكن استثمارها لتقوية قناعة المجتمع بأهمية تحمل المسؤوليات التاريخية.
ولا يمكن الحديث عن الإصلاح السياسي فضلا عن الإصلاح بالمفهوم الحضاري الشامل دون السعي المنهجي لضبط الخطوات العملية الممكنة. لأنه لا يعقل أن تستمر كل من الحركات الإسلامية والوطنية في طرح الشعارات دون البرامج العملية الميدانية الواقعية.
ولذلك فإنني أحاول أن أساهم في إثارة هذا النقاش الحيوي ، وذلك بطرح العناصر التالية كعوامل تعزز التحرك نحو الإصلاح بمفهومه الشامل.
و إلى جانب تنمية روح النقد البنّاء وتعزيز ثقافة العمل والفعالية ، علينا تكثيف الجهود الوطنية من أجل:
تعزيز دور المجتمع المدني
إنه لمن الخطأ التصور أن التغيير يخضع دائما للعامل الواحد والمؤثر الواحد، بل برهنت التجربة أن هناك عدة عوامل تتضافر فيما بينها لتصنع الوجه الجديد وفجر النهضة.
و لذلك لا يمكن القول إن العمل السياسي وحده هو مفتاح التغيير. وهذا ما جعلنا نحن في مدرسة البناء الحضاري الدعوية نقف مبكرا ضد الطرح الذي أراد أن يذوب العمل الإسلامي في العمل السياسي، ويجعل الحزب السياسي بديلا عن الدعوة.
فالسياسة ليست هي كل شيء، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية أعقد وأكبر هي عملية التغيير الحضاري الشامل.
لقد كانت هناك كثير من القوى تجذبها العناوين الكبرى والأضواء البراقة ، ولكنها لا تستطيع أن تفهم سير عجلة التاريخ في الاتجاه الصحيح وتضمن استقرار وسلامة جميع الراكبين.
وهذا ما يجعلنا نعترف بأن اهتمام الحركة الإسلامية بالمجتمع المدني عمليا وميدانيا لم يكن بمستوى التحديات المطروحة. ورغم أن حركة البناء الحضاري التزمت جانب التحفظ ولم تشارك كمؤسسة باقي القوى في ركوب موجة تأسيس الأحزاب ـ حيث اكتفت بدعمٍ بالرجال والمشاريع لأول تجربة سياسية للصحوة الإسلامية بالجزائر ـ إلا أنها رغم ذلك لم يُسمح لها بتطوير تجربة مستقلة تهدف إلى تطوير وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، فـ "الجمعية الإسلامية للبناء الحضاري" كانت أول الجمعيات الثقافية التي طالها الحظر ظلما وعدوانا غداة 11 يناير 1992.
لقد بات من الواضح اليوم أن الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني سواء هيئات حقوق الإنسان أو الجمعيات الخيرية أو الثقافية أو جمعيات خدمة الدعوة والمساجد التي تتولى استكمال نقائص الفعل الرسمي وعمل الدولة مهمة جدا وتحتاج إلى عناية خاصة من أبناء الحركة الإسلامية. فهذه المؤسسات تطلق طاقات المجتمع من أجل الإبداع والتطوير وتكون بعيدة عن لغة المزايدات والتراشق الإعلامي ، لأن كل من ينتسب لمثل هذه المؤسسات يكون هدفه هو أداء الواجب أولا وقبل كل شيء قبل النظر لأي حق من حقوقه الشخصية.
عزل المتطرفين: المغالين والمائعين(15/164)
إن التطرف في أي اتجاه ليس من خلق أصحاب الرسالات ولذلك كان الإسلام ضد التشدد وضد التميع، الأمر الذي يدفع قوى التغيير الجادة لخط طريق مستقل بين هذين الحدين المتناقضين، حد الغلو وحد الميوعة.
ففي الجزائر مثلا، ربما لم تنتبه الحركة الإسلامية عندما جرفتها الأحداث التي أعقبت 5 أكتوبر 1988 إلى خطورة هذا الطابور الخطير الذي ينمو في هوامش الفعل الدعوي الوسطي. فهناك المتسلقون الذي جعلوا الدعوة مطية لمكاسب ومناصب ثم تنكروا لها وأصبحوا يخافون من الانتساب لها. وهناك من يزايد على الدعاة الشرفاء والعلماء الأجلاء ، ويتهمهم بالتقصير في حق الإسلام والدعوة ، ويصبح يتعامل معهم و كأنهم قوى شيطانية.
ولذلك فإن السير في الخط الوسطي الإسلامي المتوازن ليس بالأمر الهين كما يتصور البعض. فالدعوة بين مرونة تكسبها التوازن أو مرونة تفقدها هويتها وتذيبها في بحر المتاجرين بمكاسب العمل الإسلامي ، من أجل مصالح شخصية وفئوية.
هذا بالنسبة للتطرف المحسوب على الحركة الإسلامية بالجزائر، و أما بالنسبة لباقي بؤر التطرف المحسوبة على التيار التغريبي الاستئصالي ، والتيار المدافع عن حقوق الإخوة الأمازيغ ( البربر ) و ثقافتهم، فربما الحركة الوطنية هي الأخرى تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية بحكم استحواذها منذ فجر الاستقلال على السلطة السياسية في البلاد ، و لو بصفة الواجهة للسلطة الفعلية الغامضة والغير الدستورية ، التي لا تزال تهيمن على مفاصل الحكم في البلاد. فكبت الحريات و القبول بنظام الحزب الواحد وعدم توضيح حقيقة مكانة الجيش و أجهزة الاستخبارات ، و تدخلها غير الدستوري في صنع القرار ورسم سياسات البلاد ، و الإفراط في الدعوة إلى القومية العربية على حساب الإسلام المكون الأساسي للشخصية الجزائرية و العنصر الموحد للبلاد، ، أدى إلى دفع الكثير من أبناء شعبنا إلى التطرف في ميولهم لثقافة المستعمر الفرنسي ، والبعض الآخر إلى نزعات الانفصال الخطيرة التي أصبحت تهدد بالفعل المصالح الإستراتيجية لبلدنا بل و لكامل منطقتنا في شمال إفريقيا.
آن الأوان للاعتراف بحق أبناء الصحوة الإسلامية في المشاركة في عملية الإصلاح الحضاري، بما فيه حق السياسيين المنتمين للحركة الإسلامية دون تمييز للمشاركة في الساحة السياسية،
إن الإصلاح الحضاري الشامل لا يكون إلا بالخروج من دائرة المشكلات الوهمية التي تعرقل مسيرة المجتمع ، والنظر بعيدا للمشكلات الحقيقية التي تتعلق بموقع الجزائر في المنظومة الدولية ومكانتها بين الأمم.
هل نحن مؤهلون كي نساهم في الحضارة الإنسانية المعاصرة ؟ وهل يمكننا أن نشارك في النشاط الاقتصادي العالمي مثل شعوب كوريا واليابان .. واليوم أيضا الهند.. وفي الغد القريب ستبرز فيتنام؟
ذلك هو الرهان الحقيقي! وتلك هي تحديات المستقبل!
فهل من متبصر؟!
* رئيس البعثة البرلمانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية في واشنطن
(1) كلمة فرنسية معناها "الأهالي" كانت تطلق على سكان الجزائر الأصليين
==============(15/165)
(15/166)
مقاربات في مواجهة المشروع الأميركي
محمد سليمان 9/12/1423
10/02/2003
يخوض الفكر العربي اليوم مخاضا كبيرا في مواجهة التطورات الأخيرة في الساحة العربية، والتي تبلورت في الحملة الأمريكية على العراق، حيث يحاول هذا المقال رصد وتحديد عدة اتجاهات ومقاربات فكرية في التعامل مع الأزمة الحالية -من خلال معالمها التي تبدو في معمعة المخاض- وقراءة مقولاتها وأبرز أفكارها، دون وضع أي تقييم لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه الاتجاهات ترتبط بالأزمة والتفاعل معها، ويقترن قوة وضعف كل منها بطبيعة التطورات والنتائج القادمة.
استهلال: جدل الفكر والواقع
تفرض التحولات التاريخية والأزمات الحضارية ظلالها على حركة الفكر وعلى إنتاجه، وكما قيل "المفكر ابن عصره وحضارته"، وقد شهد الفكر العربي في مسيرته الحديثة والمعاصرة عدة مخاضات فكرية نتجت عن متغيرات واقعية، وأنتجت اتجاهات فكرية متعددة اختلفت في رؤيتها وتحليلها للواقع، ومنهج التعامل معه، وكان لكل اتجاه منها أنصاره ومقولاته ورؤاه.
فقد شهد الفكر العربي في مواجهته لآثار ونتائج الحملة الفرنسية -التي كشفت عن حجم التأخر والتخلف في العلوم والفكر العربي- مخاضاً فكريا كبيرا أنتج توجهين أساسيين: الأول يدعو إلى الاستفادة مما وصلت إليه الحضارة الغربية في العلوم والثقافة، والثاني يصر على التراث وعلى رفض الإفادة من الغرب.
بينما أنتج هذا المخاض الفكر العربي في مواجهة الاستعمار عدة اتجاهات فكرية، أبرزها: الاتجاه التحريري؛ الذي يرى ضرورة الوقوف في وجه المستعمر ومحاربته وتغليب هذا الجانب على الجوانب الأخرى، بينما غلب على اتجاه فكري آخر جانب التأثر والانبهار بما وصلت إليه الحضارة الغربية والحداثة، فدعا إلى السير حذو الغرب وأدار ظهره للتراث والهوية، ودعا إلى الاستفادة من الاستعمار والتعايش معه، بينما الاتجاه الثالث والذي تمثل في المدرسة الإصلاحية؛ فقد نظر إلى الأمر من زاوية المسيرة الحضارية للأمة العربية والإسلامية، ودعا إلى تغليب جانب "المراجعة الحضارية" والهم التنموي والنهضوي، وكان واضحا اهتمام هذا الاتجاه بالقضايا التربوية والثقافية والاجتماعية على القضايا السياسية.
بينما تجلّى مخاض الفكر العربي في مرحلة الحرب الباردة والاستقلال، عن عدة اتجاهات فكرية انقسمت في أغلبها إلى اتجاهين: إسلامي وعلماني، وداخل كل اتجاه تفرّعت عدة اتجاهات معرفية وأيدلوجية، واستمر التناحر والتصادم بين هذه الاتجاهات على المستوى النظري وعلى المستوى الحركي ملقية بظلال كبيرة على الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي، إلى أن انتهت الحرب الباردة، وانهار الاتحاد السوفييتي، وضعف الاتجاه العلماني بشكل كبير لصالح الاتجاه الإسلامي، والذي شهد في مرحلة التسعينات ثورة حقيقية على مستوى الساحة الشعبية العربية.
وكملاحظة أولية: لا أجد أنّ الفكر العربي قد شهد مخاضات فكرية في فترة التسعينات كالتي تفاعل معها سابقا، بقدر ما تجادل مع عدة قضايا حيوية على المستوى النظري والحركي؛ الإسلام والديمقراطية، الحوار القومي-الإسلامي، حوار أم صدام الحضارات، نحن والعولمة،…. إلاّ أنّه ومع نهاية القرن العشرين، وحدوث عدة تطورات سياسية كبيرة: مثل تدهور العملية السلمية، تجدد الانتفاضة وبروز الظاهرة "الاستشهادية" بشكل كبير، وتقهقر جيش الكيان الصهيوني من جنوب لبنان، ثمّ أحداث 11 سبتمبر، وما تلاها مما يسمى بالحرب على الإرهاب التي أعلنتها الولايات المتحدة في بناء عملية اصطفاف دولية حادّة بما يخدم مصالحها، وتبلورت هذه الحرب بشكل كبير في أفغانستان، وفي الملاحقات الدولية لخلايا "الإسلام المسلّح"، ثم الحملة الأمريكية الحالية على العراق، يبدو أننا أمام مخاض فكري كبير، بدأ يتبلور من خلال المناظرات والجدالات والرؤى في الساحة الفكرية والثقافية العربية.
بيد أننا وقبل الولوج إلى طبيعة هذا المخاض وتفاصيله الأولية، لا بد أن نلقي الضوء سريعا على طبيعة الحملة الأمريكية على العراق وأهدافها الحقيقية، وتداعياتها ونتائجها المتوقعة..
الحملة على العراق: الأهداف والنتائج:
من الواضح تماما أنّ تفاعل الفكر العربي اليوم مع الحملة الأمريكية على العراق ينبني على إدراك لأهداف وطبيعة الحملة، والتي يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
1. القضاء على النظام العراقي الحالي، والسيطرة على المقدرات العراقية من الثروات الطبيعية، وإقامة حكومة عراقية موالية للولايات المتحدة تعمل على الحفاظ على مصالحها في المنطقة، بما في ذلك عقود النفط بما يخدم الشركات النفطية الأمريكية الكبرى. ويتضمن ذلك التخلص من الخطر العراقي المتمثل في الإمكانيات الكبرى التي يمتلكها العراق ولا تمتلكها أغلب الدول العربية -باستثناء الجزائر إلى درجة كبيرة- في الجمع بين: النفط والأرض والعقول البشرية والخبرة العلمية والموقع الاستراتيجي.(15/167)
2. بناء إجماع استراتيجي مؤيد للولايات المتحدة من باكستان حتى البحر المتوسط، وتجديد فكرة النظام الشرق أوسطي، لكن هذه المرة بالاعتماد على عامود جديد في السياسة الأمريكية هو العراق -ما بعد صدّام حسين- وإدماج كل من العراق والكيان الصهيوني وتركيا والدول الحليفة للولايات المتحدة في تحالف ونظام سياسي-اقتصادي، يتناسب مع المصالح الأمريكية والنفوذ الأمريكي في المنطقة، ويعمل على محاصرة الدول الممانعة -إلى الآن- للأجندة الأمريكية مثل سوريا وإيران، سعيا إلى تغيير سلوكهما في المنطقة .
3. الحفاظ على وجود عسكري أمريكي في المنطقة يتيح للولايات المتحدة التدخل -عند الحاجة- للحفاظ على مصالحها في المنطقة ودرء الأخطار المحتملة.
إلاّ أنّ أبرز ما في الأهداف الأمريكية، هو الدرس الذي تعلمته الولايات المتحدة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، والذي لخصه مارتن أنديك بقوله" إنّ خطأ واشنطن الوحيد في الشرق الأوسط هو دعم نظم فشلت على نحو مستمر في تلبية الاحتياجات الأساسية لشعوبها، إن هذه النظم فضلت التعامل مع مشكلة حرية التعبير عن الرأي السياسي في بلدانها عن طريق توجيه المعارضة ضدنا". . هذا الدرس المرتبط بالإجابة على تساؤلات رئيسة طرحها الفكر الأمريكي حول السبب الذي يدفع عددا من الشباب من الدول العربية إلى مهاجمة الولايات المتحدة في عقر دارها، والذي ربطه المفكرون والمنظرون الأمريكان بالظروف السياسية والاقتصادية السيئة التي يعيشها المواطن العربي، والناتجة عن فشل الحكومات الموجودة في الإدارة وبسبب الفساد السياسي والقمع والتهميش..الخ. في هذا السياق برز مفهوم "الدولة الفاشلة" الذي انطلقت منه استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بعد 11 سبتمبر، ومن ثم مبادرة كولن باول وخطاب ريتشارد هاس -رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية- والتي تركز جميعها على سعي الولايات المتحدة إلى إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية وثقافية في العالم العربي. فسياسيا: ستسعى الولايات المتحدة إلى تشجيع مزيد من الإصلاحات الديمقراطية وحقوق الإنسان وإثارة الأقليات… ولو بشكل صورة ودعاية، أما اقتصاديا: ستعمل الولايات المتحدة على تشجيع التحول نحو اقتصاد السوق وبرنامج صندوق النقد الدولي، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وثقافيا: من خلال إصلاحات تعليمية وتشجيع الثقافة المتغربة والليبرالية والمؤسسات التي تعمل على نشرها.
لقد أنتجت التطورات المتلاحقة والتي تلبّست بها الحملة الأمريكية على العراق ضعفا وأزمة لدى الأنظمة العربية الحالية، نطلق عليها: "أزمة الشرعية المزدوجة"؛ حيث تعاني هذه الأنظمة من ضغوط وأزمة عدم رضا من قبل الولايات المتحدة بسبب اتهامها بالفساد والفشل في التعامل مع إدارة دولها ومجتمعاتها، كما تعاني في ذات الوقت من أزمة شرعية في علاقتها مع شعوبها، والتي تتهمها بالفساد الداخلي والعجز الخارجي أمام الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية.
في إطار هذه الحالة العامة تأتي الحملة الأمريكية على العراق والحرب المرجحة القادمة كـ "مفتاح ذهبي" لتنفيذ مشروع "الهيمنة الأمريكي" الذي يرمي إلى تحقيق الأهداف السابقة من خلال نوعين من القوة، صنفهما الخبير الأمريكي جوزيف ناي إلى: النوع الأول؛ قوة سياسية واقتصادية وعسكرية Ha r d powe r ، والنوع الثاني؛ قوة النموذج الأمريكي في الحياة الثقافية والاجتماعية، والذي يعتمد على القيم والأسلوب الأمريكي في الحياة، ويتسلل إلى ثقافة الشعوب وأخلاقهم ورؤيتهم للحياة Soft powe صلى الله عليه وسلم
إذاً الحملة الأمريكية لا تقف عند حدود العراق وإنما تنطلق من العراق لبناء هيمنة كاملة على المنطقة، ولا تكتفي الإدارة هذه المرة بالسيطرة على الحكومات، وإنما تتوجه للتأثير بشكل أكبر على الشعوب، من خلال دعم النخب والمؤسسات الليبرالية والمنظمات غير الحكومية. ولعل هذا الطموح الأمريكي قد عبّر عنه أكثر من مسؤول أمريكي بالقول إنّ تحرير العالم الإسلامي سيبدأ من العراق والسلطة الفلسطينية بالتخلص من الحكام الموجودين، وبناء أنظمة ديمقراطية على الطريقة الأمريكية. مستغلين "مناطق الحرج" في الواقع السياسي العربي الحالي.
في مواجهة هذه الحملة وهذه الظروف التاريخية الحرجة والتي تنبئ بتغييرات حاسمة في المستقبل القريب، أين يقف الفكر العربي؟ وما هي الاتجاهات الرئيسة في التعامل مع هذه الحملة؟..
المخاض الفكري في مواجهة الحملة:
يشهد الفكر العربي اليوم مخاضا فكريا كبيرا في مواجهة الحملة الأمريكية على العراق ونتائجها المتوقعة، ويمكن رصد وقراءة معالم عدة اتجاهات فكرية تبرز في معمعة هذا المخاض، ويبدو أنّ أبرزها هي الاتجاهات الثلاثة التالية: اتجاه المقاومة والمواجهة، الاتجاه الليبرالي الغربي، اتجاه المراجعة الحضارية،
ولكل اتجاه مؤيدون ومقولات رئيسة..
أولاً/ اتجاه المقاومة والمواجهة:(15/168)
يستمد هذا الاتجاه رؤيته من تعريف الوجود الأمريكي في الدول العربية على أنّه احتلال، والمشروع الأمريكي بأنّه "مشروع هيمنة" يسعى إلى السيطرة على المنطقة لفترة طويلة؛ لضمان عناصر أساسية من القوة الأمريكية في القرن القادم في مواجهة القوى المنافسة العالمية الأخرى، ويسعى إلى تحقيق المصالح الأمريكية والصهيونية على حساب الأمة وكرامتها ومقدراتها.
ويتبنى هذا الاتجاه مجموعة كبيرة من المفكرين الإسلاميين والوطنيين، والذين يرفضون القبول بمقولة أنّ الولايات المتحدة تسعى لإيجاد إصلاحات سياسية واقتصادية، فأي إصلاحات تسعى إليها الولايات المتحدة وهي تدرك تماما أنها على المستوى السياسي ستأتي بالخيار الشعبي الحر المناقض للتوجهات والمصالح الأمريكية، وأي اقتصاد سيتحسن وأمريكا تستنزف خيرات الشعوب العربية، وتسيطر على ثرواتها، بل إن النمو الاقتصادي الأمريكي يستند أساسا على الفشل الاقتصادي في العالم الثالث، وبالتالي فالإصلاحات الاقتصادية والمطلوبة هي لإحكام الطوق حول المواطن العربي وأمله بالتحرر من الواقع الاقتصادي والسياسي المتدهور الذي يعيش فيه.
إذاً يرى هذا التيار أن الشر كله يتمثل في المشروع الأمريكي القادم إلى المنطقة، لكن ماذا بخصوص ميزان القوى الذي يميل لصالح الولايات المتحدة بشكل كبير، في ظل التفرد على المستوى الدولي وضعف النظام الإقليمي وعجزه عن مواجهة الحملة الأمريكية بل وخضوعه لها، وفي ضوء عجز الشارع العربي والقوى المحركة له عن بلورة استراتيجية شعبية عربية لإحداث تغييرات نوعية تنقل الحالة الشعبية العربية من الإحباط والغضب إلى العطاء السياسي التحرري المؤثر؟
يجيب أنصار هذا التيار بأنّ الرؤية التي يحملها هذا التساؤل في قراءة الظروف الحالية لموازين القوى، هي رؤية قاصرة تنظر إلى "السطح السياسي" دون التدقيق بقانون حركة الشعوب القائم على انتصار حركات التحرر الوطني ومشاريع مقاومة الهيمنة الأجنبية، ويضرب هذا الاتجاه المثال بما حدث للقوات الأمريكية في فيتنام، وفي لبنان، وفي الصومال، بل حتى الحوادث المتفرقة التي تحدث في العديد من الدول العربية ضد القوات الأمريكية.
هذا في حالة نجاح الولايات المتحدة في الحرب على العراق وفي إقامة الحكومة الموالية التي تريد، حيث يشكك هذا الاتجاه بذلك ويراهن على أن الولايات المتحدة لن تتهور إلى الحرب، ولكنها إذا فعلت تكون قد أدخلت المنطقة في حالة من الفوضى الإقليمية، فالشعوب والدول ليست أحجاراً على رقعة الشطرنج، وإنما عقائد ووجود ومصالح تحكم الحركة السياسية بكليتها.
كما يؤكد هذا الاتجاه على ضرورة مقاومة ومواجهة المشروع الأمريكي بكافة السبل السياسية والعسكرية، ويغلب جانب التحرير والمقاومة على كل الجوانب الأخرى: الاقتصادية والتنموية، ويرى هذا الاتجاه أن من خصائص الشعوب العربية الظاهرة الاستشهادية؛ والتي تبين أن هذه الشعوب تفضل الموت على القبول والاستسلام لسيطرة الآخر المستعمر والغازي، وأن حل مشكلات العرب والمنطقة ابتداء لا تكون إلاّ بمواجهة المشروع الأمريكي- الصهيوني وعدم التصالح معهما؛ إذ إنهما مصدر البلاء والمشاكل التي تعيشها الأمة العربية اليوم.
ثانيا/الاتجاه التغربيي الليبرالي:
يقوم هذا الاتجاه الفكري على تقييم الحالة العربية في الصراع والتنمية السياسية والاقتصادية بالفشل والضعف، بعد قرن كامل من المخاضات الفكرية والسياسية.
ويرى هذا الاتجاه أن المشروع الأمريكي القادم في المنطقة هو مشروع يدفع باتجاه تحرر الشعوب العربية من الأنظمة القمعية الفاسدة التي مكثت على قلبها فترة طويلة من العمر، وأنه مشروع يدفع بحركة المجتمعات والدول العربية نحو الواقعية السياسية والاقتصادية وشروط الدخول إلى المستقبل، والتحرر من الصراعات السياسية والأيدلوجية التي لم تساهم سوى في إفقار وضعف الشعوب العربية.
ويرى أنصار هذا الاتجاه أنّ الخلاص العربي من الحالة البائسة الضعيفة التي يعيشها هو في القبول بما يحمله المشروع الأمريكي -وثيقة الأمن القومي الأمريكي، مبادرة كولن باول- من الدعوة إلى الإصلاحات السياسية والاقتصادية والثقافية، مما ينقل العالم العربي والمنطقة إلى التفاعل الصحيح مع مقتضيات العولمة والانفتاح السياسي والاقتصادي، ويساهم في تحسين الوضع السياسي والإنساني للشعوب العربية، فالمشروع الأمريكي هو بداية لحلم التغيير العربي نحو العالم الحر المتقدم الواقعي.
ويرى هذا الاتجاه أنّ الأنظمة العربية والصراعات والشعارات والأيدلوجيات لم تزد الشعوب العربية إلاّ بؤسا وتخلفا بينما العالم يتقدم ويعالج مشكلاته بواقعية، ويقوم هذا الاتجاه الفكري على مجموعة من الكتاب والباحثين العلمانيين الليبراليين، والمؤسسات البحثية التي تتلقى تمويلا من الغرب، ومراكز حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية، غالبا مرتبطة بمصالح أو علاقات بمؤسسات أمريكية، لكنها لا تحظى بقبول شعبي كبير، وتدعو إلى الاستمرار بالتسوية السلمية وتعميق العلاقة مع الولايات المتحدة.
ثالثا/ اتجاه المراجعة الحضارية:(15/169)
يقترب هذا الاتجاه الفكري في رؤيته العامة من طرح المدرسة الإصلاحية التي كانت في بداية القرن الماضي ونهاية القرن السابق، والتي كانت تدعو في لحظات المواجهة مع القوة الاستعمارية الغازية إلى بناء القوة الذاتية للأمة؛ لأنها هي القادرة على مواجهة الاستعمار، وإلى معالجة المشكلات الثقافية والاجتماعية التي تحول دون التطور الذاتي، وكانت هذه المدرسة تسعى إلى النهضة التعليمية والفكرية والثقافية والاقتصادية، التي تصلح شأن الأمة وتقوي عوامل الممانعة فيها ضد الأمراض الذاتية التي تتيح الفرصة للمستعمر الغازي وللفساد الداخلي، وكان تأكيد واهتمام هذه المدرسة ينصب على مواجهة التخلف والعمل على النهوض الحضاري.
ثم جاء مالك بن نبي فيما بعد وطوّر مفهوم "القابلية للاستعمار"، ووضع نظرية النهضة وشروطها، في محاولة للفت الانتباه إلى أنّ المشكلة ليست سياسية، وإنما ثقافية حضارية، وأن مشاكل الأمة تحل عندما يتحرر الإنسان العربي من السلبية واللافاعلية إلى العطاء والصناعة والإنتاج.
لقد انخفض صوت هذا الاتجاه كثيرا في النصف الثاني من القرن العشرين أثناء مرحلة الاستقطابات والصراعات السياسية/الأيدلوجية الداخلية، ثم عاد ليقوى ويتعزز مع نهاية الحرب الباردة، وإخفاق الدول العربية في صراعها مع الكيان الصهيوني ومع التنمية في الداخل، وظهر زخم كبير له في السنوات الأخيرة مع عودة العديد من الباحثين والمؤسسات العلمية لقراءة عصر النهضة. وجاء تقرير التنمية الإنسانية في العالم العربي أخيرا ليعزز ويؤكد مقولات هذا الاتجاه من الإخفاق الشديد للعالم العربي في معالجة قضاياه ومشكلاته الذاتية .
وفي الوقت الذي لا يرى فيه هذا الاتجاه أن حل مشكلات العالم العربي يأتي من خلال الحملة الأمريكية، ويرفض أيضاً قبول أن الحل بالاتجاه غربا وإدارة الظهر للتراث والهوية، فإنه في المقابل يرفض مقولات مدرسة التبعية بتحميل الاستعمار كل مشكلات العالم العربي، ويرى أنّ الأسباب الداخلية هي التي أوجدت هذه المشكلات فضلاً عن الأسباب الخارجية، ويرى هذا الاتجاه أن الحل يكمن بالسعي للنهضة الحضارية والثقافية والاجتماعية لمواجهة التخلف بعيدا عن الصراعات السياسية التناحرية الداخلية التي أفقدت الشعوب العربية كثيرا من طاقاتها .
ويرى هذا الاتجاه أنّ المشروع الأمريكي والحملة على العراق تأتي لتكشف عن أعراض ونتائج المرض وليس أسبابه، وبالتالي مواجهتها تكون بالمراجعة الذاتية للحضارة العربية، والسعي نحو التقدم والخروج من حالة التخلف، ويرى هذا الاتجاه أن مقاومة ومواجهة المشروع الأمريكي تتم في بناء عناصر القوة الذاتية للأمة، فالجزائر خاضت حرب التحرير ضد المستعمر، وقدمت مئات الآلاف من الشهداء، لكنها تعود اليوم لتقف على أبواب صندوق النقد الدولي والدول الأوروبية طلبا للمساعدة في إدارة شؤونها الداخلية، والدول العربية لم تزد بعد الاستقلال إلاّ بؤسا وإهداراً للثروات، وسوءاً في الإدارة، وإذا كانت الدول العربية تعيش حالة من الاستبداد والقهر السياسي والتهميش الاقتصادي، فالحل لا يأتي من الخارج أو من الأمريكي الذي يسعى خلف مصالحه على حساب مصالحنا، وإنما الحل في إزالة القابلية للاستبداد، وبناء المناعة ضده
===========(15/170)
(15/171)
نحن والكافرون
إن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها... في هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة، تكاد تجتثّها من أساسها، لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها عز وجل.
ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء ، وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء ، واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة ، وبالغ في تصويرها محبي الشهرة والبروز : عقيدةُ الولاء والبراء ...
زاد الأمر خطورةً، عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطاً أو تفريطاً. وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات ...
نحن المسلمون.. أصحابُ دين ومنهج، ربنا وخالقنا هو الله ..
ونبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ..
نحن المسلمون .. أصحاب عقيدة صافية تدكدك كل معلم أو إشارة تنبئ عن الميول والروغان عنها.
نحن المسلمون ..لا ينقطع بنا الدرب ، ولا يفوتنا الركب ، ولا تنهار بنا القوى ، ولا تيبس لدينا أوراق الهدى ...
نحن المسلمون ..أنصار الدعوة إلى السنة والعقيدة الصحيحة مهما علا صوت الباطل ، ومهما ظهرت نواقيس العداء..
نحن المسلمون .. خرج منا علماء ربانيين، أناروا طريق السالكين، وأرشدوا كل التائهين، وهدوا كل الحائرين، وتميز في صفنا علماء جهابذة في العلوم الطبيعية والعلوم التقنية وفي العلوم الأخرى.
نحن المسلمون.. رزقنا الله بالتوحيد الخالص الذي نور الله به كلِّ أفقٍ وبقعة في في هذه الديار ،فازدهرت الأرض به بعد قحْط، وارتوت به بعد ظمأٍ وهلكة ، وأنقذ الله به عباده من ظلمات الجهل والشرك والتذلل لغيره سبحانه . وكان ذلك على يد الإمام المجاهد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يعاونه على ذلك ويشد أزره الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى ...
نحن المسلمون.. أصحاب لا إله إلا الله ، نرجوا بها السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ... نحن المسلمون.. مصابون بدعاةٍ من بني جلدتنا يهاجموننا ويغزوننا في الصميم ، ويتعرفون على نقاط الضعف فينا حتى يؤصلوا في مجتمعاتنا الولاء للكافرين والبراء من الصالحين.
ونحن.. واجبٌ علينا أن تقدِّرَ لهذا التحدي قَدْرَه، وأنْ نعرف أنّ اليومَ يومٌ له ما وراءه ، وأننا نواجه حَرْبَ استئصالٍ حقيقيّة لعقيدة الولاء والبراء ...
نحن المسلمون.. لا يخفى علينا أن (الولاء والبراء) محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ كل دين أو مذهب ...
وعلى هذا فالولاء شرعاً، هو : حُبُّ الله تعالى ورسوله ودين الإسلام وأتباعِه المسلمين ، ونُصْرةُ الله تعالى ورسولِه ودينِ الإسلام وأتباعِه المسلمين ...
والبراء هو : بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله تعالى (من الأصنام الماديّة والمعنويّة : كالأهواء والآراء)، وبُغْضُ الكفر (بجميع ملله) وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه ...
هذا هو معنى الولاء والبراء في الإسلام ...
فهو معتقدٌ قلبيٌّ ، لابُدّ من ظهور أثره على الجوارح ، كباقي العقائد ، التي لا يصح تصوُّر استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِه ...
وعلى قَدْر قوّة استقرارها في القلب وثبوتها تزداد دلائل ذلك في أفعال العبد الظاهرة ...
وعلى قَدْرِ ضعف استقرارها تنقص دلائلها في أفعال العبد الظاهرة. فإذا زال هذا المعتقد من القلب بالكلية، زال معه الإيمانُ كُلّه ...
يقول فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء : (فمن أصولِ العقيدةِ الإسلاميةِ أنَّه يَجبُ على كلِ مسلمٍ يَدينُ بهذه العقيدةِ أنْ يوالىَ أهلهَا ويعادىَ أعداءَها فيحبُ أهلَ التوحيدِ والإخلاصِ ويواليهِم، ويُبغِضُ أهلَ الإشراكِ ويعاديهِم، وذلك من ملةِ إبراهيمَ والذين معه،الذين أُمِرْنَا بالاقتداءِ بهم،حيث يقولُ سبحانه وتعالى: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) (الممتحنة:4).
وهو منْ دينِ محمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ.قال تعالى: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )). (المائدة:51).
وهذه في تحريمِ موالاةِ أهلِ الكتابِ خصوصاً وقال في تحريمِ موالاةِ الكفارِ عموماً: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) (الممتحنة:1) .
بل لقد حرَّم على المؤمنِ موالاةَ الكفارِ ولو كانوا من أقربِ الناسِ إليه نَسَباً،قال تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)) (التوبة:23).(15/172)
وقال تعالى: (( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )). (المجادلة:22) انتهى كلامه حفظه الله ...
وأقرأ هذه الآيات التي تُنبِّهُ بمطالبة المؤمنين بعدم موالاة اليهود والنصارى ، وذلك لأن اليهود لا يوالون إلا اليهود، وأن النصارى لا يوالون إلا النصارى ، وأنهم جميعاً يتبرأون من المسلمين ...
قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) (آل عمران : 116-120).
وقد يشكك المرجفون بأن عقيدة الولاء والبراء تمثل العنف وتمثل الصورة المشوهة للإسلام ... ولا شك في أنها إحدى أُسُس الدين الإسلامي العظام وهذا يعني أنّها لابُدّ أن تصطبغ بصبغة الإسلام الكبرى، وهي الوسطيّةُ والسماحة والرحمة .
فقد قال الله تعالى عن نبيّ صلى الله عليه وسلم : ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء : 107) .
(فالولاء والبراء) مادام أنه من الإسلام ، فهو وَسطٌ وسَمْحٌ ورحمة. لايشك في هذه النتيجة مسلم ، ولا غير مسلم : إذا كان منصفاً .
ومع ذلك فلا بُدّ من بيان عدم تعارض معتقد (الولاء والبراء) مع مبادئ الوسطيّة والسماحة والرحمة ، وذلك يظهر من خلال تعامل الرسو صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع الكفار ...
وهذا مثال على سماحة منهج الرسو صلى الله عليه وسلم وعلى عدم تعارض معاملته في عقيدة الولاء والبراء ...
عن أبي رافع رضي الله عنه (وكان قبطيًّا) قال : ((بعثتني قريشٌ إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم ، فلما رأيت رسول ا صلى الله عليه وسلم أُلقيَ في قلبي الإسلام ، فقلت : يا رسول الله ، إني والله لا أرجع إليهم أبد ... وهذا يدل على حسن تعامل الرسو صلى الله عليه وسلم )).
وهذا مثال آخر ...
أن الرسو صلى الله عليه وسلم قال : (( من قَتَل معاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً ))[1].
وقال صلى الله عليه وسلم (( أيُّما رجلٍ أمِنَ رجلاً على دمه ثم قتله ، فأنا من القاتل بريء ، وإن كان المقتولُ كافراً ))[2].
(( ولمّا أهدى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُلّةً ذاتِ قيمة، أهداها عمر رضي الله عنه أخًا له بمكة كان مشركاً ))[3].
قال تعالى : ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
وبيان عدم تعارض تلك الآداب مع (الولاء والبراء) : أن تلك الآداب إذا أردنا أن تكون شرعيّةً محبوبةً لله تعالى ، فيجب أن نلتزم بها ... طاعةً لأمر الله تعالى وأمر رسول صلى الله عليه وسلم ، مع بُغض الكفار لكفرهم، ومع عدم نُصرة غير المسلمين على المسلمين ؛ فنحن نلتزم بتلك الآداب لا حُبًّا للكفار، ولكن إقامةً للعدل والإحسان الذي أُمرنا به .
فهل يعقل أولئك الذين لا يفقهون في دين الله عز وجل ؟!!
ولو عقل أولئك كتاب الله وسنته كما عقلو..العلمانية ..والليبرالية والديموقراطية.. لسلمت أمة الإسلام من حقارة أفكارهم ودناءة فهمهم للكتاب والسنة..
فمما يجب علينا نحن المسلمون تجاه تيارات الإفساد التي تنفث تذويب هذه العقيدة مع إظهار اللباقة والسماحة في أساليبهم ما يلي :
* وجوب ترسيخ معتقد (الولاء والبراء) بين المسلمين على الوجه الأكمل ؛ لأنه بغيره لن يبقى للمسلمين باقية ، فهو سياجُ أمانهم من الذوبان في الأديان والعقائد الأخرى ...
* وجوب تفقيه المسلمين بحقيقة (الولاء والبراء)، وأنه لا يُعارضُ آدابَ التعامل بالرفق واللطف (المنضبطَين بالضابط الشرعي) مع غير المسلمين ...
* ضرورةُ التأكيد على عدم تعارض (الولاء والبراء) مع سماحة الإسلام ورحمته ووسطيّته ، ونَشْرُ ذلك في وسائل الإعلام المختلفة...
[1] رواه البخاري .(15/173)
[2] رواه البخاري وأحمد.
[3] رواه البخاري.
============(15/174)
(15/175)
موجة التقليد والتشبه وأصالة المسلمين وصحوتهم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آل محمد الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد : فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله استجابة لأمر ربكم ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) (التوبة:119)
(( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102).
إخوة الإسلام : ومع ظاهرة التدين العالمية التي لم تعد قصراً على المسلمين وحدهم تجتاح العالم الإسلامي موجةٌ من التقليد الأبله والتشبه المذموم، ويكادُ أفرادٌ وجماعاتٌ من المسلمين أن يفقدوا هويتهم الإسلامية، وتذوب شخصياتُهم في شخصيات الآخرين فالهيئة يُداخلها التشبهُ بالكافرين إذ يُحلق ما حقُّهُ الإعفاءُ ويُعفى ما حقه الإحفاء في الشرع المطهر، قال عليه الصلاة والسلام: (( أَعْفُوا اللِّحَى، وجزوا الشَّوَارِبَ ، وَغَيِّرُوا شَيْبَكُمْ وَلا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى))[1].
والملبسُ يطغى عليه الإسبالُ المحرم، أو تبدوا لقصرِه العورةُ المأمور بسترها، أو يُفصَّلُ على هيئة لباس غير المسلمين فتدعو المشابهة شكلاً إلى عدم المخالفة في الأمور الأخرى، والزينة فيها تعدٍ وتجاوزٌ فالذهبُ يتختم به بعض أبناء المسلمين، ومعلومٌ نصوصُ الشرع في تحريم لبس الذهب للرجال وإباحته للنساء بشكل عام، وفيما يخص التختم: (( رَأَى رَسُول اللهِ r خَاتَماً مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ وَطَرَحَهُ وَقَال : يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ ، فَقِيل لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ r خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ بِهِ ، قَال : لا وَاللهِ لا آخُذُهُ أَبَداً وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ r ))[2].
وهكذا يكون التأسي وكذلك يكون الإتباع .
والأمرُ أدهى وأمر .. وفي مضمار التميع وغياب العزِّة والهوية الإسلامية حين يُحتفي بالكفار ويُقدّر الفُجَّار ويُستهانُ بالمسلمين ويُتهم الأخيار ، وكل ذلك خلافُ هدي الإسلام، قال عليه الصلاة والسلام : ((لا تَبْدَءُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلامِ ، وَإِذَا لقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُ إِلى أَضْيَقِهِ))[3].
وأخطرُ من ذلك مشاركتهم في أعيادهم وحضورُ احتفالاتهم وتهانيهم بمناسباتهم التي لم يُنْزل الله بها من سلطان، قال تعالى في صفات عباد الرحمن :((وَالذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) (الفرقان: من الآية72).
قال مجاهدٌ والربيعُ بن أنسٍ والقاضي أبو يعلى والضحاك -في تفسيرها- : إنها أعيادُ المشركين [4].
وعن أنس رضي الله عنه قال: (( قَدِمَ رَسُولُ اللهِ r ( المَدِينَةَ ) وَلهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فِيهِمَا ، فَقَال : مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟ قَالُوا : كُنَّا نَلعَبُ فِيهِمَا فِي الجَاهِلِيَّةِ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلكُمْ بِهِمَا خَيْراً مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ ))(رواه أبو داود وأحمد والنسائي على شرط مسلم ) [5]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - يرحمه الله-: ((والمحذورُ في أعياد أهل الكتابين التي نقرّهم عليها أشدُّ من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها، فإن الأمة قد حُذِّروا مشابهة اليهود والنصارى وأُخبروا أن سيفعلُ قومٌ منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلاّ في آخر الدهر عند اخترامِ أنفسِ المؤمنين عموماً، ولو لم يكن أشدَّ منه فإنه مثلُه على ما لا يخفى، إذ الشرُّ الذي له فاعلٌ موجود يُخافُ على الناس منه أكثرُ من شرٍّ لا مُقتضى له قوي )) [6]
أما الفاروق عمرُ رضي الله عنه فقد قال: (( إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يومَ عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تنْزل عليهم))[7].
وفي سبيل التشبه الظاهري بالكافرين تأكلُ وتشربُ فئامٌ من المسلمين بالشمال وكأن الأمر عادةٌ من العوائد ليس فيها ملام، و المصطفى صلى الله عليه وسلم يُحذر من هذا ويقول: ((لا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ)) [8].
وتُستبدل تحيةُ الإسلام ( السلامُ عليكم ) بأنواع من التحايا لا تبلغُ في كمالها ولا في حسنها مبلغَ تحيةِ أهلِ الإسلام هذا فضلاً عن أجر هذه، ووزر تلك إذا قُصد بها التشبهُ بالكافرين بل ويُنهى المسلمون عن مشابهة غير المسلمين في هيئة السلام .(15/176)
أمة الإسلام : ومع خطورة هذه المشابهات الظاهرية ومثيلاتها وما فيها من تبعية للكفار، فالأمرُ أعظمُ وأخطرُ حين يتجاوز ذلك إلى التشبه في الباطن، فلا يقف الأمرُ عند حدود المحسوسات مع خطورتها بل ويشمل المعنويات، ويأتي على القيم وأنماط التفكير، ويشيع التقليدُ في القضايا الخطرة، وجوانب الحياة الأساسية، فثمة مسلمون يفكرون بعقلية غير إسلامية، وثمة كُتابٌ منتسبون إلى الإسلام وكتابتهم ليست من الإسلام في شيء !!
وما أخطرَ التعليم حين تجري مناهجهُ في بلاد المسلمين على وفق مناهج غير المسلمين، فتنشأ ناشئة المسلمين ضائعة الهوية مسلوخة العقيدة الحقة مفتونةً بقيم وحضارات الكافرين .
وليس أقلَّ خطراً منه الإعلامُ حين تُسير قنواتهُ المختلفة محاكيةً لإعلام غير المسلمين، فتضيُع الحقيقة وتُرتهنُ الكلمة الصادقة، ويروجُ الخداعُ والنفاق، ويغيبُ فيه الدفاعُ عن قضايا المسلمين، ويُمجد من لا يستحق التمجيد، وتسوّدُ الصفحات بتوافه الأمور وسواقط الأخبار، وما أعظم الخطبُ في مجال الاقتصاد إذا نسي المسلمون أو تناسوا زواجر القرآن عن أكل المال الحرام فساد الربا وانتشر الاحتكار ومورس القمار وكان الغشُّ في البيع والشراء، وشابه المسلمون الكفار في سياساتهم الاقتصادية المحرمة، وأعلنوا الحرب صراحةً مع الله إذ لم يسمحوا بانتشار الاقتصاد الإسلامي النَزيه أو ضيقوا عليه الخناق وكم هو مصابٌ إذا نحيت شريعةُ السماء عن الحكم في الأرض واستبدلت بالقوانين البشرية المستوردة من الكافرين .
وما أشدَّ البلية حين يُقلّدُ المسلمون غيرهم في بناء المساجد والقباب على القبور أو يُطاف بها أو يستشفع بأصحابها، وتلك من عوائد اليهود والنصارى التي نُهي عنها المسلمون قال عليه الصلاة والسلام : (( لعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) [9]
وفي الحديث الآخر: ((أَلا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلا فَلا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ ))[10].
عباد الله : ولم تكن المرأة المسلمة بمعزل عن هذا التقليد الأبله والتشبِّه المذموم وإن شابك شكٌّ فألق نظرةً فاحصةً على عدد من حواضر العالم الإسلامي، ومسيرة المرأة ونمطِ حياتها، وسيهولك الأمر في الشكل والهندام وسيقضُّ مضجعك الاختلاطُ المحموم، والسفورُ المستهتر وتنفطر أكبادُ الغيورين لركض المرأة وراء أحدث الموديلات والموضات، ومسارعتِها الخطا لتقليد الكافرات، وأصبحت المرأة هدفاً لتوصيات المؤتمرات العالمية وضحية تخطيط المنظمات المعادية، ولم يعد في الأمر سرُّ أو استحيا، وكأن المسلمين كلٌّ مباحٌ ورعايا سائبة يحتاجون إلى رعاةٍ وتُفرض عليهم الوصايةُ، ويتنازع الغربُ والشرقُ في الإشراف على برامجهم وتصدير البضائع إليهم ؟!
أجل لقد صدقت فينا معاشر المسلمين نبوءة صلى الله عليه وسلم حين قال: (( لتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ شِبْراً شِبْراً ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ حَتَّى لوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلنَا يَا رَسُول اللهِ : اليَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَال : فَمَنْ )) [11]
يا ويح أمة صلى الله عليه وسلم كيف استساغت التبعية بعد القيادة ؟ وكيف رضيت بمحاكاة التائهين وهي المؤهلةُ لإصلاح فساد الأمم أجمعين ؟ وكيف قبلت أن تشهد عليها الأممُ بذلِّ التبعية وضحالة التفكير، وضعف الانتماء، والارتماء في أحضانِ الآخرين، وهي الأمةُ الوسطُ التي جعلها الله شاهدةً على الناس بمحكم التنْزيل: (( وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَليْكُمْ شَهِيداً )) (البقرة: من الآية143).
وتستمر عدالتُها وتقبل شهادتُها على الأمم المكذبة يوم الدين تأملوا هذا النصَّ وما فيه من العبرة لعلكم تذكرون، أخرج الإمام البخاري في صحيحه أن صلى الله عليه وسلم قال: (( يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالى : هَل بَلغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، فَيَقُولُ لأُمَّتِهِ : هَل بَلغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : لا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ ، فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ لكَ : فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ r وَأُمَّتُهُ فَتشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلغَ وَهُوَ قَوْلُهُ جَل ذِكْرُهُ : (( وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلى النَّاسِ))))[12].
فهل تدركُ الأمةُ حقيقة موقعها وطبيعة تميزها، وضخامة دورها وتفيء إلى أصالتها وتعتِّز بقيمها ؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (( وَلا تَرْكَنُوا إِلى الذِينَ ظَلمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ)) (هود:113).
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية(15/177)
الحمد لله ربِّ العالمين أحمده تعالى وأشكره وهو للحمد أهل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدهُ ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين .
أما بعد : فعباد الله: فحتى تتضح الصورةُ وتتبين الحكمةُ من مخالفة أصحاب الجحيم، وعدم التشبه بالكافرين أسوق لكم عدداً من أدلةِ الكتاب والسنةِ ومدلولاتِها في النهي والتحذير من ذلك، إذ كان ذلك من تكاليف هذه العقيدة الربانية التي ندينُ بها ونؤمن بمنْزلها .
يقول تعالى مخاطباً رسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ أمته: (( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلمُونَ* إِنَّهُمْ لنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ )) (الجاثية:18-19).
يقول في تفسيرها شيخُ الإسلام ابنُ تيمية - رحمه الله -: (( جعل اللهُمحمدا صلى الله عليه وسلم على شريعة من الأمرِ شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، ويدخل في الذين لا يعلمون كلُّ من خالف شريعتَه، وأهواءهم: هي ما يهوونه ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسمُ لمادة متابعتهم في أهوائهم، وأعونُ على حصولِ مرضاةِ الله في تركها [13]
وقال تعالى: ((وَلنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ))(البقرة:120).
فانظر كيف قال في الخبر ((ملتهم)) وقال في النهي: ((أهواءهم)) لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملةِ مطلقاً، والزجرُ وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير [14]
معاشر المسلمين : وتأملوا في حادثة تغيير القبلة حينما هاجر النبيُ r وصحبهُ من المدينة - وكان بها يهود - وتوجيه القرآن للمسلمين في قوله تعالى: ((وَلئِنْ أَتَيْتَ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلةَ بَعْضٍ وَلئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لمِنَ الظَّالِمِينَ)) إلى قوله تعالى: ((وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَليْكُمْ حُجَّةٌ...) (البقرة: 145-150).
فلقد استمر النبيُ r في الاتجاه بصلاته نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً )) [15]
ولاشك أن هذا التوجيه لقي رغبةً وترحيباً من اليهود إذ يوافقهم النبيُ r في قبلتهم، وربما استغلوا ذلك وقالوا: (يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا) [16]
وكان الرسو صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الوحي ويرغب التوجه إلى الكعبة عودة إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، ورغبةً في تميز المسلمين بقبلتهم عن اليهود، فنَزل الوحيُّ مبيناً هذه الرغبة ومحقاً للحق ومستجيباً لنبيه ومميزاً للمسلمين عن غيرهم وكاشفاً لأهواء واعتراض السفهاء من الناس: ((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ليَعْلمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) (البقرة:144).
قال غيرُ واحد من السلف في حكمة تغير القبلة : لئلا يحتج عليكم اليهودُ بالموافقةُ في القبلة فيقولوا: قد وافقونا في قبلتنا فيوشكُ أن يوافقونا في ديننا فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، قال العلماء: ((وهذا المعنى ثابتٌ في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا أُتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان - أو قريبٌ مما كان - لليهود من الحجة في القبلة )) [17].
ولم يقف الأمر عند حدود النهي بل أشارت آياتُ القرآن وأحاديثُ المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أن من اتبع الكافرين وقلدهم فهو منهم ومصيرُهم مصيرهم قال تعالى: (( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُول مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً )) (النساء:115).
((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))(المائدة:51).
وقال عليه الصلاةُ والسلام: (( من تشبه بقوم فهو منهم )) [18]،(15/178)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (( إسناده جيد، وأقلُّ أحواله أنه يقتضي تحريم التشبِّه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم كما في قوله تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)).
إخوة الإيمان : إن من لوازم العقيدة الحقة الولاء والبراء، ويكون الولاءُ للمؤمنين والبراءُ من الكافرين، قال تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا)) (المائدة: من الآية55).
ولا حجة لمن قال: إن الولاء في القلب ولا تضرُ المشابهة في الظاهر مع الكره لهم باطنا ً.
قال شيخ الإسلام في كتابه القيم: (( اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم،وهو كتاب قيمٌ نافعٌ في هذا الباب: والموالاةُ والمودة وإن كانت متعلقةً بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعونُ على مقاطعة الكافرين ومبايينهم)) . [19].
إلى أن قال: ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بالكافرين في الولايات، فروى الإمامُ أحمدُ بإسناد صحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه : إن لي كاتباً نصرانياً، قال مالك: قاتلك الله، أما سمعتَ الله يقول: ((يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) (المائدة:51).
ألا اتخذت حنيفاً ؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين: لي كتابتهُ وله دينهُ، قال ( عمر ): لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزّهم إذا ذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله [20]، وأشار المحقق إلى عدم وجوده له في المسند ( أبي موسى ).
ويقول ابن القيم - رحمه الله - : (( إن الرسو صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، وسرُّ ذلك إن المشابهة في الهدْي الظاهر ذريعةٌ إلى الموافقة في القصد والعمل )) [21]
معاشر المسلمين : والنصوص في هذا كثيرة، وتعليلاتُ العلماء في النهي عن التشبه بالكافرين مقنعة ومبسوطةٌ ومن رام المزيد فليرجع إليها في مظانها، وإنما أردت الذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد .
ومع هذه الموجة العارمة في التشبه بالكافرين في عالمنا الإسلامي في معظم مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والإعلامية وسلوكيات الناس وعوائدهم الاجتماعية إلا أن من الإنصاف أن نقول: إن هذه وتلك من ركام الماضي ومن مخلفات الاستعمار والمستعمرين، ولئن بقي في المسلمين من لا يزال سادراً في غيِّه مخدوعاً بمشابهة الكافرين وتقليدهم وموالاتهم، فثمة صحوةٌ إسلاميةٌ نشطةٌ تسري في أوساط المسلمين، وثمة وعي وشعور بالعزة الإيمانية لدى الشعوب المسلمة تنتظم الرجال والنساء، لقد بدأ الإسلام يستيقظ في النفوس وبات واضحاً تململ المسلمين من واقعهم المشين وكرههم لأعداء الدين ومعرفتهم بمخططات المستعمرين، ولم تقف حدودُ هذه الصحوة عند قطر دون آخر، ولم تكن في العرب دون العجم، ولا في الشرق دون الغرب، إنها شمسُ الحقيقة بدأ إشراقها وسيعم الخافقين بإذن الله نورُها.
ليس هذا كلاماً عاطفياً يقال، ولا مجرد أحلام لا يرى الناسُ لها مقاماً بل هي الحقيقة يشهد بها العدوُّ قبل الصديق، ويتآمر الكافرون ويخططون لاقتلاع الشجرة قبل أن توتي ثمارها... فتعقد المؤتمرات، وتفتح الملفات وتقترح الوسائل والخطط لمكافحة ما يسمى بالإرهاب والتطرف والأصولية، ونورُ الله قادمٌ لا محالة، والإسلام الحقُّ هو الديانة المؤهلة لقيادة العالم قيادةً عادلة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ولو كره المشركون .
ومن أواخر ما سمع العالمُ ما يحدث اليوم في تركيا ربيبة الاستعمار، ورائدةُ العلمنة في ديار المسلمين، والتي مكث المجرمون في تغيير هويتها ردحاً من الزمن، حتى أعلن استبدال العربية بحروف لاتينية، ومنع الحجاب رسمياً، وأعلنت القوانين الكافرة لتحكم في البلاد قسراً... ومع هذا التغريب والتحدي السافر، بقي الإسلامُ محفوظاً في قلوب الأتراك المسلمين، وبقيت الأصالة رصيداً مدفوناً في الصدور، حتى إذا أُتيحت الفرصة تفاجأ العالمُ كلُّه بالتصويت لحكم الإسلام، وفوز حزب الرفاة الإسلامي وسحقه للأحزاب العلمانية الأخرى، وعادت العلمانية تندب حظهَّا، والكفارُ العلمانيون يجرون أذيال الهزيمة وتهاوي الصنم الوهمي، وأُحبطت القوى العالمية وزادت من تخوفها من الإسلام والمسلمين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون اللهم هيئ للمسلمين من أمرهم رشداً، اللهم وأجمع كلمتهم على الحقِّ والهدى، اللهم عليك بأعداء الدين اللهم وأحصهم عدداً وأقتلهم بدداً ولا تبقِ على الأرض منهم أحداً، هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين .
[1] رواه أحمد بسند صحيح ( صحيح الجامع الصغير 1/352).
[2] أخرجه مسلم (2090)، جامع الأصول 4/716).
[3] رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، انظر: صحيح الجامع الصغير 6/128).
[4] ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم ص181
[5] أبو داود كتاب الصلاة 675ح 1134، الولاء والبراء للقحطاني / 331 .
[6] الاقتضاء 1/435-436 .(15/179)
[7] رواه أبو الشيخ الأصبهاني، والبيهقي بإسناد صحيح، الولاء والبراء 332، والاقتضاء 1/428 بدون لفظة: "فإن السخطة تنْزل عليهم .
[8] رواه ابن ماجة بسند صحيح، صحيح الجامع الصغير 6/126
[9] رواه مسلم 1/377، الاقتضاء 1/298 .
[10] رواه مسلم، السابق 1/297
[11] رواه البخاري 13/300 ح7320، ومسلم 4/2054، ح2669 .
[12] الصحيح مع الفتح 6/371
[13] اقتضاء الصراط المستقيم 1/85، 86 .
[14] الاقتضاء 1/87 .
[15] صحيح البخاري مع الفتح 1/95، ومسلم 1/374، السيرة النبوية الصحيحة للعمري 2/349
[16] نسبه العمري إلى مجاهد ومال إلى تصحيحه، السيرة النبوية الصحيحة 2/351
[17] ابن تيمية الاقتضاء 1/88 .
[18] رواه أحمدُ وأبو داود .
[19] 1 / 163.
[20] الاقتضاء 1/164، 165
[21] إعلام الموقعين 3/140 .
=============(15/180)
(15/181)
المرحلة الأسوأ في تاريخ تركيا
الإسلام اليوم / استنبول/ طه عودة 28/12/1423
01/03/2003
أفردت الصحف التركية هذا الأسبوع مكانا واسعا للمذكرة المتعلقة بانتشار القوات الأمريكية في الأراضي التركية، وموافقة مجلس الوزراء التركي عليها والخلافات الدائرة بين أعضاء الحكومة الحالية التي يتزعمها حزب العدالة والتنمية بخصوص التصويت على المذكرة، بالإضافة إلى العديد من القضايا الأخرى المهمة.
البرلمان التركي يؤجل التصويت على مذكرة انتشار القوات الأمريكية
وصف الكاتب الصحفي الإسلامي أحمد طاشغتيران من صحيفة يني شفق الإسلامية الموالية لحكومة حزب العدالة والتنمية التأجيل البرلماني للتصويت على المذكرة إلى يوم غد السبت "بالمفاجأة" وقال في مقالة له (اليوم الجمعة سوف يتم مناقشة هذه المذكرة في مجلس الأمن القومي، ومن الممكن أن تكون هناك مفاجآت أخرى. تركيا تمر اليوم بمرحلة صعبة للغاية نادرا ما واجهتها، وكل شيء فيها بات على المحك، فهناك مساومات تجري على أشدها، بينما تستنفد الحكومة طاقتها في محاولات الإقناع الداخلية من أجل الموافقة كرها على أمور هي من الداخل أشد ما ترفضها. وهل يا ترى صناع القرار في تركيا مقتنعون داخليا بالأسباب التي يحاولون بها إقناع البرلمان لانتزاع موافقته على المشاركة العسكرية في الحرب؟. بالطبع لا/ فهذا ما يبدو واضحا في عيون الرئيس التركي ورئيس الوزراء والنواب، وكيف يمكن أن يقتنعوا بهذه الأسباب وهم يرون أمام أعينهم كيف تتهرب (حليفتهم الولايات المتحدة) من المسئولية التاريخية إزاء تركيا، ولهذا السبب يمكن القول بأن أي كلمة "نعم" تخرج من البرلمان تبيت تحتها كلمة "لا" نظرا لعدم الثقة التركية بأمريكا، والتي لم تتوان لحظة عن تهديد تركيا علنا بقولها "إذا لم نجد الدعم الذي نريده منكم، فسوف نضطر إلى التحرك على قدم وساق مع الفصائل الكردية في شمال العراق. وأيضا، إذا لم تدعمونا فإن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والمنظمات التجارية العالمية سوف يديرون ظهرهم لكم، وبعدها إذا لجأتم إلينا فإنه لن يكون بمقدورنا فعل أي شيء لمساعدتكم، كما أننا لن نكون قادرين على دعمكم في المسألة الأرمنية خصوصا أن عيون اللوبي الأرمني مفتحة في الكونغرس بانتظار تمرير قرار "الإبادة الجماعية التركية للأرمن" منه هذا عدا عن أنه سيصعب علينا دعمكم في الاتحاد الأوروبي الخ .. ". وباختصار فإن أمريكا تهدد تركيا بإفلات حبل الأكراد في شمال العراق، وبتدمير الاقتصاد التركي وتحريك مسألة الأرمن من جديد. وهل يوجد أفضل من هذا الحليف لتركيا الذي لا يتردد في استخدام الابتزاز والتهديد ضدها؟!!. للأسف الشديد، تركيا عاجزة عن الاستيعاب بأن هذه العملية العسكرية لا حدود لها في المنطقة، أو بالأحرى موقفها الحالي هو أضعف من أن تستوعب هذه الحقائق. فأمريكا تريد البدء من العراق لتتوسع في المنطقة بالكامل من أجل تشكيل نظام جديد على هواها، وماذا ستفعل تركيا؟
القنبلة الأمريكية الأولى تصيب تركيا..(15/182)
وحول المساومات الجارية بين الجانبين التركي والأمريكي بشأن التعويضات المالية يقول الكاتب بكر جوشكون من صحيفة حريييت العلمانية واسعة الانتشار "في البداية قالوا بأن تركيا ستستلم 6.5 مليار دولار عند أول رصاصة تطلقها أمريكا في العراق، وفي صباح الأمس وصلنا الخبر المفرح من نواب حزب العدالة والتنمية!! الذين قالوا إن الحكومة نجحت برفع هذا الرقم إلى 8,5 مليار دولار تستلمها تركيا عند أول أمر تصدره أمريكا بإطلاق النار". بالفعل هذا أفضل ..!! ويا ترى ألم يكن بمقدورنا أن نرفع المساومة إلى 9.5 مليار دولار إذا ما سمحنا لهم بإطلاق النار المستمر في العراق!!. وماذا لو وافقنا على القتل الأمريكي الحر، ألم نكن لنحصل على مبلغ أكبر؟!!. في الحقيقة منذ أيام وأنا أسال نفسي هذا السؤال (هل يا ترى أنني بالغت في انتقاداتي بحق تركيا التي تذل نفسها من أجل المشاركة في الحرب مقابل المال؟) والجواب وجدته على صفحات الجرائد العالمية. فبالأمس نشرت الصحف التركية لأول مرة الكاريكاتور الذي تتناقله الصحف العالمية عن تركيا، فقد جاء على الصفحات الأمريكية صورة لراقصة تدعى "تركيا" والأمريكيون كانوا يعلقون الدولارات على خصرها وهي تهز شمالا ويمينا. وكاريكاتور آخر وفيه كان بوش يعد الجنود للدخول إلى شمال العراق بينما وضع قبالة طاولته رزمة كبيرة من الدولارات يمنحها لصف السياسيين الأتراك أمامه وفي مقدمتهم رجب طيب إردوغان، وكاريكاتور ثالث وفيه 'يحمل الجنود الأمريكيين الأموال في أكياس على الطائرة، بينما يقول أحد الضباط لحامل الأكياس (انتبه جيداـ لا تنس بأن الأموال سترمى على تركيا والقنابل على العراق). وهكذا بإمكاننا أن نرى العديد من مثل هذا الكاريكاتور المخجل والمذل لتركيا في صفحات الجرائد العالمية وعبر الإنترنت. وأنا بدوري أسألكم: من هي الدولة الأكثر تدميرا وإذلالا وضعفا من العراق وصدام؟ من هي الدولة التي فقدت شخصيتها واعتبارها وكرامتها؟ ومن هي الدولة التي دمرتها قنابل العار الأمريكي وقضت على هويتها وشعبها بالكامل؟. ولكن لا عليكم!! فنحن سنستلم 8.5 مليارات دولار مع أول أمر بإطلاق النار في العراق! وما لنا نحن والهوية والشخصية، وماذا يهمنا من قنابل الذل العالمي التي تلقى على شرفنا وكرامتنا يوميا، ما يهمنا هو أن يصل الدولار إلى تركيا، أليس كذلك؟!!.
مذكرة واحدة ستحل كل المشاكل..
ويقول الكاتب الصحفي فكرت بيلا من صحيفة مللييت العلمانية "لقد تم التوصل إلى حل أغلبية المشاكل التي تعترض المباحثات التركية الأمريكية حاليا. تركيا وضعت ثقلها بشأن ضمان خروج القوات الأمريكية، ومنع إقامة دولة كردية، والحفاظ على وحدة العراق السياسية، وحماية حقوق التركمان. رئيس الوزراء عبد لله غول يميل إلى عرض اقتراحي (نشر القوات الأمريكية في تركيا وإرسال القوات التركية لخارج الحدود) في مذكرة واحدة خوفا من أن تسفر فصلهما في مذكرتين عن نتائج غير مرغوبة في البرلمان، مما قد يهدد الشراكة الاستراتيجية بين تركيا وأمريكا، ومن هذا المنطلق فمن المقرر أن يقوم غول في اجتماع مجلس الوزراء اليوم بعرض هذا الاقتراح لتحويله إلى قرار سياسي.
مذكرتان في واحدة :
الأمر الأخر الذي تقف عنده حكومة غول هو تهيئة قرار برلماني يحدد مدة بقاء القوات الأمريكية في تركيا ويضمن خروجها بعد انتهاء الحرب، وعلى هذا الأساس فإن الحكومة التركية تسعى إلى تحضير اقتراح يقضي بالسماح للقوات الأمريكية بالبقاء لمدة ثلاثة أشهر فقط، والتي تعتبر مدة كافية لإنهاء الحرب ومن ثم إيقاف فعاليات القوات الأمريكية في القواعد التركية، أما فيما يتعلق بالمادة 92 من القانون الدستوري التي تمنع تركيا من المشاركة في أي حرب لم تشرعها الأمم المتحدة، فإن الحكومة أخذت بآراء المحكمة الدستورية بشكل غير رسمي، فتوصلت إلى قرار بأن المخرج الوحيد يكمن في استصدار قرار برلماني. ضمان حقوق التركمان :ومن أكثر
الأمور التي تتوقف عليها أنقرة سياسيا هي وحدة العراق السياسية وحقوق التركمان، بحيث تصر على منح التركمان ضمانة الحقوق الدستورية، كما تعترض تركيا على تعداد الولايات المتحدة العراقية في الوثيقة السياسية كالتالي "العرب، الأكراد، التركمان، الآشوريين، الكلدانيين" وتصر على وجود ثلاثة عناصر رئيسية هي "العرب، الأكراد، والتركمان" أما بقية العناصر فتريد الإشارة إليها بشكل إضافي وليس أساسي من أجل ضمان الوحدة السياسية العراقية، وفيما يبدو أن الولايات المتحدة تنازلت لتلتقي عند أقرب نقطة مع تركيا في هذا الشأن.
وماذا عن منظمة حزب العمال الكردستاني؟:
من الأمور التي تشغل بال أنقرة أيضا هي مشكلة حزب العمال الكردستاني - مؤتمر كردستان للحرية والديمقراطية ومصيرها. تركيا تفكر بأن هذه المنظمة لم تعد تمثل خطرا عليها في إطار هذه الحرب فقط، وإنما أصبحت قضية تخص الولايات المتحدة أيضا، بحيث تطالب أنقرة واشنطن التي وضعت هذه المنظمة على لائحة الإرهاب الدولي أن توضح موقفها منها من أجل تأمين الاستقرار في شمال العراق.
التوافق التركي ملفت للنظر:(15/183)
من اللافت للنظر التعاون والتوافق الكلي بين رئاستي الوزراء والأركان ووزارة الخارجية في إطار المباحثات الجارية في أنقرة مع الولايات المتحدة، بحيث يؤكد العديد من المحللين أن هذا التوافق التركي يقوي من موقف تركيا سياسيا وعسكريا.
"جسر القروض" من الممكن أن يكون الحل:
الانفتاح الذي أظهرته واشنطن في المباحثات الاقتصادية يعتبر مقبولا بالنسبة لأنقرة، بحيث تم الاتفاق في المباحثات الأخيرة على اقتراح الولايات المتحدة بتقديم دعم مالي على الشكل التالي " 4+2+10+6". أربعة مليارات نقدية ومليارين كمساعدات عسكرية يعني ستة مليارات دولار كهبة، فيما ستمنح 10.6 مليارات دولارات على شكل قروض بدون فوائد على أربع سنوات، وبعد هذه المدة ستترتب عليها فوائد ضئيلة جدا. أنقرة تصر على استلام أربعة مليارات دولار كهبة دون انتظار مصادقة الكونغرس الأمريكي عليها إذا ما بدأت الحرب سريعا.
تقرير بالتسلح الكردي:
أنقرة لم تتهاون أبدا في موضوع نزع الأسلحة الكردية، بحيث تطلب بتسليح الأكراد بأسلحة خفيفة لمجرد الدفاع عن النفس فقط، على أن يتم توزيع الأسلحة تحت مراقبة رئاسة الأركان التركية، وفيما يبدو أن الولايات المتحدة وافقت على هذا الطلب، بحيث أعدت تقريرا بنوعية الأسلحة التي ستزود الأكراد بها وقدمته إلى أنقرة. إلا أن الولايات المتحدة لا تريد الاستعجال في مسألة نزع الأسلحة الكردية، وهو الأمر الذي يدعو أنقرة للشك في مصداقية واشنطن لهذا فهي تطلب منها توضيح الموقف بشكل نهائي.
الصورة التركية
وحول المساومات أيضا يقول الكاتب الصحفي ياوز دونات "عندما ننظر إلى المباحثات التي جرت بين أنقرة وواشنطن، والمحادثات السرية التي تجري خلف الأبواب المغلقة منذ عام تقريبا، يمكننا أن نلتقط صورة أنقرة اليوم كالتالي:
ردة الفعل الأولى:
مارس 2002، حكومة أجاويد كانت في السلطة .. الولايات المتحدة تدلي ببيانات متعلقة بالعراق .. والولايات المتحدة تبلغ أنقرة بمستقبل خطتها العراقية 00 وكانت ردة فعل أنقرة 00 لا شيء.
المجهول:
تموز 2002، الولايات المتحدة تجدد بياناتها بشأن العراق، وتسأل تركيا عن رأيها، وفي ذلك التاريخ كان رئيس الوزراء أجاويد مريضا، والسياسة الداخلية متخضخضة، وكان جواب أنقرة : مجهولاً، دون أي رغبة في المشاركة في عملية عسكرية ضد العراق.
سؤال الولايات المتحدة:
مع دخول تركيا إلى انتخابات جديدة كانت الولايات المتحدة ترى في حزب العدالة والتنمية حكومة جديدة تصل إلى السلطة لوحدها، ومن بعدها بدأت بإجراء المباحثات مع زعيم الحزب رجب طيب إردوغان، وكانت أول المسائل التي جلبتها أمريكا على طاولة المباحثات : أسلحة الدمار الشامل العراقية؛ وبأنه كلما استمر العراق على هذا الوضع فإن الأزمة الفلسطينية - الإسرائيلية سوف تزاد سوءً؛ عراق قوي سيكون هدفه الثاني تركيا؛ هل ستشاركونا في عملية عسكرية ضد العراق؟.
جواب رجب طيب إردوغان
في بدء المباحثات لم يعط إردوغان جوابا مشبعا بالرفض أو القبول، وفضل بدلا من ذلك عرض أفكاره على طاولة المباحثات من خلال قوله (ألا يكمن حل هذه المسألة بالطرق السلمية) (بإمكان تركيا أن تلعب دورا مهما في حل هذه المشكلة) (نحن دولة إسلامية، ودخولنا في عملية عسكرية ضد دولة مسلمة قد يسبب لنا متاعب في المستقبل) (نحن يمكن أن نساعدكم ولكن لا يمكننا أن نتعهد بأي شيء في الوقت الحالي).
ماذا يريد حزب العدالة والتنمية أن يفعل؟
حزب العدالة والتنمية خرج منتصرا من صناديق الاقتراع، والولايات المتحدة تقدم طلباتها وتوقعاتها رسميا إلى الهيئات الحكومية التركية، والحكومة في البداية تستثقل هذه المطالب، ومن ثم جوابها كان "موافقة" بشكل عام في 16 ديسمبر، ولكن في اليوم الثاني نفهم أنه لا يمكن اعتبار الرد التركي إيجابيا بما أن إردوغان نفسه لم يعد واشنطن بالموافقة.
حزب العدالة والتنمية بالنسبة لأمريكا
الولايات المتحدة تنجح في تحليل حزب العدالة في وقت قصير، وهو بالنسبة لها : يرفض الحرب ضد العراق؛ وإذا لم يقدر فإنه على الأقل سيحاول عرقلتها، ويرغب بحل المشكلة ديبلوماسيا.
السبب :
الولايات المتحدة تبحث عن السبب وراء تبني حزب العدالة لمثل هذا الموقف والنتيجة التي توصلت إليها:
حزب العدالة يجد صعوبة في شرح الحرب إلى الشعب التركي الذي اختاره كحكومة وحيدة في السلطة؛ الموافقة يمكن أن تعرض العلاقات التركية العربية إلى خطر؛ خوفها من تجزئ وحدة أراضي العراق.
القمة :
وفي هذه الأثناء، وردت فكرة عقد اجتماع إقليمي في إسطنبول، وكان هدف الحكومة إظهار تركيا على أنها زعيمة الدول الإسلامية أمام أمريكا، ولكنها مع الأسف لم تحقق هدفها وسط تصاعد احتمالات العملية العسكرية يوما بعد يوم.
طلبان :(15/184)
عندما أصبحت العملية لا مفر منها، فإن حزب العدالة يطرح لأول مرة طلبين: الأول أن يتمكن إردوغان من دخول البرلمان ويصبح رئيسا للوزراء قبل بدء العملية العسكرية. وثانيا : هذه العملية قد تؤثر على شعبية الحزب، لهذا فقد طلبت الحكومة بمساعدات اقتصادية كبيرة تؤهلها في الوقوف في وجه الأضرار المتوقعة، بشكل تثبت قدرتها الإدارية أمام الشعب.
الرقم الأول:
وبينما الحكومة تعطي هذا الجواب فإنها حددت الرقم بـ 138 مليار دولار. وبالطبع، الولايات المتحدة تعيد هذه الرزمة إلى أعقابها، وتطلب بإعادة النظر في هذا الطلب مجددا.
العراقيل :
وبعد ذلك تبدأ المباحثات السياسية بين الجانبين التركي والأمريكي على تشكيلة العراق الجديدة ما بعد الحرب. وأولها عدم تشكيل دولة كردية في شمال العراق بالإضافة إلى المواضيع العسكرية.
الرقم الثاني :
أنقرة تعلق فشل المباحثات إلى عدم الوعي الكلي للمساومين الأمريكيين، وعلى هذا الأساس، فقد توجه كل من يشار ياكش وزير الخارجية وعلي باباجان وزير الاقتصاد إلى واشنطن واقترحا 92 مليار دولار.
اقتراح الولايات المتحدة :
بالنسبة للولايات المتحدة/ فقد اقترحت أربعة مليارات مع إمكانية رفع هذا الرقم إلى ستة مليارات، أو قروض طويلة الأجل تبلغ 20 مليار دولار.
الخطر السياسي:
جواب أنقرة: هذه العمل فيه مخاطر سياسية مثل تشويه صورة حزب العدالة، وبعد ذلك فقد خفضت الرقم إلى 45 ملياراً مع المطالبة بدفع جزء منها بشكل نقدي.
والولايات المتحدة تحسب الحساب لخطة "ب" التي تستثني منها تركيا وتقول بأن الوقت بدأ ينفد بينما تركيا تؤكد أن الزمن ليس مهما بالنسبة لها بل الدعم المالي، وكان الجواب الأمريكي بتهديد تركيا بأنها سوف تفوت فرصة ثمينة عليها يمكن أن تضر بالعلاقات الثنائية، بينما كان الرد التركي بأنه في حال دخلت أمريكا لوحدها في هذه العملية فسوف تخلق صورة بصدام الغرب مع الإسلام وبالتالي فإن خسارتها ستكون أكبر.
حسابات العملية العسكرية:
بالنسبة للولايات المتحدة فإن تكلفة العملية كلها 150 مليار دولار، فيما كان جواب أحد المسئولين الأتراك كالتالي:" إذا دخلتم في هذه الحرب لوحدكم، فإنها ستكلفكم 750 مليار دولار، يعني هناك فرق بـ 600 مليار دولار، ولو أنكم تعطونا 100 مليار دولار، فإننا وأنتم سنرتاح معا. وكان جواب الولايات المتحدة" المال ليس كل شيء في الشراكات الاستراتيجية".
الصورة النهائية :
الوضع الحالي يبدو وكأن المساومات السياسية تم حلها تقريبا، وعلى الصعيد العسكري فإنها على وشك الحل، أما المساومات الاقتصادية فهي مستمرة حاليا بينما تتطاير الأرقام نزولا.
الصحافة الإسلامية تنتقد حكومة حزب العدالة والتنمية
وصفت صحيفة "وقت " الإسلامية يوم الأربعاء الماضي المذكرة التي سيناقشها البرلمان التركي اليوم أو غدا الخميس والتي تقضي بالسماح لـ 62.000 جندي أمريكي و255 طائرة حربية و65 مروحية عسكرية بالانتشار في تركيا لفترة ستة أشهر، استعدادا لحرب محتملة ضد العراق بأنها "وثيقة احتلال". وقالت الصحيفة الإسلامية بأنه في حالة انتشار هذا العدد الكبير من القوات الأمريكية في الأراضي التركية، فإنه لا يسعنا أن نسمي ذلك بالاحتلال لأراضينا، وتقول الصحيفة بأنه من الممكن أن يرفض البرلمان المصادقة على المذكرة إذ توقعت أن يرد 200 نائب من داخل صفوف حزب العدالة والتنمية الحاكم المذكرة.
ويقول الكاتب الإسلامي من صحيفة وقت "ايهان بلغين" (استيقظي يا تركيا، الولايات المتحدة في طريقها إلينا). وقال الكاتب بأن أمريكا تتحجج بصدام وأسلحة الدمار الشامل في العراق، مشيرا إلى أن الهدف أكبر من ذلك داعيا الشعب التركي والحكومة أيضا إلى فهم هذا المخطط الأمريكي ونواياها الطامعة في السيطرة على دول العالم. أما صحيفة ملي غازته الإسلامية الموالية لحزب السعادة الإسلامي فقد علقت على ذلك بالقول إنه على الرغم من المعارضة الشعبية القوية للمشاركة في الحرب، وتصاعد الأصوات حتى داخل الوزراء في حكومة حزب العدالة إلا أن الوزراء تحت الضغوط وقعوا يوم الاثنين الماضي على المذكرة من أجل رفعها للبرلمان للمناقشة. وتقول الصحيفة الإسلامية لقد نجحت الولايات المتحدة في توريطنا للمشاركة في حربها القذرة.
خطر جديد في شمال العراق..
يقول الكاتب الصحفي سامي كوهن -اليهودي الأصل- من صحيفة مللييت حول الأخطار التي تحدق بتركيا من قبل الأكراد " بينما توجهت كل الأنظار إلى المذكرة التي من المتوقع تقديمها إلى البرلمان، فإن المستجدات في شمال العراق بدأت تتطور بشكل ينذر بالخطر، وطبقا للأخبار التي وصلتنا فإن تركيا يمكن أن تتعرض لخطر مواجهة الأكراد في شمال العراق، فتحدث الزعماء الأكراد عن إمكانية نشوب حرب مع تركيا بينما المساومات التركية الأمريكية أوشكت على الانتهاء، فتركيا في مساومتها مع الولايات المتحدة حول شمال العراق أصرت على هذه الأساسيات:
1) حماية وحدة الأراضي العراقية.
2) التعهد بعدم تشكيل دولة كردية مستقلة في شمال العراق.(15/185)
3) النظام الفيدرالي المحتمل يجب تأسيسه على أساس جغرافي وليس عرقي.
4) أن يعد التركمان كعنصر أساسي في بنية العراق الجديدة.
5) ألا يكون للأكراد أي علاقة بالموصل وكركوك.
6) نزع الأسلحة الكردية عندما يحين الوقت لذلك.
وعلى الصعيد العسكري، فقد اتخذت تركيا موقفا مهما، بحيث قررت إرسال حوالي الـ 80 ألف جندي إلى شمال العراق في حالة الحرب، وذلك من أجل وقف تدفق المهاجرين المحتمل، وللتصدي لهجمات محتملة من منظمة المؤتمر الكردستاني للحرية والديمقراطية، ولإعاقة طريق إقامة دولة كردية مستقلة، والحيلولة دون السيطرة الكردية على موصل وكركوك.
من المعلوم أن الجماعات الكردية لم تنظر يوما بحرارة إلى التواجد العسكري التركي في شمال العراق، وكانوا في اجتماعاتهم مع المسئولين الأتراك يؤكدون دوما على أنهم لا يرغبون بإقامة دولة كردية مستقلة، ولكنهم في نفس الوقت كانوا يدعون أنقرة بألا تتدخل من أجل تحديد موقعهم. وفي الأيام الأخيرة حيث انتشرت أخبار برغبة القوات التركية بالانتشار في مواقع محددة من شمال العراق، وأيضا في نزع الأسلحة الكردية حال انتهاء الحرب، فقد بدأ الأكراد بإظهار ردود فعل غاضبة على أساس :
1) رفض نشر القوات التركية في شمال العراق.
2) ستبقى الأسلحة بحيازة الأكراد إلى أن يتم الانتهاء من تشكيلة العراق الجديدة.
3) التدخل التركي في شمال العراق سيفتح الطريق لتدخل سياسي وعسكري أمام جهات أخرى، الأمر الذي سيقوض الاستقرار في المنطقة.
هذا التوتر بين تركيا وأكراد العراق الذي ظهر في وقت حساس اقتربت فيه العملية العسكرية قد يفتح الطريق أمام عدة مخاطر. بالنسبة لتركيا هي ترى بضرورة تواجدها العسكري في شمال العراق؛ لكي لا تفقد السيطرة على النتائج، لهذا يجب أن تشرح موقفها الشرعي هذا إلى الأكراد والعالم، وبأنه ليس احتلالا تركيا أو تدخلا في شئون الأكراد، وإنما هو من أجل الحفاظ على وحدة الأراضي التركية والعراقية معا.
الولايات المتحدة تستأجر منازلا ومباني ومخازن في جنوب شرق الأناضول
ومن جريدة حرييت العلمانية قال الكاتب الصحفي شكري كوتشوك شاهين "لقد قام أحد المسئولين الرفيعين المستوى في الحكومة التركية على مدى عدة أيام بجولات استطلاعية على طول بوابة خابور إلى الإسكندرون فقال بأنه يوجد بإسكندرون حاليا نحو 400 جندي أمريكي، فيما تم إنزال معدات عسكرية جديدة في إطار الاتفاقية الموقعة مع تركيا، كما يوجد حاليا خمس سفن محملة بالقرب من الميناء لم يتم الإعلان عن نوعية حمولتها؛ نظرا لعدم تقديمهم وثيقة إلى الجهات الحكومية تؤيد هذه الحمولات. المسئول الحكومي قال بأن شركة دلتا الأمريكية هي التي تتبنى حق التوقيع والدفع للسلطات التركية فيما يتعلق بوثائق اقتراب السفن من الموانئ وإفراغ الحمولات، هذه الشركة التي لم تقدم طلبا رسميا بعد إلى السلطات التركية المختصة بإدخال سيارات النقل العسكرية إلى الميناء نجحت بإدخالها رغم ذلك.
القبول إلى حين المصادقة على المذكرة:
ويقول الكاتب بأن قاعدة انجرليك العسكرية لا زالت تستقبل المعدات التي تصل جوا، مثلا فقد استلمت مؤخرا ألف عدد من التواليت المتنقل من بين عدة لوازم أخرى، وفي مسألة التواليت، فإن مجموعة شركات تبه التركية تتولى مهمة التوقيع والدفع مع السلطات التركية. الغريب في هذا الوضع، الموافقة رسميا على استقبال التواليت لمدة ستة أشهر فقط، والتي تتزامن مع المدة التي حددتها أنقرة في المذكرة التي أرسلتها إلى البرلمان، مما يعني أنه سوف يتم إعادة التواليت بعد انقضاء مدة ستة أشهر وانتهاء الحرب، ويشار إلى أن هذه التواليت جاءت من دبي، حيث وصلت أمس طائرة أخرى من هناك محملة أيضا بمولدات كهربائية. وكان من الممكن أن تؤمن تركيا مثل هذه المعدات، لكن فيما يبدو أن أمريكا وقعت اتفاقية خاصة مع الإمارات بهذا الشأن، وهناك معلومة مهمة أيضا، وهي أن المعدات العسكرية معفية من الضرائب.
الولايات المتحدة تدفع نقدا :
الولايات المتحدة استأجرت - من خلال ممثلين خصوصيين لها-، مخازن ودكاكين في مدن سلوبي، جزرة، شرناك، ماردين، أضنه وديار بكر؛ من أجل استخدامهما كمخازن أساسية لها، ودفع الممثلون الأمريكان الإيجار نقدا وبالدولار، كما تسعى واشنطن إلى استئجار أراضٍ أيضا في نفس المناطق المذكورة، من أجل تمركز قواتها العسكرية التي ستأتي إلى تركيا، أما في بوابة خابور فإنه لم 'يلاحظ أي تحركات أمريكية غير اعتيادية في الفترة الأخيرة، ما عدا القوات التركية التي تدخل في بعض الأحيان إلى شمال العراق وتخرج منه.
تحذير عسكري:
ويحذر المسئول الحكومي من موضوعين حساسين في مسألة ارتفاع عدد الجنود الأمريكان. الأول: أن تعمل تركيا على شمل كافة التفاصيل العسكرية الأمريكية ضمن اتفاقية موقعة، على أن 'تنفذ حرفيا دون أي تهاون فيها .. والثاني: تمرير الجنود الأمريكان إلى شمال العراق في أسرع وقت ممكن، دون أي استمهال في الأراضي التركية لكي تضمن تركيا سلامتها واستقرارها.
============(15/186)
(15/187)
الحوار الإسلامي-العلماني هل هو ممكن؟
"آراء ومناقشات"
الإسلام اليوم/سماح بيبرس/عمان الإسلام اليوم/السيد أبو داود 2/1/1424
05/03/2003
شهد القرن الماضي، في النصف الثاني منه بشكل خاص صدام بنيوي كبير بين الاتجاهات الفكرية والأيدلوجية في ساحة الفكر العربي والحراك السياسي الاجتماعي، وعلى الرغم من تعدد الاتجاهات الفكرية والأيدلوجية المتصارعة، إلاّ أنّنا يمكن أن نجملها جميعا في اتجاهين فكريين: العلمانية والإسلام، هذا الجدال الذي أفرز أزمة حقيقية في الهوية ألقت بظلالها على الحياة السياسية والاجتماعية، مما دعا الاجتماعي العربي د. حلمي بركات إلى تشبيه المجتمعات العربية -في كتابه المشهور المجتمع العربي- بمن فقد البوصلة.
اليوم، ونحن نعيش في السنوات الأولى من قرن جديد، يجدر بنا أن نتساءل عن هذا الموضوع البنيوي في حياتنا، فهل ما زال التصادم الإسلامي-العلماني بنفس درجة "الزخم" التي كان عليها في القرن العشرين؟، وهل إمكانية الحوار قائمة وفعّالة؟ وإذا كان ذلك فما هي أهداف هذا الحوار؟، وما هي شروطه؟ وأين تقف كل من الاعتبارات الفكرية والسياسية في إدارة هذا الحوار؟
وفي هذا الإطار، وفي هذه السطور نجري مواجهة بين الطرفين، ويمثل كل طرف مجموعة من المفكرين والمثقفين أجرى معهم موقع الإسلام اليوم هذا الحوار.
ثلاثة أمور تمنع الحوار مع الإسلاميين
يقول المفكر العلماني المعروف د. فؤاد زكريا : إنني من خلال دراستي ومعرفتي بالحركات السياسية الإسلامية منذ ظهورها أقطع بأن في تكوينها شيء ضد الحوار من حيث المبدأ لثلاثة أسباب رئيسة :
السبب الأول : أن هذه الحركات تؤمن أنها تمتلك حقيقة مطلقة، ومن يؤمن بذلك لا يصلح للدخول في حوار؛ لأنه يتصور نفسه أن لديه كل الحقائق وغيره لا يملكها ومن هنا تأتي تسميات مثل حزب الله والفرقة الناجية .. الخ.
وهي تسميات تدل على أنهم الجماعة المختارة التي لها وضع خاص والآخرون حثالة وكفرة، وهذا يقف حائلاً أساسياً ضد مبدأ الحوار.
والسبب الثاني : أن الحوار عملية عقلانية في الأساس، وقبل أن ندخل الحوار نتفق على أن نحكم العقل، أما الطرف الإسلامي فيلجأ إلى سلطة النص الشرعي ويحتكم إليها ولا يحتكم إلى العقل والمنطق، والاحتكام إلى النص وسط جماعات تؤمن بقدسية النص معناه أننا لن نتحاور؛ لأن أحد الأطراف يحتمي بالنص ويحرج بالطرف الآخر ويوقعه في مأزق.
والسبب الثالث : هو اللجوء إلى العنف سواء العنف المعنوي متمثلاً في تصفية الخلافات بقوة السلاح، وهنا أذكركم بما حدث في الجزائر حيث قتل مئات الضحايا من الصحفيين والمفكرين والفنانين؛ لأنهم كانوا ذوي فكر مختلف عن الجماعات الإسلامية هناك، أو كان العنف معنوياً عبر تكفير الناس، وخاصة المبدعين والمفكرين وإثارة المجتمع عليهم.
وهكذا فإن على تيار الإسلام السياسي أن يستأصل من داخله عناصر أساسية فيه لكي يصبح الحوار معه ممكناً، لقد قتلوا "فرج فوده" الذي دخل حواراً مع رموزهم وطلقوا امرأة نصر أبو زيد منه؛ لأنه كتب كتاباً لا يعجبهم، رغم أن تأثير الكتاب محدود فلن يقرأه أكثر من مائتي قارئ، لقد جعلوه يهرب وتحتضنه أوروبا وتليفزيونات العالم، وكل يوم تستضيفه قناة عالمية تكره الإسلام.
بل 13 شرطاً للدخول في حوار مع الإسلاميين
ويقول د. محمد رضا محرم الكاتب العلماني والأستاذ بكلية الهندسة جامعة الأزهر، إن هناك أموراً مبدئية يجب تقريرها في البداية، وهي أننا نبحث في التلاقي على أرض السياسة وليس على أرضية الدين، فالدين إذا كان مصدراً لأيدولوجية وتوجه فهو يخص مجموعة فقط، وعليه فإن المجموعات التي تستقي من بعض الصبغات لتوجيهاتها السياسية فعليها أن تسلم بعلاقة بين ثلاثة أبعاد هي الثقافة والأيدولوجية ثم الدين والفكر الديني.
والثقافة أوسع من الدين والفكر الديني، وما الدين والفكر الديني إلا مكون من مكونات الثقافة وهو ملزم لمن ينتسبون إليه وغير ملزم للآخرين ، كما أن الدين يختلف عن الفكر الديني ، فالدين هو المقدس الذي جاء من عند الله، وهو إذا كان من المتشابه واختلفت فيه الأفهام سقطت عنه قداسته، وبناء عليه يجب أن نقبل فكر الآخرين، ومن أجل الحوار مع الحركات الإسلامية فإنه للبدء معها فيه فإنه مطلوب منها أمرين :
الأول : هدم، والثاني : بناء.(15/188)
وبالنسبة للهدم فيجب على هذه الحركات أن تسقط ثنائية الإيمان والكفر وحزب الله وحزب الشيطان، ويجب عليها أيضاً أن تتخلى عن فكرة الدين الغالب في مقابلة أديان مقهورة، فدول أوروبا وأمريكا العلمانية تعتز بدينها ومستعدة أن تقاتل دفاعاً عنه ولو لم تكن ملتزمة به، كما يجب التخلي عن فكرة الفرقة الناجية داخل الدين الواحد، وأيضاً فإن فكرة المرجعية الواحدة تصادر الحرية والديمقراطية وهي فكرة صدرها الاتجاه الماركسي التائب إلى الحركات الإسلامية، ويجب عليهم أيضاً التخلي عن قضية المخادعة بالديمقراطية، وهنا نشير إلى أن المتحدث الرسمي لجبهة الإنقاذ في الجزائر قال يوم الانتخابات " فليهنأ الديمقراطيون بديمقراطيتهم فتلك كانت آخر الديمقراطيات". وعليهم أيضاً التخلي عن الغرق في الجزئيات وترك المشترك العام الذي هو سياسي وليس دينياً .
أما بالنسبة لعملية البناء التي يجب على الحركات الإسلامية القيام بها قبل الدخول معها في حوار، فإن عليهم أن يقبلوا بالآخر بمعايير الديمقراطية المعاصرة وحقوق الإنسان والتسليم بالتعددية والإقلاع عن مقولة المرجعية الواحدة والإيمان بتعدد المرجعيات، كما أن عليهم أن يؤمنوا بتداول السلطة، وأن تداولها أقدس من الوصول إليها.
كما يجب عليهم أن يؤمنوا بالاحتكام إلى السياسة وليس إلى الكتاب المقدس والاحتكام إلى القانون لا إلى الفقه وهذه مأساة؛ لأن د.نصر أبو زيد حوسب بالفقه ولم يحاسب بالقانون، وحاكمه فقيه ولم يحاكمه قاضٍ.
ثم على الحركات الإسلامية التخلي عن فكرة (الذين يلونكم) أي قتال البلاد المجاورة حتى تتم السيطرة على العالم كله، فهذا كلام يخص طرفاً معيناً أما أن نطلقها لتكون حرباً دائمة على جميع الناس داخل المجتمع وخارجه فهذه كارثة؛ لأن سلامنا من سلام العالم، ثم عليهم الإيمان بمبدأ "السيف في الغمد" وليس لجارنا المواطن أو للدول الأخرى، فالعنف لا محل له والإرهاب مدان والدعوة سياسة بالحكمة ،ثم أخيراً يكون بيننا البرنامج وليس المعتقد أو الأيدولوجية.
لا يمكن طرح الحوار بالمنهج الغربي
الأستاذ باسم الطويسي: أحد الكتاب والمثقفين اليساريين المعروفين في الأردن، ويرأس حاليا منتدى فكري "بيت الأنباط"، قال في معرض جوابه على الحوار الإسلامي-العلماني: " لقد أخذ العرب علماً بتخلفهم الحضاري، وازدادوا إدراكاً لمدى الفوات والتأخر منذ القرن التاسع عشر، وهو التاريخ الذي يعني بداية محاولة إنتاج الوعي للذات وبحركة التاريخ من حولهم أكثر من كونه بدايات تأسيس للنهضة، وفي هذه المرحلة وضعت الجذور الأولى للكثير من المعتركات الأيديولوجية التي تلف اليوم الحياة العامة في المجتمع العربي الإسلامي، ومن بينها الصراع بين الثنائيات المنقولة".
وأضاف: إن جوهر ثنائية الإسلام والعلمانية يكمن أساساً في الجدل الموضوعي لغياب التجربة والاعتماد على النموذج المنقول ووعي الآخر في مرحلة إعادة اكتشاف الموقع من التاريخ وحركة الحضارة الإنسانية، وهنا تكمن الجينات الأولى لهذه الثنائيات.
وأشار إلى أن الغرب شهد صراعاً مريراً وطويلاً ضد العنف المادي والمعنوي للدين الذي شكل سياجاً ضخماً ومتوحشاً ضد إنتاج الحياة والحضارة، وضمن سلسلة عملية تاريخية طويلة من المعاناة والآلام، استطاع الغرب إنتاج قطيعة مع الماضي أسس على منطقها النهضة والتغير، أي الانتقال التاريخي من الارتباط بالميثاق الإلهي المستند إلى الخلاص الأبدي إلى مرحلة الذات الموضوعية المستقلة والحرة، ولقد صاحب ذلك تأسيس قانوني وتشريعي هائل ضمن عملية تاريخية طويلة أفرزت الفصل بين الكنيسة والدولة، وقانون مبدأ علمانية الدولة، وظهور المنظومات الكبرى لما سمي فيما بعد بـ "حقوق الإنسان وحرية الكائن".
إنّ ما حدث في أوروبا هو استعادة الذات الحاضرة من الغائب المنفي دوماً إلى الخلاص والخطيئة، وإنزال تاريخ الإنسان من السماء إلى الأرض.
وبين أنه في الوقت الذي بدأ فيه الغرب تدشين مشروعه على الأرض وإنزاله من السماء، كانت تأتي أولى الإشارات من جنوب وشرق المتوسط تحمل البذور الأولى على محاولات التعرف على الذات العربية الإسلامية وموقعها من التاريخ، إنها المعرفة المأزومة المرهونة باستقطابين هائلين، الأول يشد باتجاه الذات ونموذجها الغائب الموجود في الماضي، ولا يمكن تبريره وتسويته إلا بقوة التعبئة الرئيسية الهائلة التي يمتلكها الإسلام، والاستقطاب الثاني يشد باتجاه عنفوان النموذج الغربي ومنطلقاته العلمانية، ومن هنا كان الانتقاص الحضاري الأكبر الذي ارتكب بحق الفعالية الحضارية العربية الإسلامية.
وأضاف: إن السجال التاريخي الذي دام طوال القرن العشرين بين الثنائيات الفكرية والإيديولوجية (الحداثة والتقليدية، العلمانية والدين الإٍسلامي….)، هو في حقيقة الأمر سجال ومماحكات أيديولوجية أكثر من كونها حراكاً معرفياً ينتج التاريخ، ولذلك أسباب عديدة أهمها: أن طرفي السجال قد غيّبا تجربة الذات في استعادة الوعي، واستندوا على نموذج الآخر إن كان في الدفاع عنه أو في الهجوم عليه.(15/189)
إنّ الشروط التاريخية للخروج من حالة السجال الزائف إلى فضاء إنتاج التاريخ الحقيقي تبدو أهم ملامحه في استعادة الوعي المجتمعي، وبناء النموذج الذاتي للوعي حول التاريخ والحضارة والإنسان، لقد تجاوز العرب الجسر الأول نحو الوعي بتخلفهم، وبقي أمامهم الجسر الثاني لإنتاج معرفة أسباب بناء النهضة وإنتاج تاريخهم.
إن مسألة العلمانية والإسلام وفصل الدين عن الدولة، لا يمكن طرحها بالأسلوب والطريقة والمنهج والأدوات كما في الحالة الأوروبية، إلا أنّ الحالة العربية الإسلامية مرهونة في هذا الشأن ببناء الوعي المجتمعي أولاً والمصاحب ثانياً للإصلاح القانوني والسياسي عبر المدخل الديموقراطي.
وأكد أن المدخل الديموقراطي وحده لا يكفي دون الوعي الاجتماعي الحقيقي الذي يدافع عن الخيار الديموقراطي ويحميه، فلا توجد إرادة حقيقية على سبيل المثال لدى الغرب لإصلاح ديموقراطي في العالم العربي والإسلامي؛ لأنهم يعون تماماً أن الصناديق سوف تأتي بالإسلاميين الذين سوف يحرقون القوارب التي أوصلتهم إلى الشاطئ كما يعتقدون، مشيراً إلى أن الوعي المجتمعي هو المطلب الأساس لفك الأحجيات التاريخية، وبناء علاقة متوازنة مع الذات والآخر والتاريخ.
الحوار ضرورة
الأستاذ موفق محادين الكاتب والمفكر اليساري الأردني، ورئيس المنتدى الاشتراكي من جهته أكد أن الحوار الإسلامي العلماني ممكناً ومطلوبا، لا سيما بسبب ضرورته السياسية وليس الأيديولوجية.
وأضاف: أنه من الصعب أيديولوجياً أن ينجح هذا الحوار في المستوى الاستراتيجي الذي يطال السلطة والمعرفة والماهايات وتجلياتها. أما على الصعيد السياسي: فهو يندرج تحت قواسم مشتركة تمتد من الاعتراف المتبادل على مساحة واسعة من المعطيات اليومية والوقائع السياسية المحددة والمصالح الاجتماعية فأطراف الحوار أطرف اجتماعية طبقية من الزاوية الموضوعية.
وأضاف: أنه بلغة فلسفة الحق فإن الأطراف الأيديولوجية المتناحرة في المستوى النظري، تجد نفسها في دوائر انفراج سياسي ومصالحات اجتماعية مختلفة ما إن تتحول الأفكار إلى "تعيينات" نسبية مفتوحة من سطوة المعنى ورقيب السرائر.
ومن المعروف أن هذه التعينات بوصفها تاريخاً، تستغرق من الوقت والمناورات ما يفوق لحظات الصراع الحاد والتحول من السياسة والميدان العملي إلى موجز مقتضب جديد للأيديولوجيات غير المتصالحة.
وأشار إلى أنّ الإسلام والعلمانية مشروعان مختلفان كل الاختلاف، فالتسوية ممكنة وضرورية بينهما في المستوى السياسي، لكنها غير ممكنة ولا ضرورية على المستوى النظري.
على العلمانيين أن يكونوا أكثر وضوحاً
كان ما سبق هو رأي رموز العلمانية في الحوار مع الإسلاميين، والآن يأتي الدور على الرموز الإسلامية لاستطلاع رأيها، فيقول د. محمد عمارة المفكر الإسلامي المعروف إننا نرحب بالحوار مع العلمانيين فوراً وبلا شروط مثل التي يضعها بعضهم، لكن علينا أولاً أن نفند كلامهم، فبالنسبة لامتلاك الحقيقة المطلقة التي يتهمون بها الإسلاميين فإن هناك فارقاً بين أن أؤمن بأن ما لدي من الدين هو الحقيقة المطلقة، وبين أن أؤمن بأن ما أدرك وأعقل من هذه الحقيقة الدينية المطلقة هو أمر نسبي، إن الدين في حد ذاته مطلق ومن لا يؤمن بذلك فهو جاهل لا يعرف معنى كلمة دين.
لكن العقل البشري كملكة إنسانية نسبي الإدراك ،ولذلك فما يقوله المسلم سواء في الفكر الديني أو السياسي إنما هو اجتهادات بشرية غير ملزمة للآخر ، وإذا كان العلمانيون يتهمون الإسلاميين بذلك فإنهم يتهمون أنفسهم أيضاً؛ لأنهم مقتنعون تماماً بما في رؤوسهم من أفكار ترفض الدين ويعتقدون أنها هي الحقيقة المطلقة .
أما بخصوص قضية الاحتكام إلى النص، فإن كل تيارات الفكر دينية كانت أو لادينية تحتكم إلى نصوص، والمعيار في التمييز بينها هو مدى الجمود والتقليد أو الاجتهاد والتجديد إزاء النصوص، فهناك إسلاميون من أهل الجمود وهناك يساريون من أهل الجمود، وهناك مجتهدون ومتطرفون من كل التيارات.
إن النص عندنا يعني القرآن وتصديقه إيمان وإنكاره كفر، قد نتفق مع العلمانيين لو كانت المسألة تتعلق بترجيح تفسير على آخر، والاجتهاد في إطار النصوص المعتمدة ، فهنا تأخذ القضية بعداً مقبولاً، أما إذا كان المقصود تنحية القرآن تماماً فهذا كفر صريح بل أقبح درجات الكفر على الإطلاق، إن الإسلام له حدود لابد أن يلتزم بها الإنسان ليكون مسلماً وإلا خرج من دائرة الإسلام، فالخمر حرام ومن قال بعكس ذلك فليس بمسلم، وأداء الصلاة فرض ومن قال بغير ذلك ليس بمسلم -الخ.
وكل من أنكر معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر، ولابد أن يكون هناك كفر وإيمان بل ونفاق أيضاً.
إن العلمانيين يريدون منا إسقاط ثنائية الإيمان والكفر وحزب الله وحزب الشيطان؛ لكي يكون الدين شيئاً هلامياً لا معنى له، فليفعلوا هم ما يريدون، لكننا نؤمن بثوابت ديننا ونحكم على المؤمن بالإيمان وعلى الكافر بكفره الظاهر سواء أسعد ذلك العلمانيين أو أغضبهم.(15/190)
إن مشكلة هؤلاء العلمانيين أنهم يعتقدون أن النص ضد العقل، وهذه مشكلتهم وليست مشكلتنا نحن، فمن عظمة الإسلام أن صريح المعقول فيه يوافق صحيح المنقول من أدلة الشرع.
إن أتباع أي دين يؤمنون بصحة معتقداتهم ،والذي يعتنق فكرة أو مذهباً أو ديناً ولا يؤمن بصحته فهو منافق، وإذا سألنا أتباع أية ديانة أخرى فسوف نجد أنهم يؤمنون بصحة ما يعتقدون ويبطلون ما يعتقد الآخرون ، ولكن الإسلام يختلف عن الآخرين ، فالعقائد الأساسية في الإسلام بسيطة وتلتقي فيها أدلة العقل مع النصوص وهي ثلاثة : عبادة الإله الواحد، ثم الإيمان بجميع الرسل والأنبياء، ثم الإيمان بالجزاء والدار الآخرة ،ونحن في هذه الأمور نمتلك الحقيقة المطلقة ومن يشك في واحدة من هذه الأمور فهو كافر.
أما فيما يتعلق بالأحكام الفرعية التي ليست قطعية الثبوت ولا قطعية الدلالة وهي موضوع اجتهاد المجتهدين ، فالمسلمون لا يدعون فيها امتلاك الحقيقة المطلقة، وفيما عدا الأصول والمبادئ الكلية للشريعة ،فالأمور اجتهادية وقابلة للاختلاف .
أما بخصوص سلطة الاحتكام إلى النص فنحن مأمورون شرعاً بذلك قال تعالى [وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا].
وعلى العلمانيين أن يكونوا أكثر وضوحاً وأكثر شجاعة وجرأة، ويقولون لنا هل هم مسلمون فعلاً ويؤمنون بالقرآن وبهذه النصوص التي لا تعجبهم أم لا؟ لأن هنا سوف يأخذ الكلام معهم وضعاً آخر، إن النص نفسه يأمرنا بتحكيم العقل واستشارته في غير الأصول والمبادئ الكلية القطعية، والمذاهب الإسلامية تعتمد على النظر العقلي إلى جانب الدليل الشرعي.
الأستاذ "منير شفيق" المفكر الإسلامي البارز، صاحب العديد من المؤلفات والكتب في الرد على العلمانيين وتفنيد الفكر الماركسي، أجاب حول الموضوع نفسه بقوله: "إن شروط أي حوار إسلامي علماني تتوقف على الطرف العلماني المحاور، وما هو منظوره لعلاقة الدولة والدين، والأهم ما هو موقفه من الإسلام والإسلاميين، فمثلاً إن كان من المدرسة العلمانية المتطرفة التي تعادي الدين وتعمل على إقصاء الإسلاميين، فلا حوار ممكن مع هذه الفئة".
أما إذا كان من العلمانيين الذين يقبلون في بلادنا أن يكون الإسلام دين دولة، وأن تقر القوانين وفقاً لاختيار الشعب لممثليه؛ بمعنى: القبول بفض الخلاف عبر صناديق الاقتراع أو بالحوار لتحقيق إجماع وطني، فإن شروط النجاح تصبح فاعلة وممكنة، لا سيما إذا كان الطرف الإسلامي يعترف بالتعددية، ويقبل الاحتكام عبر المجالس التشريعية من خلال صناديق الانتخاب أو بالحوار لتحقيق الإجماع الوطني، ويكون لديه الاستعداد، وهو شرط للعلماني، وأن يحترم ما يصدر من قوانين دون أن يعني الموافقة عليها أو الاقتناع بها، أي إبقاء حق معارضتها وتغييرها من خلال الأغلبية في مجلس الشورى والبرلمان أو الحوار الوطني والتوصل إلى عقد جديد.
إن الحوار الأهم والذي هو الأقرب للنجاح إنما هو الذي يتناول الاتفاق على القضايا والتحديات التي تواجه الأمة وتتعلق باستقلالها وتضامنها ومواجهتها للعدوان الخارجي والمشروع الصهيوني، وهنا يمكن تشكيل الجبهات بلا حاجز لحل الخلافات المتعلقة بالعقيدة والمرجعية دون تنازل مبدئي، أي حصر الاتفاق بقضايا السياسة والاقتصاد والمصالح العملية للبلاد والأمة، وهي مرحلة ضرورية ويمكن أن تسهل فيما بعد الحوار في القضايا الخلافية .
الحوار مطلوب بل ومأمور
أما د. عبد اللطيف عربيات أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي الأردني سابقا، ورئيس مجلس الشورى في جماعة الإخوان المسلمين حاليا، قال : "إن الحوار الإسلامي العلماني مطلوب ومأمور به مع أيٍ كان مع المؤمن وغير المؤمن، فالإسلام غني بأمثلة بالغة الدلالة على هذا الحوار، حيث حاور الله تعالى الشيطان.
كما أمر رسوله الكريم بالحوار في قوله تعالى:((ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)). وهذا نوع من التبليغ.
وأضاف أنه لابد من حوار ونقاش العلمانيين أصحاب الفكر الغربي بأساليب متطورة حديثة تناسب مختلف الطبقات والتوجهات (خاطبوا الناس على قدر عقولهم).
وأشار إلى أن العلمانية تقوم على فصل الدين عن الدولة والتفكير العلمي المجرد، ونحن كإسلاميين لا نمانع الحوار، بل على العكس فإنه يعطينا فرصة لبيان عظمة الإسلام وقدرته على إقامة الحجة والبرهان، فنحن نؤمن بالله الواحد؛ وهذا يجعلنا نقف على أرض صلبة، مشيراً إلى أن الحقيقة العلمية قابلة للتعديل والتبديل فهي في تطور مستمر والعقل يتجدد ويتطور باستمرار.
وبيّن عربيات: أن هناك حقيقة إيمانية وحقيقة علمية، والسؤال الذي يطرح نفسه أيهما يؤول لصالح الآخر؟.
لقد قال تعالى ((ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)). إن المتأمل في هذه الآية الكريمة يجد فيها أحدث أساليب البحث العلمي، "فالسمع" هو علم ما قبلنا، و"البصر" هو المنهج الوصفي، "والعقل" هو المنهج التحليلي.(15/191)
إن هناك علوم نقل وعلوم عقل، علوم النقل فهي "علوم الشريعة والإسلام"، وعلوم العقل "هي العلوم الغربية الحديثة"، فمثلاً كان هناك جدل حول مسألة إقامة السلام مع إسرائيل، فالمؤيدون رأوا أنه لا فائدة من الحروب، فالسلام هو الحل، فهذه الفئة استخدمت عقلها فقط، لكن الإسلام يؤكد على أن السلام مع اليهود لن نحصد منه شيئاً، ويظهر ذلك في قوله تعالى ((أم لهم نصيبٌ من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيرا))، فكان هناك صراع بين العقل والنقل، وأثبتت التجربة أن علم النقل كان الأفضل والأصدق.
هناك حقيقة عقلية وحقيقة نقلية، فالإسلام يوضح هذه الحقائق، ويجادل بالتي هي أحسن لتصل إلى حقائق أزلية، الإسلام لا يخشى حواراً بل يدعو إليه، سواءً مع المؤمن أو الصديق أو العدو ويمارسه، ولكن حسب المنهج والأساليب العلمية الموضوعية.
شروط الحوار وأهدافه
المفكر والباحث في الفكر السياسي الإسلامي، ورئيس قسم الفقه في جامعة الزرقاء الأهلية في الأردن د. رحيل غرايبة رأى في حديثه للإسلام اليوم أن الحوار ممكن من جهة الإسلاميين، فالفكر الإسلامي عموما يعتمد أسلوب الحوار العلمي مع كل المخالفين، بعلمية وموضوعية، وليس هناك ما يجعل هذا الحوار مستحيلا.
ومن الناحية الشرعية فإن القرآن أمرنا بالحوار والجدال بالتي هي أحسن، وقد أورد لنا القرآن حوار الله عز وجل مع إبليس، وحوار سيدنا إبراهيم مع النمرود، وقد حفل القرآن بنقاش عقلي منطقي يعتمد الأدلة مع الذين ينكرون اليوم الآخر، أو أولئك الذين يشركون مع الله معبودا آخر.
أما بخصوص شروط الحوار وقواعده، فيرى الدكتور غرايبة أنه لابد من اعتماد أرضية للحوار وأهداف وقواعد وأسس يتفق عليها الطرفان، وبعد ذلك تحديد القضايا والموضوعات التي سيناقشها الحوار، ويحدد الدكتور غرايبة في هذا السياق عدة قواعد أساسية لا بد أن تحكم الحوار، وهي:
الاعتراف والإقرار بوجود الاختلاف، وأن الاختلاف سمة المخلوقات جميعها، ومنها الإنسان، وهذا الاختلاف والتنوع ينظر إليه على أنه مسألة إيجابية وليست سلبية، إن تم التعامل معه بطريقة صحيحة.
الحرية الفكرية التامة والحرية العقدية هي أساس وقاعدة يجب أن يتم الانطلاق منها، بحيث يستطيع كل صاحب رأي وفكر أو معتقد أن يدافع عن فكره وعقيدته بحرية دون اضطهاد أو إرهاب فكري.
الحوار الموضوعي العلمي، الذي يعتمد على المسلمات العقلية والبدهيات المنطقية التي يجمع عليها المنطق والعقل السليم.
احترام الرأي الآخر وعدم التهكم والسخرية أو الهمز واللمز، وعدم التسفيه، مع الجرأة في الطرح وبيان التناقض في الموقف الآخر، بعيداً عن لغة المجاملة الفكرية أو الشخصية.
أما بالنسبة لأهداف الحوار فيجد الدكتور غرايبة أن أبرز أهداف الحوار هو تجلية الحق والوصول إليه، والبحث عن الصواب والالتزام به.
كما أن من أهداف الحوار البحث عن إطار للتعاون الفكري والثقافي، يعتمد قيم الخير والبر، وتحقيق مصلحة الأمة، ويقول د. غرايبة " فنحن جميعا نريد أمة قوية موحدة، لها فكرها المتميز وحضارتها الفريدة، وتسهم في إسعاد أبنائها وتنقل رسالتها للبشرية كلها، لها هويتها الثقافية التي تنتمي إليها، فكيف نحقق ذلك؟ وكيف نصل إلى هذه الأهداف المشتركة؟ وما هي مهمة العلماء والمثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي جميعا في صياغة هذا الإطار الجمعي، الذي يستوعب الآراء المختلفة والجهود المتعددة، وأفكار العقلاء المبدعة؟..هذه الأسئلة التي تزداد إلحاحا علينا وتحتاج إلى إجابات.
ويمكن اختصار أهداف الحوار على الشكل التالي:
على الصعيد الداخلي: إيجاد أمة قوية موحدة، غير مخترقة فيها تعددية مقدرة، كلهم يشتركون في صناعة حضارة، ويسهمون في بناء القوة في الجوانب المختلفة: علمياً وفكرياً واقتصادياً ..
على الصعيد السياسي : إيجاد حرية سياسية منضبطة بالمسؤولية الأخلاقية، وتؤدي إلى أن تكون سلطة الأمة هي العليا، واحترام رأي الأغلبية، وعدم مصادرة رأي الأقلية، وفتح المجال أمام جميع القوى السياسية والحزبية في الإسهام في الرأي والحوار.
على الصعيد الخارجي: تميز في العطاء الحضاري، وصناعة قوة موازية بلا تبعية ولا عدوان على أحد تحمل رسالة مميزة، وتساهم في وجود سلام عالمي عادل مبني على الحق واحترام كرامة وخيارات الشعوب.
العلمانيون أنفسهم يؤمنون بامتلاك الحقيقة المطلقة(15/192)
أما المفكر الإسلامي د. محمد يحيى فيقول : إن العلمانيين أنفسهم يقولون بامتلاك الحقيقة المطلقة، فأي علماني سواء كان ماركسياً أو ليبرالياً أو قومياً سوف نجده يقول مذهبي هو الحق المطلق وما عداه باطل ورجعي ومخالف لحقوق الإنسان ، والدليل على ذلك أن هذه المذاهب حينما حكمت في بلاد عربية وغير عربية تصرفت وكأنها تحتكر الحقيقة المطلقة، ومن يقول بغير ما تقول تنهيه من الوجود، وقد رأينا هذا في الاتحاد السوفييتي السابق، وفي البلاد التي عانت من الشيوعية، كذلك رأينا هذا الأمر تمارسه الأحزاب العربية القومية التي وصلت إلى الحكم، حيث اضطهدت الآخر الفكري وقهرته، وما ذلك إلا أنها تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فلابد أن يؤمن بها كل الناس وإلا واجهوا مصيرهم المحتوم .
إننا إذا كنا نتحدث عن القيم العليا الحاكمة للوجود فإن هذه الأمور بطبيعتها لا تحتمل إلا الحقيقة المطلقة، والجميع يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة فلماذا اتهام الإسلاميين دون غيرهم بذلك؟.
أما إذا كنا نتحدث عن أمور الحياة المختلفة وتدبير المعايش وتنظيم قوانين تحكم حياة الناس مثل قانون المرور والمباني -الخ؛ فالإسلاميون لم يقولوا بامتلاك الحقيقة المطلقة في ذلك .إن اليهود والنصارى يقولون بامتلاك الحقيقة المطلقة في شأن قيم الوجود العليا وكذلك الشيوعيون فلماذا اتهام الإسلاميين فقط بذلك؟.
وعن إسقاط المرجعية الواحدة والإيمان بتعدد المرجعيات يقول د. محمد يحيى :إن المرجعية معناها مجموعة من المبادئ المتسقة فيما بينها يمكن العودة إليها واستمداد المبادئ والقيم منها.
والعلمانيون يطالبوننا بتعدد المرجعيات في الوقت الذي لا يوجد عندهم تعدد مرجعيات، فالعلماني الليبرالي لديه مرجعية واحدة هي الإيمان بالحياة النيابية التي ينتج عنها سلطة تشريع وحكم ثم مراعاة مجموعة من حقوق الإنسان، ولو كانوا صادقين في تعدد المرجعيات لآمنوا بمرجعيتنا الإسلامية كإحدى هذه المرجعيات وهي تفرض عليهم بدورها أموراً معينة، لكنهم يأتون إلى المرجعية الإسلامية ويرفضونها .
كذلك فإن الماركسي مرجعيته الأساسية هي الفكر المادي وعدم وجود إله وهدم الإيمان بالغيبيات، وإنما الإيمان بالقيم المادية التي تحكم الكون، ودعاة القومية العربية مرجعيتهم الأساسية تحقيق مصالح الشعب العربي أياً كانت وهي عادة مصالح مادية ،وهكذا فإن العلمانية على تعدد فصائلها لا تؤمن بتعدد المرجعيات .
وعن مطلب العلمانيين بتخلي الإسلاميين عن مقولة الدين الغالب والفرقة الناجية
يقول د. محمد يحيى : إنه إذا كان المقصود أن هذا الدين الغالب يتم التبشير به من خلال الدعوة إليه فهذا شيء لا ننكره، بل هو من صلب الإسلام الذي هو رسالة عالمية ، كما أن الأديان والمذاهب العالمية تقوم بالتبشير والدعوة لمبادئها، أما إذا كان المقصود بالدين الغالب أنه الدين الذي يقمع الآخرين ويتخذهم عبيداً ،فالإسلام آخر دين يمكن اتهامه بذلك؛ لأنه أعظم من حمى حقوق الآخرين وحافظ عليها ، والأقليات الدينية في البلاد الإسلامية أحسن الأقليات حظاً في العالم.
أما مفهوم الفرقة الناجية فهو مفهوم عام يقصد الالتزام بقواعد الدين وكلياته والبعد عن الابتداع والتحريف ، وليست هناك جماعة إسلامية تقول إنها الفرقة الناجية بصرف النظر عن الغلاة المرفوضين من داخل الصف الإسلامي نفسه، ومقولة الفرقة الناجية موجودة في كل الأديان ، ففي المسيحية كانت هناك ثلاث فرق، بل يمكن القول إنها ليست فرقاً بل أدياناً مختلفة تماماً، وكذلك في اليهودية هناك دينان رئيسيان، وما أكثر تعدد مذاهب الماركسية، أما الإسلام فإن الاختلاف في إطاره بقي محكوم بمبادئ عامة وكليات لم يتجاوزها.
===========(15/193)
(15/194)
عداوة اليهود وأحلام السلام
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ، ومنْ يُضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70-71).
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ r وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكل محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيَّها المسلمون : يقول الله تعالى : ((وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (لأنفال:26).
ولا أجدُ أبلغَ من هذه الآيةِ العظيمة تُلخصُ الحالةَ البائسة، التي كان عليها العربُ في جاهليتهم، فهم كما وصفَ اللهُ تعالى يعانون قلةً وضعفا، ويشتكون خوفاً ورعباً، أوجعتهم الحروب العصبية، ومزقتهم الثارات الجاهلية، دأبهُم السلبُ والنهب، ود يدنُهم الظلمُ والغصب، فكانت الأمةُ العربية أمةً ضعيفةً، ممتهنة، لا حضارةَ لها ولا مجد، ولا سيادةَ لها ولا رفعة، ولم يكن لها أيُ تأثير يُذكر في مُجرياتِ الأحداث، في ذلك الزمان الذي تنازعت في السلطة حضارتان وثنيتان، وقوتان عظيمتان، هما فارس والروم، والتي لم تتعد نظرتُهما إلى العرب عدا أنَّهم قومٌ من الرُعاعِ المتخلفين، والجوعى البائسين.
يقول قتادةُ - رحمهُ الله- : ( كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناسِ ذلاً، وأشقاهُ عيشاً، وأجوعَه بطوناً، وأعراهُ جلوداً، وأبينَهُ ضلالاً، مقهورين على رأس حِجْرٍ بين الأسدين - فارسَ والروم - ولا واللهِ ما في بلادِهم يومئذٍ من شيءٍ يحسدون عليه، من عاشَ منهم عاش شقياً، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يُؤكلونَ ولا يَأكُلون، واللهِ ما نعلمُ قبيلاً من حاضرِ أهلِ الأرضِ يومئذٍ كانوا أشرَّ منزلاً منهم، حتى جاءَ اللهُ بالإسلام، فمكنَّ به في البلاد، ووسعَ به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقابِ الناس) انتهى كلامه رحمهُ الله.
ولقد منّ اللهُ تعالى على أولئك البائسين ببعثةِ نبيهِ العظيم r فآمن به من آمن، وتبدلت الأرضُ غير الأرض، وتغيرتْ القلوبُ والوجوه، وتحطمتْ القيمُ الزائفة، وتهاوتْ القنا عاتُ الفارغة، وانتكستْ المبادئُ القاحلة، وتحولَ العربيُ الذي ما كان يعرفُ غيرَ الكأسِ والغانية، ولا يجيدُ سوى التذلل أمامَ أصنامٍ من حجرٍ وخشب، تحولَ إلى وعاءٍ من إيمان، وجبلٍ من يقين، وامتلأ قلبهُ ورعاً وتقى، ونفسهُ فضيلةً ومروءةً وشجاعة، وفي فترةٍ قياسية أُذهلت الدنيا بأسرها، تحولَ المجتمعُ العربيُ بإيمانهِ وإسلامهِ، لا بعروبته وقوميته، تحولَ إلى القوةِ الأولى في العالم بلا منازع، بعدما حطّم كبرياءَ فارسَ والروم، ودكَّ حصونَها في آنٍ واحد، وجعلهم أشتاتاً بعد وحدة، أذلاءَ بعد عزة، وظلَّ القرآنُ الكريم يتنزلُ عليهم آيةً آية وسورةً سورة، يغرسُ في نفوسهِمُ العقيدة الصحيحة، والخلق القويم، والسلوك الحسن، ويتعاهدهم برعايةٍ وتربيةٍ من نوعٍ خاص، صنعتْ منهم رجالاً لم يعهد التاريخُ لهم مثيلا، وبالرغم من نزول القرآن بلغة العربِ الأصيلة، إلا أنك لا تجدُ آيةً واحدةً تخاطبهم خطاباً قومياً، فليس في كتابِ ربنا(يا أيَّها العرب)، وإنما هو النداءُ الذي ارتضاهُ اللهُ لهم، نداءُ الإيمانِ العظيم، وفي ذلك إشارةٌ واضحةٌ الدِلالة بأنَّ المجدَ الذي حققوهُ وسادوا به الدنيا، ما كان ليحدث لولا إيمان قوي، خالطَ بشاشةَ القلوب، ويقين راسخ استقر في سويدائِها.(15/195)
واليوم يعيدُ التاريخُ نفسَه من جديد، فلما تنكَّرَ العربُ لكتابِ ربهم، واستخفوا بسنةِ نبيهم، عاد العربُ أقزاماً لا وزنَ لهم ولا قيمة، وغدوا ذيولاً واتباعاً، بعد أن كانوا رؤساءَ وسادة، وغابَ تأثيرُهم في مُجريات الأمور، وتسلطَ عليهم أعداؤُهم من كلِّ جانب، ومارسوا عليهم وصايةً مهينة، وتدخلَ الكفارُ في أخصِ خصائِصهم، وأدقِّ شؤونهم، واستأسدتْ عصابةٌ من اليهود، فاحتلت أرضَهم وبلادَهم، وأذاقتهم الذُلَّ والحسرة، وجرَّعتهم المرارةَ والغُصة، منذُ ما يربو على خمسين عاماً وإسرائيلُ توجهُ إلينا صفعاتٍ موجعة، حتى استمرأناها وألفناها، فتبلدت أحاسيسنا، ويبستْ جلودُنا، فما عادت تُؤثر فينا تلك الصفعات.
خمسونَ عاماً أُتخمَت سَنَواتُهَا ذلاً فما يغشى العيونُ رُقادُ
منذ ما يربو على خمسين عاماً وإسرائيل تدنسُ مقدسا تنِا، وتقتلُ إخواننَا، وتعبثُ بمشاعِرنا، وتسخرُ من أعصابِنا، دون أن نسمعَ غضبةً عمريه، أو وثبةً سعدية، أو زأرة أسدية لابن الوليد، أو صرخة عثمانية من عبد الحميد في وجهِ الخونةِ وناقضي العهود يوم قال: إن فلسطين أرضٌ أُخذت بالدماء ولا تباع بالذهب !! وفي الوقتِ الذي كُنَّا نُمنِّي فيه أنفسنَا بجهادٍ نحطِّمُ به عصاباتِ يهود، ونستعيدُ مجدَنا السليب، وعزنَا الفقيد، فإذا بهم يركضون خلفَ سلامٍ من سراب، ويخوضون مفاوضاتٍ مهينةٍ هزيلة، أملاً في عقدِ معاهدةٍ مع الذين احترفوا نقضَ العهود، وجُبلوا على الغدرِ والخيانة، فمعذرةً يا فلسطين ويا شعبَ فلسطين، ومعذرة يا محمد جمال، لقد رأيناك تحتمي خلف صخرةٍ من حقد يهود، ورصاص يهود، لقد آلمنا حقاً صُراخك واستغاثتك،
أحبابُنا إني أُغالبُ حسرةً مشبوبةً وعلى الأسى أتجلَّدُ
نظراتُ أعينِكم تعذبني فلا عيشي يطيب ولا جفوني ترقدُ
تجري دماءُ الأبرياءِ على الثرى نهراً وعالمَنُا المخدَّر يشهَدُ
والمسجد الأقصى يباع ويُشترى جهراً، وقُدسُ الفاتحين تُهوَّدُ
أوَّاه من نارٍ أَحسُّ بحرِّها لمَّا يُراقُ دَمٌ ويُهدَم مسجدُ
إني لأبصرِ وجهَ طفلٍ تائهٍ وسؤالَه الحيرانُ أين المُرشدُ؟
ماذا جنى هذا الصغيرُ أما هُنا رجلٌ إلى قولِ الحقيقةِ يُرشدُ؟
إني لأُبصرُ أمةَ الإسلامِ في لهوٍ تقومُ على الهوان وتقعُدُ
فأكاد أحلفُ أنَّ أمتنَا غدتْ بالذُّل في دَيَرِ الهوانِ تُعمِّد
وكأنَّها لم تَبْنِ صرحاً شامخاً ظلَّت به نحو المعالي تصعدُ
أيها المسلمون :
إلى متى هذا السكوت ؟ حتى متى الصمت المميت؟
ما ذلك الإعراضُ والصممُ الغريب؟ عن كل آهاتِ الثكالى والحيارى والنحيب؟ حتى متى هذا الصدود؟ وإلى متى هذا الركود؟!
وإلى متى عنَّا تشيحُ وجوهُكم يا مسلمون؟ أو ليس في الأقصى الأسير مذابحٌ للآمنين؟
يستنصرون؟
يستصرخون؟
فما لكم لا تسمعون؟
أو ليس فيكم من رشيد؟
أو ما ترون الحقدَ ينضحُ من يهود؟
قد دنسوا الأقصى وفي ساحاتهِ ذبحوا بنيهِ، لم يرحموا الطفلَ الصغيرَ، رموه بين يدي أبيه، حتى متى يا أمتي؟
وإلى متى؟
حتى تُقطعُ للعدا أشلاؤنا؟
حتى يُشردُ أهلنا أطفالنا؟
حتى متى؟
قولوا متى؟ حتى تعيث يهودُ في الأرض الفساد؟
حتى تُحالَ بلادُنا نهبا لأنذال العباد؟
حتى متى؟
حتى تُهدَّمَ قدسُنا؟
حتى يُقامُ الهيكلُ المزعومُ في مسرى الرسول؟
ويُقسَّمُ الأقصى المباركُ بين عُبَّادِ العجول؟
فأين أين المسلمون؟
أين الذين لربهم يتعبدون؟
أين الذين بدينهم يستمسكون؟
أين الأولى في الله هم يتناصرون؟
ما بالكم لا تسمعون؟
ما بالكم لا تنظرون؟
فأين، أين المسلمون؟
بل أين بعضُ المسلمين؟
بل أين أهلُ العلمِ منهم من بقايا الصالحين؟
ما بالكم لا تسمعون وتنظرون؟
فسلوا رحابَ القدسِ تتلوا من مجازرهم سنين، صبرا وشاتيلا وفي يا سين قد حصدوا المئين، حقداً وجاسوا في الديار مخربين؟
كم من عجوزٍ عاجزٍ لم يرحموه، كم من رضيعٍ يتموه، إن لم يكونوا مزقوه؟
كم من صغيرٍ من بقايا حقدهِم قد عوقوه، فإلى الله المشتكى، وإنَّا إليه لراجعون.
لقد تجاهلَ العربُ كتابَ ربهمِ، وهو يُعلنُ العداوةَ المستحكمة التي اختارها اليهود إزاء الذين آمنوا : (( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)) (المائدة: 82) .(15/196)
عداوةٌ قديمةٌ قدمَ الإسلام، رفع لواءَها اليهود منذُ أشرقتْ أنوارُ الرسالةِ المحمدية، وتاريخهمُ في المدينة يشهدُ بغدرِهم ومكرهم، وخبثهِم وكيدهِم، فقد عقد النبيُ r المعاهدةَ مع اليهود عند أولِ وصولهِ إلى المدينة، على أن يواجهوا سوياً أيَ عدوٍ يواجههم، فماذا كانت النتيجة؟ تربصوا برسول ا صلى الله عليه وسلم حتى إذا عاش المسلمون أحرجَ ظرفٍ في حياتهم، وأظلمَ ساعةٍ في تاريخهم، يوم تحزبت الأحزابُ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، وزُلزل المسلمون زلزالاً شديداً، في هذه اللحظةِ أعلن اليهودُ خيانتَهم، ونقضوا عهدَهم، وخانوا مواعيدَهم ومواثيقَهم، وطُعن المسلمون من الخلف، فخانت بنو قريظة المسلمين، وكادت المسلمين في أحرجِ ساعةٍ وأشدِّ موقف، وقبل ذلك غدر به بنو النضير، الذين كانوا بأطرافِ المدينة، فخرج إليهم يستعينُ بهم في دفعِ ديةِ العامريين، اللذين قتلَهما أحدُ صحابتهِ خطئاً، فقالوا : نعم يا أبا القاسم نعينك بما شئت! فجلس النبيُ r تحت جدارِ أحدِ بيوتهم، ينتظرهُم يُحضرون ما اتفقوا عليه، وبينما هو جالسٌ أسرَّ بعضُهم إلى بعضٍ زخرفَ القولِ غروراً، إنَّكم لن تجدوا مثلَ هذه الفرصة، فهل من رجلٍ يصعدُ سطحَ هذا البيت فيُلقي صخرةً على رأسِ محمد، فيريحنُا منه، فانطلقَ أشقى القومِ مسرعاً، ولكنَّ الوحيَ كان أسرع، فقامَ النبيُ r وعاد راجعاً إلى المدينة تاركاً اليهود، تتفجرُ دماءُ الغيظِ ساخنةً في عروقهم، وهناك أَخبر النبيُ r أصحابهَ بما أجمعَ عليه يهود من المكرِ السيئ، والنيةِ الخبيثة، ثم يأمُر- عليه الصلاة والسلام- بتجهيزِ الجيوش ليحاصرَ بني النضير في ديارهم، ويخرجَهم منها صاغرين، وكان قد أجلى قبلهم إخوانهَم بني قينُقاع، حتى قضى في غزوة خيبر على الوجود السياسي لليهود في الحجاز نهائياً!!
إن اللغةَ الوحيدةَ التي يفهمها يهود: هي لغةُ القوة، لغةُ الجهاد، وصيحاتِ- الله أكبر- التي لا يحتملون هتافاتِها.
ما عاد يجدينا البكاءُ على الطلول ولا النواح
يا قومُ إنَّ الأمر جدٌ قد مضى زمن المزاح
سقط القناعُ عن الوجوهِ وفعلهم بالسرّ باح
عاد اليهوديون ثانيةً وجالوا في البطاح
عادوا وما في الشرق نورُ الدين يحكمُ أو صلاح
عاثوا فساداً في الديار كأنّها كلأٌ مباح
لم يخجلوا من ذبح شيخٍ لو مشى في الريح طاح
أو صبيةٍ كالزهر لم ينبت لهم ريشُ الجناح
ذبحوا الصبيَ وأمَه وفتاتهَا ذاتَ الوشاح
عبثوا بأجسادِ الضحايا في انتشاءٍ وانشراح
لم يشف حقدهم دمٌ سفحوه في صلفٍ وقاح
فغدوا على الأعراضِ لم يخشوا قصاصاً أو جُناح
يا أمةَ الإسلام هبُّوا واعملوا فالوقت راح
الكفرُ جمّع شمله فلمَ النزاع والانتطاح؟ فتجمعوا وتجهزوا بالمستطاع وبالمتاح
يا ألف مليونٍ وأين هموا إذا دعت الجراح
هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
من كلِّ ألفٍ واحداً أغزو بهم في كلِّ ساح
لا يُصنع الأبطالُ إلا في مساجدنا الفساح
في روضةِ القرآنِ في ظلِ الأحاديث الصحاح
لا يستوي في منطقِ الإيمان سكرانُ وصاح
من همهُ التقوى وآخرُ همهُ كرةٌ وساح
شعب بغير عقيدةٍ ورق تَذريه الرياح
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
ولسنا نبالغُ ـ أيها الأخوة ـ إذا قلنا أن النفسيةَ اليهودية، نفسيةٌ خانعةٌ جبانة، لا تقوى على المواجهة، ولا تستطيعُ الثباتَ، وهاهو القرآنُ يشهدُ بذلك ويقررهُ : (( لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) (الحشر:14).
وما هزائمهم للعرب، إلا لأنَّهم وجدوا جنوداً لم يذوقوا طعمَ الإيمان، وحلاوةَ المناجاةِ للرحمن، وهم مع ذلك ذوو نفسياتٍ محطمة، ومعنوياتٍ متردية، إذاً فلا جدوى من السلام مع قتلةِ الأنبياء، ومحرفي الكتب، وناقضي العهود والمواثيق. (( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) (آل عمران:112) .
((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (المائدة:13).(15/197)
: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)) (المائدة: 80،79،78) .
فمهلاُ أيها اللاهثون خلف السلام، فلئن عاد حنينٌ بخفيه من اليمن، فلن تعودوا ولا بمثلِ خفيّ حنين.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع، ويخفضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة، والنعمةِ المُسداة، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين،
أمَّا بعدُ:
فقد دأب الإعلامُ العالمي الذي تُديرهُ الأصابعُ اليهوديةُ الخبيثة، على تهويل قوةِ إسرائيل، وتصويرِها بأنَّها القوةُ التي لا تُقهر، والجيشُ الذي لا يُغلب، وظلَّ الإعلامُ الصهيوني يحطِّمُ النفسية المسلمة، ويذكِّرُها بالهزائمِ المتلاحقة،وظلتَ إسرائيلُ تلوحُ بقنابلِها النووية، وقذائفها الصاروخية، وتستعرضُ بطائراتها ومدرعا تها، ونتجَ عن ذلك إحباطٌ عام، أصاب النفوسَ المريضة باليأسِ والقنوط، وتُوِّج ذلك كلُه بما يعرفُ بمؤتمرِ السلام الذي سقطَ فيه الخيارُ العسكري، ونحنُ واثقون أننا لن نَهزم إسرائيل، إذا أخلدنا إلى الأرض، ورضينا بالزرع، وتركنا الجهادَ في سبيلِ الله، ولن نَهزمَ إسرائيلَ بالشعاراتِ القومية، ولا بالعصبياتِ الجاهلية، ولا المهاتراتِ السياسية ولن تزيدَنا إلا خسارةً وخبالا.
كما أننا واثقون من أننا سنهزمُ إسرائيل، ومَن وراءَ إسرائيل، إذا راجعنَا ديننَا وأصلحنا واقعنَا ونفوسنَا، بما أصلحَ به الأولون واقعهمَ ونفوسهم، نحن قادرون على هزيمةِ إسرائيل، إذا كفرنا بكلِّ طاغوتٍ يُعبد من دون الله تعالى، وآمنا باللهِ وحده، ووأدنا كلَّ تشريعٍ وكلَّ دستورٍ، وكلَّ نظامٍ وكلَّ قانونٍ يعارضُ شرعَ الله ويصادمُه، نحنُ قادرون على هزيمةِ إسرائيل إذا حكَّمنا الشريعةَ الإسلاميةَ في كلِّ منحى من مناحي الحياة، وقبرنا الدساتيرَ والتشريعاتِ الأرضيةَ القاصرةَ الهزيلة.
ونحنُ قادرون على هزيمةِ إسرائيل، إذا طهّر العالمُ الإسلاميُ إعلامَهُ من التوجهاتِ العلمانيةِ والإفسادية، ورَسَم السياساتِ الإعلاميةِ الرشيدة، التي تنشرُ العقيدةَ الصحيحةَ في النفوس، وتتعاهدُ الخلقَ القويم، والسلوكَ الرفيع، ونحنُ قادرون على هزيمةِ إسرائيل إذا طهرَ العالمُ الإسلاميُ اقتصادهَ من الربا والظلم، والاستغلال والاستبداد، ورَسَم السياساتِ الاقتصاديةِ الواعيةَ، المستمدة من الكتابِ والسنة.
ونحنُ قادرون على هزيمةِ إسرائيل إذا أعددنا الشبابَ المسلمَ إعداداً دينياً وتربوياً، وبُثت فيهم روحُ الجهادِ في سبيل الله تعالى، وأعددنا العُدةَ الماديةَ والمعنويةَ، لمنازلةِ الأعداء : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)) (لأنفال: 60).
ونحنُ قادرون على هزيمةِ إسرائيل إذا أحيينا شعيرةَ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، وطُهرت المجتمعاتُ الإسلاميةُ من الفسادِ والانحراف.
وبالجملة عودةُ الإسلامِ إلى حكمِ الحياة من جديد، حينها لن تُخيفَنا قنابلُ إسرائيلَ وعتادها، و حينها سنُلقي بإسرائيل في البحرِ ونحن صادقون،
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ، والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين،لا ضاليَن ولا مُضلين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين، ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي .
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ، يا عزيزُ يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
=============(15/198)
(15/199)
الإقلاعُ عن العادةِ العلمانية ..
برنامج من ست خطوات
بقلم: ديفيد بروكس ترجمة: تركي الزميلي 10/1/1424
13/03/2003
مجلة أتلانتك منثلي، عدد مارس 2003
هذا مقالٌ رئيسٌ في العدد الحالي، من مجلة أتلانتك منثلثي، المقروءة على نطاق واسع في أمريكا وبريطانيا وغيرهما، وهو واحدٌ من مقالات عديدة مشابهة، تَظهر في منافذ النشر المختلفة في العالم الغربي، وهو بالتأكيد لا يخلو من التحيزات المعتادة، وقد لا يتفق بالضرورة مع تفسيرات القارئ العربي ومواقفه من الأشخاص والوقائع، ولكنه عينةٌ من كتابات كثيرة، ومؤشراتٍ أكثر، تَتلمَّسُ طريقاً آخر، وتُحس بأن مرحلةً مختلفةً من التحول التاريخي تتكرّسُ يوماً بعد يوم، وتتحدّى ما استقرَّ من مسلماتٍ في المسار الرئيس لفكر النخب في العالم الغربي. وكاتبُ المقال يُراجع تجربتَه هو شخصياً، مثلما يراجِع الثقافةَ التي مَنحتْه ما عاش به من مسلماتٍ في النظرِ إلى الأحداث، وتفسيرِ التحولات في تاريخ البشر، وحاضرهم، ومستقبلهم. ويبحث عن يقين جديد، بعد أن تهدمتْ معابد اليقين القديم ومسلماته أو كادت، وهي جرأة محمودة، وإن لم تُوصل بالضرورة إلى فكرةٍ أكثر صواباً، وأجدر بالبقاء.
أنا مِثلُ الكثير من الناس اليوم: علمانيٌّ يَستعيدُ عافيتَه.
لقد كنتُ حتى 11 أيلول أَقبَلُ الفكرةَ التي تقول: إن العالم كلما أصبح أكثر غنى وتعليماً أصبح أقل تديناً. إن هذه النظرية تتمسك -من خلال الاستنتاج من عيِّنةٍ إنسانية محدودة وغيرِ مُمَثِّلَة (بعض أجزاء من أوروبا الغربية، وأجزاء من أمريكا الشمالية)- بأن التاريخ كلما تقدم إلى الأمام؛ فإن العلم يَحُلّ مكانَ التسليم الاعتقادي، والتعليلُ السببي يَحُلّ بديلاً عن التسليم غير الخاضع للتعليل العقلي، وإن أي منطقة لم تنل حصتها بعد من الإصلاح والتنوير-كالعالم العربي مثلا-؛ لابد أنها سوف تنالها، عاجلاً أم آجلاً.
إن من الواضح الآن بأن نظرية العلمنة هذه غير صحيحة؛ فالجنس البشري لا يصبح بالضرورة أقل تديناً كلما أصبج أكثر غنى، أو أفضل تعليماً. إننا نعيش اليوم في ظل واحدة من أعظم فترات التقدم العلمي، وتخليق الوفرة، وفي الوقت نفسه فإننا في قلب الازدهار الديني.
إن الإسلام يموج بالحركة. واليهودية الأرثوذكسية تنمو في الأوساط الفتية من المجتمع، وإسرائيل تزداد تديناً كلما أصبحت أكثر غنى. والتنامي في المسيحية يفوق كل الأديان الأخرى. لقد نشرتْ هذه المجلة (مجلة أتلانتك منثلي) مقالاً في عام 1942م كان عنوانه: "هل سوف تنجو الكنيسة المسيحية من الاندثار؟" والحال أن ثمة الآن بعد ستين سنة من نشر المقال بليونين من المسيحيين في العالم، وبحلول 2050 فإن العدد وفقاً للتقديرات سيصبح ثلاثة بلايين. وكما يلاحظ فيليب جينكينز أستاذ التاريخ والدراسات الدينية في جامعة بنسلفانيا، فإن أكثر الحركات الاجتماعية التي شهدها عصرنا نجاحاً ربما تكون حركة الـPentecostalism (راجع مقال"المسيحية التالية" في عدد أكتوبر من مجلة أتلانتك). فقد تحققتْ لها البداية في لوس أنجلوس منذ حوالي القرن، والآن يعتنقها 400 مليون من الناس -وهذا الرقم وفقا لما يقوله جينكينز ربما يبلغ المليار عند حلول منتصف القرن-.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الطوائف الدينية، التي ترفض تبني العلمنة، هي الطوائف الأسرع نمواً، بينما تستمر في الذبول والاضمحلال تلك التي تحاول أن تكون عصرية(mode r n). وإن الصيغ المثيرة من المسيحية، والصيغة المقاومة للحداثة من الإسلام هي التي تنمو وتزدهر. إن تعداد المسيحيين في أفريقيا، الذي كان يبلغ 10 ملايين تقريباً في عام 1900م، والذي يبلغ الآن حوالي 360 مليوناً؛ من المتوقع له أن يبلغ في عام 2025م: 633 مليوناً، مع سيطرة للمجموعات الإنجيلية المحافظة. إن الكنائس في أفريقيا تغدو أكثر نفوذاً من العديد من الكيانات القومية، مع ما ينشأ عن ذلك من آثار، الجيد منها والرديء.
إن العلمانية ليست هي المستقبل؛ إنها رؤية الأمس الخاطئة للمستقبل. هذا الإدراك يدفع بنا نحن العلمانيين في طور التعافي إلى محلات بيع الكتب، أو المكتبات العامة، في محاولة يائسة لاكتشاف ما الذي يحدث في العالم. إنني أشك أني الوحيد، الذي وجد نفسه بعد الحادي عشر من سبتمبر يقرأ طبعة ورقية (غيرمجلدة) من القرآن، والتي كانت قد أُحضرتْ من بضع سنين خلت، في تلائم مع سمو المبدأ، ولكنها في الحقيقة لم تُفتح قط، وربما لستُ الوحيد الذي يتعمق الآن في دراسة تعاليم أحمد ابن تيمية، وسيد قطب، ومحمد بن عبد الوهاب.
إن عملية التشافي من العلمنة تحتاج إلى ست خطوات:
أولاً عليك أن تقبل حقيقة أنك لست المعيار أو النموذج.(15/200)
إن المؤسسات الغربية والجامعات ترسل مجموعات الباحثين من أجل أن تدرس وتشرح ظاهرة الحركات الدينية، ولكن -وكما أشار إلى ذلك عالم الاجتماع بيتر بيرجر- فإن الظاهرة التي تحتاج حقاً إلى تفسير؛ إنما هي عادات أو سلوكيات أساتذة الجامعة الأمريكان، ويجب على المجموعات الدينية أن تكون هي من يرسل الباحثين؛ لمحاولة فهم: لماذا تُوجد مجموعات ضئيلة من البشر في العالم، لا يشعرون بالحضور المستمر للإله في شئون حياتهم، ولا يملئون أيامهم بالشعائر والصلوات التي تهيؤهم للاتصال بالنبوءة والحدس، ولا يؤمنون بأن رغبة الإله يجب أن تشكل حياتهم العامة.
حالما تقبل هذا -وهو يشبه تفهم أن الأرض تدور حول الشمس والعكس بالعكس- فإنك تستطيع أن تبدأ رؤية الأشياء بطريقة جديدة.
الخطوة الثانية في اتجاه الشفاء تتضمن التصدي للخوف.
لبضع سنوات بدا أننا كنا جميعاً نتجه نحو نهاية حميدة للتاريخ، ربما كان السأمُ فيها أحدَ أعظم مخاوفنا. لقد فازت الديمقراطية الليبرالية بيومها الموعود. ونعم، تَوجَّب علينا أن نتناقش حول العولمة وعدم المساواة، ولكنها كانت مفاهيم مادية وتعيسة.
أما الآن فنحن ننظر إلى المصادمات الأساسية للعقيدة، وإلى الحالة المروِّعة حقاً -على الأقل في نصف الكرة الجنوبي-، التي تُذَكِّر بالعصور الوسطى، مع حكوماتٍ واهنة، وجيوشٍ من المبشرين، وصراعٍ ديني عنيف.
الخطوة الثالثة: أن تصبح غاضباً.
أنا الآن أعاني انزعاجاً مفرطاً بسبب الأصوليين العلمانيين، الذين هم راضون ببقائهم متجاهلين للتحولات الهائلة، التي تحدث من حولهم في كل مكان. إنهم لا يتعلمون أي شيء عن الدين، داخلَ بلادهم وخارجَها. إنهم لا يعرفون من يكون تيم لاهاي وجيري بي جينكينز، حتى وهذان هما المؤلفان، اللذان باعا 42 مليون نسخة من كتبهما! إنهم ما زالوا لا يعرفون ما الذي جعل من عيد الخمسين عند المسيحيين عيد الخمسين (بإمكانك أن تعبر داخل غرفة من غرف الأخبار الأمريكية، وتسأل هذا السؤال، وستجد أن الناس الذين قد يكونون قادرين على الإجابة؛ هم ربما السكرتارية، أو موظفو الأمن). إنهم ما زالوا لا يعرفون عن ميشيل عفلق، القومي العربي الروحاني، الذي كان المرشد الروحي لصدام حسين. إن زخات نياجرا الاتقاد الديني هذا الشلال العظيم، تنهمر من حولهم، بينما يقفون بُلداءَ، ومُتَيَبِّسين، في كهفٍ حقير من ضيق أفق التفكير، والكثير منهم صحفيون، ومحللون سياسيون، إنما يُدفَع لهم من أجل مواكبة هذه التغيرات.
الخطوة الرابعة في اتجاه الشفاء، تكون بمقاومة دافع البحث عن تفسيرات مادية لكل شيء.
خلال القرون، عندما تبدّت العلمنة، بصفتها موجةَ المستقبل؛ طوّر المفكرون الغربيون نماذج لعلم اجتماعٍ، مُقْنِعٍ بصورةٍ استثنائية. فقد شرح ماركس التاريخ عبر صراع الطبقات، وشرحه اقتصاديون آخرون من خلال تعظيم الأرباح والفوائد، واستخدم أساتذة الشئون الدولية، مبادئَ صراع المصالح، ونظريةَ اللعب؛ للتنبؤ بالتفاعلات بين الأمم.
كل هذه النماذج مغرية، وصحيحة جزئياً. وهذا البلد (أمريكا) يستمر في بناء مؤسسات قوية من أمثال قسم الشئون الخارجية، والسي آي إي، التي يستخدمها لتطوير سياسات ذات مغزى. ولكن ليس ثمة أي نموذج من هذه النماذج يستطيع أن يأخذ في الحسبان، وبصورة ملائمة، الأفكارَ والدوافعَ والتصرفاتِ الدينية، لأن التوقد الديني لا يمكن قياسُه ولا تنميطه. إن الدوافع الدينية لا يمكن أن تفسر بتحليل حدود الكسب والخسارة.
لقد كان محللو السياسة المدنية، عبر السنوات العشرين الماضية، يفكرون بجد في الوظائف والأدوار، التي يلعبها الدين والخصائص الشخصية في الحياة العامة. إن نخب سياستنا الخارجية هم متأخرون عنها بعقدين من السنين على الأقل. لقد استمروا لشهور يتجاهلون قوة الدين، وحينها عندما اصطدموا مع أمرٍ لا مفر من كونه دينياً، كالثورة الإيرانية، أو طالبان، بدؤوا يتحدثون عن الحماس والتعصب الديني، اللذين أصبحا، وبصورة مفاجئة، يفسران كلَّ شيء. وبعد بضعة أيام من هز الرؤوس الرافضة للمتعصبين؛ عادوا إلى تحليلاتهم العلمانية المعتادة. إننا حتى الآن لم نملك -مع حاجتنا المؤكدة- نموذجاً للتحليل، يُحاوِل أن يدمج العاملَ الروحيّ، والعاملَ المادي معاً.
يجب على العلماني المتعافي، أن يقاوم إغراء معاملة الدين بصفته مَعْبراً أو قناةً مجرَّدة لدوافع اقتصادية مقاوِمة. على سبيل المثال: نحن غالباً ما نقول: إن الشبان العرب الذين لا يملكون إمكانياتٍ لائقة؛ يتحولون إلى الإسلام الثوري. إن هناك بشكل واضح بعض الحقيقة في هذه الرؤية، ولكنها ليست كل القصة: فلا أسامة بن لادن، ولا محمد عطا -على سبيل المثال- كانا فقيرين أو مقموعين. ومع ذلك فإن من المحتمل تشييد نظريات، تشرح اتجاههما الراديكالي بصفته نتيجةً لتوحدهما، أو لأشياء أخرى من عوامل التحليل العلماني، مع أن الذي يقدِّم إدراكاً أفضل، هو الاعترافُ بأن الإيمان مصدر القوة، بصورة مستقلة، وربما أقوى من أي استياء اقتصادي.(15/201)
إن الكائنات الإنسانية تتوق إلى حكم الصلاح والاستقامة، وإلى عالم الإنصاف، أو عالمٍ يعكس مراد الإله، وفي كثير من الحالات، وعلى الأقل بمقدار مشابه في القوة، لاشتياقها إلى النجاح أو المال. وإن التفكير في هذا التوق؛ يعني التحرك بعيداً عن التحليل العلمي، والدخول إلى ممالك الحكم الأخلاقي. إن السؤال الحاسم لا يكون عن: ما هو نوع الدوافع الذي يستجيب لها هذا التوق؟ ولكن: هل الأفراد يتبعون رؤيةً أخلاقيةً للحكم الصالح؟ وهل هم يمارسون ذلك من خلال طرقٍ مستقيمةٍ وفاضلة؟ أم أنهم مثل صدام حسين وأسامة بن لادن أشرار في رؤيتهم وطرائقهم؟
الخطوة الخامسة: يجب أن يعترف العلماني في طور التشافي، بأنه كان متراخياً جداً مع الدين؛ لأنه افترض أن الدين يلعب دوراً متقلصاً في الشئون العامة. لقد عامل الدين بغطرسة، ثم قرّر متنازلاً عَدمَ محاكمة العقائد الأخرى، فهي كلها طرق مشروعة لمقاربة الإله، كما أخبر نفسَه، وقرر أن يذوبَ أخيراً في واحدة منها.
ثم بعد كل شيء، ما الداعي لإثارة المشكلة بمحاكمة عقائد الآخرين؟ إنه ليس تصرفاً مؤدباً. إن الخيار الأفضل عندما تواجَه ببعض التصرفات القبيحة، التي يتم ممارستُها باسم الدين، هو أن تتفادى عيون هؤلاء.
هل الوهابية هي شِقٌّ قاسٍ يَضُرّ بالإسلام؟ لا تتحدث عن هذا.
ولكن لا يمكن لهذه المقاربة أن تكون مقبولة، في عالم يلعب الدينُ فيه، الدورَ الأعظم بصورة مطلقة. على الشخص أن يحاول الفصل بين الصواب والخطأ. ولكن المشكلة أننا في المرة التي نبدأ فيها بفعل ذلك؛ فإنه من الصعب أن نقول: أين سينتهي بنا المطاف؟ أَمْعِن النظرَ في (بيم فورتشوين) السياسي الألماني ذي النزعة اليسارية، والمدافع عن حقوق الشاذين، الذي ينتقد المهاجرين المسلمين لمواقفهم تجاه النساء والشاذين؛ عندما تم اغتياله في السنة الماضية، وصفته الصحافة بناءً على هذه النزعات النقدية، بأنه يميني من نوعيةِ جين ماري لوبان، وهو وصفٌ بعيد عن الحقيقة. إن تصنيفات اليسار واليمين في عالم اليوم ما بعد العلماني ستصبح غير ملائمة، ومنتهية الاستعمال.
الخطوة السادسة والأخيرة للعلمانيين في طور التعافي: هي أن يفهموا بأن هذا البلد لم يكن علمانياً بالفعل في أي يوم من الأيام.
إننا نحن الأمريكان نتوق إلى معيار الصلاح والاستقامة بتوقُّدٍ كأي شخص آخر. إننا مغروسون مع الفكرة التي عَبّرتْ عنها كلمات أبراهام لينكولن: نحن نمثل "الأمل الأفضل والأخير للمعمورة". إن العديد من الأمريكيين أحسوا وباستمرار، بأن لدينا مهمة غير عادية، ومتجاوزة للحدود، مع أنها، ولحسن الحظ، ليست من النوع اللاهوتي. إننا نُحس غريزياً، وبطرق لا يحس بها الناس في أماكن أخرى، بأن التاريخ لم يتحقق بعد، طالما بقي هناك أمم أو شعوب، لا يكون الناس فيها أحراراً. وهذا هو الإحساس الغريزي الذي قاد بوش للاستجابة بصورة طموحة جداً، لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهذا ما قاد الأغلبية من الأمريكان لتأييده.
إن الأمريكيين نشطون كغيرهم في صراع عقائد النهايات. يرى صدام حسين التاريخ ينتهي مع أمة عربية موحدة، مسيطرة عالمياً، مع تحقيقه لمكانة مبجلة، كصانع لنظام عالمي كهذا. ويرى أسامة بن لادن التاريخ ينتهي بفرضٍ عالمي لقانون الشريعة. والكثير من الأوروبيين يرون التاريخ ينتهي بإقامة مؤسسات عالمية علمانية، حيث ستهدأ الانفعالات القومية والدينية، وتُعطِي دولُ القوميات معبراً للقانون الأممي، وللتعاون المتعدد. والكثير من الأمريكان يرونَ التاريخَ ينتهي بانتصار الحرية، واحترام الدستور، مع تدين غير متخلى عنه، أو مقموع، وإنما مثرٍ للحياة الديموقراطية.
إنه لا مفر من كوننا عالقين في عالم من الرؤى المتصارعة، في رؤيتها للقَدَر التاريخي. ولكن فهمَ هذا العالم يَعني: جلدَ التحيزات العلمانية، الصادرة عن عقولنا كل يوم.
=============(15/202)
(15/203)
بوادر العلمانية المُستجدة
عوض بن عودة 16/1/1424
19/03/2003
أخونا (عوض العودة) يتخوف من تسلل كثير من الأفكار العلمانية بثوب جديد , ويدعو لمواجهة العلمنة والتغريب بلغة الحجة والدليل من أهل المعرفة والاختصاص .
(المشرف على النافذة)
إن ما يلحظ في وقت الأزمات والملمّات وخاصة في ساحات الأمة الإسلامية ولوج بعض الأفكار والعقائد الدخيلة الهدامة لتصطاد في الماء العكر ولبث سمومها بين المسلمين وللأسف على أيدي فئام من هذه الأمة. وهذه الأفكار يكمن خطرها إذا تسللت في أروقة المجتمع الإسلامي لاستدراجه في شؤون عقيدته وحياته وفكره وأخلاقه وسياسته واقتصاده ومقدراته فيصبح المسلمون بدين أجوف كما يراد له أن يكون بلا دين ولا هوية. وفي الآونة الأخيرة نلحظ تسابق العلمانيين أو اللادينين إلى استغلال الظرف الحالي للأمة وذلك عن طريق تلبس ثوب جديد في استدراج الأمة لتبني أفكارهم المزيفة الساقطة والتي نرى بعض بوادرها قد ظهرت في يومنا هذا.
فبعد سقوط الفكر العلماني الدخيل عموماً حتى لدى المجتمعات الغربية أخذ هذا الفكر بالتلون مرة أخرى ليتقوى بثوب مزيف أخرق وربما باسم أو شعار جديد ليسهل مروره وتبنيه من قبل الأمة الإسلامية. وكما نعلم بأن العلمانية هي دعوة في الأصل إلى إقامة شؤون الحياة الدنيوية وخاصة جانب الحكم السياسي على مبادئ العلم الوضعي والعقل والمصلحة وتجريدها من الدين. وهذا الاصطلاح لا صلة له بكلمة العلم والصحيح هي اللادينية أو الدنيوية وتم تحريف المُسمى لتسهيل مرورها وهنا لابد من تأكيد حقيقة واضحة بأن الإسلام لايرفض الفكر والعلم النافع البتة ولكنه في الوقت نفسه لايقبل الفكر والعلم الساقط المنحرف الذي يخل بأمور الدين. فالدين الإسلامي دين كامل وفيه من المرونة مايمكنه من التعامل مع المستجدات وتأصيلها تأصيلاً شرعياً دون إفراط أو تفريط.
ولذلك تجد هؤلاء العلمانين يسّوقون الآن لتبني نظام جديد ينشر الديمقراطية والحرية والعدل في أرجاء الأمة الإسلامية بديلاً عن النظام الاستبدادي والديكتاتوري الحالي كما يزعمون. ويقولون إنه لن يتم ذلك إلا بفصل الدين تماماً عن شئون الدولة والناس (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) مع أن هذه الأنظمة نشأت من خلال إرهاصاتهم وأفكارهم الهدامة المزيفة سابقاً. ودائماً تجدهم يتصورون بأشكال ومسميات وشعارات عدة للطعن بدين الله وفصل الدين عن الدولة وشؤون الحياة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ولأجل ذلك لابد من التعامل مع الأمر بحذر وذكاء دون رفض تام منفر. فعلى أبناء الأمة الإسلامية المختصين واجب في دراسة جدية لهذه الأفكار القادمة بقوة وتأصيلها تأصيلاً شرعياً مفيداً للأمة وأهلها دون إفراط أو تفريط. فجُل هذه الأمور موجودة في ديننا ولكن التقصير يكمن في الجانب التطبيقي العملي وهو الذي ينبغي العمل من أجل تحقيقه وتقليص المسافة بين الجانب المعرفي والجانب التطبيقي. ولنعلم أن أسلوب الشدة والرفض الذي يغلبه جانب العاطفة قد لايجدي في مثل تلك الأمور للتصدي لها ولكن لابد من التأصيل والإقناع والحوار والتوضيح بأسلوب فيه من الرفق مايزينه. فالحجة بالحجة والدليل بالدليل بأسلوب مبشر لا منفر وعلى المختصين إظهار الإسلام بحقيقته وسماحته دون إخلال. وبحول الله وقوته فإن الدين الإسلامي محفوظ ظاهر بحفظ الله له (يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة: 32).
=============(15/204)
(15/205)
(هل يمكن أن نتعايش؟) رسالة مثقفي أمريكا الجوابية
الإسلام اليوم - خاص 20/8/1423
26/10/2002
قامت مجموعة من المثقفين الأمريكيين ببعث رسالة جوابية بعنوان"هل يمكن أن نتعايش؟" وهي بمثابة التعقيب على البيان الذي وقعه 153 مثقف سعودي ونشر في موقع الإسلام اليوم وحمل عنوان " على أي أساس نتعايش ؟"
وقد حملت الرسالة الجوابية نقاطاً متعددة، حيث تناولت الآراء المتفق عليها، والأخرى المختلف فيها، كما عرضت جملة من الآراء التي أُسيء فهمها .
وختمت الرسالة بمجموعة من الأسئلة التي ينتظر المثقفون الأمريكيون الإجابة عليها.
وفيما يلي نص الرسالة:
هل يمكن أن نتعايش ؟
حضرة الزملاء الأعزاء:
نشكر لكم رسالتكم الصادرة أخيراً (على أي أساس نتعايش؟) والتي نشرت في أيار (مايو) من العام الجاري في الرياض ووقعها 153 منكم, رداً على رسالتنا (على أي أساس نقاتل؟) والتي كان ستون منا أصدروها في العاصمة الاميركية واشنطن, في شباط (فبراير) الماضي (1). ونحن نرحب بردّكم.
كما إننا ندرك أن قراركم الشروع بالكتابة إلينا, وما تضمنه ردكم من الآراء, دفع بعضهم إلى انتقادكم علناً في بلادكم (2). فنحن نقدر الروح الحضارية والرغبة في التفاهم اللتين تظهران جلياً في ردكم. ونحن, انطلاقاً من هذه المشاعر عينها, نود هنا متابعة الحوار.
حيث نتفق:
إنكم تنطلقون من النص القرآني الكريم ومن سنة الرسول لتؤكدوا أن الإنسان (من حيث كينونته هو مخلوق مكرم), وأن قتل النفس الإنسانية بغير حق هو بالتالي اعتداء على الله وخيانة للدين. وتذكرون انه لا يجوز إكراه أحد في دينه, وأن العلاقات بين البشر لا بد من أن تكون قائمة على الأخلاق الكريمة. وتشيرون إلى أن العدل مفهوم عالمي, وأن المعاملة العادلة هي حق غير قابل للتصرف لكل إنسان.
ونحن ننوّه بتشديدكم الصريح على عالمية هذه القيم الإنسانية الأساسية, ونعلن موافقتنا عليها. وأنتم تشيرون إلى أن هذه القيم (قيم إنسانية عامة) بما أنها (متفقة مع الفطرة). وتوضحون أن القيم والمبادئ التي أتيتم على ذكرها في ردكم (تتفق بقدر مشترك مع بعض الأسس التي أوردها المثقفون الأميركيون في بيانهم), وأن قدر الاتفاق على هذه المسائل الفلسفية المبدئية يشكل (أرضية جيدة للحوار). ثم إنكم لاحقاً تشيرون في ردكم إلى أن (بعض القيم الإنسانية التي ذكرها المثقفون الأميركيون ليست قيماً أميركية بل إنها متعددة المصادر تشترك فيها حضارات متنوعة من بينها الحضارة الإسلامية).
ونحن نوافق على هذا الرأي بشدة. لقد كانت رسالتنا بمعظمها محاولة لتقديم الطروحات الأخلاقية على أرضية عالمية. وردكم الذي يأتي إلينا من أرض الحرمين ومهد الإسلام, وهو دين نحترمه, يضفي على هذه العالمية المنشودة المزيد من الزخم ويزيدنا ثقة بأنه قد يكون في الإمكان, على رغم الخلافات, التوصل إلى فهم مشترك للشخص الإنساني وللمجتمع المدني.
وفي إطار تشديدكم على أهمية العدالة, تؤكدون أن (الضمانات لتحقيق الأمن لا تفرض بالقوة فقط). ونحن نوافق على ذلك. وتحديداً, فإنكم في إطار نقدكم رسالتَنا تدعوننا, على ما يبدو, إلى تجنب اللجوء الى (لغة القوة). ونحن نقرّ بأهمية نصيحتكم هذه. غير أننا نذكّركم بأن السياسة, وهي المعنية بترتيب شؤون حياتنا بعضنا مع بعض, تُعنى جزئياً بالاستعمالات العادلة للقوة, فلا يسعها بالتالي التهرب من مسألة القوة. نرجو, إذن, أن توافقوا على أن من الأفضل الإقرار بهذا الأمر صراحة, بدلاً من افتراض شرط غير متعارف عليه في الممارسة السياسية الفعلية, بل أيضاً في الممارسة الدينية.
وأنتم تشددون على أن الإسلام كدين ليس (عدواً للحضارة) أو (عدواً لحقوق الإنسان). ونحن نوافق تماماً. وأنتم تشيرون إلى أن العنف السياسي والمتطرف ليس (خاصاً بالمفهوم الديني) أو (ليس مرتبطاً بديانة معينة). ونحن نوافق تماماً على ذلك أيضاً.
وفي هذا السياق, فإننا نذكر, ويا للأسف جنوح بعض الأميركيين الى الإدلاء بآراء متهورة في شأن الدين الإسلامي وأخرى تتوخى الأذى به . وبعض هذه الآراء تناقلته وسائل الإعلام بكثافة. على أن الدلائل تشير في الوقت نفسه إلى أن هذه الآراء لا تعكس وجهة نظر الغالبية العظمى من المواطنين الأميركيين.
وأنتم تدعوننا كمثقفين أميركيين ألى (مراجعة جادة) لموقفنا من الإسلام, ومدّ جسور الحوار مع المفكرين المسلمين البارزين والذين يمثلون الفكر الإسلامي العريض. وهذا هو تحديداً ما نسعى إليه, وأحد مظاهره رغبتنا في الجواب على رسالتكم.
*حيث نسيء فهم بعضنا بعضاً :
للأسف, إن استعمالنا المتكرر في رسالتنا لعبارة (القيم الأميركية) أدى إلى بعض الإرباك والإبهام, كما يظهر من اعتراضكم في ردكم على ما اعتبرتموه دعوة من الولايات المتحدة موجهة إلى المسلمين لاعتناق (المبادئ الأميركية). والواقع أن قصدنا كان صياغة طروحاتنا في إطار عالمي شامل, غير مقترن بأية خصوصية وطنية أو فردية. وكان علينا توضيح هذا القصد توضيحاً أفضل. ونحن هنا نعلن قناعتنا بأن القيم الأساسية التي ننطلق منها ليست خصوصية على الإطلاق.(15/206)
ونحن في رسالتنا كتبنا أن (أفضل ما نطلق عليه (في الولايات المتحدة) بحسب الصيغة الشائعة تسمية (القيم الأميركية) ليس حكراً على أميركا بل هو إرث مشترك للإنسانية جمعاء). إضافة إلى ذلك, فإن ما سميناه (القيم الأميركية) يعكس في بعضه ما جاء ليُثرينا من التقاليد والمفاهيم التي حملها المهاجرون الوافدون إلينا من مختلف المجتمعات في أرجاء العالم معهم. ففي هذا الإطار, نجد أن تأكيدنا عالمية القيم الإنسانية الأساسية يشابه الطروحات التي تقدمتم بها في رسالتكم.
وثمة جانب آخر من جوانب سوء التفاهم على ما يبدو ينبع من استعمالنا المصطلحين الإنكليزيين (SECULA r ) و(SECULA r ISM). فرسالتكم تشير إلى أننا نحبذ العلمانية, والواقع أننا في رسالتنا نرفض العقيدة العلمانية المتشددة (العلمانوية) التي نعرّفها أنها (نظرة إلى العالم قائمة على رفض الدين أو العداء للدين). لكننا, من جهة أخرى, ندافع عن مبدأ الحكومة الدنيوية, ونقصد به النظام الدستوري الذي لا يمنح رجال الحكم السلطة انطلاقاً من مكانتهم في الهرمية الدينية أو على أساس تعيين السلطات الدينية إياهم في مناصبهم. فتحبيذ الدولة (الدنيوية) ليس إذن اعتناقاً للعقيدة العلمانية المتشددة (العلمانوية). بل خلاف ذلك صحيح على الغالب بالنسبة إلينا. ولذلك كتبنا أن (الولايات المتحدة تكون في أفضلها حين تسعى إلى أن تكون مجتمعاً يجمع الإيمان والحرية, وكل منهما يرتقي بالآخر). وقلنا أيضاً انه (من الجانب الروحي, فإن فصل الدين عن الدولة يسمح للدين بأن يكون ديناً, عبر نزعه من السلطة القاهرة للحكومة).
وبعض سوء التفاهم هذا قد يعود إلى صعوبة التعريب. فعلى سبيل المثال, إن المصطلح العربي (العلمانية) قد يُفهم أنه ينطوي على العداء للدين, غير أنه يستعمل عادة أساساً لتعريب كل من المصطلحين الإنكليزيين (SECULA r ) و(SECULA r ISM). فقد يكون المطلوب استعمال مصطلح (دنيوي) الذي لا ينطوي على أي عدائية إزاء الدين للتعبير عن المفهوم الذي نحبّذ.
وبشكل عام, فإن انتشار العقيدة العلمانية المتشددة (العلمانوية) والنتائج المترتبة عليها في الولايات المتحدة وغيرها من المجتمعات الغربية, والعلاقة في كل المجتمعات بين الإيمان الديني وحرية المعتقد, هي من المسائل المهمة التي تستحق المتابعة والحوار فيها بعضنا مع بعض.
حيث نختلف:
نقطة الخلاف الأولى بيننا وبينكم هي في أنكم في رسالتكم لا تأتون إطلاقاً على ذكر دور مجتمعكم في احتضان العنف (الجهادي) (3) وفي حمايته ونشره, وهو العنف الذي يهدد العالم بأسره اليوم, بما فيه العالم الإسلامي.
فعلى سبيل المثال, عند الإشارة إلى الضحايا الأبرياء الثلاثة آلاف الذين سقطوا في اعتداء الحادي عشر من أيلول (سبتمبر), لا تتحدثون عن (منفّذين) فحسب, بل عن (المنفذين المفتَرضين). وهذه العبارة تؤلمنا وتخيّب أملنا. كيف يسعنا أن نصدق أنكم لا تعلمون أن 15 من أصل 19 من المهاجمين هم من التابعية السعودية؟ وأن زعيمهم أسامة بن لادن هو في الأصل سعودي؟ أو أن تنظيم القاعدة الذي أرسلهم قد حصل على مدى السنين على الدعم المالي المهم من البعض في بلادكم؟ أو أن نسبة مرتفعة من المقاتلين التابعين لـ(طالبان) ولـ(القاعدة), والذين قبضت عليهم الولايات المتحدة في أفغانستان, هم من السعوديين؟ أو أن انتشار العنف الذي تقدم عليه الجماعات الإسلامية في أنحاء العالم, من أفغانستان إلى أندونيسيا والولايات المتحدة, يمكن تتبع أصوله, في بعضه على الأقل, إلى الدعم المالي والسياسي والديني من مصادر في بلادكم؟
هذه الوقائع معروفة جيداً, وليس ثمة خلاف على حقيقتها الموضوعية. لكن رسالتكم توحي بأن هذه الوقائع ليست وقائع على الإطلاق, بل (افتراضات), وأن المسألة برمتها, أي من هم الإرهابيون ومن يدعمهم, خارجة عن موضوع الأزمة الحالية.
ونحن ندرك بعض الأسباب الممكنة التي تدفعكم إلى تجنب النقاش في الموضوع. غير أننا لو كنا, مثلاً, قد كتبنا أن بلادنا في تاريخها قد شهدت تجربة الاسترقاق (المفترض), أو أن سكان البلاد الأصليين (الهنود) قد تعرضوا لظلم (مفترض), لكنا توقعنا منكم أن تردوا, بحق, أن هذا الإنكار المبدئي للوقائع ينفي إمكان الحوار الصادق. وقياساً, وفي سبيل متابعة الحوار في ما يتعدى هذه الرسالة, نطلب منكم بإخلاص أن تقدموا إلينا رأيكم الصريح في ما يتعلق بالدور المهم للبعض في مجتمعكم في اعتداء 11 أيلول, كما في انتشار العنف الذي تقترفه الجماعات المتذرّعة بالإسلام في أرجاء العالم.(15/207)
وأنتم تكتبون (ان الولايات المتحدة لو اعتمدت العزلة عن العالم داخل حدودها) فإنه لم يكن ليعني المسلمين ما تعتنقه وتمارسه من مبادئ وقيم. وهذا القول صادق, على الأقل في بعضه. لكننا لا نعتقد بأن من الحكمة لبلادنا (أو لأية بلاد أخرى في هذا الصدد) أن تعتمد (العزلة عن العالم داخل حدودها). ونحن نشير هنا الى أن الكثير من الشخصيات والمجموعات من بلادكم تنشط في ترويج مفهومها للدين الإسلامي لا في الولايات المتحدة فحسب, بل في كثير من الدول الأخرى التي لا نية لها ولا قدرة على التأثير الفاعل خارج حدودها.
وأنتم تكتبون أن (غالبية الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي وغيرها تمتلك قدراً ذاتياً من الاعتدال, من المهم المحافظة عليه). ونحن لا نزعم أننا على اطلاع دقيق على الوضع الحالي والاتجاهات المستقبلية للمواقف العقائدية في العالم الإسلامي. لكننا على بيّنة من التجاذب القائم في هذا العالم بين الدين الإسلامي, والذي نقرّ بعظمته ونحترمه, والجماعات السياسية الدينية المتشددة الرافضة لتسامح والتي تدعي (خطأ برأينا) رفع لواء الإسلام. وإزاء الحديث عن (المحافظة) على الوضع الحالي, نشير إلى أن هذا الوضع يقوم على مقتل الأعداد الكبيرة من الأبرياء, منهم المسلم وغير المسلم, على أيدي جماعات إسلامية متشددة, بعضها يجد الدعم والتشجيع في بلادكم, وبعضها يسعى إلى اقتناء السلاح الكيماوي والجرثومي والنووي. فنحن, بالتالي, لا نرغب إطلاقاً في المحافظة على الوضع القائم.
وفيما تعترضون على ما تعبرونه (إدارة الصراع) في الولايات المتحدة, تكتبون أن (الاستقرار أساس الحقوق والحرية في العالم). ونحن هنا نعتبر أنكم إلى حد كبير قد قلبتم السبب والنتيجة. ذلك أننا نعتقد بأن الحقوق والحرية هما أساسا الاستقرار. لذلك, فإن الأوضاع القائمة في الكثير من المجتمعات الإسلامية اليوم - حرية تعبير ضئيلة جداً, غياب النظم والمؤسسات الديموقراطية, اعتراف سيئ للسلطات بحق حرية البحث الأكاديمي وغيره من حقوق الإنسان الأساسية - تجعلنا نعتقد بأن الاستقرار في مجتمعكم, تماماً كما في غيره, يبقى مرتبطاً إلى حد بعيد بالرغبة والقدرة لدى قادتكم والمثقفين لديكم, بإضافة إلى عموم الشعب, في أن يسعوا إلى تحقيق الحقوق الأساسية والحريات للجميع في مجتمعكم. ونحن نأمل هنا بأن تعتمد حكومتنا نهجاً أكثر وضوحاً وثباتاً في دعم التوجهات نحو الديموقراطية في العالم الإسلامي.
والفحوى التي تتكرر في رسالتكم, وتأتي كنتيجة وخلاصة لها, هي أن اعتداءات 11 أيلول, وأعمال العنف الذي تقدم عليه الجماعات الإسلامية عموماً, تقع مسؤوليتها في الدرجة الأولى على الولايات المتحدة نفسها وعلى حلفائها. أي أن رسالتكم في جوهرها تقول لنا إننا جلبنا المصيبة على أنفسنا. فأنتم على سبيل المثال تكتبون أن عدم الاستقرار في العالم الإسلامي جاء (تحت مظلة الغرب) وربما كان عائداً إلى (ممارساته المباشرة).
وتقولون أيضاً إن (كثيراً من التجمعات الإسلامية المتشددة - كما توصف - لم ترد أن تكون كذلك في أولى خطواتها, لكنها وضعت في هذه الدائرة) نتيجة للضغوط السياسية والعسكرية والإعلامية من الولايات المتحدة وحلفائها. وتصرون على أن هذا التبدل الاجتماعي الذي جاء نتيجة للضغوط الخارجية هو (الدافع الأكبر إلى التشدد في التجمعات والحركات الإسلامية). وأنتم تشيرون تكراراً, في رسالتكم, إلى أن لجوء الولايات المتحدة إلى القوة العسكرية في مواجهة المجموعات الإسلامية يزيد من حدة هذا التبدل. وتشددون خصوصاً على أن إسرائيل والدعم الأميركي لها هما السبب الجوهري لكل المسائل التي تناقشونها في رسالتكم تقريباً.
ونحن ندرك أن السياسة الأميركية ذات تأثير مهم في أنحاء العالم, سلباً وإيجاباً, وندرك أيضاً أنكم تختلفون مع هذه السياسة اختلافاً مبدئياً في موضوع الدعم الأميركي لإسرائيل. وهذه أمور تستحق بالفعل المناقشة, ويمكن الاختلاف فيها بصدق وإخلاص.
وكثيرون منا, وربما كان بعضكم, عند التطلع قدماً, يأملون بأن يستتب الحل المقبل على دولتين, إسرائيل وفلسطين, كل منهما بمقومات الاستمرار والبقاء, وبالتجاور الآمن المسالم, لما فيه خير الشرق الأوسط وخير العالم أجمع.
لكننا في الوقت نفسه نطلب منكم أن تعيدوا النظر في التوجه السائد في رسالتكم والذي يلقي اللوم في المشاكل التي يواجهها مجتمعكم, على الجميع إلا قادتكم ومجتمعكم. فبعض القادة السياسيين يجد فائدة في بعض الأحيان في اللجوء إلى إثارة البغض إزاء (الآخر) أو (العدو), وذلك في سبيل تحويل أنظار الجمهور عن المشاكل الفعلية القائمة. ونحن ندعوكم, بصفتكم مثقفين, إلى إعادة النظر في ما إذا كان السبيل إلى التصدي للتحديات الملحة التي يواجهها مجتمعكم - من البطالة إلى غياب الحريات الديموقراطية وعدم النجاح في تحقيق اقتصاد عصري متنوع, واحتضان العنف الإسلاموي وتصديره - هو اللجوء إلى إلقاء اللوم على الآخرين من أفراد وأمم.(15/208)
وللولايات المتحدة حصتها من المشاكل, وبعضها مشاكل خطيرة. فانتقاد الولايات المتحدة أمر مشروع, بل هو في رأينا أحياناً ضروري. وكثيرون منا يقومون بهذا الانتقاد على نحو متكرر. ولكن, من جهة أخرى, فإن تصاعد العنف الإسلاموي الذي يهدد العالم كافة, بما في ذلك العالم الإسلامي, لا يمكننكم, من المملكة العربية السعودية, أن تلقوا اللوم فيه على الغير فحسب, إذ في ذلك تجاهل غير مسؤول عن التصدي لأمورٍ لديكم لا بد من التطرق إليها.
ونحن نطرح عليكم هنا ثلاثة أسئلة تستحق في رأينا الإجابة والتوضيح: أولاً: هل تعتقدون بأن التقوى الإسلامية التي تلتزمونها في المملكة العربية السعودية, تتعارض مع ممارسات الحركات المسماة (جهادية)؟ ثانياً: إذا كان جوابكم عن السؤال الأول إيجاباً, فكيف تفسرون الدور البارز الذي اضطلع به عدد من السعوديين في اعتداءات 11 أيلول, كما في التصاعد المستمر للحركات المسماة (جهادية) كظاهرة تهدد العالم أجمع؟
وأخيراً: هل ترون أن على القادة الدينيين والمثقفين السعوديين والذين يعتبرون أن ثمة تعارضاً بين أحكام الإسلام وممارسات الجماعات الجهادية أن يعملوا فعلاً وعلناً على تبيان هذا التعارض وعلى نقض الأفكار والممارسات التي ينتهجها تنظيم (القاعدة) وما شابهه على أنها خاطئة وخطيرة؟ نحن في انتظار ردكم.
دعوة الى الحوار العاقل:
في عالمنا اليوم الذي يهدده العنف والظلم, والذي تقلقه الحرب والحديث عن الحرب, والذي يخشى الوقوع في منزلق التناطح الديني بل الحضاري, هل من مهمة بالنسبة إلينا كمثقفين من الشرق والغرب أهم من إيجاد الزمان والمكان المناسبين كي نقيم الحوار العاقل, على أمل ايجاد الأرضية المشتركة لكرامة الشخص الانساني والشروط الأساسية للازدهار البشري؟
فنحن نتمنى أن نكون طرفاً في هذا الحوار معكم ومع غيركم من المثقفين من العالم الاسلامي. ونحن ندرك أن ليس من شروط سابقة لخوض هذا الحوار إلا صفاء النية, والإقرار بانسانيتنا المشتركة, والاستعداد والقدرة للشروع بنقد وتأمل ذاتيين كما بالنقد المتأني لوجهة نظر الآخرين. ونحن نعتبر ان اقدامكم على الكتابة الينا يشير الى أنكم تتفقون معنا في هذا التوجه. رجاؤنا إذن أن نجد السبيل لمتابعة هذا الحوار وتعميقه.
وفي الختام نشكركم مجدداً على رسالتكم.
التواقيع:
جون أتلاس, جاي بيلسكي, ديفيد بلانكنهورن, ديفيد بوسورث, موريس بويد, جيرارد ف برادلي, ألان كارلسون, لورنس أي كننغهام, بول إيكمان, جون بثكي إلشتاين, أميتاي إتزيوني, إليزابيث فوكس-جينوفيز, هيلل فرادكين, صموئيل ج. فريدمان, فرانسيس فوكوياما, ماغي غالاغهر, وليم أي غالستون, كلير غودياني, روبيرت بي جورج, كارل غيرشمان, نيل غيلبرت, ماري آن غليندون, نورفال دي غلين, أوس غيننيس, ديفيد غوتمان, تشارلز هاربر, كيفين جاي (سيموس) هاسّون, سيلفيا آن هيوليت, الأب المحترم جون دبليو هاو, جيمس ديفيسون هنتر, بايرون جونسون, جيمس تورنر جونسون, جون كيلساي, دايان كنيبرز, توماس سي كوهلر, روبرت سي كونز, غلين سي لاوري, هارفي سي مانسفيلد, ويل مارشال, جيري إل مارتن, ريتشارد جاي موو, دانيال باتريك موينهان, جون إي مورّاي, آن دي نيل, فيرجيل نيموئيانو, مايكل نوفاك, الأب فال جاي بيتر, ديفيد بوبينو, غلوريا جاي رودريغيز, روبرت رويال, نينا شيا, فرد سيغل, ثيدا سكوكبول, كاثرين شو سباهت, ماكس إل ستاكهاوس, وليم تل الابن, ماريس آي فينوفسكيس, بول سي فيتس, مايكل ولتزر, جورج فيغل, روجير إي وليمز, تشارلز ويلسون, جيمس كيو ويلسون, جون ويت الابن, كريستوفر وولف, جورج فورغل, دانيال يانكيلوفيتش.
هوامش:
1- يمكن الاطلاع على نص الرسالتين بالكامل باللغة الانكليزية, إضافة الى بعض التعليقات والتحليلات والنصوص الأخرى, على موقع (معهد القيم الاميركي) على الانترنت: www.ame r icanvalues.o r g
2- بعض هذه الانتقادات نقلت في مقال نيل ماكفاركوار في صحيفة (نيويورك تايمز), 12 تموز (يوليو) 2002.
3- اننا ندرك المعاني المختلفة لمصطلح (الجهاد) دينياً وتاريخياً. لكن الواقع أن ثمة مجموعات اسلامية تعتنق الدعوة إلى تغيير الوضع القائم بقوة السلاح لإقامة الحكم الاسلامي وفق تصورها, وتصف نفسها بأنها (جهادية). ولا شك في أن كثيرين من المسلمين يعتبرون أن هذه الجماعات استولت على مصطلح (الجهاد) وشوّهته, وكثيرون منا يوافقون على ذلك. على أن هذا الاستعمال اصبح بالفعل, وياللأسف, شائعا
================(15/209)
(15/210)
السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام
عماد السيد الشربيني 5/9/1423
10/11/2002
اسم الكتاب : السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها
اسم المؤلف : عماد السيد الشربيني .
الناشر : دار اليقين /مصر .
عدد الصفحات : 506 في جزأين .
التعريف بالكتاب:
قسم الباحث هذا الموضوع إلى مقدمة ، وتمهيد ، وثلاثة أبواب ، وخاتمة .
المقدمة ضمنها سبب اختيار الموضوع ، وأهميته ، وخطة البحث ومنهج البحث فيه.
أما التمهيدفعرف فيه بالسنة في مصطلح علمائها ثم ذكر شبهة حول التسمية ورد عليها،وذكر أن الحديث النبوي بالسند المتصل من خصائص الأمة الإسلامية كما أن دراسة الحديث ضرورة لازمة لطالب العلم.
أما الأبواب ففي الأول منها عرف بأعداء السنة النبوية لغةً وشرعاً. ثم أتبعه بذكر أعداء السنة النبوية من أهل الأهواء والبدع قديماً (الخوارج،والشيعة،والمعتزلة) ،ثم أعداء السنة النبوية من المستشرقين ، ثم أعداء السنة النبوية حديثاً ( العلمانية ، والبهائية ، والقاديانية )،وفي أخري هذا الباب ذكر أهداف أعداء الإسلام قديماً وحديثاً في الكيد للسنة النبوية المطهرة .
وفي الباب الثاني ذكر وسائل أعداء السنة قديماً وحديثاً في الكيد للسنة النبوية المطهرة من التشكيك في حجية خبر الآحاد،و الطعن في رواة السنة المطهرة،وفي الإسناد وعلوم الحديث ،و الطعن والتشكيك في كتب السنة المطهرة،وأخرها الاعتماد على مصادر غير معتبرة في التأريخ للسنة ورواتها .
وأما الباب الثالث فعنون له بنماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها والجواب عنها. بدأه بطبيعة نقد الأحاديث الصحيحة عند أعدائها ،وطبيعة الأحاديث الصحيحة المطعون فيها ،ثم ذكر نماذج من الأحاديث الصحيحة المطعون فيها والجواب عنها كحديث ( إنما الأعمال بالنيات) ،وحديث ( أنزل القرآن على سبعة أحرف)،وأحاديث (رؤية الله ) و( محاجة آدم موسى عليها السلام ) و ( الشفاعة)،وأحاديث ( ظهور المهدي) و( خروج الدجال ) و( نزول المسيح عليه السلام ) ،وحديث عذاب القبر ونعيمه ،و أحاديث ( خلوة النبي بامرأة من الأنصار )،و( نوم النبي عند أم سليم، وأم حَرَام )،وحديث رضاعة الكبير ، وحديث وقوع الذباب في الإناء .
وفي أخري هذا الباب ذكر الباحث مضار رد الأحاديث النبوية الصحيحة .
وفي الخاتمة ذكر نتائج الدراسة ، والمقترحات ، والتوصيات التي خرج بها الباحث ،ومن هذه النتائج:
1- أن مؤامرة التشكيك في حجية السنة المطهرة ومكانتها التشريعية أخذت طريقها إلى عقول بعض الفرق في الماضي ، كما أخذت طريقها إلى عقول المستشرقين ، ومن استمالوهم من أبناء المسلمين في الحاضر .
2- أن معركة أعداء الإسلام مع السنة المطهرة تتسم من جهة أعدائها بالدقة ، والتنظيم ، والكيد المحكم ، كما تتسم من جهة المسلمين بالبراءة ، والغفلة ، والدفاع العفوي ، دون إعداد سابق أو هجوم مضاد .
3- أن القواعد التي ينطلق منها أعداء السنة قديماً وحديثاً في الكيد لها واحدة فشبهات القدماء هي نفسها شبهات المعاصرين .
4- تأثر الفرق الكلامية بالفلسفة اليونانية ، وأعطوها صبغة إسلامية ليستعينوا بها على نظرياتهم وجدلهم ، فكان ذلك ذا أثر بالغ في در النصوص بالعقل ، وفتح باب شر عظيم على أمة الإسلام ، دخل منه كثيرون من أعداء الإسلام ، وتأثر بذلك بعض أبناء المسلمين.
5- مخالفة الفرق الكلامية منهج السلف في فهم النصوص ، وعجز عقولهم عن الفهم الصحيح لها ، أدى بهم إلى الاضطراب ، وعدم الاستقرار المنهجي .
6- أن أهل السنة والجماعة هي الفرقة الوحيدة التي حالفها الصواب والسداد في فهم النصوص من الكتاب والسنة حيث لم يقدموا العقل على نصوص الوحي ، ولم يلغوا عمله ،بل وقفوا به عند حده الذي حده الله له، فاعملوه حيث جاز له أن يعمل ووقفوا به حيث حق له أن يقف .
7- فساد منهج المستشرقين في دراستهم للإسلام ، مهما حاولوا إدعاء المنهجية العلمية التي يزعمونها ، وسبب ذلك عدم تخلصهم من العصبية والعداء للإسلام وأهله .
8- نجاح الاستشراق في استقطاب كثير من أبناء الإسلام الذين انخدعوا بأفكاره وآرائه وتأثروا بثقافاته ومناهجه ، وكثير منهم يمثلون رموزاً بارزة في بلدانهم ، فكان لذلك أثر بالغ في نشر تلك الأفكار بين المسلمين ، وانخداع السذج منهم بها ، وتفلت كثير منهم بسببها من التمسك بالشرع ، فكان خدرهم أعظم وفسادهم أكبر ؛ لأنهم يهدمون السنة من داخلها .
9- أظهر البحث بما لا يدع مجالاً للشك ، أنه لو سلمنا جدلاً أنه يكفي الاستناد على القرآن وحده في تحليل ، الحلال وتحريم الحرام ... ولم نعبأ بالسنة أبداً ، وتركنا القرآن يخطئ فيه المخطئون ، ويعتمد فيه الكذابون ، ويتلاعب فيه الملحدون ، و يخوض فيه المنافقون بما تسوله لهم نفوسهم ، وتمليه عليهم رؤساءهم وشياطينهم ، فإن الخلاف بين الناس لا يزول كما هو معلوم بالضرورة ، وإنما سيزيد ويستفحل ، ويصل بهم إلى مدارك الهاوية ، ويتفرق بهم في دروب التيه .(15/211)
10- أكد البحث أن عدم الأخذ بالسنة دعوة إلحادية ، يريد أصحابها لنا الإعراض عن هدى النبوة ، ويسنون أنهم يتمسكون بتشريعات واهية ، لا أساس لها تقوم عليه ، ولو سلمنا لهم جدلاً أنه يجب إبطال السنة ، مع صحة نقلها بالإسناد المتصل ؛ الذي هو منّة عظيمة خص الله بها الأمة الإسلامية دون سائر الأمم ، لكان لزاماً علينا من باب أولى أن نبطل جميع التشريعات المتداولة في الدنيا مهما كان مصدرها سماوياً أو وضعياً لان من المسلَّم أن بالبقاء للأصح سنداً ، والأصدق رواية .
11- قرر البحث أن السنة ضرورة دينية ، وأن كثيراً من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة ، والتي أجمع عليها الفقهاء ؛ متوقفة على حجيتها .
12- إن الأدلة الشرعية جميعها متوافقة متآلفة متلائمة ، لا اختلاف ، ولا تنافر ، ولا تضارب بينها .
13- إن دعوى وجود عقليات مخالفة للشرع ، لا حقيقة لها عند الاعتبار الصحيح ، بل هي أوهام وخيالات ، وشبه عارية عن الصواب ، إضافة إلى أنه لا ضابط عند من يرد النصوص بالقرآن والعقل يفرق به بين ما يرد ، وما لا يرد.
14- رد النصوص عقلاً أو جد أثراً بالغاً في زعزعة كثير من العقائد ، وعدم احترام نصوص الوحي الاحترام اللائق ، والتهوين من شأنها .
15- أن جميع ما يتناقله الشيعة الرافضة ، وأهل البدع في كتبهم من المطاعن العامة والخاصة في أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم ، لا يعرج عليها ولا كرامة ، فهي أباطيل وأكاذيب مفتراة إذ دأب الرافضة ، وأهل البدعة رواية الأباطيل ، ورد ما صح عن السنة المطهرة ، والتاريخ.
16- وجدت من خلال صحبتي لبعض خصوم السنة ، أنهم جميعاً من أصحاب الترف والكبر ، الذين لزموا البيوت ، ولم يطلبوا العلم من مظانه ، ومن أهله ، فهم كما تنبأ بهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله" لا ألفينَّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه "
=============(15/212)
(15/213)
أدب الطفل المسلم بين التحديات والدور المفقود
الإسلام اليوم- إدريس الكنبوري 6/9/1423
11/11/2002
- كان اهتمام رواد أدب الأطفال الأوائل في العالم العربي نقل النموذج الغربي بحذافيره .
- إن المتأمل لمكتبة أدب الطفل في العالم العربي الآن يلحظ بونا شاسعا بين المشهود والمنشود .
- مشكلة النموذج هي المشكلة الرئيسية في أدب الطفل في العالم العربي اليوم .
- في الأدب الصهيوني للأطفال يمتزج الأدب بالتربية ، فتصبح التربية أدباً ، والأدب تربية .
- الحل هو إيجاد نموذج إسلامي حي لأدب الأطفال يخوض معركة المستقبل .
ارتبطت نشأة أدب الطفل في العالم العربي في المئة سنة الأخيرة التي شهدت ظهوره كفن مستقل ، بنظيره في أوربا، وهذا يعني أنه نشأ في إطار التقليد للأمم الغربية التي قطعت شوطا مهما في إبراز معالم هذا الجنس الأدبي وخصائصه النوعية ، فقد كان دافع الرواد الأوائل في العالم العربي من وراء الكتابة للطفل والترجمة إليه ، هو نقل التجربة الأوربية التي شكلت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن التالي له نموذجا نهضويا يحتذى .
غير أن هذا الإطار التاريخي لنشأة أدب الطفل أو الكتابة الأدبية للأطفال لم يكن يعني أن الرواد الأوائل في العالم العربي كان شغلهم الشاغل نقل النموذج الغربي بحذافيره، واستنساخ أدب الطفل الغربي بقضاياه وهمومه، وإنما المقصود فقط القول بإن بداية الاهتمام بالطفل والطفولة في الحقل الأدبي ارتبطت بالفكر الأوربي الذي انفتح عليه العرب والمسلمون في بداية القرن الفائت، وهكذا تمت العودة إلى التراث العربي والإسلامي للاغتراف منه واستلهامه في الكتابة للطفل ، وحتى في تلك الترجمات التي قام بها بعض الرواد للقصص والحكايات والأشعار الأوربية المكتوبة للأطفال، مثلما فعل أحمد شوقي مع " خرافات " لافونتين الفرنسي، بقي التراث الإسلامي الفني حاضرا في تلك التجارب، سواء من حيث المضامين والأهداف، أو من حيث الأساليب الأدبية العربية، إلى الحد الذي يختفي فيه الفاصل بين النص المترجم والنص الثاني، كما يتضح حين نقلب "الشوقيات". ويمكنني القول : إن تجربة الرعيل الأول من الكتاب والشعراء العرب في التأليف للأطفال كانت تجربة أصيلة ، ولعل مرد ذلك- من وجهة نظري على الأقل - إلى أن هؤلاء كان حافزهم التربية والتعليم وتكوين جيل متشبع بالقيم والمثل الكبرى للأمة، في فترة من الزمن طبعتها المواجهة مع الفكر الغربي الوافد، وهاجس التأصيل الثقافي والحضاري، فقد كان جل من كتبوا للأطفال في تلك الفترة ووضعوا اللبنات الأولية لأدب الطفل العربي هم من رجالات الحركات الوطنية التي واجهت الاستعمار، أو من حاملي مشعل النهضة في العالم العربي. ولم يكن الأدب العربي خاصة، والثقافة العربية عامة ، قد تلوثا بمظاهر الغزو الثقافي ، تحضرني هنا أسماء أحمد شوقي وعلال الفاسي وكامل الكيلاني ومحمد سعيد العريان .
لقد وضع هؤلاء وغيرهم من الجيل الأول قصصا وأشعارا للأطفال توخوا فيها التوجيه السليم والوعظ والإرشاد والتقويم والتزكية والإصلاح، وسعوا إلى غرس حب لغة الضاد في نفوس الأطفال، وصقل مواهبهم اللغوية. ولا يقلل التطور الذي حدث في أدب الطفل في المراحل اللاحقة من إنجازاتهم التي كان لها فضل التأسيس .
من النشأة إلى التغرب :
لقد كانت هذه النظرة السريعة إلى البدايات الأولى لأدب الطفل في العالم العربي ضرورية للتساؤل: هل استطاع أدب الأطفال العرب، أو الأدب العربي المكتوب للطفل، أن يستوعب هذه التجربة السابقة ويبني عليها ؟ .
لاشك أن القطيعة التي حدثت بين الرواد الأوائل والمبدعين اللاحقين في الكتابة للطفل قد أثرت كثيرا على وضعية أدب الطفل في العالم العربي . فالتجارب التي جاءت فيما بعد لم تحتفظ بنفس الفلسفة التربوية والاجتماعية التي حكمت الرعيل الأول، وأخذت تقتبس من الغرب الرأسمالي أو الشرق الشيوعي نماذجه الأدبية الخاصة بالطفل، بحسب التوجهات الإيديولوجية والفكرية التي سادت في العالم العربي خلال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، فبدأت مرحلة التغريب والغزو الثقافي في أدب الأطفال، بمثل ما كان عليه الحال في المجالات الأخرى من أدب وفكر وفن .
لقد تمت التضحية بالطفل العربي والمسلم لصالح الإيديولوجيات الشرقية والغربية التي حملت فلسفات تربوية واجتماعية متصارعة فيما بينها ، ومتناقضة في مجموعها مع هوية الطفل العربي الذي كان غائبا في حقيقة الأمر. فمن الواضح أن النماذج الغربية والشرقية لم تستجب لحاجياته ومتطلباته النفسية والروحية والعقلية، الأمر الذي أحدث شرخا كبيرا في هويته، زاده بلة التطور الذي هم صناعة ثقافة الطفل في الغرب التي اكتسحت البيوت في العالم العربي بفضل انتشار التلفزيون والإعلام السمعي البصري .(15/214)
إن الفرق بين تجربة الرعيل الأول والتجربة اللاحقة لها يظهر بالأساس في أن الأولى كانت واعية بنفسها، ولها منطلقات محددة وغايات مرسومة، بصرف النظر عما إذا كانت فشلت أو توفقت في التواصل مع المستويات العمرية والمقدرات المختلفة للأطفال العرب، بينما التجربة الثانية انطلقت من غير بلورة الأسس العلمية، التربوية والثقافية، لأدب الطفل، فسقطت في النقل الحرفي لما يكتب في الغرب للطفل غير المسلم ، وهو ما وضع أدب الطفل في العالم العربي في محنة حقيقية .
إن التاريخ العربي والإسلامي زاخر بتراث قصصي وشعري هائل من شأنه أن يغني أدب الأطفال ويؤسس لمنظومة تربوية متماسكة، فإلى جانب التراث المكتوب، الغني بما يحويه، هناك تراث شفاهي تناقلته الأجيال عن بعضها البعض، جزء كبير منه له جذور عميقة في الوعي الديني للأمة، عبرت به الأجيال الثقافية بشكل تلقائي عن هموم حياتها اليومية ومشاعرها وقضاياها ، غير أن هذا التراث الكبير لم يتحول إلى مادة يمكن استثمارها وتوظيفها في أدب الطفل المسلم، إلا في حالات قليلة لبعض الكتاب والشعراء الإسلاميين المعاصرين، وهي حالات لم تشكل القاعدة بل الاستثناء، وسط ركام كبير من الكتابات المتغربة ذات الأهداف الإيديولوجية المائلة، أو المتسرعة ذات الغايات التجارية، وبين هذين القطبين، ظلت مساحة الاجتهاد المؤصل محدودة ومزاحمة ، وتعطل مشروع وضع أدب مستقل للطفل المسلم في العالم العربي له خصوصياته وأسئلته وقضاياه، بسبب القطيعة بين التجارب المختلفة، وعدم اكتمال النمو .
أدب الطفل والدور المفقود
إن المتأمل فيما توفره مكتبة أدب الطفل في العالم العربي يلحظ بونا شاسعا بين المشهود والمنشود، لقد سجلت الإنتاجيات في مجال أدب الأطفال العرب تقدما ملحوظا خلال العشرين سنة الأخيرة من حيث الكم، وهذا عائد إلى الأهمية التي أصبح يحظى بها الطفل عموما في العالم العربي، وانتشار التمدرس وانحسار الأمية لدى الجيلين الأخيرين مقارنة مع الأجيال السابقة، وغيرها من الأسباب التي هي موضوع آخر، ولكن هذا التقدم في المستوى الكمي لم يرافقه تقدم في المستوى النوعي لأدب الطفل .
فأدب الطفل في العالم العربي ظل حتى اليوم عالة على ما تقدمه المائدة الغربية، ترجمة أو استلهاما. و الاعتقاد السائد هو أن التقدم الذي حققه أدب الطفل في الغرب يبرر النقل عنه أو استلهام تقنياته، بدون النظر إلى حاجات الطفل المسلم والمحيط الثقافي والرمزي الذي يتحرك فيه ، ومن ثم تصبح عملية النقل خطرا على الطفل المسلم من حيث إنها تكرس لديه الشعور بالتبعية من ناحية، وتركز لديه عادة التفكير من داخل ثقافة الطفل الغربي ونمط عيشه من ناحية ثانية، وتغرس فيه الشعور بالعجز، والاعتقاد السلبي بعدم إمكان الإبداع إلا من داخل ثقافة الغرب من ناحية ثالثة ، ولا ينبغي أن يغيب عنا أن الأدب بالنسبة للطفل يختلف عنه بالنسبة للكبار، فهو في حالة الطفل تنشئة من داخل الخطاب الأدبي، بكل ما تحمله كلمة التنشئة من المعنى .
إن مشكلة النموذج هي المشكلة الرئيسية في أدب الطفل في العالم العربي اليوم :
ما النموذج الحضاري في هذا الأدب، والذي يراد غرسه في نفسية الطفل؟
من الأبطال الحقيقيون الذين يؤمن بهم الطفل ويسعى إلى خلق شخصيته من خلالهم؟
ما المساحة التي يشغلها التاريخ في أدب الطفل المسلم؟
ما القيم " الدينية الثابتة، لا تلك القيم الاجتماعية المتحولة، المهيمنة في نصوص هذا الأدب ؟ .
مثل هذه الأسئلة من شأنها أن تلقي الضوء على حقيقة وضعية أدب الطفل في العالم العربي، فبقدر القرب أو البعد منها يمكننا تشخيص هذه الوضعية ، ويكفي القول هنا إن قيم البطولة العربية المسلمة تغيب في جل منجزات أدب الطفل العربي، لحساب قيم البطولة المستوردة من الغرب، ولم يستطع هذا الأدب أن يخلق أبطال الطفل المسلم الحقيقيين، وظل مرتبطا بالشخصيات البطولية التي ابتدعها رواد أدب الطفل في الغرب ( تان تان ، توم أند جيري، ميكي ماوس ...) ، وهي شخصيات تبقى منقطعة الصلة بمحيط الطفل المسلم وتاريخه .(15/215)
إن التطور الذي شهده أدب الطفل في الغرب لم يكن منقطعا عن الفلسفة التربوية الغربية العلمانية والمادية التي أنجبته، فأدب الطفل في الغرب الرأسمالي يسير في منحنى علماني، الهدف منه تنشئة الطفل على قيم الاستقلالية التابثة في تفكيره وحركته عن الأسرة والكنيسة، والثورة على القيم المحافظة، واعتبار الغاية الأساس هي تفجير طاقاته بصرف النظر عن أي حدود دينية أو قيود أخلاقية، إذا صح تعبير القيود في الأخلاق، ومن هنا سيادة قيمة الاستهلاك والحرية الفردية المطلقة والتحرر الاجتماعي ( العلاقة بين الذكر والأنثى مثلا ) وإذا نحن تأملنا في الأدب الصهيوني المخصص للأطفال، نجده لا ينفصل عن الجذور الدينية والفكرية التي أسست للمشروع الصهيوني، ونجد فيه المرآة العاكسة للرؤية التربوية الصهيونية، من حيث تنشئة الطفل على الالتصاق بأرض الميعاد التي يعتبرونها أرض الأجداد، والالتحام بالجماعة اليهودية كوسيلة للخلاص، وكراهية الأغيار والعنصرية اتجاه غير اليهودي، إلى الحد الذي يختلط فيه الأدب بالتربية، فتصبح التربية أدبا، والأدب تربية .
من هنا يتضح لنا أن مشكلة أدب الطفل المسلم هي مشكلة الخصوصية التي يفتقدها في علاقته بالنماذج الأدبية الغربية السائدة، فالكثير مما يكتب للأطفال المسلمين تغلب عليه القيم المستوردة والشخصيات التاريخية والرمزية الأجنبية، دون تدقيق فيما يتم تلقينه للطفل المسلم مما قد يكون له أثر سلبي على وعيه بمحيطه وتاريخه وحضارته، فقد ساد الاعتقاد لدينا بأن الكتابة للطفل الهدف منها الترويح والتسلية ومساعدة الطفل على تربية الخيال الإبداعي، بينما وضعت مهمة التربية والتنشئة النفسية والاجتماعية السليمة وخزن القيم الباطنية جانبا، بدعوى أن مرحلة الطفولة تتمحور حول قضية واحدة فقط هي اللعب والترويح .
إن التحدي الكبير المطروح على المجتمعات العربية والإسلامية في عصر العولمة والانترنيت هو تحد متعدد المستويات، لكن أدب الطفل يبقى أهم هذه المستويات، لكي يمكننا التصدي للثقافة المسطحة وحضارة التسلية القاتلة والاستهلاك المميت التي تقترحها العولمة الرأسمالية الغربية على العالم. ولا يمكن النهوض بهذا التحدي دون خلق نموذج إسلامي حي لأدب الأطفال يخوض معركة المستقبل في الحاضر المشهود، يجتمع عليه خبراء التربية والعلم الشرعي وعلوم النفس والاجتماع واللغة والفنون المختلفة ورجال الإعلام والكتاب والمبدعون والشعراء، فالغرب لم يتفوق علينا باستجماعه لكل الجهود في هذا الحقل ، وخلق أدب للصغار أصبح يبهر أطفالنا ويغزو قنواتنا ومكتباتنا وبيوتنا، حتى أصبحنا نعيش وضعية الاختراق الثقافي بالمعنى الواسع للكلمة، وهذا أكبر خطر على أطفالنا، لأن المغلوب مولع بتقليد الغالب في كل شيء، كما قال العلامة عبد الرحمان بن خلدون، والأطفال هم الحلقة الأضعف في المجتمع و أكثر المعرضين للتقليد .
=============(15/216)
(15/217)
الانتخابات التركية : تركة أتاتورك للإسلاميين!
شعبان عبد الرحمن* 6/9/1423
11/11/2002
جاءت نتائج الانتخابات التركية الأخيرة لتزيد من "الدوي " الذي تعيشه الساحة الدولية على وقع نتائج الانتخابات البرلمانية التي تشهدها المنطقة الإسلامية منذ أواخر الشهر الماضي .. في باكستان ثم المغرب والبحرين، فقد جاءت " رياح " نتائجها بغير ما تشتهي الدوائر الغربية وسماسرتها، ولا نبالغ إذا قلنا بأن نتائجها وضعت على وجوه تلك الدوائر علامات تعجب جعلت أفواههم فاغرة لفترات طويلة .
فهذه الانتخابات أجريت في أجواء دولية غير طبيعية، بعد أكثر من عام على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أي بعد أن بلغت الحملة الدولية على الإسلام والمسلمين مبلغها.
وبصرف النظر عن الذين يقفون وراء تفجيرات سبتمبر إلا أن الحقيقة التي لا يماري فيها أحد هي أن تلك الأحداث ولدت حملة دولية شوهت الإسلام ووضعت المسلمين خلف قضبان من الاتهامات بالإرهاب والعنف يصعب عليهم - وسط غوغاء الآلة الإعلامية الدولية - الفكاك منها. ولم يترك المروجون لتلك الحملة ثغرة يمكن تشويه الإسلام من خلالها إلا ولجوها واستنفروا في سبيل ذلك كل أدواتهم وآلاتهم وعملائهم، وليس خافيًا أن نذر التخويف والتهديد امتدت إلى أنظمة الحكم في بلاد إسلامية إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة لقهر الإسلاميين وتحجيم الإسلام في الحياة السياسية والاقتصادية والمناهج التعليمية .
وهكذا استقرت الأوضاع عند " إسلام " يجري تشويهه ومسلمين مضطهدين وإسلاميين محاصرين خلف قضبان السجون، أو خلف قضبان الكبت والمنع والمطاردة، وشعوب يمارس عليها غسيل العقول والوجدان سعيا لملئها بالوهن والوجل من مجرد الحديث عن الإسلام أو الاقتراب من الإسلاميين.
وقد كانت تلك الأجواء فرصة نادرة للأنظمة الدكتاتورية في بلادنا لتشن أعنف حملات الاضطهاد ضد مخالفيها - خاصة الإسلاميين- متدثرة بالحملة الدولية ضد ما يسمى بالإرهاب.
في هذه الأجواء النكدة المفعمة بالأعاصير شهدت باكستان والمغرب والبحرين وتركيا انتخابات عامة لاختيار أعضاء البرلمان، وقد انتظرت الدوائر السياسية الغربية أن تضع نتائج هذه الانتخابات الإسلاميين في مؤخرة القائمة ظنا منها أن الزمن والظرف في غير صالحهم لكن رد الشعوب كان مفاجئًا ومفحمًا في آن واحد .
تلك كانت ملاحظة عامة لا ينبغي أن نتجاهلها وسط ذلك المشهد الانتخابي الحافل في المنطقة .
المشهد التركي :
ولنعد إلى المشهد الانتخابي التركي بنتائجه التي قلبت الموازين ليس باكتساح حزب العدالة والتنمية لها بنسبة 34% منحته 363 مقعدًا من إجمالي مقاعد البرلمان الـ550، ولكن بكسحها خارج الحلبة السياسية تمامًا تلك الأحزاب التي هيمنت على الساحة في الفترة الأخيرة فقد حصل حزب رئيس الوزراء بولنت اجاويد " اليسار الديمقراطي " على نسبة فوق الصفر بدرجة واحدة ( 1% ) ، مقابل 22% حصل عليها الحزب في انتخابات عام 2000م ولم تزد نسب الأحزاب المتحالفة معه عنه كثيرًا فقد حصل حزب الحركة القومية على نسبة 3 , 8 % و حزب الوطن الأم على نسبة 1، 5 % وهو ما يعني حكمًا شعبيًا بعزلها سياسيًا على الأقل في المرحلة المقبلة. فقد حرمت نتائج الانتخابات ستة عشر حزبًا من 18حزبًا شاركوا في الانتخابات من دخول البرلمان لإخفاقها في الحصول على نسبة ال10% شرط دخول البرلمان وأعطت حزب العدالة والتنمية الفرصة لتشكيل الحكومة المقبلة منفردًا بعد حصوله على 66% من مقاعد البرلمان . بينما حصل حزب الشعب الجمهوري وريث مصطفى كمال أتاتورك على نسبة 5, 19% منحته 78مقعدًا بينما بقيت المقاعد التسعة من البرلمان للمستقلين .
والملاحظة الجديرة بالتسجيل هنا هي أن 70%من الناخبين غيروا رأيهم في الأحزاب التي صوتوا لها في انتخابات عام 1999م . ويمكن القول هنا إن الجماهير التركية التي فاض بها الكيل من فشل الحكومات الذريع كتلت خيارها في الانتخابات خلف الحزبين :
- الإسلاميون وبقية الشعب المتمسك بهويته الإسلامية دعموا حزب" العدالة والتنمية" بزعامة رجب الطيب أردوغان وهو حزب خارج من عباءة أحزاب الزعيم التركي نجم الدين أربكان " الرفاه " و " الفضيلة " و " السعادة " والتي واجهت الحل أو التهديد به، مما جعل الجماهير صاحبة الخيار الإسلامي تصوت لحزب العدالة المأمون من الحل أو العزل، خاصة بعد أن فشل النائب العام التركي قبل الانتخابات بيومين في تمرير قضية بحل الحزب وهو ما أشاع ارتياحًا في الشارع الإسلامي ليكرس خياره مع حزب العدالة، مبقيًا حزب السعادة بعيدًا عن مشاكل الحل والقلاقل السياسية التي تعودت المؤسسة العسكرية افتعالها معه والتي كان آخرها حل حزب الرفاه وعزل نجم الدين أربكان سياسيًا لمدة خمس سنوات بعد إجباره على تقديم استقالته من رئاسة الحكومة ثم حل حزب الفضيلة الذي حل محل الرفاه ثم وضع العراقيل أمام حزب " السعادة " الذي حل محل الفضيلة .(15/218)
- على الجانب الآخر فإن الناخبين من ذوي الاتجاه العلماني تجمعوا وراء حزب الشعب الجمهوري مولين ظهورهم لبقية الأحزاب العلمانية، فجاءت النتيجة على الوضع الذي عايناه .
وتواجه حكومة حزب العدالة والتنمية - إن سمح له الجيش بتشكيلها - تحديات بالغة الصعوبة على الصعيد الداخلي والدولي ، فقد تركت له الحكومات العلمانية المتعاقبة وآخرها حكومة (بولنت أجاويد) البلاد في حالة من الانهيار الاقتصادي والإحباط والضيق الاجتماعي والتخبط السياسي لم تشهده على امتداد تاريخها منذ نشأة الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال عام 1923م.
أولا/ على الصعيد الاقتصادي:
تعاني البلاد منذ أكثر من عامين من أصعب أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تراجع الدخل القومي وبلغ مجموع الديون الداخلية والخارجية - وفق الإحصاءات الرسمية - 220مليار دولار ( مائتين وعشرين مليار دولار ) وهو أثقل دين في تاريخ الدولة التي عجزت عن سداده، مما اضطرها لمحاولة سد الدين بديون جديدة .
هذا الوضع الكارثي أدى بلا شك إلى إفلاس آلاف المصانع والمؤسسات التجارية وبالتالي مفاقمة مشكلة البطالة المزمنة.
وقد كانت المواجهات الدامية التي تفجرت قبل عام بين قوات الأمن التركية وجموع الغاضبين من أجل " قوتهم " هي الشرارة التي أكدت عمق الأزمة التي وضعت حكومة أجاويد فيها البلاد، وكانت تلك المواجهات أشبه بثورة شعبية قادها كبار التجار من أصحاب رؤوس الأموال، ورأس المال كما يقولون "جبان" ويتحسب صاحبه حركته جيدًا، فإذا غضب وثار فلابد أن هناك طوفانًا يجرف مصالحه وأمواله، وقد تجمع يومها أكثر من 25ألف تاجر في مظاهرة غاضبة باسطنبول متحدين الأمر العسكري بمنع التجمعات، في الوقت الذي شهدت فيه 25محافظة تركية أخرى مظاهرات مماثلة سبقتها مصادمات دامية بين جموع الغاضبين والشرطة سقط فيها مائتا جريح بينهم خمسين شرطيًا !
وبينما كانت جمعية كبار رجال الأعمال توجه انتقادات موجعة للحكومة مطالبة برفع الحصانة عن الوزراء والنواب المفسدين، كان نواب حزب الفضيلة تحت قبة البرلمان يُحمٍّلون الجيش مسؤولية ما حدث من كارثة اقتصادية بتدبيرهم الانقلاب السلمي على حكومة نجم الدين أربكان .
حكومة أربكان :
وهنا استحضر مشهد تسلم أربكان لرئاسة الحكومة في يناير 1996م بعد أن حصل حزب الرفاه على المرتبة الأولى من أصوات الناخبين في انتخابات ديسمبر 1995م ثم إقالته أو إجباره على الاستقالة من قبل المؤسسة العسكرية العلمانية المتسلطة بعد ستة عشر شهرًا من أزهى فترات الحكم لتركيا ..
وأجدني مضطرًا لفتح سجل إنجازات هذه الحكومة الرسمي، مستعينا بما سمعته من أربكان نفسه أكثر من مرة .
فقد تسلم الرجل الحكومة وديون تركيا 48مليار دولار، يذهب نصفها لجيوب اللصوص تحت بند خدمة الدين..التضخم 100% والبنوك المأزومة تقترض من المافيا بفائدة خيالية وصلت 150% وقيمة الدولار أمام الليرة أصبحت 500ألف ليرة بعد أن كانت 16ليرة في السبعينيات.
وخلال ستة أشهر فقط أوجدت حكومة أربكان أربع محافظ استثمارية قيمتها 40مليار، دولار تم توفيرها من السرقات والسفه والهدر الحاصل على جميع المستويات، وتم تسديد 10مليارات دولار من الدين الداخلي، وتم وقف إصدار قوانين بضرائب جديدة، كما توقف الاقتراض من الخارج، وتم رفع مرتبات الجيش 50% . ولأول مرة في تاريخ تركيا تم تقديم ميزانية متوازنة للدولة عام 1997م لا أثر للدين أو للضرائب فيها، بعد أن تم سد كل منافذ الفساد
هنا تحركت كتائب الفساد مع كتائب العسكر لإزالة الرجل وحكومته، خاصة بعد أن رصدت وزارة الخارجية الأمريكية عليه ثلاث " جرائم" بالنسبة لها :
تحسين الوضع الاقتصادي وبالتالي استغناء تركيا عن واشنطن.
إنشاء مجموعة الثمانية - من أكبر ثماني دول إسلامية - وهو ما يمثل توازنًا عالميًا جديدًا .
هذا النجاح الكبير يحرض الحركات الإسلامية في العالم لتحذو حذوه وهذا هو عين الخطر .
ومن هنا جاء قرار المؤسسة العلمانية العسكري بحل حزب الرفاه وإجبار أربكان على تقديم استقالته بل وعزله سياسيًا لمدة خمس سنوات، ومازالت توضع أمامه العراقيل للعودة للحياة السياسية بحزبه أو منفردًا .
لكن في كل الأحوال فإن تجربة حكومة " الرفاه " بزعامة أربكان تظل رصيدًا مهمًا لحزب العدالة على الصعيد الاجتماعي وصعيد التجربة فقد شاركت كوادره من قبل في إنجازات حكومة الرفاه وكان الطيب أردوغان يومها رئيسا لبلدية اسطنبول.
ثانيا / على الصعيد السياسي:
منذ انتقال البلاد إلى النظام الديمقراطي قبل خمسة وثلاثين عامًا ( عام 1967م ) شهدت تسعة انتخابات مبكرة كان من بينها الانتخابات الثلاثة الأخيرة ( 1996- 1999- 2002)، فيما تدخلت المؤسسة العسكرية التي تعد نفسها حامية النظام العلماني لقلب نظام الحكم ثلاث مرات، وفض حكومات اعتبرتها مهددة للنظام العلماني ومنها الحكومة التي شارك نجم الدين أربكان الذي أودع السجن بعد حل حزبه " السلامة " .(15/219)
ولا شك أن تلك الأجواء وضعت البلاد في حالة من القلق والارتباك السياسي بما عرضت خطط التنمية والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي لهزات عنيفة .
ثالثا/ على الصعيد الاجتماعي :
في أجواء القلاقل السياسية والأزمات الاقتصادية يكون من الطبعي أن تتعقد المشاكل الاجتماعية والحياتية للناس، ولكن ما جعل الناس تتفجر غضبا هو أن الحكومة التي لاحقها الفشل في حل مشاكلهم الحياتية حاصرتهم وحدت من حرياتهم الشخصية واعتدت في هذا الصدد على ما يمس عقيدتهم وهويتهم الإسلامية باتخاذ سلسلة من الإجراءات والقرارات الرامية لخلع الناس من دينها .
ونسوق في هذا الصدد بعض الوقائع الثابتة والمهمة على سبيل المثال :
الحرب على الحجاب:
آخر ما كان يمكن تصوره بشأن الحظر العلماني على الحجاب في تركيا، أن تصدر المؤسسة العلمانية من خلال الحكومة السابقة قراراً بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد يمنع ارتداء الحجاب داخل مدارس الأئمة والخطباء ( مدارس دينية ).
فقد فوجئت طالبات تلك المدارس بالسلطات تمنع دخولهن" بالحجاب " تنفيذاً لقرار صادر عن وزارة التعليم في 20 فبراير الماضي يمنع ارتداء الحجاب داخل هذه المدارس الدينية .
القرار أحدث صدمة لدى الطالبات اللاتي جئن لدراسة الإسلام داخل معاهد يفترض فيها احترام الشعائر الدينية أو على الأقل تتمتع فيها الطالبة بقسط من الحرية الدينية في الالتزام بالحجاب المأمور به شرعاً، لكن السلطات داست على ذلك وأصرت على اشتراط خلع الطالبات الحجاب عند دخول هذه المدارس، وهي المدارس التي قلّصت السلطات تعدادها إلي النصف تقريباً، وجعلت الدراسة فيها مختلطة بين الطلبة والطالبات .
ولم تراع السلطات مشاعر بعض الطالبات اللاتي رددن على هذه القرارات المقيّدة للحريات الشخصية بالاحتجاج داخل إحدى المدارس وتقييد أيديهن بسلاسل حديدية في أسوارها، كرسالة استغاثة لذوي الضمير من أنصار الحريات حتى يتحركوا لرفع الغبن، وإنما كان الرد اقتحام المدرسة، وتقطيع السلاسل بعد الاعتداء على الطالبات واعتقال ذويهم !
وقد جاءت هذه الإجراءات البوليسية ضد حجاب المرأة المسلمة في تركيا استكمالاً لقرارات سابقة تحظر ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية ودواوين العمل الرسمية .
والسؤال الذي ظل يلح خلال الحملة المتواصلة ضد حجاب المرأة التركية هو: هل السلطات التركية بهذه الإجراءات القمعية تكون قد نجحت في صبغ البلاد باللون العلماني المطلوب، وأراحت مصطفى كمال في قبره ؟!
الثابت أن تلك الإجراءات لم تهز قواعد الإيمان الراسخة في قلوب التركيات بل زادتهن تمسكاً ويقينا ً بحجابهن، فكثيرات تركن العمل والجامعات والمدارس وفضلن البقاء بحجابهن خارجها، والغالبية العظمى تنفذ مكرهة القرارات الغاشمة، وبمجرد الخروج من المدرسة أو الجامعة أو ديوان العمل إلى الشارع ترتدي حجابها، فلم يُمنع الحجاب بعد في الشارع !
ولعل الإحصاءات المتواترة التي تفيد بأن أكثر من 60% من النساء التركيات ملتزمات بالحجاب تؤكد هذه الحقيقة .
إن زوجة مصطفى كمال وأمه كانتا ملتزمتين بالحجاب وهو ما يؤكد أن الرجل كان مهزوماً في بيته، فلا غرو أن تُهزم مبادئه الظالمة على صعيد المجتمع .
المفارقة العجيبة أنه بينما كانت السلطات التركية تطبق إجراءاتها الأخيرة على طالبات المدارس الدينية مُغازلةً الاتحاد الأوروبي علّه يوافق على طلب تركيا الانضمام إليه، كان هناك قرار من الاتحاد بتجاهل الطلب التركي .
2- السعي لتفكيك مؤسسة الأسرة:
في ظل الحكومة السابقة نظر البرلمان التركي في قانون جديد للأحوال المدنية، من المقرر أن يحدث تنفيذه انقلابا داخل الأسرة لأنه يدخل تغييرات جذرية على نمط حياتها .
فهو يربك العلاقة داخل الأسرة ، إذ ينزع عن الزوج أو الأب مكانة " رب العائلة " ويسقط عن الزوجة الالتزام بالحياة في بيت الزوجية إذا ارتأت أنه لا يناسبها أو لا يفي بمتطلباتها، وترك لها حرية الخروج للعمل دون تدخل من الزوج ..إلخ ."
وقد حوّل القانون الجديد بهذا الانقلاب الأسرة التركية إلى " شركة مساهمة "!- هكذا يشير القانون - إذ يعتبر الزواج شراكة تجارية بين رجل وامرأة يتعين على كل منهما عند " العقد " التوقيع على اتفاقية ثنائية يسجل فيها كل طرف ممتلكاته التي أسهم بها في بيت الزوجيّة ويرفق بها الفواتير ووثائق إثبات الملكية الأخرى ثم يتم وضعها تحت نظر وزارة العدل لحفظها !!
وقد دفع ذلك البعض إلى السخرية والتندر وهو يطالب الحكومة بتحديد نوع الشركة .. " شركة مساهمة، أم شركة محدودة " وتحديد قيمة أسهم هذه الشركة وإمكانية بيعها للأجانب !!
وقد جاء هذا القانون ليفسّخ الأسرة ويحولها من وحدة متماسكة - تسري في كيانها الروح الأسرية، ويغمرها حنان الأمومة وعطف الأبوة - إلى أجزاء متناثرة تتواءم حينًا وتتنافر أحيانًا أخرى ، كل حسب مصلحته المادية ومزاجه الشخصي ونظرته للحياة ، وذلك يؤدي حتمًا إلى هدم "الأسرة " أي انفراط عقد المجتمع .
وقد أضافت الحكومة بهذا القانون بنداً جديدًا إلى سجل إنجازاتها السلبيّة حيال المجتمع التركي .(15/220)
ويوم هوت هذه الحكومة كان السجل قد أصبح متخما بالإجراءات والقوانين التي تقود إلي تغريب المجتمع التركي المسلم وسلخه من هويته .
وهو ما رد عليه الشعب التركي عبر صناديق الاقتراع .
على الصعيد الخارجي :
تنظر تركيا إلى الحرب الأمريكية المرتقبة على العراق بقلق بالغ؛ لأنها رضين أم أبت ستكتوي بنارها من جهات عديدة :
- سيتعرض اقتصادها لأضرار كبيرة بسبب توقف تجارتها الحدودية مع العراق، وبسبب تدفق الهجرة من العراق إلى أراضيها فرارًا من الحرب وتقدر المصادر التركية العدد المتوقع للمهاجرين بين 300 إلى 500ألف شخص .
- ستحدث الحرب فراغًا أمنيًا شمال العراق مما سيشجع الأكراد للتحرك لإعلان دولتهم المستقلة التي يطالبون بها وهو ما تعارضه تركيا ودول المنطقة ( سورية وإيران والعراق )وذلك إن حدث فسوف يجر تركيا إلى الحرب لوقف مشروع الدولة الكردية وهو ما سيعرض الخزينة التركية لمزيد من الخسائر ويعرض الوضع السياسي لمزيد من القلاقل .
هذه الأوضاع برمتها تمثل تحديات صعبة وثقيلة للحكومة المقبلة، وهي تحديات على نفس مستوى الثقة التي وضعها الناخب التركي في حزب العدالة والتنمية .
وقبل أن نتوقف طويلاً عند إمكانيات حزب العدالة في مواجهة هذه التحديات، علينا أولاً الانتظار لنرى كيف سيكون رد فعل المؤسسة العسكرية على هذا الفوز، وهل ستقبل بحزب ذي جذور إسلامية لقيادة البلاد رغم ما قدم من تنازلات ورسائل تطمينية، أم أن الجيش سيتحرك مسرعًا - كما سبق - لإجهاض الفوز وبالتالي إجهاض حلم الشعب التركي؟ *كاتب صحفي ومحلل سياسي.
=============(15/221)
(15/222)
من أجل الصهاينة والتنصير ..أمريكا تطارد الجمعيات الخيرية
عبد الرحمن محمد 8/10/1423
12/12/2002
- انتفاضة الأقصى فجرت الغضب الأمريكي الصهيوني على العمل الخيري.
- انسحاب الجمعيات الخيرية الإسلامية أفسح المجال أمام منظمات التنصير.
أكدت ندوة "مستقبل مؤسسات العمل الخيري الخليجي في ضوء الاتهام الأمريكي لها بتمويل الإرهاب " والتي عقدها مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة مؤخرا أن هناك حملات عداء تشنها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الجمعيات الخيرية منذ أحداث سبتمبر للقضاء على دورها أو تقليص نشاطها سعيا إلى إعطاء الضوء الأخضر لمنظمات التنصير لتحل محلها.
وأشارت الندوة أن الاتهامات الأمريكية لهذه الجمعيات بدعم الإرهاب لا تقوم على أسس موضوعية بل إن الأسباب الحقيقية وراء هذه الحملة هي تحقيق أغراض سياسية لخدمة أهداف إسرائيل التي تتلقى المعونات والدعم من واشنطن وتحاول ابتزاز أمريكا عن طريق اللوبي الصهيوني والجمعيات الموالية لها .
وكان مركز الخليج قد قدم في مستهل الندوة تقريرا تلاه الباحث جميل أبو الدهب الخبير بالمركز .. أوضح فيه أن الجمعيات الخيرية واجهت اتهامات أمريكية باطلة بتمويل الإرهاب منذ وقوع أحداث سبتمبر واتخذت بعض الدول العديد من الإجراءات ضدها مثل التضييق على أنشطتها ومصادرة وتجميد أرصدتها المالية حيث اتخذت وزارة الخزانة الأمريكية قراراً بتجميد أرصدة أربع مؤسسات إسلامية في إطار ما يعرف بالحرب على الإرهاب وتجفيف منابعه , وقامت أجهزة الأمن الأمريكي وعلى رأسها "إف . بي .أي" بحملة شرسة على جمعية "الصفا والمروة" واتهمتها بدعم الإرهاب ".
وأضاف التقرير أن ذروة الاتهامات ظهرت في تقرير يتهم السعوديين بالتهاون على مدار الأربع سنوات الماضية مع أشخاص ومسؤولين سعوديين يمولون أنشطة إرهابية متبوعه بحملة من وسائل الإعلام تتهم هذه الجمعيات الأهلية بالصلة مع تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن بل وزادت على ذلك باتهام هذه الجمعيات بتمويل تفجير بالي بإندونيسيا عبر تلقي الجماعة الإسلامية بجاكرتا دعما خليجياً يقدر بـ …200 ألف دولار لشراء متفجرات .
ازدواجية مفضوحة
واتهم تقرير مركز الخليج تعامل الدول الغربية مع الجمعيات الخيرية الإسلامية بالازدواجية المفضوحة ففي الوقت الذي تشن هذه الدول حملات قوية ضد الجمعيات الإسلامية وتتهمها بدعم الإرهاب متغاضية عن الممارسات التي تقوم بها العديد من المؤسسات الخيرية العربية والتي لها تاريخ طويل في تأييد الإرهاب من خلال دعمها لعصابات وحركات انفصالية في دول إسلامية بل وجمعها لتبرعات لصالح إسرائيل والتي يستغلها في إرهاب الشعب الفلسطيني وبناء المستوطنات.
وشدد الباحث أبو الدهب أن الاتهامات الأمريكية لهذه الجمعيات بدعم الإرهاب قد جعلت الدول الخليجية تتخذ إجراءات بهدف تنظيم ومراجعة نشاط الجمعيات الخيرية لوضع حد للاتهامات .
محاربة الإسلام.. وليس الجمعيات
وأشار الباحث محمد النجار الخبير بمركز الخليج إلى رد الفعل الرسمي في دول الخليج كما أنكر الاتهامات الأمريكية وشجبها عبر تأكيده أن هذه الجمعيات تعمل تحت إشراف الدولة وتتسم بالشفافية والمصداقية ولكن هذا الموقف لم يستمر خصوصاً بعد زيارة وزير الخزانة الأمريكي لدول الخليج حيث أوضحت الدول أن سلطتها على هذه الجمعيات تنتهي عندما يكون أنشطة هذه الجمعيات داخل حدود الدولة وليس عليها سلطات على هذه الجمعيات في أنشطتها الخارجية في العديد من دول العالم.
وأبدى الباحث أسفه لوجود أصوات علمانية خصوصا في الكويت يدعم الحملة الأمريكية على هذه الجمعيات وتطالب بوقفة حازمة معها مؤكداً أن الحملة الأمريكية على هذه الجمعيات ستتزايد وتنكشف خصوصاً أن القانون الجديد لمكافحة الإرهاب اتسع لمحاربة جمعيات قد تمول الإرهاب في المستقبل وليس التي تقوم بهذا الأمر حاليا، حيث سمح هذا القانون للجهات الأمريكية باتهام أي جهة بالإرهاب دون تقديم أي أدلة تحت ذريعة "سرية الأدلة ".
وأوضح أن الحملة الأمريكية على هذه الجمعيات تندرج تحت ما يعرف بصراع الحضارات وما قاله الرئيس بوش من أن أمريكا تواجه حرباً صليبية وتزايد الاتهامات الأمريكية التي جاءت على لسان صموئيل هيندجتون الذي أوضح أن عداء أمريكا موجه للإسلام كدين وليس للجماعات الإسلامية الردايكالية .. فالحملة الأمريكية علي هذه الجمعيات ترغب في القضاء على المكون الديني لهذه الجمعيات وإفساح الطريق أمام جمعيات تنصيرية غربية لتحل محلها خصوصا في أفغانستان والبوسنة.
وطالب النجار هذه الجمعيات بالحذر لأن هناك مخططاً سياسياً أمريكيا للقضاء عليها عبر إيجاد مؤسسة تضم جميع فصائل العمل الخيري وأن تقوم هذه المؤسسة بصياغة ميثاق شرف أخلاقي عبر تحديد أنشطتها الأساسية وأماكن إنفاق أموالها وطرق التمويل بصورة تتسم بالشفافية سواء داخلياً أو خارجيا وإيجاد لجنة تنسيق بين هذه الجمعيات والبحث عن رقابة شعبية عبر شخصيات في المجتمع تبتعد هذه الجمعيات عن السيطرة الحكومية .
هدف صهيوني(15/223)
أشار الدكتور أيمن عبد الوهاب نائب رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي إلى أنه يجب علينا إدراك مدى الحملة الشديدة التي يتعرض لها العمل الأهلي والخيري في العالم الإسلامي منذ مدة طويلة وأن هذه الحملة ذات أهداف سياسية وخدمة لأهداف صهيوينة .
وأوضح أن العمل الخيري يعد الذراع الطولي للدبلوماسية الخليجية وهناك رغبة أمريكية في شل هذه الذراع عبر القضاء على العمل الخيري الخليجي خصوصا في الدول الإسلامية ومحاصرته، وأن دول الخليج مطالبة بمراجعة وضع العمل الخيري وتفعيله وإلا فقدت رافداً مهماً في سياستها واستراتيجيتها؛ لأن القضاء على العمل الخيري الإسلامي يعتبر خدمة لإسرائيل وجمعيات التنصير.
البعد السياسي والديني للحملة الأمريكية
وفي مداخلة لاقت استحسان جميع الحضور أشار الدكتور محمد السلومي الخبير بمؤسسة الوقف الإسلامي بهولندا إلى أن الحملة ضد العمل الخيري الإسلامي بدأت قبل أحداث 11 سبتمبر وهناك كتاب طبع في أمريكا وصدر قبل هذا الحادث بأيام للكاتب بول فندلي ينتقد فيها السيطرة الصهيوينة على أمريكا ويرفض فيه الاتهامات الأمريكية لمؤسسات العمل الخيري الإسلامية.
وانتقد فندلي الحملات العدائية الصهيوينة ضد المساجد الإسلامية التي اتهمتها مثل كتاب " جوزيف ميللر" بأنها تقود الجهاد في أمريكا ومولت جماعة بنيا يل بريس فيلما سينمائياً اسمه الجهاد يحذر فيه من خطورة المسلمين على بنيان المجتمع الأمريكي وقد لاقى هذا الفيلم استحسانا ورواجاً في الدوائر الصهيونية .
ودلل السلومي على ذلك بقيام الولايات المتحدة في ذروة أحداث سبتمبر بتجميد مؤسستين "هولي لاند وجلوبل ليف "المتخصصتين في إغاثة الشعب الفلسطيني، رغم أن اهتمام واشنطن كان موجها إلى القاعدة وطالبان .. لذا فالبعد الديني والسياسي واضحين في الحملة الشرسة ضد هذه المنظمات حيث العداء للإسلام وخدمة الصهيوينة.
ووجه الرئيس بوش - شخصياً - الاتهام للمؤسستين بدعم الجهاد الفلسطيني ضد إسرائيل بل وأدت هذه الحملة إلى انحسار العمل الإغاثي والخيري الإسلامي لصالح مؤسسات العمل التنصيري
===============(15/224)
(15/225)
التجنس بجنسية غير إسلامية "المشكلة والحل"
فضيلة الشيخ: أبوبكر الجزائري 2/11/1423
05/01/2003
المشكلة
التجنس هو أن يطلب المرء تبعية دولة من الدول المعاصرة، فيعطاها فيصبح تابعاً لتلك الدولة، يجري عليه ما يجري على أفرادها من أحكام وقوانين سياسية ومالية واجتماعية في الجملة ودون تفصيل، وبما أن العلمانية سادت أكثر دول العالم، فإن التدين أصبح حراً، فللمواطن بالأصالة أو التبعية أن يتدين بما شاء، فالمسلم إذا حصل على جنسية بريطانية لا يصبح نصرانياً، والبريطاني إذا حصل على جنسية باكستانية لا يصبح مسلماً، وكذا الفرنسي إذا حصل على جنسية مغربية أو جزائرية أو تونسية، لا يصبح مسلماً بل يبقى على دينه الذي اعتنقه أو ورثه عن آبائه وأجداده.
وإذا عرف هذا فهل يصح أن يحكم على المسلم إذا أخذ جنسية دولة كافرة كأمريكا أو بلجيكا أو فرنسا أو بريطانيا، وبقي على دينه الإسلامي عقيدة وعبادة، يحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله، هل يصح أن يحكم عليه بالكفر والردة.
والجواب متروك لأهل العلم والنظر، أما أنا شخصياً فلا أقول بكفره، ولا بردته وأبرأ إلى الله تعالى من أن أكفر مسلماً وأحكم عليه بالردة كما أبرأ إلى الله تعالى ممن يكفر مسلماً أو يحكم بردته لمجرد أنه تابع لدولة كافرة قانونياً، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج بيت الله الحرام، ويحل ما أحل الله ورسوله، ويحرم ما حرم الله ورسوله من المطاعم والمشارب والمناكح وغيرها.
الحل
إن حل هذه المشكلة يكون باتخاذ ما يلي وهو:
إرجاع كل مسلم في بلاد الكفر إلى بلاده الإسلامية، وبتهجير من أسلم في بلاد الكفر إلى البلاد الإسلامية، وبتهجير من أسلم في بلاد الكفر إلى البلاد الإسلامية، وهنا يطرح هذا السؤال: هل بالإمكان إرجاع المهاجرين المسلمين وتهجير من أسلم من الكافرين إلى بلاد المسلمين؟.
وإذا كان الجواب: إن هذا من غير الممكن اليوم وغير متأت أبداً، فما هو الحل إذاً يا ترى؟
الجواب: إن الحل لهذا المشكل العويص ليس في الحكم بردة المتجنس ، وإنما هو اتباع ما يلي:
تكوين لجنة عليا يتكون أعضاؤها من كافة البلاد الإسلامية تحت عنوان اللجنة العليا لرعاية المهاجرين، وتكون لها ميزانية يسهم فيها كل بلد إسلامي بقدر معين من المال بحسب حال البلد قوة وضعفاً، وتتلخص مهام تلك اللجنة فيما يلي:
1- بناء مساجد لهم يصلون فيها ويتعلمون الضروري من دينهم الإسلامي.
2- تعمير تلك المساجد بالأئمة الأكفاء القادرين على تربية إخوانهم روحياً وسلوكياً وتزويدهم بالكتاب الصالح النافع الذي يجمع ولا يفرق ويهدي ولا يضل كمنهاج المسلم.
3- العمل على توحيد المهاجرين في البلد الذي هم فيه بحيث تنعدم الفوارق بينهم ويصبحون جماعة واحدة ليس لها انتماء إلا إلى اللجنة العليا لرعاية المهاجرين.
4- إيجاد تعليم لأبناء المهاجرين يتناسب مع ما لديهم من وقت يتعلمون فيه ما لا بد منه من العقيدة والعبادة والخلق والأدب، مع اللغة العربية لغة الكتاب والسنة.
5- العمل على إيجاد تعاون بينهم يثمر ما يلي:
أ) وجود مجزرة ومقبرة ليأكلوا الحلال من اللحوم، وليقبروا موتاهم في مقابر خاصة بهم.
ب) تكوين لجنة من ثلاثة علماء في كل بلد فيه مهاجرين مهمتها:
إصلاح ذات البين بين أفراد المهاجرين المسلمين، ليتحاشوا التحاكم إلى محاكم غير إسلامية.
عقد النكاح بين الزوجين وتقرير فرقة الطلاق بينهما إذا خيف الضرر عليهما أو على أحدهما، وتعذر الإصلاح برفع الضرر.
قسمة كل مسلم تركته وهو حي على ورثته وكتابة صك بذلك حتى إذا مات نفذ ما في الصك كأنه وصية وحتى لا تتدخل السلطة الحاكمة في تقسيم التركة حسب قوانينها.
إيجاد قانون مالي بينهم وذلك بإنشاء مصرف للإيداع والإنماء وفق الشريعة الإسلامية التي تحرم الربا وتبيح الربح بالتعاون المشروع.
هذا هو الطريق لحل مشكلة المهاجرين في بلاد الكافرين، فهل في الإمكان سلوكه إنقاذاً لملايين المسلمين من الذوبان في مجتمعات الكفر والإلحاد وأداء لواجب الدعوة إلى الإسلام وفي وقت الدعوة فيه لا تكلف عرقاً ولا دماً إذ لم تزد على الدينار والصدق في جمعه وصرفه لا غير.
وقبل أن ينهض المسلمون بهذا الواجب، وهو حل مشكلة ملايين المهاجرين في ديار الكفر أقدم فتواي التي أراها حلاً جزئياً للمشكلة وهي أن على المسلمين المهاجرين العودة إلى بلادهم فوراً إذ هجرتهم ما كانت فراراً بدينهم (1)، ولا كانت إلى دار إسلام، بل كانت إلى دار كفر، وقد تسببت هجرتهم في ضياع دينهم أيضاً فلا يسعهم البقاء على هذه الحال إلا بالإلتزام بما يلي:
1- أن ينووا الرباط في سبيل الله، وذلك بتكثير سواد المسلمين في ديار الكافرين.
2- أن يقوموا بالدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة.(15/226)
3- أن يصححوا عقائدهم، ويعبدوا ربهم بما شرع لهم، ويهذبوا أخلاقهم ويكملوا في آدابهم لتكون دعوتهم بالحال، وهي أنفع من دعوة القال باللسان وليعلموا أن هذا لا يتم إلا بوجود علماء صالحين يربونهم عقائد وعبادات وأخلاقاً وآداباً فليطلبوا هؤلاء العلماء وليطيعوهم طاعة كاملة ما أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا هذا وتحقق لهم فهم مرابطون في سبيل الله ولهم أن يأخذوا جنسية الدولة التي هم فيها، سواء كانوا مهاجرين أو مواطنين على شرط أن يكون التجنس -وهي غير التدين قطعياً- مساعداً لهم على دعوة الإسلام التي هم مرابطون من أجلها.
هذه فتواي والله أسأل أن تكون مرضية له عز وجل، نافعة لعباده المؤمنين، وأن لا يحرمني أجر اجتهادي فيها آمين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين(2)
(1)يستثنى من هذا التعميم الفارون- بدينهم من الحكومات الظالمة .
(2)-ن/ع كتاب إعلام الأنام بحكم الهجرة في الإسلام 40-47 للشيخ الجزائري- حفظه الله-بتصرف يسير-
=============(15/227)
(15/228)
أمركة الخطاب الديني..و شيخ الأزهر يتحدث عن المرأة، وعمرو خالد
الإسلام اليوم - القاهرة 13/11/1423
16/01/2003
اهتمت الصحافة هذا الأسبوع بقضايا عديدة مثل تعثر برنامج الخصخصة، ورأي شيخ الأزهر في قضايا المرأة والاستنساخ وعمرو خالد، والدعوة إلى إنشاء أزهر قطاع خاص، واستحوذت خطة أمركة الخطاب الديني للمسلمين على أهمية خاصة، وامتدّ الاهتمام للأحكام القضائية التي لا يتم تنفيذها، واختيار "تهانئ الجبالي" المحامية قاضية في المحكمة الدستورية العليا .
انتقاد صدام
في مجلة أكتوبر هذا الأسبوع يقدم الدكتور عبد العظيم رمضان - أحد أقطاب العلمانية النشطة - كشف بخطايا صدام حسين، والحديث بهذا الشكل فيه تسطيح، فالأمر تعدى رأس النظام وأصبح المقصود هو العراق والعراقيون، فقد ساق "عبد العظيم" عشرة أدلة يقول إن العراق من خلالها في مأزق، وأن الحل هو استقالة صدام حسين، وهو يعرف جيدا أن هذه الاستقالة مستحيلة؛ لأن صدام حسين لو ترك العراق ستتعقبه أمريكا ولن تتركه إلا قتيلا أو بين قضبان السجون، وبالتالي فالمقصود هو إمكانيات العراق وقدراته كدولة عربية لها وزنها وثقلها، ورغم ما يتركه المقال في نفس قارئه من غيظ، إلا أنه سرعان ما ينسى ذلك حينما يقرأ مقال رئيس التحرير "رجب البنا" عن الأصابع الخفية وراء العداء للإسلام في الغرب عموما، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص. المقال وصل حجمه إلى سبع صفحات بالأرقام والوقائع الموثقة والتواريخ، ومما جاء فيه أن "بول فندلي" عضو الكونجرس لمدة 22 عاما له كتابان، الأول بعنوان "من يجرؤ على الكلام" تناول فيه تأثير اللوبي الصهيوني على السياسة الأمريكية . أما الكتاب الثاني بعنوان"كفى صمتاً" تناول فيه تشويه صورة الإسلام في أمريكا في مواجهة الضغوط التي يتعرض لها كل من يحاول إنصاف الإسلام في أمريكا .
وفي كتاب "كفى صمتا" يقول " إن صورة العالم الإسلامي كانت غامضة في ذهنه مثل كل الأمريكيين، ولم تساعد الحكومة الأمريكية على توضيح أو تصحيح الصورة، ولكن زيارته إلى اليمن كانت نقطة تحول في حياته، فقد اكتشف خلالها الحضارة الإسلامية، ولمس أن هذه الحضارة تعتمد على قيم الشرف والكرامة، وأن التسامح قيمة أساسية فيها، لا تختلف - كما كان يعتقد - من أصول المسيحية، ويقول إنه لم يكن مهتما بالأقلية المسلمة في أمريكا وإنجازاتها في المجالات العلمية والتجارية والأكاديمية، وعندما بدأ الاهتمام بذلك اتهمه خصومه في الكونجرس بمعاداة السامية، هذه عينة مما ورد في مقال "رجب البنا" المهم والوثائقي في فضح الأيدي التي تلعب في الظلام لتشويه صورة الإسلام في أمريكا.
أول امرأة مصرية لمنصب قاضٍ
واهتمت مجلة "آخر ساعة" بمحاورة السيدة "تهانئ الجبالي" المحامية والتي تم اختيارها كأول امرأة في المحكمة الدستورية العليا في مصر، الأمر الذي جعلت منه المنظمات النسائية نصرا مبينا لدعاوى المساواة بين الرجل والمرأة .
تقول "تهانئ الجبالي" إن العيون ستسلط عليها وإن المعارضين لن يسكتوا عنها، فقط أعطوني الفرصة لأثبت أن المرأة مثل الرجل على المنصة، تترك العواطف وتحكم بالقانون .
وتقول إن المحاماة هي كل حياتها، وأن عزاءها الوحيد أنها ستعود إليها مرة أخرى بعد 14 عاما، هي مدة الخدمة في المحكمة الدستورية
قبل بلوغ سن المعاش "فهي الآن عمرها 52 سنة" .
وتهانئ الجبالي تركت المحاماة وكذلك عضويتها في الحزب الناصري الذي تنتمي إليه؛ لأن القضاء يمنع العمل بالسياسة .
وتقول إنني لن أعمل بالسياسة، ولكنني لن أنسى السياسة، فالقضاء لا يمنع التفكير فيها، وترى تهانئ الجبالي أن القضاء ليس آخر المشوار في حقوق المرأة، فما زالت المرأة تحلم بأن تكون محافظا أو رئيس مدينة،
وعن الجهات التي رشحتها لهذه الوظيفة تقول " المؤكد أن المجلس القومي للمرأة ورابطة المرأة العربية لعبا دورا مهما في هذا الترشيح.
أما رئيس المحكمة الدستورية د. فتحي نجيب فهو أحد الذين لهم دور كبير في كل قضايا المرأة، وهو قاسم أمين هذا العصر وستذكره المرأة المصرية بكل إعزاز.
وفي آخر ساعة أيضا موضوع عن الأحكام القضائية التي لا يتم تنفيذها، جاء فيه أنه في العام الماضي تم تنفيذ خمسة ملايين حكم بالحبس والغرامة، ومتوسط الأحكام التي تصدر سنويا لا تقل عن ستة ملايين حكم، وهذا يعني أن هناك نحو مليون حكم لا يتم تنفيذه كل عام، وبذلك تتراكم ملايين الأحكام التي لا يتم تنفيذها .
شيخ الأزهر : عمرو خالد موضة(15/229)
أما صحيفة "العربي" الناصري فانشغلت بذكرى ميلاد جمال عبد الناصر، لكنها في الوقت نفسه أجرت حوارا مطولا مع شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي، قال فيه إنه فرح كثيرا لاختيار امرأة كأول قاضية في مصر؛ لأن هناك من النساء من لديهن من العلم في تخصصهن أكثر من مائه رجل، وهناك مساواة بين الرجال والنساء في التكاليف الشرعية وأصل الخليقة وطلب العلم، وعند سؤاله عن: لماذا لا توجد في لجان الفتوى بالأزهر امرأة ؟ قال: أنا لم أمنعها إذا احتاجت لجنة الفتوى بالأزهر إلى سيدة فقيهة وفاهمة لأحكام الإسلام وتقدمت إلينا فنحن لا نمنعها بل نرحب بها، فالمرآة لها حق أن تفتي في حدود علمها.
وعند سؤاله لماذا لم يتم اختيار المرأة في مجمع البحوث الإسلامية ؟ قال: المجمع بالانتخاب وليس بالتعيين، ونحن لا نضمن نجاحها في حالة الترشيح مثلما يحدث في مجلس الشعب، ومن أرادت أن ترشح نفسها فأهلا وسهلا .
وعن قضية الدعاة غير الأزهريين الذين تفوقوا على الأزهريين في الدعوة بالشارع المصري قال: ما زال الأزهريون يتخرجون في كلية الدراسات الإسلامية وأصول الدين والشريعة واللغة العربية، وما زال خريجو هذه الكليات هم الذين يتولون الدعوة .
وعن عمرو خالد قال: سمعت عنه ولكني لم أسمعه ولم أره ولا أستطيع أن أحكم عليه إلا إذا سمعته، ويبدو أنه موضة جديدة !
أزهر قطاع خاص
وفي موضع بهذا الخصوص قالت العربي إن الضغوط لأمركة المناهج الدينية بالدول الإسلامية من باكستان إلى مصر مرورا بالسعودية واليمن لم تتوقف، وأغرب شيء في هذا الصدد هو ما تردد عن تخصيص قطعة أرض بمدينة 6أكتوبر لإنشاء أول جامعة أزهرية قطاع خاص، وكشفت الصحيفة أن صاحب المشروع هو رجل الأعمال "محمود الشناوي" زار رئيس جامعة الأزهر وعرض عليه المشروع، فرحب رئيس الجامعة ووعد بتقديم المساعدة في وضع المناهج واختيار أعضاء هيئة التدريس. العلماء الأزهريون أكدوا لـ"العربي" أن طرح الفكرة يعبر عن نية مبيتة ليفقد الأزهر -كمؤسسة دينية عريقة- تفرده بل عبّر الأساتذة عن تخوفهم من أن تكون هناك جهات أجنبية وراء المشروع في إطار الحرب على الإسلام والمؤسسات الدينية الإسلامية، خاصة وأن البعض يتهم الشناوي بإقامة علاقات مريبة مع اليهود .
أمركة الخطاب الديني
وفي صحيفة "الأسبوع" المستقلة كان الموضوع الرئيس والمهم هو التقرير الذي كتبه رئيس التحرير "مصطفي بكري" عن الخطة التي انتهت الإدارة الأمريكية من إعدادها بعنوان" تطوير الخطاب الديني لدى المسلمين "، وتشير المعلومات إلى أن تقرير اللجنة أكد أهمية أن يتم التركيز على تقليل الاهتمام بالجانب الديني في الحياة الاجتماعية العامة، وأن يبرز الدور الديني كمعيار ثانوي في أساليب الحياة الاجتماعية للمواطنين، حيث يرى أن أحد أسباب انتشار الإرهاب هو الاهتمام بالجانب الديني في السبعينات .
ويرى التقرير أن إحدى الوسائل الأساسية للقضاء على الجانب الديني يجب أن تتضمن إغراق الشعوب العربية والإسلامية بأنماط مختلفة من التكنولوجيا الحديثة، وكذلك نشر الأسلوب الغربي في الحياة .
ويقول التقرير إن هناك مشكلة أساسية تواجههم في مصر، وهي أنه مع زيادة معدلات الفقر وانتشار البطالة، فهناك تفكيرا تلقائيا ينشأ لدى الأفراد في اللجوء إلى الدين كوسيلة للخلاص من متاعب وأزمات الحياة الاجتماعية، وأنه لذلك يجب التركيز على تطوير الخطاب الديني في مصر تحديدا، وحسب المشروع الأمريكي فقد تم التركيز على مصر في برنامج المعونة الأمريكية الجديد، بعد أن جرى التوصل إلى نتيجة مفادها أن الدعاة المصريين هم الأكثر شهرة وتأثيراً في بقية الدول العربية والإسلامية .
ويرى المشروع أن خطة تطوير الخطاب الديني في مصر سيجري تنفيذها من خلال دورات تدريبية مكثفة ستعقد في القاهرة وواشنطن مدة الدورة 6 أشهر، يلتحق بها من 500-600 من الدعاة المصريين الذين يمكثون منها ثلاثة أشهر في واشنطن وبقية المدن الأمريكية، وثلاثة أخرى في القاهرة، وسيتم اختيار عدد من علماء الدين الكبار الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين ليكونوا محاضرين رئيسيين في هذه الدورات .
===========(15/230)
(15/231)
العلمانيون و تطبيق الشريعة الإسلامية
الإسلام اليوم -القاهرة 26/5/1423
05/08/2002
- يدّعون النقص في الشريعة ، والله لم يتعبدنا بشريعة ناقصة .
- يحتجون باجتهادات عمر الفاروق على جواز إقاف الحاكم لبعض النصوص التشريعية .
- الربط بين الحجاب والتخلف خدعة علمانية مكشوفة .
- ادعاء القسوة في الحدود الشرعية جهل بالحكمة من تغليظ العقوبة
كثيرة هي الشبهات والاعتراضات التي يوجهها العلمانيون في العالم الإسلامي ضد المطالب الشعبية المتنامية لتطبيق الشريعة الإسلامية ، بعد أن أُثبتت القوانين الوضعية التي تسللت إلى ديار المسلمين إبان عصر الاستعمار الأوروبي لكثير من البلدان العربية والإسلامية ، وقد حمل هذا الاستعمار عصاه ورحل بعد جهاد شاق وتضحيات كبيرة من الشعوب العربية والإسلامية ، ولكن ظل هذا الاستقلال ناقصاً ومبتوراً ؛ لأننا لم نتحرر من تلك القوانين الغربية التي تمثل استعمارا أوربيا قانونيا حتى الآن .
الدكتور فريد على جلبط المدرس بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر يتناول - في بحث أعده حديثاً - شبهات المعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية ، ويقوم بالرد عليها شبهة تلو أخرى ؛ لإثبات أن المجتمعات الإسلامية هي أحوج ما تكون لتطبيق الشريعة حتى يكتمل استقلالها وتستعيد هويتها الإسلامية ، وتتخلص من بقايا الاستعمار القانوني الأوربي ، الذي لم تجن منه تلك المجتمعات سوى المزيد من المظالم الاجتماعية والمشكلات الخُلقية ، التي كرستها قوانين هي من صنع البشر وقد عجزت عن تحقيق العدل والأمان في بلادها .. فكيف نستمر في تطبيقها في بلادنا ؟؟
" عصر الجمل ..وعصر الفضاء "
الشبهة الأولى تقول :
إن شريعة عصر الجمل لا تصلح لعصر الفضاء ، وأن الشريعة الملزمة غير قادرة على الوفاء بحاجات الناس ، وأنها لم تشمل جميع جوانب الحياة ويضربون على ذلك مثلا بقانون المرور والبحار .. الخ . وللرد على هذه الشبهة ، يقول الدكتور جلبط :
إن هذه الشريعة صادرة من الله العليم الخبير ، وقد شهد سبحانه وتعالى لها بالصلاحية والخلود والشمول ؛ وذلك بحفظ مصادرها الأساسية وهي القرآن قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . وهذا الحفظ يتضمن السنة النبوية أيضا وكذلك حفظ الشارع الإجماع فقال صلى الله عليه وسلم { لا تجتمع أمتي على ضلالة } .
وقال تعالى مبيناً شمولها : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } .
وهذه الشريعة خاتمة وعالمية ولا يعقل شرعاً أن يتعبدنا الله تعالى بشريعة ناقصة ، ولذلك قال تعالى : { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث : { وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة } .
وقد أودع الله في هذه الشريعة خصائص وميزات تجعلها قادرة على الوفاء بحاجات الناس في كل عصر ؛ إذ أن الشرع تناول بالتفصيل جانب العبادات ، أما الجوانب الأخرى فهي المعاملات ، فقد وضع لها أصولا عامة وترك تفصيلاتها لعلماء الأمة في كل عصر ؛ لبيان حكم الله من خلال هذه القواعد ، وأبرز مثال على ذلك نظرية الشورى كأساس من أسس الحكم في الإسلام ، فقد ترك تطبيقها لظروف كل عصر دون أن يحدد لها شكلا معينا من أشكال الحكم .
والشريعة الإسلامية تتميز بالثبات في الأصول والغايات والمرونة في الوسائل والفروع ، فالمسائل الجديدة ينظمها ويبين حكمها أهل الحل والعقد طبقاً للقواعد العامة ، كقانون البحار ولوائح تنظيم المرور يمثل قاعدة رفع الحرج عن الناس وقاعدة لا ضرر ولا ضرار .. الخ .
" اجتهادات عمر بن الخطاب "
ويثير المعارضون لتطبيق الشريعة بعض الاجتهادات التي أقدم عليها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حين أوقف سهم المؤلفة قلوبهم ، وأفتى في المواريث ، وإيقاف حد السرقة عام المجاعة ، ويريدون من اعترافهم الاستدلال على أنه يجوز للحاكم إيقاف بعض النصوص وفقا لما يرى فيه أنه مصلحة .
ويرد الدكتور جلبط على هذه الشبهة قائلا :
إن هناك حقيقة شرعية غفل عنها أصحاب هذه الدعوى ألا وهي أن الأصل في العبادات الالتزام بها دون البحث عن العلة فيها ، كما أن الأصل في المعاملات التعرف على علل الأحكام فيها ، وأن هذه الأحكام تدور مع عللها وجوداً أو عدماً ، كما أن هناك شروطا لابد من توفرها لإقامة الحد .
وطبقاً لهذه القواعد فإن إيقاف عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - لسهم المؤلفة قلوبهم كان بسبب فهمه أن هذا السهم شُرع لعلة معينة في ظروف محددة ألا وهي علة " تأليف القلوب " في ظروف ضعف الدولة الإسلامية في بداية تكوينها ، ومن ثم كان الحكم هو مشروعية هذا التأليف سواء كان ذلك من أموال الغنيمة أو الفيء أو الزكاة
، أما وقد عز الله الإسلام وقويت الدولة واشتد سلطانها فلا حاجة إذا للتأليف ؛ لأن العلة غير موجودة وإذا انتفت العلة انتفى الحكم .(15/232)
أما بالنسبة للمسألتين العمريتين في المواريث فإن عمر - رضى الله عنه - أعمل النص ولم يهمله لأن الله تعالى يقول : { للذكر مثل حظ الأنثيين } . وقبل اجتهاد عمر - رضى الله عنه - لم تكن الآية متحققة وتفصيل الأمر في إحدى المسألتين اللتين أفتى فيهما عمر هي أن المسألة قبل الاجتهاد من أن للأب سهم ؛ لأنه عاصب ، وللأم سهمان وللزوج ثلاثة ، والملاحظ أن الأم أخذت ضعف الأب وهو ما يخالف النص القرآني ، وأصبحت المسألة بعد اجتهاد عمر أن الزوج أخذ نصيبه ثلاثة ، وأخذت الأم الثلث من الباقي بعد نصيب الزوج وهو واحد وأخذ الأب الباقي وهو اثنان ، وبذلك أصبح نصيب الأب ضعف نصيب الأم وفقاً للآية الكريمة { للذكر مثل حظ الأنثيين } .
أما بالنسبة لإيقاف حد السرقة عام المجاعة فإن شروط إقامة حد السرقة لم تتوفر في هذه الحالة ، وفات على المعترضين أن الشرع حجة على العباد أما أفعال العباد فليست بحجة على الشرع .
" الهيمنة للقرآن والسنة "
وتأتي الشبهة الثالثة التي يستند إليها المعارضون ويحتجون بقول معاذ - رضى الله عنه - ( اجتهد رأيي لا آلو ) للتدليل على مشروعية الاجتهاد بدون ضابط أو شرط .
والرد على هذه الشبهة أبسط ما يكون إذا قرأنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم جيدا فحين سأل معاذا عندما أرسله إلى أهل اليمن معلما وقاضيا { بما تقضى إذا عرض لك قضاء ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد . قال فبسنة رسل الله . قال : فان لم تجد . قال : اجتهد رأيي لا آلو .. } الحديث .
وبالتأمل في الحديث نجد أن الاجتهاد جاء في المرتبة الثالثة بعد كتاب الله وسنة نبيه ، ومن ثم فالهيمنة عليه للكتاب والسنة فأي اجتهاد يخالف صريح الكتاب والسنة الصحيح يعد باطلا ، إن الاجتهاد لابد أن يكون صادرا من أهله وليس من ادعائه ، فللاجتهاد شروط لابد من توفرها وهي العلم بالكتاب والسنة والعلم باللغة العربية والعلم بأصول الفقه وخاصة مباحث الألفاظ والناسخ والمنسوخ وباب الأدلة والأحكام الشرعية والعلم بمسائل الاجتماع . والاجتهاد يشترط فيه عدم التقصير " لا آلو " أي لابد وأن يبذل المجتهد طاقته ويستفرغ وسعه في استنباط الأحكام الشرعية ومن ثم فإن الاستدلال بهذا الحديث من جانب المعارضين استدلال باطل لأنه حجة عليهم لا لهم .
و تتمثل الشبهة الرابعة في محاولة التوفيق بين الإسلام وغيره من النظم الوضعية لتبرير الوضع القائم في بلد ما على حسب النظام السائد فيها فإذا كان تيار الاشتراكية غالب كانت المحاولة الجمع بين الإسلام والاشتراكية وهكذا ، فبعضهم يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم تبعه الضعفاء والمساكين وأنه عنى بالطبقة الكادحة ، والبعض الآخر يقول أنه لا صدام بين الإسلام والاشتراكية فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول { الناس شركاء في ثلاثة الكلأ والماء والنار } .
" الهزيمة الحضارية "
وهذه الشبهة في رأى الدكتور جلبط هي محاولة من جانب المنهزمين نفسيا أمام الحضارة الغربية للتلفيق وليست للتوفيق ، فالإسلام شرعه الله تعالى نظام مستقل عن بقية الأنظمة الأخرى الوضعية والدينية المحرفة فهو دين ودولة ، مصحف وسيف ، علم وقضاء ، مادة وثروة ، كما هو عقيدة صادقة ، وعبادة صحيحة ، يختلف في منطلقاته وأهدافه ، كما يختلف في طبيعته وقانونه عن بقية الأنظمة الأخرى وليس معنى اتفاق الإسلام والرأسمالية في مسألة من المسائل ما أنه رأسمالي أو اتفاق الإسلام والاشتراكية في أمر ما أنه اشتراكي ، فالاشتراكية والرأسمالية منطلقاتها مادية في أن الإسلام منطلقاته من القرآن والسنة .
والشبهة الخامسة للمعارضين لتطبيق الشريعة تتعلق بالحدود بشكل عام زاعمين أنها منافية لروح العصر وحقوق الإنسان .
والرد على هذه الشبهة يعتمد على أن عنصر القسوة من حيث ذاتها يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة فلو فقدت القسوة فقدت معها العقوبة بدون شك ولكن ما هي الدرجة التي يجب أن تقف عندها قسوة العقوبة على جريمة ما ؟
إن الذي يحدد هذه الدرجة هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها .. أي أن تحقيق معنى العقاب يستلزم أن تشتد القسوة كلما ارتفعت الجريمة في سلم الخطورة وأن تخف القسوة فيه كلما انخفضت الجريمة في درجات هذا السلم ذاته .
وهذه الحقيقة محل وفاق جميع علماء الشرائع والقوانين مهما اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب فإذا كان في الناس من يصف حدود الشريعة الإسلامية بقسوة زائدة على مقتضى هذه القاعدة التي لا خلاف عليها فسبب ذلك أنهم لا ينظرون إلي خطورة الجرائم التي أنيطت بها الحدود دون نظر إلى نظرة المشرع في ذلك وهذا ضلال عجيب .
"السطحية في الفهم "(15/233)
ويضيف الدكتور فريد على أن جرائم ما هي إلا اعتداء صارخ على أصول الحياة ومقوماتها أو ما اصطلح الفقهاء على تسميته بالكليات الخمس وهي الدين والنفس والعقل والعرف والمال ، وادعاء القسوة والشدة في حدود الشريعة مظهر من مظاهر السطحية في الفهم بل الجهل المعيب بطبيعتها وإن كان كل دارس للشريعة يعلم يقينا أن ما قد يبدو في حدودها من القسوة لا يعدو أن يكون قسوة تلويح وتهديد فهو أسلوب تربوي وقائي أكثر من أن يكون عملا انتقاميا أو علاجا بعيد عن الواقع .
ويؤكد ذلك أن الشريعة لا تجيز الاعتماد على قرائن الأحوال في الحدود وذلك تضييقا لسبيل الاتهام بل لابد فيها من البيان المنصوص عليها وإلا سقط الحد وأساس ذلك قاعدة ( ادرؤوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم فإن وجدتم مخرجا فخلوا سبيله فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ) ، وتشدد الشريعة في تطبيق عقوبة الزنا زيادة على ذلك إلى درجة تجعل تطبيق العقوبة على الزاني من نوادر الأعمال وغرائب العصور فقد شرطت لذلك إما الاعتراف القاطع الصريح وإما بشهادة أربع برؤية الفعل على حقيقته .
ومعظم العقوبات المترتبة في الشريعة على المعاصي والانحرافات المختلفة إنما فوض الشارع تقديرها إلى بصيرة الحاكم المسلم على ألا تتجاوز حدودا معينة ، فهي خاضعة للتطور في نوعها وللتفاوت في شدتها وهي بذلك متفقة مع روح العصر ( وهي ما تسمى في الشريعة بجرائم التعازير ) وإذا سقط الحد بالشبهة فإن الجاني لا يؤاخذ عندئذ إلا بالتسوية المالية كرد الأشياء المتهم بسرقتها وعقوبة تعزيرية يتخير القاضي نوعها وكميتها حسبما تقضى به المصلحة ويحقق الغاية من شرعية العقوبات .
" حجاب المرأة ..والخدعة المكشوفة "
والشبهة السادسة تدور حول موقف الإسلام من المرأة والزعم بأن هناك ظلم للمرأة المسلمة وأن الحجاب يعوق عن التقدم ، وينسى هؤلاء أن التخلف له أسبابه والتقدم له أسبابه ، وإقحام شريعة الأخلاق في هذه الأمور خدعة مكشوفة .
والشبهة السابعة هي اللعب بورقة الأقليات داخل المجتمع المسلم ، ويتجاهل مثيرو هذه الشبهة أن الشريعة الإسلامية لا تطبق إلا على المسلمين وأنه أهل الأديان الأخرى غير ملزمين بها في أغلب الأمور
=============(15/234)
(15/235)
المنافقون ودورهم في اسقاط الدول
كثيراً ما يواجهني سؤال مفاده. لماذا تنتقد بحدة العلمنة والفكر العلماني ؟ مباشرة ، ودونما أية مجاملة أو مواربة، أو عبارات اعتذارية كما جرت العادة عند التعرض لمثل هذه القضايا ذات الأبعاد الحساسة، أقول:
السبب أنني أرى أن هذا الفكر الطارئ ، له آثاره الخطيرة على المجتمع ،يقول الدكتور سفر الحوالي ـ شفاه الله ـ وهو من كبار العلماء في بيان تعريف العلمانية: ( لو قيل إنها فصل الدين عن الحياة ، لكان أصوب ، ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو إقامة الحياة على غير الدين ؛ سواء بالنسبة للأمة أو للفرد ) العلمانية ص 24 .
هذه الفرقة - في حقيقتها - تقوم وتنطلق على أساس فصل الدين عن الحياة ..ومن ضمنها السياسة ..فالعلمانيون يجعلون الحياة في جانب والدين في جانب آخر ..وهنا بيت القصيد ومربط الفرس كما يقولون.
فالدين في نظر هؤلاء هو الاعتقادات ومن وسع دائرته فيضيف إلى ذلك الشعائر ، وهو مفهوم كهنوتي غربي انتهى إليه الحالة الغربية بعد الصراع ثم التوافق التاريخي بين كنائس الأحبار والرهبان وبين مؤسسات المجتمع الغربي وعندما استوردنا هذا التصور صرح بعضهم جهراً أن ( الدين لله والوطن للجميع ) وشعار ( لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين )
إننا نتوجه بالسؤال إلى من يدعي الإسلام من هؤلاء فنقول :
إذا أخرجنا ـ على سبيل التحكم ـ جزءا من النشاط الإنساني في الحياة ـ إما السياسة وإما غيرها ـ عن دائرة الدين فمن أين نتلقى منهج وأحكام هذا الجزاء ؟
ولأن (فكرة فصل الدين عن الحياة) هي أساس (العلماني )، فإن الراصد المتتبع لخطاب ناشطيهم ودعاتهم، يجد أنهم يدافعون عن تنظيماتهم ويتعاملون مع خصومهم، ويصفون الذين يطالبون بتطبيق الإسلام وتحكيمه في أرض الله وعلى عباد الله كما هو بدون اختزال بأنه (صحوي أو متطرف أو طالباني ) ـ باستثناء بعض المتأثرين بهم من حيث لا يشعرون ـ وهم بذلك - ربما دون أن يشعروا - يفترضون أن الإسلام (ديناًً كهنوتياً) مكانه المسجد وأن الذين يعترضون على تسلطهم، ويختلفون مع خطابهم، هم ضد الإسلام بينما هم في الواقع ضد أن يكون انتقائية في اختيار ما يناسب من أحكام الإسلام للإشهار به على الأعداء والخصوم ..وتمرير أفكارهم ..وتبرير مواقفهم .. لأن الإسلام من حيث المنطلق، ومن ثوابته الأساسية، والتي لا يختلف عليها اثنان من أهل الإسلام ، لا يقبل بإقامة الحياة على غير الدين وإنما قام على أن يكون الدين مهيمنا على الحياة كما قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ )) ( البقرة :208) .
والعلماء هم ورثة الأنبياء في بيان الدين للناس وتعلميهم إياه .. وقد أمر الله تعالى عباده برد الأمر عند الاختلاف إلى العلماء فقال سبحانه : (( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ )) ( النساء : 83) .
ولذلك أقام ولي الأمر المؤسسات الدينية كهيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لضبط الناس وتوجيههم .. بل كل دول العالم تضع ذلك على حسب أديانهم وتوجهاتهم .
والإسلام أمر بالطاعة (لأولي الأمر) خاصة، في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ )) (النساء :59) .
ولا صحة لمن يقول إن العلماء لا يشتركون مع الأمراء في مقتضى (الطاعة) بمعناها الشرعي ، قال العلامة الشنقيطي في تفسيره ( 7/317) ( وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم )
وأهل العلمنة ينتظمون ضمن (تنظيم) أو قل: ( توجهات فيهم فلول شيوعيين وبعثيين وقوميين ) ، و ليسوا كالعلماء إنما هم ( آحاد) وأفراد، يتفقون ويختلفون حسب اجتهاداتهم وفهمهم للأدلة، ولا يضر - بالتالي - المجتهد منهم اختلافه مع من هو أعلى منه منزلة، أو أقل منه منزلة من الناحية العلمية. يقول علماء الأصول: ( لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله كذلك، بَلْهَ أن ينكر على مجتهد) هذا هو الإسلام. أما بنو علمان ، أو قل الفكر العلماني، فيعملون من خلال (تنظيم) لها منظرون، ولها أسس فكرية، وكوادر وأتباع ومريدون، وهم في الواقع وعند التدقيق والتمحيص من أسس إلغاء الدين واستغل أخطاء أصحاب الكنيسة لتكون نقطة تحول للانفلات من الدين ..وجعل الدين هو العقبة أمام التقدم والحضارة .(15/236)
ولعل ( المقالات الجماعية على هدف واحد ) التي يصدرها بعض كتاب الصحافة هذه الأيام تصب دون أن يعوا في إثبات ما أقول: فمثل هذه المقالات الجماعية والتي تُنقل أحيانا من مواقع متطرفة جدا كموقع إيلاف ؛ لم يكن لها سابقة في التاريخ الإسلامي، أراد منها ( هؤلاء) - على ما يبدو - تكريس فكرة ( العلمنة ) في الإسلام في أذهان مريديهم، وترويجها، وإذعان الناس لسطوتها وسلطتها للانتهاء بهذا الدين العظيم إلى أن يكون ( في مسجد )، أو ( في قضايا الأنكحة ) فقط .
كما أن هذه الفرقة تعتمد التستر بالتمسك بالدين الإسلامي بل ومنهج أهل السنة والجماعة من خلال تنظيم لا يتوقف عند استغلال بعض ( وسائل الإعلام ) وقلب المفاهيم الشرعية لدى الناس ، وطرح الشبهات بحجج واهية ، وإنما هذه مقدمات إلى العمل السياسي المنظم وهو الأصل والغاية في مرامي فرقتهم، والذي يستحلون فيه كل المحرمات، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة ..وتعمد إبداء (ظاهر) يختلف مع (الباطن) والهدف والنية، طالما أنه يخدم أهدافهم وغاياتهم السياسية.
وبنو علمان يحاولون دائماً أن يفعِّلوا ( قيم ) الإسلام الأخلاقية لتبرير مواقفهم ..والتستر على أفعالهم ومخططاتهم ..بينما هم يسهرون في ليال حمراء ..الله أعلم بحالهم !!!
وبنو علمان هم الطابور الخامس ..ولا أدل على ذلك ..من الواقع الذي نراه جميعاً :
ففي أفغانستان وفي بلاد الرافدين..وفي فلسطين من الذي قاوم المحتل ومن الذي رحب به ؟!
إننا نعلم جميعاً من هم الطابور الخامس ..ومن الذي له علاقات مع سفارات خارجية ..ويتسلم مكافأة مالية ..ليتهجم على مناهج هذه البلاد التعليمية ..ويحرض على قلب سياسة الحكم في البلد إلى ديمقراطية وهي دعوى كاذبة .. كل ذلك لأن ( ثابتهم ) الأول هو الحكم، أو على الأقل الوصاية على المجتمع، والتحكم في تسييره كما يطمحون.
ولأنهم يعرفون أن المجتمع السعودي مجتمع (محافظ) ولدى أغلبيته غيرة شرعية في كل ما يتعلق بقضايا ( المرأة ) ومنحها حقوقها، فإن الخطاب العلماني يطرح نفسه كممثل للمطالبة بحقوق المرأة ..فلماذا يضيق على المرأة بغطاء وجهها ؟!! فالحجاب ـ عندهم ـ تخلف ورجعية..ولماذا لا تعمل المرأة جنباً إلى جنب مع الرجال ؛ فالاختلاط ينمي الثقة بالنفس ..ولماذا تكون القوامة بيد الرجل والمرأة كاملة الأهلية ؟!! ..ولماذا لا تمارس المرأة هوايتها في الفن والمسرح حتى ولو هابطاً فهذه حرية شخصية ؟!! ..ومن حقها أن تمارس الرياضة بأنواعها المختلفة حتى المنفلتة منها لأنها رشاقة وجمال !!
وختاماً.. ماذا جنينا من هذا الفكر العلماني ، إلا الإساءة لسمعة هذا الدين، وإدخال الإسلام والمسلمين إلى محل الازدراء والتهكم ..فالإسلام شيء وواقع بعض وسائل الإعلام شيء آخر . فالمرأة تخرج متبرجة .. وتتراقص أمام العالم ..ليقال لغير المسلمين ..نحن لسنا متشددين ولسنا صحويين ..ولا طالبانيين !!
ولقد أخذ هؤلاء على عواتقهم تكريس فكر الانبطاح التام للغرب ..والنظر إليه بنظرة الإعجاب والإكبار ..حتى أصيبت بعض الشعوب بالخنوع والخضوع ..وصوروا لهم أنه لا يمكن أن نكون أقويا بإيماننا ..أقويا بإنتاجنا وقدراتنا .. برغم أن بعض أساطين هذا الفكر تنبه إلى (الورطة) التي أوصلوا إليها بلدانهم فضلاً عن مريديهم فإنهم لا يزالون في غيهم يعمهون .
خلاصة القول ..إن الله سبحانه يقول : ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)) (الزخرف:84) . وهم يقولون : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض آلة أخرى ..
وصدق الله : ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) (الزمر: 45) .
==============(15/237)
(15/238)
حكم مجادلة العلمانيين وغيرهم في مناظرات علنية:
لقاءات الباب المفتوح - (ج 233 / ص 27)
السؤال: هل يجوز لطلبة العلم المتمكنين من العلم الشرعي مناظرة أهل الأهواء كالعلمانيين وغيرهم في مناظرات علنية دحضاً لشبهاتهم ورداً على افتراءاتهم على الدين الإسلامي؟ الشيخ: تقول: هل يجوز؟ السائل: نعم.
الشيخ: أنا أقول يجب، يجب على المتمكنين أن يجادلوا هؤلاء، لقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وإذا تبين الحق ولم يرجع إليه هؤلاء فعلى ولي الأمر أن يلزمهم بذلك، أو يعزرهم تعزيراً يردعهم عن الدعوة الباطلة؛ لأنه لا يمكن أن نجعل الناس وشياطينهم أحراراً يقولون ما شاءوا، ما دام لنا قدرة والحمد لله وسيطرة وسلطان، فيجب أن نردع هؤلاء حتى لا يعيثون في الأرض فساداً، وإذا كان الحرابة في أخذ الأموال من الناس حكمها معروف: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:33] إذا كان هذا في أخذ أموال الناس والاعتداء على حياتهم فكيف بمن يسلب الناس دينهم، ويحرمهم الدنيا والآخرة؟!! لأن الكافر خاسر في الدنيا والآخرة كيف ذلك؟ في الدنيا كل يوم يمضي لن يعود إليه أليس كذلك؟ وما الذي استفاد؟ ما الذي استفاد من هذا اليوم الذي مضى؟ لم يستفد شيئاً، حتى وإن بلغ المتعة أعلى المتعة الجسدية فإنه لم يستفد، واليوم التالي والتالي إلى أن يموت كذلك خسران. في الآخرة خاسر أم غير خاسر؟ خاسر: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] هؤلاء الذين يدعون الناس إلى الكفر والإلحاد معناه: يريدون من الناس أن يخسروا الدنيا والآخرة، أيهما أعظم فساداً، هؤلاء أم الذين يأخذون المال، أو يقتلون الناس؟ الأول أشد وأعظم، ولذلك نحن نحذر من الاستعمار الفكري والخلقي والمنهجي الذي يبثه أعداء المسلمين اليوم في القنوات الفضائية وفي الإنترنت وما أشبه ذلك. هم الآن لا يستطيعون أن يغزونا بالسلاح إذا كنا على هذا الوضع والحمد لله لكن يغزوننا بالأفكار والأخلاق والشبهات، أما لو كانت دولة ضعيفة غزوها بالسلاح أليس كذلك؟ نعم. وانظر الحوادث الآن في الشيشان وغيرها، ولهذا يجب علينا أن نفكر في الأمر تفكيراً جدياً، على الأقل أن نتحصن ونحصن أنفسنا من هذه الوافدات علينا. اللهم احفظ علينا ديننا وثبتنا عليه إلى الممات، وقوِ ولاة أمورنا على أعدائنا، وسلطهم عليهم تسليطاً يردعهم عن الشر والفساد. وانتهى الوقت، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وفقكم الله وأعاننا وإياكم.
=================(15/239)
(15/240)
حكم الموالاة الظاهرية لحزب علماني لغرض الوظيفة
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 2578)
رقم الفتوى 43589 حكم الموالاة الظاهرية لحزب علماني لغرض الوظيفة
تاريخ الفتوى : 02 ذو الحجة 1424
السؤال
لدي سؤال مهم ومستعجل وهو أن التعيينات لدينا لا تتم إلا بعد التوقيع لبعض الأحزاب العلمانية الحاكمة وقد قمت بكافة المحاولات ولكن دون فائدة , وهناك ضغط كبير من أهلي على أن أوقع, فهل يجوز لي التوقيع لهم دون الموالاة الباطنية لهم , علما بأني أمتلك فكرا إسلاميا بحتا وليس هناك أي مجال في عقلي سوى الفكر الإسلامي والحمد لله, أفيدوني وجزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فتوقيعك لبعض الأحزاب المذكورة إذا كان يترتب عليه إعانة على معصية أو إثم فإنه لا يجوز، لما يشتمل عليه من التعاون على الإثم والعدوان، كما لا تجوز طاعة أهلك في هذا الأمر، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والمسلم لا يبيع دينه بعرض من الدنيا مهما كثر، وما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته، وما كتبه الله تعالى للإنسان من رزق سيصل إليه لا محالة، فقد قال صلى الله عليه وسلم إن روح القُدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته. صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير.
ونسأل الله تعالى لك الاستقامة على طريق الحق والصواب والإعانة على ذلك.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============(15/241)
(15/242)
الصلاة خلف إمام يظهر رضاه بالعلمانية
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 1853)
رقم الفتوى 62210 الصلاة خلف إمام يظهر رضاه بالعلمانية
تاريخ الفتوى : 08 ربيع الثاني 1426
السؤال
سؤالي هو : هل يجوز لي الصلاة خلف إمام المسجد (هذا الإمام هو معين ومفروض علينا)الذي يظهر ولاؤه ورضاه عن العلمانية بل ويناصرها علناً ويكون عريفاً لحفلها الانتخابي لانتخابات المجالس المحلية، ولا يكتفي بذلك بل يدعو الناس للتصويت لهذه القائمة العلمانية؟
أفيدونا بارك الله فيكم وبالسرعة الممكنة لما في ذلك من رفع الحرج عن المسلمين في الحي الذين أصبحوا بين نارين نار الصلاة خلف إمام علماني وبين الحفاظ على صلاة الجماعة في المسجد.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا في فتاوى سابقة حكم العلمانية والعلمانيين، فلتراجع الفتوى رقم: 2453 فقد بينا فيها حقيقة العلمانية وأنها كفر، وكذا الدعوة إليها، إلا أن شخصا يدعي الإسلام وينتمي إلى العلمانية لا نستطيع الحكم عليه إلا بعد معرفة حاله وتوفر الشروط وانتفاء الموانع، فمن توفرت فيه حكم بكفره، وحرمت الصلاة خلفه ولم تصح، وإلا فلا.
وعليه، فلا نستطيع الحكم على الشخص المذكور، بل ينبغي لكم أن توجهوا السؤال إلى من له علم بحاله وحقيقة أمره.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============(15/243)
(15/244)
المبلغ المستفاد بسبب الانتماء إلى حزب علماني
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 4763)
رقم الفتوى 75510 المبلغ المستفاد بسبب الانتماء إلى حزب علماني
تاريخ الفتوى : 25 جمادي الأولى 1427
السؤال
رجل من شمال العراق كان منتميا إلى حزب علماني لا ديني، وقد شارك معهم في بعض الثورات والنشاطات التي قام بها بدافع الدفاع عن الحقوق القومية. وبعد ذلك تبين له حقيقة هذا الحزب، فندم على ما سبق، والآن وبعد مضي سنين عدة يقوم هذا الحزب بصرف راتب شهري للمنتمين إليه قديما. فما حكم أخذ هذا الراتب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمرتب الذي يأخذه العضو في هذا الحزب العلماني يعتبر أجرة مقابل منفعة محرمة لأن الأساس الذي استحق به الراتب هو الولاء والمناصرة لمبادئ هذا الحزب، ولا ريب أنه يحرم على المسلم موالاة ومناصرة العلمانية وأهلها، وبالتالي لا يجوز له الانخراط في مثل هذه الأحزاب ولا أخذ المال الذي يدفع له على هذا الأساس، لكن ينبغي التفريق بين أن يكون هذا الحزب يرأس الدولة ويتحكم في أموال المسلمين وبين أن يكون حزبا خارج الدولة، فإذا كان من النوع الأول فإن الأموال التي بين يديه إنما هي أموال المسلمين، فمن استطاع أن يصل إلى حقه منها فله ذلك، وإن لم يكن له فيها حق صرفه إلى المستحقين ولا يرده إلى ذلك الحزب الذي سيصرفه في الباطل .
ولعلنا هنا نستأنس بقول الإمام أبي حامد الغزالي إذ يقول: لو لم يدفع السلطان إلى كل المستحقين حقوقهم من بيت المال فهل يجوز لأحدهم أخذ شيء من بيت المال ، ثم ذكر فيه أربعة أقوال:
أحدها: لا يجوز.
الثاني: يأخذ كل يوم قوت يومه فقط.
الثالث: يأخذ كفايته سنة.
الرابع: يأخذ ما يعطى وهو حصته والباقون يظلمون وهو القياس، والقياس الصحيح أن يأخذ ما يعطى.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
============(15/245)
(15/246)
العلمانية وخطرها
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4)
صالح الونيان
بريدة
جامع الإمام محمد بن عبد الوهاب
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون!
لقد أنزل الله الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، حتى أمسى شرك الجاهلية وضلالها أسطورة غابرة، وأصبحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكاً قديماً، ويعجب المسلم فيما يعجب من سخف المشركين، وصدق الله تعالى إذ يقول: من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشداً [الكهف:17].
عباد الله!
غير أنه يجب أن نذكر دائماً أن الابتلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال؛ حتى زخرفوه بكل صلة، وروجوا له بكل لسان وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً [الأنعام:112].
ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي؛ بالتحذير منها، وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم، وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين أو كيد الحاقدين.
ولقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات أسرت عقول البعض واستحوذت على الأفكار، أرى ذلك كله داء دوي ونار لو قدر لها أن تنتشر؛ لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم.
ومن تلك الأفكار الفكر الصليبي اللاديني، وهو ما يسمى بالعلمانية، التى تسربت إلى مجتمعات المسلمين.
ولعل أحد التحديات الخطيرة التي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
لذا؛ فإني سأميط اللثام عن وجه هذه النحلة الضالة المضلة:
فالعلمانية مدلولها الصحيح هو إقامة الحياة على غير دين؛ سواء بالنسبة للأمة أو للفرد.
إن هذه العلمانية لهي أكبر نقيض للتوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي.
عباد الله!
قال ابن تيميه في "رسالة العبودية": (إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية، ليصبح لا محالة في عبودية لغير الله وكل عبودية لغير الله، كبرت أو صغرت، هي في نهايتها عبادة للشيطان).
قال تعالى: ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [يس:60-61]. يشمل ذلك العرب الذين قال الله فيهم: إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً [النساء:117]. ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار التاريخ.
ولقد تغيرت بعض العبادة؛ فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى؛ كالحزب، والقومية، والعلمانية، والحرية الشخصية، والجنس وغيرها. وعشرات الأوثان الجديدة؛ إنها عبادة الشيطان والطاغوت، وهذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله؛ فمعنى (لا إله إلا الله): الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله.
وبناء على هذا يمكن أن نعرف حكم الإسلام في العلمانية، فنقول: إن العلمانية نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض تماماً مع (لا إله إلا الله) من ناحتين أساسيتين متلازمتين:
أولا: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله.
وثانياً: كونها شركاً في عبادة الله.
عباد الله!
إن العلمانية تعني بداهة: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من الطواغيت من دون الله؛ فهذا معنى قيام الحياة على غير دين.
قال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة:44].
عباد الله!
والجاهلية أنواع علينا أن نعلمها:
فبعض الجاهلية يتمثل في الإلحاد بالله سبحانه وتعالى، وإنكار وجوده؛ فهي جاهلية اعتقاد وتصور؛ كجاهلية الشيوعيين.
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية، وهي جاهلية الاتباع والطاعة؛ كجاهلية اليهود و النصارى.
وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحرف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، وكلها جاهلية.
عباد الله!(15/247)
والعلمانية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غيره، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله؛ لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله؛ قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [لقمان:25]. وكذلك لدى أصحاب الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية؛ قال تعالى : وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والأنعام نصيباً [الأنعام:136].
عباد الله!
ولكن مع ذلك بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟!
لقد حكم عليه بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفراً في ميزان الإسلام.
ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول الله ، واشتد النزاع بمعركة شرسة ونزاع حاد، حتى إن السيف كان الحكم الأخير، موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى كلمة واحدة، هي كلمة لا إله إلا الله، كلمة يصر عليها النبي إلى أقصى حد، وترفضها الجاهلية إلى أبعد حد؛ لأنه منذ اللحظة الأولى، حين دعاهم النبي إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ كان الجواب الفوري: "أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب" فالقضية واضحة في أذهانهم أن الالتزام بهذه الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ما عدا الله من معبوداتهم وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان، وطاغوت الزعامة، وطاغوت القبيلة، وطاغوت الكهانة، وطاغوت التقاليد، والاستسلام الكامل لله، ورد الأمر والحكم، جليله وحقيره، كبيره وصغيره، إلى الله وحده لا شريك له.
عباد الله!
وكذلك؛ فإن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون من يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية!!
وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط النساء مع الرجال على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟! وهذه دعوى إلحادية؛ لأنها رد لما جاء في كتاب الله من قوامة الرجل على المرأة.
وهناك من يتساءل: ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل سواء بالزنى أو غيره، عياذاً بالله؟!
وما للإسلام وهذا الذي يفعله المتحضرون؟! فأي فرق بين هؤلاء وبين سؤال أهل الكفر في زمن نبي الله شعيب: أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا [هود:87].
وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي؟! وما للدين والسياسة والحكم؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده.
فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية؛ تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ؛ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف!!
أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: الدين لله والوطن للجميع من أدعياء الإسلام من العلمانيين الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء الساخر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة.
من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة نفوس القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره، ولكن رويداً؛ لذلك؛ فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.
عباد الله!(15/248)
إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب فيه ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس إنما يحدث عمداً من دعاة العلمانية أنفسهم؛ لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين؛ إلا من خلال هذا التخفي والتلبيس على جماهير المسلمين، وذلك من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله
عباد الله!
إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائماً جبهة الرفض الباطنية، والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية؛ لتدمير أهل السنة والجماعة؛ باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى.
أقول: إن هذه المعارك وهذه القوى يجب ألا يتساهل و لا يتهاون معها أهل السنة والجماعة،
إن حصونهم لازالت مهددة من داخلها، وإن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل، والتي تصارعهم في معارك خفية حيناً وظاهرة أحياناً أخرى، هي التى تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث.
و إن أخطر مراحل هذا الصراع هي مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة، وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.
أما آن لأهل السنة والجماعة أن ينتبهوا لهذه الأخطار المحيطة بهم في الداخل والخارج والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟!
أما آن لهم أو لكثير منهم أن يتخلوا عن معاركهم القديمة وخلافاتهم الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم ويركزوا جهودهم لمواجهة هذه التحديات؟!
عباد الله!
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
================(15/249)
(15/250)
عداء الغرب والعلمانية للإسلام
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2306)
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
الخطبة الأولى
أما بعد:
فسوف يكون موضوعنا اليوم إن شاء الله تعالى حول بعض قضايا المسلمين، وأنا ما أريد أن أثقل كواهلكم بالهموم، لكن ذكر أحوال المسلمين وهمومهم هو عبادة لله تعالى يأمر بها سبحانه ويثيب عليها، وعلينا أن نناصرهم ولو حتى بدعوة صالحة.
ففي مسلسل إذلال وسفك دماء المسلمين ضربت أمريكا السودان وأفغانستان، لقد ضربتهما بلا دليل على تورطهما في عمل ضد مصالحها، فكل ما حدث أن الرئيس الأمريكي أراد أن يعيد الهيبة لحكمه وأن يظهر بمظهر الرجل القوي بعد فضائحه المشينة، فبحث عن شيء يفعله فلم يجد أرخص من دم المسلمين ليسفكه، ثم كذب على العالم كما كذب على شعبه في فضيحته من قبل، والكذب على الغير أيسر من الكذب على شعبه، كذب على العالم وادعى أن لديه معلومات استخبارية تثبت الاتهامات الزائفة.
وقد أيده الغرب على الفور، وأخذ يبرر لأمريكا فعلتها الشنعاء وكأنه لا عقل له.
ومبررات أمريكا واهية لكل عاقل، فهي لم تسق أي دليل على ما تقول، ثم إنه لو كان مصنع الأدوية الموجود بالخرطوم ينتج ما يستخدم في الأسلحة الكيماوية فلماذا لم تنتشر السموم في الخرطوم كلها بمجرد ضربه؟ وكيف اجتمع الناس حول المصنع المشتعل دون أن يصابوا بأذى؟ وكيف تقدم أمريكا على ضربه رغم الخطورة الهائلة في ذلك؟
إن أمريكا واثقة تمامًا من عدم وجود مصنع أسلحة كيماوية، ولكنها الغطرسة البغيضة، وحسبنا الله ونعم الوكيل، لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة: 10].
مما يسخر الإنسان منه أن أمريكا هي التي بنت معظم معسكرات أفغانستان المضروبة.
وأمريكا ذلك البلد العنصري اللئيم، لا يهمه أي قتلى سوى قتلاه، فلا يهمه كم قتل من الأبرياء في أفغانستان والسودان، ولا يعد هذا في نظر العالم إرهابًا.
وحتى أثناء بحث الأمريكيين عن الضحايا تحت أنقاض السفارتين في كينيا وتنزانيا، كانوا لا يهتمون إلا بالأمريكيين مما أثار سخط مواطني البلدين.
وحتى حينما يذم المسئولون الأمريكيون الإرهاب يقولون: "الإرهاب الذي قتل اثنا عشر أمريكيًا وعددًا من الأفارقة! أتدرون كم هذا العدد الذي يذكرونه بإهمال؟ إنه مئات القتلى وآلاف الجرحى.
إن الأهداف الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية معلومة، من هذه الأهداف تمزيق المنطقة، وتفتيت دولها، واستغلال ثرواتها، وإذلال أهلها، وفرض الهيمنة الإسرائيلية عليها، وتحطيم أي دولة تفكر ـ مجرد تفكير ـ في رفض هذه الهيمنة.
وقد جاء في صحيفة أخبار اليوم القاهرية ـ وهي صحيفة حكومية ـ في 6/3/ 1998 أثناء أزمة العراق الأخيرة ما يلي:
"إن أمريكا ما جاءت بحشودها وأساطيلها إلى المنطقة في هذه المرة إلا لتضع تصوراتها عن المنطقة في العشرين سنة القادمة موضع التنفيذ، ولتقطع الطريق أمام أي مصالحة عربية أو تفاهم مع إيران أو رفض الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، وهي وإن فشلت إلى حد ما بعد اتفاق بغداد مع كوفي عنان إلا أنها مصممة على المضي قدمًا في هذا المخطط، وإنما تعتبر نفسها في هدنة فقط.
إن صحوة الشارع العربي الرافض لضرب العراق لا ينبغي أن تموت".
إن أمريكا التي تمارس الإذلال ضدنا سيذلها الله، إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فقط ينبغي علينا أن نعمل للخلاص والله المستعان، فخبراء الاقتصاد يقولون أن أمريكا رغم قوة اقتصادها إلا أنها تنتظر الانهيار والتفكك إذا انهارت قيمة العملة الصينية، ساعتها سينهار الاقتصاد ينتفض المقهورون في الشعب الأمريكي من السود والمستعبدين من دول أمريكا اللاتينية داخل الولايات المتحدة، وعندئذ تذوق أمريكا المر كما أذاقت غيرها، وسينهار اقتصاد العالم كله بعدها للأسف.
وحتى نكون منصفين فإن انهيار أمريكا سيكون خسارة كبيرة للعالم كله في شتى ميادين العلم السلمي، ولكنها بطشت وظلمت وحابت وجاملت على حساب الضعفاء، فلتذهب إلى الهاوية غير مأسوف عليها.
لكن وبعد هذا الواقع المرير، ماذا عسانا أن نفعل؟ إنه لا حل أمامنا سوى العودة للإسلام، دين الله الحق الذي لا عز لنا إلا في ظلاله، ولا عون لنا من الله إلا بالتمسك به، حيث يقول تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [الحج:40]، ولكن هل عدنا إلى الإسلام؟
إن الكثير من الدول الإسلامية تنحي الإسلام جانبًا، وتمكن للمشبوهين في وسائل الإعلام المختلفة، الكثير من الدول الإسلامية يصول ويجول فيها العلمانيون الذين يحاربون الإسلام ويضللون المسلمين.
العلمانيون يقولون: نحن مسلمون، ولكن لا شأن للدين بالحياة، وهو لا يناسب هذا العصر كنظام حياة، وإذا سئل أحد منهم عن الإسلام تجد أنه جاهل به تمامًا، لا يعرف عن الإسلام سوى بعض الشبهات التي تلقاها عن أساتذته دون أن يعرف الرد عليها، وقد قال عنهم الدكتور القرضاوي: إن من جهل شيئًا عاداه؛ لقول الله تعالى: بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس:39].(15/251)
والدليل على جهل العلمانيين بالإسلام أن إحدى العلمانيات جاءت ببرنامج الاتجاه المعاكس في 31/ 3/98، فقالت ـ وهي غير محجبة، أي أنها كغيرها من العلمانيين لا يلتزمون حتى بالإسلام الفردي الذي يقولون أنهم يؤيدونه، وهم يخفون بهذا الكلام مروقهم عن الدين لخداع المسلمين ـ قالت: إن الإسلام كغيره من الأديان جاء لنشر العدل والرحمة، ولكنه لا يصلح لمنع الاستغلال مثلاً.
كيف ينشر العدل ولا يمنع الاستغلال؟!
كيف وهو يحيي ضمير المؤمن فيمنعه عن أدنى استغلال، ويمنع الغش والاحتكار ويحض على التكافل الاجتماعي ويوجبه وينصر المظلوم ولو كان كافرًا ويرعى النساء والأيتام و يمنع الربا حتى لا تستغل حاجة المحتاجين ويرعى الحقوق ولو كان الحاكم طرفًا، والأمثلة كثيرة جدًا، والإسلام يطلق العنان لكل من يبدع في وسائل منع الاستغلال في إطار الشرع الحنيف، دون أن نجنح إلى الرأسمالية التي تجعل المال إلهًا والتي تطحن الفقراء، أو الاشتراكية التي تطحن الأغنياء.
والعلماني تراه فصيحًا بليغًا في كلام الدنيا، ولكنه عندما يتكلم بالقرآن تجده يتلعثم وكأنه لا يعرف النحو مطلقًا، فقد جاء في نفس البرنامج وفي الأسبوع الذي سبقه علماني آخر أراد أن يستدل على صحة كلامه فاستدل بآية قال إنها من سورة الرمز؟!! يقصد الزمر.
ثم إنه طوال الحلقة لم يقرأ آية واحدة صحيحة رغم أنه رجل فصاحة ومرافعات.
وأخذ يؤول الآيات تأويلات فاسدة ويسقطها على الواقع إسقاطًا خائبًا، يدل على أنه يجهل الإسلام.
الإسلام في الكثير من البلاد الإسلامية يروج لأفكار غير إسلامية باسم حرية التفكير وحرية التعبير.
فبعد الاستجواب الذي قدمه الإسلاميون في البرلمان الكويتي لوزير الإعلام في أزمة الحكومة الأخيرة حول السماح ببيع ونشر كتب تطعن في الذات الإلهية والأنبياء والمرسلين، انبرت أقلام في الصحف وفي المحلات تصف الإسلاميين في الكويت بالإفساد والتستر وراء الدين.
انظر كيف أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ومن قبلها قالها فرعون لموسى: ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرْضِ الْفَسَادَ [غافر:25].
ثم قالوا ـ مؤلبين الحكام كعادتهم في كل بلد ليقتلعوا كل ما هو إسلامي ـ: إن هذه النبرة بدأت تتعالى في الكويت، هذه النبرة التي أدت إلى صراع مسلح في بلدان أخرى!!!
هم يريدون الحرية لكل ناعق إلا الإسلاميين، فهؤلاء ينبغي أن تطهر البلاد منهم: أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]، لذلك، إذا كنا نريد أن نفلح وننجو، ينبغي أن تخرس أقلام هؤلاء في بلاد الإسلام حتى لا يطعنوا في الإسلام باسم حرية التعبير.
أما عن دورنا نحن فنتعرض له في -------------------------
الخطبة الثانية.
-------------------------
الخطبة الثانية
أما بعد:
ينبغي ألا نبرئ أنفسنا من التقصير نحن المسلمين، فالله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
ولكن، كيف الخلاص من هذه الهوة السحيقة التي صرنا إلينا؟ وكيف نقاوم هذه المؤامرات التي لا حدود لها في الداخل وفي الخارج، ما هو دورنا نحن؟
يقول سيد قطب في كتابه "هذا الدين" ـ : "إن الإسلام لن يتحقق في دنيا الناس ولن ينتصر لمجرد أنه من عند الله عز وجل، ولن يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه، إذن كيف يتحقق لكي نعمل لذلك؟
إن هذا الدين يتحقق بأن تحمله جماعات من البشر؟ تؤمن به إيمانًا كاملاً، وتستقيم عليه ما استطاعت، وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك، ثم تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة، وتنهزم تارة، بقدر ما تبذل من الجهد، وبقدر ما تتخذ من الوسائل، وقبل كل شيء، بمقدار استقامتها هي على هذا المنهج، ومن ترجمته ترجمة عملية في واقعها وسلوكها الذاتي، حيث يقول تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
إذاً ينبغي أن نتكتل لخدمة الإسلام، لا أن نهاجم كل تكتل نشأ لخدمة الإسلام، نتكتل لأنه ((إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)).
وكل من يهاجم أي جماعة أو داعية يخدم الإسلام هو أحد اثنين:
إما أن يكون غير ملتزم أصلاً، فهذا لا يفكّر في كلامه مطلقًا، ودائمًا الشيطان يجري السوء على لسانه، مثل هذا الشخص لا يعمل أي شيء للإسلام، ولو رأى أي داعية يخطئ ولو خطأ صغيرًا يحرص على نشره بين الناس جميعًا ليشنع به فيفقد الناس الثقة به وبالملتزمين، وتكون فتنة أجراها الشيطان على لسان هذا غير الملتزم.
ولكنه في المقابل لو رأى غير ملتزم يشرب الخمر أو يزني فإنه لا يأبه، ولا يراها تستحق التشنيع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالمهاجم إما أن يكون غير ملتزم فيكون حاله كما سبق.(15/252)
وإما أن يكون ملتزمًا فهذا يخطئ بالهجوم لأنه أولاً لم يخدم الإسلام إلا في نفسه فقط، والأخرى أنه لم يبذل النصيحة بشروطها، والسرية وعدم التشنيع من شروطها، والمريض ينبغي أن يعالج لا أن يقتل.
وغالبًا يكون الهجوم على دعاة الإسلام حتى يبرر المهاجم لنفسه القعود عن التضحية لدينه وقعوده آمنًا ساكنًا دون أن يقول الحق ولو كان مرًا، غالبًا يكون كذلك وإن لم يشعر المهاجم بنفسه، والرسولل يقول: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) أخرجه مسلم.
فلنكن جميعًا على قدر المسئولية ونقدر حجم المؤامرات، لا أن نكون جزءًا من المؤامرات، فهناك من هم أولى بالهجوم، هناك المتفسقون والمنحرفون والتائهون والمتآمرون، والمبتدعون فلنعِ ذلك جيدًا.
وفي النهاية، ورغم ما وصلنا إليه، ورغم الحفرة التي لا قعر لها والتي سقطت فيها أمتنا، فإن الأمل قائم، ونصر الله وتمكينه آت لا محالة، وواجب على كل مسلم أن يوقن بذلك، فذلك وعد الله الذي لا يخلف وعده سبحانه، يقول تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ [الروم:47].
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5].
إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
ويقول : ((تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)).
فلنستبشر بوعد الله الذي لا يخلف وعده ولا يضيع عبده، ولنعمل لتحقيق هذا الوعد؛ لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وعلينا ـ ونحن نعمل ـ أن نعلم أن الله تعالى سيحاسبنا على العمل وليس على النتائج، فيقول تعالى في محكم التنزيل.
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].
==============(15/253)
(15/254)
العلمانية وخطرها
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3159)
إبراهيم بن محمد الفارس
المجمعة
جامع الجزيرة
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي النجاة غدًا، والمنجاة أبدًا، والعاقبة للتقوى.
أيها المسلمون، لقد أنزل الله الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ففتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا، وبدد بدعوته ظلمات الجهل والحماقة، وأسقط الأغلال التي كانت على العقول، فأصبحت عبادة الأصنام في ميزان المسلم إفكًا قديمًا، ويعجب المسلم فيما يعجب، من سخف المشركين، وصدق الله تعالى إذ يقول: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف:17].
عباد الله، غير أنه يجب أن نذكر دائمًا أن البلاء مستمر، ومادة الشر باقية، وشياطين الإنس والجن مستمرون في ترويج الضلال، حتى زخرفوه بكل لون، وروجوا له بكل لسان: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112]، ومن الواجب أن نتتبع طرق الغي، بالتحذير منها وكشف مراميها وأبعادها، وسد السبل على دعاتها، حتى يكون المسلمون على بينة من ربهم وبصيرة من سبيلهم، ولا يضرهم انتحال المبطلين أو كيد الكائدين.
ولقد شاعت في دنيا المسلمين اليوم، فلسفات وأنظمة خدعت الكثيرين منا ببريقها، وانتشرت شعارات ومصطلحات لو قدر لها أن تنتشر، لم تأت على شيء إلا جعلته كالرميم، ومن تلك الأفكار، الفكر الصليبي (غير الديني)، وهو ما يسمى بالعلمانية، التي تسربت إلى مجتمعات المسلمين، ولعل أحد التحديات الخطيرة، التي تواجه أهل السنة الجماعة في هذا العصر هي إسقاط اللافتات الزائفة، وكشف المقولات الغامضة، وفضح الشعارات الملتبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية، التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.
ومدلول هذا المصطلح وفكره، هو إقامة الحياة على غير دين، سواء بالنسبة للأمة أو الفرد، إن هذه العلمانية، لهي أكبر نقيض للتوحيد.
عباد الله، ولقد تغيرت بعض مظاهر العبادة، فلم يعد هناك تلك الأوثان التي كان العرب في شركهم يعبدونها، ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الأوثان القديمة أوثان أخرى، كالحزبية والقومية والعلمانية، والحرية الشخصية والجنس وغيرها... وعشرات الأوثان الجديدة، إن العلمانية- عباد الله - تعني بداهة : الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شرع الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة من الطواغيت من دون الله، فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
عباد الله، والجاهلية أنواع، منها جاهلية الإلحاد بالله سبحانه وإنكار وجوده، فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين، ومنها اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وهي جاهلية الاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين واليهود والنصارى، وفيها اعتراف بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية، مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم مسلمين من العلمانيين، ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحققوه بمجرد نطقهم بالشهادتين، وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع استسلامهم لغير الله من العبيد.
عباد الله، والعلمانية، تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة والتعامل مع غير الله وفق أمر غيره، وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله، لأن أهل الجاهلية الأولى لم ينكروا وجود الله، قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، وكذلك لدى أهل الجاهلية الأولى بعض الشعائر التعبدية، قال تعالى: وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً [الأنعام:136]، ومع ذلك فقد حكم الله عليه بأن ذلك كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور جميعها صفرًا في ميزان الإسلام.
عباد الله، وكذلك فإن بيننا اليوم ممن يقولون: إنهم مسلمون، من يستنكرون وجود صلة بين العقيدة والأخلاق، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية، وفي مجتمعنا الواسع أناس حاصلون على الشهادات العليا من بعض جامعات العالم، يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الاجتماعي؟! وما للإسلام واختلاط الرجال مع النساء على الشواطئ والمنتزهات؟! وما للإسلام وتعليم العلوم الطبيعية؟! وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟! وما للإسلام والمرأة وقيادتها للسيارة واختلاطها بالرجال وحريتها الشخصية في سفرها بدون محرم وتصرفها في شؤونها؟!(15/255)
وهم يتساءلون ثانيًا: بل بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والسياسة والحكم ؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد أفسدته، فلا يذهبنّ بنا الترفع كثيرًا عن أهل مدين في تلك الجاهلية الأولى، حين قالوا لنبي الله شعيب: أَصلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا [هود:87].
والعالم اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة وسلوك الشخص في الحياة والمعاملات المادية، تتهمهم بالرجعية والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ، أضافت الجاهلية اليوم وصفهم بالتطرف!! أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعوا شعار: "الدين لله والوطن للجميع" من أدعياء الإسلام من العلمانيين، الذين أفسدوا البلاد والعباد؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون.
أيها المسلمون، إن من عادة المنافقين من علمانيين وحداثيين وغيرهم من المنتسبين لهذا الدين، عدم الإنكار الصريح والواضح، وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يتخذون سلاح التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين، لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين وأشباههم شعارات، يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة قلوب القلة التي قد تفضحهم وتشوش عليهم وتكشفهم للناس، هؤلاء الذين يرفعون شعارات العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويدًا رويدًا، فهم يحرصون على كل طريق يوصل لوسائل الإعلام.
عباد الله، إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية، لهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا ريب ولا التباس، ولكن الخفاء والريب والالتباس، إنما يحدث عمدًا من دعاة العلمانية أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا اهتداء بجاهليتهم في بلاد المسلمين إلا من خلال راياتهم الزائفة، التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحقرهم ضد إخوانهم الصادقين الداعين بحقيقة هذا الصراع، المنبهين إلى خطرهم الداهم على الدين وأهله، ومن هؤلاء ـ عباد الله ـ يجب التوقي والحذر، وأن لا يغتر المسلمون بكونهم من بني جلدتهم ويتكلمون بلغتهم، فلقد جاء في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول ا صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)) فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَن))، قلت: وما دَخَنه؟ قال: ((قوم يَسْتَنون بغير سنتي، ويَهْدُون بغير هديِي، تعرف منهم وتنكر)) فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها)) فقلت : يا رسول الله، صفهم لنا، قال: ((نعم، قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا...)) الحديث. وفي لفظ لمسلم: ((وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جُثمان إنس))، ولقد صدق الله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:41، 42].
نسأل الله أن يحفظ على المسلمين دينهم، وأن يكفيهم شر الأشرار، وكيد الفجار، وأن يرزقهم اليقظة من إفساد المفسدين ونفاق المنافقين، وأقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولعموم المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، r وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، وللمستفهم أن يقول : كيف يكون بعض المسلمين دعاة على أبواب جهنم؟ فالجواب هو أنهم كذلك ببثهم الفساد والانحراف، وإشاعة الفاحشة في مثل صور فاتنة، أو مقالات تخدش الحياء، من خلال الصحافة مثلاً أو في مجال التعليم، بزرع المبادئ الهدامة بين الطلاب من خلال كوادر غير أمينة، أو من خلال منظري التطوير التعليمي في سائر البقاع، فيما يقدمونه من الحد والتقليص لما يقوي صبغة الله في نفوس الطلاب وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة:138]، أو التقليل من شأن العلوم الدينية، في مقابل الحرص الدؤوب على تكثيف ما عداها.(15/256)
ويكون الإفساد ببث أفكار تسيء إلى الإسلام وأهله وتحارب الدعوة إليه، وتزدي الدعاة وتسخر منهم، وتنادي بعزل دين الناس عن دنياهم وهذا ما طالعتنا به جريدة محلية تدعى "الوطن" وهي بحق مثيرة الفتن، في عددها الصادر يوم الثلاثاء قبل الماضي السادس من شهر صفر، تحت عنوان: "دعاة لا معلمون"، لكاتب دعي حاقد على الدعوة والدعاة، سائته حراسة الفضيلة قبل ذلك فقال فيما قاله: "إن سببًا رئيسًا أدى إلى تدني مستوى التعليم في بلادنا، وهو اهتمام كثير من المؤسسات والأفراد بما يسمى "الدعوة"، فأنكر المخيمات والمعارض الدعوية، إلى أن قال: "لهذا أصبحنا محاطين (بالدعوة) و(الدعاة) من كل جانب"، وينفر ممن يذكر الناس بالموت وأهمية الحجاب والجهاد والتحذير من الدجال والسحر، ويستنكر أن تدخل الدعوة في علوم الطبيعة والرياضيات، واتهم المناهج في بلادنا أنها هي السبب في وجود هؤلاء الدعاة، وكأنها جريمة لا تغتفر، حيث قال: "فقد اصطبغت الكتب الدراسية جميعها بصبغة دينية"، إلى أن قال مستنكراً: "فلا تدرس مادة اللغة الإنجليزية مثلاً ذاتها، بل لتكون وسيلة للدعوة إلى الله، وتمتلئ كتب هذه المادة بالحديث عن الإسلام" انتهى كلام هذا المغرض.
أيها المسلمون، إن هذا الحاقد على الدعوة والدعاة لا يعدو قدره، إلا أن الواجب على كل مسلم أن يقوم بما أوجب الله عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن دين الله، والإنكار على الجريدة، والرفع عنه لولاة الأمر لمحاسبته وتأديبه، ليتعظ هو نفسه، وليرتدع به غيره، أما أن يترك الحبل على الغارب لكل دعي جاهل ليحارب الإسلام في أرضه، دون أن يقف من أهل الغيرة أحد في وجهه ووجه كل من سانده و أعانه فلا يسوغ أبدًا: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى [سبأ:46]، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
===============(15/257)
(15/258)
موالاة المشركين ومشاركة العلمانيين
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4373)
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
2/6/1426
خالد بن الوليد
الخطبة الأولى
أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28].
هذه الآية تنهى المؤمنين عن موالاة الكافرين، والمؤمن مطالب في نصوص كثيرة بموالاة المؤمن ومعاداة الكافر، وهذا ما يُعرف بعقيدة الولاء والبراء.
فالولاء والوِلاية والوَلاية: النصرة، والموالاة ضد المعاداة. والبراء: التنزه والتخلص والعداوة والبعد. وعلاقة الولاء والمحبة والبراء والبغضاء علاقة ملازمة، فالولاء لازم المحبة، والبراء لازم البغض.
هذه العقيدة من الأهمية بمكانٍ في ديننا الحنيف، ومما يدلل على ذلك:
1- أنَّ الإيمان لا يتحقق إلا بها، قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81]، قال شيخ الإسلام: "وهذه جملة شرطية إذا وُجد الشرط وُجد المشروط... ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء، فمن اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب"(1)[1].
2- تحقيقها أوثق عُرى الإيمان، سأل النبي أبا ذر: ((أتدري أي عرى الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وقال : ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني. إذًا فدين الإسلام دين حب وبغض، دين ولاء وعداء، دين رحمة وسيف.
3- يجد الإنسان إذا حققها حلاوة الإيمان، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) أخرجاه في الصحيحين. فالحب والبغض من المعاني التي تجري على كل أحد، لكنَّ الموفَّق من أخضعها للشَّرع؛ فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، وما يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم.
4- وبايع النبي جرير بن عبد الله فقال له: ((أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ)) رواه أحمد والنسائي.
معاشر المؤمنين، لقد أعلمنا القرآن الكريم أن التبرؤ من الكافرين دأب الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم، ونحن مأمورون بالسير على طريقهم.
فهذا أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى عنه: قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:75-77]، وقال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28]. ومع شدة بره بأبيه الذي يلمسه كل من قرأ سورة مريم أظهر التبرؤ منه لما وضح له أنه من أعداء رب العالمين ومات على ملة المشركين، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، وتبين له ذلك لما مات على الكفر.
وهذا هود عليه السلام قال الله تعالى عنه: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:54-56]. وقد جمع بين إظهار هذه العقيدة وبين القوة والحزم في ذلك، وقد ذُكر لنا سرُّ قوته هذه في قوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم [هود:56]، فصدق التوكل على الله سبب حفظه ورعايته، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].(15/259)
وقد سلك نبينا طريقهم واهتدى بهديهم كما أمره الله في قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]. فقد أظهر هذا البراء من المشركين ولم يداهنهم، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]. وأعلن للمشركين براءته الصريحة التي لا لَبْسَ يكتنفها من دينهم وطريقهم بأفصح عبارة وأدل لفظ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون].
ومما يدل على اعتنائه بترسيخ هذه العقيدة في نفوس أصحابه أنهم ضربوا في تطبيقها أروع الأمثلة في غزوة بدر، وغزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، فهذا دليل على أن إرساء عقيدة الموالاة والمعاداة في نفوسهم كان من أولويات دعوته، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]. آبَاءهُمْ نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح قتل أباه يوم بدر وكان على الإشراك،أَبْنَاءهُمْ نزلت في الصدِّيق همَّ بقتل ابنه يوم بدر ولم يُقدَّر له ذلك، إِخْوَانَهُمْ نزلت في مصعب بن عمير قتل أخاه عُبيد بن عمير فيها، عَشِيرَتَهُمْ نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وفي عمر بن الخطاب قتل خاله يوم بدر.
ولما قبل النبي الفداء من المشركين يوم بدر كان رأي عمر بن الخطاب أن يُمكن كل أحد من قريبه فيضرب عنقه؛ ليعلم الكفار أنه لا محبة عند المؤمنين لهم، نزل القرآن الكريم مؤيدًا لرأي عمر : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67، 68]، والكتاب الذي سبق: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4].
عباد الله، إن نصوص عقيدة الولاء والبراء طافحة في القرآن الكريم، وهذا مما يدل على أهميتها في ديننا الحنيف، وهذه جملة من النصوص تنهى عن موالاة الكافرين، وتتوعد من ألمَّ بشيء من ذلك من المسلمين: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:1، 2].
إن فئامًا من الناس يريدون أن يجعلوا قول الله تعالى: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] سترًا يواري خبث فعالهم وسوء صنيعهم، فتراهم يسارعون في الكافرين بكل سبيل، فإذا ما اتجه إليهم صوتُ لومٍ ونصحٍ قالوا: ألم يقل الله: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً؟! فيضربون القرآن بعضه ببعض، وإلى هؤلاء: لماذا لم يعذر الله سبحانه حاطب بن أبي بلتعة لما ظاهر المشركين وأعانهم؟! أما كان حاطب متأوِّلاً؟! ألم يرد حماية أهله وماله؟! أوليس الذي عاتبه وطرح عذره هو الذي قال: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً؟!(15/260)
أيها المؤمنون، لئلا يغتر أحد بمقالتهم هذه أُفسح المجال لشيخ المفسرين وإمامهم أبي جعفر الطبري ليجلي لنا تفسيرها ويوضح معانيها، يقول الإمام الطبري مفسرًا قوله تعالى: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً: "إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل"(2)[2]. أين هذا من السعي لتأصيل مبدأ الأخوة بين المؤمن والكافر؟! أين هذا من السخرية بمن يدعو لإقامة عقيدة الولاء والبراء؟! أين هذا من التلاعب بقول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]؟!
ولو كان كل خوف من المشركين عذرًا لموالاتهم وإظهار التقية لأبطلنا كثيرًا من النصوص؛ لأن عداءهم وكيدهم وحربهم للإسلام وأهله مستمر لا ينقطع، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
إن موالاة أعداء الله بأعذار واهية وليّ أعناق النصوص سمة من أبرز سمات المنافقين، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [المائدة:52].
ومن النصوص التي تزجر عن موالاة الكافرين والمشركين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء:144]، والسلطان الحجة، فإذا فعلتم ذلك استوجبتم غضب الله.
ومنها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23، 24]. فإذا كان هذا فيمن والى أباه أو أخاه ومقتضى ذلك مركوز في النفوس فكيف بغيرهم؟!
ومن التحذيرات القرآنية كذلك: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139].
وفي القرآن عدد من الآيات التي تدل على أن موالاة المشركين من علامات المنافقين ومنها: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، فأي وعيد فوق هذا الوعيد؟!
ولعلَّي أتحدث عن الفرق بين الموالاة والتولّي في الجمعة القادمة إن شاء الله.
أيها المؤمنون، إن الناس في باب الولاء والبراء منقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الكُمَّل من المؤمنين، كالأنبياء والصديقين والشهداء والأولياء الصالحين، فهؤلاء يواليهم المؤمن ولاء مطلقًا، ويتقرب إلى الله تعالى بحبِّهم.
الثاني: أهل الكفر والإشراك، ومنهم أهل النفاق والكتاب وهؤلاء يُبغضون بإطلاق، ولا يُكِنُّ لهم المسلم إلا العداوة والبغضاء، فالمؤمن ذليل للمؤمن محبّ له، عزيز على الكافر مبغض له، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، وقال: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
الثالث: أهل المعاصي من المؤمنين، وهؤلاء نحبهم لإيمانهم، ونبغضهم بقدر معصيتهم، فالزاني مبغوض، والمشرك مبغوض، وفرق بين البغضَين، وشارب الخمر يُبغض، وبذيء اللسان يُبغض، وفرق بين البغضين.(15/261)
ولذا ثبت أن النبي تبرأ من بعض المؤمنين من أهل المعاصي، فقد تبرأ من الصالقة التي ترفع صوتها بالبكاء عند المصيبة، والحالقة التي تحلق رأسها عندها، والشاقة التي تشق ثيابها عندها، ولكن ليست هذه البراءة كبراءته الواردة في قول الله تعالى: وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
ولما أمر الله بقتال الفئة الباغية ـ وهذا من معاني ومظاهر البراء من المعصية وأهلها ـ بقوله: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9، 10]، فأمر بقتالهم وأثبت أخوتهم وإيمانهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليعلم أنَّ المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا؛ كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة"(3)[3].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن من أقبح الآثام أن يضع المؤمن يده على يد الأحزاب العلمانية والحركات اليسارية، وقد دلت كثير من آي القرآن الكريم على تحريم ذلك وتجريم أهله، فمن ذلك قوله تعالى: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]. وكل من وقف على دعوات هؤلاء ومبادئهم لا يشك في أن التعاون معهم تعاون على الإثم والعدوان.
ومن أدلة التحريم جميع الأدلة التي تنادي بعقيدة البراء من الكفر وأهله، ومنها: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فالآية تحرم الجلوس في المكان الذي يُكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها، وإذا لم تكن مجالس الأحزاب العلمانية مُتناوَلة بهذه الآية فأي المجالس هي التي حُذرنا منها؟! والآية المُشار إليها في هذه الآية هي: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68].
وقد توعد رسول الله كل من ظاهر مبطلاً بقوله: ((من أعان ظالمًا ليدحض بباطله حقًا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله)) رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني. وممن لعنهم النبي من آوى محدثًا كما في صحيح مسلم، فكيف بمن عاونه؟!
هذا، ولا يُغتر بطرحهم لبعض البرامج التثقيفية أو الإنسانية الخيرية أو غير ذلك مما يصدق عليه: باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب؛ لأنهم يريدون بها التدليس والتلبيس على الناس.
نسأل الله أن يبرم لنا أمرًا رشدًا يُعز فيه الطائعون...
__________
(1) كتاب الإيمان (ص14).
(2) جامع البيان (3/228).
(3) مجموع الفتاوى (28/209).
===============(15/262)
(15/263)
رد عدوان العلمانيين على العلماء الربانيين
موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4969)
عصام بن عبد الله السناني
عنيزة
8/8/1427
جامع قرطبة
الخطبة الأولى
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالةٍ فِي الَّنارِ.
أيها المسلمون، إن الله جل وعلا سيحشرُ الناسَ جميعًا من قبورِهم بعدَ البعثِ إلى الموقفِ حفاةً عراةً غرلاً، كما بدأَ أولَ خلقٍ يعيدُه، وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا. يجمع الناسَ في عرصاتِ القيامةِ أولهَم وآخرَهم على صعيدٍ واحدٍ، فيموجُ بعضُهم في بعضٍ، وتدنو الشمسُ منهم حتى تكونَ كمقدارِ ميلٍ، فيبلغُ الناسُ من الكربِ والغمِ ما لا يطيقونَ ولا يحتملونَ، فمنهم من يبلغُ به العرقُ إلى كعبيه، ومنهم من إلى ركبتيه، ومنهم من إلى حَقْوَيْه، ومنهم من يلجمُه العرقُ إلجامًا، فالناسُ حينئذ أحوجَ ما يكونونَ إلى ما يروونَ به عطشهم في هذا المحشرِ المهولِ؛ ولذا يتطلعون إلى ورودِ حوضِ نبيِهم كما روى مسلم قالَ رسولُ اللهِ : ((أنزلتْ علي آنفًا سورةٌ)) فقرأَ: بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [سورة الكوثر]، ثم قالَ: ((أتدرونَ ما الكوثرُ؟ إنه نهرٌ وعدنيه ربي عز وجل، عليه خيرٌ كثيرٌ وحوضٌ تردُ عليه أمتي يومَ القيامةِ، آنيتُه عددَ النجومِ))، وفي لفظ آخر: ((يشخبُ فيه ميزابانِ من الجنةِ، من شربَ منه لمْ يظمأْ، عرضُه مثلُ طولِه: ما بَينَ عُمَان إِلى أَيْلَةَ، ماؤُه أشدُ بياضًا منْ اللبنِ وأحلى من العسلِ)).
إن هذَا الحوضَ المورودَ لَنْ يهنأَ بِهِ إلاَّ الثَّابتونَ عَلى دينهمْ عقيدةً وعملاً، القابضونَ على الجمرِ لأجلِه، العاضّون عليه بنواجذهم فِي أوقاتِ الفتنِ، وهمْ يسألونَ اللهَ فِي كلِّ وقتٍ الثّباتَ لعلمِهم أن هناكَ أمرا مهولا يقضُ مضاجعهمْ خوفًا من أن يكونوا في عدادِ الواقعينَ فيه، ألا وهو ما يحصلُ لأناسٍ يومَ القيامةِ حين يبدو لهم من اللهِ ما لم يكونوا يحتسبونَ، إنهم أناسٌ ـ أعاذني اللهُ وإياكم من حالِهم ـ يطمعونَ في ورود حوض نبيهِم، فإذا هم يذادونَ عنه ويُحرمونَ الشربَ من هذا الحوضِ في أشدِّ وقتٍ يحتاجونَ إليه، ففي البخاريِّ أن رسولَ اللهِ قَالَ: ((إني على الحوضِ، حتى أنظرَ من يردُ عليَّ منكم، وسيؤخذُ ناسٌ دوني، فأقولُ: يا ربِّ، مني ومن أمتي، فيقالُ: هل شعرتَ ما عملوا بعدَك؟ واللهِ ما برحوا يرجعونَ على أعقابِهم))، وكانَ ابنُ أبي مليكةَ راوي الحديثِ يقولُ: اللهم إنا نعوذُ بكَ أنْ نرجعَ على أعقابِنا أو نفتنَ في ديِننا. قال ابن عبد البر في التمهيد: "وكلُ من أحدثَ في الدينِ ما لا يرضاه اللهُ ولم يأذنْ به اللهُ فهو من المطرودينَ عنْ الحوضِ المبعدينَ عنه، واللهُ أعلم. وأشدُّهم طردًا من خالفَ جماعةَ المسلمينَ وفارقَ سبيلَهم مثلُ الخوارجِ على اختلافِ فرقِها والروافضِ على تباينِ ضلالِها والمعتزلةِ على أصنافِ أهوائِها، فهؤلاء كلُهم يبدلونَ، وكذلكَ الظلمةُ المسرفونَ في الجورِ والظلمِ وتطميسِ الحقِ وقتلِ أهلِه وإذلالهِم، والمعلنونَ بالكبائرِ المستخفّونَ بالمعاصي، وجميعِ أهلِ الزيغِ والأهواءِ والبدعِ، كلُ هؤلاءِ يُخافُ عليهم أن يكونوا عُنُوا بهذا الخبرِ" اهـ.
عباد الله، هل عقل هذا المصيرَ بعضُ المعتزلةِ الجددِ منْ أَصحابِ الأقلامِ الصحفيةِ في مثلِ هذه الأيامِ والتي تدّعي الحرصَ على الوطنِ وهي تهدمُ الأُسسَ الراسخةَ التي قامَ عليها هذا الوطنُ والتي جاهد في سبيلها الآباء وقبلهم الأجداد حتى ماتوا، ونشأ عليها الأبناء وبعدهم الأحفاد، إنها فتنةُ بعضِ الأقلامِ التي اندلعتْ نارُها وارتفعَ أُوارُها، ما فتئتْ تسخرُ وتتلاعبُ بثوابتِ الدينِ والحكمِ وخيارِ الأمةِ كما يتلاعبُ الصبيانُ بالكرةِ، أأمةٌ يَرسمُ لها أراذلُها وجهالهُا ما ينبغي أن تفعلَ بعدَ هذه القرونِ المتطاولةِ التي نَعِمَ فيها أهلُ هذه البلادِ بصفاءِ العقيدةِ ووحدةِ المنهجِ وائتلافِ القلوبِ مع الأخذِ بما ينفعُ من مظاهرِ الحياةِ المدنيةِ؟!
ومن يكن الغرابُ له دليلاً…يمرُ به على جيفِ الكلابِ(15/264)
إن هؤلاء الذين تأثروا بأفكارَ غريبةٍ شاذةٍ يظهرونَها بمظهرِ النصحِ يزعمونَ أن هذه البلادَ وما كَانَ عليه ملوكُهَا وعلماؤُها منذ قرونٍ من تحكيمٍ للشريعةِ في كلِّ الأمورِ تشددٌ ورجعيةٌ، فلا بدَّ أن تتخلى البلادُ عن مرجعيتِها العلميةِ لأنه لا قداسةَ عندَهم لأحدٍ، والدينُ كلأٌ مباحٌ للجميعِ؛ فلا فرقَ في الحوارِ والرأيِ عندَهم بين عالمٍ وجاهلٍ، ولا بينَ فضيلةٍ ورذيلةٍ، بلْ ولاَ بينَ ديانةٍ وزندقةٍ، فيجبُ أن تتخلى البلادُ عن محاكمِها وهيئاتهِا وحجابِ نسائِها ليتحققَ الإصلاحُ الذي يريدونَ. إنهم يسفّهونَ ويجهَلونَ ملوكَنا وعلماءَنا السابقينَ الذين وضعوا ثوابتَ هذه البلادِ المستمدةَ من الشريعةِ، وبعضُنا يرددُ عباراتِهم ببلاهةٍ فيسمونها بغيرِ اسمِها: "الإصلاحُ"، أي إصلاحٍ فيمن يهدمُ أسسَ المجتمعِ وثوابتَه وعقيدتَه؟!
إن حالَ هؤلاء الفويسقاتِ قد وصفَه شيخُنا العالمُ الربانيُ الصابرُ على جهادِهم صالحٌ الفوزان ـ حفظه اللهُ ـ في مقالٍ له بعنوانِ: (سيظهرُ الإسلامُ وتموتُ المبادئُ الهدامةُ): "وقد سنحتْ الفرصةُ للمنافقينَ والذينَ في قلوبِهم مرضٌ بترديدِ مقالةِ الكفارِ باتهامِ الإسلامِ بالتطرفِ والإرهابِ، واتهامِ مصادرِه وعلمائِه بذلك، والمناداةِ بحريةِ المرأةِ ومساواتِها بالرجلِ، وخلعِها للحجابِ وتوليِها أعمالَ الرجالِ، ومناداتهم بإزالةِ الفوارقِ بينَ المسلمينَ والكفارِ باسمِ حريةِ الرأي وحريةِ الديانة، وعدم كره الآخرِ، وتركِ بابِ الولاءِ والبراءِ وحذفِه من الكتبِ والمقرراتِ الدراسيةِ، وعدمِ تكفيرِ من كفرَّه اللهُ ورسولُه ولو ارتكبَ نواقضَ الإسلامِ كلِّها، كلُّ ذلكَ تحتَ مبدأِ التسامحِ وحريةِ الرأيِ وقبولِ رأيِ الآخرِ. وكلُّ من خالفَ هذه المبادئ الخبيثةَ عندَهم والتزمَ بالإسلامِ وأصولِه وأحكامِه فهو متشددٌ ومتطرفٌ وتكفيريٌ، حتى تناولوا بهذه الاتهاماتِ أئمةَ الإسلامِ ومجدديِه كشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ وشيخِ الإسلامِ محمدِ بنِ عبدِ الوهاب حتى نادى بعضُهم بإعادةِ النظرِ في كتبِ العقيدةِ وإخلائِها من كلِ ما يتعارضُ مع مبادئِهم ورغباتِهم. ونقولُ لهؤلاءِ وهؤلاءِ ما قالَه اللهُ لهم: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، وسيبقى الإسلامُ وتموتُ المبادئ الهدامةُ وأهلُها، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]" اهـ. حفظَ اللهُ شيخَنا وأطالَ في عمرِه غُصَّةً في حلوقِ المارقينَ والفاسدينَ.
عباد الله، إن هؤلاء الذين يفسدونَ ولا يصلحونَ ويهدمونَ ولا يبنونَ حالُهم كحالِ فرعونَ حينَ قالَ عنْ موسى عليه السلام: إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ. أذكر لكمْ مثالاً على صدقِ هذا الصورةِ الفرعونيةِ لهؤلاءِ الكتابِ في ردِ بعضِ السفهاءِ المتطاولينَ على شيخِنَا في هذا الأسبوعِ حين ادّعى أنه ومن كان على مذهبِه الإفساديِّ هم الذينَ وقفوا ضدَّ الإرهابِ، أرأيتمْ ـ عبادَ الله ـ كيفَ تَلبَسُ الثعالبُ ثيابَ الواعظينَا، لكنْ الشيخَ أفحَمه حينَ قال: "لو أنكم وقفتمْ عندَ حربِ الإرهابِ لشكرَنا لكم ذلك، لكنكم أفسدتم هذا بمهاجمتِكم للعلماءِ والقائمينَ على الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر وإنكارِكم لعقيدةِ الولاءِ والبراءِ في الإسلامِ، وغير ذلك مما في كتاباتِكم، فأنتم تبنونَ من جانبٍ وتهدمونَ من جانبٍ، وربما يكونُ عملُكم هذا أخطرُ من عملِ الإرهابيين" اهـ.
وإني أقول: صدق الشيخُ واللهِ، فهؤلاءِ الإرهابيونَ ردَّ اللهُ كيدَهم في نحورِهم، يقتلونَ ويفجّرونَ، ويا هولَ ما صنعوا، لكن بعدَها تجتمعُ الكلمةُ على حربِهم ثم يقطعُ اللهُ دابرَهم ويبقى البلدُ شامخًا بدينِه معتزًا بعلمائِهِ وولاةِ أمرِه كمَا حصلَ فِي فتنةِ الغُلاَةِ فِي عهدِ المؤسسِ رحمه اللهُ، أما الذين يبطنونَ ما لا يُظهرونَ وحالهُم كما قالَ تعالى: وإنْ يقُولُوا تسمَعْ لِقَوْلِهم فهم يحرّفونَ دينًا ويفسدونَ عقيدةً ويدمرونَ بلدًا ويغتالونَ أمةً، واللهُ يقول عن أمثالِهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، ويقولُ عن نشاطِهم الذي يخططُ له قومٌ لا تعلمونَهم اللهُ يعلمُهم: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، يقول القرطبيُّ رحمه اللهُ في تفسيرِ الآية: "أي: الفتنةُ التي حملوكم عليها وراموا رجوعَكم بها إلى الكفرِ أشدُّ من القتلِ" اهـ.(15/265)
ثم أمرٌ آخرُ: هلَ حاربَ هؤلاء الإرهابَ حقًا؟ إذًا لماذا لم يخترْ ولاةُ الأمرِ صحفيًا واحدًا من هؤلاءِ لمناصحةِ المنحرفينَ؟! إن كلَّ من شاركَ من طلبةِ العلمِ ـ وأنا واحد منهم ـ في مناصحةِ هؤلاءِ الشبابِ في السجونِ يعرفُ جيدًا أن من أسبابِ الغلوِ لديهم ما يقرؤُه هؤلاءِ الشبابُ بأقلامِ هؤلاءِ الصحفيينَ الذينَ يمشونَ في جنازةِ مَن قتلوه ليتاجروا في جثتهِ، فباللهِ عليكم هل يطيقُ مسلمٌ أن يطعنَ كاتبٌ بحديث نبيِهِ عنْ المرأةِ فيسميه ثقافةَ التشدّدِ، أو يقترحَ آخرُ بدلَ تغسيلِ وتكفينِ الميتِ المسلمِ أن يوضعَ في كيسٍ ويرمى كما ترمى الزّبائلُ، أو يدعوَ ثالثٌ المجتمعَ للتخلّصِ من قلبِهِ الذي يحيا به ورئتِهِ التي يتنفسُ بها وكرامتِهِ التي يطاولُ بها السحابِ حين يدعو للتخلي عن السلفيةِ أو الوهابيةِ التقليديةِ كما يلمزونَ لأنها سببُ مشاكلِ البلدِ عندَهمْ؟! مع أننا في هذه البقعةِ في العصورِ المتأخرةِ لم نشعرْ بكرامةٍ ولم يكنْ لنَا شأنٌ إلا بهذِهِ الدعوةِ وبهذا الكيانِ، واقرؤوا التأريخَ المعاصرَ لو كنتم تعقلونَ.
ومع هذا الإفسادِ والغثاءِ الهابطِ الذّي لَهُ يتقيؤونَ وَأَمثالُهُ كثيرٌ يرفعُ أحدُهم عقيرتَه فيقولُ: نحن حاربنَا الإرهابَ. إنّ الذي حاربَ الإرهابَ حقًا همْ منْ تلمزونَهم بالوهابيةِ، همْ العلماءُ الصادقونَ الذينَ وقفوا مع ولاةِ أمرِهمْ ضدَّ المفسدينَ في فتنةِ الإخوانِ في عهد المؤسّس رحمه الله، ثمَّ في فتنةِ غلاةِ الحرمِ في عهدِ الملك خالدٍ رحمه الله، ثم في فتنةِ صدامٍ في عهدِ الملك فهد رحمه الله، وأخيرًا في فتنةِ التكفيرِ ثم التفجيرِ. وها هم يقفون ضدَّكم في فتنتِكم في عهدِ الملكِ عبدِ اللهِ حفظه الله ورزقَه البطانةَ الصالحةَ؛ لأنكم لستم من يحاربُ الإرهابَ بل أنتم من غذّى الإرهابَ حين طعنتم في دينِ الأمةِ وعقيدةِ الأمةِ ورموزِ الأمةِ، وأيّ حياةٍ للأمةِ إذا طُعنَ في دينِها وعقيدتِها ورموزِها؟!
لقد أَثَرتم الغيرةَ والحقدَ والغضبَ عند هؤلاء الشبابِ فسهّلتم صيدَهم من قبلِ منظّري الفكرِ الضالِ، وإني فيمَا أعتقدُ لو كانَ الملكُ عبدُ العزيزِ رحمه اللهُ حيًا لوضَعكم في السجنِ المقابلِ لهؤلاءِ المنحرفينَ لمناصحتِكم وردِّكم عما أنتمْ عليه من انحرافٍ وضلالٍ، كيف لا وهو القائلُ رحمه اللهُ كما في كتابِ الملك الراشد (ص362) لعبد المنعم الغلامي: "أنا عندي أمرانِ لا أتهاونُ في شيءٍ منهما ولا أتوانى في القضاءِ على من يحاولُ النيلَ منهما ولو بشعرةٍ، الأول: كلمة التوحيدِ لا إله إلا الله محمد رسول اللهِ اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، إني واللهِ وباللهِ وتاللهِ أقدّمُ دمي ودمَ أولادي وكلِّ آلِ سعودٍ فداءً لهذه الكلمةِ لا أضنُّ به" اهـ، وهو القائل رحمه الله (ص369): "يسموننا بالوهابيّينَ ويسمونَ مذهبَنا بالوهابي باعتبارِ أنه مذهبٌ خاصٌ، وهذا خطأٌ فاحشٌ نشأَ عن الدعاياتِ الكاذبةِ التي كان يبثُّها أهلُ الأغراضِ. نحن لسنا أصحاب مذهب جديدٍ وعقيدةٍ جديدِةٍ، فعقيدتُنا هي عقيدةُ السلفِ الصالحِ، هذه هي العقيدةُ التي قامَ شيخُ الإسلامِ محمدُ بنُ عبد الوهابِ يدعو إليها، وهذه هي عقيدتُنا، وهي عقيدةٌ مبنيةٌ على توحيدِ اللهِ عز وجل خالصةٌ من كلّ شائبةٍ منزّهةٌ عن كل بدعةٍ" اهـ.
ولقد قلتُ ذاتَ مرةٍ لأحدِ المسؤولينَ وفقه اللهُ مشيرًا لهؤلاءِ الكُتابِ: إنكم تُدخلونَ طلبةَ العلمِ على هؤلاء الموقوفينَ ليرجعوهم لجادّةِ الصواب، وهذا أمر واجبٌ ومن الدعوةِ إلى الله، ولكنَّ ما يكتُبه كاتبٌ في عمودٍ أو يظهرُه مصورٌ في مشهدٍ يُسخر فيه بالدينِ وأهلِه ليفسدُ ما يبنيه هؤلاء الناصحونَ في سنواتٍ، إنه يبني أسورًا من الحقدِ،والنصيحةُ لها طرقُها المعروفةُ.
متى يبلغ البناءُ تمامَه…إذا أنتَ تبني وغيرُك يهدمُ
يا عبادَ الله، ثم يأتي هذا السفيه الوقحُ فيردُ على عالمِ البلدِ فيسفهُه ويقولُ: إنه محسوبٌ على هيئةِ كبارِ العلماءِ، لقد طفحَ الزبدُ والغثاءُ، أَقزامٌ لا يحسنُ أحدهم يقرأ آيةً أو يحفظَ حديثًا، بل ربما لا يحسنُ كيفَ يصلي، يناطحونَ علماءَ الأمةِ وجبالَ العلمِ.
لقدْ هزلتْ حتى بدا من هزالِها…كُلاَها وحتى سامَها كلُّ مفلسِ(15/266)
ما كنَا نظنُ واللهِ أننا سنَرى في هذِه البلادِ التي قامتْ على المنهجِ السلفيِ واستمدتْ شرعيتَها السياسيةَ والتاريخيةَ منه مصداقَ ما أخبرَ به النبيُّ حينَ قالَ: ((سيأتي على الناسِ سنواتُ خداعاتُ، يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويكذَّبُ فيها الصادقُ، ويؤتمنُ فيها الخائنُ، ويخوَّنُ فيها الأمينُ، وينطقُ فيها الرويبضةُ))، قيل: وما الرويبضةُ؟ قال: ((الرجلُ التافهُ يتكلمُ في أمرِ العامةِ))، إي وربِّ السمواتِ والأرضِ، لقد خوّنّا العلماءَ الصادقينَ، وائتمَّنَّا الخونةَ لدينِهم ووطنِهم وولاةِ أمرِهم حينَما رضوا بأنفِسهِم أن يكونوا طابورًا خامسًا وأبواقًا مأجورةً لأعداءِ هذه البلادِ ودينِها، وأينَ؟ على صفحاتِ جرائِدِنا التي أصبحت في الآونة الأخيرة لا تنطلقُ من قريبٍ أو بعيدٍ من عقيدةِ هذا المجتمعِ المسلمِ، ولا تعبّرُ عن نبضِه في هذه البلادِ أو عن توجهاتِه، بل المجتمعُ في وادٍ وهؤلاءِ الشرذمةُ القليلون فِي وادِ آخر. أينَ العدلُ إن كانت المسألةُ بالرأي والحريةِ التي لها يقدسونَ؟! فلماذا تُفرضُ سفاهتُهم على رأي الأكثريةِ دونَ مراعاةٍ لمشاعرِهم؟! وإن كانتْ بالحقِ والدليلِ فما هؤلاء أهلُ حقٍ ودليلٍ، بل همْ رويبضةُ الفتنِ، الجهلُ شعارُهم والهوى دثارُهم.
أيها المسلمونَ، واللهِ وبالله وتالله لا خيرَ في بلادٍ يطعنُ في كبارِ علمائها الصادقينَ ويقودُهُا أراذلُها المارقون، سبحانَ اللهِ! أتستغفرُ الحيتانُ في البحرِ وكلُّ شيءٍ للعلماءِ وفي بلدِنا يسَبّونَ ويسفَّهونَ؟! أيرفعُ اللهُ قدرَهم درجاتٍ وفي بلادِنا يوضعونَ ويؤخرونَ؟! أيصبرُ العلماءُ من أجلِنا على العلمِ والتعليمِ حياتهَم وينافحونَ عن دينِنا وعقيدتِنا شبابهم حتى إذا شابتْ لحاهُم وتقوّستْ ظهورُهم أسلمنَاهم لنابتةِ السّوءِ ودعاةِ الضلالةِ يسفهونَهمْ ويحتقرونهم ملءَ أَبصارِنا وأسماعِنا ونحنُ ساكتونَ؟! إذًا لاَ خَيْرَ فينَا، إذًا لاَ خَيْرَ فيكم، إذًا لاَ خَيْرَ في هذا المجتمع.
إن العلماءَ الربانيينَ في الأمةِ نجومٌ تُزيّنُ سماءَها تهدي السالكينَ وتهوي على الشياطينِ، إنهم أنقى صفحاتِ تاريخِ هذِه الأمةِ، إنهم صمامُ الأمانِ أمامَ شبهاتِ المرجفينَ وزيغِ الضالينَ كما وصف الإمام أحمد في أول كتابه الرد على الزنادقة والجهمية حين قال: "الحمدُ للهِ الذي جعلَ في كلِ زمانِ فترةٍ من الرسلِ بقايا من أهلِ العلمِ يدعونَ من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرونَ منهم على الأذى، يحيونَ بكتابِ اللهِ الموتى، ويبصّرونَ بنورِ اللهِ أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرَهم على الناسِ وأقبحَ أثرَ الناسِ عليهم، ينفونَ عن كتابِ اللهِ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ، الذين عقدوا ألويةَ البدعةِ، وأطلقوا عقالَ الفتنةِ، فهم مُختَلفونَ في الكتابِ، مُخالِفونَ للكتابِ، مجمعونَ على مفارقةِ الكتابِ، يقولونَ على اللهِ وفي اللهِ وفي كتابِ اللهِ بغيرِ علمٍ، يتكلمونَ بالمتشابه من الكلامِ ويخدعونَ جهالَ الناسِ بما يشبّهونَ عليهم، فنعوذُ باللهِ من فتنِ المضلينَ" اهـ.
نعم عباد الله، هكذا همُ العلماءُ، وهكذَا كانتْ مكانتُهم في هذه الدولةِ؛ مكانةٌ لا يطالها سفاهةُ السفهاءِ، ولا جهالةُ الجهلاءِ، تحوطهم عنايةُ الربِّ ثم تعظيمُ ولاةِ الأمورِ شأنَهم في النفوسِ وحفظُ حرمتِهم وكرامتِهم والصدورُ عن رأيهِم ونصحهِم، منذ اجتمعَ الإمامانِ محمدُ بنُ سعودٍ ومحمدُ بنُ عبدِ الوهاب عليهما رحماتُ اللهِ المتتاليةِ إلى يومِ الدين، وحتى جاءَ مؤسسُ هذه البلادِ في العصرِ الحديثِ وباني نهضتِها قدَسَ اللهُ روحَه، فأكدَّ هذه المكانةَ في حياتِه كما هو مشهورٌ من سيرتِه، بل ها هو رحمه اللهُ يبينُ الأساسَ الذي قامَ عليه حكمُه وحكمُ آبائِه، والذي يجبُ أَن يكونَ عليه حكمُ أبنائِه منْ بعدِه حينَما أوصى وليَّ عهدِه حينَ تسميتِهِ فقالَ: "أوصيك بعلماءِ المسلمينَ خيرًا، احرصْ على توقيرِهم ومجالستِهم وأخذِ نصيحتِهم، واحرصْ على تعليمِ العلمِ؛ لأن الناسَ ليسوا بشيءٍ إلا باللهِ ثم بالعلمِ ومعرفةِ هذه العقيدةِ، احفظ اللهَ يحفظك".
فاللهمْ وفق ولاتنَا للعملِ بذلكِ، وأدمْ علينا نعمةَ اجتماعِ سيفٍ حملَه أمراؤُنا، وقرآنٍ حملَه عُلماءُنَا؛ لتجتمعَ القلوبُ على الحقِ والإيمانِ، فينخذل أهلُ العلمنةِ والليبرالية والإلحادِ كَما وقيتنَا بهمَا سبحانكَ فِي فتنةِ الإِخوانِ ثمَ فِي فتنةِ جهيمانِ ثم في فتنة صدامٍ ثم في فتنةِ الخوارجِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
-------------------------
الخطبة الثانية(15/267)
أما بعدُ: عبادَ اللهِ، إنَّ العلماءَ الربانيينَ همُ الذينَ جعلَهم اللهُ ورثةَ رسولِه ومقامَ أنبيائِه حينَ أمرَ عامةَ المسلمينَ بسؤالهِم عنْ مرادِه سبحانَه فيمَا أنْزَلهُ فقالَ تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، وهم الثقاتُ العدولُ الذين استشهدَ اللهُ بهم على أعظمِ مشهودٍ وهو توحيدُه جلَ وعلا حين قالَ تعالى: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم؛ ولذا فذهابُ العلماءِ ذهابُ العلمِ وإقبالُ الجهلِ وفسادُ الأرضِ، ففي الصحيحينِ قالَ رسولُ الله : ((إنَّ من أشراطِ الساعةِ أنْ يرفعَ العلمُ، ويُبث الجهلُ، وتشرب الخمرُ، ويظهر الزنا))، وفيهما قال النبيُّ : ((إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُه منْ العبادِ، ولكنْ يقبضُ العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذَ الناسُ رؤساءَ جهّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغيرِ علمٍ، فضلوا وأضلوا)) رواه الشيخان. فما أحسنَ أثرَهم على الناسِ، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهمْ.
أيها المسلمونَ، إن ما يقومُ به شيخُنا الصالحُ صالح بقية السلف في الردِ على دعاةِ التغريبِ في هذه البلادِ لهو من أفضلِ الجهادِ؛ لأنه دفاعٌ عن حوزةِ العقيدةِ والدينِ، فمطالب هؤلاءِ لنْ تقف عندِ حدٍّ حتى ننسلخَ عن استقامتِنا ونغوصَ فِي أوحالِ الفكر الغربِي العَفنِ الذي يحلمونَ أن يروه سائدًا بلادنَا. والجهادُ بالحجةِ والبيانِ هو جهادُ ورثةِ الأنبياءِ، وهو أعظمُ منفعةٍ من الجهادِ باليدِ واللسانِ لشدةِ مؤنتِهِ وكثرةِ العدوِ فيهِ معَ قلةِ النَّاصرِ، قال تعالى: فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا. يقولُ العلامةُ ابنُ القيمِ رحمه الله: "ولهذا كان الجهادُ نوعينِ: جهادُ باليدِ والسنانِ، وهذا المشاركُ فيه كثيرٌ. والثاني الجهادُ بالحجةِ والبيانِ، وهذا جهادُ الخاصةِ من أتباعِ الرسلِ، وهو جهادُ الأئمةِ، وهو أفضلُ الجهادينِ لعظمِ منفعتِه وشدةِ مؤنتِهِ وكثرةِ أعدائِه، قالَ تعالى في سورةِ الفرقانِ وهي مكيةٌ: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا، فهذا جهادٌ لهم بالقرآنِ، وهو أكبرُ الجهادينِ، وهو جهادُ المنافقينَ أيضًا؛ فإنَّ المنافقينَ لم يكونوا يقاتلونَ المسلمينَ، بل كانوا معهم في الظاهرِ، وربما كانوا يقاتلونَ عدوَّهم معهم، ومع هذا فقدْ قالَ تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، ومعلومٌ أنَّ جهادَ المنافقينَ بالحجةِ والقرآنِ" اهـ.
فالزموا ـ عباد الله ـ الحقَ الذي أنتم عليه، وانصروا ربَّكم فإن اللهَ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ. وإن من نصرةِ اللهِ عز وجل نصر دينِه بلزومِ كتابِه وسنةِ نبيِه اللّذينِ يأمرانِ بالسمعِ والطاعةِ لولاةِ أمرِكم على منشطِكم ومكرهِكم وأثرةٍ عليكم، ولزوم جماعتِكم جماعةِ الحقِ أهلِ السنةِ والجماعةِ بالتمسكِ بغرزِ من بقي من علمائِكم، فأظهروا الحفاوةَ بهم وأعلنوها، أنزلوهم منازَلهم، ذُبُّوا عن أعراضَهم، احفظوا غيباتِهم، فإن من نالَ منهم فإنما ينالُ من حملةِ الدينِ ويثلمُ في بنيانِه، إنما يريدونَ أن يجرحوا شهودَنا ليبطلوا الكتابَ والسنةَ، والجرحُ بهم أولى.
إننا اليومَ ـ أيها المؤمنون ـ أحوج ما نكونُ إلى توحيدِ الصفوفِ خلفَهم، فالفرقةُ شرّ والجماعةُ رحمةٌ، فبذلكَ لا ندعُ علينَا سبيلاً للمفسدينَ الذين يظنونَ أن الفرصةَ قد تهيأتْ لهم لإسقاطِ هذا الدينِ ورموزِه ومؤسساتِهِ في هذا البلدِ، فصاروا يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، فجاهدوهم يعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ، ولن يكونَ ذلك إلا باجتماعِ الكلمةِ على الحقِ، وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
=============(15/268)
(15/269)
الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا
مجلة البيان - (ج 36 / ص 63)
محمد آل الشيخ
نشرت جريدة "الحياة" - في عددها الصادر يوم الجمعة 20/11/1990 - تحليلاً إخبارياً خاصاً كتبه لها سامي كاوين ، تكلم فيه عن جوانب الصراع بين من سماهم بالأصوليين المسلمين والعلمانيين الذين يحكمون دولة تركيا البلد المسلم ديناً والعلماني دستوراً ، وفي هذا المقال نذكر للقارئ أهم جوانب الوضع في هذا الصراع : 1- إصرار الطلاب المسلمين على السلوك الإسلامي التطبيقي في الدراسة ظهر ذلك جلياً في رفض الطلاب المسلمين في كلية الطب فحص المرضى من الجنس الآخر دون تغطية عورات الجثث التي يشرِّحونها. وقد رد عليهم بعض أعضاء الهيئة التعليمية برفض دخول قاعات الدرس ؛ لأن ما قام به الطلبة الإسلاميون يعتبر خرقاً لمبادئ أتاتورك العلمانية ، والمتمثلة في عدم إقحام الدين في الجامعات.
وقد امتد الجدال حول الموضوع في أنحاء تركيا كلها، حيث اعتبر كثير من أنصار العلمانية في الدولة أن ذلك يعتبر عملاً سياسياً خالصاً؛ حيث إن التفريق بين الجنسين يعتبر تحدياً صارخاً لعلمانية البلد. وحظيت الخطوة التي أقدم عليها الطلاب الأصوليون كما سموا بتأييد زملائهم في سائر أنحاء تركيا مما أحرج الدولة.
2- من جوانب الصراع كذلك ما أقره البرلمان - بعد ضغط قوي عليه - من إقرار قانون يسمح للطالبات في الجامعات بارتداء الحجاب الشرعي، وكانت محكمة دستورية قد قضت قبل سنتين بأن ارتداء الحجاب الشرعي داخل قاعات الدراسة منافٍ للعلمانية، ولكنه الآن أصبح دستورياً وأصبح عدد المحجبات في المدارس في ازدياد.
3- سعى البرلمانيون المحافظون إلى تمرير تشريع جديد يقضي بتدريس مادة الديانة التطبيقية في كل مدارس تركيا إلى جانب تدريس مادة الدين نفسها التي أُقرت في الثمانينات تماماً ، ولم يصبح هذا نظاماً بعد ولكنه يعكس ميداناً من ميادين الصراع القائم.
4- من أهم مجالات الصراع هناك ، محاولة الإسلاميين تنشيط دور المساجد وربط المسلمين بها ، بعد حث الناس على المحافظة على الصلوات والشعائر التعبدية الكاملة ، ويجري الآن بناء 1500 مسجد سنوياً في تركيا ، ويوجد الآن 62947 مسجداً بواقع مسجد لكل 847 مواطن. ويحرص الإسلاميون هناك على إنشاء المدارس الدينية وإن كانت لا تخرّج إلا أئمة وخطباء مساجد إلا أنها تساعد على تأهيل هؤلاء للقيام بواجبهم ، ووصل عدد هذه المدارس إلى 400 مدرسة في تركيا بزيادة 50% عن الوضع في عام 1980م ، وأقرت لجنة الموازنة في البرلمان قبل فترة وجيزة تخصيص مبلغ 1.2 بليون ليرة تركية (450 مليون دولار) لموازنة الشؤون الدينية .
وقد اضطر حزب الأمة الحاكم إلى الانقسام؛ فالبعض يصرح أن العلمانية التي تحكم البلاد لا تعني تقييد حرية الاختيار في ممارسة الشعائر الدينية، ويرى البعض الآخر أن أي تغيير في الوضع القائم مرفوض ويقف في وجه كل تنازل في أمر الحرية الدينية.
وبسبب هذا الانقسام سرت إشاعة مفادها أن الجيش ينوي القيام بانقلاب جديد ، وبلغ من شدة هذه الإشاعات أن رئيس الأركان التركي شعر بالحاجة إلى نفيها قطعياً . وينص الدستور التركي على أن الجيش هو حامي العلمانية ومبادئ أتاتورك في تركيا المسلمة.
هذه أهم جوانب المقال ، وقد ذكر لي أكثر من واحد من الأتراك أنه لا يوجد أي شعبية أو قبول لمبادئ أتاتورك في البلد ولكن القائمين على ذلك يتخذون منه سُلماً للوصول إلى السلطة أو المحافظة على مكاسب في أيديهم.
===============(15/270)
(15/271)
البناء العَلْماني وبداية السقوط
مجلة البيان - (ج 52 / ص 93)
سعد بن عبد المجيد الغامدي
يتشكل البناء العَلْماني في البدء.. من أبنية عدة ترتبط فيما بينها بعلائق بنائية ، وتشكل كل ذي فكر لا ديني كالماركسي الهالك أو الرأسمالي المتهالك ، والحداثي الماسوني وما بعده من ضروب الفكر الفوضوي الآخذ في التداعي البطيء نحو حتمية النهاية المُريعة ، نهاية كل فكر زائف مزيف .
ويلوح ذلك البناء بأفكاره وطروحاته وأنظمته ، لصاحب العقل المُستعْمَر - بتسكين العين وفتح الميم - والنفس الانهزامية ، يلوح بناءً متماسكاً ، وهاجساً حضارياً يبعث على التوثب والانعتاق .
وهو لذي عقل رباني متحرر من علائق التبعية لكل فكر لا إسلامي دنيوي ، بناءٌ مادي موضوي - نسبة إلى الموضة - يتبدل تبدل الموضة وعروض الأزياء المرهونة بطقوس الفصول الأربعة وجلبة القطعان الُمغرمة ببريق المظهرية الجوفاء . ويتبدى له أيضاً ، عبر خطابه الفوسفوري ، بناءً مشعاً.. بيد أن شعاعه زائف سرعان ما ينطفئ لأنه يستمد لمعته من شعاع الآخرين !
وهو بناء يحمل في تجويفاته وأحشائه بذور التداعي والسقوط المتمثلة في "الجهل بحقيقة الألوهية واتباع غير ما أنزل الله" ، واستعباد البشر والجناية على أدمغتهم.. يأخذ هذا البناء في النمو وتنمو في ذات الوقت تلك البذور ، وتتجذر عروقها ، وتمتد أغصانها في ثنايا البناء وتحل به لاحقاً سنّةّ الهلاك ، ويسقط سقوطاً مدوياً.. ولنا في سقوط البناء الشيوعي - مُحَطَّم الإرادات ومعطَّل العقول ، وهو أحد منظومات البناء العلماني - خير بشير ونذير .
وتباعاً.. فإن ثوابت هذا البناء الوضعي الجاهلي اللافطري ثوابت هزيلة ترتعد فرائصه وتتهاوى لبناته أمام ثوابت البناء الإسلامي الرباني الخالد ، رغم الحصار الإبليسي المضروب حوله !
والخطوة الأولى نحو تقزيم البناء العلماني على طريق الصراع الحضاري تكمن في تكثيف الخطاب الإسلامي الخالد وتوسيع دائرته ليشمل نواحي الحياة كلها ، وذلك في ظل غياب الخطاب الشيوعي الماركسي . ثم تعرية الخطاب العلماني وكشف زيفه وتناقضاته الفجة مع أبجديات الحرية وألف باء الحياة الكريمة التي تحفظ للإنسان إنسانيته وإرادته المستقلة . وهذا منهج - شريطة الاستمرارية - قمين بأن يُعيد للبناء العلماني مكانته الطبيعية كما لا بد أن يكون قابعاً في مزابل التاريخ وأزقة الحضارة .
ويعود البناء الإسلامي الخالد ، عبر عقيدة التوحيد وثورة فكرية ربانية تملآن الفراغات وتحلاّن بديلاً عن منظومات المنطق المادي الكسيح ، يعود كما كان وكما لا بدّ أن يكون شامخاً في سماء الحضارة ، ومناراً للأمم ، وصانعاً للتاريخ ، مصداقاً لقول الحق خالق الخلق ((والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) .
أجل ! تلك سنة الله التي خلت في الأولين ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، والحمد لله رب العالمين .
================(15/272)
(15/273)
طرق الطرح العلماني
مجلة البيان - (ج 62 / ص 22)
د.عمر المديفر
ليست أساليب وطرائق العلمانيين في طرحهم للمبدأ العلماني واحدة، بل هي متغيرة بحسب الزمان والمكان ، وهذه التغيرات قد تشمل أساليب الخطاب ، وقد تمتد إلى أساليب عرض المبدأ العلماني ، وهكذا ..، فبينما تطرح العلمانية في قطر معين على أنها مضادة للدين ، تطرح في قطر آخر على أنها موافقة للدين. وفي بلد ثالث تُفرض فيه العلمانية ببطء وحذر شديدين حتى لا تلفت الأنظار إلا بعد كونها واقعاً لا مناص منه.
لقد كان كثير من العلمانيين في بدايات هذا القرن الميلادي لا يتقربون إلى الدين وأهله، وكانت شعاراتهم تتراوح بين القومية والشيوعية والاشتراكية، ولكن حينما اشتد ساعد الصحوة، وبدأ المسلمون يشعرون بقيمة دينهم ، بدأ العلمانيون بكافة أصنافهم بالتقرب إلى الدين ، وبمحاولة إيجاد صيغة تجمع بين علمانيتهم ومقاصدهم الشخصية وبين استغفال الشعوب المسلمة والاستخفاف بها من خلال التظاهر بالمظاهر الإسلامية!
فعلى سبيل المثال ، كان شبلي العيسمي (السوري الدرزي الذي فرّ من سورية إلى العراق سنة 1967م) أحد منظِّري البعثية في العالم العربي لا يأتي للإسلام بذكر فيما يقرب من عشرة مؤلفات صدرت حتى عام 1984م ، أما ما بعد ذلك فقد ألف عن كون العرب مادة للإسلام ، وعن "عروبة الإسلام"!! وكذلك كانت حال بقية المنظرين للعلمانية(1).
وكل هذا التغيير يدلنا على أن العلمانية ليست مقنعة كمنهج في العالم الإسلامي ، لأن المسلم - مهما بلغ انحرافه - يشعر بارتباط الإسلام بالحياة العامة، ويشعر بكون الإسلام له سلطان على كافة أنحاء الحياة ومجالاتها، ولهذا نجد المسلم الذي لم تفسد فطرته لا يفكر في إمكانية الخروج عن شريعة الله ، ومن هذا المنطلق يرفض العلمانيون أن يُستفتى الشعب في إقرار أو منع الدستور العلماني ، لأنهم يعرفون حتمية خسرانهم.
وهذه التغيرات تدلنا أيضا على أن العلماني ليس له هدف سامٍ وهو رفعة الوطن - كما يقول - بل هدفه هو الوصول لمصلحة شخصية، والأمثلة على هذا كثيرة ممن كانوا معارضين لأنظمتهم الحاكمة، ثم حينما اشتُريت مبادئهم بمنصب ودخل مادي انقلبوا مدافعين عن تلك الأنظمة !!
ويمكننا تقسيم أساليب الطرح العلماني إلى طرح مكشوف وآخر ملتوٍ مموّه!
1 - الطرح الصريح :
وهذا الأسلوب هو أسلوب العلمانيين الأقحاح ، الذين يستطيع المرء أن يصفهم بالغلو العلماني بلا تردد، لصراحتهم حول هذا المبدأ، وهؤلاء أمِنوا العقوبة لأنهم في بلد تحكمه العلمانية، والشرائع الجاهلية، التي تسمح لهؤلاء بالانتقاص من قدر الدين ، والتعدي عليه ، في حين تكمم أفواه الدعاة، والذين يريدون الدفاع عن دينهم!!
ويرتكز هذا الطرح على ما يلي :
أ- مدح الغرب وإطراؤه ، ودعوة الأمة إلى اللحاق بركبه والتأسي بتجربته في رمي الدين جانباً وعزله عن الحياة، وعن هذا يقول أحدهم تحت عنوان "درس النهضة الأوربية" وهكذا نستخلص من استيعاب درس النهضة وموقفها من التراث حقيقتين على أعظم جانب من الأهمية:
الأولى : هي أن من الممكن أن تقوم نهضة علمية فكرية رفيعة المستوى في مراحلها الأولى على أساس الرفض الحاسم للتراث ، وذلك حين يكون هناك انقطاع في التراث يمنع من استمراره في خط متصل حتى الحاضر، وعندئذ لابد أن ترفع النهضة شعار "البدء من جديد" كعلامة على تحدي التراث.
والثانية: هي أن التطور والتقدم المستمرين في المعرفة يساعدان على الوصول إلى نظرة تاريخية إلى التراث يختفي فيها التناقض بين تمجيده والاعتراف بتخلفه (2).
ب - ادعاء علمانية الإسلام ، وأنه لا تناقض بين الإسلام والعلمانية! ؛ لأن الإسلام دين فرد لا دولة! ويستدل هؤلاء بكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق ، وكتاب "الديمقراطية أبداً" لخالد محمد خالد وخير مثال لهذا الادعاء كتاب "العلمانية والدولة الدينية" لشبلي العيسمي .
ج - ادعاء عدم صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان ، وأنها نزلت في وقت معين ، وأنها لابد أن تتطور لتوافق النمط الاجتماعي الجديد، ولو كان في هذا تجاوز لأحكام ثابتة غير اجتهادية ؛ لأن المصلحة مقدمة على النص عندهم !! وهؤلاء يدعون أنهم يؤمنون فردياً بالدين وشعائره! وإن كان معظمهم لا يؤديها !! ويستدلون بأقوال هي إما لمنحرفين كمحمد أحمد خلف الله ، وعلي عبد الرازق أو أقوال شاذة لبعض القدماء كقول نجم الدين الطوفي : "إن المصلحة مقدمة على النص" ! فتجد هذا النص متكرراً في كتبهم ومقالاتهم (2)، ولم ينقل أحدهم القاعدة المشهورة "لا اجتهاد مع النص " ولم ينقل أحدهم قول أئمة الإسلام فيمن يحدد المصلحة !!
د- التركيز على قضية المرأة وأنها مهانة في الإسلام ، وضرب الأمثلة والإطناب في ذلك إلى حد زعم وادعاء اللعب على المرأة في الشريعة الإسلامية!! حتى أن فؤاد زكريا ليقول - وبأسلوب مموه - "لو لم تكن المسألة في حقيقتها لعبة بارعة أتقنها الرجل لكي يخدر المرأة ويحقق بها مصالحه لاتجهت دعواته إلى أن يتحمل هو جزءاً من العبء على الأقل.. الخ" وكأن الشريعة وضعها رجل وليست شرعاً
سماوياً ! .(15/274)
هـ - جعْل الثورة الإيرانية الشيعية هي المثال لكل حكم إسلامي ، وصحوة إسلامية، بل إنهم يرددون في كتاباتهم مزاعم تصف العمل للإسلام ، والدعوة للعودة إليه ، والتمسك به بالسعي إلى إقامة طهران أخرى !! ؛وهم بهذا يريدون أن يخوفوا الشعوب من الصحوة الإسلامية، ويحاولوا الصد عن دين الله ، بل إن أحدهم قاس كل دولة إسلامية على الثورة الإيرانية بالنسبة للنص في الدستور على مذهب معين فقال : "وقياساً على هذا المنطق فإن الدولة الإسلامية في الوطن العربي يجب أن تعتمد على الأساس المذهبي ، ولا يخفى ما في ذلك من خطر وخطورة على إمكانية قيامها من جهة وعلى مضمون الوحدة والتماسك بين أبناء الدولة الإسلامية المنشودة من جهة ثانية"(4) وكأنه حريص على وحدة أي دولة إسلامية!
و- نقد الصحوة الإسلامية ومظاهرها، والسخرية منها والتعرض بالنقد اللاذع لرموزها من العلماء والدعاة وكل ذلك - كما أسلفنا - محاولة لإجهاض هذه الصحوة أو بث الوهن فيها، وتفريق الناس من حولها ولكنهم خابوا وخسروا.
2- الطرح المموه :
وأهل هذا الأسلوب غاية في الحذر والمكر، فهم يدَّعون الإسلام ، ويتباكون على حال المسلمين ، حتى يلتبس أمرهم على طالب الحق ، فلا يستطيع تمييزهم ، ولكنهم يعرفون بصدورهم عن آراء الشواذ فيما يتعلق بالشريعة وعدم رجوعهم إلى الحق ولو أقيمت عليهم الحجة، وهم في الغالب لا ينكشفون إلا في حال فرح غامر بانتشار المنكر أو استياء شديد عند حصول نصر للإسلام ، ففي هذه الحال يصدر منهم ما ينبىء بما يخفون وبهذا يُتبيَّن انتماؤهم ومنهجهم.
وغالب من يسلك هذا الطريق الملتوي يعيش في بلد ترتفع فيه راية الدين ؛ فلا يمكن له التصريح بمنهجه ، خشية من العقوبة الرسمية، أو خشية العقوبة الشعبية، كرفض الشعوب له وسقوط مصداقيته. ومن مرتكزات هذا الطرح ما يلي :
أ- الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد، والإلحاح على ذلك، وحشد النصوص والنقول الشاهدة على ذلك ، ثم تمتد هذه الدعوة إلى الاجتهاد في ثوابت الدين ، وتمتد إلى تجديد أحكام مجمع عليها وإلى الحث على تجاوز الإنتاج الفكري والفقهي الإسلامي على مدى أربعة عشر قرناً، والرجوع إلى الكتاب والسنة بشكل مجرد، ورفض أية وصاية - على حد زعمهم - يفرضها ذلك الإنتاج ، وعدم الاعتراف بكثير من شروط الاجتهاد التي وضعها السلف!
وقد تورط في مثل هذه القضايا بعض الكُتاب مثل فهمي هويدي في كثير من كتاباته وخاصة ما كتبه في فصل "وثنيون أيضاً عبَدة النصوص والطقوس" في كتاب "القرآن والسلطان" . والدكتور محمد عمارة في كتاب "الإسلام والعروبة والعلمانية"، وفي كثير من كتاباته المعاصرة، وآخرين من أمثالهم.
إن الدعوة إلى الاجتهاد في أصلها صحيحة، ولكن الاجتهاد له ضوابطه وشروطه التي فصّل فيها علماء الأمة القول ، وبينوا أن المجتهد لابد له من الآلة، وهي علوم الشريعة، وأنه لابد - لكي يكون مجتهداً معذوراً - أن يبذل الوسع ، ويخلص النية، وإلا كان كمن اجتهد في القرآن برأيه ، فأصاب ولكنه مخطئ؛ لأنه اجتهد بغير علم، ويتناسى أصحاب هذه الدعاوى أقوال الفقهاء والعلماء في التحذير من القول على الله بغير علم (5).
ب - ادعاء: أن المهم هو أساس الإسلام ، ورسالته المهمة في إصلاح النفوس وتزكيتها وتهذيب الأخلاق ،وأن هذا أهم من تطبيق الشريعة، وإقامة الحدود، والجهاد وغيرها مما يؤذي الحس العلماني المرهف!! الذي يرضى بالشرائع الغربية، والقوانين الوضعية التطبيقية، ولا يهتم إلا قليلاً بنقل جدية الحضارة الغربية في العلم المادي ، وهذا واضح في الجهود التي تبذلها الحكومات العلمانية في محاربة الدين ، وتغريب القوانين ، بينما لم يستطع أي من تلك الأنظمة التقدم تقنياً ومادياً كما تقدم في مجال التغريب !
ويحرص العلمانيون على احتقار المظاهر الإسلامية، لأنها هي سمة المسلمين ، وبها يعرف المسلم من غيره في عصور ظهور الإسلام، ولكن إذا فقدت هذه المظاهر أهميتها أصبح التمييز بين المسلم وغيره أصعب، وهذه الإشكالية صحيحة أيضاً بالنسبة للعبادات والشعائر العامة، وفي مثل هذه الأحوال يمكن للعلمانيين التحرك بحرية داخل المجتمع الإسلامي.
ج - دعوى الحرص على الوحدة وعدم التفرق: هذه الدعوى قديمة ومتجددة لدى العلمانيين ، فهم يرفعون هذا الشعار في كل مكان ، ويرفضون التمسك بالدين - وبالذات في حكم المجتمع - لأنه - على حد ما يزعمون ويفترون - يفرق المجتمع ، ويؤجج النزعة الطائفية، وقد قال هذه الدعوى كثير من العلمانيين ، بل يذهب العلمانيون في تنظيرهم إلى وجوب تطبيق العلمانية لتحقيق ما يسمى بالوحدة الوطنية! وهذا أحدهم يقول عن العلمانية : "وتلغي تنظيم المجتمع على أساس الطوائف وهي إذ تلغي الطائفة - كوسيط بين الفرد والدولة - فإنها توفر أساساً ضرورياً للديمقراطية، وتوحيد المجتمع في إطار عقلاني لا يمكن أن يتحقق في ظل الانقسام الطائفي"(6).
ويقول : "العلمانية هي الطريق الوحيد لتحقيق وحدة المجتمع ، وإلغاء الانقسامات العامودية، مثل العشائرية، والعرفية، والقطرية، إلى جانب الطائفية" (7).(15/275)
ولست أدري هل غفل هؤلاء عن الدولة الإسلامية المترامية الأطراف - والتي استمرت لمدة تقرب من الأربعة عشر قرناً - وعاش في ظلها غير المسلمين أحسن من عيشتهم في ظل دياناتهم ، مع أن الصليبيين حينما احتلوا الأندلس لم يبقوا فيها مسلماً واحداً ظاهراً إسلامه على عكس وضع كل الطوائف في الدولة المسلمة، بل إن اليهود استمروا تحت حكم هذه الدولة الإسلامية على دينهم طوال هذه الفترة.
د- القول بتغير الفتوى بتغير الزمان: فالعلمانيون يذكرون هذه القاعدة في أكثر كتاباتهم، ويلفون حولها ويدورون ، ويقيمون الحجج لها، وينقلون النصوص ، ويحشدون أقوال السلف على صحتها وأهميتها، وهذه قاعدة صحيحة لا غبار عليها، وقد بحثها علماء الإسلام بحثاً دقيقاً وأصّلوها تأصيلاً شرعياً، ولم تحتجْ الأمة إلى العلمانيين كي يذكروها بها، ويفردوا الصفحات في كتبهم لمناقشتها، ولكن من يناقش وهو معظِّم لنصوص الشريعة ومحترم لها، غير من يناقش لكي يسقط بعض أحكام الشريعة، ولهذا لم يورد العلمانيون أن هذه الفتاوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان إنما هي الفتاوى الاجتهادية في أحكام المعاملات ، أما العبادات وأحكام الأسرة والمواريث فهي ثابتة لا تتغير "ونص هذه القاعدة عام في ظاهره ، فالتغير في الظاهر شامل للأحكام النصية وغيرها، ولكن هذا العموم ليس مقصوداً ؛ لأنه اتفقت كلمة الفقهاء على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس إنما هي الأحكام الاجتهادية فقط ، المبنية على المصلحة، أو على القياس أو على العرف ، أو على العادة، وعلى ذلك فالأحكام النصية ثابتة لا تقبل التغيير، ولا تدخل تحت هذه القاعدة وقد رأى بعضهم أن يكون نص القاعدة "لا يُنكر تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الزمان" دفعاً لهذا اللبس وهذا قيد حسن"(8)، وعموماً ففتاوى علمائنا شاهدة على تطبيق هذه القاعدة بدون أن يلفت العلمانيون انتباههم إليها.
الهوامش :
1 - بل إن بعض الاحزاب أصدرت أوامر إلى بعض مفكريها بأن يطرحوا أنفسهم من جديد بشكل إسلامي .
2- فؤاد زكريا، الصحوة الإسلامية في ميزان العقل ، ص39-40.
3- انظر : العلمانية والدولة الدينية لشبلي العيسمي ، ص10 ، وص180 ومراجع أخرى، وكثيراً ما تُذكر هذه القاعدة في كتب العلمانيين وأشباه العلمانيين ، ورداً على هذه الشبهة يقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "أحمد بن حنبل" ، ص359 أن هذا الرأي "رأي شاذ بين علماء الجماعة الإسلامية" ، ويقول في صفحة 363 عن الطوفي واتهامه بالتشيع "إن مهاجمته للنصوص ونشر فكرة نسخها أو تخصيصها بالمصالح هو أسلوب شيعي..." نقلاً عن مفهوم تجديد الدين لبسطامي سعيد.
4- العلمانية والدولة الدينية ، شبلي العيسمي ، ص140.
5- راجع فصول الاجتهاد وأحكامه في كتب أصول الفقه ، وكتاب إعلام الموقعين ، لابن القيم ، حول ضوابط الاجتهاد ومجالاته وشروطه.
6- مجلة "فكر" ، فبراير عام 85م ، مقال مفهوم العلمانية، ص71 ، بقلم فضل شلق .
7- مجلة "فكر" ، فبراير عام 85م ، مقال مفهوم العلمانية، ص74، بقلم فضل شلق.
8- الوجيز في إيضاح قواعد اللغة الكلية ، د.محمد صدقي البورنو ، ص254، وانظر في تبيين مسألة تغير الفتوى بتغير الزمان رسالة "الاجتهاد" للشيخ صالح الفوزان ، وانظرها في مواضعها في كتب أصول الفقه والقواعد الفقهية.
=============(15/276)
(15/277)
المسلمون والعالم
مجلة البيان - (ج 76 / ص 66)
أقدم التجارب العلمانية تترنح!
قراءة في الانتخابات البلدية التركية الأخيرة
د. عبد الله عمر سلطان
بعد أيام من ظهور نتائج الانتخابات البلدية في تركيا، التي انتهت بتقدم ملموس لحزب الرفاه ذي التوجه الإسلامي ، زار وزير خارجية الكيان الصهيوني «شمعون بيريز» تركيا والتقى برئيسة الوزراء «تشيلر» ، وأجرى مباحثات تركزت على إحياء محور التعاون بين الدولتين في مجالات متعددة وصفتها المحللة الأمريكية «كاثي دافيس» بأنها ستغير من ملامح المنطقة إذا وجدت طريقها إلى التنفيذ ، حيث إنها ترمي فعلاً إلى قيام كيان شرق أوسطي فاعل ، يرتكز على التكامل بين الدولة اليهودية وأقدم حكومة علمانية في المنطقة، وبخاصة أن الزيارة جاءت بعد اهتزاز الثقة في قدرة النظام العلماني في أنقرة على الاستمرار كنموذج أمثل لبقية الكيانات العلمانية التي تتفاوض مع «إسرائيل».
لقد قررت الصهيونية ممثلة في رمزها الفكري/السياسي «شمعون بيريز» القيام بخطوة أكثر جسارة ، حينما سارع إلى زيارة أنقرة عارضاً عليها ملامح مشروعه «الشرق أوسطي» ، الذي طرحه بالتفصيل في كتابه الأخير ، وركز خلال هذا الطرح على أهمية وجود ركائز مشتركة بين «إسرائيل» قطب الرحى في المعادلة ، والنظم والكيانات السياسية المرتبطة والمندمجة معها «حضارياً» ، وهذا الشرط الحضاري يقتضي وجود حد أدنى من التبعية للغرب والولاء لنظامه السياسي العلماني ، هذا النظام الذي تُعتبر تركيا أبرز وأقدم وأقسى أمثلته الراهنة.
خطان متقابلان:
إن خط الصهيونية مع تركيا قديم، ويمتد إلى ما قبل وجود كيان الصهاينة في فلسطين،ففي الذهن الصهيوني هناك مثالان متقابلان لتركيا ، أحدهما مثله السلطان عبدالحميد الذي رفض «التطبيع» مع مشروع هرتزل الصهيوني الذي كان يمثل مخرجاً «واقعياً» لمحنة السلطان والدولة المريضة في حالة موافقته على مشروع الاغتصاب لأرض فلسطين... ، وتلك تجربة لا ينساها الصهاينة أبداً لرمز الخلافة الإسلامية التي شمخت رغم ضعفها ، ورفعت جبينها والمهالك تسن أنيابها وأظافرها لتقتلعها وتزيلها من الوجود... ، أما الصورة الأخرى لتركيا فهي التي يسارع «بيريز» وأي صهيوني آخر لمد الجسور معها والتحالف والتعاون مع القائمين عليها، وتلك هي تركيا العلمانية الأتاتوركية التي كانت دوماً بمثابة النافذة التي يتسلل منها المشروع الصهيوني إلى المنطقة ، ومنذ وقت طويل... ، لذا فإن زيارة «بيريز» وكلامه أمام الأقلية اليهودية التركية عن تعاون عسكري وأمني واستراتيجي مع تركيا العلمانية «البعيدة عن التعصب» يؤخذ في إطار المحور الذي شهد تحسناً كبيراً في الآونة الأخيرة حيث تعد النخب العلمانية التركية جماهيرها لمرحلة «شرق أوسطية» يكون لليهود والأتراك العلمانيين قصب السبق والريادة فيها ، خصوصاً في ظل خصوصية العلاقة مع الغرب وأمريكا بالذات.
وفي كلام معلق الإذاعة الإسرائيلية تلخيص لخصوصية العلاقة بين العلمانية الطورانية والصهيونية البشعة ، حيث يقول: ظلت تركيا الرئة الوحيدة التي نتنفس من خلالها في المنطقة ، وظل النظام الحاكم في أنقرة صديقاً وحيداً لإسرائيل منذ البداية انطلاقاً من علمانيته الصادقة ، وتحالفه الجدي مع المشروع الإسرائيلي التقدمي ، لذا فإسرائيل تشعر بالقلق حتماً من تنامي التيار الأصولي في هذا المركز الاستراتيجي المهم ، وهي مستعدة للدخول في شراكة حقيقية للحفاظ على مكتسبات سبعة عقود من التجربة الأتاتوركية.
الأواني المستطرقة:
فوز حزب الرفاه بنسبة 6.18 % من الأصوات والحصول على المناصب البلدية في ست مدن كبرى و 22 بلدية في مراكز الولايات و 92 بلدية من بلديات الأقضية و 203 بلدية من بلديات البلدات ، مؤشر على تنامي العاطفة الإسلامية لدى الشعب التركي ، وصعود التيار الإسلامي ممثلاً في هذا الحزب في بلد مورست فيه العلمانية بقوة الحديد والنار ولأطول فترة في عالمنا الإسلامي ، فتجربة تركيا العلمانية هي الأقوى ، وهي الأكثر خبثاً وتلوناً وثقلاً فهي تجربة بدأت عام 1923 م على يد الهالك «كمال أتاتورك» الذي أتى بمشروع تغريبي إلحادي متكامل يبدأ باللغة وينتهي بلباس الرأس مروراً بالقوانين والأنظمة والتهميش القسري لهوية تركيا المسلمة.(15/278)
لقد تدخلت الآلة العسكرية الثقيلة ثلاث مرات على مدى سبعة عقود كلما شعرت أن «مبادىء أتاتورك» ومشروع العلمنة التركي في خطر: حدث هذا عام 1960 م حينما أعدم العسكر الهمج «عدنان مندريس» الذي كانت جريمته عودة الأذان باللغة العربية بعد أن حُرم المسلمون من صوت «الله أكبر» لأربعين عاماً ثم ما لبثوا أن خرجوا من ثكناتهم مرة أخرى عام 1971 م بعد أن تعرض حزب الشعب الذي أسسه «أتاتورك» لنكسة انتخابية ، أما في انقلاب «كنعان أفرين» الأخير عام 1980 م ، فالسبب كان أكثر إلحاحاً ، بعد أن جاءت تحركات شعبية بالهوية الإسلامية وأعادتها إلى الواجهة والمناقشة ، وهو أمر يرفضه العسكر الأتراك الذين يشكلون العصا الغليظة لحزب الناتو «الأطلسي» ، الذي يصر على تخلي تركيا عن إسلامها مقابل أن يقوم الجيش التركي «بالواجب» الملقى على عاتقه ، وهو حماية البوابة الشرقية والجنوبية لدول أوروبا النصرانية.
الغرب وتركيا العلمانية:
إن دول أوروبا إضافة إلى الولايات المتحدة ، ينظرون إلى تركيا العلمانية نظرة صغار واحتقار ، فبالرغم من الطرق المستمر لباب السوق الأوربية المشتركة ظل الباب مغلقاً أمام تركيا، التي تريد أن تكافأ على خدماتها وانضباطها العلماني وسلخها لهويتها الإسلامية، كما ظل الغرب ينظر إلى الجمهورية الأتاتوركية على أنها نموذج «جيد» يستحق الاستنساخ في بقية المناطق العربية والإسلامية ، فهذه الملايين السبعين تعيش منذ تفجير المشروع العلماني دون هوية أو هدف أو رسالة ، بعد أن كانت هذه الأمة قبل قرنين تهدد قلب أوروبا وهي تحمل شيئاً من روح العزة الإسلامية ، وهذا العملاق الأناضولي قد تم استئناسه بطريقة عبقرية جعلته مسخاً لا هو بالمسلم الشرقي المعتز بأصوله ، ولا هو بالعلماني الأوروبي المفتخر بانتسابه إلى نادي أوروبا النصراني والمسمى بالسوق الأوربية المشتركة. وما أقسى أن يعيش الإنسان دون هوية ، وما أفظع أن تكون الأمة بلا نسب أو حدود... ، ولابد هنا أن تمر الأمة بمرحلة البحث عن الذات والعودة إلى الأصول ، وهذه مرحلة انتقالية تمر بها أي أمة وهي تبحث عن هويتها ، وخلال عملية البحث تبرز المفارقات وتفرض المسلمات نفسها لاسيما بعد أن تأخذ التجربة أي تجربة مداها وزمنها والمساحة التي لابد بعدها من التوقف للتفكير ، وإعادة طرح الأسئلة البدهية التي غيبت عن هذه الشعوب بقوة الحديد والنار ، أو بوعود الرفاه الاقتصادي والتقدم الاجتماعي الذي كان أشبه ما يكون بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً. صحيفة «الوول ستريت جرنال» الأمريكية كتبت عن أزمة الهوية هذه بعد بروز نتائج الانتخابات التركية قائلة: «يمكن القول بكلمات قليلة إن تركيا تمر الآن في مرحلة انتقالية غير أن هذا الانتقال يحدث وسط فراغ أيديولوجي يتعين على البلاد من خلاله أن تحدد هويتها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
والواقع أن هذا الفراغ ، الذي زادت من حدته الأزمة الاقتصادية العميقة والحرب الشاقة ضد الأكراد ، هو الذي دفع الأتراك نحو الإسلام لتحديد الاتجاه.
ومن الواضح أن أزمة الهوية هذه كانت تتفاعل منذ وقت طويل، ذلك أن أيديولوجية تركيا المشتقة من تصميم «أتاتورك» على تحويل خرائب الامبراطورية العثمانية إلى بلد عصري على النمط الغربي ، غير قادرة في حقيقة الأمر على توفير الإجابات لعدد كبير من الأسئلة التي تواجه الأتراك اليوم.
إذ بعكس الماركسية والديمقراطية الليبرالية ، لا تملك «الكمالية» الأيديولوجية الشاملة التي تفسر المجتمع والتاريخ ، وهي ليست نظاماً أخلاقياً اجتماعياً في شكل ديانة تقليدية ، كما أن ظهورها وهيمنتها خلال القرن الماضي حرم المجتمع التركي من الجذور الأخلاقية والاجتماعية التي يوفرها الإسلام وتجعل الناس يشعرون بالأمان.
لقد كان إنجاز «الكمالية» الرئيس هو تثبيت وتعزيز القومية التركية ، لكن ما إن ضربت القومية التركية جذورها في المجتمع حتى فقدت سبب وجودها ، هذا ما قاله الكاتب «ديليب هيرو «في كتابه الأخير الذي تناول فيه تركيا وآسيا الوسطى.
ومما لا شك فيه أن الإسلام يوفر الحل بالنسبة للكثيرين من الأتراك ، ففي كل سنة يتدفق مئات الآلاف من المهاجرين المتدينين غير المثقفين من منطقة الأناضول إلى الضواحي الفقيرة في أنقرة واسطنبول، ولعدم استعداد هؤلاء لفهم متع الحياة في اسطنبول ، ولذهولهم من الفساد المستشري في كل مكان ، يتحول معظم هؤلاء المهاجرين إلى حزب الرفاه ، بأمل أن يقيهم من السقوط الأخلاقي».(15/279)
إن ما شهدته تركيا تشهده بقية بقاع العالم الإسلامي ، فهذا البعث الإسلامي أصبح هو الرقم الصعب والعامل المشترك لأي أمل قائم للخروج من نفق الواقع الملبد بالإحباط والتدهور ، إن انتخابات تركيا أكدت أن الصحوة الإسلامية تعيش حالة تشبه الظاهرة الفيزيائية المعروفة بظاهرة الأواني المستطرقة ، فأنت حينما تضع مجموعة من الأواني المختلفة الحجم والشكل وتربط بينها بقاعدة مفتوحة ومشتركة، تجد أن الماء المصبوب في آنية منها ينعكس تلقائياً على مستوى المياه في الأواني الأخرى، وهكذا فالحالة الإسلامية اليوم تشبه مجموعة الأواني المستطرقة التي تستفيد من كل قطرة ماء تسكب في قالب مع اختلاف نوعي بين القوالب، نصر المسلمين في تركيا ينعكس على الحالة المعنوية لدعاة الإسلام في أندونيسيا ، وارتفاع راية الإسلام في أقصى طاجيكستان تحس بإيجابيته شوارع سارييفو ، والخلاصة أن عودة المسلمين إلى جذورهم في بلد الخلافة الإسلامية يعطي أملاً للعاملين من أجل الإسلام. إن أعتى وأبشع النماذج العلمانية بدأ يتحول إلى خندق الدفاع ، بعد أن ظل يطارد أهل الإيمان من مواقع الهجوم ملوحاً بالرخاء والتقدم والاندماج مع الغرب المنتصر والمحارب لهذه الأمة ، لاسيما بعد غروب شمس دولة الخلافة.
التحدي لا يزال ضخماً:
بالرغم من النتائج المفرحة لأداء حزب الرفاه التركي في الانتخابات، فإن بصمات العلمانية المنفرة لاتزال ملموسة على كافة الأصعدة، في الوقت الذي يظل اليسار الملحد واليمين الأمريكي يحظى بثقل وتأثير على الساحة السياسية والاجتماعية في تركيا ، وأمام هذا التحدي تبرز نقاط لابد من التوقف أمامها:
* أمام حزب الرفاه تحد عقدي يتمثل في قرون طويلة من التصوف والخرافة التي تسللت إلى الحياة التعبدية لقواعد واسعة من الحزب ، كما يشكو الحزب من جانب آخر من ضعف في الجانب الفكري والتجديد في طروحاته العقدية ، وما يتفرع عنها من مواقف سياسية واقتصادية واجتماعية ، وفي الوقت الذي يعتبر فيه الحزب صاحب صوت ضخم حالياً ، فإن هذا الصوت بحاجة إلى حنجرة قوية وفكر متجدد ودورة دموية نشطة تساعده على تكوين قاعدة صلبة تجمع الرموز الإسلامية في تركيا على منهجية واضحة ، ولابأس أن يبدأ الحزب بالاهتمام بهذا الجانب من الآن، خصوصاً أن في تجربته بعداً عن الحزبية الضيقة التي جعلته متعاطفاً مع قطاع عريض من الحركات الإسلامية.
إن التحدي القائم أمام الإسلاميين في تركيا أكبر من حجم المنافسة السياسية ، إنه تحد حضاري شامل ، وما لم يكن الشمول المتسلح بمنهجية سليمة حاضراً ، فإن دور الحزب سيظل جزئياً ، كما أن تكوينه العقدي والمنهجي سيظلان نقطتي ضعف واضحتين.
* أمام الرفاه تربص من قبل أحزاب الإلحاد والعلمانية والقومية المتطرفة كما أن العلمانية التركية تتمثل في شخصيات ورموز ومؤسسات تعيش على الإرهاب العلماني القائم ، هذه الأحزاب والشخصيات ستركز على البلديات التي يحكمها الإسلاميون ، وستتجنى في الحكم عليها ، وستضخم أخطاءها وستحاربها بالشائعات والقصص المختلفة ، وهذا ما يحتم على الحزب اليقظة والحذر وممارسة أساليب النقد الذاتي ، فالعلمانية التركية تظل أقدم تجارب العلمنة تاريخاً وجذوراً إذا ما قورنت بالتجارب العلمانية الأخرى في عالمنا الإسلامي.
* أما أكبر الدروس التي نخرج بها، فهي قوة هذا الدين الذاتية التي صمدت وتصمد أمام أعتى الحروب وأقسى المواقف والظروف ، ويوماً بعد يوم يصلب عود هذه الأمة وتعود إلى نبعها الصافي ، وحين نقارن بضعف الجهود وكثرة الأخطاء وقلة ذات اليد ، فإننا لابد أن نخرج بمُسَلّمَة تصرخ وتقول: إن هذا الأمر هو أمر الله ، وإن ضعف الداعي، وحورب المبلغ ، وتكالب العدو.
* هناك المؤسسة العسكرية التي صرح مسؤول المخابرات فيها بُعيد ظهور النتائج: أنها ستتدخل في أي ظرف تشعر أن مبادىء «أتاتورك» مهددة أو أن العلمنة تتعرض للخطر ، هذا التصريح أمامنا تتناقله وسائل الإعلام ، وبين أيدينا تاريخ العسكر الطورانيين يؤكد انحياز العلمنة إلى التسلط وفرض خياراتها بالقوة أو الديموقراطية التي توافق مكاييلهم.
* الصحافة التركية وكر من أوكار الملاحدة والعلمانيين، مارست وتمارس التحرش بالإسلام وأهله، كما أن قنوات الإفساد التي تنتشر في تركيا وبتشجيع من أهل الفساد والإضلال ستزيد من نشاطاتها ، مما يحتم بروز قنوات إعلامية ملتزمة بالدفاع عن المشروع والهوية الإسلامية في تركيا.
* النزاع العرقي كشف أن الأكراد وغيرهم من الأقليات المسلمة المضهدة قد أعطت صوتها لحزب الرفاه،لأنه دعا إلى رفع الاضطهاد الطوراني عنها ووعدها بعدل الإسلام وسماحته، والمطلوب الأن أكبر من شعار حيث إن انتشار الدعوة بين هذه الأقليات وتعريفها بكينونتها الإسلامية وهويتها ، أمر مطلوب بل بالغ الأهمية في هذه المرحلة.(15/280)
* الغرب الخائف المذعور من كل نصر للإسلام سيمارس حرباً ضروساً ضد الإسلام وأهله ، سواء أكان عن طريق مباشر أو بواسطة حلفائه وفي مقدمتهم اليهود ، وهذا يقتضي الكياسة والبعد عن الاستعراض الخطابي والعمل بجد وإخلاص على أرض الواقع بشمولية ، وعدم قصر النشاط الإسلامي على الجانب السياسي الذي هو أكثر النشاطات إثارة وغيظاً للقوى الدولية ، وأمامي الآن مثال لهذه الحرب السافرة ، يتمثل في مقال لمجلة «الإيكونمست» البريطانية التي تبث الذعر في قلوب الغربيين من حكم حزب الرفاه الذي سيحظر أهم إنجازات «أتاتورك» في إسطانبول وهي: الخمارات ودور الدعارة ، وتتهكم بوعد رئيس البلدية الجديد الذي وعد بالقضاء على الدعارة والفساد وتحويل نشاط المدينة كمركز للمؤتمرات الدولية ، ولم تجد المجلة تعليقاً سوى: كيف سيحضر النساء المؤتمرات وهن بالعباءة؟!
*ويبقى الاقتصاد المنهار تحدياً آخر يمثل نتائج التخبط الذي مارسته الحكومات العلمانية المتعاقبة، وهو يحتاج إلى إصلاح جذري وانفتاح على العالم الإسلامي الذي هو الامتداد الطبيعي لتركيا.
إن تنوع هذه التحديات وضخامتها يجعلنا ندعو لإخواننا المسلمين في تركيا بالنصر والتمكين والمبادرة إلى استخلاص الدروس والعبر من تجارب إسلامية مشابهة ، على أن تكون ذخيرة في معركة الصراع بين الإلحاد والإيمان ما بين الكفر والإسلام،ما بين العلمنة والحل الإسلامي... وهي معركة ضخمة نؤمن أنها طويلة وقديمة قدم الحق والباطل، والعاقبة للمتقين والبشائر هي علامات الترنح التي نشاهدها تعتري أقدم تجربة علمانية...
============(15/281)
(15/282)
المشروع العلماني يتداعى
مجلة البيان - (ج 79 / ص 4)
جاء الإسلام رسالة خاتمة أخرج الله به الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ولذلك دخله الناس أفواجاً، وعلى هذا الأساس قامت دولة الإسلام في المدينة، وتواصل مده عبر القرون، فكانت جنسية المسلم عقيدته.
وحينما بَعُدَ المسلمون عن حقيقة دينهم، وانحرف بهم الفهم عن أصول معتقدهم ومنطلقاته الإيمانية، حينها ظهرت الأمية الفكرية والتعصب المذهبي والاتجاهات البدعية، وظهر الغلو المصادم للإسلام، مما أدى إلى شيوع الجهل في الأمة بعامة، مما أدى إلى سقوطها أمام الزحف الاستعماري الجديد الذي اصطنع نفراً من أبناء الأمة على عينه، فظهرت في ديار الإسلام الاتجاهات الفكرية الوافدة التي دعت إلى القومية والعنصرية والفئوية، بتشجيع من المستعمر المغتصب الذي سلم العهدة بعد فترة الاحتلال وبعد مقاومته إلى تلامذته ومريديه، وهو متأكد تماماً من مدى حرصهم على أداء دوره، وقيامهم بتنفيذ رسالته بأعظم مما كان يقوم به، فقامت الأحزاب العلمانية التي جعلت من نفسها ما يدعونه «بالشرعية الدستورية»، فحكمت بعقلية بوليسية مناوئة للأمة ولعقيدتها وضربت بالحديد والنار كل دعاة الفكرة الإسلامية، واعتبرتهم أعداء ليس لهم حق الدعوة إلى تحكيم شريعة الله في وضح النهار، في الوقت الذي فتحت فيه المجال لكل منهج علماني حتى ولو كان ماركسياً.
أفيدوني رحمكم الله ماذا استفاد عالمنا الإسلامي والعربي من تلك الحكومات العلمانية؟ وماذا كسب من جراء تولي أولئك الحاكمين بأمرهم على مقدرات أمتنا؟ وبماذا أتوا لها من معطيات الحضارة الجديدة النافعة سوى أن جعلوا بلداننا في مؤخرة البلدان فقراً وفي ذيل القافلة تخلفاً، ولم نعد سوى أسواقاً استهلاكية للأجنبي، ومحطات تجارب للأنظمة والقوانين المستوردة ومجالاً مفتوحاً للتغريب والإفساد عن طريق وسائل الإعلام والتعليم، فضلاً عن تنحية شريعة الله، مما ساعد على انتشار الجريمة بمعدلات متصاعدة لها آثارها الخطيرة على حاضر الأمة ومستقبلها.
هذه بعض نتائج العلمانية في ديارنا، ومع ذلك مازالت الأبواب مشرعة لنشوء المزيد من تلك الأحزاب إياها، وعقد الندوات والحوارات معها لتكريس تلك المبادئ الباطلة، وخداع الشعوب بمنطلقاتها، والحيلولة دون نشر الفكر الإسلامي الرشيد، وبعد سبعين عاماً مضت من غزو العلمانية لعالمنا العربي والإسلامي، لم نجد سوى قبض الريح وحصاد الهشيم.
إن عقلاء الغرب في غمرة بحثهم الدائب عن مصالح بلدانهم، يقومون بعمليات غربلة وتقويم لمناهج حياتهم واتجاهات فكرهم، للبحث عن مواطن الانحراف وتقويمها، ومعرفة معوقات الطريق وتذليلها، ومعرفة خاطئ الأفكار وتصويبها.
أما علمانيو أمتنا فهم أكثر العلمانيين في العالم ديكتاتورية، وأبرزهم انتهازية وأشهرهم تطرفاً في التعصب لآرائهم الهزيلة، حتى صار «أتاتورك الهالك» يحكم من قبره مقدرات دولة مثل تركيا، فيجرم كل دعاة الإسلام وقادة الإصلاح لمخالفتهم لما وضعه من نهج علماني أهوج، وعلى نهجه يحكم الفراعنة الصغار في بلداننا اليوم، ويقفون بكل صفاقة للحيلولة دون تحكيم شريعة الإسلام بدعاوى فارغة ما أنزل الله بها من سلطان، بينما نجد الغربيين في خضم مراجعاتهم لأفكارهم وقوانينهم ومناهجهم، يضعون العلمانية نفسها في قفص الاتهام، فمنذ أكثر من شهر دعا «مركز أبحاث الديمقراطية» بجامعة «ويستمنستر» في لندن بالتعاون مع منظمة «ليبرتي» إلى ندوة عن «انهيار العلمانية والتحدي الإسلامي للغرب»، ركزت في أبحاثها على نقد المشروع العلماني عبر المستويين النظري والتطبيقي، وموقف الإسلام من هذا المنهج.
وهذه الندوة لم تكن ترفاً فكرياً، ولم تصدر من فراغ، وإنما كان دافعها ما لاحظه العلماء وقادة الفكر هناك من مظاهر الانحراف والسقوط التي آلت إليها الحياة في الغرب مما جعل الغربيين أنفسهم يهربون إلى غير العلمانية، حتى وإن كان إلى أصوليات نصرانية فضلاً عن ما عانته تلك المجتمعات من مظاهر الانحراف الخلقي الذي أدى إلى شيوع الأمراض الجنسية والمخدرات وغيرها وظهور الاتجاهات السياسية المتطرفة مثل النازية والفاشية والتطهير العرقي، مما يعني أن الحضارة الغربية آيلة للسقوط لا محالة إذا سارت بنفس هذا المعدل في الانحراف.
وقد قام هؤلاء المفكرون في هذه الندوة بمناقشة تلك المظاهر المنحرفة في حياتهم، لتلمس الطريق قبل السقوط الذي حذر منه سابقاً أمثال «توينبي وشبنجلر»، وإذا نظرنا إلى واقعنا العلماني في عالمنا العربي والإسلامي، نجد أن علمانيينا الذين هم من جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا ينقصهم ذكاء أولئك الغربيين وبعد نظرهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ومظاهر مكرهم تتجلى فيما يلي:
1- التجاهل للأيدلوجية العلمانية في شقها الليبرالي، التي يتبنونها للتربص والتستر والحيلولة دون أي توجه آخر حتى ولو كان الإسلام ذاته، لأنهم يعلمون أن فسح المجال له يعني سقوطهم المحتم.(15/283)
2- إشاعة الفهم الكهنوتي الخاطئ للإسلام، واعتباره كأي دين محرف آخر لا يصح أن يبارح دور العبادة، وهذا جهل بالإسلام وآفاقه الحياتية المختلفة التي اكتشفها غير المسلمين فأسلموا، وفاقد الشيء لا يعطيه.
3- العقليات المستمرئة للباطل التي يمكن أن تتحالف مع الشيطان، وأن تتصالح مع أعدى أعداء الإسلام، لكنها تأخذها العزة بالإثم عن الرجوع إلى الحق والاعتراف بحاكمية الإسلام.
4- نفاقهم لكثير من الحكام، ومسايرتهم في كل ما يدعون إليه، ولاسيما ما من شأنه علمنة المجتمعات، وحثهم على مضايقة التيار الإسلامي وإظهاره بأنه العدو الوحيد للحاكم، ليكسبوا من تهميشه وجودهم في الساحة وبخاصة في وسائل الإعلام، حيث يدعون ليل نهار إلى أن العلمانية هي الحل!!
5- النهج الميكيافيلي الذي يعني أن «الغاية تبرر الوسيلة»، فقد كانوا ماركسيين يقفون صفاً واحداً ضد الإسلام، وحينما سقطت أيدلوجيتهم صاروا يهادنون الإسلام، ولكن بفهم جديد يدعونه «التنوير»، وهو للتزوير أقرب، وفي مكان آخر من هذا العدد مزيد من الفضح للعلمانيين ولطرائقهم الجديدة.
إن البقاء للأصلح مهما طالت الأيام ومهما أرجف المرجفون، ومما يثبت ذلك ترنح التجربة العلمانية في الغرب، والأعجب أن القوم عندنا يقيمون لها الاحتفالات خداعاً وتزويراً وغشاً للأمة جمعاء، إن كل باطل لا يدوم والحق الذي لا شك فيه أن «إن المستقبل للإسلام» رغم كل المعوقات.
وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله في هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر».
((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)).
=============(15/284)
(15/285)
أقنعة العلمانية
مجلة البيان - (ج 79 / ص 95)
قراءة في الطروحات العلمانية الجديدة
د. محمد يحيى
يلاحظ المتتبع للطروحات العلمانية الفكرية في البلدان العربية خلال الفترة القريبة، توجهين أساسيين يحكمان هذه الأفكار، أولهما حديث نسبياً من حيث التعبير العلني عنه مؤخراً، وهو يبشر صراحة بالفكر العلماني «الكلاسيكي» في صورته الشرسة من ضرورة الفصل بين الدين (وهو هنا الإسلام) والدولة، أو بين الدين والسياسة، أو بين الدين والحكم، أو بين الدين والاقتصاد والتعليم وسائر شؤون المجتمع، أما الاتجاه الثاني فهو يواصل ما عهد عن أصحاب هذا الفكر في العقود الماضية من طرح العلمانية وراء أقنعة ومسميات شتى لا تلجأ إلى المصادمة المباشرة أو الوضوح الصريح أو الإفصاح عن النوايا والأهداف النهائية، وظهور الاتجاه الأول الذي يمكن أن نسميه بالأتاتوركي نسبة إلى رائد العلمانية في العالم الإسلامي في شكلها السياسي الشامل يرتبط بتصاعد الحرب من جانب القوى المحلية والأجنبية ضد الحركات الإسلامية، حيث فقدت هذه القوى توازنها أو صبرها في الفترات الأخيرة، وقررت أن تكون الحرب علنية ليس فقط ضد التيارات الإسلامية ولكن ضد الإسلام ذاته، من خلال وجوده الدستوري والقانوني في أنظمة الدول العربية، وأيضاً من خلال وجوده المؤسسي في هيئات تعليمية أو ثقافية أو اجتماعية، ولذا جاءت الدعوة إلى العلمانية الأتاتوركية صريحة إلى حد أننا سمعنا مثلاً موظفاً رسمياً في وزارة الثقافة بإحدى الدول العربية يتحدث باسم وزارته وهو ما يعني الحديث باسم الحكومة داعياً إلى فصل الدين عن الدولة في دستور البلاد، وتتردد آراء مشابهة من جانب كتاب من المشرق والمغرب العربي في صحف ومجلات تصدر هنا وهناك، وتديرها وتدعمها الأنظمة والحكومات، وتتراوح أهداف هذا التوجه الجديد المعلن ما بين بالونات اختبار (وفق المصطلح الصحفي الدارج) لآراء الصفوة والجماهير نحو الدعوة العلمانية الصريحة، وما بين التهديد للإسلاميين والمؤسسات الإسلامية بأنهم إذا لم يتوقفوا عن النشاطات الإيجابية في مجال الدعوة والحركة فإن الأنظمة الحاكمة قد تضطر في نهاية المطاف إلى اللجوء إلى «الحل الأتاتوركي» أي إلى تبني العلمانية التقليدية بالنص في الدساتير والقوانين على تنحية الإسلام وعزله عن شؤون الدولة والحكم والمجتمع بكل مؤسساته، والوصول إلى الإقصاء الشامل لهذا الدين عن كل شؤون الحياة.
خطورة التوجه العلماني الجديد:
لكن هذا التوجه الأخير للطرح العلماني على خطورته المتمثلة في المصادمة الصريحة للإسلام، يبقى محدوداً من الناحية الكمية بالمقارنة مع التوجه العلماني الأخير الذي يحتل المساحة الكبرى في الكتابات الفكرية والإعلامية العلمانية، وأعني به تسريب هذا الفكر بشتى جوانبه وراء مجموعة من الأقنعة وأدوات التنكر والستائر التي تخفي حقيقة جوهره أو مقاصده وأغراضه البعيدة أو الجهات التي تحركه وتستفيد منه، وفيها جهات دينية غير إسلامية تتمسك بأديانها أشد التمسك، وتتعصب لها إلى الحد الممقوت، لكنها تريد للمسلمين أن يتحللوا من دينهم، وأن تنفصم عرى هذا الدين، ويبعد عن حياة الشعوب وتوجيه مصائرها، وإذا كان الفكر العلماني الكلاسيكي محدود الطرح في الناحية الكمية حتى الآن، فإن الفكر المقنع منذ فترة طويلة ومازال أكثر انتشاراً لأنه لا يسعى إلى الصدام المباشر الواضح مع العقيدة، بل يواصل عدوانه عليها، ويهاجمها بطريق غير مباشرة، فيقوض الطرح الإسلامي بطريق الإجهاض والإضعاف المستمر، دون أن يجازف بإثارة مشاعر الجماهير المسلمة أو تحفيز طاقات رد الفعل الفكري الإسلامي، أو تنبيه المسلمين لما يراد بهم، بل ويكسب فوق ذلك التظاهر بأنه تيار فكري محايد أو حتى «إسلامي مستنير»!!
صور جديدة للخداع:
وأقنعة العلمانية كما عهدناها متعددة وكثيرة ومتغيرة وفق الظروف والمناسبات، وتتيح هذه الأقنعة مزايا أخرى لأصحاب الفكر العلماني غير ما لاحظناه فيما سبق، فهي قبل كل شيء تمكنهم من الرد على دحض الإسلاميين لأفكارهم بمقولة أن الإسلاميين لا يفهمون العلمانية، أو يتعمدون الحط من شأنها بربطها بالفكر في الإسلام، بينما هي «في الحقيقة» (أي في القناع والفكر) لا تعني سوى التفكير الحر، أو الاجتهاد الذهني، أو الاستنارة العقلية، أو الموضوعية العلمية، أو الإصلاح الاجتماعي والديني!!... الخ.(15/286)
ولقد شاهدنا في الفترة الأخيرة إحدى المجلات الشيوعية ترد على سلسلة مقالات لكاتب ومفكر إسلامي موضوعي فند فيها أفكار العلمانيين، باتهام الكاتب أنه «يزيف العلمانية» أي يتهم العلمانية، وينسب إليها ما ليس فيها على حد زعم المجلة وهذه هي فائدة أسلوب الأقنعة والتنكر، لأنه يمكن العلمانيين عند الرد الموضوعي والداحض والمفند لأفكارهم أن يتنصلوا منها بزعم أنهم إنما ليسوا سوى دعاة العقل والفكر والحرية والاستنارة والتقدم وما أشبه ذلك من المصطلحات والألفاظ العامة التي يطلقونها دونما تحديد اجتلاباً للأذهان، لكنهم يحددونها في الوقت الملائم وبالمعنى والمضمون الذي يختارونه ويكون أكثر المضامين فعالية وأثراً في وضع ومقام معين.
مزاعم علماني متفلسف:
وفي هذا الصدد مثلاً ونحن نشير إلى أقنعة العلمانية واستخدامها التقنع والتنكر لأغراض مرحلية تتعلق بالرغبة في الانتشار والترويج واستمالة الأذهان وتجنب المواجهة المباشرة، أشير إلى واحد من أحدث هذه الأقنعة وربما كان من أطرفها، فقد عرف أستاذ جامعي مصري للفلسفة وهو غير مسلم اشتهر بهجومه على الإسلاميين منذ عقد الستينات العلمانية بقوله: إنها تعني التفكير في الأمور البشرية النسبية والمتغيرة بطبيعتها من خلال فكر نسبي ومتغير، والابتعاد عن «المطلق» عند التفكير في هذه الأمور البشرية وتدبيرها وإدارتها، وهذا التعريف المبتكر للعلمانية يبدو مختلفاً تماماً وبعيداً كل البعد عن تعريفها التقليدي بأنها فصل الدين عن الحكم والدولة والمجتمع، لكنه بعد تحليله يصل إلى نفس الهدف وراء سحابة المصطلحات الفلسفية عن المطلق والمتغير والنسبي.
فصاحب هذا التعريف يصف العلمانية بأنها التفكير في الشؤون البشرية ذات الطابع النسبي والمتغير بأساليب وأفكار مماثلة لها من حيث النسبية والتغير لكنه من المعروف أن المذاهب العلمانية المتنوعة وبالذات في المجالات «المتغيرة والنسبية» كالسياسة والاقتصاد وقضايا المجتمع، اتسمت بأشد درجات الإطلاق والجمود والصلابة وعدم التغير بحيث كانت تضع نفسها في شكل دساتير وقوانين صارمة ثابتة تهيمن على حركة المجتمعات التي طبقت فيها وتعيد صياغتها بشكل كلي وشامل بحيث تتسق هذه المجتمعات مع تلك الأفكار النظرية المجردة، ولو كلف الأمر ملايين الضحايا البشرية ومحن واضطرابات تستمر عشرات السنين.
وليست التجربة الشيوعية فيما كان يعرف بالكتلة الشرقية الأوروبية عنا ببعيد، فالمذاهب العلمانية نفسها، وهي من وضع البشر لم تكن ترى في نفسها أنها أفكار متغيرة ونسبية جاءت لتحكم شؤون بشرية متغيرة ونسبية، بل على العكس فقد انتحلت لنفسها بالضبط ما تدعي العلمانية أن الأديان قد اتصفت به ألا وهو الطابع المطلق الشمولي الجامد المستعصي على التغير، وينطبق هذا حتى على تلك المذاهب العلمانية التي ادعت «الليبرالية» أو التحرر، إذ لم تخلوا هذه المذاهب من مطلقات مقدسة طرحت على أنها ثابتة ثبوت الدهور، وغير متغيرة مع تغير الظروف، بل وعلى أنها هي التي تحكم وتضبط وتوجه التغيرات وتهيمن عليها لا تواكبها ولا تسايرها ولا تتغير معها، وهذه المقدسات معروفة حتى الآن في الحرية الاقتصادية ونظام التمثيل البرلماني، وأفكار المساواة المطلقة والفردية، وأشهر مطلق من مطلقات الليبرالية بل ومن مطلقات الفكر العلماني نفسه هو مطلق فصل الدين عن الدولة.
وللماركسية والاشتراكية مطلقاتها الخاصة كما لسائر المذاهب والفلسفات العلمانية، بل إنهم يتبادلون الهجوم فيما بينهم بالإشارة إلى الطابع المطلق لكل منهم الذي يستعصي على التغيير والنسبية، ويقاومهما ويصر لنفسه على احتكار الحق المطلق حتى في أدق الأمور الاجتماعية والاقتصادية وأكثرها عرضة لمجريات التغير والتبدل.
العلمانية والمطلق والنسبي:
العلمانية إذن لم تكن أبداً إدارة أو تفكيرفي شؤون البشر المتغيرة والنسبية بأفكار وأساليب تشاكلها، بل على العكس كانت تتمثل في استبدال مطلق جديد (هو العلمانية) لمطلق قديم هو (المسيحية الغربية)، وما رافقها من أفكار ومذاهب سياسية واقتصادية وثقافية، ثم إن المذاهب العلمانية لم تنظر لنفسها على أنها مجرد تعبيرات ملائمة عن أوضاع نسبية ومتغيرة، تتغير وتتبدل وتمضي مع ذهاب هذه الأوضاع، بل على العكس اعتبرت نفسها مبادئ وخطوط عمل وإرشاد وتوجيه حاكمة وعامة، توجه وتقود وتشكل هذه الأوضاع، بل وتحكم كيفية ومسار تغييرها إلى أبد الآبدين، أو إلى الوصول إلى الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ كما في الماركسية والليبرالية.(15/287)
العلمانية إذن تحل لنفسها ما تحرمه على غيرها، وإذا نظرنا إلى الجانب الآخر من المسألة فلن نجد داعياً لوصف شؤون البشر بأنها نسبية ومتغيرة مهما كانت درجة التغير والتبدل التي تطرأ على أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم فوراء هذه التغيرات تقف (كما تقول لنا حتى فلسفات العلمانية ذاتها) قوانين كبرى ومبادئ عامة، وملامح مشتركة، تجعل من وجود أفكار وتعاليم مطلقة للتفكير في هذه الشؤون، أمراً مقبولاً، بل وضرورياً، ولا ننسى أن «ماركس» وهو أحد كبار كهنة الفكر العلماني الغربي قد ابتكر نظاماً مطلقاً محكماً ادعى أنه يقف بثبات وصرامة لا تتخلف وراء كل التغيرات التي تطرأ على المجتمعات فالمطلق أياً كان له مجال في التفكير في الشؤون البشرية والمطلق كذلك له مجال أكبر في مجال توجيه هذه الشؤون كما تدل على ذلك التجربة العلمانية ذاتها في النظرية والممارسة، ذلك لأنه إذا قبلنا بفكرة أن كل الشؤون البشرية متغيرة ونسبية، فإن ذلك لا يعني منطقياً أن تكون المبادئ التي توجه وتحكم هذه الشؤون متغيرة ونسبية مثلها، لأن الحكم والتوجيه والتدبير في حد ذاته يعني وجود درجة كبيرة من الثبات والهيمنة، تتجاوز النسبية والتغير وتتعالى عليهما أو تقود التغيرات في مسار معين، وتبعدها عن مسار آخر.
والأكثر أهمية في ذلك هو بحث معنى «المطلق» وفق هذا التعريف المبتكر للعلمانية، فهل المقصود هنا هو «الإله» الذي تتحدث عنه الأديان التي يواجهها العلمانيون رغم ضرورة الإشارة إلى اختلاف مفاهيم الألوهية بين الأديان وبالأخص بين الإسلام وبين سائر الأديان بما فيها تلك التي تسمى حالياً بالسماوية أم أن «المطلق» هذا هو الأفكار والمذاهب الدينية لاسيما ما يتصل منها بالتشريع والشؤون الاجتماعية المتنوعة، وفي هذه الحالة ينبغي الإشارة إلى وجود شريعة في الإسلام تختلف جوهرياً وبالنوع عن أي أفكار أخرى بدائية ومحدودة قد تحتويها الأديان الأخرى في مجال التشريع الاجتماعي، فالشريعة الإسلامية هي نظام كامل له منهاجه الخاص، ولا يمكن أن تختزل هذه الشريعة بوصفها بتلك الكلمة العامة الغامضة ذات الإيحاءات السلبية في دنيا الفلسفة وهي عبارة «المطلق»، فالشريعة الإسلامية بالذات تحتوي على مستويات من المبادئ والقوانين والأحكام، وفيها من المرونة ومن القابلية للاستيعاب وتغطية المتغيرات، والتعامل معها من خلال أنظمتها هي كالاجتهاد وغيره ما يحول دون نشوء مشكلة التقابل الثنائي بين المطلق والنسبي التي يثيرها ذلك التعريف العلماني، وهو يحمل في ذهنه الأوضاع المسيحية الغربية.
وإياً كان ذلك «المطلق» فلا يعطينا تعريف العلمانية هذا مسوغاً لإبعاده عن شؤون البشر، سواء أكان تفكيراً فيها أو توجيهاً لها، مادام أن العلمانية نفسها تقيم بعده مطلقاً أو مطلقات أخرى من صناعتها هي، أي أصنام وثنية مادية لتحل محل الآلهة الغيبية (حسب تصورهم)، فلا جديد في المسألة.
تهافت العلمانية الجديدة:
تعريف العلمانية الجديد هنا ينشيء عند تحليله تناقضات ومشكلات عديدة، كما أنه ينبثق عن نفس التعريف القديم، لكنه ليس سوى قناع أو تنكر له، فهو يطلق اسم المطلق على: الدين أو الشريعة أو العقيدة أو «الله»، وهو ذو إيحاءات سلبية كما قلنا ولاسيما في مذاهب الفلسفة الغربية الحديثة وفي مقابلة هذا المطلق توضح شؤون البشر المتغيرة النسبية (هكذا كل شؤون البشر متغيرة ونسبية عندهم بإطلاق!)، ثم تأتي العلمانية لتسمى في هذا التعريف بالأفكار النسبية المتغيرة والتي تصلح بذلك دون «المطلق» لتسيير وتفسير حياة البشر وشؤونهم.
إنها مجرد تسميات مختلفة، فبدل القول بأن الدين يجب أن يرفض وينحى من حياة البشر لتحل محله العلمانية، أو بالأصح مذاهبها المختلفة يأتي القول بأن حياة البشر متغيرة نسبية بإطلاق (!) في التغير والنسبية، وأن هناك اتجاهين يتنازعان تفسير وتسيير هذه الحياة، أحدهما «مطلق» لا يصلح لها والآخر مثلها متغير نسبي، فهو الأصلح والأجدر بها، هكذا تترجم العلمانية الكلاسيكية إلى صياغة تحاول أن تتجمل بمصطلحات الفلسفة ذات الإيحاءات والظلال المعينة دون أن يتغير شيء في المضمون.
لكن هذا التعريف الجديد أو القناع الجديد يحتوي من التناقضات أشد ما يحتويه التعريف الأقدم، لاسيما فيما يتصل بالإسلام، فشريعة الإسلام ليست ذلك «المطلق» البعيد عن دنيا البشر وهمومهم وأوضاعهم بل هي وثيقة الصلة بها لا من حيث إنها تعكسها وتبررها وتواكبها بشكل ذيلي في تغيراتها كما يصور التفسير المادي المألوف، بل من حيث إنها تقودها وتوجهها وترقى بها وفق مشيئة وحكمة العزيز العليم الذي أوحى بها، وشؤون البشر في هذا التصور الإسلامي ليست متغيرة نسبية بإطلاق، بل تطرأ عليها التغيرات وفق سنن ثابتة، كما تتفاوت التغيرات بين مادي واجتماعي ونفسي وعقدي وأخلاقي... كل له مساره الخاص ودرجته الخاصة في مدى التغير، والتغير فيها يمكن توجيهه والتحكم فيه على الأقل من الناحية المهمة كناحية الإيمان وإرضاء الله بالعمل وفق منهجه، والثبات في محن البلاء والاختبار المتنوعة.(15/288)
وأخيراً فإن الأفكار العلمانية ليست نسبية التطور كما يزعم التعريف، بل هي تزعم لنفسها كما أسلفنا الإطلاق والثبات، أضف إلى ذلك السذاجة الفكرية المتضمنة في مقولة أن النسبي والمتغير لا يصلح للتفكير فيه سوى النسبي والمتغير فصاحب هذا التعريف وهو ماركسي النزعة يعرف أكثر من غيره أو هذا هو المفترض أن الماركسية وقبلها بدرجة أكثر الهيجلية قد حكّمت فكراً (أو ما أسموه بمنهج علمي) مطلقاً هو الجدل أو الديالكتيك بشقيه المنطقي والمادي في تفسير ما رأوا أنه شؤون الحياة والتاريخ المتغيرة والنسبية، فالمتغير في هذه الفلسفات محكوم بقانون مطلق لا يجعل منه تغيراً بقدر ما يجعل منه ثباتاً يتجلى شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر بكامله، كما أن النسبي عندهم لا يصبح نسبياً إلا عندما ينسب إلى إطار مطلق يحتويه ويتعالى عليه.
خدعة المجتمع المدني:
في نهاية الأمر لسنا نواجه سوى قناع آخر من أقنعة العلمانية هذه المرة في ثوب فلسفي النقش، لكن الأقنعة لها ثياب متعددة، فهناك مثلاً الثوب السياسي الذي يفصح عن نفسه هذه الأيام في مصطلح كثر ترديده بصورة ببغاوية حتى عد عند بعضهم وكأنه الحل السحري لكل الأزمات والمشاكل وفي مقدمتها أزمة الإسلام، وأعني به مصطلح «المجتمع المدني»، فالدعوة إلى العلمانية هذه الأيام تتخذ شكل الإلحاح على إقامة أو تقوية ما يسمى «بالمجتمع المدني»، وليس المقصود بهذا المجتمع كما قد يتبادر إلى الذهن أنه المجتمع الذي لا يسيطر عليه العسكريون بشكل مباشر أو غير مباشر كما هي الحال في معظم المجتمعات العربية، بل على العكس نجد أن أصحاب هذا المصطلح أو التعريف العلماني من أشد أنصار الحكم العسكري، لأنهم يرون في شراسة هذا الحكم وبعده عن الالتزام بالقوانين وحقوق الإنسان، أكبر ضمانة للتصفية الجسدية للحركات الإسلامية التي يناصبونها العداء والخصومة.
المجتمع المدني المقصود في هذا المصطلح الذي نجد له أوسع رواج الآن في بعض الصحف والمجلات والمنابر الناطقة باسم النخبة العلمانية، هو المجتمع اللاديني، ذلك لأن «المدني» عندهم لا يواجه «العسكري» بل يواجه «الديني» وقد اعتمد مطلقو هذا التعبير على ترجمة محرفة للاصطلاح الدنيوي أو غير الكنسي في بعض اللغات الأوروبية، الذي يقابل ويواجه «الكنسي» أو الديني فالدين عندهم يرتبط بما هو متصل بالكنيسة ورجالها (الكهنوت) الذين يشكلون بزيهم وتنظيمهم المستقل المميز سلكاً هو سلك الدين أو الكنيسة المتميز عن سائر المؤسسات الاجتماعية، كسلك الجيش أو ملاك الأراضي... الخ، وعند غيرهم يطلق عليه اسم «الدنيوي» (أي غير الديني) الذي تحور في الترجمة أو في التلاعب عند أصحاب التعريف أو الدعوة الجديدة إلى «المدني».
والخلط هنا ينشأ من أن كلمة «المدني» في استخدامات العربية الحديثة تطلق أساساً للتفرقة بين ما ينتمي إلى السلطة العسكرية وما ينتمي إلى غيره كما قد يطلق على ما ينتمي إلى المدنية أو الحضر، أو ما يتسم بالصفات السائدة في تلك الأماكن، لكن «المدني» لا يعني في العربية «العلماني»، ومن هنا يأتي القناع أو التنكر، فهم يستخدمون تعبير المجتمع المدني لأنه سيجد القبول بإيحاءاته التي تعني مجتمعاً لا يسيطر عليه العسكريون بالدكتاتورية والتسلط وكبت الحريات وفرض الرأي الواحد الخاطئ في معظم الأحيان، كما أن أصحاب المصطلح يساعدون على هذا الترويج بإكسابه إيحاءات أخرى ينظمونها حول لفظة «المدني» كالديموقراطية والحرية وتعدد الآراء والمناقشات والانفتاح السياسي والفكري، لكنهم عندما يتحدثون عن هذا المصطلح فإنما يقصدون كما يتضح من كتاباتهم العلمانية أو اللادينية المجتمع الذي يفصل الدين عن حياته وينحيه بعيداً، وهكذا يظهر المصطلح جذاباً لبعضهم لكنه في نفس الوقت يؤدي نفس ما يؤديه التعريف الكلاسيكي للعلمانية.
وكما هو الحال في التحليل السابق للتعريف الجديد للعلمانية، فإننا إذا حللنا تعبير «المجتمع المدني» كما يستخدمه العلمانيون، فسنجده ينطوي على تناقضات تهوي به كمصطلح جاء حسب استخدامهم أبسطها أن مفهوم «المجتمع المدني» كما يستخدم في الكتابات الاجتماعية الغربية يعني مجموع المؤسسات والهيئات والمنظمات والجمعيات والروابط المعروفة (الجيش، الشرطة الجهاز الإداري... الخ)، ومن هذه الناحية فإن المصطلح بمعناه الدقيق أو العلمي في الكتابات الأكاديمية يضم ولا يستبعد المؤسسات الدينية، كما يضم ولا يستبعد الأفكار والرؤى الدينية طالما أنها تشكل قسماً من نسيج هذا الشعب الذي يتشكل المجتمع المدني من تنظيماته.
وللعلمانية أقنعة أخرى تخفي وراءها طرحها الأساس والصريح الذي ما خرج هذه الأيام إلى طور العلن إلا كحلقة من حلقات المواجهة مع الإسلام كما يسمونها، والأقنعة ذات فوائد متعددة للطروحات العلمانية لكنها في المقابل ينبغي أن تكون بمثابة ساحة تدريب ودافع تنشيط للفكر الإسلامي في تتبعها ودراستها ودحضها وكشف ما وراءها، مع إظهار البديل أو بالأصح «الأصيل» الإسلامي الذي تحاول هذه الطروحات أن تشوه صورته أو تخفيه.
=============(15/289)
(15/290)
انتحار العلمانية
مجلة البيان - (ج 92 / ص 111)
د. أحمد بن محمد العيسى
كيف يمكن تفسير ظاهرة (نصر حامد أبو زيد) الذي حكمت إحدى محاكم القاهرة بردته عن الإسلام وتفريقه عن زوجته؟.
(أبو زيد) الذي يدرّس القرآن الكريم والسنة النبوية (!!) في كلية الآداب بجامعة القاهرة، يعتبر أن ما ورد في كتبه من أفكار إلحادية اجتهاداً يؤجر عليه!، وذلك مثل قوله: إن ما جاء في القرآن الكريم عن الله (عز وجل)، وعن الملائكة، والعرش، والشياطين، ومشاهد يوم القيامة: هي من الأساطير التي يجب أن تتجاوزها أفهامنا في العصر الحديث لأنها ـ بزعمه ـ نزلت في عصر يحتاج إلى مثل هذا السياق اللغوي لكي يفهمه الناس.
هناك فرضيتان لتفسير هذه الظاهرة:
الأولى: أن نعتبر هذه الحالة ظاهرة إلحادية فردية كان باعثها حب الظهور وغرام الشهرة، كما هو الحال عند (سلمان رشدي) و (تسليمه نسرين)..
الثانية: أن نعتبرها مرحلة متطورة للعلمانية في العالم العربي، ابتدأت منذ عهد الرواد أمثال: (طه حسين)، و (لطفي السيد)، و (سلامة موسى).. وغيرهم، ووصلت عبر مراحل ومراحل إلى (فرج فودة)، و (غالي شكري)، و (نصر حامد أبو زيد).. وغيرهم.. فتكون بذرة الشك التي بذرها (طه حسين) في كتابه (في الشعر الجاهلي) ـ الذي أعيد طبعه مؤخراً ـ قد ترعرعت ووصلت إلى الحال التي نقرؤها عند علمانيي عصرنا..
وهكذا أصبحت حالة (أبو زيد) مؤشراً على تطور جديد للعلمانية، بعد أن أزاحت عن وجهها حجاب المصطلحات الفضفاضة، ليظهر وجه الإلحاد البشع..!
هاتان الفرضيتان تحتاجان إلى تأمل.. ولكن، لعل ردود الفعل العلمانية على حكم المحكمة تدل على أن الفرضية الثانية تعبر بشكل أكبر عن الواقع، ومن ذلك قول قائلهم: (إن الفضيلة الأصولية تدفع الجميع إلى الأقاصي، وتجنباً لكارثة لن تكون أقل من كارثة الاجتياح المغولي ـ لكنها تأتي هذه المرة من الداخل ـ تُستحسن المسارعة في مراجعة كل شيء، والاستعداد للتجرؤ على الينابيع التي يشرب الأصوليون ماءهم منها..)!!
فهل يكون هذا شاهداً على انتحار العلمانية؟!!
=================(15/291)
(15/292)
تدشين الأممية النسوية العلمانية
قراءة في خلفيات مؤتمر المرأة ببكين
مجلة البيان - (ج 93 / ص 92)
(الحقائق والأهداف)
بقلم: د. محمد يحيى
اكتسب المؤتمر الدولي الذي عقد في بكين(*)، تحت رعاية وإعداد الأمم المتحدة، شكلاً يشبه ـ إلى حد بعيد ـ تلك المؤتمرات التي يعقدها المجلس العالمي للكنائس الكاثوليكية كل بضع سنوات؛ للخروج بنظريات جديدة في عقيدتهم، أو لوضع سياسات تنصيرية للدعاية والترويج.
ويأتي هذا المؤتمر تتويجاً لسلسلة من المؤتمرات والاجتماعات التي رعتها الأمم المتحدة، بدءاً من عام المرأة (1975م)، الذي أعقبه عَقْد المرأة، ثم عام الطفل، ثم عام الأسرة، وعقد الأسرة، وسارت معه بالتوازي في السنوات ذاتها مؤتمرات السكان المشهورة، التي عُقد آخرها منذ عام في القاهرة، حيث تلاقت أهداف وثيقته مع وثيقة وأهداف مؤتمر بكين، فهي حلقات متتابعة ينظمها الهدف الرئيس لهذه المؤتمرات، لذا: جاء مؤتمر بكين في جوهره تدشيناً لحركة ممتدة تعود إلى ما يزيد عن ربع قرن، وتتويجاً لها كعقيدة عالمية جديدة: هي الاتجاه النسوي المعروف بـ(الفمنزم)(**)، وهكذا شهد العالم مولد (كنيسة) جديدة، وعقيدة وضعية تَخْلف الدين العلماني الساقط (الماركسية) وتجدد شباب الأطروحات العلمانية الغربية.
وفي عالمنا الإسلامي مازالت الصورة غير واضحة، لا يبصرها إلا القليل ممن رحم الله، وقد تشابكت في الأذهان عدة عناصر:
أ- البعض ـ وهم الكثرة ـ مازال يرى في أمثال هذه التحركات المحمومة ـ بزعم الاهتمام بالمرأة ـ استمراراً للخط القديم الذي عرف باسم (حركة المطالبة بحقوق المرأة)، التي عرفها الشرق المسلم في مطلع القرن العشرين، وكان لها أبطالها وقديسوها، التي سارت في ركاب الحركات القومية العلمانية والمتغربة.
ولكن حركات المطالبة بحقوق المرأة تَعُدّ شيئاً مختلفاً بالنوع عن التوجه النسوي الجديد ـ وإن كان مُهّدَ له ـ ويلتقي معه في بعض الجذور الفكرية الغربية الأصل؛ ذلك لأن دعوة حقوق المرأة كانت ـ على الأقل في الظاهر ـ تدعي في العالم الإسلامي أنها تعمل في إطار القيم والأوضاع الاجتماعية القائمة؛ لتطالب بحقوقٍ للمرأة موجودة في صلب هذه القيم والتقاليد، لكنها نُسيت أو سُلبت. وفي الغرب كان الشيء نفسه؛ حيث جرت المطالبة بحقوق المرأة في التعليم والعمل والتصويت في إطار الأوضاع القائمة (أي: المجتمع البورجوازي الرأسمالي الصناعي).
ومن الصحيح أن هذه الحركات تطورت فيما بعد لتطالب بحقوق مزعومة ليس لها أساس في تراث مجتمعاتها، أو أنها اتخذت أشكالاً ثورية وفوضوية في التعبير والعمل، مما مهد بأثر غير منكور في ظهور اتجاه (الفمنزم)، لكنها كانت مختلفة عن هذا الاتجاه.
أ- أما البعض الآخر ـ وهم القلة ـ فما زالوا يرون في عباب هذه الاجتماعات والتحضيرات والوثائق.. إلخ، امتداداً لما عُرف بحركة تحرير المرأة في أوائل وأواسط القرن العشرين، التي كان لها كذلك وجود وقديسون! في عالمنا الإسلامي، ولكن هنا أيضاً توجد اختلافات عن حركة (الفمنزم) المعاصرة، بعضها نوعي، والآخر مجرد اختلاف في الدرجة والتركيز، صحيح أن حركة تحرير المرأة كانت السلف المباشر للحركة النسوية العلمانية، وصحيح أنها اشتركت معها في الجذور اللادينية الصريحة، والعداء للأديان (وبالذات الإسلام في منطقتنا)، وصحيح أنها اشتركت معها في تجاوز الأوضاع الاجتماعية والثقافية القائمة مع رفضها، وصحيح ـ كذلك ـ أنها اشتركت معها في المطالبة، ليس بحقوق معينة للمرأة، وإنما في الدعوة إلى وضع مختلف لها تماماً داخل المجتمع، مع تغيير هذا المجتمع نفسه ليتواءم مع الوضع المرتجى والمطلوب للمرأة، وصحيح ـ أخيراً ـ أنها اشتركت معها في رفض أنظمة الزواج والأسرة والقيم والتعاليم والتقاليد التي تحكمها ـ سواء في الغرب، أم في الشرق ـ داعية إلى إسقاطها، وإحلال الحب الحر ـ وغير ذلك من أشكال التحلل من القيم ـ محلها.
كل هذا صحيح، لكن حركة تحرير المرأة كانت تختلف عن عقيدة (الفمنزم) في جوانب أساسية وحاسمة؛ فلم تكن لها فلسفة فكرية تؤصل نشاطها وتسنده، كما أنها لم ترتبط بحركة عالمية تقف وراءها وتدافع عنها وتروج لها، على الرغم من أنها حاولت في وقت من الأوقات الارتباط بالشيوعية، ولا سيما في أوائل عهدها، ولأن (الفمنزم) أوجدت لنفسها فلسفة وعقيدة، ولأنها تحولت إلى حركة عالمية تتخذ من أدوات النظام العالمي أسلحة لها في حربها، فإنها قد تجاوزت إلى حد بعيد أبعاد حركة تحرير المرأة رغم أوجه الشبه والقرابة الواضحة بينهما.(15/293)
وهذه النقطة لا يدركها معظم ـ إن لم يكن كل ـ من يتعرضون بالتحليل لظاهرة مؤتمرات الأمم المتحدة، وما يحيط بها من خضم للنشاطات التي تدور حول المرأة، إذ ما زال الكثيرون ـ سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين ممن يتصدون بالكتابة لهذه الظاهرة ـ يضعونها في سياق حركة المطالبة بحقوق المرأة، أو يعتبرونها في سياق حركة تحرير المرأة، والحركة النسوية العلمانية ليست بهذه أو بتلك، فنحن أمام عقيدة شمولية تُطرح لكي تُفرض وتسود العالم كله، وتحل محل العقائد والأديان والمذاهب (وضعية أم غير وضعية). ولهذا شبهنا مؤتمر المرأة باجتماعات الكنائس الكبرى؛ ليس فقط لشمولية الموضوعات التي يتعرض لها، وإنما أيضاً لذلك الجو من التبجيل الذي أحاط بهذا المؤتمر؛ مما جعله تدشيناً لدين جديد أُعد على مدى ربع قرن، وهذا التشبيه يدل على مفتاح أساسي من مفاتيح فهم وتحليل هذه الظاهرة، يعني: على تجاوز جوانبها السطحية والنفاذ إلى أعماقها.
إن جوهر (الفمنزم) يكمن في الظاهرة العامة التي عرفها تاريخ الفكر والممارسة الغربية على مدى القرنين الماضيين، ألا وهي: ظاهرة وضع أديان وعقائد بشرية وضعية لتجنب الدين الموحى به، وسواء اعتقدنا أن هناك مؤامرة يهودية ماسونية علمانية وراء هذه الظاهرة، أم لا، فإننا لا نملك إلا أن نرصدها، بدءاً من العوالم والمدن المثالية التي حفل بها تاريخ الفكر الأوروبي في القرن السادس عشر وما بعده، إلى عقيدة التنوير في القرن الثامن عشر، وعقيدة أو دين (عبادة العقل) في آخر هذا القرن، ودين (عبادة المرأة) الذي ألّفه العالِم (العلماني) (أوجست كومن) في أوائل القرن التاسع عشر. ثم هناك الأديان العلمانية المشهورة: كنظام (هيجل) الفلسفي، ثم نظريات (ماركس) التي أنجبت الشيوعية والاشتراكيات المختلفة ـ من مثالية إلى علمية ـ، وأخيراً: فلسفات الغرب الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ من الوضعية، إلى الليبرالية، إلى النزعة العلمية وفلسفة العلوم، والنفعية (البراجماتية)، إلى الوجودية، والظواهرية.
والدين الوضعي العلماني هو مذهب فكري يدعي أنه يحل محل الأديان الغابرة في الغرب (كالنصرانية واليهودية)، ويفسر كل جوانب الحياة بفعل مبادئ عامة يرسيها، كما يوجه بفعل نفس المبادئ إلى سبل الحياة السعيدة. وهذه العقائد العلمانية تشترك في رفض الوحي المنزل، بل ورفض وجود الإله ذاته، وتجعل من الإنسان ـ أو من المبادئ التي تبتدعها ـ وحياً منزلاً لا يناقش ولا يُرد، وهي تتوسل في دعاويها بادعاء أنها علمية الطابع والمنهج؛ نظراً للقداسة التي أصبح العلم التجريبي يحظى بها باعتباره مصدراً للحق واليقين بديلاً عن الأديان الساقطة. غير أن الأديان العلمانية ذاتها أخذت تتعرض للسقوط واحداً تلو الآخر؛ بفعل النقد الذي وجّه لها من داخلها أو من خارجها.
ومع ذلك السقوط المتتالي للأديان العلمانية، نشأت مشكلة في مجمل الوضع العلماني الذي أصبح محور وجود وفكر المجتمعات الغربية، ذلك لأن الأديان الوضعية أصبحت تؤدي وظائف مهمة على مدى القرنين الماضيين داخل هذا الوضع العلماني؛ فهى التي تزوده بالسند الفكري و (الروحي) ـ إن جاز التعبير ـ، وترسم رؤيته للحياة، وتحدد الأهداف والمثل التي توضع للمجتمعات لتحقيقها، كما أن هذه الأديان الوضعية هي التي تضمن للغرب إحساسه بالتفوق على الآخرين بحكم امتلاك (الحق) و (العلم) و (اليقين)، فضلاً عن أنها هي التي ضمنت للغرب إضفاء غطاء فكري على حركة الاستعمار، ثم الاستعمار الجديد، ثم النظام الرأسمالي الدولي، وأخيراً النظام العالمي الجديد، وكلها موجهة ضد ما يسمى بالعالم الثالث، وهو في الحقيقة العالم الإسلامي، فالغرب وهو يحتل ويستغل وينهب موارد العالم الإسلامي: يفعل ذلك تحت شعار هذه المبادئ والعقائد العلمانية (النبيلة!) و (السامية!)، والأهم من ذلك: أن الوضع العلماني المسيطر في الغرب أدرك أنه لضمان استمرارية النهب والسيطرة فلابد من إلغاء الدين، الذي يبعث في نفوس المحتلين الثورة والرفض، وإحلال المذاهب العلمانية نفسها محله كأديان جديدة، تضمن أن الأجيال الناشئة والطبقات الحاكمة في ذلك (العالم الثالث) ستكون تابعة للغرب؛ لأنها تشاركه أفكارها، بل وتعتبرها المنقذ الوحيد لها، وتفرضها على شعوبها بالحديد والنار.
لهذه الوظائف الحيوية التي تلعبها المذاهب العلمانية داخل الغرب وخارجه في ظل سيطرة الوضع العلماني: كان لابد ـ كهدف اجتماعي ـ حيوي من تجديدها كلما شاخت، أو اختراع بديل كلما سقط دين منها، وأصبحت هذه المهمة ملحة في الربع قرن الماضي بعد جلاء فشل الماركسية والليبرالية (وهي آخر الأديان الوضعية الكبرى) وسيادة أفكار الشك والريبة والنسبية المطلقة ورفض الثوابت، في فترةِ ما أصبح يعرف بعهد ما بعد الحداثة.(15/294)
وفي هذا السياق العام بالضبط تأتي حركة (الفمنزم) النسوية العلمانية كدين جديد، لكنه دين أخطر من الأديان الوضعية السابقة؛ فإذا كانت الماركسية مثلاً قد حاولت إحداث صراع بين قلة وكثرة وعلى أرضية اقتصادية بحتة، فإن (الفمنزم) تحدث انشقاقاً في وسط المجتمع، وعلى أسس شاملة تمس أدق جوانب حياة الإنسان؛ لتعيد صياغتها وفق النهج العلماني الراسخ في الغرب.
ولكن: ما المبادئ العامة التي تطرحها الحركة النسوية العلمانية وتجعلها محل الدين، والتي تتستر وراء كل هذه المظاهرات الصاخبة من مؤتمرات، وضجيج إعلامي، وسياسات تنفذ بالقوة ـ وبخاصة في المجتمعات المسلمة ـ؟.
إنها ليست مجرد المطالبة بحقوق للمرأة أيّاً كانت، وأيّاً بلغت درجتها من المعقولية، أو الشطط، بل هي الدعوة إلى تغيير شامل وجذري، وقلب لكل المفاهيم ـ بدون استثناء ـ التي ظلت البشرية تنظر بها إلى المرأة، وبخاصة المفاهيم الدينية، فبالاستناد إلى شذرات مقتطفة من الماركسية والليبرالية وعلوم الأنثروبولوجيا، تعمد (الفمنزم) إلى تصوير التاريخ البشري وكأنه دراما كبرى قام فيها الرجال ـ ومنذ عهد مبكر ـ بقلب الأوضاع التي كانت المرأة فيها صاحبة السيادة والطّوْل (المجتمع (النسوي))، ليقيموا محلها المجتمع (الرجالي) الذي تبشر (الفمنزم) بسقوطه، لكن المستهدف ليس مجرد عكس للأوضاع بشكل مبسط ليعود للنساء الحكم والسيطرة، ويرجع الرجال إلى عهد العبودية القديمة المزعوم.
إن المطلوب عبر سلسلة طويلة من الخطط والإجراءات: هو إلغاء الجنس ذاته، أي: جنس الرجال والنساء معاً، بكل ما ينطوي عليه من مفاهيم و (أدوار) ثابتة تكرسها الأديان المنزلة، وإحلال الجنس بمفهوم (النوع)، الذي يعني: أن يكون المخلوق البشري مادة خاماً محايدة تخلو من الملامح والقسمات التي درجت البشرية على التمييز من خلالها بين النساء والرجال كجنسين مختلفين لكل منهما أوضاع وأدوار محددة، يقوم بها داخل المجتمع والأسرة، وتدور حول تحليل مفاهيم (العلمانية).
ولا يوجد مانع داخل إطار هذا المفهوم الجديد، أن يقوم أفراد هذا النوع المحايد العام ـ ولفترات محدودة فقط ـ بانتحال بعض الأدوار التي كانت في (الماضي الغابر) تنسب للرجال أو النساء، شريطة أن يقوم الرجال بأداء أدوار النساء التقليدية والعكس، ومن المهم هنا أن نذكر أن هذا المفهوم الذي تروج له (الفمنزم) يمثل في الوقت نفسه الأساس (الفكري) لحركات الشذوذ الجنسي التي أصبحت في السنوات الأخيرة ذات نفوذ واسع في دوائر الثقافة والإعلام والمجتمع ـ بل والسياسة ـ في الدول الغربية، والتي لن تصبح (شاذة) بعد تطبيق مفهوم (النوع المحايد)، بل ستصبح هي أكثر الأوضاع طبيعية واعتيادية.
هذا هو الهدف العام وراء غابة النشاطات والمؤتمرات التي تخلقها الحركة النسوية العلمانية من خلال مؤسساتها الدولية والمحلية، إنه الغاية الكبرى وراء كل الشعارات التي يجري عليها الإلحاح بشكل محموم حول (تمكين المرأة)، وإكسابها النفوذ الاقتصادي والسياسي، و (إلغاء التقاليد) المعوقة لتقدمها، ونشر (التعليم) الجنسي، وإدماج كل أشكال الانحراف (من الزنا إلى الشذوذ) لتصبح أوضاعاً طبيعية.
نحن ـ إذن ـ أمام حركة تسعى إلى إلغاء جنس المرأة نفسه، وكل ذلك تحت شعار الدفاع عن المرأة وضمان تقدمها، لكنه التقدم الذي يؤدي إلى إلغاء الجنس ذاته مع جنس الرجال، ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا أصبحت هذه الحركة عالمية الطابع؟ ولماذا أصبح لمؤتمر بكين كل هؤلاء المدافعين والأنصار في عالمنا الإسلامي؟!
الإجابة على السؤال الأول هي: إن هذه الحركة تسد فراغاً عقديّاً في مجتمع وصل به الخواء حد اعتبار الحملة ضد التدخين بمثابة أهم الأعمال الأخلاقية، كما أنها حركة تضمن لذلك المجتمع (الغربي) إسقاط ذاته وبسطها على المجتمعات التابعة (الإسلامية والنامية).
أما الإجابة على السؤال الثاني فهي في نوعية الجهات التي تحتضن هذه الحركة في عالمنا العربي الإسلامي، إنها النخب العلمانية ذات الهيمنة على مجريات شؤون مجتمعاتنا، وهي، وإن كانت محدودة العدد، إلا أن سيطرتها على مفاتيح مؤسسات الإعلام والتعليم والثقافة ـ بل والسياسة ـ تعطي لها نفوذاً يفوق حجمها بكثير.
ونعود إلى مؤتمر بكين، وهو كما قلنا التتويج العملي لحركة (الفمنزم)، أو كما صرح عضو مجلس الشيوخ الأمريكي البارز السناتور (هيلمز) في 27 يوليو الماضي من أن المؤتمر: تديره وتحدد أفكاره جماعة محدودة من النساء اليساريات (وهذا اللفظ من الاصطلاح الأمريكي يتضمن معاني العلمانية الملحدة) اللواتي يعملن لهدم قيم الأسرة وسائر التعاليم الأخلاقية.
لقد اتخذ مسار تبرير توصيات ووثائق وبرامج هذا المؤتمر في العالم الإسلامي خطين أساسيين:(15/295)
الخط الأول: بناه أنصار الحركة النسوية العلمانية ممن هم في مواقع السلطة الرسمية، أو الناطقين باسمها (كبعض المفتين الرسميين)، وقد اعتمد هذا الخط على تجاهل كل مخططات المؤتمر والتركيز في الدعاية الإعلامية على رسالة غير معقدة تقول: إن هذا المؤتمر يبحث في حقوق المرأة؛ وإن الإسلام يحض على حقوق المرأة؛ لذا: فإن المشاركة في المؤتمر وتبني توصياته وسياساته في هذا الإطار عمل لا غبار عليه إن لم يكن من صميم الإسلام(!)، لكن أصحاب هذا الخط يتجاهلون أن حقوق المرأة في الإسلام غير حقوق المرأة التي تدعو إليها الحركة الواقفة وراء مؤتمر بكين، فليس من هذه الحقوق حق الزنا، والحمل السفاح، والشذوذ، وهي حقوق رتبها هؤلاء في زعمهم كعلامات للتقدم، وليس من حقوق المرأة في الإسلام أن ترفض الدين بحجة أنه متخلف ومعادٍ للمرأة لمجرد أن اليساريات الأمريكيات يقلن ذلك، ثم إن حقوق المرأة في الإسلام تقترن بواجبات معينة أهدرها أصحاب مؤتمر بكين: كواجبات الأمومة، ورعاية الأسرة.. وحقوق المرأة في الإسلام تؤخذ وتمارس في سياق الإيمان المشترك، وفي سياق الأمة الواحدة المتكاتفة، أما الحقوق المزعومة التي يرتبها مؤتمر بكين: فتدار من خلال عملية حادة تشق صفوف المجتمع، ولا تؤخذ إلا على جثة حقوق الرجال، أو حتى وجودهم كجنس متميز، وهي تمارس في سياق مجتمع يعادي الإيمان بالله وينشيء دعائم الإلحاد تحت شعارات العلمانية.. ليس الأمر إذن سوى حركة خداع ساذجة!!.
أما الخط الثاني الأساس الذي يتخذه مسار تبرير توصيات المؤتمر فهو لا يخلو كذلك من الخداع، ويمثل هذا الخط الدوائر العلمانية التي لا ترتبط مباشرة بالسلطة مما قد يكون عاملاً يفرض عليها حرجاً في التعبير عن التوجهات والآراء والمشاعر. يقوم هذا الخط على أن قرارات مؤتمر بكين هي في حقيقتها مواصلة لحركة تحرير المرأة، وأن الإسلام يدعو لتحرير المرأة، فالمؤتمر ـ على هذا الوجه ـ يحقق هدف الإسلام، ولكن الإسلام (التقدمي العلماني)، وليس الإسلام (الرجعي) (الظلامي) ـ في زعمهم ـ الذي يسود الدنيا الآن!!.
إن الإسلام حرر المرأة كما حرر الرجل من الجاهلية والضلال، ولكن أنصار مؤتمر بكين يريدون تحرير المرأة من الإسلام نفسه، أو من الإيمان به وقيمه وتعاليمه وشريعته، وشتان ما بين النوعين من التحرير. وتحرير المرأة الإسلامي يتم في إطار شامل لكل المجتمع، لكن تحرير مؤتمر بكين يتم على أشلاء المجتمع وبعد صراع مرير يتم فيه إلغاء جنس الرجال، ثم جنس النساء نفسه، وصولاً إلى (النوع) البشري الذي يصلح لكل أدوار الأجناس: الخشن، والناعم، والثالث، إنه تحرير يتم عبر التدمير، وليس تحريراً يتم عبر البناء والتعمير؛ تدمير الأسرة، وتدمير كل القيم الإنسانية، بحجة أنها كانت مجرد مواضعات نسبية زال أوانها منذ عصور سحيقة.
هذه هي المحاور التي يدور حولها تبرير قرارات مؤتمر بكين، والترويج لها، والدفاع عنها، وهي محاور ـ كما رأينا ـ تعتمد أساساً على تجاهل الأبعاد الحقيقية لهذا المؤتمر، كما لاحظناها فيما سبق، وتصور نتائجه في إطار محدود ومستأنس ـ فيما يبدو ـ كمجرد دفاع عن حقوق للمرأة وتحرير لها من أوضاع ظالمة، لكن أحداً لا يخوض ـ جهلاً أو خبثاً ـ في حقيقة الحركة النسوية العلمانية التي توجت جهودها بمؤتمر بكين.(15/296)
لكن ما يهمنا حقيقة من المؤتمر: أن القرارات والتوصيات التي تصدر عنه وعن أمثاله من المؤتمرات تتحول على الفور إلى أوامر وسياسات، تلتزم جميع الأجهزة الحكومية وغير الحكومية في البلدان الإسلامية بتنفيذها، وكأن هناك حكومة عالمية تقوم على هذه التوصيات، ولا تهدأ حتى تراها مطبقة على واقع الحياة. وإذا كانت المظاهر الواضحة لهذه الحكومة العالمية تتمثل في الأمم المتحدة ووكالاتها في أخطبوط الإعلام الدولي الممتد والمسيطر بأقماره الصناعية، وفي شبكة ما يسمى المعونات الأجنبية، التي هي أداة التدخل والتأثير في الدول الإسلامية في العصر الحديث.. فإن هناك مظاهر أخرى غير واضحة لهذه الحكومة العالمية ـ أو ما يسمى بالنظام الدولي الجديد ـ أبرزها على الساحة الإسلامية العربية: تلك التجمعات للنخب العلمانية في أندية ومحافل ومنابر وروابط يطلق عليها الآن وصف (المنظمات غير الحكومية): وتزعم النشاط في مجالات حقوق الإنسان، والبحث العلمي والفكري، والخدمات الاجتماعية، وبالطبع حقوق الإنسان وأوضاع المرأة، وعلى الرغم من وصف (غير الحكومية) الملحق بهذه التجمعات إلا أنها في الواقع تمارس نفوذاً قويّاً على الحكومات المحلية بمستوياتها المختلفة من أعلى إلى أسفل، بل إنها تمارس نفوذاً يفوق نفوذ هذه الحكومات، وذلك بفضل اندماجها في الشبكة العالمية لهذه المنظمات، وبالفعل: فقد أصبحت هذه (المنظمات غير الحكومية) الذراع الأساس للحكومة العالمية في فرض وإعمال كل السياسات الموضوعة في مؤتمرات المرأة والسكان، وآخرها مؤتمر بكين، وقبله مؤتمر القاهرة، إن هذه المنظمات التي تضم نخباً نسوية علمانية منعزلة عن مجتمعاتها الإسلامية أصبحت تستمد قوة كبيرة بفضل الدعم المالي والمعنوي الذي تتلقاه من شبكاتها الخارجية، بل إنها أصبحت أكثر ارتباطاً بالوضع العلماني الغربي من ارتباطها أو حتى صلتها بمجتمعاتها المحلية، وتحولت إلى مجرد فروع للحركة العالمية للمنظمات غير الحكومية العاملة في مجالي المرأة والسكان.
إن المنظمات غير الحكومية المنعزلة عن مجتمعاتها، والتي لا توجد لها جذور في أرض المجتمعات الإسلامية تمارس نفوذاً لا تناسب بينه وبين الحجم الحقيقي لأفرادها ووزنهم الفكري، ويعود ذلك إلى الاندماج في النظام الدولي الجديد والارتباط به لأداء دور الفروع من خلال شتى أنواع الدعم، كما يعود إلى الالتصاق بالسلطات السياسية والتنفيذية القائمة من خلال اختراقها والنفاذ إلى القمة فيها ـ ولا سيما زوجات الرؤساء ذوات الميول المتغربة ـ .
إذن: نحن نواجَه حقيقةً، ليس بحركة فكرية (في مجال (الفمنزم) أو الحركة النسوية العلمانية) تسعى إلى نشر أفكارها بوسائل الإقناع والحجة وما أشبه ذلك، بل بحركة تآمرية الطابع تتوسل إلى أغراضها بأسلوب التآمر الخفي، وإجبار المجتمعات الإسلامية على تنفيذ وإطاعة سياسات لا توجد لها أية جذور في الأرضية الإسلامية.
وهكذا.. فرغم أننا نبدو بعيدين عن مؤتمر بكين وأمثاله والقرارات الصادرة عنه، ورغم أننا نبدو بعيدين عن شطحات أفكار ومبادئ (الفمنزم)، إلا إننا نجد ـ ولا أقول نفاجأ ـ بأن هذه الأفكار تطبق في بلادنا الإسلامية كسياسات فعلية تنفذ بقوة القانون دون أن يكون قد سبق حتى التبشير بها، أو كسبت الأنصار لها، واللجوء إلى هذا الأسلوب المشبوه في الفرض والإجبار يدل على أن مروجي هذه الأفكار والسياسات واثقون من أنه لو طرحت على حقيقتها فإنها لن تجد أي صدى مهما كانت درجة لمعان الشعارات التي تحيط بها.
هذا هو الأسلوب الذي تُفرض به علينا مخططات نرفضها، ونقدم الحجة ضدها، ونقول: إنها تخالف عقيدتنا وتاريخنا وتراثنا وشريعتنا، لكننا ـ مع ذلك ـ نجدها مطبقة ومنفذة بشكل يبدو سحري الطابع، لكنه يعود في الحقيقة إلى أسلوب التآمر غير الشريف الذي ألمحنا فيما سبق إلى بعض جوانبه وآلياته.
هذه هي الحقائق وراء كل الضجيج والصخب والبريق الذي أحاط بمؤتمر بكين.
__________
(*) عقد المؤتمر في بداية الأسبوع الأول من شهر سبتمبر الحالي، وينقسم المؤتمر من حيث اللقاءات إلى محورين:لقاءات وفود الدول الرسمية، ولقاءات المنظمات الدولية المتخصصة، وحضره ما يزيد عن سبعين ألف مشارك ومشاركة، بالإضافة إلى الوفود الحكومية.
ومما تجدر الإشارة إليه: أن (التجمع الإسلامي في أمريكا الشمالية) شارك في هذا المؤتمر في خطوة رائدة مشكورة، وهو المنظمة الإسلامية الوحيدة المشاركة ـ فيما نعلم ـ. ويمثل التجمع في هذا المؤتمر وفد مكون من عدد من طلبة العلم والأساتذة المتخصصين، وألقوا ـ بلغات مختلفة ـ عدداً من المحاضرات لبيان الصورة
الحقيقية للمرأة في الإسلام، كما أصدر التجمع عدة كتب وأبحاث وزعت في المؤتمر، منها: كتاب: (شبهات حول المرأة المسلمة) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، بسبع لغات حية،وكتاب: (مكانة المرأة في الإسلام) للشيخ علي التميمي، باللغة الإنجليزية.
- البيان -(15/297)
(**) الفمنزم (Feminsm) هي: نظرية المساواة بين الجنسين سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً. ومن المفيد الرجوع إلى مقال: (الحركة النسوية ـ إطار للفهم)، للدكتور محمد يحيى، المنشور في العدد (83).
- البيان -
=============(15/298)
(15/299)
هل الإسلام دين علماني؟!!
مجلة البيان - (ج 108 / ص 86)
العلمانيون.. وعلمنة الإسلام
بقلم: د. محمد يحيى
أثارت الفكرَ في نفسي عبارةٌ وردت عرضاً ـ ولعلها بحسن نية ـ في مقال لكاتب يتحدث عن تشكيل الحكومة التركية برئاسة «نجم الدين أربكان» زعيم حزب الرفاه.
قال الكاتب: إن هناك حقيقة غائبة في الإعلام الإسلامي ، ألا وهي: وجود تقارب بين العلمانية في رفضها للكهنوت والإسلام في رفضه المماثل لادعاء الحق الإلهي ـ كما جاء في المقال ـ.
والحق:إن القول ـ أو الزعم ـ بوجود تقارب أو تشابه بين العلمانية والإسلام ليس بجديد، لقد ذهب كثيرون غير الكاتب ـ مثلاً ـ منذ فترة إلى القول نفسه ، حيث قالوا: إن الإسلام بطبعه دين علماني؛ لأنه يهتم بأمور الدنيا والحياة الحاضرة بدلاً من أمور الآخرة، وقالوا: إن الإسلام والعلمانية يلتقيان في الإيمان بالعقل وتحبيذه ، وفي اعتناق الديمقراطية والليبرالية ، وفي الاهتمام بالنزعات المادية ، وقبل كل شيء: في الإيمان بالتوجه الإنساني (هيومانزم) وقبول مبادئ النسبية والتاريخية وما أشبهها.
وقبل الخوض في هذه الدعوى العريضة ينبغي أن نوضح سياقها: فهي تجيء في معرض محاولة اكتساب القبول للعلمانية بين الجماهير المسلمة ، بتصويرها وكأنها تكاد تتفق ـ بل تتطابق ـ مع الإسلام ، وهي محاولة تعمل كذلك ـ وفي الاتجاه المقابل ـ إلى تطويع الإسلام للعلمانية ، بإلغاء تميزه وتفرده وهويته التشريعية والعقائدية ، ولكن في كلتا الحالتين فإن الهدف واحد، سواء في أسلمة العلمانية أو علمنة الإسلام ، وهو: نزع الخشية الجماهيرية من العلمانية باعتبارها نبتاً غربيّاً غريباً ، يراد فرضه على الواقع الإسلامي.
ونلاحظ في هذا الصدد أن تلك العملية مرحلية فقط، وأنها تتم في سياقٍ تكون فيه العلمانية جديدة أو غير متمكنة إلى الحد الكامل؛ مما يستدعي القيام بالتمويه والخداع وتصوير الإسلام بأنه علمانية أو العلمانية على أنها الإسلام، ولكن ما أن تتمكن العلمانية فإن الخطاب يتغير إلى لغة الإقصاء والإبعاد والرفض، وهذا هو ما تشير إليه، ليس فقط التجارب التاريخية القديمة في تركيا أو إيران أو أفغانستان ، بل التجارب الراهنة ، وبالذات في الوسط الثقافي والفكري في بلدان كمصر والجزائر مثلاً.
والسؤال الذي ينبغي مواجهته رأساً هو: هل يوجد تقارب بأي درجة بين الإسلام والعلمانية؟ ، وهل يكفي مجرد ذكر رؤوس مواضيع ، يوحى بأن فيها تشابهاً في المواقف للقول بوجود مثل هذا التقارب؟ ، والأهم من هذا كله: هل يوجد تشابه أو تقارب حقيقي في المواقف ، أم إن المسألة لا تعدو عملية تفسير وتأويل وتأول بارعة ماكرة توحي بوجود مثل هذا التقارب؟ ، ولنأخذ هذا التساؤل الأخير مدخلاً لنا ، ونسأل: هل فعلاً يوجد تقارب بين العلمانية والإسلام لمجرد ـ مثلاً ـ أن هذه ترفض الكهنوت وهذا يرفضه؟ ، لقد ساق الكاتب المشار إليه هذا المثال باعتباره حقيقة لا يتطرق إليها الشك ، وقد تكون كذلك ، لكن ذكر الأمور على هذا المستوى من العمومية والتجريد يدخلنا إلى حد الإبهام والغموض ، فهل حقّاً ترفض العلمانية الكهنوت؟! ، إننا نجد تكريساً له في مفهوم «أوجست كومت» أحد أبرز دعاة الوضعية إلى دين صناعي فلسفي تكون له كنيسة وكهنوت خاص به؟ ، وهل ترفض العلمانية الكهنوت أم إنها ترفض الكنيسة كلها والدين (المسيحي والإسلامي) والعقائد والأفكار الدينية ، حتى ولو كانت بدون كهنوت؟.
إن القول برفض العلمانية للكهنوت يخفي حقيقة أن العلمانية ترفض الدين نفسه ، وإلا فإن البروتستانتية ـ وهي مذهب مسيحي كبير ـ ترفض الكهنوت الكنسي ، حتى وهي تدعو في تجلياتها الحديثة إلى أصولية مسيحية طاغية ومتطرفة.
وبالمثل: فهل عندما يرفض الإسلام الكهنوت يرفض معه الدين والعقيدة؟ ، لا أحد يستطيع القول بذلك؛ لأن الإسلام نفسه دين.
وإذا قلنا: إن الإسلام يرفض الكهنوت ، فإن هذا يعني أنه يرفض الأسلوب الكنسي المعروف ، في ضرورة وجود عناصر خاصة لا تكتمل العبادة ولا ترفع إلا بها ، بل لا يكتمل الدين والإيمان نفسه إلا بمباركتها وتطويبها ، لكن هذا لا يستتبع أبداً رفض وجود فئة من الفقهاء والعلماء تدرس الدين ، عقيدته وشريعته ، وتتخصص فيهما ، وتنصح وتوجه غيرها من فئات الأمة التي لا تسمح لها ظروف الحياة وكفاحها بمثل هذا التخصص ، لكن هذا لا يمنع أي فرد أو أي جماعة من الدراسة والتخصص والاطلاع على هذا النحو ، فالدين مفتوح ، وهذا هو معنى رفض الإسلام للكهنوت.
ونلاحظ أن العلمانيين عندما يرفعون الصوت عالياً بأن الإسلام يرفض الكهنوت ، فإنهم يقصدون ـ كما تدل الأحداث ـ رفض آراء وفتاوى وشروحات الفقهاء والعلماء المسلمين التي تزعجهم؛ لقيامها على العلم الصحيح بالإسلام.(15/300)
وينطبق التحليل نفسه على سائر النقاط التي يقال عادة: إن هناك تقارباً بين الإسلام والعلمانية فيها، والتي كان حظ بعضها في المعالجة وفيراً ، كمفهوم الديمقراطية والليبرالية بين الإسلام والعلمانية مثلاً، أو مفهوم العقل فيهما ، ولكننا هنا نضرب مثلاً لرأس موضوع آخر يقال إن فيه مِثْلَ هذا التقارب، ألا وهو: التركيز على النزعة الإنسانية ، أو ما يعرف بـ (الهيومانزم) ، لقد قيل كلام كثير عن التقاء الإسلام بالعلمانية في هذه النقطة؛ لأن الإسلام قد كرم الإنسان وأعلى من شأنه؛ بينما تدعي العلمانية في جوهرها أنها هي الفكر الذي جعل من الإنسان «معيار كل شيء» ، كما يقول المثل العلماني الأشهر ، ولكن: هل إعلاء الإسلام لشأن الإنسان مثل إعلاء العلمانية لشأنه؟ ، من الواضح أن الاتجاهين على طرفي نقيض في هذه الناحية؛ فالعلمانية تجعل الإنسان (ككائن مجرد مطلق) بديلاً عن الإله الذي رفضته أو أبعدته عن العالم ، وتجعله الواضع لكل القيم والمعايير ، كما تجعله الهدف الأسمى الذي يصب كل شيء في خدمته مهما كان ، أما الإسلام: فلا يجعل الإنسان على هذه الدرجة أو الكيفية من التأله والإطلاق والغائية ، كما أنه ليس هو واضع القيم العليا والمبادئ الكلية ، وهو يستمد تكريمه من خالقه، وليس من مجرد كينونته هو، كما أن هذا التكريم مقصور على النواحي المادية الدنيوية بالنسبة للجميع ، لكنه في الآخرة يقتصر على المؤمنين المقبولين وحدهم.
إذن: نلاحظ مرة أخرى أن هناك خلطاً متعمداً ، فيكفي عند هؤلاء أن يجيء في القرآن أن الله كرم بني آدم حتى تعقد المقارنات مع العلمانية التي كرمت الإنسان كما زعمت حتى وإن كان العالم قد عرف في عهود العلمانية من الجرائم في حق الإنسانية والإنسان ما لم يعرفه في عهود الوثنية والأديان السالفة.
إن الطرح القائل بوجود تقارب بين مواقف الإسلام والعلمانية حول عدد معين من القضايا الفكرية والاجتماعية يعبر في ضحالته عن اتجاه في المحاججة ، نلمسه عند بعضهم في تناولهم لشتى المسائل والأفكار ، ونعني بهذا الاتجاه المعيب: الوقوف عند ظواهر المصطلحات أو على معانيها الأولية المبهمة غير الدقيقة؛ مما يسهل تمرير أي موقف ، ويسهل كذلك من القول بالتقارب أو حتى التماثل بين ذلك المذهب وتلك الفلسفة ، ولكن ما إن نبدأ في بحث دقيق حول نطاق المعاني والمضامين المبثوثة في مصطلحات أو مقولات معينة.. إلا ونلاحظ الفروق الجلية بين المذاهب ، ومن الأمثلة على ذلك: مفهوم «الإله» في الإسلام والمسيحية ، فقد درج بعض الناس على القول بتوحد الأديان السماوية ـ كما يطلق عليها ـ؛ لأنها كلها تعبد الإله نفسه! ، ولكن مفهوم «الألوهية» في الإسلام يختلف اختلافاً نوعيّاً وجذريّاً عن مفهوم «الرب» في النصرانية المتداولة ، أو في اليهودية.
وقد يكون لدعوى التقارب بين الإسلام والعلمانية مبرراتها السياسية الآنية عند بعض أولئك ممن ينشغلون بالمناورات والتحركات السياسية ، لكنها غير مبررة ولا منطقية في عرف الفكر الصحيح.
===============(15/301)
(15/302)
هذا موقف العلمانية من الإسلام
وهذا موقفنا منها
مجلة البيان - (ج 114 / ص 4)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الصراع بين الحق والباطل حقيقة أزلية معروفة عبر التاريخ، وهو سنة يعرفها كل متدبر وتالٍ لآيات الذكر الحكيم، ويجدها في المواجهة بين الأنبياء وأعدائهم من الكافرين برسالتهم، ويتكرر بصور مماثلة عبر العصور بين الدعاة والمصلحين ومناوئيهم حينما يقفون بكل تبجح أمام الحق وأهله، رافضين جملة وتفصيلاً ما يدعو الدعاة إليه من حق وما يطالبون به من تحكيم لشريعة الله، فالعلمانية بخيلها ورجلها تقف بكل صلف ضد أي توجه إسلامي يقوم في أي بلد مسلم مثيرة الشبهات ضده والإساءات المتوالية لكل منتمٍ له، بدعاوى أن أولئك رجعيون ومتطرفون وإرهابيون؛ لهدم هذه الاتجاهات أمام الشعوب، وتخويفها منها بالكذب والتزوير.
لقد وصف الله المنافقين أوصافاً دقيقة، تنبئ عن حقيقة ما يضمرونه من سوء في الوقت الذي يتظاهرون فيه بالإسلام، وكأنه وصف لجوقة العلمانيين في عالمنا الإسلامي اليوم، يقول (جل وعلا): ((وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأََرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أََلا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)) [البقرة:11،12].
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء..، والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدّاً في كل زمان، يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم، فيتعذر على أولئك أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يستند إلى أسس شرعية.
إن ظهور الإسلام هو بداية غيظ ورعب لأعداء هذا الدين وخصوم المنتمين له في كل حين، فهو يؤذيهم ويخيفهم؛ لأنه من القوة والمتانة بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغٍ، ويكرهه كل مفسد.. لما فيه من حق أبلج ومنهج قويم، فهو مضاد للباطل والبغي والفساد؛ ومن ثم: لا يطيقه المبطلون والبغاة والمفسدون، لذلك يرصدون لأهله، ليفتنوهم عنه.
علمانيو تركيا نموذجاً: وصورة هذا العداء السافر لم تتبين بشكل واضح جلي كما تتضح اليوم في الحرب الشعواء التي يشنها العلمانيون على أهل الإسلام ودعاته في كثير من ديار الإسلام، وبشكل أخص فيما يقوم به تلاميذ الرجل الصنم (أتاتورك) من دعاة الطورانية الملحدة سواء من الأحزاب العلمانية التركية أو عن طريق الجيش التركي الذي يعتبر نفسه حامي الدستور العلماني هناك، وهذا الولاء الذي يدينون به له ـ والذي جعل (أتاتورك) يحكمهم به من قبره ـ لم يأت من فراغ، فهو نتيجة بناء أسسه المذكور المشبوه بانتمائه للدونمة ذوي الأصول والاتجاهات اليهودية، ومواقفه من الإسلام تؤكد ذلك، والعساكر الممسكون بأَزِمّة الأمور اليوم هم خريجو المؤسسة العسكرية التابعة للجيش الذي تحول إلى مفرخ للقادة والضباط المؤمنين بالمبادئ الطورانية، وجل ضباط الجيش التركي هم من ذلك الصنف؛ فلا عجب أن نراهم حماة لتلك المبادئ العلمانية المتطرفة التي لا تطيق للإسلام صوتاً، فضلاً عن أن يحكم أو يعمل في الهواء الطلق، ولذلك: كان لهذا الجيش موقفه الصارم من التدخل المباشر في تعديل أي مسار ضد أي تجاوز للمبادئ العلمانية منذ عام 1960م، حينما تدخل لإيقاف حكومة (عدنان مندريس) الذي أعلن في برنامج حزبه الذي نال به الأغلبية وترأس الحكومة آنذاك منادياً بفتح مدارس تحفيظ القرآن، وإعادة الأذان بالعربية!.. فما كان من قادة الجيش ذوي الاتجاهات نفسها إلا أن أسقطوا الحكومة، وأعدموا رئيسها وبعض وزرائه؛ بدعوى الخروج عن (المبادئ الكمالية)!، ثم حصل التدخل عام 1970م مرة أخرى، ثم في عام 1981م.. فموقفهم من الإسلام موقف حياة أو موت كما ذكروا، ولولا الخوف من العواقب الوخيمة للانقلاب العسكري الآن لأوقفوا (أربكان) الذي استطاع بكل دبلوماسية أن يقف في وجوههم وأن يفتح العيون أمام الجميع على تدخلاتهم التسلطية في أعمال الحكومة المنتخبة عن طريق ما يسمى بـ (مجلس الأمن القومي التركي) بشكل لا يمكن أن يحدث في أي بلد متحضر.
والأخذ والرد الحاصل من التدخل العسكري ضد حكومة (أربكان) ومحاولة إسقاطها بالتعاون مع الأحزاب العلمانية الهزيلة يكشف إلى أي مدى وصل العداء القائم بين الإسلام والعلمانية، ويكشف أيضاً هلعهم من أي مظاهر إسلامية مهما كانت محدوديتها، وهذا الخوف من عودة الإسلام مرجعه إلى الخوف على أنفسهم؛ لكثرة ما طغوا وبغوا في البلاد، فكم أذلوا الناس واستباحوا كرامتهم؟، وكم أساؤوا إلى دينهم وعقيدتهم بدعوى الحفاظ على المبادئ الأتاتوركية؟، ولا ندري لحساب من يجري هذا الإرهاب العلماني على الأمة والرفض المطلق للعودة لما تدين به الأمة وتعتز؟، ولماذا الصمت المريب من المجتمع الدولي على خروقات الديمقراطية! التي يهمهم أمرها؟.(15/303)
إن العلمانية ليست ـ كما يشاع ـ مجرد فصل الدين عن الدولة، بل هي في نهاية الأمر وحقيقته: فصل الدين عن الحياة، ليتصرف الحاكمون بأمرهم على إشاعة الباطل وتدجين الأمة على قبول الهوان والتبعية للأعداء بتقنين الباطل وحكم الطاغوت.
ومن العجب أن يتحدث نفر من المنسوبين للإسلام بكل سذاجة وبورع بارد حينما يدعوننا ألا نتحدث عن خطر العلمانية، وألا نفضح العلمانيين، وألا نتهمهم بالخروج والضلال المبين.
كيف لا نتهمهم بكل ذلك وأهدافهم أصبحت مكشوفة للجميع؟، وكيف لا نفضحهم وأفكارهم الرافضة للدين بانت لكل ذي عينين؟، وكيف لا نحذر الناس من شرورهم وتلك هي مواقفهم واضحة من الإسلام وعلمائه ودعاته والمنتسبين إليه؟.. أين الحرية الشخصية التي تضمنتها دساتيرهم إياها ذرّاً للرماد في العيون؟، أين حقوق الشعوب في تعلم ما تدين به؟.. بل أين مظاهر الإسلام حتى الشكلية منها؟!.
لقد أكد كثير من علماء الإسلام أن حقيقة العلمانية هي رفض للدين أن يكون حاكماً، بتنحية الإسلام عن الحياة في كل الأمور؛ والآن تقاتل العلمانية لمنع تحكيم الإسلام وعودته من جديد حتى بالوسائل الديمقراطية التي يتشدقون بها ليل نهار.
فما هو موقف علماء المسلمين منها؟.
يقول سماحة الشيخ (عبد العزيز بن عبد الله بن باز) أحد العلماء الأعلام في هذا العصر في إحدى فتاويه: (... وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن من هدي الرسول، فهو كافر، كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد، أو تحكيم غيرها، فهو كافر ضال).
ويضيف سماحته في فتوى أخرى: (... فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله، ويرون أن ذلك جائز لهم، أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله، لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونون بذلك كفاراً ظالمين فاسقين)(*).
هذه هي العلمانية أيها الناس وهذا هو حكمها، فهي تلك التصورات القاصرة والمشبوهة عن الإسلام، وأحكامه، وأصوله، وهذا ما يدين به رموز العلمانية في كل بلد مهما تظاهروا زوراً بخلاف ذلك.
فاعرفوا العلمانية حق المعرفة واكفروا بها؛ لمصادمتها لدينكم، ولمعارضتها لأصول عقيدتكم، والواقع أكبر دليل على ذلك.. فإلى متى نتجاهل ذلك، ونؤول الحقائق؟، ثم حتى متى يتمسك بعض السذج بذلك الورع البارد الذي ينم عن مدى الجهل بالإسلام نفسه؟!.
إننا نذكر الجميع بأن تلك هي مواقف العلمانية والعلمانيين من الإسلام، وذلك هو حكم الإسلام فيهم:
((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء: 65].
الهوامش :
*) مجموع فتاوى سماحته، جـ1، ص 274، ص 275، وانظر له أيضاً: العقيدة الصحيحة، ونواقض الإسلام.
=============(15/304)
(15/305)
محاكم التفتيش العلمانية!
مجلة البيان - (ج 116 / ص 94)
بقلم: محمد يحيى
تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ، التي لا يذكر أحد في العادة أن الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى أنفسهم، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم، بل وجُعلت حكراً خاصاً بهم، وراحوا ـ في هذه المحاكم ـ يفتشون الضمائر والنيات ويرمون المسلمين والإسلام بكل نقيصة وجريمة تعن لهم حتى أكثرها غرابة وتهافتاً وبطلاناً، مطمئنين إلى أن الإسلام ليس له من يذب عنه ويحامي في ظل أوضاع فرضت حتى على رؤساء بعض الهيئات الدينية المرموقة أن يعلنوا أنهم ليسوا سوى موظفين تصدر لهم الأوامر فيطيعون ويخرجون على صفحات الجرائد يتهمون المسلمين بالتعصب ويثنون على الغربيين لتسامحهم.
وقد بلغ السيل الزبى ـ كما يقال ـ في محاكم التفتيش العلمانية هذه واتهاماتها العبثية إلى حد أنني في أسبوع واحد، بل وفي مجلة واحدة أحصيت عدة منها رأيت أن أشرك القراء معي في غيظي وحيرتي من وقاحتها: ففي مجلة صادرة من لندن بتمويل مشبوه المصدر زعمت أنها منبر الفكر والثقافة يكتب فيلسوف شهير في الأوساط العلمانية (أو هكذا يدعي لنفسه) ليقول:(إننا كعرب لا نهتم عادة إلا بالأمور الجسدية البدنية بحيث تكون الأجسام في بؤرة الاهتمام، أما قضايا الفكر فإننا نجعلها في مؤخرة اهتماماتنا، فالأم العربية تدعو لابنها قائلة له: ربنا يجنبك شر الفكر؛ ومعنى هذا أن الفكر والفلسفة (وهي أعظم صور الفكر) قد أصبحا مرادفاً للهم والغم)، والغريب أن هذا الكاتب يمضي ليخصص بقية مقاله في الحديث عن التيارات الفلسفية السائدة على الساحة العربية: ويخص بالذكر ما يسميه بالتيار السلفي الأصولي (الإسلامي) فأين إذن هذا الاهتمام بالأجسام ووضعها في بؤرة الاهتمام كما يقول، بل إنه يمعن في السطحية عندما يتعمد الخلط بين المعنى العامي الواضح لكلمة الفكر في سياقات محددة: بمعنى التحير والتفكير الملحّ بلا طائل في محاولة للخروج من مأزق مستحكم، ومعنى الكلمة نفسها في سياقات محددة أخرى في مجال البحث والدراسة مثلاً، ويتجلى تعسف الكاتب في توجيه التهم ـ وهذا هو هدف مقالته الأولى ـ عندما يلجأ إلى تلك التقسيمات السطحية العنصرية القديمة التي تلخص كل خصائص أمة من الأمم في عبارة واحدة مثل: (مادي) أو (روحاني) أو (خيالي) أو (عقلاني)، وما أشبه ذلك. وهكذا يحصر الكاتب العرب ـ ويقصد المسلمين ـ في كلمة واحدة وهي: أنهم أعداء الفكر المنكبون على رعاية الجسد؛ دون أن يدعم هذا الزعم الواسع العريض إلا بتفسير متعمد سيئ النية لكلمة يعرف الكل أن معناها عكس ما يقول، بل وحتى وهو يتحدث في مقاله عن تيارات الفكر بين أعداء الفكر هؤلاء.
وبجوار تلك المقالة يكتب (فيلسوف) يشار إليه بالبنان في أوساط العلمانيين، بل وتعينه إحدى الدول الغنية أستاذاً جامعياً كبيراً يشرف على سلاسل إنتاجها من الكتب الفكرية والثقافية، فماذا يقول هذا الفيلسوف؟ إنه لا يتحدث في تلك المجلة الثقافية الفكرية عن قضايا الفلسفة، ولا يهاجم المسلمين لافتقارهم إلى الفكر...إلخ، بل ويا للعجب إذ يورد فقرات مطولة من تقارير تكتب في صحف محلية ببلد عربي مبتلى بتسلط العلمانيين والحرب بين أبنائه، ليخرج من هذه التقارير المشكوك ـ تماماً ـ في صحتها بأن الإسلاميين (كل الإسلاميين) لا يكنون للمرأة إلا سوء المآل والحال؛ لأن (الإسلاميين) في هذا البلد يحرقون مدارس البنات (رغم أن التقارير تتحدث عن حرق كل المدارس بلا تفرقة بين مدارس بنين وبنات)، ولأنهم يقتلون الفتيات اللواتي لا يخضعن لرغبات الإرهابيين المسلمين الدنيئة، ويحار المرء في فهم هذا التدني في مستوى الخصومة إلى حد اعتماد الكتابات الصحفية الموجهة والكاذبة في معظم الأحيان حول عمليات تقوم بها جهات مشبوهة لا يعلم أحد حقيقتها، واتخاذ هذه الكتابات، بل الإشاعات والدعاية السوداء حجة موثقة للطعن في كل دعاة الإسلام وأصحاب الفكر الإسلامي؛ فأين الفلسفة والفكر والمنطق هنا؟ وهل لم يجد الفيلسوف الكبير ما يقوله إلا هذا؟ وبصرف النظر عن مجرد الرغبة في الكتابة وقبض الأجر فإن الدافع مرة أخرى واضح جلي وهو سعار إلقاء الاتهامات أياً كانت.(15/306)
وبجوار المقالين يكتب (مفكر) علماني آخر ليهاجم دعاة فكر القومية العربية؛ لأن بعضهم ذكر أن (الدين) جزء أصيل من مفهوم القومية العربية مما فتح الباب للصراعات الطائفية بين العرب الذين اشتبكوا حول: أي دين يسود؟ وبعد أن ينعي على هؤلاء القوميين العرب مجرد ذكر الدين في تعريفاتهم الذي فتح الباب للمسلمين لكي يدخلوا إلى الساحة بتعصبهم وقمعهم لغير المسلمين يمضي ليقول: (إن القوة الإسلامية التي دخلت بلدان المنطقة بحق الفتح أو الغزو تحولت إلى غالبية اجتماعية كانت لها تصوراتها في الحكم والسياسة والإدارة ومن ثم وضعت بذور الشقاق الطائفي)، وهذا الكلام يعني ببساطة شديدة وأيضاً بوضوح شديد إدانة كاملة وشاملة للإسلام واتهامه بخلق الشقاق الطائفي بمجرد وجوده وطرح تصوراته، وكأن المطلوب لمنع الشقاق الطائفي هو ألا تكون هناك أغلبيات إسلامية ولا تكون للمسلمين أي تصورات في الحكم والسياسة والإدارة حتى ينتفي الشقاق الطائفي! ولو ترجمنا هذا الكلام بصيغة أخرى لا تخرج عن مضمونه لرأينا أن الكاتب يقول: إن الشقاق الطائفي (من المفترض أنه بين المسلمين وغيرهم في المنطقة العربية) نشأ بسبب قدوم الإسلام واعتناق الغالبية لتعاليمه ثم العمل بشريعته وأحكامه، ولكي نلغي هذا الشقاق والصراع فمن الأفضل أن نلغي (الدين) ذاته (والمقصود الإسلام وحده) من تعريف القومية العربية، ولا يسأل الكاتب نفسه: لماذا لا تلغى الأديان الأخرى وأصحابها وهي على أي حال أقليات صغيرة طالما أن إلغاء الدين هو الحل الذي يراه محل مشكلة الشقاق الطائفي؟ ثم لماذا يكون الحل لهذا الشقاق هو إلغاء دين الغالبية العظمى من أبناء هذه الأمة وتنحيته؟ الكاتب بالطبع يقدم الإجابة حين يتهم هذا الدين أنه وحده المسؤول عن بذر بذور الشقاق وقهر الأديان الأخرى واضطهادها دون أن يقدم دليلاً واحداً على هذا في مقاله سوى الحديث عن حكاية (أهل الذمة) التي أثبت العديد من الباحثين الموضوعيين أنها هي التي حفظت أصحاب الأديان الأخرى من الضياع أو الذوبان في المحيط الإسلامي.
عندما يصل الأمر إلى أن تتجمع كل هذه الاتهامات الحاقدة في حدود بضعة صفحات في ثلاثة مقالات متجاورة في مجلة واحدة (أي في عدد واحد من هذه المجلة) التقطها كاتب هذه السطور مصادفة؛ فلنا أن نتخيل مدى شراسة محاكم التفتيش العلمانية ومدى تهافتها وتعسفها في الطعن في الإسلام والمسلمين.
==============(15/307)
(15/308)
دعوة لإعادة النظرفي أسلوب الإسلاميين لإدارة معركتهم مع العلمانيين
مجلة البيان - (ج 118 / ص 100)
بقلم: أسامة محمد إبراهيم
قرأت مقالاً للأستاذ جمال سلطان في مجلة (البيان) الغراء بعددها الرقم 115 الصادر في ربيع الأول 1418هـ، حيث اختار الكاتب عنواناً لمقاله هو: (في الصراع الفكري ـ ملاحظات على معركة حسن حنفي وجبهة علماء الأزهر).
وبادئ ذي بدء فإنني أسجل تقديري واحترامي الشديدين للأستاذ جمال سلطان بوصفه أحد الكتاب الإسلاميين في مصر، وله باع طويل في الدفاع عن الصحوة الإسلامية التي شهدتها البلاد منذ عقود مضت، فضلاً عن إسهاماته المهمة في مجال الدعوة الإسلامية سواء من خلال الكتب أو المقالات أو غيرها من السبل التي تيسرت له.
غير أن كل ذلك لا يمنع من التعليق على بعض ما جاء في مقال الأستاذ جمال السالف الذكر؛ فقد لفت نظري في مقاله عدم وضوح الرؤى لدى بعض إخواننا الذين يتصدون للدعوة الإسلامية؛ وذلك فيما يتعلق بالأسلوب الأنسب الذي يجب اتباعه في هذه الدعوة، خاصة في مواجهة الأبواق والمنابر العلمانية التي ازداد عددها وانتشرت كالسرطان في جسد الأمة في السنوات الأخيرة، سواء تلك التي تستخدمها بعض الأنظمة السياسية في بلادنا كأحد الأسلحة الوقائية ضد التيار الإسلامي، أو تلك التي تهيمن عليها العناصر الماركسية والإلحادية والعلمانية التي نجحت في التغلغل داخل العديد من الصحف والمؤسسات الإعلامية واسعة الانتشار بمؤازرة من هذه الأنظمة التي جعلت شغلها الشاغل مهاجمة كل ما هو إسلامي والسخرية منه والتنديد به وتمجيد ما عداه!
ولقد تعرض الأستاذ جمال في مقاله إلى تلك الحادثة المتعلقة بالدكتور حسن حنفي التي بدأت ببيان د. يحيى إسماعيل أستاذ علم الحديث بجامعة الأزهر وأمين عام جبهة علماء الأزهر، الذي هاجم فيه د. حسن حنفي ووصف أفكاره بأنها تدميرية، وقامت على أثر ذلك ـ كالعادة ـ حملة إعلامية شعواء من قِبَلِ الكتاب العلمانيين الذين يسيطرون على عشرات المجلات والصحف، فشن هؤلاء هجوماً على الأزهر وجبهة علماء الأزهر وعلى الإسلاميين من دون استثناء.
وبما أن مثل هذه الحملات الإعلامية المنظمة التي تهدف ـ في الأساس ـ إلى وأد الصحوة الإسلامية واستعداء السلطات على رموزها، أصبحت من الأمور اليومية المعتادة في الصحف ووسائل الإعلام بسبب وبدون سبب، فإن ما يجب أن يعنينا هنا: هو البحث عن (صيغة موحدة) يلتزم بها الدعاة والإسلاميون في مواجهة مثل هذه الحملات، وليسمح لي الأستاذ جمال أن اختلف معه في بعض الطرح الذي وضعه في كيفية إدارة الصراع، أو ما أطلق عليه (المعركة التاريخية والفاصلة بين الإسلام والمناهج الوافدة).
يقول الأستاذ جمال في مقاله: (إن إثارة معركة مع حسن حنفي في هذا الوقت لم يكن له ما يسوغه أبداً، ومن أي وجه من الوجوه، فالأخطاء العقدية والفكرية عند الرجل، قديمة، وليست جديدة، والكتب المشار إليها صدرت قبل سنوات، ومرت دون أن يشعر بها أحد، كذلك فإن أسلوب د. حسن حنفي المسهب والمطنب في التأليف يجعل القارئ ـ غير المتخصص ـ زاهداً في قراءته، ولذلك لم يشعر أحد بأي خطر فكري ـ لحسن حنفي يستحق هذه الضجة الكبرى إلا بعد البيان الذي نشره الدكتور (يحيى إسماعيل)).
ومن حيث المبدأ، فإنني أتفق مع الأستاذ جمال فيما ذهب إليه من أن الصراع الفكري، مثل الصراع العسكري أو السياسي، يحتاج إلى فنون خاصة في إدارة معاركه، ويحتاج إلى حكمة وتخطيط وذكاء ووعي بالواقع ـ واقع الناس وواقع الصراع فيه ـ إلا أنني أختلف معه في مسألة (التوقيت) الذي يراه غير مناسب في إثارة معركة مع المذكور؛ وذلك على الرغم مما يعلمه كاتب المقال ـ ويعلمه الجميع أيضاً ـ من أن د. حسن حنفي هو أحد غلاة العلمانيين في مصر، ونحن نسأل الكاتب هنا عن الوقت الذي يراه مناسباً لمواجهة مثل هذه الكتابات التي تثير الحيرة والبلبلة في نفوس العامة من الناس وعقولهم فضلاً عن التدمير الفكري الذي تحدثه لدى الشباب والناشئة خاصة في الجامعات التي ابتليت بمثل هؤلاء الناس، وهل أن قِدَم الكتب التي قام د. يحيى إسماعيل بمهاجمتها وفضحها مسوّغ لعدم التعرض لها، كما أن قول الكاتب بعدم وجود خطر فكري من كتابات حسن حنفي كلام ـ في نظري ـ تنقصه الدقة؛ لأن مثل هذه الكتب مقررة على مئات الطلاب في كلية الآداب ومطلوب منهم قراءتها مرات ومرات واستيعابها حتى ينجحوا في اجتياز امتحانات آخر العام!
يخطئ من يظن أن هناك خلافات وتناقضات داخل المعسكر العلماني فيما يتعلق باستراتيجيتهم في مهاجمة الإسلام والداعين له، وبالتالي فإننا نختلف مع القائلين بضرورة وضع (أولويات) في مواجهة رموز العلمانية، فكما أن حربهم على الإسلام ودعاته شاملة؛ فيجب أن تكون مواقفنا منهم أيضاً شاملة، ويكفينا هنا طمأنة الباري (جل وعلا) لنا بقوله في كتابه العزيز: ((إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)) [الحج: 38].(15/309)
أما الدكتور حسن حنفي فمعروف أن نهجه الفكري، وأستشهد هنا بكلام الأستاذ جمال سلطان نفسه في وصفه إياه بأن قناعاته الفكرية والاعتقادية في قضايا الدين ـ بوجه عام ـ مادية، والإيمان بالغيب عنده مسألة فيها نظر، وهو متأثر كثيراً بالفيلسوف اليهودي الشهير (باروخ اسبينوزا)... ولذلك نجد الدكتور يحيى إسماعيل لم يجاوز الحقيقة عندما وصف د. حنفي بأن مشروعه ذو خطر تدميري، فهو يحقر الأنبياء والرسل ويدعي عليهم بما ليس فيهم، وأن الله ـ عز وجل ـ عنده مثل مجنون الحارة الذي يطارده الغلمان في الأزقة!!، وأنه ينكر النبوة ولا يعتبر القرآن الكريم كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر يجوز إنكار سورة منه مثل سورة يوسف؛ لأن الجنس عيب وتحليله رذيلة، وأنه يمجد إبليس وينكر الجنة والنار، ويقول: إن سؤال الملكين خيال شعبي حول الخوف من عواقب الأمور، ويضيف د. إسماعيل ـ ونحن معه في ذلك: أن يدرس الطلاب مثل هذا، ماذا ننتظر من جيل يتخرج على ذلك بعدما أهان الله رب العالمين والرسولل والقرآن الكريم ومجّد إبليس، ((كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إن يَقُولُونَ إلاَّ كَذِباً)) [الكهف: 5].
ذلكم هو حسن حنفي الذي يعتبره كاتب المقال يمثل شرخاً نفسياً عميقاً في معسكر العلمانية، وأن حرصه على أن يقدم نفسه بوصفه مفكراً إسلامياً متحرراً ومستنيراً ونصيراً للمستضعفين جعله يهاجم بقوة وجرأة الأقلام والرموز العلمانية المتحالفة مع الفساد، في الوقت نفسه الذي يتعاطف فيه بوضوح مع الحركات الإسلامية (سياسياً ونفسياً وإن كان يختلف معهم بطبيعة الحال ـ فكرياً ـ.
وليس من شك أن مبعث كلام الأستاذ جمال سلطان هنا هو حرصه على كسب أي صوت يؤازر الإسلاميين ويدافع عنهم في الحرب الشعواء التي تُشن عليهم منذ أمد طويل بتحريض صريح من الداخل والخارج، غير أننا نذكّر الكاتب هنا بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [التوبة: 23] وأظن بعد ذلك أن الأمر لا يستأهل المزيد من التوضيح أو الإسهاب.
كما أن ما أريد أن أخلص إليه أيضاً من هذا كله وما يجب أن نسخر له جل تفكيرنا وجهدنا له هو: البحث عن أنسب السبل والوسائل التي يلتزمها جميع الداعين إلى الإسلام والساعين لإعلاء كلمته، وأن يوحدوا جهدهم في التصدي لمثل هذه الهجمات الشرسة التي ما فتئ العلمانيون يشنونها على الإسلام ودعاته، وألا تكون مثل هذه الوسائل قائمة على جهد فردي محض كما فعل الدكتور يحيى إسماعيل؛ فإن مجرد الاتفاق على مثل هذه الصيغة كفيل بالذود عن الإسلام وفضح المهاجمين له والذين معهم ـ على الأقل ـ أمام الرأي العام في العالم الإسلامي: ((وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [الأنفال: 10].
تحية وتوضيح
من الأستاذ جمال سلطان
سعدت بقراءة التعليق الذي كتبه الأستاذ أسامة محمد إبراهيم، تعليقاً على مقالي: (في الصراع الفكري) المنشور بالبيان الغراء (العدد 115)، والحقيقة أننا في حاجة ماسة إلى سعة الصدر في تقبل الآراء المختلفة المهمومة بقضايا الدعوة، بل وتنشيط طاقات الاجتهاد والبحث فيها، ولا نفزع من وجود بعض الخلاف فيها؛ إذ إن هذا مما يخصب الفكرة ويوسع الآفاق فيها، وأنا أحيي الأخ الكريم على مبادرته وعلى غيرته التي استشعرتها من التعليق، وأما بخصوص المعركة مع (حسن حنفي) وما رأيته من استعجال لها وكان هناك ما هو أهم وأخطر، فإنني أؤكد أن هناك في مجتمعاتنا كثيرين من أمثال حسن حنفي في الفكر والتصور والمعتقد، ولكنهم أخطر منه بكثير، كما أنهم جمعوا إلى فساد العقيدة فساد الخلق والضمير والذمة، وسفاهة الكلام والقسوة في التبجح والإعلان في خصومتهم للإسلام وشريعته وحضارته والانتماء إليه، فكانوا حرباً على الإسلام ضارية، بينما رجل مثل حسن حنفي كان، رغم فساد عقيدته، يمتاز بشرف الموقف السياسي والإنساني مع الإسلاميين، ودفاعه عن المضطهدين ودعواته الواضحة إلى منحهم الحرية في الدعوة، ويهاجم المرتزقة من العلمانيين الذين يهيجون أجهزة الدولة ضد الإسلاميين، ويحرضون السلطات على البطش بهم وحرمانهم من أن يكون لهم صوت أو منبر.
وكان سؤالي هو: لماذا نترك كل هؤلاء الفجرة ونبدأ بمن يدافع عنا ويجيرنا في أوقات المحنة؟
لماذا نترك أبا لهب ونحوّل حرابنا إلى المطعم بن عدي! كما أن حسن حنفي يمثل شرخاً حقيقياً في صفوف العلمانيين المصريين والعرب أيضاً، ويدرك ذلك بوضوح من يخالط الحياة الثقافية عن قرب، وقد عاينت ذلك بنفسي، وهجومه على النخب الثقافية العلمانية واتهاماته القاسية لهم بممالأة الفساد والظلم ونحو ذلك: هي أمور علنية وليست مستترة، وينبغي، ونحن نخوض صراعاتنا الفكرية ـ أن نلاحظ مثل هذه الحقائق وأن نستثمرها جيداً ولا نغمض أعيننا عنها بعاطفية ليست في أوانها ولا في محلها.(15/310)
وأما مخاطر تدريسه على الطلبة في الجامعة فهو كما أشرت مهموم بمشروع سياسي أكثر منه عقدي أو فكري؛ ولذلك فخطره محدود من هذه الناحية، بل إن ما لا يعرفه كثيرون أن ابن حسن حنفي نفسه هو من المتمردين على منهجه الفكري وهو شاب من شباب الإسلام الملتزم والغيور، فلا أظن المبالغة في التوجس من هذه الناحية لها ما يسوّغها.
وحاصل الكلام هنا أن الصراع الفكري يتطلب منا البصيرة بالواقع، وموازناته ودقائقه، لكي نضع خطط المواجهة على بصيرة ونور، وبحيث تؤدي دورها وتؤتي أكلها، بدقة وفاعلية.
============(15/311)
(15/312)
حديث صريح مع العلمانيين
مجلة البيان - (ج 119 / ص 111)
صالح علي الكناني
لأنكم تزعمون أن التشريعات الأرضية والنظم الوضعية والقوانين الجاهلية أحسن من حكم الله (تعالى): فقد ((كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) [الممتحنة: 4]. ولأنكم تسعون جاهدين لتعطيل حكم الله وتحويل الإسلام من قوة مهيمنة على كل مناحي الحياة إلى طقوس محصورة في جوانب شخصية لا تمس واقع البشر من قريبٍ ولا من بعيد، ولأنكم تجاهرون بحرب الإسلام صراحة كما هو حال عساكر أتاتورك اليوم وغيرهم من الذين استغلوا ما تحت أيديهم من سلطات وعتاد لقمع خيار الشعوب، ولأنكم ترفعون شعار الديمقراطية الزائفة وهدفكم منها فقط: القمع والقهر لشعوبكم، ولأنكم خذلتم أمتكم وجلبتم لها العار ولم يسجل لكم التاريخ موقفاً أعليتم فيه من شأنها أو انتصرتم لكرامتها، وكل متمسكٍ بدينه لديكم متطرف إرهابي أصولي ظلامي: من أجل ذلك كله ومن أجل غيره: اعلموا وأعلموا ـ سدنة المعبد الديمقراطي ـ أننا بإذن الله ثابتون على مبادئنا وقيمنا مهما بطشتم ونكلتم وملكتم من قوة وعتاد ((وَسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)) [الشعراء: 227]
===============(15/313)
(15/314)
أبعاد التخريب العلماني محمد أركون.. أنموذجاً
مجلة البيان - (ج 123 / ص 46)
بقلم: د. أحمد إبراهيم خضر
بالأمس... طلب خالدُ بن عبد الله القسري، أمير العراق، الجعدَ بن درهم، حتى ظفر به، فخطب بالناس في يوم الأضحى، وكان آخر ما قاله في خطبته: أيها الناس، ضحّوا، تقبّل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر، فكان ضحية، ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رُمِيَ بها(1).
واليوم.. المرعى الإسلامي غداً بابه مفتوحاً لكل (عرجاء) و(عوراء) لا يجزئ لحمها في الأضحية (2).
إنهم أهل التخريب العقدي، يحاربون الإسلام من داخله بإثارة شكوك المسلمين بما يؤمنون به، يهدفون عبر زعزعة الترابط العقدي تفكيكَ المجتمع الإسلامي برمته(3). يصفون أنفسهم بأنهم علماء مجتهدون متفرغون لتطوير المعرفة(4)، ولا تخرج مقولاتهم عند كونها لوناً من ألوان (الرقاعة الثقافية)(5)، يميزون أنفسهم عن المسلمين الآخرين (المقلدين)، أما هم، فإنهم باحثون تحرروا مما أطلقوا عليه (المعارف الخاطئة) التي تعارف عليها كل المسلمين عن الإسلام. يدعون إلى العقلانية ويطالبون باتساع العقل وحرية البحث حتى في القضايا الدينية الحساسة التي ترتبط بما هو مقدس ولا يمس (كالوحي والقرآن والسنة). يشجعون الإبداع الفكري الذي يصل عندهم إلى حد القول بأن الاعتقاد بأن الشريعة ذات أصل إلهي (وهمٌ كبير)(6) ومع كل هذا الانحراف والضلال يطالبون الآخرين بالتسامح معهم، والإقبال على مناظرتهم، وعدم الخلط بين العرض العلمي للقضايا ومواقف العوام، والتقيد بما يفرضه البرهان العقلي. يتهمون ما يسمى (بالخطاب الإسلامي) بأنه خطاب مليء بالنقائض والرذائل والمثالب، يحمّل المفكرين (أمثالهم) ما لم يفكروا فيه، وما لم يدّعوه، وما لم ينطقوا به(7).
ماذا يريدون بالضبط؟
همهم الأول القضاء على الإيمان العقدي ومحوه من الأفق البشري: حتى لا يبقى هناك إلا الأفق الاجتماعي. يريدون منا أن ندخل تجربة الغرب التاريخية التي خاضها منذ أكثر من قرنين فتخلص من الأفق الديني القروسطي (نسبة إلى القرون الوسطى).
لا يجهلون الإسلام وإنما يصرون على تحليله في ضوء النصرانية الكنسية والقرون الوسطى التي ارتبطت في أذهان الغرب بالتصور المظلم والمرعب عن الدين. أفقهم المعرفي لا يخرج عن حدود الفكر الغربي والثقافة الأوروبية. يتزلفون للغربيين حتى القسس منهم على حساب دينهم؛ ولهذا يضيقون ذرعاً بمطالبة الإسلاميين بخصوصية إسلامية وأصالة عقلية وعلمية مطلقة جعلتهم في غنى عما أبدعته انحرافات الفكر الغربي والبحث العلمي خارج دائرة المعارف الإسلامية المتأصلة في القرآن والمنطلقة منه، فراحوا يتصورون أن الإسلاميين كآباء الكنيسة يقتلون في الإنسان حس المبادرة والحركة ويدعون إلى الاستكانة والاستسلام ورفض الانخراط في العالم(8).
أهل السنة والجماعة في نظر أهل التخريب العقدي (أورثوذكسيون):
لأنهم يُجمعون على عقيدة إسلامية صحيحة ومستقيمة، ويُبرزون معايير التفرقة بينها وبين البدع والاعتقادات الطارئة المنحرفة عن الإسلام. (والأورثوذكسية) أصلاً مصطلح غربي نقله أهل التخريب إلى العربية ولا يربطونه بالمذهب الأورثوذكسي في النصرانية؛ لأنه مصطلح سابق على ظهور هذا المذهب. لا يروق لهم المعنى الحرفي للكلمة (وهو الطريق المستقيم أو الطريق الصحيح) إنما يأخذون معناها الاصطلاحي وهو (النواة العقائدية الصلبة والمغلقة على ذاتها لدين ما، أو لأيديولوجية ما، أو اتجاه سياسي ما، والتي ترفض كل ما يقع خارجها باعتبار أنه ضلال وهرطقة). يقول أهل التخريب إنهم لم يستطيعوا ترجمة مفهوم (الأورثوذكسية) بكل أبعاده الأيديولوجية بالسنّة؛ لأن أهل السنة والجماعة قد احتكروا المفهوم لصالحهم وعدلوا به عن معناه في القرآن(9)، ولم يعط أهل التخريب العقدي دليلاً واحداً مقنعاً يبين صحة تأويلاتهم الفاسدة الخارجة أصلاً عن حدود القرآن والسنة.
وحتى لا يُتهم أهل التخريب العقدي بالكفر، سارعوا إلى وضع مفهوم جديد للإيمان والكفر. فهموا من الإمام الغزالي أن الكفر هو تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام في شيء مما جاء به، والإيمان هو تصديقه في جميع ما جاء به، فاليهودي والنصراني كافران لتكذيبهما الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والبرهمي كافر بالطريق الأوْلى؛ لأنه أنكر مع رسولنا سائر المرسلين.(15/315)
هذا الذي يتبنى مفهوم الغزالي عن الكفر ويطبقه على (العلماء المجتهدين) أمثالهم رجل مقلد بلغ درجة من العمى والتعصب في أحكامه؛ لأن الإيمان والكفر في فلسفة أهل التخريب العقدي مرتبطان بالبحوث النفسانية واللغوية عن تكوين البنية الشخصية والجماعية التي ينشأ فيها كل فرد. ولم يكتف أهل التخريب العقدي بذلك بل ألقوا مسائل الحلال والحرام والمقدس والقصص الديني في أحضان العلوم الحديثة (علوم الإنسان والمجتمع)(10) التي تعطي لها تفسيراً خاصاً يخرج بها كلية عن ارتباطاتها العقدية. ومن المسلّم به في العلوم الاجتماعية أن نظرياتها التقليدية ترى أن الأفكار الدينية زيف ووهم، أما نظرياتها الحديثة فتتجنب مسألة حقيقة الدين، لكنها تغذي هذه التحليلات التي تحقر من أي رؤية جدية للأفكار الدينية وتنظر إليها على أنها غير حقيقية(11).
موقفهم من خاصية ثبات الأصول:
واجهت أهل التخريب العقدي مشكلة النظرة العقلية المستمرة والمتكررة التي ترى وجود إسلام صحيح يتطابق مع مفهوم الدين الحق لمكافحة البدع والرد على أهل الأهواء والنحل، وإبطال الملل الضالة المضلة، وإبعاد أو إخضاع جميع المنحرفين عن الصراط المستقيم والحق المبين، فقالوا: إن الإجماع بأن هناك إسلاماً جوهرياً لا يقبل التغير ولا يخضع(للتاريخانية)(12) ـ هو هو كالأقنوم الإلهي يؤثر في الأذهان والمجتمعات ولا يتأثر بها ـ ليس إلا تحجراً عقلياً وتطرفاً وتعصباً وإرهاباً، ودعوا إلى العدول عن هذه النظرة التقليدية والإقرار بضرورة التعددية العقائدية؛ ويسوِّغون دعواهم الضالة والمضلة بأن النصوص القرآنية قد ألهمت ولا تزال تلهم (تأويلات) بتغير الزمان والمكان(13).
يؤمن أهل السنة والجماعة بأن التأويل الذي دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وما جاءت به هو التأويل الفاسد. وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو المقبول وما خالفه فهو المردود. لكن أهل التخريب العقدي بعد أن طرحوا بعيداً ربط الكفر بتكذيب الرسو صلى الله عليه وسلم ردوا السنة برمتها إلى دائرة (البحث التاريخي)(14)، وسعوا إلى إعادة قراءة النصوص الدينية، تلك التي أسموها بالنصوص التاأسيسية أو النص الأول (القرآن) والنصوص الثانية (السنة وغيرها)، في ضوء العلوم الحديثة.
والتأويل عند أهل التخريب العقدي لا يخرج عما يقوله عنهم (ابن القيم) من أنه (استخراج معاني النصوص وصرفها عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ومستنكر التأويلات، فأدى بهم هذا الظن الفاسد إلى نبذ الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وراء ظهورهم، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. (والتأويل) إذا تضمن تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحسبه ذلك بطلاناً) وتأويلات أهل التخريب العقدي من هذا الطراز(15).
القطيعة المعرفية ماذا تعني؟
خرج علينا أهل التخريب العقدي بمصطلح جديد أسموه: (القطيعة المعرفية) ومن المعروف عنهم أنهم لا يأتون بجديد، وإنما يستخرجون أفكارهم بعد أن يدخلوا جحر كل ضب دخله قبلهم المفكرون الغربيون، ثم يلوكون هذه الأفكار ويطبقونها على الإسلام.
ومصطلح (القطيعة المعرفية) طرحه أصلاً المفكر الإيطالي (فيكو) وكتب فيه الأمريكي (توماس كون) وعالم الرياضيات الفرنسي (رينيه توم). تناول كل هؤلاء مسألة القطيعة في تاريخ العلوم وكيفية تفسيرها: متى تحدث القطيعة في فكر ما؟ ما هي الشروط الموضوعية التي ينبغي توافرها لكي تحصل القطيعة؟ أي: لكي يتوقف الناس فجأة عن التفكير بالطريقة التي كانوا يفكرون بها سابقاً منذ مئات السنين. ولأن الحقد والغل يملأ قلوب أهل التخريب العقدي على الإسلام طبقوا هذا المفهوم على الإسلام؛ فدعوا إلى التوقف عن التفكير في الإسلام بالطريقة التي يؤمن بها الناس حالياً والتفكير فيه بطريقتهم التدميرية.
ويدعونا أهل التخريب العقدي إلى أن ندرك معنى القطيعة المعرفية، أي أن نتخلى عن معارفنا التقليدية عن الإسلام التي يصفونها بأنها معارف (خاطئة أسطورية ذات معانٍ خيالية) وأن نفكر بالطريقة التي فكر بها الأوربيون منذ القرن السادس عشر، فنغير ـ مثلهم ـ نظرة العقل إلى المعرفة وطرق إدراكه للواقع وتعبيره عن تأويلاته لهذا الواقع.
هل نحن بحاجة إلى الفلسفة؟(15/316)
وعبر إصرارهم المستميت على تخريب عقيدة الإسلام يزرعون الألغام الواحد تلو الآخر، فتجدهم يدعون إلى الانفصال بين الحكمة والشريعة ويفسرون الحكمة بأنها (الفكر العلمي) ويسمون الشريعة (بالظاهرة الدينية)(16) مع أن الحكمة تعني العلم والفقه والمعرفة بالقرآن وخشية الله والفهم والبصر والعقل، كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن مسعود، وزيد بن أسلم، ومالك؛ وذلك في تفسير قوله ـ تعالى ـ: ((يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) [البقرة: 269]، وقوله ـ تعالى ـ: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ)) [لقمان: 12](17).
وتارة أخرى ينظرون إلى (الحق) على أنه خاضع (للتاريخانية) بمعنى أن وجوده ومظاهره تتغير بتغير نظرة العقل إليه، كما يتغير العقل بدوره بتغير النتائج ووجوه الحق التي يستبينها ويتعقلها.
كما يتبنون وظيفة الفلسفة لتسويغ الموجودات والأحكام إلى العقل في كل الممارسات والمعالجات بما في ذلك إثارة مسائل وقضايا ومواقف معرفية ما كان التفكير فيها ممكناً بل كان مستحيلاً، ولذلك تجدهم يُرجعون انتشار المدّ الإسلامي إلى غياب الفلسفة عن معظم المدارس والجامعات بالبلدان الإسلامية. والحقيقة أن الفلسفة لا تمارس تأثيرها إلا في غيبة نور الوحي الإلهي، أو في حالة خفوته، أو في حالة جهل الناس بحقيقتها وجهلهم بالمنهج النبوي على وجهه الصحيح. وتملك الفلسفة القدرة على التلبيس بما تملكه من أدوات، فهي تتزيّا بزي العقل حيناً، وبزي العلم حينا آخر، وتملأ الفراغ المخيف الذي تتركه غيبة الهداية الإلهية عن العقول(18).
وبينما اشتهر أهل التخريب العقدي في مصر وسوريا باستخدام مصطلحات: (نقد الخطاب الديني) و (نقد الفكر الديني)، استخدم نظراؤهم المستوطنون في دول الغرب مصطلح: (نقد العقل الإسلامي).
يعرِّف أهل التخريب العقدي (العقل الإسلامي) بأنه هذا العقل المتقيد بالوحي أو المُعطَى المنزل. ويقر بأولوية المعطَى لأنه إلهي، وأن دور العقل ينحصر في خدمة الوحي، أي فهم وتفهيم ما ورد فيه من أحكام وتعاليم وإرشاد، ثم الاستنتاج والاستنباط منه، فالعقل تابع وليس بمتبوع اللهم إلا بالقدر الذي يسمح به اجتهاده المصيب بفهم وتفهيم الوحي.
لا يقر أهل التخريب العقدي بذلك، ويصبون كل انتقاداتهم على علاقة العقل بالمُعطى المنزل، وعلى رضاه بأن يبقى دائماً في الدرجة الثانية، أي في حدود الخادم دون أن يجرؤ أبداً على مبادرة أو سؤال أو تأويل لا يسمح به الوحي المحيط بكل شيء، بينما العقل لا يدرك شيئاً إدراكاً صحيحاً إلا إذا اعتمد على الوحي المبين(19).
إنه ما عُصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه؛ ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتاب الله ووحيه، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل؟ إن علم الأنبياء وما جاؤوا به عن الله لا يمكن أن يدرك بالعقل ولا يكتسب، وإنما هو وحي أوحاه الله إليهم بواسطة الملك، أو كلام يكلم به رسوله منه إليه بغير واسطة كما كلم موسى. وهذا متفق عليه بين جميع أهل الملل المقرين بالنبوة المصدقين بالرسل، ولا يخالفهم في ذلك إلا جهلة الفلاسفة وسفلتهم. ولكن أهل التخريب العقدي يريدون أن يعكسوا شرعة الله وحكمته؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل الوحي إماماً والعقل مؤتماً به، وجعله حاكماً والعقل محكوماً عليه، ورسولاً والعقل مرسلاً إليه، وميزاناً والعقل موزوناً به، وقائداً والعقل منقاداً له؛ فصاحب الوحي مبعوث، وصاحب العقل مبعوث إليه، والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله، وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي أو فكرة. الرسول يقول: معي كتاب الله، وهم يقولون: معنا العقل. الرسول يقول: معي نور خالق العقل به أهدي وأهتدي، ويقول: قال الله كذا، قال جبريل عن الله كذا، وهم يقولون: قال فيكو.. قال بيير بورديو.. قال جاك دريدا.. قال فرانسوا إيوالد.. إلخ.
بين العقل والوحي:
إن قضايا العقل تشمل على العلم والظن والوهم، وقضايا الوحي كلها حق؛ فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عاجز عرضة للخطأ، من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته؟!(20).(15/317)
(العقل هو المصدر والعامل في كل ما يعبر عن الإنسان ويبلغه بلغة من اللغات، وهو المسؤول عن عملية تركيب المعاني في إنتاج جميع المنظومات)، هكذا يقول أهل التخريب العقدي في دفاعهم عن (فتنة خلق القرآن)، وقد وصل بهم التبجح إلى القول بأنه (لو استمرت المناظرات بين العقل القائل بخلق القرآن والعقل الخادم الخاضع للقرآن غير المخلوق، لكان الوضع المعرفي للعقل الإسلامي اليوم على غير ما هو عليه، بمعنى: أن الفسحة العقلية ما كانت لتصبح ضيقة محدودة تسودها الأرثوذكسية العقائدية المعروفة اليوم)(21) أي انتصار أهل السنة والجماعة، الذين يقولون إن القرآن كلام الله ـ تعالى ـ منه بدأ، فنزل غير مخلوق، ألفاظه ومعانيه عين كلام الله، سمعه جبريل من الله، والنبي سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو القرآن المكتوب بالمصاحف المحفوظ بالصدور المتلو بالألسنة. القرآن عند أهل السنة والجماعة كلام الله ـ تعالى ـ بالحقيقة وليس بمخلوق ككلام البرية، ومن سمعه وزعم أنه ككلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله ـ تعالى ـ وعابه، أو أوعده عذابه حيث قال: ((سَأُصْلِيهِ سَقَرَ)) [المدثر: 26] التي أوعدها الله لمن قال: ((إنْ هَذَا إلاَّ قَوْلُ البَشَرِ)) [المدثر: 25] (22).
البؤس الفكرى لدي بعض المفكرين العرب:
وقد اعترف أهل التخريب العقدي بأن التوجه الإسلامي الصحيح قد كشف أزمة المجتمع في العمق، وكشف في الوقت نفسه عن البؤس الفكري لمعظم المثقفين العرب ومراهقتهم الفكرية، كما أنه كشف كذلك عن التخلف المنهجي والمعرفي للفكر العربي المعاصر؛ فالواقع في واد وهم في واد آخر؛ فبؤسهم الفكري عاجز عن طرح أي مشكلة بشكل صحيح بل عاجز حتى عن رؤية المشكلة ذاتها.
أقر أهل التخريب العقدي بأن زميلهم (المثقف العربي) يقف أمام نظيره الغربي (كالفلاح الفقير الذي يقف خجلاً بنفسه أمام الغني الموثر) ويقولون في ذلك: (يقف مثقفنا العربي أمام نظيره الغربي وهو يكاد يتهم نفسه ويعتذر عن شكله غير اللائق ولغته غير الحضارية ودينه المتخلف، ويستحسن المثقف الغربي منه هذا الموقف ويساعده على الغوص فيه أكثر فأكثر حتى ليكاد يلعن نفسه أو يخرج من جلده لكي يصبح حضارياً أو حداثياً مقبولاً)(23).
لقدأحسن أهل التخريب العقدي وأجادوا في وصف حال المثقفين العرب الذين هم أيضاً من دعاة هذا التخريب. لكن حال أهل التخريب العقدي أمام المثقفين الغربيين ليس بأفضل من حال المثقفين العرب الذين يهاجمونهم. هاهم يقفون خجلين أمامهم من الخطاب الإسلامي الذي يتحدث عن التوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج والحجاب والجهاد. إنهم يقدسون لغة الغرب، ويكتبون بها، ويرونها مؤيدة للنقد الفلسفي والتاريخي والعلمي وأن لها أرضية خصبة من الجهاز المفهومي الداعي إلى المزيد من الدقة والتعمق في النقد. أما لغتهم (اللغة العربية) فلا تتحمل اقتران النقد بالعقل الإسلامي. ها هم يعتذرون عن شكلهم غير اللائق، ولغتهم غير الحضارية، ودينهم المتخلف فيحذرون الإسلاميين من أن خطابهم المتردد على ألسنة الخواص والعوام يمجه جميع الناس في الغرب، وأنه لا يتيح إلا المزيد من الرفض والاستبعاد وسوء التفاهم، ويحذرون أيضاً بأن على الخطاب الإسلامي أن يغير من طريقته التي تثير ردود فعل وتحريض للغرب على الإصرار في الهيمنة واستراتيجية الإخضاع والتسيير التحكمي للعالم (الإسلامي) المتخلف. ثم يدافعون عن الغرب ويقولون: (بأن للغرب حق الحماية لقيم مدنيته والدفاع عن أمانته أمام قوى العنف والجهل وعدم التسامح)(24).
يريد أهل التخريب العقدي خطاباً إسلامياً يتحدث للغرب بلغة ما وراء الحداثة(25) والديموقراطية، ومفهومي الفرد والمواطن، والتعاقد والتفاعل بين دولة القانون والمجتمع وأن يراعي الجانب الحقوقي والفلسفي للتجربة الديموقراطية، وإلا فهو خطاب متخلف يستحق أن يمجه الغربيون ويرفضوه.
الهوامش :
(1) الجعد بن درهم مبتدع ضال. قال بخلق القرآن، وكان مؤدب مروان بن محمد، قتله خالد ابن عبد الله القسري سنة 118هـ يوم النحر. انظر ابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله، ج3، دار العاصمة، الرياض، 1412هـ، ص 1071.
(2) سليمان بن صالح الخراشي، محمد عمارة: في ميزان أهل السنة والجماعة، دار الجواب، الرياض، 1413هـ ـ 1993م، ص 9.
(3) أمين أبو عز الدين (نقلاً عن محمد وقيع الله أحمد)، الدين والعلمنة في طروحات محمد أركون، الآداب، عدد 5، مايو 1993م، ص 29.
(4) محمد أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، ص 7.
(5) (الرقاعة الثقافية) تعبير استخدمه الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه، قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة، الدار الذهبية، القاهرة، ص 13.
(6) أمين أبو عز الدين، مرجع سابق، ص 24.
(7) محمد أركون، مرجع سابق، ص 3.
(8) المرجع السابق، ص 30، 66، ص 8. (9) المرجع السابق، ص 16، 9.
(10) المرجع السابق، ص 5، 7، 6.(15/318)
(11) انظر: الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع، في كتابنا: علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام، المنتدى الإسلامي، لندن، 1413هـ ـ 1993م، ص 177 ـ 193.
(12) (التاريخانية) مصطلح طبقه أهل التخريب العقدي على الإسلام، ويعنون به فهم الإسلام في حدود الحقبة الزمنية التي ظهر فيها، وفي ضوء البيئة الاجتماعية والثقافية التي عمل عبرها؛ مع التأكيد على نسبية وعدم اتساع قواعده ومفاهيمه لتطبق على حقب زمنية لاحقة.
(13) محمد أركون، مرجع سابق، ص 4، 17.
(14) انظر التاريخانية.
(15) ابن القيم (بتصرف) مرجع سابق، ج1، ص 163، 187، 192.
(16) محمد أركون، مرجع سابق، ص 4، 7، 11.
(17) محمد رشاد خليل، الفلسفة وأثرها في أصول الدين، مجلة كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، عدد 5، 1403ـ 1404هـ، ص 259.
(18) المرجع السابق، ص 260. (19) محمد أركون، مرجع سابق، ص 15.
(20) ابن القيم (بتصرف)، مرجع سابق، ص 880، 891.
(21) محمد أركون، مرجع سابق، ص 15.
(22) أبو جعفر الأزدي الطحاوي، عقيدة أهل السنة والجماعة، تعليق محمد بن مانع، مكتبة المعارف، الطائف، ص 8.
(23) محمد أركون، مرجع سابق، ص 23 ـ 25.
(24) المرجع السابق، ص 21.
(25) في الوقت الذي يدعونا فيه أهل التخريب العقدي بالتعامل مع الغرب بعقل ما بعد الحداثة فإن هناك من المثقفين العرب من يؤجل دخول مجتمعاتنا الإسلامية هذه المرحلة على أساس أن ما بعد الحداثة نقد غربي يسوي حسابات غربية ولا يقدم لنا مشروعية تاريخية؛ لأن مجمعاتنا في نظرهم مجتمعات ما قبل الحداثة. وعلى كل فإن ما بعد الحداثة اتجاه ثقافي غربي يسدل الستار على الحداثة كمشهد عابر في العرض المسرحي الممتد للتقدم الثقافي، ويرى أن الحداثة قد استنفدت أغراضها وأن قيمتها المعرفية بهتت أو ربما صارت أصباغاً على لوحة لم يعد لها ملامح أو هوية. وما بعد الحداثة مفهوم ينكر ثنائية الحداثة ـ التقليدية، ولا يقدم بالضرورة على القطيعة مع الماضي أو الميراث الثقافي، ولا يقبل النموذج الارتقائي الذي يجعل المجتمع الأوروبي هو الصورة النموذجية للعالم المتخلف. انظر: محمد السعيد سعيد، ما بعد الحداثة ومصير التنوير، العربي، عدد 413 إيريل 1993م، ص 24 ـ 28. وهذا لا يعني أن أهل التخريب العقدي قد عدلوا بهذا المفهوم موقفهم من الإسلام، ويكفينا لبيان ذلك أن نشير إلى أنهم أعطوا للوحي مفهوماً يخالف ما هو معروف عنه، ونظروا إليه على أنه جملة من الإكراهات والقيود وتكرار الشعائر والطقوس والقيام والقعود، وفرض القوالب النهائية الجامدة. (انظر محمد أركون، مرجع سابق، ص 75).
=============(15/319)
(15/320)
علماء العراق والدولة العلمانية
مجلة البيان - (ج 130 / ص 80)
سليمان الظفيري
تمهيد:
بعد رحيل العثمانيين عن العراق وسقوطه في قبضة الاستعمار البريطاني شهد تكوين حكومة هشة على رأسها فيصل بن الحسين [1883 ـ 1933] ليكون ملكاً شكلياً على عرش العراق، وموظفاً في الحكومة البريطانية حقيقة، وقد نودي به ملكاً على العراق في 32 آب 1921م، واستمر حكم اسرته وأبنائه إلى سنة 1958م؛ حيث قامت مجزرة الهاشميين. ثم جاء العهد الجمهوري واستمر إلى الآن؛ وقد تميز هذا العهد بالانقلابات العسكرية والمجازر الدموية الرهيبة، وتخريب الأخلاق، ومحاربة الإسلام، والتآمر عليه، وقتل علمائه، وجعل الدين في زوايا ضيقة من الحياة. وهذه الفترة الطويلة التي تشمل حكم الهاشميين تحت الحراب الإنجليزية، وكذلك العهد الجمهوري بعهوده الثلاثة [القاسمي، العارفي، والتكريتي] هي مقصدي بالدولة العلمانية، وهي علمانية بكل ما تحمله الكلمة من حرب للإسلام وتحجيم لدوره؛ كما سنرى.
منزلة علماء العراق قبل العهد العلماني:
كان العلماء على العهد العثماني الإسلامي محل احترام الوالي ومساعديه، وكانوا محل المشورة والنصرة والتأييد؛ فالشيخ عبد الله السويدي (1693 ـ 1761م) ـ وهو جد الأسرة السويدية في العراق استدعاه الوالي العثماني للمناظرة الشهيرة التي رغب بها دولة الوالي مع علماء شاه إيران وهي التي دارت في مسائل بين السنة والشيعة، دان في نهايتها كبيرُ علماء الشيعة للسويدي ـ رحمه الله ـ (1).
وقد كان العلامة محمد فيضي الزهاوي (1797 ـ 1890) والعلامة أبو الثناء الآلوسي (1217 ـ 1270م) من المقدمين عند ولاة العراق العثمانيين وهم أهل الفتيا، والقضاء، وشيوخ العلماء في ذلك الوقت، ولهم مكانة واحترام الدولة والعامة، وقد كانت العناية بالعلماء الوافدين لنشر العلم في العراق جارية وقائمة؛ فالشيخ غلام رسول الهندي (1912م) أعطي مكانة مرموقة واستمر على ذلك حتى وفاته، بل كان المتطوعون لخدمته كثراً؛ لأنه غريب لا أهل له ـ والعلاّمة الشيخ محمود شكري الآلوسي (1857 ـ 1942م) كان رسول السلطان العثماني إلى الملك عبد العزيز آل سعود خلال الحرب الأولى، والسلطان العثماني جعل بلاطه وإكرامه لمن قدم عليه من علماء العراق وغيرهم.
ولكن لما سيطر العلمانيون على أرض الرافدين قربوا المتهمين في دينهم والمنحرفين، قربوا الصوفي وقربوا المبتذل؛ حتى كان وزير الأوقاف على عهد فيصل أول رجل تخرج ابنته وتجالس الرجال وتدرس في كلية الحقوق وهي صبيحة الشيخ داود (1912 ـ 1975م)، وقد كانت فخرية سعيد زوجة جعفر العسكري المربي للملك غازي نجل الملك فيصل تدخل لندن سافرة من غير حجاب، كاسية عارية. وكان يحظى كل من الشاعر الضال جميل صدقي الزهاوي، والشاعر العلماني محمد مهدي الجواهري بقدر عالٍ من الاحترام والتبجيل؛ بخلاف علماء السّنّة الذين أسيئت معاملتهم، ولم يتبوأ أحد منهم الوزارة في حين تولى الوزارة من الشيعة الشيخ محمد الصدر (1883 ـ 1965م) ورستم حيدر وهو من شيعة لبنان، وتولى رئاسة مجلس النواب الشيخ محمد رضا الشبيبي (1889 ـ 1965م).
كان المخطط محبوكاً بقصد إبعاد علماء السنة من الوظائف الكبيرة، وحصرهم في وظائف الأوقاف. وقد بلغ الاستهتار درجة عالية في العهد الهاشمي بالعلماء وتهميش دورهم؛ فكم من المرات تم إغلاق جمعية الأخوة الإسلامية وسحب امتياز مجلتها وكان صاحب الامتياز محمد محمود الصواف ـ رحمه الله ـ.
أما في العهد الجمهوري فقد نال العلماء السجن والتعذيب والإعدام، فالعلاّمة أمجد الزهاوي (1882 ـ 1967م) سجنه عبد الكريم قاسم، ثم بعد ذلك ترك العراق مع الشيخ الصواف، وهكذا العلامة فؤاد الآلوسي (1321هـ ـ 1384هـ) سجنه قاسم الذي قام بحل الحزب الإسلامي وإلغائه، وإلغاء صحيفة الحياد، وصحيفة الحزب، وكذلك صحيفة السجل للأستاذ طه الفياض ـ رحمه الله تعالى ـ. وفي العهد البعثي قُتل من أعلام الحركة الإسلامية: الشيخ عبد العزيز البدري (1930 ـ 1969م) والأستاذان العسكريان: محمد فرج الجاسم، وعبد الخالق السيد عثمان، والمشايخ: محمود أبو سعدة، والشيخ تلعة، وغيرهم؛ هذا غير الذين تركوا العراق وفروا مستوطنين بلاداً أخرى، وتركوا بلادهم كالشيخ محمد محمود الصواف ـ يرحمه الله ـ.
تجميد الأوقاف الإسلامية وتحجيم المدارس الإسلامية:
أما الأوقاف الإسلامية فقد كانت تشمل عدداً كبيراً جداً من البنايات، والبساتين، والدكاكين، فالأوقاف الكيلانية أوكلت إلى آل النقيب، وهي ضخمة جداً وآل النقيب مشهورون أيام الهاشميين بالقرب منهم، ولا يعرف أن أحداً منهم من العلماء بل كان منهم شيخ الصوفية. وكانت الدولة العثمانية تحرص على أن لا تكون الأوقاف وزارة يرتقي إليها أحدٌ من غير أهل السنة؛ فيذهب شرط الواقف؛ لكن العهد العلماني غيّر إدارة الأوقاف إلى وزارة قامت بتضييع الأوقاف والإشراف على تبديد أموالها وإضاعة شرط الواقف.
كانت هذه الأوقاف مصدر تمويل المدارس الإسلامية والقائمين عليها من العلماء وغيرهم، الأمر الذي أغنى علماءنا وجعلهم بعيدين عن الحاجة إلى غيرهم.(15/321)
والقادة العلمانيون إدراكاً منهم لأهمية هذه المؤسسة ودورها في تعزيز الإسلام وعلمائه بأرض العراق قاموا أولاً بتبديد هذه الأوقاف، ثم قاموا بتحجيم المدارس، ثم كانت الخطوة الثالثة القيام بإلغائها، ومثلاً على ذلك: مدرسة الشيخ عبد العزيز بن سالم السامرائي (1917 ـ 1973م) في الفلوجة التي ما زالوا بها حتى أضعفوها وحاصروها، ثم ألغيت بعد موته ـ رحمه الله تعالى ـ وأكثر علماء المنطقة الغربية من الجيل الحاضر والجيل الماضي هم خريجو هذه المدرسة. والحلقة العلمية للعلاّمة الشيخ عبد الكريم المدرس ما زالوا خلفها حتى تهدمت وانفلّ أركانها؛ وحدثني العالم الفاضل الشيخ الأديب مصعب العزاوي ـ رحمه الله تعالى ـ قال: كنت أدرس فيها فكانوا يأتون بطلاب الأدب يجلسونهم معنا لكي يروا المقارنة بين التعليم القديم، والتعليم الجامعي الحديث، قال: فكان هؤلاء الجامعيون يأتون بالأمثلة على القواعد من الكتاب المقرر عندهم ولا يبرحونه أبداً، أما طلابنا فكانوا يمطرونهم بالأمثلة الكثيرة من القرآن الكريم والحديث والشعر، وكان أساتذتهم يتعجبون من كفاءة طلابنا العالية ومستوى طلابهم المتدني.
وهذا المعهد العلمي في سامراء الذي تخرج فيه كبار مشايخ سامراء من الأساتذة أصبح أثراً بعد عين، وقل مثل ذلك في المعهد الإسلامي في سيو أبكار، والمعهد الإسلامي في حلبجة، والمعهد الإسلامي في البصرة.
وأكبر خراب حلّ بدور العلم هو إغلاق مدرسة النجاة في الزبير التي أسسها العلاّمة المجاهد محمد الأمين الشنقيطي (1293 ـ 1332هـ) في مدينة الزبير وكانت هذه المدرسة محضن الكثير من أعلام الخليج والجزيرة العربية ولا سيما الكويت؛ لقد أغلقوها بعد موت الشيخ فصارت أطلالاً باكية.
ثم قف واسأل الحيدر خانة عن مدرسة العلاّمة الإمام محمود شكري الآلوسي وما فُعِلَ بتلك المدرسة؛ ولقد خلفه في هذا المسجد العظيم شيخ مشبوه كان يغش في الامتحان في كلية الشريعة.
واسأل أيضاً بدموع باكية أطلال مدرسة جامع مرجال حيث مكان العلاّمة الإمام نعمان خير الدين الآلوسي؛ حيث كانت مدرسته العلمية؛ لقد خربوها كلها وصرفوا الناس عنها، فقلّ العلماء وكثر الجهل، وألزموا العلماء زيادة في الإذلال بالخدمة العسكرية ـ لا ليجاهدوا عدواً ـ ولكن لينالوا من كرامتهم ويحطوا من منزلتهم ويعطلوا دورهم في التعليم والإرشاد.
لقد تخرج من هذه المدارس أعلام العراق الكبار من العلماء والأدباء وأهل الفضل بل حتى بعض العلمانيين فقد أخذ كامل الجادرجي (1897 ـ 1967م) علوم العربية وآدابها من الشيخ العلاّمة علي علاء الدين الآلوسي، والشاعر معروف الرصافي (1875 ـ 1945م) تخرج من بين يدي العلامة محمود شكري الآلوسي.
رجال اليهود والنصارى وقربهم من صناعة القرار:
على طول هذه الفترة للدولة العلمانية نهج العلمانيون طريقاً واحداً تمثل في إبعاد العلماء وتقريب من عداهم؛ حتى اليهود والنصارى؛ حيث حصلوا على ترخيص بإنشاء مدرسة الاليانس الخاصة، وكان رجال الحكم يرسلون أولادهم إليها، بل كان الملك فيصل الأول وجعفر باشا العسكري ممن يزورون هذه المدرسة ويحضرون مناسباتها ـ ومن رجال اليهود العراقيين الذين برزت أسماؤهم: (ساسون عقيل) فقد قربه الحكام آنذاك إليهم حتى صار وزيراً للمالية، ومن رجال الخارجية المشهورين (مير البصري) وهو ما زال حياً يقيم في لندن يكتب كتباً كثيرة في تراجم رجال العراق مع نبز أعيان السنة.
ومن النصارى أبرزوا القس انستاس الكرملي (1866 ـ 1947م) وكان هذا القس من العملاء المخلصين للإنجليز وقد أرسلوه بذهب ومال إلى العلاّمة محمود شكري الآلوسي لإقناعه بوظيفة الإفتاء أو القضاء في دولة الإنجليز فرفض الشيخ الذهب والوظيفة، بل ورفض مقابلة الملك فيصل الأول إلا بعد إلحاح شديد.
وهذا القس له جهود ونشاطات في التاريخ، وعلم اللغة والأدب العربي، وبصماته النصرانية واضحه في آثاره.
وقد أتيح للنصارى فتح المدارس التنصيرية، وبناء الكنائس، وتعمير مقابرهم، وفتحت لهم الأبواب إلى الوظائف الكبيرة والوصول إلى الوزارات، وليس (طارق حنا عزيز) نائب رئيس الوزراء العراقي الحالي المثال الوحيد، بل السفارات، وموقع التأثير الاقتصادي كانت لهم، وما زالت تحت سلطانهم! نسأل الله أن ينقذ العراق وأهله من ظلم وجبروت البعث وأزلامه.
الهوامش :
1) انظر المناظرة مطبوعة تحت اسم (مؤتمر النجف) مع كتاب (الخطوط العريضة) للعلاّمة محب الدين الخطيب ـ رحمه الله ـ.
===============(15/322)
(15/323)
إحياء مقبور الأدب العلماني
مجلة البيان - (ج 130 / ص 111)
خالد أبو الفتوح
كان أدب العلمانيين (اليساريين على وجه الخصوص) يعاني دوماً بأنه (أدب نخبة)،نخبة أدبية منفصلة عن القاعدة الشعبية العريضة، تماماً مثل النخب السياسية التي تمثل هذا التوجه، ولم يُحدِث هذا الأدب تأثيره على القاعدة الشعبية إلا عن طريق تحويله إلى أعمال فنية (تمثيلية أو غنائية) وهو المجال الذي يسيطر عليه ويوجهه أصحاب هذه التوجهات، بينما ظلت محاولاتهم في تشكيل العقل الثقافي الراسخ محدودة الأثر رغم جهود فرضها على قطاعات كبيرة من الأمة، بما فيها بعض الأعمال الأدبية والثقافية في مناهج التعليم العام، وإعادة طبع بعض هذه الأعمال لطرحها في الأسواق على نطاق واسع وبتكاليف زهيدة عسى أن يكون لهم موضع قدم في العقل العربي.
ولكننا رأينا مؤخراً تدخلاً دولياً في العقل العربي لتكثيف جهود إحياء مقبور الأدب العربي العلماني (الإنساني!) وحشد الإمكانات الهائلة لذلك الهدف، وذلك من خلال (ابتكار أدوات جديدة لنقل روائع الإبداع والفن وإيصالها إلى أكبر رقعة من الناس) على حد تعبير (فديريكو مايور) المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو) التي تبنت (أكبر مشروع عربي مشترك يهدف إلى إيصال الكتاب العربي مجاناً إلى قارئه أينما كان في الوطن العربي وخارجه)، وهو المشروع الذي خرج باسم (كتاب في جريدة)، والهدف منه يوضحه شوقي عبد الأمير المشرف العام على هذا المشروع؛ حيث يقول: (ولأن (كتاب في جريدة) بحكم المساحة الشعبية الهائلة التي يحتلها والتي تتسع رقعتها إلى الملايين يُخرج الأدب من دائرة (القراء) التقليدية إلى دائرة (القارئين)! الأرحب حضوراً ومدى؛ فهو بهذا يحدث اختراقاً لحواجز ثقافية اجتماعية اقتصادية متراكمة منذ أزمان، ليقيم علاقات جديدة في منطقة قصوى تقع بين الأدب والفن وبين مستهلكيه من أبناء لغته وثقافته).
ولأن منظمة (اليونسكو) لا تعمل لوجه الله وإن كانت تدعي أنها تعمل لوجه (الإنسانية) فقد اختارت(من أجل مزيد من التلاحم وترسيخ وحدة اللغة والثقافة) نحو خمسة وعشرين كتاباً لأعمال أدبية سبق نشرها لتقدمها مجاناً إلى ملايين القراء العرب خلال سنتين عبر أكبر الصحف العربية، وإليك بعضاً من أصحاب هذه الأعمال حتى تعرف الثقافة المقصودة بالإلحاح والإغراء:
المتنبي (مختارات) ـ سعد الله ونوس ـ نجيب محفوظ ـ بدر شاكر السياب ـ الجاحظ (مختارات) ـ صلاح عبدالصبور ـ غسان كنفاني ـ أمل دنقل ـ قصص المرأة العربية (مختارات) ـ غالب طعمة فرمان ـ قيصر بايّاخو (شاعر إسباني) ـ يوسف إدريس ـ زيد مطيع دماج ـ غالب هلسا ـ توفيق الحكيم ـ حنا مينة ـ عبد المجيد بن جلون ـ محمد خضير ـ الطيب صالح ـ إلياس خوري ـ الطاهر وطار ـ محمود المسعدي...
فهي أعمال موجهة مختارة لكتّاب أصحاب توجه فكري واضح ومعلوم..
وليس هذا بمستغرب؛ حيث لا بد أن القائمين على اختيار الأعمال سينتقون ما يتوافق مع قناعاتهم، ولتعرف هذه القناعات نذكر قائمة (الهيئة الاستشارية) كما جاؤوا في (كتاب في جريدة) ومنهم: أدونيس ـ محمود درويش ـ جابر عصفور ـ عبد العزيز المقالح ـ يمني العيد ـ ناصر الظاهري ـ أحلام مستغانمي ـ توفيق بكار ـ بدر عبد الملك.
فمن الذي وضع هؤلاء أو أولئك أوصياء على وعي الأمة؟!
ومن الذي أعطى لليونسكو سلطة تشكيل العقل العربي (أو الإنساني)؟!
=============(15/324)
(15/325)
دور الإعلام في الصراع بين الإسلام والعلمانية في تركيا
مجلة البيان - (ج 134 / ص 90)
د.مالك الأحمد
تعتبر تركيا أول بلد إسلامي تقام فيه العلمانية، بصورة تختلف جذرياً حتى عن التطبيقات العلمانية في البلدان الأوروبية المجاورة لها، التي تعتبر مصدر العلمانية.
فالعلمانية في تركيا تعني: (لا للإسلام)، فليس الأمر مقتصراً على الحُكم (العلماني) بل يتعدى ذلك إلى سائر النشاطات البشرية حتى التصرفات الشخصية.
وتركيا البلد الوحيد في العالم ـ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي واندثار أثر لينين ـ التي يحكمها رجل من قبره، رجل مُعظّم بل ومُقدّس، لا يُمس ولا يُنتقد ولا يُعترض عليه ـ وهو في قبره ـ .
وتركيا بلد الخلافة الإسلامية التي أصبحت أشد البلدان الإسلامية معاداةً للإسلام ومحاربةً حتى لشعائره كحجاب المرأة المسلمة.
الإعلام في تركيا:
رغم انتماء تركيا في العصر الحاضر إلى منظومة دول العالم الثالث؛ إلا أنها شذت عنها في أمور كثيرة ومنها الإعلام؛ فالإعلام في تركيا حر بكل معنى الكلمة، ولا يحتاج الأمر ترخيصاً من وزارة الإعلام أو إدارة المطبوعات لإصدار دورية (جريدة أو مجلة)، أو إنشاء قناة إذاعية أو تلفزيونية. هذا الانفتاح الإعلامي الذي لا يتجاوز عمره عشر سنوات أثمر العشرات من الصحف اليومية ومئات المجلات الدورية. أما في جانب الإعلام المرئي والمسموع فيوجد الآن (1500) إذاعة ومعظمها محلي على نطاق موجة ()، وقليل جداً منها إقليمي يغطي منطقة معينة، وبالنسبة للتلفاز فهناك (300) قناة تلفزيونية، منها ثلاثون قناة فضائية تغطي كافة الأراضي التركية من خلال القمر الصناعي (ترك سات)، إضافة إلى أجزاء من آسيا وأوروبا، أما الباقي فهي قنوات محلية في نطاق المدينة أو المنطقة. هذا الانتشار الواسع لوسائل الإعلام في تركيا، لا مثيل له في البلدان النامية؛ بل حتى في البلدان الأوروبية، وهو أشبه ما يكون بالإعلام الأمريكي من حيث التعدد والانتشار، مع فارق وحيد هو أن اللغة التركية محصورة في مناطق محدودة من العالم وليست لغة دولية كالإنجليزية.
هذا التنوع في أدوات الإعلام مع الكثرة؛ جعل للإعلام سلطة فاعلة وحركة أساسية في المجتمع حتى إن الباحثين والمراقبين للشأن التركي يختلفون في القوة الأولى التي تحكم البلد؛ فالبعض يقول: إن الجيش هو القوة الأولى والإعلام القوة الثانية، أما الفريق الآخر فيرى العكس. والحقيقة أن الإعلام في كل الأحوال هو الذي يحرك الجيش ويستفزه لضرب أي توجهات إسلامية ولو كانت محدودة ومحصورة، بل لا يعبأ أن يحرّض ـ في كثير من الأحيان ـ على التدخل المباشر والقيام بانقلاب عندما يرى العلمانيون أن التوجه الإسلامي قد يهددهم، أو أن الصحوة الإسلامية بدأت ترفع الرأس وتتنسم الهواء الطلق. إنهم لا يريدون وجود قوي مؤثرة في البلد غير العلمانيين، فكيف يقبلون ببروز إسلامي صاعد؟ ويكاد يتفق المتابعون للشأن التركي أن سقوط حكومة التحالف الإسلامي/ العلماني كان على يد الإعلام وبشكل أخص الصحافة اليومية العلمانية ذات النفوذ والانتشار الواسع(1).
ومن غرائب حرية الإعلام التركي وجود محطات تلفزيونية وإذاعية تقدم خدمات خاصة لأصحابها، وتقوم بحماية مصالحهم الشخصية الاقتصادية، وأحياناً بطريقة فجة؛ فهناك قناة تلفزيونية مهتمة بالدفاع عن كازينوهات القمار، تسوّق لها وتعدّد فوائدها وآثارها الاقتصادية على المنطقة المحلية، وأنها مصدر دخل قوي للعملة الصعبة، خصوصاً من إسرائيل بدلاً من الدراهم القليلة من السياح العرب (المتخلفين)!.
من جانب آخر يعتبر الكثير من الصحف اليومية العلمانية أن من مقومات الصحافة العري والتفسخ؛ فيندر أن يخلو عدد من هذه الصحف من صور نسائية عارية أو شبه عارية وبشكل متكرر ومقزز؛ تشبهاً بالصحف الشعبية الإنجليزية (التابلويد)، ولكن بنساء تركيات (مسلمات على الأغلب)، هذا الأمر لا يوجد ـ على حد علمنا ـ في أي بلد مسلم. ويلاحظ وجود دعم غير مباشر من الحكومات العلمانية للصحف اليومية كي تَغُضّ الطّرْف عن الأخطاء، وتركز جهودها فقط لتتبع الإسلاميين وأنشطتهم وإثارة العامة والجيش عليهم.
الإعلام الإسلامي في تركيا:
نظراً للجهد الضخم والإرث التراكمي للدولة العلمانية ومؤسساتها في محاربة الإسلام من جذوره؛ فإن أي جهد لمقابلة هذا المد أو حتى التخفيف من دوره يصب في خانة العمل الإسلامي؛ باعتبار أن القائمين عليه من أهل القبلة وذوو نيات حسنة، وإن خالفوا أحياناً المنهج الإسلامي الصحيح.
وعند الحديث عن النشاط الإسلامي إجمالاً في تركيا، فإنه يمكن تقسيمه إلى الفئات التالية:
* الحركات الصوفية النقشبندية: وهي ذات انتشار واسع في أوساط عامة الناس خصوصاً بين القرويين وبعيداً عن المراكز الحضرية الأساسية في البلاد، وهي ذات عمق تاريخي بعيد منذ أيام الخلافة العثمانية.(15/326)
* حركة النورسيين: وهي حركة إسلامية منظمة، واسعة الانتشار، تهتم كثيراً بالتعليم، وتتبعها آلاف المدارس داخل تركيا وخارجها، وهي تعتمد على نفسها كلياً في الإنفاق على نشاطاتها، وهي صوفية أيضاً في الكثير من توجهاتها.
* حزب الرفاه: وهو حزب سياسي بالدرجة الأولى؛ ولكن له أنشطة متنوعة: اقتصادية وتعليمية وثقافية، وله حضور واسع، ويستفيد ـ في الانتخابات ـ من الجماعات الصوفية. ومنهج الحزب في الجملة قريب من منهج الإخوان المسلمين، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية البيئة التركية ونفوذ التيار العلماني وسيطرته الواسعة. وهو الحزب الذي حظر نشاطه بشكل رسمي أخيراً، وانتقل كثير من أنصاره إلى حزب بديل هو (حزب الفضيلة).
* تجمعات أخرى:
بخلاف الجماعات السابقة فإنه يوجد في تركيا تجمعات محلية محدودة ومتنوعة الاتجاهات؛ بعضها سلفي وبعضها إصلاحي عام، لكن أثرها محدود وانتشارها ضيق وأتباعها قلة.
من الأمور المسلّمة في تركيا ـ والتي تمثل إرثاً قديماً من أيام الخلافة العثمانية ـ أن الفقه حنفي، والسلوك صوفي، والعقيدة ماتريدية؛ لذلك لا يستغرب الباحث أن الأصل في المجتمع التركي هذه المسلّمات، وقلّما تخلو منها جماعة أو حزب. أما التوجه السلفي فهو حديث، ومحدود الانتشار ومحارب من الكثير من الجهات الصوفية المتعصبة. ومن الملاحظ أيضاً على الأنشطة الإسلامية ـ رغم قصورها المنهجي ـ أنها تنتمي إلى جماعات أو طوائف أو أحزاب، وقلما تكون مستقلة.
عند الحديث عن الإعلام الإسلامي لا بد من مراعاة طبيعة وتوجهات القائمين على الأنشطة الإسلامية (كما هو موضح مسبقاً) وكذلك طبيعة البلد والهجمة الشرسة على المسلمين والإسلام؛ ويمكن حصر خصائص الإعلام الإسلامي التركي فيما يلي:
* إعلام محافظ في الجملة.
* إعلامي تربوي (بشكل محدود).
* إعلام ثقافي بدون مجون أو انحلال.
* إعلام سياسي (أحياناً) يقارع العلمانية بشكل متزن ومتعقل.
* إعلام بديلي (يحاول أن يقدم مواد إعلامية مناسبة بديلاً عما يقدم في الوسائل الإعلامية العلمانية).
هذه الخصائص تعطينا رؤية معتدلة وصائبة عند تحليل ونقد ما تقدمه هذه الوسائل الإعلامية، من مواد وبرامج.
ورغم هامش الحرية الإعلامية فإن الإعلام الإسلامي بالذات يظل تحت المجهر، وسيف الدستور العلماني مسلط في وجه التحركات الإسلامية الإعلامية، رغم تعقلها واتزانها ـ وقصورها أيضاً ـ في جانب ما تقدمه من مواد إسلامية.
بمعنى آخر: الحرية مقصورة إلى حد كبير على الإعلام العلماني ليقدم ما يشاء من انحلال وتفسخ، وحتى تشويه الإسلام مسموح به، أما خلاف ذلك فالأصل التتبع والمحاكمة وحتى السجن للمخالفين.
إذن عند تقويم النشاط الإعلامي الإسلامي لا بد من أن نأخذ في الاعتبار العديد من العوامل المحلية ومنها:
* قسوة النظام العلماني.
* الحرية العوجاء.
* الإرث العلماني الأتاتوركي.
* انتشار التصوف.
* حداثة الحركة الإسلامية نسبياً.
* حداثة التجربة الإعلامية الإسلامية.
* التنوع الكثيف والواسع الانتشار لوسائل الإعلام.
* قوة الجيش وهيمنته ودوره في حماية العلمانية.
* ضعف البيئة الديمقراطية.
بدايات الإعلام الإسلامي:
كانت فترة الستينيات هي فترة ظهور الإعلام الإسلامي في صيغته البسيطة والضعيفة، كانت البدايةُ جريدةً أسبوعية ثم يومية (الاتحاد، 1966م)، ثم (آسيا الجديدة) الأسبوعية، ثم (الهلال) التي استمرت طويلاً ثم توقفت، كذلك صدرت (هذا اليوم) و(الصباح) التي تحولت إلى علمانية فيما بعد.
وكانت هذه الفترة تتميز عموماً بضعف تلك المطبوعات وعدم انتظام صدورها وتوقف أغلبها.
بعد ذلك ظهرت جريدة (تركيا) عن جماعة حسين حلمي الصوفية، ثم في عام (1973م) ظهرت جريدة (الوطنية) عن حزب الرفاه.
بدأ النشاط الإعلامي الإسلامي القوي والواسع الانتشار في الثمانينيات، وترسخت أقدامه في بداية التسعينيات؛ حيث كانت الأوضاع مهيأة لذلك بعد الانقلاب العسكري سنة (1987م)؛ حيث استفاد الإسلاميون كما استفاد غيرهم من الديمقراطية المعقولة في ذلك الحين (عهد أوزال)، وكانت ـ وما تزال ـ جل الجهود مركزة على تقديم إعلام هادئ متزن، يهادن العلمانية في كثير من الأحيان كي لا يضطر إلى المصادمة معها، مع احتفاظه بتوجهات إسلامية بحسب الجهة المصدرة.
الأنشطة الإعلامية الإسلامية:
يمتلك الإسلاميون بمختلف ميولهم وتوجهاتهم العديد من وسائل الإعلام، فلهم خمس قنوات فضائية تلفزيونية، إضافة إلى بعض القنوات المحلية، والعشرات من الإذاعات المحلية (إحدى الإذاعات تبث أشرطة لمشاهير الدعاة في العالم الإسلامي والعربي)، إضافة إلى بعض الصحف اليومية والعشرات من المجلات المتنوعة.
أولاً: الصحافة اليومية:
* صحيفة الزمان: أوسع صحيفة إسلامية يومية توزع ما يقارب 300000 نسخة، تدعمها وكالة أنباء خاصة بها وهي (جيهان)، وتصدر عن جماعة النورسيين، وهي تهادن الدولة ولا تتصادم مع العلمانيين، متبعة في ذلك النهج التبليغي في الدعوة، وتعتبر جريدة سياسية دعوية عامة.
* صحيفة الوطنية: لسان حال حزب الرفاه، جريدة يومية سياسية دعوية.(15/327)
* صحيفة تركيا: ذات توجه صوفي يساير العلمانيين.
* صحيفة العقد.
ثانياً: الدوريات الإسلامية:
هناك العديد من الدوريات الإسلامية (أكثر من 250) بين صحف يومية وأسبوعية ومجلات أسبوعية وشهرية، أغلبها محلي مرتبط بأحزاب أو جماعات أو تجمعات إسلامية، ومنها على سبيل المثال:
* (العصر) أسبوعية سياسية دعوية سُنّية ذات ارتباط وميول سياسية إيرانية.
* (الشفق الجديد) حزب الرفاه، يومية سياسية دعوية عامة، توزع 15000 نسخة يومياً.
* (السلام) أسبوعية شيعية.
* (الشعب) حزب الرفاه.
* (الوقف) مجلة أسبوعية شبابية (حزب الرفاه).
* (الإسلام) سياسية (صوفية نقشبندية).
* (الأسرة) اجتماعية (صوفية نقشبندية).
* (الفاتح) سياسية شهرية.
* (التفاؤل) يومية صوفية.
* (الرسالة الجديدة) مجلة صوفية.
* (البحوث الإسلامية) مجلة فكرية عقلانية.
* (إسلاميات) مجلة فكرية عقلانية.
* (الفرقان) صوفية نقشبندية.
* (الدعاء) شهرية دعوية غير سياسية تصدر في قبرص التركية عن مؤسسة الوقف الإسلامي.
ثالثاً: القنوات الفضائية الإسلامية:
1-قناة تركيا:
أبرز القنوات وأوسعها انتشاراً، تصدر عن جماعة صوفية نقشبندية: (جماعة الإخلاص)، ولديهم الكثير من النشاط الإعلامي: (جريدة تركيا، وكالة أنباء الإخلاص، إضافة إلى 81 دورية ومجلة).
وإضافة إلى النشاط الثقافي والتجاري لأصحاب القناة فإن لديهم ولاء للدولة، ويهادنون العلمانية، ومع ذلك تسمى قناة إسلامية؛ لأنها تقدم بعض التوجيهات والنصائح الدينية، وموادها الإعلامية محتشمة وليست إباحية (مقارنة بالقنوات العلمانية)، أما ضوابطهم الشرعية فضعيفة؛ حيث يُكفّرون الكثير من مخالفيهم ومنهم الوهابية.
2-الرسالة: ذات توجه صوفي، تذيع القرآن والبرامج التعليمية، وهي أفضل من قناة تركيا.
3-سمان: تتبع النورسيين، وهي قوية في الجانب التقني، وموادها الإعلامية محافظة في الجملة؛ لكنها تفتقد للمواد التربوية الهادفة.
أبرز الإنشطة الإعلامية الإسلامية:
1-\ صحيفة العقد:
وهي أكبر جريدة يومية إسلامية مستقلة، غير مرتبطة بأحزاب أو جماعات، تتعاون مع جميع الاتجاهات الإسلامية، وذات هدف واضح ومحدد وهو كشف العلمانية والعلمانيين؛ وإظهار عوراتهم وفضحهم أمام الناس بالأدلة والبراهين، معتمدين على الجرأة في الطرح والثقة بالنفس، مع الاستعانة بالخبراء القانونيين؛ خشية الوقوع فيما يصادم القوانين ويعرض الصحيفة للتوقف، أو القائمين عليها للسجن. منهجها ـ كما يوضحه مصطفى أوغلو الناشر ورئيس التحرير ـ: (أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين).
معاركهم موجهة ضد خندق الزنادقة والمعاندين، فليس لديهم وقت للمعارك الجانبية مع التيارات الإسلامية، ومنهجهم في فهم الإسلام جيد في الجملة.
تدافع الجريدة عن القضايا الإسلامية في تركيا بشكل خاص والعالم الإسلامي بشكل عام.
رئيس التحرير ذو خبرة صحفية واسعة (ما يقارب 30 عاماً) كان مديراً لتحرير جريدة الوطن (التابعة للرفاه) سابقاً.
تأسست الجريدة قبل خمس سنوات، بأهداف محددة، وبإمكانات محدودة تتكوّن من قروض شخصية متطورة من مجلة الجمعة الشهرية ثم الأسبوعية لاحقاً والتي أدت دوراً جيداً في الجانب السياسي والدعوي الإسلامي؛ حتى وصل توزيعها إلى 35000 نسخة أسبوعياً.
توزع الجريدة الآن 120000 نسخة يومياً، وهو معدل مرتفع مقارنة بأوسع الصحف العلمانية انتشاراً وهي جريدة الحرية التي توزع 500000 نسخة من مجموع 5، 2 مليون نسخة توزعها كافة الجرائد اليومية.
تطورت الجريدة فنياً ومالياً، فبدأت بمبنى مستأجر، ثم مبنى مملوك، ثم اشترت أخيراً مطبعة خاصة بها؛ كي تستغني عن الطباعة لدى الجهات التجارية الأخرى.
يقول مصطفى أوغلو رئيس التحرير: (لدينا سلاح واحد وعدد قليل من الطلقات، نحاول الاستفادة منها بأقصى ما يمكن دون أن نُُجر إلى معارك لم نخطط لها، وغير قادرين على الانتصار فيها).
واستقلالية الجريدة أعطتها قبولاً واسعاً لدى طبقات الصحوة الإسلامية المثقفة سواء التي لها ارتباط بأحزاب أو جماعات أو المستقلين.
رغم التحري الواسع في شأن ما تطرحه الجريدة من قضايا مع الاستعانة بالجهات القانونية؛ إلا أنها لم تسلم من المواجهات مع الجهات العلمانية؛ حتى وصل عدد القضايا التي رُفعت ضدها في المحاكم إلى ألف قضية، خرجت من بعضها بالبراءة، وحُكم عليها في البعض الآخر بالغرامات المالية.
تعتمد الجريدة على نفسها في تغطية مصاريفها سواء من المبيعات أو الإعلانات رغم محدوديتها وذلك لامتناع أغنياء المسلمين ـ مثل (مجموعة أوكلر) ـ عن الإعلان فيها؛ خوفاً من متابعة الدولة لهم بدعوى دعم هذه الجريدة الإسلامية.
وفي الوقت الذي تعاني فيه جريدة (العقد) من المصاريف ومحدودية الدخل ـ رغم صدق اللهجة والإخلاص في الكلمة ـ؛ فإن صحفاً أخرى محلية مثل جريدة (الحرية) تعتبر مصدر ثروة لصاحبها، الذي يعتبر أغنى رجل في تركيا.(15/328)
تقوم الجريدة كذلك بتوزيع كتب ونشرات إسلامية (120000 نسخة) على قراء الجريدة مجاناً وتتحمل الجريدة تكاليف الطباعة والتوزيع، وتتحمل الجهات الخيرية الأخرى تكاليف الورق وتوزيع بعض الكتب مثل كتاب: (حصن المسلم)، وكتاب: (تهذيب الطحاوية)، إضافة إلى العديد من النشرات المتنوعة الشرعية للتوعية العامة.
أغلب مواد الجريدة معالجات محلية لقضايا ذات ارتباط بالجانب الإسلامي (الحجاب مثلاً)، فضلاً عن متابعات سياسية دولية مع اهتمام خاص بالشأن الإسلامي. وتقل المواد الترفيهية فيها وتكاد تقتصر على صفحة رياضية ذات جذب إعلاني، أما عدد صفحات الجريدة فهو (20) صفحة منها (4) صفحات ملونة.
2- قناة 7:
وتعتبر هذه القناة ثانية أوسع قناة إسلامية فضائية انتشاراً؛ فقد تأسست عام 1994م، وهي لسان حال حزب الرفاه (غير رسمي) وتتميز بالاعتدال والموضوعية. تركز هذه القناة على الأخبار والتحليلات والمقابلات السياسية، وتعطي هامشاً للمناورة مع الجهات المعادية العلمانية، وطرحها السياسي والفكري قوي وفعال، وتستضيف الكثير من الشخصيات سواء الإسلامية أو العلمانية أو رموز الدولة لإحراجهم، ولها قبول واسع لدى المثقفين بشكل خاص، ونشرتها الإخبارية الرئيسة اليومية قوية جداً.
أهداف القناة تنحصر في تقديم خدمات إعلامية عامة تخلو من الابتذال والانحلال والتشويه للفكرة الإسلامية، وتقدم مجموعة من المواد الإعلامية العادية من مسلسلات وأفلام ورياضة ومنوعات تخلو من المفاسد، كما تستفيد من الإنتاج الإيراني. وهناك القليل من البرامج التربوية والاجتماعية الهادفة إضافة إلى القرآن وبعض البرامج الفقهية.
والقناة تركز ـ في الجملة ـ على الجانب السياسي بفهم حزب الرفاه وفكره وتوجهاته.
كما أنها تحاول أن تعطي الفرصة للمجتمع التركي للاطلاع على مواد إعلامية محافظة بعيداً عن قنوات التفسخ والانحلال الأخرى. والقناة ليست إسلامية بالمعنى الحرفي؛ لأن النظام العلماني مشهر سيفه تجاه أي توجه إسلامي قوي وبارز، خصوصاً الإعلامي منه.
والقناة ليست تجارية، بل تعاني مادياً بسبب التكلفة العالية للإنتاج والبث التلفزيوني الفضائي؛ بالرغم من أن مباني القناة وتجهيزاتها بسيطة وتمثل الحد الأدنى، حتى إن أربكان صرح مرة بأن دعم القناة باب من أبواب الجهاد وذلك لإيصال الرسالة الإسلامية للناس.
المآخذ:
رغم بعض المآخذ على القناة 7، إلا أن الأمر فيها لا يعدو أن يكون سياسة مصالح ومفاسد؛ ولا بد لها من أن تقدم بعض المواد الإعلامية المكملة التي تعتبر من ضرورات أي قناة تلفزيونية، وكذلك لا بد من الأخذ بتوجيهات الهيئة العليا للإذاعة والتلفزيون التي تشرف على البث، وهي مكونة من أعضاء من الحكومة والبرلمان وبعض الإعلاميين والمختصين، وغالبيتها من العلمانيين، وهي تقوم بمراقبة البث بما لا يصادم دستور البلاد (العلماني)، ويراعي حاجات المجتمع (حسب نظرتهم) كالرياضة والموسيقى والأفلام وغيرها، وهي تؤكد متابعتها للقنوات الإسلامية، وتقوم بمحاسبتها بناءً على المعطيات العلمانية.
ورغم هذا التوجه في القناة إلا أنها لم تسلم من النقد حتى من رئيس الوزراء الذي صرح بأنها أي ـ أي قناة 7 ـ تبث أخباراً تفرق المجتمع وأنها ليست جيدة.
تظهر في القناة بعض الملامح الإسلامية كالفتيات المحجبات، سواء في بعض البرامج أو إدارة القناة.
كذلك تعالج بعض قضايا الناس اليومية واهتماماتهم الآنية، وتفتقد إلى الكثير من البرامج التربوية الهامة. وهذا الضعف في التوجه الإسلامي يُعزى إلى أمرين:
الأول: مراعاة المراقبة والمتابعة الرسمية محاولةً لعدم التصادم مع النظام العلماني المسيطر؛ فلقد أُغلقت إحدى القنوات التلفزيونية لمدة شهر؛ لأنها شرحت حديثاً حول دخول المرأة النار بسبب ترك الحجاب.
الثاني: طبيعة حزب الرفاه وتكوينه المنهجي واعتماده التوجه السياسي في الغالب وضعف الجانب العلمي والتربوي لديه.
خاتمة:
من المسلّمات المعاصرة أن للإعلام دوراً فاعلاً ومؤثراً في سلوك الأفراد والمجتمعات وفي توجيه الأفكار والمعتقدات، وقلما تكون هناك فرصة للتأثير العام على المجتمعات الإسلامية من خلال وسائل إعلام إسلامية؛ وذلك لانعدام الحرية الإعلامية بشكل عام. ولا شك أن الوضع التركي يختلف جذرياً، وفرصة توجيه عامة الناس والتأثير عليهم إيجابياً مواتية إذا أخذنا في الاعتبار الحرية النسبية، وعدد السكان الضخم (70 مليوناً)، وتوافر أدوات التأثير الفعالة، ووجود خبرات معقولة في تقنيات الإعلام المعاصر.
هذه التوطئة تدفعنا إلى تقديم بعض الاقتراحات والتوجيهات ومنها:
* دعم الأنشطة الإعلامية البارزة والمعتدلة ذات التوجه الإسلامي المعقول.
* التعاون مع القائمين على الأنشطة الإسلامية من أجل ترشيد توجهاتهم وضبط منهجهم بما يناسب بيئتهم وتجربتهم.
* محاولة الاستفادة من التجربة الإعلامية الإسلامية التركية،ونقلها إلى البلدان الإسلامية بما يناسب تلك البيئات ويراعي الأنظمة والقوانين المحلية.(15/329)
* السعي لإيجاد أنشطة إسلامية ذات صيغة دولية،لها مراكز محلية في البلدان الإسلامية المختلفة، وذات رسالة واضحة وبلغات متعددة.
__________
(1) وهناك مجموعتان إعلاميتان علمانيتان: (صباح) و(دغون) تسيطران على 53% من الدوريات، وكانتا من أسباب إسقاط حكومة أربكان.
===============(15/330)
(15/331)
في المغرب جدل بين الإسلاميين والعلمانيين
مجلة البيان - (ج 144 / ص 106)
حول قضايا المرأة والأسرة
البشير العوني - محمد إكيج
يسود الساحة المغربية هذه الأيام نقاش بين المدافعين عن الهوية الإسلامية وبين بعض الجمعيات اليسارية حول مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية الذي أعدته كتابةُ الدولة للرعاية الاجتماعية والطفولة والأسرة في مارس 1999م. ويحتدم النقاش المغربي على الخصوص حول الجانب المتعلق بمدونة الأحوال الشخصية وهي القانون المغربي الأوحد المنبثق كليةً من الشريعة الإسلامية، وينظم الأسرة في الزواج والطلاق والميراث.
ومن بين التعديلات المقترحة على المدونة:
1- منع تعدد الزوجات: يقول مشروع الخطة: "تشكل هذه المؤسسة تهديداً للاستقرار الأسري، وقد تعرضت التجاوزات المتولدة عن هذه المؤسسة ومؤاخذة عدة مفكرين وعدة منظمات نسائية، اعتباراً من جهة لروح النص القرآني الذي يعلن ويقر بكل وضوح أنها مصدر لا عدالة بين النساء، لذلك يجب حذفها لا تقييدها فقط، كما يجب إخضاع الحالات الاستثنائية لقبول الزوجة الأولى ولتقييم القاضي". (ص 129).
2- جعل الطلاق بيد القاضي: يقول مشروع الخطة عن الطلاق: "يجب على المشروع أن يخص أيضاً هذه المؤسسة التي تمثلهما {أي الرجل والمرأة} بالنسبة للنظام العائلي وللنظام الاجتماعي على السواء إلى أن يقول: "وبإقرار الطلاق القضائي وسيلةً وحيدة لفسخ عقد الزواج يساهم المشرع المغربي في تعزيز مؤسسة الزواج" (ص 128 - 129).
3 - رفع سن الزواج بالنسبة للفتاة إلى 18 سنة: يقول مشروع الخطة: "الرفع من سن الزواج إلى 18 سنة، وذلك طبقاً للاتفاقية الدولية المتعلقة بحقوق الطفل التي صادق عليها المغرب في يونيو 1993م بدون تحفظ" (ص 128).
4 - إلغاء الولاية عند عقد الزواج: يقول مشروع الخطة: "يجب أن يكون إلزام اللجوء إلى الولي أثناء عقد الزواج ثانوياً؛ بحيث يسمح للفتاة الرشيدة أن تعقد زواجها دون سُلْطة الولي إذا رغبت في ذلك، ويستمد مبدأ الوصاية جذوره من التقسيم الجنسي للمجال الذي عرفه المجتمع المغربي التقليدي، لذا فالطابع الإلزامي للولاية لم يعد له مبرر بمرجع إلى الأدوار الجديدة للنساء في المجتمع من جهة، وإلى تأخر سن الزواج من جهة أخرى" (ص 128).
5 - توزيع الممتلكات مناصفة عند الطلاق: يقول مشروع الخطة: "احتراماً للعدالة باعتباره مبدأ مؤسساً للإسلام، واعترافاً بتضحيات المرأة طول الحياة الزوجية على القاضي الذي يعلن الطلاق أن يفصل في توزيع الممتلكات المحصلة خلال فترة الزواج، وأن يسمح للمرأة المطلقة بنصف هذه الممتلكات التي ساهمت فيها سواء من خلال عملها داخل البيت أو عن طريق عمل مأجور" (ص 130).
6 - عدم إسقاط الحضانة عن المطلقة بسبب بعدها، وإحداث محكمة خاصة بمشاكل الأسرة.
ردود فعل الهيئات العلمية:
وقد جاء الرد الأول قوياً من قِبَل اللجنة العلمية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي أوضحت أن مراجعة المدونة يجب أن تسند إلى العلماء المختصين؛ حيث يوجد من بينهم الرجال والنساء، ثم توالت بعد ذلك البيانات من هيئة العلماء ومنها:
- جمعية رابطة علماء المغرب، التي أصدرت بياناً جاء فيه: "إن علماء المملكة المغربية ينددون بما تضمنته بنود الخطة المقترحة، وديباجتها من استخفاف بالتشريع الإسلامي وتهديد استمرارية الإسلام الذي تضمنته تلك البنود المناهضة لأصول الأحكام الإسلامية كتاباً وسنة".
ويضيف البيان: "إن مشروع الخطة المقترح - حسب ما تبين فيه - يؤدي إلى المزيد من دفع الشباب للعزوف عن الزواج، ويفتح الباب في وجه الانحلال الخلقي والتفسخ العائلي، ويشيع الفساد والفجور في المجتمع، ويؤدي أيضاً إلى القضاء على الغيرة والشرف؛ هذان العنصران الهامان اللذان قال عنهما أمير المؤمنين - يقصدون الملك الحسن الثاني - في كتابه: (ذاكرة ملك): "أما عندنا - نحن المسلمين - فإن الحفاظ على شرفنا يمتزج مع الحفاظ على عقيدتنا، وإن الإنسان بدون شرف هو مخلوق منعدم الكرامة يفتقد العناصر المكونة للشخصية، ويصبح مرتزقاً ينعدم فيه أدنى حس أخلاقي، ويمكن التشكك في جميع تصرفاته" (ص 147).
- ثم جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية التي أهابت في بيانها بالضمير الإسلامي أن يستيقظ من سباته، ويتحرك في اتجاه تصحيح ما أفسدته الأمية والجهل من جمال الشريعة الإسلامية، والعمل على حماية المرأة من الانزلاق إلى الهاوية التي وضعها على حافتها من أخذوا على أنفسهم إغواءها وإغراءها ليصنعوا منها عدواً، لدينها وتاريخها وحضارتها.
وقد اندهش البيان من قول المشروع في إحدى فقراته: "إذا أردنا اتخاذ التشريعات الإسلامية مرجعاً ينبغي أن تأخذ هذه الشريعة بعين الاعتبار التحولات الاجتماعية... قائلاً: "إن من يقرأ هذه الصيغة لا يمكنه إلا أن يعبر عن استغرابه لهذه الجرأة على الله وعلى الاستخفاف بمقدسات الأمة ومشاعرها، إضافة إلى ما تشعر به من إنذار بالإعراض عنها وتهديد بالمقاطعة والبحث عن البديل المناسب إن لم تبادر هذه الشريعة إلى تغيير ملامحها".(15/332)
كما ركز البيان على تغييب العلماء كلياً عن هيئة إعداد المشروع، وتجاهلهم إمعاناً في التنكر لدورهم في إصلاح أحوال المجتمع، وحتى عندما اقتضى السياق في إحدى فقرات المشروع الإشارة إليهم، تعمد واضعوه تجريدهم من وصفهم الشرعي والتاريخي الذي هو "علماء الشريعة" وذكروهم بوصف "اختصاصيين في الشريعة"؛ في حين لم يبخلوا على فئات ذات تخصصات أخرى بوصف العلم: "علماء الاجتماع وعلماء النفس" كما جاء في البيان.
ثم تعرض البيان للمحتوى الفقهي للخطة وما تضمنته من دعوة صريحة لتغيير أحكام الشريعة، رغم أنف النصوص القطعية، والاستعداء عليها بالمنظمات النسائية والهيئات الدولية، والدعوة إلى اتخاذ القوانين العلمانية شرعة ومنهاجاً.
ثم خلص البيان إلى أن العلماء يتحفظون إزاء ما ورد في الخطة لمنافاته القواعد الشرعية، ولصدوره من جهات غير مختصة في الشريعة ولا هي من أهلها.
- أما الهيئة الوطنية لعدول المغرب "العدول هم محررو وثائق الزواج والطلاق والإرث" فقد أصدرت بدورها بياناً اعتبرت فيه نفسها معنية أكثر من غيرها بما تضمنه هذا المخطط العلماني الصرف، بحكم احتكاكها اليومي مع قضايا المواطنين في الأسرة وغيرها،واطلاعها عن كثب على كبريات المشاكل الأسرية دقها وجلها، وتعيش مع هموم المرأة والرجل والطفل صباح مساء وفي كل لحظة من لحظات حياتهم.
وأعلنت رفضها القاطع لهذا المشروع شكلاً ومضموناً؛ فمن حيث الشكل لعدم دستوريته "إذ خرق قاعدتين كبيرتين من القواعد الدستورية المغربية الكبرى، أولها: قاعدة إسلامية الدولة المغربية المنصوص عليها في الفصل السادس من الدستور المغربي. وثانيها: قاعدة عدم مرجعية النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي ولو في شكل استفتاءات شعبية، وتلك منصوص عليها في الفصل 106 من الدستور المغربي". أما من حيث المضمون: "فلأن المشروع بصفة عامة من حيث آثاره المرتقبة - لا قدر الله - يمس بقوة عمق الفطرة التي فطر الناس عليها، ويزلزل كيان الإنسان المغربي واستقراره النفسي، ويؤدي إلى شيوع الرذيلة والفساد، ويعرض مؤسسة الزواج الشرعي إلى الزوال والاندثار، ويفتح الباب على مصراعيه للإباحية لاتخاذ الخليلات وسوق الدعارة".
وهنا نسجل باعتزاز كبير، وافتخار شديد هذا الدور الريادي الذي قام به العلماء في توعية الناس بمخاطر هذا المشروع، وإسهامهم الإيجابي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ردود فعل الحركة الإسلامية:
تجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى جمعيات العلماء، فإن عدداً غير يسير من الجمعيات ذات التوجه الإسلامي تصدت كذلك للمشروع، وفي مقدمتها حركة التوحيد والإصلاح التي أصدرت بياناً مشتركاً مع حزب العدالة والتنمية - ذي التوجه الإسلامي - أكدت فيه على أن الخطة تميزت بأحادية التناول والمعالجة، والاعتماد الأساس على المرجعية الغربية، ودعت إلى ضرورة اعتماد المرجعية الإسلامية والتقيد بها إطاراً وموجهاً لأي خطة ولأي إصلاح في هذا المجال، وفي غيره من المجالات، ثم دعت كل المعنيين بالدفاع عن الشريعة الإسلامية أفراداً ومؤسسات وهيئات إلى القيام بواجبهم في صيانة الأسرة المغربية المسلمة.
وقد لاحظت الجمعيات والهيئات التي تعارض مشروع الخطة، أن المشروع يتسم بما يلي:
1- الإقصاء الممنهج لعدد من الفعاليات أثناء إعداد الخطة: وعلى رأس الذين تم إقصاؤهم: جمعيات العلماء، الحركات الإسلامية، وعدد من الجمعيات النسائية وهيئات من المجتمع المدني.
2 - الطابع العام للخطة تغريبي: ولا يشير إلى المرجعية الإسلامية التي تشكل أساس عقيدة الشعب المغربي برمته منذ أن دخله الإسلام، ويكرس هذا الطابع التغريبي اعتراف الخطة بكونها ممولة من قبل منظمات دولية غربية، فقد ورد في ديباجة المشروع ما يلي: "تم إعداد مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية تحت إشراف كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة، بمساهمة من البنك الدولي".
3 - كثير من المقترحات الواردة في مشروع الخطة تتعارض مع الشريعة الإسلامية: وتعتبر الجهات التي تتصدى لمشروع الخطة أن ما تطرحه من قضايا: محاربة الأمية والتشغيل والمدرس وإشراك المرأة في التنمية، هي قضايا مشروعة وتعاني فيها المرأة المغربية الكثير من الحيف والظلم وتستدعي إجراءات مستعجلة لحلها ومعالجتها؛ لأنها ترفض المساس بثوابت الدين المنصوص عليها في أحكام الشريعة الإسلامية الغراء.
ردود فعل الهيئات السياسية:
أما على الصعيد السياسي فإن مسؤولين بارزين من حزب العدالة والتنمية بزعامة أحد رموز الحركة الوطنية المغربية - منهم الدكتور عبد الكريم الخطيب - أشاروا إلى أنهم سوف يتصدون لهذا المشروع بكل الوسائل المتاحة.
وفي بلاغ لمنظمة المرأة الاستقلالية التابعة لحزب الاستقلال المعروف بالتوجه السلفي لمؤسسة الأستاذ علال الفاسي أنه لا يمكن حل مشاكل المرأة إلا إذا احترمت المقومات الأساسية المغربية وتوسعت دائرة المشاركين في اتخاذ القرارات. ومن المعلوم أن حزب الاستقلال يعتبر أحد عناصر التحالف الحكومي الحالي.(15/333)
وجاء في بيان منظمة تجديد الوعي النسائي: "نرفض أي تدخل أجنبي في شؤون بلادنا سواءاً منها السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ونرفض أن تزاوَل المخططات الدولية في بلادنا دون أي اعتبار لهويتنا الدينية والثقافية"، وأهابت في آخر بيانها بكل الهيئات والشخصيات الغيورة على حدود الله والتي تؤمن أن للمرأة قضية يجب أن تؤازر فيها وتناصر دون نكث لعهود الله، أهابت بها أن تضم أصواتها إلينا في إطار الحوار الشامل الذي ننادي به".
وقالت الأستاذة "ندية ياسين" من جماعة العدل والإحسان: "نحن متفقون جميعاً على تشخيص الداء: مظلومية المرأة، لكننا نختلف تماماً مع اليساريات المطالبات بتغيير المدونة بخصوص الدواء؛ لأننا نريد الإصلاح، والآخر يبحث عن التقليد الأعمى لأنماط الحياة الغربية".
والجدير بالذكر أن تحركاً مشابهاً من قِبَل جمعيات نسائية يسارية كان قد حصل في بداية التسعينات، وقد تم التصدي له من قِبَل قوى المجتمع المدني المدافعة عن هوية الشعب المغربي المسلم، وكوَّن الملك الراحل الحسن الثاني آنذاك لجنة من العلماء والمختصين للنظر في الموضوع؛ حيث أفضت أشغال هذه اللجنة إلى بعض التغييرات في المدونة دون المساس بالثوابت الشرعية.
ويأمل الشعب المغربي المسلم من حزب العدالة والتنمية التصدي لهذه الخطة كما كان الشأن بالنسبة لقانون السُّلفات الصغرى الذي صادق عليه البرلمان المغربي، فقد نشط الحزب في كل ربوع البلاد لشرح موقفه من هذا القانون الذي يبيح الربا ولا يعترف بالصيغ الشرعية لتمويل المشاريع الصغرى.
وفي إطار تحركات حزب العدالة والتنمية من أجل بيان خطورة هذا المشروع نظم يوماً دراسياً حول الموضوع في 17-4-1420هـ - 31-7-1999م، استدعى له عدداً من المختصين في مجالات: الشريعة والقانون والاقتصاد والاجتماع والطب لتحليل ومناقشة مضامين الخطة.
وقد أجمع كل المشاركين على ضرورة رفض المشروع لاستناده إلى المرجعية الغربية في تصوراته وتقريراته ووسائله الإجرائية، وإهمال المرجعية الإسلامية في حل مشاكل المرأة والأسرة المغربية.
ففي مجال الصحة الإنجابية - مثلاً - وترسيخاً للزنا في المجتمع حدد مشروع الخطة للوقاية من الأمراض المتنقلة جنسياً الوسائل الإجرائية التالية:
- توزيع العازل الطبي بالمخادع الهاتفية ونقط بيع الجرائد والصحف.
- تعميم الموزع الأوتوماتيكي للعازل الطبي.
- القيام بالإظهار الصريح والمباشر للعازل الطبي عبر وسائل الإعلام.
مما جعل الدكتور سعد الدين العثماني يقول: "إن الغاية والقصد من كل هذه الدعاية المفرطة للعازل الطبي ليس هو المحافظة على صحة المواطن ووقايته من الأمراض كما يُدَّعى ظاهراً، ولكن استدرار أموال الجهات الأجنبية والدوائر المخططة من الخارج لجهات التنفيذ والتنزيل في بلادنا".
وأعلن المدافعون عن الهوية الإسلامية للمغرب استعدادهم لكل حوار هادئ حول كل القضايا المصيرية للأمة بما فيها قضايا المرأة والأسرة، إلا أنهم في الوقت نفسه مستعدون لكل الاحتمالات إذا ما تم تجاوز وتجاهل نداءاتهم ومطالبتهم بعدم إقرار المشروع.
ويبقى السؤال المطروح: ما هو مصير المشروع؟ وهل سيستطيع الحكماء من الطبقة السياسية المغربية تجاوز هذه الأزمة؟ ذلك ما ستبينه الأيام القادمة.
=============(15/334)
(15/335)
ماذا بعد إفلاس الخطاب العلماني؟!
مجلة البيان - (ج 147 / ص 1)
ظاهرة الزندقة من الظواهر القديمة التي تتجدد وتتلون،وتلبس لكل عصر لبوسه.وفي هذا العصر نشطت حركة الزندقة في مناح شتى من أخطرها الهجوم على الشريعة الإسلامية، والجرأة في نقد النصوص الشرعية، والعبث في تأويلها وتبديلها عن مواضعها؛ فصار التراث الإسلامي حمى مستباحا يلغ فيه كل مفسد بحجة (البحث العلمي) (وحرية الرأي!) وأصبح الهجوم على الأصولية والتطرف سبيلا للهجوم على ثوابت الأمة ومسلماتها الشرعية، حتى قال قائلهم :" إن الثابت الوحيد هو حرية النقد". وقال آخر مبينا استراتيجية في التصدي للمد الإسلامي: "من أهم عناصر الحل : إزالة حاجز الخوف الذي لا يجعلنا نفصح بوضوح عن موقفنا بكاملها تجاه هذا التيار المتطرف، إن بعضنا يخشى استخدام كلمة العلمانية، وهي ليست مخيفة، يجب نكتب بوضوح مثلا في مسألة صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، أي أن نقول: إنه ليس هناك في أمور البشر ما يسمى قاعدة من هذا النوع."
إن تشنج التيار العلماني واضطرابه في نقد التيار الإسلامي يدل على تنامي الصحوة الإسلامية من جهة ، وعلى إفلاس الاتجاه العلماني من جهة أخرى.
ولكن السؤال الكبير هو: هل يستطيع الخطاب الإسلامي المعاصر أن يقف بثبات أمام هذا الكم الهائل من الانحراف؟! وهل يرتقي الخطاب كي يكون أكثر عمقا وأصالة ؟ وهل يتضح وتتسع آفاقه ليملك القدرة على مخاطبة الأمة باعتزاز واتزان بعيدا عن الغلو والميوعة؟
نحسب أن هذا هو التحدي الكبير الذي يجب أن يتبنى رايته العلماء والمفكرون ورجالات الدعوة الإسلامية، ((ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)) [الحج: 40] .
============(15/336)
(15/337)
حكم الانتماء والانتساب إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية
موسوعة الدين النصيحة 1-5 - (ج 1 / ص 146)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، والصلاة والسلام على محمد خير الورى.
وبعد..
لقد أمر الله بالتعاون على البر والتقوى، ونهى وحذر من التعاون على الإثم والعدوان، كذلك نهى الشارع الحكيم المسلمَ أن يتولى الكفار والمنافقين وأعداء الملة والدين، وأن يكون كل ولائه لإخوانه المسلمين بقدر إيمانهم وتقواهم، كما أمر الشارع كذلك أتباعه أن يُكَثروا سواد المسلمين، وأن يجتنبوا ويحذروا تكثير سواد الكافرين والمنافقين ومن والاهم.
لهذا فإنه لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر الانتساب أوالانتماء والانخراط في الأحزاب الكافرة، نصرانية كانت، أم شيوعية، أم غير دينية، لأي غرض من الأغراض، دنيوي كان أم استراتيجي، في الجامعات والمعاهد العليا، والمدارس، أوفي النقابات والاتحادات، أوغيرها من الأحزاب الجماهيرية، تحت أي مسمى من المسميات.
ومن فعل ذلك فقد ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، ولا تقبل له صلاة ولا قربة ولا صيام، إن لم يراجع نفسه ويتخلى عن ذلك بتوبة نصوح، وذلك للأدلة الآتية:
1. قوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، ومن التعاون البيِّن على الإثم والعدوان الانتساب والانتماء إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية.
2. قوله تعالى: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، فمن انتسب إلى حزب كافر فقد تولى الكفار والمنافقين، وناصب العداء الإسلام والمسلمين.
3. الأحزاب الكافرة لم تقم إلا لإقصاء الإسلام عن الساحة، والمسلم مطالب أن يجتهد في تمكين الإسلام في الأرض.
4. لما في ذلك من خذلان المسلمين ومناصرة الكافرين والمنافقين.
وفي الختام أذكر إخواني المسلمين وأخواتي وأحذرهم من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وأن لا يؤثروا العاجلة الفانية على الباقية، وأن لا يبيعوا دينهم بعرض من أعراض الدنيا، قلَّ ذلك العرض أم كثر.
وأن يعلموا كذلك أن الله شرفهم بالانتساب إلى ملة خير الأنام، خاتم الرسل الكرام، الذي نسخ بشريعته كل الشرائع، وأبطل كل الأديان: "فمن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين".
وأن الله غني عن العالمين، فلا تنفعه طاعة الطائعين، ولا يضره كفر وعصيان الكافرين والعاصين، وأن الله ناصر لدينه، ومتم لأمره ولو كره الكافرون.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة
25/2/1426ه
=============(15/338)
(15/339)
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، أما بعد،،،
فقد أرشد الله إلى تتبع المجرمين، والنظر في طرقهم في هدم هذا الدين، فقال سبحانه:{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[55]}[سورة الأنعام]. وأمر الله نبيه أن يجاهد المنافقين، فقال:{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ...[73]}[سورة التوبة]. وقد فضح الله المنافقين في سور كثيرة: في سورة البقرة، وسورة النساء، وفي سورة التوبة التي سميت بالفاضحة، حتى قال بعض الصحابة:'ما زالت سورة التوبة تنزل: {وَمِنْهُمْ...}[سورة التوبة:الآيات:49،58،61،75] حتى ظننا أنها لا تبقي أحداً' .
وفي سورة الأحزاب بيان عن مواقفهم وقت الشدائد، وسمّى الله سورة في كتابه الكريم عن هذه الفئة، وهذه الفئة مهما تخفت فإن الله يظهر ما تضغنه صدورهم، وما تبطنه قلوبهم: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ[29]وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ[30]}[سورة محمد]. فهي فئة مفضوحة، يفضحها الله، ويظهر خباياها ليعرفها الناس، ولا ينخدعوا بها، وكل إناء بما فيه ينضح .
والتعرف على هذه الفئة، وعلى أساليبها وطرقها في محاربة الأمة، ومحاولتها تقويض دعائم الإسلام يعد من الأهمية بمكان، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:' إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية' . فيظهر أهل الجاهلية من أجل تقويض عرى الإسلام، فلا يقبل منهم أهل الإسلام ذلك؛ لمعرفتهم بهم وبجاهليتهم .
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
ولو رجال مؤمنون لهدمت صوامع دين الله من كل جانب
ولهذا كان لابد من دراسة أساليب الفئة العلمانية في تغريب الأمة كلها، والمرأة بوجه خاص؛ لنبتعد عن هذا الشر الذي ينذر كارثة عظيمة على الأمة المحمدية، ولابد أيضاً أن يعلم كل مسلم أن الفئة العلمانية هي الخطر الأكبر المحدق بهذه الأمة، وهو يعمل على تغريب هذه الأمة، وإبعادها عن دينها .
لماذا التركيز على المرأة من قبل الغرب، وأتباعه المستغربين، العلمانيين؟
ذلك لأنهم فطنوا لمكانة المرأة ودورها في صنع الأمة، وتأثيرها على المجتمع؛ ولذلك أيقنوا أنهم متى ما أفسدوا المرأة، ونجحوا في تغريبها وتضليلها، فحينئذ تهون عليهم حصون الإسلام، بل يدخلونها مستسلمة بدون أدنى مقاومة. يقول شياطين اليهود في 'بروتوكولاتهم':'علينا أن نكسب المرأة، ففي أي يوم مدت إلينا يدها ربحنا القضية'.
وقال آخر من ألد أعداء الإسلام:' كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات' .وهذا صحيح؛ فإن الرجل الواحد إذا نزل في خندق وأخذ يقاوم بسلاحه يصعب اقتحام الخندق عليه حتى يموت، فما بالك بأمة تدافع عن نفسها، فإذا هي غرقت في الشهوات، ومالت عن دينها، وعن طريق عزها؛ استسلمت للعدو بدون أي مقاومة بل بترحيب وتصفيق حار .
ويقول صاحب كتاب تربية المرأة والحجاب:' إنه لم يبق حائل يحول دون هدم المجتمع الإسلامي في المشرق - لا في مصر وحدها - إلا أن يطرأ على المرأة المسلمة التحويل، بل الفساد الذي عم الرجال في المشرق'.
ما هي العلمانية؟ وما حكم هذه العلمانية ؟
العلمانية في الأصل يراد بها: فصل الدين عن التدخل في تنظيم شئون الحياة، فلا تتدخل الشرائع السماوية في تنظيم المعاملات، ولا في مسائل الاقتصاد، والسياسة، ومسائل الحرب والسلم، ومسائل التربية والتعليم، وهكذا، هذا هو أصل كلمة علمانية عند الغرب، فهي اللادينية، والاعتراف والتعامل مع الشيء المشاهد، ونفى الظواهر الغيبية وتدخلها في صياغة الحياة، ولذا يسمحون بتدين الإنسان الشخصي، أما أن يكون للدين تأثير في تدبير شئون الأمة فلا، ثم انتقل هذا الوباء إلى الأمة المحمدية .
والعلمانية بالمفهوم الإسلامي أعم من ذلك المفهوم الغربي، فلو وجد شخص ينادي بتطبيق شريعة الإسلام كلها إلا مسألة واحدة يرفضها مما أجمع عليه المسلمون، وعلم من الدين بالضرورة، فإنه يكون كافراً مرتداً، فعلى سبيل المثال: لو وجد شخص ينادي بتطبيق الشريعة في كل شيء إلا أنه يقول: يجب في الميراث أن نساوى بين الرجل والمرأة، فإنه بهذا يكون علمانياً في الحكم الشرعي، لأنه رد حكمًا معلومًا من دين الإسلام بالضرورة .
إذاً هذه هي العلمانية في اصطلاحنا حين نتحدث.
وحكمها بهذا الاصطلاح: كفر أكبر مخرج من الإسلام؛ لأنها تكذيب لله ولرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي إشراك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، إذ أنها تجعل الحكم في بعض المسائل لغير الله، وفي بعضها لله .
التغريب(15/340)
أما التغريب: فقد نشأت عند ساسة الغرب بعد فشل بعض الحملات العسكرية فكرة شيطانية، وهي أنه ينبغي أن تكون الجيوش بعيدة عن المواجهات؛ لأنها تثير ردود فعل عنيفة، وأنه ينبغي عليهم أن يبذلوا الأسباب لتستسلم الأمم المسلمة للثقافة والحضارة الغربية بنفسها طواعية، وبذلك نشأت فكرة التغريب، وأساسها تذويب الشخصية المسلمة في الشخصية الغربية بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام، وتعتنق هذه الديانة الجديدة التغريبية، وتدخل في عجلة الاستهلاك الاقتصادي التي يروج لها الغرب.
فبرامج التغريب تحاول أن تخدم هدفاً مزدوجاً، فهي تحرس مصالح الاستعمار بتقريب الهوة التي تفصل بينه وبين المسلمين نتيجة لاختلاف القيم، ونتيجة للمرارة التي يحسها المسلم إزاء المحتلين لبلاده ممن يفرض عليه دينه جهادهم، وهي في الوقت نفسه تضعف الرابطة الدينية التي تجمع المسلمين وتفرق جماعتهم التي كانت تلتقي على وحدة القيم الفكرية والثقافية، أو بتعبير أشمل وحدة القيم الحضارية.
فهذا هو التغريب: أي تذويب الأمة المحمدية بحيث تصبح أمة ممسوخة: نسخة أخرى مكررة من الأمة الغربية الكافرة، غير أن هناك فرق فالأمة الغربية هي الأمة القائدة الحاكمة المتصرفة، والأمم الأخرى هي الأمم التابعة الذليلة المنقادة لما يملى عليها، فهذا هو التغريب . وتغريب المرأة المسلمة جزء من مخطط شامل لتغريب الأمة في كل أمورها .
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله:' وكانت برامج التغريب تقوم على قاعدتين أساسيتين - يعني عند المستعمرين الأولين:
الأولى: اتخاذ الأولياء والأصدقاء من المسلمين، وتمكينهم من السلطة، واستبعاد الخصوم الذين يعارضون مشاريعهم، ووضع العراقيل في طريقهم، وصد الناس عنهم بمختلف السبل .
القاعدة الثانية: التسلط على برامج التعليم، وأجهزة الإعلام والثقافة عن طريق من نصبوه من الأولياء، وتوجيه هذه البرامج بما يخدم أهدافهم، ويدعم صداقتهم' .
مظاهر تغريب المرأة المسلمة:
وهي كثيرة يصعب استقصاؤها، ولكن نذكر من أهمها:
1- الاختلاط في الدراسة وفي العمل: ففي معظم البلدان الدراسة فيها دراسة مختلطة، والأعمال أعمال مختلطة، ولا يكاد يسلم من ذلك إلا من رحم الله، وهذا هو الذي يريده التغريبيون، فإنه كلما تلاقى الرجل والمرأة كلما ثارت الغرائز، وكلما انبعثت الشهوات الكامنة في خفايا النفوس، وكلما وقعت الفواحش، لاسيما مع التبرج، وكثرة المثيرات، وصعوبة الزواج، وضعف الدين، وحين يحصل ما يريده الغرب من تحلل المرأة، تفسد الأسرة وتتحلل، ومن ثم يقضى على المجتمع ويخرب من الداخل، فيكون لقمة سائغة .
وإذا بدأ الاختلاط فلن ينتهي إلا بارتياد المرأة لأماكن الفسق والفجور مع تبرج وعدم حياء، وهذا حصل ولا يزال فأين هذا من قول صلى الله عليه وسلم حين خرج مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ r لِلنِّسَاءِ: [اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ] فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ[. رواه أبو داود، وحسنه الألباني في الصحيحة 854 .
2- التبرج والسفور:
والتبرج: أن تظهر المرأة زينتها لمن لا يحل لها أن تظهرها له. والسفور: أن تكشف عن أجزاء من جسمها مما يحرم عليها كشفه لغير محارمها . وهذا التبرج والسفور لا يكاد يخلو منهما بلد من البلدان الإسلامية إلا ما قل وندر، وهذا مظهر خطير جداً على الأمة المسلمة، فبالأمس القريب كانت النساء محتشمات يصدق عليهن لقب: ذوات الخدود. ولم يكن هذا تقليداً اجتماعياً، بل نبع من عبودية الله وطاعته، ولا يخفى أن الحجاب الشرعي هو شعار أصيل للإسلام، ولهذا تقول عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:'يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ {...وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...[31]}[سورة النور]. شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا'رواه البخاري. ولهذا كان انتشار الحجاب أو انحساره مقياساً للصحوة الإسلامية في المجتمع ودينونة الناس لله، وكان انتشاره مغيظاً لأولئك المنافقين المبطلين .(15/341)
3- متابعة صرعات الغرب المسماة بالموضة والأزياء: فتجد أن النساء المسلمات قد أصبحن يقلدن النساء الغربيات وبكل تقبل وتفاخر، ولم يسلم لباس البنات الصغيرات، إذ تجد أن البنت قد تصل إلى سن الخامسة عشر وهي لا تزال تلبس لباساً قصيراً، وهذه مرحلة أولى من مراحل تغريب ملبسها، فإذا نزع الحياء من البنت سهل استجابتها لما يجدّ، واللباس مظهر مهم من مظاهر تميز المرأة المسلمة، ولهذا حرم التشبه بالكفار لما فيه من قبول لحالهم، وإزالة للحواجز، وتنمية للمودة، وليس مجهولا أن تشابه اللباس يقلل تمييز الخبيث من الطيب، والكفر من الإسلام، فيسهل انتشار الباطل وخفاء أهله .
والموضة مرفوضة من عدة نواحي منها:
أ- التشبه بالكافرات: و صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ]رواه أبو داود وأحمد وهو صحيح. قال ابن تيمية رحمه الله:' والصراط المستقيم: هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال، قد تكون عبادات، وقد تكون عادات في الطعام واللباس والنكاح... وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولابد ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً' اهـ فعلم من هذا خطورة هذا التشبه وتحريمه .
ب - الضرر الاقتصادي للتعلق بالموضة: ومعلوم كم تكلف هذه الموضة من أموال تنقل إلى بلاد الغرب الكافرة .
ج - كثرة التحاسد بين النساء: لأنهن يجذبهن الشكل الجميل، فيتفاخرن ويتحاسدن، ويكذبن، ومن ثم قد تكلف زوجة الرجل قليل المال زوجها ما لا يطيق حتى تساوي مجنونات الموضة.
د- خلوة المرأة بالرجل الأجنبي الذي ليس لها بمحرم: وقد تساهل الناس فيها حتى عدها بعضهم أمراً طبيعياً، فالخلوة المحرمة مظهر من مظاهر التغريب التي وقعت فيها الأمة المسلمة حيث هي من أفعال الكافرين الذين ليس لهم دين يحرم عليهم ذلك، وأما احترام حدود الله فهو من مميزات الأمة المسلمة . والجرأة على الخلوة تجاوز لحد من حدود الله، وخطر عظيم، وقد حرمه الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم [لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ] رواه البخاري ومسلم .
قاعدة مهمة: كل مبطل لابد أن يُلبس باطله بثوب الإصلاح وزخرف القول؛ حتى يروج بين الناس:
لأن الباطل قبيح ومكروه، فحينما يظهر الباطل على حقيقته، ويعرى على صورته، لا تقبله النفوس، ولا ترضى به الفطر السليمة؛ ولذلك يلجأ العلمانيون التغريبيون إلى إلباس طرقهم وأهدافهم وأفكارهم لبوس الإصلاح والحرص على المصلحة وغير ذلك، فالتوظيف المختلط، والتعليم المختلط، كل ذلك بدعوى مصلحة الأمة، وبدعوى تشغيل نصف المجتمع، ولأن فيها مردوداً اقتصادياً، وهذه هي زخارف القول التي يوحيها شياطين الإنس والجن، ويقول الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ[112]وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ[113]}[سورة الأنعام]. فيخدع به ضعفاء الإيمان، وناقصوا العقول .
ثم إن العلمانيين قد وجدوا عادات في مجتمعات المسلمين ليست من الإسلام، فاستغلوها ووظفوها لينفثوا من خلالها سمومهم، وينفذوا مخططاتهم، ثم أسقطوها على الإسلام، بمعنى أنهم قالوا: إنها من الإسلام فهاجموا الإسلام من خلالها، مثال ذلك: قد تجد بعض المجتمعات المسلمة تظلم المرأة في الميراث، قد تعطي المرأة ميراثها من المنقول من الأموال والمواشي لكنها لا تعطيها حقها من العقار كفعل الجاهلية، قد تجد زوجاً لا يعدل بين زوجاته مخالفاً بذلك أمر الله، فهذه الثغرات يتعلق بها العلمانيون مع أنها ليست من الإسلام في شيء، ولم ينزل الله بها سلطانًا، بل هي في نظر الإسلام: ظلم محرم.
أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة:
أساليبهم كثيرة، والمقصود التذكير بأخطرها، ليحذرها المسلمون، وينكروها، ويعلموا على إفشالها، ولتكون منبهة على غيرها، فمن هذه الأساليب:(15/342)
1- وسائل الإعلام بمختلف أنواعها: من صحافة، وإذاعة، وتلفاز، وفيلم، ومجلات متخصصة في الأزياء والموضة، ومن مجلات نسائية، وملحقات نسائية، وغير ذلك، فالإعلام يصنع الآراء، ويكيف العقول، ويوجه الرأي العام، خاصة إذا كانت هذه العقول فارغة لم تحصن بما أنزل الله . أما الصحافة والمجلات، فتجد فيها أمورًا فظيعة منكرة منها فتاة الغلاف، فتاة جميلة عليها أنواع الزينة والأصباغ ثم تسأل في المقابلة معها أسئلة تافهة: هل حدث وأن أحببتي يوماً من الأيام؟ ما هواياتك المفضلة؟ وهل صادقتي شاباً؟ وغير هذا من الكلام الساقط الذي يراد منه إفساد المحصنات العفيفات اللاتي قررن في البيوت، ويملكهن الحياء الذي ربين عليه، فتزيل هذه المجلات الحواجز، والضوابط شيئاً فشيئاً . كما تجد في هذه المجلات الصور الماجنة الخليعة إما بحجة الجمال والرشاقة، أو بحجة تخفيف الوزن والرجيم، أو بحجة ملكات الجمال، أو بحجة أخري مما يمليه الشياطين . ثم تجد فيها من مواضيع الحب والغرام الشيء المهول، وهذا يهدف إلى تهوين أمر الفواحش، وقلب المفاهيم الراسخة، وإحلال مفاهيم جديدة مستغربة بعيدة عما تعرفه هذه الأمة المحمدية، فمن هذه العبارات:
في مجلة سيدتي في عدد 510: قالت من عيوب الزوج العربي [ الغيرة ] !!! .
في مجلة كل الناس عدد 58: قالت إحدى الكاتبات: ماذا لو قالت امرأة: [ هذا الرجل صديقي ] !!!.
في مجلة الحسناء عدد 81: الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح . أ هـ . فعلى هذا مسيرة النجاح لابد فيها من الفحش والدعارة حسب مفهومهم المريض .
مجلة سلوى عدد 1532 [ لقاء مع راقصة شابة ]، تقول هذه الراقصة: في حياتنا اهتمامات لا داعي لها، ويمكن أن يستغنى عنها، ثم تقول- هذه العبقرية التي جاءت بما عجز عنه الأوائل والأواخر-: كمعامل الأبحاث الذرية لأننا لم نستفد منها شيئاً، يعنى حتى يبقى الأعداء يهددون المسلمين بالأسلحة الذرية . اليهود والهندوس والنصارى والبوذيون - كما تقول - ! سوف نستفيد كثيراً لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقي تتخرج منها راقصة مثقفة لجلب السياح .أهـ . وهكذا تستمر المسيرة لنحارب أعداءنا بالرقص، كما حاربهم جمال عبد الناصر بأغاني أم كلثوم .
في مجلة فرح عدد 43، تقول: الزواج المبكر إرهاق للمرأة، وصداع للرجل .
ولا ننسى مجلة روز اليوسف وهي من أخبث المجلات، ومن أوائل مصادر التغريب النسائي في العالم العربي، في هذه المجلة تجد الخبث والخبائث، وبمجرد أن تأخذ أحد الأعداد سوف تجد العجب . وكذلك مجلات: [ اليقظة، والنهضة، صباح الخير، هي، الرجل، فرح ..... الخ تلك القائمة الطويلة، كما تجد أيضاً داخل هذه المجلات مقالات طبية ونفسية واجتماعية: كأنها تحل مشاكل الفتيات، فتراسلها الفتيات من أنحاء العالم العربي، ثم بعد ذلك يدلها ذلك المتخصص - لكنه ليس متخصصاً في حل المشاكل حقيقة إنما متخصص في التغريب - يدلها على الطرق التي تجعلها تسلك مسالك المستغربات السابقات، كما تجد مقابلات مع الفنانات والممثلات، ومع الغربيات، ومع الداعيات لتحلل المرأة واللاتي يسمين بالداعيات لتحرير المرأة، وتجد فيها الغثاء الذي لا ينتهي، ترهق به المسلمة، ويصدع به المسلم . ثم تجد في هذه المجلات بريد المجلة، أو ركن التعارف من أجل التقريب بين الجنسين، وتلك خطوة لإفساد المجتمعات الإسلامية، وهكذا دواليك .
يقول العلامة محمد بن عثيمين في خطبة قيمة له عن هذه المجلات:' فاقتناء مثل هذه المجلات حرام، وشراؤها حرام، وبيعها حرام، ومكسبها حرام، واهداؤها حرام، وقبولها هدية حرام، وكل ما يعين على نشرها بين المسلمين حرام؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان'أهـ .
2- ومن وسائل العلمانيين الخطيرة التي يسعون من خلالها إلى تغريب المرأة المسلمة التغلغل في الجانب التعليمي ومحاولة إفساد التعليم: إما بفتح تخصصات لا تناسب المرأة وبالتالي إيجاد سيل هائل من الخريجات لا يكون لهن مجال للعمل، فيحتاج إلى فتح مجالات تتناسب مع هذه التخصصات الجديدة التي هي مملوءة بالرجال، أو بإقرار مناهج بعيدة كل البعد عمّا ينبغي أن يكون عليه تدريس المرأة المسلمة . وفي البلاد العربية من المناهج ما تقشعر له الأبدان، وقد نجد في التعليم المناداة بالمساواة بينها، وبين الرجل في كل شيء، ودفع المرأة إلى المناداة بقضايا تحرير المرأة- كما يسمونها-، وفيها:الاختلاط فمعظم البلاد العربية التعليم فيها مختلط إلا ما قل فالشاب بجانبه فتاة، هذا التعليم المختلط سبب كبير من أسباب تحلل المرأة، ومن ثم من أسباب تغريب المرأة . ولذا فإن أحسن الحلول أن تقوم البلاد الإسلامية بإنشاء جامعات متخصصة للنساء، وقد نادي بذلك بعض الباحثين الباكستانيين في دراسة جميلة جيدة بين فيها أن ذلك أفضل سواء في نسب النجاح، أو في التفوق في التخصص، أو في إتقان العمل سواء للشباب، أو للشابات في جميع أنواع الدراسة، وقد لا نوافقه في بعض التخصصات التي نرى أن المرأة لا تحتاجها .(15/343)
3- ومن أساليبهم: التأليف في موضوع المرأة، وإجراء الأبحاث والدراسات التي تُمْلاُ بالتوصيات والمقترحات والحلول في زعمهم لقضايا المرأة ومشاكلها: إحداهن في رسالتها للدكتوراه والتي عنوانها:'التنمية الاقتصادية وأثرها في وضع المرأة في السعودية' تقول- وهي تعد المبادئ الإسلامية التي هي ضد مصلحة المرأة كما تزعم-: إن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وقوامة الرجل على المرأة، ثم تعد الحجاب من المشاكل التي هي ضد مصلحة المرأة، ثم تشن هجوماً على هيئات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ثم بعد ذلك تنتهي في دراستها أو في رسالتها للدكتوراه إلى التوصيات، ومن توصياتها:
الإقلاع من عمليات الفصل بين الجنسين - يعنى التعليم المختلط الذي ذكرناه سابقاً - .
إنشاء أقسام للنساء في كل مؤسسة حكومية، وإنشاء مصانع للصناعات الخفيفة، وهذه نادي بها آخرون، ونادوا بفتح مجالات دراسة مهنية للمرأة .
ونشرت اليونسكو سبع دراسات مما قدم بعنوان:'الدراسات الاجتماعية عن المرأة في العالم العربي' والذي يقرأ هذا الكتاب يدرك خطورة الأمر، وضخامة كيد الأعداء للمرأة المسلمة .
4- ومن أساليبهم: عقد المؤتمرات النسائية، أو المؤتمرات التي تعالج موضوع المرأة، أو إقامة لقاءات تعالج موضوعاً من المواضيع التي تهم المرأة سواء كان موضوعاً تعليمياً، أو تربوياً، أو غير ذلك: وفي هذه المؤتمرات واللقاءات تطرح دراسات وأفكاراً ومقترحات تغريبية.
وقد عقد المؤتمر الإقليمي الرابع للمرأة في الخليج، والجزيرة العربية في 15/2/1976 م، في إحدى دول الخليج وكان التركيز على ما يسمى بقضية تحرير المرأة وأصدر قرارات منها:
التأكيد على أهمية وضرورة النظر في الكتب والمناهج التربوية عند تناولها لقضية المرأة بما يضمن تغيير النظرة المتخلفة لدورها في الأسرة والعمل، ثم تتابع هذه الدراسة، فتقول: إن القوانين والأنظمة التي كانت تخضع لها الأسرة قبل ألف عام ما تزال تطبق على العلاقات الأسرية في عصرنا الحاضر دون النظر إلى مدى ملائمتها لنا.
ما هي القوانين التي من ألف عام؟ إنها شريعة الإسلام .. فهؤلاء النسوة من نساء الخليج يردن تغيير الشريعة الإسلامية التي تطبق على المرأة من ألف عام .
5- ومن وسائلهم في تغريب المرأة المسلمة: إبتعاثها للخارج: وهذا حصل كثيراً في كثير من بلدان المسلمين، وحينما تذهب امرأة مسلمة إما لم تدرس شيئاً عن الدين كما في بعض البلدان العربية والإسلامية، أو ليس معها محرم، ثم ترمى في ذلك المجتمع المتحلل، فإذا رجعت هذه الفتاة المبتعثة كانت رسول شر للعالم الغربي من أجل تغريب المسلمات، ونقلهن من التمسك بالشرع والخلق الإسلامي إلى التمسك بالمناهج والأفكار والآراء الغربية، كما فعل أسلافها في مصر والكويت.
6-ومن أساليب العلمانيين: التعسف في استخدام المنصب: فقد تجد أحدهم في منصب ما، ثم بعد ذلك يبدأ يصدر قرارات يمنع فيها الحجاب كما حصل في مصر، وفي الكويت، أو يفرض فيها الاختلاط، أو يمنع عقد ندوات ونشاطات إسلامية، أو يفرض فيها اختلاطًا في مجالات معينة، وبالتالي يحصل احتكاك الفتاة بالشاب، ومن ثم يسهل هذا الأمر، وكلما كثر الإمساس قلّ الإحساس، ثم بعد ذلك تتجاوز الحواجز الشرعية، وتبتعد عن حياتها تذوب كما ذاب غيرها .
7- ومن أساليبهم أيضاً: العمل والتوظيف غير المنضبط: إما باختلاط بتوظيف الرجال والنساء سواسية، أو بتوظيف المرأة في غير مجالها، ويكون هذا على طريقة التدرج: بطيء ولكنه أكيد المفعول . وعلى طريقة فرض الأمر الواقع.
8- المشاركة والاختلاط في الأندية التي تكون في المستشفيات أندية ترفيه، أو أندية اجتماعية، أو غير ذلك: بل لقد وصل الفساد ببعضهن إلى المجاهرة بالتدخين أمام الآخرين من الزملاء، وليس ذلك في غرف القهوة والمطاعم فحسب، بل على المكاتب الرسمية .
9- الدعوة إلى إتباع الموضة والأزياء، وإغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة: ومن خططهم إغراق بلاد المسلمين بالألبسة الفاضحة والقصيرة، فأحدنا لا يستطيع أن يجد لابنته الصغيرة لباسًا ساترًا فضفاضًا إلا بشق الأنفس، فعلى التجار المسلمين أن يفرضوا ويشترطوا اللباس المقبول عند المسلمين الذي لا يحمل صوراً، ولا كتابات، وليس بلباس فاضح، ولا بضيق، ولا بكاشف، والشركات الصانعة إنما تريد المال، ولأجله تصنع لك أي شيء تريد، فإذا ترك لها الحبل على الغارب صنعت ما يضر بأخلاق المسلمين .
10- ومن أساليبهم القديمة والتي وجدت في مصر وفي غيرها:إنشاء التنظيمات والجمعيات والاتحادات النسائية: فقد أنشأ الاتحاد النسائي في مصر قديماً جداً على يد هدى شعراوي وذلك بدعم غربي سافر، ثم تبعتها البلاد العربية الأخرى، هذه الاتحادات النسائية والتنظيمات والجمعيات ظاهرها نشر الوعي الثقافي والإصلاح، وتعليم المرأة المهن كالتطريز والخياطة، وغير ذلك، ولكن قد يكون باطنها سمًا زعافًا فتعلم المرأة الأفكار والقيم الغربية الخبيثة التي تنقلها من الفكر الإسلامي النير إلى الفكر المظلم من الغرب الكافر.(15/344)
11- ومن أخبث أساليبهم وهي التي يثيرونها دائماً على صفحات الجرائد والمجلات وغيرها: التظاهر بالدفاع عن حقوق المرأة، وإثارة قضايا تحرر المرأة خاصة في الأوقات الحساسة التي تواجهها الأمة، وإلقاء الشبهات: فمرة يلقون قضية تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، ومرة يبحثون في موضوع التعليم المختلط وتوسيع مجال المشاركة في العمل المختلط وغير ذلك، قد يتم ذلك باسم الدين، وقد يتم ذلك باسم المصلحة، وقد يتم ذلك بعبارات غامضة، وطريقة المنافقين التخفي خلف العبارات الغامضة الموهمة في كثير من الأحيان .
12- ومن أخبث طرقهم ووسائلهم: شن هجوم عنيف على الحجاب والمتحجبات وتمجيد الرذيلة في وسائل الإعلام بأنواعها وفي غيرها أيضاً، سواء كان في المنتديات والأندية الثقافية والأدبية، أو كان في الجلسات الخاصة وفي غيرها.
13- ومن أساليبهم: أيضاً تمجيد الفاجرات من الممثلات، والراقصات، والمغنيات، وغيرهن: فتذكر بأنها النجمة الفلانية، وأنها الشهيرة فلانة، وأنها الرائدة في مجال كذا، وأنها التي ينبغي أن تحتذي، وأنها القدوة في مجال كذا، وأنها حطمت الرقم القياسي في الألعاب الفلانية، أو الطريقة الفلانية، وهذه الصحف، وهذه الكتابات العلمانية توهم المرأة المسلمة بأن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن تسلكه، فتتمنى أن تكون مثلها، وتحاول أن تتشبه بها، ولهذا ضاق صدر أولئك بتلك الفنانات التائبات؛ لأنهن سيمثلن قدوة مضادة لما يريدون .
14-ومن أساليبهم: الترويج للفن والمسرح والسينما.
15- ومن أخبث أساليبهم المنتشرة: استدراج الفتيات المسلمات - خاصة النابغات - للكتابة، أو للتمثيل، أو الإذاعة- لاسيما إذا كن متطلعات للشهرة، أو للمجد: فتدعى هذه الفتاة للكتابة في الصحيفة وتمجد كتاباتها، فتندفع بعض الفتيات المغرورات للكتابة والاتصال بهؤلاء من أجل أن ينشروا لهن ما يكتبن.
16- ومن أساليبهم أيضاً: تربية البنات الصغيرات على الرقص والموسيقى والغناء من خلال المدارس، والمراكز وغيرها، ثم إخراجهن في وسائل الإعلام: فتجد فتيات في عمر الزهور يخرجن للرقص والغناء، وهن يتمايلن وقد لبسن أجمل حلل الزينة، فكيف يا ترى سيكون حال هذه الفتاة إذا كبرت ! إلى أين ستتجه إن لم تتداركها عناية الله ورحمته ؟والتالي يكون ذلك سبباً من أسباب اجتذاب عدد آخر من الفتيات اللاتي يتمنين أن يفعلن مثل هذه التي ظهرت على أنها نجمة، ثم قد تكون في المستقبل مغنية، أو ممثلة شهيرة.
17- ومن وسائلهم إشاعة روح جديدة لدى المرأة المسلمة تمسخ شخصيتها من خلال إنشاء مراكز يسمونها مراكز العلاج الطبيعي للسيدات: وقد قامت مجلة الدعوة بكتابة تقرير عن هذه المراكز في عدد 1328 الصادر في 3/8/1412 هـ، إذ زارت إحدى الكاتبات بعضًا من هذه المراكز، وكتبت تقول: في ظل التغيرات والمستجدات التي تظهر بين وقت وآخر ظهر تغير سلبي وهو افتتاح مراكز تسمى مراكز العلاج الطبيعي للسيدات، والحقيقة أن هذا المركز يخفي ورائه كثيرًا من السلبيات، ثم تمضي الأخت، فتقول: ولمعرفة واقع تلك المراكز وما يدور فيها وما تقدمه لمرتادها قمت بزيارة بعضها، والاتصال بالبعض الآخر منها كأي امرأة أخرى تسأل عنها قبل الالتحاق بها وذلك في محاولة للوصول للحقائق الكاملة، ومعرفة ما يدور فيها، وخلاصة التقرير:
- انتشار اللباس غير الساتر في هذه المراكز، بل واشتراطه .
- قيام بعض المراكز بتعيين أطباء من الرجال لابد من مرور المتدربات عليهم .
- انتشار الموسيقى في هذه المراكز، ومن شروط بعض المراكز عدم اعتراض المتدربة على ذلك .
- وضع حمامات جماعية للسونا تلبس فيها النساء ملابس داخلية فقط، ويكن مجتمعات داخله .
- انتشار هذه المراكز حتى في الفنادق، والكوافيرات، والمشاغل، وتقديمها كخدمة مشتركة .
وكل هذا نمط جديد لم نعرفه من قبل ولو قامت النساء بعملهن في بيوتهن لما احتجن لهذا.
18- أختم هذه الأساليب بهذا الأسلوب الخطير، وهو إشاعة الحدائق والمطاعم المختلطة للعائلات، والتي انتشرت مؤخراً:
فقد زار بعض الأخوة بعضًا من المطاعم، والحدائق العائلية، والتي فيها محاذير كثيرة، ومن هؤلاء فضيلة الشيخ محمد الفراج، ثم كتبوا تقريراً بينوا فيه ما تخفيه هذه المطاعم المختلطة، وذكروا أن هذه المطاعم يكون فيها اختلاط الشاب بالفتاة، وأنه قد تدخلها المرأة بدون محرم، وجواز المرور بالنسبة للرجل أن يكون معه امرأة سواء كانت خادمة، أو كانت طفلة، أو غير ذلك، وبذلك أصبحت مكاناً صالحاً للمواعيد الخبيثة، ولغير ذلك، ثم بعد ذلك كتب الشيخ عبد الله بن جبرين تأييداً لكلام هؤلاء الأخوة، يقول فيه:' الحمد لله وحده وبعد، رأيت أمثلة مما ذكر في هذا التقرير مما يسترعى الانتباه والمبادرة بالمنع والتحذير' ا.هـ . وقد تكون هذه الحدائق والمطاعم أوجدت بحسن نية، لكنها سبب مهم من أسباب تغريب المرأة؛ إذ أنها تشيع مظاهر التغريب: من اختلاط، أو خلوة بالرجل الأجنبي عن المرأة، ومن فتحها لباب الفواحش والدخول على النساء الشريفات، فيفتن في دينهن وعفتهن مع غلبة الداعي للفحش بسبب كثرة المثيرات والله المستعان .(15/345)
من رسالة:' أساليب العلمانيين في تغريب المرأة المسلمة' للشيخ /بشر بن فهد البشر
=============(15/346)
(15/347)
الحجاب بين عداء الغرب وعلمانية الأزهر
بقلم فاضل بشناق / فلسطين
مدير مركز المرشد للدراسات والأبحاث / جنين
لم نفاجأ بقرار فرنسا الحاقدة منع الحجاب الإسلامي بل المفاجأة الصاعقة جاءت على لسان مفتي الأزهر عندما أكد في كلمته أن لفرنسا الحق في اصدار قرار بمنع الحجاب في المؤسسات والمدارس والجامعات الفرنسية ضارباً عرض الحائط بكل الأحكام الشرعية والمشاعر والقيم والمبادئ الإسلامية السامية ومدمراً للقيمة الفقهية لمعهد الأزهر الشريف ومحجماً لدوره الدعوي الشامل ومجنداً منبره لترويج الفتاوى المخالفة لروح الدين الإسلامي ومناصراً لكل نهج مدمر ومعاد للإسلام وقد توجه بموقفه الداعم لفرنسا وحربها المعلنة على الإسلام والمسلمين وكأنه يؤكد أن الأزهر الشريف مدرسة علمانية تتخذ من الشعار الديني وسيلة لبث افكارها وطرح مفاهيمها ويجب أن يغير الغرب انطباعاته عن الأزهر كمنبر لنشر الدعوة الإسلامية .
ان موقف المفتي كان وسيظل وصمة عار في جبينه لأنه بذلك اعطى لفرنسا ولكل أعداء الأمة مسوغات ومبررات لمحاربة الإسلام بكل تفاصيله ومفرداته وقيمه ومظاهرة وشعاراته ولكن حجم ردود الأفعال الرافضة والمستنكرة لهذا الموقف حتى من الأزهر نفسه لم تكن بالحجم المطلوب الأمر الذي يؤكد أن الأمة بعلمائها وشعوبها مصابة بمرض اللامبالاة القاتل اذ لم نسمع أن الجماهير العربية وخاصة في مصر قد خرجت تنكر على المفتي مواقفه بل مثل هذه الإحتجاجات رأيناها في عدد من الدول الغربية ومن المؤسسات والجمعيات الحقوقية غير العربية ولا الإسلامية واننا سوف نجد في بحثنا المتواضع هذا أشياء كثيرة تشكل مفارقات ومفاصل وتثير تساؤلات وتزرع انطباعات كثيرة لها دلالات خطيرة ومؤشرات أخطر تؤدي في النتيجة الى تدمير المجتمعات التي تنتشر فيها هذه السلوكيات وخاصة ما تعلق منها بالفطرة وما يخالفها ويسير عكس تيارها وبنظرة بسيطة الى أقوال الغربيين أنفسهم عن النتائج السلبية التيي خلفتها نظرتهم الخاطئة لمعايير الحضارة الإنسانية وتجريدها من القيم اللازمة لصيانة المجتمع من المنغصات والأمراض والفيروسات الإخلاقية والسلوكيات البهيمية تتأكد لنا حقيقة وجريمة وخطورة موقف مفتي الأزهر على المجتمع العربي والإسلامي وعلى الإنسانية جمعاء واننا نسوق بعضاً من هذه الأقوال لعلها تجد الى هذا المفتي المفتن سبيلاً فتعيده الى رشده .
تقول الصحفية الأمريكية " هيليان ستانبري " مخاطبةً مجتمعها المدمر أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم ، امنعوا الاختلاط ، وقيدوا حرية الفتاة ، بل ارجعوا لعصر الحجاب ، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ، ومجون أوربا وأمريكا ، امنعوا الاختلاط ، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير ، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعًا مليئًا بكل صور الإباحية والخلاعة ، إن ضحايا الاختلاط يملأون السجون ، إن الاختلاط في المجتمع الأمريكي والأوروبي ، قد هدد الأسرة وزلزل القيم والأخلاق ."
وتقول الكاتبة " أنارود " إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال .
وفي بريطانيا حذرت الكاتبة الإنجليزية " الليدي كوك " من أخطار وأضرار اختلاط النساء بالرجال ، حيث كتبت محذرة : على قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى وقالت علموهنَّ الابتعاد عن الرجال .
أما الأرقام والإحصائيات عن أضرار اختلاط النساء بالرجال فتوضح أن 70% إلى 90% من الموظفات العاملات بمختلف القطاعات ارتكبت معهنَّ فاحشة الزنى .
ونصف من أجري معهنَّ استفتاء ممن يعملون في مجال الأمن تعرضنَّ لارتكاب فاحشة الزنى معهنَّ من قبل رؤسائهنَّ في العمل .
حتى الجامعات وأماكن التربية والتعليم لم تسلم من هذه الموبقات فأستاذ الجامعة يرتكب الفاحشة مع طالبته ، والطلاب يفعلون ذلك مع الطالبات والمعلمات بالرضا أو الإكراه .
إن الاختلاط بين الرجال والنساء لم يزد الناس إلا شهوانية حيوانية ، وسعارًا بهيميًا فارتكاب الفواحش ، وهتك الأعراض في ازدياد وارتفاع ، وهذا الواقع يرد على من يقول إن الاختلاط يكسر الشهوة ، ويهذب الغريزة ، حيث زاد الاختلاط من توقد الشهوة وزاد من الفساد ومثله مثل الظمآن يشرب من ماء البحر فلا يزيده شربه إلا عطشًا على عطش يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ : " ولقد شاع في وقت من الأوقات أن الاختلاط تنفيس وترويح وإطلاق للرغبات الحبيسة ، ووقاية من الكبت ، ومن العقد النفسية (!!) ، ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية رأيت بعيني في أشد البلاد إباحة وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية ما يكذبها وينقضها من الأساس .
إن بين 50ـ 70% من الرجال الأمريكان يخونون زوجاتهم على فراش الزوجية و32% من الزوجات يخن أزواجهن و90% من النساء متزوجات بدون عذرية وفي بريطانيا فقد وصلت نسبة العذرية عند الفتيات صفر% كما توجد ظاهرة تبادل الزوجات وأن أكثر من مليونين ونصف المليون من الأزواج الأمريكيين مارسوا تبادل الزوجات بانتظام ونسبة 50% من الصبيان والبنات قد تم بينهم لقاء جنسي قبل الخامسة عشرة .(15/348)
وقد كتبت (( دول ستريت جورتال )) أن واحداً من كل أمريكيين طلق زوجته وفي مدينة (سان ماتيه) الأمريكية في كل (100) يتزوجون أول العام (80) منهم يطلقون في آخره.
وفي مؤتمر النساء عام (2000) في باريستبين أن 70% من الشابات الفرنسيات يعشن وحيدات وأن أعداد المتزوجات زواجا شرعيا تناقص بمقدار (68000) ألف امرأة وأن 20% من الولادة عن طريق الزنا.
وفي أمريكا وحدها يقتل مليون ونصف المليون جنين سنويا بسبب عملية الاجهاض (أين حقوق الإنسان؟!)
ويقول (اندروشاييرو)أن أكثر من عشرة آلاف فتاة أمريكية تضع مولودا غير شرعي سنويا وهي لم تبلغ بعد الرابعة عشرة من عمرها .
هذه هي مقدمة بسيطة يمكن من خلالها بيان مدى الخطورة التي تنطوي على قرار فرنسا بمنع الحجاب على اعتبار أنه يمثل أحد العلاجات لما حل في المجتمع الغربي من رذائل وبالتالي يجب أن تحارب هذه القيمة وجر قدم الفتاة المسلمة الى هاوية السقوط .
إن الحرب على الحجاب ليست حديثة بل بدأت منذ عقود كثيرة وقد قادت هذه الحرب عناوين وهيئات دعمت بشكل كبير ومباشر من أجهزة التدمير الغربية وان من أكثر هذه الهيئات فتكاً في المجتمع العربي وتخريباً فيه ما تعورف عليها بحركة تحرير المرأة العربية والتي نشأت في مصر وحتى نتبين حقيقة هذه الحركة لا بد من التعرف عليها وعلى نشاطاتها ورموزها في الوطن العربي .
التعريف بحركة تحرير المرأة :
إن حركة تحرير المرأة حركة علمانية دخيلة ولدت من رحم الغرب الحاقد والإستعمار الطامع ، نشأت في مصر في بادئ الأمر، ثم انتشرت في أرجاء البلاد الإسلامية. تدعو إلى تحرير المرأة من الآداب الإسلامية والأحكام الشرعية الخاصة بها مثل الحجاب، وتقييد الطلاق، ومنع تعدد الزوجات والمساواة في الميراث وتقليد المرأة الغربية في كل أمر … ونشرت دعوتها من خلال الجمعيات والاتحادات النسائية في العالم العربي وقد تزامن وجودها بوجود وحملات الإستعمار كأحد معاوله الرئيسة وإن المتتبع لطبيعة انتشار هذه الحركة يخلص الى انها مرتبطة وبشكل مباشر مع أعداء الأمة ومخططاتهم التدميرية واننا في فلسطين مثلاً فقد انتشرت هذه الحركات والهيئات خلال السنوات الأولى لمسيرة ما يسمى بالسلام لتكون رافداً رئيساً وداعماً اساساً لسياسة الهيمنة والترويض ضد شعبنا حتى يبقى مهزوزاً حتى ولو تم التوصل الى حل سياسي .
التأسيس وأبرز الشخصيات:
قبل أن تتبلور الحركة بشكل دعوة منظمة لتحرير المرأة ضمن جمعية تسمى الاتحاد النسائي .. كان هناك تأسيس نظري فكري لها .. ظهر من خلال كتب ثلاثة ومجلة صدرت في مصروهي :
1- كتاب: المرأة في الشرق، تأليف المحامي مرقص فهمي ا، نصراني الديانة، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى.
2- كتاب: تحرير المرأة، تأليف قاسم أمين، نشره عام 1899م، بدعم من الشيخ محمد عبده وسعد زغلول، وأحمد لطفي السيد. زعم فيه أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين .
3- كتاب: المرأة الجديدة، تأليف قاسم أمين أيضاً - نشره عام 1900م يتضمن نفس أفكار الكتاب الأول ويستدل على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين.
4- مجلة السفور: صدرت أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل أنصار سفور المرأة، وتركز على السفور و الاختلاط.
وقد سبق سفور المرأة المصرية، اشتراك النساء بقيادة هدى شعراوي ( زوجة علي شعراوي ) في ثورة سنة 1919م فقد دخلن غمار الثورة بأنفسهن، وبدأت حركتهن السياسية بالمظاهرة التي قمن بها في صباح يوم 20 مارس سنة 1919م.
وأول مرحلة للسفور كانت عندما دعا سعد زغلول النساء اللواتي تحضرن خطبته أن يزحن النقاب عن وجوههن. وهو الذي نزع الحجاب عن وجه نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم: هدى شعراوي مكونة الاتحاد النسائي المصري وذلك عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى. واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك.
لقد تأسس الاتحاد النسائي في نيسان 1924م بعد عودة مؤسسته هدى شعراوي من مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما عام 1922م .. ونادى بجميع المبادئ التي نادي بها من قبل مرقص فهمي المحامي وقاسم أمين.
بعد عشرين عاماً عقد مؤتمر الاتحاد النسائي العربي عام 1944م وقد حضرته مندوبات عن البلاد العربية. وقد رحبت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بانعقاد المؤتمر حتى أن حرم الرئيس الأمريكي روزفلت أبرقت مؤيدة للمؤتمر.
ومن أبرز شخصيات حركة تحرير المرأة:
1- الشيخ محمد عبده، فقد نبتت أفكار كتاب تحرير المرأة في حديقة أفكار الشيخ محمد عبده. وتطابقت مع كثير من أفكار الشيخ التي عبر فيها عن حقوق المرأة وحديثه عنها في مقالات الوقائع المصرية وفي تفسيره لآيات أحكام النساء.
2- سعد زغلول، زعيم حزب الوفد المصري، الذي أعان قاسم أمين على إظهار كتبه وتشجيعه في هذا المجال.(15/349)
3- لطفي السيد، الذي أطلق عليه أستاذ الجيل وظل يروج لحركة تحرير المرأة على صفحات الجريدة لسان حال حزب الأمة المصري في عهده.
4- صفية زغلول، زوجة سعد زغلول وابنة مصطفى فهمي باشا رئيس الوزراء في تلك الأيام وأشهر صديق للإنكليز عرفته مصر.
5- هدى شعراوي، ابنة محمد سلطان باشا الذي كان يرافق الاحتلال الإنكليزي في زحفه على العاصمة وزوجة علي شعراوي باشا أحد أعضاء حزب الأمة ( حالياً الوفد ) ومن أنصار السفور .
6- سيزا نبراوي ( واسمها الأصلي زينب محمد مراد )، وهي صديقة هدى شعراوي في المؤتمرات الدولية والداخلية. وهما أول من نزع الحجاب في مصر بعد عودتهما من الغرب إثر حضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي الذي عقد في روما 1923م.
7- درية شفيق، من تلميذات لطفي السيد، رحلت وحدها إلى فرنسا لتحصل على الدكتوراه، ثم إلى إنكلترا، وصورتها وسائل الإعلام الغربية بأنها المرأة التي تدعو إلى التحرر من أغلال الإسلام وتقاليده مثل: الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات ولما عادت إلى مصر شكلت حزب ( بنت النيل ) في عام 1949م بدعم من السفارة الإنكليزية والسفارة الأمريكية كما حصل في فلسطين عندما قامت سفارة كندا بدعم احدى الجمعيات الفلسطينيات لنفس الهدف والشعار .. وهذا ما ثبت عندما استقالت إحدى عضوات الحزب وكان هذا الدعم سبب استقالتها. وقد قادت درية شفيق المظاهرات، وأشهرها مظاهرة في عام 19 فبراير 1951م و 12 مارس 1954م بالتنسيق مع أجهزة عبد الناصر فقد أضربت النساء في نقابة الصحافيين عن الطعام حتى الموت إذا لم تستجب مطالبهن. وأجيبت مطالبهن ودخلت درية شفيق الانتخابات ولم تنجح. وانتهى دورها. وحضرت المؤتمرات الدولية النسائية للمطالبة بحقوق المرأة - على حد قولها.
9- سهير القلماوي، تربت في الجامعة الأمريكية في مصر، وتخرجت من معهد الأمريكان، وتنقلت بين الجامعات الأمريكية والأوروبية، ثم عادت للتدريس في الجامعة المصرية.
10- أمينة السعيد، وهي من تلميذات طه حسين، الأديب المصري الذي دعا إلى تغريب مصر .. ترأست مجلة حواء. وقد هاجمت حجاب المرأة بجرأة - ومن أقوالها في عهد عبد الناصر: " كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق ؟ ". تقصد ميثاق عبد الناصر الذي يدعو فيه إلى الاشتراكية - وسخرت مجلة حواء للهجوم على الآداب الإسلامية .. وهي لا تزال تقوم بهذا الدور ..
11- د . نوال السعداوي، زعيمة الاتحاد المصري حالياً.
12- ونستطيع اضافة العضو الجديد الى القائمة والذي أثبت صدقه واخلاصه وهو مفتي الأزهر ( محمد سيد طنطاوي )
الأفكار والمعتقدات:
نجمل أفكار ومعتقدات أنصار حركة تحرير المرأة فيما يلي:
تحرير المرأة من كل الآداب والشرائع الإسلامية وذلك عن طريق:
- 1- الدعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب الإسلامي.
2- الدعوة إلى اختلاط الرجال مع النساء في المجالات في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية، والأسواق.
3- تقييد الطلاق، والاكتفاء بزوجة واحدة.
4- المساواة في الميراث مع الرجل.
5- الدعوة العلمانية الغربية أو اللادينية بحيث لا يتحكم الدين في مجال الحياة الاجتماعية خاصة.
6- المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية للمرأة .
7- أوروبا والغرب عامة هم القدوة في كل الأمور التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للمرأة: كالعمل، والحرية الجنسية، ومجالات الأنشطة الرياضية والثقافية.
الجذور الفكرية والعقدية:
بعد تبلور حركة تحرير المرأة على شكل الاتحادات النسائية في بلادنا خاصه والدول عامة، أصبحت اللادينية أو ما يسمونه ( العلمانية ) الغربية هي الأساس الفكري والعقدي لحركة تحرير المرأة. وهي موجهة وبشكل خاص في البلاد الإسلامية إلى المرأة المسلمة؛ لإخراجها من دينها أولاً. ثم إفسادها خلقياً واجتماعياًوصولاً الى فساد المجتمع الإسلامي والسيطرة عليه .
ومن الأدلة على أن جذور حركة تحرير المرأة تمتد نحو العلمانية الغربية مايلي:
- في عام 1894م ظهر كتاب للكاتب الفرنسي الكونت داركور ، حمل فيه على نساء مصر وهاجم الحجاب الإسلامي، وهاجم المثقفين على سكوتهم.
- في عام 1899م ألف أمين كتابه تحرير المرأة أبدا فيه آراء داركور.
- وفي نفس العام هاجم الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل ( زعيم الحزب الوطني ) كتاب تحرير المرأة وربط أفكاره بالاستعمار الإنكليزي.
- ألف الاقتصادي المصري الشهير محمد طلعت حرب كتاب تربية المرأة والحجاب في الرد على قاسم أمين ومما قاله: " إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوروبا ".
- ترجم الإنكليز - أثناء وجودهم في مصر - كتاب تحرير المرأة إلى الإنكليزية ونشروه في الهند والمستعمرات الإسلامية.
- الدكتورة ( ريد ) رئيسة الاتحاد النسائي الدولي التي حضرت بنفسها إلى مصر لتدرس عن كثب تطور الحركة النسائية
- اغتباط الدوائر الغربية بحركة تحرير المرأة العربية وبنشاط الاتحاد النسائي في الشرق وتمثلت ببرقية حرم رئيس الولايات المتحدة الأمريكية للمؤتمر النسائي العربي عام 1944م.(15/350)
- صلة حزب ( بنت النيل ) بالسفارة الإنكليزية والدعم المالي الذي يتلقاه منهما - كما رأينا عند حديثنا عن درية شفيق.
- ترحيب الصحف البريطانية بدرية شفيق زعيمة حزب ( بنت النيل ) وتصويرها بصورة الداعية الكبرى إلى تحرير المرأة المصرية من أغلال الإسلام وتقاليده.
- برقية جمعية ( سان جيمس ) الإنكليزية إلى زعيمة حزب بنت النيل تهنئها على اتجاهها الجديد في القيام بمظاهرات للمطالبة بحقوق المرأة.
- مشاركة الزعيمة نفسها في مؤتمر نسائي دولي في أثينا عام 1951م ظهر من قرارته التي وافقت عليها أنها تخدم الاستعمار أكثر من خدمتها لبلادها.
- إعلان ( كاميلا يفي ) الهندية أن الاتحاد النسائي الدولي واقع تحت زيادة الدول الغربية ولاستعمارية واستقالتها منه.
- إعلان الدكتورة نوال السعداوي رئيسة الاتحاد النسائي المصري عام 1987م أثناء المؤتمر أن الدول الغربية هي التي هيأت المال اللازم لعقد مؤتمر الاتحاد النسائي والدول الإسلامية لم تساهم في ذلك.
وعودة الى ما قد بدأنا به حول الحرب المستعرة بقيادة فرنسا على الحجاب فانه لا بد من وقفة جادة وقوية لمواجهة هذه الحرب الهادفة الى العبث بقيمنا ومبادئنا تمهيداً لتخريب شامل لحياتنا والمرأة هي البداية وعلينا أن نبدأ من المرأة بتكثيف التوعية وزرع مفاهيم الإسلام فيها حتى تكون درعاً منيعاً وسلاحاً فتاكاً يصعب كسره وهذا يأتي من خلال بيان مفهوم الحجاب ومعناه ودوره في تهذيب النفس الإنسانية وحماية المجتمع من اتلوقوع في مستنقعات الرذيلة التي غرق فيها الغرب ويريد أن يغرقنا فيها معه .
مفهوم الحجاب
في اللغة: الحجاب في اللغة هو المنع من الوصول، ومنه قيل للستر الذي يحول بين الشيئين: حجاب؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما. وسمي حجاب المرأة حجاباً لأنه يمنع المشاهدة .
ولقد وردت مادة (حجب) في القرآن الكريم في ثمانية مواضع تدور كلها بين الستر والمنع.
فمن ذلك: قال تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (32) سورة ص أي: احتجبت وغابت عن البصر لما توارت بالجبل أو الأفق.
وقال تعالى:{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } (46) سورة الأعراف
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } (51) سورة الشورى ، أي من حيث لا يراه.
وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (15) سورة المطففين ، أي مستورون فلا يرونه.
وقال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا} (17) سورة مريم ، أي ستارا.
وقال تعا لى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} (53) سورة الأحزاب ، أي من وراء ساتر مانع للرؤية.
ومن هنا نعلم أن مفهوم الحجاب في الاصطلاح اللغوي هو الستر، وهو وإن دل على المنع فإن الستر داخل في مفهوم المنع بالتضمن. فالمنع يتضمن الستر.
في الشرع: الحجاب يتحقق فيه مقصد الشرع في حجب المرأة المسلمة من غير القواعد من النساء عن أنظار الرجال غير المحارم لها .والهدف هو صيانة المرأة المسلمة والحفاظ على عفافها وطهارتها، ومن أجل تحقيق هذه الغاية فقد جعل الإسلام للحجاب شروطاً واضحة تميزه وتحدد مواصفاته الشرعية، فإذا تخلف شرط واحد متفق على وجوبه لم يعد الحجاب شرعياً بل هو تبرج وسفور أياً كان شكله ووصفه. ومن هنا كان واجباً على كل امرأة مسلمة أن تكون عالمة بشروط الحجاب وأوصافه حتى تعبد الله على بصيرة وعلم.
شروط الحجاب الشرعي
- وأما شروط الحجاب الشرعي فهي كالتالي:
1- أن يكون ساتراً لجميع البدن: بما في ذلك الوجه منعاً للفتنة والمفسدة وسداً للذرائع إذ ان كشف الوجه فتح لباب لدعاة السفور والاختلاط، والإنسان العاقل البصير يجب عليه أن يقيس الأمور بآثارها ومقتضياتها ويحكم عليها من هذه الناحية، والشرع والحمد لله واسع، فيه قواعد عامة تضبط الشر وتردعه وتمنعه . ومن أدلة استيعاب الحجاب لجميع بدن المرأة: قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) سورة الأحزاب.
قال القرطبي رحمه الله: لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن، وتشعب الفكر فيهن، أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن .
وقال رحمه الله في تفسير الجلباب في قوله تعالى: {مِن جَلَابِيبِهِنَّ }: والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن .
ومن السنة، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن صلى الله عليه وسلم قال:
" لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين " (رواه البخاري في صحيحه).(15/351)
قال أبو بكر بن العربي- رحمه الله-: "قوله في حديث ابن عمر "لا تنتقب المرأة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج. فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال، ويعرضون عنها".
فعليك أختي المسلمة: بالحرص على أن يكون حجابك ساتراً لجميع بدنك لما في ذلك من البعد عن الشبهات وقطع الطريق عن الفساق الذين يتربصون ببنات المسلمين في هذه الأزمان لاسيما وأن مقتضى الورع والحشمة هو الستر والاحتجاب الكامل عن أنظار الرجال الأجانب وبالله التوفيق.
- 2- أن لا يكون الحجاب ذاته زينة: لأن الغاية من الحجاب هو تحصيل الستر والعفاف، فإذا كان الحجاب زينة مثيرة، فقد تعطلت بذلك الغاية منه. ولذلك نهى الله جل وعلا عن ذلك فقال: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا }(النور:31) فإبداء زينة الحجاب من التبرج المنهي عنه شرعاً، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب: 33)
قال الذهبي رحمه الله: ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ تحت النقاب، وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت، ولبسها الصباغات والأزر الحريرية والأفنية القصار، مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها، وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت الله فاعله في الدنيا والآخرة، ولهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء،قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم ((اطلعت على النار، فرأيت أكثر أهلها النساء)).
أختي المسلمة: وتذكري أن كثيراً من المسلمات اليوم قد أخللن بهذا الشرط بقصد أو بغير قصد، فقد كثرت في الآونة الأخيرة أنواع من الحجب المزينة بأنواع من الزينة، وكم تهافتت عليها الغافلات إعجاباً بها.. وسوف نتطرق بإذن الله إلى بيان هذه الألبسة الدخيلة على الحجاب بالتفصيل في هذا الكتاب ، ونبين مدى مخالفتها للجلباب الشرعي وأقوال العلماء في ذلك.
3- أن يكون واسعاً غير ضيق: لأن اللباس الضيق يناقض الستر المقصود من الحجاب، لذلك إذا لم يكن لباس المرأة المسلمة فضفاضاً فهو من التبرج المنهي عنه، إذ إن عورة المرأة تبدو موصوفة بارزة، ويظهر حجم الأفخاذ والعجيزة ظهوراً كاملاً كما تظهر مفاصل المرأة مفصلاً مفصلاً وهذا كله يوجب تعلق النفوس الخبيثة والقلوب المريضة. فعن أسامة بن زيد قال: كساني رسول ا صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهداها دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، ففال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مالك لم تلبس القبطية؟ " قلت: يا رسول الله، كسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مرها فلتجعل تحتها غلالة إني أخاف أن تصف حجم عظامها".
وعن أم جعفر بنت مقعد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول ا صلى الله عليه وسلم قالت:(( يا أسماء إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها)) فقالت أسماء: يا ابنة رسول ا صلى الله عليه وسلم ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة، فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة: "ما أحسن هذا وأجمله تعرف به المرأة من الرجل فإن مت أنا فاغسليني أنت وعلي، ولا يدخل علي أحد" فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهما)).
قال الألباني- رحمه الله- تعليقاً على الحديث: فانظر إلى فاطمة بضعة صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح، فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة ثم يستغفرن الله تعالى، وليتبن إليه وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم "الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" [رواه مسلم]. فهن كاسيات بالاسم، عاريات في الحقيقة" .
ظاهرات. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- 5- أن لا يكون مبخراً ولا مطيباً: وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم خروج المرأة متعطرة، فمن ذلك ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية" .
وعن زينب الثقفية أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً)) [رواه مسلم والنسائي].
ومن الواضح أن المرأة إذا خرجت مستعطرة فإنها تحرك داعية الشهوة عند الرجال، لذلك ورد التحريم في ذلك قطعاً لدابر الفتنة وحفاظاً على طهارة المجتمع.
ومن تأمل حديث زينب وجد أن التحريم متعلق بالخروج إلى المسجد، وهو مكان طهارة وعبادة فما بال مريدة السوق والشوارع وغيرها.
6- أن لا يشبه لباس الرجال: لقوله صلى الله عليه وسلم
"ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال "(15/352)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لعن رسول ا صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل " .
وهذه الأحاديث نص في تحريم التشبه مطلقاً بالرجال سواء في اللباس أو في غيره، ومن هنا كان على المرأة المسلمة أن تحرص عن الابتعاد عن التشبه بالرجال في لباسها سواء كانت في البيت أو في خارج البيت لا سيما في عصرنا هذا، حيث اختلطت الأمور ولم يعد المسلم يميز في كثير من بلاد المسلمين بين الرجل والمرأة، لشدة التشبه بينهما في اللباس، وقد اكتسحت هذه الموجة جموعاً من المحجبات، فصرن يلبسن من ثياب الرجال تحت عباءاتهن مما يسقطهن في هذا المحظور والله المستعان.
- 7- أن لا يشبه لباس الكافرات: وذلك بأن تفصل المرأة المسلمة لباسها تفصيلاً يتنافى مع حكم الشرع وقواعده في موضوع اللباس، ويدل على تفاهة في العقل وفقدان للحياء مما ظهر في هذا العصر وانتشر باسم الموديلات التي تتغير من سيئ إلى أسوأ، وكيف ترضى امرأة شرفها الله بالإسلام ورفع قدرها، أن تكون تابعة لمن يملي عليها صفة لباسها، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر لأن صلى الله عليه وسلم قال:(( من تشبه بقوم فهو منهم)). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "رأى رسول ا صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها".
8- أن لا يكون لباس شهرة: ولباس الشهرة هو الذي تلبسه المرأة لإلفات وجوه الناس إليها، سواء كان هذا الثوب رفيعا أو وضيعا، لأن علة التحريم هي تحقق الشهرة في الثياب، فقد روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارا
الحجاب هوية شخصية
إن حجاب المسلمة -بالإضافة لكونه فريضة ربانية - فهو أبلغ رسالة دعوية وخير وسيلة للتعريف وبيان الهوية الإسلامية، تماما كما يحمل أحدنا بطاقة شخصية للتعريف به، أو جواز سفر لتحديد تبعيته لبلده فكذلك الحجاب.
التقى أحد الأساتذة الأمريكان بطالبتين مسلمتين، إحداهن سافرة والثانية محجبة، فصافح الأولى وقال للثانية أعلم أنك مسلمة من ارتدائك الحجاب، وأنا احترم دينك ولن أصافحك!! فأصيبت الأولى بالصدمة.
إن حجاب المسلمة في أمريكا والغرب تعبير عن الهوية الإسلامية في زمن تلوثت وتشوهت فيه الهوية لدى بعض المسلمين والمسلمات.
كلمات لا بد منها
أولا : الى الذين يتشدقون بحقوق الإنسان و الحريات والمساواة نقول هل هذه الحقوق لكم وحدكم أم هي للبشر كافة ومنهم المسلمين والمسلمات؟ فإذا كانت الحرية والعدالة وحقوق الإنسان كل لا يتجزأ , فان من حق نساء المسلمين ارتداء ما يشأن من ثياب الحشمة والوقار كما ترتدى نساؤكم ألبسة العرى والعار!! واذا كان الثوب الساتر يقلقكم ويخالف مفاهيمكم فلماذا هذه الحملة الواسعة والشرسة ضد زى المراة المسلمة وحدها ؟ فيما لم نجد أحدا منكم يتجرأ على التعرض لزى الراهبات المسيحيات مثلا أو زى نساء الهنود- السارى - الطويل أو زي الفتيات اليابانيات اللواتي يرتدين من الألبسة ما يشبه الزي الإسلامي في الحشمة والستر ، أليس هذا دليلاً على أنكم تستهدفون الإسلام وقيمه .
ثانيا : ان الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة التي أجراها علماء من أوروبا وأمريكا- من غير المسلمين- أثبتت ان كشف المرأة لأجزاء من جسدها يعرض تلك الأجزاء للإصابة بسرطان الجلد بنسب أعلى بكثير من الأجزاء المستورة من جسدها وهذا ما يفسر ارتفاع سرطانات الجلد لدى نساء الغرب وانخفاضه لدى النساء المسلمات .
ثالثاً: شاب سودانى مسلم في احد المطارات سألته احدى النساء الغربيات أثناء فترة انتظار إحدى الرحلات الجوية بأوروبا لماذا ترتدى المسلمات الحجاب ؟؟ فأجاب على تساؤلها بسؤال أيضا: سيدتى عندما تذهبين إلى شراء الفاكهة , هل تشترين من الثمار المغلفة أم تشترين من الثمار المكشوفة المعرضة للذباب والأتربة وعبث الأيدي غير النظيفة ؟؟ أجابت السيدة المسيحية: اشترى من الفاكهة المغطاة طبعا.. فضحكت المرأة إعجابا بالمنطق الإسلامي السديد في صون جمال المرأة وعفافها وطهارتها بالحجاب..
رابعاً : قيمة الشيء بندرته فلا تظن المراة البعيدة عن أدب الإسلام وحجابه انها تستأثر باهتمام الرجل و تستحوذ على حواسه بسفورها وتبرجها لأن طبيعة الرجل يمل بسرعة من الجمال المبتذل الرخيص ويثيره الكنز المخبوء .
خامساً: الحجاب ليس غطاءً للعقل كما يقول احد الكتاب النصارى في وصفه للخمار الإسلامي بل انه عامل رئيس من عوامل التفوق وان أكثر الأوائل هن من العفيفات الملتزمات بالخمار الإسلامي!!
سادسا: ان الحجاب يحمي المرأة من الإعتداءات والتحرشات الجنسية وقد لوحظ ان الأغلبية الساحقة من ضحايا جرائم الاغتصاب وهتك العرض فى مختلف دول العالم هن من المتبرجات السافرات, اما المحتشمات فلا يجرؤ احد من المجرمين على التعرض لهنوفي هذا يصدق قوله تعالى - ذلك أدنى ان يعرفن فلا يؤذين- ..(15/353)
سابعاً: ان الله تعالى لم يخلق كل النساء على شاكلة واحدة , لحكمة ربانية , فمنهن الجميلة ومنهن من هي ذات حظ قليل من الملاحة.. لهذا فان من رحمة الله تعالى بالنساء ان تخفى كل منهن جمالها عن أعين زوج غيرها, فلا يفتتن الرجل بغير امراته , ولا يسخط على قدر الله في زواجه من امراة اقل جمالا من غيرها.. كذلك يرحم الله الرجل غير القادر على مئونة الزواج- مثل الشباب العاطل عن العمل في أيامنا هذه- فبالحجاب لا يرى هذا المسكين من أجساد النساء ما يفتنه ,فاما ان ينحرف إلى الزنا , واما ان يكبت شهوته ومشاعره فيصاب بأمراض نفسية وعضوية لا حصر لها.. لهذا يرحمه ربه بتحجب النساء فلا تثار شهوته إلى ان يرزقه الله بزوجة تعفه ويعفها بالحلال.. حتى المراة الجميلة يرحمها الله -كما قال الشيخ الشعراوى رحمه الله- بان تختمر في شبابها فلا تفتن زوج اخرى , فيجزيها ربها في شيخوختها -عندما يزول جمالها - بالا يفتتن زوجها بأخرى اصغر منها وأجمل..
ثامناً : ان من دعا الى التبرج وسفور المرأة انطلق من هوى نفسه الأمارة بالسوء وما زال الوضع يتجدد اذ ان المتزعمين لهذه الحملة بغالبيتهم من الرجال لكي يجعلوا المرأة متعة للناظرين ليس لها قدسية ولا كرامة ولا عفة وقد اثبتت الدراسات والأبحاث والإحصائيات أن الغالبية الساحقة ممن يدعمون هذا التوجه فشلوا في تكوين حياة زوجية مستقرة وتأليف أسرة دافئة فكانت ردة فعلهم الدعوة الى تعميم هذا الفشل وأخراجه من دائرته الضيقة ليصبح ظاهرة عامة ,
تاسعًا:انه لا يمكن الفصل بين هذه الحملة وبين البعد السياسي لها اذ بات من المؤكد أن رجالات السياسة في دول الكفر والإلحاد والإستعمار قد أدركوا أن المجتمع المسلم ما زال يتمتع ببناء ونسيج اجتماعي قوي ومتين وان السنوات الأخيرة شهدت تجذراً وعودة قوية لأصول ومبادئ العقيدة الإسلامية لدى الجيل الجديد وهذا بحد ذاته مؤشر على أن المستقبل القريب ينذر بخطر داهم على مشروعهم الإستعماري الذي مضى على وجوده عقود كثيرة وحمته الأنظمة العربية التي باتت هي الأخرى مهددة بوجودها بفعل هذه الصحوة ولهذا لا بد من تخريب المجتمع من خلال المرأة المسلمة التي اصبحت على قدر من الوعي الكفيل بانشاء جيل صالح وهذا لا نريده والحجاب هو المدخل والبداية في التخريب .
الحجاب عبادة
الحجاب عبادة من أعظم العبادات وفريضة من أهم الفرائض؛ لأن الله تعالى أمر به في كتابه، ونهى عن ضده وهو التبرج، وأمر به النبي صلى الله عليه و سلم في سنته ونهى عن ضده، وأجمع العلماء قديماً وحديثاً على وجوبه لم يشذّ عن ذلك منهم أحد.
أدلة الحجاب من الكتاب والسنة
أولاً : أدلة الحجاب من القرآن :
الدليل الأول : قوله تعالى : { وَقُل للمُؤمِنَاتِ يَغضُضنَ مِن أَبصَارِهِن وَيَحفَظنَ فُرُوجَهُن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن إِلا مَا ظَهَرَ مِنهَا وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن وَلاَ يُبدِينَ زِينَتَهُن } إلى قوله: { وَلاَ يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِن لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِن وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيهَا المُؤمِنُونَ لَعَلكُم تُفلِحُونَ} [ النور:30 ] .
قالت عائشة رضي الله عنها : "يرحم الله نساء المهاجرات الأُول؛ لما أنزل الله : } وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن{ شققن مروطهن فاختمرن بها" [ رواه البخاري ] .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { وَالقَوَاعِدُ مِنَ النسَاء اللاتي لاَ يَرجُونَ نِكَاحاً فَلَيسَ عَلَيهِن جُنَاحٌ أَن يَضَعنَ ثِيَابَهُن غَيرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَستَعفِفنَ خَيرٌ لهُن وَاللهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ } [ النور : 60 ] .
الدليل الثالث : قوله تعالى :{ يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ وَنِسَاء المُؤمِنِينَ يُدنِينَ عَلَيهِن مِن جَلابِيبِهِن ذلِكَ أَدنَى أَن يُعرَفنَ فَلاَ يُؤذَينَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رحِيماً } [ الأحزاب : 59 ] .
الدليل الرابع : قوله تعالى :{ وقَرنَ فِي بُيُوتِكُن وَلاَ تَبَرَّجنَ تَبَرجَ الجاَهِلِيةِ الأولَى } [ الأحزاب : 33 ] .
الدليل الخامس : قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلتُمُوهُن مَتَاعاً فاسأَلُوهُن مِن وَرَاء حِجَابٍ ذلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِن} [ الأحزاب : 53 ] .
ثانياً : أدلة الحجاب من السنة :
الدليل الأول : في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، احجب نساءك . قالت عائشة : فأنزل الله آية الحجاب . وفيهما أيضاً : قال عمر : يا رسول الله، لو أمرتَ أمهات المؤمنين بالحجاب . فأنزل الله آية الحجاب .
الدليل الثاني : عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "المرأة عورة" [ الترمذي وصححه الألباني ] .(15/354)
الدليل الثالث : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "من جرَّ ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقالت أم سلمة رضي الله عنها : فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال : "يرخين شبراً" فقالت : إذن تنكشف أقدامهن . قال : "فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه" [ رواه أبو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ] .
أدلة سَتر الوجه من الكتاب والسنة
أولاً : قوله تعالى : { وَليَضرِبنَ بِخُمُرِهِن عَلَى جُيُوبِهِن} [ النور : 30 ] .
قال العلامة ابن عثيمين : "فإن الخمار ما تخمِّر به المرأة رأسها وتغطيه به كالغدقة، فإذا كانت مأمورة بأن تضرب بالخمار على جيبها كانت مأمورة بستر وجهها" .
ثانياً : قوله تعالى : { يأَيهَا النبِي قُل لأزواجِكَ وَبَناَتِكَ…} [ الأحزاب : 59 ] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلاليب" . قال الشيخ ابن عثيمين : "وتفسير الصحابي حجة، بل قال بعض العلماء إنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ".
ثالثاً : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" [ رواه البخاري ] .
قال القاضي أبو بكر بن العربي : "قوله في حديث ابن عمر: "لا تنتقب المرأة المحرمة" وذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها غير لاصق به، وتعرض عن الرجال ويعرضون عنها" .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهذا مما يدلّ على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن" .
رابعاً : في قوله صلى الله عليه و سلم : "المرأة عورة" دليل على مشروعية ستر الوجه . قال الشيخ حمود التويجري : "وهذا الحديث دالّ على أن جميع أجزاء المرأة عورة في حق الرجال الأجانب، وسواءٌ في ذلك وجهها وغيره من أعضائها" .
الحجاب والمدنية
يرى دعاة المدنية أن الحجاب مظهر من مظاهر التخلف، وأنه يمنع المرأة من الإبداع والرقي، وهو عندهم من أكبر العقبات التي تحول بين المرأة وبين المشاركة في مسيرة الحضارة والمدنية، وفي عملية البناء التي تخوضها الدول النامية للوصول إلى ما وصلت إليه الدول المتقدمة من رقي وتمدن !!
ونقول لهؤلاء : ما علاقة الحجاب بالتقدم الحضاري والتكنولوجي؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تخلع المرأة ملابسها وتتعرَّى أمام الرجال؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تشارك المرأة الرجل متعته البهيمية وشهواته الحيوانية؟ !
هل من شروط الحضارة والمدنية أن تكون المرأة جسداً بلا روح ولا حياء ولا ضمير ؟ !
هل الحجاب هو السبب في عجزنا عن صناعة السيارات والطائرات والدبابات والمصانع والأجهزة الكهربائية بشتى أنواعها؟!
لقد تخلت المرأة المسلمة في معظم الدول العربية والإسلامية عن حجابها، وألقته وراء ظهرها، وداست عليه بأقدامها، وخرجت لتعمل مع الرجل، وشاركته معظم ميادين عمله !!.
فهل تقدمت هذه الدول بسبب تخلِّي نسائها عن الحجاب؟!
وهل لحقت بركب الحضارة والمدنية بسبب اختلاط الرجال بالنساء؟!
وهل وصلت إلى ما وصلت إليه الدولُ المتقدمة من قوة ورقيّ؟!
وهل أصبحت من الدول العظمى التي لها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ؟!
وهل تخلصت من مشاكلها الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية والأخلاقية؟!
الجواب واضح لا يحتاج إلى تفصيل . فلماذا إذن تدعون إلى التبرج والسفور والاختلاط يا دعاة المدنية والحضارة؟!!
إن هؤلاء لا يريدون حضارة ولا مدنية ولا تقدماً ولا رقياً .. إنهم يريدون أن تكون المرأة قريبة منهم .. يريدونها كلأً مباحاً لشهواتهم .. يريدونها سلعةً مكشوفةً لنزواتهم … يريدون العبث بها كلما أرادوا .. والمتاجرة بها في أسواق الرذيلة .. إنهم يريدون امرأة بغير حياء ولا عفاف .. يريدون امرأة غربية الفكر والتصور والهدف والغاية .. يريدون امرأة تجيد فنون الرقص .. وتتقن ألوان الغناء والتمثيل .. يريدون امرأة متحررة من عقيدتها وإيمانها وطهرها وأخلاقها
الإحصائيات لها وقع
1- أظهرت إحدى الإحصائيات أن 19 مليوناً من النساء في الولايات المتحدة كُنَّ ضحايا لعمليات الاغتصاب !! [ كتاب : يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة ] .
2- أجرى الاتحاد الإيطالي للطب النفسي استطلاعاً للرأي اعترف فيه 70% من الإيطاليين الرجال بأنهم خانوا زوجاتهم [ تأملات مسلم ] .
3-في أمريكا مليون طفل كل عام من الزنا ومليون حالة إجهاض [ عمل المرأة في الميزان ] .
4-في استفتاء قامت به جامعة كورنل تبين أن 70% من العاملات في الخدمة المدنية قد اعتُدي عليهن جنسيًّا وأن 56% منهن اعتدي عليهن اعتداءات جسمانية خطيرة [ المرأة ماذا بعد السقوط ؟ ] .
5-في ألمانيا وحدها تُغتصب 35000 امرأة في السنة، وهذا العدد يمثل الحوادث المسجلة لدى الشرطة فقط أما حوادث الاغتصاب غير المسجلة فتصل حسب تقدير البوليس الجنائي إلى خمسة أضعاف هذا الرقم [ رسالة إلى حواء ]
-(15/355)
الحجاب طاعة لله عز وجل وطاعة للرسو صلى الله عليه وسلم :
أوجب الله طاعته وطاعة رسو صلى الله عليه وسلم فقال :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } [الأحزاب : 36]
وقد أمر الله سبحانه النساء بالحجاب فقال تعالى :{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [النور : 31]
وقال سبحانه : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب :33] وقال تعالى :{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب : 53] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ } [الأحزاب : 59].
وقال الرسو صلى الله عليه وسلم :" المرأة عورة" يعني يجب سترها .
الحجاب عفة
فقد جعل الله تعالى التزام الحجاب عنوان العفة ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب : 59]
لتسترهن بأنهن عفائف مصونات { فَلَا يُؤْذَيْنَ } فلا يتعرض لهن الفساق بالأذى، وفي قوله سبحانه { فَلَا يُؤْذَيْنَ } إشارة إلى أن معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولذويها بالفتنة والشر .
الحجاب طهارة
قال سبحانه وتعالى :{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [الأحزاب : 53].
فوصف الحجاب بأنه طهارة لقلوب المؤمنين والمؤمنات لأن العين إذا لم تر لم يشته القلب ، ومن هنا كان القلب عند عدم الرؤية أطهر ، وعدم الفتنة حينئذ أظهر لأن الحجاب يقطع أطماع مرضى القلوب :{ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب : 32]
الحجاب ستر
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :"إن الله حيي ستير ، يحب الحياء والستر " وقا صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره "، والجزاء من جنس العمل .
الحجاب تقوى
قال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الأعراف : 26]
الحجاب إيمان
والله سبحانه وتعالى لم يخاطب بالحجاب إلا المؤمنات فقد قال سبحانه وتعالى :{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ } وقال الله عز وجل { وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ}
ولما دخل نسوة من بني تميم على أم المؤمنين - عائشة رضي الله عنها - عليهن ثياب رقاق قالت :"إن كنتن مؤمنات فليس هذا بلباس المؤمنات ، وإن كنتين غير مؤمنات فتمتعن به ".
الحجاب حياء
قا صلى الله عليه وسلم :" إن لكل دين خلقاً ، وإن خلق الإسلام الحياء" وقا صلى الله عليه وسلم :" الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة " وقال عليه الصلاة السلام : " الحياء والإيمان قرنا جميعاً ، فإن رفع أحدهما رفع الآخر ".
الحجاب غيرة
يتناسب الحجاب أيضاً مع الغيرة التي جُبل عليها الرجل السوي الذي يأنف أن تمتد النظرات الخائنة إلى زوجته وبناته ، وكم من حرب نشبت في الجاهلية والإسلام غيرة على النساء وحمية لحرمتهن ، قال علي رضي الله عنه :" بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج -أي الرجال الكفار من العجم - في الأسواق ألا تغارون ؟ إنه لا خير فيمن لا يغار ".
التبرج معصية لله ورسو صلى الله عليه وسلم
ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ، ولن يضر الله شيئاً ، قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى "، قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال :" من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى ".
التبرج يجلب اللعن والطرد من رحمة الله
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات ، على رؤوسهن كأسنمة البخت ، العنوهن فإنهن ملعونات ".
التبرج من صفات أهل النار
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات .. " الحديث .
التبرج سواد وظلمة يوم القيامة(15/356)
رُوي عن صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مثل الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها "، يريد أن المتمايلة في مشيتها وهي تجر ثيابها تأتي يوم القيامة سوداء مظلمة كأنها متسجدة في ظلمة والحديث - وإن كان ضعيفاً - لكن معناه صحيح وذلك لأن اللذة في المعصية عذاب ، والطيب نتن ، والنور ظلمة ، بعكس الطاعات فإن خلوف فم الصائم ودم الشهيد أطيب عند الله من ريح المسك .
التبرج نفاق
قال صلى الله عليه وسلم :" خير نسائكم الودود الولود ، المواسية المواتية ، إذا اتقين الله ، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخلن الجنة إلا مثل الغراب الأعصم "، الغراب الأعصم : هو أحمر المنقار والرجلين ، وهو كناية عن قلة من يدخل الجنة من النساء لأن هذا الوصف في الغربان قليل .
التبرج تهتك وفضيحة
قال رسول ا صلى الله عليه وسلم :" أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها ، فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل ".
التبرج فاحشة
فإن المرأة عورة وكشف العورة فاحشة ومقت قال تعالى :{ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء} [الأعراف:28]
والشيطان هو الذي يأمر بهذه الفاحشة { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء}[البقرة:268]
التبرج سنة إبليسية
إن قصة آدم مع إبليس تكشف لنا مدى حرص عدو الله إبليس كشف السوءات ، وهتك الأستار ، وأن التبرج هدف أساسي له ، قال تعالى :{ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف:27]
فإذن إبليس هو صاحب دعوة التبرج والتكشف ، وهو زعيم زعماء ما يسمي بتحرير المرأة .
التبرج طريقة يهودية
لليهود باع كبير في مجال تحطيم الأمم عن طريق فتنة المرأة وهم أصحاب خبرة قديمة في هذا المجال ، حيث قال صلى الله عليه وسلم :" فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".
التبرج جاهلية منتنة
قال تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [الأحزاب :33]
وقد وصف صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية بأنها منتنة أي خبيثة فدعوى الجاهلية شقيقة تبرج الجاهلية، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي "، سواء في ذلك تبرج الجاهلية ، ودعوى الجاهلية ، وحمية الجاهلية .
التبرج تخلف وانحطاط
إن التكشف والتعري فطرة حيوانية بهيمية ، لا يميل إليه الإنسان إلا وهو ينحدر ويرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان الذي كرمه الله ، ومن هنا كان التبرج علامة على فساد الفطرة وانعدام الغيرة وتبلد الإحساس و موت الشعور :
لحد الركبتين تشمرينا *** بربك أي نهر تعبرين
كأن الثوب ظلٌ في صباح *** يزيد تقلصاً حيناً فحينا
تظنين الرجال بلا شعور *** لأنكِ ربما لا تشعرينا
التبرج باب شر مستطير
وذلك لأن من يتأمل نصوص الشرع وعبَر التاريخ يتيقن مفاسد التبرج وأضراره على الدين والدنيا ، لا سيما إذا انضم إليه الاختلاط المستهتر .
الحجاب في منظور التيارات النسائية
ان قضية الحجاب شكلت على مدى عقود كثيرة حقلاً ومحوراً رئيساً من محاور المنابر النسائية المختلفة وتباينت حولها الأراء خاصةً بعد بروز تيار نسائي اسلامي مدافع عن المرأة انسانةً وعقيدة وفكراً في ظل الهجمة المستعرة والمنظمة من قبل العديد من الجمعيات والمؤسسات النسائية العلمانية المنتشرة في ارجاء عالمنا العربي الإسلامي والهادفة الى تدمير النسيج الإجتماعي والقيمي والعقدي والأخلاقي في المجتمع من خلال ادخال وترويج مفاهيم خاطئة اساساً ومدمرة نتيجةً فيما يتعلق بالمرأة والنظرة اليها والى دورها في المجتمع الذي تعيش فيه وتصوير القيم العقدية سبباً من اسباب التخلف الفكري وهضم الحقوق وسلبها وبالتالي تحييد دورها الفاعل والمؤثر في بناء مجتمع حضاري وهذا ما هيأ الأجواء لبروز فلسفات حول الشكل العام للمرأة المسلمة ممثلاً بالحجاب حيث نجد أن التيار الإسلامي النسائي له فلسقته والتيار النسوي العلماني له فلسفته وبين الفلسفتين تكمن الحاجة الى بيان الحق والحقيقة وفيما يلي استعراض لهذه الفلسفات .
الحجاب عنوان المساواة(15/357)
النقطة الأولي: ينظر التيار النسائي الإسلامي إلى أن فلسفة قيام الحجاب ترتكز بالأساس على انتفاء صفة الجنس كمعيار للتميز ، أو اعتبار المرأة أداة أو دافعا جنسيا داخل محيطها، والحجاب ضرورة لتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة الإنسان في المجتمع وفي مجالات العمل المختلفة؛ حيث ينظر إلى الحجاب على أنه وسيلة يمكن أن تتخذها المرأة لإطلاق العنان لتحقيق ذاتها من خلال عملها الذي تختاره هي حسب مؤهلاتها، وكذلك تثبت واجب مشاركتها في بناء وإصلاح المجتمع ويكون الحجاب بذلك رمزاً للتميز الإيجابي ومظهر من مظاهر التأكيد على الجنس البشري وما تقنضيه الفطرة الإنسانية ولهذا رد على من يعقد بأن المساواة بين المرأة والرجل في كل شيء يعني مساوتها به في اللباس وهذا ما وقع به انصار التبرج والسفور .
وتتكرر نفس الرؤيا بقوالب مختلفة في الفكر النسوي العلماني؛ حيث يؤكد الراديكاليون من النسويين على ضرورة تقريب الشكل الخارجي للمرأة من شكل الرجل؛ حيث تقصير الشعر وارتداء "البنطال" وانتفاء المكياج، بالإضافة إلى مناهضة أغلب تيارات النسوية استخدام المرأة في الدعارة والدعايات وبقية وسائل الإعلام، منطلقة من نفس الفلسفة؛ أي لإقصاء جنس المرأة أو اعتبارها أداة متعة؛ لتتساوى في ذلك بالرجل الإنسان.
ولكن المفارقة تكمن في إنكار النسوية الراديكالية.. هذا في قضية الحجاب مع تماثل الموقف والعلة؛ حيث إن الرجل هو المعني بالنظرة الجنسية للمرأة في الحالتين، والرجل الذي يجلس أمام فاتنة أبرزت جمالها.. من الطبيعي أن ينصرف ذهنه إلى الغريزة والأنوثة، في الوقت الذي تستطيع المرأة بستر تلك المفاتن أن تفرض على الرجل أن ينظر إليها كإنسان مكافئ لها، لا كمغرية تتبارى في منافسة الأخريات، وتُبرز كل يوم مع كل موضة قدرا ونوعا من المفاتن.
ومع أن الحركات النسوية الراديكالية تنكر وجود أي فروق حقيقية بين الجنسين فكيف تناهض تغطية الفروقات الظاهرية التي تذكر دوما بتلك الفروق وتكرسها، وتوحي بأن المرأة شيء والرجل شيء آخر؟ حيث إن المرأة هي نفسها بحاجة إلى فرض نفسها كإنسان على الآخر وعلى المجتمع معا لتنطلق وتحقق ما تريد.
الحجاب حماية المرأة
والنقطة الثانية: التي يراها التيار النسائي الإسلامي أن الحجاب تم فرضه على المرأة من أجل حمايتها من الإيذاء والاعتداء، بعد أن تمكنت هي من فرض شخصيتها كإنسانة؛ وذلك لترسيخ هذه الحماية في إطار ثقافي ثم اجتماعي؛ وهو ما يؤدي إلى تفادي المجتمع من الاستغراق في حماية المرأة بقوة القانون والبوليس ومحاكم الدولة وسجونها، وهذا ظاهر وجلي للمتابع لما يجري في المجتمعات الغربية التي تقوم بحل قضايا، مثل: التحرش الجنسي، والاغتصاب ، وهما ظاهرتان ناتجتان عن الانحلال الأخلاقي الذي يسود المجتمع، ويعد عدم حجاب المرأة من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم معاناة المرأة من التحرش الجنسي والاغتصاب حتى وصلت الإحصائيات إلى مستوى مخيف.
وليس معنى هذا أنه بقيام الحجاب سوف يتم القضاء على التحرش الجنسي والاغتصاب، ولكن لا يمكننا إغفال أثر هذا العامل الرئيسي عند تحليلنا للإحصائيات التي لا تبشر بخير لا للمرأة ولا للمجتمع الإنساني، ولا يمكن لباحث علمي أن ينكر العلاقة بين حجاب المرأة وتقليل عوامل الإثارة، وانخفاض نسبة هذه الجرائم .
الحجاب حرية شخصية فلماذا تحارب
والنقطة الثالثة: هي أن ما تم تطبيقه حتى الآن في أكثر من دولة وفي إطار النظم السياسية العلمانية التي تحتضن التيار النسوي الراديكالي من منع للحجاب وحرمان للمرأة المسلمة بسبب حجابها من حقوقها الأساسية في التعليم والمشاركة المدنية والسياسية في مؤسسات الدولة وحتى العلاج أحيانا، ولا فرق بين هذه النظم من حيث إنها تحكم شعوبا إسلامية، مثل تركيا وتونس أو شعوبا غير مسلمة كفرنسا التي منعت الحجاب حاليا.
وهنا يظهر جليا غلبة التيار النسوي الراديكالي بكل مسمياته على حساب بقية التيارات النسوية، وإخفاقه في تحقيق مناخ تتمتع فيه المرأة ولو بحريتها الشخصية، وحقها في الاختيار حين يكون حصولها على مساندة النظم السياسية أمرا واقعا، بل بدل ذلك أطلقت لنفسها عنان التمثيل نيابة عن كل النساء في قضايا تمس المرأة، هذا إن تعاملنا مع قضية الحجاب منطلقين من مبدأ الحرية الشخصية التي تناضل النسوية من أجلها ولكن بمعيار مزدوج؛ إذ منع الحجاب وحرمان المرأة المسلمة بسبب حجابها من دخول المدارس والجامعات والبرلمان وبقية مؤسسات الدولة لا تعد انتهاكا صارخا لحقوقها كإنسان!! حيث أصبحت العلمانية والنسوية الراديكالية في جبهة واحدة لخلق نوع جديد من التمييز القانوني ضد أغلب شرائح النساء في مجتمعاتهم فيما يخص قضية الحجاب، وأصبحت النسوية الراديكالية التي كانت بالأمس تنتقد وصاية الدين والرجل على المرأة تفرض وصايتها ووصاية الدولة بالقانون على المرأة، وقس على ذلك وصاية التيار النسوي الراديكالي من خلال مؤسسات الأمم المتحدة والمواثيق والاتفاقيات الدولية على نساء العالم، بعيدا عن أي اعتبار لتعدد الثقافات والأديان بين الأمم والشعوب.(15/358)
الحجاب بين الشكل والجوهر
والنقطة الرابعة: هي انغماس الراديكاليين في شأن الحجاب؛ لدرجة أن كل من ترتدي الحجاب لا تعتبر من وجهة نظر أغلبية هذا التيار مدافعة عن حقوق المرأة، ويختلق هذا التيار علاقة عكسية بين قضية الحجاب وقضية الدفاع عن المرأة، ويعتبر الحجاب وعدمه معيارا لتحديد من يوصف بالمدافع عن قضية المرأة، وكأن الحجاب يعطل فكر المرأة من أن تناضل من أجل الحصول على حقوقها وحقوق من تمثلها، وهذا التعامل السطحي مع الحجاب خلق حاجزا نفسيا بين الناشطات في مجال قضايا المرأة داخل المجتمعات الإسلامية، نلاحظها من خلال المناشط اليومية والمؤتمرات، وأعتبره شخصيا عاملا مؤثرا وأساسيا في ضعف التواصل بين مختلف المؤسسات والجمعيات والمراكز الناشطة في مجال المرأة والاتفاق على أرضية مشتركة للعمل عليها من أجل المرأة نفسها، حين كانت مجتمعاتنا عامة والمرأة فيها خاصة في غنى عن هذه الحالة.
وهذا التعامل ليس مقصورا على الراديكاليين من النسوية؛ بل إن هناك من المتشددين الإسلاميين من يرون نفس الرأي تجاه سفور المرأة. فبالرغم من أهمية الحجاب وكونه فريضة دينية فإنه ليس أهم من الإيمان والواجبات الخمسة المتعلقة بالإسلام، وليس الشكل أهم من الجوهر، وفي كلتا الحالتين تتضرر المرأة لوحدها، وتنغمس مختلف تيارات نسائية/نسوية في إشكاليات لا تقدم للمرأة شيئا، بل تعرقل النضال من أجل حصول المرأة على حقوقها وكذلك تمكينها.
الحجاب هوية دينية وثقافية
والنقطة الخامسة: هي نظرة التيار النسائي للحجاب على أنه جزء من هويتها الدينية والثقافية، وأن تمسكها بالحجاب من القضايا التي لا يمكن التهاون فيها، وأنها من مقتضيات الحفاظ على نظامها الثقافي في زمن تغزوه العولمة، وأن هذا التمسك يعكس واقع مجتمعاتها الإسلامية، ويعبر عنها.
بينما تضع النسوية الراديكالية الحجاب في إطار الإسلام كدين، وحيث إن رفض الدين وإقصاءه من حياة المرأة يعتبر من أهم المرتكزات التي نشأ عليها التيار الراديكالي من الحركة النسوية، وبالتالي رفْض الحجاب بل ومناهضته يدخل في صلب إستراتيجية النسوية الراديكالية البعيدة كل البعد عن شعاراتها الأساسية فيما يخص الحرية الشخصية وتولي المرأة لزمام أمور حياتها، حينما يتعلق الأمر بالجنس والصحة الإنجابية؛ مما صعد الخطاب النسائي الآخر ضدهم لحد وصفهم بمنفذين لأجنده خارجية لا تتلاءم مع الواقع الثقافي والاجتماعي للمجتمعات الإسلامية.
دشنت 70 شخصية نسائية ألمانية بارزة من مختلف شرائح المجتمع الألماني -من غير المسلمين- حملة مناهضة لقوانين مقترحة جديدة لحظر ارتداء الحجاب في دوائر العمل العامة والمدارس الرسمية في عدد من الولايات الألمانية.
حملات مناهضة لقرار منع الحجاب
نقلت مجلة "دير شبيجيل" الألمانية على موقعها الإلكتروني في 3-12-2003 عن ماري لويز بيك مفوضة الأجانب والاندماج في الحكومة الألمانية انتقادها الشديد لعزم عدد من الولايات الألمانية إصدار قوانين جديدة لحظر الحجاب في الوظائف العامة بها.
واعتبرت "ماري لويز" أن هذه القوانين استخفاف بالوصايا الدستورية المتعلقة بمعاملة جميع الأديان الموجودة داخل المجتمع الألماني على قدم المساواة.
وأكدت أن تقنين حظر عمل المسلمات في المدارس الرسمية والوظائف العامة في ألمانيا سيؤدي إلى ممارسة تمييز ديني غير مسبوق عليهن وجرح مشاعرهن وصدمتهن من الظلم الواقع عليهن.
من جهتها، قالت "بربارا جون" مفوضة الأجانب والاندماج في برلمان ولاية برلين المحلي: إن هدف واضعي القوانين الجديدة والمؤيدين والمتبنين لها هو إثارة فزع هائل بين المواطنين الألمان من الإسلام، وتعزيز صورته النمطية السلبية عندهم كعدو شيطاني رهيب.
وأضافت بربارا أن مثل هذه القوانين في حال صدورها من شأنها أن تسم المجتمع الألماني بالانغلاق والتطرف بصورة مطلقة، وأن تؤدي إلى إضافة أعضاء جدد لمعسكر من أسمتهم "المتشددين المسلمين" داخل المجتمع الألماني.
وأطلقت "اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان" -ومقرها العاصمة البريطانية لندن- حملة دولية للضغط على الحكومة الفرنسية وحملها على العدول عن سن قانون يمنع المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس.
واقترحت اللجنة -التي تناهض العداء ضد الإسلام والمسلمين في أوربا- على جميع المسلمين في مختلف أنحاء العالم توجيه رسائل احتجاج للمسئولين الأوربيين تندد بالنوايا الفرنسية وتحضهم على اتخاذ مواقف قوية وواضحة ترغم الحكومة الفرنسية على العدول عن نواياها بسن قانون يمنع ارتداء الحجاب في المدارس.
ودعت اللجنة المسلمين بصورة خاصة إلى توجيه رسائل إلى الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" ووزير داخليته، بالإضافة إلى وزير الخارجية البريطاني "جاك سترو" وجميع وزراء الخارجية في أنحاء العالم، والسفراء الفرنسيين المعتمدين في جميع عواصم العالم.(15/359)
وأوضحت اللجنة أنها أعدت نماذج للرسائل المراد إرسالها للتنديد بموقف الحكومة الفرنسية من الحجاب، كما أعدت صيغة لكل رسالة حسب الشخص أو الجهة المتجهة إليها، فالذين يقيمون في دول الاتحاد الأوربي عدا الفرنسيين عليهم الكتابة إلى وزير خارجية البلد الذي يقيمون فيه.
وقال "مونل زيدان" الناشط الإسلامي، مسئول مؤسسة زيدان للاستشارات الإعلامية المعنية بالترويج للحملة: إن القائمين على الحملة يستهدفون "حث المسلمين في مختلف أنحاء العالم على الوقوف في وجه حملة العداء التي تروج في أوربا ضد الإسلام والمسلمين، والتي تأتي المواقف الفرنسية من الحجاب خير برهان عليها".
وأضاف زيدان أن "حملة الرسائل بداية لخطوات أكثر جدية لإرغام الحكومة الفرنسية على احترام رموز الدين الإسلامي وحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، شأنهم شأن غيرهم من معتنقي الأديان الأخرى".
وأشار إلى أن "اللجنة تنوي حال إصرار الحكومة الفرنسية على المضي قدمًا في اتجاه سن هذا القانون أن تقيم ضدها دعوى قضائية أمام محكمة حقوق الإنسان الأوربية" باعتبار أن قانون منع الحجاب "صورة صارخة للتمييز على أساس ديني بما يتعارض مع الأعراف ومواثيق حقوق الإنسان التي يدعمها الاتحاد الأوربي".
ورأى مونل زيدان أن "المسلمين يعتبرون الحلقة الأضعف وسط كافة العرقيات والجاليات التي تعيش في أوربا، ونتيجة لأنهم غير فاعلين ولا يقفون مواقف إيجابية عند انتهاك حقوقهم، يتعرضون كل يوم للمزيد من الغبن والنيل من معتقداتهم ومقدساتهم، ومن هنا تسعى اللجنة الإسلامية لحقوق الإنسان -بالتعاون مع مؤسسات أهلية أخرى في أوربا- لتوحيد كلمة المسلمين وحشد رأيهم حيال القضايا التي تنال من حقوقهم في البلدان التي يعيشون فيها".
وأشار "زيدان" إلى أن سن فرنسا لقانون يمنع ارتداء الحجاب في المدارس كفيل بـ"توفير مظلة شرعية وقانونية لحملة العداء التي تروج لها دوائر عنصرية ضد المسلمين". ورأى أنه من الضروري ألا تقتصر الاستجابة للحملة على المسلمين المقيمين في أوربا وحدهم، بل من الضروري أن يشارك فيها المسلمون في العالمين العربي والإسلامي، لا سيما أن القانون الفرنسي حال إقراره لن يحد من حرية المسلمات المقيمات في فرنسا وحدهن، بل سينال من حرية الزائرات لفرنسا من العرب والمسلمين سواء للسياحة أو العلاج أو غيره.
وفي تونس العلمانية التي لا تقل خطراً على الحجاب من فرنسا طلب عدد من المحامين والشخصيات السياسية التونسية من رئيس الدولة زين العابدين بن علي التدخل العاجل لإيقاف الانتهاكات المتواصلة ضد النساء التونسيات المرتديات للحجاب.
وجاء في عريضة وقعها أكثر من 100 محام وناشط حقوقي أن "النساء التونسيات المرتديات للحجاب يتم حرمانهن منذ بداية السنة من العمل ودخول المعاهد والجامعات، كما يعمد رجال الأمن دون موجب قانوني إلى تعنيفهن، ونزع الحجاب بالقوة مع الشتم والوصف بشتى النعوت، ولو أمام أزواجهن أو إخوانهن، وإجبارهن على إمضاء التزام بعدم ارتداء الحجاب مستقبلاً".
وطالبت العريضة التي أثارت جدلاً واسعًا عقب توزيعها على وسائل الإعلام الإثنين 10-11-2003 "بإيقاف هذه الانتهاكات الخطيرة والمنافية للحرية الشخصية وحرية المعتقد وكل المواثيق الدولية".
كما ندّد الموقعون على العريضة "بالاعتداءات على الحرمة الجسدية للمواطنات من طرف سلطة يفترض فيها أنها تسهر على احترام القوانين وحماية المواطنين، لا على ترويعهم والتدخل في خياراتهم الشخصية".
وكانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قد عبرت عن انشغالها العميق بالانتهاكات والاعتداءات التي تتعرض لها النساء المحجبات من طرف رجال الأمن أو المسئولين في الإدارات العمومية.
ووصفت الرابطة في بيان حديث أن المنشور الصادر عن وزارة التربية والتدريب، الذي يدعو إدارات المعاهد والمدارس إلى "العمل بكل حزم وصرامة على تطبيق التدابير التي تمنع ارتداء الأزياء ذات الإيحاءات والدلالات الطائفية"، في إشارة إلى الحجاب، بأنه "منشور غير قانوني، وينتهك الحق في حرية اللباس والحق في التعليم".
ويُذكر أن وزير الصحة حبيب مبارك لا بارك الله فيه قد أصدر منشورا جديدا في بداية شهر رمضان يدعو فيه المستشفيات وإدارات الصحة إلى منع الأطباء والممرضين والمرضى من الدخول في حالة وجود الحجاب أو اللحية.
من جهة أخرى قال المجلس الوطني للحريات: إنه سجل منذ بداية السنة الدراسية الحالية حملة منظمة لانتهاك الحريات الفردية للمواطنات المحجبات. وقال المجلس إن الحملة شملت المحجبات في الطريق العام ووسائل النقل العمومية ومؤسسات التعليم العالي والمحاكم والمستشفيات".
وقال المحامي نجيب حسني الناطق الرسمي باسم مجلس الحريات": يجب إيقاف هذه الحملة اللامنطقية التي تحرم نساء تونس من حقوقهن في التعليم والعمل، وأضاف: "المجتمع المدني وقواه الصادقة لا يمكنهم السكوت على هذه الانتهاكات، وعلى تسخير أجهزة الدولة لمحاربة نساء محجبات بدون أي ذنب، سوى ممارسة قناعات شخصية مضمونة في الدستور والمواثيق الدولية".(15/360)
نماذج لاضطهاد المحجبات في تونس العروبة
قالت أحلام الداني من تونس الخضراء ، 45 سنة، إنها تعرضت للاختطاف من قبل رجال أمن بالزي المدني، حيث أجبرت على الالتزام بنزع الحجاب داخل منطقة الأمن بباب سويقة وسط العاصمة التونسية، وعبرت عن استيائها الشديد من تدهور حقوق النساء بدون أي موجب ولا قانون.
أما الطالبة بسمة الغزي -23 سنة- فقالت إنها أحيلت إلى مجلس التأديب بكلية العلوم، وإنها اضطرت لنزع حجابها مؤقتًا حتى لا تضحي بدراستها.
وأضافت الغزي: "أعتقد أن المنشورات الصادرة عن وزير التعليم العالي ضد المحجبات فيها ظلم كبير لم يحصل حتى في الدول الغربية، وهي ناتجة عن تحريض واضح وصريح من أطراف أصابها الفشل ولم يجدوا إلا المحجبات لمحاربتهن".
من المعروف أن القانون رقم 108 التونسي الذي يتضمن حظر ارتداء الحجاب صدر في عهد الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة عام 1981.
وقال القرضاوي في خطبة الجمعة 19-12-2003 التي ألقاها بمسجد عمر بن الخطاب بالعاصمة القطرية الدوحة ان ما قامت به فرنسا يخالف مبدأين أساسيين من مبادئ الحرية المدنية وهما: الحرية الشخصية والحرية الدينية"، وأكد القرضاوي أنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تترك الحجاب؛ لأن الله أمر به وهو ليس رمزاً لأن الرمز الديني هو ما ليس له وظيفة سوى الإعلان عن الانتماء لدين معين كالصليب للنصارى والقلنسوة لليهود. أما الحجاب فلا؛ ذلك لأن له وظيفة أساسية وهي الستر؛ فهو يستر للمسلمة شعرها وبدنها وعنقها ونحرها".
وفي ختام لحثنا هذا نرى أن قضية الحجاب واثارتها عالمياً وعلى مستوى سياسي ودستوري له دلالات مهمة يجب الإشارة اليها ومن أهمها أن الغرب بات يدرك تماماً أن المستقبل للإسلام وأن الفكر الإسلامي هو الفكر الذي يناسب كل الثقافات وكل الشعوب وبالتالي فانه المرشح الوحيد والأصلح لقيادة العالم بشكل سليم وهذ1ا الإدراك طبعاً يتعارض مع اهدافهم الخبيثة ومع مخططاتهم المسمومة ولهذا يجب محاربة الإسلام من خلال القضاء على مظاهره الدالة عليه وليس هناك من مظهر اسطع من الحجاب لدجى المرأة المسلمة وأيضاً فهم هذا ادراك آخر لأهمية الحجاب في تهذيب النفس وهم طبعاً يريدون تخريب هذه النفس وافسادها والتي بها يفسد كل شيء في المجتمع ولما كان وما زال العالم الإسلامي والفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية والمرأة المسلمة المتزنة والمحتشمة تشكل عقبة أمام طموحهم رسموا خططهم لإفساد المرأة مربية الأجيال حتى يستقيم الحال بينها وبين نسائهم في الخفة والفساد .
وهذا كله يقودنا الى أن الحرب هذه يجب أن تواجه بحملة مضادة ومنظمة وواسعة ومدروسة ترتكز على قواعد واصول العمل الدعوي الواعي والمؤصل شرعاً ومن هنا يبرز دور العلماء من فقهاء وعلماء اجتماع وسياسة لكي تتخذ المسألة نهجاً علمياً سليماً وهذا طبعاً يجب أن يدعمه خطوات جماهيرية ومنظماتية شعبية ضاغطة ودافعة باتجاه العمل على تصويب الأوضاع في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تعاني هي الأخرى من ظواهر ومسلكيات خطيرة تقودها وتعمل على تشجيعها الأنظمة الحاكمة بالحديد والنار والظلم والإستبداد وما أكثر هذه النماذج في وططنا العربي والإسلامي الكبير وباعتقادي بغير هذا لن يوكن لصوت الإصلاح ودعوة الحق وكلمة الإيمان صدى وتأثير على الحكومات الغربية المعادية لنا أصلاً وعلانية ولكن كما يقول المثل لا يفل الحديد الا الحديد فالقوة هي السبيل الى تحقيق الأهداف ومن انواع القوة وحدة الصف والحرف والصوت والسوط واراية والغاية والشعار والقرار والغرب ما زال يرى فينا كل اشكال الفرقة والتمزق والتشتت فكيف يخافنا أو يحسب لنا أي حساب وكيف لا يتجرأ على المس بقيمنا ومبادئنا وعقيدتنا وهو يرى منا من هم اكثر منه عداءاً لنا .
==============(15/361)
(15/362)
العلمانية التاريخ والفكرة ... ... ...
يتردد كثيراً في وسائل الإعلام والمنتديات وعلى المنابر مصطلح " العلمانية " والقليل من الناس من غير المتخصصين من لديه معلومات دقيقة , أو مفاهيم محددة واضحة عن العلمانية, ولعلي في هذه الكتابة أسهم في بيان وتوضيح وكشف هذه الجوانب عن العلمانية , مع الاعتراف بصعوبة ذلك في الكتابة الصحفية , لما تستدعيه من الاختصار والإيجاز, ولما عودته الصحف للناس من البساطة والخطابية وعدم التوثيق العلمي الأكاديمي المتعارف عليه في الجامعات.
أصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية " secula r ism " , وهي من العلم فتكون بكسر العين , أو من العالم فتكون بفتح العين , وهي ترجمة غير أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة , لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي " لا دينية أو لا غيبية أو الدنيوية أو لا مقدس" , لكن المسوقون الأول لمبدأ العلمانية في بلاد الإسلام علموا أنهم لو ترجموها الترجمة الحقيقية لما قبلها الناس ولردوها ونفروا منها, فدلسوها تحت كلمة العلمانية لإيهام الناس أنها من العلم, ونحن في عصر العلم, أو أنها المبدأ العالمي السائد والمتفق عليه بين الأمم والشعوب غير المنحاز لأمة أو ثقافة .
وكان أول من طرح هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية نصارى بلاد الشام في القرن التاسع عشر , وكان أول من طرح هذا المصطلح - حسب علمي - " إلياس بقطور " وهو نصراني لبناني في معجم (عربي / فرنسي) ثم طرحه بعده " البستاني " في معجميه الذَين ألفهما .
• العلمانية بضاعة غربية :
لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية - دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية - خلال قرون من التدريج والنمو الطبيعي ، والتجريب والتكامل , حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم , وأهم هذه الظروف والمعطيات التي برزت وأنضجت التجربة العلمانية في الغرب هي :
1- طبيعة الديانة النصرانية ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين الدين والدنيا , أو بين الكنيسة والدولة ونظم الحياة المختلفة , فهي ديانة روحية شعائرية لا شأن لها بنظم الحياة وشؤون الحكم والمجتمع , يعبر عن ذلك الشاعر النصراني " دع ما لله لله , وما لقيصر لقيصر " ..! ولهذا فإن النصارى أمماً وشعوباً حين يندفعون للبحث عن تنظيم أمور حياتهم, في العلمانية أو غيرها, لا يشعرون بأي حرج من ناحية دينهم ومعتقداتهم , بل إن طبيعة دينهم تدفعهم لهذا الأمر , ولذلك فإن نشأة العلمانية وانتشارها وسيادتها في المجتمعات الغربية أمر طبيعي .
2- الصراع الذي نشأ بين الكنيسة والكشوف العلمية في جوانب الحياة المختلفة , فعلى الرغم من أن الديانة النصرانية ديانة روحية صرفة إلا أن المؤسسة الكنسية تبنت بعض النظريات العلمية القديمة في بعض العلوم , ثم بمرور الزمن جعلتها جزء من الدين يحكم على كل من يخالفها بالردة والمروق والهرطقة , وحين تطورت العلوم الطبيعية تبين أن الكثير من تلك النظريات كانت خاطئة وخلاف الصواب والحقيقة , وانبرت الكنيسة تدافع عن تلك الأخطاء باعتبارها من الدين , واشتعلت الحرب , وسقط ضحايا التزمت الخرافي والتعصب الأعمى غير المبرر من علماء الطبيعة ما بين مقتول ومحروق ومشنوق , ومارست الكنيسة أقصى درجات القمع الفكري والبدني على معارضيها بزعمها , وجنت الكنيسة على الدين حين صورته للناس دين الخرافة والدجل والكذب , بسبب إصرارها على أن تنسب إليه ما هو منه براء .
وحين تكشفت للناس الحقائق وقامت البراهين القاطعة على صحة أقوال أهل العلم انحازوا للحقيقة ونبذوا الكنسية ودينها ، أو على الأصح ردوا الديانة النصرانية المحرفة إلى أصلها وطبيعتها وحقيقتها ، لا شأن لها بالعلم والحياة والنظم والكشوف ، فكان ذلك دفعة جديدة لسادة العلمانية ، تدعمها الكشوف العلمية والعقول المفكرة ، وقد أدى انتصار العلم في النهاية إلى ثورة علمية وكشوف جغرافية ، فكان أن … :
3- قامت في الغرب حركة اجتماعية فكرية سياسية شاملة نفضت غبار الماضي ، وثارت على كل قديم ، واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة والقوى القديمة التي يمثلها الإقطاع وطبقات النبلاء ، وانحازت الكنيسة أيضاً للقوى القديمة ، بينما كانت القوى الجديدة تطالب بالحريات المساواة ، وترفع شعار حقوق الإنسان ، ويدعمها العلم وحقائقه ، وتطور الحياة وسنتها ... فالتفت الشعوب والجماهير حول القوى الجديدة الداعية إلى التقدم الاجتماعي والتطور الفكري والسياسي ، وكان يدعم هذا التوجه ما عاشته الشعوب من ظلم واستغلال بشع في ظل الإقطاع والكنيسة ، وكانت العلمانية اللادينية هي اللافتة والراية التي اجتمعت القوى الجديدة تحتها, وبانتصار هذه القوى انتصرت العلمانية, واندحرت النصرانية وأخذت القوى الجديدة تبشر بعصر جديد يسعد فيه الإنسان، وتحل جميع مشكلاته، ويعم السلام والرفاهية والرخاء جميع الشعوب، وهو ما لم يتحقق إلا بعضه كما سنرى بعد قليل .
• نتائج العلمانية في الغرب :(15/363)
حين تحرر الإنسان الغربي من سيطرة الكنيسة والإقطاع تحرر من سيطرة الخرافة والدجل والظلم، ورافق ذلك بزوغ فجر التقدم الصناعي والثورة العلمية، وحين أخذت الشعوب الغربية بالنهج العلماني الجديد في إطار المستجدات العلمية والفكرية والسياسية الجديدة كانت نتائج ذلك :
أ- التقدم العلمي الهائل :
إذ أن العقل الغربي الذي كان أسير الأساطير تاريخياً، والخرافة دينياً وعلمياً، تحرر من ذلك كله وانطلق يبحث ويجرب ويفكر ويتقصى ، فأبدع في هذا المجال بما لم تعرفه البشرية في تاريخها، وقدم الغرب للإنسانية من نتائج علمه ثورة صناعية هائلة غيرت وجه الأرض وطبيعة علاقة الإنسان بالبيئة المادية من حوله .
ب- الرخاء الاقتصادي الواسع الذي أصبحت تعيشه الشعوب الغربية ولم تحرمه شعوب العالم الأخرى :
إذ إن منجزات العلم وظفت في العديد من جوانبها لرفاهية الإنسان في ضرورياته من غذاء وكساء وعلاج وسكن وخدمات، بل تجاوز كثير من الشعوب توفير الضروريات إلى التوسع في الكماليات بصورة مميزة لم تعرف لها البشرية مثيلاً في الجملة وبصورة عامة .
ج- الاستقرار السياسي :
واستبعاد صور وأشكال العنف في التعبير عن الآراء والتوجهات السياسية ، وترسيخ آليات وأخلاقيات وقوانين وأعراف للحوار أو الصراع السياسي، وتوفير ضمانات للحريات السياسية في آلياته ووسائله وأساليبه- لا في فلسفته ومحتواه الفكري- أمن وسلام على الشعوب الغربية بعد عصور الدماء والتطاحن والثورات ، وأصبح مثالاً يحتذى من كافة شعوب الأرض ، ويسعى الجميع لاستيراده وتطبيقه باعتباره نهاية التاريخ ، وغاية التطور، وسقف الحضارة الذي لا يمكن تجاوزه
د- احترام حقوق الإنسان وحرياته :
وبالذات الإنسان الغربي، وبالمفهوم الغربي أيضا للحقوق والحريات، حيث أصبح زعيم أكبر وأقوى دولة في العالم يحقق معه ويحاكم كأي فرد مهما ضعف وتضاءل من شعبه، وبحيث أصبحت السيادة للقانون، ودور السلطة هو حماية القانون وتنفيذه وخدمة الأمة وحمايتها والنزول على رأيها ورغبتها، مع الأخذ في الاعتبار أن المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان والحريات ليست هي المفاهيم الصحيحة ، ولا الأولى والأجدى لحياة الإنسان ، بسبب منطلقاتها المادية الإلحادية الإباحية، لكنها بلا شك تحتوي على قدر لا بأس به من قيم العدل والمساواة والإنصاف بمعايير القوانين الوضعية .
هـ - انتشار الإلحاد بجميع صوره وأشكاله في حياة الغربيين :
نتيجة لهزيمة الكنيسة والدين في مواجهة العلمانية ، مما أدى لتحييد الدين عن شئون الحياة العامة، واقتصاره على الجانب الفردي الاختياري في حياة الإنسان ولأول مرة في تاريخ البشرية تقوم دول وأنظمة ومعسكرات عالمية تتبنى الإلحاد في أشد صوره غلواً وتطرفاً ومادية ، وتصادم فطرة الإنسان , وتصادر ضرورات العقل في الإيمان ومستلزماته تحت شعار تقديس العقل ، وإنما هو تسفيه العقل والعياذ بالله .
و- السيطرة الغربية على شعوب العالم الأخرى ، واستعمارها، واستعبادها ، واستغلال خيراتها ، والتنافس بين الدول الغربية في ذلك :
مما تسبب في قيام حربين عالميتين ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر ، وما زال التهديد قائماً بحرب ثالثة قد تكون سببا في دمار الأرض والقضاء على الحضارة البشرية ومنجزاتها عبر التاريخ, فالغرب نتيجة للثورة العلمية والقوة الاقتصادية والكشوف الجغرافية وتراجع المد الإسلامي في الأندلس وغيرها ، أخذت أساطيله تمخر عباب البحار والمحيطات، وتتسابق للاستيلاء على الممالك والأقاليم، وتقاسمت العالم ، ونهبت ثرواته، واستغلت شعوبه، وصادرت عقائده، وتجاهلت خصائص كل أمة وقيمها وثقافتها، وقامت حروب التحرر المقاومة للاستعمار، وسالت دماء الشعوب أنهاراً، وتم في النهاية جلاء القوى العسكرية الاستعمارية من أغلب بقاع العالم، ولكن بعد أن فرض الغرب رؤيته وأفكاره وأيديولوجيته، وربى على ذلك النخب الفكرية والسياسية في شعوب ما سمي بالعالم الثالث، وسلّمها زمام الأمر من بعده، فواصلت حمل راية العلمانية، وتطرفت في تطبيقها بالحديد والنار كما سترى فيما يأتي من حديث .
ز - العجز عن حل المعضلة الإنسانية التاريخية في غرس اليقين والطمأنينة في نفس الإنسان، والإجابة على تساؤلاته الكبرى المصيرية الملازمة له عبر تاريخه عن حقيقة وجود وبيان ماهيته ورسالته ودوره ووظيفته وإلى أين مآله ومصيره ونهايته .
هذا الأمر الذي كان محور اهتمام المذاهب والفلسفات والمبادئ والنظريات ، وموضوع الملل والنحل والرسالات السماوية هو ما بشرت العلمانية في بداياتها بأنها بالعلم ستصل فيه إلى الإجابات الشافية الكافية وأنه لا مشكلة للإنسان بعد اليوم .
ولكن ها نحن بعد أن عاشت الحضارة الغربية قرابة ثلاثة قرون في ظل العلمانية نرى الإنسان الغربي يعيش مأزقا نفسيا روحياً فكرياً وجودياً أشد عمقاً وتأزماً من مأزقه حين بشرت العلمانية بحل معضلته ، على الرغم من التقدم المادي والرفاه المعيشي الذي يعيشه هذه الأيام وصدق القائل سبحانه ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا ).(15/364)