في عهد ساركوزي..مسلمو فرنسا.. والتخوفات المشروعة
ساكوزي
يعاني مسلمو فرنسا من تهميش مزمن من قبل الحكومات الفرنسية منذ قدوم أوائل المهاجرين إلى البلد الذي يربض فيه تمثال الحرية، واستمر التهميش الذي لم يظهر للعلن على هذا المنوال حتى الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م..
ومع الحرب الأمريكية على ما يسمى "الإرهاب" والتي دعمتها بعض الدول الأوروبية، جعل الأمر يزداد سوءاً، والهوة تتزايد بين مسلمي فرنسا سواء كانوا من المهاجرين أو ممن دخلوا في الإسلام من الفرنسيين الأصليين وبين بقية المجتمع الفرنسي، فضلاً عن الحكومة.
وقد حاولت الحكومات المتعاقبة دمج المسلمين الفرنسيين في المجتمع الفرنسي بالقوة، بذريعة الخوف على العلمانية الفرنسية، دون دراسة علمية لواقع المسلمين والعمل على حل مشاكلهم.
وقد ازدادت الحملات تجاههم إلى أن ظهرت الأزمة التي يعانونها على السطح منذ ما عرف بشغب الضواحي عام 2005م، حين قام المئات من شباب الضواحي ومعظمهم من المسلمين من أصول عربية بإحراق مئات السيارات، احتجاجاً على التهميش الذي يعانونه داخل المجتمع الفرنسي.
ضعف الفعالية السياسية
وعلى الرغم مما يقدره الباحث والناشط الإسلامي الفرنسي "غازي وهبي" بأن هناك 4 ملايين مسلم يحملون الجنسية الفرنسية من بينهم نحو مليونين لهم حق التصويت نظراً لبلوغهم السن القانونية، علماً بأن إجمالي أعداد الناخبين الفرنسيين يبلغ 44.7 مليون ناخب، أي أن الصوت المسلم يمثل نحو 3 % من إجمالي حجم الأصوات، إلا أن حجمهم في التأثير على السياسة الفرنسية سواء تجاه مصالحهم بالداخل أو تجاه البلدان الإسلامية التي ينحدرون منها أقل بكثير من حجمهم الانتخابي..
ويعود ذلك لعدة أسباب منها، أن نسبة كبيرة منهم تعاني من الفقر والبطالة، والغالبية منهم تشتغل في أعمال غير ذي أهمية، فضلاً عن أنهم يسكنون في الضواحي الفقيرة على شكل "كانتونات" كالتي كان يعيش فيها اليهود داخل أوروبا قبل الحرب العالمية، كما أنهم لا ينحدرون من مجتمع واحد؛ على الرغم من الثقافة الإسلامية التي تجمعهم جميعاً تحت سقفها.
وبالتالي فإن بعض المشاكل التي يعانونها هي بدورها ناشئة أصلاً عن مشاكل أخرى سواء منها، داخلية تعود إما لإهمال المسلمين لمصالحهم أصلاً أو لإهمال الدولة الفرنسية لهم، أو خارجية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، حيث يحمل المجتمع الفرنسي فضلاً عن حكومته الجالية المسلمة أخطاء وتبعات بعض الحركات الإسلامية، الأمر الذي يصعب اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي، بسبب التمييز العنصري والديني وللصورة المشوهة التي تشكلها وسائل الإعلام الغربية في ذهن المواطن الفرنسي عن الدين الإسلامي والشعوب المسلمة.
إلا أن السبب الأكثر حضوراً وأهمية في الحالة الصعبة التي يعيشها مسلمو فرنسا يعود للافتقار لرؤية موحدة تجمعهم في التعامل مع الحكومات الفرنسية المتعاقبة، على الرغم من أن المسلمين حاولوا في الآونة الأخيرة، الانتظام في جمعيات على شكل لوبي، بعد أن بدأت الجمعيات الإسلامية تشجعهم على ذلك، إلا أن الحكومة الفرنسية أجهضت هذا المشروع، عبر سلسلة من الإجراءات التي حالت دون ذلك حتى الآن.
والسبب في هذه الهوة بين التقديرات الرسمية وتقديرات المنظمات الإسلامية أن إجراء التعداد السكاني على أساس ديني أو عرقي محظور قانوناً في فرنسا.
ويرجح الباحث والناشط الإسلامي الفرنسي "غازي وهبي" عدد مسلمي فرنسا حالياً ما بين 8 و10 ملايين مسلم من مختلف الجنسيات المغاربية والإفريقية والآسيوية والأوروبية، فضلاً عن ذوي الأصول الفرنسية؛ حيث يشكلون حوالي 10% من عدد سكان فرنسا.
غموض مستقبل المسلمين
لا يمكننا الجزم بالطريقة التي سيتعامل بها الرئيس الفرنسي الجديد "نيكولا ساركوزي" مع مسلمي فرنسا، خصوصاً بعد تلك التطمينات التي أطلقها عقب فوزه بأنه سيكون رئيساً لكل فرنسا، إلا أن شغله لمنصب وزير الداخلية سابقاً وعدم التفريق بين عصاه وجزرته في التعامل مع سكان الضواحي ألقت بثقلها حول المستقبل الذي ينتظر هؤلاء.
"فساركوزي" الذي وصف هؤلاء يوماً ب"الحثالة" لم يرد عنه خلال الفترات التي شغلها في وزارته أي تصريح يطمئن تجاه المسلمين.
"الفرنسة" قسراً
لقد مارس "ساركوزي" سياسة تطبيع المسلمين الفرنسيين بالقيم الفرنسية العلمانية قسراً، وقد تمثل ذلك بإنشاء "المجلس
الفرنسي للديانة الإسلامية" عام 2002م، ليكون بمثابة هيئة رسمية للجالية المسلمة، ويختص المجلس برسم السياسة الاجتماعية للمسلمين، وبالتالي يعمل على قطع أي علاقة لهم بالبلاد التي هاجروا منها مع فرض قوانين عديدة عليهم، منها عدم السماح لهم بقبول أموال لمؤسساتهم الاجتماعية من دول المولد، فضلاً عن حق تعيين أئمة لمساجدهم، من الموظفين الحكوميين، والذين يعتنقون الأفكار العلمانية، مع فرض الرقابة الشديدة على خطب ونشاطات المساجد المنتشرة في أرجاء فرنسا؛ بل قام بطرد 21 من أئمة المساجد الفرنسية بتهمة التحريض الطائفي أو معاداة السامية.(14/129)
وبداعي الحرص على علمانية فرنسا كان "ساركوزي" من أصحاب مشروع قانون حظر الحجاب في المؤسسات الفرنسية.
مواقف عدائية ضد المسلمين
ولم يدخر ساركوزي جهداً في انتقاد المسلمين، وجاءت تصريحاته الأخيرة على القناة الفرنسية الأولى مثالاً على سلوكه تجاههم، حيث قال "في فرنسا لا نذبح الخراف في حوض الحمام"، متهماً المسلمين بذبح خراف الأضاحي في منازلهم.
كما بدا متحدياً لمشاعر 6 ملايين مسلم فرنسي حين ساند مجلة "شارلي إيبدو"، في الدعوى المقامة ضدها من منظمتين إسلاميتين بسبب إعادة نشرها للرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول [ بحجة حرية إبداء الرأي، بل حث الرئيس جاك شيراك للتفكير بتقديم مشروع لسن قانون لمواجهة الإرهاب الإسلامي القادم من الشرق.
ساركوزي الذي لا يجد غضاضة في التعبير عن قلقه على أوروبا من "الغزو الإسلامي الديموجرافي" لها، مردداً مع البابا الحالي أن أوروبا بلد مسيحي، ولا مكان لتركيا فيها، أظهر عداءه للمهاجرين العرب والأفارقة وقربه من الجالية اليهودية التي منحته جمعيتها الرئيسة لقب الرجل السياسي لعام 2006م، مكافأة له على تصريحاته في تل أبيب والتي قال فيها "التعاون المستمر إلى الآن بين أجهزتنا الإستخباراتية، وبين دولتينا بدأ منذ عام 1956م، حينما اشتركت قواتنا في معركة استرداد قناة السويس من نظام جمال عبدالناصر.."
وكذلك أبدى تفهمه لبناء الجدار العازل واعتبار حزب الله وحماس منظمات "إرهابية"، الأمر الذي دفع جريدة "ليبراسيون" الفرنسية في عددها يوم الإثنين 4/12/2006م إلى القول بأن "ساركوزي هو مرشح يهود فرنسا بلا منازع".. هذا فضلاً عن الدعم اليهودي العالمي له.
وكان ساركوزي المعروف بقربه من "إسرائيل" ربما بدافع الانتماء الديني لها، برر جدار الفصل العنصري التي تشيده "إسرائيل" خلال حديثه لجريدة "ماجازين" الفرنسية، حين قال "أنا أميّز بين إنشاء جدار الفصل من جهة وخط سيره من جهة أخرى.. أمنياً ساعد الجدار على خفض عدد الهجمات "الإرهابية" ضدّ "إسرائيل".
عداء ساركوزي للأجانب
إذا كان "ساركوزي" تعهد حين كان وزيراً للداخلية بأن يطهر بخراطيم المياه شوارع فرنسا من سكان الضواحي من المهاجرين من حاملي الجنسية الفرنسية، فقد كان أكثر صراحة بخصوص المهاجرين غير الشرعيين أو الذين لم يحصلوا بعد على الجنسية الفرنسية، حيث صرح أكثر من مرة بأن فرنسا ليست بلداً لتستقبل تُعساء العالم في إشارة إلى أوضاع المهاجرين على أراضيها.
هذه التصريحات ل"ساركوزي" أقلقت المحلل السياسي الفرنسي "ميشيل شنايدر" من انزلاق الأحياء المهمشة التي تعرف نوعاً من الاضطراب جراء واقعها الاقتصادي والاجتماعي ل"حرب أهلية" خفية وغير معلنة إذا لم تتغير سياسات ساركوزي السابقة تجاههم.
أمّا "هيثم المناع" الناطق باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان فقد توقع تراجع حقوق الإنسان في عهد نيكولا ساركوزي، خصوصاً أنه الرئيس المنتخب الوحيد من بين بقية المرشحين الذي رفض الإجابة على استمارة الاستجواب التي تقدمها قبل الانتخابات الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، وهو تقليد متبع منذ عام 1981م.>
===============(14/130)
(14/131)
الإعلام الفضائي العربي: "العلمانية في قعر ديارنا"!
أحمد دعدوش
منذ أطلق مركز تلفزيون الشرق الأوسط (mbc) في عام 1991 شرارة بدء الإعلام الفضائي العربي من لندن، بدأت حملة السباق والتنافس بين رجال الأعمال والسياسة لكسب أكبر قدر ممكن من اهتمام المشاهدين، والمفاجأة هنا هي أن لعبة الإعلام الفضائي ليست تجارية بحتة كما يُروج لها دائما، بل يمكن القول بأن الكثير من الفضائيات تقوم على أساس تشكيل الوعي وفقا لرغبات أساطين الإعلام، عبر الترويج لسياسات ومذاهب وأفكار معينة، سواء من خلال الإعلان المباشر- وهو أقل الطرق استخداما- أو من خلال البث المبطن لأفكار ورؤى يتم تمريرها من خلال البرامج والأخبار والتغطيات والأعمال الدرامية التي تُصنف غالبا ضمن فئة الحياد، وهو ما سنسلط عليه الضوء من خلال طرح بعض الأسئلة وحث القارئ للإجابة عنها.
كانت البداية مع وليد البراهيم الذي شاركه صالح كامل في إنشاء مركز تلفزيون الشرق الأوسط لإطلاق الفضائية العربية الأولى (mbc)، قبل أن ينسحب صالح كامل ويؤسس شبكة راديو وتلفزيون العرب a r t التي انتقل مقرها من روما إلى الأردن مؤخرا، ثم أتبعه الأمير خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بإنشاء شبكة أوربت بعد انفصاله عن BBC عام 1995، والتي تقدم خدمات أخرى في مجالات الإنترنت وخطوط الهاتف الأرضي في السعودية، فضلا عن حصتها في قمر نورسات بنسبة 30%.
احتكرت الجزيرة الفضائية- بدعم كبير من الحكومة القطرية- الفضاء الإخباري العربي منذ تأسيسها عام 1996، وواجهت الكثير من المشكلات بسبب خطها الإعلامي غير المعتاد في العالم العربي، والذي بدأت به مرحلة جديدة من حرية الإعلام، وبالرغم من المحاولات الأخرى كقناة العربية التي ظهرت بهدف خلق نوع من التوازن على حد تعبير مؤسسيها، وقناة الحرة التي تُمول مباشرة من الكونغرس الأمريكي، إلا أن الجزيرة ما زالت تستأثر بنصيب الأسد من الاهتمام السياسي للمشاهد العربي.
الإعلام الإسلامي الفضائي ما زال خجولا للغاية، فبالرغم من الوجود القوي لمحطة اقرأ التابعة لشبكة a r t، وما تبعها من قنوات أخرى كالمجد والفجر وهدى (الناطقة بالإنجليزية)، إلا أن الإعلام الفضائي العربي ما زال محكوما بالقاعدة المتبعة في الوسط الإعلامي عموما وهي العلمانية البحتة، حيث يتم الفصل القسري للدين عن خطة العمل، ويخصص وقت محدد من البث للبرامج التي يتم تصنيفها كبرامج دينية تضاف إلى تشكيلة البرامج الأخرى ولا تخرج عن حدودها، بينما يظل الاتجاه العام للقنوات الفضائية محكوما بأيديولوجيا العلمنة التي يفترض منظروها أنها الحل الوسط- الحيادي- حتى في عالمنا الإسلامي، وبغض النظر عن خصوصية الإسلام أو المجتمع الذي يسوده منذ أربعة عشر قرنا. وللوقوف على ملامح هذا التوجه العلماني "الحيادي" سنعرض لبعض الأمثلة المأخوذة عن المواد الإعلامية لمجموعة قنوات مركز تلفزيون الشرق الأوسط، وهي قناة العربية الإخبارية وقنوات mbc الأربعة.
انطلقت العربية من دبي في عام 2003 وتبلغ تكاليف تشغيلها السنوية نحو 70 مليون دولار، لتشكل بذلك القناة الفضائية الأكثر كلفة في العالم العربي، وإذا علمنا أن قناة الجزيرة تعتمد في تمويلها بشكل كبير على مخصصات الحكومة القطرية مع أن تكاليف تشغيلها السنوية تبلغ حوالي 30 مليون دولار فقط، فإنه من المؤكد أن قناة العربية عاجزة عن تغطية هذه التكاليف بالاعتماد على عوائد الإعلان، مما يعني بالضرورة اعتمادها الكبير على المخصصات الحكومية التي تضمن استمراريتها.
لجأت العربية في بداية انطلاقتها إلى استيراد البرامج الجاهزة، وكان الاعتماد شبه كلي على منتجات BBC، والتي تحمل الطابع الغربي البحت، فشهدت البداية بث العديد من البرامج التي ترسخ نظرية التطور الداروينية، أو المعالجة الغربية البحتة لبعض القضايا العربية كالفيلم الوثائقي الذي تعرض لقضية محاكمة نوال السعداوي والذي أظهر تعاطفا واضحا معها، أو العديد من الأفلام والبرامج التي تناولت قضايا الإرهاب من منظور غربي بحت دون أي تحرج، في الوقت الذي نشتكي فيه من الإقصاء الغربي المتعمد للحقوق العربية والإسلامية في الإعلام الغربي!
في عام 2005 أطلقت العربية موقعها الخاص على الإنترنت، والذي جاء لمنافسة الموقع الأول عربيا (الجزيرة نت)، وبنظرة سريعة على موقع العربية يمكن اكتشاف التوجه العلماني الواضح في المواد والأخبار التي يتم انتقاؤها، إذ يتعمد محررو الموقع إعادة نشر المقالات التي تكتبها الأقلام العلمانية والتغريبية المعروفة في الصحافة العربية مع فتح باب التعليق أمام القراء، مع تغييب واضح لوجهات النظر الأخرى مع أنها تشكل الأغلبية في الشارع العربي كما هو واضح في التعليقات الواردة على معظم المقالات المنتقاة.(14/132)
التحيز العلماني يبدو بنفس الوضوح في التغطيات الإخبارية نفسها، ونضرب مثالا لذلك بتناول العربية للانتخابات الفلسطينية التي جرت مؤخرا في الشهر الأول من عام 2006، إذ لم تخفِ القناة موقفها من نجاح حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ اليوم الأول، إذ فسّر مراسلها في غزة هذا النجاح على أنه مجرد ردة فعل للشعب الفلسطيني إزاء الفساد المالي لحركة فتح، في إشارة ضمنية إلى فراغ المضمون السياسي لأي حركة إسلامية باستثناء أطروحات العنف، كما لاحقت مراسلة أخرى بعض النكات التي تداولها الفلسطينيون في غزة لتبرهن على أن الشعب الفلسطيني الذي انتخب حماس بأغلبية ساحقة لم يأخذ الأمر على محمل الجد، ثم أتبع موقع العربية هذه التغطيات بمقال حول "تخوف" الفلسطينيات من فرض حماس للحجاب الإسلامي عليهن، وتعالت أصوات أخرى تتنبأ بهدم نصب الجندي المجهول في غزة على غرار هدم تماثيل بوذا من قبل طالبان في مقارنة واضحة الأهداف.
أخيرا، بدأت العربية بإنتاج بعض البرامج الخاصة بها على غرار منافستها الجزيرة، حيث تكاد معظم برامجها لا تخرج عن إطار المنافسة والتقليد مع تغيير طفيف في الاسم، ولعل التطور الأهم هو في تخصيص فيلم وثائقي مستورد أسبوعيا للمناقشة في برنامج قضايا وآراء الذي تقدمه ميسون عزام، حيث تسمح العربية في هذه الفرصة لبعض المفكرين والمتخصصين بمناقشة الأفلام المختارة والتي تتعرض غالبا لقضايا عربية أو إسلامية من وجهة نظر غربية، وهو أقل ما يتوجب فعله إزاء إفساح المجال للغرب في التعرض للقضايا المحلية، علما بأن معظم الضيوف الذين يسمح لها بمناقشة هذه الأفلام يتم انتقاؤهم بشكل مدروس، بحيث تبقى الصبغة العلمانية التي يفترض لها الحياد هي المسيطرة وصاحبة الكلمة النهائية، كما أن المناقشة لا تمتد إلى بعض الأفلام الوثائقية الأخرى التي ما زالت تعرض خارج إطار هذا البرنامج.
ما زالت قناة mbc العريقة تتربع على رأس القنوات المنوعة العربية، وتحتكر بذلك جزءا مهما من حصة المعلنين العرب مما يساعدها على تغطية كافة نفقاتها دون خسائر حسب تصريح أحد مدرائها، وتتنوع مواد القناة بين السياسة والترفيه والرياضة والدين، ولكنها تمكنت أخيرا من تخصيص ثلاث قنوات أخرى منشقة عنها ببعض المواد، حتى غلب الطابع الترفيهي عليها.
لا تختلف القناة عن معظم القنوات العربية الأخرى في توجهها العلماني، فباستثناء الساعات القليلة المخصصة للبرامج الدينية في الأسبوع، تطغى وجهة النظر التغريبية على القناة بكل وضوح، كالبرامج الفنية التي تروج للأغاني والأفلام العربية والغربية، والبرامج الأجنبية المدبلجة ذات الطابع الاستهلاكي البحت، كتلك المخصصة لعرض تفاصيل حياة الأثرياء في الغرب، أو التي تخصص في كل حلقة عرضا شاملا لنجوم الإغراء في مجالات السياسة والرياضة والفن.. إلخ.
إبان فترة التوتر التي نشأت بين العالم الإسلامي والغرب إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر، سعت mbc لمعالجة الكثير من القضايا الحساسة من وجهة نظرها الخاصة، ففي الفيلم الموسوم بـ "أحداث سبتمبر بعيون سعودية" والمخصص للبث في الإعلام الغربي، بذل المنتجون جهدا واضحا لقولبة الرأي العام السعودي، وجاء على لسان أحد الإعلاميين السعوديين قوله: "إن السعوديين قد بكوا على ضحايا هذه الأحداث أكثر من الأمريكان أنفسهم"، وبات واضحا لكل مشاهد أن جميع المواطنين يؤيدون وجهة النظر الأمريكية في تفسير تلك الهجمات، وهو ما يشكك فيه بيان المثقفين السعوديين الذي بات معروفا لدى الجميع.
في محاولة أخرى، قامت القناة في مطلع عام 2004 ببث برنامج (chat the planet) والذي بدا أنه يسعى لإقامة حوار بين الشباب العربي والغربي في محاولة لمد جسور التفاهم بين المجتمعين، وقد لفتت نظري إحدى الحلقات التي جمعت بين مجموعتين من الشباب إحداهما في عمّان والأخرى في نيويورك حيث يجري الحوار عبر الأقمار الصناعية التي تنقل صورة حية للمجموعتين في الوقت نفسه، ويمكننا تسجيل الملاحظات السريعة التالية:
1- كانت لغة الحوار هي الإنجليزية، مما يعني إلمام أحد الطرفين بلغة الآخر- وهو الطرف العربي بالطبع- في الوقت الذي يتحدث فيه الآخر بلغته المحكية، وهنا نقطتان: أولاهما أن المجموعة الأولى (العربية) تم انتقاؤها من بين الشباب الذي يتقن التحدث بالإنجليزية بطلاقة وهم لا يشكلون بالطبع إلا فئة معينة من الشباب العربي ولا يمكن أن تمثل مجتمعها على عكس المجموعة الثانية، أما النقطة الثانية فهي تبعية المجموعة الأولى ثقافيا للثانية بشكل واضح، مما ينفي أي حياد حتى في من بالنظر إلى الانطباع النفسي الذي يخلفه هذا الحوار.(14/133)
2- بدا سعي منتجي البرنامج لإبراز علمانية المجتمع العربي واضحا للغاية، فقد تعمدوا استضافة شابين مسيحيين وسط مجموعة من الفتيات غير المحجبات باستثناء واحدة فقط، بينما لم يفكروا في استضافة شاب أو فتاة من المسلمين الأمريكيين في المجموعة الثانية، ومن الطبيعي والحال هذه أن تسعى المجموعة العربية لإثبات توجهها العلماني كتفاخر إحدى الفتيات بكونها ناشطة في مجال حقوق الإنسان- من وجهة النظر الغربية طبعا- وتركيزها المستمر على حقوق المرأة، بينما لم يسمح للفتاة المحجبة الوحيدة بالحديث إلا نادراً. ليتحول الأمر إلى مهزلة واضحة عندما سعت المجموعة العربية جاهدة للمزايدة على قدرتها على استيعاب المفهوم الغربي للحضارة، في الوقت الذي بدا فيه أعضاء الأمريكيون فخورين بما لديهم وواثقين تماما عند الاعتراف بنواقصهم دون الحاجة لاستيراد الحلول من أحد.
3- عندما طرحت قضايا الجنس للحوار اضطرب الفريق العربي، وحاول الأعضاء المسيحيون إثبات تمسكهم بالأخلاق الشرقية التي لا تميزهم عن مواطنيهم المسلمين، أما الفريق الأمريكي فلم يقنع بهذه المحاولة وتساءل أحدهم إن كانوا يكذبون خشية الاعتراف بأخطائهم أمام آبائهم الذين يشاهدونهم، وأعتقد أنه كان محقا لأن الظاهر كان يشي بعكس ذلك، إذ كانت مظاهر الشباب العربي وقناعاتهم تجاهر بالتحرر والتغريب، باستثناء الاعتراف بهذه القضية الحساسة والتي يجدها الغربي نتيجة لا بد منها لكل هذه المقدمات!
4- في نهاية الحوار جاءت تعليقات كل من الطرفين على ما جرى في مكانها الطبيعي، فالأمريكيون أصروا على أن زملاءهم العرب قد تعمدوا التصنع والتظاهر، وعلق أحدهم بأنه أعجب بثقافة الفتيات العربيات ولكنه صُدم بعد ذلك بتشبثهن بالتقاليد (!)، أما العرب فقد عبروا عن إعجابهم بثقافة وحرية محاوريهم، وحتى مفاجأتهم باكتشاف القيم العائلية النبيلة التي يتشبثون بها.
بعد حوالي شهرين قدمت القناة حلقة أخرى لمجموعة من الشباب العرب العراقيين الذين تحاوروا مع مجموعة مماثلة في نيويورك، وقد وقعوا في الأخطاء السابقة نفسها، وزادوا عليها ترسيخا مؤلما لظاهرة الانهزام العربي في نفوس مجموعة منتقاة من الشباب، إذ كان من الواضح تماما عدم تمثيل مجموعة الشباب والفتيات العراقيين لمجتمعهم الذي كان قد خرج للتو من الحرب، حيث يتقنون الإنجليزية بطلاقة ويفكرون من منطلقات غربية بحتة. المفارقة الأعجب هي في اختيار المخرج لقصة أحد الشباب العراقيين الذين قضوا في الحرب بالصدفة، والذي يبدو أنه كان ينتمي لتلك الطبقة المخملية في بغداد. يبدأ التصوير لغرفة الشهيد بالتركيز على صور الفتيات أنصاف العاريات التي علقها على الجدران قبل موته، ثم تبكي الأم الثكلى وهي تحكي قصته بالإنجليزية وتعرض لبنطال الجينز الملطخ بالدم. أما السؤال الأهم هنا: ألم يكن من الممكن استدرار عطف تلك المجموعة من الشباب الأمريكان لو أنهم عرضوا لقصة شهيد فقير أو متدين يمثل الأغلبية الساحقة للشعب العراقي؟
الطريف هو أن العربية قد عادت مؤخرا لتكرار تلك التجربة من خلال برنامج مماثل يضم عددا أقل من الشباب من كلا المجتمَعَين في استديو واحد، ويلاحظ أن الأخطاء السابقة يتم تكرارها بشكل مقارب، حيث يتعمد المنتجون انتقاء الشباب العلماني لتمثيل المجتمع العربي، ويسمح لهم بمناقشة الكثير من القضايا التي قد لا يفقهون بها لمعرفتهم الضحلة بالدين، كما يتضح الانتقاء في اختيار الفتيات المحجبات اللواتي قد لا يختلفن كثيرا عن زميلاتهن باستثناء غطاء الرأس.
على المنوال نفسه تدور بقية برامج mbc الجماهيرية، والتي تتنوع بين برامج الأطفال (عالم دريد) والسياسة (على مسؤوليتي) والمرأة (كلام نواعم) والفن- وهي أكثر من أن تحصى- حيث يتم بث هذه البرامج من استوديوهات باذخة في بيروت، ويشارك في تقديمها كثير من المذيعين غير المسلمين، لترسيخ مفهوم العلمانية كحل حيادي أمام التنوع المصطنع لمرجعية المشاهد العربي، ولا تفوتنا الإشادة هنا ببرنامج (يلا شباب) الذي يشكل خروجا على القاعدة المتبعة في برامج كل القنوات العربية غير الدينية، ولعل العوائد الاستثمارية التي جنتها القناة من هذا البرنامج الناجح هي الدافع الرئيس- إن لم يكن الوحيد- لإنشائه في ذلك الوسط غير الملائم.
بالانتقال إلى القنوات الأخرى التابعة لهذه المجموعة، نقف عند قناتي mbc2 المخصصة للأفلام الأمريكية، و mbc4 المخصصة للمسلسلات والبرامج والأخبار الأمريكية أيضا.
من الجدير بالذكر هنا أن سياسة الرقابة العربية على المواد المستوردة قد بلغت شوطا كبيرا من "التطور" منذ انطلاقة البث التلفزيوني عام 1960 في مصر، إذ تم اختزال مفهوم المحظور هنا إلى أضيق الحدود، وحسب تعبير الراقصة فيفي عبده فإن مناطق أخرى من جسد المرأة لم تعد ممنوعة من التصوير كما كان الحال سابقا! والأمر يتسع بشكل أكبر عندما تكون المواد مستوردة من الخارج.(14/134)
قد يكون الحديث عن العورات أقل شأنا من الخوض فيه في هذا المقام، ولكن الخطورة الأكبر لم تعد في تضييق مفهوم العورة هنا، بل في عرض الثقافة المنحلة والإباحية بشكل سافر دون أن تمر على أي مقص للرقيب، فقد بات من الممكن لهذه القنوات وغيرها بث الأفلام والمسلسلات والبرامج التي تروج للجنس والإباحية بكل صراحة ودون أي تحرج، وكل هذا مبرر ما دامت العورات لم تكشف بعد.
في جعبتي الكثير من الأمثلة التي ما زالت تُعرض على هذه القنوات، فهناك بعض الأفلام التي تدور قصصها كاملة حول السفاح الرخيص، كأحد الأفلام الذي عرض لقصة مجموعة من الشباب والفتيات في ليلة رأس السنة، حيث لا همّ لهذه المجموعة غير المترابطة إلا البحث عن شريك لتلك الليلة، وهو ما يتم تحقيقه لاحقا مع نهاية القصة. أما المسلسلات الكوميدية فلا تجد تحرجا من الترويج لهذه الثقافة تحت لائحة الكوميديا التي تبرر كل شيء، حيث تغدو الكلمات الجنسية مع ترجماتها متاحة للشباب واليافعين طوال النهار، خصوصا وأن هذه المسلسلات تصنف تحت فئة البرامج الترفيهية العائلية(!).
البرامج الأمريكية ليست بعيدة عن هذا أيضا، والمؤسف حقا أن تلقى حلقة أوبرا التي تعرضت لوضع المرأة في السعودية كل ذلك الاستنكار بينما لم ينبس أحد من المتابعين ببنت شفة إزاء الإسفاف المستمر في الترويج للثقافة الأمريكية المنحلة بهذا الوضوح سواء من خلال برنامج أوبرا أو غيره، ففي إحدى حلقات برنامج D صلى الله عليه وسلم Phill المخصص لحل المشاكل الزوجية يتم عرض قصة أحد الأزواج الذي جاء للمسرح ليعترف بخيانته لزوجته طوال سنين مع إحدى زميلاته في العمل بالرغم من معرفتها بالأمر، حيث تُناقش المشكلة من قبل الدكتور (فل) على أنها مسألة خيانة يمكن أن تحدث في أي عائلة أمريكية- حتى في بيت الرئيس كما هو معروف- بينما يتناسى المشاهد العربي أن هذه الجريمة التي تسمى زنا في الإسلام تستوجب الرجم حتى الموت!
الأثر الكبير والخطير إذن لهذا الإعلام الذي يتم بثه على مدى أربع وعشرين ساعة لا يقتصر على بعض المشاهد غير المهذبة، بل في الثقافة التي يتشبع بها والتي تحمل في كل ثانية من ثواني البث رسائل مؤدلجة تترسخ في ذهن المشاهد العربي المسلم، والذي غالبا ما يكون في سن الشباب أو الطفولة.
تعتمد وسائل الإعلام العالمية اليوم سياستين في غاية الخطورة لترويج أيديولوجيتها:
1- عدم التصريح: حيث يدعي الإعلاميون في كل وسائل الإعلام تقريبا الحيادية مع تفاوت بسيط إزاء بعض القضايا الحساسة، وهي دعوى لا يمكن أن تقنع أحدا من العقلاء، ولكن المشكلة الحقيقية هي في عدم وضوح الرسالة التي يتم تحميلها للمواد الإعلامية، فعندما يتعمد الإعلاميون بث نشرة الأخبار من استديوهات باذخة وبتقنيات مكلفة، مع اهتمام كبير بمظهر المذيع أو المذيعة وطريقة الإلقاء، ثم إتباع الخبر بتحقيق مصور واتصال هاتفي مع أحد المختصين، يستتبع كل ذلك إيجاد نوع من الارتياح لدى المشاهد بكفاءة القناة والقائمين عليها، دون الانتباه إلى أن التحقيق لم يتعرض لكل وجهات النظر، وأن الخبر قد تمت صياغته بطريقة مفبركة، وأن الضيف الذي تم الاتصال به لم يطرح إلا وجهة نظره الخاصة والتي قد يخالفه فيها معظم أفراد المجتمع.
من جهة أخرى فإن الانفلات الأخلاقي في معظم الأفلام والمسلسلات المستوردة لم يعد يخفى على أحد، كما لم تعد حجة تجنب المشاهد الإباحية مقنعة لكل من بقيت لديه مُسكة من عقل، فالإباحية لا تُنقل اليوم بشكلها السافر، بل من خلال أفلام وحلقات كاملة تُبث على مدار الساعة ويدور محورها الرئيس حول العلاقات الجنسية التي تجري بكل سهولة خارج إطار الزواج، وهو ما يسمى عند المسلمين الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المشاهدين بالزنا، والذي يعد من أكبر الكبائر في الإسلام كما لا يخفى على أحد. هذا فضلا عن تشجيع الشباب والفتيات على التمرد وخرق الثوابت الإسلامية والأعراف الاجتماعية، والمشكلة أن ذلك لا يتم من خلال حوار حضاري يناقش مفاهيم الشباب وقناعاتهم، بل عبر السرد المستمر للقصص المثيرة للعواطف والغرائز تحت شعار الانفتاح تجاه الآخر والحرية الفردية!
2- التكرار: من الثابت في التاريخ أن دعاة الأهواء لا يملون، بينما تضعف همم الشرفاء والمناضلين في سبيل الحقيقة قبل بلوغ الهدف، ولعل الإعلام اليوم يقدم مثالا واضحا على هذا الصراع. فقد أثبتت إحدى الدراسات أن تكرار عرض أحد النجوم في فيلم سينمائي وهو يدخن لأربع مرات كفيل بزرع هذه العادة في نفوس معجبيه! لذا فإن تكرار عرض هذه الأفلام أو البرامج أو التغطيات الإخبارية الموجهة قد يؤدي مع مرور الوقت إلى تغيير كبير في الرأي العام العربي، إذ بات من الواضح اتساع القاعدة الشعبية المتأثرة بهذه الثقافة، ولا يقتصر الأمر طبعا على الإباحية والانحلال التي قد تشكل بوابة نفسية للدخول إلى القناعات، بل يمتد إلى العبث بالمرتكزات الأساسية للفرد وطريقته في اتخاذ مواقفه تجاه الكثير من القضايا، خصوصا عندما يغيب الصوت الآخر المخالف، أو يكون ضعيفا وغير قادر على المنافسة والإقناع.(14/135)
هكذا تسير الأمور اليوم، فبعد عقود طويلة من القمع الاستبدادي، والاستئثار الرسمي لوسائل الإعلام، بات الانفتاح الإعلامي حكرا على الخط الوحيد المسموح له بالوجود، وهو الساعي بكل ما أوتي من قوة لإخماد جذوة الحماس المتبقية في نفوس المسلمين، وإقناعهم بالتكرار الذي لا يمل بأنهم مجرد ذيل للغرب يعيش خارج التاريخ والجغرافيا، وأن النهوض لا يتم إلا بالمزيد من التقليد والاستجداء، عسى أن يقنع الغرب أخيرا بالشفقة ومد يد العون، وهي سبيل الخلاص الأوحد
============(14/136)
(14/137)
العالم الإسلامي عدواً رسمياً لأمريكا والغرب
محمد جمال عرفة
غلاف مجلة المجتمع 1750
أحدث تقارير راند يدشن:
في أعقاب تفجيرات 11 سبتمبر 2001م، تم وضع وثيقة لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في سبتمبر 2002م تحدد "مصادر التهديدات الموجهة لأمن أمريكا وكيفية مواجهتها"، وكان أبرز ما شددت عليه هذه الوثيقة هو "تداعيات الأوضاع الداخلية بالدول الأخرى الدكتاتورية، خصوصاً الدول العربية والإسلامية، وانعكاسها على أمريكا بانتقال التطرف والكراهية إليها، ولذلك ركز الرئيس الأمريكي لاحقاً على ما أسماه "أجندة الحرية" أو ما عرف بإستراتيجية نشر أو فرض الديمقراطية على العالم الإسلامي.
وضمن هذه الإستراتيجية نشطت مراكز الأبحاث التابعة للإدارة الأمريكية في وضع التصورات المختلفة لكيفية التعامل مع العالم الإسلامي، وكانت أبرز الدراسات هنا لأنه لوحظ أن البيت الأبيض يطبق توصياتها تلك التي طرحها مركز (راند) r AND البحثي التابع للقوات الجوية الأمريكية، خصوصاً الدراسات التي أوصت عام 20042003م بالتفرقة بين المسلمين "المتطرفين" و"المعتدلين" في تعامل أمريكا مع العالم الإسلامي.
بيد أن فوز التيارات الإسلامية التي تصنف في واشنطن على أنها متطرفة في الانتخابات العربية اللاحقة، وتقهقر "العلمانيين الليبراليين"، وعدم ظهور فوارق جدية بين الإسلاميين "المعتدلين" و"المتطرفين" فيما يخص المصالح الأمريكية، أدى إلى تحول في الإستراتيجية الأمريكية ووضع كل المسلمين في سلة واحدة كعدو جديد حال، على غرار العدو الشيوعي الذي كانت تحاربه واشنطن خلال الحرب الباردة.
نقطة التحول ضد المسلمين
هنا تكمن أهمية أحدث تقرير بحثي قدمته مؤسسة "راند" في 26 -3-2007م بدون صخب إعلامي على غير العادة ووسط أجواء مريبة وهو تقرير: "بناء شبكات مسلمة معتدلة" Building Mode r ate Muslim Netwo r ks ، الذي كتبته شيريل بينارد (زوجة زلماي خليل سفير أمريكا في العراق والأمم المتحدة)، وأنجل راباسا (أحد العاملين في وزارتي الدفاع والخارجية) وباحثين آخرين..
وقد كانوا في السابق يتحدثون عن كيفية التأثير في "الإسلاميين"، وباتوا الآن يتحدثون عن "المسلمين" ككل.. لذا فالتقرير بمثابة نقطة تحول في إستراتيجية التعامل الأمريكي مع العالم الإسلامي.
ويحدد بوضوح منذ بدايته أن هناك "حرب أفكار"، وصراعاً بين العالم الإسلامي ككل، وبين العالم الغربي، ويطرح تصورات بشأن نقل طبيعة المواجهة إلى داخل العالم الإسلامي، وإعادة بناء الإسلام نفسه من جديد باعتباره "فكراً" مثل الشيوعية وفق تصورهم وذلك عبر حرب باردة جديدة، وبالتعاون مع شبكات تضم مسلمين ليبراليين علمانيين (غير مؤمنين بأي دور للشريعة الإسلامية)، ليكونوا عملاء للغرب ويجري دعمهم عبر مؤسسة أمريكية تدير هذه المعركة مستقبلاً على غرار ما حدث مع الشبكات الليبرالية التي هدمت الشيوعية من الداخل!!
ولأنه سبق للباحثة "شيريل بينارد" التي تعمل في قسم الأمن القومي بمؤسسة "راند" الأمريكية أن كتبت تقريراً إستراتيجياً آخر عام 2003م بعنوان "الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والإستراتيجيات"، كان بمثابة دراسة أمريكية عن التيارات الإسلامية الحديثة لتقديم توصيات عملية لصانع القرار الأمريكي لكيفية ضرب التيارات الإسلامية الأصولية المتطرفة، ودعم وتشجيع ما يسمونه (التيارات الإسلامية العلمانية والحداثية)، فقد جاء تقرير 2007م كوثيقة جاهزة تنتظر الموافقة الرسمية الأمريكية.
صناعة الأعداء
أما أخطر ما في هذه الدراسة الأخيرة المقدمة لإدارة بوش، والمنتظر بدء العمل بها سريعاً، أنها تدشن العالم الإسلامي كعدو رسمي فعلي جديد لأمريكا والغرب، وتضع إستراتيجية للتعامل مع هذا الخطر الإسلامي، تشمل اختراقه من الداخل عبر المسلمين أنفسهم من أنصار التيار العلماني الليبرالي من المفكرين والأكاديميين، وحتي بالتعاون مع التيارات اليسارية والاشتراكية العلمانية، مع استبعاد التعاون مع أي "إسلامي" سواء كان معتدلاً أو متطرفاً ضمن هذه الخطة!
الوثيقة
ولا تقتصر الوثيقة الإستراتيجية التي تقع في 218 صفحة حصلت عليها "المجتمع" على وضع ما أسمته "خريطة طريق" للمواجهة مع الأفكار الإسلامية القائمة على فكر الشريعة الإسلامية، وإنما تحدد الأطراف التي سوف تستعين بها واشنطن في الحرب من داخل العالم الإسلامي نفسه من العلمانيين الليبراليين.. إلى درجة نشر أسماء مؤسسات وشخصيات عربية وأوروبية وآسيوية مطروحة كنماذج لهذه العناصر "المعتدلة" من وجهة النظر الأمريكية.
تتضمن الوثيقة 10 فصول، أولها: مقدمة تؤكد أن أصل المشكلة أن ما بين الغرب والعالم الإسلامي هو حرب أفكار، أو مواقف متخذة علي أسس العقيدة. والفصل الثاني: يتحدث عن تجربة الحرب الباردة مع الشيوعية كنموذج يصلح للتعامل به مع العدو الجديد (الإسلام)، والفصل الثالث: يركز على المقارنة بين الحرب الباردة والتحديات في العالم اليوم، والفصل الرابع: يدور حول جهود الحكومة الأمريكية "لوقف المد الراديكالي".(14/138)
أما الفصل الخامس أهم الفصول: فيحدد "خارطة الطريق" r oad Map لبناء الشبكات المعتدلة في العالم الإسلامي، فيما يركز الفصلان السادس والسابع على التوالي على التجربتين الأوروبية والآسيوية كنماذج لمسلمين معتدلين ليبراليين يمكن أن يكونوا دعائم لهذه الشبكات المعتدلة من وجهة النظر الأمريكية، بينما يركز الفصل الثامن: على الشرق الأوسط، والفصل التاسع على ما يسميه دور المسلمين العلمانيينSecula r Muslims في "حرب الأفكار"، ليضع الفصل العاشر: التوصيات النهائية بشأن إدارة الصراع مع العالم الإسلامي عبر هذه الشبكات العلمانية "المعتدلة".
وتنطلق الدراسة من فرضية أساسية مفادها أن الصراع مع العالم الإسلامي هو بالأساس "صراع أفكار"، وأن التحدي الرئيس الذي يواجه الغرب يكمن فيما إذا كان العالم الإسلامي سوف يقف في مواجهة المد الجهادي الأصولي، أم أنه سيقع ضحية للعنف وعدم التسامح؟!
وقد اعتمدت هذه الفرضية على عاملين أساسيين، أولهما: أنه على الرغم من ضآلة حجم الإسلاميين الراديكاليين في العالم الإسلامي، إلا أنهم الأكثر نفوذًا وتأثيرًا ووصولا لكل بقعة يسكنها الإسلام سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية، وثانيهما: ضعف التيارات الإسلامية المعتدلة والليبرالية والتي لا يوجد لديها شبكات واسعة حول العالم كتلك التي يملكها الأصوليون.
ومن هنا تدعو الدراسة إلى ضرورة قيام الولايات المتحدة بتوفير المساندة للإسلاميين المعتدلين من خلال بناء شبكات واسعة وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم لبناء حائط صد في مواجهة الشبكات الأصولية، أما وسيلة الدعم الأمريكية فتتمثل في "خارطة طريق" تمكّن الولايات المتحدة من بناء شبكات دعم متنوعة لخلق أجيال من الإسلاميين المعتدلين يمكن من خلالهم مواجهة التيارات الأصولية، على غرار تلك الشبكات التي تم بناؤها خلال تجربة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي لتقوية شوكة "الليبراليين" في مواجهة الشيوعيين.
ولأن "المتطرفين المسلمين" في رأي الدراسة يتميزون بميزتين جوهريتين عن "المسلمين المعتدلين والليبراليين" هما: المال، والتنظيم، بمعنى بناء شبكات وتنظيمات واسعة، مقابل ضعف هذه الأدوات لدى "المعتدلين الليبراليين" من وجهة النظر الأمريكية فهنا لابد من خلق وبناء شبكات مسلمة معتدلة جديدة تواجه هؤلاء المتطرفين وتعيد بناء الإسلام بصورته التي لا تهدد الغرب!
من هو المسلم الليبرالي العلماني؟
مفتاح حل شفرة هذا التقرير الخبيث يكمن في تعريف كلمة "المعتدل" أو "الاعتدال" من وجهة النظر الأمريكية.. ومنه يمكن معرفة مواصفات هذا (المسلم المعتدل) الذي ستسعى أمريكا للتعاون معه وبناء شبكات خاصة لدعمه مالياً وإعلامياً وتنظيمياً ومعنوياً.
فالمعتدل أمريكياً هو: المسلم التقليدي العلماني الليبرالي الذي يرفض الاحتكام للشريعة، والذي يؤمن بحرية المرأة في اختيار "الرفيق" وليس الزوج وبحق الأقليات الدينية في تولي المناصب العليا في الدول ذات الغالبية المسلمة، والذي يعادي "المشايخ"، وكذلك أنصار "التيار الديني التقليدي" و"التيار الديني الصوفي" يصفه التقرير بأنه التيار الذي يقبل الصلاة في القبور (!).
ولهذا الغرض طرحت الدراسة مصطلح (الدعوة العلمانية) أو (سيكولار secula r دعوة)، كما وضعت بعض الملامح الرئيسة التي يمكن من خلالها تحديد "من هو المسلم المعتدل" أهمها:
1 القبول بالديمقراطية الغربية فقط، وليس مجرد ما يتواءم منها مع المبادئ الإسلامية، خصوصًا مبدأ "الشورى" الذي يقال إنه مرادف للديمقراطية، وأن يعني الإيمان بالديمقراطية رفض فكرة الدولة الإسلامية التي يتحكم فيها رجال الدين كما هو الحال في إيران.
2 القبول بمصادر غير متعصبة مصادر أخرى للتشريع غير الشريعة الإسلامية، لان التفسيرات التقليدية للشريعة لا تتناسب مع مبادئ الديمقراطية، ولا تحترم حقوق الإنسان(!).
3 احترام حقوق النساء والأقليات الدينية: والمقصود هنا أن يرفض "المسلم المعتدل" بالمواصفات الأمريكية ما يسمى "الأوضاع التمييزية للنساء والأقليات كما وردت في القرآن"، ويعيد النظر فيها، نظرًا لاختلاف الظروف الراهنة عن تلك التي كانت موجودة إبان العصر النبوي الشريف.
مقياس أمريكي
بل إن التقرير يضع مقياساً أمريكياً لقياس جماعات المسلمين المعتدلين الذين سيجري التعاون معهم، عن تلك المتطرفة، على النحو التالي:
1 هل الجماعة تتساهل مع العنف أو تمارسه؟ وإذا لم تكن تتساهل معه فهل مارسته في الماضي؟
2 هل الجماعة تؤيد الديمقراطية باعتبارها حقًا من حقوق الإنسان؟
3 هل تحترم الجماعة كافة القوانين والتشريعات الدولية لحماية حقوق الإنسان ( ضمنها حق الشذوذ مثلاً)؟
4 هل لديها أية استثناءات في احترام حقوق الإنسان (مثل الحرية الدينية على سبيل المثال)؟
5 هل تؤمن بأن تغيير الديانة أحد حقوق الإنسان؟
6 هل تؤمن بضرورة أن تطبق الدولة قانونًا جنائيًا (الحدود) يتطابق مع الشريعة الإسلامية؟(14/139)
7 هل تؤمن بضرورة أن تفرض الدولة قانونًا مدنيًا متلائماً مع الشريعة؟ وهل تؤمن بحق الآخرين في عدم الاحتكام بمثل هذا القانون والرغبة في العيش في كنف قانوني علماني؟
9 هل تؤمن بضرورة أن تحصل الأقليات الدينية على نفس حقوق الأغلبية؟
10 هل تؤمن بحق الأقليات الدينية في بناء دور العبادة الخاصة بهم في البلدان الإسلامية؟
11 هل تؤمن بأن يقوم النظام القانوني على مبادئ غير دينية؟
احذروا المسجد واهتموا بالإعلام !
واللافت هنا أن التقرير يتضمن تحذيراً شديد اللهجة من "خطورة دور المسجد" باعتبار أنه (المسجد) الساحة الوحيدة للمعارضة على أسس الشريعة، أو باعتبار أنه كرمز يتعارض مع الدعوة لخلق مسلم معتدل لا يؤمن بأي دور للشريعة الإسلامية، ولذلك يدعو لدعم "الدعاة الذين يعملون من خارج المسجد"، كما أنه يركز على دور الإعلام ووسائل الاتصالات الحديثة في الوصول إلى العقلية المسلمة والتأثير عليها لخلق هذه الشبكات المعتدلة ك"قناة الحرة".
ويركز كذلك على ضرورة إيجاد مؤسسات خدمية مسلمة علمانية معتدلة تقدم ذات الخدمات التي يقدمها المسلمون "المتطرفون" سواء كانت خدمات إغاثية أو طبية أو عيادات أو قوافل مساعدة أو مساعدة أسر وأرامل وأطفال وفتيات يتيمات لتقديم "الاعتدال" في الخدمات المقدمة وسحب البساط من تحت أقدامهم لصالح الفكر العلماني المسلم الجديد!
الأصدقاء والعملاء "المعتدلون"!
والأكثر غرابة أن التقرير لا يتورع أو يخشى من فرد مساحات واسعة للحديث عن هؤلاء الأصدقاء أو الشركاء أو العملاء المفترضين المعتدلين الذين ستركز أمريكا على التعامل معهم لبناء هذه الشبكات المسلمة المعتدلة داخل الدول العربية والإسلامية، وكأنها في حرب مستعرة ولا وقت للعواطف فيها، وربما لقطع خط الرجعة على هؤلاء المتعاونين لنفي أنهم عملاء للمشروع الأمريكي!
ففيما يخص الشركاء، يحدد التقرير قطاعات اجتماعية "ستشكل حجر الأساس للشبكات المقترحة" ويقول إنه ينبغي منح الأولوية لهم، مثل:
1 الأكاديميين والمثقفين المسلمين الليبراليين والعلمانيين.
2 علماء الدين من الشباب المعتدل (الذين يعملون خارج المسجد).
3 النشطاء الاجتماعيين.
4 الجماعات المعنية بالمرأة، والتي تشارك في الحملات المطالبة بالمساواة بين الجنسين.
5 الصحفيين والكتاب المعتدلين.
وضمن هذا يقدم التقرير خريطة بأسماء مؤسسات وشخصيات عربية وآسيوية وأوروبية مسلمة "معتدلة" يقترح التعامل معها قسم كبير منها في جنوب شرق آسيا (ماليزيا سنغافورة تركيا إندونيسيا)، بجانب مؤسسات وجهات أوروبية مسلمة، وثالثة في العالم العربي نفسه، خصوصاً لبنان وتونس وبعض دول الخليج، لها آراء ليبرالية علمانية تحررية مناهضة للأصولية الإسلامية، ويمكن أن تلعب دوراً في هذه الشبكات الأمريكية "المعتدلة"!
الإسلاميون يمتنعون!
والطريف أن التقرير الذي يطرح إمكانية التعاون مع كل الفئات غير الإسلامية مثل العلمانيين والليبراليين، واليساريين والاشتراكيين، يستبعد التعاون مع الإسلاميين ضمن هذه الشبكات المعتدلة لأنهم سيكشفونها وربما يستفيدون منها!
فعلى حين أن الإسلاميين وفق التقرير يقبل بعضهم بالتعددية السياسية وحقوق المرأة، ويلعبون دوراً مهماً في ضرب التطرف الديني، ويشكلون بديلاً حقيقياً للسلطة، فمن الوارد كما يقول الرافضون لدمجهم في هذه الشبكات المعتدلة أنهم سوف يستغلون الحديث عن الديمقراطية لتحقيق هدف تكتيكي هو الوصول للسلطة، كما سيستفيدون من هذا الأمر مستقبلاً في الحصول على قدر أكبر من المصداقية باعتبار أنهم ديمقراطيون، ما سيؤدي لازدهار دورهم ودعوتهم، وبالمقابل سوف يضعفون التيار العلماني الذي هو عماد هذه الشبكات المعتدلة الأمريكية المسلمة!
ولهذا ينصح التقرير الإدارة الأمريكية بعدم التعاون مع هؤلاء الإسلاميين!
============(14/140)
(14/141)
العصرانية قنطرة العلمانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وآله وصحبه.. وبعد :
فاعلم -علمني الله وإياك ما ينفعنا- أني تأملت حال المجتمعات الإسلامية خلال القرن الأخير وكيف غزاها الانحراف والتغريب بواسطة أعداء الإسلام، فوجدتها لا تخلو من حالين:
الحال الأولى : حال المجتمعات التي يكون الغزو فيها مباشراً؛ وهي المجتمعات الإسلامية التي لم تكن لها مرجعية علمية، أو هيئة شرعية تذكر، تقف سدًا منيعاً أمام ذلك الغزو. فهذه سهل اقتحامها واستباحتها من العدو وعملائه اللادينيين .
الحال الثانية: حال المجتمعات التي يكون فيها الغزو من خلال (وسيط) أو (ناقل) يلبس لباس الإسلام. وهي المجتمعات الإسلامية التي تأوي إلى مرجعية علمية أو هيئة شرعية في معظم أمورها أو في النوازل التي تحل بها، مع ارتباط (شرعي) بولاة أمرها. فمثل هذه المجتمعات لم يستطع العدو اقتحامها واستباحتها وخلخلة وحدتها القائمة بين الأمراء والعلماء إلا من خلال ذلكم الوسيط؛ نظراً لطبيعتها الدينية الشرعية.
وخير مثال لهذه الحال: مجتمع مصر في القرنين الأخيرين، حيث سلط عليه الأعداء الغزو العسكري(*) والغزو الفكري في سبيل صرفه عن دينه، لكنهم باؤا بالفشل ولم يحققوا نجاحاً يذكر يوازي ما قاموا به من الجهود؛ نظراً لارتباط الشعب المصري بعلمائه الشرعيين الممثلين في الأزهر؛ حيث كانوا حصناً منيعاً أمام جهود الأعداء التغريبية .
لكن الأعداء لم ييأسوا أو يملوا وهم يرون ضياع جهودهم وفشلهم، وإنما لجؤا إلى خطة أكثر مكراً، وأشد ضررًا، وهي تكرار محاولة الغزو للمجتمع المصري بواجهة إسلامية (مخدوعة) يتقبل الشعب المسلم اطروحاتها وأفكارها التغريبية دون نفرة أو استيحاش؛ يخلخلون بها وحدة المجتمع المصري المسلم؛ بتهييجه على ولاة أمره، إضافة إلى صرفه عن العلماء الكبار الراسخين الذين يصعب تطويعهم. وقد تم لهم ذلك من خلال ما يسمى (بالعصرانيين) أتباع مدرسة الأفغاني ومحمد عبده الذين ظنوا بجهلهم أنهم يخدمون الإسلام والدعوة بصنيعهم هذا، ويوفقون بين أحكام الشريعة ومتطلبات العصر -زعموا !- ولكنهم أصبحوا فيما بعد كما قال ألبرت حوراني: "قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحداً تلو الآخر" . ثم كان مصير أفراد هذه الطائفة العصرانية الخاسرة مصير أي وسيلة استخدمت فاستنفذت أغراضها، حيث (تمندل) بهم الأعداء قليلاً ثم رموا بهم. فمنهم من مات بحسرته جراء ما جناه على مجتمعه، ومنهم من انحاز إلى الصف العلماني وكشف عن حقيقته، وقلة منهم أحست بخطورة دورها الذي قامت به فأرادت أن تُكَفّر عن سيئاتها بانحيازها رويدًا رويدًا إلى أهل الإسلام. ولكن بقيت تجربتهم جميعاً عبرة للمعتبرين وآية للمتوسمين .
وبلاد الحرمين -حماها الله وصرف كيد الفجار عنها- تتشابه في طبيعتها مع طبيعة المجتمع المصري خلال القرنين السابقين، قبل هبوب رياح التغريب عليه؛ فهي تأوي إلى ركن شديد من علمائها الكبار، وارتباط (شرعي) وثيق بولاة أمرها، وتنهل من معين دعوة سلفية شرعية قامت عليها ولأجلها . فلهذا لم يستطع العدو ولله الحمد اقتحامها أو تغريبها مباشرة أو من خلال أذنابه العلمانيين الأقحاح الذين نبذهم المسلمون وباؤا بفشل ذريع، رغم تكرر محاولاتهم .
ومثلما لم ييأس أعداء الإسلام من اقتحام هذا المجتمع المسلم وتغريبه فإنهم -لا شك- سيعاودون الكرة عليه، ولكن بواجهة إسلامية (عصرانية) تضفي الشرعية على أفكارهم ومطالبهم، وتحدث شرخاً في وحدته، وتحاول نزع ثقة الناس بعلمائه الكبار، وهي تُستدرج إلى ذلك بمكر وخفاء.
وقد بدأت بوادر تنذر بشيء من ذلك -للأسف!-؛ فتسللت الأفكار العصرانية إلى عقول بعض الإسلاميين الصالحين عندنا، فأخذوا يرددونها في مقالاتهم وكلماتهم، جهلاً منهم بخطورتها ومآلها على البلاد، وانخداعاً ببهرجها، وظناً منهم بأنها ستُبَلِّغهم أهدافهم. وفاتهم -هداهم الله- أن هذه الأفكار ما هي بجديدة في عالم المسلمين، وأن مجتمعاً إسلامياً آخر غير مجتمعنا هو مجتمع مصر قد خبرها وجُرِّبت عليه؛ فلم تنتج سوى النتاج المر الفاسد الذي لا زال يعاني منه إلى اليوم.
وقد اكتشف النبهاء من أهله -كما سيأتي- ولكن بعد فوات الأوان، أن هذه الأفكار البراقة لم تكن سوى أحبولة صنعتها يد المكر لاستباحة ديار المسلمين وعقولهم واقتصادهم، وأنها لم تحقق للمسلمين إلا مزيداً من الذل والصغار والخضوع للأعداء، فضلاً عن التفريط بمهمات الدين وشرائعه.
وقد كان من حق التجربة (العصرانية) المصرية أن تكون عبرة للمعتبرين، وموعظة للآخرين، وأن لا يُلدغ المؤمنون بعدها من جحر مرتين.
ومن مظاهر تسلل هذه الأفكار بين أهل الإسلام في بلادنا هذه الأمثلة التي وقفت عليها، ولعل غيري قد وقف على مثيلاتها:(14/142)
1- أحد الدعاة الأفاضل ممن لهم جهود لا تنكر في نشر الخير ينشئ موقعاً على شبكة الأنترنت لا تجد فيه حساً ولا خبرًا لأحدٍ من كبار العلماء لدينا ! فلماذا هذا ؟! ومعلوم خطورة عزل جيل الشباب عن علمائه الكبار، حيث ينصرف بعدها إلى أناس لا علم عندهم ولا ورع، إنما هي المصالح والتحزبات التي تقود البلاد إلى فرقة وضعف.
2-أحد الأفاضل من حاملي الدعوة لدينا يقول: بأنه لا مانع من وصف اليهود والنصارى بأنهم (إخوان لنا) !! ويعني بذلك الأخوة الإنسانية !
3- داعية آخر يدعو إلى (المجتمع المدني) ! القائم على الانتخابات والبرلمانات.. الخ. وفاته أن المجتمع المدني في اصطلاح القوم هو المجتمع العلماني الذي لا يرجع إلى شريعة تحكم أفعاله . وأن في دعوته هذه (تهييجاً) لعامة الناس على ولاة أمرهم بطريقة تفسد ولا تصلح. متغافلاً -هداه الله- عن الطرق الشرعية.
4- داعية آخر يكتب مقالاً بعنوان "المرأة إنسان"، يصوغه بلغة حداثية غريبة! يطالب فيه بإعادة النظر في قضايا المرأة!! ويحيل قارئه للفائدة على كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" للعصراني عبدالحليم أبو شقة!
5- كاتب إسلامي آخر يزعم -بجهل لا شك- أن "الحق المطلق لا يملكه أحد" !!وهذا مصطلح (كفري) يؤدي بصاحبه إلى الشك والحيرة والتذبذب .
6- كاتبة إسلامية مرموقة تكتب عدة مقالات عن المرأة، تردد فيها أفكار العصرانيين والعلمانيين. حتى ليخال للقارئ بأنه يقرأ لإحدى داعيات تحرير المرأة في بلادنا ! فكيف حدث هذا ؟!
7- جريدة أسبوعية إسلامية تفتح صفحاتها لكتبة العصرانية من كل مريض وفاشل وطالب شهرة؛ ليلمز ويهمز من خلالها في دعوة الكتاب والسنة ويصفها بأبشع الصفات، ويبث شبهاته وانحرافاته تحت بصر وسمع الفضلاء أصحاب الجريدة ممن لهم تاريخ مشرف في مجال الدعوة والإعلام الإسلامي.
لأجل هذا كله ودرءً للخطر قبل وقوعه؛ فقد أحببت أن أنصح لإخواني دعاة الإسلام وحملته في هذه البلاد ببيان : كيف أصبحت العصرانية في مصر قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى مجتمعهم كما سبق؟ ليأخذوا حذرهم ويتبصروا أمرهم وما يكيده الأعداء لهم، فلا ينساقوا وراء الأفكار العصرانية مهما تزخرفت وتزينت كما انساق غيرهم، فيكون حالهم مع مجتمعهم كحال من :
رام نفعاً فضرَّ من غير قصدٍ *** ومن البر ما يكون عقوقًا
وتضيع جهودهم السابقة المشكورة في التصدي لأهل العلمنة بهذه النهاية الموجعة -لا قدر الله- التي يخدمون بها أولئك المفسدين عن غير قصد، فيحق فيهم قول الله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً). عندها نقول لهم :
وإخوانٍ تخذتهمو دروعاً *** فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات *** فكانوها، ولكن في فؤادي
وقالوا قد سعينا كل سعي *** فقلت نعم ، ولكن في (فسادي)
أسأل الله أن يوفق دعاة الإسلام لأن (يأخذوا حذرهم) فلا يكونوا مطية لغيرهم، وأن يحسن لنا ولهم الخاتمة، ويستعملنا إلى أن نلقاه في طاعته.
مقدمة:
لقد كتب كثير من العلماء والباحثين عن المدرسة العصرانية الحديثة التي نشأت في ديار المسلمين نتيجة التقائهم بالغرب المتقدم مادياً، وأجادوا في بيان انحرافها عن الإسلام بلا مزيد عليه ، ولهذا فإنني لن آتي بجديد في هذا الموضوع، ولكني أردت من خلال هذا البحث المختصر التركيز على انحرافٍ واحدٍ من انحرافات تلك المدرسة -كما سبق- لعله يكون أخطرها، وتوسعت فيه بعض التوسع، ونقلت كلمات مهمة تتعلق به.
نشأة المدرسة العصرانية الحديثة: الأفغاني ومحمد عبده :
تعود نشأة المدرسة العصرانية الحديثة في البلاد العربية إلى جهود رجلين اجتمعا زمناً بمصر؛ هما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده .
أما الأفغاني فقد كان غامض الأمر محيرًا للباحثين في حياته وبعد مماته، مما جعلهم يضطربون في مكان نشأته ومذهبه وأهدافه . إلا أنه بعد نشر كثير من الوثائق والدراسات حوله لم يعد هناك مجالٌ للشك في كونه شيعياً إيرانياً أخفى ذلك ترويجاً لأفكاره بين أهل السنة الذين لن يجد منهم أي احتفاء لو كشف تلك الحقيقة بينهم .
ولكن الخلاف بعد تقرير أمر شيعيته وإيرانيته سيكون حول حقيقة أفكاره، وماذا كان يريد؟
هناك وجهتا نظر للباحثين كلاهما تمتاز بالقوة :(14/143)
1- الأولى: أن الأفغاني كان يريد إعادة الدولة الشيعية إلى بلاد مصر، ولهذا اختار المقام فيها على غيرها من البلاد الأخرى. وأنه لأجل هذا كان يخفي شيعيته ويدعي الانتساب لآل البيت؛ ليتمكن من تكوين عصبة حوله تعينه على هذا الأمر إذا ما حانت ساعة الصفر -كما يقال-. وأنه كان لا يفضي بهذا الأمر إلا لخاصته؛ كمحمد عبده. وهذه ليست بغريبة على الشيعة الذين لا زالت قلوبهم تهفو إلى هذه البلاد منذ أن طردوا منها، فقد قاموا بعدة تجارب لأجل هذا الأمر؛ من أهمها تجربة السيد ! البدوي الذي أرسله أساطين الرفض في العراق إلى بلاد مصر، فكانت غايته -كما يقول الأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف- : "أن يجمع عصبية في الديار المصرية للعلويين ، كتلك العصبيات التي كان يجمعها غيره من الصوفية في أقطار العالم الإسلامي حتى تكون عوناً لهم إذا ما تهيأت الفرصة، ونهضوا لطلب الملك"
ومما يشهد لهذا : الغموض الذي أحاط الأفغاني به نفسه، حيث لم يوضح (بصراحة) حقيقة أفكاره؛ إنما هي أمور عامة يشترك معه فيها غيره.
ومما يشهد لهذا -أيضاً- أن تلميذه محمد عبده كان كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات :
ذرني وأشياء في نفسي مخبأة *** لألبسن لها درعاً وجلبابا
والله لو ظفرت نفسي بطلبتها *** ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبا
حتى أطهرهذاالكون من دنس*** وأوجب الحق للسادات إيجابا
وأملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت*** ظلماً وأفتح للخيرات أبوابا
فما هي هذه "الحاجات المخبأة في نفسه" ؟! ومن هم "السادات" الذين سيوجب لهم الحق، ويضرب لأجلهم أعناق الناس؟!
وجهة النظر الثانية: تقول بأن الأفغاني ما كان يحفل بالمذاهب كلها، سنيها وشيعيها، بل ما كان يحفل بالأديان نفسها! فالجميع -عنده- شيء واحد، فكانت دعوته موجهة نحو إيقاظ (الشرق) المتخلف -دون نظر إلى أديانه- لمواجهة أطماع (الغرب) المتحضر مادياً، والتحرر من سلطانه وضغوطه، والتخلص كذلك من حكم المستبدين .
فما كان الإسلام عنده إلا ديناً من ضمن الأديان الكثيرة التي يدين بها أبناء الشرق. ويدلل هؤلاء على وجهة نظرهم بعدة أدلة:
أولها: أنه في كثير من مقالاته يصرح بأن دعوته (شرقية) لا إسلامية. فمن ذلك مثلاً: ما جاء في منهج العروة الوثقى وأهدافها بأنها "ستأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان" وقوله عنها : "إنما أنشئت للمدافعة عن حقوق الشرقيين" ويقول أيضاً مبيناً منهاج جريدته : "الغرض تحذير الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصاً من تطاول الأجانب عليهم، والإفساد في بلادهم. وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجنبيون وأذلوا أهلها أجمعين، واستأثروا بجميع خيراتها" فسبب تركيز الأفغاني على المسلمين كونهم الأغلب في الشرق، ولو كان غيرهم يغلب عليهم لركز عليهم !
أما قضية دعوته إلى الجامعة الإسلامية فيقول عنها الأستاذ عثمان أمين:"إن الجامعة التي كان ينشدها الأفغاني ومحمد عبده في أواخر القرن الماضي ليست هي الجامعة الإسلامية كما توهم بعض الكتاب الغربيين، وإنما هي في صميمها: الجامعة الشرقية"
وقال الدكتور فهد الرومي : "أرى في مقالاته ومقالات تلميذه ما يدل على أنه لا يريد الجامعة الإسلامية بل الجامعة الشرقية التي تجمع دول الشرق: مسلمها وغير مسلمها ضد الاستعمار" .
ويقول محمود أبو رية: "العروة الوثقى كانت تعمل للشرقيين عامة" ويقول الأستاذ: مصطفى غزال: "لو رجعنا إلى كتابات جمال الدين لوجدنا أن دعوته إلى الجامعة الإسلامية في حقيقتها دعوة إلى جامعة شرقية تضم العالم الإسلامي بما فيه من أديان مختلفة وجنسيات متنوعة"
2- ومما يشهد لما سبق -أيضاً- : دخول الأفغاني في الماسونية التي لا تفرق بين الأديان .
3- ومما يشهد لذلك -أيضاً-: ما يصدر من الأفغاني بين الحين والآخر من كلمات في حق الإسلام، تدل على أنه لا ينظر إليه كخاتم للأديان أو أنه الحق دون ما عداه من الأديان الباطلة، وإنما تدل كلماته على أنه ينظر للإسلام كنظرته لأي دين آخر ظهر في الشرق، لا مانع من مجاملته إذا اقتضى الحال ذلك! ولا مانع -أيضاً- من نقده!! فمن ذلك مثلاً: أنه في رده على رينان الذين اتهم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين أيده على هذا! وقال :"في الحقيقة: إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم، وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية" وقال: "إن دين المسلمين يعوق من تطور العلم.. إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً" وقال : "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر، ما هو معروف، نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته. وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه" ! ويقول: "إن هذا الدين -أي الإسلام- حيثما حل حاول خنق العلوم"! .(14/144)
مثال ذلك أيضاً: قوله للمصريين: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم بحجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين… تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين ، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه" فالمسلمون -عند الأفغاني- لم يكن فتحهم لمصر في سبيل نشر للإسلام ودعوة العباد إليه، إنما هم مجرد عرب ظالمين كغيرهم من الفاتحين.
4- ومما يشهد لذلك أيضاً -كما يقول الدكتور فهد الرومي- :"هذا الخليط من اليهود والنصارى الذي يحيط به، سليم نقاش من نصارى الشام وهو ما سوني، … وأديب إسحاق من أكثر الدعاة إلى الماسونية … وكان من المحيطين به من النصارى : جورج كوتجي، وطبيبه الخاص هارون يهودي. ولم يحضر وفاته إلا كوتجي النصراني وهارون اليهودي، وعند قدومه إلى مصر يسكن في حارة اليهود"
5- ومما يشهد لذلك أيضاً: إنشاء تلميذه محمد عبده في بيروت "جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية" وقد اشترك معه في ذلك خليط من المسلمين وغير المسلمين.
كل هذه الأدلة تشهد على أن الأفغاني كان من الداعين إلى "الفكرة الشرقية" في مواجهة "الاستعمار الغربي"، وأما أمر الأديان فلم يكن يلقي له بالاً إلا ما يفيده في فكرته هذه .
فملخص دعوته كما يقول أنور الجندي: "الحرية، والدعوة إلى الحكم النيابي والدستور، والتخلص من النفوذ الأجنبي المتمثل في سلطان الدولة الأجنبية المقنع وراء الامتيازات الأجنبية والسيطرة على الاقتصاد والارساليات، والتحرر من الاستبداد السياسي المتمثل في حكم الفرد ونفوذ الخديو وحاشيته" .
أما حكم الإسلام لديار المسلمين والتزامهم بشريعته، فهذا لا يأتي في اهتمامات الرجل، بل إنه كما سبق يرى أن الإسلام من الأديان المستبدة الخانقة للحرية!! ويعني بها حرية الكفر التي يسميها: الفلسفة .
هاتان وجهتا نظر في حقيقة الأفغاني وأهدافه، ولعل الثانية منهما أصوب من الأولى نظراً لقوة أدلتها لمن تأمل .
ماذا فعل الأفغاني بأهل مصر ؟ !
عندما قدم الأفغاني مصر زمن الخديو إسماعيل (1871م) كانت البلاد تعيش في انسجام وألفة بين الرعية وولاة أمورهم، ولا يمنع ذلك من وجود الانحراف الذي كان يعالج من خلال النصيحة الشرعية التي يقوم علماء البلاد المتمثلين في شيوخ الأزهر. وكان للبلاد مجلس شورى يتم من خلاله التشاور حول ما يتعلق بالشئون الداخلية والخارجية .
ولكن هذا الوضع (الشرعي) للبلاد لم يُرض الأفغاني (العصراني) (الثوري) الذي رأى فيه ذلاً واستكانةً للحاكم المنحرف، ورأى أن حل مشاكل البلاد لا يكون بما يقوم به شيوخ الأزهر ومناصحاتهم. إنما يكون من خلال الثورة (وتهييج) الناس على ولاة أمرهم. وقد سعى إلى ذلك من خلال دروسه التي كان يلقيها على مريديه ، ومن خلال الصحف والمجلات التي سعى كثيراً إلى إصدارها عبر تلاميذه، وحثهم على نشر أفكاره فيها، وكلها تدور حول الثورة وما يسميه زورًا بالحرية!
أحس ولاة الأمر وعلماء البلاد بخطورة ما يقوم به هذا القادم الغريب، مما لمسوه من انتشار أفكاره الثورية بين بعض الأفراد مما يشكل خطراً على أمن البلاد ووحدتها؛ فقرر الحاكم (الخديو توفيق) بمشورة من العلماء نفي الأفغاني وطرده من البلاد لئلا يزداد شره، وذلك عام (1879م). أي بعد سبع سنوات من قدومه.
يقول تلميذه محمد عبده متحسراً بأن الخديو "أظهر سروره مما فعل، وتحدث به في محضر جماعة من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان"
لقد طُرد الأفغاني ولكن بعد أن بذر بذرة الفساد في أرض مصر، وبعد أن تلقفت عقول بعض السُذج والحمقى أفكاره معتقده أن فيها صلاح البلاد، ولكنها -كما سيأتي- قادتهم إلى الهلاك والخسار بسقوطهم محتلين في يد أعداء الإسلام من الإنجليز الذين كانوا يتحينون الفرصة في شق صف البلد المسلم؛ حتى يسهل عليهم احتلاله .
رحل الأفغاني عن مصر ولكن أفكاره المفسدة بقيت تعمل في العقول إلى أن بلغت نهايتها بقيام الثورة العرابية على الحاكم المسلم بقيادة أحد المتأثرين بالأفغاني (وهو أحمد عرابي) ومعاونة من بقية تلاميذ الأفغاني، وعلى رأسهم محمد عبده وعبد الله النديم (خطيب الثورة!) وغيرهم ، فاستغلت بريطانيا الوضع وتدخلت تحت دعوى حماية الأجانب والدفاع عن الحاكم الشرعي!، واحتلت البلاد وقضت على الثورة، ولم تخرج إلا بعد سبعين عاماً تقريباً !!
فانظر -رعاك الله- واعتبر بمآل الأفكار الثورية العاطفية.
يقول محمد عبده : "كان السيد ! جمال الدين كثير التطلع إلى السياسة، شديد الميل إلى الحرية، قوي الرغبة في إنقاذ المصريين من الذل.." !
قلت: بل نقلهم من ذل المسلمين إلى ذل الكافرين !(14/145)
وقال سليم العنحوري النصراني تلميذ الأفغاني ! في ترجمته لشيخه بعد أن ذكر شيئاً من خطبه الثورية : "وأخذ القوم يشكون من حكومتهم، متململين، ويتطاولون بأعناقهم إلى ما يقول مشرأبين، ومذ ذلك الحين طارت الشرارة الأولى من شرارات الثورة العرابية" .
وقال -أيضاً-: "كان روح الثورة قد امتد في القطر، بحيث لم يكن إجلاء الأفغاني إلا ليزيده سرياناً وانتشارًا" .
ويقول أبو رية عن الثورة العرابية : "إن هذه الثورة قد شبت من تعاليم جمال الدين" .
ويقول الدكتور عثمان أمين: "ليس هناك شك في أن لجمال الدين يدًا في الحركة العرابية"
ويقول الدكتور مجدي عبد الحافظ -وهو معجب بصنيع الأفغاني!-: "إن الثورة العرابية لم تكن إلا غرسًا طيبًا من تعاليم الأفغاني"
محمد عبده :
أما محمد عبده، فهو أبرز تلميذ للأفغاني، تعرف عليه وهو في عمر صغير يبلغ الثانية والعشرين، فصادفت أفكار الأفغاني قلباً خالياً فتمكنت منه. فأصبح عبده يرددها ويبشر بها من حوله .
يقول الدكتور فهد الرومي: "لئن كان السيد ! جمال الدين الأفغاني هو المؤسس لهذه المدرسة، فإن محمد عبده هو الذي أقام صروحها ودعا إليها، ونشرها بين الناس، فكان بحق هو صاحبها وهو أستاذها وإمامها الأول، فكان له من الأثر فيها ما لم يكن لأستاذه" .
وقد فاق عبده شيخه في مسألة تطويع الإسلام وتشكيله بما يوافق حضارة الغرب وثقافته، نظراً لخلفية عبده الدينية التي افتقدها الأفغاني .
محمد عبده (الثوري) :
لقد تشرب محمد عبده الأفكار (الثورية) (التهييجية) من شيخه الأفغاني -كما سبق- وآمن بها، ولم يكن يعارضه فيها، وهذا من المآخذ العظيمة عليه، حيث كان يعلم -وهو الشيخ الأزهري- عدم شرعية هذه الطريقة ؛ وهي تأليب الشعب والعامة على ولاة أمورهم، وتجرئتهم عليه بنشر معايبه، وكان الأولى به أن يقف في وجه انتشار هذه الأفكار الثورية، وأن يسلك الطريق الشرعي الذي سنه الله ورسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ وهو مناصحة الحاكم فيما أخطأ فيه وانحرف، وتقديم المقترحات النافعة للبلاد لتتخلص من
مشاكلها، والصبر على جور الحاكم وأثرته، كما قا صلى الله عليه وسلم : "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عملهم ولا تنزعوا يدًا من طاعة" وقا صلى الله عليه وسلم : "عليك السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرةٍ عليك" .
فكان الواجب على محمد عبده الشيخ الأزهري أن لا تأخذه العاطفة فينساق مع تلكم الأفكار الضارة التي لا تزيد الأمر إلا شدة وسوءً وضررًا. كما هي سنة الله الثابتة في هذه القضية على مدار التاريخ الإسلامي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير"
وقال : "إن ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك متعمدًا أو مخطئاً لم يحصل بفعله صلاح بل فساد.."
المهم: أن محمد عبده سكت عن هذه الأفكار الثورية ولم يساهم في وأدها، بل غض الطرف عنها، وتعاطف معها، إلى أن نمت وتعاظمت، حتى كانت نهايتها قيام جهلة العسكريين بقيادة أحمد عرابي بثورتهم ثم (خروجهم) على ولي أمرهم ، الأمر الذي دعاه -وهو ضعيف الدين والعقل- أن يستعين بعدوه وعدوهم (إنجلترا النصرانية) في سبيل إخماد هذه الثورة والحفاظ على ملكه وكرسيه، فما كان من (إنجلترا) -المستعدة لمثل هذا الأمر!- إلا أن لبت النداء ونزلت بجيشها إلى أرض مصر، وقضت على (الثوريين) بقيادة عرابي، ثم طاب لها المقام هناك! فلم تخرج من أرض مصر إلا بعد أكثر من سبعين عاماً !!! فانطبق على محمد عبده وعرابي ومن معهم المثل القائل : (أراد أن يبني قصرا فهدم مصرا)!، فهم أرادوا إنكار ظلم وجور الحاكم بطريقتهم الثورية الخرقاء التي ورطهم بها الأفغاني؛ فتسببوا في ضياع بلادهم وتسليمها لقمة سائغة للنصارى، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار. نسأل الله العافية، وأن يجعل من هذه الحادثة عبرة لأبناء الإسلام لكي لا يندفعوا خلف الأفكار الثورية التي تدغدغ العواطف في بداية أمرها، ولكنها سرعان ما تسيل الدماء بدل الدموع في نهايته. (إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار) .
نهاية ثورته :
قبض على محمد عبده بعد إخماد ثورة عرابي نظراً لتعاطفه معه ومؤازرته له، فكان نصيبه من الأحكام السجن، ثم النفي خارج البلاد المصرية. وقد نال غيره نصيبهم من الأذى والانتقام.
محمد عبده والانقلاب من (الثورية) إلى (العصرانية) :(14/146)
لقد أصيب محمد عبده بذهول وصدمة شديدة بعد فشل حركة عرابي وقمعها وتمزيقها، مما جعله -وقد توحد وتفرد في السجن- يعيد النظر في هذا المسلك (الثوري) الخاطئ الذي سار فيه فكانت نهايته موجعة عليه وعلى بلاده. ولكن عبده بدلاً من أن ينتقل من (الثورية) إلى الاعتدال والطريق الوسط القائم على العلم الشرعي ونشره بين الناس وتربيتهم عليه، مع الصبر على جور الحاكم ومناصحته إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر، بدلاً من هذا ارتد إلى الطرف الآخر المقابل للفكر (الثوري) وهو الاستسلام للواقع والتبشير بالفكر (العصراني) الذي يُطَوع الإسلام وأحكامه بما يوافق العصر، ويجعل ما يسمى "بالتعايش السلمي" مع الكفار هدفاً له، ورأى أن علاج مشاكل المسلمين وضعفهم سيكون في تبني مثل هذا الفكر، إضافة إلى تضخيمه لدور العقل على حساب النصوص الشرعية ؛ فانتقل من النقيض إلى النقيض، ومن مفسدة إلى أخرى أشد منها -كما سيأتي-.
ولهذا: فقد أصبحت مهمة محمد عبده بعد أن عاد من المنفى -كما يقول الدكتور محمد محمد حسين- : "التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، واتخذ اتجاهه هذا أشكالاً مختلفة؛ فظهر أحياناً في صورة مقالات أو مشاريع أو برامج تدعو إلى إدخال العلوم العصرية في الجامع الأزهر. وظهر تارة أخرى في صورة تفسير لنصوص الدين من قرآن أو حديث يخالف ما جرى عليه السلف في تفسيرها، ليقرب بها أقصى ما تحتمله، بل إلى أكثر مما تحتمله في بعض الأحيان من قُرب لقيم الغرب وتفكيره؛ لكي يصل آخر الأمر إلى أن الإسلام يساير حضارة الغرب، ويتفق مع أساليب تفكيره ومذاهبه"
جهود الكفار في نشأة العصرانية وصناعتها :
لقد أذن الإنجليز بعودة محمد عبده من منفاه إلى مصر بعد أن تأكدوا من هجره لأفكاره الثورية السابقة، وتبنيه (الفكر العصراني) المتعاون مع الإنجليز والمهادن لهم. يقول الأستاذ غازي التوبة: "كان الاحتلال الإنجليزي عاملاً أساسياً من عوامل عودة محمد عبده إلى مصر، وقد صرح اللورد كرومر بذلك في كتابه (مصر الحديثة) فقال: "إن العفو صدر عن محمد عبده بسبب الضغط البريطاني.."
لقد كان الإنجليز رغم احتلالهم لمصر يعلمون أن المجتمع المصري لن يقبل بهم وبأفكارهم بسهولة، بل سيظل يجاهدهم ويعمل على الخلاص منهم؛ لأنهم في نظره (كفار) نصارى محتلون لبلاده. فقد كانت الصفوف وقت احتلال الإنجليز لمصر متمايزة: الشعب المصري المسلم ومن خلفه شيوخ الأزهر من جهة، والمحتل الكافر من جهة أخرى.
وهذا التمايز كان يضيق به الإنجليز، ويعلمون أنه يحول بينهم وبين تنفيذ خططهم في (تغريب) البلاد و(علمنتها) وجعلها تتقبل فكرة أن تكون مجرد ولاية تابعة للإمبراطورية البريطانية .
والإنجليز -أيضاً- يعلمون أن الشعب المصري المسلم لم يكن ليتقبل الأفكار العلمانية الصريحة التي ينادي بها المحتل وأعوانه من أقباط مصر أو النصارى العرب القادمين من الشام.
إذاً فالحل هو صنع طائفة جديدة ترتدي المسوح الإسلامية وتقوم بمهمة (تمرير) الأفكار التغريبية العلمانية بين أفراد المجتمع، وخير من سيقوم بهذه المهمة: الشيخ! محمد عبده الذي كان محبطاً من جدوى العمل (الثوري) -كما سبق-، ومن معه من النبهاء أصحاب الطموح السياسي أو أصحاب الشذوذ الفكري . يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله بأن المستعمر الإنجليزي قام لأجل ذلك بـ"تربية جيل من المصريين العصريين الذين يُنَشؤن تنشئة خاصة تقربهم من الأوربيين ومن الإنجليز على وجه الخصوص، في طرائق السلوك والتفكير…"
وقال الدكتور مبيناً خطورة المهمة التي قام بها محمد عبده ومدرسته العصرانية: "وخطر التطوير على الإسلام وعلى المجتمع الإسلامي يأتي من وجهين: فهو إفساد للإسلام يُشوّش قيمه ومفاهيمه الأصيلة بإدخال الزيف على الصحيح، ويثبت الغريب الدخيل ويؤكده. فبعد أن كان الناس يشاركون في تصاريف الحياة، وهم يعرفون أن هذا الذي غُلبوا على أمرهم فيه ليس من الإسلام، والأمل قائم في أن تجيئ من بعدُ نهضة صحيحة ترد الأمور إلى نصابها عند الإمكان، يصبح الناس وهم يعتقدون أن ما يفعلونه هو الإسلام. فإذا جاءهم من بعدُ من يريد أن يردهم إلى الإسلام الصحيح أنكروا عليه ما يقول، واتهموه بالجمود والتمسك بظاهر النصوص دون روحها" .
-كانت عملية صناعة الطائفة (العصرانية) تتم من خلال الصالونات التي انتشرت بعد الاحتلال الإنجليزي، لا سيما صالون الأميرة (نازلي فاضل) التي كانت -كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- المرأة "الوحيدة التي تختلط بالرجال وتجالسهم في صالونها الذي افتتحته آنذاك ليكون مركزاً تُبث منه الدعوة إلى التغريب.." فكان صالونها شبكة صيد لكل طامح نابه مؤهل لتأدية الدور "العصراني" الذي سيقوم به ! وكانت هذه الصناعة تتم تحت نظر المندوب الإنجليزي في مصر (اللورد كرومر) الذي كان من خلال هذا الصالون كما يقول الدكتور رفعت السعيد "يعايش الصفوة المختارة من المصريين ويتحسس طريقه نحو اختيار أكثرهم صلاحية" ، وقد وجد بغيته وصيده في الشيخ! محمد عبده وتلاميذه المتأثرين به.(14/147)
يقول الدكتور فهمي الشناوي عن الثعلب كرومر: "ابتداء من 1905م بدأ أخطر وأخبث حيلة؛ حيث ابتدأ في اصطياده نبهاء الأمة الإسلامية في شبابهم، ليلتقطهم ويسند إليهم مناصب كبيرة تخدم خط تكوين قومي على حساب الأمة: التقط سعد زغلول وأسند إليه وزارة المعارف 1906م أهم الوزارات. والتقط الشيخ محمد عبده وجعله مفتي للديار، وبذلك ضمن أولاً تفريغ صفوف الأمة الإسلامية من رجالها ونقلهم إلى صف التفاهم مع الغرب، والتفاوض مع الغرب، واتخاذ الغرب نموذجاً ولو جزئياً ولو ثقافياً.
وأنشأ لنفسه مكاتب وصالونات تروج لفكرة اصطياد نبهاء الأمة -مثل صالون الأميرة ناظلي فاضل، وتم اصطياد لطفي السيد الذي اندفع اندفاعا أعمى ضد الأمة بمقولة "مصر للمصريين" أي ليست للإسلاميين حتى لو صارت للقبط ما داموا مصريين! وأسموه فيلسوفاً دون أن تكون له أدنى علاقة بالفلسفة.
واصطاد عبد العزيز فهمي حتى أصبح قاضي قضاة مصر، ولكن بالقانون النابليوني لا بالشريعة !
واصطاد قاسم أمين الذي روج بدعوى مساواة المرأة إلى خلخلة تقاليد وأعراف المجتمع الإسلامي .
واصطاد عبد الرحيم باشا الدمرداش ليجعل للصوفية على الوعي السياسي الإسلامي قدحا معلى.
واصطاد خلفاؤه من بعد نبهاء؛ أمثال عبد الخالق ثروت وطه حسين، وعناصر قبطية؛ مثل البروتستانتي مكرم عبيد سكرتير المستشار القضائي، الذي وصل لقمة الحركة الوطنية، واليهودي رينيه قطاوي الذي وصلوا به إلى وزير مالية لسعد زغلول وزوجته وصيفة للسراي، ومئات غير هؤلاء. وهذا كله لصياغة مجتمع جديد من عجينة جديد" .
ويقول الأستاذ أنور الجندي رحمه الله: "لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز" لعلمه بأن المجتمع المسلم قد يتقبل من هذه الطائفة المتدثرة باللباس الإسلامي ما لا يتقبله من الاحتلال أو من العلمانية.
أما عن الأفكار التي كان الاحتلال يريد ترويجها بين المسلمين عن طريق الطائفة (العصرانية) بقيادة الشيخ ! محمد عبده فهي:
1-التقريب بين المسلمين والكفار، وقد ابتدأت جهود محمد عبده في هذا الأمر عندما كان منفياً في بيروت حيث أسس جمعية للتقريب بين الأديان -كما سبق- ومن أقواله: "نستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما على الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد، وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين" !
ويقول لتلميذه رشيد رضا: "إن التقريب بين الأديان مما جاء به الدين الإسلامي" .
2-إماتة روح الجهاد في الأمة الإسلامية، وهو أمر مترتب على السابق، يقول الدكتور فهد الرومي: "لعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم في سعيهم إلى التقريب بين الأديان: القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام. فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق، وليس بينها من فرق، فليس هناك من داعٍ لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً" .
قلت: ولهذا كان محمد عبده يرى بأن الجهاد في الإسلام هو للدفاع فقط! ويقول: "القتال فيه -أي الإسلام- لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله" . وهكذا كان رأي تلاميذه من بعده .
بل لم تقتصر محاولة إماتة الجهاد عند محمد عبده على بلاد مصر فقط بل كان يرسل النصائح بذلك إلى علماء الجزائر المحتلة حينذاك من فرنسا!
ومن ذلك قوله للشيخ الجزائري عبد الحميد سمايا سنة 1903م بعد أن نصحه: "الناس محتاجون إلى نور العلم، والصدق في العمل، والجد في السعي؛ حتى يعيشوا في سلام وراحة مع من يجاورهم من أهل الأمم الأخرى" !! فالمهم عند عبده ومن سيتبعه من العصرانيين! "أن يعيش في سلام وراحة" وإن كانت بلاده محتلة مستعبدة من عبّاد الصليب !
والعجب لا ينقضي من حال محمد عبده، الذي انعكست الأمور عنده، فجعل جهده وجهاده -كما سبق- في تهييج المسلمين على ولي أمرهم، والمساهمة في الخروج عليه. وهو أمر لا يقره الشرع. ثم تجده هنا عندما احتاج المسلمون إلى جهاد الكافر المحتل، وهو أمر شرعي، يثبط عن ذلك ويرضى بالمسالمة ! فحُق أن يقال له ما قاله أبو الطيب:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى*** مضر كوضع السيف في موضع الندى!
3-الدعوة إلى الوطنية الإقليمية، وعزل مصر عن العالم الإسلامي. ولمحمد عبده في هذا المقام أقوال كثيرة تؤسس لمثل هذه الفكرة الجاهلية التي تطورت من بعد على يد تلاميذه؛ لاسيما أحمد لطفي السيد صاحب شعار "مصر للمصريين"!
ومن ذلك: قول محمد عبده: "يا أبناء الوطن: لئن فرق بينكم اختلاف الآراء، وتنوع المشارب، وتلون التصورات، فقد وجدتم في الجامعة الوطنية ما تأتلفون به وتجتمعون عليه.."
ثم تبنت الثورة العرابية التي هي ثمرة أفكار العصرانيين هذه الوطنية الجاهلية. يقول الدكتور فهمي الشناوي: "الثورة العرابية هي مأساة إجهاض الأمة الإسلامية؛ حيث انتهت بانفصال مصر عن الخلافة، وبدأت تتكون مصر كوطن.."(14/148)
4-الدعوة إلى "تطوير الإسلام لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية" من خلال: فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حتى دخل منه القادر وغير القادر، وصاحب الورع وأصحاب الهوى؛ فظهرت الفتاوى الشاذة من جراء ذلك .
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "إن الاجتهاد في حال افتتاننا بالحضارة الغربية خطر غير مأمون العواقب؛ يخشى معه أن يتحول -من حيث لا يدري المجتهد إن وجد ومن حيث لا يدري- إلى تسويغ للقيم الأجنبية التي هو معجب بها. فإذا لم يكن معجباً بها فالمجتمع الذي هو معجب بها لا يقبل اجتهاده، بل لا تزال تتناوله ألسن السفهاء من جُهاله الذي يتصدون لإبداء الرأي فيما يعرفون وفيما يجهلون حتى يفقد ثقته في نفسه، ويعتبر به غيره، فيفتي حين يُستفتى وعينه على الذين يفتيهم يريد أن يرضيهم، وأن يظفر بتقديرهم وتقريظهم، فيجور على الحق إرضاء للخلق، ويذهل عما عند الله تعجلاً لما عند الناس" .
قلت: وللشيخ! محمد عبده نصيب كبير من هذه الفتاوى (العصرية) التي طوعت أحكام الإسلام لما يريده المحتل الأجنبي أو ما يريده أهل العصر؛ كفتواه بإباحة ربا صناديق التوفير، وإباحة ذبائح النصارى التي يضربونها بالبُلط ولا يذكرون عليها اسم الله! ولدى العصرانيين في كل زمان ومكان مزيد ! .
يقول الدكتور محمد محمد حسين معلقاً على فتاوى عبده : "مثل هذه الآراء قد تبدو في ظاهرها لا بأس بها، ولا غبار عليها، بينما هي في حقيقة الأمر تدعو إلى مذهب التحرر (Libe r alism) الذي يذهب في التسامح الديني إلى درجة تكاد تنمحي معها الحدود الفاصلة بين المذاهب والنحل" . وهذا كلام نفيس يغيب عن السذج الذين ينظرون إلى مثل هذه الآراء على أنها مسائل فقهية مجردة.
5-الدعوة إلى تحرير المرأة المسلمة، وهو هدف أساس لدى الكفار في كل حين وآن، وقد قام الشيخ ! محمد عبده ومدرسته بتحقيقه أيما تحقيق.
أما الشيخ! فقد صدرت مجلة (السفور) بإشارة منه . وقد شارك مشاركة فعالة في تأليف كتاب (تحرير المرأة) لتلميذه قاسم أمين كما أثبت ذلك بعض الباحثين . وأما تلاميذه فقد اشتطوا أكثر منه في هذه القضية؛ فتلميذه قاسم بعد ست سنوات من تأليفه (لتحرير المرأة) كشر عن أنيابه وأبان عن حقيقة فكرته التغريبية في كتابه الآخر (المرأة الجديدة) "الذي بدأ فيه أثر الحضارة
الغربية واضحاً" "وبينما كنت تراه هادئا في كتابه الأول، يحوم حول النصوص الإسلامية، ويمتص رحيقها لتعضيد مواقفه في المطالبة بحقوق المرأة، انقلب في الكتاب الثاني يسلط حمم غضبه ويستعمل عبارات قاسية في التعبير عن رأيه، عبارات لا تقرها المرأة ذاتها. فهو لا يقبل بزعمه: حق ملكية الرجال للنساء!"
وتلميذه الآخر سعد زغلول كان من المؤيدين بشدة لهذه الفكرة وكان -كما يقول الشيخ محمد بن إسماعيل- : "المنفذ الفعلي لأفكار قاسم أمين" وذلك بواسطة زوجته صفية التي كانت من أوائل المتحررات.
وأما لطفي السيد، فقد قال الدكتور حسين النجار: "حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر" .
وقال -أيضا- : "ويقيم لطفي السيد من دار "الجريدة" منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة" .
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: "قاسم أمين القدوة الحسنة" !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: "ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حسن تفكيره" .
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، وتطبيقاً من لطفي السيد لهذه الحركة التحريرية للمرأة المسلمة قام (عندما كان مديراً للجامعة المصرية) هو وأصحابه -وعلى رأسهم طه حسين!- بخطة ماكرة أقروا فيها دخول (البنات) لأول مرة في الجامعة المصرية واختلاطهن في الدراسة بالبنين! فكانوا أول من فعل ودعا إلى هذه الضلالة التي لا زالت تعيشها الجامعة المصرية إلى اليوم، فعليه وزرها ووزر من عمل بها. قال الزركلي في ترجمته: "هو أول من سهَّل للفتيات دخول الجامعة في بدء إنشائها".
وانظر تفاصيل هذه الخطة الخبيثة في كتاب: "أحمد لطفي السيد" للدكتور حسين النجار، ص 317 وما بعدها.
والخلاصة كما يقول الشيخ ناصر العقل -حفظه الله-: "تركيز الاتجاهات العقلية الحديثة على إفساد المرأة من الأمور التي أصبح يدركها ويدرك آثارها وخطرها جميع الناس على مختلف مستوياتهم، وقد فعلت وقطعت في ذلك خطوات واسعة، ولا أظنني مبالغاً حين أرى أن نجاح الاتجاهات العقلية في إفساد الأمة والعقيدة والناشئة الإسلامية عن طريق إفساد المرأة أكثر منه عن طريق غيره من الوسائل الأخرى الفكرية والعملية"
كيف صُنعت العصرانية ؟ !
لقد استخدم الإنجليز في مصر بقيادة الثعلب كرومر خطة ماكرة في سبيل صناعة الطائفة العصرانية وتقديمها لأبناء المجتمع المصري المسلم كممثل للصوت الإسلامي، وهي في حقيقتها مجرد وسيط ناقل للأفكار العلمانية التغريبية التي ترسخ الوجود الأجنبي والثقافة الغربية. ومن المهم جدًا معرفة نقاط هذه الخطة الماكرة؛ لأنها مما كرره ويكرره الغرب وأذنابه في مختلف بلاد المسلمين ؛ليحذرها أهل الإسلام - لا سيما الدعاة - . فإليك ما تبين لي منها:(14/149)
1-الثناء والمديح من الغرب على الطائفة العصرانية: وأنها تمثل (وسطية) الإسلام! واعتداله! فمن ذلك: قول اللورد كرومر عن محمد عبده ومدرسته: "لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883م كان الشيخ محمد عبده من المغضوب عليهم لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق فعين الشيخ بعد ذلك قاضياً في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة. وفي سنة 1899م رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع مابه من سعة العقل واستنارة الذهن. وأذكر مثالاً على نفع عمله: الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير، فقد وجد لهم باباً به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء .
أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام فمعروفة في الهند أكثر مما هي معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في عليكره بالهند منذ ثلاثين عاماً . والغاية العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني. فعملهم شاق وقضاؤه عسير: لأنهم يُسْتهدفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين.
أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة ولكنهم قليلون، وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلالة والخروج عن الصراط المستقيم، فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبق فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة. فهم وسط بين طرفين، وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين، كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين، غير أن معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين إذ هؤلاء لا يكاد يسمع لهم صوت.
ولا يدري إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها وكبيرها، فالزمان هو الذي يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية المصرية أولا، وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام، إذ لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه. فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين" .
وقال أيضاً: "إن حزب الشيخ محمد عبده هو الحزب المعتدل في مصر"
وقال عنه أيضاً: "وكان لمعرفته العميقة بالشريعة الإسلامية، ولآرائه المتحررة المستنيرة أثرها في جعل مشورته والتعاون معه عظيم الجدوى"
ويقول الأستاذ سيد يوسف في كتابه (الإمام محمد عبده رائد الاجتهاد..، ص67): "أدرك كرومر منذ البداية دور التهدئة الذي يمكن أن يقوم به محمد عبده؛ فأثنى عليه، وتظاهر له بتشجيع مشاريعه وطموحاته..".
ويقول أحد المستشرقين عن محمد عبده : "يعد من أشهر الشخصيات المحترمة في تاريخ الإسلام الحديث….. إن كتابات الشيخ محمد عبده تمتاز بشيء من الجدة في روحها … إلخ المديح"
ويقول الدكتور الإنجليزي ادوارد براون عنه : "ما رأيت في الشرق ولا في الغرب مثله" !!
يقول الدكتور محمد محمد حسين عن محمد عبده: "كثرة من النصوص في كتب ساسة الغرب ودارسيه تصور رأيهم فيه وفي مدرسته وتلاميذه ومكانه من الفكر الحديث، وهي جميعاً تتفق على تمجيده والإشادة به وبما أداه للاستعمار الغربي من خدمات؛ بإعانته على تخفيف حدة العداء بينه وبين المسلمين.."
2- تسليط الأضواء عليهم وتلميعهم عبر وسائل الإعلام!(14/150)
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في كلام خطير ينبغي تأمله: "والواقع أن كثيراً من هؤلاء الرجال -أي العصرانيين- قد أحيطوا بالأسباب التي تبني لهم مجداً وذكراً بين الناس، ولم يكن الغرض من ذلك هو خدمتهم، ولكن الغرض منه كان ولا يزال هو خدمة المذاهب والآراء التي نادوا بها، والتي وافقت أهداف الاستعمار ومصالحه. فقد أصبح يكفي في ترويج أي مذهب فاسد في تأويل الإسلام -كما لاحظ جب في كتابه (Mode r n T r ends in Islam) أن يقال: إنه يوافق رأي فلان أو فلان من هؤلاء الأعلام. ويكفي في التشهير بأي رأي سليم أن يُنسب إلى ضيق الأفق، الذي لا يلائم ما اتصف به هذا أو ذلك من سعة الأفق والسماحة وصحة الفهم لروح الإسلام، على ما تزعمه الدعايات. وليس مهماً أن يكون ذلك عن حسن قصد منهم أو عن سو قصد، وليس مهماً أن يكون الاستعمار هو الذي استخدمهم لذلك، ووضع على ألسنتهم وأقلامهم هذه المذاهب والآراء، أو أن تكون هذه الآراء قد نشأت بعيدة عن حضانته ورعايته، ثم رآها نافعةً له، فاستغلها وعمل على ترويجها. المهم في الأمر هو أن المجد الذي ينسب لهؤلاء الأفراد ليس من صنعهم ولا هو من صنع الشعوب التي عاشوا فيها، ولكنه من صنع القوى التي استخدمتهم أو التي تريد أن تستغلهم، سواء كانت هذه القوى هي الاستعمار أو هي الصهيونية العالمية بمختلف وسائلها وأجهزتها.
وخطة الاستعمار والصهيونية العالمية في ذلك كانت تقوم -ولا تزال- على السيطرة على أجهزة النشر التي نسيمها الآن (الإعلام)، وإلقاء الأضواء من طريقها على كتاب ومفكرين من نوع خاص، يُبْنَون ويُنَشَّؤن بالطريقة التي يُبْنى بها نجوم التمثيل والرقص والغناء، بالمداومة على الإعلان عنهم، والإشادة بهم، وإسباغ الألقاب عليهم، ونشر أخبارهم وصورهم. وذلك في الوقت الذي يُهمل فيه الكتاب والمفكرين الذين يصورون وجهات النظر المعارضة، أو تشوَّه آراؤهم وتُسفَّه، ويُشهَّر بهم. ثم هي تقوم على تكرار آرائهم آناً بعد آن لا يملون من التكرار؛ لأنهم يعلمون أنهم يخاطبون في كل مرة جيلاً جديداً، أو هم يخاطبون الجيل نفسه، فيتعهدون بالسقي البذور التي ألقوها من قبل"
قلت: وهذا كلامٌ نفيس من رجل خبر القوم، يحق لأهل الإسلام أن يتأملوه ؛ فيتثبتوا من خطواتهم .
ويقول رحمه الله متحدثاً عن رأسي العصرانية في هذا الزمان: الأفغاني وعبده، وهو حديث ينطبق على مدرستهما : "كان من وراء الأفغاني ومحمد عبده كليهما قوتان كبيرتان تعملان على ترويج آرائهما، وإعلاء ذكرهما، وهما: الماسونية -قمة الأجهزة الصهيونية السرية- والاستعمار. وقد نجحت هاتان القوتان في تدعيم زعامتهما الفكرية والدينية في المجتمع الإسلامي كله، وفي إضعاف أثر أعدائهما الكثيري العدد من علماء الإسلام المعاصرين، وحجب ما كتبوه عن جمهور القراء، فلم يمض على موت محمد عبده أكثر من ربع قرن حتى أصبح الأزهر -موطن المعارضة الأصيل لمحمد عبده وللأفغاني- عامراً بأنصارهما الذين يحملون لواء الدعوة إلى (التجديد) وإلى (العصرية)"
3- تشجيعهم ودعمهم في تولي المناصب المهمة:
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "وقد ظل أصدقاء محمد عبده وأنصار دعوته يكثرون بما يلقون من تشجيع الإنكليز، الذين كانوا يمكنون لهم في إدارات الحكومة وفي مناصب الدولة الكبرى"
ويقول اللورد كرومر: "إنني قدمت لمحمد عبده كل تنشيط استطعته مدة سنين كثيرة، ولكنه عمل شاق، فضلاً عن العداء الشديد الذي كان يلاقيه من المسلمين المحافظين، كان لسوء الحظ على خلاف كبير مع الخديو، ولم يتمكن من البقاء في منصب الإفتاء، لولا أن الإنكليز أيدوه بقوة"
وأما سعد زغلول فقد اختاره اللورد كرومر -كما سبق- وزيراً للمعارف . وكان سعد يقول عن اللورد كرومر -كما في مذكراته- : "كان يجلس معي الساعة والساعتين، ويحدثني في مسائل شتى كي أتنور منها في حياتي السياسية"!
وبعد وفاة محمد عبده استمر الدعم لتلاميذه وتياره الذي تمثل في حزب "الأمة". يقول أحد الباحثين الأجانب: "لقد تلقى حزب الأمة عونًا حقيقياً وأكيدًا من اللورد كرومر"
العصرانية والعلمانية وجهان لعملة واحدة !
من تأمل جيدًا أهداف وأفكار (العصرانيين) وجدها نفسها أهداف وأفكار (العلمانيين)، وإنما الفارق شكلي: وهو أن (العصرانيين) قدموا أفكارهم بعد أن غلفوها وألبسوها اللباس (الشرعي)، وأما (العلمانيون) فلم يفعلوا هذا.
فالطائفتان تلتقيان في نهاية الأمر حول أهداف واحدة: كالتقارب بين الأديان، والدعوة للديمقراطية الغربية، والتهوين من شأن الحكم بما أنزل الله، والتحايل على إسقاط أحكام الشريعة؛ لاسيما الحدود، والدعوة إلى تحرير المرأة.. الخ.(14/151)
لهذا: فإن عقلاء الباحثين ممن ينظرون إلى مآل الأفكار لا حاضرها؛ سواء كانوا من الإسلاميين أم من غيرهم لم يخفَهم هذا الالتقاء بين الطائفتين، ورأوا أن الطائفة العصرانية إنما هي بوابة وقنطرة للعلمانية، وأنه لا مكان في جميع الأفكار التي طرحوها للون الرمادي الذي يزعمون أنهم يتبنونه، وأنه وسط بين الأبيض والأسود، فهذا اللون -في الحقيقة- لا يوجد إلا في الأذهان، أما في أرض الواقع فلا مجال إلا بالتزام أحكام الإسلام وهو اللون الأبيض، أو اللحاق بركب العلمانيين، وهو اللون الأسود. ومن ادعى أنه سيسير بينهما فهو واهم، وعن قريب هو صائر إلى أحدهما كما حدث لتلاميذ المدرسة العصرانية؛ حيث انضم أكثرهم إلى العلمانية (الخالصة)، وتراجع قلة منهم عندما عرفوا مصير السير وراء الأفكار التوفيقية الرمادية؛ كرشيد رضا .
1- يقول الدكتور محمد جابر الأنصاري واصفاً وضع المدرسة العصرانية: "فالحاصل إن إدخال الأفكار الوافدة -بعد تشذيبها- ضمن المركب التوفيقي لا يضمن أنها ستبقى دون تأثير خطير، وأنها ستظل منضبطة بالحدود الاعتقادية الدينية. فهي نظراً لكونها جزيئات من حضارة أخرى ذات محتوى اعتقادي مغاير، فإنها تحتفظ في باطنها بطبيعتها الأصلية الخاصة المعدية، والمباينة للطبيعة الإسلامية، وتتحرك -بوعي أو دون وعي من التوفيقيين (أي العصرانيين) الذين قبلوها بشروطهم وضوابطهم- تتحرك حسب منطقها الذاتي وقوانينها الحركية الوافدة معها من كيانها الحضاري الأول، إلى أن تخلق دينامية مستقلة تؤثر على المركب الفكري التوفيقي كله وتوجهه وجهة جديدة لم تكن في حسبان التوفيقيين في البداية، أو تخل بالمعادلة كلها لتشق طريقها في تيار متميز خارج مجرى التوفيق. هذا إذا لم تنشطر التوفيقية إلى نقيضيها نتيجة لذلك.
وهذا ما يفسر خروج أشهر العلمانيين في الفكر العربي مثل لطفي السيد وطه حسين من تحت العباءة التوفيقية للشيخ محمد عبده"
2- ويقول ألبرت حوراني عن محمد عبده: "كان يريد أن يقيم سدًا في وجه الاتجاه العلماني يحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد قد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليها إلى العالم الإسلامي؛ لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى العلمانية"
3- ويقول الدكتور محمد كامل ضاهر: "أعطى الشيخ محمد عبده تشجيعاً كبيراً للعلمانيين ومنطلقاتهم الفكرية، بل إنهم اعتمدوا على الكثير من آرائه لدعم اتجاهاتهم وحركتهم في مجتمع مشبع بالقيم والتقاليد الدينية الراسخة. فماذا يطلب العلمانيون أكثر من رأيه في السلطتين الزمنية والدينية؟! ونظرته إلى العقل، ودوره في تنظيم شؤون الحياة والمجتمع؟ ورأيه في المرأة وفي كثير من المسائل المالية والاجتماعية التي اجتهد فيها لمصلحة الأمة والوطن والفقراء من الناس، وليس للمصالح الفردية؟. وإذا صح أن معظم ما كتبه قاسم أمين عن المرأة هو من بنات أفكار عبده فذلك يعني أن الرجل أصبح في أخريات عمره مشبعاً بالأفكار العلمانية الغربية ومتحمساً لها، حتى أنه كان في طليعة الدعاة لإنشاء الجامعة الأهلية المصرية التي افتتحت عام 1908. لقد تركزت استراتيجيته الحقيقية على إحياء حقائق الإسلام على ضوء الفكر الحديث، وعلى جعل الأخلاق قاعدة الحياة الاجتماعية والفكرية الجديدة في مصر، دون أن يحاول استئصال الماضي أو إحيائه كلياً، بل اعتمد هذا الماضي كأساس لبناء مجتمع متطور توفره ثقافة الغرب العقلية وعلومه الحديثة.
وإذا كان عبده قد حاول أن يكون سدًا منيعاً أمام العلمانية المادية التي حملها المهاجرون الشوام المسيحيون إلى مصر، فإن ما طرحه من أفكار تنويرية جعل معظم العلمانيين المسلمين يتخذون من أفكاره سلاحاً يدافعون به عن معتقداتهم الهادفة إلى علمنة كاملة للمجتمع الإسلامي العربي، وفي طليعتهم قاسم أمين وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وزملاؤه في حزب الأمة"
4- ويقول النصراني (جب) عن محمد عبده: "إن ما أثر على نفوس قرائه العلمانيين: تلك الروح التي عالج بها مسائل العقيدة والتطبيق؛ لاسيما القوة التي حارب بها التعليم التقليدي"
5- ويقول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى في كتابه (تاريخ مصر السياسي) عن محمد عبده وتلاميذه بأنهم: "كانوا أكثر فعالية من كل العلمانيين الصرف" !
6- ويقول الأستاذ نعيم عطيه : "ولا شك في أن محمد عبده لعب دوراً رئيسياً في محاولة التوفيق بين المبدأ الديني والعلم، وبذلك أعطى العقل سندًا قوياً منتصراً له على التقليد. وفتح في الخط الديني الملتزم ثغرة كبرى أتيح بفضلها للتيار العلمي أن يدخل حلبة الصراع الفكري ويثبت أقدامه قوة قائمة بذاتها. وكان طبيعياً بالتالي أن يتحول التيار العلمي على صعيد العمل السياسي البحت إلى دعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة" .(14/152)
7- ويقول الشيخ سفر الحوالي : "لم يكن محمد عبده علمانياً، ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوربية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي، واتخذها جسرًا عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي، وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية. وهو قائم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً. أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار (الشيخ) الإصلاحية مبررًا نفسيًا لتقبلها للتغيير العلماني"
8- ويقول الشيخ ناصر العقل عن محمد عبده وتلاميذه: "لهم آراء ومناهج ليست علمانية (صريحة) لكنها في سبيل العلمنة"
9- ويقول الدكتور سعيد الزهراني: "لقد تركت أفكار محمد عبده أثرها على تلاميذه، ومن جاء بعده، بل لقد عظمت حتى وصلت إلى الصراحة بموافقة الفكر الغربي العلماني"
10- ويقول الشيخ محمد بن إسماعيل : "لقد كان محمد عبده يريد أن يقيم سدًا في وجه التيار العلماني اللاديني ليحمي المجتمع الإسلامي من طوفانه، ولكن الذي حدث هو أن هذا السد أصبح قنطرة للعلمانية عبرت عليه إلى العالم الإسلامي لتحتل المواقع واحدًا تلو الآخر، ثم جاء فريق من تلاميذ محمد عبده وأتباعه فدفعوا نظرياته واتجاهاته إلى أقصى طريق العلمانية اللادينية:
رام نفعاً فضر من غير قصد ** ومن البر ما يكون عقوقا"
11- ويقول الأستاذ محمد حامد الناصر بعد دراسته لأفكار العصرانيين : "حقيقة العصرانية: دعوة إلى العلمانية" ثم ذكر أقوالاً لبعض العصرانيين الأحياء؛ كحسن حنفي ومحمد عمارة يصرحون فيها بتبني العلمانية.
12- ويقول الدكتور عبد الرحمن الزنيدي: "لقد كان من آثار خبو وهج العلمانية في البيئات الإسلامية أن تقمص بعض أتباعها رداء الإسلام؛ ليتحركوا تحت رايته بعلمانيتهم بأسماء مختلفة؛ كالإسلام التقدمي، وفكر الإستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي…"
العلمانيون يدعمون العصرانيين!!
لقد عرف العلمانيون حقيقة أفكار العصرانيين، وأنها نفس أفكارهم، ولكنها تجد القبول من سُذج المسلمين نظراً لواجهتها الإسلامية، وكونها تستتر خلف الشيخ!! فلان، والداعية!! علان، بخلاف أفكارهم العلمانية الصرفة، ولهذا فقد تترسوا بهم، ووجدوا فيهم خير مطية يمتطونها لاختراق المجتمعات الإسلامية التي لم تجد العلمانية فيها موطئ قدم، وجعلوهم طليعة لهم في غزو تلك المجتمعات وخلخلتها بطرح الأفكار المتنوعة المناسبة لهم، التي ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وكسر هيبة كبار العلماء، وشق وحدة الصف فيها؛ ليسهل عليهم بعد ذلك التمكن منها.
ولهذا كله: فلا تعجب إن سمعت أو قرأت بأن فلاناً (العصراني) يُكال له المديح من جماعة العلمانيين، ويُصدر مجالسهم وندواتهم، وتُفتح له وسائلهم، ويكتب في صحفهم؛ لأن الجميع قد التقوا على أهداف واحدة؛ فانطبق عليهم قوله تعالى (ربنا استمتع بعضنا ببعض… الآية) .
ودعم العلمانيين للعصرانيين يكون بالآتي:
1-إفساح المجال لهم ليبثوا أفكارهم عبر الوسائل الإعلامية التي يسيطرون عليها في مقابل تهميشهم لأهل الإسلام من دعاة الكتاب والسنة، الثابتين على الحق، غير المتلونين أو المتذبذبين.
2-المبالغة في مدحهم ووصفهم بصفات الاعتدال والوسطية وسعة الصدر للآخرين….الخ. مع لمز أهل الإسلام ودعاة الكتاب والسنة بضيق الأفق، والتحجر!، وعدم قبول الآخر!!..الخ
فعلى سبيل المثال: هذا (العلماني) الشهير الدكتور جابر عصفور في كتابه "هوامش على دفتر التنوير" يهاجم علماء ودعاة الكتاب والسنة من أمثال الشيخ ابن باز -رحمه الله- والدكتور عوض القرني وغيرهم. ثم في المقابل يكيل المديح لمحمد عبده وتلاميذه ويختم مديحه قائلاً: "إن كرامة هذه الأمة في التاريخ قد أخذت في الضياع حين ضاعت الحرية العقلية والحرية السياسية والحرية الاجتماعية، وحين لم نبدأ من حيث انتهى إليه أمثال طه حسين وأحمد زكي أبو شادي، وحين قمعنا العقل بالتقليد، والشك بالتصديق، وحين استبدلنا بأمثال الشيخ محمد عبده ومحمد فريد وجدي قوماً آخرين" قلت: وهذا من قبيل "ليس حباً في علي وإنما بغضاً لمعاوية"!
ويقول في مقدمته لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق: "وبقي الكتاب نفسه وثيقة رائعة من وثائق التنوير، وثيقة تعلمنا أننا ننتمي إلى تراث عظيم، وأن لنا من المشايخ ما نفخر به: رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وأمثالهم، هؤلاء هم الذين ننتهي إليهم، وهؤلاء هم الذين أسهموا في صنع وعينا الحديث وإيماننا الراسخ بالدولة المدنية وبالمجتمع المدني، وهؤلاء هم الذين علمونا أن لا تناقض ولا تعارض بين الدين والدولة المدنية التي تسعى إلى التقدم، أو بين رجل الدين والمجتمع المدني الذي يتسلح بالعلم، ويبني مستقبله بهذا العلم، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المشايخ العظام أقرانهم من الأفندية دعاة التنوير، أدركنا أن ما تقوم عليه نهضتنا وثقافتنا أقوى وأعظم من أن يتأثر بأية هبة من هبات الإظلام"!!(14/153)
3-عدم السماح لأحد بنقدهم أو النيل منهم، بل إحاطتهم بهالة من القداسة المصطنعة .
يقول الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله: "ومن شاء أن يعرف المكان الصحيح والقيمة الحقيقية لمحمد عبده وللأفغاني أن ينظر في الصحف اليومية والمجلات الدورية وفي كتب الكتاب اللبراليين الذين لا يسمحون بأن يُمس أي منهما، والذين يهاجمون بفظاظة وشراسة كل من يمسهما من قريب أو بعيد، مع أن هذه الصحف والمجلات والكتاب لا يُعرفُ عنهم غيرة على الإسلام في غير هذا الموضع، بل إنهم لا يثورون حين يُمس رسول الإسلام r وأصحابه، ويرون أن ذلك مما تسعه حرية الفكر واختلاف الرأي، بل إنهم يلتزمون التزاماً دقيقاً أن لا يُذكر اسم محمد عبده إلا مقروناً بلقب (الإمام)، ويذكرون اسم الرسو صلى الله عليه وسلم مجرداً، ويستكثرون إذا ذُكر الرجل من أصحابه أن يقولوا "سيدنا فلان" أو يُتبعوه، كما تعود المسلمين أن يقولوا في الدعاء له: رضي الله عنه"
4-التحسر عليهم وتكريمهم حتى بعد مماتهم !
وقد سبق تحسر العلماني جابر عصفور على أئمة العصرانية.
ويشهد لهذا ما قام به العلمانيون في مصر من تأبين لمحمد عبده بعد وفاته، وعمل حفلة خاصة به في الجامعة المصرية؛ لتعداد مآثره!
نهاية العصرانية :
لقد قام العصرانيون بمهمتهم خير قيام، ثم اختفوا بعد أن عبَّدوا الطريق لطلائع العلمانيين الذين تولوا قيادة المجتمع المسلم بعد أن تمت خلخلته من قِبَل أفراد التيار العصراني؛ فقطفت الجماعة العلمانية بقيادة (جمال عبد الناصر وإخوانه) الثمرة بعد حين، عند سقوط الملكية في مصر ، فقاموا -أخزاهم الله- بتنفيذ مخططات الغرب في علمنة وتغريب المجتمع المسلم علانية ودون خفاء.
أما العصرانيون بعد ذلك فلا تُحس منهم أحدًا أو تسمع لهم ركزا ؟! لقد اختفوا من الساحة يندبون حظهم ويجرون أذيال الخيبة والذل الذي أورثوه قومهم عندما جعلوا منهم لقمة هنيئة لبني علمان، فهل من معتبر ؟
نتائج مهمة :
أولاً: أن العداوة بين المسلمين والغرب (اليهودي النصراني) مستمرة إلى يوم القيامة؛ بنصوص الكتاب والسنة. قال تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) وقال: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وقال: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً).. إلى غير ذلك من الآيات.
ثانياً: أن الغرب الكافر استغل تأخر المسلمين واصطدامهم بحضارته المادية في صنع العصرانية ليتخذها وسيلة لمسخ بلاد المسلمين.
ثالثاً: أن لجوء بعض الإسلاميين للثورة والتهييج قادهم بعد فشل مشروعهم المخالف للكتاب والسنة إلى الارتداد للفكر العصراني؛ لأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومخالفة له في الوجهة. ولو لزم هؤلاء المسلك الشرعي منذ البداية لما تورطوا في تبني طرفي النقيض: التهييج ثم العصرنة .
رابعاً: قام بعض الإسلاميين -وقد يكون ذلك عن حسن نية منهم وبسبب تقصير بعض العلماء - بكسر هيبة كبار العلماء، وتنفير الشباب منهم؛ مما أدى بالشباب إلى الإنصراف عن علمائه ولجوئه -تعويضاً للمرجعية- إلى غيرهم من أهل الطموح السياسي، قليلي العلم والورع، ممن قد لا يرتضيهم ذلك البعض من الإسلاميين الذين يحق فيهم المثل العربي: (يداك أوكتا وفوك نفخ).
يقول الشيخ مصطفى صبري عن الشيخ العصراني محمد عبده: "لما أراد النهوض بالأزهر حارب علماءه القدماء، وفض المسلمين وخصيصًا الشباب المتعلمين من حولهم، حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى، فأصبح بفضل النهضة التي نادى بها الشيخ محمد عبده يقول رجل مثل الدكتور زكي مبارك "الرسالة" عدد 572: "نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة (يريد بهم علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين" .
خامساً: أن تقصير كبار العلماء -إما في مكافحة الانحراف أو التصدي لقضايا المسلمين أو للظلم ونحو ذلك- ليس مسوغًا لصرف الشباب المسلم عنهم؛ لأنهم -أي الشباب- كما سبق سيلجئون إلى غيرهم من أهل الزيغ الذين يفوق زيغهم وانحرافهم تقصير أولئك العلماء الكبار . إنما كان الواجب على دعاة الإسلام أن يوثقوا العلاقة بعلمائهم ويربطوا الشباب بهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويشدوا من أزرهم في الوقوف صفًا واحدًا أمام أعداء الإسلام ممن يريد خلخلة المجتمع المسلم ويستغل بخبث هذا الفصام بين الفئتين المؤمنتين. قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
سادساً: أن الطائفة العصرانية لابد لها من (شيخ) متزود بالعلم الشرعي -الذي يحجزه عن كثير من انحرافاتهم- تقف وتتترس وراءه! أما بدون هذا (الشيخ) فإنها لن تفلح في مسعاها؛ لعدم قبول المسلمين لها؛ نظرًا لضحالتها الشرعية وزيغها الواضح.
وقد كان هذا (الشيخ) يتمثل في محمد عبده.(14/154)
يقول الأستاذ بسطامي سعيد: "نلمح عند محمد عبده بعض ملامح المنهج العصراني؛ من صرف القرآن عن غير معانيه الظاهرة أحياناً؛ بحجة أنها تمثيل وتصوير، ورد للسنة الصحيحة أحياناً لمعارضتها ما يظن أنه علوم العصر، واستخدام المنهج التاريخي لمعالجة قضايا وأحكام الشريعة وربطها بظروف وملابسات مؤقتة. وإذا كانت هذه النزعات عند محمد عبده نزعات ضعيفة ومصغرة، ربما بحكم ثقافته الأزهرية، إلا أنها قد تركت آثارها في تلامذته من بعده، فتضخمت في مجموعة منهم، وصارت مضاعفة مكبرة"
سابعاً: أن هذه الفئة المتترسة خلف (الشيخ) العصراني، لن تكتفي باجتهادات (شيخها)، أو تقف عند الحدود التي حدها لهم ويرى أن في تجاوزها خطرًا على دينهم؛ نظرًا لمعرفته بالنصوص الشرعية! بل ستتجاوزها وتتخطاها باجتهادات كثيرة لا خطام لها ولا زمام؛ لأنه لا ضابط لهم حينها؛ نظرًا لضحالتهم الشرعية. لاسيما وقد استفادوا من (شيخهم) العصراني روح التجديد! والاجتهاد! وتجاوز الأعراف والتقاليد!… الخ زخارف القوم.
ولقد تنبه أحد الأذكياء (وهو المنفلوطي) إلى خطورة هذا الأمر في دعوة شيخه العصراني محمد عبده فخص هذا بمقالة جميلة تخيل فيها أنه استمع إلى حوار بين شيخه محمد عبده وقاسم أمين في عرصات يوم القيامة ! فتأمل ماذا دار بينهما.
يقول المنفلوطي: "وبينما أنا أحدث نفسي بهذا الحديث، وأقلّب النظر في وجوه تلك المواعظ والعبر، إذ قال لي صاحبي: أتعرف هذين؟ وأشار إلى رجلين واقفين ناحية يتناجيان: أحدهما شيخ جليل أبيض اللحية، وثانيهما كهل نحيف قد اختلط مبيضه بمسودّه، فما هي إلا النظرة الأولى حتى عرفت الرجلين العظيمين(!!) رجل الإسلام "محمد عبده" ورجل المرأة "قاسم أمين" فقلت لصاحبي: هل لك في أن ندنو منهما ونسترق نجواهما من حيث لا يشعران؟ ففعلنا، فسمعنا الأول يقول للثاني: ليتك يا قاسم أخذت برأيي وأحللت نصحي لك محلاً من نفسك، فقد كنت أنهاك أن تفاجئ المرأة المصرية برأيك في الحجاب قبل أن تأخذ له عدّته من الأدب والدين، فجنى كتابك عليها ما جناه من هتك حرمتها وفسادها وتبذُّلها وإراقة تلك البقية الصالحة التي كانت في وجهها من ماء الحياء، فقال له صاحبه: إني أشرت عليها أن تتعلم قبل أن تسفر، وأن لا ترفع بُرقُعها قبل أن تنسج لها برقعاً من الأدب والحياء، قال له: ولكن فاتك ما كنت تنبّأت به من أنها جاهلة لا تفهم هذه التفاصيل، وضعيفة لا تعبأ بهذا الاستثناء، فكنت كمن أعطى الجاهل سيفاً ليقتل به غيره، فقتل نفسه.
فقال: أتأذن لي يا مولاي أن أقول لك: إنك قد وقعت في مثل ما وقعت فيه من الخطأ، وإنك نصحتني بما لم تنتصح به، أنا أردت أن أنصح المرأة فأفسدتها كما تقول. وأنت أردت أن تحيي الإسلام فقتلته، إنك فاجأت جهلة المسلمين بما لا يفهمون من الآراء الدينية الصحيحة والمقاصد العالية الشريفة، فأرادوا غير ما أردت: وفهموا غير ما فهمت. فأصبحوا ملحدين، بعد أن كانوا مخرفين، وأنت تعلم أن ديناً خرافياً خير من لا دين . أوَّلت لهم بعض آيات الكتاب فاتخذوا التأويل قاعدة حتى أولوا الملك والشيطان والجنة والنار! وبيّنت لهم حكم العبادات وأسرارها وسفّهت لهم رأيهم في الأخذ بقشورها دون لبابها، فتركوها
جملة واحدة! وقلت لهم: إن الولي إله باطل، والله إله حق؛ فأنكروا الألوهية حقها وباطلها، فتهلل وجه الشيخ وقال له: ما زلت يا قاسم في أخراك، مثلك في دنياك، لا تضطرب في حجة، ولا تنام عن ثأر"
ثامنًا : أن المستفيد من نشوء العصرانية هو الغرب وإذنابه من العلمانيين المنافقين ، وأهل البدع . والخاسر هو المجتمع المسلم، ودعاة الإسلام وولاة الأمور. وهذا واضح.
شبهة وجوابها :
قد يقول قائل : نحن معك في أن الفكر العصراني خطرٌ على الإسلام وأهله، وأن المستفيد الوحيد منه هم الأعداء (كفارًا وأهل بدع ومنافقين) كما رأينا في الحالة المصرية، ولكن: ألا ترى بأن انتشار هذا الفكر المتميع والمتمسح بالإسلام يخدم ولاة الأمور ؛ حيث يحققون من خلاله بعض ما يريدون من المشاريع والأفكار الاجتماعية (لا سيما المتعلقة بالمرأة!) التي لن يتقبلها المجتمع المسلم؛ لأنه يرى تعارضها مع أحكام الإسلام، ولكنه يقبلها إذا ما تحلت بالزي الشرعي الذي سيُلبسه إياها أولئك العصرانيون، فيستفيد ولاة الأمور تمرير هذه المشاريع والأفكار التي يرون في قبول المجتمع المسلم لها تخفيفًا من ضغوط أعداء الإسلام عليهم ؟! .
ولهذا كله سيقوم ولاة الأمور بدعم هذه الفئة العصرانية والتمكين لها، وتصديرها، وتهميش من يعارضها !
فأقول : الجواب عن هذه الشبهة يكون بفهم هذه الأمور:
أولاً: أن صاحب الشبهة جزم بأن ولاة الأمور يريدون تحقيق بعض المشاريع والأفكار الإجتماعية التي تخالف أحكام الشرع. وهذا سينازعه فيه آخرون يرون خلاف ذلك ومعهم من الأدلة أضعاف مامعه ، والأصل إحسان الظن .(14/155)
ثانياً : أن صاحب هذه الشبهة لم يفهم العصرانية حق الفهم ! وظن أن طموح أصحابها هو مجرد تحقيق بعض المشاريع والأفكار في المجال (الاجتماعي) فقط، ناسيًا أو متغافلاً أن هذا الفكر لا يقتصر على هذا المجال وحده؛ بل يزامله أو يفوقه المجال السياسي والاقتصادي ، وما تجربه عصرانيي مصر عنا ببعيد. حيث كانت معظم جهودهم منصبة على المجال السياسي، أما غيره فيأتي تبعاً له؛ مع ملاحظة أن تلك المجالات تأتي متكاملة في منظومة هذا الفكر الذي خلاصته "تطويع الإسلام في جميع المجالات بما يناسب العصر" .
ولهذا : فمن يريد قبول أفكار ومشاريع العصرانيين في المجال (الاجتماعي) دون غيره من المجالات فهو واهم؛ لأن هذا أمر لن يتحقق؛ لأن الفكر العصراني لا يمكن تحقيق بعضه دون بعض .
وولاة الأمور لدينا ليسوا سُذجًا أو غافلين عن حقيقة هذا الفكر ومنتهاه.
ثالثا : أن في تجربة العصرانية في مصر عبرة للمعتبرين؛ وعلى رأسهم ولاة الأمور في بلاد المسلمين، حيث تسبب انتشار هذا الفكر في المجتمع إلى تقويضه. وسقوط دولته بعد تنازع أهله واختلافهم، وجرأتهم على حكامهم وعلمائهم، ثم وقوعه تحت سيطرة الأعداء وتهاويه إلى أقصى درجات الذل والمهانة .
فهل يرضى عاقل بمثل هذه النهاية الموجعة لبلاده ؟! (وما ربك بظلام للعبيد).
رابعًا: أن (الفكر العصراني) و(فكر التهييج) وجهان لعملة واحدة ! حيث خرج الفكران عن دعوة الكتاب والسنة ، وجرا على المجتمع المسلم الإنقسامات والتحزبات ، وأضعفا قوته واجتماعه .
فكيف يظن أحد أن ولاة الأمور قد يثقون في أصحاب هذا الفكر (بشقيه ) ، وهذا تاريخهم، وتلك مواقفهم تشهد عليهم بأنهم أصحاب (تقلب) و(تلون) ؟! .
وقارن هؤلاء بالعلماء الكبار من أتباع الكتاب والسنة، من الذين يصدرون في مواقفهم وأفكارهم عن عقيدة سلفية واضحة ثابتة تجاه ولاة أمور المسلمين، حيث يرون ولايتهم ولاية شرعية، ويطيعونهم في غير معصية الله ديانة واتباعًا للنصوص، بخلاف غيرهم من أهل (التهييج) أو (العصرنة) أصحاب (التقلب) و(التلون)، ممن يصدرون في مواقفهم تجاه ولاة الأمر من خلال (المصالح) وما يسمى (التكتيك المرحلي)!
فأي الفريقين أحق بثقة ولاة الأمور وتصديرهم والتمكين لهم ؟! .
يضاف إلى هذا أن كبار العلماء كانوا نعم النصير لولاة الأمور وقت الفتن والملمات، بخلاف غيرهم. فـ(هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) ؟
خامسًا : أن ولاة الأمور -ولله الحمد- في غنية عن أفكار العصرانيين وطموحاتهم التي لا يخفى ضررها على عاقل، وذلك بما فضلهم الله به من قيام دولتهم على الكتاب والسنة، وبما أعانهم به من وجود علماء أجلاء ينيرون لهم الطريق وينبهونهم على ما يعترضهم من عقبات تخالف شرع الله. وما كان من تقصير فإنه يعالج بالنصيحة الشرعية المستمرة، دون (تهييج) أو (عصرنة).
سادساً: أن العاقل يعلم أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء وتبديلها، فالأمور المحرمة والمخالفة لشرع الله لا يمكن أن تنقلب حلالاً وتصير موافقة للشريعة بمجرد تبني العصرانيين لها وادعائهم شرعيتها. فهذا كله ليس مسوغًا لأحد -وعلى رأسهم ولاة الأمور- أن يرتكب تلك الأمور المحرمة ويقرها. وهو ليس معذورًا عند الله تعالى بصنيعه هذا؛ لأن البينة قد جاءته، والحق قد ظهر له
بنصوص الكتاب والسنة وبفتاوى كبار العلماء الموثوق بعلمهم . فهل تظن -مثلاً- أن الربا سيكون حلالاً بمجرد التحايل عليه وتسميته (فائدة) ؟! وقل مثل ذلك في المحرمات الأخرى. لا شك بأن هذا أعظم جرمًا عند الله ممن يقع في هذه المحرمات دون تحايل أو مخادعة لله ولعباده المؤمنين، إنما عن تقصير وتساهل.
سابعاً : أن مواجهة الضغوط المتنوعة على بلاد التوحيد من قبل (اليهود والنصارى) لا تكون بالتساهل والتفريط في أحكام الشريعة؛ لأن عاقبة ذلك ستكون وبالاً على هذه البلاد؛ بسبب أن هذه الضغوط لن تنتهي بمجرد التساهل والتهاون في عدة أمور، بل ستزداد ضراوة وشدة؛ لأن العدو سيطمع في غيرها عندما يرى ذاك الانصياع لمطالبه. "ومن يهن يسهل الهوان عليه" .
فتلك المطالب ستكون نهايتها -والعياذ بالله- قوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
أما الحل الشرعي لهذه الضغوط فيكون بالتالي:
1-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن الله قد أخبرنا عن عداوة اليهود والنصارى لكل من يرفع راية الإسلام، منذ نبينامحمد صلى الله عليه وسلم . وأنهم يتمنون أن يطاوعهم في كفرهم لكي لا يتميز عنهم. قال سبحانه (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) وقال (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم) وقال (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)(14/156)
2-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: بأن الله قد أخبر بأن كل مسلم محكم لشرع الله سيسمع الأذى ويلقى الضغوط من الكفار. قال تعالى (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا). ولكن هذا الأمر -ما لم يستجب له المسلم- سيبقى في دائرة الأذى الذي يصيب كل مسلم مستقيم على شرع الله يحتسب الأجر من الله في سماعه والتعرض له. قال تعالى (لن يضروكم إلا أذى).
3-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن عاقبة الثبات على الحق أمام مثل هذه الضغوط ستكون سعادة وتمكينًا وعزًا نصرًا، وزوالاً لهذه الشدة، وفرجًا لهذا العُسْر. قال تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً) فالمطلوب هو: الصبر على الأذى، والتقوى بلزوم أمر الله، والانتهاء عن معاصيه.
وقال تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا)، وقال (سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا). وهذا الأمر شامل للأفراد وللدول.
4-أن يعلم ولاة الأمور -وفقهم الله-: أن الاستجابة لضغوط الأعداء ومداهنتهم -ولو في أمر يسير- هو مما يسبب سخط الله وتسليطه العذاب والذل على من يسارع في رضا عدوه على رضاه سبحانه وتعالى.
قال سبحانه محذرًا من هذا الأمر الشنيع: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)
قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا . فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله".
وقال سبحانه: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين). وقال: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق).
وقا صلى الله عليه وسلم : "من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" .
5-أن يتأمل ولاة الأمور -وفقهم الله-: حال من تابع الأعداء من الدول الإسلامية طالبًا رضاهم، وخائفاً من سخطهم، كيف تسلطوا عليه، وأذلوه واستباحوا حرمته، وأفقدوه حريته.
فخسر آخرته بمسارعته في رضا الكفار على حساب دينه. وخسر العيش السعيد العزيز بتحكم العدو في بلاده وتسلطهم عليه وإن كان يتخيل له خلاف ذلك!! فهو كما قال تعالى (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين).
أما من حكم شرع الله واستقام وثبت عليه، ولم يأبه بضغوط العدو وتخويفه فإن عاقبته حميدة في الدنيا والآخرة، على هذا جرت سنن الله تعالى "ومن يتصبر يصبره الله".
أسأل الله أن يثبت ولاة أمورنا على الحق، وأن يوفقهم للبطانة الصالحة، ويجنبهم البطانة الفاسدة.
نصيحة أخيرة لكلٍ من :
1-علماء الإسلام ودعاته: بأن يحذروا تسلل الأفكار العصرانية إلى عقولهم ولو لم يكن ذلك عن تقصد منهم، وأن يثبتوا على الحق دون تنازلات أو مداهنة لأحد، وأن يكونوا ممن قال الله فيهم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) قال ابن كثير: "استمروا على ما عاهدوا الله عليه، وما نقضوه، كفعل المنافقين".
وأن تكون مواقفهم مشرفة وقت الملمات التي تمر بالأمة، مبرئة لذمتهم أمام الله؛ لكي لا يلجأ الشباب إلى غيرهم -كما سبق-.
وأن يحذر بعض الدعاة بتستره على أهل العصرنة، ومجاملته لهم، والشد من أزرهم، أن يكون داخلاً في قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله من آوى محدثًا" قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "والإحداث يشمل الإحداث في الدين؛ كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة وغيرهم.. فمن آوى محدثًا فهو ملعون، وكذا من ناصرهم"
2- شباب الإسلام: بأن يلزموا الراسخين في العلم ويلتفوا حولهم، ويناصحوهم في تقصيرهم، ويَحْذروا ويُحَذّروا من المتلبسين بالفكر العصراني المفسد، مهما حاولوا التضليل عليهم أو مخادعتهم بترويجه بينهم.
3- ولاة الأمور: بأن يقضوا على هذا الفكر المتسلل إلى بلاد التوحيد قبل أن يستفحل، فيكون وبالاً على بلادهم؛ وذلك بالتمكين لأهل العلم ودعاة الكتاب والسنة، وتصديرهم، وتمكينهم من توجيه الشباب، والاستماع إلى نصحهم.
وأن يعلموا أنه لا عز لهم ولا تمكين، ولا أمن، إلا بالثبات على دعوة الكتاب والسنة، دون تفريط أو تتبع لأهواء العصرانيين وانحرافاتهم .
أسأل الله أن يحمي بلادنا من الفتن، وأن يرد الكيد عنها، ويثبتها على الحق، ويباعد بينها وبين معاصيه. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
سليمان بن صالح الخراشي
==============(14/157)
(14/158)
العلمانية (أسباب ظهورها ،آثارها ,عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي ,أبرز دعاتها)
كتبه
بندر بن محمد الرباح
عضو الدعوة والإرشاد بالقصيم
المقدّمة
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى
آله وأصحابه وسلم . …
…
أما بعد:
فإنه لما كان المسلمون يجمعهم كتاب ربهم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتجمعهم سنة رسول صلى الله عليه وسلم كانوا أمة واحدة قوية وعزيزة ورائدة.
ولكن لما اتصلت هذه الأمة بالأمم الأخرى ذات الأنماط الحضارية المختلفة، فإن هذه الأمة قد تأثرت بكيد أعدائها من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والملاحدة حتى أصبح المتأثرون بفكر أولئك الأعداء أمة داخل الأمة الإسلامية.
وما لذلك من سبب سوى البعد عن منهج الله الذي أنزله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم هداية ونوراً وإخراجاً للناس من الظلمات إلى النور.
وهذا البحث يتناول جانباً مهما وخطيراً من جوانب هذا التيار الفكري الذي وفد على الأمة الإسلامية واستهدف إبعادها عن عقيدتها وربطها بالفكر المهيمن في هذا العصر البعيد عن هدي الله ومنهج رسوله (.
وهذا التيار الذي نحن بصدد الحديث عنه، هو تيار "العلمانية" ذلك المصطلح الغربي الذي يوحي ظاهره أن طريقة الحياة التي يدعو إليها تعتمد على العلم وتتخذه سنداً لها ليخدع الناس بصواب الفكرة واستقامتها. حتى انطلى الأمر على بعض السذج وأدعياء العلم فقبلوا المذهب منبهرين بشعاره، وقد أوصلهم ذلك إلى البعد عن الدين بعداً واضحاً.
هذا وقد جعلت البحث في مقدمة وفصلين وخاتمة:
المقدمة : وفيها أهمية الموضوع وخطة البحث.
الفصل الأول: تعريف العلمانية وأسباب ظهورها، وآثارها في الغرب وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف العلمانية.
المبحث الثاني: أسباب ظهور العلمانية.
المبحث الثالث : آثار العلمانية في الغرب
الفصل الثاني: في عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي وأبرز دعاتها وآثارها على العالم الإسلامي
وفيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول: عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي
المبحث الثاني : أبرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
المبحث الثالث: آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي
الخاتمة : وفيها أهم نتائج البحث.
------------
الفصل الأول:
تعريف العلمانية وأسباب ظهورها
وآثارها في الغرب وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعريف العلمانية.
المبحث الثاني: أسباب ظهور العلمانية.
المبحث الثالث : آثار العلمانية في الغرب
المبحث الأول: تعريف العلمانية.
العلمانية تبدو لأول وهلة للناظر فيها كلمة عربية مشتقة من العلم, بل هي مبالغة تشير إلى الاهتمام بالعلم والعلماء, ولا غبار على هذا - لو كان على ظاهره - من الوجهة الإسلامية حيث اهتمام الإسلام بالعلم والعلماء, ولكنها حينما تكون وسيلة من وسائل الغرب لتغريب المسلمين فإن الأمر يصبح غير ذلك, إذ لا تبقى على ظاهرها لفظاً ومعنى, وإنما تكون ترجمة عربية للفظ أجنبي له مدلوله الخاص, ولذلك أجمع الكثير من رواد الفكر الإسلامي على أن " العلمانية " ترجمة للكلمة الإنجليزية ( سيكولاريتي Secula r ity ) أي لا ديني, أو غير عقيدي, ونستنتج من ذلك أن العلمانية تعني اللادينية(1).
جاء في معجم ألفاظ العقيدة: أن العلمانية تأتي لمعان منها: العالمية, ومنها اللادينية. ومنها فصل الدين عن الدولة وعن الحياة.
وكلمة العلمانية اصطلاح جاهلي غربي مشير إلى انتصار العلم على الكنيسة التي حاربت التطور باسم الدين (2).
وهي على هذا كلمة مضللة خادعة ابتدعها الغرب لصرف الناس عن الاهتمام بالآخرة كما تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة: هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحياة الدنيا فقط, وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر.
وفي معجم ويبستر الشهير: العلمانية: " رؤية للحياة أو أي أمر محدد يعتمد أساساً على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها", ومن ثم فهي نظام أخلاقي اجتماعي يعتمد على قانون يقول: " بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعاشة والرفاهية الاجتماعية دون الرجوع إلى الدين"(3).
____________________
1- صور من مواقف العلمانية في محاربة الإسلام عن طريق التعليم. حسن ملا عثمان ص172-173 بحث مقدم إلى مجلة كلية العلوم الاجتماعية بالرياض, جامعة الإمام - العدد السابع 1403هـ
2- معجم ألفاظ العقيدة, ص286.
3- جذور العلمانية. د. السيد أحمد فرج, ص105
وهي من خلال النصين السابقين دعوة صريحة إلى نبذ الدين والاهتمام بالحياة وإسقاطه من الحسبان وإقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أو للفرد, وآن للأمة أن تعمل وللفرد أن يعمل ما تشاء وما يشاء دون التفات لأوامر الدين ونواهيه حسب ما يمليه الواقع المادي سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو التربوية (1)(14/159)
والتعبير الشائع في الكتب الإسلامية المعاصرة هو " فصل الدين عن الدولة ", وهو في الحقيقة لا يعطي المدلول الكامل للعلمانية الذي ينطبق على الأفراد وعلى السلوك الذي قد لا يكون له صلة بالدولة, ولو قيل أنها " فصل الدين عن الحياة " لكان أصوب, ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو " إقامة الحياة على غير الدين " سواء بالنسبة للأمة أو للفرد, ثم تختلف الدول أو الأفراد في موقفها من الدين بمفهومه الضيق المحدود: فبعضها تسمح به, كالمجتمعات الديمقراطية الليبرالية, وتسمي منهجها " العلمانية المعتدلة " أي أنها مجتمعات لا دينية ولكنها غير معادية للدين, وذلك مقابل ما يسمى " العلمانية المتطرفة "أي المضادة للدين, ويعنون بها المجتمعات الشيوعية ومشاكلها.
ومن هذا يتضح لنا أنه لا علاقة لكلمة العلمانية بالعلم، وإنما علاقتها قائمة بالدين على أساس سلبي وهو نفي الدين عن مجالات الحياة: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية... الخ.
_____________________________
1- العلمانية نشأتها وتطورها. سفر بن عبد الرحمن الحوالي, ص24.
المبحث الثاني
أسباب ظهور العلمانية في الغرب
هناك أسباب كثيرة أدت إلى ظهور العلمانية في الغرب كان من أبرز هذا الأسباب
ما يلي:
أولاً: طغيان رجال الكنيسة:
لقد عاشت أوروبا في القرون الوسطى فترة قاسية، تحت طغيان رجال الكنيسة وهيمنتهم، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم، وإرضاء شهواتهم، تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الأمة الساذجة، ثم اضطهادهم الشنيع لكل من يخالف أوامر أو تعليمات الكنيسة المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى لو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهد العلمية.
وقد شمل هيمنة الكنيسة النواحي الدينية، والاقتصادية، والسياسية، والعلمية، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرفاتهم وصاية لا نظير لها على الإطلاق وسنعرض إلى شيء من ذلك بإيجاز:
أ - الطغيان الديني:
إنَّ الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وإن عيسى عبد الله ورسوله، قد تحول في عقيدة النصارى إلى إيمان باله مثلث يتجسد،أويحلُّ بالإنسان ذي ثلاثة أقانيم (الأب والابن ورح القدس).
وذلك أنه منذ مجمع نيقية سنة 325م والكنيسة تمارس الطغيان الديني والإرهاب في أبشع صوره، ففرضت بطغيانها هذا عقيدة التثليث قهراً، وحرّمت ولعنت مخالفيها، بل سفكت دماء من ظفرت به من الموحدين، وأذاقتهم صنوف التعذيب وألوان النكال.
وتتفق المصادر على أن اليد الطولى في تحريف العقيدة النصرانية تعود إلى بولس "شاؤل" اليهودي، وهو الذي أثار موضوع ألوهية المسيح لأول مرة مدعياً أنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
أما العبادات فقد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حمّلها النصارى مفاهيم غيبية، وفسّروها بأن لها أسراراً مقدسة، وجعلوا لها طقوساً تُمارس في مناسباتها، ويجب احترامها والتقيد بها.
وأما الأحكام التشريعية فمعظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهى تُحلّلُ وتُحرِّم من غير أن يكون لها مستند من الشرع.
ونصّبت الكنيسة نفسها عن طريق المجامع المقدسة "إلهاً" يُحلُّ ويُحرِّمُ، ينسخُ ويضيف، وليس لأحد حق الاعتراض، أو على الأقل حق إبداء الرأي كائناً من كان، وإلا فالحرمان مصيره، واللعنة عقوبته؛ لأنه كافر.
ومن أمثلة الأحكام التي غيرتها الكنيسة الختان حيث أنه كان واجباً فأصبح حراماً، وكانت الميتة محرمة فأصبحت مباحة، وكانت التماثيل شركاً ووثنية فأصبحت تعبيراً عن التقوى، وكان زواج رجال الدين حلالاً فأصبح محظوراً، وكان أخذ الأموال من الأتباع منكراً فأصبحت الضرائب الكنسية فرضاً لازماً، وأمورٌ كثيرة نقلتها المجامع من الحل إلى الحرمة أو العكس دون أن يكون لديها من الله سلطان، أو ترى في ذلك حرجاً.
وأضافت الكنيسة إلى عقيدة التثليث عقائد وآراء أخرى تحكم البديهة باستحالتها ولكن لا مناص من الإيمان بها والإقرار بشرعيتها على الصورة التي توافق هوى الكنيسة.
ومن أمثلة ذلك التعميد وتقديس الصليب وحمله وعقيدة الخطيئة الموروثة وصكوك الغفران والحرمان وحياة الرهبنة(1)
إلى غير ذلك من العقائد والمبتدعات النصرانية التي فرضتها الكنيسة على أتباعها، وكل هذه العقائد واضح بطلانها بحمد الله في العقيدة الإسلامية، وإنَّ ديناً من هذا القبيل هو مقطوع الصلة بما أنزل الله تعالى من الحق، وغير صالح لأن يكون له سلطان على العقول البشرية.
ب- الطغيان المالي:
إن المتأمل في الأناجيل - على الرغم من تحريفها - يجد أنها لم تنه عن شيء كنهيها عن اقتناء الثروة والمال.
جاء في إنجيل متى: "لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم "(2).
وجاء في إنجيل مرقص: "مرور جملٍ من ثقب إبرةٍ أيسر من أن يدخل غنيٌ إلى ملكوت الله" (3).
___________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 128-132.
2- متى 10 :10-11
3- مرقص 10:22(14/160)
إلا أن القرون التالية قد شهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقعها العملي، حتى صار جمع المال والاستكثار من الثروات غاية لديهم، فتهالك رجال الدين على جمع المال والإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات.
ويمكن إيجاز مظاهر الطغيان الكَنَسِيّ في هذا المجال فيما يلي:
1-الأملاك الإقطاعية:
يقول ديورانت: "أصبحت الكنيسة أكبر ملاك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان دير "فلدا" مثلاً يمتلك(15000) قصر صغير، وكان "الكوين فيتور" أحد رجال الدين سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض،.
وكانت أملاكها المادية، وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين ومصدراً للجدل والعنف بين الأباطرة والبابوات".
2-الأوقاف:
كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً للكنيسة، بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة، وبناء الكنائس، وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي "ويكلف" - وهو من أوائل المصلحين -: "إن الكنيسة تملك أراضي إنجلترا وتأخذ الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف واتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله".
3-العشور:
فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة (العشور) وبفضلها كانت الكنيسة تضمن حصولها على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئاً من ذلك فالشعب خاضع تلقائياً لسطوتها .
4- الهبات والعطايا:
وكانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات التي يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة. وقد قويت هذه الدوافع بعد مهزلة صكوك الغفران، إذ انهالت التبرعات على الكنيسة، وتضخمت ثروات رجال الدين تضخماً كبيراً.
هذا. ولا ننسى المواسم المقدسة والمهرجانات الكنيسية التي كانت تدرُّ الأموال الطائلة على رجال الكنيسة؛ فمثلاً في سنة1300م عقد مهرجان لليوبيل واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما بلغ من انهيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس.
5- العمل المجاني "السخرة":
لم تقنع الكنيسة بامتلاك الإقطاعيات برقيقها وما يملكه بعض رجال الدين من آلاف الأرقاء، بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، ولاسيما بناء الكنائس والأضرحة وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملوا بالمجان لمصلحتها مدة محدودة، هى في الغالب يَوْمٌ واحِدٌ في الأسبوع، ولا ينالون مقابل ذلك جزاءً ولا شكورا (1).
وبهذا يتبين لنا أن الانحراف والفساد الديني والاجتماعي قد وصل على يد الكنيسة النصرانية ورجالها وتعاليمها المزيفة إلى حد لم يعد يتحمله الناس ولا تطيقه فطرة البشر، حيث شقيت أوروبا برجال الدين الدجالين، وبتسلطهم ونفوذهم باسم الدين، وباسم الرب.
ج-الطغيان السياسي:
أما الطغيان السياسي فقد بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أوجها، حتى كان باستطاعة البابا أن يتوج الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره، وأن يحرمهم من الدين، وأن يحرم شعوبهم الذين يوالونهم، ولايستجيبون لأوامر الخلع البابوية.
ثانياً: الصراع بين الكنيسة والعلم:
الصراع بين الدين والعلم مشكلة من أعمق وأعقد المشكلات في التاريخ الفكري الأوروبي إن لم تكن أعمقها على الإطلاق.
وذلك أن الكنيسة كانت هي صاحبة السلطة طوال القرون الوسطى في أوروبا حتى قامت النهضة العلمية هناك.
وفي هذه الأثناء وقعت الحروب الصليبية بين المسلمين والأوروبيين،واستمرت طوال القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلادي،واحتك الصليبيون خلالها بالمسلمين ووقفوا عن كثب على صفات الإسلام وروعته في جميع مجالات العلوم والفنون، في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها، حيث كانت المدارس
____________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 138-143.
والجامعات المتعددة في كل مكان في بلاد المسلمين، يؤمها طلاب العلم ومنهم الأوروبيون الذين وفدوا يتعلمون من الأساتذة المسلمين، وترجمت بعض الكتب إلى اللغة الإنجليزية.فلما عاد أولئك الأوروبيين الذين تأثروا بنور الإسلام وعرفوا أن الكنيسة ورجالها عملة مزيفة، ووسيلة للدجل والتحكم الظالم في عباد الله، أخذ هؤلاء يقاومون الكنيسة ودينها المزيف وأعلنوا كشوفا تهم العلمية والجغرافية، والعلوم الطبيعية التي تحرمها الكنيسة، وعند ذلك قامت قيامة من يُسمون لدى النصارى برجال الدين، واحتدم الصراع، ومكث قروناً بين رجال العلم ورجال الكنيسة، فأخذوا يُكفّرون ويقتلون ويحرقون ويشردون المكتشفين، وأنشأت الكنيسة محاكم للتفتيش لملاحقة حملة الأفكار المخالفة لآرائها وأفكارها.(14/161)
ومكث هذا الصراع عدة قرون، وانتهى بإبعاد الكنيسة ورجالها عن التدخل في نظم الحياة وشئون الدولة، فالدين - بمعنىً أوضح - مهمته داخل جدران الكنيسة فقط ولا داعي لوجوده خارجها، ويكون لرجال الدولة والعلم إدارة شئون الحياة بالأسلوب الذي يناسبهم سواء أكان متفقاً مع مبادئ الدين أم لا ؟!! (1)
وبما أن الدين بصبغته الإلهية النقية لم يدخل المعركة، فإن الأولى أن نسمي ما حدث في أوروبا صراعاً بين الكنيسة والعلم، وليس بين الدين والعلم أو بين رجال الدين والعلماء.
ونظراً لأن الصراع الدامي الطويل قد انتهى بأول انتصار حاسم لأعداء الكنيسة اثناء الثورة الفرنسية فإننا سنتناول ذلك بإيجاز.
ثالثاً: الثورة الفرنسية:
ونتيجة لوضع الكنيسة ودينها المحرف، ووقوفها ضد مطالب الناس، دبّر اليهود مكايدهم لاستغلال الثورة النفسية التي وصلت إليها الشعوب الأوروبية، لاسيما الشعب الفرنسي.. فأعدوا الخطط اللازمة؛ لإقامة الثورة الفرنسية الرامية إلى تغيير الأوضاع السائدة، وفي مقدمتها عزل الدين النصراني المحرف الذي حارب العلم عن الحياة، وحصره في داخل الكنيسة وإبعاد رجالها عن التحكم الظالم.
وفعلاً قامت الثورة الكبرى عام (1789م) واستطاع اليهود أن يجنوا ثمرات
____________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص133-136 .
عملهم على حساب آلام الشعوب، والدماء التي أهرقت من جرائها، واستطاعوا أن يظلوا في الخفاء بعيداً عن الأضواء، وأن يزوروا كثيراً من الحقائق التاريخية؛ لستر مكايدهم وغاياتهم، واستطاعوا أن يصوروا هذه الثورة وما جرّت وراءها بالصورة الجميلة المحببة، وأن يجعلوها إحدى الأعمال التاريخية المجيدة، وذلك عن طريق الدعايات والإشاعات المزخرفة المقرونة بالشعارات البراقة التي انخدع بها الناس، وأخذت ترددها دون أن تفهم الهدف الذي ترمي إليه.
ووضع اليهود شعاراً مثلثاً لهذه الثورة هو "الحرية، والمساواة، والإخاء".
أما أصل مخططات هذه الثورة فقد وضعها جماعة النورانيين من الحاخامين اليهود، واستخدموا للبدء بالدعوة إليها بين سادة المال اليهود العالميين، الثري المرابي الكبير "روتشيلد الأول" ثم ابنه "ناتان روتشيلد".
ومما يدل على أن الثورة الفرنسية هي من صنع اليهود وتدبيرهم ماتتبجح به بروتوكولاتهم فتقول: "تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها "الكبرى"إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا جيداً لأنها من صنع أيدينا".
وتقول: "كذلك كنا قديماً أول من صاح في الناس "الحرية، والمساواة والإخاء" كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كل مكان حول هذه الشعائر.
وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الخطورة، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية، لادينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب - وليس باسم الله - وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلاً من قرارات الكنيسة.
وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها فقد حلت الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات، وصادرت أموال الكنيسة،وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة...
وقد سرت الثورة إلى كل الغرب؛ لأنه لا يدين بالإسلام دين العلم والحق والعدل.
رابعاً: نظرية التطور:
في سنة 1859م نشرالباحث الإنجليزي "تشارلزداروين"كتابه "أصل الأنواع"(1) الذي يركز على قانون الانتقاء الطبيعي وبقاء الأنسب، وقد جعلت نظريته كون
___________________________
1- ترجمه للعربية إسماعيل مظهر
الجد الحقيقي للإنسان جرثومة صغيرة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، والقرد مرحلة من مراحل التطور التي كان الإنسان آخرها فاحدث ذلك ضجة لم يحدثها أي مؤلف آخر في التاريخ الأوروبي قاطبة، وكان له من الآثار في المجالات الفكرية والعملية مالم يكن في الحسبان.
وهذه النظرية أدت إلى انهيار العقيدة الدينية، ونشر الإلحاد في أوروبا، وقد استغلها اليهود استغلالاً بشعاً.
وقد قال أحد العلماء الغربيين في النظرية الداروينية: بـ "بإنَّها أبوها الكفر وأمها القذارة".(1)
والنظرية الداروينية باطلة بكتاب الله تعالى وبسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، وباطلة بجميع الكتب السماوية، وباطلة بإجماع المسلمين في كل زمان ومكان،
وباطلة بالعقل الصحيح، وبالفطرة السليمة من الشذوذ والانحراف.
فبنو آدم وجميع الحيوانات والطيور، وجميع مافي البراري والبحار، من آلاف السنين وهي على ما هي عليه لم تتغير أشكالها ولا أسماؤها.
ومذهب داروين باطل؛ لعدم مشاهدة أي ارتقاء من أي نوع من مخلوقات الله، فمن الذي عاش آلاف السنين حتى شاهد تغير الإنسان من خلية إلى حشرة إلى حيوان إلى قرد كما يزعم داروين، وهو الذي لم يعش سوى أقل من 75 سنة.
قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}.(14/162)
والنظرية باطلة بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} فالله تعالى إنما أهبط من الجنة أدمياً يعقل ولم يهبط حشرة ثم صارت حيواناً لا يعقل ثم صار قرداً (2).
____________________________
1- مذهب النشوء والارتقاء ص 23 وما بعدها
2- أنظر نشأة العلمانية ودخولها إلى المجتمع الإسلامي . د/ محمد العرمابي , ص48 وما بعدها .
خامساً: دور اليهود :
وليس غريباً بعد الذي تقدم - كما جاء في الثورة الفرنسية - أن يكون اليهود وراء الدعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وذلك من أجل السيطرة، ومن أجل إزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض.
هذه أهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهور هذا الفكر الجاهلي، والذي هيمن على أوروبا كلها، وأصبح يحمل شعارات الإلحاد والفوضى الأخلاقية عناداً للكنيسة ورجالها.
والحق أَنَّ هذه الأسباب وتلك الظروف ليست مبررة لابتعاد النصارى وغيرهم عن الدين.
وفكرة أن العلم لا صلة له بالدين وأن الدين يحارب العلم، هي الفكرة السائدة في الغرب طيلة القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر الميلاديين، ومع إطلالة القرن
العشرين بدأت بوادر التفاهم والمصالحة بين رجال الكنيسة والاتجاه الجاهلي، وانتهت بتنازلات كبيرة من الطرفين إلى أن دخلت الأحزاب الدينية النصرانية مجالات السياسة في بعض الدول الغربية.
المبحث الثالث :
آثار العلمانية في الغرب
على الرغم من أن الحضارة العلمانية الغربية قد قدمت للإنسان كل وسائل الراحة وكل أسباب التقدم المادي، إلا أنها فشلت في أن تقدم له شيئاً واحداً وهو السعادة والطمأنينة والسكينة، بل العكس قدمت للإنسان هناك مزيداً من التعاسة والقلق والبؤس والتمزق والاكتئاب، وذلك لأن السعادة والسكينة أمور تتعلق بالروح، والروح لا يشبعها إلا الإيمان بخالقها، والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي جعل الطمأنينة والوقار في قلوب المؤمنين الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما أطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت، زادهم إيماناً مع إيمانهم.
وكيف تنزل السكينة في قلوب أناس أقاموا حضارتهم على غير أساس من الإيمان بالله تعالى وشرعه ؟
بل الذي يحصل لهم هو مزيد من القلق والتعاسة والضيق والخوف يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام": يقول : "يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به".
وبهذا يتبين لنا حالة القلق الرهيب التي تعيشها المجتمعات التي تسير على غير هدى الله وشرعه، على الرغم من تقدمها المادي، ووصولها إلى أرقى أساليب التقنية الحديثة.
وهذا ما أيده الواقع الملموس في البلاد التي ابتعدت عن شرع الله، فالإنسان إنما يكون في حالة طيبة نفسياً وبدنياً عندما تقوى صلته بالله تعالى، ويلتزم بأوامره ويجتنب نواهيه.
ولذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "في القلب شعث - أي تمزق وتفرق - لا يلمهُ إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبداً" (1).
إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الغربية كان - ولا يزال - من أهم الأسباب التي أدت إلى الإفلاس والحيرة والضياع.
وإن مما نتج عن ذلك مما هو مشاهد وملموس ما يلي:
1- الولوغ والانغماس في المشروبات الروحية والإدمان على المخدرات.
2- الأمراض العصبية والنفسية.
3- الجرائم البشعة بمختلف أنواعها كالسرقات، والاغتصاب، والشذوذ الجنسي، والقتل وغيرها.
4- تأجيج الغرائز الجنسية بين الجنسين.
5- انتشار الأمراض المخيفة كالزهري، والسيلان، وأخيراً يبتلي الله تلك المجتمعات بالطاعون الجديد وهو مرض "الإيدز".
6- الانتحار.
إن الغرب يعيش حياة الضنك والقلق، فلا طمأنينة له ولا راحة، ولا انشراح لصدور أهله، بل صدورهم في ضيق وقلق وحيرة، وما ذلك إلا لضلالهم وبعدهم عن الله، وإن تنعموا ظاهراً في الحياة الدنيا.
قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}
________________________
1- مدارج السالكين ج3/ص164
الفصل الثاني:
في عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي(14/163)
وأبرز دعاتها وآثارها السيئة على العالم الإسلامي
وفيه ثلاث مباحث:
المبحث الأول: عوامل انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي
المبحث الثاني : أبرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
المبحث الثالث: آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي
المبحث الأول
عوامل انتقالها إلى العالم الإسلامي
بدأت فكرة العلمانية تغزو العالم الإسلامي منذ زمن طويل لكنها لم تتمكن إلا في بداية القرن العشرين الميلادي، حين طبقت - على مستوى الدولة - على أنقاض الخلافة العثمانية ثم سرت إلى أكثر بلدان العالم الإسلامي وكانت هناك عدة عوامل رئيسية ساعدت على ظهور انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي أهمها:
أولاً: انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة:
بسب انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة، كثرت البدع والخرافات والشعوذة والأهواء وقلَّ الفقه في الدين
بينهم ومن انحراف بعض المسلمين عن عقيدتهم ظهور الفرق الصوفية
بينهم، وكان من الأخطاء الأساسية في الفكر الصوفي النظرة العدائية إلى الحياة الدنيا تلك التي يبدو أنها متأثرة بالفكر البوذي والفلسفات المنحرفة.
وحدث أن أقبل العامة بقيادة المتصوفين على الطقوس والأوراد. وهذا الخلط الصوفي الأحمق يعتبر أول تصدع أصاب كيان الأمة الإسلامية، وهذا الانحراف العقدي وقع قبل احتكاك الغرب اللاديني بالشرق، بل قبل قيام الدولة العثمانية، وفي آخر عهد العثمانيين ازداد الأمر سوءاً وتطورت الانحرافات حتى توهم الناس أن العبادة هي ما يأمر به المشايخ والأولياء من البدع، ووقعت الأمة في شرك حقيقي، وذلك بما يمارسه الناس من بدع الأضرحة والمشاهد والمزارات، وتقديس الموتى والاعتماد عليهم في جلب النفع ودفع الضرر، ووصل الأمر إلى حالة مزرية جداً حين كانت جيوش المستعمرين تقتحم المدن الإسلامية، والمسلمون يستصرخون بالأسياد أو الأولياء الذين قد مضى على وفاتهم مئات السنين.
ومن ذلك قول بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر… لوذوا بقبر أبي عمر
وقال:
عوذوا بقبر أبي عمر… ينجيكم من الضّرر (1)
_________________________
1- تغريب العالم الإسلامي سعيد القحطاني ص 122
ولذلك يقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عنهم:
"وأما الجهاد فالغالب عليهم أنهم أبعد من غيرهم، حتى نجد في عوام المؤمنين من الحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحبة والتعظيم لأمر الله، والغضب والغيرة لمحارم الله، مالا يوجد فيهم، حتى إِنَّ كثيراً منهم يعدون ذلك - أي الجهاد - نقصاً في طريق الله وعيباً" (1).
بل ربما يظنون أن الذكر والتفكر والفناء والبقاء هو الأصل والأهم".
ثانياً: الاستعمار للعالم الإسلامي :
لقد تعرض العالم الإسلامي لهجمات قوية من قبل أعدائه عبر عصور التاريخ، ولكن لما كان المسلمون متمسكين بدينهم وأكثر استعداداً للجهاد في سبيل الله، استطاعوا أن يردوا حملات أعدائهم، ولكن لما ضعف المسلمون وكثرت فيهم البدع والخرافات واجتالتهم الطرق الصوفية، ولجأ بعضهم إلى التعلق بالقبور والتمسح بها والذبح لها ودعاء الموتى، واستسلم بعضهم إلى ملذات الدنيا، والبعض الآخر بدأ يتشبث بالأفكار الوافدة، وقعدوا عن الجهاد، بعد ذلك انقض عليهم الأعداء من كل جانب ولم تنته الحربان العالميتان
إلا وكثير من البلدان الإسلامية تحت سيطرت الاستعمار ولم يكن مخطط الاستعمار أن يستغل خيرات تلك البلاد ويستعبد سكانها فحسب - كما يظن البعض - بل كان أهم مخطّطاته محاربة الإسلام، وتجهيل المسلمين بحقيقة دينهم بجميع الوسائل الممكنة له الظاهرة والخفية.
وسوف أذكر أهم الوسائل التي استعملها الاستعمار في محاربة المسلمين:
أ- نشر الثقافة الغربية على نطاق واسع، مع السعي في التخفيف من الثقافة العربية الإسلامية أو القضاء عليها إن أمكن ذلك ولو مع طول الزمن.
ب- تشجيع مدارس التبشير المسيحي، وتدوين مناهجها لكي ينصرف أبناء المسلمين إليها تاركين مدارسهم الإسلامية، وقد نجح في ذلك كله.
ج- تشجيع الطوائف المنحرفة التي تعمل باسم الإسلام في ميدان الدعوة كالقاديانية، وبعض الطوائف الصوفية؛ ليتمكن من ضرب الإسلام ودعوته من الداخل بأيد تنتمي إليه، تلهج بذكره، وهذا أخطر سلاح استعمله الاستعمار ضد الإسلام ودعوته.
_________________________
1- الاستقامة ج1/ص268
هـ- اعتبار اللغة الإنجليزية لغة رسمية في كثير من البلدان العربية والإسلامية، مما جعل شباب المسلمين يقبلون على هذه اللغة في الوقت الذي يجهلون فيه لغتهم الأصلية، بل استطاع الاستعمار أن يحمل الشباب السذج على كراهية الإسلام وأهله بدعوة أنه دين تعصب، ودين تأخر، وانطلى هذا الكلام على شباب المسلمين؛ لجهلهم حقيقته فضلوا.
وبسبب الاستعمار والتبشير انتشرت المعتقدات العلمانية في العالم الإسلامي.
وقد حرص الغرب منذ وطئت أقدامه أراضي المسلمين على نشر العلمانية بأكثر من سبيل. وكان أهم مجالات نشرها ووسائلها فيما يلي:
1- في التعليم وله في ذلك أكثر من سبيل أهمها:
(أ) حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنوياً.(14/164)
(ب) الابتعاث إلى الدول غير الإسلامية وحقق ذلك الابتعاث نتائجه المقصودة.
(ج) نشر المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية.
(د) تمييع المناهج الإسلامية باسم التطور.
(هـ) نشر الاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم وقد بدأوا بها في الجامعات.
2- في الإعلام والإعلام يخاطب الملايين من الناس ببرامجه، وأكثر هذه الملايين ساذجة تؤثر فيها الكلمة مقروءة أو مسموعة أو منظورة.
3- إبعاد الإسلام عن مجال التطبيق.
ومما يدل على دور الاستعمار في نقل العلمانية إلى البلدان الإسلامية أن أول عمل قام به الإنجليز في الهند هو إلغاء الشريعة الإسلامية، وأول عمل قام به نابليون في مصر هو تعطيل الشريعة الإسلامية، وإحلال القانون الفرنسي محلها، وأول عمل قام به المخطط اليهودي الصليبي في تركيا هو إلغاء الشريعة الإسلامية ثم إعلان تركيا دولة لا دينية (1).
"وأخيراً غادر المستعمرون ديار المسلمين بعد أن خلفوا على تركتهم ورثة مخلصين؛ ليحافظوا عليها، ولأنهم يتمكنون من العمل في صالحهم أكثر مما يتمكنون هم بأنفسهم".
_____________________________
1- مجلة البيان عدد 195ص 41-43
ثالثاً: الغزو الفكري:
وذلك بمحاولة إبعاد المسلمين عن دينهم بوسائل مختلفة، وتحت أسماء خادعة رقيقة مثل: "التغريب، التحديث أو الحداثة، التحضر، التغيير الاجتماعي، وعملت العلمانية في مجالاتها، وشقت طريقها في مجاريها".
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: "الغزو الفكري هو مصطلح حديث يعني مجموعة الجهود التي تقوم بها أمة من الأمم للاستيلاء على أمة أخرى أو التأثير عليها حتى تتجه وجهة معينة.
وهو أخطر من الغزو العسكري؛ لأن الغزو الفكري ينحو إلى السرية، وسلوك المآرب الخفية في بادئ الأمر، فلا تحس به الأمة المغزوة، ولا تستعد لصده والوقوف في وجهه حتى تقع فريسة له، وتكون نتيجته أن هذه الأمة تصبح مريضة الفكر والإحساس، تحبُّ ما يريده لها عدوها أن تحبه، وتكره ما يريد منها أن تكرهه.
وهو داء عضال يفتك بالأمم، ويذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة فيها، والأمة التي تبتلى به لا تحس بما أصابها، ولا تدري عنه؛ ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيراً.." (1).
رابعاً: المستشرقون:
لقد سلك المستشرقون طرقاً عديدة في الوصول إلى أغراضهم ومنها:
1- التدريس الجامعي.
2- جمع المخطوطات العربية وفهرستها.
3- التحقيق والنشر والترجمة .
4- التأليف في شتى مجالات الدراسات العربية والإسلامية، بالإضافة إلى الاشتراك في بعض المجامع اللغوية، والمجامع العلمية في العالم الإسلامي.
والتأليف من أخطر وسائلهم حيث ألفوا كثيراً من الكتب التي تطعن في الإسلام
______________________________
1- مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز
وتتلخص جهود المستشرقين في هذا المجال فيما يلي:
1- الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة.
2- الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه، وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية.
3- الزعم بأن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني.
4- الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.
5- الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي.
6- تشويه الحضارة الإسلامية وتاريخها.
7- تضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي، والزعم بأنها حركات إصلاح.
8- إحياء الحضارات القديمة.
9- اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها.
10- تربية الأجيال تربية لا دينية.
وقد انتشرت هذه المعتقدات مع الأسف في بعض دول العالم الإسلامي (1).
خامساً: المنصّرون:
كما أن للمستشرقين والمنصرين أهدافاً مشتركة لهم وسائل متداخلة، ويمكن القول بأن ميدان المستشرقين الأساسي هو الثقافة والفكر، بينما يركز المنصرون جهودهم في النواحي الاجتماعية والتربوية.
وقد نقل المنصّرون العلمانية من خلال نشراتهم وكتبهم ومن خلال التمثيليات
والأفلام، ومن خلال المدارس المختلفة التي بدأت بالأجنبية، ثم كان تأثيرهم على مناهج التعليم الوطنية.
ووسائل المنصرين في هذا المجال كثيرة جداً نذكر منها:
1- استخدام الطب كوسيلة للتنصير.
2- استخدام أعمال الخير والخدمات الاجتماعية: كإنشاء ملاجئ للأيتام، ومراكز رعاية اجتماعية للفقراء والمحتاجين.
3- استخدام الطلبة وعامة الناس في التنصير.
_______________________________
1- أنظر العلمانية نشأتها وتطورها, ص 545-549
4- استخدام الرشوة.
5- استخدام المكتبات والصحافة.
6- استخدام النوادي والجمعيات.
7- الاهتمام بالمرأة المسلمة وذلك بمحاولة إبعادها عن عقيدتها وإغرائها بتقليد المرأة الغربية.
8- المؤتمرات المشتركة.
9- البعثات الخارجية.
10-إنشاء المحاضن والمدارس والجامعات الأجنبية.
11-استخدام القوة أحياناً (1).(14/165)
إلى غير ذلك من الأساليب التي استخدمها المنصرون في الوصول إلى غاياتهم المكشوفة؛ كبناء الكنائس، وتوزيع الأناجيل، وإقامة الندوات، والاهتمام بإفساد الريف الإسلامي - الذي يتميز عادةً بالمحافظة على القيم الإسلامية - والسيطرة على وسائل التربية والإعلام واستخدامها في سمومهم، وتوهين العقيدة الإسلامية في النفوس، مع صرف العناية إلى الأطفال، والنفاذ إلى عقولهم من خلال تلك الوسائل.
سادساً: الأقليات غير المسلمة داخل المجتمعات الإسلامية:
وذلك كالنصارى، واليهود، والشيوعيين، وأصحاب الاتجاهات المنحرفة من جمعيات وأحزاب ونحوهم، وكل هؤلاء لاينعمون بضلالتهم وانحرافهم وفسادهم إلا تحت شعار كشعار ما يسمى بالعلمانية، لذلك تضافرت جهودهم على نشرها وبثها، والدعاية لها، حتى انخدع بذلك كثيرون من السذج، وأنصاف المتعلمين من أبناء المسلمين.
سابعاً: تقدم الغرب في العلم المادي
إن تقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي والقوة جعل كثيرين
من المسلمين ينبهرون بذلك التقدم، ويعزونه إلى الاتجاه الجاهلي الحديث
_______________________
1- مجلة البيان عدد 195ص 42
(العلماني)، وصدقوا دون تفكير مزاعم الكفار بأن الدين معوق للعلم، وظنوا أن بلادهم لا تتقدم حتى تفصل الدين -الإسلام- عن الدولة والحياة، وهذا بلا شك جهل بالإسلام جنى ثماره النكدة أكثر المسلمين (1).
ثامناً: البعثات إلى الخارج:
إن الطلاب الذين يذهبون من أبناء المسلمين إلى الدول غير الإسلامية، ولم تكن لديهم الحصانة الكافية من عقيدتهم، إن هؤلاء من أخطر الوسائل؛ لأن كثيراً منهم تعلقوا بقيم الغرب أو الشرق ومثله وعاداته، وقد عاد هؤلاء إلى بلدانهم وهم يحملون ألقاباً علمية وضعتهم في مناصب التوجيه، ونظر الناس إليهم على أنهم قدوة؛ لأنهم وطنيون (2).
_______________________
1-مجلة البيان عدد 159ص39
2- العلمانية نشأتها وتطورها, ص 549
المبحث الثاني :
ابرز دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
سوف أذكر إن شاء الله في هذا المبحث بشكل مختصر تاريخ دخول العلمانية إلى عدد من الدول الإسلامية ثم أختمه بذكر بعض دعاة العلمانية في العالم الإسلامي
أولاً : تاريخ دخول العلمانية إلى بعض الدول الإسلامية
1- في مصر : دخلت العلمانية مصر مع حملة نابليون . وقد اشار اليها الجبرتي الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر واحداثها بعبارات تدور حول معنى العلمانية وان لم تذكر الفظة صراحة .أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو نصراني يدعى اليأس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه قال فيه وادخل الخديوي اسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م،وكان هذا الخديوي مفتونا بالغرب ،وكان أمله أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا .
2- الهند: حتى سنة 1791م كانت الأحكام وفق الشريعة الإسلامية ثم بدأ التدرج من هذا التاريخ لإلغاء الشريعة الإسلامية بتدبير الإنجليز وانتهت تماما في أواسط القرن التاسع عشر .
3- الجزائر : إلغاء الشريعة الإسلامية عقب الاحتلال الفرنسي سنة 1830 م
4- تونس : أدخل القانون الفرنسي فيها سنة 1906 م.
5- المغرب : ادخل القانون الفرنسي فيها سنة 1913م.
6- تركيا : لبست ثوب العلمانية عقب إلغاء الخلافة واستقرار الأمور تحت سيطرة مصطفى كمال أتاتورك ، وان كانت قد وجدت هناك إرهاصات ومقدمات سابقة .
7- العراق والشام : الغيت الشريعة أيام إلغاء الخلافة العثمانية وتم تثبيت أقدام الإنجليز والفرنسيين فيها .
ثانياً : من اشهر دعاة العلمانية في العالم العربي الإسلامي
كثر دعاة العلمانية في العالم الإسلامي لكن من أشهرهم
أحمد لطفي السيد ، إسماعيل مظهر ، قاسم امين ، طه حسين ، عبد العزيز فهمي ، ميشيل عفلق ، سوهارتو ، مصطفى كمال اتاتورك ،جمال عبد الناصر ، أنور السادات ( صاحب شعار لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين ) ، د. فؤاد زكريا ، د. فرج فودة وقد اغتيل بالقاهرة ، وغيرهم (1) .
______________________________________________
1- أنظر عدد من المقالات في موقع صيد الفوائد على شبكة الانترنت
المبحث الثالث:
آثار العلمانية السيئة على العالم الإسلامي
وقد كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم.
وسوف أشير إلى بعض الآثار السيئة التي جنتها المجتمعات الإسلامية من تطبيق العلمانية:
1- رفض التحاكم إلى كتاب الله تعالى، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن كافة مجالات الحياة، والاستعاضة عن ذلك بالقوانين الوضعية المقتبسة عن أنظمة الكفار، واعتبار الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية تخلفاً ورجعية.
2- جعل التعليم خادماً لنشر الفكر العلماني
وذلك من خلا ل الطرق التالية:
أ- بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية.
ب- تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن، وتكون في آخر اليوم الدراسي وقد لا تؤثر في تقديرات الطلاب.
ج- منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم وتزييف ضلالاتهم.(14/166)
د- تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل لا تعارضه.
3-إذابة الفوارق بين حملة الرسالة الصحيحة، وهم المسلمون، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد، وصهر الجميع في إطار واحد. فالمسلم والنصراني، واليهودي، والشيوعي، والمجوسي، وغيرهم يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني.
4- نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية وذلك عن طريق:
أ- القوانين الوضعية التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها.
ب- وسائل الإعلام المختلفة التي لا تكل ولا تمل من محاربة الفضيلة ونشر الرذيلة.
ج- محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والمؤسسات.
5- الدعوة إلى القومية أو الوطنية، وهى دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس، أو اللغة، أو التاريخ، أو المكان، أو المصالح، أو المعيشة المشتركة، أو وحدة الحياة الاقتصادية، على ألا يكون الدين عاملاً من عوامل الاجتماع ولمّ الصف، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعدُّ عاملاً من عوامل التفرق والشقاق (1).
ولا شك أَنَّ الفكرة القومية أو الوطنية وفدت إلى ديار المسلمين من الغرب، ولقد كان ظهور هذه الفكرة مصدر شر على جميع المسلمين.
6-الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب وأخذ حضارته دون وعي
ولا تمييز فقد قام بهذه الفكرة كثير من دعاة التضليل للأمة الإسلامية عند ضعف المسلمين وتفرقهم، حيث زعموا أن سبيل التقدم والنهضة، هو السير خلف ركاب الغربيين، والأخذ بمنهجهم وطريقتهم في كل شيء، حتى نكون مثلهم في الحضارة الحديثة، بخيرها وشرها، وما يحمد منها وما يُعاب.
ونتيجة لتلك الدعوات المغرضة من أدعياء الفكر، ذهب كثير من أبناء المسلمين إلى الدول الأوروبية، لإكمال تعليمهم، وغالباً ما يتأثر هؤلاء الطلاب بعادات الغرب وأفكاره (2).
___________________________
1- مجلة البيان عدد 195ص 42
2- -مجلة البيان عدد 195ص42
7- الزعم بأن الشريعة الإسلامية لا تتوافق مع الحضارة الحديثة:
وهذا الزعم جاء نتيجة لاحتكاك أبناء الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية الحديثة، فظنوا - جهلاً - أن الإسلام لا يتوافق مع الحياة العصرية، ولا ينسجم مع متطلبات الإنسان في هذا العصر بل قالوا إن الشريعة الإسلامية
هي السبب في التخلف والرجعية، وأن السبيل إلى التخلص من هذا الداء، والنهوض بالأمة إلى التقدم والحضارة هو نبذ الإسلام وتعاليمه (1).
فهذه بعض الآثار والثمار السيئة والخبيثة التي انتجتها العلمانية في البلاد الإسلامية التي تبنت العلمانية.
"والعلمانيون في العالم الإسلامي يعرفون بالاستهانة بالدين، والتهكم والاستهزاء بالمتمسكين به، كما يعرفون بإثارة الشبهات، وإشاعة الفواحش (كالسكر، والتبرج، والاختلاط المحرم) ونشر الرذائل، ومحاربة الحشمة والفضيلة، والحدود الشرعية، والاستهانة بالسنن، كما يعرفون أيضاً بحب الفساق والكفار والإعجاب بمظاهر الحياة الغربية وتقليدها.
__________________________
1 - العلمانية نشأتها وتطورها, ص 549
الخاتمة
وبعد حمد الله - تعالى - وتوفيقه لي على إتمام هذا البحث المتواضع أود أن ألخص أهم ما اشتمل عليه فيما يلي:
1- إن العلمانية اصطلاح جاهلي، لا صلة له بالعلم، وإنما سماها أعداء الإسلام بذلك إمعانا منهم في التضليل والخداع، وإلا فإن عزل الدين عن العقيدة والشريعة وجميع نواحي الحياة يعني في الإسلام الكفر، والمروق من الدين، وحكم الجاهلية وتعطيل حدود الله وشرعه.
2- إن أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور العلمانية في أوروبا هو التحريف في أصول الدين، وتسلط رجال الكنيسة دينياً، واقتصادياً، وسياسياً، ولا يخفى ما لليهود من دور بارز في ذلك.
3- إن ظروف نشأة العلمانية في أوروبا لا تنطبق على الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وذلك لأنه - بحمد الله - ليس في الإسلام تحريف في مصدر عقيدته، وليس فيه كهنوت، ولا واسطة بين الخالق وخلقه، وأنه لا عصمة لأحد إلا للرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغونه عن الله - تبارك وتعالى -
4- أَنَه ليس في الإسلام صراع أو خصام بين الدين والعلم، بل إن الإسلام يدعو إلى العلم النافع المثمر، ويحث عليه، كما أن الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان ومجتمع ومكان.
5- إن من أسباب انتقال العلمانية إلى العالم الإسلامي انحراف كثير من المسلمين عن العقيدة الصحيحة المستمدة من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وسيطرة الاستعمار الغربي والشرقي على كثير من أقطاره عسكرياً، وثقافياً، واقتصادياً، بالإضافة إلى إعجاب كثير من المسلمين بتقدم الغرب الهائل في مضمار العلم المادي.(14/167)
6- إن إبعاد الدين عن مجالات الحياة في المجتمعات الأوروبية قد حولها إلى الإفلاس والحيرة والضياع، وحياة الضنك وعدم الطمأنينة، وذلك بسبب ابتعادها عن الإيمان بالله - تعالى - وشرعه، كما أنه كان لتسرب العلمانية إلى المجتمعات الإسلامية أسوأ الأثر على المسلمين في دينهم ودنياهم، وذلك لابتعادهم عن نور الكتاب والسنة.
7- إن العلمانية تتعارض مع الإسلام تعارضاً تاماً في شتى المجالات، ولا وجه للمقارنة بينهما على الإطلاق، وذلك لأن الإسلام نظام إلهي شرعه رب الخلق الذي يعلم أحوال عباده، وما يصلح معاشهم، وما يحقق لهم الخير في دنياهم وأخراهم.
والعلمانية هى من وضع البشر وهم يخضعون للأهواء والشهوات، وتتغلب عليهم العواطف البشرية التي تحيد بهم عن الحق والصواب.
هذا، وأسأل الله - تعالى - أن يعزّ دينه ويعلي كلمته، وأن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، ويعافينا من أسباب غضبه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
===============(14/168)
(14/169)
العلمانية .. التاريخ والفكرة
بقلم
د . عوض بن محمد القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
يتردد كثيراً في وسائل الإعلام والمنتديات وعلى المنابر مصطلح " العلمانية " , والقليل من الناس من غير المتخصصين من لديه معلومات دقيقة , أو مفاهيم محددة واضحة عن العلمانية, ولعلي في هذه الكتابة أسهم في بيان وتوضيح وكشف هذه الجوانب عن العلمانية , مع الاعتراف بصعوبة ذلك في الكتابة الصحفية , لما تستدعيه من الاختصار والإيجاز, ولما عودته الصحف للناس من البساطة والخطابية وعدم التوثيق العلمي الأكاديمي المتعارف عليه في الجامعات.
أصل العلمانية ترجمة للكلمة الإنجليزية " secula r ism " , وهي من العلم فتكون بكسر العين , أو من العالم فتكون بفتح العين , وهي ترجمة غير أمينة ولا دقيقة ولا صحيحة , لأن الترجمة الحقيقية للكلمة الإنجليزية هي " لا دينية أو لا غيبية أو الدنيوية أو لا مقدس" , لكن المسوقون الأول لمبدأ العلمانية في بلاد الإسلام علموا أنهم لو ترجموها الترجمة الحقيقية لما قبلها الناس ولردوها ونفروا منها, فدلسوها تحت كلمة العلمانية لإيهام الناس أنها من العلم, ونحن في عصر العلم, أو أنها المبدأ العالمي السائد والمتفق عليه بين الأمم والشعوب غير المنحاز لأمة أو ثقافة .
وكان أول من طرح هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية نصارى بلاد الشام في القرن التاسع عشر , وكان أول من طرح هذا المصطلح - حسب علمي - " إلياس بقطور " وهو نصراني لبناني في معجم (عربي / فرنسي) ثم طرحه بعده " البستاني " في معجميه الذَين ألفهما .
•…العلمانية بضاعة غربية :
لقد نشأت العلمانية في الغرب نشأة طبيعية نتيجة لظروف ومعطيات تاريخية - دينية واجتماعية وسياسية وعلمانية واقتصادية - خلال قرون من التدريج والنمو الطبيعي ، والتجريب والتكامل , حتى وصلت لصورتها التي هي عليها اليوم , وأهم هذه الظروف والمعطيات التي برزت وأنضجت التجربة العلمانية في الغرب هي :
1- طبيعة الديانة النصرانية ومبادئها الأساسية التي تقوم على الفصل بين الدين والدنيا , أو بين الكنيسة والدولة ونظم الحياة المختلفة , فهي ديانة روحية شعائرية لا شأن لها بنظم الحياة وشؤون الحكم والمجتمع , يعبر عن ذلك الشاعر النصراني " دع ما لله لله , وما لقيصر لقيصر " ..! ولهذا فإن النصارى أمماً وشعوباً حين يندفعون للبحث عن تنظيم أمور حياتهم, في العلمانية أو غيرها, لا يشعرون بأي حرج من ناحية دينهم ومعتقداتهم , بل إن طبيعة دينهم تدفعهم لهذا الأمر , ولذلك فإن نشأة العلمانية وانتشارها وسيادتها في المجتمعات الغربية أمر طبيعي .
2- الصراع الذي نشأ بين الكنيسة والكشوف العلمية في جوانب الحياة المختلفة , فعلى الرغم من أن الديانة النصرانية ديانة روحية صرفة إلا أن المؤسسة الكنسية تبنت بعض النظريات العلمية القديمة في بعض العلوم , ثم بمرور الزمن جعلتها جزء من الدين يحكم على كل من يخالفها بالردة والمروق والهرطقة , وحين تطورت العلوم الطبيعية تبين أن الكثير من تلك النظريات كانت خاطئة وخلاف الصواب والحقيقة , وانبرت الكنيسة تدافع عن تلك الأخطاء باعتبارها من الدين , واشتعلت الحرب , وسقط ضحايا التزمت الخرافي والتعصب الأعمى غير المبرر من علماء الطبيعة ما بين مقتول ومحروق ومشنوق , ومارست الكنيسة أقصى درجات القمع الفكري والبدني على معارضيها بزعمها , وجنت الكنيسة على الدين حين صورته للناس دين الخرافة والدجل والكذب , بسبب إصرارها على أن تنسب إليه ما هو منه براء .
وحين تكشفت للناس الحقائق وقامت البراهين القاطعة على صحة أقوال أهل العلم انحازوا للحقيقة ونبذوا الكنسية ودينها ، أو على الأصح ردوا الديانة النصرانية المحرفة إلى أصلها وطبيعتها وحقيقتها ، لا شأن لها بالعلم والحياة والنظم والكشوف ، فكان ذلك دفعة جديدة لسادة العلمانية ، تدعمها الكشوف العلمية والعقول المفكرة ، وقد أدى انتصار العلم في النهاية إلى ثورة علمية وكشوف جغرافية ، فكان أن … :
3- قامت في الغرب حركة اجتماعية فكرية سياسية شاملة نفضت غبار الماضي ، وثارت على كل قديم ، واحتدمت نيران الصراع بين القوى الاجتماعية والسياسية الجديدة والقوى القديمة التي يمثلها الإقطاع وطبقات النبلاء ، وانحازت الكنيسة أيضاً للقوى القديمة ، بينما كانت القوى الجديدة تطالب بالحريات المساواة ، وترفع شعار حقوق الإنسان ، ويدعمها العلم وحقائقه ، وتطور الحياة وسنتها ... فالتفت الشعوب والجماهير حول القوى الجديدة الداعية إلى التقدم الاجتماعي والتطور الفكري والسياسي ، وكان يدعم هذا التوجه ما عاشته الشعوب من ظلم واستغلال بشع في ظل الإقطاع والكنيسة ، وكانت العلمانية اللادينية هي اللافتة والراية التي اجتمعت القوى الجديدة تحتها, وبانتصار هذه القوى انتصرت العلمانية, واندحرت النصرانية وأخذت القوى الجديدة تبشر بعصر جديد يسعد فيه الإنسان، وتحل جميع مشكلاته، ويعم السلام والرفاهية والرخاء جميع الشعوب، وهو ما لم يتحقق إلا بعضه كما سنرى بعد قليل .
•…نتائج العلمانية في الغرب :(14/170)
حين تحرر الإنسان الغربي من سيطرة الكنيسة والإقطاع تحرر من سيطرة الخرافة والدجل والظلم، ورافق ذلك بزوغ فجر التقدم الصناعي والثورة العلمية، وحين أخذت الشعوب الغربية بالنهج العلماني الجديد في إطار المستجدات العلمية والفكرية والسياسية الجديدة كانت نتائج ذلك :
أ- التقدم العلمي الهائل :
إذ أن العقل الغربي الذي كان أسير الأساطير تاريخياً، والخرافة دينياً وعلمياً، تحرر من ذلك كله وانطلق يبحث ويجرب ويفكر ويتقصى ، فأبدع في هذا المجال بما لم تعرفه البشرية في تاريخها، وقدم الغرب للإنسانية من نتائج علمه ثورة صناعية هائلة غيرت وجه الأرض وطبيعة علاقة الإنسان بالبيئة المادية من حوله .
ب- الرخاء الاقتصادي الواسع الذي أصبحت تعيشه الشعوب الغربية ولم تحرمه شعوب العالم الأخرى :
إذ إن منجزات العلم وظفت في العديد من جوانبها لرفاهية الإنسان في ضرورياته من غذاء وكساء وعلاج وسكن وخدمات، بل تجاوز كثير من الشعوب توفير الضروريات إلى التوسع في الكماليات بصورة مميزة لم تعرف لها البشرية مثيلاً في الجملة وبصورة عامة .
ج- الاستقرار السياسي :
واستبعاد صور وأشكال العنف في التعبير عن الآراء والتوجهات السياسية ، وترسيخ آليات وأخلاقيات وقوانين وأعراف للحوار أو الصراع السياسي، وتوفير ضمانات للحريات السياسية في آلياته ووسائله وأساليبه- لا في فلسفته ومحتواه الفكري- أمن وسلام على الشعوب الغربية بعد عصور الدماء والتطاحن والثورات ، وأصبح مثالاً يحتذى من كافة شعوب الأرض ، ويسعى الجميع لاستيراده وتطبيقه باعتباره نهاية التاريخ ، وغاية التطور، وسقف الحضارة الذي لا يمكن تجاوزه .
د- احترام حقوق الإنسان وحرياته :
وبالذات الإنسان الغربي، وبالمفهوم الغربي أيضا للحقوق والحريات، حيث أصبح زعيم أكبر وأقوى دولة في العالم يحقق معه ويحاكم كأي فرد مهما ضعف وتضاءل من شعبه، وبحيث أصبحت السيادة للقانون، ودور السلطة هو حماية القانون وتنفيذه وخدمة الأمة وحمايتها والنزول على رأيها ورغبتها، مع الأخذ في الاعتبار أن المفاهيم الغربية عن حقوق الإنسان والحريات ليست هي المفاهيم الصحيحة ، ولا الأولى والأجدى لحياة الإنسان ، بسبب منطلقاتها المادية الإلحادية الإباحية، لكنها بلا شك تحتوي على قدر لا بأس به من قيم العدل والمساواة والإنصاف بمعايير القوانين الوضعية .
هـ - انتشار الإلحاد بجميع صوره وأشكاله في حياة الغربيين :
نتيجة لهزيمة الكنيسة والدين في مواجهة العلمانية ، مما أدى لتحييد الدين عن شئون الحياة العامة، واقتصاره على الجانب الفردي الاختياري في حياة الإنسان ولأول مرة في تاريخ البشرية تقوم دول وأنظمة ومعسكرات عالمية تتبنى الإلحاد في أشد صوره غلواً وتطرفاً ومادية ، وتصادم فطرة الإنسان , وتصادر ضرورات العقل في الإيمان ومستلزماته تحت شعار تقديس العقل ، وإنما هو تسفيه العقل والعياذ بالله .
و- السيطرة الغربية على شعوب العالم الأخرى ، واستعمارها، واستعبادها ، واستغلال خيراتها ، والتنافس بين الدول الغربية في ذلك :
مما تسبب في قيام حربين عالميتين ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر ، وما زال التهديد قائماً بحرب ثالثة قد تكون سببا في دمار الأرض والقضاء على الحضارة البشرية ومنجزاتها عبر التاريخ, فالغرب نتيجة للثورة العلمية والقوة الاقتصادية والكشوف الجغرافية وتراجع المد الإسلامي في الأندلس وغيرها ، أخذت أساطيله تمخر عباب البحار والمحيطات، وتتسابق للاستيلاء على الممالك والأقاليم، وتقاسمت العالم ، ونهبت ثرواته، واستغلت شعوبه، وصادرت عقائده، وتجاهلت خصائص كل أمة وقيمها وثقافتها، وقامت حروب التحرر المقاومة للاستعمار، وسالت دماء الشعوب أنهاراً، وتم في النهاية جلاء القوى العسكرية الاستعمارية من أغلب بقاع العالم، ولكن بعد أن فرض الغرب رؤيته وأفكاره وأيديولوجيته، وربى على ذلك النخب الفكرية والسياسية في شعوب ما سمي بالعالم الثالث، وسلّمها زمام الأمر من بعده، فواصلت حمل راية العلمانية، وتطرفت في تطبيقها بالحديد والنار كما سترى فيما يأتي من حديث .
ز - العجز عن حل المعضلة الإنسانية التاريخية في غرس اليقين والطمأنينة في نفس الإنسان، والإجابة على تساؤلاته الكبرى المصيرية الملازمة له عبر تاريخه عن حقيقة وجود وبيان ماهيته ورسالته ودوره ووظيفته وإلى أين مآله ومصيره ونهايته .
هذا الأمر الذي كان محور اهتمام المذاهب والفلسفات والمبادئ والنظريات ، وموضوع الملل والنحل والرسالات السماوية هو ما بشرت العلمانية في بداياتها بأنها بالعلم ستصل فيه إلى الإجابات الشافية الكافية وأنه لا مشكلة للإنسان بعد اليوم .
ولكن ها نحن بعد أن عاشت الحضارة الغربية قرابة ثلاثة قرون في ظل العلمانية نرى الإنسان الغربي يعيش مأزقا نفسيا روحياً فكرياً وجودياً أشد عمقاً وتأزماً من مأزقه حين بشرت العلمانية بحل معضلته ، على الرغم من التقدم المادي والرفاه المعيشي الذي يعيشه هذه الأيام وصدق القائل سبحانه ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا ).(14/171)
•…وسائل وطرائق العلمانية من الغرب للشرق:
لقد بزغ نجم العلمانية وعلا شأنه في الغرب في ظل الظروف التي أشرنا إليها ، وقد صاحب ظهورها في الغرب انحطاط وتخلف وهزائم في الشرق، مما أتاح للغرب أن يستلم زمام قيادة ركب الحضارة البشرية بما أبدعه من علم وحضارة ، وما بذله من جهد وتضحية ، فكان أمراً طبيعياً أن يسعى الغرب لسيادة نموذجه الحضاري الذي يعيشه وأن يسوقه بين أمم الأرض لأنه بضاعته التي لا يملك غيرها ، ولأنه أيضا الضمانة الكبرى لبقاء الأمم الأخرى تدور في فلك التبعية له وتكدح في سبيل مدنيته وازدهار حضارته ، وكان تسويق الغرب للعلمانية في الشرق الإسلامي من خلال الوسائل والطرق الآتية :
1- من خلال الاحتلال العسكري الاستعماري :
فقد وفدت العلمانية إلى الشرق في ظلال الحرب العسكرية، وعبر فوهات مدافع البوارج البحرية، ولئن كانت العلمانية في الغرب نتائج ظروف ومعطيات محلية متدرجة عبر أزمنة متطاولة، فقد ظهرت في الشرق وافداً أجنبياً متكامل الرؤى والإيديولوجيات والبرامج ، يطبق تحت تهديد السلاح وبالقسر والإكراه، كمن يصرّ على استنبات نبتات القطب الجليدي في المناطق الاستوائية ، وفي هذا من المصادمة لسنن الله في الحياة ما يقطع بفشل التجربة قبل تطبيقها، لأن الظروف التي نشأت فيها العلمانية وتكامل مفهومها عبر السنين تختلف اختلافاً جذرياً عن ظروف البلدان التي جلبت إليها جاهزة متكاملة في الجوانب الدينية والأخلاقية والاجتماعية والتاريخية والحضارية ، فالشرط الحضاري الاجتماعي التاريخي الذي أدى إلى نجاح العلمانية في الغرب مفقود في الشرق بل في الشرق نقيضة تماماً - و أعني بالشرق هنا الشرق الإسلامي - , ولذلك فلا عجب إن كانت النتائج مختلفة تماماً كما سنرى , وحين نشأت الدولة العربية الحديثة كانت عالة على الغربيين الذين كانوا حاضرين خلال الهيمنة الغربية في المنطقة ومن خلال المستشارين الغربيين أو من درسوا في الغرب واعتنقوا العلمانية ، فكانت العلمانية في أحسن الأحوال أحد المكونات الرئيسية للإدارة في مرحلة تأسيسها وهكذا بذرت بذور العلمانية على المستوى الرسمي قبل جلاء جيوش الاستعمار عن البلاد التي ابتليت بها .
2- من خلال البعثات التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم والتقدم , فعاد الكثير منها بالعلمانية لا بالعلم ، ذهبوا لدراسة الفيزياء والأحياء والكيمياء والجيولوجيا والفلك والرياضيات فعادوا بالأدب واللغات والاقتصاد والسياسة والعلوم الاجتماعية والنفسية ، بل وبدراسة الأديان وبالذات الدين الإسلامي في الجامعات الغربية ، ولك أن تتصور حال شاب مراهق ذهب يحمل الشهادة الثانوية ويلقى به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه ، بعد أن يكون قد سقط إلى شحمة أذنيه في حمأة الإباحية والتحلل الأخلاقي وما أوجد كل ذلك لديه من صدمة نفسية واضطراب فكري ، ليعود بعد عقد من السنين بأعلى الألقاب الأكاديمية ، وفي أهم المراكز العلمية بل والقيادية في وسط أمة أصبح ينظر إليها بازدراء ، وإلى تاريخها بريبة واحتقار ، وإلى قيمها ومعتقداتها وأخلاقها - في أحسن الأحوال - بشفقة ورثاء . إنه لن يكون بالضرورة إلا وكيلاً تجارياً لمن علّموه وثقّفوه ومدّنوه ، وهو لا يملك غير ذلك ، ولئن كان هذا التوصيف للبعثات الدراسية ليس عاماً ، فإنه الأغلب وبالذات في أوائل عصر البعثات ، وما " طه حسين " و" رفاعة الطهطاوي " إلا أمثلة خجلى أمام غيرهم من الأمثلة الصارخة الفاقعة اللون مثل " زكي نجيب محمود" و" محمود أمين العالم " و"فؤاد زكريا" و "عبدالرحمن بدوي" وغيرهم الكثير .. ولئن كان هذا الدور للبعثات العلمية تم ابتداء من خلال الابتعاث لعواصم الغرب فإن الحواضر العربية الكبرى مثل "القاهرة - بغداد - دمشق" أصبحت بعد ذلك من مراكز التصدير العلماني للبلاد العربية الأخرى، من خلال جامعاتها وتنظيماتها وأحزابها وبالذات لدول الجزيرة العربية , وقلّ من يسلم من تلك اللوثات الفكرية العلمانية، حتى أصبح في داخل الأمة طابور خامس ، وجهته غير وجهتها وقبلته غير قبلتها ، وإنهم لأكبر مشكلة تواجه الأمة لفترة من الزمن ليست بالقليلة .
3- من خلال البعثات التبشيرية :
فالمنظمات التبشيرية النصرانية التي جابت العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من شتى الفرق والمذاهب النصرانية جعلت هدفها الأول زعزعة ثقة المسلمين في دينهم ، وإخراجهم منه ، وتشكيكهم فيه ، حتى وإن لم يعتنقوا النصرانية ، وليس أجدى من العلمانية وسيلة لهذا الغرض ، والأمر ليس من باب التخمين والافتراض بل نطقت بهذا أفواههم وخطته أقلامهم ، وإن شئت فارجع إلى كتاب "الغارة على العالم الإسلامي" مثلا ليبين لك ذلك .
وهؤلاء المبشرين : إما من الغربيين مثل "زويمر" و "دنلوب", وإما من نصارى العرب مثل "أديب إسحاق" و "شلبي شميل" و "سلامة موسى" و "جرجي زيدان " وأضرابهم .. ومنهم من كان يعلن هويته التبشيرية ويمارس علمنة أبناء المسلمين "كزويمر"ومنهم من كان يعلن علمانيته فقط ، ويبذل جهده في ذلك "كسلامة موسى"و"شبلي شميل" .(14/172)
4- من خلال المدارس والجامعات الأجنبية :
ففي أواخر الدولة العثمانية وحين سيطر الماسونيون العلمانيون على مقاليد الأمر سمح للبعثات التبشيرية والسفارات الغربية بإنشاء المدارس والكليات، وانتشرت في بلاد الشام والأناضول انتشار النار في الهشيم ، وخرجت أجيال من أبناء وبنات المسلمين أصبحوا بعد ذلك قادة الفكر والثقافة ودعاة التحرير والانحلال . ومن الأمثلة على ذلك الجامعة الأمريكية في بيروت ، والتي في أحضانها نشأت العديد من الحركات والجمعيات العلمانية، وقد سرت العدوى بعد ذلك إلى الكثير من الجامعات والمؤسسات التعليمية الرسمية في العديد من البلاد العربية والإسلامية ، وقد قام خريجوا هذه المدارس والجامعات بممارسة الدور نفسه حين عادوا لبلدانهم أو ابتعثوا للتدريس في بعض البلدان الأخرى ، وإن المتابع لما ينشر من مذكرات بعض العلمانيين في البلاد التي لم تبتلى بهذه المدارس ليتبين له بجلاء ووضوح الدور الكبير الذي قام به العلمانيون العرب من الذين استقدموا للتدريس في تربية طلابهم وإقناعهم بالعلمانية، سواء من خلال التنظيمات الحزبية أو من خلال البناء الفكري الثقافي لأولئك الطلاب .
5- من خلال الجمعيات والمنظمات والأحزاب العلمانية :
التي انتشرت في الأقطار العربية والإسلامية، مابين يسارية وليبرالية وقومية وأممية وسياسية واجتماعية وثقافية وأدبية، بجميع الألوان والأطياف وفي جميع البلدان, حيث أن النخب الثقافية في غالب الأحيان كانوا إما من خريجي الجامعات الغربية أو الجامعات السائرة على النهج ذاته في الشرق، وبعد أن تكاثروا في المجتمع عمدوا إلى إنشاء الأحزاب القومية أو الشيوعية أو الليبرالية ، وجميعها تتفق في الطرح العلماني ، وكذلك أقاموا الجمعيات الأدبية والمنظمات الإقليمية أو المهنية ، وقد تختلف هذه التجمعات في أي شيء إلا في تبني العلمانية , والسعي لعلمنة الأمة كل من زاوية اهتمامه، والجانب الذي يعمل من خلاله .
ومن الأمور اللافتة للنظر أن أشهر الأحزاب العلمانية القومية العربية إنما أسسها نصارى بعضهم ليسوا من أصول عربية، أمثال "ميشيل عفلق" و"جورج حبش" ، والكثرة الساحقة من الأحزاب الشيوعية العلمانية إنما أسسها يهود مليونيرات أمثال "كوريل".
6- من خلال البعثات الدبلوماسية :
سواء كانت بعثات للدول الغربية في الشرق، أو للدول الشرقية في الغرب، فقد أصبحت في الأعم الأغلب جسوراً تمر خلالها علمانية الغرب الأقوى إلى الشرق الأضعف من خلال الإيفاد ، و من خلال المنح الدراسية وحلقات البحث العلمي، والتواصل الاجتماعي، والمناسبات والحفلات ، ومن خلال الضغوط الدبلوماسية والابتزاز الاقتصادي، وليس بِسِرٍّ أن بعض الدول الكبرى أكثر أهمية وسلطة من القصر الرئاسي أو مجلس الوزراء في تلك الدول الضعيفة التابعة .
7- من خلال وسائل الإعلام المختلفة :
من مسموعة أو مرئية أو مقروءة، لأن هذه الوسائل كانت من الناحية الشكلية من منتجات الحضارة الغربية- صحافة أو إذاعة أو تلفزة - فاستقبلها الشرق واستقبل معها فلسفتها ومضمون رسالتها، وكان الرواد في تسويق هذه الرسائل وتشغيلها والاستفادة منها إما من النصارى أو من العلمانيين من أبناء المسلمين , فكان لها الدور الأكبر في الوصول لجميع طبقات الأمة ، ونشر مبادئ وأفكار وقيم العلمانية ، وبالذات من خلال الفن ، وفي الجانب الاجتماعي بصورة أكبر .
هكذا سرت العلمانية في كيان الأمة ، ووصلت إلى جميع طبقاتها قبل أن يصلها الدواء والغذاء والتعليم في كثير من الأحيان، فكان كما يقول المثل "ضغث على إبالة"، ولو كانت الأمة حين تلقت هذا المنهج العصري تعيش في مرحلة قوة وشموخ وأصالة لوظفت هذه الوسائل الإعلامية توظيفاً آخر يتفق مع رسالتها وقيمها وحضارتها وتاريخها وأصالتها .
8- من خلال التأليف والنشر في فنون شتى من العلوم وبالأخص في الفكر والأدب :
فقد جاءت العلمانية وافدة في كثير من الأحيان تحت شعارات المدارس الأدبية المختلفة، متدثرة بدعوى رداء التجديد والحداثة، معلنة الإقصاء والإلغاء والنبذ والإبعاد لكل قديم في الشكل والمضمون وفي الأسلوب والمحتوى, ومثل ذلك في الدراسات الفكرية المختلفة في علوم الاجتماع والنفس والعلوم الإنسانية المختلفة، حيث قدمت لنا نتائج كبار ملاحدة الغرب وعلمانييه على أنه الحق الطلق، بل العلم الأوحد ولا علم سواه في هذه الفنون . وتجاوز الأمر التأليف والنشر إلى الكثير من الكليات والجامعات والأقسام العلمية التي تنتسب لأمتنا اسماً ولغيرها حقيقة ، وإن كان الأمر في أقسام العلوم الأخرى من طب وهندسة ورياضيات وفيزياء وكيمياء وأمثالها يختلف كثيرا ولله الحمد والمنة ، وهي الأقسام التي وجهها أبناء الأمة الأصلاء ممن لم يتلوثوا بلوثات العلمانية، فحاولوا أن ينقلوا للأمة ما يمكن أن تستفيد منه من منجزات التقدم الغربي مع الحفاظ على هويتها وأصالتها وقيمها .
9- من خلال الشركات الغربية الكبرى التي وفدت لبلاد المسلمين مستثمرة في الجانب الاقتصادي :(14/173)
لكنها لم تستطع أن تتخلى عن توجهاتها الفكرية، وقيمها وأنماط حياتها الاجتماعية ، وهذا أمر طبيعي، فكانت من خلال ما جلبته من قيادات إدارية وعمالة فنية احتكت بالشعوب الإسلامية سبباً مهما في نشر الفكر العلماني وقيمه الاجتماعية و انعكاساته الأخلاقية والسلوكية، ولعل من المفارقات الجديرة بالتأمل، أن بعض البلدان التي كانت تعمل فيها بعض الشركات الغربية الكبرى من أمريكية وبريطانية لم تبتلى بالتنظيمات اليسارية، ولم تنشأ إلا في هذه الشركات في أوج اشتعال الصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الغربي.
•…بعض ملامح العلمانية الوافدة:
لقد أصبح حَمَلة العلمانية الوافدة في بلاد الشرق بعد مائة عام من وفودهم تياراً واسعاً منفذاً غالباً على نخبة الأمة وخاصتها في الميادين المختلفة, من فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية ، وكان يتقاسم هذا التيار الواسع في الجملة اتجاهان :
أ- الاتجاه اليساري الراديكالي الثوري، ويمثله - في الجملة - أحزاب وحركات وثورات ابتليت بها المنطقة ردحاً من الزمن ، فشتت شمل الأمة ومزقت صفوفها ، وجرت عليها الهزائم والدمار والفقر وكل بلاء ، وكانت وجهة هؤلاء الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه، سواء كانوا شيوعيين ، أو قوميين عنصريين .
ب- الاتجاه الليبرالي ذي الوجهة الغربية لأمريكا ومن دار في فلكها من دول الغرب ، وهؤلاء يمثلهم أحزاب وشخصيات قد جنوا على الأمة بالإباحية والتحليل والتفسخ والسقوط الأخلاقي والعداء لدين الأمة وتاريخها .
•…وللاتجاهين ملامح متميزة أهمها :
1- مواجهة التراث الإسلامي ، إما برفضه بالكلية واعتباره من مخلفات عصور الظلام والانحطاط والتخلف - كما عند غلاة العلمانية - ، أو بإعادة قراءته قراءة عصرية - كما يزعمون - لتوظيفه توظيفاً علمانياً من خلال تأويله على خلاف ما يقتضيه سياقه التاريخي من قواعد شرعية، ولغة عربية، و أعراف اجتماعية. ولم ينجو من غاراتهم تلك حتى القرآن و السنة ، إمّا بدعوى بشرية الوحي ، أو بدعوى أنه نزل لجيل خاص أو لأمة خاصة ، أو بدعوى أنها مبادئ أخلاقية عامة ، أو مواعظ ورقائق روحية لا شأن لها بتنظيم الحياة ، ولا ببيان العلم وحقائقه ، ولعل من الأمثلة الصارخة للرافضين للتراث ، والمتجاوزين له "أدونيس" و "محمود درويش" و "البياتي" و "جابر عصفور" ومن لفّ لفهم وشايعهم وهم كثر لا كثرهم الله .
أما الذين يسعون لإعادة قراءته وتأويله وتوظيفه فمن أشهرهم "حسن حنفي" و "محمد أركون"و "محمد عابد الجابري" و "حسين أمين" ومن على شاكلتهم ، ولم ينجُ من أذاهم شيء من هذا التراث في جميع جوانبه .
2- اتهام التاريخ الإسلامي بأنه تاريخ دموي استعماري عنصري غير حضاري ، وتفسيره تفسيراً مادياً ، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغريبة العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة ، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والنهج الإسلامي الرباني ، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها، والإشادة بها ، والثناء عليها ، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة والثورة على الظلم مثل "ثورة الزنج" و "ثورة القرامطة" ومثل ذلك الحركات الفكرية الشاذة عن الإسلام الحق ، وتكريس فكرة مفادها أنها من الإسلام بل هي الإسلام مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال وما شابه ذلك من أمور تؤدى في نهاية الأمر إلى تشويه الصور المضيئة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة، وأجياله المتعاقبة .
3- السعي الدؤوب لإزالة أو زعزعة مصادر المعرفة والعلم الراسخة في وجدان المسلم ، والمسيرة المؤطرة للفكر والفهم الإسلامي في تاريخه كله ، من خلال استبعاد الوحي كمصدر للمعرفة والعلم ، أو تهميشه - على الأقل - وجعله تابعاً لغيره من المصادر كالعقل والحس ، وما هذا إلا أثر من آثار الإنكار العلماني للغيب ، والسخرية من الإيمان بالغيب ، واعتبارها - في أحسن الأحوال - جزء من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية ، والترويج لما يسمي بالعقلانية والواقعية والإنسانية ، وجعل ذلك هو البديل الموازي للإيمان في مفهومه الشرعي الأصيل ، وكسر الحواجز النفسية بين الإيمان و الكفر ، ليعيش الجميع تحت مظلة العلمانية في عصر العولمة . وفي كتابات " محمد عابد الجابري " و" حسن حنفي " و" حسين مروة " و" العروي " وأمثالهم الأدلة على هذا الأمر .(14/174)
4- خلخلة القيم الخلقية الراسخة في المجتمع الإسلامي ، والمسيرة للعلاقات الاجتماعية القائمة على معاني الأخوة والإيثار والطهر والعفاف وحفظ العهود وطلب الأجر وأحاسيس الجسد الواحد ، واستبدال ذلك بقيم الصراع و الاستغلال والنفع وأحاسيس قانون الغاب والافتراس والتحلل والإباحية , من خلال الدراسات الاجتماعية والنفسية ، والأعمال الأدبية والسينمائية والتلفزيونية ، مما هز المجتمع الشرقي من أساسه ، ونشر فيه من الجرائم والصراع ما لم يعهده أو يعرفه في تاريخه ، ولعل رواية "وليمة عشاء لأعشاب البحر" - السيئة الذكر - من أحدث الأمثلة على ذلك، والقائمة الطويلة من إنتاج"محمد شكري" و "الطاهر بن جلون" و "الطاهر طار" و "تركي الحمد" وغيرهم الكثير تتزاحم لتؤدي دورها في هدم الأساس الخلقي الذي قام عليه المجتمع، واستبداله بأسس أخرى .
5- رفع مصطلح الحداثة كلافتة فلسفية اصطلاحية بديلة لشعار التوحيد ، والحداثة كمصطلح فكري ذي دلالات محددة تقوم على مادية الحياة ، وهدم القيم والثوابت، ونشر الانحلال والإباحية ، وأنسنة الإله وتلويث المقدسات ، وجعل ذلك إطاراً فكرياً للأعمال الأدبية ، والدراسات الاجتماعية ، مما أوقع الأمة في أسوأ صور التخريب الفكري الثقافي .
6- استبعاد مقولة الغزو الفكري من ميادين الفكر والثقافة ، واستبدالها بمقولة حوار الثقافات ، مع أن الواقع يؤكد أن الغزو الفكري حقيقة تاريخية قائمة لا يمكن إنكارها كإحدى مظاهر سنة التدافع التي فطر الله عليها الحياة ، وأن ذلك لا يمنع الحوار ، لكنها سياسة التخدير والخداع والتضليل التي يتبعها التيار العلماني ، ليسهل تحت ستارها ترويج مبادئ الفكر العلماني ، بعد أن تفقد الأمة مناعتها وينام حراس ثغورها ، وتتسلل في أجزائها جراثيم وفيروسات الغزو العلماني القاتل .
7- وصم الإسلام بالأصولية والتطرف وممارسة الإرهاب الفكري ، عبر غوغائية إعلامية غير شريفة ولا أخلاقية ، لتخويف الناس من الإلتزام بالإسلام ، والاستماع لدعاته ، وعلى الرغم من وقوع الأخطاء - وأحياناً الفظيعة - من بعض المنتمين أو المدعين إلى الإسلام ، إلا أنها نقطة في بحر التطرف والإرهاب العلماني الذي يمارس على شعوب بأكملها ، وعبر عقود من السنين ، لكنه عدم المصداقية والكيل بمكيالين ، والتعامي عن الأصولية والنصرانية واليهودية الموغلة في الظلامية والعنصرية والتخلف .
8- تمييع قضية الحل والحرمة في المعاملات والأخلاق ، والفكر والسياسة ، وإحلال مفهوم اللذة والمنفعة والربح المادي محلها ، واستخدام هذه المفاهيم في تحليل المواقف والأحداث ، ودراسة المشاريع والبرامج ، أي فك الارتباط بين الدنيا والآخرة في وجدان وفكر وعقل الإنسان ، ومن هنا ترى التخبط الواضح في كثير من جوانب الحياة الذي يعجب له من نور الله قلبه بالإيمان ، ولكن أكثرهم لا يعلمون .
9- دق طبول العولمة واعتبارها القدر المحتوم الذي لا مفرمنه ولا خلاص إلا به ، دون التمييز بين المقبول والمرفوض على مقتضى المعايير الشرعية ، بل إنهم لَيصرخون بأن أي شئ في حياتنا يجب أن يكون محل التساؤل دون التفريق بين الثوابت والمتغيرات مما يؤدي إلى تحويل بلاد الشرق إلى سوق استهلاكية لمنتجات الحضارة الغربية ، والتوسل لذلك بذرائعيه نفعية محضة لا يسيرها غير أهواء الدنيا وشهواتها .
10- الاستهزاء والسخرية والتشكيك في وجه أي محاولة لأسلمة بعض جوانب الحياة المختلفة المعاصرة في الاقتصاد والإعلام والقوانين ، ولعل الهجوم المستمر على المملكة العربية السعودية بسبب احتكامها للشريعة في الحدود والجنايات من هذا المنطلق ، وإن برّروا هجومهم وحقدهم تحت دعاوى حقوق الإنسان وحرياته ، ونسوا أو تناسوا الشعوب التي تسحق وتدمر وتقتل وتغصب بعشرات الآلاف ، دون أن نسمع صوتاً واحداً من هذه الأصوات النشاز يبكي لها ويدافع عنها ، لا لشيء إلا أن الجهات التي تقوم بانتهاك تلك الحقوق ، وتدمير تلك الشعوب أنظمة علمانية تدور في فلك المصالح الغربية .
11- الترويج للمظاهر الاجتماعية الغربية ، وبخاصة في الفن والرياضة وشركات الطيران والأزياء والعطور والحفلات الرسمية وقضية المرأة ، ولكن كانت هذه شكليات ومظاهر لكنها تعبر عن قيم خلقية ، ومنطلقات عقائدية ، وفلسفة خاصة للحياة ، من هنا كان الاهتمام العلماني المبالغ فيه بموضة المرأة ، والسعي لنزع حجابها ، وإخراجها للحياة العامة ، وتعطيل دورها الذي لا يمكن أن يقوم به غيرها ، في تربية الأسرة ورعاية الأطفال ، وهكذا العلمانيون يفلسفون الحياة . يعطل مئات الآلاف من الرجال عن العمل لتعمل المرأة ، ويستقدم مئات الآلاف من العاملات في المنازل لتسد مكان المرأة في رعاية الأطفال ، والقيام بشؤون المنزل ، ولئن كانت بعض الأعمال النسائية يجب أن تناط بالمرأة ، فما المبرر لمزاحمتها للرجل في كل موقع ؟!(14/175)
12- الاهتمام الشديد والترويج الدائم للنظريات العلمانية الغربية في الاجتماع والأدب ، وتقديم أصحابها في وسائل الإعلام ، بل وفي الكليات والجامعات على أنهم رواد العلم ، وأساطين الفكر وعظماء الأدب ، وما أسماء "دارون" و "فرويد" و "دوركايم" ولا "الأنسنية" و "البنيوية" و "السريالية" وغير هذا الكثير مما لا يجهله المهتم بهذا الشأن ، وحتى أن بعض هذا قد يتجاوزه العلمانيون في الغرب ، ولكن صداه ما زال يتردد في عالم الأتباع في الشرق ، وكأننا نحتاج لعقود من الزمن ليفقه أبناؤنا عن أساتذتهم هذه المراجعات .
د/ عوض محمد القرني
===============(14/176)
(14/177)
المفسدون وسلاح الإعلام
ماجد بن محمد الجهني
الإعلام بشتى أنواعه المقروء والمسموع والمرئي له تأثير في بلورة التوجهات لدى قطاع عريض من المتلقين وذلك بسبب ما تفرضه الصورة والكلمة المؤثرة من بريق أخاذ على أي موضوع تتناوله، ولهذا نرى كماً مخيفا من التأثيرات الخلقية والتوجهات الفكرية والسلوكية طرأت على كثير من شبابنا وشاباتنا كان للتجليات الإعلامية المخزية في كثير من وسائل إعلامنا العربي دور في غرسها في نفوسهم بل والترويج لها.
إن المجتمع العربي والإسلامي يعاني في الحقيقة من كثير من وسائل الإعلام فهناك تحولات خطيرة جدا طرأت على الحياة الاجتماعية العربية والإسلامية سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي، فلقد ألقت القنوات الفضائية خصوصا بظلالها على كثير من العلاقات الزوجية فتسببت في انفصام روح المحبة والوئام الذي يحكم الحياة الزوجية لينتقل إلى حالات من التشنج والخصام ومن ثم إلى الطلاق والفراق الذي هو في الحقيقة ضرب للكيان الأسري في صميمه، وهو مشهد أدى إليه ما تعرضه تلك القنوات من مناظر النساء الفاتنات المفتونات التي يكفي النظر إليهن فقط إلى اللعب بعقول كثير ممن لاعقل لهم ولادين فيؤدي به ذلك إلى المقارنة بين ما عند تلك الفتاة القادمة من الفضاء وبين ما عند زوجته الأرضية البسيطة التي لا تعرف تغنج ولامياعة فتيات الغلاف الفضائي ومن ثم تبدأ المشاكل والخلافات التي تبدأ بالخصام ولا تنتهي بالطلاق .
إننا في الحقيقة أمام أزمة إعلامية كبرى ويجب أن نعترف وألا ندس رأسنا في التراب بل لابد من القول بأن الكثير من وسائل إعلامنا العربي بشتى أنواعه هو تحت يد قسمين من الناس، القسم الأول قسم مادي بحت لا يهتم بالخلق ولا بالقيم بقدر اهتمامه بالربح المادي فقط فعقيدته الإعلامية وهمه الأكبر الكسب المادي والمادي فقط ولهذا تراه لا يمانع من إنشاء قناة دينية إن كان الكسب المادي فيها فإذا تغيرت موازين الربح والخسارة ورجحت كفة قنوات ( الرقص والفيديو كليب ) حول تلك القناة إلى قناة الأغاني وقد يتحول إلى قناة الرياضة وربما تكون في يوم آخر قناة التربية والتعليم وهكذا يدور حيث دار الربح المادي دون مراعاة لثوابت الأمة وقيمها وأخلاقها لأن (الجمهور باختصار عايز كده ).
وأما القسم الثاني فهو صاحب مبدأ وصاحب فكر ولكن غالب هذا القسم هم من أرباب الفكر المنحرف المتأرجح بين العلمانية والقومية والاشتراكية، وهؤلاء هم مكمن الخطر فإذا كان الفريق الأول قد تكفل بنشر الشهوات والترويج لها باسم التفتح والحرية فإن الفريق الثاني قد تولى أمر نشر الشبهات الفكرية والتشوهات العقلية بين جمهور عريض من الناس فلم يترك أرباب هذا التوجه ممن يسيطرون على كثير من الوسائل الإعلامية وسيلة من وسائل التشكيك في عقيدة المسلمين وأخلاقهم إلا سلكوه، فمن تهوين أمر التدين في قلوب الناس إلى تزيين ما عند الغرب وتصويره في صورة الحسن وإن كان مصادما للدين إلى إشاعة عقيدة التبرج والسفور والدفاع عنها باسم حقوق المرأة إلى الرقص على جراحات الأمة وخذلانها في أدق مواقفها حساسية إلى الأدوار المخابراتية الصرفة، وكل ذلك في قائمة تبدأ من حيث نتخيل أو لا نتخيل ولا تقف عند حد ما ضربناه من الأمثلة التي هي غيض من فيض الواقع المزري للإعلام العربي المستغرب.
إنه وفي ظلال العولمة أو بالأصح في ظلال الأمركة نجد الحرص الرهيب من قبل الآخر على نقل ثقافته إلينا كراهية لا طوعا مع حرصه المتناهي على إلغاء هويتنا تماما وهو أمر قد لا نتعجب منه خصوصا أنه يأتي من عدو حاقد متربص يعلم أن مصير جميع مصالحه مرهون بمدى قدرته على تدمير بنيتنا الروحية والخلقية والاجتماعية ولكننا نتعجب حين نرى الكثير من وسائل الإعلام العربي أشد حرصا وأكثر إصرارا من صاحب الشأن نفسه على تسريع التغريب وتزيين التذويب.
لقد أصبحت أكثر وسائل الإعلام العربي بوقا سمجا ملأ الدنيا إزعاجا وضجيجا لقضايا جعلت من الكماليات ضروريات ومن العقائد عادات ومن العبادات تشنجات ومن الأخلاقيات مخالفات، وهذه الغثائية طاشت بالعقول وغيرت وبدلت وحللت ما حرم الله وحرمت ما أحل الله وقربت من أبعده الله وأبعدت من قربه الله، فأصبحنا نرى القنوات العربية تفتح باب الحرام على مصراعيه من خلال الترويج للعلاقات الآثمة بين الجنسين فهذا مسلسل (رومانسي ) يتناول العلاقات خارج إطار الزوجية بأسلوب يضفي عليها الشرعية، وذلك برنامج يتم فيه جمع فتاة بلغت الثالثة والعشرين مع شاب في التاسعة عشرة من عمره ليحاورهما في موضوع يدور حول الفراش ومغامراته بأسلوب بهيمي همجي يتم تسويقه تحت شعار الثقافة والحرية والانفتاح الذي تبشر به بعض قنوات الفضاء السمجة .(14/178)
إنني أرى أننا أمام وضع إعلامي صارخ في جملته محتاج ودون تأخير إلى إصلاح شامل جذري، حيث لا تكفي الحلول الترميمية للتشوهات العقدية والخلقية التي يكرسها ذلك الإعلام فنحن بحاجة إلى إعادة ومراجعة شاملة للأهداف التي من أجلها وجد الإعلام فمن غير المعقول أن ندعي الخيرية لأنفسنا والتي هي في الحقيقة من صفات الأمة المحمدية ثم يكون هذا هو واقع إعلام أمتنا.
إنه لزاماً علينا أن نقر بأن الإعلام العربي والإسلامي في جملته لا يمثل فكر هذه الأمة ولا طموحها كما هو مشاهد وهو إعلام يهدم ولايبني في غالبه، ولا أبالغ إن قلت بأنه إعلام مترجم لما عند الآخر من توجهات ترجمة حرفية دون تنقيح أو تمييز وهذا ما جعله إعلاماً محاكياً ليس له شخصية مستقلة تميزه عن غثائية إعلام الأهواء والشهوات.
قد يتساءل الكثيرون وهذا من حقهم: ماهو الحل إذاً ؟ وجوابي على ذلك في نقطتين أختم بهما هذا المقال: الأولى: أن يعاد النظر في كثير من القائمين على وسائل الإعلام العربي وخصوصاً الفضائي منها وأن يكون المقام مقام القوي الأمين وليس مقام المتسلق الرزين.
والنقطة الثانية: دعم وسائل الإعلام التي تنطلق من ثوابت الأمة ولا تغفل الأخذ بكل ماهو جديد لا يتعارض مع الدين، ولعله يتيسر في القريب العاجل حديث عن تجربة إعلامية رائدة كمثال لما أردت من النقطة الثانية والله من وراء القصد.
=============(14/179)
(14/180)
المنافقون والمنافقات ..خطرهم وصفاتهم في كتاب الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد .. فهذه بضع الوقفات في موضوع النفاق لما له من أهمية في هذا الزمان الذي تكاثر في المتكلمين بالإسلام وهم بعيدون عنه ..
لعلها وقفات تنبهنا عن النفاق والمنافقين وتعطي بعض الملاحظات التي يجب أن نهتم بها حتى لا نخدع بهم ...
نقاط مهمة :
1. تعريف المنافق في الشرع هو الذي يظهر غير ما يبطن . فإن كان الذي يخفيه التكذيب بأصول الإيمان فهو المنافق الخالص وحكمه في الآخرة حكم الكافر وقد يزيد عليه في العذاب لخداعه المؤمنين بما يظهره لهم من الإسلام قال تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار )
وإن كان الذي يخفيه غير الكفر بالله وكتابه ورسوله وإنما هو شيء من المعصية لله فهو الذي فيه شعبة أو أكثر من شعب النفاق .
2. أين يوجد المنافق : عندما تنتصر الدعوة ويستأصل الكفر ويذهب سلطان الكافرين عند ذلك يمكن أن يظهر النفاق .. وفي السيرة ظهرت حركة النفاق في المدينة بعد غزوة بدر ..
3. هل المنافق أسوأ من الكافر : والمنافق أضر وأسوأ من الكافر لأنه ساواه في الكفر وزاد عليه بالخداع والتضليل فيكون ضرره شديدا والحذر منه قليلا بخلاف الكافر .
ملاحظات قبل الشروع في العلامات والصفات
أن الصفات التالية وإن كانت صفات منافقين فلا يمنع ذلك أن يقع في بعضها المسلم وقوع المسلم في بعض الصفات خطأ لا شك فيه ولكن لا يدل ذلك على أنه منافق
من وقع في شيء من هذه الصفات فعليه التخلص منها قبل أن تنمو وتتزايد وتنتشر فيه
يجب الحذر من المدخل الشيطاني الذي يشعر صاحب الذنب والخلق المنحرف أنه منافق ويجب أن يترك الصالحين فتزداد مصائبه.
المجموعة الأولى من صفاتهم ..
1. مرض القلب .. { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا}
2. الطمع الشهواني .. {ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض }
3. الزيغ بالشبه .. {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض}
4. الظن السيئ بالله {ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا}
5. الاستهزاء بآيات الله
6. الجلوس الى المستهزئين بآيات الله { وقد نزل عليكم أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا }
7. التستر ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالمؤمنين {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون}
8. (من النقطة السابقة واللاحقة) التفريق بين المؤمنين والدس والوقيعة وإشعال نار الفتنه واستغلال الخلافات وتوسيع شقتها
9. الإفساد في الأرض
10. وادعاء الإصلاح.. {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ..
11. السفه
12. ورمي المؤمنين بالسفه .. {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا انهم هم السفهاء }
13. اللدد في الخصومة مع إتيانه في بعض الأحيان بالقول الجميل { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام }
14. عدم الأوبة للحق وتأخذه الحميه والغضب بالباطل وبالإثم {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد }
15. موالاة الكافرين
16. التربص بالمؤمنين {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا ...... الذين يتربصون بكم فان كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وان كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}
17. الاتفاق مع أهل الكتاب ضد المؤمنين
18. و التولي في القتال {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وان قوتلتم لننصرنكم والله يشهد انهم لكاذبون* لئن اخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون }
19. الطبع على القلوب فلا يفقهون { ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم}
20. فتنة النفس والتربص والاغترار بالأماني { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم * ...... ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور }
21. مخادعة الله
22. الكسل في العبادات
23. الرياء
24. قلة الذكر(14/181)
25. التذبذب بين المؤمنين والكافرين {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }
26. مخادعة المؤمنين أيضاً {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}
27. التحاكم إلى الطاغوت
28. الصدود عما أنزل الله و عدم الرضا بالتحاكم اليه {ألم تر الى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من قبلك يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا * وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا }
29. الإفساد بين المؤمنين {لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين }
30. الحلف الكاذب
31. والخوف والجبن والهلع
32. وكره المسلمين والخروج عن دائرتهم {ويحلفون بالله انهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون} {يحسبون كل صيحة عليهم ..
33. ظهور الرعب عليهم عند ذكر القتال في آيات الله {ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم}
34. الكذب
35. إخلاف الوعد
36. خيانة الأمانة .. للحديث ( آيه المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ) .. وفي رواية (وإذا خاصم فجر)
37. يعيبون العمل الصالح
38. يرضون ويسخطون لحظوظ أنفسهم {ومنهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا منها رضوا وان لم يعطوا إذا هم يسخطون }
39. يسخرون من العمل القليل من المؤمنين -ولا يرضيهم شيء {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم}
40. الرضا بأسافل المواضع {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون}
41. الأمر بالمنكر
42. والنهي عن المعروف
43. البخل
44. نسيان الله {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}
45. الغدر وعدم الوفاء بالعهود مع الله { ومنهم من عاهد الله لان آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}
46. الفرح بالتخلف عن الجهاد وكره ذلك
47. التواصي بالتخلف عن الجهاد{فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون }
48. التخذيل والتثبيط
49. الإرجاف {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }
50. لا ترى نصرة الله لهم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا}
51. قطع الأرحام { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم}
52. طاعة الكفار والمنافقين والفاسقين في بعض الأمر {ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم}
53. لا تكره ما يرضي الله {ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم}
54. ظهور الأضغان منهم
55. التعرف عليهم في لحن القول {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم}
56. البطء عن المؤمنين { وان منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على اذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}
57. لا ينفعهم القرآن بل يزيدهم رجسا الى رجسهم {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم رجس فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وهم كافرون}
58. العودة الى ما نهوا عنه
59. التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول {ألم تر الى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } الآية
60. الاستئذان عن الجهاد بحجة الفتنة { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا }
61. اتخاذ الأعذار عند التخلف {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم .. } الآية(14/182)
62. الاستخفاء من الناس {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله اذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا}
63. يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا (قصة الإفك) {إن الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون }
64. الفرح بما يصيب المؤمنين من ضراء والاستياء بما يمكن الله لهم {إن تصبك حسنة تسؤهم وان تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون }
65. زيادة في الجسم في بعض الأحيان {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} {فلا تعجبك أموالهم ولا أجسامهم ..} الآيات
من طرق جهادهم :
قال تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم)
وقال تعالى : ( هم العدو فاحذرهم )
طرق وقائية :
1- التعرف على صفاتهم وطرق كيدهم من القرآن الكريم
2- التعريف بالنفاق وطرقه وأساليبه وصفات أصحابه وفضح مخططاتهم وأساليبهم .
3- ترك موالاة من بدت عليه مظاهر النفاق وصدرت عنه أعمال المنافقين وأقوالهم .. والله تعالى يقول ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله )
4- مقاطعة المنافقين واجتناب مجالسهم التي يخوضون فيها فيما لا يرضي الله عز وجل وقد قال تعالى : (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميع * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا )
5- وضعهم موضع الشك وعدم الثقة بأقوالهم وإشاعاتهم وأراجيفهم .. فهم في عهد صلى الله عليه وسلم يفسدون ويثبطون ويرمون المسلمين بالإفك والفاحشة ويستعينون بالحلف والحديث الحسن في ظاهره ..
فالأصل فيهم الإساءة والإفساد حتى يثبت خلاف ذلك وقد قال الله فيمن يسمع لهم ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين )
6- الحيلولة بينهم وبين المراكز الخطرة والهامة وإخراجهم من صفوف المسلمين عند العزم على القيام بأعمال خطيرة وخاصة عند الجهاد. فالمنافقون لا يستأمنون على ثغور المسلمين لأن في هزيمة المسلمين تحقيق لمأربهم .. ويكثرون الأراجيف ..
7- صيانة الصف المسلم من التنازع والتدابر والتقاطع وذلك حتى لا يجد المنافقون أرضا خصبة يلقون فيها الفتن ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )
8- الحرص على رباط الاخوة اليمانية بين المؤمنين ورفعه وتقديمه على كل علاقة أخرى مهما كانت لأن المنافقين ينطلقون من منطلقات عصبية نتنة في فتنهم وهذا يجب أن يرد بالاستمساك بالاخوة الإيمانية التي تربطهم بالله تعالى وتفضيلها على كل رابطة دنيوية سواء كانت قرابة أو صداقة أو تجارة أو غير ذلك .
9- حسن الظن بالمؤمنين وعدم الالتفات إلى ما ينسبه المنافقون إليهم من التهم والفواحش فهذا من أحسن الوقايات أمام نقد المنافقين وإشاعة الفواحش بينهم (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم * لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خسرا وقالوا هذا إفك مبين )
10- الاحتياط والحذر من أهل النفاق عند العزم على اتخاذ إجراءات مهمة وذلك بالكتمان والسرية وتعمية الأخبار على المنافقين والجهلة حتى لا ينقلوا إلى هؤلاء المنافقين وحتى لا ينقلها المنافقون إلى أوليائهم من الكفار . وكان رسول الله إذا أراد غزوة ورى بغيرها .
طرق علاجية {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} :
1- تذكيرهم بما سيكون لهم من العذاب الشديد في اليوم الآخر ما يزيد عن عذاب الكفار المجاهرين .. ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا )
2- التبيين بأن باب التوبة مفتوح لهم قبل انتهاء أجلهم في الحياة الدنيا (إلا الذين تابوا واصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما* ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وأمنتم وكان الله شاكرا عليما )
3- تذكيرهم بعلم الله الشامل المحيط بما تكنه صدورهم من النفاق وأنهم إن استطاعوا ستره عن المؤمنين فإن الله علام الغيوب مطلع على السرائر (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب)
4- تذكيرهم بقضاء الله النافذ وقدره وأن الأمر بيد الله سبحانه لا بأيديهم وأن خططهم ومكائدهم لن تنجيهم من قدر الله عز وجل ولن يثمر إلا ما يأذن به الله وأن ما كتب عليهم لن يدفع بالمكر والخديعة .(14/183)
5- الغلظة عليهم في معاملتهم في الحياة الدنيا وعدم التساهل معهم وزجرهم بشدة في كل مرة تظهر عليهم علامة من علامات النفاق قال تعالى (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) وقال (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) ..
6- حرمانهم من الفرص التي يحققون بها شهواتهم ويشبعون بها نزعاتهم المادية وعدم تكليفهم بما يرغبونه من التكاليف السهلة التي يكون غنمها أكبر من غرمها (سيقول المنافقون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ) وينبغي وضعهم في امتحانات كاشفة تكشف صدقهم من كذبهم (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما )
7- من العقوبات المعنوية للمنافقين أنهم إذا عرفوا لا يجوز الاستغفار لهم كما قال تعالى (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) وقال عن رد نفقاتهم وعدم قبولها (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين * وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون)
8- الإعراض عنهم والصبر على ألفاظهم وكلماتهم .. {اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا}
ولما للمنافقين من أثر سيء في الفتن والمصائب كانت هذه الوقفة مع كتاب الله تعالى .. مررت على الآيات واستخرجت الآيات التي توضح وصف المنافقين والمنافقات وكيفية الحذر منهم -وما فاتني قد يكون أكثر-
وهذه الآيات جمعتها حتى نقرأها ونمحصها جيدا ونقرأها للناس في صلواتنا ومجالسنا .. أسأل الله أن أكون على صواب وعلى إخلاص
الآيات :
(يحلفون بالله لكم ليرضوكم) الآيات 62-68 التوبة
(يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) الآيات 73-78 التوبة
(وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) الآيات 12-20 الأحزاب
(إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) الآية 49 الأنفال
(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام) الآيات 204-206 البقرة
(وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) 167-168 آل عمران
(ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) الآية 77 النساء
(ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول) الآية 81 النساء
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين) 175-179 الأعراف
(يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) 12-16 الحديد
(ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم) 20-31 محمد
(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) الآيات 10-11 العنكبوت
(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) 8-16 البقرة
(لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة) 42-47 التوبة
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا) 60-65 النساء
(ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) 66-68 النساء
(وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا) 72-73 النساء
(والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) 107-110 التوبة
(وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) 124-126 التوبة
( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب) 11-12 الحشر
(سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) 11-12 الفتح
(ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) 8-10 المجادلة
(بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما) 138-147 النساء
(ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) 6 الفتح
(إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله) 1-11 المنافقون
(فويل للمصلين) 4-7 الماعون
(يستخفون من الناس ولا يتخفون من الله) 108 النساء
(لا خير في كثير من نجواهم) 114 النساء
(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) 150-151النساء
(ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون) 14-19 المجادلة(14/184)
(ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) 49-51 التوبة
(وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) 54 التوبة
(يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) 56-59 التوبة
(الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) 79 التوبة
(فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) 81-83 التوبة
(وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم) 86-87 التوبة
(يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم) 94 - 97 التوبة
( إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء) 93 التوبة
(ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم) 154-155 آل عمران
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله) 20-23 الأنفال
(يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) 1 الأحزاب
أبو أحمد
منتدى التحرير
=============(14/185)
(14/186)
000الكذابون000؟؟
الكذب من أقبح الذنوب..
هو دين المنافقين، الذين هم في الدرك الأسفل من النار، قال الله تعالى فيهم: - {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}.
وهكذا يلقون المؤمنين، بوجه غير ما في قلوبهم، قال تعالى: - {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون}.
وفي قصة معركة أحد، يصف الله تعالى حالهم فيقول: - {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون هل لنا من الأمر من شيء، قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لايبدون لك}.
- {وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون}.
الكذب في العادة صفة من يعيش حياتين متناقضتين، بوجهين مختلفين:
- وجه فيه المحبة والرضى، وهذا الظاهر..
- ووجه فيه البغض والعداوة، وهذا هو الباطن والحقيقة.
والسبب والحامل على رضاه أن يعيش هكذا ممزقا:
خشيته من التصريح بما في قلبه، أن يطرد، أو ينبذ، أو يكفر، أو يقام عليه الحد؛ فيمنع جوارحه من التعبير عن مكنون نفسه، طلبا للسلامة..
كذلك لغرض آخر هو: التلبيس والخديعة..
وهؤلاء المنافقون يوجدون في حالتين:
- إذا كان سلطان الشريعة ظاهرا، من خرج عنه أدب وعزر، وأقيم عليه الحد.
- إذا كانت البيئة والمجتمع على الإسلام، وتعظيم شعائره، وإعلان البراءة والعداوة ممن خرج عليه. هنا يخشى على نفسه، فيضطر أن يخفي فلا يعلن، ويكتم فلا يظهر..
أما إذا ما كان السلطان للكفر فلا وجود للمنافقين، لزوال السبب، وهو الخشية من التصريح بما في القلب، ولذا في العهد المكي لم يكن إلا مسلمون وكافرون، لأن الحكم كان لكفار قريش، فالعداوة ظاهرة، لكن في العهد المدني، صار الحكم للمسلمين، فتبطنت عداوة فئة من الناس، لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ذات الوقت لم يقدروا على الخروج من بلد الإسلام، خشية على مصالحهم وأموالهم، فآثروا البقاء، مع إظهار الإيمان وإبطان الكفر، فانقسم الناس لذلك إلى:
مؤمنين، وكافرين، ومنافقين.
وقد فضحهم الله تعالى في سور القرآن: في سورة التوبة، حيث هي الفاضحة للمنافقين، ذكرت كثيرا من أوصافهم:
- الحلف الكاذب: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون}.
- ابتغاؤهم الفتنة: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}.
- الفرار من الجهاد: {ومنهم من يقول ائذن ولا تفتني إلا في الفتنة سقطوا}.
- الاستهزاء بالصالحين: {قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.
- أمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون}.
كما فضحهم في سورة سماها باسم: "المنافقون"، فذكر أنهم كالخشب المسندة، وأنهم جبناء ضعفاء، يحسبون كل صيحة عليهم، {ولكنهم قوم يفرقون}.
وفي سورة النساء بين من حالهم أنهم مع المنتصر على المغلوب، كذلك في سورة الحشر، وأنهم كاذبون في ولائهم، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، لكن تربصهم بالمؤمنين: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}.
وبالجملة، فإن أوصافهم كثيرة، والله تعالى ذكرهم بها في القرآن، تحذيرا من سلوكهم، وتحذيرا للمؤمنين منهم، حتى إنه جعلهم العدو الحقيقي الأكبر، فقال:
- {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون}.
فهذه الصيغة: الضمير مع أل التعريف المصاحب لكلمة: "عدو":
تفيد أن الأعداء على مراتب، وإن هؤلاء المنافقون هم الأخطر، والأسوأ، وذلك أن الأعداء من الكافرين يضربون المؤمنين من الخارج، فهم مكشوفون، والحيطة منهم ممكنة، لكن هؤلاء يضربون من الداخل، والحيطة منهم متعذرة، فضررهم كبير، وشرهم مستطير، ولا سبيل إليهم، مع إظهارهم الإيمان والصلاة.
فهم يحيكون للمؤمنين المؤامرات، يفسدون ذات بينهم، يخذلونهم في مواطن النصرة، يشككون المؤمنين في دينهم، يبثون الشبهات، وينشرون الشهوات، وأخطر وسائلهم وطرقهم:
- تلبسهم بالإسلام، ودعواهم حبه، ونصرته، ثم تضمينه ما يضاده، ويناقضه، جملة وتفصيلا.
فهم يكرهون الإسلام، ويكرهون المؤمنين، و صلى الله عليه وسلم والقرآن، وفي زمن ضعف سلطان الشريعة، يظهرون زندقتهم وكفرهم، وهم مطمئنون آمنون من العقاب، فلا يأتيهم..فينتقلون من النفاق إلى الكفر الصريح، فيتفق ظاهرهم مع باطنهم.(14/187)
لكن إذا كان الإسلام عزيزا في قلوب الناس، يكرهون، ويبغضون من يجاهر بكفره، وفجوره، ويحذورن منه، ويزجرونه، ويهجرونه، فإنهم يرتدون إلى النفاق تارة أخرى، فإذا كان النفاق لباسا للمنافقين زمن عز الإسلام وسلطانه وحكمه بالسيف، فإنه لباسهم أيضا في زمن عزه في قلوب ونفوس المسلمين بعامة، خشية على أنفسهم من النبذ والمهانة على أيدي المؤمنين.
ففي الأول خافوا سلطان الشرع، وفي الآخر ضعف سلطان الشرع، لكن حل محله قوة المؤمنين في الاعتزاز بدينهم، ورفض كل من يمس هذا الدين بسوء، بأي شكل من الأشكال..
وهذا من الخير المبني على دعوة الناس إلى الدين، ونشر العلم الصحيح، فإن الناس إذا فهموا دينهم فهما صحيحا، كانوا حماة له من المعتدين الظالمين، بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
ولباس النفاق الذي يلبسه المنافقون هذه المرة، تتفق وتختلف مع النفاق الأول:
تتفق في كونهما نفاقا، وهو إظهار خلاف الباطن.
وتختلف أن النفاق الأول كان بإيهام المؤمنين أنهم معهم على الإيمان ومحبة الله ورسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا لقوهم قالوا: آمنا؛ وإذا خلوا استهزءوا بهم؛ ويشهدون معهم الصلاة، فإذا غفل المؤمنون تخلفوا، كما كانوا يتخلفون عن صلاة العشاء والفجر للظلمة، حيث لا يراهم أحد..
أما النفاق الثاني فإنه يكون بصورة أخرى، هي:
تفسير النصوص الشرعية بصورة أخرى غير ما استقر عليه الإسلام، ومات عليه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، وعمل به الصحابة رضوان الله عليهم..
بشتى أنواع الدعاوى والاعتذارات:
- تارة بأن العصر يستلزم أحكاما جديدة، وأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان.
- وتارة بتتبع خلاف العلماء، والانتقاء من أقوالهم ما يوافق أهواءهم، ولو كان قولا شاذا.
- وتارة بالاستشهاد ببعض الأقوال والوقائع في الصدر الأول، مما ظاهره تأييد لدعاويهم.
- وتارة بالاستقلال بفهم النصوص، ورفض كلام العلماء، واعتبار العقل حجة مطلقة في الفهم.
وحقيقة قولهم تعطيل الإسلام، جملة وتفصيلا، وهم يعلمون ذلك، وقد كانوا يوما يدعون إلى ذلك صراحة، ويطعنون في الإسلام، ويتهمونه:
بالرجعية، والجمود، والتخلف، والظلامية، وتراثه بالعفونة، والأوراق الصفراء، وغير ذلك..
لكنهم باءوا وخسروا، وانحطت مرتبتهم عند الناس، وخافوا على أنفسهم من البؤس، ولأفكارهم من البوار، فأوصوا تلامذتهم وكتبوا لهم:
أن يغيروا منهجهم في الكيد للإسلام بنقل المعركة، من معركة مع الإسلام، إلى معركة مع رموز الإسلام، الذين هم العلماء، وتحديهم في فهم الإسلام، واعتبار أنفسهم ندا لهم في تحليل نصوص الشرع، واستنباط أحكامه..
حتى يبدو أن الخلاف ليس حول الإسلام، إنما حول تفسيره ومعناه..
وهذا ما يريدون الوصول إليه..!!!!..
وبذلك ظنوا أنهم قادرون على استعادة ما فقدوه من مكاسب خاسرة، في إضلال الناس، لكن الواقع أن عامة الناس صار يدرك حقيقة قولهم قبل العلماء، فما عادوا يضلون إلا من هو ضال أصلا..
إن الخلاف مع هؤلاء حول الإسلام نفسه، وليس في تفسيره، كما يوهمون:
- فإنهم يقولون إن الحقائق نسبية، لا يحتكرها أحد.. كل من يعتنق شيئا فهو حق..
وهذا ليس من الإسلام في شيء، فكل دين سواه باطل، فالإسلام يحتكر الحقيقة، قال الله تعالى:
{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.. والمسلم يملك الحقيقة في الدين.
- إنهم يقولون: نصوص الكتاب والسنة لها أوجه في التفسير كثيرة، كل وجه هو حق، بحسب فهم القارئ للنص..
أي أن الإسلام هلامي الشكل، ثوب فضفاض، يلبسه كل متلاعب، وذي هوى؛ يقرأ الآية، أو الحديث، فما فهمه منه فهو عين الصواب، ولعمري هذا هو الإلحاد في آيات الله، ولو كان الأمر كما يقولون لما أوجب الله تعالى إقامة الحدود، وقسم الناس إلى فريقين: مؤمنين وكافرين، لكن حتى هذه عندهم فيها نظر:
- فإنهم يقولون: اليهود والنصارى مؤمنون، كالمسلمين؟.
لكن الله تعالى يقول: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}..
- إنهم يرفضون التحاكم إلى شريعة الله تعالى، يرفضون الحدود، من قطع يد السارق، وجلد الزاني، والقصاص من القاتل، وينكرون حد الردة، وهكذا كل الحدود.
وهي ثابتة في نصوص صريحة، لكنهم يرفضونها، أو يرفضون تفسيرها على النحو الثابت عن الصحابة رضوان الله عليهم، ويعللون رفضهم بإحدى الدعاوى الآنفة، يستترون بها، والله أعلم بما يكتمون..
- إنهم يرفضون الحجاب، ويدعون إلى السفور والاختلاط، ومنع قوامة الرجل على المرأة، ويثيرون المرأة على دينها وسترها.
وقضية المرأة من أكبر قضاياهم، ويراهنون عليها في كل ميدان.. ومع أن من المسلمات أن الإسلام جاء بالحجاب ومنع الاختلاط، إلا أنهم يثيرون كلاما كثيرا حوله، بتأويل وتحريف الكلم عن مواضعه، يبتغون الفتنة.
إن آية المنافقين هو الكذب:
{اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون}..
فهم مستعدون لفعل أي شيء، لتحقيق ما يريدون، والأيمان أهون شيء عليهم، فلا يخافون من الله تعالى أن يغمسهم في جهنم جزاء حلفهم الكاذب، لكن مهما حلفوا فإن آثار النفاق ظاهر عليهم:(14/188)
- في أقوالهم، كما قال تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول}، فقولهم فيه اللحن، وهو الميل، فالقلوب الصحيحة تكشفهم، وتعرفهم.
- وفي آرائهم، كما تقدم، فإنهم يأتون بما يناقض الإسلام جملة وتفصيلا، وما هو معلوم بطلانه من الدين بالضرورة، مثل زعمهم أن اليهود والنصارى ليسوا كفارا.
- وفي أفعالهم، من تزيين أخلاق الكافرين وعاداتهم، والتقرب إليهم، وإظهار حبهم، والوقوف دائما في صفهم، وفي المقابل الاستهزاء بالمؤمنين، ومن عليه آثار التدين، وربما ببعض النصوص الشرعية.
- إنهم يقولون القول، ثم ينكرونه، ويحلفون أنهم ما قالوا، كما قال تعالى عنهم: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم}.
- إذا كان الكلام فيه إدانة لهم، زعموا أن الناس لم يفهموا كلامهم، فحملوه محامل بعيدة، مع أن كلامهم ظاهر كالشمس، فإذا كان الكلام مما يدينهم صار محتملا، ولو كان واضحا، وما هو محتمل المعنى في نصوص الشرع فهو قاطع وواضح، إذا كان لهم فيه غرض، وهكذا يتلاعبون في الكلام والمواقف.
فهذه جملة من أوصاف هؤلاء، نفسها أوصاف أهل النفاق، فهم أهل نفاق:
إذ كان همّ بعض المنافقين سلامة نفوسهم، ولو بخزي الآخرة..
فإن هؤلاء نافقوا ابتغاء إضلال المؤمنين والمؤمنات عن دينهم، فادعوا حب الإسلام، وهم يضمرون كرهه، فسعوا في إفساده، وتغيير معالمه، حتى لا يبقى له أثر، فهؤلاء أضل من أولئك..
المنافقون مستهزءون، يستهزءون بالمؤمنين، ويضحكون في سرهم أنهم لبسوا عليهم، لكنهم في الحقيقة إنما يستهزءون بأنفسهم، يخدعونها، قال الله تعالى: {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}، فهم يخادعون، أي يجتهدون في الخداع، وربما لم ينجحوا، لكن المؤكد أنهم يخدعون أنفسهم، ولذا جاء التعبير في حقهم: {يخدعون}، تحقيقا، بخلاف قصدهم: {يخادعون}، فهذا غير محقق..
وهم كما يحلفون في الدنيا كذبا، فإنهم يوم القيامة يستخفون أنفسهم فيحلفون على الله كذبا، ظنا منهم أن الله لن يعلم ما صنعوا: {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}..
فرصة
ولعل المنافقين سمعوا كثيرا من هذه المواعظ، من كلام الله تعالى وكلام رسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه حري بهم أن يتوبوا، قبل أن يأتي أجلهم، فباب التوبة مفتوح، يقول الله تعالى:
{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما}.
أبو سارة
==============(14/189)
(14/190)
رد. أبو الفتوح ينفي ما نشر على لسانه عن دولة علمانية في فلسطين المحتلة
د.عبدالمنعم أبو الفتوح
نفى د. عبدالمنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين ما نشرته جريدة "الدستور" المصرية الصادرة يوم الأحد 15-4-2007م، وكذلك بعض وكالات الأنباء من تصريحاتٍ له بخصوص الصراع العربي الصهيوني، جاء فيها "إن الإخوان يقبلون بدولةٍ علمانيةٍ ثنائية القومية في فلسطين يتناوب فيها اليهود والفلسطينيون الحكم".
وقال د. أبو الفتوح إنه لم يقل هذا الكلام على الإطلاق، ولا ما قد يُشتبه به.
وأكد أنَّ حقيقة التصريح الذي ذُكر ضمن فعاليات إحدى الندوات يوم الخميس 12-4 -2007م أن الإخوان يقبلون بدولةٍ مدنيةٍ تسع كل الأديان الإسلام والمسيحية واليهودية.. ولا تكون دولة عنصرية رافضة لبقية الأديان، كما هو الحال الآن في الكيان الصهيوني، على أن تكون هذه الدولة مدنية بكل ما تحمله الدولة المدنية الحديثة من خصائص العيش المشترك.. ويكون الحكم فيها ديمقراطيًّا.
وليس جديدًا على الحضارة الإسلامية أن تقبل بعيش اليهود في ظلالها، لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات، وهذه هي شريعة الإسلام ومنهاجه.
==============(14/191)
(14/192)
المجتمع الصهيوني بين الانقسامات الداخلية وإشكالية الهوية
صلاح الصيفي
طائرة إسرائيلية
نظراً للنشأة غير الطبيعية للمجتمع الصهيوني، الذي تكوّن بفعل قرار سياسي، (وعد بلفور في عام 1917م) بإقامة دولة لليهود في فلسطين، ولم يتكون نتيجة تطورات اجتماعية وتاريخية، فقد نشأ مشوهاً ومتنافراً وغير متجانس، لذا فالنسيج الاجتماعي الصهيوني يتشكل من مكونات غير متجانسة، تضم السكان الشرعيين من بقية الشعب الفلسطيني في أراضي 1948م، الذين يطلق عليهم "عرب إسرائيل"، وأخلاطًا متنافرة من المستوطنين الذين هاجروا إلى فلسطين من مختلف أنحاء العالم، لذلك نجد أن المجتمع الصهيوني يجمع بين فئات من السكان تتميز بتنوع كبير من حيث الخلفية العرقية والدينية والثقافية والاجتماعية..
فعدد سكان "إسرائيل" يبلغ حوالي 6.6ملايين نسمة، حوالي 77% منهم من اليهود. ويشكل المواطنون العرب حوالي 19% من السكان معظمهم من المسلمين ، أما نسبة ال4% المتبقية من المواطنين فيشكلها الدروز والشركس وأبناء ديانات أخرى.
غياب التجانس المجتمعي: وقد فرض هذا التنوع والاختلاف تحدياً مهماً داخل الكيان تمثل في المحاولات المستمرة لصهر هذه العناصر المختلفة في المجتمع داخل بوتقة واحدة، من خلال تعميم الأيديولوجية الصهيونية بتياراتها المختلفة من العلمانية والاشتراكية والليبرالية، والدينية، أو من خلال رفع شعار "ضرورة الولاء للدولة"، إلا أن النتائج كانت مخيبة للآمال. فبعد أكثر من خمسين عاماً من قيام الكيان الصهيوني، أخذت الفجوات الاجتماعية والدينية والعرقية والإثنية في التزايد، والظهور على السطح بشكل أكثر بروزاً، لدرجة أصبح ينظر فيها لموضوع "التجانس الاجتماعي" في الكيان الصهيوني على أنه موضوع مصيري يهدد كيان الدولة وطابعها.
تصنيف المجتمع الصهيوني
ويمكن تصنيف المجتمع الصهيوني بناءً على عدة أسس فمن الناحية "الدينية" ينقسم إلى قسمين: متدينون، علمانيون.
المتدينون: يعتبرون أقلية سواء في الجانب العربي أو الجانب اليهودي، ولكنهم أقلية مؤثرة، ويزداد ثقلها النسبي مع الوقت، وينقسمون إلى "عرب"، وأغلبيتهم العظمى من المسلمين، وتمثلهم الحركة الإسلامية، و"يهود"، وينقسمون:
من حيث الموقف من الأيديولوجية الصهيونية التي قامت عليها الدولة إلى:
متدينين صهيونيين ويمثلهم حزبي "المفدال" و"ميماد"..
ومتدينين معادين للصهيونية أو حريديم أو متشددين أصوليين، وتمثلهم أحزاب "شاس"، و"يهدوت هاتوراة"، و"ديجيل هاتوراة".
من الناحية الطائفية ينقسمون إلى:
متدينين شرقيين "سفارديم"، ويمثلهم حزب "شاس"، ومتدينين غربيين "إشكناز"، ويمثلهم حزبا "يهدوت هاتوراة"، و"المفدال".
أما العلمانيون فتزايد وجودهم وحضورهم على الساحتين الاجتماعية والسياسية في المجتمع الصهيووني في الآونة الأخيرة، حيث دخلوا في صراع حاد مع المتدينين اليهود بشكل خاص، وصل ذروته خلال عقد التسعينيات الذي شهد الكثير من المظاهرات والمصادمات بين الطرفين..
وينقسم العلمانيون في "إسرائيل" بدورهم إلى: "عرب" ويمثلهم كل من: الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، الحزب الديمقراطي العربي، التجمع الوطني الديمقراطي، الحركة العربية للتغيير، و"يهود" تمثلهم أحزاب: "العمل"، "الليكود"، "ميرتس"، "شينوي"، "المركز"، "إسرائيل بعالياه"، "إسرائيل بيتينو"، "الوحدة الوطنية"، "شعب واحد"، والحزب الجديد "كاديما" الذي أسسه رئيس الوزراء السابق "آريئيل شارون".
انقسامات أيديولوجية
ومن الناحية "الأيديولوجية" ينقسم المجتمع الصهيوني إلى قسمين كبيرين هما: "اليمين" و"اليسار".
اليمين: ينقسم بدوره إلى يمين ديني، وتمثله الأحزاب اليهودية الدينية، وتشمل: شاس، المفدال، يهدوت هتوراة، ويمين علماني ويشمل أحزاب: الوحدة الوطنية، و"إسرائيل بعالياه"، "إسرائيل بيتينو"، "الليكود"، "جيشر"..
أما اليسار فينقسم إلى قسمين، وهما:
أ- يسار يهودي.
ب - يسار عربي.
وبالنسبة لليسار اليهودي فهو أقرب إلى الوسط منه إلى اليسار ويمثله كل من أحزاب: ميرتس، شينوي، العمل، المركز، شعب واحد. أما اليسار العربي، فهم بمجموعاتهم المختلفة يقعون أقصى يسار الخريطة السياسية الصهيونية، وخاصة بمعيار الموقف من عملية التسوية السلمية مع العرب، ويمثلهم أحزاب: القائمة العربية الموحدة، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التجمع الوطني الديمقراطي، الحركة العربية للتغيير.
أما من الناحية الطائفية العرقية فينقسم المجتمع الصهيوني منذ نشأته إلى سفارديم "يهود شرقيين"، وهم اليهود الذين قدموا إلى "إسرائيل" من بلدان الشرق، وخاصة البلدان العربية، ومعظمهم جاء بعد إقامة الدولة ولم يكن لهم ارتباط وثيق بالحركة الصهيونية التي نشأت بالأساس في شرق أوروبا عام 1881م، عقب موجات الاضطهاد التي تعرض لها اليهود في روسيا والتي عرفت باسم "البوجروم" إثر اغتيال القيصر الروسي "ألكسندر الثالث"..(14/193)
أما الإشكناز "يهود الغرب" فهم الذين هاجروا إلى "إسرائيل" بالأساس قبل قيام الدولة في أربع هجرات متتالية، ومعظمهم كانوا من أتباع الحركة الصهيونية؛ على الرغم من اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم.
أزمة الهوية
وبالإضافة إلى هذه الانقسامات الأيديولوجية والدينية والطائفية، فإن المجتمع الصهيوني يعاني مما يمكن تسميته ب"أزمة الهوية" التي كانت نتيجة مباشرة للانقسامات سابقة الذكر، فإنشاء "إسرائيل" بما اشتملت عليه من هذه التنويعات الثقافية والأيديولوجية والعرقية، إضافة إلى الانقسامات والتوجهات الفكرية والعقائدية، واجه تحدياً مهماً حول طابع الدولة وهويتها، ودائماً ما تروج الأوساط الفكرية والثقافية الصهيونية أن "إسرائيل" دولة "يهودية ديمقراطية"، وهذا المصطلح أو المفهوم تحول فيما بعد إلى إشكالية كبيرة انعسكت آثارها على التشريعات الصهيونية وعلى نمط الحياة بشتى جوانبها، فمعنى دولة "يهودية" أي دينية عرقية قومية، ولكنها "ديمقراطية" في نفس الوقت، أي علمانية وطنية تساوي بين كل مواطنيها؛ دون الأخذ في الاعتبار العوامل الدينية والعرقية والإثنية، الأمر الذي ألقى ب"ضبابية" شديدة على مفهوم "هوية" هذه الدولة وطابعها، وبالتالي أدى إلى طرح تساؤلات حول مدى ولاء مواطني هذه الدولة لها ومدى ارتباطهم بها، واستعدادهم للتضحية من أجلها.
ولعل ما يؤكد ذلك بروز إشكالية الهوية في الكيان الصهيوني، من خلال الأعمال الأدبية "الإسرائيلية" التي كتبت بعد قيام الدولة عام 1948م.
فاليهودي الذي هاجر من بلاده الأصلية التي كان يعاني فيها من "الاغتراب" عن مجتمعه إلى "إسرائيل" وجد نفسه يعاني أيضاً من الاغتراب ومن العزلة داخلها، وشعر وكأنه قد اجتُث من تربته الأصلية ليُزرع في تربة غريبة عنه، وقد ظهر ذلك جلياً وواضحاً في كتابات أدباء من ذوي أصول شرقية عربية مثل "مردخاي" طبيب يمني الأصل و"سامي ميخائيل" عراقي الأصل.
يتضح لنا من ذلك أن الكيان الصهيوني الذي يبدو أمام العالم واحة الديمقراطية والتلاحم والاندماج المزعوم، هو في الأصل كيان ممزق ومشتت، وليس كما يعتقد البعض على قلب رجل واحد، ولولا عمليات بث الرعب التي تقوم بها القيادات الصهيونية في نفوس الشعب الصهيوني من العرب وتخويفهم من عواقب إظهار الفرقة لكان الصراع الداخلي "الإسرائيلي" "الإسرائيلي" على أشده منذ وقت طويل
=============(14/194)
(14/195)
نقد مقال قراءة في الذِّهنية السلفيَّة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد : فقد نشرت مجلة البيان في عددها ( 156 ) قضية للمناقشة بعنوان : « قراءة في الذهنية السلفية » للكاتب الأستاذ نواف الجديمي ، وقد أحسن الكاتب في اهتمامه بالنقد الذاتي لمناشط السلفيين ، فهذا النقد ومحاسبة النفس أمر متقرر شرعاً والحوار العلمي الجاد وسيلة من وسائل البناء والتصحيح ، كما أحسنت مجلة البيان في قبولها لهذا النقد الذي يتوجه إليها ابتداءاً . وثمة تعقيبات على بعض ما نشره الأخ الكاتب نواف - وفقه الله للصالحات- أسوقها على النحو الآتي :
أولاً : ذكر الكاتب أن هذه المآخذ والإشكاليات تسود غالب الاتجاهات السلفية
المعاصرة ، وهذا تعميم خاطئ ؛ فالكاتب لم يحدد هذه المعاصرة لا زمناً ولا مكاناً ولا حالاً ، ولا سيما أن الكاتب أشار إلى قصور استقرائه ومحدودية تجربته .
ثانياً : ذكر الكاتب الفاضل ثلاث ملحوظات رئيسة في قراءته للذهنية السلفية ،
وأحسب أن هذه الملحوظات توجد بنسب متفاوتة في التيارات الإسلامية الأخرى ، وتخصيص السلفيين بها لا يخلو من نقد ومراجعة ، وخاصة أنه قد يشعر القارئ بأن الكاتب يرى بأن هذا ممَّا تفرّد به السلفيون دون غيرهم .. !
ثالثاً : قرر الكاتب أن التيار السلفي دائماً ما يركز على دائرة المعلومات
ويهمل دائرة الأفكار ، وأن السلفيين يهتمون بالحفظ ويهملون الفكر ، وأن من حفظ الكتب الستة فله شأن عندهم دون من تضلع في أصول الفقه . وأحسب أنه لا يخفى على الكاتب الفاضل أهمية حفظ نصوص الوحيين ، وأن ذلك مطلوب شرعاً ؛ فقد تواتر حديث رسول ا صلى الله عليه وسلم حيث قال : « نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها ؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » [1] وهذا لفظ الترمذي من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ، لا سيما أن العرب قد خُصوا بالحفظ ، وهذه الأمة موصوفة بأن إنجيلها في صدورها . وكما قال الخليل بن أحمد - رحمه الله - : ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ما العلم إلا ما حواه الصدرولماذا يفترض الكاتب أن حفظ السلفيين للمعلومات كحفظ الحاسب ؟ وهذا قياس مع الفارق لمن له أدنى فكر وتأمل ! وها هو ابن عباس - رضي الله - عنهما وقد طُبع على الحفظ كان يكره كتابة العلم ، ومع ذلك فقد كان له من الإشراقات والفتوحات في التفسير ما لا يحصى ، كما كان صاحب مناظرات قوية مع الخوارج ونحوهم من أهل الأهواء ، فما كان هذا الحفظ إلا سبيلاً لنشر العلم و « المعلومات » الأصيلة ، وإفحام المخالفين ، وحل المعضلات . فلا إشكال في حفظ النصوص الشرعية ، لكن الإشكالية أن يقتصر على الحفظ مجرداً عن الفهم والفقه ، ولو أن الكاتب عني بهذه الإشكالية ، وطالب بإيجاد برامج عملية لاستنهاض الفهم وتنمية ملكات التفكير والتجديد والإبداع لكان أليق وأنسب . ولما هوّن الكاتب من شأن المعلومات هوّل من شأن الأفكار ، وأقول للكاتب : لماذا هذه التفرقة والانفصام بين المعلومات والأفكار ؟ وهل يمكن أن تتأتى الأفكار إلا بمعلومات ، ولا سيما أن كل إنسان حارث ومفكر ، كما قا صلى الله عليه وسلم : « أصدق الأسماء حارث و همام » ؟ [2] . ثم ألا ترى معي أن الأفكار المجردة عن المعلومات الراسخة تؤدي إلى الخلط والاضطراب ؟! فالمعلومات والأفكار متلازمة لا ينبغي الفصل بينها . فالمعلومات أساس الأفكار، والأفكار ثمرة المعلومات . ولعل مقصود الكاتب أن بعض السلفيين أهملوا كتب الفكر واشتغلوا بالكتب الشرعية ، وأحسب أن العناية بكتب الفكر كانت في مرحلة سابقة ، عندما كانت الاشتراكية والقومية ونحوها من المذاهب المادية التي تشكك في الإسلام وتطعن في الغيبيات رائجة في حقبة زمنية ماضية حيث ظهر - ولله الحمد - من كتابات المفكرين الإسلاميين من يذبّ عن دين الإسلام ويفنّد شبهات الخصوم ، كما هو ظاهر في كتب سيد قطب و المودودي - رحمهما الله تعالى - و محمد قطب ونحوهم . فكانت كتب الفكر الإسلامي الأصيل ضرورية تجاه تلك الأفكار المنحرفة ، وكما فعل من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما واجه تلك الأفكار الفلسفية والكلامية والصوفية باللغة والأسلوب الذي يفهمه أولئك ، فأظهر الحجة عليهم وكشف ضلالاتهم ، ومن المناسب أن نورد ما يقرر ذلك من كلامه - رحمه الله - : « ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات ، كالسلاح في المحاربات ، فإذا كان عدو المسلمين في تحصنهم وتسلحهم على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس و الروم ، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع ، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة ... إلخ » [3] . وأحسب أن هذه الصحوة المباركة قد ارتقت - نضجاً وعلماً - بدءاً من الكتب(14/196)
الفكرية الأصيلة في تقرير الثقة بالإسلام والرد على أعداء الإسلام إلى الاشتغال بالعلوم الشرعية في تقرير منهج السلف الصالح والرد على المبتدعة إلى غير ذلك ؛ فما كان للسلفيين أن يحقروا الكتب الفكرية الإسلامية الأصيلة وهم يقررون قبول الحق من كل شخص ولو كان كافراً ، وها هو العلاَّمة ابن باز - رحمه الله يقرأ
كتاب ( النظرية السياسية ) للمودودي رحمه الله مقرراً له [4] ، وها هو العلاَّمة الألباني - رحمه الله - يورد كلاماً طويلاً لسيد قطب - رحمه الله - في مقدمة كتابه ( مختصر العلو ) للذهبي .
رابعاً : ادعى الكاتب أن السلفيين لا يعرفون جملة من المذاهب الفكرية
كالقومية العربية والماركسية والبعث العربي .. وأما آخر النظريات الفكرية فإن غالب النخب السلفية لم يسمعوا بأسمائها فضلاً عن دراستها ، هكذا قال الكاتب -
هداه الله - . ويبدو أن الكاتب كان يتحدث عن هذا المأخذ وقد انقدح في ذهنه نمط محدد من السلفيين ، وليس من العدل أن يُحكم على جميع السلفيين أو غالبهم من خلال الحكم على طائفة منسوبة إليهم ، وإلا فكيف غاب عن الكاتب جهود الأستاذ محمد رشيد رضا الإصلاحية ضد الأفكار المنحرفة ؟ وأين جهود العلاَّمة عبد الرحمن السعدي تجاه الملاحدة كما في رسالتيه : « انتصار الحق في الرد على الملاحدة » و « الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين » ؟ بل كتبَ الشيخ السعدي لمحمد رشيد رضا رسالة يؤكد عليه أن تُعنى مجلة المنار بالردّ على الملحدين . وأين إنجازات سيد ومحمد قطب في مواجهة التغريب والمذاهب المادية ومشكلات الحضارة ؟ وأين مؤلفات الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - في الرد على المذاهب الأدبية والفكرية كما في مؤلفاته أمثال : ( الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر ) ، و ( حصوننا مهددة من الداخل ) ، و ( الإسلام والحضارة الغربية ) ؟ وأين مواقف العلماء تجاه الغزو التشريعي والتشكيك في تحكيم الشريعة مثل ما كتبه الشيخ أحمد شاكر ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ، والعلاَّمة محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، والشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمهم الله - ؟ [5] . وتأمل ما سطره العلاَّمة السعدي ( ت 1376هـ ) في الرد على تلك الدعوى : « قد عُلِمَ من قواعد الدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية والتوقي لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم ودرس أحوالهم وسياساتهم ، وخصوصاً السياسة الموجهة منهم للمسلمين ؛ فإن السياسة الدولية قد أسست على المكر والخداع وعدم الوفاء واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد ؛ فجهل المسلمين بها نقص كبير وضرر خطير ، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها التي ترمي إليها نفع عظيم ، وفيه دفع للشر أو تخفيفه ، وبه يعرف المسلمون كيف يقابلون كل خطر » [6] . ولا يزال باحثو أهل السنة وعلماؤها - في هذه السنوات الأخيرة - يسطرون الكتب والرسائل العلمية تجاه جملة من الأفكار الوافدة [7] . لا شك أننا - معشرَ السلفيين - نعترف بتقصير وإهمال تجاه جملة من النوازل الفكرية المستجدة ، ولا يخفى أن ثمة فرقاً بين الاعتراف بهذا التقصير وبين أن يظن أن السلفيين إنما تركوها تديناً بهذا الترك والإهمال . وأحسب أن هذا التقصير ليس خاصاً بالسلفيين وحدهم ، بل هو مشكلة قائمة عند معظم التيارات الإسلامية ! وأما انتقاد الكاتب السلفيين لعدم دراستهم الديمقراطية ، والدراسات البنكية ، وعلم النفس .. ! فأقول : وهل يتعين على السلفيين أن يدرسوا كل القضايا النازلة ولا سيما أنها قد درسها غيرهم وبطريقة صحيحة [8] ، والحق ضالة المؤمن ؟ أم يريد الباحث أن تؤلف مؤلفات عن موقف أهل السنة من الديمقراطية ؟ وما الفرق بين هذا العنوان وبين : موقف الإسلام من الديمقراطية ؟ ولا سيما أن ثمة كتابات ومؤلفات في هذا الصدد ، وأما الدراسات البنكيةوالبدائل الشرعية فهي موجودة ، ولكن هل ترك لنا عقيل من دار ؟ وعلى كلٍّ فيبدو أن الكاتب يحتاج إلى مراجعة لنتاج أهل السنة قبل أن يصدر هذه الأحكام . كما أن جملة من الإشكالات الواردة جاءت كرد فعل من الكاتب تجاه بعض الممارسات الخاطئة لفصائل من أهل السنة ، كما أن بعض إشكالاته قد عالجها بما يقابل تلك الإشكالات ؛ والانحراف انحراف على كل حال ، والخطأ لا يعالج بالخطأ مثل كلامه عن عداء الكفار للمسلمين ورغبته في تحريره واقعاً دون مجازفة ، مع أن من بدهيات هذا الدين أن عداء الكفار للمسلمين أصل ثابت ومحكم ، وما قد يقع خلاف الأصل فهو لمصالح وملابسات لا تشكك في هذا الأصل . وأما عقدة المؤامرة عند السلفيين فقد توجد مبالغة عند بعضهم ، لكن هذه « العقدة » ، لم تكن ردة فعل تجاه السذاجة وحسن الظن بالأعداء عند الكثير من المسلمين ، بل كانت حصيلة أحداث ووقائع ، ومع ذلك كله فلا حاجة إلى تهويل المؤامرة أو تهوينها . ختاماً : ينبغي التأكيد على أن الحوار الجاد والنقد العلمي البناء مطلب مهم من(14/197)
المطالب الشرعية التي يجب التأكيد عليها ، والتعاون في إشاعتها ، ولهذا أشكر للأخ نواف حرصه على النقد والتصحيح ، وأرجو أن يتسع صدره لنقد النقد ؛ وهذا هو حسن الظن به إن شاء الله تعالى . نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم .
________________________
(1) أخرجه أحمد ، (3/225) ، والترمذي في كتاب العلم ، ح/7 .
(2) أخرجه أحمد ، ح/ 18258 .
(3) مجموع الفتاوى ، 4/107 .
(4) ذكر الشيخ مسعود الندوي (ت 1373هـ) لقاءه بالشيخ ابن باز سنة 1368هـ وأن الشيخ ابن باز أفاده بأنه قرأ كتاب (النظرية السياسية) للمودودي ، وأبدى الشيخ ابن باز اعتراضه على قول المودودي في الآية الكريمة : { وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (الحديد : 25) بأن معنى الحديد هنا القوة السياسية ثم قال الشيخ : يمكن أن يكون الأصل قوة أساسية ثم جاءت الترجمة « قوة
سياسية » ، فقال الشيخ مسعود : في الأصل قوة سياسية والمترجم التزم الأصل فقال ابن باز : حسناً، هذا أمر يسير ، لا أثر له على كتابه الأصلي انظر كتاب (شهور في ديار العرب) لمسعود الندوي ، ص50 .
(5) قد يظن بعض القراء أن ثمة تساهلاً في إطلاق السلفية على بعض المذكورين ك « محمد رشيد رضا ، وسيد قطب » - رحمة الله عليهم - ، ولا يخفى أن الأستاذ محمد رشيد رضا لا يخلو من نزعة صوفية سابقة ، كما أن عنده لوثة عقلانية ، كما أن سيد - رحمه الله - لا ينفك عن بعض الهنات اليسيرة التي صوبها بعض العلماء ونبهوا علىها ولم يغمطوا للرجل حقه ، وفي الجملة فإن المآخذ على هذين العلمين لا تخرجهما عن دائرة أهل السنة ، فلم تكن مخالفتهما فيما أحسب لقاعدة أو أصل كلي من قواعد الدين وأصوله ، كما حرر هذه المسألة الإمام الشاطبي في الاعتصام .
(6) رسالة وجوب التعاون بين المسلمين ، ص : 13 .
(7) انظر مثلاً : العلمانية ، للحوالي ، ومصادر المعرفة في الإسلام ، لعبد الله القرني ، والانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر ، لسعيد الغامدي وغيرها كثير .
(8) درس بعض باحثي أهل السنة الديمقراطية كما في كتاب الثوابت والمتغيرات ، للصاوي وبنود وسراب الديمقراطية ، للرحال ، وغير ذلك .
============(14/198)
(14/199)
تحالف لغير المسلمين يرفض "الدولة الإسلامية"!
وسط الجدل الساخن الذي تشهده الأوساط السياسية الماليزية حول إسلامية الدولة أو حاجتها للأسلمة الفعلية، قال "المجلس الاستشاري للبوذية والنصرانية والهندوسية والسيخية" وهو تجمع لممثلي العقائد فيما عدا الإسلام بماليزيا إن ماليزيا دولة علمانية، وأن دستور البلاد الفيدرالي هو السلطة العليا للقانون في البلاد.
وحذر بيان صدر مؤخراً عن المجلس مما أسماه بتبديل "العقد الاجتماعي الذي بني على أساسه الدستور الفيدرالي"، مشيراً إلى أن مجلس الأديان الرباعي الذي يمثِّل ما نسبتهم أقل من 40% من السكان غير المسلمين يعارض أي "مساس" به أو تغييره، ويضيف البيان: "عندما تأسست ملايا ثم ماليزيا، كان هناك عقد اجتماعي بين الجماعات الإثنية والدينية المختلفة حول شكل الدستور الذي يجب أن يحكم البلاد، وهذا العقد الاجتماعي هو الذي أدخل في الدستور الاتحادي ولا يمكن تغييره من دون استشارة وإجماع جميع المجموعات التي تشكل المجتمع الماليزي".
العقد الاجتماعي؟
ويستمر البيان في سرد الأحداث التي أدت إلى تكوين الهيكل القانوني لاتحاد ماليزيا والتي بدأت بمشاورات بين الحكومة البريطانية والسلاطين الملايويين وحزب التحالف في عامي 1956و1957م، وذلك بعد عام من أول انتخابات محلية يفوز بها حزب التحالف تمهيداً للاستقلال، ثم أعيد ذكر "العقد الاجتماعي" في تقرير اللجنة الدستورية عندما استقلت ملايا في أغسطس 1957م، ثم تكرر الحديث عن العقد الاجتماعي في عام 1962م بإشراك ولايتي صباح وسرواك (شمال جزيرة بورنيو) قبل اندماجهما مع اتحاد ماليزيا في العام الذي يليه وظهر "عقد اجتماعي"، يؤكد سابقه.
ويشير جوهر "العقد الاجتماعي" إلى أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، لكن ذلك لا يمنع الأقليات الدينية الأخرى من ممارسة شعائر دياناتها، والتمتع بالحريات الثقافية الكاملة، والنقطة المثيرة للجدل هي ما يدور حول معنى أن دين الدولة هو الإسلام، وفي هذا يقول مجلس أديان غير المسلمين: إن هذا لا يعني أنها "دولة إسلامية" ولكنها علمانية!.
استغلال للأجواء الدولية
ولعل من اللافت للنظر أن يعقد المجلس الاستشاري للأديان الأربعة فيما عدا الإسلام اجتماعات في الأسابيع الماضية، وسط الحملة الإعلامية الدولية التي تستهدف مفهوم وتطبيقات الدولة الإسلامية، حيث كان المجلس صريحاً في التعبير عن "القلق والحذر البالغ من التطورات التي تشهدها البلاد مؤخراً".
وما يعنيه البيان هنا ما صرح به رئيس الوزراء الماليزي د.محاضير محمد في 29-11-2001م من أن ماليزيا دولة إسلامية بالفعل، وذلك مقابل ما يؤكده قادة الحزب الإسلامي الماليزي المعارض من أنها لاتزال غير إسلامية، وأن الحزب الإسلامي يسعى لتحقيق ذلك فعلياً حسب خطة متكاملة وضعها.
وقد التقى المجلس الديني الرباعي بقادة الأحزاب المشاركة في الحكم والتي تمثل الملايويين والصينيين والهنود وهم المجموعات الإثنية الرئيسة في البلاد وناقش المجلس مع السياسيين قضية إسلامية الدولة محاولين تحريك الأحزاب المؤيدة لرئيس الوزراء وحزبه من غير المسلمين ضد فكرة "الدولة الإسلامية"،، غير أن حزبي جمعية صيني ماليزيا وغيراكان وهما أكبر حزبين يمثلان الصينيين في الحكومة أكدا أن إعلان محاضير بأن ماليزيا دولة إسلامية واقعياً لن يضر بحقوق وحياة غير المسلمين، مستدلين بعدم حدوث أي تغيير سلبي تجاههم مهما صغر.
تكرار موقف عام 1988م
وحسب قول أحد المحللين، فإن موقف المجلس الديني الرباعي في بيانه الصادر في 31-1-2002م، هو خروج واضح على الموقف الرسمي للأحزاب المنضوية تحت راية التحالف الوطني الحاكم، وأنه موقف يؤيد موقف حزب العمل الديمقراطي المعارض، الذي يؤكد قادته أصحاب الخلفيات اليسارية وأكثرهم من الأقلية الصينية أنه يجب أن تظل ماليزيا دولة علمانية، مع أن دينها الرسمي هو الإسلام، وهو الموقف الذي كرر تأكيده رئيس الحزب في تصريح له يوم 29-1-2002.م.
غير أن الرئيس الحالي للمجلس الديني الرباعي الأسقف الكاثوليكي سوتير فيرنانديز ينكر هذا الربط وقال: إنه لا علاقة بين موقف مجلسه وموقف حزب العمل المعارض الذي ترك تحالف الأحزاب المعارضة بسبب الخلافات بينه وبين الحزب الإسلامي حول قضية أسلمة الدولة الماليزية، وقال الأسقف: "إذا قرأتم بياننا فستجدون أنه تأكيد لموقفنا في عام 1988م حول حريات الأديان".
مسألة انتخابية
وكان كينج يايك أحد كبار السياسيين الصينيين في التحالف الحاكم قد دعا يوم 27-1-2002م أكبر حزبين صينيين في الحكومة إلى التعاون معاً لمواجهة محاولات حزب العمل المعارض إثارة مخاوف الجالية الصينية من قضية الدولة الإسلامية، مؤكداً أن على الحزبين توضيح الصورة الصحيحة لصينيي ماليزيا.(14/200)
واتهم كينج حزب العمل المعارض، باتباع "تكتيكات قذرة" لكسب عاطفة الصينيين، وجعل ذلك أداة لكسب أصواتهم في الانتخابات المقبلة، وفي المقابل، فإن الملايويين المسلمين يواجهون منافسة مماثلة على أصواتهم بين حزب رئيس الوزراء الحاكم الذي يؤكد إسلامية دولته، وبين الحزب الإسلامي الذي يرى أن مجرد الإعلان غير كافٍ، ويدعو الجماهير إلى انتخابه لإعلان دولة إسلامية حقيقية في ماليزيا.=>
==============(14/201)
(14/202)
العولمة من خلال رؤية إسلامية
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدهُ ونَستعينُهُ ونستغفره، ونعوذ بالله مِنْ شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مِنْ يَهدِه اللهُ فَلَا مُضل لَهُ، وَمَنْ يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ? [آل عمران: 102].
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا? [النساء: 1].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 70، 71].
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهداهم، واقتفى أثرَهم إلى يوم الدين.
أما بعد :
فالحديثُ في السنوات الأخيرة تكرر حول عنوان كثيرًا ما يظهر؛ إما في عناوين الكتب، أو في الطُّرُوحات الأخرى؛ كالمجلات والصحف والوسائل الإعلامية، وهذه الطُّرُوحات المتنوعة المتعددة كثيرًا ما تتحدث عن هذه القضية التي سنعرض لجانب منها؛ ألا وهي: " العولمة "، وسنُرَكِّز عليها في إطار "نَظراتُنا لها من خلال المنهج الإسلامي".
تعريف العَوْلَمة
إنَّ العولمة من خلال تعريف سهل ميسر هي : جَعْلُ العالَم واحدًا.
فهي مُشتقَّة من العالَم؛ فهي تَفاعُل وانْفِعالٌ يقصد إلى جَعْل العالَم واحدًا في تَوَجُّهاتِه وأحواله الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وهذه الدعوة التي اتَّخَذت اسم " العولمة " لا تقتصر على الطَّرْح الفكري أو الإعلامي فقط، وإنما تُمَارس الطَّرْح العملي في حياة الأمم والشعوب، ويُهِمُّنا نحن المسلمين أثرها ومؤثراتها علينا وعلى ديننا وعقيدتنا وأخلاقنا.
ونحن نعلم بادئ ذي بَدْء أَنَّ الإسلام نفسَه دِينٌ عالَمي، فلو استَعَرْنا المصطلح لَقُلْنا: إنَّ دِين الله سبحانه وتعالى يسعى إلى عولَمةِ العالَم، لكنْ من خلال أصول تُسْعِد الإنسانَ في الدنيا والآخرة، من خلال منهج رباني دَعَت إليه رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ومِن ثَمَّ فتاريخ الرُّسل وعقيدتهم ومنطلقاتهم واحدة، فَلَمَّا خُتِمت الرسالات بنبينا صلى الله عليه وسلم جعلها الله للعالمين جميعًا: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا? [سبأ: 28]؛ ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ? [الأنبياء: 107].
وبالفِعْلِ انْطَلَق الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم مَشْرقًا ومَغرِبًا، ينشرون دين الله سبحانه وتعالى، حتى إنهم لَمَّا قابلتهم البحار قال قائلهم: لو أنني أعلم أن بلادًا خَلْف هذا البحر لركبتُ إليها ؛ ماذا يقصد؟!!
إِنَّه نشرٌ لدين الله سبحانه وتعالى، وإخراجٌ لهم من النَّار إلى الجنة، ومن عبودية العباد إلى عبودية رب العباد تبارك وتعالى، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ومِنْ ثَمَّ فمِثل هذه الدعوة بمجردها تَطْمَح إليها جميع الأمم؛ فالشيوعية حاولت أن تكون عالمية ولكنها جُوبِهت، والاستعمار الحديث - وأعني به في القرن الماضي - حاول أن يَفرض نفسه على العالم كله، لكنه واجَهَ مقاومات وفشل إلى حد كبير، فالمحاولة الأخيرة التي نعيشها في السنوات الأخيرة هي محاولة ضمن تاريخ ونُسُق عاشته قوى وأمم أرادت أن تفرض فِكْرَها وعقيدتها وأخلاقها ونظام حياتها فيمن تستطيع أن تفرضها عليه.
خُطُورةُ العَوْلَمة في وَاقِعِنا المُعَاصِر
وأَخْطَرُ ما في العولمة التي نعايشها في هذه السنوات الأخيرة أنها قامت على خمسة أَذْرُع، وهذه الأذرع في الحقيقة أدَّتْ إلى ما نعايشه اليوم من خطر أحسَّتْ به غالبيةُ الدول؛ إسلاميةً كانت أو غير إسلامية، لكنَّ الإحساس بالخطر كان من جانب المسلمين أكبر لأمر؛ وهو أن هذه العولمة وإنْ وُجِّهت إلى دول العالم كلها؛ إلا أنها موجهة إلى العالم الإسلامي بشكل واضح وصريح.
العَوْلَمة وأَذْرُعُها الخَمْسة!!
الأول : " الذراع العسكري ".
ويُقْصَد به القوة العسكرية الضاربة التي تريد أنْ تَفرض العولمة من خلال هذه القوة، وقد سمَّاها بعض رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية من عشر سنين بـ" العصا الغليظة ".(14/203)
وسمى شَعْبَه هناك بـ" شعب الله المختار" الذي أرسله الله إلى العالمين؛ ليبثوا وينشروا فيهم الديمقراطيةَ أو الحريةَ، وحقوقَ الإنسان والرخاءَ الاقتصادي ونحو ذلك، فهذه العصا الغليظة بمنجزاتها العسكرية المتنوعة - سواء منها ما يتعلق بالسلاح النووي والبيولوجي، أو بأسلحتها المتنوعة المختلفة الأخرى المعروفة - هم يَسعَوْن بهذه القوى العسكرية إلى أنْ يفرضوا عولَمتهم.
الثاني : " الذراع السياسي " .
ويكون استخدامه من خلال السيطرة على المنظمات السياسية العالمية وتوجيهها الوجهة التي يريدونها، ومن ثَمَّ نجد أن هذه التوجهات والمنظمات السياسية العالمية تسير وتُقَاد بطريقة معينة، وتفرض من خلال ضغوطها وشروطها ونظمها ومواثيقها على دول العالم الأخرى السير في الركب؛ شاءوا أم أبوا !!
ومن ثَمَّ استخدم الغرب هذه الذراع لفرض هذه العولمة مع الأذرع الأخرى التي سنوردها هاهنا.
الثالث : " الذراع الاقتصادي".
ويستخدم أيضًا من خلال المنظمات العالمية، وعلى رأسها منظمة التجارة العالمية والبنوك العالمية الكبرى، والشركات العالمية، ومن خلالها يحاولون أن يُعَوْلِموا العالم، ويسيطروا عليه اقتصاديًّا، ونَعْلَم أهمية القضية الاقتصادية فيما يتعلق بحياة الأمم والشعوب؛ فتَجِدُ مثلًا بعض هذه القوى الاقتصادية أو الشركات تستطيع بقدرتها المالية أن تبتلع دولًا، وهذا الابتلاع مقتضاه أن هذه الدول تصبح مدينة خاضعة تُمْلِي عليها النظم والحياة، وتسير من خلال استعمار اقتصادي، والتجارب متعددة، وما جرى لشرق آسيا حين حاولوا أن ينهضوا اقتصاديًّا - بما سُمُّوا بالنُّمور هناك - جَعَلَتْ أعداء الله ( يتدخلون في أمور هذه الدول من خلال الناحية الاقتصادية، ويخترقون شركاتها وأسسها الاقتصادية، ثم بطُرُق معينة يلعبون بالاقتصاد لينهار السوق في ساعات محدودة!!
كيف سار هذا؟!
إِنَّه استخدام لهذه الذراع الاقتصادية؛ لأجل إخضاع كل من لا يسير على الطريق الذي لا يريدونه، وإذا ما برزت قوة اقتصادية حاولوا تدميرها بقواهم الاقتصادية الأخرى.
الرابع : " الذراع التقني والعلمي ".
ونستطيع أن نعتبرها من أهم هذه الأذرع؛ لأنَّ أثرها كان كبيرًا، فأعداءُ الله في السابق حاولوا عولمة العالم واستعمار العالم الإسلامي، لكنْ ما كانت التقنية العلمية - المتمثلة في الاتصالات ووسائل الإعلام والشبكات العنكبوتية والمحطات الفضائية وغيرها من الوسائل - ما كانت مؤثرةً وبالغةَ الدقة كما هو الحال في السنوات المتأخرة؛ فهذه التقنية العالية عند الغرب جعلته بالفعل يستخدم هذه الذراع بكل ما يملك من قوة لِفَرض العولمة على غيره من دول العالم الثالث ومنها العالم الإسلامي، وهي قضية واضحة مثل الشمس؛ لأنَّ هذه التقنيات فعلًا قد اخترقت الحُجُبَ، وأصبحت الدول التي كانت تَظن أنها تحيط نفسها بسُور من الجمارك مثلًا أو من غيرها؛ لتمنع وصول ما لا تريده إليها، أصبحت من خلال هذه التقنية تَرِد إلى بلادها وبيوتها، ومن خلال هذه الوسائل التقنية الدقيقة؛ لتخترق الحواجز والحجب، وتَنْفُذ لتنشر ما تريده من فكر وعقيدة وأخلاق ونظم .. إلى آخره.
فهذه الذراع التقنية المتطورة، والتي تتطور بسرعة، استطاعوا أن ينفذوا من خلالها، وهذا النفوذ الخطير هو الذي عَجَّل بالمتغيرات الكبيرة في كثير من بلاد العالم، ومنها بلاد العالم الإسلامي.
الخامس : " الذراع العقدي والثقافي والفكري ".
وهي من أخطر هذه الأذرع، وما الأذرع السابقة إلا لأجل أن تُمَكِّن هذا الذراع من أن يصل إلى الدول الأخرى، ويَنْفُذ في داخل المجتمعات من خلال وسائل متعددة، لينشر فيها عقيدة الغرب، ومنطلقاته الفكرية وثقافته، وحضارته ونظمه وأخلاقه وحياته، وهذا هو الخطر الأكبر .
هذه العولمة الثقافية والفكرية والعقدية حاولت أن تَنْفُذ، وتَنْقُل ما عند الغرب من حياة على مختَلف وجوهها إلى تلك الدول؛ مُعَوْلِمة لها، وفارضة عليها ما تريد؛ لتحقق بذلك جميع أهدافها، ومن ثَمَّ فإن هذه الذراع الخطيرة التي نعيشها نحن المسلمين بشكل أوضح؛ لأنَّ عقيدتَنا وإسلامَنا ودينَنا وشريعتَنا متميزةٌ، لها خصوصيتها الدقيقة الواضحة، أي أنه عند شعوب أخرى ربما لا يُهِمُّها أن تَنْتَقل من إلحادٍ إلى إلحاد، أو من كُفرٍ إلى كفر؛ لا يُهمها أن تَنْتَقل من مظاهر حضارية إلى مظاهر حضارية أخرى مختلفة، لا يهمها أن تنتقل مِن نظام وتشريع إلى نُظُمٍ أخرى مختلفة عنها، أما نحن المسلمين فلا؛ فالأمر عندنا خطير وكبير ومُهِمٌّ جدًّا.
آثَارُ العَوْلَمة في الجَانِب العَقَدي والثَّقافي والفِكْري
ومِنْ ثَمَّ فإن التفصيل في هذه الذراع وأثرها مهم جدًّا؛ ونحن نَقِف مع بعض آثارها باختصار:
[1] الانْحِراف العَقَدي(14/204)
إنَّ من الآثار المتعلِّقة بهذه الذراع العقدية والفكرية والثقافية هو ما يتعلق بالعقيدة ، ونعني بها: أَنَّ حضارة الغرب أصلًا تقوم على الإلحاد، فهي حضارة مادية كافرة، وهي في ظل العولمة تَنْقُل إلينا نحن المسلمين عقيدتها، وإلحادها وماديتها، وهذا أمر واضح المعالم؛ فبلاد أوروبا اليوم تعيش على أصل كبير جدًّا يقوم على ركيزتين:
الركيزة الأولى: هي العلمانية الشاملة.
فهذه هي حياة الغرب، حتى وهُمْ يُدَعِّمون التنصير، ويدعمون الخدمات التي تقدمها الجهات الدينية وغيرها، لكنها حضارة قائمة بأصلها على العلمانية الشاملة.
الركيزة الثانية: أنها تنطلق من الحياة المادية، فالحياة عندهم هي أكل وشرب واقتصاد ?مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا? [الجاثية: 24].
هذانِ الركيزتان يَبرز من خلالهما - بصورة كبيرة جدًّا - الهدف من كون الغرب يريد أن يُعَوْلِمَ العالمَ الآخر، ومنه العالم الإسلامي؛ فإِنَّه ينقل إليه هذه الأصول الإلحادية الكبرى.
ولكَ أَنْ تتصور حياة الغرب القائمة على الكفر بالله ، سواء كان إلحاداً أو ودينٌ محرَّف..
عبادة المسيح..! عبادة العُزَيْر..! أديان إلحادية أخرى وَثَنِية..!
فهذه هي التشكيلة الغربية سواء ما كان منها فلسفة معاصرة من اشتراكية أو شيوعية، أو من يكون منها مرتبطًا بِنَزَعات دينيةٍ سابقةٍ، لكنها تقوم على الكفر بالله سبحانه وتعالى ، وهي بِمُجْملها يريد العالم أن ينقلها إلينا نحن المسلمين عن طريق العولمة.
[2] الانْحِراف في النُّظُم والتَّشْرِيع
ومما أثر ت فيها العولمة أيضًا: نُظُم الحياة التي نسميها نحن بالشريعة، فالعدو يريد أيضًا من خلال هذه الذراع أن يفرض علينا نُظُمَهُ وحياته، فحياة الغرب ونظمه تختلف تمامًا عن حياتنا نحن المسلمين القائمة على أساس العقيدة التي تَنْبَثِق منها شريعة متكاملة تشمل جميع شئون الحياة، أي أَنَّ الْمُسلم لا يمكن أن يخرج في أي شأنٍ مِنْ شئونه عن شريعة الله سبحانه وتعالى الكاملة: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا? [المائدة: 3].
والحقيقةُ أنَّ هذا المظهر من أخطر المظاهر؛ لأنَّ مظهر الحياة الغربية بنظمه لَمَّا تَعَوْلَم وانتشر في العالم - ونحن من هذا العالم - فإِنَّنَا نحن المسلمين نكون في هذه الحالة ممن يرتضي نظمًا غربية ونتخلى عن دينه وشريعته، وكما قال علماء السلف الصالح قديمًا: (مَا مِنْ بِدْعَةٍ تَحْيَا إِلَّا وَتَمُوتُ فِي مُقَابِلَهَا سُنَّةٌ) ، فكذلك أيضًا: مَا مِنْ نُظُم حياة تُسْتَوْرَد إلا ويقابِلُها انحسارٌ في شريعة الإسلام بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ وبالطبع فنلاحظ أننا نَفْصِل تمام الفصل بين الشريعة المبنية على أصول عندنا نحن المسلمين وبين القضايا الإدارية البَحْتة، فنحن نتكلم اليوم عن الْأُوْلَى بشكلٍ أساسي، ونتكلم عن الثانية التي تَقْدُم إلينا بأصولها وجذورها.
[3] الانْحِراف الأخْلاقِي
كذلك أيضًا بالنسبة للأخلاق ومعرفة الآثار الأخلاقية للعولمة في بلاد العالم الإسلامي؛ فالفسادُ الأخلاقي المتنوِّع تجد أن هذه الذراع الثقافية بالفعل تؤثِّر وبشكل مباشر، وأظن أن هذا الأمر واضح تمام الوضوح، وأمثلتها كثيرة جدًّا، ونذكر منها :
• المرأة :
وخَصَّصْناها لأنَّها - فِعْلًا - مِيدانٌ ضخم لحرب الإسلام والمسلمين وتَغْيِير أحوالهم؛ فجاءت العولمة بالنسبة للمرأة لتؤَثِّر على كثير مما يتعلق بحياة المرأة المسلمة، سواء ما يتعلق منها بدينها، وأهدافها، وغاياتها، أو بمظاهر الأخلاق والتصرفات، أو بالألبسة والأزياء وغيرها.
• اللغة العربية :
إِنَّ اللغة العربية هي لغة القرآن، فالعولمة الآن تحاول أن تطغى لتجعل لغة العالم هي اللغة الأجنبية، وبالأخص اللغة الإنجليزية، وكثيرٌ من شبابنا اليوم بدأت طموحاته متأثرة بعوامل عِدَّة، يرى أَنَّ النمو الحضاري لن يكون إِلَّا بأنْ يكون صاحب لغة أجنبية يُتْقِنها!!
وإتقانها - والحالة هذه - سيكون على حساب لغته العربية، فكيف إذا تطور الأمر ليكون منهج المدارس الابتدائية وما بعدها؟!
كيف إذا تطور الأمر لتنشأ المدارس العالمية التي تُدَرِّس أحيانا باللغة الأجنبية؟!
كيف إذا تطور الأمر إذا صار الخطاب الإعلامي في كثير من أحواله لا يكون إلا باللغة الأجنبية؟!
ونحن نعلم أَنَّه في الشبكة العنكبوتية لا تكاد تَذْكُر اللغة العربية، أما المواقع التي تُعَدُّ بالملايين باللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة الإنجليزية، فهذا التَّصَلُّب اللغوي هو مظهر خطير جدًّا من مظاهر العولمة الفكرية والثقافية.(14/205)
وينتج عن ذلك بالفعل عدةُ مؤثرات تتعلق بالأسرة وبالشباب وبالتعليم، تتعلق بحياة الإنسان وخصوصياته؛ هذه الأمور وغيرها هي من المظاهر الخطيرة بالنسبة للعولمة، وكثير من الناس - وإِنْ طُرِحَت عليه العولمة الاقتصادية أو السياسية أو غيرها - إِلَّا أَنَّه يرى أن الخطر الأكبر حين تكون العولمة فكرية ثقافية أخلاقية؛ لأن الأمم إذا دُمِّرَت من الداخل فإنها ستكون قد انتهت، إذا خَرِبت قلوبُها وعقيدتها وأخلاقها وأهدافها في الحياة، فإنها ستكون غنيمةً سهلة لأعدائها.
إنَّ الأَذْرُع الْأُوْلَى كافَّةً؛ السياسي، والعسكري، والاقتصادي، والتقني، كلها جاء لتُسْتَخدم لفرض هذا المظهر والذراع الخطير، ألا وهو الخطر العقدي والفكري والثقافي على العالم الإسلامي.
العَوْلَمة والدَّعَوات البَاطِلة
هناك مظاهر عالمية أحيانًا تجدها تُقَادُ مِنْ قِبَل الغرب القوي المسيطر، والعالم الإسلامي يعاني ما يعاني منها؛ ومن أمثلة ذلك:
دعوى " حقوق الإنسان " :
فهي في المنهج الإسلامي منضبطة بالضابط الشرعي.
أما اليوم فانظر كيف تدور قضايَا حقوق الإنسان عالميًا ليُفرض المنهج الغربي؛ حتى وهو يَكيل بمكيالين مَفْضوحَيْنِ أمام العالم كله، إنها قضية تُطرح عالميًّا وتتعلق بحقوق الإنسان، والعالم الإسلامي يتلقى مثل هذه الطروحات ولا يدري كيف يتعامل معها؛ طُرُوحات لحقوق إنسان مبنية على المنهج الغربي والإلحاد الغربي، بالرغم من أنَّ لدينا منهج مُؤصِّل ونظيف في حقوق الإنسان، ثم تأتي حقوق الإنسان أو المنظمات العالمية لتبني منطلقاتها على المساواة التامة ، ومقتضى هذا أنه لا فَرْقَ بين دِين ودِين، لا فرق بين من يعبد الأحجار، وبين من يَعبد الواحد القهار؛ فكل هؤلاء سواسِية، وفي منهج الإسلام العظيم لا يمكن أن يستوي هؤلاء: ?لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ?[الحشر: 20].
?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ( مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[ القلم: 35، 36].
وهكذا عندما تأتي الطُّروحات العالمية، مثل: المساواة بين المرأة والرجل، وهي قضية تخالف الطبيعة؛ فربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ?وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ( وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى? [الليل: 1-3].
فالليلُ ليلٌ والنهار نهارٌ؛ هذا له طبيعته، وهذا له طبيعته، كذلك أيضًا الذَّكر له طبيعته والأُنْثى لها طبيعتها، فعندما تأتي مثل هذه الدعوات لتنادي بالمساواة، يأتي المنهج الإسلامي ليقول: لا.
فالبديل هو العدل، والعدل أحيانًا يكون بالمساواة، وأحياناً يكون بعدم المساواة، ولو قال قائل: تجب المساواة بين المجرم وغير المجرم!! لكان جميع الناس يعترضون على مثل هذا الطرح، وهل هناك أعظم إجرامًا ممن يكفر بالله سبحانه وتعالى ويلحد لنساويه بالمؤمن العابد لله تبارك وتعالى؟!
دعوى " تقارب الأديان العالمية " :
والمقصودُ بها عولمة هذه الأديان؛ ليخضع الإسلام لها، فعندما تأتي المؤتمرات العالمية كمؤتمر " السكان "، أو " المرأة "، أو غيره .. تجد أَنَّ هذه المؤتمرات تفرض حياة الغرب وثقافته، ونظمه.
والعالم الأخر أو الثالث، ومنه العالم الإسلامي يستجيب ويُوَقِّع ولا يعترض، وليس هذا للجميع، بل فيهم من يعتذر عن مثل ذلك، لكنَّ الغاية لِمِثل هؤلاء هي أن يتحول هذا المؤتمر المنبثق من قضايا غريبة ليفرض على المسلمين في حياتهم ودينهم وتعليمهم وأخلاقهم.
هذه الأذرع الخمسة للعولمة قد أَوْجَدت حالةً في العالم كله ومنه العالم الإسلامي، هذه الحالة سارت مسار نقاش وطروحات متعددة؛ لأن الكل يَحس بها ويراها ويعايشها..
مَوْقِفُ المُجتَمَعَات مِنْ العَوْلَمَة؟!
لقد بَرَزَت مواقف عِدَّة لِفِئَاتٍ عِدَّة مِنْ هَذِهِ العَوْلَمة نُشِير إِلَيها باختصار، ونُفَصِّل فيما نراه أصولًا ومنطلقات في الموقف من العولمة .
الفئة الأولى : وقفت بالنسبة للعالم الإسلامي من العولمة موقفَ المرحِّب بها الداعي إليها؛ ففَتَحَتْ لها ذراعيها، وهَلَّلَتْ لها، وصارت تنتظر سرعةَ تأثيرها في بلاد المسلمين، وهذا النوع يشمل غالبية أصحاب الأفكار المنحرفة في داخل العالم الإسلامي؛ كأصحاب التوجهات الاشتراكية، واليسارية، والقومية، والعلمانية، وأصحاب الحداثة الفكرية على مختلف مدارسها..
فكُلُّ هؤلاء يرحبون بالعولمة، ورأوا أنها ستكون وسيلةً لتحديث بلاد العالم الإسلامي وتغييرها، وهؤلاءِ إنما رحَّبوا بها لأنهم يَعيشون غربةً في بلاد المسلمين، يَعيشون صراعَ نُخَبٍ عربية ترى أنها هي الأعلى فكرًا وثقافةً .. إلى آخره.(14/206)
لكنها تَصطدم مع أصول المجتمع وقضاياه وأُسُسه الإسلامية والعقدية، وهذا الصراع برزت مظاهرُه أكبرَ فأكبرَ من خلال المرحلة الماضية بالنسبة للصحوة الإسلامية التي بدأت بعد هزيمة (67)(1)، ومِن ثَمَّ فإن أصحاب هذه الأفكار لَمَّا أقبلَتْ هذه العولمة بأَذْرُعتها وجدوها مخرجًا له، وهذا المخرَج جعلهم يُرحِّبون بهذه الحضارة وعولمتها وفسادها وإفسادها، وتَبِعَهم على ذلك جمهرةٌ من العامة أصحاب الشهوات والفجور؛ فهم يريدون هذه العولمة ليأخذوا منها ما يشاءون بحسب ما تريده شهواتهم.
فهذا النوع من المفكرين والمثقفين رحَّبوا بالغرب، وبكل ما يأتي من الغرب، وليسوا بِدْعًا؛ فقد سَبَقهم قبل سبعين وثمانين سنة مِن أساتذتهم مَن أتى بنفس الفكرة لَمَّا استعمر الغرب العالم الإسلامي بعد سقوط الدولة العثمانية ، فكانت هناك دعوات لأدباء ومفكرين في ذلك الوقت تنادي بأن نكون قطعة من أوروبا، وبأن نتحول إلى جزء من الحضارة الغربية؛ رافضين لدينهم وإسلامهم وعقيدتهم وتراثهم.
الفئة الثانية : هي الفئة التي رَفضت العولمة، وهذه الفئة رأَتْ أَنَّ العولمة مظهر من مظاهر الاستعمار والاستعباد، وأنها خطر على الأمة، فرفضتها واعتزلتها اعتزالًا تامًّا؛ وهذا النوع من العجيب أنه انقسم - وإن كانوا قلةً - نوعانِ متضادانِ:
النوع الأول: من الأخيار الذين رأوا أن خطر هذه العولمة يقتضي العزلة؛ عليكَ بخاصة نفسك.
وهذا بلا شك إنِ اسْتطاعه فردٌ أو فردانِ، لكنْ من الناحية العملية؛ ففيه صعوبات كبيرة جدًّا، خاصَّةً في هذه الأحوال التي نعيشها .
النوع الثاني: هو فئات من أصحاب التوجهات اليسارية وغيرها الذين رأوا في العولمة استعمارًا رأسماليًّا ؛ فرفضوها من منطلقات يسارية إلحادية.
الفئة الثالثة : وَهُم بعض الذين طرحوا هذه القضية ، وحاولوا أن يعالجوا وضعها؛ فانتهوا إلى حلٍّ هم يسمونه وسطًا ؛ وأعني به الحلَّ الْمُلَفَّق بين " الحضارة الغربية والإسلام "!!
بمعنى : أن هؤلاء رأوا أَنَّه لا يمكن أن نقاوم العولمة بالقرآن والسنة، أو بكتب الفقهاء المتقدمين، وقال هؤلاء: لا يمكن أن نواجه حضارة المحطات الفضائية والإنترنت والاتصالات والإعلام والسرعة .. إلى آخره بتلك!!
إذًا؛ فما هو الحل عندهم؟
جاء في أُطْرُوحاتِهم أَنْ لَا نَتَخلى عن أصولنا، لكنْ أيضًا يمكن أن نواكب هذه المتغيرات لنجد لها مساحات معينة في المنهج والفكر الإسلامي وفي الفتاوى الإسلامية، في كلام الفقهاء، وأحيانًا في شذوذات الفقهاء، في رخصهم وهكذا..
عملوا نوعًا من الدمج والجمع بين هذينِ؛ ليتَوَصَّلوا إلى منهج عصراني يتواكب مع الحالة المعاصرة والعولمة التي نصطلي بنارها في هذه السنوات الأخيرة.
إنَّ هذا النموذج أيضًا ليس بِدْعًا؛ فقد سَبَقه إليه أيضًا نموذجٌ آخرُ قبلَ سبعين أو ثمانين سنة لَمَّا جاء الاستعمار إلى العالم الإسلامي، فهناك فئات أرادت أن تجمع بين الإسلام والحضارة الغربية، وأن تخضع لكثير من الأمور الحضارية الغربية بعض الأصول والقواعد الإسلامية والشرعية، وجمعوا بينهما بما يسمى بـ" المدرسة العقلية الحديثة "، لكنها في النهاية لم تنجح، والسببُ في ذلك هو أن هذا الطَّرْح المبني على تنازلاتٍ، وإخضاع أصول الدين وقواعده لتلك الأحوال المعاصرة من باب مجاملتها.
كل ذلك يؤدي في النهاية إلى أن يَعتَزَّ الغرب بطرحه، ويؤدي إلى أن يكون المسلم المتبَنِّي لذلك أن يَضْعُف انتماؤُه لأصولِه، فهو بذلك يشبه إلى حد كبير علماءَ الكلام الذين كانوا في الزمن الأول.
كان في الزمن الأول وفق الكتاب والسنة والعقيدة الصافية، ثم تُرْجِمت الفلسفة اليونانية، فاطلعوا عليها وأُعْجِبوا بها، فلمَّا أُعْجِبوا بها أرادوا أن يجمعوا بين أصولهم الإسلامية وبين الفلسفة اليونانية الإلحادية، فحدث الخَلْط بينهما، ونَتَج ما سُمِّي بـ" علم الكلام "، الذي أصوله فلسفية، ومُزَيَّن ومُزَرْكَش بما يوافقه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وما الذي أنتجه علم الكلام هذا؟
كان أحد أسباب تأخُّر العالم الإسلامي؛ لأنه شغلهم في مناقشات لا مساس لها بالواقع والحياة العملية، فأصبح علماء الكلام كما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا للفلاسفة كسروا، ولا للإسلام نصروا)(2).
فانتبهوا إلى العبارة!! لأن الفلاسفة تسلطوا عليهم لَمَّا وافقوهم على بعض أصولهم.
كذلك أيضًا التوجهات العصرية في هذه الأيام؛ فلو أنها - واللهِ- كَسَرَتِ الغربَ وأَحْرَجَتْه، واستطاعت أن تنتج لنا - فعلًا - توجهاتٍ فيها الاستقلال، ولو أنه فيه ما فيه؛ لقلنا واللهِ: نعم .. هذه جهود لها ثمرتها ونحترمها؛ لكنها طُرُوحات أَطْمَعت فينا الغرب مرةً ثانيةً؛ وأيما دولة إسلامية أو عالِم أو مفكر إسلامي قدِّم تنازلاته بهذه الطريقة إلا وجعل أعداءَ الله سبحانه وتعالى يطمعون فيه وفي دينه؛ ليقوم بتنازلات أكثر فأكثر.
الطَّرْحُ المُعاصِر " اسْتِسْلام المَغْلُوب "!!(14/207)
ومِنْ هنا فإنَّ هذا الطَّرْح - الذي نسميه نحن بالطرح المعاصر - خطورَتُه تأتي مِنْ أَنَّه ينظر إلى القضية من خلال تنازلاتٍ يجب أَنْ يُقَدِّمها لعدوٍ غَالبٍ ظالِم مُسَيْطِر، أي: أَنَّه استسلام المغلوب؛ هذا الوضع سيجعل هذا الطاغي الظالم يطالب بتنازلاتٍ أكثرَ فأكثرَ؛ مع أنه في دين الله سبحانه وتعالى الأمر واضح تمام الوضوح؛ يقول الله - تبارك وتعالى- فيه ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ?[البقرة: 120].
البلاد العَلْمانية اليوم في كثير من العالم الإسلامي، أليست بعلمانيتها قد لَحِقت برَكْب علمانية الغرب؟!
الجواب: بلى.
وهل الغرب اليوم يحترمها ويُقَدِّرها؟!
الجواب: لا؛ فهو لا يزال يعتبرها شرقيةً، ويطلب منها المزيد من الخضوع، لا يزال يَسْخر منها ويحتقرها، لا يزال يقول بصوت عالٍ: إن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي للغرب وليست لهؤلاء؛ إذا كنا قَدَّمْنا لأعدائنا وتنازلنا لهم إلى حد أن نُقَدِّم لهم العلمانية ونفرضها ونحارب دين الله من أجل ذلك، ومع ذلك فالغرب لا يرضاه، وإنما يريد المزيد من التبعية والتبعية حتى يكون الدهس بالأقدام؛ أي: إلغاء الهوية من جميع جوانبها، فكذلك أيضًا نقوله لمن يريد أن يَطْرح طُرُوحات معاصرة؛ فنقول له: إنَّ هذا الطرح في النهاية لن يُرْضِي الغرب، ولن تكون - والحالة هذه - ممن ثبت وبَقِيتَ على منهجك وعلى أصول دينك.
مَوَاقِفُنا تِجاهَ " العَوْلَمَة "
إنَّ مَوْقِفنا من هذه العولمة اليوم ينبغي أن يكون موقفًا مدروسًا، واسمحوا لي في هذه الفقرة الأخيرة أن أطرح جملة من المنطلقات التي يجب أن ننطلق منها في موقفنا من العولمة:
أولا : أن نحدد منذ البداية طبيعة الدين الإسلامي في موقفه من " الجديد " :
بمعنى: أننا لا يجوز لنا أن ننظر إلى قضية العلم والإسلام على أنها صراع، فقد وُجِد الصراع نعم في الغرب بين الدين والعلم؛ لأن الدين محرَّف، أما عندنا نحن المسلمين فلا يمكن من أن يوجد صراع، لا يمكن أن يكون في دين الله من كتاب الله والسنة الصحيحة ما يخالف نظرية غربية صحيحة أبدًا، فلا صراع بين الدين والعلم، ولا تَعارُض بين العقل والنقل في المنهج الإسلامي؛ لأن كليهما من الله ?أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأمْرُ?[الأعراف: 54].
فالحضارةُ المعاصرة هل هي التي اخترعت؟!
بالطبع لا؛ فهي تعمل في مخلوقات الله عز وجل، واللهُ هو الذي جعل في هذه المواد القابليةَ للتصنيع وليس الغربُ، ولهذا فَإِنَّ غاية الغرب أَنَّه يكتشف، حتى الإنسان خلقه اللهُ، غاية ما عنده من العلم أَنَّه يكتشف طبيًّا خليةً كان جاهلًا بها آلاف السنين، لكنَّ الخلقَ خَلْقُ اللهِ.
وكذلك كتابُ الله وسنةُ صلى الله عليه وسلم التي هي وحيٌ، فهما عندنا يجب ألا نوجِد الصراع بينهما؛ لأنه لا يوجد في المنهج الإسلامي.
فهذا المنطَلق من هذه القضية مهم جدًّا؛ حتى نعلم كيف يتميز الإسلام عن غيره في نظرته للحياة؟
الإسلام دين الله الحقُّ، فالقضيةُ فيه منفصلة، فهو ليس دين يقول لك: اجلس في المسجد إذا أردت العبادة وانتهى الأمر؛ فهو ليس دين رهبنة، ولا صوفية ولا غيرها من المناهج التي تريد أن تعزل الإنسان عن الحياة، بل بالعكس، فديننا دين علم يبني حضارة، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
ثانيا : أن نواجه عولمة الغرب بالعودة إلى الذات :
العودة إلى ما عندنا من أصول ؛ إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وما يَنْبَثِق عنهما من عقيدة وشريعة.
وقد يقول قائل: وهل هذه العودة ممكنة مع هذه العولمة الطاغية؟!
فأقول: هناك دول أخرى كافرة مثل اليابان؛ دولة وثنية ومتطورة صناعيًّا، وبالفعل واجهت العولمة كغيرها، أتدرون كيف واجهتها؟!
واجهتها بأن عادت إلى أصولها وجذورها وهي كافرة؛ حتى لُغَتها، ويخبرني أحد الأطباء ويقول لي: " جاء فريق طبي ياباني ليُجري عملية في مستشفى الملك فهد في الرياض، وجلسنا نحن معه في أثناء العملية، وأشدُّ ما أَحْرَجَنا أنه في أثناء العملية لا يعرف اللغة الإنجليزية؛ حتى المِقص والقطن كنا نحاول أن نُفْهِمه إياها بالإنجليزية، فكان لا يعرفها ".
فسبحان الله!! فلاحظ كيف يعتزُّ بلُغَته، وكيف يبني حضارة من خلال لُغَته.
ويقول لي هذا الأستاذ: " واللهِ في الجامعة في اليابان كنتُ قد بحثتُ عن كتاب بالإنجليزية لأقرأ فيه وما وجدتُ؛ بل كلها مترجمة إلى اللغة اليابانية ".
فأقول: سبحان الله!! دولة وثنية تواجه العولمة وتعود إلى أصولها وتؤصل. فأين نحن منها؟!
ونحن المسلمون لدينا دين وعقيدة وشريعة، بل بعض دول أوروبا مثل فرنسا وألمانيا ترفض عولمة أمريكا، وترفض عولمة اللغة الإنجليزية وحضارة أمريكا؛ لأنها لها أصولها وتراثها ولغتها، فإذا كانت هذه الدول نفسها تعود إلى أصولها وجذورها مواجِهةً لهذه العولمة، فما بالُنا نحن المسلمين؟!(14/208)
إنَّ المنطلق الثاني الأساسي حقيقةً بالنسبة لنا نحن المسلمين في مواجهة هذه العولمة هو فعلًا أنْ نسارِع إلى أن نواجه عولمة الغرب بالتأصيل، والعودة إلى أصولنا وجذورنا وإلى ديننا، وليس بالانسياح أمام ثقافة هؤلاء الأعداء وفكرهم وعقائدهم.
ثالثًا : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية في مواجهة هذه العولمة :
ونحن نَعْلَم علم اليقين أن قوة العدو مهما كبرت وكثر عددها وعدتها، إلا أنها في ميزان الصراع بين الحق والباطل حين يكون المسلمون حاملين لدينهم الحق لا يمكن أن يُنظر إليها على ميزان المساواة، فتاريخُ المسلمين من أوله إلى آخره وانتصاراتهم كلها مبنيَّة على قلة المسلمين وضعفهم في العدد والعُدَّة وعلى كثرة عدوهم؛ فكذلك أيضًا بالنسبة لقوة هذه العولمة وتأثيرها؛ فإننا نستطيع أن نواجهها بأمرينِ:
• الأخذ بالأسباب الشرعية. • الأخذ بالأسباب المادية.
فربُّنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ?وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ? [الأنفال: 60]، وبالإمكان أن نحول تقنية هذه العولمة بضوابط إلى أن تكون وسيلةً لنا نحن؛ لنقاوم هذه العولمة، ونعيد تأصيل حياتنا ومناهجنا.
رابعًا : مواجهة عولمة الغرب بعالمية الإسلام :
والحقيقةُ أنَّ هذا خيارٌ عالمي بالنسبة لنا نحن المسلمين؛ أَنْ نواجه عولمة الغرب بِأنْ نَنْشُر وندعو بكل الوسائل إلى عالمية الإسلام.
وهذه الدعوة يجب أن يُلاحَظ فيها الأمور التالية :
1- أنه لا مكان للقوميات والجاهليات في بلاد المسلمين :
فإنَّ أمةٌ الإسلام، أمةٌ واحدة، وهي لا يمكن أن تدعو إلى عالمية الإسلام في الغرب ما لم تكن أيضًا بلاد المسلمين يجمعها فقط رابطٌ واحد؛ هو رابط الإسلام، ومن هنا فإن الدعوات القومية والوطنية والمادية الجاهلية وغيرها هي بالفعل بالنسبة لنا نحن المسلمين تنتهي إلى أن يتفرد الغرب بعولمته من هذه الدولة إلى تلك الدولة؛ لتكون في النهاية أشتاتًا ممزَّقة بين أنياب الغرب الذي لا يَرْحم.
2- نحن ندعو إلى عالمية الإسلام في مقابل عولمة الغرب :
نُقَدِّمه ونحن نَثِق بهذا الإسلام وبهذا الدين، والإنسان الذي لا يَثِق بدينه لا يمكن أن يُقَدِّمه؛ فالمهزومُ الذي يرى عدوَّه هو الأقوى والمنتَصِر، ويُعْجب به وبحضارته وفِكْرِه لا يمكن أن يقاوِم أبدًا، فضلًا أن يقدِّم البديل.
ومِن هنا فلا بُدَّ أن ننطَلِق من الثقة في الذات؛ ففي زمن صلى الله عليه وسلم تَحزَّبت الأحزاب على المسلمين من كل ناحية، فماذا فعل المسلمون؟ قال الله تعالى: ?وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا?[الأحزاب: 22]؛ فانظر إلى المنهج! فعولمة الغرب يجب أن تَزِيدكَ ثقةً في إسلامِكَ، وليس رَكْضًا ولَهْثًا أمام الزُّبالات من أفكار الغرب.
3- أن نقدم النموذج لتطبيق الإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة :
ومِنْ ثَمَّ فلا مكانَ للعلمانية في بلاد العالم الإسلامي، فإذا أردنا أن نواجه هذه العولمة فعلينا أن نقدِّم النموذج الصحيح، وإذا صَدَقْنا - وأعني بذلك جميع فئات الأمة - في العودة لديننا وتحكيمه، فسَنُقدِّم - فعلًا - النموذج؛ لأن دين الله لا يمكن إلا أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان.
4- اليقين بأن المستقبل للإسلام :
فالإسلامُ ينتشرُ وينتصر؛ فالرسو صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب وهم ينتظرون الأحزاب مُقْبِلين على المسلمين لِيدمِّرُوهم في ساعةٍ كان r في أثناء حَفْر الخندق في قصة الصخرة يُبشِّرُهم بفتح كنوز كِسْرى وقيصر واليمن ، إنه يبيِّن لهم أنه مهما حُورِب الإسلام، ومهما تَحزَّب عليه أعداؤُه؛ إلا أن المستقبل للإسلام.
وواللهِ؛ إِنَّ هذا لَيُرَى اليوم رَأْيَ العين، فالإسلام يَنْتشر ويَقوَى في كل مكان.
ووالله؛ إنكَ لتَعْجب أنكَ لَتَجِدُ في بعض المسلمين ضعفًا وخَورًا وتنازلاتٍ في نفس اللحظة التي ينتصر فيها الإسلام وينتشر هنا وهناك. لِمَ؟!
لأنه دين الله الحق، ورسول ا صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح أَنَّ رُوما ستُفْتَح(3)؛ روما عاصمة النصرانية سيَفْتَحُها المسلمون، وهذا خبرُ مَن لا يَنطق عن الهوى r، وقال في الحديث الآخر: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)(4).
إِذًا؛ ننطلقُ من خلال إدراكنا أَنَّ المستقبل للإسلام، وأَنَّه لا مستقبل للبشرية حقيقيًّا وحياةً حقيقيةً إلا بالإسلام.
5- أن نقدم عالمية الإسلام ونحن نُوقِن أنه هو البديل لعولمة الغرب وحضارته الزائفة:
إِنَّ حضارة الغرب هي حضارة تحمل في طَيَّاتها عواملَ انهيارها وفسادها، وما رأيُكم بحضارةٍ تقوم على الإلحاد، وعبادة الإنسان؟!
ما رأيكم بحضارة تقوم على الأخلاق النفعية؟!
فمُنْذُ خمسين أو ستين سنة يُطَنْطِن الغرب بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فلمَّا تعارضت مع مصالحه صار يَدْهَسُها بالأقدام!!
فهل هذه حضارة تقدِّم للعالم ؟!
لا يمكن.(14/209)
ما رأيكم بحضارة الانحراف الخُلُقي والإيدز؟!
حضارة يُقِرُّ البرلمان - الذي يُمَثِّل الشعبَ - الشذوذَ الجنسي، ويضع له نظامه، ويحترم أصحابه!!
حضارة تُقِرُّ بقضية الخيانة الزوجية بين الطرفين!!
حضارة عُرْي!!
حضارة مادة!!
صحيحٌ أنَّ لها عنوانًا مظهرِيًّا وهو: (القوة سياسيةً كانت أو عسكريةً)؛ لكنها في داخلها يَنخر فيها الفسادُ، ولا أَسْتثني من ذلك دول أوروبا كلها، ولهذا لا يَشْعر بهذه الحقيقة إلا المسلمُ الذي أَسْلَم من بلاد أوروبا؛ هو الذي يُحِس بالفارق الكبير بين ما يقرأه ويُحِسُّه ويشعره عن الإسلام، وبين الحضارة الغربية بكل ما فيها من مظاهر جوفاء خَدَّاعة.
يُخْبِرني أحدُ الإخوة ويقول:
" بعضُ البَعثات الدَّعَوية في فرنسَا كان لهم جهودٌ، فأَسْلَم على يديهم رجلٌ مفكِّرٌ فرنسيٌّ، ويقول بأنه رجلٌ فاضلٌ وأَسْلم، فيقول: دَعَوْناه إلى إحدى دول الخليج للزيارة، فزَارَنا، ووَضَعْنا له حفلةً ضخمةً في إحدى الصالات حتى نلتقي به ونسأله، فجَهَّزْناها وحَضَر الحاضرون، وجاء هذا الأخُ على المنَصَّة وبجانبه المقدِّم، وإذا به يقول للمُتَرْجِم: قل لهؤلاء الحاضرين لا سلامَ عليكم ولا رحمةً ولا بركةً، فتَلَعْثَم المترجِم!!
فالأخوة قد فَرِحوا به ويريدون أن يسمعوا منه ويسمع منهم، وإذا به يُجابِهُ بهذه الكلمة الغريبة!!
فأعاد عليه مرةً ثانيةً وقال له: قل لهم أقول لكم لا سلامَ عليكم ولا بركةً ولا رحمةً، فتَلَعْثَم، فقال: قُلْهَا؛ لا تتردد، أنا أعني ما أقول، فقال : أخوكم في الله يقولُ لا سلامَ عليكم ولا بركةً ولا رحمةً، فضَجَّت القاعة؛ كيف يحدث هذا؟!
ولكنه سُرْعانَ ما تكلَّم وقال لهم: اسمعوني، أنا جِئْتُكم من بلاد الغرب وهداني الله للإسلام، أين أنتم منذ عشرين وثلاثين سنة وأربعين سنة؟!
أين أنتم ومعكم هذا النور المبين؟! لماذا لا تقدموه لنا؟!
أنا ماتت أمي، وماتت أختي وأقاربي على غير الإسلام، فأين أنتم من هذا النور؟
لماذا لا تقدِّمُونه لنا في بلاد الغرب؟! "
إِنَّ حَرْبَ الغرب للمسلمين وتشويههم، يمكن أن نَنْفذ من خلالها، لكن بشرط أن نُقَدِّم هذا الإسلام للناس حضارةً ليس لها بديل.
في عالم اليوم حضارة قابلة للانهيار؛ لأنها منهارة من الداخل، فالبديل ما هو؟
البديل لن يكون إلا بالإسلام؛ لأنه - فعلًا - دِينُ الله الذي ارتضاهُ، دينُ العبودية للواحد القهار، دين السعادة للإنسان في الدنيا وفي الآخرة.
وهو - واللهِ - لَدَوْرٌ عظيم بالنسبة لنا نحن المسلمين، يجب أن يُنَبِّه له العلماء والدعاة ورجال الصحوة وطلاب العلم، وكلُّ مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة يدرك ويعلم أنه على ثَغْرة من ثغور الإسلام.
فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك في ظل عولمةٍ طاغية لا تَرْحم.
أسأل الله تعالى أن يُعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأنْ يجعلنا من أنصار هذا الدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
المحتويات
الموضوع الصفحة
مقدمة ........................................................................
تعريف العولمة .................................................................
خطورة العولمة في واقعنا المعاصر ................................................
العولمة وأذرعها الخمسة ........................................................
الأول : الذراع العسكري .....................................................
الثاني : الذراع السياسي .......................................................
الثالث : الذراع الاقتصادي ....................................................
الرابع : التقني العلمي .........................................................
الخامس : العقدي والثقافي والفكري ............................................
آثَارُ العَوْلَمة في الجَانِب العَقَدي والثَّقافي والفِكْري ...............................
1- الانْحِراف العَقَدي ........................................................
2 - الانْحِراف في النُّظُم والتَّشْرِيع ............................................
3- الانْحِراف الأخْلاقِي .......................................................
العَوْلَمة والدَّعَوات البَاطِلة .....................................................
دعوى " حقوق الإنسان " ....................................................
دعوى " تقارب الأديان العالمية " ...............................................
موْقِف المجتمعات مِنْ هَذِهِ العَوْلَمَة؟! ............................................
الطَّرْحُ المُعاصِر " اسْتِسْلام المَغْلُوب "!! .........................................
مَوَاقِفُنا تِجاهَ " العَوْلَمَة " ......................................................
المحتويات .....................................................................
(1) يُقْصَد : حرب (5 / يونيو / 1967) .(14/210)
(2) مجموع الفتاوى( 16/300) ، ودرء التعارض(3/345) .
(3) [صحيح] أخرجه أحمد [2/176]، والدارمي [1/126]، وابن أبي شيبة في المصنف [2 /47/ 153] وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة [1/33/4] .
(4) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند (4 / 103) ، والحاكم في المستدرك (4/ 477) وغيرهما من حديث تميم الداري رضي الله عنه ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي بقوله : على شرط البخاري ومسلم .
===============(14/211)
(14/212)
تجميل الإرهاب الهندوسي والتحريض ضد باكستان
شهدت القاهرة مؤخراً حملة تحريضية ضد باكستان تحت ستار المواجهة المشتركة للإرهاب بين القاهرة ودلهي على حساب العلاقات المصرية الباكستانية، والعربية الباكستانية بزعم أن باكستان تؤوي قيادات القاعدة وعناصر طالبان وتدعم الجماعات الكشميرية التي تصفها الهند بأنها جماعات إرهابية.
الوفد الهندي عقد في نهاية جولته مؤتمراً صحفياً وأعد أوراقاً تطفح تزييفاً للحقائق بشأن الصراع مع باكستان، فضلاً عن التحريض ضد المصالح الباكستانية في القاهرة، إلا أن المؤتمر انقلب رأساً على عقب وواجه الوفد الهندي هجوماً حاداً بدأ عندما سألهم أحد الصحفيين عما سيكتبه عن هذه الجولة والغرض منها، وما إذا كانت الهند تطلب تأييد مصر وشعب مصر المسلم ضد باكستان المسلمة؟! من أجل دولة "الهند" التي لا تحترم حقوق الإنسان في كشمير أو داخل أراضيها كما أنها لا تحترم المواثيق الدولية ولا قرارات مجلس الأمن وتزعم علانية أنها قرارات غير صالحة للتطبيق، كما أنها لا تحترم الوساطة الدولية ولا تقبل بها، وتستغل الأوضاع الدولية الراهنة بشكل سيئ للغاية من أجل تحقيق مكاسب على حساب دولة أخرى وشعب مظلوم!!
كما تساءلت م التي حضرت المؤتمر الصحفي عن نية الحكومة الهندية بشأن بناء المسجد البابري في ظل تصريحات رئيس الوزراء يوم 29-1-2002 بأنه يريد بناء المعبد الهندوسي في إيوديا لاسترضاء المجلس الهندوسي الأعلى، وعن استعدادات حكومة فاجبائي لاتخاذ خطوات ضد المليشيات الهندوسية المتطرفة والمسلحة التي تتهدد الأقليات بالهند وبخاصة المسلمون وترفع شعار "الهند للهندوس فقط"، وسر التقارب بين حزبي فاجبائي الهندوسي المتطرف وحزب شارون الصهيوني المتعصب واستعدادهما للتحالف معاً ضد العالم الإسلامي، وتصريحات شيمون بيريز وزير الخارجية الصهيوني في الهند بأن إسرائيل والهند تنظران إلى القضايا والأوضاع الراهنة بعين واحدة، وحول موقف الحكومة الهندية من معسكرات التدريب الهندوسية المتطرفة المتمركزة في مدن جاسيلمر وجوت يور، وجاكور، وبيكاثور وغيرها والتي تصدر إرهابها إلى باكستان عبر ولاية راجستان الحدودية، وإصرار الهند على استبعاد أي محاولات سلمية من جانب منظمة المؤتمر الإسلامي حول تدهور الأوضاع في كشمير، وكيف ترغم الهند كشمير على الانضمام إليها قسراً رغم رفض أهلها ومقاومتهم لذلك طيلة نصف قرن؟
كما شن مندوب قناة المعلومات العربية على الإنترنت "محيط" هجوماً حاداً على سياسات الهند في كشمير وانتهاكات حقوق الإنسان، وأشار إلى إدانة منظمات حقوق الإنسان العاملة داخل الهند نفسها للانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في كشمير من قتل وحرق وتدمير وحبس وتشريد وتجويع أكثر من 7 ملايين من أهالي كشمير.
وحذر زكريا نيل نائب رئيس تحرير صحيفة "الأهرام" من خطورة ارتماء الهند في أحضان الكيان الصهيوني وتجاهل المشاعر العربية والإسلامية والتضحية بمصالحها التي تفوق ما تحققه من مكاسب معه عشرات الأضعاف، وهاجم مندوبو صحيفتي العربي والوفد وبعض الصحف الإسلامية الموقف الهندي والردود غير المقنعة على تساؤلاتهم، الأمر الذي أدى إلى تصاعد التوتر وسخونة الحوار حتى خرج رئيس الوفد عن شعوره وانفعل أكثر من مرة. وقد حاولت المستشارة الإعلامية لسفارة الهند بالقاهرة حجب فرصة طرح الأسئلة عن عدد من الصحفيين المتحفزين، الأمر الذي أشعل الموقف وأثار الاحتجاج بين الصحفيين، مما حدا بالقائمين على المؤتمر الصحفي للمسارعة بإنهائه خوفاً من المزيد من الهجوم والانتقاد، وبعد أن ظهرت النتيجة العكسية للمؤتمر الذي كانوا يؤملون في أن يروجوا من خلاله لموقفهم المناوئ لباكستان، واستغلال الموقف الدولي المعادي للإسلام بزعم محاربة الإرهاب.
ضم الوفد الهندي وزير الخارجية الأسبق لال بهاتيا ورئيس وزراء ولاية دلهي الأسبق د. صاحب سينج فيرما من حزب باراتيا جناتا الهندوسي إلى جانب عضوين مسلمين هما سيد شاهد مهدي نائب رئيس جامعة الجمعية الملية الإسلامية بنيودلهي، وعبد الصمد صمداني عضو برلماني عن حزب الرابطة الإسلامية، وقد قام الوفد بجولة في القاهرة استمرت ثلاثة أيام التقى خلالها عدداً من كبار المسؤولين وعدداً من قيادات الفكر والمثقفين والسياسيين، وجاءت الزيارة رداً على زيارة مبعوث باكستاني للقاهرة قبل أيام من مجيء الوفد الهندي.
جولة ساخنة(14/213)
وفي جامعة القاهرة واجه الوفد الهندي انتقادات حادة حول موقف حكومته من كشمير والصراع مع باكستان والتحالف مع إسرائيل ضد مصالح العرب والمسلمين في المنطقة، خاصة بعد أن زعم الوفد البرلماني أحقية الهند في كامل الأراضي الكشميرية. وقد وجه الوفد الهندي انتقادات حادة لباكستان بأنها عجزت عن إيجاد بنية دستورية سليمة وأن مخابراتها العسكرية ارتبطت بطالبان ونظام القاعدة في أفغانستان، ونهجت نفس الأسلوب في إدارة صراعها مع الهند، زاعماً أن العلاقة بين باكستان ونظام القاعدة لم تنقطع حتى هذه اللحظة، وادعى أن مصر تدرك هذه المعلومات تماماً ولا بد من التعاون معاً للوقوف في وجه الإرهاب أياً كان مصدره!.
باكستان مثل إسرائيل!
الغريب أن سيد شاهد مهدي عضو البرلمان الهندي المسلم اتهم باكستان بأنها دولة عنصرية متطرفة قامت على أساس الدين مثل إسرائيل تماماً! مؤكداً أن المسلمين في الهند لن يدعموا دولة ترعى الإرهاب مثل باكستان وأنهم فخورون بانتمائهم لدولة علمانية ديمقراطية مثل الهند.
وانتقد الدكتور محمد سعيد أبو عمود أستاذ العلوم السياسية بجامعة حلوان التركيز الواضح في الإعلام الهندي والعالمي على الإرهاب الذي يزعمون أن وراءه مسلمين، في الوقت الذي تتنامى فيه ظاهرة الإرهاب الهندوسي بصورة أخطر بكثير وهو إرهاب قائم بالفعل يتجسد في قضية المسجد البابري، كما أن هناك جماعات هندية أخرى تمارس الإرهاب ضد الدولة، ولكن الأمر لا يلقى أي اهتمام كاف ويتم التركيز على المسلمين.
كما طالب الدكتور محمد سيد سليم مدير مركز الدراسات السياسية ومنسق الندوة الهند بعدم إغفال قرارات الأمم المتحدة بشأن قضية كشمير وعدم مجاراة الحكومة الصهيونية بانتهاكها لقرارات مجلس الأمن بشان القضية الفلسطينية، وقال إنه يتعين على الهند أن توازن علاقاتها حتى لا تفقد مصالحها في المنطقة العربية وقال إن مصر تربطها بالجارتين النوويتين علاقات طيبة ولا يقبل الشارع العربي عامة والمصري بصفة خاصة إية إساءة من جانب الهند إلى جارتها المسلمة باكستان.
مواجهات ساخنة بين القاعة والمنصة
ووجهت القاعة إلى المنصة الهندية أسئلة من العيار الثقيل حول موقف رئيس الوزراء الهندي من هدم مسجد البابري والتصريح برغبته في بناء المعبد على أنقاض المسجد، وحول سر إصرار الهند على التمسك بكشمير رغم كفاح شعبها على مدى نصف قرن ضد الوجود الهندي رغم ادعائها الديمقراطية، وأن مصالح الهند مع العرب وليست مع تل أبيب، وأسباب تضحية الهند بحوالي 60% من تجارتها الخارجية مع العرب لصالح الكيان الصهيوني وأسباب اتهام الهند المستمر لباكستان دون دليل عقب حدوث أي عمليات داخل الهند، في حين توجد أكثر من عشرين جماعة انفصالية ومليشيات مسلحة داخل الهند.
وجاءت ردود الوفد الهندي بأن الموقف الهندي ضد ممارسات إسرائيل في المنطقة وضد العدوان على السلطة الفلسطينية وأنها تعترف بأن عرفات هو الرئيس الشرعي لدولة فلسطين وأنه لا بد من السماح بقيام الدولة الفلسطينية وإيقاف العنف الإسرائيلي. وأكدوا أن قضية المسجد البابري مازالت منظورة أمام القضاء، وبرروا تصريحات فاجبائي بأنه تعرض لضغوط شديدة من جانب المجلس الهندوسي الأعلى بشان المعبد الهندوسي.
وبخصوص الموقف المتوتر مع باكستان أكد الوفد أنه في حال تقديم باكستان إجراءات فعالة ضد من سماهم الإرهابيين في كشمير وتسليم المطلوبين إلى الهند فساعتها يمكن أن تجلس الهند معها لتسوية الخلافات دون تدخل طرف ثالث وفقاً لاتفاقية شملا وإعلان لاهور، بعيداً عن قرارات الأمم المتحدة التي لم تعد صالحة وأصبحت خارج نطاق الزمن حسب قوله.=>
===============(14/214)
(14/215)
هدف التعليم في الإسلام..
بناء الإنسان الصالح في كل وظائف الحياة
م تسبر مع الدكتور مصطفى سيريتش أغوار فلسفة التعليم في الإسلام (1)
تمثل قضية التعليم وفلسفته أحد الشواغل المهمة للمهتمين بأمر الأمة، خاصة في مراحل الضعف والوهن؛ إذ إن التربية والتعليم مقومان أساسيان في عملية بناء النهضة. حول فلسفة التعليم الإسلامي والفارق بينه وبين التعليم الغربي كان هذا الحوار مع الدكتور مصطفى سيريتش رئيس علماء البوسنة والهرسك، وهو مربٍ ورجل تعليم من الطراز الأول.
وسط صيحات تنادي بالاهتمام بالتعليم وتحسين المناهج الدراسية، وغير ذلك، ومن موقعكم كرجل تعليم وممثل لأعلى الهرم الديني في البوسنة، ودراستكم المتنوعة في الأزهر، ثم في الولايات المتحدة، وهو ما أتاح لكم التعرف على الفلسفتين الإسلامية والغربية في التعليم، كيف تنظرون إلى هذه القضية الحساسة؟
<< أشكركم على هذا السؤال المهم. أعتقد أن أولويات المسلمين في هذا القرن، وفي هذا الظرف هي التربية والتعليم، فبدون التربية لا يؤدي التعليم أهدافه السامية وبدون التعليم لا نحصل على التربية المرجوة، وهي تربية تستمد معالمها وفلسفتها من القيم والشريعة الإسلامية، فهذان الصنوان مرتبطان ببعضهما البعض في فلسفة التربية الإسلامية، وهما مرتبطان شكلا ًومعنى أو شكلاً ومضموناً، فالتعليم هو الشكل أو القالب أو الإطار والتربية هي الروح، والتربية بالنسبة للتعليم بمثابة الروح للجسد، وهو نظام كوني رباني، فبالشكل نعرف ماهية الأشياء وبالروح نعرف غاياتها وأهدافها، فالشخص الخاضع لعملية التربية والتعليم والممارس لها يجب أن تكون فيه هاتان الخاصتان.
نحن الآن نحتاج لتعريف التربية والتعليم من جديد، أو قل إحياء التعريفات الإسلامية التي تعنى بماهية الأشياء والأمور وكيفياتها وغاياتها، وهي تتفوق على كل التعريفات من الناحيتين العلمية والحضارية، فالهدف من التعليم في العهد الرومي القديم كان إنتاج الإنسان أو المواطن المطيع للدولة، أو الذي يؤدي واجباته نحو الدولة، وهذا المواطن في التعريف الروماني القديم هو الإنسان المتمدن. أما في المفهوم الاسلامي فهو الإنسان الصالح الذي يخدم المجتمع، الذي يجب أن تغلب عليه سيماء الصلاح لأن الصلاح الفردي لا يؤدي الغرض المطلوب؛ ولذلك فإن صلاح الدولة شرط لصلاح المجتمع، ولتفعيل القرآن ومن هذا المنظور نفهم قول عثمان رضي الله عنه "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي أن الدولة أقدر على تفعيل قيم الإسلام بما لديها من صلاحيات توفرها السلطة من فرد أو مجموعة من الناس، ولاسيما في المجال التعليمي. وللأسف فإن المفهوم الروماني هو السائد في المنظومة التعليمية الغربية الذي استوحت منها الدول الإسلامية فلسفتها التعليمية الخالية من أخلاقية العلم أو المقاصد الإنسانية النبيلة. لقد أدت المنظومة التعليمية الغربية بالمجتمعات التي اعتمدتها أو حاكتها إلى الفردية، فالهم الأول للإنسان هو نفسه وحقوقه كفرد يسعى وراء مصلحته الشخصية إلى جانب كونه الشخص الذي يتصرف في المجتمع حسب القواعد الاجتماعية التي بنيت على فلسفة الحرية الشخصية التي لا تعرف هدياً ولا أخلاقاً إلا ما رسمه القانون الذي يعتبر الانسان ملك نفسه، وتصرفاته الشخصية لا علاقة لها بوظيفته أو مهنته أو مكانته الاجتماعية.
ونحن إذا نظرنا إلى التعريفين الإسلامي والغربي في إطار مفهوم التعليم والتربية نجد الغرب يهمل التربية والبناء الأخلاقي للإنسان، في حين يركز الإسلام على الإنسان من داخله فلا يجعله عقلاً محضاً ولا وجداناً محضاً بل يوفق بينهما في بناء حضاري عظيم. الإنسان في الإسلام لا يملك نفسه بل هو ملك لخالقه، ولا يمكن أن يتصرف إلا وفق ضوابط، من الحدود التي لا تقيد الإنسان، وإنما تحد من اندفاعه وهي بمثابة مكابح لشهواته المختلفة من أجل سعادته وسلامة المجتمع، ونحن نرى ماذا صنعت الحرية المطلقة في العالم من أمراض ومآسٍ وجرائم وانحدار على كافة الأصعدة.
ما تعريف الإنسان الصالح، وكيف يمكن تجسيد النموذج الحضاري الإسلامي من خلال منهج للتربية والتعليم؟(14/216)
<< السؤال المطروح هو هل هدفنا من طرح قضية التربية والتعليم هو تقريب المفهوم الإسلامي من النموذج الغربي، أم جعل مفهوم التربية والتعليم في الإسلام أنموذجاً لمجتمعاتنا أولاً ثم للمجتمعات الأخرى؟ هذا تحدٍّ بدون شك، ونستطيع أن نصل إلى هدفنا في التبشير بضرورة إنفاذ النموذج الإسلامي في حالة استطعنا أن نفصح عن مفهوم التربية والتعليم في النموذج الإسلامي ونترجمه إلى نماذج حية واضحة. أولاً: قدرتنا على إعداد المناهج. ثانياً: قدرتنا على إنتاج الإنسان الصالح فعلاً. ثالثاً: قدرتنا على بناء مجتمع صالح. ورابعاً: الوصول إلى مستوى من الإشعاع يمكن الآخرين من إدراك صواب نموذجنا في إعداد الإنسان الصالح ومن ثم المجتمع والدولة، ومعنى صالح أي غير فاسد بالمعنى المطلق للكلمة ومعنى صالح أي خير والخير ضد الشرير، وصالح بمعنى منظم في حياته وعلاقاته وهو عكس الفوضوي . والإنسان الصالح مقابل الكامل من الجهة الأخرى فهو في منزلة بين منزلتين، فالإنسان الكامل غير موجود إلا في ترهات الصوفية، والفاسد هو الذي أنتجته العلمانية الغرورة. الإنسان الصالح هو الذي يعرف قدر نفسه ويعرف واجباته نحو عائلته ومجتمعه وأمته، فهو صالح في نفسه ومحيطه وقطره وأمته والإنسانية، وقبل كل ذلك صالح في علاقاته مع ربه سبحانه وتعالى.
الإنسان الصالح هدف التربية والتعليم في المفهوم الإسلامي. ولنا أن نسأل أنفسنا: ماذا فعلنا في هذا المجال؟ ولأن معنى إنسان صالح له علاقة بالإيمان فإن القرآن الذي هو أعظم كتاب تربية عرفته البشرية على الإطلاق، قرن العلم بالعمل والسلوك إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات (العصر:3) ومعناه أن الإيمان غير مقبول أو غير كامل بدون عمل صالح، وكذلك العمل لا يكون مقبولاً بدون إيمان. ولا يكفي ذلك بل يجب التواصي بين المؤمنين بذلك وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3) (العصر). وهذه مهمة الأجيال منذ فجر الرسالة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك أقسم الله بالعصر وختم بالصبر لأن القضية تحتاج لثبات واستمرارية وكل ذلك يتطلب شجاعة وصبراً. نحن نعرف أن بعض النظم فاسد وهي كذلك لأن رموزها لم يتلقوا تربية تؤهلهم لأن يكونوا أناساً صالحين ومن ثم حكاماً صالحين وهذا تحدٍّ آخر: كيف يمكن أن نربي الطفل المسلم في مختلف مراحل حياته التعليمية والمهنية ليكون صالحاً وهو حاكم أو تاجر أو موظف أو عالم ويكون أسوة للآخرين. إن العصر الذي سبق الإسلام يسمى بالعصر الجاهلي، فلماذا لم يسموه العصر الكافر أو الملحد أو عصر الشرك رغم اجتماع كل تلك العناصر فيه؟.وأنا أجيب بالقول إن معنى هذا أن الشرك والكفر والالحاد جهل وأن الإسلام هو العلم وأن كل علم صحيح هو من الإسلام لأنه يعرف بحقيقة كونية، والإسلام كلمة الله الخاتمة جاء ليعرف الناس بحقيقة الكون ورب الكون، وليعلم الناس بل كل فرد وأولهم الرسول ص " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك.(محمد: 19). لقد سوى بعض المفسرين والمحدثين والفقهاء بين الإيمان والعلم، فكل مؤمن عالم والعلم درجات هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر:9)، معنى هذا أن الإيمان يساوي العلم؛ والكفر والشرك يساويان الجهل حتى وإن ادعى مدعٍ غير ذلك، وهناك علمٌ ظاهرٌ من الحياة الدنيا، أي من الظواهر الطبيعية، أي أن العالم لم يعلم من حقائق الكون إلا شيئاً بسيطا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا 85(الإسراء) وأمام العلماء المؤمنين في كل تخصص مهمة صياغة منهج إسلامي للتعليم والتربية، واضعين نصب أعينهم تلك الدرجة التي تنتظرهم يوم القيامة "مداد العلماء يوازي يوم القيامة مداد الشهداء". ومعروف أن الشهيد يبذل دمه وروحه في سبيل الله، والعالم يبذل مداده ووقته في البحث والتنقيب وتربية الأجيال بل وتربية الشهداء أنفسهم، لأن الذي حملهم على ما فعلوا هو العلم بمنزلة الشهداء عند الله تعالى. فإذا كان لك قلم تدافع به عن الإسلام وتوضح تعاليمه فأنت مجاهد بقلمك وعلمك. معنى هذا تفعيل الإيمان من خلال توظيف معرفتك لخدمته بدافع منه بعد أن وقر في قلبك. ونصرة الإسلام تحتاج إلى تعليم وتحتاج إلى تربية وخلق.
في ثنايا حديثكم تطرقتم للمفهوم الغربي للتربية والتعليم الذي يمكن الاستفادة من بعض جوانبه، الأمر الآخر هناك من يقول إن الإنسان المسلم مكبل، وفي حاجة إلى نوع من التعليم يحرره. فهل هناك علاقة بين الحرية والتعليم؟(14/217)
<< نحن المسلمين يجب أن نعرف ما معنى الحرية، ومم نتحرر، لقد حررتنا كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من كل الآلهة المزيفة: من عبادة الأشخاص، وتقديس المخلوقين، من عبادة المال والشهوات، من عبادة ذواتنا. أما الذين يريدون التحرر من الحدود الشرعية فهم في الحقيقة يقعون في العبودية الحقيقية وهي عبادة الشهوات إذا كانت هي الدافع، وعبادة المال إذا كان هو الهدف، والتقليد إذا كان منافياً لطبيعة الاسلام. فالمسلمون عباد لله فقط، فلا عبودية للإنسان ولا للناس ولا للدولة ولا لأي أجهزة، بل إن جميع هؤلاء مدعوون جميعاً ليكونوا عبيداً لله ولذلك خلقهم وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون 56 (الذاريات). لا يمكن أن يكون الإنسان حراً عندما يتمرد على خالقه بل الحرية كل الحرية عندما يطيع أوامره. ولا يمكن أن يكون حراً وهو يطيع هواه وشهواته وأسياده. فالمسلم يمارس حريته التي لا تتعارض مع صحته أو صحة المجتمع، والمسلم يمارس حريته حتى وإن سجن وعذب ومنع من الكلام والتعبير فهو مع ذلك يواصل جهاده. لكن المستعبد هو الذي يسكته رغيف الخبز ودراهم معدودات أو الخوف والوجل.
لعل مصطلح الحرية رافق حركة التنوير في أوروبا عندما كانت الكنيسة مسيطرة على الحياة بكل مظاهرها؟
<< صحيح في القرون الوسطى كانت هناك عبودية، وكان هناك نظام الأقنان، وكان العمال ملكاً للإقطاع، وهذا غير موجود في الإسلام فهو أول من دعا لتحرير العبيد بناء على الأوامر الإلهية، وجعلها قربات لله سبحانه وتعالى. وعمل النبي ص على التخلص من نظام العبيد تدريجياً حسب النظام الإلهي فسوى بين الناس جميعاً أمام الأوامر الشرعية، بحكم أنهم جميعاً أبناء آدم، ثم طلب أن يطعَم الموالي وليس العبيد ويسكنون ويلبسون على قدر المساواة مع بقية المسلمين. وبالتالي فالحرية والعبودية ليستا مشكلتنا بل مشكلة الحضارة الغربية.
العبودية عرفت أبشع أشكالها في التاريخ الغربي وفي القرون الوسطى وما قبلها وحتى ما بعدها حيث استعبد الغرب الشعوب المستعمرة في إفريقيا وآسيا، وكان الناس في حاجة لتحرير. وعندما استطاع الغرب هزيمة الكنيسة التي استعبدت الملايين كتب في دساتيره كلمة "يولد الإنسان حراً" وكأنهم لم يكونوا يعرفون ذلك من قبل، بينما المسلمون يدركون ذلك منذ زمن بعيد.. حتى من قبل أن يقول عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"؟.
هناك خلط بين المفهوم الغربي للحرية، والمفهوم الإسلامي.. كيف توضحون الفوارق بين المفهومين؟
<< ما معنى الحرية في الحضارة الغربية؟ معنى الحرية عندهم: الاختيار الحر، أي أنت حر فيما تختاره، سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً، أخلاقياً وكل شيء. ونحن إذا عدنا لتاريخنا الإسلامي وإلى علمائنا وسلفنا الصالح لا نجدهم يستخدمون مصطلح الحرية الغربية وإنما كانوا يستخدمون مفردات الحلال والحرام والخير والشر. ففي الإسلام ليس لك خيار في أن تقتل نفسك وليس لك حرية في أن تمارس فعل قوم لوط وتقنينه، فكل هذا وغيره شر وليس لك اختيار الشر في المفهوم الإسلامي، الشر المنصوص عليه شرعاً والمتفق عليه إجماعاً، ليس لك الحرية في أن تضر نفسك أو تلحق الضرر بالآخرين، ليس لك الحق في أن تقتل المسلمين في سريبرينتسا، وليس لك الحرية في تأسيس حزب فاشي في إيطاليا أو نازي في ألمانيا، أو تغتصب أراضي الفلسطينيين وتقيم عليها دولة صهيونية. وليس لك الحرية في أن تروع جيرانك وتقتل الناس بالجملة. ولكن لك مطلق الحرية في التعبير عن رأيك في الحاكم وفي سياسات الدولة، وفي اختيار من يتولى شؤون الشعب، وفي محاربة الفساد الإداري والسياسي، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومتاح لك فعل الخير بما ينفعك وينفع الناس والبيئة والإنسانية، وهذا هو مفهوم الحرية الذي يجب أن يعلم لأبنائنا في المدارس بدل المواثيق الدولية التي تعرف منها وتنكر، يعلم لأبنائنا ليكونوا نموذجاً صالحاً لمنهج التربية والتعليم الاسلامي، وأدعو المفكرين المسلمين من منبر مجلة المجتمع أن يولوا هذا الموضوع جانباً كبيراً من اهتماماتهم لأنه مدار رفعة الأمة أو انحطاطها لا قدر الله.
يقول روسو في كتابه العقد الاجتماعي "ولد الإنسان حرا فما باله مكبل بالسلاسل" ما السلاسل التي كانت تكبل الأحرار في المجتمع الغربي، وهل في العالم الإسلامي مثل تلك السلاسل التي تعيق النهوض؟(14/218)
<< تمثل العلمانية في عالمنا الإسلامي كنيسة من النوع الذي ثارت عليه أوروبا في القرون الوسطى، فهي التي تمارس القمع والاضطهاد، واستعباد الناس ومصادرة الفكر المخالف ومحاربته وسجن الأحرار وقتلهم، وهذا ما كانت الكنيسة تفعله، لقد تحررت أوروبا من الكنيسة، وغرقت في مباذلها، لكن العالم الإسلامي سقط في يد كنيسة علمانية حولته لقرون وسطى علمانية، فهي لم تقدم حتى الحرية التي يتمتع بها الغرب على علاتها فضلا عن النهضة الصناعية والديمقراطية. كما يشكو العالم الاسلامي من نزعة القومية المتطرفة والتقاليد التي لا علاقة لها بالإسلام، وهذا في نظري من بقايا الجاهلية في نفوس الأجيال يجب أن نتحرر منها، هناك جاهليات تمثلها الدعوات القومية والقطرية الضيقة وغيرها من الجاهليات التي ينبغي أن نتجاوزها بإسلامنا بمفهوم أرقى وأرفع. ولا يعني ذلك أن يتنكر البعض لقوميته أو قطريته وإنما يجعلها في مرتبة أدنى من الانتماء الأسمى والأوسع للإسلام. فالإسلام يجب أن يعلو ولا يعلى عليه. قد تعتبر ذلك مثالية ولكنها عقيدة لا يصلح ديننا بدونها، وهي ميزان إسلامنا.. فهل نحن مسلمون؟! وهذا ما يجب على التعليم الإسلامي أن يرسخه في العقول ويحقق هذه المعادلة وهو تحد كبير.
يركز البعض على التعليم، ما الذي يمكن أن يتحقق في حالة التمكين للنموذج الإسلامي في التعليم بمفهومه التربوي؟
<< إن النموذج الإسلامي الذي حلم به الرواد، ويعمل من أجله المصلحون ووضع المفكرون الإسلاميون منهجه من شأنه في حالة التمكين له أن يغير الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين في الغرب، بعد فشل المناهج السائدة في تكوين الإنسان كإنسان فضلاً عن أن نضيف كلمة مسلم أو متحضر له، كل الموبقات الفكرية والسياسية والاجتماعية السائدة في العالم الإسلامي هي نتاج لمجتمعات بدون إسلام أو ضعف فيها الوازع الديني فضلاً عن التعليم والتربية الإسلامية المقصاة أو التي وضعت في زاوية ضيقة. فالتعليم أداة جبارة لتحقيق جزء مهم من المشروع الإسلامي. ويعتبر الاستبداد الذي تمارسه بعض الحكومات أكبر معوق لنهضة المشروع الإسلامي الحضاري ولا أقول السياسي حتى لا أُفهم خطأ. ماذا على الحكومات لو سمعت لكل الأصوات وغربلت الآراء واتخذت الإسلام منهجاً وأفسحت لمنهج إسلامي تربوي في مدارسها؟ ومع ذلك أقول إن هناك هوامش يمكن استغلالها رغم البطش، ولنتذكر أن موسى عاش في بيت فرعون الذي لم يستطع الفرار من القدر ولم ينجه الحذر ولا الدماء التي سفكها أنهاراً؛ لأن العائلة المؤمنة اتخذت الأسباب وعملت بوصايا الله سبحانه. وقد تلجأ سلطات وقد فعلت إلى إخراج إسلام للناس وفق أهوائهم وخدمة لمصالحهم، ولكن مع ذلك لا نستبعد أن يخلفهم من يوحد الله في العقيدة والاقتصاد والسياسة والتعليم. كما لا نستبعد وليس ذلك على الله بعزيز أن يكون من بين الوزراء والمستشارين والبطانة من يستيقظ الإيمان في قلبه ويقول ربي الله. فهذا القرآن نزل بلسان عربي مبين ويتلى في أصقاع العالم بلغة واحدة دون تحريف أو تبديل، يتلوه العرب وغير العرب، وتلك من معجزات القرآن الذي جاء ليعلم الناس جميعاً. ولذلك يغار الأعداء ويغار المستشرقون لأن ليس لدينهم لغة واحدة في كتاب واحد يتعبد الناس بنصه الأصلى، فهم لذلك يطالبون بأن يتلى الأذان باللغات المحلية، ويُقرأ القرآن بمعزل عن نصه العربي، وهم مع كل ذلك يحاولون إخراج المسلمين من الإسلام ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء (النساء:89) فالأعداء يغارون من اللغة العربية ويحاولون هدم التعليم الإسلامي من خلال الدعوة للعامية أو إقامة الصلوات ورفع الأذان باللغات المحلية وهو حسد من عند أنفسهم وغيرة من الإسلام والعربية.
والعلمانية في العالم الإسلامي أقوى معاول الهدم في بنية الثقافة الاسلامية والتعليم الإسلامي واللغة العربية والحضارة الإسلامية عموماً، إنها ابنة غير شرعية للحضارة الغربية ولدت معاقة وتعيش على عكاكيز الغرب ودعائمه، وإذا ما تخلى عنها يوما فستسقط كما سقطت الأحزاب الشيوعية بسقوط العكاكيز السوفييتية.
-------------
في الحلقة الأولى من الحوار تحدث الدكتور مصطفي سيريتش رئيس علماء البوسنة عن الأولوية التي ينبغي إفرادها لقضية التربية والتعليم حتى يمكن تجسيد النموذج الحضاري الإسلامي .. كما أبان مزايا التمكين للنموذج الإسلامي في التعليم والذي يتميز كثيراً عن النموذج الغربي .. وفي هذه الحلقة "الثانية والأخيرة" من الحوار يتحدث د . سيريتش عن موقف الغرب من اللغة العربية والإسلام .. وارتباط التعليم بالتربية .. وإمكانية أحداث نقلة معرفية عبر مناهج التربية الإسلامية.
لماذا يُغار من اللغة العربية والإسلام؟(14/219)
<< غيرة الغرب من قوة القرآن وعظمة الحضارة الإسلامية نابعة من كون الإسلام يملك حلولاً بديلة وفاعلة ويتمتع بمنظومة متكاملة في كل شيء تقريباً. فكل قضية أو مسألة تجد أطراً لها في الإسلام ويملك الإسلام إجابة عنها، فالإسلام كله معجزة والقرآن منها بمثابة القلب كما أن آية الكرسي قلب القرآن، وهي كذلك لأنها تحدثت عن عظمة الله بشكل معجز وعظيم لم يسبق إليه كتاب مقدس، ولن يكون مثله ما يضاهيه أبداً، لأنها من عند الله. ومن أحسن من الله قيلا؟! وكما أن الرسول ص أرسل للناس كافة فإن رسالته كذلك وهي الآن ملك للبشرية جمعاء، ولا نستطيع أن نعبر عن عالمية الإسلام إذا لم نستطع أن نربي أجيالاً متعلمة تكون النموذج المطلوب، فليس في مجتمعاتنا الآن ما يغري الغرب على فهم الإسلام بشكل يختلف عن حالنا وتصرفاتنا وطريقة تفكيرنا. وأتمنى أن يكون في العالم الإسلامي ولو على مستوى النخبة من يقتفي آثار ابن خلدون في فهم حركة التاريخ والاجتماع، فالحضارة تحافظ على قوتها ما دامت تنجب العلماء، وتمارس النقد الذاتي وتفرق بين الأصل والهامش والغث والسمين والمحاسن والمساوئ، وأن تتعرَّض الذات المسلمة سواء الفردية أو الجماعية أو الحضارية لعملية إفراغ وإملاء مستمرة كما كان النبي ص مع صحابته حيث قال أحدهم "كان يفرغنا ويملؤنا" وأن لا تترك المجال لنقد الآخرين ومدحهم بل تنقد نفسها بنفسها. يجب أن نكتشف أخطاءنا بأنفسنا ونعلم أطفالنا ذلك. وهذا أفضل فالنقد يجب أن يكون سعياً للأفضل وليس مجرد جلد للذات. وحتى من يعمد لمدح حضارتنا ويتلهف البعض لما يقوله ويكتبه يجب ألا يمنعنا من عملية التنقية والإضافة لحضارتنا وجعل تلك العملية منهجاً للترقي والبحث عن الأفضل والأنجع، يجب غربلة التاريخ فنستفيد من النجاحات بالنسج على منوالها بوسائل عصرنا ونستفيد من الأخطاء بعدم تكرارها وما أدى إليها. وبهذا يصبح التراث وتصبح الحضارة لها مقومات البقاء. لذلك يجب ألا نخدع بنقد الحضارة الغربية على أيدي أساتذتها، فقد تستفيد تلك الحضارة من النقد فتقوم عوارها ولن يساهم النقد في سقوطها.
والسؤال هو: لو فرضنا جدلاً أن الحضارة الغربية قد سقطت اليوم فهل نحن الوارثون بما نحن عليه؟ هل ما نحن فيه يمثل البديل؟. العالم الاسلامي اليوم جمع بين صورتين مشوهتين ممتزجتين صورة الإسلام وصورة الحضارة الغربية فلا هو عالم إسلامي ولا هو صورة حقيقية لما في الغرب بخيره وشره على حد قول طه حسين.
يقول محمد اقبال في معرض إشارته إلى خطورة التعليم ودوره في كسب المعارك السياسية والاجتماعية وغيرها "يا لبلادة فرعون لو أنه بنى المدارس لما تعرض للخزي وسوء الأحدوثة في التاريخ" فالتعليم كما يفسره إقبال سلاح ذو حدين يستخدم في النهضة ويمكن أن يستخدم الانحطاط؟
<< هذا صحيح ولذلك تسعى جهات عدة لتغيير المناهج في العالم الإسلامي ولكن للأسوأ، ليفقد المسلمون ذاكرتهم، وتحرف عقيدتهم، ويشوه تاريخهم.. وهي سياسات واستراتيجيات ضد مفهوم التعليم ذاته. فالتعليم معناه التعمق والتوسع في فهم الأشياء وما حولنا والتاريخ والحضارة والمستقبل من خلال الاستشراف الجماعي داخل مراكز البحوث. ولكن المطلوب من العالم الإسلامي حجب المعلومات، وتجهيل الأجيال بدينها وتاريخها وتبييض صورة أعدائها من خلال التعليم، بالإضافة إلى تغييب الغائية من كل شيء. المناهج في العالم الإسلامي حالياً غير قادرة على تكوين الإنسان الصالح بمفهومه الحضاري المعاصر، المفهوم المضيف وليس النقيض، فالأصل العقائدي يجب أن يكون الإطار الذي يستقبل التكوين المهني والتحصيل العلمي ويجعله في خدمة الأصل، من حيث تجنب الشر كما يتجنب الأعزل عرين الأسد.
يقول البعض إنه يفضل أن يتلقى ابنه تعليماً راقياً من وجهة نظره حتى ولو أثر ذلك على ضعف تكوينه الديني، في حين هناك من يفضل أن يتلقى ابنه تعليماً دينياً وإن كان التحصيل العلمي أقل.
<< لا فائدة ترجى من علم بلا تربية أو تربية بدون علم. ولا يمكن الطيران إلا بالجناحين العلم والتربية وإلا فسنبقى مهيضي الجناحين. لقد غر البعض ما حققه الغرب، وهو شيء عظيم بلا أدنى شك، ولكن دون إدراك لاختلاف السياق التاريخي الغربي عن سياق حضارتنا التي بنيت على القيم، ولا يمكن أن ننهض إلا على هذا الأساس، ولا يمكن لبنيان أن يقوم على أسس حضارة أخرى.
كما لا يمكن الانتماء لحضارة بمجرد استخدام أدواتها أو تبني مظاهرها كنوعية التفكير والسلوك باسم مقولة الحضارة الإنسانية حيث إن الحضارة الإنسانية هي مجموعة الحضارات لأمم شتى ولا توجد حضارة واحدة توصف بالحضارة الإنسانية إلا ما يدعيه بعض الغربيين الذين يحاولون عبثاً إلغاء التاريخ وجعل التاريخ الغربي هو تاريخ الحضارة الإنسانية، وهذا اختزال وإسقاط وتزوير. خطورة بعض المناهج أنه يحاول تشكيل ثقافة معينة لتدارك ما فات فرعون فعله في مقولة إقبال التي ذكرتها آنفاً.(14/220)
قد يسهب البعض في الحديث عن التعليم والتربية، وقد يقول قائل إن التربية هي في نهاية المطاف تعليم، وإن هناك من تلقى تعليماً دينياً، ولكنه غير متدين انظر المستشرقين مثلاً، فهم يعرفون عن التربية والفقه والسيرة الكثير لكنهم لم يسلموا أو لم يسلم معظمهم، ما التربية؟
<< أرسطو كان على حق عندما قال "معرفة الله تجعل الإنسان مؤدباً" ومعرفة الله لا تأتي بالتعلم فقط بل بالأسوة الحسنة وتعويد الإنسان منذ نعومة أظافره على التفكير في عظمة الله، والتفكير العميق والذكر والتدبر المستمر، هذه هي التربية الحقيقية، وتلقين الحلال والحرام بأسلوب الترغيب والترهيب وحب الله قبل كل شيء هي التربية. لقد بلغ النبي ص كمال المعرفة ولذلك خاطبه الله سبحانه بقوله "وإنك لعلى" خلق عظيم (4) (نون)، عندما تحب الله من كل قلبك ويكون أحب إليك من كل شيء فأنت على قدر عظيم من التربية. إذا أحب الإنسان خالقه أطاعه في كل شيء وإذا خافه تجنب معاصيه، وخالق الناس بخلق حسن وتلك التربية. نحن عرفنا من خلال قراءتنا للتاريخ أن الناس عرفوا الشر ولكنهم مارسوه فليس العلم بالشيء من حيث هو خير أو شر يجعل المرء يطلب الأول ويتجنب الثاني. فجميع الناس بمن فيهم اليهود يعلمون أن ما يحصل في فلسطين ظلم واضطهاد وعنصرية مقيتة. والعالم يعلم أن ما حصل في سريبرينتسا كان إبادة حقيقية، وأن جهات عديدة شاركت فيها بمستويات مختلفة، وربما كان ولا يزال اليهود والصرب والروس في الشيشان والهندوس في كشمير يعلمون أنهم بقتلهم البشر يمارسون الشر، ولكن علمهم بذلك لم يمنعهم من ممارسته، مما يكشف عن خلل كبير في التربية أو أنهم يفتقدون التربية. ونستطيع القول إن العلم مع التربية يساوي المعرفة الحقيقية، فالمعرفة ذات بعد فلسفي تربوي وليست مجرد العلم بالشيء وقوانينه ونفعه وضره. إن ذلك ما تمتاز به فلسفة التعليم الإسلامي، الذي يحتاج إلى المزيد من الإثراء والصياغة والبحث وتقديم الطروحات بشأنه. وأنا أدعو المفكرين والمربين المسلمين إلى صياغة نظرية لمفهوم التعليم الإسلامي ومحاولة التأثير في السياسات (التربوية) السائدة وإقامة المدارس والمعاهد والكليات الحرة. وليس من المعقول أن نقف مكتوفي الأيدي أمام الهجمات المختلفة، حتى إننا نرى أفراداً أقاموا مشاريع تعليمية وإعلامية، في حين أن حركات زاخرة بالطاقات لا تملك ذلك!
منهج التربية الإسلامية الذي يبشر به الدعاة والمفكرون، هل هو قادر على إحداث النقلة المعرفية المطلوبة؟
<< المدارس وحدها لا تكفي. الإسلام منهج حياة، وإن كان يملك منهجاً تربوياً لأسلمة العلم حتى يكون معرفة حقيقية فإنه لا يأتي ثماره المرجوة إلا إذا أسلمت الحياة كلها من حيث إن الإسلام منهج حياة في البيت والمدرسة والشارع والسوق والحكم. فليست المدرسة أو الجامعة هي المؤسسة الوحيدة التي تربي أولادنا، بل البيت وأعني به الأسرة والتلفاز ووسائل الإعلام والجيران والتجارب الشخصية في التعاطي مع علاقات الحياة اليومية وكل ما يقرأ ويرى ويسمع من الناس أو الشخصيات العامة، ولذلك وضع الإسلام لكل تلك العلاقات حدوداً وقوانين اجتماعية وسلوكية وقضائية. والسؤال الذي يمكن أن تطرحه هو: هل الأسرة المسلمة اليوم أسوة حسنة لأطفالها، وهل تربيتها لأطفالها أسوة حسنة لغيرها؟ هل الأسرة المسلمة اليوم قوية كما يدعي البعض؟ نعم مقارنة بالغرب لا تزال الأسرة المسلمة مترابطة إلا أنها بالمقارنة مع النموذج الأسوة ليست أغلب الأسر كذلك، وهي مهددة بالنموذج الغربي للأسرة، ولذلك فإن أمر الدعوة الجماعية وقضية التغيير يجب أن تأخذ حيزاً أكبر في اهتمام المفكرين المسلمين حتى تكون الأمة أسوة لغيرها لا أن تنساق وراء الغير، ففي دينها ما يفتقده الآخرون.
قبل فترة اشترى رياضي غربي بيوتاً لعائلته بمبلغ 750 ألف دولار وكانت هذه الحادثة حديث الصحافة في الغرب وكأنه شيء خارق، لكن لو حدث ذلك في بلد إسلامي لكان أمراً عادياً.. فالمسلم مطالب شرعاً بمساعدة الناس فضلاً عن عائلته التي ترقى رعايتها إلى حد الواجب الديني في حالة الأقرباء المقربين.
ما أسباب ضعف الترابط الأسري في الغرب، وأعراض ذلك في العالم الإسلامي؟(14/221)
<< أعتقد أن القرون الوسطى وما كان فيها من تحجر وتجبر وفساد كنسي أدت إلى ردة فعل عكسية، كفرت بالكنيسة وما تمثله داخل المجتمع الغربي آنذاك، وأسست لعلمانية متسيبة، متهتكة أفسدت الحرث والنسل، ونحن نشهد إرهاصات ثورة مضادة ضد تهتك علماني يقاد هذه المرة من المشرق، وهو ما سيؤدي في نظري إلى شكل من التدين المعتدل الذي يعترف بالإنسان كإنسان لا كإله في اللاهوت النصراني الذي يؤله رجلاً واحداً هو عيسى عليه السلام، أو نقيضه اللاهوت العلماني الذي عدَّد الآلهة وجعل كل إنسان إلهاً في حد ذاته. الإسلام يملك الفيصل إذ جاء بالحقيقة الأزلية: لا إله إلا الله محمد رسول الله. والسؤال هو هل المسلمون في حال يمكنهم من أن يمثلوا البديل أو الحقيقة أو النموذج المحتذى؟. لقد سقطت الحضارة الرومانية بسبب الفساد فهل نمثل ملجأ لكل المؤمنين بالله على طريقتهم الخاصة في الغرب والتي لا تمت للكنيسة بصلة!.
ما موقع الشريعة في التعليم الإسلامي، وهل إزاحة الشريعة من الحكم ضرب للدولة؟
<< هذا سؤال مهم جداً، لقد توالت أجيال من المسلمين حوكمت بغير شريعة الله في كل شيء، ومع ذلك ظل العلماء في بعض الديار ساكتين وكأن الأمر ليس من الخطورة التي تهدد دين الله بعد أن غُيب حارسه وهو الشريعة. ولا شك أن الله سيحاسبنا جميعاً على هذا التفريط المخل بنسيج الإسلام المترابط. وأحب أن أسأل دائماً: هل طوعنا علمنا ومعرفتنا لتعبيد الناس لخالقهم من خلال المناداة المستمرة بتطبيق شريعته حتى تقام حدود الله في كل مناحي الحياة؟. كل مسلم مسؤول عن ذلك. وليست الشريعة فقط بل إن من أولويات التعليم الإسلامي تربية الطلبة على أن قيام دولة الإسلام واجب ديني عملاً بقوله تعالى إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون 92 (الأنبياء).
ماذا عن المستقبل في التصور الإسلامي؟
<< يجب أن ندرس الماضي ولكن لا يجب أن نظل معلقين به، لقد أصبح المستقبل علماً يدرس، وهو علم مبني على القراءات الصحيحة للعوامل المؤثرة والاستقراءات والاستشرافات.. حتى الإنذار المبكر أصبح علماً. وعلى مناهج التعليم الإسلامية الاستفادة من ذلك، وإعطاءه الروح والغائية التي يفتقدها. وأنا أقترح أن يترك الماضي للمؤرخين وأن نركز على الحاضر والمستقبل.
في هذه السنة يكون قد مر 460 عاماً على وفاة الغازي خسرو بك الذي بنى جامع ومدرسة ومكتبة الغازي خسرو بك وغيرها من المعالم والأوقاف من أجل مستقبل أفضل للإسلام في البلقان. بعد هذه القرون هل تحقق ما كان يصبو إليه من عمله هذا؟
<< لقد كان الغازي خسرو بك ولا يزال من أعظم الرجال الذين عاشوا في البلقان والذي كان ينظر للمستقبل أكثر من نظرته للماضي وحتى الآن أشعر أنه كان مثل الإمام الغزالي.. يفكر في المستقبل من خلال الأعمال الجليلة التي قام بها يرحمه الله. فالغازي بنى مدرسته قبل عدة مدارس تحولت فيما بعد إلى جامعات عالمية مثل أكسفورد التي كانت مدرسة دينية ثم تحولت إلى جامعة تدرس فيها مختلف العلوم. ولكن للأسف عوض أن تتحول مدرسة الغازي التي بنيت في 1537م إلى جامعة تقلصت لتكون أصغر مما كانت عليه.
أنا معجب جداً بالغازي خسرو بك، فقد كانت له رؤية في القرن السادس عشر لا تتوافر لدى البعض ممن هم في القرن الحادي والعشرين وكان من أقواله "ليدرس في هذه المدرسة ما يتطلبه الزمان والمكان"، وعندما قال هذا الكلام في البوسنة في القرن السادس عشر كان "نستراداموس" في باريس يحاول إقناع الكنيسة بمعالجة المرضى عن طريق الطب الطبيعي بدل الخرافات والأساطير، وكان نستراداموس يكابد الأمرين وكان ممنوعاً في باريس من قراءة كتاب "غاية الحكيم "الذي ألفه عالم عربي وكان الكتاب ممنوعاً من التداول بين الناس، وحبس نستراداموس وأحرقت الكتب العلمية العربية وخاصة المتعلقة بالطب لكن "نستراداموس" استطاع إخفاء نسخة من الكتاب واستطاعت زوجته تهريبها خارج البيت وعلمت الكنيسة بذلك فأعدمتها، وعندما تزوج "نستراداموس" ثانية أخرج الكتب التي كان يخفيها وأحرقها، وعندما سئل عن ذلك أجاب "لا أريد أن أخسر زوجتي الثانية بعدما فقدت الأولى". لو عمل المسلمون بمقولة الغازي لحولوا المدرسة إلى جامعة
ما الذي يمنع المدرسة الآن من أن تدرس ما يتطلبه الزمان والمكان، وأن تتحول إلى جامعة؟
<< أتمنى ذلك.. أنا كرئيس للعلماء في البوسنة ماذا أقول؟ هذه المدرسة تدرس فيها جميع المواد لكن السؤال كما تكرمت هل يدرس فيها ما يتطلبه الزمان والمكان؟ لا أستطيع الإجابة بالايجاب. وإن لم أستطع الآن أن أحقق هذه الغاية فقد يستطيع تحقيقها بعون الله من يأتي بعدي. أما لماذا لم تتحول إلى جامعة فإننا ندعو الله أن يبعث لنا من يعيننا على ذلك حتى تكون قبلة للشباب المسلم من مختلف دول أوروبا.
=============(14/222)
(14/223)
قراءة في حياة ( القصيمي )
سليمان بن علي الضحيان 27/7/1423
14/10/2001
( الإلحاد ) كلمة تستفز شعور المؤمن ، وتبعث الرعب في وجدانه. وقراءة سير الملحدين تدفعه إلى الخوف من استلاب الإيمان فيزداد تعلقه بالله ، وتفويض أموره إليه ، وتدفعه -أيضاً- إلى حمد الله والثناء عليه؛ بما أنعم عليه من نعمة الإيمان . ولهذين السببين نحب أن نقف عند سيرة الملحد المشهور ( عبد الله القصيمي ) حيث يمثل في إعلانه الإلحاد ، ودعوته إليه ، وشن حملات على الدين والتدين - حالةً تكاد تكون فردية في صراحتها وشدتها ، واستخفافها بكل القيم ، والعقائد في تاريخ العرب الحديث. وقد عاش حياة طويلة حافلة بالتقلبات الفكرية، والمعارك الصاخبة ، وترك مؤلفات عديدة بلغت عشرين مؤلفاً في أكثر من عشرة آلاف صفحة. وقد أحدثت بعض تلك المؤلفات في حينها دوياً كبيراً ، وقد كتب عن القصيمي الكثير، من ذلك : ( دراسة عن القصيمي ) لصلاح الدين المنجد ، ورسالة دكتوارة لأحمد السباعي بعنوان ( فكر القصيمي ) وكتب أيضاً الكثير من الدراسات والردود حول كتبه ، إلا أن مسيرته لم تَحْظَ بالدراسة الشاملة، سوى لمحات في كتاب المنجد ، وفصلٍ واحدٍ من رسالة السباعي للدكتوراة. ونشرت مقالات تتحدث عنه بعد وفاته لسيد القمني ، وفوزية رشيد وجاسر الجاسر .
وفي هذه السَّنة سنة ( 2000م ) ترجم محمود كبيو رسالة الدكتوراة التي قام بها الألماني يورغن فازلا عن القصيمي بعنوان ( من أصولي إلي ملحد ؛ قصة انشقاق عبد الله القصيمي ) وتقع في ( 250 صفحة ) ، وهي أشمل وأهم دراسة كتبت عن القصيمي ، وتميزت بميزات لا توجد في غيرها من الدراسات التي كتبت عنه، من ذلك :
أولاً : إن هذه الدراسة شاملة لحياة القصيمي منذ ولادته إلى قبيل وفاته .
ثانياً : إنها صورت تصويراً رائعاً الواقع الفكري لكل مرحلة فكرية من مراحل القصيمي ، وهذا مما يعين الباحث على فهم الظروف الشخصية ، والخارجية لإطروحات القصيمي .
ثالثاً : أن المؤلف "فازلا" اتصل بالقصيمي وربطته صداقة به، فهو يقول : (( وعند ما تمكنت عام 1993 م بعد بحث طويل في مصر استمر عدة أشهر من العثور على مكان إقامة القصيمي ، رفض رفضاً قاطعاً التحدث معي .. ، وبقي الأمر كذلك ، حتى نجحت في إقامة اتصالات مع أشخاص من الدائرة الضيقة المحيطة به، وحصلت بذلك على إمكانية حضور حلقة النقاش التي كانت تقام بانتظام في منزله في القاهرة، وهكذا نشأت بيننا خلال فترة تزيد على عامين علاقة من الثقة ، جعلت الكاتب يبدي استعداداً متزايداً لإعطائي معلومات عن حياته وأعماله )) .
رابعاً:إن الدراسة قدمت فكرة مختصرة عن أهم كتبه و مقالاته في جميع مراحله الفكرية.
خامساً : إن الدراسة قامت بمسح بيلوجرافي لكل ما كتب عن القصيمي في الصحف العربية والغربية ، ولكل كتب القصيمي ومقالاته .
سادساً : يُعد الدكتور يورغن فازلا متخصصاً في حياة القصيمي وفكره ، فرسالته للماجستير بعنوان ( هذي هي الأغلال - النقد الذاتي الإسلامي لعبد الله القصيمي ) وهذه الرسالة عن القصيمي ( من أصولي إلي ملحد ) قدمها لنيل شهادة الدكتوراة.
فلهذه الميزات وغيرها أجد أن الدراسة جديرة بإلقاء الضوء عليها.
قسم المؤلف أطروحته إلى خمسة فصول ، وإذا استثنينا الفصل الأول ، وهو في الحديث عن نشأته وسيرته التعليمية ، فإن بقية الفصول الأربعة قسمت تبعاً لتحولاته الفكرية ، وأثر كتاباته في الواقع الفكري في العالم العربي ، ويمكنني قراءة الفصول بتقسيم حياة القصيمي إلى فترتين :
* الفترة الأولى : نشأته وسيرته التعليمية : يقول فالترموشغ : ( إن السيرة الأولى لأي كاتب بصفتها عملاً تاريخياً يجب اعتبارها دوماً وعاء لجمع الوثائق ، يستنبط منه الباحثون اللاحقون الخلاصات المعقدة ) ولا شك أن طفولة الإنسان ذات أثر عميق في تشكيل فكره ورؤيته للحياة ، ولفهم تحولاته الفكرية ، ومنهجيته في التعامل مع الواقع الفكري ، ومن هنا يحسن بنا الوقوف على بعض المحطات التي أوردها د / فازلا عن نشأة القصيمي .
حرمان وترحال
- المحطة الأولى : لم يسجل تاريخ ولادة القصيمي ، وكان هو نفسه لا يعرفه حسب رواية فازلا عنه ، ويرجح أن يكون 1907 م ، وقد أكد القصصيمممي نفسه أنه ينحدر من قرية صغيرة أسماها ( خب الحلوة ) تقع قريباً من مدينة بريدة في القصيم ، ويبقى أصل أسرته محل خلاف بين الدارسين ، فصلاح المنجد يرى أن أجداده من بقايا الجنود المصريين الذين جاؤوا مع حملة إبراهيم باشا على نجد وهم من أصول صعيدية ، وأما القصيمي فيروي عنه فازلا بأنه أفاد: بأنه على علم بما يقال عنه إن أجداده جاؤوا من مصر ، إلا أنه لا يستطيع تأكيد ذلك ، أو قد تكون هذه الأقوال - حسب رأيه - مجرد رواية ، وهناك رواية أخرى متداولة أيضاً تقول: إن أجداده هم من أصل تركي .(14/224)
وحينما بلغ الرابعة انفصل أبواه عن بعضهما ، فغادر أبوه إلى الشارقة وتزوجت أمه في قرية أخرى ،أما هو فقد بقي عند جده لأمه.. يقول القصيمي : (( كل ما أعيه من الأيام الأولى لهذه الطفولة ، أنني وجدت مع جدي لأمي الذي كان القحط الإنساني ، والقحط الطبيعي ، وكوارث أخرى قد امتصت منه كل شيء ، أي أن كلمة ( فقر ) لا بد أن تكون مظلومة لوقلت: إنه كان فقيراً جداً .. ، أجرت نفسي بلا أجر ، نعم بلا أجر ))
وفي العاشرة هرب من جده وبدأ بالبحث عن أبيه ، وقاده البحث إلى الاستقرار في مخيم للمهاجرين في مدينة الرياض ، واتفق أن قدم وفد دبلوماسي من الشارقة إلى الرياض ، وكان رئيس الوفد صديقاً لأبي القصيمي فأرتحل معهم إلى الشارقة .
- المحطة الثانية : وصل إلى الشارقة ولما يتجاوز الحادية عشرة، وكان أبوه متديناً ، ويعمل في التجارة ويمارس الوعظ في المساجد، ويتسم بالورع والتقشف. فكيف وجد القصيمي أباه بعد غيبة تتجاوز السبع سنوات ؟ يقول عن لقائه بأبيه : (( وصلت إلى حيث يقيم والدي ، ولأول مرة رأيت ولقيت وجربت الأبوة ، كانت صدمة قاسية لأكثر وأبعد من كل حساب .. ، ومنذ بداية تلاقينا راح يقسو عليَّ قسوة يصعب وصفها ، بل يهاب ويرهب وصفها ؛ بزعم أنه يريد أن يجمع كل العلوم التي يعرفها أو يتصورها أو يسمع بها ، وكل أخلاق السلوك المهذب الذي يراه ، كل الكمال أن يجمع ذلك كله في لقمة واحدة لا بتلعها مرةً واحدة بلا تذوق ولا مضغ ، لقد بدا وكأنه يرى العذاب والآلام التي قاسيت قبل لقائه ، أقل وأرحم مما يجب أن أقاسي )) .
- المحطة الثالثة : توفي أبوه بعد لقائه به بسنتين حوالي عام 1922 م ، ومن ثم أصبحت المدرسة الداخلية التي يتعلم فيها هي كل حياته .
بعد ذلك رافق القصيمي ابن راشد الذي يكبره بعدة سنوات في جولة علمية بدأت بالعراق حيث درسا في مدرسة محمد أمين الشنقيطي ، وبعد بضعة شهور غادرا إلى الهند فمكثا هناك سنتين يدرسان في ( المدرسة الرحمانية ) ثم عاد إلى العراق ثم إلى سوريا ، ومن هناك سافر القصيمي برفقة ابن راشد ، وعبد الله بن يابس إلى القاهرة ، والتحقوا بالأزهر وكان عمر القصيمي تسعة عشر عاماً.
سلفي ... علماني ... ملحد
* الفترة الثانية : حياته الفكرية:مرت حياته الفكرية بثلاث مراحل : المرحلة السلفية ، والمرحلة العلمانية ومرحلة الإلحاد .
المرحلة الأولى : المرحلة السلفية
ولعله من نافلة القول أن تكون ( السلفية ) هي مرحلته الفكرية الأولى ، فهو قد ولد في وسط سلفي ،وتعلم على أيدي مشائخ سلفيين، وقد امتدت مرحلة عطائه السلفي حوالي أربعة عشر عاماً ، فقد وصل إلى القاهرة عام 1922م وألف كتابه ( هذي هي الأغلال ) عام 1946 م ولعل أبرز محطات مرحلته السلفية ثلاث محطات :
- المحطة السلفية الأولى (الصراع مع الصوفية) : حينما انتقل القصيمي إلى القاهرة ودخل الأزهر ، وجد عالماً يزخر بالتنوع الفكري حيث وجد هناك التوجه العلماني الليبرالي ممثلاً بلطفي السيد ومحمد حسين هيكل، والتوجه السلفي ويمثله رشيد رضا ، والتوجه الإسلامي التقليدي الأشعري ويمثله الأزهر ، والتوجه الصوفي ويمثله الفرق الصوفية ، وفي تحليل فازلا لواقع الأزهر آنذاك يشير إلى أنه كان موطن صراع بين التوجهات الفكرية ، والقوى السياسية ، فكل توجه فكري وكل قوة سياسية كانت تناضل لتعيين عميد مؤيد لتوجهاتها .
وفي سنة 1930 م تولى الشيخ الظواهري عماده جامعة الأزهر، فأخذت الجامعة تتبنى خطاً ودياً تجاه التصوف ؛ مما لقي انتقاداً عنيفاً لدى الحركة السلفية حول رشيد رضا ، وكانت المعارك الصحفية تنشب بين ( المنار ) صوت السلفيين ، ومجلة الأزهر ( نور الإسلام ) صوت الأزهريين المؤيدين للتصوف ، وكان بين العلماء البارزين في الأزهر آنذاك يوسف الدجوي الذي لمع بشكل خاص في دفاعه عن التصوف والتوسل بالأولياء ، فألف القصيمي في الرد عليه كتابه الشهير" البروق النجدية في اكتساح الظلومات الدجوية " عام 1931م وهاجم فيه بعنف طقوس الصوفية ، وتقديس الأضرحة والتوسل بها، بعد ذلك أدى هذا الكتاب إلى رد فعل قاس لدى قيادة الأزهر، حيث فصلت القصيمي عام 1931م من الجامعة.
ركز القصيمي في الأعوام اللاحقة انتقاده على علاقة أزهريين قياديين بالصوفية ، والتدين العامي ، وكتب كتابين طوَّر فيهما هجومه السابق على العلماء الأزهريين ، وهذان الكتابان هما ( شيوخ الأزهر والزيارة في الإسلام ) عام 1931م - 1932م ، وكتاب ( الفصل الحاسم بين الوهابيين وخصومهم ) 1934م .(14/225)
- المحطة السلفية الثانية (الصراع مع العلمانيين) : بعد عزل الظواهري من منصب عميد جامعة الأزهر ، وتعيين المراغي توقف القصيمي عن نقد الأزهر ورجاله ، واتجه في نقده إلى العلمانيين فقد نشر أشهر ممثلي الليبرالية العلمانية آنذاك محمد حسين هيكل عام 1935م كتابه المشهور ( حياة محمد ) وقد سعى هيكل في كتابه لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تفسير السيرة بمنظار عقلي من خلال دعم القيم العلمية الوضعية عن طريق عقلنة الإسلام ، وتبعاً لذلك نظر إلى عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمنظار يسمح له بتفسير جميع النصوص القرآنية بطريقة العلوم الحديثة في عصره .
فألف القصيمي نقداً لهذا الكتاب مؤلفاً سماه ( نقد كتاب حياة محمد لهيكل ) عام 1935م - 1354هـ ، ويتضمن الجزء الأكبر من كتابه نقداً لتفسير هيكل للمعجزات النبوية ، وكان أشد الانتقاد موجها للمثالين الذين اختارهما هيكل نفسه لإيضاح موقفه من الظواهر الإعجازية وهما : الإسراء والمعراج ، ومعجزة شق الصدر .
إلا أن نقد القصيمي لهيكل لم يجد التجاوب من الدوائر السلفية في مصر آنذاك؛ فقد اعتبرت تلك الدوائر أن هذا المؤلف لهيكل يعد تحولاً من العلمانية إلى الإسلام ؛ ولهذا نصح رشيد رضا الخصم اللدود لهيكل سابقاً قُرَّاءه بقراءة كتاب ( حياة محمد ) وهيأ له الملك عبد العزيز استقبالاً حافلاً عند أدائه فريضة الحج عام 1936 م .
- المحطة السلفية الثالثة (الصراع مع الشيعة): في عام 1927م نشر الكاتب الشيعي محسن الأمين العاملي كتابه الخصامي ( كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب ) ، ولم يسمع القصيمي بالكتاب إلا متأخراً نسبياً ، وذلك حينما أرسله العالم السعودي محمد نصيف عام 1935م مع رجاء الرد عليه ، فألف القصيمي كتابه الشهير ( الصراع بين الإسلام والوثنية ) عام 1937م - 1357هـ ، وفي هذا الكتاب ينفي القصيمي انتماء الشيعة إلى الإسلام ، ويساوي بينهم وبين عبدة الأوثان ، ويرى أنهم ينتمون إلى تقليد فكري هدفه إفساد عقائد المسلمين ، وأرجع الشيعة إلى أصول يهودية تعود إلى اليهودي عبد الله بن سبأ ، وبصدور هذا الكتاب أصبح القصيمي مدافعاً قوياً عن السلفية معترفاً به على نطاق واسع ، وذكر القصيمي نفسه في حديث له مع فازلا عام 1993م أن الكتاب لقي قبولاً حماسياً في السعودية وقدم للملك عبد العزيز بالقول : (( إن مؤلف هذا الكتاب استحق مهر الجنة)) .
المرحلة الثانية : مرحلة العلمانية
منذ منتصف الثلاثينات بدأت ظاهرة النقد الذاتي في الخطاب العربي ، وبنهاية الثلاثينيات صارت هذه الظاهرة منتشرة على نطاق واسع ، وشارك فيها ممثلو السلفية ، ولعل أبرز مثال عن مشاركة الإسلاميين بالنقد الذاتي آنذاك كتاب شكيب أرسلان ( لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ؟ ) وقد أعرب القصيمي عن موافقته لأرسلان ، وشارك هو بدوره في النقد فألف كتاب ( لماذا ذل المسلمون؟) عام 1940 م ووجه نقداً حاداً لمظاهر التخلف لدى المسلمين ثم أتبعه سنة 1946م كتابه الضخم الذائع الصيت ( هذي هي الأغلال ) ، وقد اختلفت الأقوال في تقييم القصيمي من خلال طرحه في هذا الكتاب فذهب د/ فازلا إلى أنه (( لا يشكل - كما يزعم المنجد وكما في المراجع الغربية - قطيعة كاملة مع مواقفه السابقة بل إن في كتابي القصيمي ( كيف ذل المسلمون ) و( هذي هي الأغلال ) هما خط الوصل الفكري بين إيديلوجيا القصيمي والوهابية ، وهجومه اللاحق على كل ما هو ديني))" ص68". وقد أطال د/ فازلا في تحليل هذا الكتاب فاستغرق أربعين صفحة من أطروحته ، ويخلص إلى أن القصيمي حاول دوماً في ذلك الكتاب بناء انتقاداته لظروف تخلف العالم الإسلامي على أسس دينية، وتدعيمها ببراهين من الكتاب والسنة ، هذا هو رأي د/ فازلا في الكتاب. فما هي آراء المعاصرين للقصيمي كما أوردها د/ فازلا ؟
أثار الكتاب ردود فعل واسعة ففي أوساط الكتاب ذوي الاتجاهات العلمانية لقي القصيمي تأييداً كبيراً وكانت مجلة ( المقتطف ) الليبرالية أول الجهات التي وقفت بكل صراحة ووضوح إلى جانب كتاب ( هذي هي الأغلال ) حيث نشرت عنه دراسة نقدية بقلم إسماعيل مظهر ، ومِمَّن أيد هذا الكتاب عباس محمود العقاد في مجلة الرسالة عدد ( 695 ) ولعل أبرز تأييد لقيه الكتاب تأييد شيخ الأزهر حسين القياتي حيث نشر مقالاً في ( المقتطف ) بعنوان وضع القصيمي بين المصلحين الكبار ومما قال:( شكل ابن خلدون رائد الاشتراكيين طليعة الإصلاح في الشرق ، وشكل الأفغاني وتلميذه محمد عبده والكواكبي جوانبه ، أما القصيمي فهو قلبه ) ص 109 ، وكذلك أيده الشيخ محمود شلتوت وأعرب عن أسفه من أن جامعة الأزهر لم تتمكن خلال تاريخها الطويل الذي امتد إلى ألف عام من وضع كتاب بمستوى ( هذي هي الأغلال ) .(14/226)
وبالمقابل انتقد الكتاب الشيخ عبد الرحمن السعدي ورد عليه بمؤلف أسماه ( تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله ) وذلك عام 1947م ، حيث يرى السعدي أن القصيمي تعمد تزوير مبادئ الإسلام وتفسيرها تفسيراً خاطئاً ، وهناك رد آخر على القصيمي ، يلفت النظر بضخامته وهو ( بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال ) ويقع في 1200 صفحة ، ويرى صاحبه أن القصيمي يعتبر كل تفسير أو حديث لا يناسب آراءه فهو بكل بساطة باطل وغير مقبول ، وهو ينتقد الجماعات الإسلامية والسلفية فقط ليفسح الطريق أمام الزندقة والكفر ، وبينما يعتبر خطبة الجمعة مخدرة ومثبطة للهمم يسكت عن انتشار السلوك المخالف للدين كالرقص والبغاء وغير ذلك ، وممن انتقده المفكر الكبير سيد قطب حيث يصف كتاب القصيمي بأنه هجوم على القيم الجوهرية للدين الإسلامي ، وينزعج بشكل خاص من المقابلة التي يضعها القصيمي بين الدين والنجاح المادي ، ويقول إن أقواله عن هذا الموضوع لا يمكن فهمها إلا أنها دعوة للابتعاد عن الدين وهو عندما يستشهد بكلمات غوستاف لوبون الذي يقول ( إن البشرية لم تتمكن من تحقيق تقدُّم قوي إلا في مراحل الوثنية ) يوضح بكل جلاء نياته الحقيقية ، وهي حض قُرّائِهِ على التخلي عن الإسلام ، ولكن كلما برزت هذه الروح التي تطغى على الكتاب بكامله يحاول القصيمي الاختباء بدافع الجبن وراء غطاءات دينية لأفكاره . هذه أبرز الآراء المختلفة التي أوردها د/ فازلا ، ولعل هذا الاختلاف الكبير حول تقييم الكتاب إنما هو نتيجة أسلوب القصيمي في الكتاب ، فهو كثيراً ما يؤكد إيمانه بالله ورسوله ، وأنه إنما يريد الدعوة إلى التخلص من الأغلال التي علقت بالدين، لكنه أحياناً يسترسل إلى نقد الدين نفسه ، ونقد العلماء من السلف والخلف والدعوة إلى الكفر بهم وإسقاطهم ، وقد حاول أن يؤصل أن الدين لا علاقة له بالحضارة ، ودعا إلى الفصل بين الدين والسياسة ، وكل هذه الآراء والموقف تجعله يبدو ممثلاً للتيار العلماني الليبرالي ، وبعيداً عن التيار الإسلامي . ولعله أدرك ذلك من نفسه ولهذا ختم الكتاب بمدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب وضربه أنموذجاً للمسلم الحق في محاولة لتغطية ما بث في كتابه من دعوة صريحة إلى العلمانية .
بعد الضجة التي أثارها كتابه ( هذي هي الأغلال ) انسحب القصيمي من الحياة واقتصر الظهور العام له على حلقة نقاش تجري في أوقات دورية في مقهى تحت القلعة اسمه ( كافتريا العمدة ) وكان يشترك في هذه الندوة عبد الحميد الغرابلي ، والعالم السعودي محمد نصيف ، والكاتب خالد محمد خالد ، ثم بدأ يعقد لقاءات مع الطلبة اليمنيين المبتعثين إلى القاهرة ، مما دفع حكومة الإمام في اليمن للمطالبة بطرده من مصر ، وهذا ما حصل بالفعل حيث طرد عام 1954م وذهب إلى بيروت ، وفيها تلقى دعماً من المثقفين العلمانيين ومن أبرزهم سهيل إدريس حيث أتاح له الكتابة في مجلته ( الآداب ) ، وقدري قلعجي الذي أعطى القصيمي في وقت لاحق زاوية خاصة في مجلته ( الحرية ) التي صدرت عام 1956م ، وبدأ الكتابة أيضاً في صحيفة ( الجريدة ) وفي عام 1956م ، ألغت الحكومة المصرية أمر إبعاد القصيمي وسمحت له بالعودة إلى أسرته في القاهرة ، وبدت كتاباته في تلك الفترة تتميز باليأس ؛ فقد كتب مقالاً بعنوان ( الكاتب لا يغير المجتمع ) .
المرحلة الثالثة والأخيرة : مرحلة الإلحاد
بعد نشر القصيمي كتابة ( هذي هي الأغلال ) عام 1946م ، وما لقيه من هجوم واسع ، انسحب من الحياة العامة كما مرَّ سابقاً ، ويفسر الدكتور فازلا هذا الانسحاب بأنه يشير إلى أن الرفض الذي لقيه آنذاك هز صورته عن العالم هزاً عنيفاً ، دعاه إلى تغييرها، ولذلك يتحدث أحمد السباعي عن أزمة الشك التي مَرّ بها الكاتب في هذه المرحلة من تطوره ثم ازدادت حدة هذه الأزمة الداخلية لديه بإبعاده عن مصر في الخمسينيات ، وعيشه في المنفى السياسي ؛ مما أدى في النهاية إلى رفضه الجذري لكل ما كان ذا معنى بالنسبة له في السابق ، وقد مرت مرحلة إلحاده بمحطتين :
- المحطة الأولى (الإنتاج الفكري والشهرة) : بداية من عام 1963م ، شرع القصيمي بطرح كتبه الإلحادية الشهيرة وتعد هذه الفترة أغزر فترات عمره تأليفاً ، فقد ألف في السنة المذكورة كتابه ( العالم ليس عقلاً ) وهو كتاب لم يلق صدى يذكر في الأوساط الثقافية العلمانية والإسلامية ، وبعد ثلاثة أعوام وفي عام 1966 م ، أصدر كتابين ( هذا الكون ما ضميره ؟ ) وكتاب ( كبرياء التاريخ في مأزق ) وبعد صدورهما مباشرة نشرت مقتطفات في ( العلوم ) وفي الملحق الأدبي لجريدة ( النهار ) وفي الوقت نفسه نشرت عدة دراسات عن الكتابين .(14/227)
بين عام 1967وعام 1972م بلغ القصيمي قمة شهرته وهي تعد أكثر مراحل حياته إنتاجاً وشعبية ، والسبب في هذا حدثان وقعا نقلاه إلى مركز الضوء ، أحدهما طرده إلى لبنان ، ولم تعرف الظروف الدقيقة لهذا الإبعاد . هذا الطرد أحدث تضامن المثقفين العلمانيين في لبنان معه ونشرت بعض الصحف اللبنانية تطالب برفع الحظر عن دخوله إلى لبنان ، والحدث الثاني هزيمة حزيران عام 1967م ، فقد أحدثت هذه الهزيمة زلزلة فكرية لدى جمهرة المثقفين وأطلقت موجة من النقد الذاتي عمت العالم العربي بأسره ، وظهر لدى كثير من المثقفين العرب ميل إلى القطيعة التامة مع الماضي ، ففي مثل هذا المناخ الثقافي يمكن أن تجد فلسفة تحطيم الصور والمفاهيم الدينية والسياسية التي تدعو إليها كتب القصيمي أرضاً خصبة للازدهار والانتشار، ولهذا أعيد طباعة كتابه ( العالم ليس عقلاً ) في ثلاثة أجزاء ثم تبعها عام 1971م تأليف كتاب ( أيها العار إن المجد لك ) وكتاب(فرعون يكتب سفر الخروج ) وكتاب ( الإنسان يعصي لهذا يضع الحضارات ) إلى جانب ذلك نشر القصيمي عدداً من المقالات في المجالات الأدبية في بيروت ومن الممكن القول بأن القصيمي كان بين 1967م وعام 1972م فيلسوف المرحلة الذي تنوقلت أفكاره على نطاق واسع نظراً لحالة الضياع والصدمة التي يعيشها المثقفون العرب جراء هزيمة 1967م .
مع نشوب الحرب الأهلية في لبنان عام 1975م انقطع النشاط الثقافي في لبنان وبهذا فقد القصيمي مكان النشر لكتبه ، فنشر كتابه ( العرب ظاهرة صوتية ) عام 1977 م في باريس ، وكان هذا الكتاب آخر كتاب للقصيمي يلقى في العالم العربي صدى قوياً نسبياً ، إلا أن جميع النقاد أعطوا الكتاب تقييماً سلبياً جداً ورافضاً.وفي تعليق للكاتب اللبناني يوسف الخال على كتاب القصيمي هذا وصف القصيمي وإنتاجه الفكري بأنه ( ظاهرة كلامية ) .
وفي الثمانينيات أصدر القصيمي كتابين ( الكون يحاكم الإله ) 1981م و ( يا كل العالم لماذا أتيت ) 1986م ، فلم يلقيا أي اهتمام وحتى الرد العاصف الذي واجهه كتاب( العرب ظاهرة صوتية ) عام 1977م ، ظل غائباً كلياً هذه المرة ، يقول فازلا : فحسب علمي لم تنشر أي قراءة نقدية لهذين الكتابين ، وكانت ظاهرة التجاهل الكامل هذه توصف في الوسط الشخصي المحيط بالقصيمي بأنها ستار الصمت الذي أسدل أمام الكاتب منذ عام 1980م تقريباً .
يبقى تساؤل حول مؤلفاته الإلحادية والموضوعات التي تحدث فيها عنها : يقول د / فازلا : (( مؤلفاته بعيدة كل البعد عن أن تكون نظاماً فلسفياً مترابطاً ومحكماً ، فهو لا يتبع في أي كتاب من كتبه خطاً منهجياً متتابعاً ومحكم الحجة ، بل إن مؤلفاته الأخيرة هي أقرب إلى طائفة من الحكم والمقولات المركزة التي تتناول موضوعات متنوعة ، تتبدل وتتكرر دائماً ويدور الحديث حولها بالمعنى الحرفي للكلمة ، ولذلك لا يجد نقاد القصيمي صعوبة في اتهامه بأنه كان من الأفضل لو أسقط فصولاً كاملة من كتبه ؛ لأنها ليست سوى تكرار لنفس الأفكار وشرح مستفيض لنفس الموضوعات يصل إلى حد الإطناب ...، وما نلاحظه في كتابات القصيمي من لف ودوران على صعيد الموضوع والمضمون ينطبق أيضاً على الأسلوب اللغوي ، فهو لا يكتفي بإيجاد الكلمات المناسبة بشكل خاص للتعبير عن مسألة معينة ، وإنما يصُفُّ جميع المترادفات المتوفرة لمفهوم معين خلف بعضها ..، والنتيجة التي تسفر عنها هذه الطريقة في الكتابة هي جمل هائلة حقاً تملأ فيها )) ص 145.
أما مضمون كتبه الإلحادية الأخيرة فهو التمحور حول ثلاثة موضوعات :
الأول : تفسير الدين والتدين والوحي ، والموضوع الثاني : الحديث عن الله - جل وعلا- في الديانات السماوية ، والثالث : الموقف من العرب وبالأخص من القومية العربية ، أما الموضوعان الأوليان فقد كررهما كثيراً في كتبه معبراً عن رأيه فيهما بطريقة استفزازية ، وبصراحة وقحة ، واستخفاف بمشاعر القارئ المؤمن ، فهو يرى أن الدين تعبير حياتي يعود إلى طبيعة النفس البشرية وحاجاتها وكل شعائر الأديان تعبيرات يختلقها الإنسان ؛ لإشباع حاجات نفسية، ثم يضفي عليها طابع التقديس لحاجته النفسية إلى الأمن والطمأنينة . أما حديثه عن الوحي فيبين عن مدى الارتكاس الإلحادي الذي وصل إليه القصيمي، فهو يرى أن الوحي شكل مرضي من أشكال رد الموحى إليه على المشاكل الاجتماعية والنفسية التي يتعرض له ، ويرى أن النبوة هي تعبير عن الألم النفسي والقنوط الدنيوي اللذين يؤثران على التصورات الدينية التي يتسببان في نشوئها .
أما الله ( جل جلاله ) فهو يرى أنه مرآة للإنسان والمجتمع فهو يكتسب صفاته تبعاً لثقافة المجتمع (سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ) وكان يتفادى بادئ الأمر التكلم عن ( الله الواحد الأحد ) ويستعمل بدلاً من ذلك تعبير ( الإله ) وكثيراً ما يأتي بصيغة الجمع ( الآلهة ) أو يستعمل كلمة ( الألوهية ) أما في كتاباته المتأخرة في الثمانينيات فقد سقطت هذه المحظورات ، وأخذ يستعمل بصورة متزايدة كلمة (الله) مباشرة في جُرأة إلحادية وقحة ، تبين عن مدى إصراره على الإلحاد ورفض الدين .(14/228)
وأما الموضوع الثالث في كتبه المتأخرة ، وهو الموقف من العرب ، فيعبر عنه كتابه ( العرب ظاهرة صوتية ) فقد شن هجوماً على جميع العرب وصل إلى حد التحقير العنصري ، فهو يصف الطابع العربي بأنه وضيع إنسانياً ، ويصف العرب بأنهم ظاهرة صوتية ، وبلغ في تصويره العنصري للعرب في كتابه ( يا كل العالم لماذا أتيت ؟) بأن قال : ( إن المرأة العربية الإسلامية لا تلد إلا كائنات أقل شأناً من الأطفال الآخرين فيما يتعلق بمستواهم الذهني والنفسي وبقدرتهم على الإبداع ) وفي مقال له يصل إلى حد اعتبار العروبة نقيضاً للحضارة .
يقول فازلا : (( في جميع كتاباته بعد عام 1963م يصف القصيمي العرب وتاريخهم بعبارات ( التخلف ) و ( الرجعية ) و ( الضعف ) إضافة إلى ذلك يستعمل التعبير بين المتضادين اللذين وضعهما المؤرخ المغربي ابن خلدون وهما ( البداوة ) و ( الحضارة ) لكي يصف جميع صفات العرب بأنها غير حضارية)).
- المحطة الثانية ( الانسحاب النهائي) : كان كتاب القصيمي ( العرب ظاهرة صوتية) 1977م آخر كتاب له يلقى صدى في العالم العربي ، أما الكتابان الأخيران له( الكون يحاكم الإله ) 1981م و ( يا كل العالم لماذا أتيت ؟) 1986م ، فلم يلقيا أي اهتمام وكانت ظاهرة التجاهل الكامل هذه توصف في الوسط المحيط بالقصيمي بأنها (ستار الصمت) الذي أسدل أمام الكاتب منذ عام 1980م تقريباً ، وآنذاك بدأ القصيمي مرحلة الانسحاب إلى الحياة الخاصة ،وتركز كامل نشاطه ودائرة تأثيره خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية على محيطه الشخصي ، وكانت الزاوية الخاصة الأخيرة التي ينشط فيها ندوة أسبوعيه تنعقد في منزله في غرفة الجلوس ، ومنذ توفيت زوجته عام 1990م لم يغادر مسكنه في القاهرة إلا نادراً جداً ، حتى توفي في 9/يناير 1996م .
خاتمة الكتاب
لخص المؤلف فازلا رؤيته عن القصيمي وأُطروحاته في خاتمة الكتاب في سبع صفحات ومن أبرز النقاط التي أوردها :
- تتسم أعمال القصيمي في كل مراحله الفكرية بالقطع الراديكالي الحاسم .
- لا يمكن معرفة الأسباب القطعية التي دفعت القصيمي للتراجع عن معظم مواقفه السابقة ، فلم يكن من الممكن كشفها كاملة حتى ولا في الأحاديث الشخصية التي أجريتها معه ، فقد كان يرفض الحديث عن المواقف والآراء التي تبناها قبل الستينيات ؛ ولذلك كان يمنع أي سؤال عن أسباب تراجعه عن قناعاته الدينية السابقة .
- مما يلفت الانتباه في مضمون كتبه كلها هو أنها تتميز بثبات كبير في الموضوعات التي تتناولها ، وفي الأشياء التي تنتقدها ، وتظهر الاستمرارية في الهجوم المتكرر على الظواهر الدينية التي لا يقتنع بها ففي كتبه الأولى كان هجومه على التصوف وتمجيد الأولياء ، وفي الأربعينيات وسع هجومه في ( هذي هي الأغلال ) ليشمل تصرفات العلماء وآراء السلف ، ثم جاءت كتبه الأخيرة فزادت مساحة نقده لتشمل الدين نفسه ، ولتمزق جميع المحرمات والمقدسات .
- في القراءات النقدية لكتبه يبدو القصيمي وحيداً إلى أبعد الحدود فهو لم يؤسس مدرسة فكرية ، ولا يمكن نسبته إلى أي مدرسة من المدارس الفكرية المعروفة،وليس له أتباع ، ويعود ذلك في المقام الأول إلى الصيغة التي يعرض بها القصيمي بناءه الفكري ؛ إذ طريقة العرض غير المنهجية ، والأسلوب الشديد، والإطناب والتكرار لنفس الأشياء ، والطابع الحكمي لكتاباته ، كل ذلك يجعل من الصعب على القارئ فهم ما يقرأ ، أو ينفره من التعمق في دراسة مضمون مؤلفاته .
- لم يحاول القصيمي أبداً طول حياته إلحاق نقده الراديكالي باقتراحات إصلاحية ملموسة ، فهو لم يضع بدائل لتحليلاته المتشائمة للأوضاع القائمة، وبصورة عامة فإن القصيمي يتميز فقط بهدمه للتصورات الدينية .
- تشير الضجة التي أثارها نشر ( هذي هي الأغلال ) عام 1946م إلى أن اهتمام الرأي العام الإسلامي بالقصيمي نابع من وضعه كمرتد ومنحرف ولذلك فأهميته تعود بالدرجة الأولى إلى دوره كمنتهك للمحرمات الدينية . *****
هذه أبرز مرئيات فازلا عن فكر القصيمي وشخصيته ، ونختم بقوله تعالى :[ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ، ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ].
===============(14/229)
(14/230)
وراء تعيين المبعوث الأمريكي في السودان؟
النفط أم تحقيق السلام
ماذا وراء تعيين مبعوث أمريكي للسلام في السودان؟ وهل هناك مبادرة أمريكية جديدة بخصوص السودان؟ وما الخطوط العامة لهذه المبادرة؟ وهل تمثل خطورة على الطرح المصري والليبي بخصوص المسألة السودانية؟، وهل يقف المبعوث الأمريكي موقف الحياد أم تحركه المصالح الأمريكية وجماعات الضغط التي تدفع في اتجاه اتخاذ سياسات متشددة تجاه السودان؟.
يمكن القول: إن السياسة الأمريكية تجاه السودان تحركها العديد من الدوافع والأسباب، لعل من أهمها التخوف الأمريكي من تحول السودان إلى بؤرة لانطلاق حركات إسلامية في الجوار الأفريقي، والتي تعتبرها الولايات المتحدة دول مواجهة وحليفة في الوقت ذاته، كما أن المصالح الأمريكية في السودان باتت مهددة كما يقول المراقبون بعد وجود منافسين فرنسيين وكنديين، خصوصاً في مجال استخراج النفط، ولعل هذا أهم سبب لتعيين المبعوث الأمريكي.
ورغم إعلان الخارجية الأمريكية عن أهداف تعيين المبعوث والتي تتمثل في وقف أعمال القتل من خلال التوصل إلى سلام عادل وشامل، ومساعدة المواطنين المتضررين من الحرب والجفاف، ووضع نهاية لما أسماه بمساندة الإرهاب الدولي، وهو الأمر الذي حاول السودان التخلص منه بتقديم بعض المعلومات الاستخبارية للولايات المتحدة بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن فقد لاقى تعيين المبعوث الأمريكي ردود فعل متباينة، حيث رأى وزير الخارجية السوداني أن هذه الخطوة تتوقف أهميتها على مدى الحيادية والشفافية التي يتحلى بها المبعوث، وهو الأمر الذي يصعب تحقيقه بعد اتهام بوش للسودان بتشجيع الرق والعبودية، وتحميله مسؤولية تدهور الأوضاع فضلاً عن تأييد بوش لمبادرة الإيقاد، وهو ما يعني تجاهل المبادرة المصرية الليبية التي كانت محل تقدير الأوساط السودانية.
ورغم ترحيب حزب الأمة بالخطوة، فقد عارضها الحزب الاتحادي ورآها تقويضاً للمبادرة المصرية الليبية، والتفافاً حولها، أما وزيرا الخارجية المصري والليبي، فقد قلَّلا من أهمية المبادرة الأمريكية، وأكدا أن المبادرة المصرية الليبية هي المبادرة المطروحة.
فماذا يمثل إذن تعيين المبعوث الأمريكي للسودان؟ يمكن القول: إن إدارة بوش تسير في اتجاه الإدارات الأمريكية السابقة، التي عملت دائماً على الانحياز الأمريكي الواضح لحركة التمرد الجنوبية. ويقول المراقبون: إن السياسة الجديدة تعتمد برنامج مساعدات تصل تكلفته إلى نحو 30 مليون دولار، يخصص نصفها للمساعدات الإنسانية في الشمال، والباقي لمشاريع تنمية الجنوب.
لماذا يؤيد الأمريكان الإيقاد؟
جرت محاولات عدة لتسوية المشكلة السودانية، ومن تلك المحاولات الوساطة التي قام بها الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر في الفترة من (1989 - 1991م)، ولكنها لم تنجح ولم تتقدم كثيراً وأعقبتها الوساطة التي رعاها الرئيس النيجيري إبراهيم بابا نجيدا في الفترة من (1991 - 1993م)، واقترحت نيجيريا على السودان تطبيق التجربة النيجيرية: دولة علمانية ونظام فيدرالي، ولكنها هي الأخرى لم تحرز أي نتائج، وكانت المحاولة الثالثة محاولة الإيقاد في الفترة من 1994م وحتى الآن، ولم تحقق أي تقدم، حيث تعاني هذه المنظمة التي تضم ست دول هي (أثيوبيا السودان إريتريا أوغندا كينيا جيبوتي) من ضعف هيكلي. أما طروحاتها، فتتراوح بين السودان العلماني الموحد، أو حق تقرير المصير، وقد نشأت الإيقاد عام 1986م كمنظمة حكومية للجفاف والتصحر، ثم تطورت في عام 1995م إلى منظمة للتنمية، وأُوكل إليها متابعة ملف الصومال وجنوب السودان، وحتى الآن لم تحقق أي نجاح في الملفين، ويغلب عليها ما يمكن أن نسميه (صراع التوجهات والأدوار)، حيث تسعى أغلب دولها: إريتريا، وأوغندا، وأثيوبيا، وكينيا لأن تلعب دوراً إقليمياً على مستوى منطقة القرن الأفريقي، وعلى الرغم من أنها منظمة إقليمية، إلا أن الدول المانحة، وخصوصاً الولايات المتحدة، وإيطاليا، وهولندا، والدنمارك، والنرويج، واليابان وغيرها رأت أن تقوم بإحياء دورها من خارجها، فتوسعت الإيقاد إلى ما أطلق عليه (شركاء الإيقاد)، ويحاول هؤلاء الشركاء وضع أجندة تعكس الرؤية الأوروبية الأمريكية، ومن ثمَّ أصبحت الإيقاد ذات طابع دولي يعكس المصالح الغربية والأمريكية التي تتناقض مع مصالح دول المنطقة، ويمول الشركاء المنظمة بأكثر من نصف ميزانيتها، وهو ما يؤثر في النهاية على مقرراتها، ويجعلها ذات طابع دولي أكثر منه أفريقي.
موقف دول الإيقاد^^(14/231)
عمَّقت الإيقاد من التدخل الدولي في الشأن السوداني، خاصة بعد توسع المنظمة، بما ساعدها على احتكار التدخل في الأزمة السودانية، وقد تطور هذا الدور بصورة أكبر بعد أن ساءت علاقات السودان بكل من إريتريا وأثيوبيا وأوغندا، وكان قبول السودان في الأساس لوساطة الإيقاد يستند إلى التوازن القائم داخلها، حيث كانت أثيوبيا وإريتريا متحالفتين مع السودان، بينما كانت كينيا وأوغندا تدعمان التمرد، وكان من شأن استمرار هذا التوازن، أن يحصر نفوذ وفاعلية المنظمة في الإطار المقبول سودانياً، لكن توتر علاقات السودان مع جيرانها غيَّر المعادلة، حيث توحَّدت المنظمة على خطة تتجه نحو فرض حل أقرب إلى مطالب حركة التمرد منه إلى مطالب الحكومة، وفي والوقت نفسه، حصلت على دعم أمريكي ودولي لزيادة الضغط العسكري والسياسي على الخرطوم، حيث بادرت أثيوبيا في عام 1995م بمطالبة مجالس الأمن بفرض عقوبات على السودان بحجة عدم تسليمه المشتبه فيهم في محاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا في يونيو 1995م، وقد دعمت مصر هذا التوجه الأثيوبي في أول الأمر، لكنها تحفَّظت على مطلب فرض حظر على بيع الأسلحة للسودان: لأن ذلك كان يعني عملياً فصل الجنوب، وكان هذا مصدر أول خلاف بين مصر ودول الإيقاد.
وفي نهاية عام 1996م وبداية عام 1997م، تدخلت ثلاث دول من الإيقاد تدعمها تنزانيا بصورة مباشرة في النزاع المسلح في السودان، حيث شاركت قوات من أوغندا وإريتريا وأثيوبيا في حملة عسكرية شنتها المعارضة بغرض تشديد الضغط العسكري على الخرطوم.
وعلى الصعيد الإقليمي، عارضت دول الإيقاد أي جهود للوساطة من طرف إقليمي أو دولي، وفي هذا السياق، أكدت إريتريا في ضرورة عدم توسيع مبادرة الإيقاد، لتشمل المعارضة الشمالية لاعتبارات تتعلق بطرفي النزاع: الحكومة والجنوبيين، ورأت أن تصوير المبادرة المصرية الليبية، كما لو كانت مبادرة عربية في مقابل الإيقاد الأفريقية، سيأتي بنتائج معاكسة في إشارة ضمنية للتحفظ على المبادرة المصرية الليبية، وهو الموقف الأمريكي نفسه، وموقف الحركة الشعبية التي تقود التمرد في السودان.
كما تحفظت دول الإيقاد على اللقاءات السرية التي رتبتها النرويج في عام 1994م، وعارضت مجهودات سويسرا وغيرها، كما رفضت مساعي جنوب إفريقيا لكسر الجمود عام 1997م. من هذا المنطلق، يرى البعض أن وساطة الإيقاد تحولت عملياً إلى وصاية دولية على السودان لا يحق لغير دول الإيقاد التدخل في شؤونه!!.
وكانت الإمارات العربية أول من التفت إلى خطورة هذا الوضع وما يعنيه من تغييب الدور العربي في المساعي الرامية لحل الأزمة السودانية، ولهذا تقدم رئيس دولة الإمارات في عام 1998م بمبادرة لرأب الصدع بين الحكومة والمعارضة الشمالية، ولقيت المبادرة ترحيباً من الحكومة وبعض أطراف المعارضة، ولكنها لم تتقدم بسبب ما بدا أنه تحفظات مصرية ودولية، وتمنُّع من بعض أطراف المعارضة، وتتميَّز المبادرة الإماراتية عن المصرية والليبية بأنها ركَّزت على المعارضة الشمالية، وبالتالي تجنبت الاعتراض عليها لعدم تعارضها مع مبادرة الإيقاد، كما تجنبت المعوقات التي يمكن أن تضعها حركة التمرد.
^^مخاطر على الدور المصري
لماذا ترفض الولايات المتحدة المبادرة المصرية الليبية وتقف بقوة خلف الإيقاد؟ يمكن فهم الموقف الأمريكي في ظل اعتبارات عدة منها: أن الإدارة الأمريكية لا تود نجاح أي أدوار إقليمية في المنطقة يمكن أن تحقق نجاحاً في حل أزمات، فذلك يهدد دورها في المنطقة ويهز صورتها، وفي سبيل ذلك عيَّنت الإدارة الأمريكية هاري جونستون مبعوثاً للسودان على خلفية تعاطف الكونجرس مع فريق الجنوبيين واستعداده لمدهم بالسلاح، ويوجد تيار داخل الكونجرس، يرى أن سيطرة الحكومة على الجنوب سيترتب عليها تبعات جسيمة على الولايات المتحدة، باعتبار أن السودان سيلعب دوراً جوهرياً ومهماً في إفريقيا بعد إكمال سيطرته على الجنوب، وهو ما جعل هذا الفريق يدعو الإدارة الأمريكية لأن تضع الجنوب على صدر لائحة أولويات المصالح القومية الأمريكية في الخارج التي تجب عليها حمايتها والمحافظة عليها.
غير أن واشنطن ليست متمسكة بالمبادرة الأفريقية لأنها مدعاة حقيقية لإحلال السلام، ولكن لأنها القناة الوحيدة التي يمكنها من خلالها وعبر النفوذ الذي تتمتع به في دول منطقة شرق ووسط أفريقيا أن تفصل الجنوب السوداني ليكون عازلاً بين أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وتدفق الإسلام القادم من شمال السودان، وهو هدف تلتقي فيه الاستراتيجية الأمريكية مع وجهات نظر عدد كبير من قادة الدول الأفريقية السمراء التي تتمتع كنائسها بنفوذ كبير على أنظمة الحكم فيها.(14/232)
وتتبنى الولايات المتحدة موقفاً تجاه السودان، جوهره اعتبار السودان دولة راعية للإرهاب وأن سياسة حكومته تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان، كما تدعي أنها عامل عدم استقرار في القرن الأفريقي والبحيرات العظمى (منطقة المصالح الأمريكية)، وتتقاطع المواقف السودانية مع سياسة أمريكية جديدة تجاه أفريقيا تبلورت في مارس 1996م قوامها السعي لتشكيل كتلة أفريقية تمتد من القرن الأفريقي شرقاً إلى السنغال غرباً، يكون لها السيطرة على منطقة البحيرات العظمى والتحكم في مصادر المياه. وتهدف تلك السياسة إلى تحقيق هدفين أساسيين:
1 إعادة ترتيب الأوضاع الإقليمية في وسط أفريقيا.
2 محاربة وعزل نظام الحكم في السودان. وتعمل الولايات المتحدة على تحقيق هذه الأهداف عبر أداتين رئيستين:
1 خلق ودعم بعض القادة الأفارقة الجدد الذين يعملون بشكل أو بآخر على تحقيق المصالح الأمريكية، وفي هذا السياق جاء اجتماع الرئيس كلينتون في عنتيبي بأوغندا في أثناء جولته الأفريقية عام 1996م والذي شمل زعماء ست دول هي: أوغندا ورواندا وأثيوبيا والكونغو الديموقراطية وكينيا وتنزانيا.
2 طرح مشروع القرن الأفريقي الكبير، الذي يضم إلى جانب دول القرن التقليدية أوغندا والكونغو الديموقراطية ورواندا وبورندي وجنوب السودان (بعد فصله)، ويرمي هذا المشروع إلى إنشاء بنية أساسية لمصلحة شركات التعدين والنفط الأمريكية، وقد أطلق كلينتون مبادرة القرن الأفريقي الكبير في عام 1995م، وتحاول المبادرة ربط التطورات في السودان بتفاعلات شرق أفريقيا والقرن الأفريقي بعيداً عن الإطار العربي، وتهتم بخلق هوية مختلفة للمنطقة، وتسعى الولايات المتحدة إلى تسليح حلفائها، وهو ما تم بالفعل من خلال صندوق التعليم العسكري والتدريبي (IMET).
ويشير المراقبون إلى أن الجهود الأمريكية أرادت أن ترد على الدبلوماسية المصرية التي استطاعت من جهة احتواء الخلافات مع حكومة الخرطوم، ومن جهة أخرى الإبقاء على قنوات الحوار مفتوحة مع كل فصائل المعارضة بما فيها حركة قرنق.
وتكشف تصريحات المسؤولين الأمريكيين عن خطة الاستفراد بالسودان بعيداً عن مصر التي تمثل عمقه الاستراتيجي. ويرى البعض أن التحركات الأمريكية نحو كينيا تمثل إعلاناً للحرب على الامتداد المصري الطبيعي في أفريقيا، وهو ما يجب على القاهرة دون شك أن تواجهه بتكثيف جهودها للحفاظ على وحدة السودان تراباً وشعباً ومياهاً.
وعلى أي حال، فإن الموقف الأمريكي الرافض للمبادرة المصرية الليبية والداعم للإيقاد لا يعكس فقط تجاوزاً وتحفظاً على الدور المصري الليبي بقدر ما يعكس الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي ترى أن السودان ينتمي إلى أفريقيا جنوب الصحراء، وعليه أن يحصر علاقاته في جواره الأفريقي الجنوبي، ومن ثمَّ فلا دور لجيرانه في الشمال، وخصوصاً مصر.=>
===============(14/233)
(14/234)
اليسرى تكفي لحمل الحجر !
سلمان بن فهد العودة 15/8/1423
31/10/2001
" شادي " شاب في السابعة عشرة من عمره ، من شباب الانتفاضة الثانية ، يرقد في مستشفى الشميسي بالرياض التابع لوزارة الصحة .
أصابه طلق ناري في رقبته من الجهة اليمنى ، وخرج من الجهة اليسرى ، يكاد أن يكون مشلولاً شللاً تاماً ، غير أن يده اليسرى تتحرك قليلاً .
والزوار محتشدون حوله ، اتصلت به والدته من فلسطين لتطمئن عليه ، فتكلم بصعوبة ليقول : شلل كامل ، غير أن اليسرى تتحرك شيئاً ما .. زغردت الوالدة بنشوة صادقة لتقول : تكفي اليسرى لحمل الحجر ، نحن لا نريدك لشيء آخر غير هذا !
إن من سوء حظ اليهود أن يساكنوا هؤلاء القوم الجبارين ، الذين اشتكى أجدادهم من أجدادهم ، لقد قاتلوهم ثم قاتلوهم ، ثم قالوا : لو لم يبقَ إلا الحجر والتراب لواجهناكم به !
ولعلهم سلسلة في حلقة البعث الموعود من أولي البأس الشديد المسلطين على اليهود .
لقد تشبع الحجر برمزية تاريخية وشرعية واقعية تدعو إلى التأمل !
فهاهو القرآن يعيب على اليهود قسوة قلوبهم فيشبهها بالحجارة " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة .." .
وفي قلوب البشر ما هو أقسى من الحجر ، وكيف لا ، وهم يطلقون الرصاص الحي على صبية صغار ، أو نساء ، أو شباب عزل ، ويتقصدون الإصابة في الرأس ، أو الصدر ، أو العنق ..
بلي الجديد ، ومسنا القرح … …
فمتى تفيق أخي .. متى تصحو؟
وَ لوعتاه ..كم انقضت حقب … …
وامتد ليل ما له صبح !!
وبغى وحوش ليس يردعهم … …
خلق ، ولا دين ، ولا نصح !
وإن كان في الحجارة شيء من نداوة ، أو مسارب يتخللها الماء .. ليتفجر بعد أنهاراً أو عيونا .. فهيهات أن يكون في قلوب هؤلاء القساة سبيل إلى شفقة ، أو رحمة ، أو ليان .
وحين احتدمت عداوة اليهود للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهموا بقتله ، كانت أفضل وسيلة لديهم هي إلقاء الحجر عليه من عالي البناء ، فنجاه الله ، وباءوا بإثم الغدر والخيانة والفساد ، وهاهم المسلمون ينتقمون لنبيهم بالآلة نفسها ، لكن في وضح النهار ، بعيداً عن الغدر والمكر والنكث .
ومما يستطرف أن أبرز حالة رجم في الإسلام كانت رجم اليهوديين الزانيين على ما هو موجود في الكتاب المقدس ، فنفذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم حكم الله الذي أماتوه .
ثم انقطعت العلاقة المباشرة بين اليهود والحجر ، لتبرز في المعركة الخاتمة ، حين ينادى الشجر والحجر : يا مسلم هذا يهودي تعال فاقتله .
وهاهو الحجر يعلن حلفه مع المسلمين ضد قساة القلوب من اليهود ، ليعيد إلى الأذهان تلك النبوة الصادقة والأكيدة .
ونحن أمام عدوان على المقدسات كعدوان أصحاب الفيل ، عدوان يتترس بقوة متغطرسة ليس أمامها ما يكافؤها ، ولهؤلاء ، كما لأولئك أن يجعل كيدهم في تضليل ، وطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل . وعلى الإجمال فبراءة الاختراع لهذا السلاح الفعال هي مسجلة خصيصاً للمسلمين ، وبالذات للفلسطينييين.! إن النصوص التي بيننا تدل على أن حلم التوسع الجغرافي لليهود بعيد المنال ، فالمعركة معهم - وفق نصوص السنة - هي بالشام ، ببيت المقدس ، وأكناف بيت المقدس ، وتحديداً ثمة معركة على نهر الأردن ، أنتم شرقيه وهم غربيه ، ولم يكن يدري الراوي ، أين الأردنّ يومئذ !
" ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ".
فالشام عقر دار الإسلام ، وبيت المقدس -بإذن الله- باق للمسلمين، وإن كان لليهود فيه ، أو في غيره جولة ، فللمسلمين جولات ظافرة منصورة .
حتى الدجال الذي ينتظره اليهود يظهر على الأرض كلها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس ( ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والطبراني ، وسنده جيد )
وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن خراب مكة ، والمدينة ، ولم يخبر عن خراب المقدس ، حيث الحلقة الأخيرة من حلقات الصراع مع اليهود .
والمعركة إسلامية ، وقودها الشبباب المسلم الصابر ، الذي ليس له انتماء إلا دينه ووقرآنه ، وشعارها الإسلام - وليس غيره - فالحجر أعلن تحالفه مع المسلم ، لإسلامه ، لا لقوميته ولا جنسه ، ولا عنصره . وهاهم حاخامات اليهود يفاجئون العالم بتصريحاتهم العنصرية ضد الإسلام ، فالحاخام يوسف زعيم حركة شاس ، ثالث تجمع سياسي في إسرائيل ، والمشاركة في غالب الحكومات يصف العرب والمسلمين بأنهم كالأفاعي.
و الحاخام إبراهام شابير الذي كان الحاخام الأكبر في إسرائيل ، يقول: " نريد شباباً يهودياً يدرك أن رسالته الوحيدة هي تطهير الأرض من المسلمين ..يجب أن نتخلص منهم كما نتخلص من الجراثيم والميكروبات."
أما الحاخام الأكبر لإسرائيل سابقاً ، مردخاي إلياهو ، فإنه يقول مخاطباً مجموعة على وشك الالتحاق بالجيش الإسرائيلي : " القرآن هو عدونا الأكبر والأوحد ، هذا العدو لا تستطيع وسائلنا العسكرية مواجهته .. كيف يمكن تحقيق السلام في وقت يقدس العرب والمسلمون فيه كتاباً يتحدث عنا بكل هذه السلبية ؟ على حكام العرب أن يختاروا : إما القرآن أو السلام ! "(14/235)
أما إسحاق بيريس ، فيقول في موعظة دينية : " إذا استمر ارتفاع الأذان الذي يدعو المسلمين إلى الصلاة في كل يوم خمس مرات ، في القاهرة وعمان والرباط ، فلا تتحدثوا عن السلام ." (البلاد 30 رجب 1421هـ)
نعم ، في اليهود أصوليون ، ومتطرفون ، وعلمانيون ، كما في العرب وسائر الشعوب ، ولكن الشأن الوحيد الذي يلتف حوله اليهود هو التوراة ، والمعنى الديني والانتماء العرقي كما أن النداء الوحيد الذي تتجاوب معه الرقعة العربية والإسلامية ، هو نداء الإسلام والجهاد .
وهذه الانتفاضة خير مصداق ، فالأيدي التي ترشق اليهود بالحجارة هي الأيدي المتوضئة .
والحناجر التي تهتف بالملايين من اليمن إلى المغرب ، إلى مصر ، إلى الأردن ، إلى بلاد المهجر ..
إنما تهتف لشعب يمثلها وينوب عنها ، لتقول: إن القضية لا تموت ، وإن ركام السنين المتطاولة ينقشع في لحظة ، وهذا لا يعارض أن هذه الانتفاضة الشاملة وأصداءها هو تفريغ لاحتقان تعيشه الأمة بسبب أزماتها المتفاقمة .
فالشعب الفلسطيني مارس حقه ، وعرف في هذا العمل طريقه ، فلم يعد يستأجر لقضايا أجنبية عن وجدانه ، ولا يعمل لحساب هذا أو ذاك ، بل لحساب مستقبله وأمته ومقدساته ، وهو بحاجة يقيناً إلى مزيد من هذه المعرفة التي تؤصل إسلامية المعركة ، وتنفي أي خيار آخر .
والمسلمون في كل أرض يتلاحمون مع إخوانهم في الأرض المباركة ؛ ليذوب الجليد بين المسلم وأخيه ، ولتختفي المناكفات والمعاتبات والتقاطعات القديمة ، والتي عمقتها حرب الخليج الثانية ؛ ليلتف الجميع حول قضية واحدة ، وفي مواجهة عدو مشترك ، وهذا كسب لا يستهان به .
فلنبن عليه قراراً بالدعم المتواصل للانتفاضة ، وإصراراً على استمرارها.
ولنبن عليه حسن استضافة للإخوة الفلسطينيين المقيمين في أي أرض إسلامية ، بما في ذلك توفير فرص العمل والدراسة والعيش الكريم .
ولنبن عليه اهتماماً بالفلسطينيين في جميع البلاد العربية والإسلامية ، وخصوصاً التجمعات والمخيمات في الأردن ، وسوريا ، ولبنان ، والضفة ، تربيةً وتعليماً ، وإعداداً ودعوةً .
ولنبن عليه دعم الفلسطينيين داخل إسرائيل ، والتواصل معهم ، فهي ورقة مهمة يمكن أن تؤدي دوراً لا يستهان به .
بل وأكثر من ذلك يمكن العمل على استثمار التناقضات القائمة في المجتمع اليهودي ، كما يستغلون هم التناقضات القائمة بيننا ، ولقد ذكر الله -تعالى- أن قلوبهم شتى " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ".
وهذا يقودنا إلى شأن آخر حول وسائل مواجهة المكر اليهودي ، ودعم الانتفاضة الفلسطينية
===============(14/236)
(14/237)
قراءة في أسباب صعود ميجاواتي إلى كرسي الرئاسة
أول امرأة ترأس أكبر دولة إسلامية:
مضت أسابيع على ذلك الحدث المهم في جاكرتا، والكل ما يزال يعيش فترة ترقب في انتظار ما ستفعله الرئيسة الجديدة من تنفيذ للوعود الوردية التي سمعوها.. ففي يوم 23يوليو الماضي وصل مجلس الشعب الاستشاري الإندونيسي إلى القرار المنتظر بعزل الرئيس عبد الرحمن وحيد، وبعد 20 دقيقة تم تنصيب "دايا برماتا ميجاواتي سيتاواتي سوكارنو بوتري" (54 عاما) نائبة الرئيس ورئيسة حزب النضال من أجل الديمقراطية رئيسة خامسة للبلاد.
رحل وحيد عن الحكم متلقياً النقد واللوم من كل جانب على فشله في أداء مهمته كأول رئيس منتخب ديمقراطياً بعد حكم ديكتاتوري دام 3 عقود، وبعد أزمة حطمت الكثير مما تم بناؤه اقتصادياً.. وتسلمت نائبته ميجاواتي القيادة رئيسة لأكبر أرخبيل في العالم يضم 17500 جزيرة و 300 جماعة عرقية وإثنية و203 ملايين نسمة تجعله الرابع سكاناً في العالم، والأول في العالم الإسلامي (90 % من السكان مسلمون )، أرخبيل شاسع المساحة يحتضن جنوب شرق آسيا من الجنوب حتى إن 40 % من الحركة التجارية العالمية تمر بمياهها أو بالقرب منها!.
وبعد أن ظلت الجماهير تسمع أحسن الأوصاف عن الزعيمة الرمز من أبواق صانعي شخصيتها جاء الدور على ميجاواتي لتحدد أي أسلوب من القيادة ستقود به البلاد؟ وهل ستكون أفضل من سابقها أم أنها ستفشل في إيقاف مسيرة أمة إلى المجهول؟.
هناك من يتعجل الإجابة فيقول: نعم، مؤيداً قوله بما استطاعت ميجاواتي تحقيقه إذ أصبح حزبها الأكبر في البلاد، ولكن هناك أيضاً من يقول إنها لن تكون أفضل من وحيد بكثير أو إنها قد تكون أفضل منه نسبياً لكنها لن تستطيع مواجهة مشكلات البلاد، وهناك الكثير من المؤشرات والأدلة على ذلك، فحزبها لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه ( 153 مقعداً من مجموع 500) لولا وجود لوبيات مالية ودعم خارجي وشراء واسع للأصوات ثم إن الكثيرين يقرون بأنها تفتقر إلى المهارات القيادية التي يحتاجها من يقود بلداً كبيراً يعيش وضعاً غير طبيعي.
لماذا ترأست ؟
لا يزال البعض يبحث الأسباب التي دفعت بميجاواتي إلى الرئاسة..ولابد أن هناك العديد من الأسباب، فيما يلي 9 منها، بعضها تراكم على مدى سنوات والآخر ظهر في الفترة الأخيرة لوحيد:
أولاً: الوراثة السياسية: وهذا أول عامل، فبعد 15 عاماً من الخروج من عزلتها كأخويها وأختيها ودخولها العمل السياسي دعيت ميجاواتي لتقود الحزب الديمقراطي لأنها قبلت أن تحمل اسم أبيها، أول رئيس للبلاد، أمام الجماهير التي كانت مكتومة الأنفاس بحكم سوهارتو المتفرد، وهكذا عرفت طوال عملها السياسي كابنة لسوكارنو الرئيس الأول للبلاد!. ساهم في ذلك مجتمع جزيرة جاوة الأبرز في تأثيره السياسي والذي لايزال متأثراً بالكثير مما هو ريفي وتقليدي، كما أن النظام التعليمي لم ينجح في توسيع تصورات وأفكار الأجيال الجديدة بشكل كبير، ولذلك فإن التأييد الذي كسبته ميجاواتي كما كسبه قبل ذلك الرئيس المعزول وحيد ينبع من العادات التي تحترم العائلات المشهورة، أما الأحزاب الإصلاحية الجديدة فهي تحظى بتأييد المثقفين والطلبة في المدن الذين يفكرون بطريقة مختلفة وقد خففوا من معتقداتهم الجاوية القديمة.
ولايُتوقع أن يبقى الحال كما هو في العقدين المقبلين، إذ سيكون للأحزاب "الشابة" الجديدة مستقبل سياسي أفضل، وهذا ما يفسر تفضيل المثقفين الإسلاميين والوطنيين لشخصية مثل "أمين رئيس " رئيس مجلس الشعب الذي كان أبرز من أسهموا في إسقاط سوهارتو لكنه لم يكسب تأييد قسم كبير من الجماهير الريفية، رغم دوره ورغم أنه ناشط سياسي إسلامي ورئيس سابق لجمعية المحمدية الأبرز في مناطق الحضر.
كان سوهارتو وتنميته الصناعية غير المتسقة في جوانبها قد ساهما في تحطيم الكثير من الروابط القديمة وحلت محلها روابط اقتصادية ومادية بديلة ما بين السبعينيات إلى عام 1997م، وعندما تحطمت أو ضعفت هذه الروابط الجديدة بفعل الأزمة المالية الآسيوية وزال الاستقرار الاجتماعي من حياة الكثيرين عاد قسم من الناس ليجتمعوا حول شيء من الأمل فنظر محبو نهضة العلماء إلى الرئيس وحيد ونظر من لديهم شيء من الشعور القومي إلى ابنة سوكارنو..
وقد اعتمد صانعو شخصية ميجاواتي على إحياء شعارات وذكرى إرث والدها على الرغم من أنه ترك البلاد في وضع سيئ اقتصادياً، لكنهم ركزوا على الجانب الإيجابي الأول في حياته كزعيم للوحدة الإندونيسية.(14/238)
ثانيا: مشروع رئاسة: تعد ميجاواتي واجهة لمجموعات من الشخصيات والأطراف المؤثرة..بدءًا بزوجها رجل الأعمال اليساري محمد توفيق كيماس، وبعض هذه الأطراف والشخصيات تريد تطبيق خططها ومشاريعها وتشكيل مستقبل البلاد من خلالها، وأخرى ترى فيها عبوراً لمصالحها كما كان بعضها تماماً يعمل على كسب مصالح شخصية في ظل حكم سوهارتو، ولذلك فهي تعمل كواجهة شعبية وشخصية كاريزماتية لمجموعة من قيادات حزبها وللوبيات مالية وسياسية ودينية تتحرك وتتوصل إلى القرار والسياسات، بل وقد تعمل هذه المجالس واللوبيات كمجلس رئاسة سري من خلف الكواليس. وتقوم قيادات حزب ميجاواتي بكل ما هو ضروري من حشد التأييد لقضية معينة أو قرار في جلسة برلمانية أو لقاءات حزبية سرية أو علنية. ولا يمكن إغفال الترحيب الخارجي بها خاصة من الولايات المتحدة التي أرسلت مراقبين لانتخابات عام 1999م وكانوا يترقبون ترؤسها آنذاك من أجل إبعاد الرئاسة عن الإسلاميين، لكن واشنطن قبلت بالرئيس وحيد لأسباب عدة تتعلق بفكره المعارض لأسلمة الحياة السياسية وشخصيته ووضع إندونيسيا، ولما لم يعد قادراً على تطبيق أي برنامج تركته الولايات المتحدة وحيداً ومع الأيام كان سقوطه.
ثالثا: فرصة ذهبية: بقيت ميجاواتي رمزاً تحوم حوله الأوصاف الجذابة كالقول بأنها زعيمة الفقراء وأنها ستفرض العدالة والمساواة، وتسميتها في الأبواق التي تعمل لها بالملكة الجاوية العادلة، وقد تشجع حزبها لدفعها إلى الحكم وتحرك في الأسابيع الأخيرة متخلياً عن خيار الانتظار حتى الانتخابات القادمة في عام 2004م؛ لأنهم بدأوا يخشون من أنهم لن يستطيعوا كسب ما كسبوه في الانتخابات السابقة من الأصوات باللوبيات والتحالفات واستغلال الأموال المسيسة وشراء الأصوات.. لقد جاء دفع ميجاواتي إلى الرئاسة في فرصة ذهبية صاحبت قبولاً عاماً بعد اليأس من وحيد بشكل قد يصعب حصوله مستقبلاً.
رابعاً: أسلم الطرق الطارئة: كانت ميجاواتي الطريق الأقصر والأسرع للخروج من مأزق البلاد مع الفشل الذريع للرئيس السابق وحيد، فقد خيب وحيد آمال الجميع حتى إن قسماً من قادة جمعية نهضة العلماء التي منها انبثقت شهرته لم يكونوا راضين عن سياسته، بالإضافة إلى الإسلاميين الذين اختاروه وشعروا أنهم مطالبون قبل غيرهم بعزله ولذلك كان اختيار ميجاواتي بأغلبية 591 صوتاً من الحضور مقابل لاشيء مع غياب أعضاء حزب النهضة ( حزب وحيد) وحزب نصراني صغير.
ولم يكن الرئيس وحيد ليبقى مدة 21 شهراً مع افتقاده لأي إنجازات ملموسة تذكر لولا أنه يحسن المناورة السياسية، ولم يكن سقوطه إلا بعد أن استهلك جميع مناوراته وكرر بعضها من تغيير وزارات ومفاوضات، وتوزيع سلطات ومناصب، وتهديد بالطوارئ، و تغيير أو محاولة تغيير قيادات العسكر والشرطة، وخطبه وأحاديثه، ثم زيارته لأكثر من 60 دولة، وهذا يعد أبرز شيء اختلف به عن غيره بتحقيقه الرقم القياسي عالمياً لعدد زيارات رئيس دولة خلال 21 شهراً !، ثم الحديث بدون حذر من انعكاسات أقواله وما يمكن أن تثيره من مشكلات، ثم تهديده بأعمال عنف من جانب أنصاره، ومحاولة صناعة لوبي إعلامي يعمل لصالحه..لكن هذه الأساليب لم تنفعه في النهاية وسقط وحيد لتأتي ميجاواتي. خامساً: تغير موقف الأحزاب الإسلامية: وذلك من ناحيتين، الأولى من ناحية توجهها حيث غير الكثيرون نظرة الريب تجاهها كزعيمة حزب يساري نصراني غير إصلاحي، ثم لأنها امرأة..وكانت الأحزاب الإسلامية هي القوة التي انتبهت لأهميتها فغيرت من تعاملها معهم لتكسب أصواتهم!!، فلولا ترشيح الإسلاميين والوطنيين لوحيد في أكتوبر 1999م لوصلت هي إلى الحكم في ذلك العام، فهم القوة التي يمكنها تجميع ما بين 142 إلى 250 صوتاً في البرلمان وقد يزيد الرقم على ذلك لو مالت كفة حزب جولكار الوطني إليهم، وعلى رأس هؤلاء حزب التنمية المتحد الذي يمتلك 70 مقعداً في مجلس الشعب الاستشاري، ثم الكتلة الإصلاحية ولها 49 مقعداً من حزبي الأمانة الوطني (حزب أمين رئيس رئيس المجلس) وحزب العدالة الإسلامي (الذي يمثل الحركة الإسلامية المعاصرة)، ثم كتلة حزب النجمة والهلال ذات ال13 مقعداً وأعداد أخرى متفرقة.(14/239)
وقد تغير موقف الكثير من الشخصيات الإسلامية تجاه قضية رئاسة المرأة، كما أن وحيد ليس بالإسلامي بالمعنى الواضح والمفهوم، مما يحمله السياسي الإسلامي من مفاهيم فهو أقرب إلى القومية أو الوطنية الممزوجة بمسحات من الفكر الإسلامي بل لديه أفكار علمانية في المجال السياسي، غير أن الإسلاميين انتخبوه آنذاك بنظرية "أخف الضررين" وتفادياً لترشيح ميجاواتي التي قالوا إنها كانت خطراً على الإسلام والمسلمين في تلك الفترة؛ خاصة مع توعد قيادات وجماهير حزبها بالنيل من الإسلاميين وقد بدت بوادر ذلك بحوادث عنف من قِبَلهم، ومع أن المثقفين الإسلاميين من الإصلاحيين ركزوا على أنهم لا يرفضون ميجاواتي لمجرد أنها امرأة ولكن لتوجهها، فإن حزب التنمية المتحد ذا الشهرة التاريخية ركز على قضية تحريم إسناد الولاية العظمى (المتمثلة بالرئاسة اليوم)، للمرأة ولهذا كانت المفاجأة حين رشح الحزب بعد عامين رئيسه الحاج حمزة هاز نائباً لميجاواتي!.
وهكذا ظهر ضعف الوعي الشرعي والإسلامي لكثير من القادة السياسيين التاريخيين للمسلمين. فتغير موقف حزب التنمية بتغير الأحداث السياسية خلال عامين فقط مع عدم تغير الحالة المحكوم عليها أظهر أن المواقف الشرعية للحزب ليست إلا "فتاوى سياسية". ويقول محللون إن الأحزاب الإسلامية الأخرى غير حزب التنمية وافقت على رئاسة ميجاواتي كأقصر الطرق للخروج من الأزمة الرئاسية.
أما مجلس العلماء الإندونيسي فقد أكد رئيسه الدكتور عمر شهاب أن منظمته وهي أعلى منظمة شرعية رسمية في البلاد قد اتخذت قرارها بالتزام الحياد في مسألة الرئاسة أو الولاية الكبرى للمرأة؛ معللاً ذلك بوجود خلافات فقهية حول الأمر، لكن لوحظ أن تصريح شهاب جاء بعد اجتماع عقدته ميجاواتي مع بعض علماء المجلس قبل أيام من تسلمها السلطة، وقال شهاب: "شخصياً أوافق على رئاسة المرأة وهذا رأيي الشخصي ولكن هناك آخرين من مجلس العلماء لهم آراؤهم المعارضة الأخرى".
ويذكر أن رئيس مجلس الشعب "أمين رئيس" شهد مؤخراً في المؤتمر الثالث لحزب العدالة الإسلامي بأن قيادات حزب العدالة كانوا الأكثر وضوحاً في طلبهم من ميجاواتي خلال الاجتماعات التي مهدت لصعودها للرئاسة ألا تتبع سياسية تعادي بها مصالح المسلمين وألا تعين وزيراً يجاهر بمعاداته للمسلمين وأن تدعم ترشيح نائب لها من الإسلاميين وهو ما قامت به بالفعل، وقد ذكر رئيس حزب العدالة الدكتور هدايت نور أن من أبرز أسباب سقوط الرئيس وحيد عدم تماشي أقواله وأفعاله مع طموحات ومطالب المسلمين بدءاً بقضايا العلاقة مع الكيان الصهيوني ورفع الحظر عن الفكر الشيوعي وعدم إيقاف المذابح التي تفتك بالمسلمين وغير ذلك.
سادساً: تخلي الجيش عن وحيد: وهذا عامل وقتي كان له الأثر الكبير ولولاه لتأخر حدوث انتقال السلطة بهذا الشكل السريع والسلمي الذي جعله وكأنه "انقلاب دستوري"، فقد هدد وحيد عدة مرات بإعلان الطوارئ وحل البرلمان ومجلس الشعب لكنه لم يستطع تنفيذ ذلك مع معارضة وزرائه وعدد كبير من مستشاريه بل وجمعية نهضة العلماء لذلك وقبل ذلك، الجيش والشرطة اللذين بدون دعمهما لن يستطيع تنفيذ قراره، وحين أعلن الطوارئ لمنع عقد جلسة محاكمته لم ينفذ الجيش ولا الشرطة ما أمرهما الرئيس به ورفضا مد يد العون له، بل لم يلتزما بمجرد الحياد كما عهد عنهما في العامين الماضيين بل صوتت كتلتهما النيابية مع الأحزاب الأخرى على عزل الرئيس، وانتشرت مدرعاتهما وآلاف من جنودهما لحماية عملية نقل السلطة.
وتعلم ميجاواتي الدور السياسي للجيش والشرطة، لذا كانت أولى مكافآتها للمؤسستين إعادة تثبيت الجنرال بيمنتارو رئيس الشرطة في منصبه بعد أن تعرض لمحاولة عزل من قبل وحيد.
سابعاً: تقلب الموقف الغربي: كانت الأطراف الأجنبية اللاعبة والمراقبة للساحة الإندونيسية منذ سقوط الرئيس السابق سوهارتو تتوقع وصول ميجاواتي إلى السلطة؛ لكن الإسلاميين قطعوا الطريق أمامها عام 1999م ويتفق الكثير منهم على أن ترؤسها آنذاك كان سيأتي بالشر على الإسلام والمسلمين لتزامن ترشحها آنذاك مع مواجهة قطبية بين الإسلاميين من جانب واليساريين من حزبها الذين توعد بعضهم بقمع الحركة الإسلامية، ولأن الدول الغربية كانت تعلم أن الرئيس السابق وحيد لن يكون إسلامياً بالمعنى الذي تخشاه فقد تركته؛ غير أنه وصل إلى مرحلة لم يعد ينفع فيها الدول الغربية أو غيرها من الأطراف ذات المصالح في إندونيسيا، فكان الإيحاء إلى صندوق النقد الدولي بإيقاف ضخ الدفعات المالية من القرض الممنوح لإندونيسيا حتى تأتي حكومة جديدة، وجاءت ميجاواتي، وفي يوم 19سبتمبر الجاري ستكون في واشنطن لتعرف الموقف النهائي لواشنطن تجاه سياسات التسلح والانفصاليين والاقتصاد والمد الإسلامي، ولا ينسى في هذا الصدد أن زوج ميجاواتي زار واشنطن في منتصف شهر مايو الماضي ممهداً لتواصل بينها وبين الكونجرس والبنتاجون ووزارة الخارجية، كما أن وحيد قال إن عدداً من الغواصات الأمريكية كانت راسية قبالة سواحل إندونيسية عشية عزله و ترؤس ميجاواتي ولم يستبعد المراقبون حدوث ذلك!.(14/240)
ثامناً: غياب أحداث العنف: وهو أمر لم يكن يتوقع من قبل الكثيرين إلا من علم عن قرب بنية قادة جمعية نهضة العلماء بعدم التدخل لحماية رئيسهم؛ مثبتين بذلك عدم صحة الاعتقاد بأن وحيد يسيطر على قرارات النهضة بعد تخليه عن رئاستها، وباستثناء عدد من التفجيرات المتفرقة لم تتوافد إلى جاكرتا إلا أعداد قليلة من مؤيدي وحيد وقام آخرون منهم بأعمال شغب في مناطق أخرى في جاوة، ولذلك لابد هنا من الإشارة إلى موقف علماء جمعية نهضة العلماء الجماعي الذي أثبتوا فيه الفرق بين قرار جمعية النهضة وقرار حزب النهضة القومية، ولا يعد هذا العامل قليل الأهمية مع أنه لم يلق انتباها إعلامياً كافياً. فالانتقال السلمي للسلطة كان لسببين أولهما موقف الجيش وثانيهما تراجع جمعية نهضة العلماء عن الدفاع عن وحيد.
تاسعاً: تأييد القضاء: كان هذا سلاح وحيد الأخير لكن رئيس المحكمة العليا باغير منان لم يدافع عن موقف وحيد قانونياً، و أكد أنه "لا يملك الحق " في حل البرلمان أو مجلس الشعب. وفي جلسة محاكمة الرئيس استمع 601 من أعضاء مجلس الشعب إلى رسالة كتبها رئيس المحكمة العليا يحكم فيها بأن قرار الرئيس بحل البرلمان والمجلس قرار غير مناسب وغير صالح للتطبيق.
المؤهلات القيادية المجهولة !
يدور الجدل حول مؤهلات الرئيسة ميجاواتي القيادية وبالتأكيد ستثبت الأيام صحة بعضها وخطأ الآخر فقد تغير المسؤولية من شخصيتها إلى الأحسن أو تبقى على ما عُرفت عليه سابقاً، بعض المحللين يتخوفون من أنها ستكون ضعيفة ولن تقوى على مواجهة سيل الفساد المالي ولا نفوذ الجنرالات، وهناك الكثير ممن شكك في مؤهلاتها ولن يمكننا جرد أسماء وتعليقات هؤلاء، ولكننا نذكر منهم هرمان سرغال الناشط الطلابي المعروف. كما شكك المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن في دراسة له قبل أسابيع في قدراتها الزعامية وتساءل باحثوه عما ستقوم به لاستعادة استقرار البلاد مستبعدين أن تكون أفضل من وحيد..
بل إن مختار بخاري العضو القديم في حزبها و السياسي المعروف ذهب إلى القول: "بأن ميجاواتي تعد الأقل قدرة بين السياسيين الإندونيسيين على قيادة البلاد". أما المحلل السياسي أندي مالارنغيغ فيرى أن ميجاواتي هي الأحق بالرئاسة من ناحية ديمقراطية بحتة وليس لأنها أفضل من غيرها، وربما كان هذا الأمر من عيوب النظام الديمقراطي الغربي.
ليست مثقفة.. وصامتة
على الطريقة الجاوية
ويرتبط هذا الحديث بما هو معروف عنها من أنها ليست بمفكرة سياسية أو كاتبة ولا عالية الثقافة ولم تكمل تعليمها، ولهذا ترفض الاشتراك في ندوات ثقافية أو حوارات سياسية تنقل على الهواء مباشرة، وكان أطول حوار تلفزيوني لها حديثها لمدة ساعة تقريباً في ذكرى مرور قرن على ميلاد والدها، أما حواراتها الصحفية فهي معدودة على أصابع اليدين ومعظم تصريحاتها ينقلها غيرها عنها.
وينقل الكاتب الأجنبي لويس ريتشارد نقد البعض لها بأنها "ليست بالذكية ولذلك لم تكمل الدراسة الجامعية مرتين".ويعد صمتها سبب قلق للكثيرين، فهى التزمت الصمت حيال الكثير من القضايا، بل إن الصمت هو القاعدة في سلوكها ويقول دبلوماسي غربي: "لا أحد يعرف الكثير عن حقيقة ما يدور في مخيلة ميجاواتي لما ستكون عليه البلاد في ظل حكمها، فهي تختلف عن أبيها الذي كان كاريزماتياً وجذاباً في حديثه وخطيباً مفوهاً".
فهل صمتها كان ذهبياً؟.. يعتقد مؤيدوها من الجاويين (هذا لا يعني أن كل الجاويين مؤيدون لها) أن الصمت علامة الحكمة والقوة والاحترام، غير أن صمتها في كل مرة تتعرض فيه للقمع السياسي كان يثير خيبة أمل بين مؤيديها، وأقصاه كان انعزالاً كاملاً عن السياسة بين عامي 1996 و 1999م، وربما ساعدها حماسها على إعادة إحياء دورها السياسي وتوسيع شعبيتها من مجرد رمز اضطهاد يحبها قسم من الفقراء لتنضم للمؤيدين لها شخصيات معروفة ورجال أعمال من النصارى والصينيين واليساريين وقادة في الجيش.
المؤكد أن صمتها حافظ على سمعتها المصطنعة، لذا يرى مستشاروها و بعض مؤيديها من المحللين أن صمتها هو عامل قوة لها وفي ذلك شيء من الصحة، إذ لم يوجد أي تصور سلبي مبني على قول أو فعل صدر منها.(14/241)
وهى حين تتحدث تعطي تلميحات في الغالب دون ذكر أسماء، أما التردد والتأخر في اتخاذ المبادرة فهما صفتان أخريان عرفتا عنهما. ولعل الثقافة السياسية الجاوية تفضل التعقيد والمناورة وعدم المواجهة المباشرة ولم يكن وحيد ببعيد عن هذا الأسلوب فقد كان كثير المناورات ومواجهته مع البرلمان لم تكن بالمعنى الحقيقي للمواجهة، وقد أكدت ميجاواتي خلال عملها السياسي أنها لا تحب إدارة المناورات السياسية الحزبية وتركت ذلك لمستشاريها وسياسيي حزبها، ومن أمثلة ذلك أنها لم تعلن عن حزبها الجديد إلا بعد سقوط الرئيس السابق سوهارتو بثمانية أشهر. ولعل خسارتها في الانتخابات الرئاسية لعام 1999م تعود إلى ضعف مبادرتها وتحركها وتدل على عدم كفاية الاعتماد على البطانة الاستشارية، كما ظلت غير راغبة في المواجهة السياسية بشكل واضح خلال عهد وحيد وبعيدة عن النقد المباشر له حتى شهر مايو الماضي عندما أصبح غيرها ينقل عنها القول بأن العلاقة بينها وبين وحيد لم تعد كما كانت وأنها لا تؤيد بقاءه في السلطة، ولم تبلغ حدة تصريحاتها ضده أقصاها إلا يوم 13-7-2001م بقولها إنه لم تعد هناك ثقة بينها وبين وحيد.
كما ظلت مترددة في دعوة الأحزاب الأخرى إلى اجتماع موجه ضد وحيد والذي لم ينعقد إلا في اليوم الأخير من حكمه (22-7-2001م) وذلك خوفًا من التورط في مواجهة مع أنصاره لأن هناك قواعد شعبية مشتركة لكل منهما، تتحاشى الظهور بمظهر من أسقط وحيد وفي المقابل تريد من غيرها رفعها لكرسي الرئاسة وهو ما حصل بالفعل.
التحديات التي تواجه ميجاواتي
لن تكون مهمة ميجاواتي سهلة، فإن أي رئيس لإندونيسيا لن يستطيع حل معضلات البلاد التي تكالبت عليها الأزمات الاقتصادية والسياسية ثم الآثار الاجتماعية في آن واحد. ويتفق المحللون على أن فاعلية ونجاح عمل الوزراء الذين عينتهم قد تفوق أهمية أداء ميجاواتي نفسها؛ خاصة أنهم متنوعون في خلفياتهم السياسية والمهنية حيث وزعت الوزارات على عدد من المهنيين غير السياسيين وكبار الموظفين السابقين، كما تسلم الجيش وأكبرالأحزاب بعض الوزارات من مجموع 31 وزارة... ويمكن اختصار التحديات التي تواجه ميجاواتي بالنقاط العشرة التالية:
1 ضرورة إيضاح تصورات تفصيلية وبعيدة المدى لما ستؤول إليه الأوضاع وعدم الارتكان إلى الخطابات الفضفاضة العامة حيث لم تكن لها استراتيجية معلنة باسم حزبها قبل ترؤسها، وتظل علامات الاستفهام تدور حول قراراتها المستقبلية وما تخطط لفعله خلال عامين من الرئاسة.
2 استعادة هيبة الدولة ومصداقيتها: وربما انتهت فترة العسل التي تستقبل فيها رئيسة منتخبة جديدة ليبدأ الاختبار الحقيقي حول قدرة ميجاواتي على استعادة الثقة والاحترام الشعبي والإقليمي والدولي لدولتها بعد فقدانها ذلك خلال السنوات الماضية.
3 استعادة استقرار الاقتصاد: وقد تجاوب صندوق النقد مع الفريق الاقتصادي الجديد الذي عينته ميجاواتي، ولكن هل سينفع برنامج الصندوق أم أنه سيكون مشروعًا فاشلاً آخر، مع تراكم القروض الحكومية وقروض القطاع الخاص التي فاقت 200 مليار دولار حسب أقل التقديرات؟
4 مواجهة الفساد: وهي الكلمة الأكثر بغضًا في الشارع الإعلامي والسياسي. ومع أن ميجاواتي قد أعلنت في خطابها الجمهوري الأول يوم 16-8 عزمها محاربة الفساد المالي والإداري المستشري في مؤسسات الدولة وفي نظامها القضائي؛ فإن الخبراء لا يزالون يطالبونها باستراتيجية محددة لتنفيذ ذلك؛ خاصة مع موجة الشك التي تحوم حول قدرة المدعي العام الجديد على فعل الكثير.
5 الحفاظ على وحدة البلاد: وهذه مهمة صعبة في مجال مليء بالدماء والأشلاء والأشواك... فكيف ستتعامل ميجاواتي مع الحركات الانفصالية وخاصة في آتشيه وإريان جايا؟ وهل ستطبق بالفعل تفاصيل القانون الخاص بالحكم الذاتي وتسلم غالبية إيرادات الثروات في آتشيه لسكانها؟ وكيف سيكون موقف الجيش الذي يقال إنه كبح جماح حركة تحرير آتشيه، وفي مقابل ذلك ما الثمن الإنساني الذي يمكن للدولة أن تتغاضى عنه باسم الحفاظ على "الوحدة الوطنية"؟!
6 العلاقة مع الجيش: يظل التساؤل يتردد على ألسنة الكثيرين حول ما سيؤول إليه دور الجيش وهل ستزيد حكومة ميجاواتي من صلاحياته أم ستقللها خاصة بعد الدور الذي قام به الجيش في إيصالها للسلطة؟
7 محاكمات حقوق الإنسان: هناك العديد من الملفات التي تحتاج إلى أن تُفتح ويحاكم المتهمون عن إسالة دماء أبرياء فيها، فانتهاكات حقوق الإنسان جرح من جراح إندونيسيا الغائرة، فكيف ستتعامل ميجاواتي مع هذا التاريخ من الانتهاكات ؟ وهل ستهمله إذا سكتت الدول الغربية عنه ولم تحاول الضغط على حكومتها بسببه كما حصل مع الرئيسين السابقين حبيبي ووحيد؟.(14/242)
8 العلاقة مع حزبها: كيف سيكون أثر الانقسامات المعروفة في حزب ميجاواتي على أدائها وعلى الأجندة التي تحددها؟ فتأخر إعلان الحكومة لمدة 17 يوماً كان بسبب الخلاف داخل كوادر الحزب وليس بسبب الخلاف بينها وبين الأحزاب الأخرى، ويرتبط هذا البعد بالمناخ السياسي الصعب الذي تعيشه إندونيسيا وعدم امتلاك حزب ميجاواتي إلا 34 % من مقاعد البرلمان؛ مما يجعل من الصعب على أي رئيس أن يحكم بسهولة، فهل ستستطيع ميجاواتي الحفاظ على حكمها وعلى أداء ما يريده الشعب منها ولو بنسب نجاح متواضعة قبل الانتخابات القادمة؟.
9 البعد الإسلامي: اقتنعت ميجاواتي بأنها لا تستطيع الوقوف أمام الإسلاميين وجهاً لوجه فاتجهت إلى الديار المقدسة وأدت الحج والعمرة وعادت لتسمى الحاجة ميجاواتي ولتمحو التصور المعروف عنها بأنها زعيمة حزب يساري معادٍ للإسلام والمسلمين، فإلى متى ستستمر هذه العلاقة التفاهمية وهل ستمتنع عن فعل ما يضر مصالح المسلمين ويجرح مشاعر الإسلاميين وهي تعلم أن فترة العامين القادمين ستكون اختباراً لها يحدد خريطة التحالفات في الانتخابات القادمة؟.
10 التحدي الإنساني والاجتماعي: أمام ميجاواتي 1.3 مليون لاجئ ومشرد و 80 مليون طفل منهم 10 ملايين على الأقل دون تعليم و 80 مليون إندونيسي دون قدرة مالية على شراء أدوية، وغير ذلك من الأوضاع الاجتماعية والإنسانية المأساوية التي يعيشها عشرات الملايين ولا تنقلها لنا وكالات الأنباء المنشغلة بالجانب السياسي، فماذا ستفعل لهم؟!.
ونختم بالقول بأن ميجاواتي ظلت طوال الفترة الماضية أملاً مصطنعًا في أذهان البعض من الجماهير الفقيرة الباحثة عن قيادة تثق بها بعد فترة سوهارتو وتجريب وحيد..لكن الترحيب بالقادم ليس دليلاً على نجاح الخاتمة..فهي تواجه مهمات صعبة وثقيلة جداً..وهي بلا شك لا تمتلك وصفة سحرية وليس لديها الكثير سوى عامين لتواجه انتخابات أخرى..وإذا شعر الناس بأنها لم تؤد المهمة على الوجه الذي تستحق...فقد يثور حينذاك طوفان آخر..!=>
===============(14/243)
(14/244)
قصر العمائم.
أنور العسيري 27/7/1423
14/10/2001
في أزقتها يتجول التاريخ ، على أطرافها تتناوب أقدام الفقراء و الحوار مع الأرض في منظومة البحث عن
الرزق ، حركة الناس المبعثرة في دكاكين مدينة البصرة العتيقة توحي بانتظام هذه العشوائية الجميلة.
شوارع السوق يتأرجح على ظهرها البسطاء . العمائم تتراقص على جوانب الدكاكين ... النساجون تتقوس ظهورهم في شكل فيسفيسائي بديع ... ...
فجأة عجلة السوق توقفت عن الدوران..الأيادي رفعت عن الخيوط ..انتظم الناس في تجمعهم سكنوا خلف طبول المنادي ... منادي الوالي يقترب من الجموع.. حوله، تقاطرت الناس ، لفوه كعمامة أصيلة تحتضن رأس فارسها.
أعينهم، أفواههم، أياديهم كلها فتحت تراقب منادي الوالي ، المنادي وقد ارتقى ساحة السوق على أكتاف أربعة من الرجال أسدل ستار البداية بالسلام ، زحفت كلماته محلقة في فضاء الناس :
قرر الوالي الهمام بيان الدين الإمام وبعد مشاورات مع خبراء العالم في السوق واحتياجاته والمال واستخداماته... أن يمنح أمتنا فرصة الكسب وذلك بزراعة الصوف الخام استفادة من سعره المرتفع هذه الأيام بما يحقق للبلاد وشعبها المقدام أمل الرخاء والسلام .
أخوكم في الإسلام /الوالي الهمام بيان الدين الإمام والي العراق ومصر والشام .
الأيادي في ألم تنزع العمائم من على أبواب الدكاكين ... لم يمهلهم الجو العاصف ....
أسبل المطر في المدينة ..فرق بإسباله موكب الناس.... ضجت شظايا الحنق في كلماتهم اختلطت بقصف الرعود المتتالي.
تفرق الناس... دوائر همساتهم نفذت آذان الجدران... باتجاه الشيخ الناصر (شيخ نساجي الأمة) انطلق نفر من النساجين همم يقظة ووجوه يبعثرها الغضب وقفوا أمام الشيخ الناصر...على كرسيه جلس، لحيته البيضاء ، استدارة وجهه ، مسارات السنين في جبينه صنعة حكمته.
حيوه بملامحهم الحزينة أدرك ألم الخطب لكنه ما توقعه..
الناصر : ما خطب أبنائي المهرة
أحدهم : انتهينا يا شيخ
أضاءت كلماته : لاينهيكم إلا الذي أحياكم .... ما لذي أصابكم …
أوردوا البيان على شيخ النساجين.. بدا في صمته المطبق حوار أدرك كنهه الموجودون..
الناصر : اذهبوا إلى حاجب الوالي واستأذنوا لي في مقابلته فلعل في الأمر لبس .
مضى النساجون ومضى الشيخ إلى ذهنه ،سأل نفسه : رباه ماذا يدور في ذهن الوالي ....
اخترق بوابة القصر ....هرم من العمائم اغتصب قلب الحديقة كان في شكل بديع ،قصر من العمائم .... استسلم لابتسامته المطحونة :أتلبس الأرض عمائمنا قصراً وتخلو رؤوسنا منها...تابع المسير يتقدمه الحاجب ?…?لبرهة استوقفه رجال القصر، اكمل بعدها مسيره دخل مجلس الوالي كان خالياً جلس ينتظر مجيئه .....
صوت الوالي يسبق خطواته استقام الشيخ حيا ه..
على يمين الوالي جلس، صمت احتسى المكان اخجل في نفس الناصر ومضة الإقدام لكنه لم يمحها قلبت طاولة الصمت إشارة الوالي.
الوالي :ما خطبك أيها الناصر .؟
الناصر: جئت رغبة في فهم أكثر لمضمون البيان الذي تلي اليوم.. فسوق البصرة العتيق تأكل أنفاسه الشكوك.!
الوالي :اسمع أيها الناصر أنت حكيم، ولا أظنه يخفى عليك ما تمر به بلادنا من فقر أجدب الخزينة ... من الأولى أن نبيع الصوف الخام فمدخوله وافر.. والبلدان الصديقة تسعى لدفع ثمنه ذهباُ ...
الناصر :ارفق بنساجي أمتك ..في نسجهم معان.. هم لا ينسجون عمائم هم ينسجون تاريخاً.
الوالي : أنا ارفق الناس بهم وبكسبهم يا هذا ... ومع ذلك فعمائم الروم سعرها زهيد …
الناصر : أو تعتقد أن الروم ينسجون عمائمنا! ...إنهم ينسجون تاريخهم ... كيف لأبناء البصرة التي اشتهرت بنسج العمائم حتى لقد طرز اسمها قصركم الميمون ..( قصر العمائم ) كيف لها أن تلبس تاريخهم ؟
الوالي : ويحك أيها الناصر ...قد جاوزت في كلامك الحد .
الناصر : بل والله قد رأيت الحق فقلته ... لماذا تذبح صنعتنا ويستباح نسيجنا ؟
استشاط الوالي غضباً.. ملء كؤوس حنقه ..صرخ قائلاً: لن ترى عيناك النور بعد الآن أيها العجوز الحالم .
أمر حرسه بسجنه.. ساروا به إلى الزنزانة ... وجهها المظلم استقبله بفرح ...ارتكن إلى زاوية صغيرة نظر إلى السماء...ناجى ربه ...تأمل حاله ...استلقى على ظهره ... لثم فاه نومه .. عانقه ... التهمه النعاس
...المساء يتأمل سوق الععمائم وقد خلا من أهله غاب عن صمته ، نثر همه مع النجوم أخذ من سناها حلمه ..ألهمه انبعاثها أملا ...ألقى بكتفه على السوق غاب السوق في سواده .
لحظات وانطلقت المفاجأة:
.... الليل صار نهاراً ...أبواب المدينة أغلقت .... صهيل خيول يفترس الأرض ... نيران تشتعل في المكان .... فرسان تصعد أكتاف القصر.... تهاوت رؤوس العامة دكاكين البصرة انتهكت ... قصر العمائم تهاوى على الأرض، سيوف تهدمه تقطع خيوطه، صارت العمائم كومة قش .... استفز الأمر.. الحرس قاوموا الفرسان ما استطاعوا ... الوالي حمل على خوفه سار بيده السيف ... خبئ أهله في حجرة بعيدة.. انطلق يبحث عن الصوت ... فاجئوه .. قفزوا إليه (كان يلبس عباءة أهداها له ملك الروم) ... تقدم أحدهم من الوالي ... أمام نظرات سيوفهم ألقى سيفه ...(14/245)
قال أحدهم :
مار أيك في عباءتنا أيها الوالي :
تصلبت أطراف الكلام تنازعت الدهشة قلبه اصطدمت بقارب غضبه أسقطته على الأرض
لماذا ؟ قفزت أسئلة الوالي ................... لم يجبه إلا صوت الناصر ، في زنزانة واحدة جلس الاثنان
كان البكاء يخالج بوح الوالي ... فقد كانت المفاجأة اكبر من أن يتوقعها الوالي..
في غفلة استولى الروم على الأرض .
... لملم الغزاة العامة ... في حزن يرقبون الحدث ... سلاسل الحديد تقود الوالي والناصر ...خرت الأصوات دهشة ... صعق المكان ماذا سيحدث لهم تناثر هذا السؤال على طول الشاطئ ،ما أجاب أحد ؟!! دفع الاثنان بأمر من كبير جنود الروم إلى قارب صغير قيدوا جسدهم بالقارب ... استلم كبيرهم الحبل المعلق به، قطعه ... دفع بقوة القارب انهزم الموج أمامه، أبحر القارب ... أنامل قلوب العامة ودعت الراحلين .
الوالي : الموت أيها الناصر قد اقبل ..
الناصر : مازلت تنظر بعيني رأسك أيها الوالي و مازلت انظر بعيني عقلي !
ما يشغلني إلا الإجابة على سؤال أرهق ذهني
الوالي : وما هو هذا السؤال ؟
الناصر : ما الذي سيحدث بعد هذا لابنائنا يا والي ؟
الوالي : حقاً أيها الناصر .. إنها أمة تذبح ….. صمت لبرهة …. صهل خيل شعره … أنشد :
ابعد عمامتي خلعت بلادي وبعد العز تنتحب الكرامة
خلعت عن الحكيم حكيم قومي قلادة عقله فدنت ملامة
عمامة ناصري كانت رداء لفهم العقل اكبر من عمامة
وهذا فهم من بالدين سوى مناهج عزمه طول استقامة
أهذا الروم من وعدوا بعز نعم وعدوا وقد وفت الندامة
ابعد عمامتي خلعت بلادي ابعد عمامتي خلعت بلادي
البحر التهم القارب .... غابا معاً.
العام 1422للهجرة... "و في عصر العولمة هل ذابت هوية المسلمين ؟ أصبحنا نلبس لباسهم نحتسي حسائهم نفهم على طريقتهم هل انتهينا حقًا ..." ( المذيع وقد تأبط حيويته تابع بث مقدمة برنامجه الصاخب : كانت هذه القصة مقدمة كتبها الكاتب الإسلامي ..(المعروف) رغم أن القصة تبدو من نسج الخيال إلا أننا أوردناها مقدمة لحلقتنا اليوم في برنامجكم الحواري الساخن بعنوان هوية الأمة بين الصمود والذوبان ...
نلتقي فيها مع المفكر الإسلامي احمد عبد الله والمفكر العلماني احمد عبد الله...المذيع وقد شمر عن ساعدي نظارته المثقفة ! تفضل يا أستاذ احمد .
احمد عبد الله الأول : أنا اعتقد أن النظام الاستخرابي الجديد يستعمل البوابة الاقتصادية للترويج لمجموع قيمه نظرة إلى الملابس التي تستهلك أجسادنا ستجد من الرموز العقدية والفكرية والصور ذات المضامين التاريخية ما يعتبر محاولة حقيقية لهز قيم أجيالنا الجديدة ... ولك في أطعمتنا التي فرضت نمطها ظروف حياتية اجتماعية غربية مثال واضح. ...نمط المجتمع الاستهلاكي المفروض علينا بفعل الاغراءات نمط جديد ضد قيمنا وديننا انه نمط مجتمعات تبحث عن المتعة لا الآخرة .
أحمد عبد الله الثاني : اعتبر هذا الكلام كلام أناس يعيشون في الماضي ... نحن في عصر الفضاء والعالم تحكمه ثقافة واحدة .. اسمها العولمة .. ما دخل الملابس والأكل في الموضوع ( انتو ناس بسطاء ) لاتفهمون !!!! هناك اتجاه نحو إنسانية الثقافة عالم واحد بثقافة واحدة افهموا يا إخوان !
كما قاد المذيع الحوار ... ألجمه ... نشرة الأخبار تقدمت ... أعلن مذيعها على الملأ :
.... رغم تشكيك خبراء عالميين في جدوى انضمام دول نامية لمنظمة التجارة العالمية ... رغم ذلك .... أعلن في منظمة التجارة العالمية عن قبول خمس دول إسلامية كأعضاء جدد في المنظمة .
توثب المذيع هاجم الجمهور قائلاً :
من موقع الحدث وعلى الهواء مباشرة ننقل لكم هذه اللقطات ..
الكاميرات تطارد الناس... أضوائها ألهبت المكان .. أعيت أعين الحضور .... أمام الأمين العام للمنظمة تسلقت الميكروفونات تبعث صوته السعيد : تم القبول بالإجماع بعد استيفاء الشروط المطلوبة وخاصة فيما يتعلق ببند فتح السوق المحلي للمنتجات العالمية.
شاكراً غادر الأمين !
كومة من المذيعين ارتحلوا إلى المسئول الاقتصادي في منظمة المؤتمر الإسلامي يهنؤن بالعضوية.
بحنو توقفوا أمامه ، أطراف أصابعهم استدارت ... أطفئوا أنوار كاميرا تهم ... أغلقوا ميكرفوناتهم.... غادروا القاعة ... فهو منذ الصباح مازال ...(خخخخخخخخخ) .
===============(14/246)
(14/247)
قراءة في كتاب:الحركة الإسلامية ومسألة التغيير
يعكف الشيخ راشد الغنوشي منذ مايزيد على ثلاثة عقود على دراسة جدلية الفكر والواقع السياسي المعاصر في الساحة الفكرية، العربية منها والإسلامية والعالمية، وبعد كل تأمل فكري معمق، يخرج للساحة بعصارة تأملاته وقد صدر له عديد من الكتب والدراسات سواء المتعلقة منها بالمرأة و"الحريات في الدولة الإسلامية" أو العلاقة مع الغرب، أو الحداثة والتحديث أو السياسة الشرعية، أو ما سماها بالفعالية القرآنية، وغيرها من المواضيع، ومنذ سنوات بدأ بإصدار سلسلة مقاربات في الفكر السياسي المعاصر صدر منها جزءان الأول "مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني" والجزء الثاني "الحركة الإسلامية ومسألة التغيير".
وقد سبق ل المجتمع أن قامت بعرض الجزء الأول وها هي تعرض الجزء الثاني وهو كتاب "الحركة الإسلامية ومسألة التغيير". يقع الكتاب في 141 صفحة من القطع المتوسط وصادر عن "المركز المغاربي للبحوث والترجمة" وهو مطبوع في بيروت عن طريق المؤسسة الإسلامية للطباعة والصحافة والنشر.
مسيرة الصحوة الإسلامية
يرى الغنوشي أن القرن الميلادي الجديد يحمل بشائر عظيمة لدعوة الإسلام حيث يقول: "آمل أن لا ينتهي القرن إلا وقد أرسى الإسلام نواة صلبة لعالم إسلامي جديد" ويستدرك قائلاً: "وهذا لايعني بحال أن تيار الصحوة الإسلامية بلا عيوب ولا مشاكل ولا عقبات فالصحوة لم تحرِّر من أمة الإسلام إلا القليل من الطاقات"، ثم تحدث عن العقبات التي تواجهها الحركة الإسلامية معتبرا "الجهل بالإسلام أعظمها" وتحدث عن مظاهر ذلك الجهل بالإسلام وهو "ربطه بالتعصب والتطرف والرجعية والإرهاب والعدوان على حريات الأفراد والشعوب"، أما التحدي الثاني الذي يواجه الصحوة الإسلامية فهو الاستبداد السياسي الذي يرزح تحته العالم الإسلامي.
وقد دعا المؤلف مفكري الإسلام وعلماءه إلى "تأصيل مباديء الحرية والشورى والديمقراطية بكل أبعادها في أرض الإسلام". كما دعا إلى "التعاون مع كل القوى المناهضة". للاستبداد والمدافعة عن حقوق الإنسان والديمقراطية من كل ملة داخل العالم الإسلامي وخارجه، فالاستبداد شر كله وليس هناك نعمة بعد الهداية أفضل من الحرية".
التحدي الثالث للصحوة الإسلامية هو "إقامة نماذج إسلامية للحكم، ونماذج إسلامية اجتماعية ثقافية تبشر بعدالة الإسلام".
أما التحدي الرابع فيتمثل في العداء الغربي للإسلام وأمته، ولئن ذكر أن عدداً من الغربيين انجذب نحو الإسلام فإنه يؤكد أن الغالبية لاتزال تجهله وبالتالي تناصبه العداء، وعرج على دور الحركة الصهيونية التي انبثت بسمومها وتغلغلت منذ أكثر من قرنين في أعماق النسيج الغربي في آدابه وكنائسه، فضلاً عن إخطبوطها الإعلامي والاقتصادي وتغلغلها في مراكز القرار السياسي والإداري وحتى العسكري. ويدعو الغنوشي إلى العمل على إيجاد استراتيجية تهدف إلى فك الارتباط بين الإخطبوط الصهيوني والحضارة الغربية.
الحركة الإسلامية.. الواقع والآفاق^^
تحت هذا العنوان يتحدث عن سمات النشاط الإسلامي الذي قال عنه: إنه ذو طابع إصلاحي متمثلاً في "الأمر بالمعروب والنهي عن المنكر سبيل العلماء لتقويم الخلل في الدولة الإسلامية" وبما أنه يضع الواقع الراهن في معظم أنحاء العالم الإسلامي على المشرحة فإنه يخلص إلى أن الدولة ابتعدت قليلاً أو كثيراً عن الإسلام وأصبحت علمانية قهرية تمثل إرادة خارجية ومنذ ذلك (التحول) اتخذ الإصلاح شكلاً جديداً. ثم يتطرق الغنوشي إلى أهداف الحركة الإسلامية من كدحها الدؤوب قائلاً: "هدف الحركة الإسلامية استعادة الشرعية الإسلامية المفقودة فكانت انطلاقة حركة الإخوان المسلمين بقيادة الشهيد حسن البنا بعد ثلاث سنوات من سقوط الخلافة وذلك أسلوب جديد يختلف عن طرق الإصلاح القديمة" حيث بدأت الدعوات لأسلمة "الثقافة والفكر والاقتصاد والفن والتربية والقضاء والسياسة بعد انتشار الوعي بأن الإسلام لم يعد دستور الدولة".(14/248)
وفي معرض سرده للتجربة الإسلامية الحديثة في مجال الاقتصاد والبنوك أكد الغنوشي أن تجربة البنوك الإسلامية وغيرها من المشاريع الاقتصادية والتنموية الإسلامية "طريقة للتحرر الاقتصادي" ودعا الشباب الإسلامي للتوجه للميدان الاستثماري والتجاري وتأسيس الشركات والتعاونيات باعتبار ذلك من ميادين الجهاد الإسلامي المعاصر. واستعرض الغنوشي إنجازات الحركة الإسلامية في المجال الثقافي رغم وسائلها المحدودة فقد كان إنجازها معتبراً "لقد استطاعت أن تهمش العلمانية على امتداد العالم الإسلامي رغم أن العلمانية في الحكم والإسلام في المعارضة"، مستشهداً بنتائج الانتخابات النزيهة وموقف الحكم من المشاركة الإسلامية، والنشاط الثقافي الإسلامي، "لا يوجد اليوم منافس للكتاب الإسلامي ولا للأحزاب الإسلامية ولا للمجلات الإسلامية ولا للمشاريع والبنوك الإسلامية، وغدت معظم اتحادات الطلاب بأيدي الإسلاميين.. حتى لم يبق للعلمانية من مصدر للشرعية غير العنف والقهر والدعم الخارجي" مقابل ذلك بين فشل العلمانية في تحقيق وعودها كالازدهار الاقتصادي وتحرير فلسطين وتوحيد الأمة، وبشر في كتابه المفعم بالأمل بعودة الإسلام للحكم متحدثاً عن عوامل ذلك ومنها:
1 قوة الإسلام الذاتية.
2 حالة هرم المشروع المقابل: العلمانية.
3 فساد الأنظمة الحاكمة.
4 عمق الإسلام في نفوس الشعوب المسلمة رغم حالة الكمون العابر التي فرضها القهر.
5 الثروات الطائلة في العالم الإسلامي.
6 تقدم وسائل الاتصال.
7 انتشار الإسلام في الغرب.
حيرة الحركة الإسلامية بين الدولة والمجتمع
تحت هذا العنوان يستعرض الغنوشي علاقة الإسلام بالدولة، حتى إنه لايمكن تصور وجود إسلام كامل بدون دولة، فالرسول ص لم يفرق بين الإصلاح الاجتماعي والقيادة السياسية والتي أفضت إلى قيام دولة مترامية الأطراف، ثم يرسم الغنوشي صورة تاريخية لردة السياسة عن الدين أو ما أسماه بالانقلاب الذي "كان الخطوة الكبرى على طريق انفصال السياسة عن الدين" وينتقل للعصر الحديث حيث وبعد "فتن قاسية أوشكت أن تطيح بالكيان الإسلامي جملة اضطر العلماء للتنازل عن السلطة لصالح أصحاب الشوكة والقوة وبذلك كانت المعادلة أو الصفقة التاريخية: السياسة للحكام ولهم الطاعة ما خضعوا لأحكام الشريعة، وللعلماء ضبط أحكام الشريعة والقضاء والتعليم والإشراف على الأوقاف" غير أن تشريح الغنوشي للتاريخ السياسي لأمتنا يكشف عن عمق الزيغ الذي حصل بعد ذلك سيما بعد وقوع الأمة فريسة للاستعمار حيث قامت حكومات اتخذت من الدين وعلمائه مجرد أدوات تستخدم عند الحاجة ملحقة بالأجهزة الأمنية للدولة، "وبناء على هذا انقسم المعنيون بأمر الدين كما يقول الغنوشي إلى جهتين إحداهما آثرت السلامة الشخصية وانخرطت في الواقع بمساوئه وأخرى اتجهت للمعارضة لتنتهي إلى جماعة سياسية معارضة".
ويرد على من يظنون أن قيام أحزاب إسلامية يقسم الأمة قائلاً: لقد كان مثل هذا الكلام ذا معنى لما كانت الأنظمة القائمة مستندة للشريعة وكان العلماء قائمين على تفسير نصوصها والقضاء بأحكامها مطلقة أيديهم في الإصلاح الاجتماعي، أما وقد انهار ذلك البناء جملة فالقياس عليه مع وجود الفارق مُوقع في الوهم والزلل وتضليل الأمة عن مواجهة أعظم أسباب البلاء في حياتها وأشد العقبات في طريق نهضتها.
^^قصور الحركة الإسلامية
وحتى لاتعد دراسة الحركة الإسلامية في بيئتها ونشأتها والعوامل المحيطة بها وإنجازاتها من قبيل مدح الذات والنرجسية المفرطة تطرق الغنوشي إلى مظاهر القصور في الحركة الإسلامية حيث يرى أن الإسلاميين ظلوا بعيدين عن التأثير على القوى العاملة. ويرجع سبب ذلك إلى عدم وعي الإسلاميين بمشكلات القوى العاملة ذات الطبيعة الاجتماعية والسياسية في حين نظروا إليه من النواحي العقائدية والأخلاقية فقط، المثال الثاني الذي يضربه الغنوشي لقصور الحركة الإسلامية تعاملها مع القطاع النسائي.
ويرى أن "الطرح الاجتماعي الفلسفي لقضية المرأة ينتهي إلى أن قضية المرأة ليست مجرد قضية تبرج وعري واختلاط فحسب بل إنها قضية اغتراب وظلم وإستبداد، إنها قضية إنسان سلبه الانحطاط إنسانيته وفي الضفة الأخرى (الغرب) تم استبدال مواقع الاستبداد وأخذت المؤسسة مكان الرجل.
الحركة الإسلامية والعلاقة مع الحاكم
يتحدث هنا عن العلاقة بين الحركة الإسلامية وأنظمة الحكم المختلفة "فالعلاقة تتراوح بين الاعتراف المتبادل والصريح والضمني" ويعود إلى علاقة الحركة الإسلامية مع الأنظمة الانقلابية فيقول: "إن المشكل لايتمثل في رفض الحركة الإسلامية الاعتراف والتعايش مع الدولة أو القبول بالمشاركة الجزئية فيها وإنما المشكل يتمثل في من يقنع هذا الغول المدعوم بأحدث تقنيات القمع والإخضاع، والمؤيد من قبل قوى الهيمنة المعادية لأمتنا وحضارتنا وكل الحضارات الأخرى، من يقنع هذا التنين بالتواضع والاعتراف بالشعب والآخر، من يروض هذا الوحش دون كفاح ناصب"؟!.
اختلاف الحركات الإسلامية(14/249)
وبعد أن يذكّر الغنوشي بأن الاختلاف من طبيعة الفطرة التي فُطر الناس عليها سائقاً الأدلة من القرآن الكريم والأحاديث الشريفة يخلص للقول بأن "أمتنا لم تفشل في شيء كما فشلت في إدارة الاختلاف وإفراغ المبدأ الإسلامي العظيم "الشورى" من مضامينه". ويرجع الغنوشي ذلك إلى ما أسماها بالثقافات القطرية حيث "نشأت الحركة الإسلامية في إطار الكيانات الشاذة الخانقة" والتي أطلق عليها صفة "الأصنام البالية" وأعرب في كتابه عن خشيته من تهديد الثقافة القطرية للمشروع الإسلامي.
الحركة الإسلامية واستخدام القوة
أسهب المؤلف في تحليل جدوى استخدام القوة من عدمه، مستبعداً تحقيق النتائج التي يهدف إليها من يراهن على ذلك قائلاً: "إذا كانت الأمور بمآلاتها وكانت مقاصد الشريعة قد وجهت المسلم أن يهتدي بقاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد لاسيما عند سكوت نصوص الشريعة أو عدم قطعيتها فما ترجحت مصلحته كان خيراً وما ترجحت مفسدته كان شراً" ثم تحدث عن الكوارث التي حاقت بالحركة الإسلامية نتيجة التسرع في اتخاذ قرار استخدام القوة.
وأشار إلى أن الانتفاضات الشعبية التي شهدتها فرنسا أو الصين أو إيران أو ما حدث من انتفاضات في أوروبا الشرقية كُتب لها النجاح بعد أن توفر لها زخم جماهيري، أما انتفاضات الحركات السياسية والأحزاب فإنها غالباً ما تؤدي إلى كوارث. إن هذا النوع هو الأجدر بالدراسة بسبب أنه أكثر ما عمّت به البلوى.
ويشيد الغنوشي بتيار الوسطية الإسلامية الذي يرفض الانسياق وراء العواطف والاندفاعات ويعتصم برد أحد بني آدم لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28)(المائدة) فالوسطية الإسلامية كما يحددها الغنوشي تصر على الالتزام الكامل بأساليب الجهاد السلمي؛ أى بجهاد الكلمة الذي حرضت عليه الآية الكريمة وجاهدهم به جهادا كبيرا 52 (الفرقان).
مقومات الحركة الإسلامية
يحدد الكاتب خمسة مقومات للحركة الإسلامية:
1 الشمول: "فالإسلام كلٌّ مترابط: العقيدة والشريعة والعبادة وبالتالي لا مجال للتفريق بين الدين والسياسة والدين والدولة".
2 القضية الوطنية: حيث "لاتناقض بين العالمية والوطنية إذ الوطنية منطلق العالمية فعناية المسلم بإصلاح وطنه واجب ديني".
3 السلفية: ويعني بها استمداد الإسلام من أصوله دون تعصب فالأصل هو ما ورد في الكتاب والسنة وعصر الخلفاء.
4 البعد الإيماني: ومنه ضرورة الأخذ بالأسباب مع الاعتقاد بأن هذه الأسباب لاتؤدي إلى نتائجها إلا بإذن الله.
5 الشعبية: فالحركة الإسلامية ليست حركة فئوية معينة ولاطريقة صوفية تحصر أعمالها في مجموعة المريدين، إنها ضمير الأمة المتحرك وأعماقها الثائرة.
استراتيجية الحركة الإسلامية
يحدد الغنوشي ثمانية مباديء أساسية يتوجب على الحركة الإسلامية تحديد موقفها بوضوح منهاوهي:
1 تحديد موقفنا من التراث.. ما هو ملزم منه وما هو غير ملزم.
2 تحديد موقفنا من الغرب ماذا نأخذ وماذا نترك؟
3 تحديد نظرتنا للواقع.. علاقتنا مع تشكيلاته
4 ما أدوات التغيير التي نستخدمها..؟ وهل نعتبر الشعب فيصلاً في اختيار الحاكم ونعيد له حقه كخليفة لله في الأرض؟.
5 الدعوة للإسلام من خلال حاجات الناس وهمومهم.
6 التربية المتكاملة على المستوى الفكري بتنمية الروح النقدية وتوخي الموضوعية.
7 العالمية في الحركة الإسلامية تحقيقاً لمبدأ التوحيد وهو أساس العقائد الإسلامية فضلاً عن أن العالمية هي روح العصر.
8 الاعتماد على التخطيط والكم مبدأ أساسي في التخطيط، وكثيراً ما تهمل طريقة القياس الكمي وتلغى برفع شعار "المهم الكيف لا الكم"، والقرآن أشار إلى ذلك في قوله تعالى: وكل شيء عنده بمقدار (8)(الرعد).
ويختم الغنوشي بحثه بالقول: "إن التحدي الحقيقي هو كيف يرى الناس الإسلام مجسداً في نظريات وتطبيقات، في الاقتصاد والسياسة والفن، ويعبر حمَلَة الإسلام عن مشروعهم لا بالدفاع والردود على الأطروحات السائدة فقط وإنما بتقديم البدائل".
===============(14/250)
(14/251)
سلام المُنْهَكين
أحمد البحاري 23/8/1424
19/10/2003
عندما قامت الإنقاذ قبل أربعة عشر عاماً كان أهلها يراهنون على الحسم السريع للتمرد في جنوب السودان باعتبار أن حكومة الصادق المهدي السابقة حكومة مدنية ضعيفة، والتمرد لا تحسمه إلا حكومة عسكرية قوية ومن ثَم رفع الإنقاذيون راية الجهاد وحشدوا آلاف الشباب تحت راية الشريعة، وأعلنوا تعبئة عسكرية شاملة استعداداً للمعركة الفاصلة مع التمرد هذه الإجراءات قلبت كل الموازين لصالح الإنقاذ فقد أوجدت عقيدة قتالية جديدة وفّرتها راية الجهاد، واحتشد الناس دفاعاً عن عقيدتهم وتحكيماً لشرع الله تعالى. وبالفعل عندما جاء صيف العام 1992م كاد التمرد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وحوصر في شريط حدودي ضيق فيما عُرف بعمليات صيف العبور؛ إلا أن السياسيين في نظام الإنقاذ رأوا أن التمرد أُضعف بما يكفي لجلوسه على طاولة المفاوضات والقبول بشروط الإنقاذ وكان هذا خطأً استراتيجياً لا تزال الإنقاذ تدفع ثمنه إلى اليوم.
بديل وحليف جديد
على الجانب الآخر كان المتمرد قرنق قد امتصّ آثار إنهيار نظام منقستو في أثيوبيا؛ وأوجد بديلاً له في يوغندا عندما احتضنه زميل دراسته السابق الرئيس الحالي ليوغندا يوري موسفيني. ثم التحق قرنق بتجمّع المعارضة وتولى القيادة العسكرية، واستطاع فتح جبهات في شرق البلاد فأسقط المدن وسبّب متاعب جمّة لنظام الإنقاذ وزاد الأمر سوءاً احتضان اليهودية مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة للمتمرد، وإعلانها صراحة رغبتها في إسقاط الإنقاذ مستعينة بدول الجوار حتى تحركت ثلاث جيوش من يوغندا وأرتريا وأثيوبيا في مطلع العام 1997م لمحاصرة السودان وإسقاط الإنقاذ.
حيرة بين الحاكمية والمرجعية
ولكن حالة النشوة هذه والزهو بالقوة لم تستمر كثيراً عند الطرفين؛ فنظام الإنقاذ فقد خيرة شبابه ـ بل قادته ـ في الحرب وأفزعه فتح جبهة جديدة في الشرق مما وزّع جهود الجيش والدفاع الشعبي، وأرق الميزانية، وأضعف الموقف العام للنظام كما أقلقه العداء المستحكم من الأنظمة المجاورة في إرتريا وأثيوبيا ويوغندا وكانت قاصمة الظهر الصراع الذي نشأ بين البشير والترابي، وانتهى بإيداع الأخير المعتقل وانشطار المؤتمر الوطني إلى حزبين، وحيرة القاعدة الجماهرية بين حاكمية الرئيس ومرجعية الشيخ.
تمرد على المتمرد
على صعيد التمرد لم تكن الأمور بأحسن حالاً فقد تمرّد على المتمرد قرنق كبار القادة أمثال (كاربينو كوانين) أحد مؤسسي حركة التمرد من قبيلة الدينكا و(د. لام أكول) رئيس قطاع الناصر من قبيلة الشُلك و(د. رياك مشار) زعيم حركة استقلال جنوب السودان من قبيلة النوير كما تمت تصفية قادة آخرين مثل (وليام نون).
ونشط بعض السياسيين الجنوبيين في معارضة قرنق وعلى رأسهم (بونا ملوال) الوزير السابق في حكومة الرئيس الأسبق جعفر نميري ولم يحظ قرنق بتأييد الزعامات الجنوبية التاريخية أمثال (أبيل ألير) و(جوزيف لاقو).
كما أن حليفي قرنق في أثيوبيا وأرتريا دخلا في صراع مسلح بينهما على الحدود؛ ففُقد أهمُّ ظهيرين إقليمين. وذهبت مادلين أولبرايت مع ذهاب كلنتون؛ فخسر ألدّ أعداء الإنقاذ عالمياً.
اتفاقية نيفاشا .. أول طريق المنهكين
وكجوادين أنهكهما طولُ الأمد وبُعْدُ المسافة فلم يعودا قادرين على العدو ـ بل السير ـ؛ جلست الحكومة مع المتمردين على طاولة المفاوضات بمساعدة قوى دولية وإقليمية لينظرا في تقسيم السلطة والثروة بينهما وهكذا ولدت اتفاقية نيفاشا للترتيبات العسكرية والأمنية ولا تزال نيفاشا حبلى باتفاقيات أُخر يحاول الخبراء الآن إخراجها بعناية من غرفة المفاوضات المكثفة.
وأهم الملاحظات على اتفاق نيفاشا مساواته لعصابات المتمردين بالجيش السوداني العريق، واعتبارهما معاً يمثلان القوات الوطنية في الفترة الانتقالية ثم وجود جيشين في الفترة الانتقالية: الجيش السوداني في الشمال، وجيش المتمردين في الجنوب، وتفرغ الجنوب من الجيش السوداني إلا من 12.000 لا يغنون شيئاً، والغلبة للمتمردين في الجنوب وإدخال قوات المتمردين الخرطوم وكبريات مناطق الشمال بدعوى القوات المشتركة غير أن أخطر مافي الاتفاق تبني عقيدة عسكرية مشتركة بين الجيش السوداني وجيش المتمردين خلال الفترة الانتقالية والمعروف أن الجيش السوداني أصبح قادته يحفظون سوراً من القرآن الكريم ويرددون الأناشيد (الجلالات) الإسلامية، ويصيحون "الله أكبر" في المعارك.
بينما عصابات المتمردين نشأت على المانفستو الشيوعي، وهم خليط أعراق وأفكار لا يجمع بينها جامع، فأي عقيدة مشتركة تنشأ بين الاثنين؟!.(14/252)
كما أنّ اتفاق نيفاشا يكافئ المتمرد قرنق بالانفراد بحكم الجنوب طيلة الفترة الانتقالية وتولِّي منصب نائب رئيس الجمهورية، والاستئثار بنصيب وافر من عائدات البترول؛ فالمتمرد قرنق يكسب على كل حال ولا يخسر شيئاً مهما كانت نتيجة الاستفتاء؛ فإذا فاز خيار الوحدة كان المتمرد فائزاً بما نال من ثروة وسلطة خلال الفترة الانتقالية وإذا فاز خيار الانفصال وجد المتمرد قرنق دولة كاملة مهيأة لها كل مقومات الدولة. والجدير بالذكر أن الصراع حول السلطة لن ينتهي مهما كانت نتيجة الاستفتاء، فالقوى الشمالية والجنوبية الأخرى لن تتفرج على الإنقاذ وقرنق وهما يقتسمان سلطة مركزية، أو ينفردان بسلطة كاملة لكلٍ في الشمال والجنوب.
مكمن الحل
والحل يكمن في جمع شمل الإسلاميين، وإشراكهم في حل مشاكل البلاد يداً واحدة والفصائل الإسلامية المؤثرة لا مانع لديها من المشاركة؛ بل هي على استعداد لبذل الجهود والتعاون في خدمة البلد بلا شروط سوى بعض التعديلات الشرعية، وهذا أجدى للحكومة من الحرص على مجموعات العلمانيين وبقايا اليساريين والطائفية الذين يضرون أكثر مما ينفعون. كما أن الحل يكمن ـ من جهة أخرى ـ في صيف عبود جديد يعيد الأمور إلى نصابها وهو ممكن إذا صدق العزم.
آن يا شعب ألا تعاني …أين منك ارتقاء الشعوب
لم تنل حظها بالأماني …إنما طهرتها الحروب
==============(14/253)
(14/254)
بيجوفيتش..وحكاية(المنفستوالإسلامي)
عبد الحي شاهين 23/8/1424
19/10/2003
غيب الموت اليوم الرئيس البوسني المسلم علي عزت بيجوفيتش بعد حياة طويلة قضاها في خدمة قضايا أمته من أجل تحريرها وتعميق هويتها الإسلامية.
ويعتبر بيجوفيتش من المفكرين الإسلاميين البارزين؛ لإسهامه في دعم الفكر الإسلامي بعدة مؤلفات منها: "الإعلان الإسلامي"، و"عوائق النهضة الإسلامية" ؛ و" الإسلام بين الشرق والغرب" ؛ و"هروبي إلى الحرية" وغيرها.
وعلي عزت بيجوفتيش ولد سنة 1925م في أسرة بوسنية مسلمة بمدينة (كروبا) في جمهورية "البوسنة والهرسك"، التي كانت جزءاً من الاتحاد اليوغسلافي، وتعلم في مدارس مدينة سراييفو، والتحق بجامعتها وحصل على درجات في القانون والآداب والعلوم، ثم أكمل دراساته العليا حتى نال شهادة الدكتوراه عام 1962، ثم عمل مستشاراً قانونياً لمدة 25 سنة اعتزل بعدها العمل وتفرغ للكتابة والبحث، وكان علي عزت خلال حياته كلها نشطاً في مجالات العمل الإسلامي كتابة ومحاضرة، حكم عليه سنة 1949م في عهد جوزيف تيتو بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة، وكانت تهمته أن له علاقة بمنظمة (الشبان المسلمين) في حين لم يكن لهذه المنظمة أي نشاطات سياسية، وإنما اقتصر نشاطها على التعليم الإسلامي وأعمال الخير.
عُني علي عزت منذ وقت مبكر بأن يوفر للشباب المسلم أدوات لفهم الإسلام بأسلوب عصري مناسب، فخصص لذلك مؤلفاً صغيراً تحت عنوان "الإعلان الإسلامي" وفور صدور المؤلف التقطه الصرب والكروات، وأشاعوا حوله ضجة ووصفوه بأنه (المنفستو الإسلامي) الذي يدعو إلى الجهاد لإقامة دولة إسلامية في قلب أوروبا؛ فقدم صاحبه مع أحد عشر من زملائه المثقفين الإسلاميين إلى المحاكم ، وحكم عليهم بالسجن أربعة عشر عاماً بتهمة العمل ضد نظام الدولة وأمن شعبها، مع أن المؤلَّف لم يكن فيه ما يمس أمن الدولة، إنما كان محاولة لترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها الجيل الجديد ويفهمها.
ولكن كان هدف المحاكمة هو قمع أي فكر إسلامي والقضاء على أصحابه، ولذلك تمت محاكمة علي عزت وصحبه محاكمة سريعة وشبه سرية، حتى لا تلفت الأنظار، وأصبح بعدها "الإعلان الإسلامي" وثيقة اتهام لعلي عزت وللإسلام بصفة عامة، وأحيط بمبالغات ومخالطات كثيرة ليس في وسائل الإعلام الصربية والكرواتية فحسب؛ وإنما في الدوائر الغربية التي تصنع القرار كذلك.
وقد خاض بيجوفيتش كفاحاً مريراً ليحصل المسلمون في بلاده على حريتهم ومكانتهم، وتعرَّض في سبيل ذلك للسجن والاضطهاد إبّان الحكم الشيوعي اليوغوسلافي، وأسس إبان سقوط النظام الشيوعي عام 1989 حزب العمل الديموقراطي ممثلاً للمسلمين وغير المسلمين من شعب البوسنة والهرسك، ونادى من خلاله بالاستقلال، وقيام دولة مستقلة في البوسنة والهرسك، ورُشِّح عام 1990 كأول رئيس لهذه الدولة التي شهدت صراعاً مريراً من أجل الاستقلال.
وقد سبق أن حصل بيجوفيتش على جائزة الملك فيصل الدولية لخدمة الإسلام عام 1993، كما حاز على لقب "مفكر العام" من مؤسسة علي وعثمان حافظ عام 1996، وجائزة الدفاع عن الديمقراطية الدولية من المركز الأمريكي للدفاع عن الديموقراطيات والحريات، وجائزة مولانا جلال الدين الرومي لخدمة الإسلام بتركيا.
(الإعلان الإسلامي) .. الكتاب الزوبعة!
كتاب (الإعلان الإسلامي) من أول مؤلفات علي بيجوفتيش، وقد قدم فيه علي خلاصة فكره ونظرته لقضايا العالم من خلال فهمه للإسلام، ويتضمن هذا المؤلف آراءه و رؤاه للعديد من القضايا الإسلامية وعلاقة المسلمين بالعالم.
حيث يقول: "إن العالم الإسلامي يمر بمرحلة مخاض، ومهما تكن النتيجة؛ فإن أمتنا لن تكون كما كانت عليه في الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين، وتحاول القوى الدولية استغلال الوضع السائد في العالم الإسلامي لتحقيق أهدافها بوسائل مختلفة لتأمين هيمنتها على المسلمين، وإبقائهم في قاع التخلف والتبعية للغرب، إن ما نناضل من أجله هو إخراج المسلمين من دائرة التخلف والفقر، والاعتماد على الآخرين، وإن جذور الجهاد لاتزال حية، لقد مضت قوافل الشهداء وهي تقاتل الجاهلية، نريد بخطوات واثقة أن نقف على بداية طريق العودة إلى سيادة أنفسنا ومستقبلنا، وإقامة مجتمع إسلامي موحد من طنجة إلى جاكرتا".
ويرد بيجوفيتش على المشككين والرافضين بقوله: "قد يبدو الهدف الذي نصبو إليه بعيد المنال، لكنه واقعي وحقيقي على عكس الأفكار اللامعقولة التي عمل ويعمل الآخرون على تحقيقها. وينتقد مصطفى كمال: إن الذي جناه مصطفى كمال على تركيا كان غريباً عن التراث والحضارة التي وفرت ما شهده الأتراك من قوة وعظمة طيلة قرون مديدة.
وينقسم "الإعلان الإسلامي" إلى ثلاثة أبواب، تحدث في الباب الأول عن تخلف الشعوب الإسلامية، ويؤكد فيه أن تقدم المسلمين لا يمكن أن يتحقق خارج المنظومة الإسلامية، مستشهداً بأمجاد الماضي وإخفاقات الحاضر، ويدعو جميع المفكرين في العالم الإسلامي إلى الالتقاء حول المرجعية الإسلامية، وبعد ذلك يمكن للخلاف أن يسع الجميع.(14/255)
وعن أسباب الهزائم يبرز علي عزت إحداها وهي التي حدثت في العالم الإسلامي، ويضرب مثلاً كذلك بما حدث في العراق بعد عام 1958، حيث أدت إلى تخلف المسلمين، وكانت وراء الخسائر الاقتصادية وخاصة في القطاع الزراعي.
وينتقد الأوضاع في باكستان والجزائر ونيجيريا بسبب هدر الطاقات، ومحاولة القفز على حقائق التاريخ والحضارة، كما ينتقد "بو رقيبة" الذي عمل على فرنسة تونس سياسياً واجتماعياً وفكرياً.
ويؤكد علي عزت أن المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي ركيزتان أساسيتان لا يمكن تحقيق نظام إسلامي دونهما، ويضع معالم على طريق البديل الإسلامي.
الفرد والمجتمع
المجتمع الإسلامي لا يمكن أن يقوم على العلاقات الاجتماعية والاقتصادية فقط، إذ إن الفرد عنصر في الجماعة والجماعة تقوم على أساس انتمائها الروحي.
المساواة
الإسلام يرفض التقسيم والتفريق بين المسلمين، فالفارق الوحيد هو العمل (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13].
الأخوّة
(إنما المؤمنون إخوة) [الحجرات: 10].
لذلك فإن المسلم يجد نفسه ملتزماً بمصالح إخوانه المسلمين في أصقاع الأرض، رابط معنوي من يفرط فيه يكون بعيداً عن الدائرة الإسلامية.
وحدة المسلمين
الإسلام يحتوي على كل المبادئ التي تتضمن وحدة المسلمين: الإيمان، الثقافة السياسية، والإسلام ليس قومية، ولكنه فوق القوميات لأنه يوحدها، إن الإسلام رؤية شاملة، والجامعة الإسلامية اتجاهه السياسي.
حقوق الملكيةالإسلام يبيح الملكية الخاصة، وهو لا يمنع الغنى مادام الإنسان صالحاً، ويكسب ماله من حلال، أما الموارد الطبيعية؛ فهي ملكية عامة لكل أفراد المجتمع.
الزكاة
من أركان الإسلام وهي توزيع الأموال بين الناس بالعدل، في حين أن الإسلام حرّم الفائدة على الأموال لأنها تدخل في نطاق الربا.
الشورى
مبادئ الحكم الإسلامي ثلاثة: اختيار أولي الأمر، وواجباتهم تجاه الناس، وطاعة المجتمع لهم.
الحريات
التربية الصحيحة للشعب تتطلب أن تكون وسائل الاتصال الجماهيري؛ خاصة الصحافة، والإذاعة، والتلفاز، والأفلام، بيد أشخاص يحسنون تقديمها بسجايا إسلامية، وهذا لا يعني أن الفكر في النظام الإسلامي يخضع للدكتاتورية، وإنما يعني الحفاظ على نسق الأخلاق وصلاح تربية النشء، وتطور المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن يتم بمعزل عن الدين، وطريقنا يقوم على كسب الإنسان وليس الاستيلاء على السلطة.
الحريات
التربية الصحيحة للشعب تتطلب أن تكون وسائل الاتصال الجماهيري؛ خاصة الصحافة، والإذاعة، والتلفاز، والأفلام، بيد أشخاص يحسنون تقديمها بسجايا إسلامية، وهذا لا يعني أن الفكر في النظام الإسلامي يخضع للدكتاتورية، وإنما يعني الحفاظ على نسق الأخلاق وصلاح تربية النشء، وتطور المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن يتم بمعزل عن الدين، وطريقنا يقوم على كسب الإنسان وليس الاستيلاء على السلطة.
المرأة والعائلة
لابد من تعليم المرأة ورفع مستواها التثقيفي والتعليمي لكي تقوم بدور المربية للأجيال، وجميع أنواع الاستغلال والاحتكار يجب أن تنتهي.
وحول الإسلام والقومية يقول علي عزت: "الإسلام أمام مهمة طبيعية، وهي تحقيق مآرب المسلمين بإقامة أمتهم الواحدة من المغرب حتى إندونيسيا، ومن أواسط أفريقيا الحارة إلى أواسط آسيا الباردة. إن إقامة المجتمع الإسلامي الموحد ليست فكرة أحد، وليست رغبة جامحة لأي كائن، وإنما تقوم على ما ورد في القرآن من أن المسلمين إخوة، وأن الإسلام يوحد المسلمين في صيامهم وحجهم إلى مكة، وبالنسبة لنا -مثلاً- فإننا شعب كامل، ولكنه اليوم مجزأ، شعب واحد - كالعرب- من الضروري أن يكون موحداً، هذه مسألة إسلامية مهمة. إن المسلمين في مصر لا يشعرون بمعاناة المسلمين في إثيوبيا أو كشمير، في الوقت الذي لا تستطيع فيه البلدان العربية الحد من قساوة إسرائيل، هذا يعني أن هناك شيئاً غير عادي في وحدة الشعب العربي، ويجب أن يكون الصحيح الوحدة الإسلامية.
إن فكرة القومية في الدول العربية فكرة دخيلة أجنبية، وفكرة القومية الدخيلة هذه نجدها خلال ما تزرعه الجامعات الأجنبية في بيروت، وما زرعه سوكارنو في إندونيسيا، وحزب البعث في بعض البلدان العربية، وأما فلسطين فكانت دائماً بالنسبة للمسلمين في موضع القلب، والقدس ليست مسألة الفلسطينيين أو العرب؛ وإنما قضية الإسلام والمسلمين.
"الإسلام بين الشرق والغرب"(14/256)
أما كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"، وهو الكتاب الثاني لبيجوفيتش؛ فقد أُلف في ظروف بالغة الصعوبة، وهُرّب من السجن لتتم طباعته في بريطانيا من قبل أصدقاء لعزت، والكتاب يملك الكثير من العمق والوضوح والمنطق والقدرة على التحليل والاستخلاص، مما يجعل القارئ متيقظاً، مستمتعاً، مبهوراً بالنور المتدفق وضاءً فاتناً من بين سطور الكتاب وصفحاته، والتي تقلبها وكأنك تطوف في سفر الكون والحياة العظيمين متنقلاً، مسافراً في فضاء واسع عبر تاريخ الفكر الإنساني والعلوم والأديان والرسالات السماوية والفنون والفلسفات والآداب على نحو فذ يكشف عبقرية المؤلف وقدراته الخارقة، ومن هنا ينبع الذهول والرغبة الدائمة في قراءة الكتاب وإعادة قراءته باستمرار، وهو خطير لأنه بإمكانه أن يحدث انعطافات؛ بل تغييرات حاسمة في فكر القارئ ورؤيته ووجهة نظره حيال أشياء كثيرة، ومسلمات عديدة، ويضعه في حالة جديدة من التثبت بقناعات جديدة راسخة، لا يمكن نفيها أو دحضها. ولعل أكبر دليل على خطورة الكتاب هو منعه ومصادرته من فرنسا بلد الحريات والأنوار بحجة تقويضه لأسس المجتمع المسيحي العلماني، وتناوله الإسلام بشكل مغرٍ وجذاب؛ فكتاب واحد بإمكانه تقويض أسس المجتمع المسيحي العلماني، هذا الذي تكون عبر قرون طويلة!. هو كتاب في منتهى الخطورة بما يملكه من نور وحقائق منطقية دامغة وقدرة مدهشة على الإقناع، فكتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" يتناول الإسلام تناولاً جديداً شاملاً، عميقاً، غير مسبوق من قبل، ويفتح أفقاً واسعاً للنظر للإسلام كدين وحياة تضعه في قلب الحضارة الإنسانية المعاصرة، ولم يسبق لأحد من المفكرين المسلمين أن تناول الإسلام بمثل هذه الرؤية الشمولية والرؤية العميقة في حوارها الخلاق مع الفكر والعلم والفن المعاصر والحضارة والثقافة الإنسانية إجمالا مؤكداً ومرسخاً، الإسلام كدين يحتفي بالحياة وبالفن والإبداع والإنجاز في هذه الدنيا؛ لأنه دين الدنيا والآخرة وليس الآخرة فقط كما يفهمه بعض القاصرين في الرؤية، ومن هنا مفهوم الوسطية العظيم بين المادة والروح والدنيا والآخرة الذي تميز به الإسلام دون غيره من الأديان.
ولعل المفارقة تكمن في أن كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب" رغم كل هذه الأهمية الكبيرة التي له غير معروف بشكل كافٍ في العالم العربي والإسلامي، ولم ينل الأهمية والاهتمام الذي يستحقه!؛ فكتاب مثل هذا كان الأولى أن يدرس في المدارس والجامعات، وأن يقرأ بشكل واسع من قبل المثقفين والمفكرين العرب، وأن يدور حوله نقاش طويل وعميق، خاصة وأن الكثير من المثقفين والمفكرين العرب يعاني من اضطراب في الرؤية وضبابية في الموقف حيال الإسلام، وتناقض عميق في البنية الفكرية نتيجة الانجراف لأنماط غربية في الفلسفة والفكر ومناهج الرؤية والتفكير.
"هروبي إلى الحرية"
وهذا الكتاب هو ترجمة حية لأربعة عشر عاماً قضاها (بيجوفيتش) في السجن بين 1983 و 1988م، دوّن خلالها أفكاره وتأملاته السياسية والثقافية والعقائدية، التي يقول عنها: "إن قيمة هذه الأفكار لا تكمن فيها ذاتها، وإنما في الظروف التي كتبت فيها، ففي داخل السجن كان هناك هدوء جدران السجن، وفي الخارج نُذُر الإعصار الذي سيتحول في عام 1988م إلى عاصفة تدمر حائط برلين، وتزيح عن المسرح (هوينكر وشاوشيسكو) وتبعثر حلف وارسو، وتزلزل الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، وشعرت جسدياً كيف يمضي الزمن وكيف تتغير محطاته أمام ناظري". ويتناول في كتابه زمن المراجعات الراديكالية للأفكار والقناعات في خضم التجربة الفاشلة للحكومات الشيوعية في شرق أوربا "وشهد العالم تحولاً فريداً سيغير حياة مئات الملايين من البشر، ويحرف مجرى التاريخ باتجاه آخر، العالم الذي كان ثنائي القطب لفترة طويلة أصبح أحادي القطب، ولا أعرف إن كان ذلك خيراً، لكن ذلك ما حدث..".
وقد ضم الكتاب عدة موضوعات قسمها مؤلفها إلى: عامة؛ وتتحدث عن الحياة والحرية والناس، والأخرى تناولت عدداً من الأفكار الدينية والأخلاقية، وبعض الملاحظات السياسية على مجريات الأحداث التي كان المؤلف يراقبها ويعيشها، وجاءت بعض أوراق المذكرات على هامش كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، كما ضمت حديثاً عن الشيوعية والنازية وبعض الحقائق حولها، والتي يرى المؤلف أنه لا يجوز نسيانها، ثم ختم مذكراته بعرض رسائل من وإلى أولاده وهو في السجن
=============(14/257)
(14/258)
تصاعد الانتفاضة أطاح برئيس تحرير الجزيرة
الخلاف على تسمية الهجمات التي يشنها الفدائيون الفلسطينيون ضد الكيان الصهيوني كان السبب في إبعاد رئيس تحرير قناة الجزيرة الفضائية من منصبه في الأسابيع القليلة الماضية.
وتقول مصادر موثوقة في أبوظبي والقاهرة إن رئيس التحرير كان يصر على نعت عمليات الفدائيين الفلسطينيين بالانتحارية جرياً وراء الوصف الصهيوني والغربي، ومصادماً بذلك المشاعر الوطنية والإسلامية على الساحة.
قرار الإبعاد أصدره مسؤولو القناة بعد اجتماع لمجلس الإدارة ولم يعرف به إلا القليلون، إذ اكتفت الإدارة ظاهرياً بالإعلان عن مغادرة رئيس التحرير الدوحة في إجازة لم يتحدد موعد انتهائها وقيل إن الرجل ستسند إليه مهام إنتاجية من الخارج.
التمهيد لهذا القرار بدأ قبل عدة أشهر، فقد استعادت الجزيرة أحد المحررين السابقين فيها من قناة أبو ظبي، وأسندت إليه وظيفة نائب رئيس التحرير، وقد تسلم المنصب فور مغادرة رئيس التحرير.
أوساط مهنية أبدت ارتياحها للقرار، وقد لاحظ متابعو القناة أن كافة أخبارها وتقاريرها عن الانتفاضة أضحت تستخدم تعبير العمليات الاستشهادية أو الفدائية بدلا من الانتحارية.
هل هو تحريف حقاً؟!
ذكرت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الرسمية أن تصريحات الدكتور أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري، تعليقاً على مشاوراته في واشنطن مع الإدارة الأمريكية مؤخراً، قد تعرضت للتحريف والقلب وتغيير المضمون، من قبل إذاعة العدو الصهيوني.
وقالت: "خرج علينا راديو اسرائيل" ليعلن على لسان الدكتور أسامة تصريحات قام الراديو بتزييفا وتغيير مضمونها، ويقول إن المستشار السياسي للرئيس مبارك يصرح بعد اجتماعه بالوزير كولن باول.. بأن مصر ستعارض جهود الدول العربية، لإرسال مراقبين دوليين للمناطق الفلسطينية"
كأن الجهود المصرية "المباركة"، تتمثل فى إرسال مراقبين دوليين للمناطق "وليس الأراضى" الفلسطينية، فمن قال إن الشعب الفلسطينى يريد مراقبين دوليين فى الأساس لكي تصب الجهود فى هذا الإطار؟!
إن الشعب الفلسطينى يريد حماية دولية، وهو ما يمثل خطوة رمزية على طريق إزالة الاحتلال.. فالفارق كبير بين ما يطالب به الباز وما يطالب به الشعب الفلسطيني.
ولو ثبتنا الصورة الحقيقية، لوجدنا تحريفاً ظالماًً للموقف الفلسطيني، وتضحية بدمائه وشهدائه، وحقوقه.
23 دقيقة كاملة قضتها طائرة أمريكية من طراز إف 16 في الأجواء السورية حين ضلت طريقها من تركيا إلى شمال العراق.. الغريب أنه لم يحدث أي اعتراض للطائرة طوال تلك المدة! ماذا لو كانت الطائرة صهيونية؟!
راجت شائعات في جورجيا عن اتفاق بين الحكومتين التركية والجورجية يحل بموجبه جنود أتراك محل القوات الروسية في القواعد التي تخليها روسيا في جورجيا، و أُعلن أن وفداً من الخبراء العسكريين الأتراك وصل إلى العاصمة تفليس لدراسة قاعدة فازياني القريبة والتي أخلتها القوات الروسية مؤخراً.
عامان مرا على كارثة الزلزال العنيف الذي وقع في منطقة مرمرة التركية في أغسطس 1999م، وأودى بحياة زهاء عشرين ألف مواطن. مصادر تركية أشارت إلى أن الأوضاع السكنية للمواطنين الذين تهدمت منازلهم لم تعد إلى حالتها الطبيعية السابقة برغم مرور عامين، وأن تركيا مازالت غير مستعدة تماماً لمثل هذه الكوارث.
بعد التوتر الذي طرا على العلاقات بين إيران وأذربيجان أُعلن أن الرئيس الأذري حيدر علييف سيزور طهران في شهر سبتمبر المقبل، كما يتوجه وزير الأمن القومي الأذري نامق عباسوف إلى طهران في زيارة أفادت المصادر الدبلوماسية أن السفير الأذري في طهران يعكف على إعداد برنامجها للقاء المسؤولين الإيرانيين. التوصل إلى اتفاقية تعاون مشترك بين الجانبين سينعكس بشكل إيجابي على مختلف مجالات العلاقات القائمة بين البلدين.
تعليقاً على موضوع (فصل الدين عن الدولة) الذي تصر عليه حركة التمرد، وجهات علمانية أخرى في السودان، أكد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة أن فصل الدين عن الدولة مستحيل، فالدولة هي الأرض والشعب والسلطات الثلاث، ولا يمكن فصل الدين عن القضاء ولا التشريع. وأضاف: إن "حزب الأمة ما زال يتبنى مشروع الصحوة الإسلامية وفق نهج قومي". وبشأن دعوة حركة التمرد قال : "إنها تستغل في مصادر تمويلها الكنائس العالمية".
دعا الرئيس الأمريكي جورج بوش الأمريكيين إلى الضغط على أعضاء مجلس الشيوخ للتصويت لصالح السماح للجماعات الدينية المختلفة في أمريكا بتلقي مبالغ مالية فيدرالية لتمويل نشاطاتها الخيرية. ورحب بوش بقيام مجلس النواب بتمرير مشروع قانون حول تمويل الجماعات والهيئات الدينية الذي يرفضه مجلس الشيوخ
ويقضي مشروع القانون بتزويد الجماعات الدينية ومؤسساتها بأموال حكومية فيدرالية عبر السماح لها بالمشاركة فى برامج حكومية معينة يحظر عليها حتى الآن المشاركة فيها.
قررت حكومة الاحتلال الصهيوني تغيير الوضع القائم في منطقة المسجد الإبراهيمي، وصادقت على مشروع لتوسيع القسم الذي استولت عليه من الباحة الخارجية للمسجد في الخليل.(14/259)
إسحاق هنبغي وزير البيئة فى الكيان الغاصب أبلغ لجنة الاستيطان اليهودية في الخليل بأن الحكومة ستخصص مبالغ طائلة لتوسيع المنطقة، وإقامة حدائق خارج المسجد (!).
وسط حراسة أمنية مشددة، قررت محكمة جنح أمن الدولة طوارئ المصرية تأجيل محاكمة 52 متهماً من الشواذ ممن اصطُلح على تسمية تنظيمهم "قوم لوط" إلى جلسة 29 أغسطس الجاري لسماع مرافعة نيابة أمن الدولة في القضية، مع التصريح للمتهمين بإعلان شهود نفي في القضية.
وردد الشواذ حال دخولهم قاعة المحاكمة عبارات : "احنا مظلومين حسبنا الله ونعم الوكيل" محاولين إخفاء وجوههم عن عدسات الكاميرات، وأجهش بعضهم بالبكاء والصراخ، وصبوا جام غضبهم على الصحافة المصرية لأنها "هدمت حياتنا الاجتماعية ومستقبلنا بإطلاقها شتى النعوت الشنيعة علينا قبل التأكد منها خصوصاً أن القضية مختلقة برمتها"!.
ورأى المحامي فريد الديب وكيل دفاع متهمين بالقضية أن 90 % من المتهمين "طبيعيون" والباقي من "مثليي الجنس"! فيما تساءل عدد من المحامين والمتهمين :"لماذا لم تُغلق السفينة التى ضُبط فيها المتهمون حتى الآن ما دامت وكراً لممارسة الفحشاء والفجور والشذوذ ؟!".
أقام ناطق علييف رئيس شركة النفط الأذرية (شقيق الرئيس الأذري) دعوى ضد اعتبار محمدوف رئيس حزب الاستقرار الوطني بسبب الاتهامات التي وجهها إلى عائلة علييف حول تهريبها النفط إلى الخارج، وإيداع دخله في حسابهم الخاص. وقال علييف إن اقاويل محمدوف لا تعدو افتراءات بحقهم.
خلال مخاطبته للقطاع السياسي للحزب الحاكم كشف الرئيس السوداني عمر البشير عن المحاور الأربعة لاستراتيجية الدولة في المرحلة المقبلة، وأجملها في: تحقيق الأمن القومي عبر إيقاف الحرب، و التنمية الاقتصادية، وتنمية المجتمع، وإرساء دعائم السلام الاجتماعي.
وحذر البشير من القوى المستفيدة من انشطار السودان، وتحلم بفصل الجنوب لإقامة دولتها عليه، لخدمة أهداف الصهيونية العالمية، داعياً أبناء السودان للفصل بين مطامع القوى الأجنبية، وقضية المواطن الجنوبي، والتحلي بالوعي الذي يجنّب البلاد شرّ المؤامرات.
شرعت الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح بحملة إغاثة لطلبة الجامعة من خارج المدينة الذين يسكنون داخلها بسبب ظروف الحصار الصهيونى، أطلقت عليها اسم "حملة الرغيف المجاني". استفاد من هذه الخدمة نحو ألفى طالب بواقع كيلو من الخبز الطازج. ورجحت مصادر الكتلة أن يرتفع عدد الطلبة الذين يسكنون نابلس نظرا لصعوبة التنقل إلى نحو أربعة آلاف طالب جامعي.
اتفق الدكتور نصر فريد واصل مفتى مصر مع رأي الداعية الإسلامى الدكتور يوسف القرضاوي بشأن تكوين "اتحاد عالمي لعلماء المسلمين" معلناً تأييده للفكرة، ومشدداً على ضرورة توحد كلمة المسلمين، في مواجهة العدوان الصهيوني علي المقدسات الإسلامية. واصل أشار إلى أن تزايد الفتاوى من غير أهل الاختصاص يحدث بلبلة كبري لدى الرأي العام، ويؤثر سلباً على مصالح الأمة.
رفعت تركيا عدد رحلاتها الجوية من إسطنبول إلى العاصمة الإيرانية طهران من خمس إلى سبع رحلات أسبوعياً.
الرحلات اليومية تبدأ اعتباراً من 28 أغسطس الحالي.
شجبت الأحزاب الباكستانية قرار الحكومة برفع أسعار النقل العام الذي يؤثر على حياة الناس بصفة مباشرة، وطالبت بإعادة الإجور إلى ما كانت عليه .
وعبرت الجماعة الإسلامية عن بالغ قلقها تجاه عملية رفع الأسعار، وقال أمينها في كراتشي الدكتور معراج الهدى:إن هذا الطريق سيؤدي إلى زيادة المشكلات أمام الحكومة، فيما قال حزب الشعب إنه بعدما قامت به الحكومة من رفع أسعار البترول، تأتي مسألة رفع أسعار النقل كخطوة أخرى ضد الشعب.
أما الحركة القومية المتحدة فوصفت رفع أسعار النقل العام بأنه موجه ضد الشعب.
أثناء مهرجان "مؤتة "الثالث للثقافة والفنون، الذي اختتم مؤخراً فى عمان طرح مشروع باسم "مؤاخاة أون لاين"، بهدف تحقيق تواصل مادي ومعنوي بين الأسر في فلسطين ونظيرتها العربية والمسلمة.
المشروع طرحه "هشام جعفر" رئيس تحرير موقع "إسلام أون لاين.نت" في ورقته: "دور الإعلام في استنهاض الأمة: خبرة إسلام أون لاين.نت"، و التي قدمها لإحدى الندوات المهرجان.
وحسب جعفر فإن المشروع يستهدف إبراز المجتمع الفلسطيني وتقديمه في صورة تفصيلية تظهر فيها الشخوص وتضحياتهم والأسر ومعاناتهم، مشيراً إلى ضرورة البدء في تنفيذ ذلك عبر توفير معلومات تفصيلية على شبكة الإنترنت؛ تمهيدًا لتحقيق المؤاخاة المرجوة.
=============(14/260)
(14/261)
الثقافة والمثقفون
أ. محمد العبدة 19/8/1424
15/10/2003
من المصطلحات الشائعة كثيراً في أحاديثنا وكتاباتنا مصطلح (الثقافة) فيتردد: ثقافة المجتمعات العربية أو الثقافة السائدة، الثقافة الغربية، الثقافة الإسلامية... إلخ. كما يوصف طبقة في الناس بـ "المثقفين" ويعنون ذلك غالباً من يمتلك جملة من المعارف أو حاملي الشهادات العليا والأكاديميين، فهل كلمة مثقف أو ثقافة تعني هذا؟ أم أننا في عصر فوضى المصطلحات والمسميات.
لم تستعمل كلمة (ثقافة) بالمعنى المصطلحي المعاصر في التراث الإسلامي، وإنما هي ترجمة لكلمة (cultu r e) الإنجليزية أو الفرنسية ولا شك أن الذي ترجمها أو نحت لها هذا النحت من العربية كان أقرب إلى الدقة، وإن كانت الكلمة الأوروبية آتية من مفهوم الحرث والزرع والحصاد، فالزراعة في اللغة الإنجليزية ag r icultu r e، والحضارة الغربية حضارة زراعية في الأساس وعندما عبروا عن السلوك والقيم والعادات بكلمة (cultu r e) فإنما هو تعبير مجازي عن انغراس هذه القيم والعادات في المجتمع، وأنها تؤتي ثمرتها من خلال سلوك الفرد، فهي زرع وحصاد . وإذا رجعنا إلى الجذر العربي لكلمة ثقافة فسيظهر لنا أنها ليست معلومات ومعارف فقط ، بل إن لها وظيفة اجتماعية سلوكية تهذيبية، العلم أحد أركانها. جاء في لسان العرب: ثقف الشيء: حَذَقه، ورجل ثقف: حاذق فَهِمٌ ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، ويقال : ثقف، ويقصد : سرعة التعلم، والثِّقاف: ما تُسوّى به الرماح (1) فالمثقف آتية من تثقيف الرمح وهو تقويم قناته وتشذيب زوائدها وإزالة الإعوجاج منها. " ومعنى الكلمة في الذوق العربي يرمي إلى أن أساس الثقافة هو حسن التربية وصحة الإدراك والتقدير للأشياء وسلامة التفكير، ويرمي كذلك إلى اعتبار الأخلاق الفاضلة قبل كثرة المعلومات "(2)
يعرف الثقافة أديب العربية الكبير محمود محمد شاكر : " هي الأصول الثابتة المكتسبة التي تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده حيث استودع هذا الإنسان فطرة باطنة تتوجه إلى رب خالقه وحافظه، وهي معارف للإيمان بها أولاً، ثم للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان، ثم الانتماء إليها بعقله وقلبه، انتماء يحفظه ويحفظها من التفكك والانهيار "(3) وعلى هذا الأساس في غائبة الثقافة، فإنها تزود الفرد بأنماط السلوك الصحيحة والطريق المؤدي إلى الصلاح، وهذا هو الذي أشار إليه الحديث النبوي حين حذر المسلم وطلب منه أن يتعوذ من علم لا ينفع، فمن أهداف الإسلام نفي الأفكار الجاهلية والأوهام النفسية التي تعيق الإنسان عن التفكير السليم والعمل الصالح.
الثقافة تجري في الأمة مجرى الدم، وتطبع الناس بطابعها فيصبح سلوك الناس متعلمين وغير متعلمين متشابهًا ويعالجون مشاكلهم بطريقة متقاربة، أي أن هناك شيء من التجانس الفكري فيما بينهم، فعندما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، من رأي منكم فيّ اعوجاجاً فليقوّمه، قام إليه رجل من المسلمين وقال: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا.
فالمجتمع الإسلامي حينذاك كان منطبعاً بطابع متجانس ذي ثقافة واحدة، وحين تحققت الوحدة والتآلف بين المسلمين (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) " حين ذاك دخل عنصر مهم أو تركيب من تراكيب الثقافة وهو الواقع العملي والواقع الأخلاقي المشخص "(4) وإذا أردنا تعريف الثقافة بثمراتها، فإن ثقافة المجتمع الإسلامي مثلاً لا تقبل بأي حال من الأحوال إهمال الكبار في السن ووضعهم في بيوت العجزة بينما في الثقافة الغربية السائدة اليوم؛ فهو تصرف طبيعي، وفي الثقافة الإسلامية يبرز الطابع الأخلاقي في فنون الأدب من شعر أو نثر. فانتحار إنسان في قصة مأساوية هو في منتهى التأثير والتأثر والإعجاب في الثقافة الغربية، بينما هي عند المسلم تدخل في باب المحرمات، الثقافة الإسلامية جعلت المسلم يكره المنظر القبيح والفعل القبيح كما جاء في الحديث "إن الله جميل يحب الجمال"، وهي التي أعطت المسلم الفعالية في الحياة (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)، ( ولا تمش في الأرض مرحاً) فالمثقف سواء كان مثقفاً عادياً أو أكاديمياً خبيراً في شأن من الشؤون هو صاحب قضية، وصاحب رأي واهتمام في رفع مستوى أمته، ويملك رؤية بعيدة لمصائر الأحداث.(14/262)
المثقفون في الأمة الحية هم خيارها تقوم الأمة نحوهم بواجب التقدير ، ويقومون بواجب التوعية وواجب النقد والتصحيح والتجديد، ولذلك يجب أن يكون مكانهم في أمنع المواقع بعيداً عن الأذى، وإن غياب هؤلاء عن مركز القرار ورسم السياسات أضر كثيراً بالعالم الإسلامي. فالمؤسسات العلمية لم تعد تخرج (المثقف) الذي يحول الفكرة إلى عمل وسلوك، ويجسد الشخصية الإسلامية بعلمه وخلقه؛ بل تخرج (حامل الشهادات)، المتزين بها، الذي يتقن مهنة "التعالم"، ومع الأسف فإنه في الآونة الأخيرة أبعد دور المثقف لصالح دور الخبير الإداري وهي بضاعة أمريكية ومع الأسف أيضاً فإن صورة المثقف كانت سابقاً في الوطن العربي (المثقف العلماني) الذي ينظر إلى الدين كتراث يستحق التأمل فيه، وهؤلاء الذين يسمون أنفسهم مثقفين ملأوا الدنيا صراخاً حول موضوع الحريات والديمقراطيات ، لكنهم لا يحتملون وجود (المثقف المسلم) هؤلاء الذين يسمون أنفسهم "تنويريين" ويتحككون بالمعتزلة الذي يمثلون بنظرهم التيار العقلاني والفئة المثقفة في التراث الإسلامي لا يتذكرون أن هؤلاء المعتزلة هم الذين استعانوا بالسلطة لفرض آرائهم بالقوة على الإمام أحمد وأهل السنة، فمن هو المتنور؟ ومن هو الظلامي؟ هل الذي يتعرض لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته رضي الله عنهم بالتشوية والشك يسمى مثقفاً؟ وهل إصرار محمد أركون على تفكيك النص القرآني شأن ما فعله علماء النصارى البروتستانت بالتوارة والإنجيل يسمى (ثقافة)؟!.
إن كلمة (مثقف) في الخطاب العربي المعاصر لا تعني الرجل الحاذق العالم الذي يحمل هموم الأمة، بل أقرب ما تعنيه هي كلمة intellectual الإنجليزية، أي طبقة الذين يشتغلون بالفكر ولا يعملون بأيديهم. إننا نخشى أن تُسمّى الأشياء بغير سمياتها، أو نلبسها خلاف لبوسها، ويصبح المتعالم البعيد عن المواقف الثابتة والمبادئ القويمة يُسمى حكيماً وعاقلاً وخيّراً، وليست هذه هي مهمة المثقف.(1) لسان العرب 1/492 مادة: ثقف
(2) محمد البشير الإبراهيمي : الآثار الكاملة 2/126
(3)رسالة في الطريق إلى ثقافتنا /72
(4)مالك مالك بن نبي : مشكلة الثقافة /50
=============(14/263)
(14/264)
الحرب الأمريكية على ساحة التعليم
د. محمد يحيى 1/9/1424
26/10/2003
بعد غزو العراق أعلنت أمريكا بوضوح أن أهم أهدافها من احتلال العراق هو تغيير نظام التعليم، وبالأصح المناهج والأفكار والمضامين لكي تصبح ديمقراطية ومضادة للدكتاتورية وحديثة.
وعندما بدأ الناس يسمعون بالتفاصيل تبين أن المقصود بصفة عامة هو تغريب تلك المناهج العراقية إلى حد أن الأمريكان تحدثوا عن ترجمة كتب الأفكار العامة التي تدرس في المدارس الأمريكية وفرضها على المدارس العراقية في شتى مراحلها. ومع التغريب جاء هدف العلمنة ونزع الإسلام بأشكاله من الكتب المدرسية العراقية بحجة محاربة الطائفية رغم أنه لا يوجد في العراق سوى الإسلام، وكان التركيز الأمريكي على التعليم مثيرًا للتساؤل؛ لأنه أتى في أولوية تفوق اهتمامهم بالبترول رغم الحديث الكثير على البترول باعتباره الهدف الأمريكي الأسمى من الغزو والاحتلال، والواقع أن الحرب الحقيقية على العراق كانت حربًا ضد العقول والضمائر، وضد الإسلام قبل كل شيء، ولهذا الهدف كانت الأولوية المعطاة لمسألة التعليم والفكر.
لقد عاملوا العراق بالضبط كما عاملوا اليابان وألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، فهناك غيّروا مناهج التعليم بالتحديد لمحو الهوية القومية والثقافية والتاريخية والحضارية، وخلف التبعية الفكرية والذهنية لأمريكا في تلك البلاد، وقد نجح هذا التدبير نجاحًا باهرًا بحيث أصبحت اليابان وألمانيا في الدول التابعة لأمريكا بذلة وخنوع، وتأمرك المجتمع في هاتين الدولتين مع الفارق هو أن المجتمع الألماني لم يكن بحاجة إلى تغريب؛ لأنه مجتمع غربي قح؛ بل هو أحد المجتمعات الثلاثية المؤسسة للحضارة الغربية أو الأوربية مع فرنسا وانجلترا، وقبلهما إيطاليا في عصر النهضة، أما اليابان كمجتمع شرقي؛ فكانت بالفعل قطعت خطوات على طريق التغريب قبل الحرب العالمية الثانية، ثم جاءت تلك الهزيمة لتسير البلاد على هذا الطريق لأبعد مداه وإن لم يكن كاملاً مئة في المئة.
مقاومة التغريب
أما في العراق وسائر البلاد العربية؛ فإن الأمركة والتغريب والعلمنة كانت ولازالت تلقى المقاومة الشديدة، بحيث أصبح من المطلوب ضربها الآن بالقوة الغاشمة الاحتلالية، ليس في العراق وحده، ولكن في كل البلاد التي يحكمها الأمريكان من خلال النخب. وكذلك فإذا كانت ألمانيا واليابان دولتين علمانيتين شبه كاملتين قبل الحرب العالمية الثانية؛ فإن الأمر لم يتضاعف بعد الحرب لأن العلمانية لم تتضاعف وكانت بالفعل جذورًا راسخة. أما في العراق والدول العربية؛ فإن الحال يختلف أيضًا على الرغم من سيطرة النخب المتغربة المعلمنة على مدى سنوات وعقود طويلة، لأن المجتمعات والبنى الفكرية والثقافية ظلت إسلامية وعربية، ومن هنا تصاعدت بشكل رئيس حدة الهجمة الأمريكية التغريبية العلمانية على الرغم من وجود تيار ديني متعصب صليبي يقود أمريكا، بل على العكس فإن وجود هذا التيار الصليبي الذي لا يؤمن بالعلمانية في تلك البلاد هو الذي دفعه إلى دعم وتحفيز وتصعيد العلمانية في العالم الإسلامي والعربي على سبيل الكيد للإسلام، وهذا هو الجديد في الهجمة العلمانية الجديدة المتصاعدة، ففي الماضي كانت الدول الأوروبية التي تفرض العلمانية على سبيل التحمس لمبدأ تؤمن هي به.
التيار الصليبي المتطرف
أما الآن فإن التيار الصليبي الحاكم صراحة وليس من وراء ستار أمريكا والصاعد وذا النفوذ في بريطانيا ودول أوروبية أخرى وبالذات في شرق أوروبا؛ يصعّد فرض العلمانية ومعها التغريب في العالم الإسلامي مدفوعًا بكل حقد الكيد للإسلام والرغبة في القضاء عليه..
هذه هي الخلفية التي يجب أن نقرأ عليها الرغبة الأمريكية المحمومة في تعديل بل تشويه مناهج التعليم في العراق قبل فعل أي شيء آخر في تلك البلاد.
إنها الحرب القديمة على الإسلام، لكنها الآن وفي ظل الحكم الصليبي السافر في أمريكا تأخذ شكلاً سافراً وحادًا وهستيريًا هي الأخرى، ومن الناحية الأخرى فإن حكاية الهجمة على النظام التعليمي بهدف تغريبه وعلمنته ليست جديدة ولنفس دوافع ضرب الإسلام لقد توصلت إليها الدول العربية في أواسط الثمانينيات تحت الشعار التونسي الشهير "تجفيف المنابع"، والذي عم جميع البلدان الأخرى، واتخذ شكل تأميم المساجد وفرض الخطب والدروس الدينية المعلمنة، وفرض الفتاوى وضرب الحركات الإسلامية بأبشع الوسائل وفرض القوانين الاستثنائية..
إن الهجمة التغريبية على نظام التعليم في العالم العربي ليست جديدة ولا مرتبطة بوصول الحكم الصليبي الحالي في أمريكا؛ فعلى مدى ما يقرب من العشرين عامًا سمعنا عن مراكز أمريكية لوضع المناهج في مدارس بلدان كبرى في العالم العربي، ومحيت الكتب الدينية أو كادت ومعها تدريس الدين، ووضعت مناهج علمانية سميت بـ"تدريس الأخلاق" كبديل عن الدين الإسلامي بالذات.
فضح العملاء(14/265)
وسمعنا من العلمانيين أصحاب أمريكا من يعلن بكل فخر أن التعليم هو مشروعه النهضوي للأمة، وكان في ذلك يعني كلمة واحدة هي فقط علمنة وتغريب الأمة، ومحصلة هذا الأمر كله هو أن الحرب على الإسلام أصبحت تدور الآن على ساحة التعليم باعتباره مجال صنع العقول والضمائر للأجيال القادمة، وقد انتقلت من ساحة السياسة إلى الساحة الاجتماعية، ولعل دخول الأمريكان بهذه الفجاجة والغباء وكذلك إلى ميدان كشف الأوراق؛ فضح العملاء، وأثبت للجميع أن كل الدعاوى التي كانت تردد حول تحديث التعليم والمشاريع القومية الكبرى فيه مجاراة العصر ليست سوى تغطية للفكر الأمريكي المفروض على الجميع في هذا المجال.
إنها ليست سوى أوراق توت خائبة يسعى البعض لوضعها، لكن سقطت مع سفور الخطة الأمريكية لحكم العراق وتغييره
==============(14/266)
(14/267)
في كل الأحوال (1/2)
أ.د. عبد الكريم بكار 5/9/1424
30/10/2003
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن إنجازاتنا وعطاءاتنا تخضع لثلاثة عوامل أساسية، هي:
1- ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من خصائص عقلية ونفسية وجسمية.
2- البيئة التي نعيش فيها بما تشتمل عليه من مفاهيم وأعراف وتقاليد وبنى تحتية ومرافق عامة...
3- الجهود الشخصية والخاصة التي نبذلها في تثقيف عقولنا، وتزكية نفوسنا وصقل مهاراتنا، واستثمار الفرص المتاحة لنا.
ولا يخفى أن بين هذه العوامل الثلاثة علاقة جدلية مستمرة، فالذكاء المتفوق والقدرات الذهنية الممتازة تساعد المرء على أن يستفيد على أحسن وجه من المعطيات التي توفرها البيئة، كما أنها تجعله يدرك بسرعة حدود إمكاناته الحقيقية وطبيعة التحديات التي يلاقيها والطريقة المثلى لمواجهتها والتصرف حيالها.
البيئة الجيدة تجعل عمل الناس أسهل، وتوفر لهم الظروف التي تساعدهم على التفوق والارتقاء وهكذا..
والذي نستفيده من هذا هو أن التفوق في الجهد أو البيئة أو الموروث الجيني، سوف يخفف من أضرار القصور في الجانبين الآخرين. وأن أي قصور في أي جانب أو عامل من هذه الثلاثة سيؤثر سلباً في أداء العاملين الآخرين، وأعتقد أن التكامل والتفاعل بين ما ذكرنا يشكّل مظهراً من مظاهر ابتلاء الله -جل وعلا- لنا في هذه الحياة؛ حيث إن إمكانات الارتقاء والتقدم ستظل موجودة مهما كان الموروث الجيني سلبياً وضعيفاً، أو كانت البيئة صعبة وغير مواتية؛ وذلك من خلال تنمية الإمكانات الشخصية وبرمجة الوقت وتحديد الأهداف واكتساب المهارات، وقبل ذلك كله العبودية الحقة لله -تعالى- والاستعانة به، والتأهل لتوفيقه وفيوضاته غير المحدودة.
ولو أننا تأملنا في سير أولئك الذين صاغوا أمجاد هذه الأمة، وشيّدوا صرح حضارتها لوجدنا صدق ما نقول.
وأحب هنا أن أبلور المفهومات الثلاث الآتية:
أولاً: ما دامت المحصلات النهائية لكل جهودنا الدعوية والإصلاحية والتعليمية خاضعة لموروثاتنا عن الآباء والأجداد، وخاضعة للبيئة التي نعيش فيها وللجهد اليومي الذي نبذله، وما دامت كل هذه الأمور لا تكون أبداً حدِّية وكاملة؛ فإن المتوقع آنذاك أن تكون النتائج التي نحصل عليها مشوبة دائماً بالنقص والقصور، وستظل دائماً أقل مما نريد؛ فأنت لا تستطيع أن تصل إلى حلول كاملة في وسط غير كامل، وستظل هناك فجوة بين طموحاتنا وبين ما يتحقق على الأرض. هذا يعني أيضاً أننا سنظل نشكو ونشكو، وكأن الوعي البشري اخترع الشكوى من سوء الأحوال، ليتخذ منها محرضاً على التقدم.
وإذا تتبعنا هذه السلسلة من الإحالات والاستنتاجات فسنصل إلى الاعتقاد بأنه لن يكون في هذه الدنيا لأي أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات أو فرد من الأفراد - نصر حاسم ونهائي- لا يقبل الجدل ولا الشك والنقد. ولهذا فإن الذين يحلمون بانتصارات نقية وتامة سيظلون يصابون بصدمات الإحباط وخيبات الآمال!.
ثانياً: إذا كان الأمر على هذه الصورة؛ فهذا يعني أننا لن نصل أبداً إلى اليوم الذي نعتقد فيه أننا قد حصلنا على البيئة المثلى للعمل والإنجاز، ولا على الأدوات التي نحتاجها لتحقيق أقصى الطموحات، وسنظل نشعر بوجود درجة من المجازفة والمخاطرة عند اتخاذ أي قرار حاسم في أي اتجاه. وهذا يجعلنا نبلور مفهوماً جوهرياً، هو:" اعمل ما هو ممكن الآن، ولا تنتظر تحسن الظروف".
وهذا المفهوم يقوم على مسلّمتين هما:
1- هناك دائماً إمكانية لعمل شيء جيد لأنفسنا وديننا والناس من حولنا.
2- مهما تحسنت الظروف؛ فإنه سيظل هناك من يمكنه أن يظن أن الظرف المطلوب توفره من أجل الإنجاز لم يتهيأ بعد.
ثالثاً: هناك مسلمون كثيرون مصابون بفقر شديد في الخيال، فهم خاضعون لمقولات مستعجلة أطلقها أعلام ومشاهير لم تنضج رؤيتهم لفيزياء التقدم ولا لطبيعة العلاقات التي تحكم قوى التحدي والاستجابة، ومن ثم فإنهم قد صاروا أشبه بمن وضع القيد بنفسه في رجليه في أجواء عاصفة وخطرة!.
إن الخيال نعمة كبرى من الله -جل وعلا-، وقد كان نابليون يقول: "إن مؤسساتنا مصابة بمحدودية الخيال، ولولا الخيال لكان الإنسان بهيمة". ويكفيني هنا لفت النظر إلى مسألة تتجلى فيها محدودية الخيال وعقمه الشديد:
من الواضح أن جمهرة غير قليلة من أبناء الجماعات والدعوات الإسلامية يعتقدون أن تطورات مذهلة سوف تطرأ على الحياة الإسلامية إذا قامت الدولة (الحلم) التي تسيّر شؤون الناس، ولهذا فإنهم عطلوا الكثير من الجهود، وأضاعوا الكثير من الفرص، وعلّقوا توازن أعداد هائلة من الناس على تحقيق ما يتطلّعون إليه!؛ بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى ما هو أسوأ، وهو الاعتقاد بأنهم لا يستطيعون إنجاز أي شيء ذي قيمة إلا في ظل دولة إسلامية راشدة. وتلك الدولة ينبغي أن تكون من الطراز العمري، فإذا كانت من مستوى الحكومات الأموية أو العباسية، فربما كانت لا تستحق أقل من الثورة!.(14/268)
هؤلاء الناس يتخيلون أن الحكومة الراشدة التي يحلمون بها سوف تكون على درجة عالية من الإخلاص والخلق والعلم وحسن التدبير والحنكة في تحفيز الجماهير على الكدح والعطاء، وعلى درجة عالية من الخبرة في حل المشكلات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية، مع أنهم لا يقولون لنا: أين ستكتسب (الدولة الحلم) هذه الخبرات الخطيرة؟ وفي أي بيئة ستتكون لدى أعمدتها هذه الصفات والأخلاق والمهارات الفذة والعجيبة؟ وهم ما فتئوا يشكون من سوء الأحوال وتدهور الزمان!.
في ظل هذه الدولة سوف يحدث ما يشبه الزلزال في النفوس والمجتمعات والعلاقات والتوجهات السائدة: في ظل تلك الدولة العجيبة سوف ينشط الكسول ويتعلم الجاهل، ويبذل الشحيح، ويقلع بذيء اللسان عن التفوه بالألفاظ القبيحة، ويكفّ مدمنو المخدرات والمكيفات عن تناولها، وسوف يحاول المدرس غير الكفء صقل مهاراته وإثراء ثقافته... كما أن العلمانيين والليبراليين وأصحاب المصالح المضادة سوف يسلمون لتلك الدولة (المعجزة) بالنزاهة والكفاءة معاً، ولذا فإنهم سوف يسلمون لها القيادة. والدول المناوئة في الخارج سترى أنه لا فائدة ترتجى من وراء مقارعة تلك الدولة؛ ولذا فإنها سوف تتجاهلها أو تهادنها...
وهكذا ستحدث تغيرات كونية هائلة لم تحدث في أي مرحلة من مراحل التاريخ! وحتى يحدث كل ذلك؛ فإن مما لا شك فيه أن طينة تلك الدولة ينبغي أن تكون خاصة، ولا مثيل لها ما دامت ستحقق إنجازات عديمة المثيل!.
وأنا أجزم أن تلك الجمهرة من الحالمين ستنقسم تجاه أفضل دولة إسلامية يمكن أن تقوم في أي مكان من الأرض إلى أقسام عدة: قسم يعمل معها بكفاءة وإخلاص؛ وهذا القسم قليل في أي زمان وأي مكان. وقسم يتمتع بالكفاءة؛ لكن ينقصه الإخلاص والاستقامة. وقسم ثالث يخلص؛ لكنه لانعدام خبرته لا يعرف كيف يخدم الدولة والأمة. أما القسم الرابع؛ فهو قسم منتفع وصولي، ليس من هؤلاء ولا أولئك. والقسم الخامس قسم معارض يرى أن الدولة التي سعى إلى إقامتها قد خانت رسالتها، وانحرفت عن مبادئها؛ فهو منهمك في ردها إلى المسار الصحيح.
أما القسم الأخير؛ فهو القسم الثائر الذي صارت أمنيته التخلص من تلك الدولة بأي وسيلة من الوسائل، ولو كانت استخدام الصنف وإشعال الحرب الأهلية!!.
هذه الأقسام لم نأت بها من نسج الخيال؛ بل هي مما عرفناه من سنن الله -جل وعلا- في الخلق، ومما فهمناه من طبائع الأشياء، وما وجدناه ونجده عند قراءة أي ثورة من الثورات التي تمكنت من الوصول إلى الحكم في بلاد إسلامية أو غير إسلامية.
ولعلي في المقال القادم أشرح شيئاً مما يمكن القيام به "في كل الأحوال"، ومن الله تعالى الحول والطول
في كل الأحوال 2/2
أ.د. عبد الكريم بكار 21/9/1424
15/11/2003
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد ذكرت في المقال السابق أن موروثاتنا النفسية والجسمية... عن الآباء والأجداد وجهودنا الشخصية بالإضافة إلى البيئة التي نعيش فيها تشكل المؤثرات الجوهرية في كل عطاءاتنا وإنجازاتنا، وذكرت أنه مهما ساءت الظروف، وتعقدت الأوضاع، فستظل هناك إمكانية لعمل شيء ما، ومقال اليوم سيكون حول ذلك الشيء.
من المهم أن نعتقد في البداية أن أي جهد يبذله الواحد منا على صعيد إصلاح أحواله الشخصية والارتقاء بذاته، يصب بصورة من الصور في مصلحة أمته، حيث لا يمكن أن نبني أمة صالحة من أشخاص فاسدين، ولا مجتمعاً قوياً من أفراد ضعفاء، وإذا أردت أن تعرف موقع العالم الإسلامي على خارطة القوى العالمية، وأن تعرف مدى تأثيره الحالي في تحديد وجهة العالم؛ فانظر إلى أوضاع كل دولة من دوله على انفراد، فالموج لا يكون أبداً إلا من جنس مائه.
نحن اليوم في حاجة ماسة إلى أن نبلور ونرسخ ثقافة (الإنجاز المتجاوز) والتي تعني -فيما تعنيه- ألا يُؤخَّر شيء يمكن عمله الآن من أجل انتظار شيء سيحدث في المستقبل، وتعني كذلك تعزيز روح المبادرة الفردية لدى الإنسان المسلم وتعزيز روح الإيجابية، والتعامل مع المعطيات الجديدة بعقل وقلب مفتوحين؛ حيث إن معظم المسلمين ما زالوا يرزحون تحت وطأة موروثات عصور الانحطاط والتي يأتي في طليعتها الكسل والفوضى والتواكل والخوف من الجديد والتقليد والتبعية والتفكير الذري ومحدودية الطموحات والمجاراة الاجتماعية والمثالية الزائدة.
والآن اسمحوا لي أن أتحدث عن ثلاث قضايا أتصور أنها ذات أهمية قصوى بين القضايا الكثيرة التي يمكن القيام بها في جميع الأحوال:
1) المجاهدة من أجل تغيير سلم القيم.(14/269)
هناك قيم عالمية مشتركة تهتم بها كل الثقافات وكل الحضارات، مثل: الصدق، والأمانة، والإحسان، والوفاء، وإغاثة الملهوف، والإتقان والتسامح، والعفو، والجدية، والدقة، والتملك، والرفاهية، والنظافة، والاقتصاد في بذل الجهد.. ويتعامل الناس مع هذه القيم في كل زمان ومكان على أنها مفردات في نسق عام، وهي في تواليها أشبه بدرجات السُلَّم، وتتم التضحية بالقيم الدنيا عند التعارض من أجل الاستمساك بالقيم العليا، فإذا كانت قيمة الصدق -مثلاً- لدى إنسان أعلى من قيمة المال؛ فإنه يلزم الصدق، ولو كان الكذب يجلب له المال الوفير، وحين تكون قيمة الخوف من الله -تعالى- لدى المسلم أعلى من قيمة الخوف من الناس؛ فإنه لا يبالي بغضب الناس إذا كانوا لا يرضون إلا بإغضاب الله، وحين يحلّ النعاس بأحدنا وتكون قيمة النوم عنده أعلى من قيمة تنظيف أسنانه؛ فإنه سينام دون أن ينظفها، وإذا كانت قيمة تنظيف الأسنان أعلى؛ فإنه سيقاوم النعاس إلى أن ينتهي من تنظيفها وهكذا...
المجاهدة في سبيل تغير سُلَّم القيم ينبغي أن تستهدف تحقيق أمرين أساسيين:
1- العبودية الحقة لله -تعالى- والالتزام بأمره في المنشط والمكره.
2- الفاعلية العالية في الإنجاز مع المثابرة على العمل الشاق بغية بلوغ الأهداف المرسومة.
وإن التغير في عاداتنا وسلوكاتنا هو الطريق لتحقيق هذا وذاك، ولو أن المسلم أخذ على عاتقه أن يتخلص من عادة سيئة كل ستة أشهر لتحل محلها عادة حسنة؛ فإنه يكون قد التزم بإجراء تعديلات مستمرة في سُلَّمه القيمي بما يحقق العبودية والفاعلية، ومع أن هذا الأمر ليس بالسهل؛ فإنه بالاستعانة بالله -تعالى- والعزيمة التي لا تلين يمكن إنجاز الكثير الكثير. وهذا التحدي سيظل ماثلاً أمام كل مسلم في كل الظروف وإلى أن يلقى ربه.
2) المشروع الشخصي:
علينا أن نقول إن وعينا مفتون بالإنجازات الكبيرة والانتصارات العظمى، مما زهّدنا في الاهتمام بالأمور الصغيرة والتفاصيل الدقيقة، مع أنه من غير الممكن التعامل مع القضايا الكبرى من غير تفتيتها وتنويع المداخل والطرق لحلها، فكرة المشروع الشخصي ما زالت غريبة عن المجتمعات الإسلامية ولدى معظم الناس، مع أنه قد يكون هو السبيل الأكثر يسراً والأقل تكلفة والأكثر نجاعة والأقل مخاطرة في إنقاذ الأمة من الحالة الحرجة التي صارت إليها في ظل قصور الداخل وضغوطات الخارج.
المشروع الشخصي يعني التزام المرء بإنجاز شيء يكرس له حياته أو جزءًا كبيرًا منها، وهو من أجل إتقانه وأدائه على أفضل وجه مستعد للتنازل عن بعض الرغبات وتفويت بعض المصالح وذوق طعم العناء.
المشروع الشخصي رؤية تتكون من الهدف والطاقة والإمكانية والبعد الزمني، ولا قيمة لتلك الرؤية إذا لم يتم تجسيدها في خطة عملية ومنطقية واضحة ودقيقة، من خلال مشروعنا الشخصي نعثر على الدور الأمثل الذي يمكن أن نؤديه في هذه الحياة، كما أننا نجيب من خلاله عملياً عن الأسئلة التي لا يتم التقدم الحقيقي من غير الجواب عنها.
وأهم تلك الأسئلة سؤالان ضاغطان؛ هما:
1- ما الشيء الذي نستطيع أن نفعله الآن لكننا لا نفعله؟
2- ما العمل الذي إن أديناه بطريقة جديدة تكون نتائجه أفضل؟
ومن المهم أن تكون الأهداف التي ننجزها من خلال ذلك المشروع متصلة بالهدف النهائي الذي على كل مسلم أن يسعى إلى بلوغه، وهو الفوز برضوان الله -تعالى-.
سوف تتقدم أمة الإسلام تقدماً باهراً إذا تمكن 5 % من أبنائها من تقديم نماذج راقية في العلم والتربية والأخلاق والسلوك والعلاقات الاجتماعية والإنتاج والإبداع، فالذي يغير معالم الحياة ليس الأفكار والحكم والمقولات - وإن كانت تشكل الأساس لأي ازدهار-؛ وإنما النماذج الراقية التي يتفاعل معها الناس، ويتخذون منها قدوات يقتدون بها.
الأمم الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من الرجال، ولكنها الأمم التي يتلفت أبناؤها يمنة ويسرة، فلا يرون إلا رجالاً من الطراز الثالث أو الرابع، فيحدث ما يشبه الفتنة الثقافية والضياع السلوكي.
من الصعب أن يكون المرء نموذجاً في أمور كثيرة، لكن من الميسور أن يكون عادياً أو فوق العادي قليلاً في جل شؤونه، ويقدم نموذجاً رفيعاً في شأن أو اثنين أو ثلاثة.
إذا نظرنا في سير صفوة الصفوة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجدنا أنهم من خلال براعة كل واحد وتفوقه في بعض الأمور تمكنوا من كتابة تاريخ صدر الإسلام، وتأسيس المرجعية الرمزية والشعورية والأخلاقية لأمة الإسلام بطولها وعرضها: هذا يقدم نموذجاً في العدل، وهذا في الأخلاق والتجرد، وهذا في الصدق والأمانة، وهذا في الثبات على المبدأ، وهذا في النبوغ العلمي والفقهي، وهذا في الحنكة العسكرية، وهذا في الكرم والجود، وهذا في البر بوالديه وأرحامه، وهذا في الحياء وللطف والطيبة... وهكذا تم رسم ملامح أفضل مراحل حضارة الإسلام وملامح أكرم الأجيال.(14/270)
جمال فكرة المشروع الحضاري الشخصي أنه لا يحتاج إلى كثير مال وأحياناً لا يحتاج إلى أي مال. وهو ليس ذا مقاييس صارمة ومعالم محددة، ولذا فإن معظم الناس يستطيعون أن يهتموا بأمر من الأمور يصبحون من خلاله مناراً ومرجعية لغيرهم؛ ومن الذي يمنع المرء أن يقدم نموذجاً في التبكير إلى صلاة الجماعة أو خدمة والديه أو الحرص على الوقت أو التصبر والتحلم وسعة الصدر ...؟
من خلال المشروع الحضاري يحقق المرء لدينه وجماعته ودنياه الكثير من المكاسب، وهو في كل ذلك الكاسب الأول . لكننا نحتاج إلى شيء من البصيرة وشيء من التخطيط وكثير من الهمة والاهتمام وروح المثابرة.
3-المشاركة في الخدمة العامة:
يتجلى الكثير من عظمة الأمم وخيريتها في تمتعها بأعداد كبيرة من المهتمين بالشأن العام والناهضين للقضايا التي لا تدخل في مسؤولية أي جهة من الجهات. وإن في إمكان أي مسلم مهما كانت ظروفه وأوضاعه، ومهما كانت قدراته وإمكاناته أن يسهم في تحسين الحياة العامة وإشاعة الخير محاصرة الشر في البلد الذي يعيش فيه. وسيكون من الخطأ الظن أن الإحسان يقتصر على بذل شيء من المال للفقراء. لا ريب أن هناك مشكلات كثيرة لا يحلها إلا المال؛ لكن أيضاً هناك مشكلات كثيرة جداً لا تحتاج في حلها إلى أي مال. وقد كان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يخرج إلى السوق مع غلام له، ثم يعود دون أن يشتري أي شيء، وكان غلامه يستغرب، ويتساءل : لماذا كان ذلك ؟! وكان ابن عمر يجيبه أنه خرج من أجل السلام على الناس.
في المسلمين مظلومون يحتاجون إلى مناصرة، وفيهم جهلة يحتاجون إلى تعليم ومنحرفون يحتاجون إلى إرشاد، ومهمومون يحتاجون إلى مواساة... ولو أن كل مسلم بذل ساعة في الأسبوع في التعاون مع مؤسسة خيرية أو في عمل تطوعي عام لتغير وجه الحياة في عالمنا الإسلامي.
نحن أمة تتحدث كثيراً عن حب الخير وعمل الخير، لكن الأرقام والإحصاءات والنتائج الملموسة تدل على أننا في الأعمال التطوعية والأنشطة اللاربحية في مؤخرة الأمم. ويكفي القول: إن القطاع الثالث والذي يشمل الأعمال الخيرية واللاربحية في (إسرائيل) يستوعب 11% من القوة العاملة هناك؛ على حين أنه في أقطارنا الإسلامية لا يستوعب ولا واحداً في المئة!.
من خلال حبّات الرمل تتشكل صحارى شاسعة، ومن خلال قطرات الماء تتشكل بحار ومحيطات، ومن خلال الأعمال الصغيرة والمبادرات الفردية يتشكل مستقبل أمة إذا امتلكنا ما يكفي من العزيمة والوعي. والله ولي التوفيق.
==============(14/271)
(14/272)
تركيا: سنتحرك إذا هوجمنا أو حين يندلع قتال بين الأكراد
الإسلام اليوم / طه عودة/ إسطنبول 26/1/1424
29/03/2003
مما لاشك فيه أن الأسبوع الماضي كان حافلا بالأحداث الهامة المتعلقة بالحرب الأمريكية على العراق، لعل أبرزها التصريحات التي صدرت من رئيس الأركان التركي الفريق (حلمي أوزكوك) الذي أكد إن الجيش التركي لن يدخل شمال العراق إلا إذا تعرضت الوحدات التركية الموجودة حاليا في المنطقة إلى هجوم، أو في حالة حدوث اقتتال داخلي بين الأكراد، أو حصول تدفق للنازحين إلى المنطقة.
تصريحات الجنرال أوزكوك:
يعلق الكاتب الصحفي فكرت بيلا من جريدة (مللييت) العلمانية الواسعة الانتشار على التصريحات التي صدرت من رئيس الأركان التركي أوزكوك فيقول :" التصريحات التي أدلى بها الجنرال حلمي أوزكوك رئيس هيئة الأركان التركية تحمل في مضمونها رسالتين مهمتين الأولى: تفصح عن الموقف التركي من المستجدات الأخيرة، والثانية: تعتبر ردا على جورج بوش وتوني بليير والفصائل الكردية. ولعل هذه التصريحات كان يجب أن يسبقه قادة السياسة إلى الإعلان عنها ويقولوا "هذه الحرب ليست حربنا، وهذه المهمة ليست من شأننا". ولو أن هذا التحليل البسيط الذي يختصر مسافة تركيا من الحرب، كان قد صاغه صناع القرار في تركيا، عندما أصيبت العلاقات التركية الأمريكية بشروخ. فتحركات الساسة منذ البداية، وكأن هذه الحرب حربنا دون أن يدعموا مواقفهم بأفعال، دفعت بالبعض إلى إحراج تركيا ووضعها في موقف كبش الفداء، بحيث بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا بالحديث عن تركيا وشعبها بشكل منفر وصل إلى حد التهديد، حتى أنهما انشغلا بالتحامل يوميا على تركيا متناسيين الحرب على العراق، والمصاعب التي واجهتهم في الجنوب، وبغداد، وشرعا بالحديث عن الكارثة التي ستحصل بدخول القوات التركية إلى شمال العراق، وانكبّا بكل ما لديهما من قوة على هذا الموضوع. وبينما هما يفعلان ذلك، كانا يواجهان المصاعب في الجنوب مما أضطرهما إلى العودة إلى طاولة المفاوضات مع تركيا على الجبهة الشمالية. ومع ذلك لم يخرج أحد ليسألهما مثل هذه الأسئلة المهمة :" لو أن البرلمان التركي وافق على المذكرة الثانية، لكانت القوات التركية ستدخل معهما وبعدد أكبر منهما إلى شمال العراق. وهل أن تركيا في ذلك الوقت كان لديها الحجة؛ وبعد رفض البرلمان فقدتها؟ وهل كانوا يثقون بها آنذاك والآن فقدوا الثقة بها؟. ولماذا هم لديهما الحق بعبور البحار والتوغل في شمال العراق، بينما تفتقر تركيا إلى هذا الحق وهي التي فقدت 30 ألف مواطن فوق هذه الأرض؟". الساسة الأتراك كان ينبغي عليهم طرح مثل هذه الأسئلة بوضوح منذ البداية، ليؤكدوا أن الجيش التركي موجود من أجل حماية المصالح القومية التركية، وليس من أجل تسهيل طريق الحشود الأمريكية في المنطقة، وكان يجب عليهم أن يشرحوا لأمريكا أن هذه الحرب ليست حربنا، ولكنها تهمنا في نفس الوقت، وأن يوضحوا الفرق بينهما، وأن يوضحوا أيضا أنهم غير مستعدين للعمل بشكل عشوائي وهم مغمضي العين لمجرد بضعة مليارات من الدولارات، وأن يذكروا الولايات المتحدة بأن البرلمان هو شأن قومي وبدون قرار قاطع منه لا يمكن لأمريكا أن تسرح وتمرح في تركيا والمنطقة كما تشاء. وإذا دققنا في تصريحات الجنرال (أوزكوك) أمس نرى فيها أجوبة لبعض الأسئلة المطروحة أعلاه مثلا حينما قال :" التصريحات الظالمة المشبوهة والقاسية أثرت في نفوس الشعب التركي كثيرا. في الحقيقة يصعب علي كثيرا أن أفهم موقف الذين جاءوا من خلف البحار ليقولوا بأنهم مهدَّدين بينما يصعب عليهم فهم موقف تركيا المهددة بالفعل بحكم مجاورتها للحدود. وإذا خرجت الأمور عن السيطرة في يوم من الأيام، أتمنى من أصدقائنا أن لا يطلبوا منا القيام مستقبلا بما نريد القيام به اليوم". ينبغي على (بوش وبلير) التفكير مليا بهذه التصريحات قبل أن يدلوا بتصريحات يومية ضد تركيا. الجنرال (أوزكوك) حدد الحالات التي ستدخل فيها تركيا إلى شمال العراق وهي "في حالة تعرضها لهجوم، أو تدفق اللاجئين عليها، أو تهجم المسلحين على المدنيين". وفي حال وجود عنصر واحد مما ذكره أعلاه، فإن تركيا سوف تتدخل دون انتظار الإذن من أحد. ومثل ذلك ينبغي على الولايات المتحدة وبريطانيا تحديد موقفهما، بدلا من أن يهددا تركيا من جهة ويطلبا مساعدتها من جهة أخرى.
"الحرب إلى أين؟(14/273)
وفي الوقت الذي دخلت فيه الحرب الأمريكية على العراق أسبوعها الثاني يتساءل الكاتب الصحفي طه أكيول من جريدة (مللييت) العلمانية عن مدى فترة الحرب :" التمرد الشعبي -وخصوصا الشيعي- كان متوقعا ما أن تبدأ أمريكا بإمطار العراق بالقنابل والصواريخ، وأن يتم استقبال الأمريكان (أبطال الحرية) بالورود ضد الديكتاتور صدام!!. وعن ذلك، يقول الكاتب الأمريكي (كينت بولاك) في كتابه بعنوان "عاصفة التهديد" الذي يتحدث فيه عن العراق أن الداعي لهذا التفكير الأمريكي ناتج عن الفروق الثقافية، وأيضا عن المعلومات الاستخباراتية الخاطئة التي تلقتها أمريكا من اللاجئين العسكريين العراقيين إلى أراضيها. ولكن لم يحصل ذلك، وها هم القوميون العرب يقاومون ويحاربون أمريكا التي تعدهم بالحرية. والتمرد الشيعي الذي كان منتظرا لم يحدث، حتى الأنباء التي تقول بأن هناك تمردا في البصرة ضد صدام كانت كاذبة أيضا. ولا سيما أن فصائل المعارضة الشيعية أعلنت رسميا أمس "لا يوجد تمرد في الباصرة بل مجرد توتر من الحرب". العرب الشيعة في أيام الحرب (العراقية - الإيرانية) تعهدوا بالأمانة والولاية لبلدهم العراق وليس للإمام (الخميني). هناك فروقات دينية مهمة في المولاة للشيعة الإيرانيين والعراقيين. مثلا عندما دعا البابا بوش في حرب الخليج الثانية الشعب العراقي إلى التمرد على صدام، فقد غضب الأكراد في الشمال وهاجموا كركوك، فيما خرجت انتفاضة شيعية في الجنوب، وبعد أن سحب البابا بوش دعمه من التمرد خوفا على تجزئ وحدة الأراضي العراقية؛ فإن صدام ضرب الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب. وهذا يعني أن الشيعة هم ضد صدام. ولكن اليوم هو مختلف جدا عن الأمس، لأن القوة الأمريكية تعتبر عدوانية بالنسبة للشعب العراقي، فهم يدركون أن إيران أيضا في مواجهة المدفع الأمريكي، لهذا السبب هم يلتزمون المولاة لبلدهم. وهكذا نرى توجد الطائفة الشيعية والسنية في مواجهة الاحتلال تحت شعور الوطنية. الأمريكيون -الذين رأوا أن الشيعة المحليين لن يتمردوا- يعلقون الأمل اليوم على تمرد الشيعة الجائعين والغاضبين في بغداد. ولكن الكاتب الأمريكي يخط تحت نقطة مهمة وهي مهاجمة السنة الغاضبين للشيعة في بغداد مما سيتسبب في صدام قد ينتشر إلى الفصائل العرقية الأخرى. ومن هذا المنطلق من الصعب التحديد وجهة الحرب وهو ما يجعل الأمر أكثر خطورة سياسيا وعسكريا على تركيا.
الأمريكي البشع :(14/274)
يتطرق الكاتب الصحفي (طه أكيول) أيضا إلى الحرب الدائرة في العراق بقوله " لقد شبه (توماس فريدمان) الكاتب اليهودي في جريدة (نيويورك تايمز) جورج بوش "بالكاوبوي" وكتب عنه: "الرجل الطيب في الأفلام الغربية يقوم أولا بتشكيل مجموعة تابعة له، ومن ثم يهاجم البلدة ويقبض على المجرم فيها. أما (بوش) ففعل العكس، فهو هاجم المدينة أولا ومن ثم يفكر في تشكيل مجموعة تابعة له". هذا صحيح، فإدارة بوش داست على أعناق حلفائها، ودخلت العراق لوحدها. وعن هذا يقول (فريدمان) بأن (بوش) مريض بشخصيته وبحاجة ماسة إلى عملية في دماغه. حتى أن الرئيس الأمريكي الأسبق (كارتر) وجه انتقادات مماثلة إلى إدارة (بوش) وأيضا الكاتب الرئيسي والخبير السياسي في جريدة نيوز ويك (فريد ذكريا) الذي اختصر شخصية (بوش) بهذه الكلمات "كلما فتح فمه كلما خسر حليفا له". ولنعود إلى تركيا00 هو صحيح ما يقال عن أن حكومة حزب العدالة لم تكن فاعلة في دفع البرلمان إلى المصادقة على المذكرة الثانية، وبأنها وسط ترددها فقدت أيضا ورقتها "الجبهة الشمالية". تركيا لم تفقد إمكانيات مهمة على الصعيد العسكري فقط وإنما على الصعيد السياسي أيضا، مثلا أن يجاور جندي تركي كل جندي أمريكي في شمال العراق، وهكذا أصبحت مسألة دخول القوات التركية إلى شمال العراق مشكلة عقيمة. باختصار: إن الحكومة لم تكن جريئة كما كان مطلوبا. وبالطبع، يمكن أن نعذر الحكومة لسبب واحد وهو أن "الكاوبوي بوش" كان من حين إلى أخر يهدد تركيا ويلوح بمسدسيه في وجه أنقرة، وهو الأمر الذي دفع بالشكوك إلى نفسها وجعلها تماطل في المباحثات. (كولن باول) وزير الخارجية الأمريكي قال في محادثة هاتفية قبل الأخيرة لأنقرة بأن واشنطن موافقة على دخول القوات التركية إلى شمال العراق مقابل فتح الأجواء التركية أمامهم، ولكن بعد مصادقة البرلمان على فتح الأجواء غير باول لهجته إلى الرفض قائلا "لن نسمح بدخول القوات التركية إلى الشمال". من الواضح أن هناك شرخ كبير في العلاقات التركية الأمريكية سوف تتأذى منه تركيا، ولكن مقابل ذلك فإن أمريكا أيضا ستتأذى. إذ لا بد أن "الكاوبوي" ينظر إلى تركيا من فوق إمبراطوريته باستصغار مع أن (بوش) احتاج حتى إلى الصومال في إطار بحثه عن "التحالف الدولي" من أجل توسيع إمبراطوريته هذه. وهكذا نرى أن صورة "الأمريكي البشع" قد أصبحت شائعة في تركيا والعالم. حتى أن معظم وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل أعربوا عن استيائهم (لعبد الله غول) من تصرفات الإدارة الأمريكية الهمجية. فمن هو الذي شرخ الناتو والاتحاد الأوروبي؟. ما يسرنا في الأمر هو التقارب الذي حدث بين تركيا وأوروبا. أمر جميل أن يناقش الاتحاد الأوروبي مسألة تزويد تركيا بمساعدات مالية في وقت تبخل فيه إدارة (بوش) على تركيا بالدعم المالي وهي بأمس الحاجة إليها، بينما توزع على إسرائيل 10 مليارات دولار في غضون يومين.
انتبهوا إلى الجبهة الشمالية:(14/275)
أما الكاتب (فهمي كورو) من صحيفة يني شفق الإسلامية فيسلط الأضواء على الجبهة الشمالية ويقول " يمكن القول بأن القوات الأمريكية والبريطانية وجدت مقاومة في العراق أكبر من التي كانت تتوقعها على الإطلاق. الأمريكيون والبريطانيون الذين تقدموا في الأيام الثلاثة الأولى دون أن يلتقوا بالجيش العراقي، واجهوا المقاومة الحقيقة لدى انخراطهم بين صفوف القوات العراقية. وهكذا يتبين أن (صدام حسين) وضع خطوط الدفاع العسكرية داخل العراق وحول الأماكن السكنية، لذا هم عاجزون عن التقدم براحة كما كان حالهم في الأيام الثلاثة الأولى، بحيث يلقون مقاومة عنيفة في أم القصر والناصرية والنجف، حتى أن هناك أنباء تفيد بأن القوات الأمريكية والبريطانية تضطر إلى إيقاف تقدمها من حين إلى أخر فيما تزداد خسائرهم البشرية وهو ما رأيناه من خلال شاشات التلفزيون. لا زلنا نجهل نتيجة الحرب من جراء هذه المقاومة العنيفة، ولكن ما بتنا نعرفه جيدا هو أن الخطط الأمريكية باحتلال العراق دخولا من الجبهة الجنوبية بأقل خسائر بشرية ومادية ممكنة أصبحت خاسرة. فإلى جانب مقاومة الجيش العراقي لهم، فقد فوجئت واشنطن ولندن بمسألة لم تخطر على بالهما، وهي أن سكان العراق في الجنوب والذين 'يعرفون بمعارضتهم لصدام، هم أيضا لم يستقبلوهم بالورود. فالقوات الأمريكية التي كانت تتوقع أن يستقبلها العراقيون بالورود والترحاب والقبل مثلما استقبلها الفرنسيون لدى الحرب العالمية الثانية فوجئت بفتح النار في وجوهها. وطبقا للمحليين الاستراتيجيين، فإن فشل المخططات الأمريكية والبريطانية من الجنوب ولد فراغا في شمال العراق، بحيث باتت مسألة السيطرة على الشمال صعبة جدا ولا سيما أن القصف المتوالي للوحدات العسكرية التابعة لصدام على المجموعات الكردية في شمال العراق منذ يومين يؤكد الفراغ الأمني على حقيقته. ومن هذا المنطلق، فإن عدم تواجد القوات الأمريكية الأمنية في شمال العراق يصعب من مهمة الإنزال الجوي للقوات الأمريكية هناك الذين سيأتون عن طريق الأردن. هذه اللوحة القاتمة أمام الولايات المتحدة لا شك وأنها تدفعها إلى التفكير بحلول بديلة من خلال الاتجاه مجددا إلى جبهة أنقرة، ولا سيما أن المباحثات الأمريكية التركية تجددت أمس في أنقرة بشأن فتح الجبهة الشمالية من خلال اللقاء الذي سيجريه اليوم مستشار بوش عن الشئون العراقية خليل زاده. هذه المستجدات من شأنها تبديد البرودة التي خيمت على الأجواء التركية الأمريكية بسبب رفض البرلمان للمذكرة الثانية. فالحكومة أخذت إذنا خاصا من البرلمان بإرسال قوات تركية إلى خارج الحدود، ورئاسة الأركان بدورها أعلنت أنها أعدت كافة الخطط، وانتهت من كافة الاستعدادات اللازمة، وهي بانتظار الإشارة الحكومية للتحرك الفعلي. وهكذا نرى أن الجبهة الشمالية حامل بالمستجدات والمفاجآت الجديدة التي قد تطرأ من حين لأخر، لهذا السبب يجدر بنا أن ننتبه جيدا إلى جبهة الشمال في الأيام القادمة، فكلما صمدت تركيا ووثقت بنفسها أكثر كلما زادت أهميتها الاستراتيجية والتحالفية أكثر فأكثر.
اللعنة على الوحشية:(14/276)
وعن الوحشية الأمريكية في العراق يتحدث الكاتب الصحفي (أحمد طاشغتيران) من صحيفة (يني شفق) الإسلامية عن ذلك " سنبدأ بهذا المثل الذي ينطبق على جورج بوش "الصياد الظالم الذي يستلذ بذبح ضحيته هو أبشع من كلب الصيد"، ولا سيما أن هذا المثل هو أقل بكثير من وصف مشهد النيران التي تستفرغها مدفعيات وصورايخ القوات الأمريكية والبريطانية على الشعب العراقي البريء. العالم يشهد أقوى قوة حربية في العالم وبجانبها إنكلترا (مع دعم خفي من بعض الدول الضعيفة المحنية الرأس)، وكلهم يتحاملون ويحاربون شعبا عانى من 12 عاما من الحصار وعلى بلد منزوع السلاح. وهم بمثابة الأجدر الذي يبخ النار من فوق على من تحته من الشعب العراقي البريء. من بغداد والبصرة والموصل النيران ترتفع، ولا نعلم بالتحديد كما عدد الصواريخ التي ألقوها على هذه المدن أو عدد الأطفال الذين تآذوا بها ضمن هذه الفترة القليلة. وهل هذا هو النصر؟. وهل من الممكن أن يسجل التاريخ هذه الوحشية كنصر؟. وهل إذا استولت أمريكا على العراق سيعتبر نصرا لها؟. مثلها مثل القاتل الأرعن الذي يقوم بسطو منزل وقتل من فيه بأطفاله ونسائه، هل يمكن وصف ذلك بالنصر؟. العالم يصرخ متمردا ومن ضمنه الشعب الأمريكي والبابا وكل من له قلب ضمير ووجدان في هذا الدنيا. أما في تركيا فهناك البعض من يساند بشكل فاضح النصر الأمريكي ويتمنى لو تقع أو تستسلم أم القصر والناصرية والبصرة وتكريت وبغداد والموصل، ولو يرفع الجيش العراقي الراية البيضاء ويقبل العلم الأمريكي، ومنهم كاتبا كنت أعهد فيه من قبل مقاومته للظلم ودفاعه عن الحق في أيام تركيا الصعبة، إلا أنه اليوم بات وكأنه وقع في الضحال الأمريكية، لم يعد يكتب أو ينطق حرفا واحدا عن هذه الوحشية الأمريكية بل هو يكتب دوما عن الأضرار التي تكبدتها تركيا بسبب عدم تعاونها مع أمريكا. هذا الرجل في برامجه وعلى شاشات التلفاز يخرج للاستهزاء بتركيا ودفعها إلى أخذ مكانها بجانب الولايات المتحدة، فيما كان يجب عليه على الأقل أن يخجل من نفسه وهو يدافع عن العدوان الأمريكي، بينما يرى أن الممثلين الأمريكيين أنفسهم أعرضوا عن حضور حفل جوائز الأوسكار بسبب هذه (الوحشية البوشية)، أو على الأقل أن يأخذ عبرة من البابا. الشعب العراقي يقاوم ويدافع بشراسة عن أرضه، ولم أشاهد على شاشات التلفزيون إلى الآن عراقي واحد وهو يلوح مرحبا بأمريكا، لأنه يدرك جيدا أن الولايات المتحدة لن تجلب له السلام، وليست هي المؤهلة لتغيير نظامه، وكان أذكى من أن يأكل هذا الطعم الأمريكي. أمريكا تولد طاقة غريبة من الكراهية لها في المنطقة، ولن تستلذ بطعم النصر أبدا. فليس الشعب العراقي وحده وإنما شعوب المنطقة بأسرها ضد أمريكا وضد (الذهنية البوشية)، ولن يبقى أمام أمريكا سوى حل واحد للخلاص من هذه الكراهية وهي الإطاحة (ببوش) ومعه عصابته. العالم مقبل على مرحلة جديدة لن ينتصر فيها الظلم أبدا، فأمريكا (ببوشها) ألقت بنفسها في نار لن تتمكن بحياتها من مسح أثارها البشعة عنها، وستبقى على لسان التاريخ الدولة الأكثر وحشية في العالم. وفي الختام، أعرب عن حزني الشديد على الشعب الأمريكي لكونه وضع مصيره في يد هذا المتوحش، وتعاطفي مع الشعب العراقي بمواجهة هذا الجلاد.
لا توجد تصريحات من شارون:(14/277)
ومقارنة للموقف التركي والإسرائيلي من الحرب الدائرة في العراق نشرت صحيفة (ملي غازتة) الإسلامية الموالية لحزب السعادة الإسلامي مقالا في افتتاحيتها فقالت:" قبل أيام قليلة قام وزير الدفاع التركي (وجدي غونول) بزيارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتقى هناك بعدد من المسؤولين الأمريكيين. وقد تداولت الصحف مقتطفات من تصريحات السيد الوزير جاء فيها :" لا توجد نوايا من وراء تأخيرنا للمذكرة. إنما يرجع ذلك إلى التجربة القليلة التي يتمتع بها البرلمان. أعضاء حزبنا العدالة والتنمية تجربتهم البرلمانية ضعيفة، ولكن تجربة حزب الشعب الجمهوري أكثر منا". الحكومة التركية الجديدة تعتذر للولايات المتحدة الأمريكية عن تأخرها في الرد على مطالبها، وكذلك على رفض المذكرة الثانية التي كانت تتعلق بنشر 62 ألف جندي أمريكي على الأراضي التركية. وبعد رؤيتنا للجرائم الأمريكية في العراق، نحمد الله كثيراً على أن تجربة حكومتنا في البرلمان ضعيفة، والله يعلم لو أن حكومتنا صاحبة تجربة قوية لكانت المذكرة ستمر بكل سهولة من البرلمان الأمر الذي سيفتح جبهتين للحرب الأمريكية على العراق، وسيؤدي ذلك إلى تصعيب الوضع المأساوي للشعب العراقي. ومن الملاحظ أن هناك دولتين تلتزمان الصمت حيال الحرب الشرسة على العراق هما إسرائيل وتركيا. في الحقيقة نفهم موقف إسرائيل ولكن الأمر الذي يجعلنا نستغرب هو موقف الحكومة التركية. ولكن ماذا يجب أن تقول تركيا.. ؟ يجب أن يصرح كل من رئيس الوزراء (رجب طيب إردوغان)، ورئيس البرلمان (بولنت إرينج)، ووزير الخارجية (عبد الله غول). ويجب أن يقولوا كباقي دول العالم "أوقفوا هذا العدوان على العراق". أرجوكم تكلموا وقولوا أي شيء. إذا أحببتم أن تقولوا ما لم تقله إسرائيل فافعلوا ذلك. يكفي أن تخبرونا بماذا تفكرون..؟.
وسقط قناع النازية الأمريكية:
وعن الوجه الحقيقي للجيش الأمريكي وللإدارة الأمريكي يقول الكاتب الصحفي (محمد أوجاكتان) من صحيفة (يني شفق) الإسلامية" نعم لقد خسرن إلى الآن، والعالم كله استسلم لهذا "القاتل المهووس"، كلنا في ضعف من أمرنا لا حيلة لنا ولا قوة ونحن نشاهد بخجل هذا "المهووس" وهو يقتل الأطفال والنساء والمشايخ والشباب. لعلنا لم نفطن لحد الآن أن "قطاع الطرق الأمريكان" هؤلاء يرمون إلى إيجاد عالم جديد يترك مكان الحلم الأمريكي كراهية كبيرة، فقد سقط قناع أمريكا بأفلامها اللطيفة، وظهرت على حقيقتها بروحها القاتلة. فهذه الدولة التي ضحكت على العالم باسم جلب الديمقراطية إلى العراق، أطلقت بدلا منها صواريخ المسكيت على الأطفال. أمريكا بدء بالهنود الحمر مرورا بفيتنام وشيلي إلى نيكارغوا وغيرها استلذت بقتل الملايين في حروبها المفتوحة، وهي مع إنكلترا صانعة المواد التي جمعها العراق لتشكيل الأسلحة الكيماوية، وهي التي كانت السبب في قتل ستة آلاف جندي عراقي لدى انسحابهم في حرب الخليج الأولى، وهي المتسببة بوفاة 750.000 طفل عراقي من جراء الحصار المفروض على العراق. وهي وراء عدوان كلبة المال "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني الأعزل وتضييق الخناق عليهم، وهي التي دهست المواطنة الأمريكية (راكيل كوري) تحت عجلات الدبابات الإسرائيلية وهي تدافع عن حقوق الفلسطينيين لمنع هدم منازلهم، وكونوا على يقين من أن (بوش) وعصابته القتلة مستعدين لدهس كل مواطن أمريكي يطالب بالسلام بنفس الطريقة. يعني، بالمختصر المفيد، إننا أمام عصابة مهووسة بكل ما للكلمة من معنى، جن جنونها في العالم دون أن يتمكن أحد من ردعها، ومن الممكن في أي لحظة أن تلقي علينا القنابل وتدهسنا بكل سهولة. وهذا هو الوقت المناسب لإسقاط قناع هذه النازية الأمريكية، لأننا كلنا أصبحنا هدفا لقاتل مخبول يستلذ بمص دماء البشرية. الآن، هناك كراهية غير مسبوقة في العالم تجاه أمريكا التي تقتل أطفال العراق بالصواريخ وتدهس أطفال فلسطين بالدبابات. أمريكا بآلة الموت التي تمسكها يمكن أن تدمر العراق وتقتل الناس جميعاً ولكنها لن تتمكن من إخفاء وجهها البشع هذا عن العالم أكثر من ذلك، لأن النازية الأمريكية قد تعرت اليوم كما لم يسبق لها في التاريخ أبدا.
============(14/278)
(14/279)
يا أمتي لا تحزني إن الله معنا!
د. عوض بن محمد القرني 30/1/1424
02/04/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن الأحداث الجارية أصابت كثيراً من الناس باليأس والقنوط والهلع والجزع، فأحببت أن أسهم قدر الإمكان في مواجهة هذا الطوفان، وقد كان مما علمناه من كتاب الله أن من سنن الله تعالى في خلقه بقاء الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وليعلي بالتمحيص درجات أهل الإيمان ، وليرفع بالابتلاء درجات بعضهم فوق بعض ولتتم مقتضيات حكمته تعالى في إيقاظ الهمم بالنوازل ،وتحريك العزائم بالمحن وإحياء الحمية الإيمانية بالمحن.
ومن ذلك ما نراه اليوم من حشود وأعمال وتحركات من أمريكا ابتداءً بما سمي (الحرب على الإرهاب) وانتهاءً بما نراه من حرب على العراق وفي المقابل ما نراه من تخاذل ووهن من الشعوب والجيوش والحكومات،وكل ذلك ينبئ بأحداث، ضخام وتحولات كبيرة ، تنطوي على أمور قد تكرهها النفوس وأحداث تضيق بها القلوب؛ سيكون مآلها الأخير -بإذن الله - النصر والعز للمسلمين، والتمكين لعباد الله الصالحين ،و تطاير الزبد ،وذهاب الغثاء ، وانقشاع أسباب الذلة والهوان.
وقد ضرب الله لنا أمثالا بالأمم والأنبياء قبلنا ، ومن أكثر القصص في القرآن قصص بني إسرائيل ، وذلك لوجود بعض أوجه الشبه بينهم وبين هذه الأمة ، وقد عاشوا سنين عديدة تحت الذل والهوان، والتسلط الفرعوني بعد أن نسوا ما ذكروا به، وتعلقوا بالدنيا وأَنِسُوا بها وركنوا إلى الشهوات وحب الحياة، ثم اشتد عليهم العسف والأذى قبيل ميلاد موسى عليه السلام ،ولما بلغ أشده وأُكرم بالنبوة زاد عليهم الأذى والظلم ، حتى قالوا (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:129)
و مكثوا على هذا الحال من الاضطهاد سنين عديدة وفيهم أهل الإيمان بالله: موسى وهارون ومن استجاب لهما، ونبي الله يعدهم بالنصر والاستخلاف في الأرض وهلاك العدو،وبعد هذه السنين الطوال أمروا بالخروج وركوب البحر ، فخرجوا من الذلة والهوان (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف: 137).
وفي هذا دليل على أن نصر الله تعالى آت، وزمانه مقبل، ولكنه لا يحسب بحساب أعمارنا القصيرة، ولا يقاس وفق قياسات زمنية قريبة (خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ( الأنبياء:37).
وعلى ضوء ما ذكر؛ وفي ظل الأحداث الراهنة من الحرب الأمريكية الظالمة ضد العراق، وما قد يؤدي إليه من ضربات مضادة تطال الدول المجاورة وخاصة التي أعلنت وقوفها العلني مع الوجود العسكري لأمريكا ، مثل الكويت والبحرين وقطر ودولة اليهود،وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً ، وقد يستتبع ذلك تداعيات عسكرية في فلسطين والأردن،وربما غيرها، هذا فيما يتعلق بالجانب العسكري.
أما ما يتعلق بالتحرك الفكري والاجتماعي فسوف تواصل أمريكا سعيها في الضغط لتغيير المناهج ،وتقليص النفوذ الديني والعلوم الشرعية ،والمؤسسات الخيرية ، والتغيير الاجتماعي من خلال المرأة أولا، والسعي لتغيير الاتجاه العام للمجتمعات من خلال تغيير سياسات التعليم والإعلام وبعض نظم الحكم،ومن خلال التمكين للمنافقين من العلمانيين وأضرابهم والشهوانيين وأشياعهم، والذين بدأوا بالتحرك والظهور والمطالبة.
ولذا فإن الواجب في هذه الأحوال الاستمساك بالعروة الوثقى، والاسترشاد بالهدى المبين من كتاب الله، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، والوثوق بوعد الله واليقين بنصر الله وأن الله سبحانه لن يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها،وأنها أمة مرحومة، كما أخبر الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
ولذا ينبغي أن تكون هذه الأحداث مهما كانت مؤلمة موئل تفاؤل ورجاء؛ لا مصدر يأس وخوف. وأسباب ذلك كثيرة ومنها:-(14/280)
1 - صدق وعدالة ما نحن عليه من دين، وأحقية وخيرية ما نطالب به من قضايا، فالثبات على الموقف العادل، والمبدأ الصادق نصر بذاته. و المسلم يقاتل عن دينه وعرضه من هاجم بلاده ظلماً وعدواناً، والعالم كله يشهد أن أمريكا سارعت إلى العدوان على المسلمين، وأعلنت ما كانت تداريه تحت ستائر السياسة وهذا يبشر بانتقام الله من الظالم ولو بعد حين (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59) ، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل:52) ، (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (النمل:85) ، (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (الزمر:51) ، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:42) .
2 - البغي والاستكبار والغرور والاستعلاء التي اتصفت بها أمريكا: مستكبرة بقوتها وكثرتها وعددها وعتادها، متناسيةً قدرة الله عليها،وذلك مقدمات الخذلان لها بل الدمار مثلما أخبر الله تعالى عن من قبلهم فقال سبحانه: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت:15)
3 - ما في هذه الأحداث من كشف للمرتابين المنافقين ومرضى القلوب وعبدة الهوى والدنيا والوظيفة والجاه عند الخلق: و في هذا الكشف خير عظيم، كما حدث يوم أحد ويوم الأحزاب. قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179) و يبقى بعد ذلك معالجة السماعين لهم والمتأثرين بهم .
4 - ما نراه من حصول الوعي والعبرة للمسلمين ؛أفرادا، وشعوبا، ودولا؛ بما في هذه الأزمات من دروس وعبر، ورفض المشاركة مستقبلا مع العدو أو التحفظ في المشاركة هذه المرة، وهذه خطوة جيدة في الطريق الصحيح، ودليل على أن إنكار الظلم ورد المنكر يثمر ولو بعد حين، وأن الشعوب بيدها الشيء الكثير مهما كان ضعفها وألا نيأس من الحكومات مهما بدر منها.
5 - وضوح السبيل والمفاصلة العقدية: وذلك من خلال استمساك جملة كبيرة من العامة بمبدأ الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين وإدراكهم لبعض مآرب الكفار وبعض مخططات العدو الماكر، وهو ما كان مشوشاً في أزمات سابقة (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:42)
6 - انكشاف أمريكا، وظهور زيف شعاراتها عن العدالة الحرية والإنسانية والحضارة وحق الشعوب في تقرير المصير... الخ حتى في تعاملها مع مواطنيها من المسلمين -فكان الأمر كما قال الله تعالى: ( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(آل عمران: من الآية118)- وإمكانية مخاطبة الحكومات وإشعارها - بحسب الوسائل المتاحة - بأن ما تريده أمريكا استبدال الواقع بجميع أبعاده، بما في ذلك البعد السياسي بواقع آخر يكون أكثر انسجاماً مع المشاريع الصهيونية في المنطقة، وأكثر أماناً لمستقبل إسرائيل.
7 - ما يتوقع من تخفيف ضغط العولمة - ولو إلى حين - وهذه فرصة للتأني والنظر البصير، والاستعداد لمواجهتها بخطط متعقلة وبرامج محكمة. وقد يؤدي ذلك إلى تركيز الاهتمام على التعامل بين البلدان الإسلامية فتكون خطوة ثم تعقبها خطوات بإذن الله.
8 - التقليل من أسباب الفساد الفكري والسلوكي، ومن أهمها: السياحة في الدول الغربية، فالمعاملة غير الإنسانية للمسافرين والمقيمين المسلمين والتي مورست فعلا ،وإن أصابت بعض الصالحين فسينفع الله بها كثيراً من الطالحين الذين ينفقون سنوياً عشرات البلايين في أماكن اللهو وأوكار الفساد ومباءات الفجور هناك، ثم يعودون لبلادهم بكل شر وبلاء.(14/281)
9 - إحياء جملة طيبة من المعالم الشرعية المنسية مثل: قضية الجهاد والولاء والبراء، وفقه السياسة الشرعية كأحكام "دار الكفر" و "دار الإسلام" والراية ، والملاحم مع أهل الكتاب والإقامة في بلاد الكفر، والهدنة والعهد، وأحكام عصمة النفس والمال، وكذلك الأحكام المتعلقة بالتحالف أو الاستعانة بالمسلمين على المشركين،و التعددية وتداول السلطة والرقابة على الولاة، وما أشبه ذلك مما سيكون مادة خصبة للاجتهاد والتفقّه ووزن الأمور بميزان الشرع الحكيم.
10 - ظهور فتاوى شرعية مؤصلة - جماعية وفردية - في جملة من بلاد المسلمين، في القضايا الراهنة واهتمام بعض الغربيين بهذه الفتاوى، واطلاع كثير من المسلمين عليها، مما يقوّي مرجعية أهل العلم والإيمان في أمور الأمة فيسهم في إحياء أصالة الأمة ووحدتها.
11 - الإقبال الكبير على الإسلام في أمريكا وأوروبا، وقد وردت الأخبار والأدلة على ذلك حتى أصبح في حكم المتواتر، ويتوقع أن يتزايد هذا الأمر بعد الحرب ،وهذا في ذاته نصر عظيم وآية بينة على صدق رسالةمحمد صلى الله عليه وسلم ، وغيظ لليهود والنصارى وللمنافقين من أبناء المسلمين .
12 - تقوية الربط بين الأحداث وبين القضية الكبرى للمسلمين (قضية فلسطين)، واقتناع كثير من الناس داخل أمريكا - فضلاً عن خارجها - بضرورة التعامل العادل معها، مما يعضد الانتفاضة المباركة ويسند جهاد المسلمين لليهود، ويزيد قضية فلسطين رسوخا ويزيل كثيرا من الغبش العلماني والشهواني عن مساراتها.
13 - يمكن للعاملين للإسلام -خلال هذه الأحداث وبعدها- القيام بترسيخ مبادئ الدعوة إلى الإصلاح الشامل لحال الأمة ليطابق كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ويسترشد بهدي الخلفاء الراشدين وعصور العزة والتمكين، وذلك بواسطة برامج ودراسات تُنشر للأمة ويخاطب بها الحكام والعلماء والقادة والعامة وستفتح الأحداث بابا واسعا لتطوير وسائل الدعوة لمواكبة المواجهة العالمية الشاملة بين الكفر والإيمان،فبالإضافة إلى الشريط أو النشرة أو الكتيب مثلاً يضاف القنوات الفضائية المتعددة اللغات والصحافة المتطورة، ومراكز الدراسات المتخصصة... والمؤسسات التعليمية والخيرية المُحْكمة التخطيط.
14- يجب على العاملين للإسلام -حكوماتٍ وجماعات وأفراد- أن يدركوا قيمة هذه الفرصة العظيمة (من خلال ما ذكر سابقا وغيره)وأن يجعلوا هذه الأحداث منطلقاً للمرحلة الإصلاحية التالية على مستوى الشعوب(دعوة، وجهادا، وتربية، وتزكية): وهي مرحلة الجهاد الكبير بالقرآن كما قال تعالى {وجاهدهم به جهاداً كبيراً}
15 - قد تنجلي الأحداث وتكون الاحتمالات التي بعدها كثيرة ومختلفة :فقد يحاول الغزاة فرض أساليب جديدة للحياة في المنطقة تحت مسمى الديمقراطية والمشاركة السياسية، أو السعي لتمزيق المنطقة وتفتيتها، أو إبقاء شكل الدول وتبديل مضمونها إلى الأسواء، أو الإلزام بقيام مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والإعلام الحر، وهذا يقتضي الإعداد لهذه المرحلة بكافة احتمالاتها والتي ستكون - في الغالب - مختلفة عما هو موجود الآن، وتكاتف الجهود، والحفاظ على وحدة الأمة .
16 - هذه فرصة كبيرة لتحريك الأمة كلها لمواجهة أعدائها المتكالبين عليها من كل مكان، وترك الاستهانة بأي قوة في هذه الأمة لفرد أو جماعة وبأي جهد من أي مسلم، ونبذ فكرة حصر الاهتمام بالدين على فئة معينة يسمون بـ "الملتزمين" فالأمة كلها مطالبة بنصرة الدين والدفاع عن المقدسات والأرض والعرض والمصالح العامة. وكل مسلم لا يخلو من خير. والإيمان شُعَب منها الظاهر ومنها الباطن، ورب ذي مظهر إيماني وقلبه خاوٍِ أو غافل، ورب ذي مظهر لا يدل على ما في قلبه من خير وما في عقله من حكمة ورشد. وهذا لا يعني إهمال تربية الأمة على استكمال شُعَب الدين ظاهراً وباطناً، بل المراد إجادة تحريك الأمة وتجييش طاقاتها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوب المسلمين هو من أسباب النصر والقوة، ومن دواعي تزكية الصالح، وتوبة العاصي ويقظة الغافل. وهذا جيش صلى الله عليه وسلم خير الجيوش لم يكن كله من السابقين الأولين بل كان فيه الأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وفيه مَن خَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وفيه المُرجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وفيه من قاتل حمية عن أحساب قومه، فضلاً عن المنافقين المعلومين وغير المعلومين، وإنما العبرة بالمنهج والراية والنفوذ التي لم تكن إلا بيد صلى الله عليه وسلم ثم بيد أهل السابقة والثقة والاستقامة من بعده.
ولو لم نبدأ إلا بتحريك الإيمان والغيرة في قلوب مرتادي المساجد ، وكذلك الجيران والأقرباء والعشيرة وزملاء المهنة وإن تلبسوا بشيء من المعاصي الظاهرة،لكان لذلك أعظم الآثار،وأينع الثمار بإذن الله.
والمراد أن يُعلَم أن حالة المواجهة الشاملة بين الأمة وأعدائها تقتضي اعتبار مصلحة الدين والمصالح العامة قبل كل شيء، فالمجاهد الفاسق - بأي نوع من أنواع الجهاد والنصرة - خير من الصالح القاعد في هذه الحالة.(14/282)
17- تتيح هذه الأحداث الفرصة الجيدة لتوعية الأمة بمفهوم نصرة الدين وتولي المؤمنين، التي هي فرض عين على كل مسلم، وأن ذلك يشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل، ولا يقتصر على القتال وحده، فالجهاد بالمال نصرة، وكذلك الإعلام وبالرأي والمشورة وبنشر العلم، وبالعمل الخيري، وبنشر حقائق الإيمان ولاسيما عقيدة الولاء والبراء، وبالقنوت والدعاء، وبالسعي الجاد لجعل المجتمعات الأقرب إلى التمسك والمحافظة قلاعاً ونماذج يمكن أن يفيء إليها بقية الناس، وبجعل منارات العلم والشرع مرجعيات للاستشارة والفتوى،وتفويت الفرصة على العلمانيين والشهوانيين.
18- الفرصة الآن متاحة بشكل جيد لتحويل وحدة الرأي والتعاطف إلى توحّد عملي ومنهجي لكل العاملين للإسلام في كل مكان، يقوم على الثوابت والقطعيات في الاعتقاد والعمل، ويدرس الفروع والاجتهادات بأسلوب الحوار البناء. فاجتماع كلمة الأمة أصل عظيم لا يجوز التفريط فيه بسبب تنوع الاجتهاد واختلاف الوسائل. وما يجمع المسلمين أكثر وأقوى مما يفرقهم. والشرط الوحيد لهذا هو أن يكون المصدر كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، وما كان عليه الأئمة المتبعون في عصور عز الإسلام فمن أعظم أسباب ما أصابنا من بلاء التفرق والاختلاف.
19 - أصبحت إمكانية مطالبة الحكومات بفتح باب الحوار مع الشعوب، وتفهم هموم الشباب ومشكلاته، واستيعاب حماسته فيما يخدم الإسلام حقيقة أكثر من ذي قبل لشعور الجميع بالخطر مع التأكيد على أن هؤلاء الشباب في الأصل طاقة ذات حدين إن لم تستصلح وتهذب أصبحت وبالاً وبلاءً، وهم إذا رأوا الصدق من أحد وثقوا فيه وقبلوا توجيهه، وإذا ارتابوا في أحد أعرضوا عنه وحذّروا منه، فلابد في التعامل معهم من حكمة وأناة وصبر. ولابد من الكف عن الأعمال والإعلام والمواقف المسيئة للدين ولهم، وترك ما يستفزهم من المنكرات، وأن تلغي من تعاملها الحل الأمني الذي ثبت أنه لا يؤدي إلا إلى ردّات فعل أعنف والدخول في نفق مظلم لا نهاية له.
20- الوقت الآن مناسب لتذكير الناس عامة وخاصة: أن أمة تعيش حالة الحرب الشاملة يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف. وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده، وأن تحرص على التأسي بالأنبياء الكرام والسلف الصالح في الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فهي في رباط دائم وثغور متوالية، ولا قوة لها إلا بالله، ويجب أن يصحب أعمالها كلها إخلاص لله تعالى وصدق في التوجه إليه وتوكل عليه ويقين في نصره، وعلى أهل العلم والدعوة أن يكونوا قدوة للناس في هذا كله وأن يضعوه في أولويات برامجهم الدعوية، فإن الله سبحانه وتعالى لم يعلق وعده بالنصر والنجاة والإعلاء والعزة لمن اتصف بالإسلام بل خص به أهل الإيمان كما في قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}. وقوله: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}. وقوله: {ونجينا الذي آمنوا وكانوا يتقون}. وقوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}. وقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
ومن هنا يمكننا - بإذن الله - إذا لم نمنع وقوع الأحداث أن نقوم بتقليل مفاسدها وسلبياتها وأن نوظفها قدر الإمكان لمصلحتنا، وهذا هو حال المؤمن -صاحب القلب الحي والعقل المستبصر- غير يائسٍ ولا متشائم قال تعالى: ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) آل عمران 146-148.
============(14/283)
(14/284)
خفايا زيارة كولن باول إلى تركيا
الإسلام اليوم / طه عودة /اسطنبول 3/2/1424
05/04/2003
احتلت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) إلى العاصمة التركية أنقرة الأسبوع الحالي مكاناً بارزاً في الصحافة التركية، والتي اهتمت لها بشكل كبير، واصفة إياها بأنها جاءت في الوقت المناسب لترطيب الأجواء بين البلدين، بعد التوتر الذي طرأ على العلاقات التركية الأمريكية في الفترة الأخيرة، بعد رفض البرلمان التركي -في الأول من مارس/ آذار الماضي- المذكرة المتعلقة بنشر القوات الأمريكية على الأراضي التركية.
زيارة باول
علق الكاتب الصحفي (فكرت بيلا) من صحيفة (الملييت) واسعة الانتشار على الزيارة التي قام بها باول إلى تركيا، فقال:" لا بد وأن التساؤلات اندفعت إلى عقولكم من جراء هذه الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية الأمريكي كولن باول ولكن الجواب واضح وهو "الحرب". في الحقيقة نحن نجهل ما سيقوله باول لأنقرة في هذه الزيارة غير المتوقعة، أو ماذا أحضر معه من اقتراحات، إلا أننا نعرف أمراً أكيداً، وهو أن هذه الزيارة تؤكد الأهمية التركية لدى الاستراتيجية الأمريكية، وبذلك فقد خابت التوقعات التي قالت بأن العلاقات التركية الأمريكية ستتأزم بعد رفض البرلمان المصادقة على نشر القوات الأمريكية في تركيا، وبالتالي فإن الولايات المتحدة لم تتخل عن تركيا، ولم تحصل كارثة، بل العكس صحيح، كلما صمدت تركيا في وجه الضغوط، كلما عزّزت من مكانتها وموقعها، وفي الوقت نفسه أدركت الولايات المتحدة أنها أخطأت منذ البداية بطريقة التعامل مع تركيا.
لا شك أن السبب الرئيس الذي يظهر من وراء هذه الزيارة هو فشل الخطط الأمريكية من الجنوب والشمال، والتي أثبتت أهمية تركيا العسكرية والسياسية في الخطط الأمريكية. وماذا تنتظر أنقرة من هذه الزيارة؟. طبقا للدبلوماسيين فإن هذه الزيارة من الممكن أن تصحح العلاقات التركية الأمريكية التي توترت مؤخراً، إلى جانب حضور باول بعدة اقتراحات جديدة من أول شمال العراق، إلى مستقبل عراق ما بعد الحرب، إلى آخر قبرص. وبينما يتحدث الديبلوماسيون في اختيار باول لتركيا كأول دولة يزورها بعد الحرب، فإنهم يؤكدون أن رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية التركية أعدت نفسها لكافة الاحتمالات، مما يعني أن تركيا ستضع على طاولة المفاوضات جواباً لكل اقتراح يطرحه باول، مما يفتح أفق المحادثات والتعاون بين البلدين فيما بعد هذه الزيارة.
لماذا جاء باول إلى أنقرة.. ؟
أما الكاتب الصحفي طه أكيول من صحيفة (حرييت) العلمانية، فتساءل عن سبب زيارة باول إلى تركيا في هذا الظرف الصعب الذي تمر به المنطقة:" ما هي المباحثات التي سيخوضها باول في تركيا؟00 الاجتماع الذي عقد أمس برئاسة رجب طيب إردوغان بحث هذا الموضوع، وأول تحليل نتج عنه كان كالتالي: "من المستحيل أن يطلب باول من أنقرة نشر القوات الأمريكية في تركيا". وهناك سببان لذلك:
* من الناحية العسكرية: الطلب المحتمل هو من أجل تمرير القوات الأمريكية مع معداتهم إلى شمال العراق؛ من أجل دخول البصرة، فيما تقوم الاستراتيجية العسكرية الأمريكية -حاليا- على تقوية الجبهة الجنوبية بأسرع وقت ممكن.
* من الناحية السياسية: البرلمان التركي الذي رفض المذكرة قبل أن يرى المشاهد الدموية البشعة والتمرد في العراق، لن يقبل بها أبداً بعد ذلك، وخصوصا في هذه المرحلة، والحكومة ليس لديها أي نية بذلك حاليا، والأمريكيون يعرفون ذلك.
مباحثات باول في أنقرة تقوم على رؤوس الأقلام التالية:
* شمال العراق: باول سيوضح تفاصيل السياسة الأمريكية تجاه الفصائل الكردية، مع تقديم الضمانات لذلك، مقابل ثني تركيا عن الدخول إلى شمال العراق.
" تركيا لا تريد الاشتباك مع الأكراد، وإثارة ردود أفعال إقليمية غاضبة ضدها، كما أن الجنرال (حلمي أوزكوك) أوضح الشروط الثابتة لحماية الأمن التركي، وبالتالي إذا قدم باول ضمانات خطية بذلك، فإن تركيا ستستجيب لهذا الطلب".
* المصالح على المدى البعيد: بالنسبة لأنقرة، فإن الولايات المتحدة ستحتاج -وبشدة- إلى تركيا؛ من أجل تسهيل الخدمات الطبية وتقديم الدعم اللوجيستي في حال بدء الحرب داخل بغداد، لهذا السبب فإن باول يسعى إلى إصلاح العلاقات بين البلدين، وبالتالي فإن أنقرة تنظر بحرارة إلى هذا الموضوع.
* بناء العراق: أمريكا بدأت ترى -بوضوح أكثر- صعوبة تشكيل العراق على هواها، بعد التمرد الذي وجدته هناك، لهذا السبب فإنها بحاجة إلى الدعم السياسي والاجتماعي التركي.
الشراكة الاستراتيجية: الولايات المتحدة ترغب -بالتأكيد- على استمرار العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، بالرغم من رفض البرلمان التركي للمذكرة، وأنقرة تشاركها في هذا الرأي.
* العراق ليس محور تركيا الوحيد: فهناك قفقاسيا وآسيا الوسطى وباكو وجيهان والاقتصاد، وبالطبع المسألة القبرصية أيضا، وغداً فإن باول سيتوجه إلى قبرص لمناقشة هذه المسألة تفصيليا.
حلوا المشاكل كي لا ندخل إلى العراق(14/285)
وحول مراقبة تركيا للأوضاع الجارية في العراق، يتطرق الكاتب الصحفي (فهمي قورو) من صحيفة (يني شفق) الإسلامية إلى هذه القضية فيقول:"كيف ترى أنقرة الوضع الحالي للحرب الأمريكية على العراق؟. وأين وصلت مرحلة المفاوضات حول شمال العراق؟. وما هي الرسالات التي بعثتها واستلمتها تركيا؟. وإلى أي طريق تتوجه العلاقات التركية الأمريكية؟. ولنحصل على هذه الأجوبة، التقينا مع نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية التركي (عبد الله غول) الذي وضح لنا في البداية الوضع بالنسبة لشمال العراق، وقال:"المباحثات متواصلة مع خليل زادة، وتم إبلاغه بالموقف التركي، لهذا فقد ذهب إلى شمال العراق وعاد إلى أنقرة. وستتواصل المباحثات، والوضع كالتالي: لقد وضحنا موقفنا للولايات المتحدة والزعماء الأكراد في شمال العراق، وقلنا لهم:" إذا استطعتم منع نزوح اللاجئين إلى تركيا، والسيطرة على الوضع في منطقة شمال العراق، بعدم نشوب الاشتباكات بين الجماعات الموجودة هناك بشكل لا يهدد أمن وسلامة التركمانيين في العراق. وأخذتم حساسياتنا حول مدينتي الموصل وكركوك بعين الاعتبار، فليس هناك أي مشكلة بالنسبة لنا"، وقلنا لهم أيضا:" في حالة عدم استطاعتكم السيطرة على هذه الأمور، فإن تركيا لن تنتظر الرد من أحد، وستعطي قرارها بنفسها. وهم يدركون جيدا هذا الموقف التركي.
حسنا ما هو مضمون وأهداف المباحثات التي يقوم بها خليل زادة؟.
يمكننا توضيح ذلك على الشكل التالي: دراسة كيفية التنسيق مع تركيا في حالة دخولها إلى العمليات في المرحلة القادمة، وكيف ستكون نوعية التدخل، وعملية التنسيق بين تركيا والولايات المتحدة؟. كما تعلمون أن هناك مركز الاتصالات في "سيلوبي"، ونحن أيضا موجودون في ذلك المركز، مع وجود ممثلين من المجموعات الكردية في شمال العراق.
حسنا وماذا إذا حصلت أي تطورات؟.
تركيا ستعطي قرارها بنفسها، ولقد حذرناهم من التدابير التي يجب اتخاذها منذ البداية. مثلا يجب اتخاذ التدابير اللازمة لاستقبال اللاجئين؛ لأنه من الصعب جدا السيطرة على الوضع بعد بدء وصول اللاجئين إلى المنطقة، لهذا لقد انتهينا نحن من استعداداتنا بشأن هذا الموضوع، وقلنا لهم إننا سنستقبل اللاجئين خارج حدودنا، ووضعنا خططنا على هذا الأساس.
رسالة من إردوغان
إلى أي حد أثّر عدم مرور المذكرة الحكومية من البرلمان على العلاقات مع أمريكا؟.
هناك ديمقراطية في تركيا، كما أن هناك مؤسسات ولجان مختصة لكل عمل، ويجب احترام القرارات التي تتخذ بشكل ديمقراطي. بالطبع الولايات المتحدة انزعجت من عدم التعاون التام معها، ولكنها احترمت القرار التركي الذي اتخذ بشكل ديمقراطي. الولايات المتحدة تظهر لنا هذا الاحترام، ولكن -مع الأسف- هناك من لا يحترم قرارنا داخليا تحت ادعاءات بأن الوضع في البلاد سيكون سيئا جدا بعد هذا القرار. لقد خاب ظنهم؛ لأننا اتخذنا التدابير اللازمة لاحتواء الوضع، كما أن الولايات المتحدة تفهمت وضعنا. كما يجب عدم التهاون بتعاوننا مع الولايات المتحدة؛ لأننا نقوم بواجباتنا كدولة متحالفة مع أمريكا، ويجب عدم استصغار المجال الجوي الذي فتحناه أمام الولايات المتحدة التي قدرت هذا الموقف كثيراً، ولكننا نحن نصغر أنفسنا ومواقفنا بأيدينا. الولايات المتحدة تدرك جيدا أهمية وقيمة تركيا، وتعد حاليا رسالة تضم رأي جميع أعضاء الكونغرس الأمريكي حول العلاقات القائمة بين البلدين لترسلها إلى رئيس وزرائنا السيد رجب طيب إردوغان. وستتضمن الرسالة معلومات حول الوضع الحالي والمستقبلي لهذه العلاقات، كما أن رجال أعمالنا واللوبي التركي في الولايات المتحدة يواصلون نشاطاتهم بهدف الحفاظ على مستوى العلاقات بين البلدين، وليس هناك أي تدمير في العلاقات حاليا أو في المستقبل.
هناك انتقادات على سكوت إردوغان والحكومة حول التطورات الحالية في الأوضاع؟.
أنا لا أشارك في هذه الانتقادات؛ لأننا كل يوم نظهر أمام الإعلام، ونعلن عن موقفنا وأفكارنا، سواء كنت أنا أم السيد إردوغان، ولسنا صامتين حول ما يجري في الدنيا حاليا، ولكن الإعلام التركي يفضل التصريحات التي تطلقها المؤسسة العسكرية. في الأصل أن المؤسسة العسكرية لم تدل بتصريحات مناقضة لما نصرح بها نحن، والأهم ما في الموضوع هو أن هناك توافقاً كبيراً في مستويات الدولة حول الموقف التركي من الحرب الأمريكية على العراق، والدليل على ذلك البيانات الصادرة من وزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، ورئاسة الوزراء، ورئاسة الأركان توافق على نفس الرأي.
مكان تركيا ودورها(14/286)
وحول المكانة المهمة التي تحتلها في المنطقة يقول الكاتب الصحفي (فكرت بيلا) من صحيفة بيلا: " ردود أفعال كل من إيران وسوريا في احتداد مستمر ضد الولايات المتحدة، فبينما تقول سوريا "لقد نفد صبرنا" فإن إيران تقول "ما تقوم به الولايات المتحدة هو مخالف لقوانين الأمم المتحدة". وفي نهاية الأسبوع الجاري، سيقوم وزير الخارجية الإيرانية كمال خرازي بزيارة أنقرة. بعد احتداد ردود أفعال هاتين الدولتين، فإن لهجة التهديد الأمريكية ارتفعت ضدهما، وهذه اللهجة تشير بوضوح إلى إستهدافهما عسكريا بعد الحرب على العراق، الأمر الذي عضّد من مواقف هاتين الدولتين تجاه دعم العراق، وهو ما يُستشف من زيارة كولن باول المفاجئة إلى أنقرة، والتي تهدف إلى تعزيز العلاقات مع تركيا، مقابل استثناء محوري سوريا وإيران وإبعادها عنهما. لا بد أن واشنطن بدأت ترى في تركيا ممثل رئيس في السياسة الإقليمية بدلا من أن استثنائها منها. كما لا بد وأن واشنطن فكرت أيضا بأن مواقفها الحساسة من تركيا -مؤخرا بسبب رفض البرلمان التركي للمذكرة- قد يدفع بأنقرة إلى التوجه والتقرب نحو إيران وسوريا، وهو الأمر الذي لن يكون لصالح الولايات المتحدة أبداً، كما أن استقطاع تركيا من السياسة الأمريكية سوف يجعل إسرائيل في عزلة إقليمية. ووسط هذه الشروط، ما هي الرسالة السياسية التي حملها كولن باول إلى أنقرة؟ وما معنى تصريحاته بأن تركيا سوف يكون لها دور كبير في بناء العراق من جديد؛ نظراً لتشكيلها نموذجاً حياً للديمقراطية في المنطقة؟. ولدى بحثي عن هذه الأجوبة التقيت بعدة ديبلوماسيين، واستخلصت منهم النتائج التالية: بأن باول أعطى رسالة واضحة بأن العراق ما بعد الحرب سيكون نموذجا عن تركيا، ولكن أي نموذج؟ عراق ديمقراطي، علماني، يقوم على سوق اقتصادي حر، أكثرية سكانه من المسلمين .. هذا هو تعريف المحيط السياسي الذي التقيت به لزيارة باول. أما بالنسبة للرسالة السياسية التركية التي وجهتها لواشنطن، فهي أن "تركيا تهدف إلى حماية وحدة أراضي العراق وسياسته، واهتمامها السياسي بالعراق يتمحور حول هذه النقطة". كما لا شك أن الأغلبية الشيعية في إيران تقلق الولايات المتحدة ما بعد الحرب، لهذا فهي تريد أن تجعل من العراق نموذجا كتركيا وليس كإيران، ولهذا السبب فإن الحاجة الأمريكية لتركيا -سياسيا وعسكريا- بدت واضحة الآن أكثر من السابق. الحديث حول النموذج التركي كان دائراً أيضا أثناء الحرب على أفغانستان، ولكن بعد انتهاء الحرب، لم يتم تشكيل أي نموذج تركي، ولا سيما أن تطبيق نموذج جديد على العراق سيكون أصعب بكثير من أفغانستان، ومن هذا المنطلق يبدو أن الحكايات الأمريكية عن نموذج تركي لا تتعدى كونها مجرد ملعقة عسل تضعها في فم تركيا لتحليتها مؤقتا .
خريطة الطريق
وعن المقاومة الشديدة التي واجهتها القوات الأمريكية في العراق، يقول الكاتب الصحفي مليح إشك:" الشعب العراقي نسف -بقبضة من حديد- الحيلة السياسية التي ابتكرتها أمريكا من أنها تأتي "بالديمقراطية والحرية" إلى العراق، بينما هي تأتي في الواقع بأكبر عملية سرقة في التاريخ للنفط وإبادة الشعب العراقي. والآن نتابع هذه المستجدات:
* عندما وجدت أمريكا صعوبة في النيل من صدام، فإنها تحولت إلى المدنيين، وهي بذلك تثير حقد وكراهية العالم العربي والإسلامي، وتغامر -باستهتار- بمواجهتهم، والدخول معهم في نفق لا خروج منه.
* لم تعد هناك نقطة للنهاية .. فأمريكا لن تربح الحرب إلا عندما تزيح صدام عن كرسيه، وحتى لو تمكنت من إسقاط نظام صدام فإن نصرها سيبقى مؤقتا ومرهونا بالمعارضة الشعبية التي لن ترتاح قبل طردها من أراضيها.
* أمريكا فقدت فرصتها في التحكم بالعراق وتشكيله وفقا لمصالحها، وهو الأمر الذي يواتي المصالح التركية.
* الخوف الأمريكي من خسارة الحرب دفع بالأكراد إلى التردد بشأن الدخول إلى الموصل وكركوك، وهو الأمر الذي تنفست تركيا له الصعداء.
* غرق الولايات المتحدة في وحول العراق يبدو أنه سوف يلغي سلسلة من مخططات وسيناريوهات الحرب الأمريكية الدموية بشأن إيران وسوريا وغيرها من الدول في المنطقة. وهو من صالح تركيا أيضا.
النائب في حزب الشعب الجمهوري (بولنت تالا) تكهن -من خلال استطلاعات الرأي التي أجراها- أن بوش سيغادر كرسيه قبل أن يرى نهاية الحرب، وأنا بدوري أتمنى أن يتحقق تخمينه هذا .. يا لسخرية القدر فالذي ضرب مبنى التجارة العالمي ارتكب عملاً إرهابياً، أما من ضرب سوق بغداد فإنه ارتكب عملاً تحريرياً!!!. هناك من يقول بأن أمريكا بدأت تنسحب من قواعد مردين كزلتبه ونسيبان التي اتفقت مع تركيا -في الثامن من شباط- على تحديثهم، بينما نفت وكالة أنباء "يوبي" هذا الخبر مدعية أن "جو يننغتون" السفير الأمريكي لدى أنقرة أعلن أنهم ينتظرون الإذن من تركيا في شهر أيار/مايو القادم؛ للتمركز الفعلي في هذه القواعد، مما يعني أن أمريكا لا تذهب بل.. تأتي.(14/287)
وفي الختام يمكن القول إن الإصرار الأمريكي للحصول على الدعم الأمريكي يعكس -بوضوح- فشل المخططات الأمريكية في احتلال العراق إلى الآن، ويؤكد أن واشنطن باتت تعلق آمالها على تركيا؛ لتحقيق هدفها الحربي في العراق.
============(14/288)
(14/289)
فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدَّا
د.عبد اللطيف بن عبد الله بن يوسف الوابل 3/2/1424
05/04/2003
إن الأحداث التي تمر بها أمتنا الإسلامية ومنطقة الخليج بوجه خاص لتوجب على كل مسلم أن يشارك بما يستطيع من قول الحق للدفاع عن دينه وأمته التي تتعرض لأخطر أزمة مرت عليها في تاريخها الحديث إن لم يكن في تاريخ الأمة على الإطلاق ، لقد علمنا الإسلام عقيدة القضاء والقدر وأنه لا يتحرك في الكون صغير ولا كبير إلا بإذن الله سبحانه وبأمره ( الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور ) فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . لك الحمد في السراء والضراء . لك الحمد فأنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق و صلى الله عليه وسلم حق . لك الحمد فنحن عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماضٍ فينا حكمك عدل فينا قضاؤك . لك الحمد أنت المتصرف وحدك في الكون فما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن ، اعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، اللهم فأجعل لنا من أمرنا رشداً وفرجاً ومخرجاً ، اللهم اهدنا الصراط المستقيم في جميع أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا .
أيها الأخوة القراء في هذا المقال الذي هو بعنوان " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدَّا" سيكون الحديث فيه عن أربع قضايا : -
أولاً : لمحة عن تسلسل الأحداث الجارية .
ثانياً : سنة الله سبحانه في الأمم المكذبة .
ثالثاً : مكر الله بالقوم المجرمين .
رابعاً : نصائح عامة للأمة .
أولاً : - لمحة عن تسلسل الأحداث الجارية :(14/290)
هذه لمحة موجزة نبين فيها تسلسل الأحداث التي أحاطت بأمتنا اليوم فبعد قيام ما يسمى " الإنتفاضة الأولى " للمجاهدين في فلسطين وبداية مرحلة ( أطفال الحجارة ) حينما استيقظ المجاهدون في فلسطين وأعدوا ما استطاعوا من قوة لمواجهة الاحتلال الصهيوني أحست دولة الكفر والطغيان ، ودولة اليهود أن بقاءها أصبح معدوداً وأنها تمر بمرحلة خطيرة ولأن القوم قد تعلموا من تاريخهم أنه لا بد لهم من مسابقة الأحداث والتخطيط المنظم لتلافي الأخطار المحدقة بهم قبل وقوعها أوعلى الأقل تأخيرها ، ولأن اليهود يعلمون حقيقة عضب الله عليهم وأنهم لا قرار لهم بدون المكروتجييش الآخرين في صفهم كما ذكرالله عنهم ذلك بقوله : " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وكذلك فهم يعلمون أن بداية زوالهم سيكون مع بداية أول طلقة جهادية في فلسطين ، ومن ثم فقد تداعى القوم وبذلوا جهوداً حثيثة مع شركائهم وحلفائهم الأمريكيين وبعض الأوربيين ليجدوا مخرجاً من هذه الأزمة الخانقة وبعد تفكير طويل وتخطيط ماكر وجدوا أن الحل هو في ضرب الفسطينين بعضهم ببعض ليتم لهم خنق أنفاس المجاهدين ببني قومهم وليسلم اليهود من شرر المعركة وحتى يكون وقودها من الفلسطينين سواءً أكانوا من الحركات الجهادية أم من الحركة العلمانية ، وبدأ فصل جديد في القضية الفلسطينية إذ بدأ مشوار السلام الزائف وعقدت له المؤتمرات والتي من أهمها مؤتمر مدريد واستمر تخطيط القوم ومكرهم ووصلوا إلى مرحلة كادت أن تكون نهاية لمرحلة الجهاد الفلسطيني إذ استطاعوا بالتعاون مع حلفائهم وأنصارهم من المنافقين أن يحيطوا مِعْصَم المجاهدين بسوار من أهل الغدر والخيانة ، ولكن الله سبحانه كان لهم بالمرصاد فأبطل كيدهم كما قال سبحانه :" فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب " فقتِل رابين بأيدي اليهود واختل توازن منطقة الشرق الأوسط حيث تولى الحكم في تركيا في تلك الفترة حزب الرفاه فكان ذلك لصالح المسلمين وكان فيه تخفيف من الله ورحمةٌ وفَشِل وقتها مؤتمر شرم الشيخ الذي كان برعاية أمريكية وكان من المقرر فيه أن تجتمع المنطقة بكاملها لمحاربة الدعاة المصلحين واحباط كل محاولة لدعم المجاهدين في فلسطين وغيرها وهكذا أخي الحبيب فإن الله سبحانه ينصر عباده المؤمنين من حيث لا يشعرون . " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " . " كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين " . وجاءت حكومة نتنياهو (1) ذلك العدو الشرس الذي أسس وخطط مع فريقه المعروف باسم ( فريق بيبي الحديدي ) للتأكيد على أن الحوار مع العرب يجب أن يتم من مواقع القوة فقط ، الأمر الذي يتطلب الحفاظ على التفوق العسكري والاقتصادي الدائم لإسرائيل على العالم العربي ، بل وحتى الإسلامي ، واقترح نتنياهو التخلي عن العملية السلمية وعن اتفاقات أوسلو مع الفلسطينين وأقنع ذلك الفريق الماكر ساسة اليهود بأن العراق هو العدو اللدود المستقبلي لهم بما يملكه من إمكانات مالية وبشرية وفكرية فهو الجزء المتبقي من العالم العربي الذي يمكن من خلاله نشوء قوة للمسلمين تهدد أمن وسلامة اليهود في المنطقة ولذلك سعى هذا الفريق لإقناع إدارة كلينتون بذلك ولكنه فشل فانتقل إلى التخطيط لمرحلة ما بعد كلينتون ووجدوا بغيتهم في الرئيس بوش وفريقه العسكري الذي يحمل أفكار اليمين اليهودي الصهيوني ليصبح " ربيباً لليهود وابناً باراً لهم في تنفيذ مخططات غدرهم ومكرهم وتناغم الفريقان فريق بوش الأهوج مع فريق شارون الأحمق لتنفيذ أفكار المنظر نتنياهو . وفي ظل هذه التطوارت عادت جحافل المجاهدين بقوة لتبدأ مرحلة ما يسمى " الإنتفاضة الثانية " والتي قلبت معادلات الصهاينة حيث وجدوا أنفسهم مرة ثانية في شراك المجاهدين أولئك الذين لا يهابون الموت ودخل اليهود في سلسلة من الجرائم والهزائم السياسية والعسكرية والاقتصادية والأخلاقية وانهارت اسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي لعدم قدرته على مواجهة- أطفال الحجارة - المجاهدين وحاملي البنادق الصابرين فهم دائماً يرددون : الله مولانا ولا مولى لكم . قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فما أسرع اقبالهم على الجنات .
عند هذا المأزق وجد اليهود أن أقصر طريق للخروج من الأزمة هو افتعال أزمةٍ مجاورةٍ تستطيع من خلالها توريط بوش وإدارته لنجدة الصهاينة من المأزق فكانت العراق هي أفضل دولة مناسبة لذلك ليضرب الصهاينة عصفورين بحجر واحد .(14/291)
وبعيداً عن الجدل حول من خطط ونفذ أحداث 11 سبتمبر وما هو دور الموساد وعملائه في المنظمات اليهودية في أمريكا وهل تم التخطيط والتنفيذ من طرف واحد أم أن التخطيط من طرفٍ استدرج الطرف الآخر للتنفيذ ليتم للعدو الماكر تطبيق استراتيجيته فإن الحقيقة التي يتفق عليها المسلمون هو أن ما حدث انتقامٌ من الله سبحانه واذلالٌ وكسر لدولة البغي والطغيان التي تجرأت حتى على الرحمن وظنت أنها لن تعجز الله هرباً . وكما قال سبحانه : " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً " وبعيداً كذلك عن الجدل الدائر حول أهداف الحملة الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي وهل الهدف هو الإستيلاء على منابع النفط أم للسيطرة والهيمنة على العالم والتحكم في مراكز ثرواته أم حماية اسرائيل أم هذه الأهداف جميعاً فإن مما يتفق عليه العقلاء من المسلمين أنها حرب على الإسلام وأهله لمحاولة القضاء على ذلك العملاق الذي بدأ يترعرع ويخرج من حدود إمكانية السيطرة عليه فهم يعرفون أنه لا بقاء لهم مع قوة الإسلام وظهوره ، وهذا ما حمل أمريكا بإصرار شديد على المضي في المعركة مهما كلفتها حتى مع وقوف العالم كله في وجهها فهي قضية استراتيجية بالنسبة لها ولم تكن أفغانستان إلا مجرد استعراض للقوة والجبروت ولكنه أمر الله الغالب وقضاؤه النافذ لحكمة يعلمها فهو الحكيم الخبير . "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
ثانياً : - سنن الله سبحانه في الأمم المكذبة .
أيها الأخوة الفضلاء وإذا كانت الأحداث بهذا التخطيط الماكر وكنا نحن المسلمين المستهدفين من هذا التخطيط الذي لم نستعدّ َله ولم نأخذ له العدة فقد ابتلينا والله المستعان بداء التباطؤ وأن تكون أفعالنا وخططنا ردود أفعال وإلا فقد كان بالإمكان التخفيف من وقع المصيبة لو كنا على مستوى الأحداث و مع هذا فظننا بالله عظيم ويقيننا به سبحانه أنه يدافع عن أوليائه الصادقين ، وسنن الله سبحانه لا تتغير ولا تتبدل وهي ماضية في الآخرين كما كانت في الأولين . والقرآن حين يتحدث عن حال الأمم الماضية ومعاملتها لأنبياء الله ورسله وطغيانها وتكذيبها لهم وما حلَّ بهذه الأمم المكذبة من الهلاك والدمار إنما مقصوده تعزية المؤمنين وتثبيتهم ومواساتهم والتأكيد لهم بأن الله يدافع عنهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو إنذار وتحذير وأخذٌ للعبرة من إهلاك الأمم السابقة الحذر من الوقوع في أسباب الهلاك . فعلى سبيل المثال فهذه عاد طغت وبغت وكذبت رسولها هود عليه السلام أولئك الذين وصف الله قوتهم بقوله : " ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد " ولكنهم تجبروا وتكبروا وقالوا لنبيهم استهزاء واستهتاراً " من أشد منا قوة " فرد الله عليهم بقوله : " أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون . فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون ". وهذا فرعون يقول تجبراً وطغياناً " يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غير فأوقد لي يا هامان على الطين فأجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين . واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون . فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين " ويصف لنا ربنا سبحانه حال هذا الطاغي المتجبر وإذلاله لموسى عليه السلام ولقومه وعدم مبالاته بهم وذلك بعد هزيمته السياسية في مقابلة حجج موسى عليه السلام : " فأرسل فرعون في المدائن حاشرين . إن هؤلاء لشرذمة قليلون . وإنهم لنا لغائظون . وإنا لجميع حاذرون ". فكانت النتيجة ما أخبرنا الله عن حالهم :" فأخرجناهم من جنات وعيون . وكنوز ومقام كريم . كذلك وأورثناها بني إسرائيل . فأتبعوهم مشرقين . فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين . فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم . وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين . ثم أغرقنا الآخرين ". وهكذا فإننا حين نستقرئ ما ذكره الله عن حال الأمم المكذبة نجد أن سنة الله ماضية فيهم بأنْ دمرهم تدميراً ولكنْ لكل أجل كتاب " ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً " وكما قال سبحانه :" وكم قصمنا من قرية كانت ظالمةً وأنشأنا بعدها قوماً آخرين . فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون . لا تركضوا وأرجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون . قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين . فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ".(14/292)
وإذا تأملت أخي الكريم حال الولايات المتحدة الأمريكية وما هي عليه فإن سنن الله سبحانه تجمع على أنها تنتظر عقاباً الهياً مدمراً يمزقها تمزيقاً . فما بلغت أمة في الطغيان والجبروت والكذب والإفساد في الأرض والصدِّعن سبيل الله ومعاداة أولياء الله ومطاردتهم وتعذيبهم بأشدِّ الأسلحة فتكاً وتدميراً . أقول ما بلغت أمةٌ في ذلك ما بلغته أمريكا عليها من الله ما تستحق . وإليك عرض موجز لأسباب الهلاك التي يمكن أن نستقرأها من حال هذه الدولة الكافرة ( من أراد التفصيل فليعد للمقال الذي في مجلة البيان - العدد 179 - ص 84 - د سامي الدلال) .
1. الكفر والصد عن سبيل الله ومطاردةُ المجاهدين والدعاة والمصلحين والمؤسسات الخيرية والتضييق عليهم بالأساليب غير المباشرة سابقاً عن طريق عملائها أو بالأساليب المباشرة الآن بعناصر مخابراتها دون حياء أو خجل ، وفي الحديث : " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " فكيف وهي تعادي كل أولياء الله بل وتعادي الربَّ سبحانه استكباراً وعناداً . قال تعالى : " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد" " ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين" .
2. التأله : فقد أدعت أمريكا لنفسها من القدرات ما لا يليق إطلاقه إلا على الله تعالى ، فهي تتعامل مع الدول الأخرى ولسانُ حالها يقول : " أنا ربكم الأعلى " " أنا أفعل ما أشاء " " من أردتُ بقاءه أبقيته ومن أردت إهلاكه أهلكته " وكأنها هي المتصرفة في تدبير شؤون الكون . ولذلك قال بوش في خطابه للرئيس مشرف ( رئيس باكستان ) أمامك خياران : إما أن تدخل في حلف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب وإما أن نعيد باكستان إلى العصر الحجري . ولهذا فهي تنتظر ما حل بفرعون وقومه : " ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" .
3. الظلم : - لا يختلف اثنان على الحجم الهائل للظلم الذي أوقعته أمريكا على الدول والشعوب والأفراد فهي رائدة الظلم على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري فقد نهبت ثروات الأمم والشعوب وتسلطت على المنظمات الدولية ذات الطابع الدبلوماسي والاقتصادي كهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والبنك الدولي ومن يخرج عن رأيها ترهبه بالقوة العسكرية وبالتجويع فهي الدولة الوحيدة التي استخدمت أشد الأسلحة فتكاً ( القنبلة الذرية ) في اليابان وهي الرائدة في تصنيع وتصدير الأسلحة الكيميائية والجرثومية وهكذا ولدت مع الظلم حيث مارس المستعمرون الأوائل حرب إبادة على السكان الأصليين من الهنود الحمر واستمر مسلسلها الإجرامي الدامي في فيتنام والصومال وأفغانستان وغيرها والآن على المسلمين في العراق . فقد ذكر أحد العسكرين الروس أن حجم ما صُبَّ على العراق من القنابل والصواريخ في الخمسة الأيام الأولى يعادل أربعة أضعاف حجم القنبلة التي ضَربت اليابان . أطنان من القنابل دون تمييز أو رحمة وبشكل مستمر ترعب به النساء والشيوخ والأطفال فلا أمن ولا نوم ولا أمان فويل لها من الرحمن ثم انظر أخي الحبيب إلى مطاردتها للدعاة والمجاهدين في فلسطين وكشمير والفلبين وأفغانستان والشيشان وفي كل مكان ترفع فيه راية الجهاد شتت شملهم وأرملت نساءهم ويتمت أطفالهم . كل ذلك ضدَّ الشعوب الإسلامية بغية القضاء على دينها وامتصاص ثرواتها والهيمنة على ممتلكاتها واستثماراتها والسيطرة على أراضيها فقد احتلت البر والبحر والجو . إنه ظلم عالمي تقوده أمريكا لم يشهد له العالم مثيلاً على مرِّقرونِه وتعاقب دهوره فهل بدأت نهايتها كما قال سبحانه : " وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون " " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين " " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد " .
4. البطر : وهو كفر النعمة ويكون بأحد أمرين إما بجحد المنعم بها وإما بعدم شكره واستخدامِها في غير ما خلقت لأجله . كصناعة الخمر من العنب وغيره وكالمتاجرة بالجنس وتصنيع أسلحة الدمار الشامل وذلك لإخضاع الأمم ظلماً وعدواناً وبطراًوغير ذلك . والمتأمل لأسلوب ومنهج حياة الأمريكيين يرى أن جميع هذه الطامات الكفرية موجودة فيهم ، كل بحسبه فهي الرائدة في جميع أنواع الكفر والفساد بدءاً من أفلام الجنس والخلاعة والرعب ونهايةً بالتباهي بالقوة وأسلحة الدمار الشامل ولسان حالهم يقول إنهم هم القوة العظمى فهي تجول في البحار والأجواء والبراري بحاملات الطائرات والمدمرات والصواريخ شرقاً وغرباً وهذا هو البطر بعينه والذي هو من أسباب اهلاك الله للأمم " وكأين من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين ".(14/293)
5. الاستكبار والغرور : - إن الحرب العالمية الثالثة تقودها أمريكا وتسميها حرباً على الإرهاب وهي حرب على الإسلام وهذا من أعظم الاستكبار في الأرض فمن يحارب دين الله وأولياءه فقد استكبر وعتا عتواً كبيراً . لقد كانت في عتوها واستكبارها تستعرض قوتَها الهائلة في أفغانستان ، ذلك البلد الفقير الممزق فهل كان يحتاج كل هذا الطغيان وحجم القنابل بكل أنواعها دون رحمة ببني الإنسان وها هي اليوم تعود لتصب جام غضبها على المسلمين في العراق ذلك البلد المحاصر عشرات السنين فما ذنب شعب العراق فحسبنا الله ونعم الوكيل . قال تعالى : " وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً" . هذه بعض أسباب هلاكهم ولعله قريباً إن شاء الله وما ذلك على الله بعزيز فقد أهلك الله أمماً بذنب واحد فكيف إذا اجتمعت هذه الأسباب وغيرها . إنه والله الهلاك الأكيد " ولكنكم تستعجلون ". ونريد نصراً على طبق من ذهب دون جهاد أو تضحية .
ثالثاً : مكرالله بالقوم المجرمين .(14/294)
إن من سنن الله سبحانه الواضحة الجلية أنه سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " . " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وكذلك فإنه سبحانه يسلط الظالم على الظالم ثم ينتقم من الجميع وإذا كانت أمريكا قد غَرِقت في الكفر والفساد فإنها كذلك قد أسرفت في المكر والكيد فما من دولة إلا ولها فيها عيون وجواسيس ومفسدون كثر يثيرون النزاعات ويراقبون التحركات ويدفعون الرشاوى للكبار وللصغار ترغيباً وترهيباً ويوقعون بين مختلف الأحزاب والجماعات والدول ويدبرون المؤامرات ويشعلون نار الحروب . وفي السنوات الأخيرة كشفوا أقنعة مكرهم وأظهروا صدق عداوتهم للإسلام والمسلمين وعرَّوا مقولة بعض المخدوعين من المسلمين بأن أمريكا دولة صديقة ونسوا أن الله سبحانه قد قال عنهم وعن أمثالهم " لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون " . " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " . إن دينهم المصلحة ، فحيثما وُجِدتْ ركبوا لنيلها الصعابَ ولوكان في ذلك تدمير أمة بكاملها . لقد اتبعت هذه الدولة الكافرة سنن الأمم المتجبرة في المكروالكيد ، ولهذا سينالها بإذن الله وقريباً إن شاء الله ما نال الأمم الماكرة من قبلها . قال تعالى " وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً " وقال تعالى : " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " وقال سبحانه :" أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين . أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم " . " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وقال تعالى : " فلما جاءهم نذير مازادهم إلا نفوراً . استكباراً في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً " . وإن من أعجب مكرالله بالأمم ما قصه الله علينا من قصة فرعون مع موسى عليه السلام وقد سبقت الإشارةُ إليها وكذلك ما قصه الله علينا من مكر الملأ من قوم ثمود مع صالح عليه السلام يوم تجبروا واستكبروا فقال تعالى عنهم : " وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون . قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون " روى ابن كثير رحمه الله عنده الآية عن عبد الرحمن بن أبي حاتم أنه قال : لما عقروا الناقة قال لهم صالح : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب " قالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام ، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث ، وكان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف ، أي غار هناك ليلاً فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم ، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا ، فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ولا يدرون مافُعل بقومهم ، فعذب الله هؤلاء ههنا وهؤلاء ههنا ، وأنجى الله صالحاً ومن معه ثم قرأ : " ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون . فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون " . أي قوم يعلمون الحقائق ويتدبرون وقائع الله في أوليائه وأعدائه فيعتبرون بذلك " وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " . وأمريكا اليوم تمكر بالمسلمين وتخادعهم وتدعي أنها تريد بهم الخير والديمقراطية وإخراجهم من ظلم قادتهم وحكامهم وهي كاذبة ماكرة في كل ذلك فهي التي صنعت كثيراً من هذه الأنظمة ودعمتها ولا زالت في ظلمها وطغيانها وهل النظام البعثي إلا صنيعة من هذه الصنائع وما ذلك إلا ليكون لها الأمر والنهي في بلاد المسلمين فتضرب هذه الدولة بتلك حسب مصالحها وترغب دولة وترهب أخرى وهكذا ولذلك فلعل من مكر الله بهذه الدولة الطاغية ( أمريكا ) أنها الآن جاءت لتصطلي بنار حزب البعث ويصطلي هو بنارها ولعل الله يرحم من بينهم من المسلمين المستضعفين ومع هذا فإن هدفهم الحقيقي من هذه الحملة ليس النظام البعثي وإنما خوفهم من ذلك العملاق الذي بدأ يستيقيظ ويَقُضُّ مضاجعَ الكفر والطغيان حتى في العراق فهناك إقبالٌ على الدعوة وعودةٌ إلى الله ولذلك فإن أمريكا ومن معها من دول الكفر يسابقون الأحداث ليُحكموا قبضتَهم على هذه الأمة المسلمة في عُقر ديارهم وليحيطوا بمصدر هدايتهم ونسي أولئك الكفرة المجرمون أن الله غالب على أمره وأن من يُغالبِ الله يُغلبْ وأنه المهزوم المدحور الهالك لا محالة . " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله(14/295)
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " ومن ثم فإن سنة الله الماضية في أهل المكروالتي ستطوى بإذن الله أمريكا وحلفائها المعتدين عاجلاً إن شاء الله غيرآجل ستكون في أمرين :-
أ- سرعة مجيئها . قال تعالى : " إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكراً إن رسلنا يكتبون ما تمكرون " وقال تعالى " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بينانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " وهنا تجد أنه عقب بالفاء والتي لا تراخي فيها وإنما تعني إلإسراع في العقوبة .
ب- شدة عذابها وتدميرها . قال تعالى : " سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " ولذلك فإن مؤشرات مكر الله بهم بدأت تظهر ومنها على سبيل المثال :
1- وقوع الاختلاف والتفرق داخل المجتمع الأمريكي من جهة وبينهم وبين بني قومهم من الأروبيين من جهة أخرى ، إذ وصل الأمر إلى السباب والشتائم وقريباً بإذن الله سيزداد الخلاف فالحرب الباردة بين أمريكا وأوروبا متمثلة في قطبيها ألمانيا وفرنسا قد بدأت منذ سنوات وما إن تقع الفرقة ويحدث الاختلاف في داخل أمة إلا حل بها الهلاك والدمار وكان ذلك مؤذناً بالزوال .
2- تبين ظلمهم الواضح وبغيهم وعلوهم في الأرض وتسلط الملأ منهم وتجبرهم حتى على الإرادة الإلهية وهذا بلا شك مؤذن لهم بعذاب من الله كما قال سبحانه( )
وقال سبحانه أيضاً ( ) وفي الحديث :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "
3. عزلتها الدولية ووقوف أكثر دول وشعوب العالم ضدها وبروز قوى مناهضة لها صراحة ولأول مرة في تاريخ مجلس الأمن تهدد دولة صديقة لأمريكا باستخدام حق الفيتو ضد المشروع الأمريكي وهي فرنسا . تلك الدولة التي انضمت مع ألمانيا العدوة القديمة ضد الصديقة التي حررتها منها . فسبحان من يدبر الأمر كما يشاء وهذا من مكر الله بأمريكا .
4. ازدياد الحمية الإسلامية في قلوب شعوب العالم الإسلامي وتقاربهم في الرأي ولجأهم إلى الله وعودتهم إلى الدين الحق وهذا من أسباب نصر الله لهذه الأمة وخذلان الكافرين والمنافقين .
5. ظهور انكساروذل أصحاب القلوب المريضة من الذين يسارعون في تولي الكافرين، وخوفهم الشديد من بطش أوليائهم من الكافرين والمكر بهم حتى أصبح بعض من كان بالأمس يسبح بحمد أمريكا يلعنها على الملأ ويتمنى زوالها بعد أن كان يدعوا إلى التبعية والذيلية لأمريكا بلد الحرية والمساواة !!
6. ما حصل في عدد من الدول الإسلامية من تقدم للأحزاب الإسلامية لا سيما في تركيا إذ انتصرت الحركة الإسلامية ووصلت إلى الحكم بأغلبية مطلقة وهذا لم يكن في حسابات أمريكا إذ إنها بذلك قد خسرت ولو على المدى الطويل أقوى حليف لها في المنطقة بعد إسرائيل ، إن لم يكن أهم منها استراتيجياً .
7. انهيار القاعدة الأخلاقية التي كانت تنادي بها أمريكا وتدَّعي أنها الزعيمة الأخلاقية للعالم فانطلاقاً من هذه القاعدة بنت صداقتها مع الآخرين وكسبت مودتها فقد كانت تزعم أنها بلد العدالة والحرية والأخلاق والمساواة وهذا ما دفع كثيراً من أصحاب العقول المتميزين في تخصصاتهم إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة وتفضيلها على غيرها من الدول لما تدَّعي من الحرية والمساواة بين أفراد شعوبها ولكنها اليوم فقدت ذلك وأصبحت زعيمة العنصرية حتى رماها بعض الساسة من الألمان بأنها نازية القرن الواحد والعشرين ، فقد أظهرت الأحداث أن ما تدعيه كذب وسراب خادع وأنها لا تمتلك من الأخلاق ما يمكنها من البقاء .
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … …
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
8. ضعف تعاون المعارضة والشعب العراقي مع القوات الأمريكية المحتلة والتفاف الشعب العراقي للدفاع عن أرضه واعتبار الغزو الأمريكي استعماراً جديداً لإذلال شعب العراق أولاً والمسلمين ثانياً وهذا يعني فشلُ كثير من خُطط الحرب العسكرية وتعثُر استراتيجية الحرب ولذلك تجدهم دائماً يغيرون بين الحين والآخر في خطتهم ويغطون ذلك باستخدام قاموس الكذب والتضليل الإعلامي بل والإرهاب الإعلامي لإخفاء نتائج المعارك وخسائرهم التي حلت بهم . وقد يكون في تأخير عذابهم حكمة لله لا نعرفها :
1- ربما يسلم كثيرمنهم .
2- يقع الإبتلاء والقتال فيختار الله من الأمة الشهداء .
3- ان يهلك الله بهم أمة كافرة لا نعلم عنها وغير ذلك من الحكم التي قد لا تظهر لنا .
رابعاً : نصائح للأمة .(14/296)
أيها الأخوة المسلمون : إن الأزمة التي تمر بها أمتنا الإسلامية هي من أخطر الأزمات في تاريخها لا من حيث طبيعة المعركة أو السلاح المستخدم المدمر الذي يملكه العدو ولا من حيث ضعف المسلمين وتشرذمهم وتسلط المنافقين ومكرهم مع الكافرين وهذه الأزمة هي أشبه بحديث رسول ا صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها " ومع هذا فلنعلم أنه بقدر ما في هذه الأزمة من الشدة والضيق فإن فيها خيراً كثيراً بل هي أول بشائر النصر والغلبة إن شاء الله فهي تبشر بولادة جديدة لهذه الأمة المسلمة ، ولادة ترفع فيها رايات الجهاد وتقال فيها كلمة الحق ويَضْعف فيها جانب الكفر والنفاق يقول تعالى : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرلكم والله يعلم وأنتم لا تعلمنون " ويقول تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " إن من يتأمل حال العالم الإسلامي ليرى العجب في إعراض كثير من أبنائه عن الله سبحانه على مستوى الشعوب والحكومات فقد أصبحت بعضُ بلاد المسلمين أشد فساداً من بلاد الكفر حيث أماكن الفساد ومحاربة الدعاة ونشر الرذيلة ومحاربة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ويكفيك أخي الكريم نموذجاً لهذه الحالة أن تراقب القنوات الفضائية الرسمية وغير الرسمية التي تبث من بلاد المسلمين وكيف أنها في معظمها تهدم القيم والأخلاق والدين لينشأ جيل لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه ولذلك فإني ألمس في هذه الأزمة خيراً كثيراً فلعلها أن تعيد الأمة إلى ربها وحتى تعرف شعوب العالم الإسلامي بل وحتى حكوماته أنه لا ملجأ من الله إلا إليه وأن النصر والتمكين منه وحده وأنه لا نجاة لهم من قوة وجبروت أمريكا وحلفائها الكافرين إلا بالاعتصام بالله فأين قوتهم المادية من قوة أمريكا الطاغية التي تملك من القنابل الهيدروجينية ما يمكنها من تدمير عشرة أضعاف الكرة الأرضية لوأذن لها الرحمن ولذلك فمنذ بداية الأزمة ونحن نرى ونسمع عودةً إلى الله سبحانه وإيقافاً لكثير من برامج ومؤتمرات السياحة الساذجة التي تقابل نعم الله بالجحود والنكران .نعم إن المصيبة إخوتي الكرام هي مصيبة الدين ، هي أن يعرض الناس عن ربهم . هي أن يتنكر المسلمون لدينهم أما أن يجوع المسلم أو يخاف أو يشرد أو يقتل وهو متمسك بدينه فلا شك أن ذلك من المصائب ولكنه لا يساوي شيئاً مع مصيبة الدين.
إن المرزا من يرز ا دينه … …
لا من يرزا ناقةً وفصالاً
إن من نعمة الله على هذه الأمة المسلمة أن يبتليها بالمصائب لتعود لدينها ولربها حتى لا يأخذها على حين غرة وغفلة فتموت على الجاهلية كما قال تعالى : " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد الله رب العالمين " وكما قال سبحانه : " ولوبسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض " ومن الخير كذلك أنه يبتلي عباده بالضراء كما يبتليهم بالسراء ليتم لهم العبودية الكاملة فيجمعوا بين الشكر والصبر ومع هذه الحكمة فلا بد للأمة على جميع المستويات أن تأخذ للأمر عدته وأن تفقه طبيعة المعركة وأنها حلقة في سلسلة متواصلة لحرب صليبية ضروس ضمن مخططٍ رهيبٍ في معركة طويلة بدأت في أفغانستان بل بدأت في تل أبيب و منهاتن " ومروراً الآن بالعراق وإنتهاءً بالقضاء على الإسلام وأهله زعموا !! ولكن هيهات " إن الباطل كان زهوقاً " " إن كيد الشيطان كان ضعيفا" " وما كيد الكافرين إلا في ضلال " .
لقد اجتمعت قوى الكفر في مجلس الأمن على إضعاف الإسلام والمسلمين ولكنهم اختلفوا في الأسلوب فمنهم من يرى استخدام نظرية الموت السريع للعراق وأهله ومنهم من يرى نظرية الموت البطيء ولأنها من بلاد المسلمين فلا مدافع عنها ومع ذلك فقد فرَّق الله أمرهم وشتت شملهم وتلك حكمة العليم الخبير . إن من واجب الأمة أن تبادر على جميع المستويات بالاستعداد لمواجهة العدو سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً وفكرياً ولا يعذر في ذلك أحد من المسلمين كلٌ حسب استطاعته فجنس الجهاد فرض عين على كل مسلم . ولعلي أسوق بعض النصائح إبراءً للذمة ونصرةً للأمة ومشاركةً في بيان الحق والدفاع عن الإسلام وأهله :
أولاً : - إلى علماء الأمة الربانيين ودعاتها المخلصين : -
أيها العلماء أيها الدعاة اتقوا الله في الأمة فأنتم بعد الله صمَّام أمانها ، أنتم ورثة صلى الله عليه وسلم والأمة إنما تنتصر حين تعود إلى الحق والهدى وأنتم أولى الناس ببيان ذلك للأمة ودعوتها إليه فإليكم هذه النصائح على سبيل الإشارة ومن باب تذكيركم عسى الله أن ينفع بها : -(14/297)
1. بيان الحق وعدم كتمانه لا سيما في أوقات الأزمات التي تختلط فيها الأوراق وقد تضطرب فيها بعض المفاهيم الشرعية الأساسية ويصبح الحليم فيها حيران وتلتبس فيها الأفهام قال الله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه " وقال تعالى : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ".
2. التعاون على البر والتقوى والاعتصام بحبل الله جميعاً والبعد عن الإختلاف والتفرق وعصبية الجاهلية وحظوظ النفس والحذر من مرض الزعامة والمصالح الشخصية وتوظيف أزمة الأمة لهذه المصالح الدنيوية . ولذلك فإني أقول لكم أيها العلماء الفضلاء والدعاة المخلصون : ليبادر كلٌ منكم إلى طلب التعاون والتشاور دون أن ينتظر من يدعوه فمن بادر نال الأجر والثواب " ومن سنَّ سنةًّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً "
3. التشاور فيما نزل بالأمة من نوازل ليكون رأياً متحداً تجتمع عليه الأمة بعيداً عن الآراء الفردية التي كثيراً ما يعتريها الخلل والاستعجال .
4. المبادرة إلى الأخذ بزمام الأمور والمسارعة إلى بيان الموقف الشرعي من الأحداث قبل أن يتعجل متعجل أو يجهل جاهل فينفرط الزمام وتقع الفتنة فأنتم من تجتمع عليه الأمة فإذا بينتم البيان الشافي للأمة سمعت وأطاعت .
5. نشر العلم الشرعي وفقه الأزمات والتأكيد على المفاهيم الشرعية ومباديء الدين وأسسه بعيداً عن هزيمة المباديء أو التنازل عنها فإن في ذلك خطراً عظيماً فإذا زل العالم زلت بزلته الأتباع .
6. تثبيت الأمة ودعوتها إلى الصبر والتخفف من حياة الترف والتعود على الإبتلاء والإستعداد الكامل لمواجهة العدو .
7. القيام بواجب الأمربالمعروف والنهي عن المنكر وأن تكونوا في مقدمة الصفوف لإقامة هذا الواجب العظيم فلا يليق بعالم رباني أو داعية صادق أن يرى المنكرات تعم بلاد المسلمين ولا يبادر إلى المشاركة في الإنكار كما أمر الله .
8. مناصحة ومناشدة حكومات العالم الإسلامي ومخاطبتهم بقوة الحق ومطالبتهم بأن يكونوا على مستوى الأحداث وأن يتقوا الله في الأمة فلا يتركوها فريسة لسباع الكفر وأفاعي النفاق .
ثانياً : إلى حكومات العالم الإسلامي وقادته :
يا من ولاهم الله أمر هذه الأمة : اتقوا الله سبحانه واعلموا أن المصير إليه واحذروا من التقصير في حق الأمة وإضاعة حقها وتبديد ثروتها وتركها نهبة لذئاب الكفر والظلم وإليكم هذه النصائح :
1. احذروا من موالاة الكافرين أو مناصرتهم في بغيهم وعدوانهم فقد قال الله تعالى : " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون" وخذوا العبرة ممن سبقكم وظاهر المشركين على المسلمين كيف أنتقم الله منه فمات مشرداً مطروداً .
2. ثقوا بالله وبنصره واعلموا أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء وليس بيد أمريكا أوغيرها فلا تخشوها أوتخافوا سطوتها وسلاحها الفتاك فهي أضعف مما تتصورون والأمر هو لله وحده فإن صدقتم الله بالعودة إليه والتوبة وتحكيم شرعه والعدل في رعاياكم وترك ظلمهم وإعادة الحقوق إلى أهلها ورفع راية الجهاد فإن الله سبحانه سيصدقكم ويمكِّن لكم في الأرض قال تعالى : " فلوا صدقوا الله لكان خيراً لهم " وقال سبحانه :" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " .
3. إعداد الأمة للجهاد في سبيل الله وتصحيح العلاقة مع شعوبكم وذلك بالاستعداد الصادق وفتح ميادين التدريب على الجهاد لشعوب الأمة المسلمة قبل أن يفلت الزمام من أيديكم وتتعدد الرايات وتقع الفتنة بين المسلمين وفي إعداد القوة للعدو أعظم الرعب لدول الكفر وما كوريا الشمالية منكم ببعيد قال تعالى : " وأعدوالهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوالله وعدوكم "
4. رفع الظلم والمعاناة عن شعوبكم وتحقيق المساواة والعدل بينهم في جميع أمورهم وإخراج من كان مظلوماً في السجون والإحسان إليهم واستثمار طاقتهم فإن الله يمكن للدولة العادلة ولوكانت كافرة ويهلك الدولة الظالمة ولوكانت مسلمة فالظلم من أشد أسباب هلاك الدول والشعوب وربَّ دعوة مظلوم سرت بليل كانت سبب هلاك أقوام بكاملها.
5. التوجيه الصادق للإعلام من قنوات وإذاعات وصحف ومجلات لتكون مناصرة للإسلام وأهله بعيدة عن عرض المنكر والفاحشة وكل ما يغضب الرحمن وألاَّ تكون ببغاء لنقل سياسات ولقاءات أهل الكفر والطغيان أهل الكذب والبهتان وأن تنطلق هذه الوسائل الإعلامية من ثوابت ديننا ومسلماته في نقل الخبر وتحليله بعيداً عن الهزيمة الإعلامية أو التباطؤ في اظهار حقيقة المعركة خشية من بطش دولة الكفر أمريكا فالإعلام له دور مهم في المعركة وبعد المعركة فالمعركة نصفان لسان وسنان .(14/298)
6. احترام العلماء الربانيين والدعاة الصادقين وتمكينهم من قول الحق والتعاون معهم بصدق للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر وأفضل النتائج " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب " صنفان من الناس إذا صلحوا صلحت الأمة العلماء والأمراء .
ثالثاً : إلى عموم الأمة :
أيها المسلمون يا من رضيتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وب صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبياً يا من تؤمنون بالله وتوقنون بنصره وبأن الدار الآخرة خير وأبقى . ابشروا فهاهي الجنة تزف إليكم " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " " وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " هاهي رأس الكفر ورائدةُ الظلم قد ألقت إليكم بفلذات كبدها وبأحسن أسلحتهم تقنية بين أيديكم عسى الله أن يجعلها غنيمة للمسلمين تفاؤلاً بقوله تعالى :" وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديراً " لكن أخي الحبيب اعلم أن سنن الله في النصر والتمكين أيضاً لا تتبدل ولا تتغير " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " " إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور " . " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ". وقال سبحانه : " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون " أيها الأخوة المؤمنون إن نصر الله قريب لمن ينصر دين الله لكنه لا يقدم على صحن من ذهب أوباقة من زهور فهو يحتاج إلى تضحيات وجهاد مستمر وخروج عن مألوف حياة الترف قال تعالى : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمايأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم " فإليك أخي المسلم أختي المسلمة هذه النصائح على وجه الإشارة لتكون لكم زاداً في هذه الأزمة الحالكة :
1. اليقين التام بأن ما يحدث هو بإرادة الله وقضائه وأنه وحده سبحانه هو المتصرف في هذا الكون ، فما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن فالأمر له وحده وهو العليم الحكيم فليكن يقينك صادقاً بذلك علماً وعملاً بتفرد الله سبحانه بالأمر بعيداً عن أسطورة أن النصر محقق لأمريكا أو لغيرها أوانها هي التي تتصرف في الكون واعلم أن الأمور بنهاياتها وليس ببداياتها فقد تنتصر أمريكا فترة من الزمن ثم يخرج الله قوماً مجاهدين صادقين يعذب الله جيوش الكفر بجهادهم قال تعالى :" فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار "
2. العودة الصادقة إلى الله سبحانه فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة فلنلجأ إلى الله سبحانه ولننفض عنا غبار الذنوب والمعاصي ولنعمر مساجدنا ليلاً ونهاراً بالصلاة والدعاء والتضرع والتوبة وصدق اللجأ إلى الله سبحانه فإن الفرج مع الكرب وإن مع العسر يسراً فلا يليق بالمسلم الصادق أن يبادر إذا داهمته الأزمات إلى جمع الأرزاق وتخزينها وإن كان لا بأس من فعل الأسباب ولكن ينبغي أولاً المسارعة إلى بيوت الله والتضرع إلى الله ودعائه والتوبة الصادقة من جميع الذنوب " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً " .
3. إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيتك وبين أفراد أسرتك وفي الحي وفي السوق والعمل وفي كل مكان بالضوابط الشرعية التي بينها أهل العلم الربانيين وأن تتعاون مع أهل الإصلاح في تحقيق ذلك فندعوا الناس إلى ترك الربا وأهله والبعد عن مزامير الشيطان وأماكن الفحش وظلم العمال وغير ذلك من أنواع الذنوب والمعاصي الخاصة والعامة .
4. التأخي والتكافل مع إخوانك المسلمين والبعد عن أسباب الاختلاف والتفرق ونبذ عصبية الجاهلية من وطنية وقطرية وإقليمية فالمسلمون أمة واحدة " إنما المؤمنون إخوة " " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "
5. الالتفاف حول العلماء الربانيين والدعاة الصادقين والاستماع لهم والتعاون معهم لدفع الأخطار والفتن عن بلاد المسلمين .(14/299)
6. الصبر والمصابرة وتعويد الأهل على الإبتلاء وتعليمهم بواجب الصبر والاحتساب في ذلك والبعد عن الاستعجال في المواقف أو الإنسياق إلى تفريط أو إفراط والإلتزام بالمنهج الشرعي عند وقوع الفتن وذلك بسؤال أهل العلم والفتوى الموثوق بدينهم وأمانتهم بما يجب فعله والمحافظة على أمن البلاد ووحدتها ومناصحة ولاة الأمر بالتمسك بالحق فإن الخير في الوحدة والائتلاف و الشر في الفرقة والإختلاف " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " .
7. حفظ اللسان من الوقوع في أعراض المسلمين أو الاستهانة بإطلاق أحكام التكفير والتفسيق بدون دليل شرعي وحجة وبرهان فإن ذلك مزلة أقدام ومن كفر مسلماً فقدباء بالكفر أحدهما نسأل الله العافية ولا سيما في أوقات الفتن فإن الشيطان أحرص ما يكون على ذلك إذ النفوس متوترة فأغلق باب الشيطان ليبقى مدحوراً مثبوراً .
8. الابتعاد عن أن تكون معولاً لإيقاع الفتنة في بلاد المسلمين طلباً لمصلحة وهمية أودفعاً لمفسدة وهمية فإن من مصلحة العدو المتربص أن يرى الفتن في بلاد المسلمين قائمة وأن تشتعل الحرب بينهم فيقضي بعضهم على بعض ويستريح هو وهذا ما حدث في أفغانستان إذ دخل العدو بلادهم على ظهور أبناء البلاد ممن فرط في الأمانة .
9. الاستعداد للجهاد علماً وعملاً وإعداد النفس لذلك بالضوابط الشرعية المعتبرة بعيداً عن حياة الترف القاتل وأن تربي نفسك وأهل بيتك على ذلك ما استطعت .
10. مطالبة ولاة الأمر وعلماء الأمة بالتعاون لفتح باب الإعداد للجهاد بالوسائل المشروعة لتكون الأمة مستيقظة لمكر عدوها .
11. البعد عن الشائعات والتأكد من الأخبار قبل نقلها ونشرها والحذر من الإنحراف عن المنهج الشرعي عند التعامل مع الرؤى فهي كما أخبر r من المبشرات ولكن تحديد وقوعها إن صدقت رؤيا الرائي هو من علم الغيب فقد يرى المؤمن الرؤيا فلا تقع إلا بعد سنين فالإستطراد في هذا الجانب قد يؤدي إلى الإفراط وربما إلى العجز وترك العمل والجهاد .
12. الدعاء المستمر في كل وقت وحين في جميع أوقات الصلوات ما أمكن وذلك بأن ينصر الله الإسلام والمسلمين ويذل الكفر والكافرين وأن ينجي المستضعفين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فهذا هو أدنى واجب تقوم به لدعم أخوانك واحذر من المخذلين والمثبطين واتق الله أن تخذل اخوانك في محنتهم فيتخلى الله عنك أحوج ما تكون إليه وفي الحديث " ما من أمرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته ، ومامن أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته ، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته " فأخواننا المسلمون في فلسطين وفي الشيشان وفي العراق وفي الفلبين وفي كشمير وفي أفغانستان وغيرها هم أحوج ما يكونون إلى الدعاء والدعم منك أخي المسلم بما تستطيع ومواساتهم بما أمكن فأحذر أن تخذلهم فيعافيهم الله ويبتليك وإني لأقول أخوتي الكرام إن من العار الا تشعر الأمة كلها بالخطر فتفزع إلى الدعاء واللجأ إلى الله فقم أخي الحبيب في ظلمة الليل وتحر أوقات الإجابة وارفع يديك صادقاً بالدعاء فلعل دعوةً مستجابة يرفع الله بها البلاء عن الأمة . وعلى الأئمة والخطباء أن يشعروا بواجبهم تجاه إخوانهم المسلمين فيقتدوا بسنة صلى الله عليه وسلم في القنوت عند النوازل وهل أعظم من نازلة احتل فيها العدو بلاد المسلمين ظلماً وعدواناً ولكن المحروم من حرم خيراً لا مشقة فيه لا سيما أن دعاء المسلمين يرهب الأعداء ولذلك فمنعه هو موافقة لسياساتهم الداعية إلى عدم تفعيل معارضة شعبية إسلامية ضدهم .(14/300)
13. اليقين بنصر الله سبحانه لهذه الأمة واحذر أن يرهبك ما عند العدو من أسلحة فتاكة فإن هذا من أهدافهم فهم إنما يستعرضون قوتهم لتخويف المسلمين وإلا فقد كان يكفيهم في حربهم على المسلمين الأفغان عُشر كميات القنابل والصواريخ أو أقل وكذلك في العراق لكنه الترهيب والتخويف فلا تقلق أخي الحبيب واعلم أن لله جنود السموات والأرض فلو شاء سبحانه لسلط عليهم أحد جنوده وهي الريح العقيم التي لا تبقى ولا تذر فقل لي بربك لوسلط عليهم ماذا تغني عنهم سفنهم وطائراتهم قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً " لكن ذلك النصر إنما يأتي للمؤمنين الصادقين . واسمع قول الله سبحانه : " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون " . وقوله تعالى " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون "وعليكم بسنة صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما ذكر الله عنهم بقوله : " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله و الله ذو فضل عظيم .إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " فأكثر أخي الحبيب من قول : حسبنا الله ونعم الوكيل وعلمها أهل بيتك وجيرانك فهو كافي المؤمنين وحافظهم . ومهما كانت نتيجة الحرب سواءً اندحر الأمريكان أو سقط نظام البعث فاعلم أخي الكريم أن النصر في النهاية هو للمؤمنين " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " واعلم أن الشهادة في سبيل الله من أعظم الأعمال بل هي من أحب الأعمال إلى الله سبحانه فهي بذاتها نصر وكرامة " ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً " .
14. الارتباط المستمر بكتاب الله ، تلاوةً وتدبراً وتفكراً وتأملاً مع الوقوف الطويل عند آياته ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً فهو أعظم أنيس في الأزمات منه تشم رائحة الأمل والفرج والنصر والهداية لا سيما ما له علاقة بوعد الله ونصره للمؤمنين وسنته في المدافعة عن المؤمنين واهلاك الكافرين وكيف أنه وحده المتصرف في الكون . فآيات القرآن في الأزمات بلسمٌ شافي وداوء كافي لكل أمراض القلوب من الخوف والهزيمة النفسية والضعف والخور وشبهات الأعداء ففيه من التثبيت والتقوية للمؤمنين مالا يعلمه إلا الله . إقرأ سورة آل عمران وسورة الأنفال وسورة التوبة وسورة هود ويونس والرعد ويوسف وطه والأحزاب والفتح وغيرها من السور والآيات التي تربط على قلوب المؤمنين . اسمع مثلاً ما ذكره الله عن عذاب الكافرين واهلاكهم :" أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون . أو يأخذهم في تقلبهم فماهم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤف رحيم " . " فكلاً أخذنا بذنبه ، فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " . واسمع في تطمين الله للمؤمنين : " حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين " " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويسبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسولل من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا واتقوا أجر عظيم " . " إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
" ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤها وكان الله على كل شيء قديراً " وما يدريك فلعل أمريكا خرجت لتشتيت المسلمين وتقطيعهم أحزابا ودويلات فقد يمكر الله بها فتتمزق هي أشتاتاً وتكون هي وسلاحها غنيمة للمسلمين . واسمع قوله تعالى : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " " قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون " إلى غير ذلك من الآيات التي تثبت على الإيمان وتزيد المؤمن صبراً ويقيناً .(14/301)
15. إلى إخواننا المسلمين المستضعفين في العراق وهم يعيشون تحت وابل القنابل والصواريخ أوصيكم بتقوى الله سبحانه والعودة الصادقة إليه في التمسك بشرعة والثقة واليقين بنصره والكفر بكل طاغوت وأن تجعلوا نية جهادكم لإعلاء كلمة الله وليس شجاعة أو عصبية جاهلية فإن الشهادة في سبيل الله لا ينالها إلا من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا واصبروا وصابروا ولا تختلفوا وابشروا مادام قتالكم لإعلاء كلمة الله فقد تزينت لكم الجنان وطاب لكم السفر إلى الرحمن فإما النصر وإما الشهادة حيث الجنات التي عرضها السموات والأرض فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلعل الجنة اشتاقت إلى الشهداء واختاركم الله لتكونوا أول زمرة في بلاد الرافدين فأثبتوا وجاهدوا الكفرة المعتدين حتى لوسقط النظام البعثي وقادته فأنتم المجاهدون الصادقون فالله الله أن يحتل الغزاة أرض الإسلام واعلموا أن أخوانكم المسلمين في كل مكان معكم بالدعاء والدعم واعلموا ان من مات منكم في سبيل الله أو أصيب فإن الله سيخلفه في أهله وأولاده وسيعوضه خيراً في الدنيا والآخرة . " فما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين " أعانكم الله وسددكم ونصركم وثبتكم وقهر عدوكم .
وختاماً فإن بشائر النصر كثيرة ومكر الله بالقوم ظاهر وما على الأمة إلا أن تعود إلى دينها بصدق وإخلاص وأن ترفع راية الجهاد في سبيل الله وأن تعتصم بحبل الله حتى يتحقق وعد الله بنصرهذه الأمة وتأييدها وإهلاك الظالمين المجرمين وما ذلك على الله بعزيز .
" ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم "
اللهم انصر الإسلام والمسلمين . وأذل الشرك والمشركين والمنافقين ودمر أعداءك أعداء الدين . اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزم جيوش الكفر الغازية . اللهم دمرهم تدميراً . اللهم أكفناهم بما شتت اللهم مزقهم تمزيقاً اللهم عليك بقوات أمريكا رأس الكفر والإلحاد وعليك بحلفائها .اللهم عليك ببوش وبلير وشارون رؤوس الكفر وأعوانهم وأشكالهم . اللهم اقذف الرعب في قلوبهم اللهم خالف بين قلوبهم اللهم اجعلهم وما يملكون غنيمة للإسلام والمسلمين اللهم انصر عبادك المجاهدين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها . اللهم انصرهم في فلسطين وفي العراق وفي الشيشان وفي الفلبين وفي كشمير وفي بلاد الأفغان والبلقان وفي كل أرض وبلد . اللهم أمِّن خائفهم واحمل حافيهم واطعم جائعهم واكس عاريهم وآوي يتيمهم وأرملتهم ومشردهم . وأيدهم بجنودك يا أرحم الراحمين . اللهم كن لإخواننا المسلمين في العراق عوناً ونصيراً . اللهم ثبت أقدامهم اللهم أنزل عليهم السكينة والطمأنينة . اللهم اكفهم شرقنابل وصواريخ المجرمين اللهم احقن دماءهم اللهم اخلفهم في أهليهم ونسائهم وأطفالهم بخير فأنت خير من يستخلف . اللهم احفظهم في دينهم وفي أعراضهم وفي أموالهم وأطفالهم وأرفع البلاء عنهم يا أرحم الراحمين . والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
1.- تزعم نتنياهو 1993 - 1996 منصب رئيس الليكود وتزعم المعارضة الصهيونية اليمينية التي سعت إلى الإطاحة برابين . وتحويل وجهة البلاد إلى " اليمين " على أساس سياسة العداء السافر للعرب.
- يتكون هذا الفريق من لِبَرْمان ، ليني بين دافيد ، مائير داغان .
- خطط هذا الفريق للوصول إلى إسرائيل الكبرى ( من النيل إلى الفرات ) .
- أصرَّ نتنياهو على أن تكون إسرائيل دولة لليهود فقط ومركزاً رئيسياً ليهود العالم ، ويرى عدم أحقية العرب في الأرض المحتلة من 1967 وحتى الجولان .
- تولى الرئاسة 1996 - وكان وراء فضيحة كلينتون .
استطاع من خلال عضو الفريق ديفيس التأثير على سياسة أمريكا فقد شغل فترة من الزمن عضواً في لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية والتي لها تأثير كبير على السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط
==================(14/302)
(14/303)
الدروس السياسي للأقليات الإسلامية
في المجتمع الأمريكي ( 1990- 2000 )
عصام عبد الشافي 5/2/1424
07/04/2003
اسم البحث :الدروس السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع
الأمريكي( 1990- 2000 )
اسم الباحث : عصام عبد الشافي
عرض : رجب الباسل
شهد العالم المعاصر في العقد الأخير من القرن العشرين العديد من التطورات والتحولات الدولية والإقليمية، والتي أفرزت العديد من الآثار والتداعيات، من أبرزها ما عرف بـ "صحوة الأقليات" حيث شهد العالم بروز موجة من الثورات والصراعات العرقية والدينية والطائفية في العديد من الأجزاء، ترتب عليها العديد من الأضرار والأخطار؛ ففي الوقت التي شكلت فيه الأقليات تحدياً كبيراً يهدد الأمن والاستقرار الداخلي، بل والدولي، كانت هي المتضرر الأكبر من الصراعات التي أثارتها، والتوترات التي ترتبت عليها.
ولم تكن الأقليات الإسلامية في العالم المعاصر بمعزل عن هذه التطورات، فقد كان لها دورها ووجودها الفاعل والمؤثر، هذا الدور الذي اختلف باختلاف المجتمع الذي توجد فيه، والمقومات التي ترتكز عليها، والأهداف التي تسعي إلي تحقيقها.
وفي هذا الإطار برز دور الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، أمام سعي هذه الأقليات إلي تشكيل وترسيخ هويتها المتميزة وسماتها المشتركة في مواجهة الجماعات الأخرى التي يتكون منها المجتمع، وذلك من خلال العمل علي تفعيل أدوارها ونشاطاتها في مختلف المجالات ومنها المجال السياسي، ومن هنا جاءت الدراسة التي تقدم بها الباحث المصري عصام عبد الشافي للحصول على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة تحت عنوان: "الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي 1990 - 2000".
وتنبع أهمية هذه الدراسة أنها تأتى في ظل التطورات العالمية والإقليمية الراهنة، وتزايد الحديث عن مفاهيم العولمة، والحدود المفتوحة، وتزايد الاهتمام بحقوق الإنسان والحريات الدينية، وغير ذلك من الاعتبارات التي تعطي مزيداً من الاهتمام بقضايا الأقليات بصفة عامة، والأقليات الإسلامية بصفة خاصة، نظرًا للأبعاد المتجددة التي اكتسبتها مشاكل هذه الأقليات في ظل هذه التطورات، والمراحل الانتقالية التي يمر بها تطور النظام الدولي المعاصر، والدور الذي يمكن أن تقوم به الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي في إدارة هذه التطورات وتلك الصراعات بما يخدم القضايا والمصالح الإسلامية.
وكذا طبيعة التطورات المجتمعية الهائلة التي تفرض تحدياتها علي الأقليات الإسلامية في الدول الغربية بصفة عامة، والولايات المتحدة بصفة خاصة باعتبارها أهم مراكز التطورات والتحولات التي يشهدها العالم المعاصر.
وقد سعت الدراسة للبحث في تأثير قضية الهوية والاندماج، بين أبناء هذه الأقليات في ظل التعدد في الانتماءات والتنوع في الهويات على طبيعة وأبعاد الدور السياسي الذي تقوم به الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، وبيان طبيعة العلاقة بين شعور الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي بالتمايز في هويتها، وبوجود قواسم وسمات مشتركة تجمع بين أعضائها، وبين فاعلية الدور السياسي الذي تقوم به داخل هذا المجتمع.
وركزت الدراسة على تناول العلاقة بين عدد من المتغيرات الأساسية هي: الأقلية، والدين، والهوية، من حيث بيان طبيعة هذه العلاقة ومحدداتها، وما ترتب عليها من نتائج وانعكاسات على الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، وذلك في إطار محورين؛ يتناول أولهما القضايا، ويتناول الآخر المنظمات.
القضايا: تم التركيز بصورة رئيسية علي الإشارة ـ بإيجاز ـ إلى عدد من القضايا الأساسية التي تشكل محور اهتمام المسلمين في المجتمع الأمريكي، وطبيعة الجهود والنشاطات التي قاموا بها للدفاع عن هذه القضايا، وقد تم تحديد هذه القضايا من واقع نتائج المسح الذي قام به المجلس الإسلامي الأمريكي عام 2000 بين الأقليات والجاليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي لتحديد القضايا الرئيسية التي تشكل محور اهتمامهم.
المنظمات:تم التركيز في إطار تناول الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي علي تناول ـ بإيجاز ـ الجهود والنشاطات التي تقوم بها المنظمات التالية:
1 ـ منظمة أمة الإسلام الأمريكية ـ وتعرف اختصاراً بـ "AIN".
2 ـ المجلس الإسلامي الأمريكي ـ والذي يعرف اختصاراً بـ "AMC".
3 ـ مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، ويعرف اختصاراً بـ "CAI r ".
والتي جاء اختيارها تحديداً استناداً لعدة معايير من بينها: الأقدم تاريخياً (وهو ما توفر في منظمة أمة الإسلام)، والأنشط سياسياً (وهو ما توفر في المجلس الإسلامي الأمريكي)، والأنشط مدنياً (وهو ما توفر في مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية)، وذلك وفقاً للبيانات والنشاطات والفعاليات التي تقوم بها هذه المنظمات، والأدبيات التي تناولت هذه النشاطات وتلك الفعاليات.(14/304)
وفي هذا الإطار تم تناول نشأة وتأسيس هذه المنظمات، وبيان الأهداف التي تسعى إلي تحقيقها، ومدي كفاءتها وفاعليتها في تحقيق هذه الأهداف، مع المقارنة بينها من حيث التأسيس، والأهداف، والدور، وفاعلية الأداء، وكذلك مدى توافر المعايير المؤسسية في كل منها من حيث مدى تمتعها بالقدرة على التكيف، والتماسك، والاستقلال، والتعقيد الوظيفي والبنائي.
وقد تم تقسيم الدراسة إلى أربعة فصول :
الفصل الأول: الإطار النظري للدراسة:
كان عام 1776م هو بداية الانتقال إلى أهم مرحلة في التاريخ الأمريكي، حيث تمت الوحدة بين 13 ولاية وإعلان قيام "الولايات المتحدة" كدولة مستقلة، وإذا كانت الولايات المتحدة قد انتظرت نحو 284 عاماً لتعلن استقلالها (1492 ـ 1776) فإنها قد انتظرت 183 عاماً أخرى ليكتمل عقدها، في عام 1959 بانضمام ولايتي "ألاسكا" و"جزر هاواي" إلى الاتحاد الأمريكي.
ومع التحولات التي شهدها المجتمع الأمريكي عبر قرون خمسة ـ هي عمره الرسمي منذ اكتشافه ـ نظر إلى الولايات المتحدة على أنها سلسلة متواصلة من تجارب الحياة التي قدم بها المهاجرون من كل مكان، والتي لم تنجح هذه التحولات في إلغاء خصائصهم المتميزة، هذه الخصائص التي زادت بنية المجتمع متانة وصلابة، وكانت من أهم سماته الراسخة.
وفي إطار هذه الخصوصية كان لقضايا الدين والهوية والأقلية، دوراً محورياً في المجتمع الأمريكي فرغم أن الدستور الأميركي وتعديلاته تؤكد على العلمانية والفصل بين الدين والدولة، فإن الدين كان ـ ومازال ـ يمثل عنصراً أساسياً من عناصر خصوصية المجتمع الأميركي، فالحياة الأميركية تخضع لنظام من القيم، تتفاعل داخله العديد من الأديان ولكن بدرجات مختلفة، تفصل بينها مسافات اجتماعية واتجاهات مذهبية وفكرية تؤكد على هذه التعددية.
وإذا كان الدين في المجتمع الأمريكي ـ كما يرى البعض ـ لا يؤثر في القوانين أو في تشكيل الرأي العام إلا تأثيراً ضئيلاً، فإنه يوجه عادات الجماعة وينظم الدولة عن طريق العديد من المؤسسات الاجتماعية، وإذا كان الدين لا يشترك اشتراكاً فعلياً في حكم الجماعة، فإنه يعد في طليعة المؤسسات السياسية التي تنظم هذه الجماعة.
وفيما يتعلق بقضية الهوية الأمريكية فإنه إذا كانت الولايات المتحدة ينظر إليها ـ في كثير من الأحيان ـ على أنها أمة من المهاجرين، وهؤلاء المهاجرون ولاؤهم الأول لها، وأن الهدف الرئيسي الذي أكد عليه الدستور الأميركي هو الحفاظ على وحدة الدولة، وحماية المجتمع من التفتت والانقسام والصراع، والتأكيد على التسامح الديني والمساواة الاجتماعية والعدالة، والديمقراطية، فإنه على الطرف الآخر يوجد من ينظر إليها على أنها ليست لأحد، وأنه ما كان الأميركيون عبر مراحل تاريخهم المختلفة، أمة واحدة لغوياً أو عقائدياً، أو قومياً، بل إنها مجرد وحدة سياسية فحسب.
وهو ما ترتب عليه تزايد دور الدين والعرقية كمقومات للهوية في المجتمع الأميركي، فالمواطن الأميركي أصبح يشارك في الحياة السياسية والاجتماعية لا بصفته مواطناً أميركياً علمانياً، ولكن ـ غالباً ـ بصفته بروتستانتياً، أو كاثوليكياً، يهودياً أو مسلماً، أو غير ذلك من المذاهب والانتماءات الدينية، إضافة إلى الأصول والانتماءات العرقية والإثنية التي يقوم عليها المجتمع.
بحيث أصبح وجود الأقليات والتعدد الإثني يمثل خاصية أساسية للمجتمع الأمريكي، وجزءاً لا يتجزأ من أسلوب الحياة فيه، فلم تستطع بوتقة الانصهار وعمليات الامتصاص والاستيعاب المختلفة أن تفرز خلاصة متجانسة التكوين لهذا التعدد الثقافية والإثني.
وفي هذا الإطار جاء تناول خصوصية هذا المجتمع، وقضاياه المحورية (الدين، والأقلية والهوية) مع التأصيل النظري ـ بداية ـ لهذه القضايا.
الفصل الثاني: بزوغ وتبلور الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي
لا يوجد اتفاق حول بداية الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي، إلا أن هناك شبه اتفاق حول<طبيعة هذه البداية، فقد وصل المهاجرون المسلمون الأوائل إلى المجتمع في مجموعات صغيرة، واستمروا في موجات متزايدة؛ ووصف هؤلاء المهاجرون بأنهم مغامرون جاءوا إلى العالم الجديد بحثاً عن المال. فخلافاً للمهاجرين الأوربيين، لم يأت المسلمون الأوائل إلى أمريكا لتكون مقراً دائماً لإقامتهم، فقد كانوا يسعون إلى جمع أكبر قدر من المال في أقصر فترة زمنية ممكنة ثم يعودوا إلى بلدانهم. ولكن الكثير منهم توسعت آماله وكبرت أحلامه وضعفت ـ تبعاً لذلك وبمرور الزمن ـ رغبته في العودة إلى بلده، فالذين أحرزوا نجاحات أكبر وتكيفوا مع الحياة الأمريكية وجدوا في علاقاتهم القرابية وعلاقات العمل ما يغنيهم عن أي تنظيمات أخرى.(14/305)
وتحت تأثير النجاح والقدرة على التكيف مع البيئة المحيطة، زادت رغبة الكثيرين منهم في البقاء والاستقرار بصفة دائمة وإحضار عائلاتهم من البلد الأم، وقد جذبت قصص نجاحهم أقاربهم وسكان قراهم للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولهذا السبب بدأت تتكون مجموعات من المهاجرين تجمعهم رابطة القرابة أو المعرفة في الوطن الأم، ورابطة الجوار والتفاعل والتآزر في البلد المهاجر إليه.
ثم نظم هؤلاء أنفسهم استجابة لبعض الأحداث الاجتماعية واستجابة لبعض الضغوط والتحديات، التي دفعت المسلمين إلى تلمس الوسائل التي تؤكد وتثبت هويتهم، وكان أهم هذه الوسائل بناء المساجد ووضع البذور المبكرة للتنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والترويحية.
وفي إطار هذه المراحل جاء تناول بزوغ وتبلور الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي، وتم تقسيم هذا الفصل إلي المبحثين التاليين:
المبحث الأول: الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي النشأة والتطور وتناول البدايات الأولى للوجود الإسلامي، ثم تطور وانتشار المسلمين، وكذلك بنية الأقليات
الإسلامية، وخلص الباحث من القراءة الدقيقة لمختلف التقديرات حول عدد المسلمين في المجتمع الأمريكي، إلى أن عدد المسلمين عام 2000، يبلغ (7.15) ملايين مسلم، ارتفع في 2002 نحو (7.5) ملايين مسلم، يتوزعون بين أربع مجموعات أساسية هي:
م…الفئة…العدد(المليون) …النسبة
1…المسلمون ذوو الأصول الأفريقية…3,61…48,2%
2…المسلمون ذوو الأصول الآسيوية…1,8…24%
3…المسلمون ذوو الأصول الشرق أوسطية…1,4…18.5%
4…المسلمون ذوو الأصول الأوروبية والأمريكية،وأخرى…0,69…9,3%
-…المجموع…7,5…100%
المبحث الثاني: الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي التبلور والنشاط:
تمثل قضية الوجود وتكوين الهوية المتميزة واحدة من أهم القضايا ـ إن لم تكن أهمها ـ التي تواجه المسلمين في المجمع الأميركي، فلقد كانت أهم مشكلة واجهت المسلمين الأوائل في المجتمع الأميركي، هي العقبات النفسية والدينية والثقافية والاجتماعية التي تتعلق بمصيرهم ومصير أبنائهم، وتراثهم وعقيدتهم في مجتمع جديد عليهم في قيمه وفي عاداته، وفي النظم والقوانين التي يسير عليها وفي الاعتبارات التي تحكم التفاعلات بين أفراده. هذه العقبات وغيرها كان لها العديد من الانعكاسات -السلبية والإيجابية - على موقف المسلمين ونظرتهم إلى أنفسهم أولاً، وإلى المجتمع المحيط بهم ثانياً، هذه الانعكاسات كانت بمثابة الأساس الذي قامت عليه هوية المسلمين في المجتمع الأميركي، بما مرت به من تطورات، وما قامت عليه من أبعاد.
وخلص الباحث إلى أن قضية الانفصال والاندماج بين الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، تثير العديد من الأبعاد الأساسية، الدينية والاجتماعية والسياسية، والتي تتعلق بمظاهر وتعبيرات الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي، وتقوم على عدد من الجوانب والركائز منها: تناول المسلمين الأمريكيين كأقلية في مجتمع غير مسلم، وتوطين الإسلام في المجتمع الأمريكي وتجاوز حالة العزلة، ومظاهر وآليات الوجود الإسلامي: والتي من بينها: المساجد، والدعوة إلى الإسلام، والتعليم والحاجة إلي تبني سياسة تربوية متكاملة، والمراكز الإسلامية ودورها في نشر مظاهر الحياة الإسلامية، والمنظمات الإسلامية والتحول من الحفاظ على البقاء إلى الفاعلية والانتشار.
الدور السياسي الفاعل
الفصل الثالث: أبعاد الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي:يتطلب الوجود السياسي الفعال للأقليات الإسلامية على الساحة الأمريكية، وعياً واقتناعاً من هذه الأقليات، بأهمية دورها وقدرتها على التأثير على القرار السياسي الأمريكي، ليستجيب لمطالبها واحتياجاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، داخلياً وخارجياً، وبما يساهم في تحقيق الأهداف السياسية من هذا الوجود الإسلامي، والتي من بينها: إثبات الوجود للمسلمين جماعة من الجماعات التي يتكون منها الشعب الأمريكي، وتأمين حقوقهم في المجتمع الأمريكي، وتمكينهم من العيش بصورة تجعل ممارساتهم لحياتهم وشؤونهم الإسلامية، أمراً يحميه القانون، وتحترمه مختلف الجماعات التي يتكون منها هذا المجتمع.
وكذلك إثبات الفاعلية والتأثير على المجتمع الأمريكي، وذلك بطرح الرؤية وتقديم الحلول الإسلامية للقضايا ذات التأثير والأهمية في مختلف المجالات الحياتية، التي يمر بها هذا المجتمع، هذا بالإضافة إلى التأثير على أجهزة ومؤسسات صنع القرار الأمريكي بما يخدم قضايا وتطلعات المسلمين، داخل المجتمع الأمريكي وخارجه..
وفي إطار هذه الاعتبارات قام الباحث بتقسيم هذا الفصل إلى مبحثين :
الأول: محددات الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأميركي:(14/306)
تتوقف فاعلية الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي على العديد من المحددات التي يرتكز عليها وتؤثر في كفاءته وفعاليته، وفي إطار هذه المحددات تم التمييز بين ثلاثة مجموعات أساسية؛ وهي تلك النابعة من الأقليات الإسلامية ذاتها من حيث موقفها من المشاركة السياسية في المجتمع الأمريكي بصفة عامة، ومدى قدرتها على بناء المؤسسات السياسية ذات الطابع الإسلامي، ومدى توافر القيادة الإسلامية القادرة على توجيه وترشيد العمل السياسي للمسلمين في المجتمع الأمريكي من ناحية
ومن ناحية ثانية تلك المحددات النابعة من المجتمع الأمريكي من حيث رؤيته لهذا الدور، وموقف النظام السياسي الأمريكي من هذا الدور وكذلك موقف جماعات المصالح القائمة في المجتمع الأمريكي، بالإضافة إلى القواعد والتشريعات القانونية التي تحكم العمل السياسي ليس للمسلمين فقط ولكن لمختلف الأقليات والجماعات التي يتكون منها المجتمع الأمريكي.
ومن ناحية ثالثة تلك المحددات النابعة من البيئة الإقليمية والدولية المحيطة، والمتمثلة في التأثيرات المختلفة للأحداث الدولية والإقليمية وخاصة تلك التي ترتبط بالدول أو بالمصالح الإسلامية، في مختلف دول العالم، وانعكاساتها على الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي.
المبحث الثاني: مظاهر الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريك
قضايا الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي:عملية التكيف مع المجتمع الأمريكي من جانب المهاجرين المسلمين، ارتبطت بالعديد من القضايا (الداخلية والخارجية) التي كان لها تأثيراً كبيراً في تفعيل الدور السياسي للمسلمين في المجتمع الأمريكي، وفي هذا الإطار يمكن التمييز بين مجموعتين من القضايا:
المجموعة الأولي: القضايا الداخلية:
وهي تلك القضايا النابعة من المجتمع الأمريكي، والتي تؤثر وتحدد طبيعة الدور الإسلامي في المجتمع الأمريكي، وعلى فاعلية هذا الدور، ومن بين هذه القضايا: قضية التعليم الإسلامي، وقضية الصورة النمطية السلبية عن المسلمين، وقضايا العنف والمخدرات والتفكك الأسري، ومراجعة قانون الأدلة السرية، وقضايا التمييز العرقي ضد المسلمين.
المجموعة الثانية: القضايا الخارجية:
ويقصد بها تلك القضايا النابعة من الدول والمجتمعات الإسلامية التي تنتمي إليها الجماعات الكبرى التي تتكون منها الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، والتي يمكن أن تؤثر على طبيعة دور هذه الأقليات في المجتمع الأمريكي، وعلى فاعلية هذا الدور، ومن بين هذه القضايا: قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وقضية القدس، وقضية العقوبات ضد العراق، وقضيتا البوسنة وكوسوفا، وقضيتا كشمير والشيشان، وقضية الدعم الإنساني لأفريقيا.
التنظيمات الإسلامية في المجتمع الأمريكي:
مع تعدد القضايا التي تشكل محاوراً لاهتمام الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، تعددت التنظيمات والمؤسسات التي نشأت للدفاع عن حقوق ومصالح المسلمين، وبيان وجهة النظر الإسلامية في هذه القضايا، ورغم التعدد في التنظيمات والجمعيات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، ومع الاعتراف بأهمية كل منها في تفعيل الدور السياسي للأقليات الإسلامية في هذا المجتمع، فإنه ـ لاعتبارات الدراسة وحدودها الزمنية والموضوعية ـ يتم التركيز على ثلاث منظمات فقط، من بين هذه المنظمات من حيث بيان نشأتها، وتطورها ودورها في العمل السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، وتتمثل هذه المنظمات في: منظمة أمة الإسلام، والمجلس الإسلامي الأمريكي، ومجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية، وجاء اختيار هذه المنظمات نابعاً من عدة اعتبارات، من بينها، اتساع القاعدة التمثيلية لهذه المنظمات في أوساط المسلمين الأمريكيين، وفاعلية الدور السياسي الذي تقوم به في المجتمع الأمريكي.
الفصل الرابع: تحديات الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي:على الرغم من أن الفترة الزمنية التي تغطيها الدراسة تمتد بين عامي 1990 و2000، إلا أن حدثاً بحجم ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر 2001، كان من الصعب تجاهله، أو تجاهل آثاره وانعكاساته ليس فقط على الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، ولكن أيضاً على مستقبل الوجود الإسلامي في هذا المجتمع، وهو ما كان دافعاً لاعتبار هذا الحدث نقطة فاصلة في تاريخ هذا الدور وذلك الوجود، وعلى أساسه تم تقسيم هذا الفصل، والذي جاء على النحو التالي:
المبحث الأول: تحديات ما قبل أحداث سبتمبر 2001(14/307)
يواجه الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي بالعديد من التحديات، التي تتفاوت في طبيعتها ما بين سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية، وما بين مصدرها، ما بين تلك النابعة من هذه الأقليات ذاتها، أو تلك النابعة من البيئة المحيطة بها سواء أكانت من داخل المجتمع الأمريكي، أو من دول الأصول التي تنتمي إليها العديد من الجماعات والقوميات التي تتكون منها هذه الأقليات، وفي إطار هذا التعدد وذلك التشابك، فإنه في إطار التحديات التي تواجه الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، تم التمييز بين:
التحديات النابعة من الخصائص السلوكية:
وتشمل: التناقض وعدم القدرة على الفهم السليم للإسلام والتراث الإسلامي، والفهم السليم للحضارة الغربية والنظرة العادلة لها، والتحديات التي تواجه الأسر المسلمة، وطبيعة تربية الإنسان في البلدان الإسلامية التي هاجروا منها، وضعف الوعي بأهمية العمل السياسي، والسلبية السياسية.
التحديات النابعة من الخصائص التنظيمية ومنها:
غياب التنسيق بين التنظيمات الإسلامية ، ومحدودية القدرات التمويلية، وعمومية النشاط ونقص الخبرات السياسية، والتحديات المرتبطة بقضايا العضوية، وتحدي التعددية وتشرذم الهوية داخل الأقليات الإسلامية
هذا بجانب التحديات النابعة من طبيعة القضايا التي تدافع عنها، والتحديات النابعة من هيكل صنع القرار، والتحديات النابعة من البيئة السياسية الداخلية والتي من بينها: الصورة السلبية، واللوبي الصهيوني، والتيارات المسيحية الأصولية، والميليشيات المسيحية المسلحة، والجماعات والتيارات الفكرية المتطرفة، والتحديات الإعلامية.
التحديات النابعة من البيئة السياسية الخارجية:
وترتبط هذه التحديات بدرجة كبيرة بالقضايا والأحداث والتحولات التي تشهدها الساحة العربية والإسلامية، والتي ينتمي إليها معظم المسلمين في المجتمع الأمريكي، وتؤثر على دورهم، وممارساتهم داخل المجتمع الأمريكي، ومن أبرز هذه الأحداث والتي تركت تأثيراً سلبياً على الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي (الحرب العراقية الإيرانية بين 1980 و1988، والغزو العراقي لدولة الكويت في الثاني من أغسطس 1990، وتطورات الصراع العربي الإسرائيلي، وتطورات الأوضاع في عدد من الدول الإسلامية وما تشهده من حروب أهلية وأزمات داخلية وانتشار موجات العنف، واستغلال ذلك لتشويه صورة الإسلام في المجتمع الأمريكي، والخلافات والصراعات السياسية بين معظم الدول الإسلامية، والتي يتم تضخيمها، من جانب وسائل الإعلام المضادة، لتأكيد الصورة النمطية السائدة عن الإسلام والمسلمين في المجتمع الأمريكي).
أزمة اا سبتمبر
المبحث الثاني: تحديات أزمة سبتمبر 2001
تمثل أزمة الحادي عشر من سبتمبر مرحلة فاصلة في تاريخ الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي، وذلك أمام ما ترتب عليها من آثار وتحديات، علي الأقليات الإسلامية، وعلي الدور السياسي الذي تقوم به داخل المجتمع الأمريكي، وأمام أهمية الأزمة، وما ترتب عليها، يأتي تناولها علي محورين أساسيين.
أولاً:آثار الأزمة وتداعياتها:
المجموعة الأولي: الآثار السلبية للأزمة ومنها: الخسائر والأضرار المادية، وتزايد حالات الاعتداء على الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، وترسيخ الصورة السلبية عن الإسلام والمسلمين في أذهان الأمريكيين، وتهديد حقوق المسلمين في الولايات المتحدة، والتأثيرات السلبية للأزمة على النشاط السياسي للأقليات الإسلامية.
المجموعة الثانية: الآثار الإيجابية ومنها: التزايد الملحوظ في عدد الفتيات المسلمات اللاتي قررن ارتداء الحجاب فيما وصف بأنه رد فعل عكسي ورغبة منهن لإظهار اعتزازهن بدينهن، وأن الأزمة فتحت أمام المنظمات المسلمة الأمريكية، أبواب أكبر المؤسسات السياسية والإعلامية الأمريكية، كما خلقت شعورا بالتوحد والتحدي داخل المجتمع المسلم الأمريكي، هذا بجانب تزايد أعداد المترددين بانتظام على المساجد.
وبعد تناول هذه الآثار تناولت الدراسة الإدارة الأمريكية للأزمة، والأساليب التي اعتمدت عليها داخلياً وخارجياً، ورد فعل المنظمات الإسلامية تجاه الأزمة وآثارها وكيفية التعامل معها.
وقد انتهت الدراسة إلى عدد من النتائج الأساسية:
أولاً:أن هناك علاقة ـ نسبية ـ بين حجم الأقلية وشعورها بالسمات التي تمنحها الخصوصية في هويتها، وتميزها عن الجماعات الأخرى في المجتمع، وتتمثل هذه العلاقة في أنه كلما زاد حجم الأقلية وزاد تأثيرها داخل المجتمع، كلما زاد تمسكها بهويتها المتميزة، وحرصها على إبراز عوامل التميز التي تتسم بها (مع ملاحظة وجود استثناءات على هذه القاعدة، وهو ما ينطبق على الأقلية اليهودية في المجتمع الأمريكي فعلى الرغم من قلة عددها فإنها تتميز بقوة التأثير، وشدة التماسك بين عناصرها، وكذلك بشدة حرصها على إبراز العناصر والخصائص التي تميزها).(14/308)
ثانياً:أن الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي، قد بدأ مع اكتشاف الولايات المتحدة، حيث تحدثت كتابات المؤرخين واكتشافات الجغرافيين عن وجود مسلمين في الرحلات الجغرافية التي تمت لاكتشاف الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن نمو هذا الوجود ظل يسير بمعدلات بطيئة، حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث شهدت هذه الفترة تسارع معدلات الهجرات الإسلامية إلي الولايات المتحدة، ارتباطاً بالظروف والمتغيرات الداخلية والدولية في الدول الإسلامية.
ثالثاً:أن الأقليات الإسلامية في الولايات المتحدة لا تعبر عن جماعة واحدة لها سمات وقواسم مشتركة تجمع بين أعضائها وتمنحها هوية واحدة، فالأقليات الإسلامية تتكون من العديد من الجماعات والانتماءات والتصنيفات، والتي في إطارها تم التمييز بين أربع مجموعات أساسية: ذوي الأصول الأفريقية، وذوي الأصول الأسيوية، وذوي الأصول الشرق أوسطية، وذوي الأصول الأوربية والأمريكية.
ولكن هذا التنوع لا ينفي وجود قواسم مشتركة ـ وإن كانت محدودة ونسبية ـ تجمع بين معظم هذه الجماعات أهمها الاشتراك في العبادات الدينية، وأسس المعاملات بين الأفراد والجماعات كما شرعها الدين الإسلامي، وكذلك وجود نوع من الثقة في التفاعل بين المسلمين وبعضهم البعض هذه الثقة التي تستند بالدرجة الأولى إلى قناعة المسلمين بتأثير دينهم في قيم وأخلاقيات أتباعه، يضاف إلى ذلك وجود نوع من التوحد خلف العمل علي الدفاع عن الحقوق الإسلامية، والدعم والمساندة للجهود التي تبذل في عدد من القضايا الرئيسية الداخلية (مثل قضية الحقوق المدنية للمسلمين، والرد على محاولات تشويه صورة الإسلام والمسلمين، ..)، والخارجية (مثل قضية القدس، ..).
رابعاً:أن هناك العديد من المحددات التي تتوقف عليها طبيعة وفاعلية الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، وفي إطار هذه المحددات تم التمييز بين ثلاثة مجموعات أساسية: المحددات النابعة من طبيعة الأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، والمحددات النابعة من المجتمع الأمريكي، والمحددات النابعة من البيئة الإقليمية والدولية المحيطة.
خامساً:أن أحداث سبتمبر 2001، مثلت لحظة انقطاع في القضايا التي تمثل محوراً لاهتمام المسلمين في المجتمع الأمريكي، حيث وضعتهم في موقع انتظار وترقب لما ستسفر عنه الأزمة ورد الفعل الأمريكي الرسمي والشعبي عليها، ولذلك حاولت التنظيمات السياسية ذات التوجهات الإسلامية العاملة في المجتمع الأمريكي، إعادة صياغة قضاياها وتزويدها بمجموعة من القضايا القادرة على جذب اهتمام جماهير المسلمين الأمريكيين، وتفعيل دورهم في المجتمع.
سادساً:أن أحداث سبتمبر لم توقف عجلة تطور الوجود الإسلامي في المجتمع الأمريكي وذلك لعدة اعتبارات من بينها؛ طبيعة هذا الوجود، من حيث استناده على الهوية الإسلامية كمصدر للقيم والتوجهات، مما يجعل المسلمين أقل تعرضاً لضغوط الذوبان السياسي والاجتماعي داخل المجتمع الأمريكي، فالهوية الإسلامية تمدهم بمصدر دائم للتميز والتفرد والذاكرة الجماعية المستقلة داخل المجتمع الأمريكي.
وكذلك طبيعة تطور هذا الوجود كتطور طبيعي، ليس وليد فترة زمنية محدودة، ولا يرتكز على مؤسسة بعينها أو فرد بذاته أو جماعة سياسية ذات أيدلوجية بعينها، إنما هو تطور طبيعي نتج على مدار فترات تاريخية ممتدة بدأت مع اكتشاف المجتمع الأمريكي ذاته، كما يعتمد في طاقته على قدرات بشرية وفنية من أبناء المسلمين الأكثر قابلية وقدرة على الانخراط في المؤسسات السياسية والإعلامية الأمريكية، كما يرتكز على مئات المساجد والمراكز والتنظيمات، وكذلك على جو من حرية الفكر والعبادة يساعد على التحرك بفاعلية.
سابعاً:أن الدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي، يتحرك في الإطار الذي يمكن أن يقود ـ مع الحرص على تفعيل القدرات التي يمتلكها المسلمون في المجتمع الأمريكي ـ إلى مستقبل أفضل، مستقبل يستطيع من خلاله المسلمون الأمريكيون التأثير في صياغة السياسات الأمريكية، الداخلية والخارجية، مستقبل يضمن لهم القدرة ليس فقط على الدفاع حقوقهم ومقدساتهم، ولكن أيضاً السعي نحو تعظيم هذه الحقوق وتلك المكاسب.
وهو ما يتطلب ـ من القائمين والمعنيين بالدور السياسي للأقليات الإسلامية في المجتمع الأمريكي ـ بلورة استراتيجية واضحة تقوم على مبدأي التنوع (في الحاجات والاختصاصات والجماعات وبالتالي في المراكز والهيئات والمنظمات)، والوحدة (في المنهج وفي الأهداف والغايات)، حتى يصبح هذا التنوع إثراء للعمل الإسلامي، ودعماً لمسيرته داخل المجتمع الأميريكي
============(14/309)
(14/310)
أمريكا فى مواجهة العالم.. حرب باردة جديدة
عرض: منى عبد العزيز شهاب 10/2/1424
12/04/2003
المؤلف: د. سعيد اللاوندى .
الناشر: القاهرة - دار نهضة مصر، ط1، 2003م .
مركز الإعلام العربى .
عرض:منى عبد العزيز شهاب
*أمريكا بدأت أول حروب القرن الجديد فى أفغانستان وتتجه إلى حروب أخرى فى مناطق عديدة ربما تتحول بمرور الوقت إلى حرب عالمية رابعة .
*
معظم الشركات الأمريكية تستغل عملها فى مناطق العالم تحت غطاء إنسانى واجتماعى فى خدمة وكالة المخابرات المركزية .
*
الخلافات الأمريكية - الأوروبية تجيء على خلفية أن واشنطن تعتمد القوة الباطشة كأداة وحيدة للتغيير
*
استراتيجية الحزام الأخضر، تقوم على إحاطة روسيا وأوروبا بدول عربية وإسلامية تابعة لها
*
الصين تطمح إلى أن تكون القوة الاقتصادية الأولى فى العالم، وإذا فشلت واشنطن فى حصارها ستقوم بالتحدث عن إمبراطورية الشر الجديدة .
*
الأمم المتحدة أصبحت أداة وسلاحًا لخدمة السياسة الأمريكية ولم تظهر للوجود سوى لتحقيق مصالح القوى الكبرى .
*
التصورات الأمريكية - الفرنسية ليست متماثلة تمامًا، لكن يتم طرح جميع القضايا على مائدة الحوار لبلورة موقف مشترك .
*
تنشر أمريكا الديموقراطية واقتصاد السوق فى دول العالم تحت شعارات أخلاقية لا لشيء سوى خدمة مصالحها وحمايتها .
*
السياسة الأمريكية تماهت مع الأهداف الإسرائيلية ليس لتحيز مسبق فقط ، بل لنجاح اليهود فى اختراق الإدارة الأمريكية وفشل العرب فى بلورة إرادة واحدة
*
بشارات الخلاص بدأت مع المعارضة الواسعة للعولمة الأمريكية ومحاولات تأسيس فضاء دولى أكثر عدلاً فى الاقتصاد وتعددية فى الآراء .
لا نستطيع أن نفسر حاليًا ما يجرى فى العراق دون اعتراف بوجود مناخ غير مسبوق من الأحادية القطبية - والذى لم ولن يتكرر كثيرًا - وتعمل الولايات المتحدة فى ظله على أن تخطط لسياسة استعمارية جديدة تستهدف ( منابع النفط ) على اعتبار أن من يرغب فى إدارة العالم لا بد أن يتحكم فى ثروات الشعوب .
وفى سبيل الحفاظ على مكانتها وضمان تفوقها كان لا بد من وضع العراقيل فى طريق بزوغ قوى مناوئة اليوم أو غدًا، فشرعت أمريكا تزرع الشوك فى طريق صعود الصين، وتهمش إلى أقصى درجة الاتحاد الأوروبى حتى كاد يكون ظاهرة صوتية وصبغت القانون الدولى بصبغة أمريكية محضة، فأصبحت الشرعية الدولية والإرادة الدولية والمجتمع الدولى مجرد صدى لصوت البيت الأبيض، وبات يتعين على قادة أفريقيا وآسيا، إن أرادوا البقاء فى مقاعدهم، مراعاة مصلحة أمريكا أولاً.
ولكنه أثناء تطبيق هذه السياسة الاستعمارية وقعت مئات الآلاف من الضحايا الأبرياء فى العراق وفلسطين وأفغانستان ، ولم تستطع شعارات مكافحة الإرهاب أو مكافحة أسلحة الدمار الشامل أن تخفى الوجه الأمريكى الاستعمارى، مما أدى إلى معارضة ضخمة للسياسات الاستعمارية الأوروبية من جانب القوى الكبرى ، وكذلك من جانب منظمات المجتمع المدنى العالمى، والتى تحتاج لشروط معينة حتى تستطيع تكوين ( عولمة ) أكثر عدالة وأقل ( أمركة ).
وبين أيدينا كتاب ( أمريكا فى مواجهة العالم ) للدكتور سعيد اللاوندى يعمل على كشف تلك السياسات الاستعمارية للولايات المتحدة وأدوات تحقيقها، وعلاقات أمريكا مع الأمم المتحدة والقوى الكبرى، على اعتبار أنها ترجمة لجانب من هذه السياسات ، ثم يجيب فى خاتمة الكتاب على تساؤل مهم هو: لماذا نكره أمريكا ؟ .
يسوق المؤلف فى مقدمة كتابه مقولة أحد الخبراء الاستراتيجيين بمقر حلف الناتو فى العاصمة البلجيكية بروكسل من أنه من العبث تصور أن أمريكا سوف تتحمل تكاليف حرب العراق وتقدر بنحو 200 مليار دولار لمجرد إسقاط صدام حسين، ولكن الهدف الأسمى هو أن تضمن واشنطن بقاء هيمنتها على العالم إلى أطول مدة ممكنة ، وبترول العراق أهم عوامل تحقيق هذا الهدف.
ويذكر أن قادة واشنطن يستغلون الظروف الدولية المواتية لاقتناص أكبر قدر من المكتسبات، ولعل هذا ما كان يعنيه مومولام - الوزير السابق لتونى بلير - عندما كتب فى الجارديان يقول: « إن الأمر لا يتعلق لا بالتهديد العراقى، ولا بالحرب ضد الإرهاب، ولا علاقة له بالأخلاق، وإنما يتعلق فقط بطموحات واشنطن من أجل السيطرة على حقول النفط العراقى ».
وفى مناخ دولى غير مسبوق لا يشهد وجود أقطاب دولية متنافسة تخطط واشنطن لسياسة استعمارية جديدة تستهدف «منابع البترول»، باعتبار أن من يرغب فى إدارة العالم لابد أن يتحكم فى ثروات الشعوب وباسم محاربة الإرهاب وضعت يدها على أفغانستان وبترول آسيا الوسطى، وبدعوى مكافحة أسلحة الدمار الشامل فى العراق حولت المنطقة إلى ترسانة عسكرية أمريكية، وفى ظل ذلك المناخ أصبحت الشرعية الدولية والإدارة الدولية والمجتمع الدولى مجرد صدى لصوت البيت الأبيض، وبات يتعين على قادة أفريقيا وآسيا إن أرادوا البقاء فى مقاعدهم مراعاة مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية أولاً!
1 - وجه جديد للعالم :(14/311)
وتحت عنوان: « أولى حروب القرن » يعتبر المؤلف أن تاريخ 11 من سبتمبر 2001 كان موعد اندلاع شرارة أولى حروب القرن الجديد ، حيث توحد الغرب وراء الولايات المتحدة التى بدأت الرد فى 7 من أكتوبر 2001 بضرب العاصمة الأفغانية كابول، وعددًا من المدن الأفغانية الأخرى تحت هدف تحطيم مراكز تدريب شبكة القاعدة ومؤسسات نظام حكم « طلاب الشريعة ».
وبعد هذه الحرب طرحت واشنطن على نفسها سؤال: ماذا نفعل فى مواجهة هؤلاء الانتحاريين الذين يضحون بحياتهم ؟ إنها بهذا المعنى حرب من نوع جديد تتجاوز حدود التفكير العسكرى الكلاسيكى، وتستمد الإجابة خيوطها الأولى من أن الحرب التى أعلنها أسامة بن لادن على الغرب ليست لمواجهة المظالم الأمريكية، وإنما لعيب فى فهم بن لادن وشبكة القاعدة، ومن ثم يصبح تحديث الخطاب الدينى ضرورة واجبة.
وفى مقالة أخرى تحت عنوان: « الفوضى تسود العالم فى القرن الـ 21 » يذكر المؤلف أن أهم السمات العالمية مع بداية القرن الجديد كان السيطرة الأمريكية على العالم بشكل لم يتحقق لأى إمبراطورية أخرى عبر العصور، نظرًا لأنها تمارس سطوتها فى غرور عبر خمسة مجالات كلاسيكية للقوة: السياسى والاقتصادى والعسكرى والتكنولوجى والثقافى.
وبعد تدخلها فى أفغانستان خرجت منتصرة وأحكمت قبضتها عبر ثلاثة محاور، فأخضعت أولاً - تحت وابل قنابلها - نظام طالبان فى أفغانستان فى بضعة أسابيع، وثانيًا وضعت تحت تصرفها - كيلا نقول تحت قدميها - تحالفًا دبلوماسيًا كبيرًا لتسهيل مهمتها وتأييد عملياتها (ضم روسيا والصين)، وقدمت فى الوقت نفسه دور الأمم المتحدة، كما حشدت ثالثًا القوة البريطانية لخدمة أهدافها، ولم تهمل دعم الحلفاء الآخرين مثل: فرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان.
وتنذر هذه السياسات الأمريكية بالفوضى من جهة احتمالات جديدة للتدخل فى مناطق أخرى، ومن جهة التناقض الأمريكى الصارخ، حيث تتدخل فى إحدى المناطق، بينما تواصل تأييد ( إسرائيل) وتقدم لها سنويًا ما لا يقل عن 3 مليارات دولار، رغم أن هذه الدولة تواصل احتلالها للأراضى العربية، وتحتقر القوانين الدولية بانتهاكها منذ 30 عامًا قرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين؛ لذلك كان طبيعيًا أن يشعر الناس بالظلم، فالرأى العام العربى، رغم اعترافه بديكتاتورية صدام حسين، إلا أنه يشعر بتعاطف مع الشعب العراقى، بل إن معظم دول المنطقة رفضت المشاركة فى ضرب العراق عندما أرادت أمريكا أن تكون بغداد هى المحطة التالية لا لشيء إلا لأن أمريكا تتحيز - فى فجور ضد كل ما هو عربى.
2 - عين واشنطن :
ويقول المؤلف: إن أزمة ( إيران جيت ) فى منتصف الثمانينيات التى كادت تزعزع النظام السياسى الأمريكى هى التى فتحت الطريق أمام ما يعرف اليوم فى أدبيات السياسة الأمريكية المعاصرة بـ « خصخصة السياسة الخارجية الأمريكية »، أى نقل جزء كبير من عملياتها الخارجية إلى شركات خاصة حتى لا تجد نفسها فى حال الفشل أو الانكشاف فى موقف المساءلة من الكونجرس الأمريكى، ويسمى البعض هذه الشركات «شركات الحروب الخاصة»، وهى التى تكفل لوزارة الدفاع (البنتاجون) الغطاء المثالى لقيادة العمليات الخارجية، بعيدًا عن رقابة وسائل الإعلام والكونجرس الذى يخول له الدستور حق مراقبة السياسة الخارجية ومناقشة تفاصيلها.
ويرى أن خصخصة الوكالات والأجهزة المختلفة جاء لتكريس الهيمنة الأمريكية دون مساءلة قانونية ودستورية، ومن ثم بات من الفطنة أن نتوخى الحذر عندما نتعامل مع هذه الشركات التى قد تصنع غطاء إنسانيًا واجتماعيًا، فى حين أنها حتى النخاع - سياسة موجهة.
وتحت عنوان: (برامج التجسس) يذكر أن أمريكا تقود أوسع عمليات تجسس فى العالم، حيث تتنصت على كل ما يدور على الأرض عبر مركز تنصت إلكترونى تابع لوكالة الأمن القومى (NSA)، كما يتعاون جهاز الاستخبار الأمريكى C.I.A مع جهاز الموساد الإسرائيلى فى إطار عملية تجسسية فريدة تعتمد على « تفخيخ » أجهزة الكمبيوتر المختلفة عن طريق برنامج يسمى (وعد) P r omise يسمح باختراق بنوك المعلومات، وقد تفجرت أزمة بين الإدارة الأمريكية ( شركة أنسلاو Anslaw) للمعلوماتية حول ملكية هذا البرنامج الذى جعل أحشاء العالم ومراكز صنع القرار فيه عارية تمامًا أمام القادة الأمريكيين والإسرائيليين.(14/312)
وفى مقالة بعنوان «جهاز الـ C.I.A يدير حلف الناتو» يذهب إلى أن هذا الجهاز قام عمدًا بتنظيم عمليات عرضت قوات حلف الناتو إلى خطر حقيقى ومنعتها فى أكثر من مناسبة من القيام بالمهام الأصلية المنوطة بها، وطوال عمليات حلف الناتو فى حرب الخليج الثانية وحرب كوسوفا والصومال وجدت الدول الأعضاء فى التحالف نفسها مجبرة على قبول الضغوط الأمريكية مثلما وجدت بعض الشعوب نفسها مستهدفة وضحية للسياسات الأمريكية، ففى كوسوفا على سبيل المثال غض الأوروبيون الطرف عن خطط واشنطن الرامية إلى تسليح الصرب والكروات، رغم أنها تتعارض مع رغبتهم فى تخفيض التسلح فى القارة الأوروبية، كما تراجعوا عن التزاماتهم تجاه كوسوفا، ولم يهتز لهم جفن وهم يشاهدون الآلاف يهربون من بيوتهم، خوفًا من آلة القتل الجماعى التى تتعقبهم فى كل مكان، أما الأكثر بشاعة فكان عند تدخل الحلف فى الحرب، حيث اختاروا أهدافًا مدنية لتكون هدفًا للضرب والتدمير، ولم يحترموا المعاهدات الدولية التى تحرم ضرب المدنيين والمنشآت ذات الصفة المدنية، ولم يتورعوا كذلك لأسباب اقتصادية عن استعمال الأسلحة المحظورة فى القيام ببعض المهام العسكرية.
3 - أمريكا - أوروبا :
وتحت عنوان « تبعية لا تحالف » يرى أن العلاقات الأوروبية - الأمريكية ليست على ما يرام، ويتفق فى ذلك مع رأى إيفود والدر - مستشار الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون - الذى يقول: « إن الطرفين يسيران حقًا باتجاه التصادم فقبل هجمات 11 من سبتمبر كانت أمريكا وأوروبا تسبحان ببطء، بعيدًا عن بعضهما البعض، ولكنهما الآن تندفعان بقوة نحو المواجهة».
ولا يكاد يمر يوم إلا ويتكرس الشقاق والاختلاف فى وجهات النظر فأمريكا تريد أن تعبر العالم أجمع بما فى ذلك أوروبا بحق الزعامة المطلقة لها، ولعل الشعور بالتوجس والقلق يظهر عند الأوروبيين عندما يتأكدون أن واشنطن تصر على تهميش أى دور لهم فى (عملية السلام) على غير رغبة القارة العجوز فى أن تكون حاضرة ومشاركة وفعالة فى المنطقة لعلاقاتها المتشعبة مع عدد من دولها.
وتتأسس الخلافات بين أوروبا وأمريكا على خلفية من الثقافة والأيديولوجيا منها أن الرئيس الأمريكى الحالى يريد تغيير العالم، بينما أوروبا المشغولة باتحادها وتوسيعه تريد إبقاء الوضع على ما هو عليه، وفى الوقت الذى تبدو فيه الإدارة الأمريكية مقتنعة بأن أداة التغيير الوحيدة هى القوة الباطشة ترى أوروبا أن الأعمال العسكرية ليست وحدها هى الأداة الفعالة فى حل المشكلات ومواجهة القضايا.
وفى مقالة «تقزيم أوروبا.. استراتيجية أمريكية» يذهب المؤلف أن المساعدات الأمريكية لبعض الإسلاميين أثناء الغزو السوفياتى لأفغانستان كان يهدف أيضًا إلى تقزيم أوروبا، أما حلف الناتو فلم يعد له من سبب وجود بعد سقوط حائط برلين سوى خدمة السياسة العسكرية الأمريكية وإخفاء الهيمنة الأمريكية فى كل أنحاء أوروبا تلك الهيمنة التى تزعزع استقرار أوروبا وتجد مبرراتها فى خلق بؤر توتر هنا وهناك من أجل أن تضمن لنفسها السطوة والنفوذ، باعتبار أن العالم هو بالضرورة للأمريكيين، ولا ينبغى أن يكون بغير الأمريكيين حسبما رددت ذلك مرارًا مادلين أولبرايت - وزير الخارجية الأمريكية السابقة - فى أكثر من مناسبة.
وتحت عنوان: «قوات الردع الأوروبية: طعنة فى ظهر أمريكا» يشير المؤلف إلى محاولة الاتحاد الأوروبى الوصول إلى نقطة توازن فى علاقاتها مع الولايات المتحدة، لكن هذا لم يمنع من تفجر الأزمات بين وقت وآخر مثل الأزمة التى تفجرت بعد القرار الأوروبى إنشاء قوات ردع أوروبية، والتى لم تلق غير الاستياء والتشكيك من جانب واشنطن فوضعها وليام كوهين - وزير الدفاع الأمريكى فى عهد الرئيس بيل كلينتون - بأنها « طعنة » موجهة إلى قلب حلف الناتو.
وفكرة هذه القوات نبعت من مبدأ أوروبى يقول: إنه لا توجد حضارة تستطيع العيش طويلاً إذا لم تكن لديها وسائل للدفاع عن نفسها، وعلى صعيد آخر تفجرت أزمة أخرى بعد صناعة شركة إيرباص الأوروبية طائرة عملاقة (3x-x)، والتى دفعت الرئيس السابق بيل كلينتون إلى التحذير من نشوب حرب تجارية بين أوروبا وأمريكا ما لم يتم حسم الخلاف حولها وملخص هذه الأزمة أن أمريكا تتهم الأوروبيين بتقديم دعم حكومى لشركة إيرباص، وهذا يعد خرقًا لاتفاق تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1994، وقد رفضت المفوضية الأوروبية على لسان رئيسها رومانو برودى هذا الاتهام مؤكدًا أن الأمر يتعلق بقروض بقيمة 3 مليارات دولار من الحكومات الأوروبية للشركة وسوف يعاد تسديدها.
4 - أمركة الحزام الأخضر الإسلامى :(14/313)
ويحتوى هذا القسم على جزئين، الأول: «مسلمو البلقان شوكة فى قلب أوروبا» يذكر المؤلف أن المحللين الأوروبيين يعتبرون أن قيام الدول العربية والإسلامية بإرسال المصاحف وإنشاء المساجد والمراكز الإسلامية فى آسيا الوسطى يعد بمثابة (أسلمة) لهذه الدول، وبالتالى تهديد للغرب من أيرلندا وحتى روسيا، ويؤكدون أن لتركيا دورًا بارزًا بعد سقوط الاتحاد السوفياتى، وهذا الدور ليس التحالف مع أمريكا، وإنما يتمثل فى النشاط الأيديولوجى فى البلقان والقوقاز، وهذا يُعد خطرًا كبيرًا على أوروبا نظرًا لأن البلقان لا يبعد سوى يوم كامل بالسيارة عن باريس ولا يفصله عن روما إلا مسيرة ساعة بالطائرة.
ويذهب المؤلف - تأثرًا بآراء بعض المحللين الأوروبيين - إلى أن أمريكا فى حربها الضروس مع أوروبا تستخدم (البؤر) و(المنظمات الإسلامية) فى البلقان لضرب وحدة أوروبا حتى لا تكون القوة المرشحة للوقوف فى وجه هيمنتها التى تفرضها على العالم ولإثبات وجهة النظر هذه يذكر تصريح للكولونيل الأمريكى هارى سمرز فى أغسطس 1998 قال فيه: «فى كوسوفا كانت -الولايات المتحدة - تدافع عن المجموعات الإرهابية المتطرفة على الرغم من أن هذه المجموعات كانت العدو الأول لنا».
والثانى « فى التصور الأمريكى: مناطق صلبة وأخرى رخوة، يسوق المؤلف رؤية الجيوبوليتيكى الفرنسى الشهير بيير مارى بأن الاستراتيجية الأمريكية تضع الفضاءات (الجيو - حضارية) فى فترة ما بعد الحرب الباردة فى فئتين أساسيتين: الأولى مناطق صلبة والثانية مناطق رخوة.
والفئة الأولى تندرج فيها الحضارات المتقدمة أو الديناميكية والأمم أو النخب السياسية القادرة على أن تحافظ على استقلالها وسيادتها، والتى لها إرادة ترفض الهيمنة الأمريكية بمعنى آخر تعنى تلك الدول التى لها قدرة على ممارسة التأثير فيما وراء حدودها، وهى بهذا قادرة على الوقوف فى وجه المصالح الأمريكية، أما الفئة الثانية ( المناطق الرخوة ) وتشمل مجموعة الدول ضعيفة السيادة، ويندرج فيها أيضًا قوى وحضارات قديمة أوروبية وإسلامية، لكن يوجد بها مناطق قد تندرج فى ظروف معينة ضمن المناطق الصلبة إذا توافرت لها شروط القوة.
وقد ظهرت استراتيجية أمريكية تعرف باسم استراتيجية ( الحزام الأخضر فى مواجهة أوروبا ) ، ويقصد بها أن تحاط روسيا وأوروبا بهلال إسلامى يضم بعض الدول الإسلامية، وهذا الحزام تنطلق محاوره من الجزيرة العربية وتركيا العلمانية وأفغانستان وباكستان، وقد نجحت واشنطن عبر استراتيجيتها فى التعامل مع الحركة الإسلامية (دولاً وجماعات) فى أن تشكل هذا الحزام.
5 - أمريكا - الصين :
كان اصطدام طائرة التجسس الأمريكية بإحدى المقاتلات الصينية فى أول أبريل 2001 خير معبر عن طبيعة العلاقة بين البلدين، فبينما رأت القيادة الأمريكية (الرئيس بوش ووزير خارجيته كولن باول) أنها قدمت كل ما ينبغى فى هذا الموقف، وهو الإعراب عن الأسف لفقد الطيار قائد المقاتلة الصينية شددت بكين على ضرورة أن تعترف الولايات المتحدة :
أولاً : بمسئوليتها فى سقوط المقاتلة الصينية .
وثانيًا: الاعتذار للشعب الصينى.
وثالثًا: اتخاذ خطوات عملية لمنع تكرار أحداث التجسس فى المستقبل. وأصر وزير الدفاع الصينى ( تشى هاوتيان) على أن تتحمل الولايات المتحدة المسئولية الكاملة عن حادث تصادم الطائرتين الأمريكية والصينية، وأكد فى تصريح اعتبرته واشنطن معاديًا أن جيش التحرير الشعبى وشعب الصين لن يغفرا محاولة الإدارة الأمريكية التنصل من مسئوليتها، وأن الجيش الصينى - صاحب التاريخ السياسى - سيواصل ضغوطه على القيادة الصينية لكى تتخذ الموقف المتشدد والملائم ضد واشنطن.
واستند هذا الموقف الصينى إلى جملة من المواقف الصدامية بين الطرفين فى السنوات الماضية منها لجوء أحد كبار ضباط المخابرات العسكرية الصينية إلى الولايات المتحدة بعد مشاركة فى برنامج تعاون بين البلدين نظمته جامعة هارفارد الشهيرة، والقصف الأمريكى غير المقنع للسفارة الصينية فى بلجراد عام 1999، وكذلك اعتزام واشنطن نشر درع مضاد للصواريخ وتزويد تايوان - الإقليم المتمرد من وجهة نظر الصين - بالأسلحة الاستراتيجية والتكنولوجية الحديثة وتواجدها فى كوريا واليابان بشكل يستهدف تحجيم القوة الصينية.
وهذه الصدامات تخفى وراءها سعيًا صينيًا لقيادة آسيا فى مقابل رفض أمريكى لهذا الطموح، وإذا كنا نستحضر مقولة نابليون بونابرت: إن الصين عندما تستيقظ فسوف يرتجف العالم، فإنه رغم الرجفة تضاعفت بسبب أزمة طائرة التجسس الأمريكية فإن الصراع ما زال كامنًا بين بكين وواشنطن، وسوف يتحول إلى العلن فى حال وصول الصين لطموحها بأن تكون القوة الاقتصادية الأولى فى العالم، فساعتئذ سترى بكين أن الهيمنة الأمريكية ينبغى أن تنتهى، بينما ستتحدث وسائل الإعلام الأمريكية عن إمبراطورية الشر الجديدة.
6 - الأمم المتحدة الأمريكية :
وتحت عنوان: « ثقافية مفقودة وشرعية غائبة » يتساءل المؤلف:(14/314)
ما فائدة الأمم المتحدة ، ولماذا يصر العالم على بقائها ما دامت جميع الأحداث تؤكد على أنه لا جدوى منها ولا طائل من ورائها، فالأمم المتحدة ليست سوى أكبر مستهلك للورق فى العالم، إذ يصدر عنها يوميًا آلاف الصفحات بلغات شتى تحمل قرارات وتوصيات لا تساوى قيمة الحبر المكتوب، ويعمل بها 50 ألف موظف يتقاضون رواتب ضخمة.
ومنذ نشوء هذه المنظمة على أنقاض عصبة الأمم التى ماتت فى سبتمبر 1939 مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهى تتعرض لانتقادات عنيفة، منها أن هناك ازدواجية فى المعايير، فدولة مثل هاييتى عندما تأخرت عن سداد حصتها تم حجب صوتها والاتحاد السوفياتى عندما تأخر عن ذلك بمحض إرادته لم يحجب صوته.
وأصبحت الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست إلا منظمة شعارها « اصرخ بأعلى صوتك - ثم دع كل الأشياء تمر»، فاتخاذ القرارات يتم، ولكن النتائج فى النهاية تساوى صفرًا، وبافتراض أحزاب كل العمال فى مبنى المنظمة ترى ماذا سيكون مصير العالم؟ الإجابة: بالطبع لن يحدث شيء البتة، فالعالم فى غياب عمل الأمم المتحدة ربما سيمضى أحلى أوقاته، نظرًا لأن الأمم المتحدة أصبحت أداة أو سلاحًا لخدمة السياسة الأمريكية، وأنها لم تظهر إلى الوجود إلا لتحقيق مصالح الأمريكيين فى العالم.
وتحت عنوان: «حقان فى الميزان: حق الأكثر قوة، وحق التدخل الإنسانى»، يناقش المؤلف مقولة (حق التدخل) التى أحدثت قطعًا حقيقيًا فى تاريخ الدبلوماسية والعلاقات الدولية الراهنة بعدما تعرضت الدول التى لا تملك القوة الضرورية التى تمكنها من ردع الولايات المتحدة والتحالفات الغربية إلى التدخل فى شؤونها بدعوى (حق التدخل).
وبهذين الحقين «حق الأكثر قوة» و«حق التدخل» وجدت دول كثيرة فى العالم ضعيفة ومستباحة أمام القوة الكبرى وهى الولايات المتحدة التى أصبح كل شيء مسموحًا به لها، خصوصًا بعدما روجت عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة التى تملكها لإقناع الآخرين بأنها ليست الأكثر قوة فقط، وإنما هى الأفضل أيضًا.
وكان طبيعيًا - تأسيسًا على ذلك - أن تكرس واشنطن انفرادها بالقرار الدولى، فقامت فى السابق بتفجير مواقع استراتيجية عراقية دون (إذن) من الأمم المتحدة، وبدأت فى الإعداد لغزو العراق، واستباحة دول أخرى بعدما صاحت مادلين أولبرايت - وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة - بأعلى صوتها أن أمريكا ستتدخل منذ الآن فصاعدًا بشكل منفرد حيثما تريد ووقتما تريد، ومع أو بدون موافقة الحلفاء والمنظمات الدولية.
7 - أمريكا - فرنسا:
ويحتوى هذا القسم على مقالتين، الأولى: « الاقتصاد مثل الرؤوس النووية » يقول المؤلف: إن من بين الـ 191 دولة الأعضاء فى الأمم المتحدة لا توجد سوى دولة واحدة تضع نفسها فى طبقة معينة، رغم المساواة الرسمية فى المنظمة، وهذه القوة تسيطر على ل المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية والنقدية واللغوية والثقافية، وهذا الحال غير مسبوق فى التاريخ، إذ لم توجد هناك إمبراطورية وحيدة هيمنت على العالم أجمع بما فى ذلك الخصوم.
ويتساءل: لكن ما هو موقف فرنسا من كل ذلك ؟
الواقع أن هناك حساسية فى العلاقة بين فرنسا والولايات المتحدة لخصها هوبير فيدرين - وزير الخارجية الفرنسى السابق - بقوله: إن الدبلوماسية الفرنسية انتهجت منذ عام 1958 أسلوب النقد المنظم ( المنهجى)، وأضاف : لقد توصلنا إلى صيغة أن نكون قادرين على أن نقول: نعم إذا كانت نعم فى مصلحتنا، وأن نقول: لا إذا كان ذلك لا يضر بأهدافنا الحيوية، وطبقنا لهذه الدبلوماسية فى مختلف المواقف فى الشرق الأوسط وأفريقيا والبلقان والمثال الصارخ على ذلك أننا رفضنا القوانين الأحادية التى صدرت عن مجلس الشيوخ الأمريكى بمعاقبة الشركات غير الأمريكية التى تستثمر فى إيران وكوبا.
ويشير فيدرين أن أمرًا كهذا لم يكن سهلاً، لكننا استطعنا تحقيقه من خلال الحوار الدائم بين المسئولين السياسيين على جانبى الأطلنطى وهو حوار مفيد، ويساعدنا فى بعض الحالات فى التأثير لمصلحة ما نراه مؤكدًا فى الوقت ذاته أن التعاون وثيق ومكثف بين الحكومتين فى فرنسا وأمريكا، على الرغم من حساسيتنا الخاصة تجاه بعض القضايا فى الشرق الأوسط والبلقان ومنطقة البحيرات العظمى فى أفريقيا، كما أن تصوراتنا فى إطار منظمة التجارة العالمية ليست متماثلة، لكننا نجحنا فى أن نطرح جميع القضايا على مائدة التفاوض والنقاش، وفى المقابل فإن أمريكا لا تميل إلى تحليلنا أو رؤيتنا للعالم، ولا لما نقوله بشأن مخاطر التماثل وإصرارنا على مفهوم التعددية القطبية.
والثانية « الأمريكيون (لا الأوروبيون) حطموا حائط برلين يشير إلى أن الأمريكيين يتحركون دائمًا فى إطار الحفاظ على - وتعظيم - مصالحهم الاقتصادية، ويتصرفون دائمًا استنادًا إلى موافقة الأمم المتحدة، لكن إذا تعذرت أو تعطلت هذه الموافقة فلا نتردد فى أن نتصرف بمفردنا، وفى هذا السياق فإن واشنطن تدخل فى صراع ممتد مع أوروبا قد يستمر لفترة طويلة فى القرن الحادى والعشرين من منطلق رغبتها فى أن تظل القوة الواحدة والوحيدة فى العالم.(14/315)
ولا تتردد أمريكا فى إفشال كل المخططات الأوروبية الوحدوية، سواء على صعيد القوة الاقتصادية أو القوة السياسية أو القوة الدفاعية والحق أن لا أحد يعارض هذه الخطط الأمريكية حتى أوروبا نفسها تعجز عن ذلك فأمريكيون (وليس الأوروبيون) هم الذين قرروا تحطيم حائط برلين عبر مفاوضات جرت فى موسو وبون ولندن، كما أن الأوروبيين لم يكونوا فاعلين فى أحداث يوجسلافيا وكوسوفا، حيث كان الأمريكيون يحركون كل الخيوط مستغلين ضعف ولا مبالاة أوروبا.
8 - أمريكا سيدة العالم :
تروج الولايات المتحدة لظاهرة الهيمنة التى أصبحت أبرز سمات عصرنا الراهن فتطلق عليها وصف ( الهيمنة الطيبة أو الخيّرة )؛ لأنها من وجهة نظر خبرائها الاستراتيجيين تستهدف خير الإنسانية ، ويحدد بعض المؤيدين لها مفهوم الاستراتيجية بأنها: فن استخدام الوسائل العسكرية لإكمال وتحقيق أهداف سياسية مضيفًا أن الهيمنة التى تمارسها واشنطن - من هذا المنظور - هى عمل طيب بالنسبة لسكان الكرة الأرضية.
ويذكر المؤلف أن الأهداف الاستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية لم تتغير منذ 50 عامًا، وهى تتمحور حول إلغاء ( أو إضعاف) الخصوم والمنافسين (سواء كانوا أصدقاء أو أعداء) لكى تتمكن من أن تحتفظ لأطول مدة ممكنة بموقعها كقوة عظمى وحيدة فى العالم، ويضيف أن الاستراتيجيين الأمريكيين يتحدثون عما يسمى بالاستراتيجية الأمريكية المتكاملة التى تدور حول محاور ثلاثة هى : الاستراتيجية الاقتصادية والاستراتيجية العسكرية والاستراتيجية الثقافية. وقد أدى التفوق الأمريكى فى أربع قوى أساسية إلى السيطرة على العالم، وهى القوة العسكرية المنتشرة فى الأرض والبحر والقوة الثقافية والمعلوماتية من خلال السيطرة شبه الكاملة على وسائل الاتصال والأقمار الصناعية والقوة التكنولوجية، والقوة الاقتصادية، حيث تحتل الشركات الأمريكية المرتبة الأولى فى قطاعات: السيارات والزراعة والغذاء والفضاء والبنوك والسمعيات والمرئيات.
ويستغرب المؤلف من وجود فئة من الساسة والمثقفين الذين نصبوا أنفسهم مدافعين عن السلوكيات الأمريكية التى ينطلق شعورها بأنها زعيمة العالم، وذهبوا فى دفاعهم إلى أن الغارات الجوية والضربات الموجهة والحصار ووسائل العدوان التى تمارسها الولايات المتحدة ليست - انطلاقًا من المنظور القيادى - إلا أفعالاً تجلب الخير للإنسانية، ويستندون إلى مقولة الرئيس السابق نيكسون التى يقول فيها: « الرب دعا أمريكا لكى تقود العالم ، ولا جدال فى أن الهيمنة الطيبة التى تمارسها أمريكا هى أمر مفيد ورحيب فى مصلحة الأغلبية الساحقة من سكان العالم، ويربط الأمريكيون بين الأخلاق ومخططاتهم الاستراتيجية، فتقول مادلين أولبرايت - وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة : هدف أمريكا هو الحرية ونحن الأمريكيين نعمل مع الآخرين لتحقيق تقارب بين الأمم حول مبادئ الديموقراطية والقانون والأسواق المفتوحة، ونحن نفعل ذلك ليس فقط لأنه أمر عادل، ولكن أيضًا لأنه لهم لحماية أفضل لمصالح أمتنا وشعبنا.
ويشير المؤلف إلى حقيقتين:
الأولى : أن الولايات المتحدة تتلاعب بدعاوى حقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولى والقيم الغربية الليبرالية لكى تكون (واجهة زائفة) أمام الموتور الحقيقى المحرك لها، وهو الأطماع البترولية التى تشاركها فيها بريطانيا.
الثانية: الحرب الاقتصادية التى شنتها الولايات المتحدة على العراق، وقبلها ( يوجسلافيا ) لا تنفصل عن حرب المعلومات، أو بالأحرى تزييف المعلومات والصور والكلمات؛ لأنها كما أثبتت التجربة أشد ضراوة وأكثر فتكًا.
9 - أمريكا ورهانات القوة فى الشرق الأوسط :
ويحتوى هذا القسم على ثلاثة أجزاء :
الأول بعنوان « أوروبا فى زمن الهيمنة الأمريكية: جعجعة بلا طحن»، ويقول فيه: إن التحرك الأوروبى أصبح كثيفًا فى الفترة الأخيرة فيما يخص الصراع فى المنطقة، لكن حصاد هذا التحرك على الصعيد العملى ليس إلا جعجعة بلا طحن.
ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب : أن العرب يرون فى أوروبا ما ليس فيها، فهى ليست شريكًا أساسيًا فى عملية التسوية، وإنما هى فى الحقيقة ليست أكثر من « كومبارس » يلعب دورًا مرسومًا ومحدد المدة ريثما يعود (البطل) إلى خشبة المسرح ليواصل دوره من جهة ، أما أوروبا فهى لا تزال تشعر بأنها غير موحدة إزاء جملة من القضايا الإقليمية والدولية على رأسها بالقطع قضية الصراع العربى - الإسلامى من جهة ثانية، فضلاً عن أن الموقف الأمريكى يرفض فكرة أن يكون للولايات المتحدة (منافس) فى المنطقة تحت أى شكل أو صفة ؛ لأن واشنطن تعتبر نفسها الوسيط الأوحد، وأن أى تدخل أوروبى لن يؤدى إلا إلى عرقلة العملية السلمية وإفشال المساعى التى تبذلها أمريكا لدى الأطراف لضمان التقدم فى المفاوضات.(14/316)
أما الجزء الثانى بعنوان: « أوروبا عملية السلام: حياد أم انحياز؟» فيذكر المؤلف أن العالم العربى أسرف كثيرًا وطويلاً بشأن الدور الأوروبى فى عملية التسوية، نظرًا لأن الأحداث تكشف دائمًا عن أنه ليس بالفعالية التى يتحدث عنها، فعلى سبيل المثال فى الاجتماعات الاستثنائية لحقوق الإنسان فى (جنيف) لم تصوت بلدان أوروبية لمصلحة قرار أصدرته الأمم المتحدة، ويدين فيه إفراط (إسرائيل) فى استخدام القوة ضد السكان المدنيين فى فلسطين المحتلة، كما امتنعت أوروبا لاحقًا عن التصويت لمصلحة مشروع قرار يقضى بإرسال قوة رقابة دولية إلى الأراضى الفلسطينية، وتحفظت فرنسا وبريطانيا وهولندا على دعم قرار طرحته مجموعة عدم الانحياز على مجلس الأمن بشأن الانتفاضة الفلسطينية، وبالتالى فلم يعد الحال أو الموقف مجرد حياد، وإنما انحياز أوروبى نظرًا لأن الاتحاد الأوروبى يستبعد جميع الإجراءات الزجرية ضد (إسرائيل)، ويقوم رغم الممارسات الإسرائيلية بتوثيق علاقات الشراكة مع تل أبيب.
أما الجزء الثالث بعنوان: « التدخل الدولى بين مقدونيا والشرق الأوسط (الصورة المعكوسة) » ، فيتساءل فيه المؤلف: لماذا كنا نرى التدخل الدولى حاضرًا بقوة فى أحداث الصراع السلافى - الألبانى فى مقدونيا حتى انتهى باتفاق سلام أشرفت عليه القوى الدولية الكبرى فى العالم، بينما نراه (غائبًا) فى الشرق الأوسط، على رغم خطورة الأوضاع، ويجيب أن لأمريكا وأوروبا مصالح ضخمة فى المنطقة، لكنهما رغم ذلك لا يخافا عليها من جراء مواقفها المنحازة لـ (إسرائيل) ؛ لأنهما تعلمان يقينًا أن العرب ليسوا موقفًا أو صفًا واحدًا، وإنما مواقف وصفوف متعددة، وأن ما يغضب دولة قد لا يغضب بالضرورة دولة أخرى، ولعل هذا ما عناه يومًا وزير الخارجية الفرنسى الأسبق رولان دوما عندما سئل عما إذا كانت لبلاده سياسة عربية واحدة، فأجاب قائلاً: لنا سياسات مختلفة مع دول عربية عديدة، فلنا سياسة مع مصر وأخرى مع السعودية، وثالثة مع سوريا، ورابعة مع الأردن... إلخ، لكن ليس لنا سياسة واحدة ؛ لأن العرب ليسوا صوتًا واحدًا.
10 - أمريكا واليهود.. من يستعمل الآخر؟
تحت عنوان: « لعبة المال والإعلام وتزييف الحقائق » يذكر أن جاك أتالى أبرز مستشارى الرئيس الفرنسى الراحل فرنسوا ميتران فى كتاب (اليهود والعالم والمال) يقول: إن تجربة اليهود فى بلاد العالم لقنتهم درسًا يتوارثونه جيلاً بعد جيل مفاده أن إحكام السيطرة على العالم يتأتى من جانبين الأول: امتلاك الأول، والثانى: امتلاك الآلة الإعلامية، ويضيف آتالى، وهو كاتب يهودى مرموق أن قادة أوروبا فى القرن الـ 19 كانوا أشبه بالماريونيت - العرائس المتحركة - فى أيدى اليهود، فحروب بسمارك حوَّلها رجال أعمال يهود ومشروع السكك الحديدية فى أمريكا قام به اليهود.
ومع بروز الإعلام مسموعًا ومقروءًا ومرئيًا كقوة حاكمة اتجه يهود لإحكام القبضة على أجهزة الإعلام فى كل دول العالم حتى لا تكاد تخلو مؤسسة إعلامية من عنصر يهودى لرغبتهم فى ( التسيّد ) على العالم وتنظيف الطابع اليهودى بإزالة السلبيات، وإضافة الإيجابيات، وكما يقول جورج أورويل بأن « الروايات عندما تردد نفس الشيء بشكل متواتر فإن الكذب يمر فى التاريخ ويصبح حقيقة »، لكن الجانب الأخطر فى الموضوع كان يتمثل فى إسكات أى صوت يختلف مع الصوت اليهودى ومحاصرة أى فكر يناقض فكرهم، ومن الأدلة على ذلك أنهم أجبروا وزير التعليم الفرنسى على سحب درجة الدكتوراه من الباحث هنرى روك فى جامعة نانت؛ لأنه تجرأ وناقش فى أطروحته وثائق النازية، ونفى وجود أفران الغاز واصفًا إياها بأنها محض أكذوبة يهودية.
وتحت عنوان: « العولمة صناعة يهودية » يرى المؤلف أن مجرد وجود شخصيات يهودية على رأس الحركات الاشتراكية والرأسمالية كفيل بأن نقتنع بأن اليهود هم من صنعوا «العولمة» فيقول: إن العامل الروسى اليهودى المدعو مارتوف عندما كتب متفائلاً بمستقبل العمال اليهود وحصولهم على حقوقهم كاملة بالمساواة، مع غير اليهود كان ذلك مقدمة لصداقة قوية بينه وبين لينين، وتزايد عدد اليهود فى الحركة الاشتراكية الروسية، وأسهموا فى ولادة الحزب الاشتراكى الديموقراطى الروسى.
ويقول المؤلف: إن اليهود كما أسهموا فى ميلاد الاشتراكية أسهموا أيضًا فى ميلاد الرأسمالية، وهى (أمركة العالم) عندما غامروا بتمويل عملية تحويل المجتمع الأمريكى المعتمد على الاقتصاد الزراعى إلى مجتمع تجارى وصناعى، وأسس يهودى يدعى يعقوب شيف شركة مصرفية فى دول ستريت، وتعددت البنوك اليهودية لاحقًا فى أمريكا، وفى عام 1906 ظهر اسم كبير هو خان ليب، وأصبح صاحب أكبر تأثير فى الحياة الاقتصادية الأمريكية بعد أن اجتذب رؤوس أموال أوروبية للاستثمار فى الصناعة الأمريكية، واقترض نحو 48 مليون دولار من فرنسا لتمويل مشاريع أخرى، وهكذا بفضل اليهود لم تعد بريطانيا القوة العظمى عسكريًا واقتصاديًا، بل ظهرت أمريكا أكثر قوة ونفوذًا، بمعنى آخر: لولا المساعى اليهودية، لما تحققت العولمة المؤمركة، أو الأمركة المعولمة (لا فرق)!(14/317)
وتحت عنوان: ( الإرهاب الفكرى ) يؤكد المؤلف أن كافة الشواهد تؤكد أن حرية الفكر مخنوقة فى العالم أجمع، وهى مهددة بشكل أو بآخر بنموذج العولمة الذى فرض نفسه فرضًا على المرحلة الراهنة فى تاريخ البشرية رافضًا الاختلاف والتعددية فى السياسة والثقافة ، ويحمل قادة الفكر المسئولية فى حالة التردى الفكرى التى يمر بها العالم؛ لأنهم أسرفوا فى تأييد الأيديولوجيات المختلفة، ثم أخذوا بعد ذلك مواقف متناقضة تبعث على السخرية فى أحيان كثيرة.
و(العولمة) المصطلح الذى ذاع وانتشر وكأنه الموضة هى الساحة التى تشهد الإرهاب الفكرى من نوع خاص فالعولمة أو الليبرالية الاقتصادية أصبحت الدين المسيطر بعد أن أصبح العالم سوقًا واسعة، وهذه السوق هى التى تقرر، ومن ثم يطرح السؤال: ما هو دور السياسة إذًا؟ إلى جانب أسئلة أخرى مثل: إذا كانت العولمة لا مفر منها والسوق محتومة وإزالة الحواجز لا مهرب منها، فأين حرية الإنسان؟.
11 - يوتوبيا تغيير العالم :
ويحتوى هذا القسم على مقالات ثلاثة :
الأولى : «قبل أن تقع الحرب العالمية الرابعة» ويشير فيها إلى تعدد أشكال الحروب منذ الحرب الباردة مثل حرب الخليج الثانية، ثم فى يوغسلافيا، حيث قادت أمريكا تحالفًا عسكريًا فى هذين الحربين، وهناك الحروب الأهلية فى مناطق عديدة فى العالم حتى إذا جاءت أحداث 11 من سبتمبر فإن أمريكا تزيد من إنفاقها العسكرى حتى يصل لأكثر من 40% من الإنفاق العسكرى، وتقوم بحرب كونية بحثًا عن شبكة من الإرهابيين فى عشرات الدول، مما يهدد بحرب عالمية جديدة تتواطؤ فيها حضارات معينة ضد حضارة واحدة.
والثانية « بعد انهيار الشيوعية، هل جاء دور الرأسمالية ؟ »، ويقول المؤلف: إنه رغم الحديث عن أن الرأسمالية هى النموذج الأكمل والنهائى للبشرية بعد انتصارها على الاشتراكية، إلا أن سقوط الشركات الكبرى فى أمريكا وفرنسا وأوروبا أصبح قادة الغرب ومنظريه على يقين أن هناك (عطبًا أساسيًا) فى عمق النظام الرأسمالى نفسه، مما يحتم إعادة النظر فى آليات الرأسمالية، خصوصًا فى مرحلة العولمة التى تتأسس على عزل الدول وإطلاق يد الشركات العابرة للقارات لتحقيق أكبر ربح بأقل التكاليف.
ولكن الحلول المقدمة لا تتجاوز إنشاء لجان رقابة على الشركات العملاقة لتحديد المسئوليات وضبط الحسابات ومراجعة التحليلات، ويؤكد القادة والمنظرون أنفسهم على أن الأيديولوجية الرأسمالية ستظل مثالية؛ لأن فشل النظام لا يعنى فشل الأيديولوجية، وهى نفس الحجة التى كان يسوقها البعض دفاعًا عن الشيوعية التى لم تسقط من وجهة نظرهم.
أيًا كان الأمر فإن الرأسمالية تمر حاليًا بأزمة حقيقية تفرض - لتجاوزها - إحداث تطوير مرحلة جديدة تختلف عن مرحلة العولمة على الطريقة الأمريكية، ويقول الأوروبيون: إن نموذجهم المبنى على السلام الدائم، وليس (الرعب) الذى قدمته إمبراطورية الفوضى الأمريكية هو البديل الطبيعى، ومع أن الطرفين دخلا فى خلاف حول وسائل تصحيح المسار فإن العرب ما زالوا يسرعون بركوب قطار العولمة!
والثالثة «عولمة السلام»، ويعنى به المؤلف الشعار الذى رفعه تيار غربى جديد يدعو فيه إلى ترويج قيمة السلام، وتحقيق الإجماع العالمى حوله لتعتنقه الشعوب كمبدأ أو كمذهب فى الحياة الخاصة والعامة، بدلاً من ثقافة الحرب التى تدأب القوى الكبرى على غرسها فى النفوس لتجنى وحدها الثمار التى تأتى بالضرورة على حساب أرواح الشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها، وهذا يعنى أن هذا التيار يطمح إلى أن يضع حجرًا إضافيًا فى صرح السلام والكفاح المتواصل ضد المفهوم المسيطر للأمن والمؤسس على التسليح والتحالفات العسكرية، لكن الذى يعيق هذا التيار أن القادة الحقيقيين للعالم ليسوا من يجلسون فى المناصب السياسية، وإنما هم من يملكون الأسواق ومجموعات الميديا الكونية وطرق الاتصالات، بما يعنى أن القرارات التى تخص العالم لا تخضع لاقتراع عالمى؛ لأن هناك سلطات غير رسمية تسيطر على العالم وتقرر فى سيادة تامة مصير الشعوب.
ويجب ألا يكون هذا باعثًا للتشاؤم نظرًا لأن الخلاص بدأ فى تكوين نواة لمجتمع مدنى عالمى تضم عشرات المنظمات غير الحكومية والنقابات والتجمعات الأهلية، التى حملت شعلة الاحتجاجات فى سياتل ودافوس وبورتو اليجرى، وبروكسل لتؤسس لفضاء مدنى دولى جديد يحاول إعادة تأسيس اقتصاد دولى جديد أكثر إنسانية وأكثر تضامنًا.
الخاتمة: لماذا يكره العالم أمريكا؟
إن المفارقة أن أمريكا فى عيون العالم بما فيها الحلفاء فى أوروبا يجتمع فيها النقيضان فهى قوة محسودة وقوة محتقرة بمعنى أنها أصبحت مثالاً يتمنى الجميع أن يقلدها أو يحذو حذوها، لكنها فى الوقت نفسه وبسبب جبروتها الذى تمارسه على الجميع تثير فى النفوس الضيق وربما الاشمئزاز.(14/318)
فالتوحش الأمريكى الذى بات، وكأنه قرر محتوم كان سببًا فى ظهور صرخات تنادى بمناهضة الأمركة بعد أن أضحت هذه الأمركة، وكأنها احتلال مباشر للدول، أما فى أوروبا فإن اليمين الموالى لأمريكا شعر بخيبة أمل؛ لأنه أصبح هامشيًا بجوار السطوة الأمريكية الطاغية، أما يسار أوروبا فلقد أخذ موقف الكاره؛ لأنه ببساطة يكره الديموقراطية والاقتصاد الحر كما تمثلهما أمريكا.
والمرارة الأوروبية تأتى أكثر من فرنسا التى وقف شعبها عدة دقائق حداد على ضحايا 11 سبتمبر، ولكنها رفضت السياسات الأمريكية اللاحقة؛ لأنها لم تعالج السبب المباشر للإرهاب - من وجهة نظرها - وهو معاناة الدول الفقيرة والتناقض الفج بين بؤس شعوب هذه الدول من ناحية ورخاء الشعب الأمريكى من ناحية أخرى.
ويتفق المؤلف مع هذا الرأى الفرنسى معتبرًا أن العولمة/ الأمركة مسئولة عن زيادة الفقراء فقرًا والأغنياء غنى، والمعروف أن معمل هذه العولمة يوجد فى الولايات المتحدة، لكنه يقول: إن الازدواجية فى الموقف مع الأمريكيين، بمعنى التعاطف معهم والإعلان أنهم يتحملون جزءًا من المسئولية هو نفس الموقف مع العراق، فهم يتعاطفون مع الشعب العراقى، ولكنهم يتفهمون ضرورة إزاحة نظام صدام حسين، ولكن يدخل فى هذا الموقف من العراق بعد اقتصادى، حيث إن الدول الرافضة لاستخدام القوة ضد العراق ترى أن الحرب ستعرض مصالحها الاقتصادية الحيوية للخطر.
والملاحظ أن المؤلف لم يعمل على تطوير الإجابة على التساؤل: لماذا نكره أمريكا؟ ويوجه اللوم إلى أوروبا والقوى الكبرى الأخرى؛ لأنها بدورها تقاعست أمام الجموح الأمريكى وأفسحت المجال رحبًا أمام أمريكا - وهذا صحيح - وكأنها القوة الوحيدة فى العالم ويخص أوروبا بالقول إنها (انتحرت) عندما لم تقدم المساعدة لأوروبا الشرقية أو تتواصل مع أفكارها الشيوعية، مما أدى لتكريس ضعف أوروبا بعد حربين عالميتين لصالح أمريكا.
وبعد انتقادات وجهها المؤلف لأوروبا يعود للإجابة على تساؤل: لماذا نكره أمريكا؟ بالتأكيد أن سياساتها الأحادية كانت السبب الأساس فى هذا، ومن الأمثلة على هذه السياسات رفض التوقيع على اتفاقية كيوتو الخاصة بالانحباس الحرارى، رغم أن الشركات الأمريكية هى المسئولة عن أكثر من نصف ظاهرة الانحباس الحرارى فى العالم، وكذلك انحيازها ضد بعض الشعوب التى تطبق حقها فى تقرير المصير مثل كشمير وفلسطين.
وهذه السياسات المتحيزة والأحادية طالت أوروبا نفسها لذلك لا غرابة أن نجد الأوروبيين بعد أن أعلنوا عقب أحداث 11 من سبتمبر (كلنا أمريكيون) عادوا وقالوا (لسنا أمريكيين؛ لأن الأمريكان شيء، ونحن فى أوروبا شيء آخر)، وجاء ذلك بعد تزايد ممارسات واشنطن فى الملف الأسود الذى تمسك به بقوة ضد بعض المصالح الأوروبية مثل: الملف الزراعى، ففى الوقت الذى تحرم فيه على الأوروبيين تقديم مساعدات لمزارعيها تفعل هى نفس الشيء مع الفلاحين الأمريكيين.
وعبثًا حاول الرئيس الأمريكى جورج بوش أن يخفف من هذه الانطباعات لدى الأوروبيين عندما قام بجولة أوروبية فى عام 2002، إلا أن التظاهرات استقبلته فى باريس وبرلين وروما بالهتاف (لا للحرب)، ( لا لحكم رعاة البقر) ، إلا أن جميع سلوكيات أمريكا لم تعد تصب إلا فى نهر الكراهية التى تزداد نيرانها تأججًا يومًا بعد يوم.
=============(14/319)
(14/320)
عندما يحل العلم في عقل المرأة
ليس بين النساء وبين النجاة في هذا العصر الذي تموج فيه الفتن والتيارات إلا شيء واحد في مقدور كل سيدة وكل فتاة.
هذا الأمر هو العلم! عندما يحل العلم في عقل المرأة لا يمكن أن تتسلل السطحية في الفكر والسلوك إليها، ولا يمكن أن نرى من مظاهر التيه والتقليد وصور الاستهلاك المزعج والانجراف وراء الألوان وصخب الدعايات وزيف الأعمال، وعندما تتميز المرأة بالعلم فهنا تسمى واعية.
والبعض يسميها مثقفة، هذه مسألة والمسألة الأخرى هي عن أي علم نعني ؟ وعن أي ثقافة نتحدث؟ إن الثقافة التي نقصدها هي تلك التي تدل على الطريق الصحيح في بناء التصورات وإن العلم الذي نشير إليه هو ذلك الذي ينير قلبها ويميز بين جيد الأفكار ورديئها، وهو ذلك الذي يدل المرأة على التصرف الصحيح في مالها وبيتها وسلوكها.
إن عناية المرأة بعلمها أصبح اليوم أمراً لازماً، وبدونه تكون القلوب مرتعاً خصباً لشياطين الإنس والجن، إنه العلم الشرعي المتمثل في القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
إن المرأة عندما غابت عن الحياة الحقيقية في ظل الآيات الربانية التي تجعل في القلب من أنواع النعيم واللذة ما لا يخطر على البال صرن لكل ناعق مستمعات، وعندما أصبح الدين في حياتهن هامشياً لا تكون حياتها دائرة عليه ولاءً وبراءً، جلبن لبيوتهن شقاءً وتعاسة، وتأثرن بالكافرات وأعجبن بالسافرات المطربات والممثلات، وعندما أصبحت سيرة صلى الله عليه وسلم مجهولة ومواقفه وجهاده وأخلاقه وجديته وأقواله لا تجد من يتدارسها ويعتبر بها راجت مظاهر الركون إلى الدنيا والاغترار بها وانتعشت أسواق توافه الأمور وتنوعت أماكن إضاعة الأموال.
لا يمكن أن تنطلي طروحات المؤتمرات الدولية وتوصيات اللقاءات النسائية العلمانية على من عرفت دينها، بل إن طلب العلم الشرعي في هذا الوقت هو أهم ما ينبغي أن تسعى إليه المرأة المثقفة لأن فيه الإجابات الوافية لكل ما تواجهه من مشكلات. وإن طلب العلم الشرعي مع مجموعة من الأخوات وبشكل مستمر كفيل بتقوية الإيمان، وسبب للثبات على الحق، ومفتاح لكثير من أبواب الخير، وإن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
روى البخاري في كتاب العلم عن أبي مليكة أن عائشة رضي الله عنها كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن صلى الله عليه وسلم قال: (من حوسب عذب) قالت عائشة: فقلت: أو ليس الله تعالى يقول: (فسوف يحاسب حساباً يسيراً) قالت: فقال: (إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك).
فمن يجدد التاريخ ونرى من نسائنا عالمات داعيات واعيات في زمن الجاهلية؟
=============(14/321)
(14/322)
الادارة الاسلامية(1/2) *
د. حزام بن ماطر المطيري * 10/2/1424
12/04/2003
- القيم الإسلامية يجب أن تتمثل عند جميع العاملين من أسفل الهرم الإداري إلى قمته
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قد لا يكون مستغرباً أن نجد الكثير من غير المسلمين يعتقدون بعدم وجود الإدارة الإسلامية كنظرية، أو كواقع محسوس في الوقت الحاضر، وذلك لأسباب عديدة ليس هذا مجال ذكرها، إلا أن الأغرب من ذلك أن نجد كثيراً من أبناء المسلمين يشاركونهم هذا الاعتقاد، ويظنون أن الكلام عن الإدارة الإسلامية لا يعدو أن يكون كلاماً تاريخياً فقط، ولتصحيح هذا التصور الخاطئ، فإن هذا المقال يهدف إلى :
01بيان أهم أسباب الانهزام الفكري والسلوكي عند كثير من أبناء المسلمين.
02 بيان معنى الإدارة الإسلامية، وتوضيح اختلافها عن الإدارة الوضعية في الفكر والغاية والوسيلة .
الموضوع :
أولاً: أسباب الفهم الخاطئ عن الإدارة الإسلامية:
ترجع أهم الأسباب في نظر الباحث إلى العوامل الآتية:
* اعتقاد أن الإدارة مصطلح حديث ظهر في الدول الغربية، وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما نُشِر مقال عن الإدارة من قبل الرئيس الأمريكي (ودروا ويلسون) في أواخر القرن التاسع عشر، وما تبع ذلك من نظريات عمقت هذا الفهم، بدعوى إضفاء صفة العلمية على هذا الحقل، وتمييزه عن غيره من العلوم.
* سقوط الخلافة العثمانية التي كانت رمزاً للأمة الإسلامية الواحدة، وقيام الدولة التركية العلمانية على أنقاضها .
* الاستعمار الغربي، وتقسيم الأمة الإسلامية إلى دويلات، وتطبيق مبدأ " فرَّق تَسُد" ومن ثم ظهور المفاهيم القومية والاشتراكية وغيرها.
* إنشاء الجامعات الأمريكية " الكليات الإنجيلية سابقاً" في بعض البلاد العربية كمصر ولبنان، واعتبارها رمزاً للتقدم العلمي، لأنها تحقق الأهداف العلمانية التي تحققها البعثات الخارجية للدول الغربية، وخصوصاً للشباب في سن المراهقة.
* التدرج في إدخال مفاهيم العلمانية في البلاد المسلمة في المجالات المختلفة، سواء التعليم أو التربية أو الإعلام، وذلك بإضعاف دور الجانب العقائدي والإيماني وحصره على أداء شعائر تعبدية معينة، دون مجالات الحياة الأخرى .
في مجال الإدارة ظهر ذلك واضحاً في نشاطات جماعة الإدارة العامة المقارنة ( رجز وزملاؤه) في الستينيات وخلال منتصف السبعينيات، وذلك بتقسيم المجمعات إلى قسمين:
أ. زراعية: ووصفها بالنامية أو المتخلفة أو دول الجنوب.
ب. صناعية: ووصفها بالمتقدمة أو دول الشمال، وبيان أن العلاقة بينها خطية ذات اتجاه واحد من الأدنى إلى الأعلى، فما على الصنف الأول إلا تبني المنهج الغربي؛ لكي يصل إلى ما وصل إليه الصنف الثاني وفق التقسيم السابق.
الترويج لبعض الوسائل المساعدة في تحقيق الهدف السابق، بضرورة تبني مفاهيم التنمية بجوانبها المختلفة: الاقتصادية باتباع النظام الرأسمالي . السياسية باتباع النظام الديمقراطي... الإدارية بتبني النظريات الإدارية المعاصرة القائمة على المنهج العلماني، الذي يفصل بين الدين والعلم بسبب الخلفية التاريخية المرتبطة بالثورة الفرنسية والثورة الصناعية في أوروبا، لمقاومة الكنيسة في العصور الوسطى.
ثانياً : معنى الإدارة الإسلامية واختلافها عن الإدارة الوضعية:
بعد هذا التقرير الموجز للخلفية التاريخية لنشأة الإدارة المعاصرة، تجدر الإشارة إلى بيان معنى الإدارة الإسلامية، والتعليق على ذلك لبيان اختلافها عن الإدارة الوضعية في الفكر والغاية والوسيلة .
يرى أحد الكتاب المعاصرين بعد إيراد لفظ الإدارة، وبعض ألفاظ التدبير الواردة في القرآن الكريم بأن كلمة التدبير أعم وأشمل من لفظ الإدارة؛ لأنها تتحرى أصلح الطرائق للقيام بعمل ما حول موضوع معيّن، في حين أن لفظ الإدارة يقتضي التنفيذ فقط.
وهذا اللفظ شائع الاستخدام في كتابات السلف في مجال الأحكام السلطانية والسياسية الشرعية، وهو ما يميز الإدارة عن غيرها من الإدارة الوضعية المعاصرة؛ لأنه يدل على أهمية الربط بين الأمور الحسيّة والأمور المعنوية، أو بين الأمور المادية الدنيوية وبين الأمور الغيبية الأخروية.
وبناءً عليه فإنه يمكن إيراد بعض التعريفات للإدارة الإسلامية، والتعليق عليها لتأكيد المعاني والدلالات السابقة:
التعريف الأول: " هي تلك الإدارة التي يتحلى أفرادها -قيادة وأتباعاً، أفراداً وجماعات، رجالاً ونساء- بالعلم والإيمان عند أدائهم لأعمالهم الموكلة إليهم على اختلاف مستوياتهم ومسؤولياتهم في الدولة الإسلامية.
التعريف الثاني:" هي تلك الإدارة التي يقوم أفرادها بتنفيذ الجوانب المختلفة للعملية الإدارية على جميع المستويات وفقاً للسياسة الشرعية.
بالنظر إلى التعريفين السابقين يتبين ما يلي:
01 أن التعريف الأول أكثر عمومية، في حين أن التعريف الثاني أكثر دقة وتحديداً.(14/323)
02 أن السياسة الشرعية هي الإطار اللازم للإدارة الإسلامية؛ تقوم على مبادئ وأصول الشريعة المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فيما يتعلق بالعقائد والأحكام والعبادات والمعاملات، وفيما يجلب المصالح ويدرأ المفاسد عن المجتمع المسلم.
03 أن يتحلى العاملون في الإدارة - من قمة الهرم الإداري إلى أدناه- بالقيم الإسلامية وذلك في أنفسهم أولاً، وفي تعاملهم مع الآخرين ثانيا،ً سواءً كانوا رؤساء أو مرؤوسين أو مستفيدين.
04 أن تترجم السياسة الشرعية إلى واقع ملموس عند تنفيذ الجوانب المختلفة للعملية الإدارية، من تخطيط وتنظيم وتوجيه ورقابة وإدارة لشؤون الأفراد في جميع المستويات والمجالات والأجهزة الخاصة منها والعامة.
05 أهمية التكامل بين العلم والإيمان في الإدارة وغيرها وعدم الفصل بينهما؛ لأن العلم الحقيقي - في أي حقل وفق الإسلام- ينبغي أن يعمق الإيمان في النفس، وأن يزيد الخشية لله؛ طمعاً في ثواب الله وخوفاً من عذابه في الحياة الأخرى، وبالمقابل فإن الإيمان الحقيقي يشجع كل عمل صالح للعباد؛ لتعمير الكون وتحقيق معنى الاستخلاف في الأرض في الحياة الدنيا ، وبناءً عليه فإنه في حالة حدوث الفصل بينهما تصبح الإدارة علمانية
الادارة الاسلامية(2/2) *
د. حزام بن ماطر المطيري * 20/2/1424
22/04/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد تم في المقال السابق- الذي نشر في العدد الأول من آفاق الإدارة - بيان أهم أسباب الانهزام الفكري والسلوكي عند كثير من أبناء المسلمين، كما تطرق المقال إلى تعريف الإدارة الإسلامية، وفي هذا المقال سنتناول -إن شاء الله تعالى- توضيح اختلاف تعريف الإدارة الإسلامية عن الإدارة الوضعية (العلمانية) في الفكر والغاية والوسيلة.
- فمن حيث الفكر: أوضحنا في المقال السابق عند التعليق على تعريفات الإدارة الإسلامية وهو يختلف عن معنى الإدارة في الفكر الوضعي العلماني بجميع مدارسه التقليدية والمعاصرة، والتي تركز على المفهوم المادي البحت الدنيوي؛ دون أي ارتباط بالحياة الأخرى، وهو ما جعل نتائجه وآثاره على الفرد والجماعة تدور في حلقة مفرغة؛ منذ ظهور تلك النظريات وحتى اليوم؛ لأنها أفكار جزئية قاصرة، وإن اتصف بعضها بشيء من الشمولية فهو تجريدي وتنظيري، بحيث يصعب تطبيقه في أرض الواقع كما في نظرية النظم.
-أما من حيث الغاية: فإن الإدارة الإسلامية تسعى لتحقيق معنى العبودية لله عز وجل عملاً بقوله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وقوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين".
بخلاف الغاية في الإدارة الوضعية فهي لا تتجاوز الإطار الدنيوي، وتحقيق الشهوات بأشكالها المختلفة، والتأثر بالشبهات التي تخلخل العقيدة وتضعفها في النفس. ومن ثم يضعف تأثيرها على السلوك فيصبح الفرد فيها مقلداً وتابعاً وإمّعة، كما جاء في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف من يعمل وفق المفهوم الإسلامي للإدارة، حيث تكون غايته إرضاء الله سبحانه وتعالى، ورسوخ ذلك في نفسه وانعكاسها على سلوكه وتصرفاته الشخصية متكاملة مستقلة، تكون قائدة لا تابعة، ومؤثرة لا متأثرة إلا بما هو حق وعدل.
- أما من حيث الوسيلة: فهذا نتيجة منطقية للأمرين السابقين، ففي الإدارة الوضعية المتأثرة بالفكر العلماني نجد أن الفكر الميكافللي هو السائد والمهيمن، فالغاية تبرر الوسيلة، وحيث إن الغايات وفق هذا الفكر تحكمها الشهوات والشبهات؛ فإن الوسائل المتبعة في هذه الحالة لا تحكمها ضوابط وقيم ومثل عليا أخلاقية، إنما تحكمها المصالح الشخصية والأهواء المادية الدنيوية.
في حين نجد أن الإدارة الإسلامية على النقيض من ذلك فهي محكومة بضوابط شرعية. فالوسائل لها أحكام المقاصد في الفقه الإسلامي. وبناء عليه فإن الوسائل المتبعة يجب أن تكون مشروعة للوصول إلى الغايات والأهداف المشروعة في هذه الدنيا، والتي تعد جزءاً من أهداف أكبر وغايات أسمى في الحياة الأخرى تتمثل في مرضاة الله عز وجل، وبلوغ الجنة والنجاة من النار. ومن ثم فإن الناس يأمنون على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم عندما يشعرون بأن من يتولى الإدارة وفي أي مستوى منا المستويات هو من هذا الصنف وهذه الشاكلة التي تلتزم بالإسلام فكراً وغاية ومنهجاً وسلوكاً، حتى لو لم تكن بينهم وبينه رابطة قرابة أو صداقة أو معرفة؛ لأن رابطة الإسلام والإيمان فوق كل هذه الاعتبارات
=============(14/324)
(14/325)
ابتعاث الطالبات والطلاب إلى بلاد غير مسلمة في الميزان
الحمد لله رب العالمين الذي قال ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) من الآية 110 آل عمران .
والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين الذي قال وطبق " الدين النصيحة " أما بعد
فإن من القرارات والتطبيقات ما هو واضح الفائدة للبلاد والعباد في دينهم ودنياهم فالعدل تأييدها والأخذ بها والتشجيع على إمضائها والدعاء لمن أمر بها وعمل بها ، ومن القرارات ما هو مخالف لشرع الله وواضح الإضرار بالبلاد والعباد في دينهم ودنياهم فالواجب التحذير منها وبيان وجه الخلل فيها ، وهذا واجب على كل مسلم ، لأن المسلم مأمور بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر ، ولا يجوز له السكوت أو التزام الصمت تجاه ما يرى أنه مضر به وبإخوانه المسلمين وبمجتمعه ، ولأننا جميعا في سفينة واحدة ، وإلا فهو شيطان أخرس والعياذ بالله تعالى ، وأين يذهب المسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فقلبه وذلك أضعف الإيمان " أين يذهب المسلم القادر على تغيير المنكر والنصيحة من هذا الوعيد ؟.
وقياما بواجب النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم أقدم هذه النصيحة لأهلي في هذه البلاد المباركة : البلاد السعودية في موضوع من أخطر ما أصيبت به البلاد في السنوات الماضية وهو ابتعاث الطالبات والطلاب المتخرجين حديثا من الثانوية العامة إلى البلاد غير المسلمة ، أي من سنهن من البنات ومن سنهم من الذكور لا يتجاوز الثامنة عشرة وهو سن التخرج من الثانوية العامة .
إن هذا الابتعاث يأتي في فترة ارتفاع وتيرة عداء الحكومات في الغرب للإسلام وكذا الشعوب والإعلام الغربي والجامعات ومراكز البحوث وغيرها ، ليس في الغرب وحده بل في كل البلاد غير المسلمة ، ونتيجة لذلك تقلصت مساحة ممارسة شعائر الإسلام في الغرب تقلصا عظيما ، وصار أكثر المسلمين يمارس عباداته في الخفاء ، وهذا يعني أن هذه المرحلة أخطر بمراحل من مرحلة ابتعاث الطلاب السعوديين إلى الغرب في فترة التسعينات الهجرية حوالي 1395 تقريبا ، التي كان لها مردودها السيء كما هو معلوم ، فكيف سيكون مردود الابتعاث في هذه المرحلة التي قيدت فيها جهود الدعاة والأئمة والجمعيات الإسلامية والمناشط الدعوية في البلاد غير المسلمة خاصة أمريكا وأوربا وأستراليا ، وأصبحت المساجد تخضع لرقابة المخابرات في كل بلد وزاد الضغط على المسلمين وعلى ممارستهم لدينهم ولعبادتهم من قبل الحكومات الغربي بدعوى مكافحة الإرهاب ، التي صارت مكافحة للإسلام والمسلمين ، وصارت هنالك سياسة للحكومات في الغرب لاستهداف الطلاب المسلمين بالتشكيك في الدين والتضييق عليهم في كل شيء له صلة بدينهم وممارستهم لعبادتهم ، بل لحياتهم اليومية ، كما قد علم من اعتقال بعض الطلاب السعوديين والتحقيق معهم ساعات طوال ، ولن يغيب عنا ما حدث للأخ تركي الحميدان فرج الله عنه حيث حوكم بتهم ملفقة وحكم بسجنه 28 سنة ، وقبله للأخ الطالب المبتعث السعودي سامي الحصين ؟؟.
وقبل الحديث عن المخاطر المتحققة من هذا الابتعاث على الدجين والدنيا أقول :
1- أن الإنفاق على هذه البعثات يقدر بآلاف الملايين من الريالات ، وبها يستطيع المسؤولون أن يبنوا عشر جامعات دفعة واحدة ، وأن يوفروا لها الأساتذة والمعامل والأجهزة وليبقى أبناؤنا في بلادنا وتبقى أموالنا في بلادنا في صورة جامعات جديدة للأجيال كافة ، وهذا هو النصح لولاة الأمر ولعامة المسلمين .
2- هذا الابتعاث وخاصة ابتعاث الفتيات الذي هو أشد حرمة ينبئ أن وارء الأكمة ما وراءها من هذا التصرف الذي لا يقره مخلص .
إن ابتعاث الطالبات والطلاب الغريرات والأغرار مصيبة حلت بالبلاد وطعنة في قلبها وقلب أهلها الذين أذهلتهم هذه المفاجأة ، وإن هذا الأمر لخطر ماحق على البلاد والعباد في الدارين ومن ذلك :(14/326)
أولا : الخطر على سلامة دين الطالب والطالبة من الشبهات والشكوك التي يزرعها الغرب - قصدا أو غير قصد لأن الحياة الفكرية والتعليمية في الغرب حياة تقوم على محاربة الدين وإقصائه من جميع جوانب الحياة - وخاصة الجامعات والمعاهد والأساتذة في الجامعات والمناهج والإعلام وغير ذلك ، ذلك لأن الغرب قد قطع شوطا كبيرا جدا في التشكيك في الدين ، ولا يدع فرصة إلا اغتنمها لتأكيد التشكيك في الدين والإيمان بالله تعالى ، وحين يعلم الأستاذ الجامعي أن الذي أمامه طالبة مسلمة وطالب مسلم ومن البلاد السعودية رائدة وقائدة العالم الإسلام وخادمة وسادنة الحرمين الشريفين وضامة مهبط الوحي وقبر النبي الأكرم r وقبلة المسلمين ومحجهم ومدرج الصحابة رضي الله عنهم وقدوة المسلمين في مشارق الدنيا ومغاربها فسيزيد من وتيرة التشكيك ، وسيفرض عليه قراءة كتب بعينها تشكك في الإسلام خاصة والدين عامة ، وسيلزمه بكتابة بحوث تشكك في الدين ولا تأبه به ، وهذا قد حصل مع كثير من المبتعثين في فترات سابقة .
ثانيا - على سلامة سلوك الطالب المسلم والطالبة المسلمة : حيث الإباحية التامة في تلك البلدان ، وإذا علمنا أن الطالب والطالبة المتخرجة من الثانوية العامة غير متزوجة وفي فورة الشباب وثورة الجنس فكيف هي النتيجة ياترى في وجود الانفلات التام والحرية المطلقة ؟ وقل مثل ذلك حيث المخدرات تروج في الجامعات وفي الشارع والمسكرات وغيرها ، وحيث البارات والمراقص والخمارات ، وحيث العصابات التي تعمل ليل نهار للإيقاع بالطلاب والطالبات السعوديات وغيرهم في حبائل المخدرات والجنس والجريمة، والله المستعان ، وحيث لا توجد رقابة على الأبناء والبنات السعوديات هناك - ومهما قيل من وجود محرم فقد ثبت أكثر المحارم يرجعون بعد فترة تاركين البنات وحدهن هناك ، ولو بقي المحرم فهو لن يستطيع أن يرد عن البنت التشكيك ولن يكون معها في حجرة الدراسة ، وبالتالي فلن يمنع عنها شيئا من الأخطار ، وما يقا عن إكانية انحراف الطالبة والطالب يقال عن المحرم نفسه فقد ينحرف فيضيع ويضيِّع - ولا يوجد من الوعظ والتذكير بالله بالقدر الذي يكافئ تلك الأخطار . ومهما قيل من وجود الرقابة ، فلا يمكن تصديق ذلك لأن الرقابة من قبل السفارة هنالك محدودة جدا لصعوبة ذلك بل لاستحالته ، حيث يوجد في البلد الواحد من بلدان الابتعاث آلاف الطلاب والطالبات وفي مدن متفرقة متنائية عن بعضها ، وحينها لا يمكن أبدا تصديق أنه توجد رقابة أبدا إذا قيست برقابة الوالدين والمجتمع المسلم والدولة المسلمة ضمن البلد الطيب المسلم بلد الحرمين.
ثالثا - على سلامة أفكار الطلاب والطالبات من النظريات الغربية في السياسة والاجتماع والسلوك وغير ذلك ، فكم من طالب سعودي عاد من الغرب قبل سنوات وقد تأثر بالغرب تأثرا يكاد يكون شاملا في سلوكه وأخلاقه وأفكاره فأصبحوا وبالا على بلاد الحرمين البلاد السعودية شرفها الله وأعزها وصرف عنها كل فكر ضال مضلل .
رابعا : وهذا أمر خطير : وهو أن الابتعاث إلى الغرب أو الشرق ، أي إلى البلاد غير المسلمة ستكون له أبلغ الآثار على سلامة كثير من الطلاب والطالبات من أمراض العصر الفتاكة وخاصة الأمراض الجنسية الفتاكة مثل الإيدز ، الذي زاد انتشاره في الغرب انتشارا هائلا في السنوات الأخيرة حتى صار وباء في كثير من البلاد الغربية مثل أمريكا وأستراليا والدول الأوربية ، بل وفي الهند وغيرها ، وأنا وغيري لا نقول إن كل الطلاب سينحرفون ويقعون في الزنا ، ولكن لو لم يقع فيه إلا عشرة في المائة - ولا ريب أن كل شاب وشابة في هذا العمر عرضة لفتنة ، وبالتالي فالحال في حقيقة الأمر قد يكون أضعاف النسبة المذكورة - لكفى بهذا خطرا على صحة هؤلاء الأبناء والبنات ، ولكفى به نذير شر مستطير على البلاد والعباد ، حيث لا يؤمن على كل من وقع في اتصال جنسي حراما أو حلالا في الغرب أن يصاب بالإيدز ، لأن هذا المرض أصبح منتشرا بين ما لا يقل عن عشرة في المائة من الأمريكيين ومثل ذلك في البلدان الأخرى غير المسلمة في جميع أنحاء العالم ، لأن أسباب انتشار هذا المرض متاحة للجميع وهو إباحة الزنا والشذوذ الجنسي " اللواط " ولذا فانتشار هذا المرض لا يمكن وقفه إلا بالعودة إلى العفة ، وهذا محال في الغرب في هذه المرحلة ، حيث تعدل الدساتير الآن في أمريكا والغرب لتعطي حتى المثليين " اللوطيين " حق الزواج واعتبار ما يقومون به من اللواط قانونيا يجرم من يعارضه أو يميز ضد المثليين في الوظائف أو غيرها ، وتسعى الأمم المتحدة إلى تعميم هذه القوانين على كافة دول العالم ، فهل نتوقع بعد هذا سلامة الكثيرين من بناتنا وأبنائنا الأغرار المبتعثين إلى الغرب من هذا الداء الناشئ عن الانحراف عن الفطرة وانتكاس الأخلاق ؟.
وفيما يلي تفصيل غير مطول لوجه الخطورة الماثلة للابتعاث - في هذه السن ولغير المتزوجين - على كافة الأطراف في هذه البلاد :
أولا - خطورة هذا الابتعاث على الطالبات :(14/327)
فمما علم من الدين بالضرورة أنه لايجوز لمسلمة أن تسافر فوق يوم وليلة دون محرم لما يكتنف ذلك من الأخطار على دين المرأة وعفافها وسلامتها من الفتن ، فكيف إذا كان السفر إلى بلاد إباحية غير مسلمة ؟ وكيف إذا كان هذا السفر يمتد إلى سنوات هو عمر الدراسة ؟.
وسوف تسكن الفتاة السعودية لدى أسرة غربية لتعلم الإنجليزية كما هو متبع هنالك لكل طالب مستجد غير متقن للغة ، وهل نتوقع أن تدخل الطالبة إلى هذه الأسرة وتخرج منها بعد سنتين أو ثلاث وهي سالمة في عقيدتها وأخلاقها وعفافها وسلوكها ، وقد عاشرت تلك الأسرة غير المسلمة سنة أو سنين عددا : في اليقظة والنوم ، في الوجبات وجلسات الشاي في النزهات والزيارات ، وهل ستحافظ على حجابها وحشمتها كذلك ؟.
ومن جانب آخر فإن الدراسة في البلاد غير المسلمة دراسة مختلطة تماما ، وهذا يعني أن بنات هذه البلاد سيدرسن جنبا إلى جنب وكتفا لكتف مع الطلاب الذكور من الغربيين أو الشرقيين ، فهل ستؤمن الفتنة وهن يدرسن مع الشباب كتفا لكتف ؟ وكيف حال مجتمعنا إذا تعلقت فتيات سعوديات مسلمات بشباب من غير المسلمين وأحببنهم ثم رغبن في الزواج منهم ؟ ماذا يصنع الوالدان والمجتمع إذا كانت القوانين هناك تؤيد هذا وتقف ضد الآباء والأمهات والمجتمع المسلم في هذا الأمر ؟ هل فكر الآباء والأمهات في هذه الأمور كافة ؟ وهل قاموا بواجب النصح لأبنائهم وبناتهم والأمر بهذا الوضوح للجميع ؟ وهل فكرنا فيها نحن جميعا أيضا ؟.
إن الفتاة في الغرب ما إن تبلغ الثامنة عشرة حتى تخرج من طاعة أبيها وتصبح حرة تفعل ما تشاء ضمن الحياة الإباحية الغربية ، ومن ذلك اتخاذ العشيق والسفر معه ونبذ الأسرة وانقطاعها عنها ، وهذا كله يحميه القانون في البلاد غير المسلمة ، أفلن تتأثر بناتنا أو الكثيرات منهن بهذا الوضع المغري في ظاهرة المدمر في الحقيقة ؟.
ثانيا - على الطلاب الذكور الذين ابتعثوا في سن المراهقة ، وأخرجوا إلى بلاد غير مسلمة كل شيء فيها مباح : الزنا والخمر والمخدرات واللواط والقمار والاختلاط والصداقة بني الجنسين وغير ذلك ، وهؤلاء الأولاد الأغرار غير متزوجين فكيف سمح برميهم في هذه البيئة التي هي خطر على عقيدتهم وسلوكهم وعلى صحتهم البدنية وعلى حبهم لمجتمعهم وولائهم لدينهم أمتهم وبلادهم ، وكمذلك فالدراسة في الجامعات مختلطة ، وهو خطر مؤكد على هؤلاء الشباب مثلهم في هذا مثل البنات السعوديات المبتعثات ، وكذا سكن الشاب المراهق مع أسرة غير مسلمة بحجة تعلم الإنجليزية وما سينتج عن هذا الأمر من الانحراف بسبب التأثر بعادات وأخلاق وسلوكيات تلك الأسر غير المسلمة التي حالها هو ذاته حل الإباحية الغربية العامة .
ثالثا - على أهلهم ، فسوف يشقى الوالدان بهؤلاء البنات والأولاد المبتعثين لأنهم في الغالب سيعودون بأفكار غير الأفكار القيمة التي تربوا عليها ، وعلى أخلاق غير الأخلاق التي نشأوا عليها ، ولا ريب أن لمقامهم في بلاد غير مسلمة عددا من السنين سيغير كثيرا من أفكارهم وأخلاقهم ، حيث الجامعات هنالك لا تقيم للدين الإسلامي وزنا ، ولأنها جامعات علمانية فستؤثر على أبنائنا وبناتنا المبتعثات من خلال الأستاذ الجامعي والمقرر والمتطلبات وغيرها على وتترك في عقول هؤلاء الأبناء والبنات آثارا هدامة عميقة ، فماذا سيصنع الوالدان مع هذا الابن أو البنت التي تغيرت أفكارها وثارت على قيم الدين وأخلاقه ونقمت على مجتمعاه المسلم وسعت إلى تغييره ؟ هل سيكون هذا الابن أو هذه البنت قرة عين للأسرة السعودية المسلمة الملتزمة بدينها أم ستكون وبالا عليها وعذابا لها يوم تعود ويعود متمردين على قيم الدين وأخلاق الإسلام وقيمه واحكامه؟.
رابعا - على المجتمع : فستعود البنت التي تأثرت بدراستها وبمقامها في المجتمع الغربي الإباحي المنحرف المنحل ، ستعود البنت والولد ثائرين على قيم الإسلام في المجتمع ، سيعودان وهما يدعوان إلى تقلد الغرب والسير في ركاب المجتمعات والدول غير المسلمة وهي دول علمانية لا تقيم للإسلام ولا للفضيلة ولا للأخلاق الإسلامية وزنا ، حيث الاختلاط والفجور وكل أنواع الفواحش مباحة هناك ، وهؤلاء الطلاب والطالبات المبتعثات سيعودون وقد تأثروا تأثرا عميقا تأصل في نفوسهم نتيجة الانغماس في الفساد بكل صوره - وهل نتصور شابا وشابة مراهقة تعيش في جو مختلط متفسخ دون أن يناله وينالها منه شيء من التأثر والإعجاب - وهنا نتذكر قول الشاعر :
ألقاه في اليم مكتوفا وقال الله
…
إياك إياك أن تبتل بالماء(14/328)
خامسا - على الدولة : حيث سيعود هؤلاء الأبناء والبنات وقد أشرب الكثير منهم حب الغرب وحياته الإباحية والمتمردة على كل شيء ، سيرجعون وقد آمن أكثرهم بالنظريات الديموقرايطة والدستورية والليبرالية - وكلها تجمعها النظرية العلمانية التي تعني الفصل بين الإسلام والحكم والدولة - في الحكم والقيادة والسيادة ، ومن المعلوم أن الجامعات الغربية والأساتذة والمناهج تركز أشد التركيز على هذه الموضوعات في ميادين التخصص : العلوم السياسية والاجتماعية ، وفي في العلوم الأخرى ، لأنهم يعتبرون العلمانية دينهم الذي يدنون به ولذا فهو يدخل في جميع التخصصات ويحمله كل عقل هناك ، ويحمل همه جميع الأساتذة في كافة الأقسام ، فهل نتصور سلامة عقول أبناء هذه البلاد الأغرار وبناتها المبتعثات من هذا الداء الخطير ؟.
ولا ريب أن الكثيرين من الذين درسوا في الغرب قد عادوا وهم يتبنون هذه الأفكار الخطيرة على الدولة وعلى الشعب .
ولذا أقول للمسؤولين كافة :
إن هؤلاء الأبناء والبنات وكذا البلاد والأمة أمانة عندكم ، فالله الله في الأمانة ، ، وقد قال الله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(58) النساء.
ويقول صلى الله عليه وسلم " ألا وكلكم راع ومسؤول عن رعيته ".
فالله الله في الأمانة ( فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ولا ريب أن ابتعاث الطالبات والطلاب في هذه السن وهم غير محصنين دينيا وعقليا وجنسيا خطر عظيم عليهم ، فهم أغرار صغار لا يدرك الكثيرون منهم مصلحته ولا يفرق بين ما يضر وما ينفع ، خاصة في سن فورة الجنس والرغبة في إثبات الذات ولكن على غير أساس من النضج والتعقل .
وأقول للآباء والأمهات :
اتقوا الله في فلذات أبنائكم وبناتكم ، ولا ترموهم في أتون هذا الابتعاث المدمر ، فإنكم مسؤولون عنهم وعنهن ، والله تعالى يقول مبينا واجب الآباء والأمهات خاصة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (6) التحريم .
وأقول لولاة الأمر في هذه البلاد وفقهم الله :
إن هذا الابتعاث خطر على البلاد من كافة النواحي كما بين العلماء وكما هو مشاهد ومحسوس ومعلوم من الواقع ، ولذا فإنه يجب الاقتصار على الابتعاث وفق المعايير التالية :
1- أن يكون المبتعث رجلا فقط وأن تجنب النساء هذا الباب الذي هو مخالف لما هو معلوم من الدين بالضرورة ، ولما درجت عليهم أمة الإسلام في عصورها كافة إلا في بعض البلاد التي ابتليت بالعلمانية فكان وبالا عليها في دينها ودنياها وها نحن نرى ونسمع آثار تلك البعثات المدمرة فيها .
2- أن يكون الابتعاث لمن حصلوا على الشهادة الجامعية ويكونون متزوجين ، لأن الأسرة تربط الشاب بدراسته ودينه ودلوته ومجتمعه ويكون حريصا عليها مرتبطا بها مراقبا من قبلها فلا يقع في الانحراف بإذن الله .
3- أن يكون الابتعاث مقتصرا على التخصصات التي لا توجد في الجامعات السعودية .
4- أن يكون الابتعاث إلى البلاد الإسلامية أولا فإن لم يوجد فإلى البلاد الأقل خطرا وهكذا .
5- أن يتوسع في فتح الجامعات في البلاد السعودية ، وأن يتوسع في فتح كافة التخصصات التي تحتاجها خطط التنمية في البلاد ، فذلك خير وأبقى ، والأموال التي تصرف على الابتعاث الضخم اليوم كفيلة بفتح العديد من الجامعات وكافة التخصصات .
نسأل الله تعالى أن يوفق ولاة الأمر والمسؤولين كافة في هذه البلاد إلى البصيرة في دينهم ودنياهم وأن يوفقهم إلى القرارات والسياسات الحكيمة النافعة للبلاد والعباد
============(14/329)
(14/330)
حوار مع رئيس المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك ( 2/2)
حاوره بمقر المشيخة: عبد الباقي خليفة /سراييفو /الإسلام اليوم 13/2/1424
15/04/2003
بمناسبة مرور 120 عاماً على تأسيس المشيخة الإسلامية
فرحتنا أننا بقينا وحزننا أننا انقطعنا عن الأمة الإسلامية
أثناء الحرب التي فرضت على المسلمين في البوسنة قامت المشيخة الإسلامية بدور كبير في التعريف بقضية البوسنة ، و دعم ومساعدة المنكوبين ما هو الدور الذي أدته المشيخة في الحرب لمساعدة البوشناق المسلمين
الظروف التي وجدنا أنفسنا فيها أثناء الحرب ، حتمت علينا الوقوف إلى جانب أبناء الشعب المظلوم وهو يتعرض للإبادة . كان الخطباء و الأئمة و طلاب العلم الشرعي في مقدمة من تصدى لعمليات الابادة ، و قتل عدد كبير من الأئمة و الطلاب في أثناء العدوان . كما أدى الأئمة دورا بارزا في الحفاظ على هوية المسلمين من خلال نشاطاتهم في محيط المهجرين في دول الجوار و العالم سواء الذين بعثتهم المشيخة للإقامة بين المهجرين أو الذين كانت ترسلهم في المناسبات . كما أدت المشيخة دورا كبيرا في إيصال الغذاء و الأدوية إلى المحتاجين عن طريق مؤسسة المرحمة التابعة لها بالتعاون مع الهيئات الإغاثية الإسلامية . و أدت المشيخة دورا كبيرا في التعريف بقضية البوسنة في العالم الإسلامي و غيره من خلال الاتصالات التي كانت تجريها بالتنسيق مع الحكومة البوسنية . أنا أعتقد أن من أفضال الله سبحانه و تعالى علينا ، هو مجئ علي عزت بيجوفيتش إلى الدنيا لتحرير مسلمي البوسنة و الهرسك . وتوفير الأجواء لنقوم بعملنا في أجواء بعيدة عن القهر، و الظلم و التسلط و التعسف و الاستبداد . و أن نتحرك و نقوم بعملنا بدون أن نذهب إليه للحصول على موافقته وهل بإمكاننا فعل كذا وكذا كما كان يفرض علينا من قبل . فهو لم يمنعنا من قول او فعل . و قد كنت و لا زلت أقول للخطباء أنه من عوامل نجاح رسالتنا هو أن لا يكون هناك من يمنعنا من قول أو فعل نراه يخدم الإسلام و المسلمين . لقد أكرمنا الله بهذه الظروف ، و التحدي القائم هو هل نؤدي لهذه الحرية حقها ، بحيث نستخدمها في خدمة ديننا كما يجب أم لا .
في كتابكم الذي صدر بمناسبة مرور 120 سنة على تأسيس المشيخة الإسلامية و الذي ضم 30 حوارا مع صحف محلية وعربية و إسلامية و دولية ( من بينها الفرقان ) إضافة لموضوعات وخطب أخرى تطرقتم لعلاقة الدين بالسياسة ، و قلتم أنه لا يمكنكم ( أو في هذا المعنى ) أن تسكتوا على آلام شعبكم . هل تعتقدون أن هناك من يريد أن يحرم علماء الأمة و الإنسان المتدين من حق المواطنة . و حق إبداء الرأي في المسائل الحياتية المطروحة التي تشغل الإنسان الفرد و الرأي العام . هل يفقد الإنسان حق المواطنة عندما يصبح عالما أو متدينا . تحت شعار لا دين في السياسة و لا سياسة في الدين . و هل يمكن أن تحدثونا عن الفكرة الأساسية لكتابكم " الدين ، الشعب و الوطن " و لماذا اخترتم هذا العنوان . و هل يمكن أن تشرحوا لنا أهدافه الأساسية .
أريد أن أقول لعلماء الإسلام أنه لا يحق لأحد أن يمنعهم من الكلام ، و لكن في نفس الوقت أن يكون كلامهم مدروساً و دقيقاً ، ومقبولاً ، وواضحاً ، و باسم الذين لا يستطيعون أن يتكلموا عندما يأتي العلماء بكلام خيالي كلام مثالي لا يمكن لأي إنسان أن يصل إلى فحواه . كلام عن الماضي أكثر من الحاضر و المستقبل ، كلام كله شتم للحكومات من أجل الشتم أو لأي شخص من الأشخاص ، و هذا يجعل العلماء في موقع غير محمود . و لكن ما هي السياسة ؟ السياسة هي الحياة ، ومن يمنعني من أن أتكلم عن الحياة كما أراها أنا . إذا كان هناك من يأتي من أقصى الدنيا و يتكلم في قضايا البوسنة سواء من داخل البوسنة أو من خارجها ، و أنا أمنع من أن أتكلم عن قضايا شعبي و عن شعوري و حياتي و حياة أولادي فمعنى ذلك أنه أكثر بوسنوية مني ، أو أني لست مستقلا بذاتي أو فاقد لحق المواطنة ضمنا . أنا لا أبالي بما يقولون ، و سوف أستمر في ممارسة حقي ، لا أحد يستطيع ان يمنعني من التمتع بحقي في التعبير عن موقفي فيما يتعلق بشعبي . و بمستقبل ديني ووطني . ليس هناك شخص أو مؤسسة تملك حق منعي من ذلك . أنا أرى في هذا تحدي لي ، وكلما وجد من يقول أني أتدخل في السياسة حسب تعريفهم فسوف أبذل المزيد من الجهد في ممارسة هذا الحق . حتى أثبت لهم بأني لا أخشى الكلام في أي من المواضيع التي احتكروها لأنفسهم بدون موجب حق . و في كل الشئون السياسية التي تتعلق بوجودي كفرد و كأسرة وكشعب و كأمة . لذلك سميت كتابي " الدين و الشعب و الوطن " بمعنى أنا لدي الحق كرئيس للعلماء أن أتكلم باسم الدين و كبوشناقي باسم الشعب وكبوسني باسم الوطن دون مصادرة من يشاركوني هذه الخصائص من حقهم في الكلام . هذه الخصائص لها معنى في حياتي و حياة شعبي . خاصة إذا رأيت حقوق شعبي غير محترمة سواء من قبل الحكومة أو المجتمع الدولي ، فوضعي يؤهلني بأن أدافع عن المستضعفين(14/331)
في الحفل الذي أقيم بمناسبة مرور 120 عاما على تأسيس المشيخة قلتم أن " النفس التي تتذكر تنال الحرية بشكل أفضل من النفس التي تنسى هويتها " كيف تشرحون موضوع الهوية في البوسنة
سأل نصراني مسلما بوسنيا في معرض محاجة ، منذ متى اعتنقتم الإسلام فأجابه المسلم البوسني منذ قلت أنا و أنت و الناس أجمعين " بلى " في إشارة إلى قوله تعالى "... ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " . و في الحديث " يولد الإنسان على الفطرة " أي الإسلام . نحن نأتي للدنيا بهذه الذكرى ، فعندما ينطق المسلم بالشهادتين لا يزيد عن كونه يعترف بالحقيقة الأزلية ، و يخرج ما في أعماق أعماق تكوينه الروحي منذ الأزل ، و إلى الأبد . وما هو مكتوب في أسراره الروحية . فالذي لا ينطق الشهادتين يكون قد نسي أقدس ما في أعماق روحه وحقيقة نفسه البشرية . فالقرآن و الحديث أرسل بهما النبي صلى الله و عليه وسلم ليحيي بهما أرواح البشرية بعدما تاهت عن الحقيقة الروحية الكبرى " لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
هل تعتقدون أنكم أحرار فيما تقولون ، و أنكم لا تخشون زوار الفجر ، و لا سطوة الحكومة ، هل هناك نقلة في حياة المشيخة تختلف عما كانت عليه في الماضي ؟
الحرية جاءت بالثمن الذي دفعناه ، ثمن الدم ، ثمن الحكمة و المواقف التي اتخذناها ، ثمن الجوع و الخوف و نقص الأموال و الأنفس ، و الخروج من الديار بغير الحق ، ثمن العمل و العقل و الحكمة و هناك نوعان من الحرية يعرفهما الناس وهما حرية التعبير و حرية الفكر و الحرية لا تكون إلا من آفة معينة ، التحرر من الشرك بالتوحيد ، و التحرر من السكوت بحق التعبير و الحجر بحرية التفكير ، و لكن هناك أيضا التحرر من الفقر و الخوف و قد أشارت سورة صغيرة في القرآن الكريمة و لكنها عظيمة في إشاراتها وهي " لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف ، فليعبدوا رب هذه البيت الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف " و تتكون من عدة عناصر هي شعب وحركة اقتصادية ، و بعد روحي ، تؤمن الاكتفاء الذاتي من الغذاء و الحريات العامة للناس . و في البوسنة حققنا حرية التعبير ، و لكن لا نزال نسعى للتحرر من الخوف ومن الفقر . في بعض المناطق الناس يخشون على حياتهم و خاصة مناطق السيطرة الصربية ، إضافة لوضعهم الاقتصادي حيث توجد نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل و المهجرين الذين ليس لهم مورد رزق . و المشيخة الإسلامية تأمل في تحقيق شروط التحرر الإنساني كاملة و في مقدمتها التحرر من الخوف و الجوع بتوفير مستلزمات التحرر كافة . فيكون المسلمون آمنين في حياتهم من كل الجوانب . و في هذه السنة سيكون هناك عدد كبير من الحجاج وهذا احد الأبعاد الروحية . و المشيخة جزء من المجتمع البوسني ميزتها أنها تمثل الإسلام و المسلمين . في الماضي كانت مساحة عملها ضيقة ، و الفرق بين المشيخة الإسلامية في العهد الشيوعي و اليوم هو اتساع رقعة اهتماماتها ومجال عملها . و لم تعد للجنازات و القبور ، أما اليوم فهي مبعث اعتزاز لدى المسلمين بعد أن توسع مجال عملها في المجالات الاجتماعية و الإغاثية و التربوية ، و إعادة بناء المساجد و أصبحت مؤسسة حية بعد أن كانت مؤسسة للأموات . ذهبت للمستشفى لعيادة مريض و عندما رآني سألني لماذا جئت ، فقلت جئت لعيادتك ، وهذه سنة ، نظر إلي وقال " حان وقت الموت " ظن أن مجيئي إشارة له بأن موته قد قرب ، فقال " لا أنا سأموت ، و لذلك جئت ". فقلت له الأعمار بيد الله و لا يمكن لأي مخلوق أن يعلم موعد وفاة آخر . ظن أنني جئت بصحبة ملك الموت ليقبض روحه . وهذه من العادات التي ترسخت لدى البعض ، و الذين لا يرون علماء الدين و بعض الدعاة و المقرئين إلا عند جثث الموتى و في الجنائز مثل الرهبان ، و أصبحوا بذلك نذير شؤم . وهذا مخالف لتعاليم ديننا الذي جاء ليحيي الموتى الأحياء و يلفت الناس لحقيقة الوجود الإنساني " وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدوني " وهذا ما تسعى المشيخة الإسلامية لتحقيقه وهو الانتقال من رمز للموت إلى منارات الحياة .
كيف ترون مستقبل المسلمين في البوسنة ، و لا سيما مناطق السيطرة الصربية في ضوء الاعتداءات التي تتعرض لها المعالم الإسلامية و العائدين المسلمين لديارهم .(14/332)
أعتقد أن مستقبل الإسلام و المسلمين يدعو للتفاؤل ، كانوا يحتاجون للحرية و الآن الحرية متوفرة . بمعنى أننا أصبحنا أكثر واقعية من قبل ، لقد كنا نعيش في أوهام الإخاء الكاذب ، مع جزارينا ، و لم نفق إلا على طعنات سكاكينهم . لقد مررنا بمحن كثيرة ظلت تاريخا و بقينا . و الله سبحانه و تعالى يقول " لا يضركم من ظل إذا اهتديتم " . الإسلام لا يمكن حبسه في السجن. و الخوف الأكبر ليس من الآخر بقدر الخوف من الجهل و التنطع والانغلاق . نحن نملك رسالة وهذا يعني أننا رسل يبلغون هذه الرسالة . رسل صلى الله عليه وسلم إلى الملوك في عصره تعطينا نموذجا يحتذى لم ندرسه كما ينبغي . العرب و غيرهم من المسلمين متساوون في أداء هذا الواجب . و المملكة العربية السعودية ساعدتنا كثيرا في هذا المجال ففي سراييفو جامع خادم الحرمين الشريفين ، و في توزلا جامع الأمير عبد الله ، و في بيهاتش أكاديمية الأمير سلمان ، و الهيئة السعودية العليا بنت ورممت عشرات المساجد . و أمير قطر تبرع بترميم الأكاديمية الإسلامية ووعد ببناء مكتبة الغازي خسرف بك و ستكون اكبر مكتبة في البلقان كلها وشرق أوربا و سنبدأ في البناء وهو أكبر مشروع يقام في قلب سراييفو .
البوسنة لها صورتان صورة التدمير و صورة التعمير ، و كلما ذكرت البوسنة ذكر التدمير و الفقر و المهجرين . و أتمنى أن لا ينسى المسلمون البوسنة . لقد ساعدنا المسلمون في العالم على الصمود و على البقاء على قيد الحياة ولولا مساعداتهم لقضي علينا وما تمكنت من لقاء " الصحفي القدير عبد الباقي خليفة الذي نحبه كثيرا في البوسنة ، و الذي ينقل للعالم الإسلامي ما يدور فيها " . و ندعوهم لمساعدتنا في معركتنا الحالية ، و أقول لهم أنهم لم يفشلوا في البوسنة بل نجحوا ، و عليهم المحافظة على نجاحهم و أن يزورونا في البوسنة . و لا يستسلموا لمقولة أنهم فشلوا لأنه حصلت خيانات ، و أصحابها دفعوا الثمن و انتهوا . رأيتم يوم عيد الفطر في سراييفو كيف تحولت إلى ساحات عبادة . وخرج مئات الألآف لشهود الصلاة .
تعد مذبحة سريبرينتسا أول كارثة تحدث في أوربا بعد الحرب العالمية الثانية ، و كان عدد الضحايا أضعاف أضعاف قتلى تفجيرات نيويورك . ومع ذلك العالم لم يتعامل مع الحدثين بنفس المستوى . و هناك مساعي لتخليد ذكرى سريبرينتسا لو تحدثونا عنها .
هذا سؤال جيد عن سريبرينتسا لقد حاولنا كل هذه السنوات أن نحصل على أسماء المفقودين في العدوان الصربي الذي تعرض له المسلمون في سريبرينتسا . أنت تعرف أنه في 11 يوليو سنة 1995 قتل أكثر من 10 آلاف من سكان سريبرينتسا . و إذا قارنا ذلك ب 11 سبتمبر 2001 ، نجد أن سريبرينتسا كانت تحت ( حماية ) الامم المتحدة ، وكان العدوان متوقعا . و لكن لم تكن هناك ردود فعل ، كما حصل مع تفجيرات نيويورك . فما حصل في 11 سبتمبر في نيويورك كان كما لو حصل للعالم كله . أما ما حدث في سريبرينتسا فكأنما هو خاص بسريبرينتسا وحدها . رغم أن ضحايا سريبرينتسا أضعاف ضحايا نيويورك . و لذلك أردنا أن نذكر العالم بأحداث سريبرينتسا . فبدأنا باقامة مقبرة للشهداء تضم رفات الضحايا . و سيكون هناك إلى جانب المقبرة سور يضم أسماء الشهداء ، ومتحف يروي تفاصيل الجريمة ، إلى جانب مسجد . ونحن نجمع التبرعات وبعض الدول الغربية قدمت تبرعات . و أنا عضو في لجنة سريبرينتسا ، و أطلب من الدول الإسلامية و أهل الخير المشاركة في إتمام هذا الإنجاز . وما حدث في سريبرينتسا حدث لنا كثيرا في التاريخ و لكن لا أحد يعترف بذلك لأننا لم نتمكن من تسجيله بالشكل الذي سيكون عليه الحال في سريبرينتسا إن شاء الله حتى لا ننسى و حتى يبقى للأجيال اللاحقة تاريخ فمن لا ماض له لا مستقبل له . هناك من يقول أنه ليس كل مسلم إرهابي و لكن كل إرهابي مسلم . وهذا غير صحيح فالمسلمون ضحايا للإرهاب في كل مكان من العالم ، و ليس ذلك بدون أدلة . و من هنا تأتي أهمية مشروع مقبرة الشهداء و الذي يكلف مبلغ 5 ملايين دولار جمع منه حوالي النصف . و سنكتب ما جرى بكل اللغات .
المستشار الألماني " شرويدر " قال معلقا على طلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي أن دخول تركيا للاتحاد الأوروبي عامل إثراء يمكن أن يكون جسرا بين الشرق و الغرب . و في الوقت الذي نجد فيه بعض الأصوات الأوروبية تدعو لذلك ، هناك من داخل صفوف المسلمين من يرى في أوربا نقيضا للإسلام أو العكس أو بديلا .ما هو تعليقكم ؟
الناس يتكلمون عن التطرف و الإرهاب ، وكأن الإسلام ضد أوربا . و الذين يتكلمون بهذا الشكل(14/333)
يجب أن يكونوا في قوائم من تجب محاربتهم تحت لافتة محاربة الإرهاب لأنهم الإرهابيون الحقيقيون . في واقع الأمر هم المسئولون عنه . أستطيع أن أحمل معي وطني وديني و أن أتعامل مع أوربا كمسلم . الإسلام غير مقيد بمكان ووقت وشخص . و الذين ينشرون هذه الأفكار يكونون أحيانا من المسلمين الذين لديهم عقدة نفسية . يريدون أن يتقربوا من الغرب بالتعري . فهم ليس لهم ما يقدمونه لحوار الحضارات سوى نفاق الغرب ، وهم من أمثال سلمان رشدي الذي لم يمثل للغرب أي جديد ، في حين كان خائنا لامته و دينه . وهم يكررون المحاولة بطرق مختلفة . و لكنهم سيظلون على الهامش و الغرب يريد ممثلين حقيقيين للإسلام و المسلمين ، و ليس منبتين أو متسلطين . وهذا نوع من التملق الرخيص لبعض العلمانيين . و أوربا أدركت أنها ليست في حاجة بعد الإحداث التي شهدها العالم لمتملقين رخيصين . هم أدوات استخدمت لبعض الوقت و انتهت صلاحيتها ، و الذين يعيشون في أوربا يدركون هذا جيدا . أوربا فهمت أنهم لا ينفعونها مستقبلا ، وهي في حاجة لمن يمثل الثقافة الإسلامية الحقيقية و ليس المرتدين عنها . ممن يريدون أن يكونوا أوروبيين أكثر من الأوروبيين أنفسهم . و في نظرهم أنهم إذا شربوا الويسكي وراقصوا النساء، و أكلوا الخنزير يصبحون أوروبيين ، أو متحضرين ! وهذه في الحقيقة : حثالات الثقافة الأوروبية ترمى في صناديق النفايات . و معنى متحضر في الحقيقة هو أن يكون الإنسان دقيقاً في عمله عميقاً في فكره ، ملماً بالتكنولوجيا ، و في نفس الوقت مؤمناً مخلصاً يصلي ويعبد الله في المسجد . أوربا الآن تعاني من المخدرات ومن حوادث الكحول ومن الشذوذ الجنسي و غير ذلك . فالعالم يحتاج للمسلمين المتحضرين . فكثير من الغربيين ينادون بأن تكون لهذه الحضارة روح . تتوازن مع رغبات الجسد . فكل ما يتم بسرعة ينتهي بسرعة . وهذا ما يدعو إليه الإسلام " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا " و نحن نعتقد أن العالم في حاجة لهذا النوع من الشهداء . كثير من المسلمين للأسف يعيشون أزمة ثقة في أنفسهم ، و يرون أن كل ما يأتي من أوربا و الغرب شئ أفضل مما عندهم و يريدون أن يتبعوا السلوكيات الغربية . ربما لا يستطيع المسلمون في الوقت الراهن تقديم شئ جديد على الصعيد التكنولوجي ، و لكنهم يستطيعون تقديم ما يحتاجه الغرب من روحانيات يفتقدها الغرب . فالله سبحانه و تعالى لم يعطي لكل الناس كل شئ بل وزع خيراته عليهم . فالكمال لله وحده . المسلمون لهم رسالة وهي تذكير العالم بالمعاني الروحية . لأن هناك من يريد أن يحل محل الإله .
كيف تنظرون لواقع العمل الإسلامي في أوربا ، و لتعدد الجماعات ، و كثرة الخطابات التي توصف بالإسلامية . و هل المشيخة الإسلامية ، هي المؤسسة الدينية الوحيدة في البوسنة ؟(14/334)
المشيخة الإسلامية ليست المؤسسة الإسلامية الوحيدة في البوسنة و الهرسك ، و لكنها الأكثر أهمية في التاريخ الحديث للمسلمين البوسنيين . فهي الإطار الذي ينظم المسلمين . و هي مؤسسة معترف بها من قبل الجهات الرسمية في البوسنة و الهرسك و أوربا . هذا ما يلمسه المسلمون في البوسنة ، و هو أن المشيخة الإسلامية هي التي تمثلهم . و الحكومات الأوروبية لا تريد أن ترى المسلمين منظمين في أوربا ، بعضهم يفضل أن يكون وجود المسلمين عشوائيا ، تسوده الفوضى . أن يكون الإسلام هو ( أبو فلان أو أبو علان ) فيعرض في التلفزيون ليقول يجب أن يقتل النصارى و ، و ، و ، ليثير الرأي العام ضد مصالح المسلمين في العالم و تحقق بعض الفئات في الغرب أهدافها من خلال ذلك . و تخويف الرأي العام الغربي من الإسلام يتم بهذا الشكل ، ليكون لهم حجة على مهاجمة الإسلام و المسلمين ليس عبر وسائل الإعلام فحسب بل بالأساطيل ، و ضرب الاقتصاديات الإسلامية ، ومنع المسلمين من امتلاك التكنولوجيا . و أنواع أبو فلان و فلان لا يوجد في البوسنة ، فهناك مؤسسة إسلامية تعرف واجباتها ، و تعرف الظروف التي تعمل فيها ، و المحيط الذي تعيش فيه ، و قدراتها التي على أساسها تتحرك . هنا معروف من المسئول عن الشئون الإسلامية . هناك محاولات لبعض الأشخاص في البوسنة ، و لكن هذا لا يضر التيار العام ، و تبقى المشيخة هي السواد الأعظم . الجماعات الصغيرة التي تظهر من حين لآخر تعود للمشيخة ، و تصبح جزءا من المشيخة لذلك أعتقد مستقبل الإسلام في أوربا يكمن في إيجاد سبل تمكن من ظهور ممثلين جادين للإسلام و المسلمين في القارة السائرة نحو التوحد . و معنى ذلك تأسيس المنظمات الإسلامية ، و بناء المدارس لتخريج الخطباء و المدرسين ، و إنشاء المؤسسات الشرعية التي يرأسها رجل متعمق في الشريعة الإسلامية ، يكون بصفة المفتي أو أي مسمى آخر يكون ممثلا للمرجعية الإسلامية و يمثل المسلمين لدى الحكومات الأوروبية ، و يعبر لديها عن رغباتهم ، و يدافع عن حقوقهم . لكن المشكلة هي أن الحكومات الأوروبية تقول نحن نرحب بهذا و لكننا لا نستطيع أن نوحد المسلمين . و في نفس الوقت ، ( و أتمنى أن يؤخذ هذا بحسن نية مني من قبل العالم الإسلامي و الحكومات الإسلامية ) أريد أن أقول أن الحكومات الإسلامية لا تساعد في إقامة هذه المؤسسات الإسلامية ، و لا تساعد في إيجاد تمثيل المسلمين في جو أوروبي ، لأن الإسلامي ليس دينا قوميا و لا دينا جغرافيا . هو دين عالمي لذلك المسلمون في أوربا لهم الحق في أن يتولوا أمورهم بأنفسهم في أوربا . و لكي يحافظوا على الجيل الجديد الذي ولد في أوربا و يتكلمون لغة أهل البلاد التي يوجدون فيها . هم مثلا لا يستطيعون أن يفهموا بعض العادات في الشرق التي تفسر على أنها إسلامية ، و لكنها مجرد عادات أفرزتها البيئة التي وجدت فيها . و هناك عادات في أوربا لا نستطيع القول أنها ضد الإسلام . أنا أوصي الحكومات الإسلامية بمساعدة المسلمين في أوربا ، ليقوموا بأمور الدعوة و القيام بشئونهم بأنفسهم . و أن يقيموا المؤسسات الإسلامية ، و أن يمثل الأوروبيين أوروبيون ينشرون الإسلام ، حتى تكون كلمتهم أقوى و جزء من المحيط و ليس وافدا عليه . و أطالب بأن لا يكون العمل الإسلامي في أوربا باسم القومية ، أو باسم دولة من الدول . أو قبلية من القبائل ، إنه دين عالمي لكافة الناس لماذا إذن التحريف و التبديل ، و البدعة الكبرى ، و الردة عن مفهوم الإسلام النقي الصافي . الإسلام ينهانا عن عبادة الأشخاص ، بما في ذلك صاحب الرسالة r ، و لذلك ليس لنا صورة للنبي عليه الصلاة و السلام ، و ليس لنا الحق في اتخاذ صورة مفترضة لرمز للعبادة . و ذلك لصرف اهتمامنا بالقيم و ليس التماثيل التي تعبد من دون الله . و لذلك أمرنا الله بالصلاة علي صلى الله عليه وسلم ، و ليس بعبادته ، و الصلاة عليه دعاء له و عبادة لنا دعاء له لأنه بشر مثلنا . و لكن بعض الحكومات الإسلامية عندما تعمل في أوربا تريد أن تظهر نفسها أكثر من إظهارها لدين الله ، و تدعو لنفسها أكثر من دعوتها للإسلام . و نحن كمسلمين يجب تغيير هذا المنطق . و نحن نريد أن يكون المسلمون الأوروبيون سندا للعالم الإسلامي في كافة المجالات . و على المسلمين الأوروبيين أن يطالبوا بحقوقهم ومن بينها الحصول على دعم لمشاريعهم الإسلامية ، بدل انتظار التبرعات التي تجمع من فقراء العالم الإسلامي . و أن تخصم الأموال التي يتبرع بها المسلمون للمؤسسات الإسلامية جزءا من الضرائب التي يدفعها المسلمون للحكومات الغربية ، على غرار الكنيسة . و لا نريد أن يكون هناك في أوربا جماعات لا تعد و لا تحصى قامت على أساس القوميات ، و لا نريد وجودا إسلاميا عشوائيا في أوربا يؤخر العمل الإسلامي و لا يخدمه بل يضر بالإسلام و المسلمين في الغرب .هل تعتقدون أن الإسلام سيجد مكانه في أوربا ؟(14/335)
هناك ثلاثة مناطق لأوربا ، منطقة البلقان ، و روسيا الأوروبية ، و أوربا الاتحاد الأوروبي . و لكن عندما تستعمل كلمة أوربا يتبادر للذهن أنها دول الاتحاد الأوروبي . لكن أنت تعرف أن كلمة أوربا لم تأت من تلك المنطقة ، و إنما منبعها من البلقان . من اليونان ، كلمة أوربا يونانية ، و ليست من أوربا الغربية . أوربا أصبحت متكبرة قليلا ، و أصبحت غير متسامحة مع الآخرين ، فنحن نقول لهم ( أصحاب أصل أوربا ) مستقبل القارة في تعدد الأديان و القوميات ، حفاظا على حقوق الإنسان . لماذا يجب علينا أن نتكلم بهذا الشكل ؟ لان أوربا الغربية متفوقة اقتصاديا ، و عسكريا ، و تكنولوجيا . و لكن تاريخيا أصل أوربا هنا و ليس هناك . و نستطيع أن نقول أن أوربا هي العالم الكبير . و البوسنة هي " ميكرو كروسموس " أو العالم الصغير لكل الأديان ، و الثقافات ، و الحضارات و اللغات إلخ ، و لكن من الذي حافظ على كل هذا ؟ الجواب : حافظ عليه الإسلام و ليس السلاطين و لا غيرهم ، لو كان الأمر بيد السلاطين لحولوا النصارى إلى مسلمين بالقوة ، و لكن الإسلام منعهم من ذلك بكلمة صغيرة هي " لا إكراه في الدين " . و هذه الكلمة هي ما يحتاجه العالم في مسيرته التاريخية .
============(14/336)
(14/337)
الأسرة سلعة بائرة في مزاد القيم الغربية الفاسدة
إدارة التحرير 20/2/1424
22/04/2003
- الإحجام الاختياري عن الزواج أقوى دليل على أن نظام الأسرة مهدد بالفناء والانهيار..!
- الوصول بالمجتمع الإسلامي إلى مرحلة الحداثة والعدمية مسألة وقت لا مسألة مبدأ..
- تجاوز التفكير الاقتصادي في العنوسة والعزوبية ضرورة والمستقبل قاتم ما لم نتدارك الأمر..!
-مقاومة الفطرة لا يورث سوى التعاسة والوحدة، والمسلم الحق لا يرضى بأن يتبرأ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- القائمون على وسائل الإعلام متأثرون بالغرب، ويروجون قيمه الأسرية في الأعمال الدرامية.
- قبل خمسين عامًا قالت أم لابنتها وهى تنظر إليها بحب شديد: أدعو الله أن يعطيني عمرًا حتى أفرح بك عروسًا وأزفك إلى بيت زوجك.
- بعدها بعشر سنوات تقدم شاب طيب لفتاة جامعية، فرفضت مجرد التفكير في الأمر قبل الحصول على شهادتها وقالت لأبيها: سلاح البنت علمها، وظل الرجل لا يمنح - وحده- الحماية للمرأة!؟ ووافقها أبوها وهو يربت على ظهرها فخرًا.
- ومرت عشرون عامًا لتحصل إحدى الفتيات على شهادتها الجامعية بتفوق وتهنئها أمها قائلة: مبارك يا حبيبتي، وعقبى الماجستير والدكتوراه.
- ماذا تعني هذه اللقطات التي حدثت في بيت ما - أي بيت عربي مسلم -؟
إنها دليل على أن الزواج لم يعد حلمًا للفتاة، وأن دور الزوجة والأم لم يعد مصدر فخر للبنت، وأن قيمة الأسرة تتراجع حتى توشك على الانهيار، ففي مصر وحدها هناك ستة ملايين امرأة وفتاة يعشن بلا رجل، بين مطلقات وأرامل وعانسات ومعلقات (رفعن على أزواجهن دعاوى طلاق ومازلن ينتظرن الحكم)، والإحصائية المصرية مجرد نموذج للواقع العربي المهدد باهتراء نسيجه الاجتماعي بعد أن صارت «الأسرة» هدفًا مؤجلاً أو غائبًا عند فتيات ينشدن استقلالاً اقتصاديًا عن الرجل، ورجال يريدون حياة بلا قيود أو مسؤوليات أسرية.
صارت العنوسة والعزوبة «اختيارًا» عن قناعة شخصية، ولم يعودا وضعًا استثنائيًا تفرضه ظروف اقتصادية أو اجتماعية قتلت بحثًا ولم يتغير شيء.
لا ضرورة
ولنقرأ معًا آراء قصيرة، تلخص مواقف شباب وفتيات تجاوزوا سن الزواج ولا يشعرون بأدنى قلق:
ـ أمير سعد - مهندس - 38 عامًا
«أخي المطحون، وأختي التي لا تزورنا إلا واقفة لأنها لا تستطيع أن تغيب عن زوجها وأطفالها، يجعلاني أسعد بوضعي، ولا أفكر في الزواج وأختار البقاء مع أمي التي لم يعد لها سواي.
ـ نرمين فتح الله - طبيبة أسنان - 32 عامًا
لماذا يكون دور الزوجة والأم أسمى أدوار المرأة، بينما للرجل أن يكون زوجًا وأبًا، وأيضًا عالمًا، وباحثًا، ومبدعًا، و... و... و... أشياء أخرى غير دور المسؤول عن أسرة فقط؟
إن اختزال حلم البنت في الزواج فقط منتهى الظلم الذي عاهدت نفسي أن أكسر طوقه ولا أشعر بأن شيئًا ما ينقصني.
ـ خالد مصطفى - محاسب - 41 عامًا
لم أتزوج؟ وأمي تطهو لي طعامي وتغسل ملابسي، وأصدقائي وهواياتي يملؤون وقت فراغي، ومشكلاتي ومتاعبي أناقشها مع أمي والمقربين إلى،َّ وأطفال شقيقاتي يمنحونني إحساس الأبوة الجميل، أما الإعفاف فلا أعتقد أنه سيتحقق لي إلا مع زوجة أجد فيها كل ما أنشده من النساء باطنًا وظاهرًا، وهذه لم أجدها حتى اليوم، أو بمعنى أصح لم أجهد نفسي في البحث عنها لأنني لا أجد لهذا ضرورة.
أعمق من ذلك
ـ أماني الشبراوي - مهندسة كمبيوتر - 36 عامًا
خطبت ثلاث مرات، وأعفي نفسي من ذكر أسباب فشلها، وقد أكدت لي تجاربي الثلاث أن الرجولة الحقة عملة نادرة، وأن المرأة يمكن أن تشعر بالوحدة وهي في كنف رجل يخذلها، ويتخلى عنها، ولا يقدر مشاعرها، ويمكن أن تكتفي بذاتها حين تكون قوية قادرة على حماية نفسها وتحقيق طموحاتها، ولذلك قررت التفرغ لعملي والسعي للنبوغ فيه، فخير لي أن أكون مهندسة كمبيوتر ناجحة وعانسًا، من أن أكون زوجة فاشلة محطمة.
أسأل د. عبلة الكحلاوي - أستاذة الفقه بجامعة الأزهر والداعية الإسلامية - عن دلالات الإحجام الاختياري عن الزواج فتقول: أوافقك على أن قيمة الكيان الأسرى المتماسك، التي تميز الإسلام في رؤيته للعلاقة المثلى بين الرجل والمرأة تتراجع لصالح مفاهيم أخرى كتحقيق الذات، والحرية، والصداقة بين الجنسين، والزواج المُثلي «زواج رجل برجل أو امرأة بامرأة» (والعياذ بالله)، ولكنني لا أرى أن مجرد رد الاعتبار لقيمة الأسرة يمكن أن يحل المشكلة، فالقضية أعمق من ذلك بكثير، وتغريب المجتمع الإسلامي والوصول به إلى مرحلة العدمية والتفكك بدعوى «الحداثة» صار مسألة وقت، فالاختلاف بين علمانيي العرب، وعلمانيي الغرب صار في التساؤل متى نصل بالمجتمع العربي للعدمية والتشبه الكامل بالمجتمع الغربي؟، وليس في، هل نصل به إلى هذه المرحلة أم لا؟(14/338)
والمتأمل لفكر الحداثة -الذي تم تجنيد مفكرين عرب لنشره في أوساط مواطنيهم- يجده فكرًا فرديًا يعلى الذاتية والحرية الشخصية، ويحاول إلغاء قيم الغيرية والتكافل والحرية المسؤولة، ولما كانت الأسرة كمنظومة إسلامية مثالية هي أصلح مناخ تتجلى فيه هذه القيم؛ فإن التركيز كله اليوم على تفكيك هذه المنظومة وتشويهها، وإحلال مفاهيم انحلالية مكانها بدعوى الحداثة -التي تساءل بعض المفكرين العرب الغيورين على القيم، ولا أقول العقيدة- عن مدى ضرورة الترادف بين الحداثة والتغريب ولم يجبهم أحد!
فوق رؤوس الجميع
أما الأستاذة زينب عفيفي - مديرة المركز الدولي لدراسات المرأة بالقاهرة - فتؤكد أن على المحللين الاجتماعيين والمفكرين المهتمين بقضايا المرأة والأسرة أن يتجاوزوا مرحلة التفسير الاقتصادي للعنوسة والعزوبة بمعنى ربطهما بغلاء المهور والتكاليف الباهظة للزواج ويتوقفوا بتمعن عن الرؤية الاجتماعية والثقافية للقضية فالعنوسة انتشرت أيضًا في الأوساط الراقية الموسرة، وهذا يدلل على أن فكرة الزواج وتكوين أسرة هي نفسها التي صارت محل نظر وليس إجراءات هذا الزواج وتكاليفه.
وتضيف أن بعض العاملات الإسلاميات في مجال المرأة بصدد إنشاء الملتقى الفكري للمرأة المعاصرة بهدف إبداع خطاب جديد في المجال الأسرى يكشف المخططات ويحرر المصطلحات ويحدد بدائل الحركة.
وتشير إلى أن هذا الملتقى لا يتبنى رؤية صراعية بين الرجل والمرأة بل يخاطب الرجل لتحسين الشكل الإسلامي الأمثل لعلاقته بالمرأة.
ويصف د. أبو اليزيد العجمي - أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة - موقف بعض الشباب والفتيات الرافض للزواج بأنه مقاومة قسرية للفطرة، فقد جعل الله من عناصر ربوبيته واستحقاقه للعبادة أنه خلق الناس من نفس واحدة، فقال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء...} (النساء: 1).
أيهما أخف ضررًا؟
فالنزوع إلى تكوين أسرة، والعودة إلى «التوحد» مع من خلقه أو خلقها الله من نفس واحدة أمر فطرى لتحقيق سنة الاستخلاف وإعمار الكون، والرجل كل يحمى الجزء، والمرأة جزء يجد نفسه في العيش في كنف الكل ورعايته وقوامته.
ومقاومة الفطرة تذرعًا بمنطق غريب مدسوس علينا لا ثمرة له إلا الشقاء والوحدة والتعاسة، كما أن المسلم الحق لا يرضى أن ينطبق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منى..» ولا يرضى أن يتبرأ منه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ويسير هو وحده في طريق التغريب والحرية المغلوطة والنظرة المشوهة إلى العلاقة المثالية بين الجنسين.
وحول الدور الإعلامي غير المباشر في خلق خاطر نفسي بين المتلقى والزواج، وحمل بعض المشاهدين على رفض فكرة تكوين أسرة من خلال الأثر الإعلامي المتراكم.
ويرصد د. محمد سمير فرج - أستاذ علم النفس والمتخصص في سيكولوجية الشخصية المصرية بعض الصور السلبية للعلاقة الزوجية في وسائل الإعلام.
فالمسلسلات تتناول الأعراض السطحية للمشكلات الزوجية ولا تقدم حلاً عمليًا - يتلاءم مع القيم - لها، وفى حالة الأشخاص ذوى القابلية السريعة للإيحاء والاستهواء، يحدث التوحد مع أبطال المسلسل، ويتبنى المشاهد سلوكياتها فتتفاقم المشكلات الزوجية على أرض الواقع.
ويؤكد د. سمير فرج أن معظم المسلسلات تقدم حلاً حادًا للخلافات الزوجية هو الطلاق، رغم أنه حلال بغيض، وله شروط ومحددات شرعية، ويحمل هذا الحل قيمًا جذابة فهو تربية للزوج، وتحقيقًا لكرامة الزوجة وحريتها والتنازل عنه تفريط في كرامتها.
وتصور أعمال أخرى العلاقات قبل الزواج كشرط لنجاحه؛ لأنها تمنح الفرد الخبرة بالطرف الآخر.
ويتم شحن المسلسل بمواقف جذابة تحبب المشاهد في مثل هذه العلاقات - خاصة إذا قدم المسلسل صورة لحياة زوجية فاشلة - في الوقت نفسه لأن الطرفين لم يعيشا علاقات حرة قبل الزواج.
ويقترح أن تتم مراجعة العمل قبل عرضه بواسطة متخصصين في العلاقات الأسرية وعلم النفس والأخلاق للحكم على العمل ومدى استحقاقه للعرض وتلاؤمه مع القيم.
حيث إن معظم القائمين على تناول العلاقات الأسرية في وسائل الإعلام متأثرون بالثقافة الغربية بشكل غير مباشر ويروجون قيمها في أعمالهم.
إن الذين يشوهون قيمة الأسرة، ويهونون من شأنها ليسوا متآمرين علينا فحسب، وإنما متآمرون معنا أيضًا، فكم من أسر لم تكن نموذجًا طيبًا يقاس عليه.
وقدمت للأعداء مبررات طعنهم في الدين ونظمه الاجتماعية والأسرية، ويظل السؤال مطروحًا: أيهما الأخف ضررًا: إحجام اقتصادي جبري عن الزواج، أم رفض فكرى اختياري له؟ وكيف نخرج من الفخ المنصوب؟ هذا هو التحدي، وتلك هي إحدى أولوياتنا التي تستحق الاهتمام والتفكير العميق والعمل والحركة الفاعلين.
==============(14/339)
(14/340)
الحجاب ومشاكل الأمّة
أحمد بن محمد الصقر 4/8/1423
20/10/2001
يتحدث بعض مثقفينا المستغربين عن العلماء والدعاة والجيل الملتزم بكثير من التهم منها:الاهتمام بالقشور والشكليات.
وهذه الفصيلة من المثقفين ينطبق عليها المثل المشهور:رمتني بدائها وانسلّت !،لأنهم ـ من حيث يشعرون أو لا يشعرون ـ هم من يهتم بالقشور والشكليات ، هذا على فرض صحة هذا التقسيم من الناحية الشرعية ، فهي تكثر الحديث عن الحجاب وهو لا يعدو مظهراً يتعلق بشكل المرأة المسلمة .
وبحسب علمي المتواضع فإن الحجاب ليس مثل أصباغ الشعر التي تحتوي على مواد كيميائية سامة قد تنفذ من خلال مسام قشرة الرأس إلى خلايا المخ فتفتك بها بل قد تصل إلى الجنين وتؤثر فيه…
وعلى حسب علمي أيضاً فإن الحجاب ليس خوذة حربية أو رياضية يُخشى أن تدق عنق المرأة فتحدث في جسمها تشوهات خَلقية …
ألا يمكن أن يعتبر أدعياء التحرير أن الحجاب قضية شكلية شخصية …إلا إذا كانوا يعتقدون أن الحجاب هو السبب في تخلفنا عن صعود القمر، وهو السبب في ضياع فلسطين ، أو في مشكلة البطالة والتلوث البيئي وتفاقم مشكلة المياه وتدني مستوى المخرجات التعليمية ، أو في ظاهرة التفكك الأسري وارتفاع معدلات الطلاق ، أو في الفساد الإداري والتخلف التقني وتأخر اكتشافنا لخريطة الجينات الوراثية أو ربما يعتقدون أن الحجاب هو السبب في انتشار الإيدز !! إن المشكلة الحقيقية التي تعاني منها المرأة ليس في ستر وجهها وتغطية شعرها وإخفاء زينتها ولكن في استسخاف عقلها وسلب مشاعرها وطمس كرامتها وذلك من خلال النظر إلى المرأة على أنها أنثى فقط وليست إنساناً له عقله الذي يجب أن يحترم ومشاعره التي يجب أن تقدّر…
والشواهد على ذلك كثيرة …
منها تلك التصرفات التي يمارسها قراصنة الإعلام حين اتخذوا جسد المرأة وصفاتها الأنثوية سلعة يتجرون بها لجذب أكبر قاعدة ممكنة من الزبائن … وكأن المرأة ـ في نظرهم ـ إنما خُلقت لتكون فتاة إعلان وغلاف أو مقدمة برامج أو عارضة أزياء أو لتؤدي دوراً قذراً في الأفلام والمسارح …
ومن تلك الشواهد أيضاً ما يقوم به بعض العلمانيين في رواياتهم حين اخترعوا للمرأة أدوار الإغراء ومقامات الفساد … فأنتِ حين تقرئين رواياتهم سوف تجدين كيف استخدموا المرأة استخداماً مشيناً (لتبهير) رواياتهم وإضفاء صفة الإثارة عليها… فالمرأة في رواياتهم زوجة خائنة أو راقصة ماجنة أو خادمة فاجرة أو سكرتيرة فاتنة أو نادلة متبذلة … ألخ فهل هذه هي المرأة ؟!!
إن شخصيات تلك الروايات هي شخصيات خيالية … أي أنها لم تفرض عليهم من قبل هيئة كبار العلماء !
ومع ذلك لم يجدوا لها إلا تلك الأدوار المنحطة التي تستغل أنوثة المرأة ولا تستثمر إنسانيتها !!
فأين أنتم أيها المستغربون عن هذه الممارسات التي يشاهدها الملايين ويتربى عليها الملايين؟! …
أو تلك قضية تجارية … والأخرى قضية أدبية!!!
على أية حال … إذا كنتم ترون أن الحجاب هو السبب في تخلفنا فأرجو منكم أن تسارعوا بتحرير الرجل من الشماغ أيضاً …
فيبدو أن هوايتكم نزع الملابس !!
===========(14/341)
(14/342)
70% من التركيات محجبات رغم أنف العلمانية
شبكة نور الإسلام
رغم كل محاولات حماة العلمانية بكشف رؤوس النساء في تركيا، والتضييق على المحجبات بأهم مناحي الحياة، فقد كشفت دراسة حديثة أن أكثر من 70% من النساء التركيات محجبات ضحين بدراستهن الجامعية وفرص العمل بالوظائف الرسمية مقابل الاحتفاظ بزيهن الإسلامي.
أكدت الدراسة أن المرأة المتحجبة تلقى تعاطفا كبيراً من قبل المجتمع، والجمعيات الحقوقية حتى من قبل غير المحجبات، بسبب التضييق الذي يمارس ضدها.
فاطمة كندراس فتاة في العشرين من عمرها حرمت من التعليم الجامعي لأنها اختارت الحجاب، تمثل نموذجا للتمسك بالقيم الإسلامية رغم كل العقبات، ومع ذلك فهي غير نادمة على الحجاب، وتقول: "إذا كان البعض لديه النفوذ الآن لإغلاق أبواب الجامعات في وجهي، فإنه بالتأكيد لا يقوى على سد أبواب الحياة والنجاح أمامي"، لذلك انطلقت فاطمة لدراسة اللغة العربية في مركز ثقافي خاص، ثم أصبحت مدرسة في ذات المركز الذي درست فيه.
اضطرت الطالبة "فاطمة قر" التي كانت تدرس فن الأزياء والموضة عندما منع الحجاب في الجامعات لترك الدراسة، وحظي قرارها بمباركة أسرتها، وهي الآن ربة منزل.
تقول فاطمة التي كانت تستقل سفينة متوجهة إلى الشق الأوروبي من إسطنبول مع سبع من صديقاتها المتحجبات :" لست نادمة على حجابي، بل سعيدة لأنني دفعت ثمنا يعتبره البعض غاليا في سبيل إطاعة أمر إلهي، والتزاما بواجبي الديني".
آلاف التركيات المحجبات اضطررن لإكمال تعليمهن الجامعي في الخارج، خاصة في أذربيجان حيث تنتشر اللغة التركية، كما أن بنات رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان اضطررن للدراسة في جامعات بالولايات المتحدة، والحجاب لم يجلب المتاعب فقط لبنات أردوغان بل له شخصيا أيضا، من قبل العسكر بالدولة بسبب حجاب زوجته.
وأمام أبواب الجامعات أو الدوائر الرسمية هناك مظهر يتكرر مئات المرات يوميا، سيدات في الصباح يخلعن حجابهن، وعند الخروج من الجامعة أو العمل يعدن وضعه على رؤوسهن.
هذا واحد من أساليب التجاوز التي تلجأ إليها الكثير من التركيات، للحفاظ على الحجاب مع الدراسة أو العمل.
نساء أخريات يضعن قبعة أو شعرا مستعارا على رؤوسهن بدلا من الحجاب وبذلك لا يثرن غضب الدولة.
الجدير بالإشارة أن الحجاب منع في كافة المؤسسات الرسمية التركية منذ الانقلاب على حكومة حزب الرفاه في 28 فبراير 1997.
===========(14/343)
(14/344)
رؤية لسيناريوهات ما بعد الحرب
د: يوسف الزامل * 19/2/1424
21/04/2003
يثير عدد من الأشخاص نقاشات وحوارات وتساؤلات عما يمكن أن تنجم عنه ما بعد الحرب من آثار خطيرة قد تغير الأوضاع الاقتصادية صعوداً أو هبوطا،ً رواجاً أو ركوداً، بحيث إنهم يريدون استطلاع رؤى تساعدهم في اتخاذ قرارات استثمارية، أو تأجيلها أو شراء عملات أجنبية وذهب أو بيعها، أو غير ذلك ، جرياً من ناحية وراء إمكانية تحقيق أرباح من المضاربات على الأسعار، أو حماية لرؤوس أموالهم من ناحية أخرى ، أو تحرزا ً من اتخاذ قرارات استثمارية أو مالية قد لا تكون في صالحهم ، وقد يتعدى القلق والتساؤلات المخاوفَ الاقتصادية لتتعلق بمستقبل الأمة، وإمكانيات التدخلات السافرة في شتى الشؤون الداخلية المرتبطة بالسيادة والاستقلالية للدول العربية والخليجية في المجالات التعليمية، والثقافية، والقيمية، والسياسية، وغيرها ..
ولا شك أن الإجابة الدقيقة أو الإفادة ذات المصداقية العالية عن السيناريوهات المستقبلية للأحداث و التغيرات الاقتصادية لا تحتاج إلى معلومات وبيانات وإحصائيات اقتصادية فحسب ؛ بل وإلى كم معقول من الدراسات السياسية، و الاستخباراتية، و الاستراتيجية التي قد يصعب الوصول إليها، و قد يطول هيكلتها وبرمجتها، ثم تحليلها بجهود فردية محدودة . فالقيام بمثل هذا العمل على درجة مقبولة يستلزم عملاً مؤسسياً تتضافر فيه جهود مختلف المتخصصين و الخبراء في المجالات السياسية و الاقتصادية ... مثل هذا العمل المؤسسي يفترض أن يكون موجوداً بقدر معقول من الكفاءة في العالم العربي و الإسلامي، وفي منطقة الخليج تحت مسميات المعاهد والمراكز الاستراتيجية، ليس لحماية أو تفعيل القطاع الخاص في المقام الأول بقدر حماية وحفظ المستقبل الأمني و العسكري لكيانات الدول السياسية، وتحقيق استقرارها، وتجنب ما يمكن أن تقع فيه من كوارث . وعدم وجود أو كفاءة مثل هذه الكيانات سيعني أن ثغرات ضخمة قد تترك مفتوحة ليتمكن الأعداء من النفوذ من خلالها إلى البلاد على حين غفلة من أهلها..
ومع ذلك فبقدر محدود من مصادر المعلومات و الخبرات الفردية، ورؤية دقيقة ومتأنية في الأوضاع العالمية بعد سقوط الاشتراكية و الكتلة الشرقية، وبعد اتجاه الكتلة الغربية نحو مزيد من التكامل السياسي و الاقتصادي، والمتمثل في أوروبا الموحدة وتقدم مراحل التكامل الاقتصادي في قارة أمريكا الشمالية ، والتعاون الكبير بين دول قارة أمريكا الشمالية ودول قارة أوربا ، فيستطيع المحلل العادي أن يتوقع أنه لا بد أن ينجم عن ذلك اختلال في توازن القوى بين الشرق و الغرب و الشمال والجنوب، مما يلزم منه ضبابية في إمكان استمرار كتلة متوسطة كانت تسمي دول عدم الانحياز ، وبالتالي ففي ظل قوانين دولية هشة، وسيطرة للكتلة الغربية على المنظمات السياسية الدولية كمجلس الأمن، و النفوذ الكبير في هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي و البنك الدولي؛ فإن فرض قوى المصالح الغربية توجهاتها وتدخلاتها السياسية والعسكرية على دويلات ودول شرقية ضعيفة ذات كيانات اقتصادية وسياسية وعسكرية هشه أمر يبدو متوقعاً وطبيعياً ، ولا يبقى على الكتلة الغربية إلا أن ترسم الخرائط وتستخدم لتنفيذ مصالحها وتدخلاتها المسرحيات و السيناريوهات التي تحلو لها، وترى فيها أقل تكلفة وأكبر عائد يمكن أن يحقق أهدافها الاستراتيجية و الثقافية و الاقتصادية ..و لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية وهي أكبر وأقوى عضو في الكتلة الغربية (والتي تنتج ما يقرب من ¼ إنتاج العالم) قد قامت بافتعال أو استغلال أحداث مهمة بعد فترة لم تزد عن14 سنة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي(1988-2001).. وليس أشهر من حرب الخليج الثانية , ثم حوادث سبتمبر 2001 ، إذ استثمرت ذلك لإشعال الحرب على أفغانستان ثم بعد أقل من سنة الحرب على العراق . وكانت المقالات التحليلية والتصريحات الرسمية وغير الرسمية تتوالى ( وحتى قبل أحداث سبتمبر 2001، انظر على سبيل المثال المقال الافتتاحي لصحيفة الرياض يوليو/ 2001 والذي تحدث عن مصارحة الأمير سلطان) وتؤكد وجود المطامع لبعض القوى ورغباتها في إحداث تغيير في خرائط المنطقة ..(14/345)
هذه الوتيره المتسارعة للأحداث العالمية ثم الاعتداءات دون إجماع دولي أو قانوني على دولة بعدها دولة،وفي منطقة واحدة تقريباً، هي الشرق الأوسط ، والذي تلتقي على أراضيه المطامع العالمية الدينية ( من يهودية ونصرانية ) مع المطامع الاقتصادية ( من نفط وغاز) ، جعلت كل المراقبين و المتنفذين في السياسات الدولية يكادون يجمعون على أن هناك خرائط جديده وإعادة لرسم هياكل جغرافية لدول المنطقة، وتوزيع مختلف للقوىالسياسية والاقتصادية لدول المنطقة. وهذا يؤدي إلى استطلاع أحداث قريبة الوقوع جداً بعد إنجاز المهمة في العراق ستكون في إيران أو سوريا، و المبررات جاهزة في مظلة مكافحة الإرهاب ، فإيران إحدى محاور الشر ، وسوريا هي الدولة التي لم توقع على معاهدة سلام مع إسرائيل، فهي في حالة حرب مع كيان متنفذ في القوة والتأثير على الولايات المتحدة، وصياغة وتشكيل فقرات مصالحها القومية والاقتصادية والسياسية المبنية على مزيجها (المسيحي اليهودي).
ثم بعد ذلك تستكمل مسيرة حرب الإرهاب في دول أخرى مغلوبة على أمرها سياسياً وعسكرياً، و التي ستوجه إلى إعادة تكوين ليس فقط مناهجها التعليمية و مؤسساتها الدعوية و التعليمية و الخيرية والقيمية ، بل ستستكمل بإعادة تشكيل مؤسساتها و أنظمتها السياسية و الاقتصادية؛ لتصبح سائرة دون انحرافات في فلك الديمقراطية الغربية (الأنجلوسكسونية)؛ لتصب في خدمة ودعم المصالح و الأهداف لقوى الضغط الصهيونية و النصرانية المتطرفة، و التي تتحرك في بوتقة العلمانية، وتستظل بالعولمة الاقتصادية .
وقد يتم التدخل في شؤون هذه الدول العربية الضعيفه (الخليجية وغير الخليجية ) عبر غطاء التعاون الأمني مع الولايات المتحده؛ لملاحقة المتطرفين والارهابيين من الشباب المتحمس الغيور، و تكون سياسات الغطرسة الأمريكية في المنطقة قد نجحت في استفزازهم ودفعهم نحو بعض الأعمال الانتحارية العاطفية غير المدروسة والمحسوبة العواقب والآثار طويلة الأجل ، أو تدفع إلى بعض العناصر لتمثيل مثل هذه الأدوار إن لم تظهر سريعاً إلى أرض الواقع.
هذا السيناريو المتوقع للأحداث كما تؤيده المبادرات العسكرية المتلاحقة للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وسرعة التغيرات و التقنية المعلوماتية، والسباق نحو العولمه ، وظهورتيارات التكتلات الدولية - ذات المزيج المتجانس (العرقي الديني العلماني) كالاتحاد الأوروبي- وتخطيها للأفكارالوطنيه و الحركات و النعرات القومية التي لم تتطور عنها الدول العربية ، فإنه يزداد تأييداً بأن الشرق الأوسط قد أصبح (خلال 20 سنة مضت) مجالاً لصراعات دموية ضخمة لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية، كحرب أفغانستان الأولى و الثانية، وحروب الخليج الأولى و الثانية والثالثة، وتلك الحروب تكون الدول العظمي أطرافاً مباشرة ورئيسة فيها .
منذ عام 1948 1978 (أي :30سنة) كان العالم وخاصة الشرق الأوسط ( فيما عدا العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ) بعيداً عن صراعات وحروب ضخمة يكون ضحيتها خراب ودمار شامل للبلدان و الدول ( كما حدث في العراق عام 1991 ثم 2003 وكذلك أفغانستان عام 2002 )&
ويزيد ذلك وضوحاً وبرهاناً أن الولايات المتحدة الأمريكية ومن يسير في فلكها لا تريد أهدافاًَ اقتصادية في المقام الأول في حربها على العراق ، ويخطئ من يظن أن عهد الاستعمار القديم سيتجدد بتملك الشركات الأمريكية لبترول العراق ، بل سيظل مملوكاً للعراق ، وإن كانت شركات النفط الأمريكية والغربية هي المستفيدة الأولى ، تحظى بالامتيازات و العقود الاستثمارية المجزية ، وإن كان سيسير العراق في فلك وتوجهات المصالح الغربية الأمريكية ، ومع كل هذا كان يمكن أن تتحقق هذه الأهداف الاقتصادية (لو كانت هي الوحيدة أو الرئيسة) بدون حرب عبر صلح وتعديل جوهري في نظام العراق (كما حدث في الاتحاد السوفيتي تحت ما يسمي بالبروستريكا ) .. ،فمن يحاول أن يصور الحرب بأنها اقتصادية لايدرك أبعاد الأسس التي تسير عليها الاستراتيجيات لتحقيق المصالح الاقتصادية الرأسمالية ، كما أنه يحاول أن يبسط الأمور في بعد واحد هو المظهر والشكل الاقتصادي ، ويجعله الأول و الرئيسي ، وذلك كما تحاول أن تبسط أمريكا عدوانها على العراق في مظهر محاربة الإرهاب . كما يحتاج من يسلك مسلك التبرير الاقتصادي أو يحصره في ذلك إلى أن يفسر الحرب الأمريكية في أفغانستان، وهي كما نعلم بعيدة عن الاحتياطيات النفطية ( ومن يقول إن الهدف هو السيطرة على بترول بحر قزوين يكون قد أبعد النجعة).. وغيرها، نحو؛ مقاطعة المنتجات و الخدمات الأمريكية، وضعف الإقبال على صناعة السياحة الأمريكية، وانخفاض الإنفاق على السياحة من المقيمين في أمريكا، والوافدين إليها إلى غير ذلك من آثار اقتصادية عكسية، ليس أقلها إثقال كاهل الميزانية الأمريكية بنفقات عسكرية ضخمة، تزيد من أرصدة الديون الحالية، وترفع عوائد خدماتها .(14/346)
إن أمريكا لم تعد دراسة جدوى اقتصادية لحربها على الإرهاب في أفغانستان و لا العراق، ولا على ما سيأتي بعدهما دول لأن الأهداف الجوهرية المحركة لعجلات الحرب هي كما أشرنا أهداف تجتمع فيها مصالح الطوائف و القوى المتطرفة من مزيج التشكيلات النصرانية العلمانية و اليهودية الصهيونية و التي تقف وراء الكواليس، وتدفع الحكومة الأمريكية نحو الحرب التي تدمر دماراً شاملاً تحت مظلة محاربة أسلحة الدمار الشامل.
وبعد سوريا وإيران ( سيكون لكل منها سيناريو مناسب في كل سنة من خلال السنين القادمة ) ستزداد الكراهية، وتتحرك عواطف شباب غيورين من أفراد الشعوب المسلمة في الخليج .(1) ، مع استمرار ضغوط إعلامية وسياسية على دولها وحكومتها، مما سيزيد من انقلاب الزمام على السيطرة و تحقيق الأمن، وعندما تحدث الفوضى مبرراً واضحاً وجيداً لتدخل مباشر (صهيوني صليبي) ضد ما يسمي بالإرهاب ،و التدخل لا يلزم منه أن يكون عسكرياً ؛ بل ربما سيكون بواسطة دعوة جميع الدول العربية إلى جلسات ومعاهدات واتفاقيات مع إسرائيل و الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول؛ ليتم القيام بمشروع بروستريكا جديد وحديث للتعاون و التكامل الاقتصادي و الأمني و السياسي لدول الشرق المتوسط وشمال إفريقيا، لتحقيق التنمية العادلة في توزيع الثروات ،والحرية، والديمقراطية، و الاستقرار الأمني ومحاربة الإرهاب و التطرف، وبالطبع ستكون المستفيدة الأولى في مثل هذا التكامل الاقتصادي السياسي و الأمني هي الدول القوية إسرائيل اليهودية الصهيونية، و حلفاؤها الأقوياء، من دول أمريكية و أوروبية نصرانية صليبية، مع بعض الدول الإسلامية المجاورة في النفوذ المباشر للصهيونية و النصرانية، وستكون إسرائيل بمثابة المركز وباقي الدول والمناطق بمثابة الريف والمساند و المحيط . وهذا ما سيكون لا حقاً دولة إسرائيل الكبرى التي لا يحلم بها اليهود فحسب؛ بل المتعصبون المتحالفون من المتطرفين المسيحيين، الذين أخذوا يزدادون في التأثير على الدوائر السياسية و الأوروبية و الأمريكية .
* أستاذ مشارك قسم الاقتصاد جامعة الملك سعود
(1) الأعمال انتحارية أو استشهاديه ضد المصالح الغربية الأمريكية أو هكذا تفتعل ويدفع إليها أفراد .
============(14/347)
(14/348)
نقد الفكر الليبرالي ( جديد ومزيد ).
الحرب على السلفيّة..!
( نقد الفكر "الليبرالي" السعودي )
فئة ضالة جديدة
بقلم/ د. محمد بن عبد العزيز المسند
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
قسم الدراسات القرآنية
وعضو الجمعية العلمية السعودية للقرآن وعلومه
المقدمة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنّ من المعلوم أنّ هذه الدولة السعوديّة منذ نشأتها على يد الإمامين الجليلين محمّد بن عبد الوهّاب ومحمّد بن سعود ـ رحمهما الله تعالى ـ قد قامت على العقيدة السلفيّة النقيّة التي كان عليها السلف الصالح منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم.. والإمام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله لم يأت بجديد فيما دعا إليه، وإنّما جدّد ما اندرس من معالم هذا الدين لا سيّما ما يتعلّق بالتوحيد ونبذ الشرك، فكانت دعوته تحريراً للعقول من الجهل والخرافات والخزعبلات، وجرى على ذلك أتباعه من بعده حكاماً ومحكومين، ولقد تعرّضت هذه الدولة السلفيّة المباركة منذ نشأتها للكثير من الأذى والمواجهات والتحديات من قبل جهات عدّة، لكنّها ـ بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسّك أهلها بهذه العقيدة السلفيّة النقية ـ صمدت في وجه أعدائها، وعاودت الظهور كلّما ظنّ أعداؤها أنّها قد زالت إلى الأبد..
وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ثمّ الأحداث التي وقعت في هذه البلاد من تفجيرات آثمة، مع ما صاحب ذلك من وفاة كبار أئمّة هذه الدعوة السلفيّة المعاصرين الذين كان لهم كبير الأثر في حمايتها والذود عنها؛ وجد الأعداء فرصتهم في النيل من هذه الدعوة السلفية ممثلّة في أهلها والقائمين عليها، ولم يكن عدوّها الخارجي بأخطر من عدوّها الداخلي المتمثلّ في بعض أبنائها العاقّين الذين تشرّبوا مبادىء وأفكاراً منحرفة، كان منهم طائفة تبنت الفكر الاعتزالي القديم، وراحت تدعو إليه وتنافح عنه، وترى في السلفيّة عدوّاً لدوداً له، وهم بذلك يسعون إلى إعادة فتنة سلفهم القديمة مع إمام أهل السنة في وقته الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن بوجه عصري جديد يتماشى مع ما يريده العدو الخارجي المتمكن، هذا الوجه يتلخص في اتهام هذه السلفية النقيّة بأنّها هي مصدر الإرهاب ـ الذي لم يتم الاتفاق على تعريفه إلى هذه اللحظة ـ، ومصدّرته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك فجعلوا السلفية المسكينة هي السبب الرئيس في جميع النكبات التي حلّت بالأمّة من تخلّف وتأخر وتفرّق(!)، وأنّه لا سبيل إلى التقدم والازدهار إلا بنبذ هذه السلفية النقية التي تدعو إلى اتّباع منهج السلف الصالح ابتداء من رسول ا صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم، ومروراً بأئمّة الإسلام العظام كسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير والأئمّة الأربعة وابن تيمية وانتهاء بأئمة السلفية المعاصرين كابن باديس وابن باز وابن عثيمين وغيرهم عليهم جميعاً رحمة الله تعالى، وفي الوقت نفسه راحوا يبشّرون بمشروعهم التغريبي الجديد المتمثّل في إحياء الفكر الاعتزالي العقلاني، بدعوى الإنسانية والتعددية.. وقد رأيت أن أقصر الحديث على هذه الطائفة الاعتزالية دون غيرها لأسباب أهمّها:
1. أنّهم من أبناء جلدتنا اللصيقين، ويتكلّمون بألسنتنا..
2. تمكنهم من بعض وسائل الإعلام المحلية، وإعطاؤهم الضوء الأخضر من قبل القائمين على تلك الوسائل ليقولوا جلّ ما يريدون، وعدم السماح بنشر الردود عليهم إلا بشكل ضئيل جداً.
3. أنّهم يتحدّثون باسم الدين ويلبسّون على الناس بخلط الحقّ بالباطل، وإثارة الشبه القديمة التي أثارها الأعداء من قبل.
4. تمكنهم من بعض المنابر الجامعية في بلادنا، وبلبلة أفكار الطلاب وتشكيكهم في دينهم وعلمائهم بل وفي أقرب الناس إليهم وفي هذا يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13709: " ما أؤكّده لطلابي دائماً، ويقع منهم موقع الغرابة أنّ الفكر الخارجي حالة ليست ببعيدة عنا، الحالة الخارجية لها نسبتها الخاصة، وقد تنمو داخل الفرد ببطء دون أن يشعر، وقد تتسرب إليه من أقرب الأقربين، بل قد يكون أقرب الناس إليه ـ والداه أو إخوته مثلاً ـ من غلاة الخوارج، ولكنه يستبعد أن يكون هذا القريب الذي يطمئن إليه غاية الاطمئنان من الخوارج الغلاة الذين يقرأ عنهم وعن تكفيرهم ووحشيتهم.. لا يكادون يصدقون هذا، مع أنهم يعرفون تمام المعرفة أن الخوارج القدامى خرجوا من صميم المجتمع... "، بهذه الطريقة الماكرة يشكك الأستاذ الجامعي تلاميذه في والدِيهم وإخوانهم، بل العجيب أن يتحوّل مدرس العربية، إلى أستاذ في العقيدة، ليلقنهم درساً في الفِرَق، وهذا الذي طالما استنكروه في صحفهم، وعدّوه من أسباب تدني التعليم عندنا كما يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( دعاة لا معلمون ) الوطن: 921.
ثم يقول الأول في مقاله: إن الطلاب لا يكادون يصدقون ما يقوله..!!، وكيف يصدقون هذا الهراء من كاتب يعلمون خبثه وانحرافه العقدي والفكري، وقد قابلت بعض طلابه فأبدوا استياءهم من فكره المنحرف الذي يبثه في قاعة الدرس..(14/349)
ولقد كنت منذ زمن أتتبع كتاباتهم التي يسوّدون بها الصحف والمجلات، فجمعت منها كمّاً هائلاً مليئاً بالجهالات والمغالطات والتلبيس والدسّ الرخيص، وتقرير العقائد الباطلة، وغير ذلك من أنواع الباطل، وما فاتني منها ربما أضعاف ما جمعته، مما يصعب معه نقد هذا الفكر نقداً شاملاً دقيقاً، إذ يحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة ربما فني العمر قبل الفراغ منها.. ولا أقول ذلك مبالغة وإنّما هي الحقيقة، لذا سأحاول نقد ما تيسر لي من هذا الفكر بحسب ما يتسع له الوقت، وهو كاف ـ بإذن الله ـ لفضحه وبيان فساده وخطله..
وسيكون الحديث عنهم في النقاط التالية:
أوّلاً: سماتهم الشكلية الظاهرة..
ثانياً: سماتهم الفكرية والثقافية من خلال كتاباتهم المعلنة..
ولن أحرص على ذكر الأسماء، لأنّ الأسماء تتغيّر وتتبدّل، بخلاف السمات فإنّها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان إلا قليلاً، وهذا هو منهج القرآن في الحديث عن مثل هذه الطائفة..
هذا؛ ومن الملاحظ من خلال كتاباتهم أنّهم يتبادلون الأدوار، فبعضهم متخصّص في الطعن في السلفية وتشويهها وتنفير الناس منها، وبعض آخر متخصّص في التقليل من خطورة المذاهب المنحرفة، والأفكار الضالة، بل الدعوة إلى بعضها وتلميعها وخصوصاً الفكر الاعتزالي كما سيأتي بإذن الله، وهكذا، وبعض ثالث متخصّص في النيل من حضارتنا الإسلامية، وتشويهها، والثناء المغالي على الحضارة الغربية، وتمجيدها إلى حدّ الهوس، وهلمّ جرّاً..
أمّا مصادرهم التي ينهلون منها، فهي بعض الكتب الفكريّة لبعض الكُتّاب المنحرفين من تلامذة المستشرقين الحاقدين، ومن أصحاب التوجّهات العلمانية المشبوهة، الذين يجيدون بثّ الشبه، والتشكيك في أصول الدين ومصادره، وتاريخ المسلمين، بطريقة ماكرة، وغير منهجية، قد تخفى على كثير من الشباب الغضّ الذي ليس له حظّ وافر من العلم الشرعي، ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، وأكثرهم حضوراً في كتاباتهم: المفكّر المغربي محمّد عابد الجابري، ففي الوقت الذي يطعنون فيه بأئمّة السلف وعلماء الأمّة كما سيأتي؛ نجدهم يسبغون أوصاف التعظيم والتبجيل لهذا المفكر وأمثاله، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401: " فلسطين والنهضة العربية، أيّهما الوسيلة، وأيّهما الهدف؟ تاه العربي في هذا السياق وغمّ عليه! وأصبحت الحيرة في هذا من الإشكاليات المزمنة في الوعي العربي ذي البعد الوحدويّ؛ كما يرى ذلك المفكّر المغربيّ الكبير: محمد عابد الجابريّ.. "!!! .
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد، وتقرير مذهب الاعتزال ـ في مقال له بعنوان ( غرس المفاهيم من خلال الطرح غير العقلاني ) الرياض: 13477: " يرى الدكتور محمد عابد الجابري أنّه لكي يتمّ غرس المفاهيم الحداثية في الذاكرة الجمعية لمجتمع معين مثل مفاهيم الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والمجتمع المدني فلا بدّ من تجذيرها تراثياً.. " ويستمر الكاتب في شرح وجهة نظر الجابري، وعلى الرغم من أنّه أبدى شيئاً من التحفظ المؤدب تجاه تلك الوجهة، إلا أنّه يختم مقاله بقوله: " وهذه على الأقلّ تظلّ مجالاً للتساؤلات التي على المفكّرين الكبار من طراز الجابري بالذات أن يولونها ( هكذا ) اهتمامهم.."، وأضع تحت كلمتي ( طراز ) و( بالذات ) عدّة خطوط.
وفي مقال آخر بعنوان ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551، يقول الكاتب نفسه: " مفكرون عرب كبار وعلى رأسهم الجابري.. ".
أمّا ترديد أفكار الجابريّ، وحتى ألفاظه ومصطلحاته، فهو كثير في كتاباتهم، ومن ذلك:
• ( بنية العقل العربي) من مقال بعنوان: (بائعو الكلام) الرياض: 13490.
• ( الإيبيستيمولوجيا، النظام البياني والعرفاني والبرهاني ) من مقال بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551.
• ( التاريخ السياسي المتدثّر برداء الدين، والمحافظ على أيدلوجيته القبليّة، ومكاسبه الغنائميّة.. ) من مقال بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667.
• ( المخيال الجمعي ) من مقال بعنوان: ( مفهوم الحاكمية ) الرياض: 13716، وغيرها من العبارات.
بل إنّ أحد كبرائهم ـ وهو أشدّهم افتتاناً بالحضارة الغربيّة وتمجيدًا لها ـ صرّح في مقال له بعنوان: ( أسباب التباس مفهوم الثقافة ) الرياض: 13789 بمنهجهم في التلقّي، يقول: " أمّا التوغّل الفردي في اكتساب المعرفة المقروءة، والتحليق في آفاق المعارف الإنسانيّة؛ فهو من التغيّرات التي طرأت على الحياة البشريّة، وهو عالميّ المصدر، فرديّ الاهتمام، فهو لا يكون جماعياً، ولا يمثّل سياقاً عامّاً، أو نسقًا سائدًا، وإنّما هو عمل فرديّ يقتصر مداه على صاحبه ومن يتأثّرون به، ويستجيبون له [ يقصد حزبه الليبراليّ ]، وتكون مرجعيّته المعرفيّة من خارج النسق الثقافي المحلّي المغلق(!)، إنّه يعتمد على المصادر المكتوبة الممحصّة(!)، وهي مصادر مجلوبة من خارج الثقافة السائدة "(14/350)
هذه هي مرجعيّتهم، إنّها مجلوبة من خارج الثقافة السائدة(!) وهي كتب المستشرقين الحاقدين، وأذنابهم من الزنادقة الملحدين، والمفكّرين المنحرفين كما تدلّ على ذلك كتاباتهم!!!.
ثمّ يواصل: " فالفرد المهتّم يكوّن ذاته بذاته منفردًا، ويفتح ذهنه لكلّ المتاح من الإنتاج العالميّ، من الأفكار والمعارف والآداب(!) والفنون حيث يتجاوز الفرد بهذا التحليق(!) الثقافة السائدة تجاوزًا موغلاً(!) معتمدًا في ذلك على التأمّل العميق والاستقصاء الدقيق، والبحث الدائم، والمعايشة المنفردة(!) ".
فهو يرى أنّ مجرّد القراءة الفرديّة، والجهد الفرديّ في التلقّي، ومن مصادر خارج النسق الإسلاميّ المنضبط، هو سرّ التميّز والتثقيف والتقدّم المنشود، وهو إذ يقول ذلك ـ بهذه السذاجة الغريبة ـ لا يخاطب جمعًا من المثقّفين والنخب الذين لديهم التمحيص والتمييز بين الغثّ والسمين، والنافع والضارّ، وإنّما يخاطب الناس جميعًا في صحيفة سيّارة، فكيف يصدر مثل هذا من كاتب يعدّ نفسه من نخبة النخبة(!)، وقد حذّر سلفنا الصالح من هذا النوع من التلقّي، وشاعت بينهم المقولة الشهيرة: ( من كان شيخه كتابه، كثر خطؤه، وقلّ صوابه )، وهي مقولة صحيحة يؤكّدها الواقع القديم والحديث، فإنّك لا تجد رجلاً تفقّه وتعلّم وتتلمذ على الكتب إلا وتجد له من الأخطاء والشذوذ ما يفوق الحصر.
ثمّ إنّ هؤلاء وهم يتّهمون السلفية بالتقليدية، ويلمزونها بذلك، وهي من أشدّ المذاهب حرصاً على اتّباع الدليل، ونبذ التقليد؛ نراهم يقلّدون هذا الجابري وأمثاله، ويردّدون ذات الأفكار، بل ذات الألفاظ التي يردّدونها، والتي صدرت ـ أوّل ما صدرت ـ من المستشرقين الحاقدين، وأخذها عنهم هؤلاء المقلّدون، فعاد الأمر إلى تقليد المستشرقين، وترديد شبههم..، وإذا كان ولا بدّ من التقليد، فتقليد السلف الصالح خير من تقليد المنصّرين، من المستشرقين، وأذنابهم من المفكّرين بعقول غيرهم(!!!).
وبعد، فهذا أوان البدء بالمقصود:
أوّلاً: السمات الظاهرة: فأمّا سماتهم الشكلية الظاهرة ـ التي يتستّرون بها على أفكارهم ـ، فأبرزها إعفاء اللحى مع الأخذ منها، أو على حدّ تعبير أحد مشايخنا الأجلاء ـ اللحى الليبرالية ـ، حتى إنّ أشدّهم تطرّفاً لو رأيت صورته لحسبته من الصالحين، بينما كتاباته تمتليء حقداً وغلاً على الصالحين والمصلحين لا سيما أصحاب المنهج السلفي القويم من الأوّلين والآخرين كما سيأتي.. وليس ذلك خاصّاً بهم، فقد يشترك معهم في ذلك بعض العامّة ممن لا يحمل فكرهم المنحرف..
ومع ذلك، فقد تقتضي مرحلة من المراحل الظهور بغير لحى، فهي ليست ضرورية عندهم..
كما أنّ من سماتهم الظاهرة حضور الجمع والجماعات، مع انتقادهم الشديد ـ غير الموضوعي ـ لأئمّة المساجد واحتقارهم وكراهيتهم، إلى درجة الطعن والتشكيك في دينهم أحياناً، والتأليب عليهم، وأحياناً السخرية منهم والتندّر بهم لا سيما إذا خالفوهم في الأفكار المطروحة.. ويظهر ذلك جليّاً في مواقعهم على الأنترنت، فما لا يقدرون على بثه في صحفهم ومجلاتهم بأسمائهم الصريحة، يبثونه عبر تلك المواقع بأسماء مستعارة.. بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً وبذاءة ـ دعا في مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، إلى فرض الوصاية على الخطباء ـ الذين هم في الغالب من طلاب العلم وأساتذة الجامعات ـ وكتابة الخطب لهم بل حتى الأدعية، فلا يكون لهم دور إلا مجرد قراءة الخطب المكتوبة فقط(!)، هذا مع طنطنة هذا الكاتب وغيره من هذه الفئة على ضرورة رفع الوصاية المفروضة على عامة الناس من قِبل العلماء، والتي تحول بينهم وبين الاقتناع بالأفكار المضللة التي تدعو إليها هذه الفئة الضالة وغيرها، وهذه من أعجب تناقضاتهم كما سيأتي إن شاء الله..
يقول أحدهم ـ وهو من أكثرهم حديثاً عن السياسة والدعوة إلى الفكر الاعتزالي ـ في مقال له تفوح منه رائحة العلمنة بعنوان: ( التجييش الطائفي على المنابر ) الرياض: 13770، ـ وكلّ من يدعو إلى الدين والعقيدة عندهم فهو طائفي ـ، يقول: " أدركتني صلاة الجمعة الماضية مع أحد الخطباء ذي الباع الطويل في التسييس المنبري(!) ومنذ قد غادرت مسجده منذ مدّة ليست بالقصيرة عندما أدركت حينها أنني لا أكاد أسمع وأنا منصت لخطبته إلا تحاليل(!) سياسية رديئة المضمون(!) رائجة السوق لدى الخطاب الديماغوغي(!) القابل للتجييش بطبيعته.. " إلى آخر ما ذكر بأسلوبه الركيك المتهالك، أمّا الخطاب الديماغوغي!!! فهذا الذي لم أفهمه إلى هذه الساعة، ولعلّه مشتق من الدماغ، والله تعالى أعلم، أما (التحاليل)، فذكرتني بالمستشفيات، والدماء المسحوبة للتحليل، ولعله اختار هذا اللفظ لمناسبته للإرهاب وسفك الدماء..(14/351)
وفي مقال بعنوان: ( نجاحات الأمن قدوة كيف نبرر قتلنا المجاني ) الوطن: 1156، يلمز أحدهم خطيب العيد الذي صلى خلفه، لأنّه ـ كما يقول ـ ذكر أنّ للتطرف وجهين، وجه محسوس وهو الذي يؤدي إلى التفجير والتخريب، والوجه الآخر تطرف فكري وهو تطرف العلمانيين والمنحرفين من كتّاب ومثقفين... وذِكْرُ هذا الوجه الأخير هو الذي أقضّ مضجع هذا الكاتب، واغتاظ منه ( كاد المريب أن يقول خذوني )، فما كان منه إلا أن اتهم الخطيب بالتبرير للإرهاب المحسوس، مع أنّه لم يقل ذلك، لكنه الصيد في الماء العكر، والدفاع عن وجودهم، حيث استغلوا الأحداث الأخيرة لتصفية الحساب مع خصومهم التقليديين.
هذه مجمل سماتهم الظاهرة..
أمّا سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، فهي كثيرة جداً، أذكرها أوّلاً بإجمال، ثمّ بتفصيل:
أوّلاً: الإجمال:
1. محاربة السلفية.
2. الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم.
3. الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة ).
4. العزف على وتر الإنسانية.
5. الدعوة إلى علمنة الحياة، وإقصاء الدين ( وهو لبّ مشروعهم الذين يدعون إليه ).
6. الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )، ومدحه، وكيل الثناء عليه.
7. الجهل.
8. تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم!!.
9. عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، والتشهير بهم.
10. المزايدة على حبّ الوطن، وهم أشدّ الناس خطرًا على الوطن.
11. الطعن في أئمّة السلف قديمًا وحديثًا، والتقليل من شأنهم، مع إجلال الزنادقة والملحدين والمارقين والمبتدعة.
12. الغرور والكبر واعتقاد امتلاك الصواب..
13. الهجوم الشديد على المؤسسات الدينية والمناشط الدعوية والأشرطة والكتيّبات النافعة.
هذه بعض سماتهم بإجمال، أمّا التفصيل:
السمة الأولى:
محاربة السلفية
وهذه سمة ظاهرة في كتاباتهم، بل هي أبرز سماتهم، يبدونها أحياناً، ويخفونها أحياناً كثيراً، وليس المراد بالسلفية هنا: المدّعاة من قبل بعض النوابت الذين شوّهوا السلفية الحقّة ما بين إفراط أو تفريط، فهؤلاء أمرهم مكشوف لكل ذي بصيرة، بل العجب إنّ بعضهم قد وضعوا أيديهم في أيدي هؤلاء الاعتزاليين المارقين لمحاربة السلفية الحقّة ممثّلة في أهلها العاملين بها.. ومع هذا فإنّ هؤلاء الاعتزاليين يسخرون منهم، ومن سلفيتهم بل من السلفية كلّها أيّاً كانت، يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرفاً ـ بأسلوب ماكر لا يخلو من السخرية في مقال له بعنوان: ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، وعلامات التعجب من عندي: " السلفيات وإن تنوعت، بل وإن وقف بعضها من بعض موقف التضادّ؛ إلا أن الوعي الماضوي(!) يجمعها. إن السباق فيما بينها ليس سباقاً في ميدان الحاضر أو المستقبل، وإنّما هو سباق في ميدان الماضي، والسابق هو الذي يصل ـ بأقصى سرعة ـ إلى الماضي السحيق(!).." إلى أن يقول: " وهكذا نجد أنّ كلّ سلفية ـ أيّاً كان نوعها ودعواها وتمظهرها ـ تدعم الوعي السلفي(!) وترسّخ للماضوية، وتكافح في سبيل التقليد، بدعوى أنّه الحصن المنيع ضدّ الابتداع، وهي بهذا تقف ضدّ أي حراك تقدّمي، تقف ضدّ التقدّم كوعي(!)، وإن تهادنت معه في هذا الموقف أو ذاك. إنّ هذه الهدنة من قبل السلفي فعل تكتيكي لا يرقى إلى الاستراتيجي ولا يقاربه، حتى في مداه النسبي، لأنّ السلفية ـ دائماً(!) ـ في صف الماضي على حساب الحاضر(!) ". والماضي السحيق الذي أشار إليه هذا الكاتب، هو رسول ا صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، إذ إن هذا هو أقصى ما يرجع إليه السلفي المتبع، فهو تعبير آثم يدلّ على شناعة هذا الفكر التغريبي وقبحه، واستهانته بسلف الأمّة.. وأما اتهام السلفية بأنّها في صف الماضي على حساب الحاضر! فهو محض افتراء وكذب، فلا تعارض بين الماضي السحيق ـ على حدّ تعبير الكاتب ـ الذي منتهاه رسول الهدى r، وبين الحاضر والمستقبل في الفكر السلفي الصحيح، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
وقبل الحديث عن هذه الحرب القذرة، لا بد من بيان بعض المصطلحات التي تتردد في كتاباتهم، حتى يتفهم القارىء ما يهدفون إليه.
فمن هذه المصطلحات:
• ( السلفية التقليدية ) ويريدون بها المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة التي تتمثّل فيها هذه السلفية، كهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء، وسائر علمائنا الكبار..
• ( الفكر الصحوي ) ويريدون به طلبة العلم والدعاة النشطين، وهو الذي يعدونه ـ كما يقول أحدهم ـ " النشاط الحركي العصري للسلفية التقليدية وأنّ العلاقة بينهما علاقة عضوية يستحيل تمايزها " الرياض:13436.
• ( الإسلام الحركي ) أو ( الحراك المتأسلم!! )، ويريدون به أيضاً الدعاة النشطين في الدعوة... فهم لا يريدون إسلاماً نشطاً متحرّكاً، وإنّما يريدون إسلاماً جامداً خاملاً لا يتحرك، حتى يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم التغريبي دون مقاومة تذكر!!!.(14/352)
• ( الإسلام السياسي ) ويريدون به العلماء والدعاة الذين يشاركون في الشأن العام، لا سيما القضايا السياسية، ولهم دور فاعل فيها... وهم يريدون إسلاماً "دراويشياً" لا يفقه شيئاً في القضايا العامة حتى تخلو لهم الساحة..
• ( التنميط ) ويريدون به تربية الناس على منهج أهل السنة والجماعة، وعقيدة السلف الصالح، وحمايتهم من المذاهب المنحرفة، والعقائد الفاسدة..
• ( الأيديولوجيا )، وهو مصطلح وافد غير عربي يتردد كثيراً في كتاباتهم ـ بل يكاد يكون ترداده سمة لهم ـ ويريدون به المعتقد الديني أو الثقافي الذي يؤمن به الفرد ويترجمه سلوكاً في الواقع المعاش. والأدلجة عندهم فيما يتعلّق بالسلفية: تشبه التنميط، فهي دعوة الناس إلى الدين والمعتقد الصحيح وتربيتهم عليه ليكون واقعاً معاشاً، وهذا هو الذي يقضّ مضاجعهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي.
وقد سلك هؤلاء المارقون في حربهم للسلفية مسالك عدّة، من أبرزها:
1. محاولة تشويه السلفية، والتنفير منها، وتصويرها بصورة مقزّزة لصرف الناس عنها، وذلك للتمهيد لطرح مشروعهم التغريبي العفن المتقنّع بقناع العقلانية والتنوير!! وهم وإن كانوا كلّهم يعملون في هذا السياق؛ إلا أنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وأكثرهم بذاءة ـ قد تخصّص في ذلك كما سبق، فلم يترك شتيمة، ولا نقيصة إلا رمى بها هذه السلفية التي يدين بها عامّة أهل هذه البلاد وغيرهم، وكلّ ما تقاطع معها من "الإسلامويين" ـ كما يعبّرون استهزاء ـ ولو من بعيد، وحتى لا أكون متجنّياً، فإنّي سأذكر بعض هذه الشتائم، ليعلم القارىء مدى الإسفاف الذي وصلوا إليه، مع دعواتهم المتكرّرة للتسامح مع "الآخر" واحترامه وتقديره!!!. فمن هذه الشتائم:(14/353)
( السلفية العتيقة ) الرياض: 12953، ( السلفية التقليدية ) الرياض: 13065، (الانغلاق السلفي ) الرياض: 13338، ( قوى التقليد والجمود والظلام ) الرياض: 13485، ( قوى التقليد والظلام والإرهاب ) الرياض: 13331، ( قوى التأسلم ) الرياض: 13359، ( قوى التخلف والتوحش والانغلاق ) الرياض: 13352، ( قوى التطرف ) الرياض: 13331، ( قوى تخلف وتقليد ) الرياض: 13331، ( التقليدية البلهاء ) الرياض: 13065،( التقليدية الميتة ) الرياض: 13331 ، ( الثقافة الميتة ) الرياض: 13072، ( الثقافة التي تصنع الغباء ) الرياض: 13072، ( الثقافة التقليدية البائسة ) الرياض: 13065، ( ثقافة الانغلاق ) الرياض: 13065، ( ثقافة تقتل الوعي ) الرياض: 13065، ( ثقافة التجميع واللا عقل ) الرياض: 13072، ( ثقافة الموت الوعظية الحمقاء ) الرياض: 13072، ( ثقافة كسيحة ) الرياض: 13156، ( الوعي الكسيح ) الرياض: 13002، ( الوعي المتسطّح الكسيح ) الرياض: 13072، ( الوعي المأزوم ) الرياض: 13380، ( وعي غارق في مخلّفات عصور الانحطاط ) الرياض: 13156، ( القراءة التراثية المبعثرة ) الرياض: 13331، ( الطرح المتسطّح ثقافياً ) الرياض: 13163، ( رؤى الانغلاق وتيارات الكره ودعاة النفي ) الرياض: 13128، ( براثن التنميط والمحافظة والتقليد ) الرياض: 13128، ( الاحتيال اللا معرفي وجرثومة الوصاية ) الرياض: 13065، ( الدروشة الوعظية التي تفتقد الحكمة ) الرياض: 13072، ( الإفلاس المعرفي ) الرياض: 13072، ( الاستغفال المعرفي ) الرياض: 13121، ( الترنح المعرفي ) الرياض: 13282، ( تيار الجمود والارتياب ) الرياض: 13282، ( الاختطاف الثقافي والاجتماعي ) الرياض: 13128، ( قصور معرفي حاد ) الرياض: 13163، ( البلاهة السياسية ) الرياض: 13191، ( الغباء السياسي ) الرياض: ، ( ضمور الوعي السياسي ) الرياض: 13380، ( الجماعات المتأسلمة ) الرياض: 13247، ( نمطية بلهاء ) الرياض: 13338، ( المتأسلمون )، ( تيارات التأسلم ) الرياض: 13282، ( فكر الإقصاء والنفي ) الرياض: 13282، ( اللا وعي بالتاريخ ) الرياض: 13002، ( الفهم القاصر ) الرياض: 13002، ( جماهير الغوغاء ) الرياض: 13002، ( المنزل القديم المتداعي بوحشيته المعتمة ) الرياض: 13002، ( سيكولوجية البدائي ) الرياض: 13002، ( خطاب موعظة لا معرفة ) الرياض: 12953 ، ( ألاعيب الحواة ) الرياض: 13436، ( ممارسة خرقاء ) الرياض: 13436، ( الحراك المتأسلم ) الرياض: 13478، ( الخرافة والتقليد والخداع ) الرياض: 13485 ، ( طمر الحقائق ) الرياض: 13485، ( حراك سلبي ) الرياض: 13485، ( الأيدلوجي المنمط ) الرياض: 13499، ( المجتمعات المحافظة الأصولية ) الرياض: 13499، ( حركات الأدلجة ) الرياض: 13499 ، ( الأدلجة الماكرة ) الرياض: 13324 ، ( تجهيل الجماهير ) الرياض: 13499، ( الجماهير البائسة الظامئة ) الرياض: 13506، ( الجماهير الغائبة المغيّبة ) الرياض: 13338، ( الحواشي وحواشي الحواشي ) الرياض: 13506، ( الإسلام الحركي السياسي ) الرياض: 13506، ( المراهقة الصحوية ) الرياض: 13303، ( أوهام التقليدية الميتة ) الرياض: 13065، ( مفرقعات صحوية ) الرياض: 13289، ( شريط الكاسيت الغبي ) الرياض: 13289، ( الهراء الإعلامي والسطحية ) الرياض: 13289، ( المتأسلمون ) الرياض: 13303، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) الرياض: 13359، ( دعوى النقاء الأخلاقي المزعوم ) الرياض: 13331..
هذه بعض الشتائم المقذعة التي قمت بإحصائها من مقالات كاتب واحد منهم فقط، ودون استقصاء تام(!) ويلاحظ على هذه الشتائم ما يلي:
أ- كثرتها، حتّى إنّها لتصل إلى الخمس والستّ في المقال الواحد!!!!، وفي هذا دليل واضح على افتقاد الحجّة الصحيحة المقنعة، فإنّ المبطل إذا عجز عن الإقناع بالحجّة؛ لجأ إلى السباب والشتائم للنيل من خصمه.
نعم؛ قد يضطر الإنسان أحياناً إلى توجيه بعض الشتائم إلى خصمه اللدود، لكن أن تكون بهذه الكثرة المفرطة، ومن أناس " أكاديميين" يدّعون الفكر والعقل المستنير؛ فهو أمر يدعو إلى التأمّل والعجب!!.
ب- تضمنّها العديد من التهم ذات العيار الثقيل بلا دليل ولا برهان صحيح، وما أسهل أن يطلق المرء على خصومه التهم جزافاً بلا بيّنة صحيحة، والتي قد يصل بعضها إلى الإخراج من الدين والإسلام، كقولهم: ( المتأسلمون )، ( قوى التأسلم ) ، ( الحراك الثقافي المتأسلم ) ونحوها من الشتائم، فالمتأسلم هو الذي يدعي الإسلام وهو ليس كذلك كما يُفهم من هذا الوصف، ولطالما دندن هؤلاء حول خطورة التكفير، والإخراج من الدين، حتى وإن كان بحقّ، فما بالهم يصفون خصومهم المسلمين بالضد من ذلك !!!.(14/354)
ج- أنّ هذه الشتائم لم تقتصر على أهل العلم والفكر والدعوة من السلفيين من الأوّلين والآخرين، بل تجاوزت ذلك إلى عامّة الناس المقتنعين بهذه العقيدة، والذين يطلقون عليهم وصف ( الجماهير ): فهم ( الجماهير البائسة الظامئة )، و( جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و( الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، لا لشيء إلا لأنّ هذه الجماهير المسلمة اختارت هذه العقيدة النقية، ولم تستجب لدعواتهم التغريبية المضللة، ولن تستجيب بإذن الله تعالى..
د- أنّ الكثير من هذه الأوصاف ( الشتائم ) هم الأقرب إلى الاتصاف بها، والتخلّق بها لمن تأمل ذلك، لكنهم يقلبون الأمور، ويلبّسون على الناس على قول المثل السائر: ( رمتني بدائها وانسلّت )!!.
ه- أنّ مثل هذه الشتائم لا تصدر إلا من نفس موتورة حاقدة، قد تشبّعت بالشبهات، فاستقرّت فيها وتمكّنت منها، وداء الشبهات أعظم أثراً في النفوس والقلوب من داء الشهوات، فكيف إذا اجتمع الأمران، نسأل الله السلامة والعافية.
والعجيب أنّهم يرون أنّ مثل هذه الشتائم القبيحة التي يسمونها نقداً؛ ضرورية لإيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره(!!!)، يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتانناً بالحضارة الغربية ـ في مقال له بعنوان: ( تخصّص في الطب وأبدع في الفكر والمسرح) الرياض: 13502: " وبذلك أدرك ( بريخت ) بأنّ مواجهة الطوفان بالنقد الحادّ، والتهكّم الموجع من أهمّ وسائل إيقاظ المجتمع من سباته، وتنويره للمصير المظلم الذي يساق إليه ". وبريخت هذا مبدع عالمي عند الكاتب ترك تخصصه في الطب(!)، واشتغل بالمسرح(!)، وهو حين يذكر قول هذا المبدع(!) لسان قلمه يقول: إياك أعني واسمعي يا جارة، كما يدل على ذلك باقي المقال، ومقالاته الأخرى. وقد فهم تلميذه السابق الرسالة ـ وبئست التربية ـ، فأطلق تلك الشتائم والتهكّم الموجع بذلك الكمّ الهائل لمواجهة (طوفان) السلفية، وإيقاظ الفتنة النائمة.. وحتماً سيغرقه هذا الطوفان بإذن الله تعالى.
وأعجب من ذلك أنّ هذا الكاتب نفسه ـ صاحب الشتائم السابقة ـ حينما تحدّث عن بعض الكُتّاب المنحرفين في مقال له بعنوان ( قراءة الإسلام بين العلمية والإيديولوجيا 2/2 ) الرياض: 14185 وصفه بوصف هو أجدر أن يوصف به فقال: " لا غرابة في أن تصدر هذه الشتائم عن إنسان مريض يعاني من عقد الاضطهاد، وربما مر بمواقف زادت من تأزمه واضطرابه، أو ربما كان خاضعاً لتربية غير سوية، قادته إلى استخدام هذه اللغة السوقية التي لا تجد من يلوكها إلا في الحواري الخلفية، وعند الحشاشين والقوادين، وإنما العجب أن تحتفي بعض الصحف المحترمة، كأخبار الأدب، وأدب ونقد، ودور النشر العلمية.. بمثل هذا العابث، والذي لا يمتلك سوى هذا الكلام الذي يراه صاحبه علماً. الجهالة من ناحيتين، جهالة أولية، وجهالة جراء عدم إدراك مستوى ضحالة الذات معرفياً ".
وهو في مقاله هذا نصّب نفسه مدافعاً عن الإسلام والدين، وهو الذي كان يكيل الشتائم لأهل الدين كما سبق، ويرميهم بكل نقيصة، فلم يسلم منه حتى الأئمّة الكبار كابن القيّم وغيره، ولا فرق بين من يطعن في الدين نفسه، ومن يطعن في حملته وأهله، سوى أنّ الأوّل طعن صريح، والثاني خبث مغلّف بتلميح..
وفي مقال له بعنوان ( متطرفون في الزمن الليبرالي ) الرياض: 14220 دعا فيه صراحة إلى اعتناق الفكر الليبرالي وبشّر فيه بها!!! قال: " والمجتمع الليبرالي مجتمع راشد، يتجاوز هذا السباب الطفولي، وإن اضطر في سياق الخطاب اللاهوتي إلى شيء من ذلك - كحق في التعبير عن الرؤية - فإنه يطرحه في سياق موضوعية صارمة، لا يسمح لها بالإساءة المباشرة إلى أحد ". هذا هو نصّ ما قاله: سباب طفولي في سياق موضوعية صارمة !!! ودون إساءة إلى أحد !! وهل بعد ذلك الكمّ الهائل من الشتائم الطفولية السابقة من إساءة تطال كلّ سلفي موحد في هذه البلاد السلفية ؟. أهذه هي الليبرالية التي يدعون إليها ويبشّرون بها؟..
2. ربط السلفية بالإرهاب ـ الذي لم يُتفق على تعريفه إلى هذه الساعة ـ والاستماتة في ذلك، ونسبة بعض المارقين إليها وهو ما يطلقون عليه: ( السلفيّة الجهادية ).. فكلما خالفهم مخالف، أو حاجّهم محاجّ، أو احتسب عليهم محتسب من أهل الدين والعلم والدعوة رموه بالإرهاب بجرة قلم، والعامة يروون في هذا المقام قصة رمزية طريفة، وهي أن امرأة أراد زوجها أن يتزوج عليها، ففكرت في حيلة لمنعه من الزواج، فما كان منها إلا أن اتصلت برجال الأمن، وذكرت لهم ارتيابها من زوجها، وأن له صلة بـ ( الإرهابيين )، وقبيل ليلة الزواج تم القبض عليه بهذه التهمة، واعتذر أهل الزوجة عن تزويجه، وبهذا نجحت الخطة..(14/355)
يقول أحدهم ـ وهو مقيم في لندن ـ في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية..هل تستمر القاعدة بتجنيد السعوديين ) الوطن: 1139 : " ما هي وضعية الحالة الدينية اليوم في السعودية؟.. لا يمكن القول إنّها متسامحة وعصرية، فالأحداث الإرهابية هي نتاج غلو ديني اشترك بعض أفراد المذهبيّة الدينية السلفية السائدة، والأيديولوجيا الصحوية في صنعها في المقام الأوّل بغض النظر عن المسببات الأخرى التي وضعتها في موضع التنفيذ. ومظاهر التشدد الديني التي تلمس كل يوم في خطب الجوامع وأدعية القنوت، والفتاوى المتشددة، والخطاب الديني بمجمله مغرق في التزمت بعيد كل البعد عن حال التسامح واليسر المنتظرة منه "، وهكذا تطلق التهم جزافاً بلا بيّنة سوى أنّ الذين قاموا بالتفجيرات يستشهدون ببعض أقوال السلف، ولو أننا أخذنا بهذا المنطق المعوج لحكمنا على القرآن نفسه بأنّه سبب الإرهاب، لأنّ الخوارج الأوّلين استدلوا به على مذهبهم، وكذلك سائر الفرق الضالة.
ثم، ومن أجل حلّ هذه الأزمة يرى الكاتب أنّ الحل يكمن في: " تغيير الطريقة التي يتم التعامل بها مع الأفكار والطوائف أو الأديان بوصفها كافرة أو مبتدعة أو علمانية، وينبغي أن ينظر إلى نقد وتقييم المناهج والمؤسسات الدينية، وإصلاحها(!) بالطريقة العصرية، والحدّ(!) من تضخّم الأدلجة الإسلاموية.." وهو كلام في غاية الخطورة والضلال، والغلو المضاد، حيث يدعو الكاتب إلى عدم وصف الأديان ـ ويريد بها بطبيعة الحال أصحابها المتدينين بها اليوم ـ بالوصف الذي وصفها الله به في كتابه الكريم، ووصفها به رسوله الأمين كما في قوله تعالى: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.. }، وقوله: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ..}، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " أخرجه مسلم. ولا خلاف عند أهل الإسلام في كفر اليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، فمن لم يكفرهم فهو مكذب للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة. وكذلك يدعو الكاتب إلى عدم تبديع أهل البدع وأهل العلمنة، وفي ذلك مضادة لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة"، وهذا في نظر الكاتب يعدّ إصلاحاً بالطريقة العصرية، وصدق الله إذ يقول: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }.
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنترنت والخطاب الديني) الرياض: 13247: " .. كما أظهر هذا الخطاب [ يعني خطاب التطرّف ] أنّ مرجعيّة التطرّف والغلو، ومن ثم الإرهاب، ليس الفكر القطبي، ولا طرح الجماعات المتأسلمة(!) وإنّما مصدر الاستدلال ـ في الغالب العام ـ: السلفية التقليدية، بمرجعيّاتها المشهورة التي لها اعتبارها في الخطاب السلفي ".
إذن، السلفية بمرجعياتها المشهورة هي مصدر الإرهاب، فيجب محاربتها، والقضاء عليها، هذا ما يهدف إليه الكاتب. والردّ عليه كالرد على الذي قبله.
أمّا المرجعيات المشهورة فيريدون بها: أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب رحمهم الله..، وقد صرّح أحدهم بذلك ـ وهو أكثرهم تعالماً، وأشدّهم جهلاً ـ في مقال له بعنوان: ( الإنسان والوطن أهمّ من ابن تيمية) الوطن: (965 )، زعم فيه ـ زوراً وبهتاناً ـ أنّ ابن تيمية هو منظّر الجهاديين، وأنه سبب الإرهاب، معتمداً على نص لابن تيمية مبتور من سياقه، وهو إذ يعيب على من أسماهم بالجهاديين سوء الفهم؛ يقع في الخطأ نفسه وهو لا يشعر.(14/356)
وأخطر من ذلك، ما سطّره الكاتب الأوّل في مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، يتحدّث فيه عمّا أسماه بالفرادة، يقول منظرّاً لهذه الفرادة: " إنّ الأصل في الكائن الإنساني خاصّة هو الاختلاف والتنوّع والتفرّد، وليس التشابه والتماثل كما يحاول دعاة المحافظة والتقليد ترويجه ـ تطبيقاً ـ في بيئتنا الاجتماعيّة، وإن ادّعوا تنظيراً غير ذلك".. وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالفرادة إن كانت فيما لا يتعارض مع أصل الدين وثوابته، ونصوصه القاطعة، فهي مطلوبة، وإلا فإنّها ابتداع وخروج عن الدين، وحقّها ـ لفظاً ـ أن تكون بالمثنّاة ( قرادة )، لكنّ الكاتب تعمد الإطلاق للوصول إلى ما يهدف إليه، لذا فهو يواصل مقاله قائلاً ـ بعد أن قرّر أنّ إلغاء هذه الفرادة المطلقة جريمة ـ: " ويبقى السؤال الأهم في هذا الطرح: إذا كان إلغاء معالم التفرد في الإنسان جريمة، فهل تمارس هذه الجريمة في محيطنا الثقافي والاجتماعي؟، وإذا كانت تمارس، فهل هي مقصودة أم أنها جزء من الحراك الاجتماعي التلقائي؟، وعلى أية صورة تمارس هذه الجريمة؟، هل هي فردية أم جريمة منظمة؟، وما مدى انتشارها وذيوعها؟ ومن الفاعل؟، وأين؟، ومتى؟. وإذا كان بعض هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها تفصيلاً؛ لهذا السبب أو ذاك، فإن الإجابة العامة التي ينطق بها الواقع (الثقافي/ الاجتماعي) لدينا إجابة لا تدعو للتفاؤل، من حيث الوقوع المتعين لهذه الجريمة المعنوية ".
ثم تبدأ معركته مع السلفية، أو على حدّ تعبيره: ( الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا)، وهذا هو المقصود، فيقول: " إن ما فعله - ويفعله - الاتجاه المحافظ التقليدي لدينا إنما هو عملية قتل متعمد لكل معالم الفرادة الطبيعية، إنه في الحقيقة (اغتيال للعقل) على نحو تدريجي، وبأساليب قد لا تكون واضحة في كل الأحيان، وفي كل الحالات. لا أستطيع أن أقول: إن عملية المسخ الاختياري (والقسر في بعض الأحيان) التي يمتزج بها الاجتماعي بالديني ( وفق رؤية خاصة يتم تعميمها)، بالثقافي، بالواقعي، وبطريقة لا تبقي أي خيار، لا أظن أن لها مثيلاً على مستوى التجمعات الإنسانية المعاصرة كافة..".
وبعد الطعن في السلفية ـ خصمه اللدود ـ بإجمال، يبدأ في التفصيل، فيستعرض المراحل الدراسية جميعها إلى مرحلة الدراسات العليا، فيقرّر أنّ هذه المراحل كلّها عندنا تقضي على هذه الفرادة المزعومة، والسبب أنّها تلتزم بمذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأّمة، أو على حدّ تعبيره: " نمط التربية المستمد من موروث اجتماعي موغل في القدم يبدأ عمله منذ السنوات الأولى للطفولة؛ لكون القائم على التربية الأولى ابناً باراً لثقافة التقليد والمحافظة في الغالب " أو بتعبير آخر له: " أفكار مغرقة في محافظتها وسلفيتها وتزمتها.. "، أو بتعبير ثالث عن النشاط اللا منهجي: " وفق المنطلقات ذات الزوايا الحادة للمنظومة السلفية التقليدية التي تجتهد في التنميط؛ فضلاً عن أن التنميط كامن في البنية العامة للمناهج "..
ثم يتحدث عن المرحلة الجامعية، فيصفها بأنّها: " أكبر (ورشة) للتنميط، وقتل ما أبقته المراحل الأولى من الفرادة العقلية، وترسيخ قيم المحافظة والتقليد، فتمارس بين أروقة الجامعة أكبر عملية اجترار للتراث، بكل ما يحمله من إيجاب وسلب، وبكل ما تعنيه هذه العملية في ذاتها ( من حيث هي اجترار) من نكوص إلى وعي قد طواه الزمن في مقبرته الأبدية، ولكننا نأبى إلا نبش تلك القبور، والبحث في تلك العظام النخرة عن مصدر للحياة!.. ". وهو يريد بذلك الأقسام الشرعية في الجامعات ذات التوجه السلفي خصمه اللدود، أمّا كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فلا يتحدّث عنها.
ثم يتحدّث عن مرحلة الدراسات العليا، فيصفها بأسلوب مسفّ ينم عن حقد دفين على المنهج السلفي القويم، مدعم بالافتراء والكذب وكيل التهم الجائرة فيقول: " إن الدارس لا يمكن أن يقبل في هذه الدراسات ابتداء، ولا يمكن أن يتقبل فيما بعد، ما لم يكن ذا مهارة في النسخ، مع قدر لا يستهان به من عدم الأمانة في النقل والاجتزاء؛ لخدمة الفكرة الموروثة في التيار المندغم فيه، فليست الحقيقة هي الغاية، وإنما الإبقاء على ما يؤيده تيار المحافظة من مخلفات القرون الوسطى هو الغاية، وفي سبيلها فليتم الإجهاز على الحقيقة بسيف العلمية!، وبهذا لا يمكن أن يعترف بالدارس باحثاً علمياً في مؤسسات التقليد ما لم يتنكر لبدهيات البحث العلمي. وهذا هو الشرط الأولي لقبوله (باحثاً!) في المنظومة التقليدية ".. إنّها تهم شنيعة، في غاية البشاعة والشناعة لجامعاتنا الإسلامية العريقة التي خرّجت الكثير من العلماء والدعاة والمفكّرين حتى من غير أبناء هذا البلد، ولكن الحقد الدفين يعمي ويصم..
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلة كما أنّ عين السخط تبدي المساويا(14/357)
ثم يدلل هذا الكاتب الموتور على ما ذهب إليه من حقد دفين وفق طريقته السابقة من الافتراء والكذب والتلبيس والألفاظ النابية فيقول: " ومما يدل على مستوى هيمنة هذا النمط الببغاوي في المؤسسات العلمية التي تهيمن عليها الاتجاهات المحافظة، أن الحكم بموضوعية على شخصيات أو تيارات في القديم أو الحديث، بما يخالف رؤية هذه الاتجاهات، وما يسود في أروقتها من مسلمات يودي بصاحبه، ويعرضه للنفي خارج المؤسسة العلمية، فضلاً عن الإقصاء الديني، يشهد على ذلك أن كل دراسة لشخصية أو فكرة أو تيار، تتم في هذه الأقسام تعرف النتيجة فيها سلفا، بل لا يمكن أن تكون النتيجة إلا ما قررته المنظومة في أدبياتها، فمهما حاول (هذا إذا حاول) الباحث الاستقلال فهو لا يستطيع، وموقفه البحثي في النهاية دفاعي عن الأفكار العامة لمؤسسته العلمية التي تحتويه. هذا هو الواقع، وإلا فدلوني على رسالة واحدة طعن(!) صاحبها في فكرة أو شخصية لها وزنها في المنظومة الفكرية لمؤسسته العلمية، أو أثنى على تيار مخالف أو شخصية ليست محل القبول في هذه المؤسسة، فقبلت المؤسسة المحافظة بذلك ".. إنّ هذا الكاتب يريد من الباحث الملتزم بعقيدة أهل السنّة والجماعة أن يطعن في أئمّة السلف أو مذهب السلف، أو يثني على أهل البدع، والفرق الضالة وخاصة المعتزلة(!) ، ويريد من الجامعات الإسلامية أن تفتح المجال لكلّ من أراد ذلك باسم الاستقلال والفرادة كما يزعم، وإلا فإنّ ذلك ضرب من الإقصاء والنفي والقضاء على الفرادة المزعومة، أمّا أن يبتكر الباحث موضوعاً في تخصّصه ـ مع التزامه بثوابت الأمة ومنهج أهل السنّة ـ فذلك ليس من الفرادة في شيء في مفهوم الكاتب، الفرادة عنده هي الخروج عن مذهب السلف، والطعن فيهم ـ كما يفعل هو مراراً في مقالاته كما سيأتي ـ ، إنّ هذا لهو عين الضلال وانتكاس المفاهيم..
ثمّ إني أوجه سؤالاً لهذا الكاتب ولن يستطيع الإجابة عليه فأقول: هل صحيفتك التي تكتب فيها، وتهاجم مِنْ على منبرها مذهب السلف الصالح تسمح بمثل ما ذكرت من نقد لفكرة أو شخص ينتمي إليها أو إلى الفكر الذي تتبناه ؟؟ الجواب: لا وألف لا، لأني قد جربت ذلك، وجربّه غيري، فلم نجد إلا الإقصاء والنفي والتجاهل إلا في حدود ضيقة، فهل من معتبر..؟
ثم يواصل الكاتب بذاءته وافتراءاته وشتائمه المعتادة ـ سأضع تحتها خطاً ـ قائلاً: "بهذا يتضح أن كل مرحلة علمية، وكل تناغم مع المجتمع في تياره المحافظ خاصة، تفقد المرء جزءاً من فرادته، مما يعني أنه كلما قطع مرحلة من ذلك، وظن أنه قد تحقق له شيء من العلم، فإنه لم يزدد بذلك إلا جهلاً. وبمقدار حظه من هذا التنميط والاختطاف الثقافي والاجتماعي يكون حظه من الجهل المركب؛ لأنه بهذا يفقد التفرد في الرؤى والأفكار، بمقدار ما يندغم في تيارات المحافظة، وبقدر ما يتناغم مع المؤسسات العلمية التي تهيمن المحافظة عليها. ويزداد الأمر سوءا ومأساوية، عندما ندرك أن هذا الاغتيال للفرادة، وهنا التنميط الذي يتم في هذه المراحل العمرية لا يجري لصالح رؤى الانفتاح - مع أن اغتيال الفرادة جريمة، أيا كانت مبرراته - وفي سبيل الرقي بالإنسان، وإنما هو لصالح رؤى الانغلاق، وتيارات الكره، ودعاة نفي الآخر، كل ذلك بالإيحاءات الخاصة للسلفية التقليدية التي لا تني عن إنتاج نفسها كلما أشرفت على الهلاك "..
ويختم مقاله بهذا التحذير: " وأخيراً لا يسعني إلا أن أقول لكل قارئ: احذرهم.. احذرهم (وأنت تعرفهم) أن يفتنوك. قد تكون نجوت منهم كليا أو جزئيا، قد تكون ممن هلك بفتنتهم التي ظاهرها الرحمة، لكن أدرك من نفسك ما يمكن إدراكه، مارس إنسانيتك(!) على أكمل وجه، كن ابن نفسك في كل شيء(!)، حاول قدر الاستطاعة، مهما كلفك ذلك، هذا بالنسبة لك، ولكن، تبقى المهمة الصعبة: استنقاذ الأجيال الناشئة من براثن التنميط والمحافظة(!) والتقليد، وهي مهمة لابد أن ينهض بها كل (إنسان) لتحقيق أكبر قدر من الفرادة (من الإنسانية)(!) قبل أن تغتال في مهدها ".. وهكذا تصبح المحافظة على العقيدة السلفية النقيّة ـ حسب رأي هذا الكاتب ـ فتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ويحذّر منها في معقلها ومهدها، فإلى الله المشتكى.
أمّا دندنة الكاتب ـ بل سائر المنتمين إلى هذا الفكر الاعتزالي الليبرالي التغريبي ـ حول ( الإنسانية ) فذلك موضوع آخر سأفرد له سمة مستقلة بإذن الله تعالى.
كما أنّ من الملاحظ أنّ الكاتب(!) جعل عنوان مقالته هذه جزءاً من آية كريمة نزلت في جماعة من اليهود(!)، وهو ها هنا ينزلها على خصومه السلفيين المسلمين المحافظين(!!)، وهذه سمة متكرّرة في مقالات هذا الكاتب وأصحابه، سأفرد لها أيضاً سمة خاصّة بإذن الله تعالى. وهي جريمة نكراء في حقّ كلام الله تعالى، وحقّ إخوانه المسلمين.
وحتى يعرف القاريء حقيقة هذه الفرادة التي تحدث عنها هذه الكاتب وغيره من أصحاب هذا الفكر، وحقيقة موقفهم من عقيدة السلف والعقائد الأخرى المنحرفة وخاصّة المعتزلة؛ أسوق لكم هذه الأقوال لبعضهم:(14/358)
فهذا أحدهم ـ وهو الكاتب السابق نفسه ـ في مقال له بعنوان ( ثقافة تصنع الغباء ) الرياض: 13072، وهذا العنوان من جملة شتائمه المعتادة للسلفية، يقول عن السلفية التي يسميها تقليدية بأنّها: " لا تعدو كونها تأويلاً خاصّاً للإسلام، محلّه متاحف الفكر، لا الحراك الاجتماعي "، فهل رأيتم إقصاء ونفياً أشدّ من هذا الإقصاء والنفي؟!!!
والغريب أنّ هذا الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( من التطرف إلى الإرهاب ) الرياض: 12953،يصف بعض الأقسام في بعض جامعاتنا أنّها " ما زالت معاقل للفكر الذي ينفي الآخر، وما زالت تقتات على الترسيخ لثقافة الإقصاء ونفي الآخر، وتروج لها في أطروحاتها "، ويريد بهذه الأقسام التي في جامعاتنا ـ كما هو ظاهر ـ: الأقسام الشرعية، والعقدية على وجه الخصوص، ويريد بثقافة الإقصاء والنفي ثقافتنا الإسلامية السلفية، أمّا الآخر المنفي فهي الفرق الضالة المنحرفة من معتزلة وحرورية ومرجئة وصوفية وغيرها.
ويقول آخر ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأكثرهم خلطاً بين النصوص ـ في مقال له بعنوان: ( قراءة في بعض فروع العقائد ) الرياض: 13667: " ومما يجدر التنبيه عليه أنّ مصطلح ( العقيدة ) أمر تواضع عليه العلماء الذين تبنوا مجال البحث في مجال الغيبيات فيما بعد الصدر الأوّل، إذ لم يكن لذلك لمصطلح أساس من النصوص الوحييه سواء من القرآن أو السنة، إذ إنّ المصطلح الأساسي الشرعي الذي جاء به القرآن والسنة النبوية هو مصطلح ( الإيمان ).. " وكأنّ مصطلح ( الديمقراطية) و( الليبرالية ) و(الإيبيستيمولوجيا ) و( الأيديولوجيا ) وغيرها من المصطلحات التي يرددونها في مقالاتهم ليل نهار، لها أصل في الكتاب والسنة !!!
ثمّ يمضي الكاتب في تقريره لحقيقة الإيمان ومن هو المؤمن فيقول: " وهو [ أي الإيمان ] عبارة عن مفهوم بسيط ( هكذا ) يرمز إلى ستة أمور، من آمن بها أصبح مسلماً ومؤمناً كامل الإيمان لا يحتاج معه إلى امتحانات قلبية أو مماحكات لفظية، أو حفظ مدونات عقدية لإثبات إيمان المرء ودخوله حظيرة الإسلام "..
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانحراف واضح عن المنهج القويم والفهم السليم لدين الإسلام.. فإنّ لفظ الإيمان والإسلام إذا اجتمعا صار لفظ الإيمان مراداً به الاعتقاد الباطن، ولفظ الإسلام العمل الظاهر كالنطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، كما قال الله تعالى عن الأعراب: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا..} ففرق بين الإيمان والإسلام، وهذا أمر بدهي عند أطفال المسلمين، فمن لم يأت بأركان الإسلام الظاهرة لم يكن مسلماً ولا مؤمناً، حتى وإن ادّعى الإيمان والإسلام، ولهذا قاتل أبو بكر الصديق t مانعي الزكاة، مع أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ولما أنكر عليه عمر t كما جاء في الصحيح، قال له: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة.. أمّا الامتحان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ..}، وهي تسمى ( آية الامتحان )، وقد سئل ابن عباس t كيف كان امتحان رسول ا صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: كان يمتحنهنّ: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله.. وهذا خلاف ما قرره الكاتب، بل إنّ ما قرّره هو مذهب المرجئة القائلين بأنّ الإيمان مجرّد الاعتقاد بالقلب، وأنّ العمل غير داخل في مسمّى الإيمان، وأنّه لا يضر مع الإيمان ذنب.. فكلّ من ادّعى الإيمان ـ حسب زعمهم ـ صار مؤمناً مسلماً.. وقد صدرت عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء في هذه البلاد في التحذير من هذا الفكر الإرجائي الخطير.(14/359)
ثم يقرر الكاتب مذهبه الفاسد مؤكّداً فيقول: " وبالتالي فليس هناك من الوجهة الشرعية(!) ما يعرف بأصول العقائد مقابل فروعها، بل هو أصل واحد هو الإيمان، وكلّ ما جاء بعد ذلك مما أصطلح عليه أصول العقائد وفروعها، وهي التي ألحقت بالعقائد وفقاً لأيديولوجية الجماعة أو المذهب القائلة بها؛ فهي مما تواضع عليه من امتهنوا ما اصطلح عليه لاحقاً بعلم العقائد، ومن الطبيعي أن يضطر الباحث إلى مسايرة هذه المواضعة عند البحث عن أي من مفرداتها بعد أن أصبحت واقعاً تراثياً في حياة المسلمين ".. ، وفي موضع آخر يصفها الكاتب بأنّها: " مماحكات ومجادلات سفسطائية، أدخلت في العقيدة قسراً بمؤثرات أيديولوجية" الرياض: 13561، وهكذا يلغي الكاتب بجرّة قلم كلّ ما قرره سلفنا الصالح من العقائد والأصول المجمع عليها عند أهل السنة والجماعة، مما هو مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، والتي يتميز بها أهل السنة والجماعة عن أهل البدعة ، ليفتح الباب على مصراعيه لكلّ مبتدع وضال ليكونوا جميعاً على درجة واحدة من الإيمان والاعتقاد الصحيح، ولعمر الله إنّ هذا لهو الضلال المبين.
ويقول هذا الكاتب في مقال له آخر بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، بعد أنّ قرر حق ( الآخر )(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد ـ يريد مذهب السلف ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية، خاصّة المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرّس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسّس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصّة الفرق الإسلاميّة الماضية المنظور لها على أنّها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي ينظر لها على أنّها ذات أهداف خاصّة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه، بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حقّ وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحقّ حصري لمبادىء مذهبه وقواعد مرجعيته " يريد مذهب أهل السنة والجماعة، ثم يذكر المذهب الاعتزالي على وجه الخصوص ويدافع عنه، وهذا هو مربط الفرس عنده، لتقرير مذهب الاعتزال، فيقول: " ومن ثم فإنّ الحاجة ماسّة لتأسيسٍ جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً، بدل أن تقدّم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة.."، وهكذا يريدون تمييع العقيدة السلفية الصحيحة، باسم التجرّد والفرادة. وتلميع الفرق الضالة المنحرفة، ومن ضمنها المعتزلة والرافضة والخوارج وغيرها من الفرق التي شوهت الدين، وآذى أصحابها عباد الله المؤمنين، ويلاحظ فيما ختم الكاتب مقاله ملاحظتين، إحداهما: التفسير السياسي للتاريخ والأحداث بشكل عام، وسأتحدث عن هذه المسألة بإذن الله في فصل مستقل. والثانية: التعريض بالحديث النبوي الشريف، حديث الفرقة الناجية، والاعتراض عليه(!)، بحجّة أنّه يخالف العقل، وهذا بناء على مذهبهم العقلي الفاسد.
وفي مقال آخر للكاتب نفسه بعنوان: ( أصالة التعدد في الطبيعة البشرية ) الرياض: 13160، يحاول الكاتب تأصيل مبدأ الاختلاف بين الناس ( التعددية ) وأنّها {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. }، ويستدل بالآية الكريمة الأخرى: { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم }، واستشهاده بهاتين الآيتين على ما ذهب إليه خطأ فادح يدل على جهل فاضح، فأمّا الآية الأولى فإن من المعلوم ـ بلا خلاف أعلمه ـ أنّ المراد بالفطرة: الإسلام وليس الاختلاف، كما جاء في الحديث الشريف: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرّانه أو يمجّسانه..".. وأمّا الآية الثانية فهي في سياق الحديث عن اليهود، ولا علاقة بالاختلاف الذي بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام، بل إنّ نصوص الكتاب تدل على عكس ما أراد الكاتب تأصيله، فالله تعالى يقول: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }، وقوله تعالى: { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.. }، فجعل الرحمة في مقابل الاختلاف، فدل ذلك على أنّ الاختلاف ليس برحمة، بل هو شرّ ونقمة، وإن كان الله قد أراده كوناً، لا شرعاً، وأنّ الحقّ واحد لا يتعدد، وتأويل الآيات على غير ما جاءت له سمة بارزة من سمات أصحاب هذا الفكر الاعتزالي كما سيأتي في مبحث جهلهم.(14/360)
ثمّ يواصل الكاتب جهله فيقول مقلداً للجابري: " كان فيروس الضيق قد تحدد سلفاً في الفكر العربي حيث دشّن الخوارج ومباينوهم في الطرف القصيّ من المعادلة ( الأمويون وشيعتهم ) مبدأ ثنائبة القيم الذي يقول عنه المفكر المغربي محمد عابد الجابري إنّه مبدأ (إمّا وإمّا ) ولا مجال لحطّ الركاب بينهما، إمّا مع وإّما ضدّ، إمّا مسلماً وإمّا كافراً، وإمّا ناجياً وإمّا هالكاً، وإمّا مقتفياً وإمّا مبتدعاً.."
إنّ هذه الثنائية التي ذكرها مقلداً الجابري، قد نصّ الله عليها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ.. }، وقال سبحانه: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }، فهي ذات الثنائية ( إمّا وإمّا ).. والذي أراده الجابري ولم يتفطّن له الكاتب أو تفطّن له ووافق عليه، هو تقرير مذهب الاعتزال القائل بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين ( لا مؤمن ولا كافر )، ولهذا قال: ( ولا مجال لحطّ الركاب بينهما )، وهو تقرير في غاية الخفاء والخبث، ويشبه فعل صاحب تفسير الكشّاف المعتزلي في تقريره لمذهب الاعتزال في تفسيره، حتى قال البلقيني رحمه الله: " استخرجت من الكشّاف اعتزاليات بالمناقيش ".. وهذا يحدث في صحيفة سيّارة تصدر في بلاد التوحيد التي قامت على العقيدة السلفية النقيّة، وفي ظني أنّ ولاة أمرنا ـ وفقهم الله لطاعته ـ لو تنبهوا لذلك لما رضوا به..
ولا يكتفي الكاتب بذلك، بل يختم مقاله بتوجيه بعض الشتائم، والانتقاص لأهل السنة وسلف الأمّة، ويضيف إلى ذلك بعض النصوص الحديثية، بطريقة فاضحة لا تدلّ على مقصوده، وما أقبح الجهل والتعالم إذا اجتمعا..
يقول ـ وتأمّلوا ما تحته خط ـ: " إنّ أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي حين مواجهته مشكلة التعددية، وبالذات من النصف الأوّل من القرن الثالث الهجري، وهي ظن أولئك المتحذلقين والمتقوقعين حول فهومهم الخاصّة أنّهم بنفيهم وإقصائهم لخصومهم إنّما هم آخذون بحجزهم عن النار، وهؤلاء المخالفون ما فتئوا يتفلّتون منهم ويقعون فيها في تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقيّة الأفهام المباينة والمقاربة... ".
فهو يعدّ تصدي سلفنا الصالح لأصحاب الفرق الضالة، والردّ عليهم، أكبر مشكلة واجهت الفكر العربي الإسلامي، ويخصّ النصف الأّوّل من القرن الثالث الهجري، لأنّه وقت نشوء فرقة المعتزلة التي جنّد نفسه للدفاع عنها، ويلاحظ شتائمه التي وصف بها أهل السنة وسلف الأمّة: ( المتحذلقين المتقوقعين حول فهومهم الخاصّة )، والتهم التي وجهها (النفي والإقصاء للخصوم )، والتعريض بالحديث النبوي الشريف الذي يُشبّه فيه صلى الله عليه وسلم المتهافتين على الباطل ـ كهذا الكاتب وأمثاله ـ كالفراش المتهافت على النار.. وتعريضٌ آخر بحديث الفرقة الناجية الوحيدة دون سائر فرق الضلال، ويصف ذلك ساخراً بلفظ سوقي فضائي بأنّه: ( تصنيف حصري لحقّ النجاة لفهوم بعينها دون بقية الأفهام.. ) ويريد بذلك فهم السلف الصالح!!!، فما حكم من استهزأ بالنصوص الشرعية ؟!.
ثم يستشهد على ما ذهب إليه من التعددية بقوله: " ومن ثمّ يتساءل الإنسان كيف حاص أولئك [ يعني السلف الصالح ] عن حياض المنهج النبويّ الكريم حين كان r يقرّ أصحابه على تباين أفهامهم لما كان يلقي عليهم من نصوص ( قصّة الصلاة في بني قريظة مثلاً ) وعن مسار الصحابة بعده على هذا المنهج المتفرّد في قراءة النصوص، وامتثال مكنوناتها ( اختلاف عمر بن الخطّاب وأبي بكر حول الكيفية التي ينبغي بواسطتها مجابهة مانعي الزكاة فكلاهما انطلق في تفسيره من ذات النصّ ) .. " ا. هـ واستشهاد الكاتب بهاتين الواقعتين فيه جهل عظيم، وتلبيس واضح، وبعد كبير جداً عما أراد التوصل إليه، وهذه هي طريقة هذا الفكر الاعتزالي في التعامل مع النصوص، فأمّا الحادثة الأولى، فهي اختلاف في مسألة فقهية فرعية لا تعلّق لها بمسألة الاعتقاد والإيمان، لذا أقرّ صلى الله عليه وسلم الفريقين على اجتهادهما.. ومثل هذا الاختلاف لم يزل موجوداً عند أهل السنة حتى وقتنا الحاضر، وليس فيه تثريب إذا صدر من مؤهل.. وأمّا اختلاف عمر مع الصديق y في قضية مانعي الزكاة، فهو ليس اختلافاً، وإنّما هو إشكال وقع في نفس عمر، فما لبث أن زال بعد ذلك وحصل الاتفاق على ذلك الأصل، والكاتب ـ للتلبيس ـ لم يذكر تمام القصّة، وهو قول عمر بعد أن زال عنه الإشكال: " فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنّه الحقّ "، فأين في هذين الحادثتين ما يدلّ على ما أراد أن يقرره الكاتب من التعددية في أصول الدين والإيمان والاعتقاد ؟!!(14/361)
ومن قبيل هذا الخلط والتلبيس المتعمّد بين الأصول والفروع، يذكر أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وخبثاً ـ في مقال له بعنوان ( المعاصرة وتقليدية التقليدي ) الرياض: 13366، بعد الخلط المتعمّد بين السلفية الحقّة ، والسلفية المدّعاة أنّ " السلف لم يتفقوا إلا على القليل(!)، واختلفوا على الكثير، فعن أيّهم يأخذ ؟ " يعني السلفي، ثم يذكر مسألة واحدة ـ واحدة فقط ـ اختلف فيها السلف، وهي خروج الحسين بن عليّ على الحاكم، ومخالفة بعض الصحابة له في هذا الخروج رضي الله عنهم جميعاً، وهذا الاختلاف ليس في أصل المسألة، وإنّما هو في بعض تطبيقاتها مع ما صاحب تلك الحادثة من ظروف وملابسات خاصّة، والقول بأنّ السلف لم يتفقوا إلا على القليل ـ من مسائل الاعتقاد ـ قول في غاية التجني والجهل بأحوال السلف ومنهجهم وعقيدتهم، وهو من أعظم التلبيس على عامة الناس، بل المعروف عند صغار أهل العلم، أنّ السلف الصالح في مسائل الاعتقاد الكبرى لم يختلفوا إلا في مسألة واحدة أو مسألتين، وبعض العلماء يعدها من قبيل الخلاف اللفظي لا الحقيقي، وإنّما وقع الخلاف بينهم في الفروع.
وفي سياق الحديث عن الفرق الضالة، يتباكى أحدهم على إقصاء تلك الفرق المارقة بل ـ وحتى الإلحادية منها(!) ـ في مقال له بعنوان ( تلاشي الفكر العربي ) الوطن: 980، فيقول: " نحن حتى اليوم(!) لم نقف على قراءة صحيحة للقضايا الكبرى أو حتّى الصغرى(!) في فكرنا، ولا للحركات الدينية التي مارست أشكالاً متعدّدة من حركات النقد للموروث بطريقة أو بأخرى، سواء الحركات الإلحادية أو الصوفية أو المعتزلية أو حتى الحركات الشعرية، فمن التجنّي إقصاء كلّ هذا الموروث وعدم الإفادة منه(!!!).."، ولا أدري ما الذي يريد بالقراءة الصحيحة التي لم نقف عليها حتى اليوم، ووقف عليها هو وأضرابه؟! وليست القضايا الكبرى فقط، بل حتى الصغرى !!!!. كما لا أدري ما الذي سنفيده من الحركات الإلحادية، والصوفية والمعتزلية الضالة ؟!!.
3. الطعن في مذهب السلف، والتندّر به، وكيل التهم له بلا حساب..
ففي مقال بعنوان: ( التاريخ وأزمة الفكر الإسلامي ) الرياض: 13688، كتب أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ مقالاً تحدّث فيه عن مسألة عقدية، وهي الكف عما شجر بين الأصحاب، وترك الخوض في ذلك، لأن الله U أثنى عليهم جميعاً، فهم ما بين مجتهد مصيب فله أجران، ومجتهد مخطيء فله أجر واحد، وهذا مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، ولذا يذكر في كتب العقائد، وقد عدّ الكاتب هذه العقيدة المتفق عليها عقبة تقف ـ حسب زعمه ـ دون تحقيق الحدّ الأدنى من الموضوعية العلمية(!)، ثم يقول بأسلوب ماكر خفي: " دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية لا تزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة(!)، بل والخرافة بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع أو بلا وعي. وهذا الرفض إما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها أي للمراجعة الفاحصة باعتبارها تتناول ميداناً مقدّساً لا يجوز الاقتراب منه، وإما أن يكون رفضاً للآلية ( المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها، وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان كمبرر للرفض"، أستاذ اللغة العربية، وصاحب الفكر الاعتزالي المنحرف، الحاقد على منهج السلف، يريد أن يخضع تاريخ الصحابة الأطهار y للفحص والمراجعة!!!، أمّا الآلية التي يريد أن يسلكها فهي آلية شيخه الجابري تلميذ المستشرقين والتي تتلخص في انتقاء بعض الصور القاتمة من بعض المصادر المشبوهة التي لا تميز بين الغث والسمين، وجعلها مناطاً للأحكام والنتائج، هذه هي الموضوعية التي يتحدّث عنها(!).
ثم يقول: " لا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية [ يريد عقيدة أهل السنة ] سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد أخرى(!) غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها "، إنه يريد منا أن نسلك منهجاً آخر غير منهج أهل السنة والجماعة في تقرير العقائد، ليفتح الباب على مصراعيه لكل مبتدع وحاقد وموتور ليقرر ما يريد، وتالله ذلك هو الضلال البعيد..
ثم يواصل: " مما يعني أن الأشخاص ( الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً ) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة ـ براجماتياً(!) ـ في النهاية "، وهذا هو مربط الفرس عنده: النيل من الصحابة، على حد قول أهل الاعتزال: (هم رجال ونحن رجال ) وشتان بين أولئك الرجال وهؤلاء أشباه الرجال ولا رجال..(14/362)
ثم يضرب مثالاً للذوات التي يصفها بالمقدّسة بالخلفاء الراشدين y ومذهب أهل السنة في ذلك أن التفاضل بينهم على حسب ترتيبهم في الخلافة، لكنّ هذا الكاتب لا يروق له ذلك، ويعده أمراً مبيتاً في الضمائر قبل وجوده(!!!)، يقول: " جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه ـ أي الترتيب التاريخي للخلفاء ـ كان حدثاً تاريخياً مجرداً إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء، وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي ـ بأقصى حدود الواقعية الصريحة ـ على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع "، فهو لجهله ـ أو خبثه ـ يرى أن ترتيب الخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً..!! ولم يكن الأمر كذلك، بل إن الصحابة y اجتهدوا في تعيين الأفضل، بدليل أنهم توقفوا طويلاً بعد موت عمر t أيهما الأحق والأفضل عثمان أم علي، وكان عبد الرحمن ابن عوف t يطوف حتى على العذارى في خدورهن يسألهن حتى انتهى الأمر إلى تقديم عثمان t. ولهذا يقول أحد السلف: " من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار "، فكيف يقال إن ترتيب الخلفاء الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة كان حدثاً تاريخياً مجرداً ؟! لكنه الجهل والهوى، وإذا كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، فإنهم لم يختلفوا في أبي بكر وعمر.. .
ولا يفوته في مقاله هذا أن يعرج على الصحابي الجليل، وكاتب الوحي معاوية t ويتهمه ببعض التهم الجائرة التي تنال من عدالته ونزاهته بناء على ما قرره سابقاً من الفحص والمراجعة(!)، ثم في نهاية مقاله يتباكى على مذهبه الاعتزالي العقلاني فيقول: " لا شك أن هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر، لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وإنما بإرادة جماهيرية لا تزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك "، وشتم الجماهير سمة بارزة من سماتهم كلما عجزوا عن بث فكرهم المنحرف، وستستمر الجماهير المسلمة التي تتدثر بلحاف أهل السنة والجماعة في رفض هذا الفكر الضال الذي ينال من ثوابتها وعقيدتها الراسخة ورموزها الشامخة ولو كره أدعياء العقلانية والتنوير بل التزوير.
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله y كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر:10]، وطاعة صلى الله عليه وسلم في قوله: " لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم .." إلى أن قال: " ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، والصحيح أنهم معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم.. " إلى آخر ما ذكر.
هذا مثال واحد على طعنهم في عقيدة السلف والتشكيك فيها بطريقة ماكرة خفية، لا تخلو من مسلك التقية، مع ما فيها من التصريح ببعض ما تكنه نفوسهم، ومع هذا فهم يشتكون من عدم تمكنهم من قول كل ما يريدون. كفانا الله شرهم.
وفي مقال بعنوان: ( هيمنة الخرافة ) الرياض: 13566، يسخر آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً(!) ـ من عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي إثبات كرامات الأولياء، ـ وهي عقيدة ثابتة بالكتاب والسنة ـ، فيعدّها من الخرافة، ثم يقرر(!!) أنّ الخرافة والعقل ضدان لا يجتمعان!! ولا أدري أي عقل يقصد، فعقله يرى أنها خرافة، وعقول أئمة أهل السنة والجماعة بناء على ما جاء في الكتاب والسنة يرون أنها عقيدة ثابتة، فإلى أي عقل نتحاكم ؟ ثم يخلط الكاتب ـ وهذه عادتهم في الخلط والتلبيس ـ بين هذه العقيدة الثابتة وبين بعض الاجتهادات البشرية من بعض المجاهدين أو بعض المنحرفين فكرياً، وهذا الخلط منهج فاسد يدل إما على الجهل الفاضح، وإما على الهوى الواضح، للتوصل إلى أغراض في نفس الكاتب..
وتقريراً لهذه العقيدة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في الواسطية: " ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات.. "..
السمة الثانية:
الخلل العقدي الواضح في كتاباتهم
وذلك ناتج عن تلوث المصادر الفكرية التي ينهلون منها، وهل تلد الحيّة إلا الحية!..وقد سبق شيء من انحرافاتهم العقدية، ويضاف إليها:(14/363)
1. نسبة الإعطاء والمنح والضرب للطبيعة(!)..
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الثقافة والإرهاب علاقة تضادّ ) الرياض: 13772، عازفاً على وتر الإرهاب والإنسانية: " والإرهاب تنكّر للبعد الإنساني في الإنسان، ومحاولة جنونية للرجوع إلى ما قبل الفطري والإنساني، أي أنّه محاولة رجعية ليست للقضاء على مكتسبات الأنسنة(!) فحسب، بل وللقضاء على ما منحته الطبيعة فطرياً للإنسان "، وسيأتي الحديث عن موضوع الأنسنة لاحقاً بإذن الله تعالى.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، يكرر هذا الخلل العقدي مع عزفه المعتاد على وتر الإنسانية، وشتم السلفية، يقول: " ربّما كان من قدر المرأة لدينا أن تواجه أكثر من سور منيع يحول بينها وبين الحصول على أقلّ القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداء.. "، وهكذا تصبح الطبيعة الجامدة هي المانحة ابتداء(!!!)، أليس هذا هو منطق الإلحاد ؟.
وفي السياق نفسه يقول آخر في مقال له بعنوان: ( إعصار كاترينا وعصارة الكره ) الرياض: 13607، وهو يتحدّث عن الإعصار الذي ضرب أمريكا: " ما ذنب أطفال وشيوخ وعجائز وأبرياء ضربتهم قوى الطبيعة(!) حتى غدوا كأنهم أعجاز نخل خاوية أن نحملهم وزر حكوماتهم في أخف المبررات(!) أو نربط بين ما حل بهم وبين ما مارسوا فيه حقهم المضمون(!) من رب العالمين في اختيار المعتقد الذي يريدونه في أسوأ المبررات.."، فربنا جل وعلا يقول: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ }[سبأ:17 ]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، والكاتب يقول: لا تسمعوا لكلام الله بل إنّ الضارب والمهلك هي قوى الطبيعة!!!. أمّا الكفر الذي هو ظلم للنفس قبل أن يكون جريمة يستحق صاحبها العذاب، فهو عند الكاتب حق مضمون من رب العالمين لأولئك الكفرة..!! فأي خلل أعظم من هذا الخلل العقدي الصارخ.
ثم يضيف إلى هذه الخلل خللاً آخر أطم فيقول: " لماذا لا نجيد إلا التشفّي والتمني بالمزيد بعد أن قصرت بنا الثقافة المنغلقة عن إشاعة ثقافة العون والمساعدة المنبثقة من روح الأخوّة الإنسانية التي تشكل أصلاً من أصول الإنسان العظيم الإسلام في صفائه ونقائه وعزته وإنسانيته قبل أن تختطفه قوى الظلام والكراهية لتجعل منه أيديولوجية ساخطة على العالم كله.." ، والأخوّة الإنسانية التي يتحدث عنها سيأتي الحديث عنها بشكل مفصل بإذن الله، أمّا التشفي فلا أعلم قوماً أشدّ تشفياً من هؤلاء القوم، لا سيما مع خصومهم السلفيين، وقد رأينا قمة هذا التشفي في حادثة حريق الرئاسة، نثراً وشعراً ورسماً، وبكائيات عجيبة لوفاة بضع فتيات من آثار التدافع والهلع، لا بسبب الحريق.. ولم يقتصر الأمر على هذا بل حاولوا الزج بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه القضية زوراً وبهتاناً، وبطريقة قذرة، لولا تصريحات المسؤولين المبرئة للهيئة.. ثم هم ينكرون تشفي (بعض) المسلمين المظلومين الذين فقدوا الكثير من أولادهم وأعزائهم والكثير من أموالهم وممتلكاتهم بسبب الجبروت الأمريكي المدمر في كثير من بلاد المسلمين.. ثم أي أخوّة إنسانية مع قوم يمتهنون المصحف الشريف في سجونهم، ويسخرون من سيد الخلق وخاتم المرسلين عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
2. الدفاع عن القبوريين وأصحاب المذاهب الكفرية..
ففي مقال له بعنوان: ( نحن والخوارج إلى أين ) الرياض: 13716، يقول الكاتب السابق، بعد أن قرر أن مرجعية من وصفهم بالخوارج هي السلفية ( التقليدية ): "إننا نريد أن نعرف من هؤلاء الخوارج القعدة هل نحن أي كدولة ومجتمع في نظرهم مسلمون أم لا؟ "
إلى أن يقول: " أنا هنا لا أقصد موقفهم من عموم المجتمعات الإسلامية، لأنها في تصنيفهم العام غير المفصّل كافرة إمّا لأنها لا تحكم بما أنزل الله أو تسكت عن الحاكم في هذا الأمر وإمّا لأنها بدعية أو مذهبية أو قبورية أو حزبية.. إلخ هذا الهراء وإما لا تنكر كل ذلك "..
والقبوريّون هم عبّاد القبور، المعظّمون لها بالذبح والنذر والسجود وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، وهؤلاء لا شكّ في كفرهم، والكاتب يجعل ذلك من الهراء، وهذا خلل كبير في الاعتقاد، فإنّه إذا كان تكفير المسلم الموحّد لا يجوز، فكذلك عدم تكفير الكافر هو أيضاً لا يجوز، وهو تطرّف مضادّ للتطرف الأوّل الذي أراد أن يحذّر منه..
وأمّا حديثه عن الدولة والمجتمع، وتمسّحه بذلك، فهو من باب التقيّة التي يشتركون فيها مع الرافضة، وذلك أنّهم أصلاً لا يرون شرعية هذه الدولة السلفيّة (الوهابيّة في نظرهم) لأنّها غير ديموقراطية، أي غير منتخبة من الشعب، وهم يسعون لتحقيق مشروعهم التغريبي الغربي إلى إزاحة هذه الدولة، لإقامة دولتهم ( الإنسانية ) المرتقبة التي لا دين لها ولا مذهب ولا طعم ولا لون ولا رائحة.!!!.(14/364)
وأمّا المجتمع الذي يزعمون تكفيره من قبل الخوارج القعدة، فهو المجتمع الذي استعصى عليهم ولذا فهم يرمونه ـ على سبيل الشتم ـ بالتجهيل، أو على حدّ تعبيرهم كما سبق: (الجماهير البائسة الظامئة )، و(جماهير الغوغاء )، و( الجماهير المجهّلة )، و(الجماهير الغائبة المغيّبة )، و(المجتمعات المحافظة الأصولية )، وهي الآن بعد هذه الشتائم أصبحت متّهمة بالكفر من قِبَل من يزعمون أنّهم قد اختطفوها، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض الحادّ ؟!!.
3. الخلل في مفهوم الولاء والبراء..
وقد كتب أحدهم ـ وهو أكثرهم حديثاً عن العقائد وأشدّهم جهلاً ـ مقالاً بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، وقرر مفهوماً غريباً للولاء والبراء، يفرّغه من مضمونه الشرعي الذي أراده الله U ، بل يضادّه ويخالفه، يقول: " وهو يشي بعلاقات سلمية قوامها الصلة والإحسان والبرّ ودعم ممكنات السلام الاجتماعي الذي أتى الإسلام ليجعلها الأصل في حياة الناس قبل أن تختطفها جماعات الإسلام السياسي لتجعل بدلاً منها العنف والقتل والدمار هو الأساس في علاقة الإسلام بغير من الديانات الأخرى افتئاتاً على الله تعالى ورسوله ومكراً للسوء ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله ".. فهو يخلط بجهل فاضح بين عقيدة الولاء والبراء التي قوامها ولبّها وروحها: الحب والبغض وموالاة المسلم أيّاً كان، والتبرّي من الكافر ومعاداته أيّاً كان، وبين معاملة الكفّار والتفريق بين من كان منهم محارباً، ومن كان منهم مسالماً.. وبغض الكافر ومعاداته كما قال الله عن الخليل إبراهيم u: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، فنحن نبغض الكافر ونعاديه بقلوبنا من أجل كفره، لكن ذلك لا يمنعنا من بره إذا كان قريباً مسالماً كالوالدين ونحوهما، وكذلك لا نظلمه بل نقسط إليه، ونحسن معاملته ترغيباً له في ديننا، ومن أجل إنقاذه من الكفر الذي هو فيه، بل إنّ عقيدة الولاء والبراء لا تختص بالكافر، بل تشمل حتى العاصي، فنبغضه لمعصيته، لكن نحبه من وجه آخر لما عنده من الإيمان والإسلام، فمن لم يبغض الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، فلديه خلل في هذه العقيدة العظيمة، وما تأخر المسلمون، ولا تسلط عليهم العدو، إلا لتخليهم عن هذه العقيدة، أو اختلال مفهومها لديهم.
ولم يقف الأمر عند هؤلاء على مجرد الاختلال في المفهوم، بل تجاوزه إلى ما هو أعظم من ذلك، ألا وهو إلغاء هذه العقيدة من أصلها(!)، يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني وضرورة التجديد ) الجزيرة: 11595، عن مفهوم الولاء والبراء: "هذا المفهوم كان في الماضي، وفي زمن عدم وجود ( الدولة ) بمعناها وشكلها الحالي، ضرورة احترازية، ودفاعية وقائية مهمة، فقد كان بمثابة آلية عالية الفعالية آنذاك لمنع ما يمكن أن نسميه بلغة اليوم ( منع اختراق مجتمعاتنا من الآخر ) في حقبة كان الصراع والتطاحن فيها بين الأمم والثقافات هو السمة الطاغية على العلاقات الدولية، أما اليوم فقد تغير الوضع حيث أصبح التعاون بين الأمم(!!!) وتكريس كل ما من شأنه إثراء هذا التعاون، هو الثقافة السائدة بين شعوب الدنيا، لهذا فإن التغير النوعي في العلاقات الدولية الذي نعايشه اليوم كان يجب أن يتبعه تغير مواكب في مفهومنا للولاء والبراء بالشكل الذي يحافظ على فعالية هذا المفهوم.."، وقد ذكرني قوله ( ضرورة احترازية ودفاعية وقائية ) بالحرب الاستباقية الوقائية التي دشّنها ( الآخر ) في ظل التعاون الدولي بين الأمم(!) دفاعاً عن نفسه، ولو كان ذلك مبنياً على استخبارات خاطئة أو مبالغ فيها، وهي ليست مجرّد عقيدة في القلب، أو بغض باللسان، وإنما حرب بالأسلحة المدمرة وربما المحرمة دولياً التي لا تفرق بين المحارب والمدني، ويبدو أن مفهوم هذه العقيدة قد انتقل إلى ذلك الآخر في حين غفلة منا، فكان علينا التخلي عنه.. أما التعاون بين الأمم! فصحيح لكنه ضد الإسلام وأهله، كما في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها مما يطمع فيه ( الآخر )..
ويستشهد الكاتب المذكور على ما ذهب إليه من تعطيل مفهوم الولاء والبراء، بقول كبيرهم الجابري الذي يقول: " إذا تعارضت المصلحة مع النصّ، روعيت المصلحة(!) باعتبار أنّ المصلحة هي السبب في ورود النصّ، واعتبار المصلحة قد يكون تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف(!)".(14/365)
فتأمّلوا هذا القول العجيب الذي يفترض تعارض المصلحة مع النصّ، ثمّ من الذي يحدّد المصلحة ؟، وكيف يكون اعتبار المصلحة تارة في اتّجاه، وتارة في اتّجاه مخالف؟ فما قيمة الدين حينئذ، إذا كانت ثوابته عرضة للاعتداء والإلغاء بحجّة المصلحة المزعومة ؟.. نعم قد يتخلّى المسلم عن عقيدة الولاء والبراء ظاهراً في حالات استثنائية خاصّة جداً، لكنّها تبقى عقيدة قلبية لا يجوز له أن يتخلّى عنها: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[النحل:106].
4. الثناء على الفرق الضالّة، وخصوصاً المعتزلة ـ التي تتّخذ من السلفية خصماً تقليدياً لها ـ والدفاع عنها، بل الدعوة إليها !!...
ففي مقال بعنوان: ( الخوف من النقد ) الرياض: 13509، كتب أحدهم يستنكر فزع خصومه السلفيين عند شتم مذهب السلف، وكيل التهم للسلفية بلا حساب ولا برهان، والذي يعدّونه من النقد!!. ويقرّر بفهم مغلوط ومنقوص للآية الكريمة: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }[هود:118]، أنّ الاختلاف بين البشر أمر جبلّي قد فُطر عليه البشر، وليس بمذموم، ولو أتمّ الآية لتبين له خطأ ما ذهب إليه، فإنّ الله قال بعدها: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود:119]، فجعل الله الاختلاف مقابل الرحمة. وقوله: ( ولذلك خلقهم ) قيل للاختلاف. وقيل للرحمة. وقيل للأمرين: فريق في الجنّة وفريق في السعير، وهو الصحيح. ولذا ختم الآية بتوعّد الكافرين من الجنّ والإنس بنار جهنّم، ولم يعذرهم بكفرهم بحجّة أنّ الاختلاف أمر جبلّي فطريّ كما يقول هذا الكاتب الجاهل، ويدلّ على أنّ الأصل هو الاجتماع والاتفاق على التوحيد والإيمان الصحيح قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً..}[البقرة:213]، وقد روي عن ابن عباس t أنّ الناس قبل نوح كانوا على التوحيد عشرة قرون، ثم حدث الاختلاف والتفرق بعد أن زين الشيطان لقوم نوح عبادة الأصنام وتعظيم الصور..فكان نوح u هو أوّل الرسل لمحو الشرك.
ثم يقرر هذا الكاتب " حق الآخر (الكافر)(!) في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد!! أياً كان هذا الجانب... "..
ثم يقول مدافعاً عن المذهب الاعتزالي ـ وهذا هو مربط الفرس لديه ـ: " هنا أجد أنّه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج الجامعية في الأقسام التي تدرس العقديات والمذاهب بحيث يجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخالفة عندما أرست قواعد مذهبها ـ خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها مخالفة ـ بدلاً من تكريس وضع منهجي يُنظر لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمباديء مذهبه وقواعد مرجعيته "، وبعد هذا التلميح غير المليح، ينتقل إلى التصريح فيقول: " المذهب الاعتزالي مثلاً عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات(!) المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساساً لإتيان بنيان الإسلام من قواعده، فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل(!!!!) على النقل كسلاح مماثل ووحيد لردّ تلك الهجمة على الإسلام... " إلى آخر ما ذكر من التلبيس وقلب الحقائق، فأما الشك الذي يتحدث عنه فهم أهله والداعون إليه كما سبق من دندنتهم حول أنّ أحداً ما ـ أيّاً كان دينه ومذهبه ـ لا يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي شك بعد هذا الشك ؟!، وأما تقديم العقل على النقل فهو الضلال المبين، فكيف تكون السيئة حسنة يُمدح صاحبها ؟!، إن هذا من انقلاب المفاهيم..
ثم يختم مقاله بالتعريض بالحديث الشريف ـ حديث الافتراق والفرقة الناجية ـ، وهو مخالف للعقل عندهم(!)، فيقول: " ومن ثم فإن الحاجة ماسّة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجرّدة(!) للمذاهب والفرق المخالفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجرّدة(!) باستصحاب كامل لتأريخ نشأة تلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبياً بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقاً ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة... "، أما التفسير السياسي للتاريخ والأحداث، واستبعاد الدين والعقيدة كمؤثّر رئيس، فذلك من أبرز سماتهم كما سيأتي، للتوصّل إلى ما يهدفون إليه من العلمنة.(14/366)
وفي مقال لهذا الكاتب بعنوان: ( العقل قبل ورود السمع ) الرياض: 13688، الذي هو أصل من أصول المعتزلة، يثني الكاتب على هذا الأصل، الذي يعلي من شأن الفلسفة والمنطق وعلم الكلام المذموم، ويصف موقف السلف من ذلك بالركام الظلامي الراكد على ثقافتنا منذ قرون... أمّا تراجع بعض كبار أساطين الفلاسفة عنها، وتسجيل اعترافاتهم في ذمّها، وأنّها لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، فيعدّه الكاتب في مقال له ساخر بعنوان: ( التراجعات المذهبية ) الرياض: 13572، مجرّد دعوى لا حقيقة لها، وأنّ ما قالوه، معظمه منحول عليهم، ولا يخفى ما في قوله هذا من اتّهام للسلف بالكذب والافتراء على أولئك المتراجعين، ودفاع عن تلك الفلسفة البائسة العقيمة باعتراف أساطينها.
وفي هذا السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( تعميق التعددية الفكرية... تأسيس لتطور المجتمعات ) الوطن: 2305، مثنياً على مذهب الاعتزال، ولامزاً مذهب السلف: " ويزخر تاريخنا القديم بمدارسَ فكرية متعددة شاركت في زمانها في حراكٍ فكري ثقافي في قضايا فلسفية متعددة كثيرة شغلت تلك المدارس بالتأليف والردود, وأفرز ذلك الحراك الفكري الثقافي مدرسةً فلسفيةً عقلية وهي فكر الاعتزال بيد أننا لم نستفد من تلك المدرسة العقلية التي كانت تُحاكي عقل الإنسان ولم نحاول أن نبرز الأدوات والوسائل التي كانت أساساً لتلك المدرسة, بل قد أُبرزت تلك المدرسة على أنها ضارة وغير نافعة وهذه إشكاليةُ فكرٍ تفردَ بمجتمعٍ فأصبح يملي عليه ما يجوز التفكير فيه وما لا يجوز وساهم في ترسيخ منظور ومنهج واحد تدرسُ من خلاله تلك المدارس الفكرية العقلية التي تزخرُ بالثقافة, فهل سوف تتغير طريقة طرحنا للمدارس الفكرية المتعددة كي نوظفها في خدمة الحراك الفكري الثقافي لكي يمارسه أفراد مجتمعنا ويتفاعلوا معه والذي هو مطلب أساسي للإصلاح والتطوير أم إننا سوف نبني سداً يحول بين عقولنا وآليات تفعيلها كي تبقى على القديم ؟ وكيف سوف نغير طريقة طرحنا؟ ومتى؟".
أنّها دعوة صريحة إلى تبنّي مذهب الاعتزال ، ونبذ منهج السلف الذي يصفه بأنّه ( فكر تفرّد بمجتمع )، فهو لا يفرّق بين الفكر والعقيدة التي لا مجال للمساومة عليها، بل إنّه يعدّ الأخذ بمذهب الاعتزال المنحرف مطلباً أساسياً للإصلاح والتطوير !!!!!..
5. الدعوة إلى نقد الثوابت(!) والتشكيك فيها، والتي يعبّرون عنها تارة بالمسلّمات، وتارة بالحتميات، وتارة بالمعرفة الأولى... الخ ..وهي دعوة خطيرة تكشف عن حقيقة ما يطرحونه من فكر..
يقول أحدهم ـ وهو كبيرهم وأشدّهم افتتاناً بالغرب ـ في مقال له بعنوان: (ظهور الفكر النقدي شرارة الانطلاق الحضاري ) الرياض: 14083: " إن إخفاق العرب والمسلمين في تحقيق الإفلات من قبضة التخلف وعجزهم عن إحراز النهوض وعدم القدرة على التفاهم وغياب تبادل الاحترام واستمرار التمركزات المتنافرة بين الأقطاب المختلفة داخل الأمة والاحتكام إلى القوة والعجز عن الاتفاق عند أي اختلاف ان هذه كلها وغيرها من المعضلات المزمنة تعود بشكل أساسي إلى حرمانهم من آليات النقد التي كانت المفتاح الذي اهتدت إليه بعض الأمم وأحسنت استخدامه فحقق لها الوئام المنتظم والتكامل المكتظ والنمو المطرد ومكنها من الازدهار المتجدد.. أجل إن النقد للأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد والمواضعات والمسلّمات هو محرك الحضارة وهو صانع التقدم في كل مجالات الفكر والفعل وهو الشرارة التي فجرت طاقات الإنسان وصنعت له أمجاد الفكر والعلم ووفرت له أسباب الازدهار فالأمم التي اعتمدت هذه الآلية الرائعة حققت طموحاتها وأنجزت إثبات ذاتها ووقفت شامخة بين الشعوب في سباقات الفكر والفعل أما الأمم التي أخمدت هذا المحرك الأكبر أو تجهله أو لا تحسن استخدامه فقد بقيت عاجزة عن مبارحة خنادق التخلف بل بقيت رافضة بأن تتجاوز هذه الخنادق لأن حرمانها من النقد والمراجعة حرمها من اكتشاف نقائصها كما حرمها من التعرف على ما في الدنيا من آفاق وبدائل فبقيت تتوهم أنها الأفضل والأرقى وظلت رهينة هذا الوهم .."(14/367)
فهو قد ساوى بين الأفكار والرؤى والأوضاع والأعراف والتقاليد.. وبين المسلّمات التي هي الثوابت، ولم يستثن من ذلك شيئاً.. فكلّها يجب أن تكون خاضعة للنقد حسب رأيه، وهو يستشهد على ذلك بالحضارة اليونانية ووريثتها الحضارة الغربية حسب تعبيره، فيساوي بين دينهم وثوابتهم المحرّفة الباطلة، وثوابتنا وديننا الصحيح الذي لا يقبل النقد، بل يعدّ هذا التفريق بين الدينين وثوابتهما ضرباً لما أسماه بامتلاك الحقيقة المطلقة، بمعنى أنّك حين تعتقد أيها المسلم بأنّ دين الإسلام هو وحده الحقّ وما سواه باطل، فإنّك حينئذ تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة!!! هذا ما يفهم من إطلاقه حيث يقول: "ولكن لن ندرك عظمة هذا السبق المذهل الا إذا تذكرنا أن أصعب معضلة واجهت الإنسانية وسببت لها الفظائع والشرور وعرقلت مسيرتها الحضارية هي الانغلاق الثقافي الناتج عن توهم الكمال واعتقاد كل طرف من المختلفين أنه هو وحده الذي يملك الحقيقة النهائية المطلقة وأن كل الأطراف الأخرى غارقة في الأباطيل والحماقات والعمى والضلال وانحلال الأخلاق وأن كل المخالفين يستحقون الاقصاء والاستئصال لأنهم في نظره خطر على الحقيقة وعلى الوجود ولأن هذا الوهم يجري من الناس مجرى الدم ومحتجب عن الوعي خصوصاً في الثقافات المغلقة [ ويقصد بها ثقافتنا ] فإنه قد بقي ويبقى محصنا عن أضواء العقل وغير متأثر بفتوحات العلم ومحمياً من عمليات التحليل والفحص والمراجعة فتوهّم الانفراد بامتلاك الحقيقة يؤدي إلى الانغلاق الثقافي ومعاداة كل المغايرين وتوهّم الخطر من أي مخالف . إن ادعاءات كل طرف سواء بين الأمم المختلفة أو بين المذاهب والطوائف والاتجاهات داخل الأمة الواحدة بأنه وحده يملك الحقيقة المطلقة وأن الآخر ليس لديه سوى الضلال والعمى كانت وما زالت من أقوى أسباب البؤس الإنساني والفرقة والاقتتال والعداوات وحجب الحقائق وتزييف الوقائع وإفساد الأخلاق وملء النفوس بالأحقاد وتلويث العقول وإعاقة المعرفة وعرقلة الحضارة ومنع الانسجام الإنساني لذلك كان تأسيس الفكر النقدي وتقويض أوهام الانفراد بامتلاك الحقيقة النهائية المطلقة من أعظم الاختراقات الإنسانية.."
وهذا الكلام تضمن حقّاً وباطلاً، وخلطاً عجيباً يدلّ على غبش في التصور، أو ضلال في الفكر، وسيأتي قريباً إن شاء الله الحديث عما يسمّى بامتلاك الحقيقة المطلقة..
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرادة الإنسانية.. المستقبل يصنعه الإنسان ) الرياض: 14073، هاجم فيه ما أسماه بالحتميات التي هي الثوابت، يقول: " لا أريد أن أتحيز إلى تهميش الحتميات؛ بقدر ما أريد التأكيد على قدرة الإرادة الإنسانية على تجاوزها، والتحرر منها؛ مع الإقرار بنسبية هذا التحرر. بل إن حضورها الطاغي أحيانا هو ما يبعث روح التحدي إزاءها، ويجعل من التحرر منها تحقيقا لتحرر الإرادة الإنسانية مما سوى الإنساني ".
فهو يرى في مقاله الطويل الذي يكتنفه الغموض أنّ الحتميات التي هي الثوابت ـ ويعني بها ثوابتنا نحن لكنّه لم يجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها ـ هي العائق عن تحقيق التقدّم والإرادة الإنسانية، في الوقت الذي يثني فيه على الإنسان الغربي الذي يمثل في نظره مقدمة الوعي الإنساني، ومثال الإرادة الحرة الواعية بذاتها. لأنّه الإنسان الأقل خضوعا للحتميات، والأشد تحررا من أسرها !!!!!. إنّها قمّة الانهزامية والتبعية والانحراف الفكري، أو بتعبير بعض الفضلاء: ( الأدمغة المفخخة ).
وفي مقال بعنوان: ( ثقافة معاقة )(!) الوطن: 2252 كتبت إحداهنّ داعية إلى الشك في الثوابت، والتشكيك فيها، تقول بكلّ جرأة: " يقال إن الفرد قد حقق هويته عندما تكون سلوكياته العملية في جميع جوانب حياته نتاجاً لمفاهيم وقناعات اختبرت صحتها بعقلية حرة مستقلة ولم تكن نتاج وراثة أو برمجة بطريقة الترديد الببغائي لما يقوله الوالدان والمدرسة ووسائل الإعلام كالمسجد والتلفزيون والكتيبات، وليصل الإنسان لهذا المستوى فلابد أن يمر بمرحلتين الأولى وفيها يتم وضع كل ما تم تلقينه إياه في فترة طفولة الفكر وهي مرحلة الطفولة وحتى نهاية المراهقة موضع الشك والاختبار دون النظر إلى ما يسميه مجتمعه أعرافاً أو ثوابت فيبدأ المراهق بالتساؤل حول مصداقية التعليمات التي جاءت من قبل الكبار وتشكيكه فيها بالبحث والقراءة والاستطلاع بهدف الغربلة والتصحيح فيدخل سن الشباب وقد كوّن فكره المستقل الذي يعكس ما يدل عليه ثم يظهر الالتزام بالمعرفة الجديدة وتطبيقها عملياً كمؤشر ملموس على تحقق الهوية ".(14/368)
فهي تدعو الشاب الغض بعد سنّ المراهقة أن يختبر قناعاته ـ حتى الثوابت(!) ـ بعقلية حرة مستقلة كما تقول(!!!) وهي لا تعلّم أنّ ثوابتنا لا سيما العقدية لا تخضع للعقل، ولا مدخل للعقل فيها، فهي تعتمد على الإيمان والتسليم المطلق { الذين يؤمنون بالغيب }[ البقرة: 2]، ولو كانت الكاتبة تتحدث عن مجتمع غير مجتمعنا، ثوابته من وضع البشر لكان لكلامها وجاهة، أمّا وهي تتحدّث عن مجتمعنا السلفي المسلم بمناهجه النقية التي تولّى إعدادها علماء أجلاء، فلا وجه لهذه النزعة التشكيكية المتلقّاة من الغرب الكافر الذي لا ثوابت له سوى ما وضعه البشر..
ثم كيف لشاب غضّ في مقتبل العمر أن يختبر تلك القناعات والثوابت التي وضعها له علماؤه ومشايخه، وهي مما اتفق عليه سلف الأمة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا ؟!!
ثم تقول: " وقد يظن أي معاق الهوية أن الأخلاق والقيم والمبادئ غير قابلة للتطور ويجب أن تبقى ثابتة وأننا نعني بهذا المقال التأثير على شبابنا ودفعه للتخلي عن قيمنا وأخلاقنا العظيمة ونقول له بل هي قابلة للتطور والتحسن ويجب أن تعامل بمرونة أكثر وسأعطي مثالاً على نمو المبادئ وتطورها ففي ثقافتنا الإسلامية الجميلة كنا من رواد الدعوة لحقوق العبيد ولتضييق موارد الاستعباد ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساسا ومن هذا المنطلق يمكن حتى أن نطور مفاهيمنا حول حقوق المرأة والطفل ".
وهو كلام خطير يدلّ على جهل فاضح، وانهزامية بائسة، فديننا ولله الحمد قد أكمله الله وأتمّه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }[ المائدة: 3] فلسنا بحاجة لنطور ثوابتنا وقيمنا عن طريق أمم لا قيم لها ولا أخلاق أصلاً إلا الأخلاق التجارية إن صحّ التعبير، والمثال الذي ضربته دليل صارخ على جهلها فإنّ إلغاء الرقّ الذي أقرّه الإسلام ليس تطويراً وإنّما هو مضادة لحكم الله وشرعه، فالرق باق ما توفّرت أسبابه، وقولها: ( ثم تطور هذا المفهوم الأخلاقي على يد الثقافة الغربية لمستوى أعلى فمنع استعباد الإنسان والاتجار به أساساً ) كلام خطير حيث جعلت هذا النقض لحكم الله مستوى أعلى مما شرعه الله وأقرّه.. فجعلت حكم الطاغوت أعلى من حكم الله، ولا أظنّها لجهلها تدرك ذلك، فإلى الله المشتكى من جهل هؤلاء وجرأتهم وتعالمهم..
ثم أي استعباد أعظم مما تفعله الدول الكبرى اليوم من استعباد الدول والشعوب وإذلالها والضغط عليها لتنفيذ أجنداتها، والسير في ركابها، والاستيلاء على ثرواتها ومقدّراتها ؟!! ومن يخالف ذلك فإنّ مصيره إلى الإقصاء والإبعاد والاتهام بالإرهاب، وتسليط المرتزقة عليه وغير ذلك من الأساليب الماكرة.
وتختم مقالها بما لا يقل خطورة عما سبق، فتقول: " وأخيرا تحت شعار حماية ثقافتنا خوفا من المتربصين وهذا الخوف الذي ينادي إلى التقهقر ومحاولة إحياء عصر ما قبل ألف سنة بحذافيره وهذا الفكر خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية وجعل عقولنا راكدة متوقفة عن العطاء نعيش عالة ولا نساهم في أي إضافة للمجتمعات لا تقنيا ولا ثقافيا بالرغم من أننا نشكل خمس سكان العالم ".
فتأملوا قولها: ( إحياء عصر ما قبل ألف سنة ) وهو عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، أي القرون الأولى المفضّلة التي قال عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم : (( خير القرون قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.. )) وجعلت إحياء مثل هذا العصر المجيد سبباً من أسباب خلق مجتمعات بأكملها معاقة الهوية... ألا يعدّ هذا الكلام من الكفر الصريح، أم أنّ هذه الكاتبة تردّد ببغائية ما لا تدرك معناه ؟!
وفي ذات السياق يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( التفكير في المعرفة الأولى ) الوطن: 2259: "يعتبر كثير من الباحثين في الفكر العلمي، باشلار من أبرزهم، أن المعرفة الناتجة عن التجربة الأولى، أي الاتصال الأول بالموضوع، تعتبر عائقا معرفيا أمام الحصول على معرفة علمية موضوعية. وبالتالي فإن المعرفة العلمية الحقيقية تأتي لتواجه وتتجاوز هذه المعرفة الأولى ".
إلى أن يقول: " هذا المفهوم يمكن توسعته أيضا إلى معارفنا الأولى عن الكون والحياة والأفكار والثقافات وعن أنفسنا ومحيطنا الصغير والكبير. خصوصا أن أغلب معارفنا في هذا الإطار اكتسبناها ونحن صغار في فترات التعلم الأولى. تعلمنا في البيت وفي المدرسة ومن خلال التفاعل الاجتماعي أشياء كثيرة. تعتبر كلها معارف أولى تبقى متأثرة بثقتنا بمن علمنا إياها وبالهالة التي لهم عندنا...."
إلى أن يقول: " يمكن سحب هذا الفهم على المعرفة الأولى التي اكتسبناها في المدرسة من المعلم وتلك التي اكتسبناها من إمام المسجد وتستمر حتى إلى المعرفة الأولى التي تحصلنا عليها من الجامعة أو أي مصدر معرفي آخر ". وهذا هو مربط الفرس عندهم: المعلم، المسجد....(14/369)
وهكذا تستمر الدعوة إلى التشكيك في ثوابتنا ومسلّماتنا الشرعية بحجّة النقد والتمحيص، وهم يقيسون مجتمعنا المسلم على المجتمعات العلمانية الكافرة التي لا ثوابت لها إلا ما صنعه البشر كما سبق ضاربين بثوابتنا الشرعية عرض الحائط.
ويبدو أنّهم بدأوا في تطبيق ما يدعون إليه، فهذا أحدهم في مقال له بعنوان (الأمن الفكري والركض في الطريق الآخر!! ) الوطن: 2322، يطعن في مذهب أهل السنّة والجماعة، ويقرر الفكر الليبرالي المنحرف فهو يرى أنّ الأمن الفكري هو : " أن يفكر جملة الناس وأفرادهم تفكيرا لا يؤدي إلى إيقاع الخطر بالمجتمع ".
ثم يقرر " إن هناك رؤيتين مختلفتين في تحقيق هذا الهدف. الأولى تقول إن الفكر الآمن هو الفكر "السلمي". بمعنى الفكر الذي يطرح آراءه وأفكاره بطريقة سلمية دون أن يلزم أحد بها أو يفرضها بالقوّة " وهذه هي الرؤية الليبرالية التي يريد أن يقررها .
ويواصل: " الرؤية الثانية ترى أن الفكر الآمن هو الفكر الذي يسير في الطريق المحددة سلفاً. طريقة يرى أصحاب هذه الرؤية أنها هي السليمة قطعا وبالتالي فإن تحقيق الأمن للفكر يكون في السير على هذه الطريقة وكل ما يخرج عنها يعتبر فكرا خطرا ويهدد الأمن الفكري ". وهذه هي الرؤية السلفية الصحيحة، وهي التي يريد أن ينقضها، ولذا يقول: " شتّان بين الرؤيتين فكل منهما تنطلق من أساس فكري ورؤية للإنسان والحياة تختلف عن الأخرى. الرؤية الأولى التي ترى الأمان الفكري يكمن وينبع من التفكير السلمي بدون إضافة أي قيد آخر على هذا التفكير تنطلق من مبدأ حرية التفكير غير المحدودة إلا بكونها سلمية. حرية التفكير التي هي حق أولي للإنسان وشكل من أشكال تحقيق وجوده الحقيقي في الحياة. هذه الحرية هي منطلق وطريق كل الإنجاز البشري وأفكار التقدم والتحرر على مدار التاريخ. كل الفلاسفة والمصلحين على مدى التاريخ انطلقوا من هذا الحق حين كانوا يواجهون بمعارضة شديدة من مجتمعاتهم في البدايات. صحيح أن الكثير منهم انقلب على هذا المبدأ بعد أن استقر لأفكارهم الأمر إلى أن المبدأ الأول كما شملهم يفترض أن يشمل من بعدهم بالتأكيد . الرؤية الثانية تنطلق من أن فكرة أن الحق معروف سلفاً، في جملة آراء جماعة ما " يقصد أهل السنة والجماعة، ثم يواصل: "وبالتالي فإنه لا يسع أحد أن يخرج عن هذا الفكر وإلا اعتبر مباشرة خارجاً عن الحق".
ثم يقول ساخراً: " لا تهتم هذه الرؤية بحرية الفكر، ولا تعتد بها، بل تحاربها بقدر ما تستطيع، وتعتبرها سبباً من أسباب الدمار والبلاء. ولذا فعلى الناس استمرار الاتباع للحق، الذي هو حق محدد عندهم في جملة من الأقوال والآراء وفي ما وافقها فقط "..
وحرية الفكر عند هؤلاء تعني حرية الكفر، والسخرية بالدين وأهله، والتشكيك في الثوابت كما سبق..!! أما الحقّ المحدّد في جملة من الأقوال والآراء ـ حسب وصفه ـ فواضح أنّه يريد به مذهب السلف، وهل هناك حقّ غيره عندنا ؟.
وفي مقال بعنوان ( لا إجحاف ) الوطن: 2322، كتبت إحدى الكاتبات من أصحاب هذا الفكر ـ وهي التي سبق قريباً أنها طالبت بالشكّ في الثوابت ـ تنتقد وبصراحة وقحة بعض الثوابت المتعلّقة بالمرأة، والتي وردت فيها نصوص صحيحة وصريحة، وقد خلطتها مع بعض القضايا الأخرى التي هي محل اجتهاد، ومن هذه الثوابت التي انتقدتها وأنكرتها ـ وسأذكرها بالنصّ الذي ذكرته ـ:
" ممنوعة من السفر بدون إذن، ممنوعة من استئجار غرفة بفندق بدون إذن، ممنوعة من إلحاق أبنائها في المدرسة التي تحب بدون إذن، ممنوعة من استخراج جواز سفر بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المنزل بدون إذن، ممنوعة من الخروج من الدوام (للمعلمات والطالبات) دون إذن، ممنوعة من الالتحاق بالعمل بدون إذن، ممنوعة من استئجار منزل وحدها بدون إذن، ممنوعة من الاستفادة من البعثات الخارجية بدون إذن، ممنوعة من تزويج نفسها بدون إذن، ممنوعة من التوقف عن الإنجاب بعملية بدون إذن، ممنوعة من الخروج من المستشفى إذا نومت فيه بدون ولي لاستلامها، ممنوعة من دخول الإدارات الحكومية ومقابلة المسؤولين بدون ولي، ممنوعة من الامتناع عن فراش الزوجية بدون عذر، ممنوعة من طلب الطلاق بدون عذر ودفع غرامة، ممنوعة من اللحاق بأطفالها إذا أخذهم طليقها خارج البلاد دون إذن وليها، ممنوعة من تزويج بناتها دون إذن، ممنوعة من الوقوف في محل بيع أو مقهى هي تملكه، ممنوعة من استلام مناصب تنفيذية عليا في القطاع الخاص والحكومي، ممنوعة من لقاء وفد لعقد صفقة عمل، محرم عليها الركوب مع سائق وحدها، محرم عليها العمل في المكان المختلط، محرم عليها إغضاب زوجها، وأخيراً صوتها عورة لا يجب أن يظهر للملأ لتبقى قضيتها طي الكتمان.. ".(14/370)
ويلاحظ أنّ أغلب ما ذكرته يدور حول أخذ الإذن من الزوج أو الولي في الخروج والسفر ونحوه، والاختلاط والخلوة المحرّمة، وقد وردت في ذلك نصوص شرعية صحيحة، فهذه الكاتبة ـ أصلحها الله ـ تريد من نسائنا أن يخرجن من بيوتهن، بل يسافرن حيث شئن ويتزوجن من شئن دون إذن من أوليائهنّ، ومعلوم شرعاً وعقلاً وذوقاً وأدباً في أي تجمّع، أو مؤسسة، أو إدارة حكومة أو أهلية، أنّ الموظّف لا يخرج من عمله إلا بإذن، وإلا لأصبح الأمر فوضى وتسيب، فكيف بمؤسسة الأسرة التي هي المحضن الأوّل للتربية والتعليم.. فهل تريد هذه الكاتبة من نسائنا أن يكن فوضويات متسيبات بلا رقيب ولا حسيب ؟! وإذا كانت هي ترى نفسها مثقفة وواعية، فهل كل النساء والفتيات كذلك؟!.
أما الاختلاط بين الجنسين ـ وأعني به الاختلاط المقصود ـ فهو أم البلايا ومقدمة الرزايا، فهو المقدمة للخلوة المحرمة المنتهية بالمآسي العظيمة، ولدي قصص مفجعة لضحايا الاختلاط من الجنسين، ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود من هذه الدراسة، لذكرت شيئاً من ذلك، والعاقل اللبيب ينظر ويتأمل.
والعجيب أنّ بعض نساء الغرب العاقلات أكثر وعياً وإنصافاً للمرأة المسلمة، من هذه الكاتبة المنتسبة إلى الإسلام.. ففي مقابلة أجرتها مجلة الوطن العربي (العدد 314 ) مع امرأة فرنسية متخصصة في الفن الإسلامي قالت: " وجدتُ المرأة العربية ( المسلمة ) محترمة ومقدرة داخل بيتها أكثر من الأوروبية ، وأعتقد أن الزوجة والأم العربيتين تعيشان سعادة تفوق سعادتنا.."
ثم توجه نصحها للمرأة المسلمة قائلة: " لا تأخذي من العائلة الأوروبية مثالاً لك، لأنّ عائلاتنا هي أنموذج رديء لا يصلح مثالاً يحتذى ".
وفي مقابلة أجرتها مجلة صدى الأسبوع مع فتاة إنجليزية أعلنت إسلامها، كان من الأمور التي دفعتها أن تترك النصرانية وتدخل الإسلام: الأسرة المسلمة ومكانة المرأة، قالت: " المرأة المسلمة دائماً في حماية ورعاية، تجد من يعيلها أينما حلت، وهي جزء هام من المجتمع الإسلامي، جو عائلي تفتقده الكثير من الأسر الغربية.." .
والخلاصة أنّ ما تدعو إليه هذه الكاتبة حث نسائنا وبناتنا على التمرّد على أوليائهنّ، وأن يخرجن بلا حسيب ولا رقيب، وينزعن جلباب الحياء بلبس اللباس غير الساتر، ويرفعن أصواتهن في المجامع، ويختلطن بالرجال ليكن فريسة للذئاب البشرية، ولو غضب أولياؤهن، حيث إنّ الكاتبة أباحت لهن ذلك.. هذا ما يُفهم من مقالها، فما الذي بقي من الثوابت في قضايا المرأة ؟ وهل سيقف هؤلاء في نقدهم عند مثل هذه الثوابت الجزئية، أم سيتعدّى الأمر إلى الثوابت الأخرى ؟
السمة الثالثة:
الشكّ في دينهم، وكثرة الحديث عمّا يسمونه بـ ( امتلاك الحقيقة المطلقة )
وأنّ أحداً من الناس ـ كائناً من كان ـ لا يمتلك هذه الحقيقة، وهم لا يفرقون عن عمد بين أمور الاعتقاد ( الثوابت )، وبين غيرها من الأمور الخاضعة للنظر والاجتهاد، بل ظاهر كلامهم ينصرف إلى هذه الثوابت للتوصّل إلى مرادهم، وهو التشكيك في مذهب أهل السنّة والجماعة، أو ما يطلقون عليه: ( السلفية التقليدية )، فلا أحد عندهم يمتلك الحقيقة المطلقة حتى في أصول الدين وأمور الاعتقاد التي أجمع عليها سلف الأمّة منذ فجر الإسلام، وإلى وقتنا الحاضر، فالمسلم الموحد، واليهودي، والنصراني، والمبتدع، كلّهم سواء من ناحية الحقيقة، لا حقّ لأحد منهم ـ حسب زعم هؤلاء ـ في امتلاكها(!) وهذا هو حالهم على الحقيقة، فهم حائرون تائهون مرتابون، أمّا نحن ـ ولله الحمد والمنّة ـ فليس لدينا شك في ديننا وعقيدتنا، فنحن مطمئنون موقنون. إمامنا في ذلك رسولنا الكريم الذي قال الله له: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }.
وفيما يلي بعض أقوالهم في هذه القضية التي أقلقتهم، وأقضّت مضاجعهم، وحالت بينهم وبين تحقيق مشروعهم التغريبي:
تقول إحدى الكاتبات في مقال لها بعنوان ( النزعة الإنسانية ) الجزيرة: 11966 " تتميز التوجهات الفكرية المحافظة والمغلقة على نفسها، بالجمود والتشدد وعدم الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير أو المختلف، يرافق هذا شعور متأصل بالرعب والتهديد من العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذا العالم هو غابة من الشرّ والفساد والعهر.. حتى تصبح حالة من التيبس داخل طهرانية وأوهام بامتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين.."، ولا أدري عن أي مجتمع محافظ تتحدث ـ وهي بالتأكيد تتحدث مجتمعنا السلفي المسلم المحافظ، لكنها لا تجرؤ على التصريح ـ، فهل يوجد اليوم مجتمع ليس لديه الرغبة في أيّ نوع من أنواع الاتصال مع المغاير والمختلف، يبدو أنّ الكاتبة تتحدث عن بعض مجتمعات مجاهل أفريقيا، أو الواق واق.. أمّا أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة دون العالمين فهو الشاهد من هذا النقل التغريبي الواضح.(14/371)
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( النظام المعرفي والهوية الثقافية ) الرياض: 13551: "..العنف ومن ثم التطرف ينتج غالباً من اعتقاد المجتمع عموماً ( وهو ما يربى أفراده عليه بالطبع ) بأنّه مالك خطام الحقيقة المطلقة في نظرته للناس والكون والحياة، ومن ثم فلا يجد سبيلاً لأداء مهمته في الحياة سوى إجبار الناس المخالفين على عدم إهلاك أنفسهم، وردهم لحياض الحقيقة المطلقة "..
وهكذا ينبغي للناس ـ كما يريد الكاتب ـ ألا تكون لديهم عقيدة ثابتة راسخة يقينية، يربيهم عليها علماؤهم، ليظلوا في ريبهم يترددون.
ويوضّح هذا الكاتب ما أجمله في هذا المقال في مقال آخر له بعنوان: ( الخوف من النقد) الرياض: 13509، فيقول: " يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجّة [ ويقصد به الرعب عند الطعن في الأصول ونقدها ] بانعدام التربية ـ كجزء من الحالة الثقافية المعاشة ـ على مراعاة حقّ الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد، أيّاً كان هذا الجانب، سواء أكان فرداً أو جماعة أو هيئة أو مذهباً أو خلافه.. "، فلا فرق ـ على رأي الكاتب ـ بين مذهب أهل السنة والجماعة، وغيره من المذاهب الأخرى المنحرفة، وكلّ ذلك توطئة وتميداً للتبشير بفكرهم الليبرالي الاعتزالي التغريبي.
ويقول آخر ـ وكان تكفيرياً فصار مرجئاً ـ في مقال له بعنوان: ( أيضاً في الطائفية ) الرياض: 13503، وهو يساوي بين أهل السنة وبين الرافضة: "وكانت تنشأ في الإسلام [ أي الفرقة والاختلاف ] جرّاء صراعات مريرة بين الطوائف والفرق المتصارعة على النصّ الديني، يغذّيها الوهم الزائف بامتلاك الحقيقة.."، وهكذا أصبح التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة وهم زائف بامتلاك الحقيقة!!!.
وفي هذا السياق يقول أشدّهم تطرّفاً وبذاءة في مقال له بعنوان: ( التفكير.. وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065: " وإذا عرفنا أنّ ( التفرّد ) في الفكر وفي الممارسة المادية، هو المتعين السلوكي لمعنى الحريّة، وأنّ الحرية هي جوهر المعنى الإنساني، وأنّ كلّ إنسان يولد ـ على الفطرة ـ حرّاً؛ أدركنا حجم الجناية التي ترتكبها الثقافة التقليدية البائسة في سعيها الحثيث لقولبة الأفراد وقسرهم على رؤى متشابهة إلى حد التطابق بإلزامهم بأقوال ختمت ـ زوراً ـ بختم المطلق الإيماني والثابت اليقيني، كي يتنازلوا ـ طائعين ـ عن ( فرديتهم/ إنسانيتهم/ وجودهم ) في سبيل أوهام التقليدية الميتة، وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط ".. والثقافة التقليدية البائسة وأوهامها الميتة وأشباحها الآتية من عصور الظلام والانحطاط يريد بها السلفية التي يسمها بالتقليدية كما صرّح بذلك في المقال نفسه، بل إنّه ضرب مثلاً على ذلك بحادثة قتل الجعد بن درهم الذي أعلن كفره وإلحاده وتكذيبه للقرآن فقتله الوالي آنذاك خالد القسري حداً لردته، فينبري هذا الكاتب مدافعاً عنه، فيقول" ولعلّه ليس من قبيل المصادفة أن يتغنى التقليدي في هذا الزمن الراهن بكل ما شهده ذلك الصراع التاريخي من قمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة(!)، ويترحم على القاتل ويلعن المقتول، ويتمنى أمثالها قرابين ترضي مرضه السادي، ولا يزال التقليدي [ يعني السني السلفي ] يطرب كلما سمع أو تذكر قصّة الطاغية الذي ضحى يوم عيد الأضحى بـ ( إنسان ) بدل أضحيته في أوائل القرن الثاني الهجري ".. وهكذا يتحوّل من يقيم حدود الله إلى طاغية، ويتحوّل الطاغية المرتدّ المكذب للقرآن وللرسو صلى الله عليه وسلم إلى ( إنسان ) مسكين يستحق الشفقة، ويصبح إقامة الحد الشرعي جريمة، وقمع لمظاهر الاختلاف والمغايرة !!!!!! إنّ هذا لعمر الله قلب للحقائق، بل هي ردة يجب أن يستتاب منها هذا الكاتب.
وليته اكتفى بذلك، بل يواصل بذاءته ساخراً من الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله وسائر علمائنا السلفيين بعده، وتلامذتهم، واصفاً إياهم جميعاً بالسفهاء(!!) فيقولً: " وأصبحت هذه الجريمة منقبة للقاتل يمتدح بها عبر القرون بحيث لا يخجل أحدهم ـ وكان على علم ـ أن يمتدحه في نونيته التي قالها بعد الجريمة بستة قرون فيقول: (لله درك من أخي قربان )، ويردده من خلفه السفهاء(!) وأشباه السفهاء(!) على مرور الأيام ".. فهل بعد هذا التطرّف من تطرّف، وهل بعد هذا الإرهاب الفكري من إرهاب ؟!!.
والعجيب أنّ أسياده الغربيين وعملاءهم من الباطنية فعلوا مثل ما فعل القسري حين أعدموا صدّام حسين شنقاً في يوم عيد الأضحى ـ مع الاختلاف الشاسع في أسباب الإعدام ودوافعه ـ ومع أنّ الغرب كان هو الداعم الرئيس لمعظم جرائم صدّام، والمبارك لها!! إلا أنّ هذا الكاتب البائس لم يساو بين الجلادَين في الحالتين، وكذلك لم يساو بين الضحيتين في حكمه البائس أيضاً، بل راح يكيل الشتائم لصدّام ويجرّده حتى من الخصال التي اتفق الناس عليها حتى جلادوه، أمّا الجلاد والقاتل الحقيقي فقد عمي عنه هذا الكاتب، ولم يشر إليه ولا مجرّد إشارة، مع الفارق الكبير ـ كما أسلفت ـ بين الحادثتين.. !
السمة الرابعة:
العزف على وتر الإنسانية(14/372)
وذلك في مقابل الأخوّة الإيمانية، وأخوّة العقيدة، وهذا بناء على ما قرّروه سابقاً من أنّ أحداً لا يمتلك الحقيقة المطلقة ! وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( الإنسانية والطائفية: صراع الأضداد ) الرياض: 13754، يؤصّل فيه هذه النزعة الإنسانية شرعاً(!!) في جرأة متناهية حسب فهمه للنصوص ومقاصدها(!!) ـ وبئسما ما فهم ـ، فيذكر إن الإسلام "جاء أوّلاً لتفكيك العصبية القبلية التي كانت سائدة عند العرب في الجاهلية، وعندما خلخل الأساس المعرفي القيمي التي تقوم عليه العصبية الجاهلية؛ قام بتجذير أساس قيمي جديد قوامه { أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وهي نقلة نوعية متطورة ـ كما يقول ـ على طريق أنسنة(!) العلاقات في المجتمع العربي على أنقاض العصبية القبلية وما شاكلها من مقومات الطائفية(!)، ولأنّ القرآن كنص مؤسس لاجتماع جديد لا يستطيع وفقاً لقوانين الاجتماع البشري من جهة، ووفقاً لحركته ضمن جدلية التأثر بالواقع والتأثير فيه أن ينقل مجتمعاً غارقاً في قبليته كالمجتمع العربي القديم من أقصى قيمة سلبية ـ كما هي العصبية القبلية ـ إلى أقصى قيمة إيجابية ـ كما هي الإنسانية المطلقة فقد بدأ باستبدال الأخوة التي تقوم على العصبية القبلية بالأخوّة التي تقوم على الرابطة العقدية من جنس { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، ومن جنس: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ولكنها ليست تجسيداً نهائياً لأنموذج العلاقة التي يجب أن تحتذيها المجتمعات، بل إنّها لا تعدو أن تكون خطوة على طريق الأنسنة الشاملة ليس إلا، يؤيّد ذلك قوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وأيضاً {يا أيها الناس إنا خلقناكم من نفس واحدة }(1) " انتهى كلامه بنصّه، وهو كلام في غاية الخطورة والجهل والجرأة على النصوص الشرعية، حيث جعل النصّ المكيّ المتقدّم ناسخاً للنصّ المدني المتأخّر، وهذا لا يصحّ شرعاً ولا عقلاً، بل هو دليل على غاية الجهل والعبث بالنصوص الشرعية، لتقرير النزعة الإنسانية في مقابل الأخوة الإيمانية والرابطة العقدية التي يصنفها هذا الجاهل بأنّها من ضروب الطائفية(!!!).
وفي هذا السياق يقول أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية ـ موضحاً ولكن بعبارات تمويهية في مقال له بعنوان: ( ما بعد الكائن النمطي ) الرياض: 13499: " فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدّم سؤال الهويّة ـ أيّة هويّة ـ على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان "، فهو يرى أنّ إثبات الهوية، ـ ويؤكد ذلك بقوله: (أية هوية) حتى تشمل الهوية الإسلامية والسلفية على وجه الخصوص كما نص على ذلك في بقية مقاله ـ يكون على حساب الإنسان!! وهذه ـ عنده ـ بداية ما يسميه بالتنميط بإيديولوجيا الهوية، أي أن يكون للمسلم هوية وعقيدة تميّزه عن غيره، فذلك عنده يعني نهاية الإنسان..
ويؤكّد ذلك بقوله: " المجتمعات المحافظة ـ والمنتجة للأصولية بالضرورة ـ مجتمعات نمطية يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. ".. فمن هي يا ترى هذه المجتمعات المحافظة والمنتجة للأصولية بالضرورة؟! وماذا يقصد بالأصولية؟ لا شك أنّه يقصد مجتمعنا السعودي المحافظ، بعقيدته السلفية الأصيلة، ومرجعيته المعتبرة، وقد أوضح ذلك فيما بعد من مقاله هذا بمن وصفهم بـ " رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الأيديولوجيا المحلية " وزعم أن هذه الرموز أصبحت ـ بعد الانفتاح الإعلامي الهائل ـ فضيحة إعلامية بعد أن وضعت على المحكّ في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها ـ وانتصر عليها في الماضي ـ بالأدلجة وبتجهيل الجماهير لا بالحوار المعرفي الجاد.. وهكذا تصبح رموز الحداثة المارقة رموزاً معرفية(!!)، أمّا الرموز الإسلامية بمرجعيتها الشرعية المعتبرة فهي تنميطية مؤدلِجة مجهلّة للجماهير !!!(14/373)
وفي مقال آخر له بعنوان: ( تأملات في الغضب الإسلامي ) الرياض: 13744، وذلك في أعقاب استهزاء الدنمارك بالرسول الكريم يقول: " يخيّل إليك ـ أحياناً ـ أنّ بعض أطياف الإسلامويّة(!) مبتهجة بالحدث لما تراه من تقاطع كثير من الأصوات الغاضبة مع شعاراتها، وإذا كنا لا بد أن نغضب ـ مهما استخدم غضبنا لغير ما نأمل ونريد؛ فإننا لا بد أن نكون حذرين غاية الحذر في لغة الإدانة التي نختارها، كيلا نسهم في الحشد والتجييش لفصائل ليست من خياراتنا الحضارية(!)، بل تقف ـ من خلال مجمل مضامينها ـ على الضد من المنحى الإنساني الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرّر الإنساني(!) ".. فهو لم ينس خصومه الذي ينعتهم استهزاء بالإسلامويين حتى في هذه النازلة الكارثية التي لم يسبق أن اجتمع المسلمون اليوم جميعا مثل اجتماعهم عليها ، كما لا ينسى أن يبشّر بمشروعهم التغريبي ذي المنحى الإنساني(!) الذي تجتمع عليه قوى التقدّم والتحرر الإنساني، في مقابل قوى التقليد والظلام والإرهاب والتأسلم والتخلف والتوحش والانغلاق والتطرف، وهي الأوصاف الذي أسبغها كما سبق على السلفية وكل ما تقاطع معها من الحركات الإسلامية ولو من بعيد. أمّا قوى التقدّم والتحرّر الإنساني عنده فهي القوى الحاملة للواء الحداثة ـ لا بوصفها منهجاً أدبياً فقط ـ كما يصفها في مقال له بعنوان: (المرأة والحداثة ) الرياض: 13457: فيقول: " نزل خطاب الحداثة إلى الواقع كخطاب نهضة واعدة، نهضة تتمركز حول الإنسان(!)، وتعنى بكل ما تقاطع مع البعد الإنساني، من مساواة(!) وتحرير، وديمقراطية.. الخ، وهذا الإنساني في خطاب الحداثة يعني ـ بالضرورة ـ أنه خطاب مهموم بالمسألة النسوية بوصفها إشكالاً يلازم المجتمعات التقليدية التي تسعى الحداثة لتقويضها(!!!) "، فهو يصرّح بأنّ الحداثة تسعى إلى تقويض المجتمعات التي يصفها بالتقليدية، ويريد بذلك ـ كما تدل عليه سائر مقالاته ـ المجتمعات المسلمة المحافظة، وخاصّة السلفية منها كمجتمعنا، لكن هؤلاء الكتّاب على عادتهم لا يجرؤن على التصريح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.
وفي مقال له بعنوان: ( إشكالية العنف الفلسطيني الإسرائيلي ) الرياض: 13401، يكثر من العزف على هذا الوتر ـ وتر الإنسانية ـ فهو يقرّر أوّلاً أنّ الصراع بين الطرفين ليس صراعاً عقدياً، ويَسِمُ من يعتقد ذلك بأنّه متطرّف: يقول: " المتطرّفون من هنا (العرب والمسلمون ) ، ومن هناك ( الإسرائيليون ) يفترضون الصراع الدائر الآن صراعاً عقائدياً، لا مجرّد وقائع سياسية تقوم على دعاوى عقائدية ".. ولم يحدثنا الكاتب عن سبب اختيار اليهود لدولة فلسطين ( أرض الميعاد ) دون غيرها من بقاع الأرض، ولا عن هيكل سليمان ـ عليه السلام ـ الذي يراد بناؤه على أنقاض المسجد الأقصى، فكل ذلك في نظره ليس شأناً عقائدياً، والحقيقة أنّ اليهود أنفسهم هم الذين ألقوا في روع المسلمين أنّ هذا الصراع ليس عقائدياً ليأمنوا جيشان العقيدة في نفوس المسلمين، وليعزلوا الفلسطينيين المسلمين عن باقي المسلمين!
ثم يهزأ بالأحاديث الشريفة التي تُحدّث عن نهاية هذا الصراع، ومنها الحديث الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة t أن رسول ا صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر وراءه اليهودي: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله ) ولعلّ هذا الحديث لا تقبله عقولهم المريضة لأنّ فيه نطق الحجر، وهذا أمر مخالف للعقل عندهم، فيقول: " إنّهم يرونه صراعاً لا في لحظته الراهنة فحسب، وإنّما هو كذلك منذ البداية وحتى النهاية "..!!(14/374)
ثم يبدأ العزف على وتر الإنسانية ساخراً ببعض النصوص الأخرى التي تفصّل في هذا الصراع، فيقول: " النهاية عقائدية كما يراها مَن هنا ومَن هناك، وهي ذات ملامح تفصيلية في ضمير الغيب الآتي، ملامح تلتهم إمكانيات الرؤية الواقعية الآنية، وتحدد خيارات الحوار(!) والحراك. إنّها رؤية إيمانية قطعية عند كلا الطرفين ومن ثم يصعب الحلّ تحت هذا السقف أو ذاك، فلا خيار للإنسان.. يتم تصوّر ما هو كائن وما سيكون بواسطة تفكير غيبي يلغي الفاعلية الإنسانية أو يكاد، ويؤطّر ما بقي منها لينتهي في مضمار الإلغاء.."، وهكذا يساوي بين الرؤية الإيمانية القطعية عند الطرفين، فلا فرق عنده بين ما يعتقده المسلمون حسب نصوص الكتاب والسنة التي تكفّل الله بحفظها، وبين ما يعتقده اليهود حسب نصوص توراتهم المحرّفة، ثم هو لا يفرّق أيضاً بين الفلسطيني المسلم صاحب الحقّ والأرض المغتصبة، وبين اليهودي الكافر المحتلّ الذي يمارس أبشع أنواع الإرهاب ضدّ الفلسطيني المسلم الأعزل، بل يرى أن لا ثوابت في هذه القضية أصلاً في ميدان الفعل السياسي، فيقول: " إنّ لدى الفلسطيني ثوابت! كما أنّ لدى الإسرائيلي ثوابت. وثوابت هذا تتناقض ـ واقعياً ـ مع ثوابت ذاك، لكنها ثوابت في التصور لا في الواقع، لأن الواقع ـ وهو ميدان الفعل السياسي ـ لا ثوابت له، ومن هنا فأية جراحة فكرية إنسانية لبنية التصور، كفيلة بأن تمهد للحل السلمي ، ليس الواقع صلداً كما يتصوّره كثير منا، أو كما يريدونه أن يكون، بل هو مفتوح على كافة الاحتمالات، شرط أن تتفتح لها الأذهان!!! ".
وبعد أن ساوى بين الطرفين، أخذ يتباكى على ضحايا هذا الصراع، ولو كانوا من اليهود الغاصبين المحتلين، ويصفهم بالأبرياء عازفاً على وتر الإنسانية، مع أنّ الشعب اليهودي كلّه مجند ضد الفلسطيني المسلم صاحب الأرض، يقول: " للأسف نحن لم ننظر إلى العنف نظرة محايدة، بوصفه ظاهرة لا إنسانية، تطال الإنسان، أيّاً كان هذا الإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً. ضحايا العنف في معظم الأحيان من الأبرياء(!!!) وحتى ما سوى ذلك، فإنه يبقي خلفه مآسي تطال أبرياء لا محالة. يجب ألا يغيب عن الوعي أن لهؤلاء وهؤلاء أمهات وأبناء وأزواج وأحباب تكاد قلوبهم تتفطر حزناً وألماً بعد كل مشهد من مشاهد العنف، تلك المشاهد التي ليست مقصورة على طرف دون آخر. هل انغرس في وعينا أن الإنسان هو الإنسان على هذا الطرف من أطراف الصراع أو ذاك، مهما حاول أحدهما قصر الإنساني عليه ؟! ما لم يكن هناك إحساس عميق ومشترك بالمأساة التي تطال الإنسان من كلا الطرفين؛ فستبقى دائرة العنف اللا إنسانية تدور رحاها دون توقف ".
ولم يفته في هذا المقام أن يعرض بحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ـ على عادته في لمز كل ما هو إسلامي ـ، فيقول: " لا شك أن الأيديولوجيا حاضرة بقوة في هذا العنف المتبادل(!)، بدليل أن العنف في طرفي الصراع يصدر بالدرجة الأولى من المحاضن الأيديولوجية، وكلما تضخمت الأيديولوجيا زادت حدة العنف، زادت فعلاً وتهديداً "..
ثم ينكر على المثقفين على امتداد العالم العربي والإسلامي الوقوف مع المقاومة الفلسطينية وتأييدها فيقول: " تزداد المسألة قتامة حين نرى الطلائع الثقافية والفكرية على امتداد العالم العربي والإسلامي تبارك هذا العنف(!) بل وتهتف له، إلا فيما ندر مما يعدّ نشازاً في سياق العنف الذي تباركه جماعات اليقين(!) ، بل أصبح هذا الصوت النادر ـ المنطوي على تصورات إنسانية ـ موضع اتهام وتخوين ".. وصدق من قال: كاد المريب أن يقول خذوني!! أمّا جماعات اليقين التي يسخر منها فهي الواثقة بوعد الله بقتل اليهود ونطق الحجر والشجر لصالح المسلمين كما صحّت بذلك الأخبار، وليسمّ الكاتب ذلك ما يسميه، فإن وعد الله آت لا مرية فيه... هذا وإنّ مما يلاحظ في مقال هذا الكاتب ـ مع طوله ـ أنّه لم يصف المحتل بالوصف الشرعي الذي وصفه الله به وهو اليهودي، وإنّما يصفه بالإسرائيلي، ولذلك دلالته العقدية التي تدل على فكر هذا الكاتب، ونظرته العلمانية ( الإنسانية ) لهذا الصراع التي أفصح عن شيء منها في هذا المقال.
بل إنّ هذا الكاتب نفسه كتب مقالاً بعنوان: ( المستقبل لهذا الإنسان ) الرياض: 13779، وهو يريد بهذا العنوان ـ عن خبث وإلحاد ـ معارضة كتاب سيّد قطب ـ رحمه الله ـ ( المستقبل لهذا الدين )، فانظر كيف جعل الإنسان بدلاً من الدين، بناء على ما قرّروه من تقديم الأخوّة الإنسانيّة على الأخوّة الإيمانية الدينية، وقد انتهى في هذا المقال إلى أنّ الإيمان بالإنسان ـ لا بالدين والعقيدة ـ هو المنتصر دائمًا(!!!).(14/375)
وأخطر ممّا سبق وأشدّ وضوحاً ما سطّره أحدهم ـ وكان تكفيرياً ثم تحوّل بمقدار 180درجة إلى مرجيء غالٍ ـ في مقال له بعنوان: ( كثيراً من الإنسانية قليلاً من الرهبانية ) الرياض: 12928: يقول وهو يقرر مذهب الإرجاء: " إنّ الله يكفيه منّا أن نحمل الشعلة في قلوبنا، أن نكون دائماً على أهبّة الاستعداد للعكوف بمحرابه لنقدّم شيئاً ( لعياله ) لعباده، فهو غنيّ عن عبادتنا(!)".. فهو يزعم ـ مفترياً على الله ـ أنّ مجرّد حمل الإيمان في القلب كاف عند الله، دون الإتيان بالشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وصيام وحج.. الخ
ويؤكّد ذلك فيقول: " الرسو صلى الله عليه وسلم يذكر أنّ رجلاً دخل الجنّة لم يعمل خيراً ولا حسنة في حياته، وارتكب الكثير من الذنوب، ومع ذلك دخل الجنّة، لأنّهم وجدوا له بطاقة يعلن فيها صادقاً مخلصاً عن حبّه له وإيمان به: ( لا إله إلا الله ) ".. هذه هو فهمه لكلمة ( لا إله إلا الله )، وتالله لقد كان أبو جهل ومشركو قريش أعلم منه بهذه الكلمة، فلو أنّ مجرّد الإيمان بها في القلب كاف في دخول الجنّة، لما وقفت قريش بخيلها ورجلها في وجه رسول ا صلى الله عليه وسلم ، ولقالتها وظلت على شركها وطقوسها، ثم كيف يكون المرء صادقاً مخلصاً وهو لم يعمل بمقتضى هذه الكلمة، إلا أن يكون قد منعه مانع، أو حال بينه وبين العمل حائل، كمن أسلم ثم مات قبل أن يعمل ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل الحديث المذكور، أمّا أن يطلق هذا الحكم، فهو أمر في غاية الخطورة، إذ فيه ترغيب للناس على ترك فرائض الإسلام من صلاة وصيام والاكتفاء بمجرد ترديد هذه الكلمة دون عمل، وهذا هو مذهب الإرجاء..
ثم يختم حديثه ـ وهذا هو الشاهد ـ فيقول: " لتعلموا أنّ ديناً لا يسعى لسعادة الإنسان لحفظ مصالحه الحقيقية، ليس إلا وبالاً، وتذكروا قول النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم (إنّ هدم الكعبة أهون عند الله من سفك دم مؤمن) كلّ المؤمنين من كلّ الأديان: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً..}، الإيمان عندي هو كثير من الإنسانية، قليل من الرهبانية، ربما يكون لحياتنا طعم آخر ".. ولا شكّ أنّ الدين الذي لا يسعى لسعادة الإنسان فهو وبال، ولكن ما الحل إذا رفض الإنسان هذا الدين، وأصرّ على دين باطل منسوخ محرّف يسعى لشقائه؟ ويبدو أنّ عدوى التحريف قد انتقلت إلى الكاتب نفسه فحرّف الحديث الشريف، كما حرّف معنى الآية الكريمة.. فأمّا الحديث فلفظه الصحيح: ".. أهون عند الله من سفك دم مسلم "، والكاتب حرّفها إلى ( مؤمن ) لتشمل جميع المؤمنين بزعمه من الأديان الأخرى ممّن أدرك النبيّ الخاتم، ثمّ راح يؤكّد تحريفه مستشهداً بالآية الشريفة التي لم يفهم معناها الصحيح، فإنّ المقصود بها من آمن بالله من الطوائف المذكورة في زمن نبيّهم قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم،وليس بعد البعثة، وسبب نزول الآية يبيّن معناها، فقد نزلت في أصحاب سلمان الفارسي t، فإنّه لما قدم على رسول ا صلى الله عليه وسلم جعل يخبر عن عبادة أصحابه واجتهادهم وقال: يا رسول الله، كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك ويشهدون أنّك تبعث نبياً، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال رسول ا صلى الله عليه وسلم : " يا سلمان، هم من أهل النار "، فأنزل الله: {إنّ الذين آمنوا والذين هادوا..} وتلا إلى قوله: { ولا هم يحزنون }. (أسباب النزول للواحدي ص 13 )، فتبين من سبب النزول أنّ الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قبل مبعث النبيّ، كانوا يؤمنون بمبعثه، ويشهدون أنّه رسول من عند الله، لكنّهم لم يدركوه، فأين هؤلاء من قوم أدركوا بعثته، بل راحوا يسخرون من صلى الله عليه وسلم ، ويصورونه في رسوم ساخرة بأنّه إرهابي، أو امرأة، ويتواطئون على ذلك غير مبالين بمشاعر الملايين من أتباعه؟!!!
أمّا مرجعيّة هذه الإنسانية عندهم، فيبيّنها أحدهم ـ وهو مقيم في لندن(!) ـ في مقال له بعنوان تفوح منه رائحة العلمنة والسخرية وهو: ( الإسلام السياسي وتجديد الأحكام السلطانية ) الوطن: 1188، يقول: " إنّ الأخذ بالمفاهيم الإنسانيّة يجب أن يكون على أساس عقلي في المقام الأوّل، بعيداً عن كلّ الاعتبارات المتعلّقة بالنصوص(!) " وليس هذا التأصيل بغريب عليهم إذا كانوا يطمحون إلى إحلال الإنسانية محلّ الرابطة الدينية، وتحطيم عقيدة الولاء والبراء.
السمة الخامسة
ـ وهي لب مشروعهم الذي يبشرون به ـ:
الدعوة إلى علمنة الحياة
وإقصاء الدين بحيث لا يكون له أي سلطان على مناحي الحياة المختلفة، ومن هذا المنطلق فإنّهم يهزؤون من فكرة أسلمة العلوم ـ أي صبغها بالصبغة الإسلامية بعد تنقيتها من الشوائب الكفرية والإلحادية ـ، ويقللون جداً من شأن الإعجاز العلمي في الكتاب والسنّة، ويرفضون أن يكون ( الإسلام هو الحلّ )، ويحاربون كل من يرفع هذا الشعار، بل ويفسّرون التاريخ والأحداث بشكل عامّ تفسيراً سياسياً بمعزل عن الدين، وفيما يلي شواهد من أقوالهم على كلّ ما سبق:(14/376)
يقول أحدهم في مقال له تفوح منه رائحة العلمانية بعنوان: ( ممارسة السياسة شأن مدني خالص ) الرياض: 13756: " من نافلة القول أنّ مثل هذه الشمولية لا تختصّ بها قومية معينة، أو دين بعينه، ولكنّ العبرة تكمن في النهاية في قدرة المجتمع من خلال تجاوز مرحلة تزييف وعيه، ومن ثم عبور ذلك الوهم الأيديولوجي عبر الإيمان المطلق بنسبيّة السياسة ووضعيتها، ومن ثم تعرضها للتغير والتبدل وفقاً لقوانين الاجتماع البشري وليس ثباتها المتوهم وفقاً لما يعرف بمفهوم الحقّ الإلهي في الحكم.." فالكاتب هنا يشير أوّلاً إلى ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وأنّ هذا الإقصاء لا يختصّ بدين بعينه، فيشمل حتى الإسلام، فلا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يزعم أنّ ديناً بعينه هو الحلّ(!)، أمّا مفهوم الحقّ الإلهي في الحكم، فيريد به قول الله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ..} فيرى أنّه وهم لا بدّ من تجاوزه(!)، أو على حدّ تعبيره في المقال نفسه: " إنزالها [ إي السياسة ] من السماء إلى الأرض "..
ثم لا يفوته في آخر المقال أن يعرّج على بعض خصومه التقليديين من الإسلاميين، الذين يرفعون شعار ( الإسلام هو الحلّ ) فيسخر منهم بحجج واهية لا تخلو من مغالطات وجهالات، ثم يختم المقال بطامّة كبرى من طاماته فيقول: "ويبقى القول بأنّه لا خيار في مجال السياسة الإسلاميّة إلا استخدام المنطق الذي أعلنه الرسو صلى الله عليه وسلم في وجه مؤسلمي السياسة عندما أعلنها مدويّة بقوله ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) وهو منطق مدني على أيّة حال.. " إنّه ـ لعمر الله ـ عبث بالنصوص، واعتداء على حرمة الدين، ومقام سيد المرسلين، فهل ترك النبيّ r السياسة لغيره واعتكف في مسجده، أم أنّه أقام دولة الإسلام، وجيّش الجيوش، وفتح الفتوح، وساس الأمة، أم أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما صوّره الكاتب يقول خلاف ما يفعل ؟!!، وهل قول صلى الله عليه وسلم " أنتم أعلم بأمور دنياكم " مراد به أمور السياسة وشؤون الأمّة، أم المراد قضية عين في أمر دنيوي خالص لا علاقة له بالسياسة العامّة كما يدل على ذلك سبب الحديث؟.. إنّها مهزلة يجب إيقافها ومحاسبة أصحابها احتراماً لديننا وعقيدتنا..
أمّا المجتمع المدني الذي يدندنون حوله كثيراً، ويعدونه النموذج الأمثل للدولة الحديثة، فيصفه أحدهم ـ وهو متخصّص في الكتابة السياسية ـ في مقال له بعنوان: ( الخطاب الديني هل يستمرّ كعائق في الحرب على الإرهاب ) الوطن: 1160، بأنّه: " مجتمع مدني رحب، ليس هناك مساحة لأوصاف من قبيل: ( كافر )، أو ( مبتدع )، أو ( علماني )، أو غير ذلك(!).."، هذا هو المجتمع المدني الذي يريدونه، والذي لا يقوم إلا على أنقاض التوحيد، وعقيدة الولاء والبراء التي وصفها النبيّ r بأنّها أوثق عرى الإيمان، وكأنّهم لم يقرأوا قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }، ولكنّ هؤلاء القوم لا يعقلون، وإن كانوا يدّعون العقلانية.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية 1/398: " قيل لعمر بن الخطاب t إن ههنا غلاماً من أهل الحيرة ( أي نصراني ) حافظ كاتب فلو اتخذته كاتباً، فقال: قد اتخذتُ إذاً بطانة من دون المؤمنين.." قال ابن كثير رحمه الله: " ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين واطّلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ".. هذه في مجرد الكتابة، فكيف بغيرها من شؤون الدولة ؟!! وهو أيضاً في الذمي الذي يدفع الجزية وهو صاغر، فكيف بمن يرى أنّه مساو لك في جميع الحقوق والواجبات في ظل مجتمعهم المدني المزعوم.
وفي سياق العلمنة يقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( الحالة الدينية في السعودية.. ) الوطن: 1139: وهو يتحدث عن التفجيرات الأخيرة " هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال الدين(!) نعم، ولكن الذنب هذه المرة هو التطرّف الديني والغلو المتضخم(!) في ثقافة المجتمع. الذنب هو في القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلّها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية، والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة "، إنّ إقحام الدين ـ حسب تعبيره ـ في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة المارقة ذنب عند هذا الكاتب، وهكذا تصبح العلمنة وإقصاء الدين عن شؤون الحياة حسنة يُدعى إليها.(14/377)
ويقول آخر ـ وهو أشدّهم تطرّفاً وبذاءة ـ في مقال له بعنوان: ( الإرهاب من الفكر الخارجي إلى السلوك القرمطي ) الرياض: 13436: " ليس صحيحاً ما يروّج له الإسلامويّ(!) من أنّ الزجّ بالدين في كلّ صغيرة وكبيرة هو عنوان التدين الحقيقي، أو أنّ ممارسه والمتحمّس له من أفراد المجتمع هو الأكثر تديّناً من غيره ".. إلى أن يقول: " تحييد الديني في الوقائع المدنية(!) التي ليس فيها حكم شرعي صريح، أمر ضروري لئلا تمنح القداسة إلا للديني الخالص الذي نصّ عليه الشرع الحنيف..".. أنّها علمنة خفية، تتدثر بلباس العلمية، ولو أنّا أخذنا بقول هذا الكاتب، واقتصرنا على ما فيه نصّ صريح، لما بقي لنا من ديننا إلا القليل، وهذا ما يريده أهل العلمنة.. وإنّ من المعروف لدى صغار طلبة العلم، أنّ الشريعة جاءت بكليات تندرج تحتها جميع الجزئيات، فلم ينصّ الله تعالى على كل جزئية بعينها، إذ إنّ ذلك يطول ولا يكاد ينتهي، مع ما يستجدّ من الجزئيات التي لم تكن قد وجدت عند نزول النصّ، ومهمة العالم أن يرجع هذه الجزئيات إلى كلياتها، ليبين حكمها، وما من قضية ولا مسألة إلا وفي كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم بيان لها، إمّا بالنصّ الصريح، وإمّا بالتلميح من خلال الكليات المذكورة، قال تعالى : { ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }، وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً }.
ويقول الكاتب نفسه في مقال له بعنوان: ( ما بعد الأيديولوجيا.. العقد الاجتماعي ) الرياض: 13702 بعد أن شتم السلفيّة أو ما أسماه بالوعي السلفي(!): " لا بدّ من التأكيد على مدنية حراكنا الاجتماعي، وأنّ العقد الذي يجب الالتفاف حوله هو العقد الاجتماعي المدني الذي يضمن التساوي في الحقوق والواجبات، لا طائفية، ولا مذهبية ولا مناطقية ولا جنسوية... لا بدّ أن ينغرس في أعماق كل مواطن أن الجميع متساوون جميعاً دون تعنصر من أي نوع، ولكل بعد ذلك خصوصياته التي يراها ويختارها، دون فرضها على الآخرين، ودون الإخلال بمبدأ المساواة المقدّس ".. فالكاتب يريد مجتمعاً بلا هوية ولا دين، يريد دولة لا دين لها، ولا فرق فيها بين المسلم والكافر ـ كما صرح بذلك غيره من أصحاب هذا الفكر ـ، ولا فرق فيها بين الموحّد والمشرك، وصاحب السنة وصاحب البدعة، بل لا فرق فيها بين الرجل والمرأة كما صرّح بذلك بقوله: " وخاصة التمييز الجنسي ضد المرأة في أي صورة كان ". ويضيف إلى ذلك ( المناطقية ) ليعزف على وتر حسّاس يثير الطائفية التي يحذر منها..
ثم يقول بعد ذلك: " لأجل ذلك؛ يجب أن تكون الخصوصية ـ أيّاً كان نوعها ـ بعد ذلك المقدّس وليس قبله، وإلا بقينا رهن صراع لا ينتهي.. لا بد أن يدرك المؤدلج أنّ العقد الاجتماعي المدني لا يمنحه أكثر من حريّة إبداء الرأي ( المؤدّب ) في سلوك الآخر، وبعد ذلك فليس على أحد بمسيطر ".. فالمقدس لديه هو هذا العقد الاجتماعي العلماني المزعوم، أمّا الدين والتوحيد فليس ذلك بمقدّس عنده، وإنّما هو مجرّد خصوصية تخص كل فرد على حدة، وليته يخبرنا ما الذي جعل رسول الهدى r يعاني في مكة وأصحابه ثلاثة عشر عاماً، ويصبرون على البطش والأذى والتعذيب والتشريد، وقد عرضت قريش عليه كلّ ما يريد مقابل تخلّيه عن دينه وعقيدته ودعوته، والتعايش السلمي معهم، مع الكف عن عيب آلهتهم، فيأبى حتى يقيم دولة الإسلام والتوحيد في المدينة، ومن ثم يعلن الجهاد على المشركين لرفع راية التوحيد خفّاقة، وإزالة كل مظهر من مظاهر الشرك، ولم يكتف بذلك بل يجهّز قبل وفاته جيشاً ضخماً لمحاربة الروم في الشام، وإخضاعهم لدين الله الحقّ ؟!.. سيقول هذا الكاتب وأمثاله: إنّ الزمن تغيّر، ولم يعد دين الرسول الكريم صالحاً لهذا الزمن، وهذه هي الطامة الكبرى والفجيعة العظمى التي حلّت ببعض أبنائنا، ليعتنقوا هذا الفكر المنحرف..
أمّا قوله: ( حرية إبداء الرأي المؤدب(!))، فذلك واضح جداً في أدبه الجم مع خصومه السلفيين والسلفية خاصة، فهو لم يترك شتيمة إلا رماها بها كما سبق ( انظر ص 14 )، فإذا كان هذا هو الأدب الذي يدعو إليه، فعلى الأدب السلام..
وفي هذا السياق نراهم يدافعون عن العلمنة، ويغضبون من ذكرها على سبيل الاتهام، مع أنّهم لا يتورعون عن كيل التهم جزافاً لخصومهم التقليديين ( السلفيين خاصّة والإسلاميين بشكل عام )..(14/378)
يقول أحدهم في مقال له بعنوان: ( العلمانية تهمة جاهزة لكل من اختلف معهم ) الجزيرة: 12022: " لا أدافع عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأنّ العلمانية على اعتبار أنّها ( فصل الدين عن السياسة ) مصطلح ( وافد ) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية وحمولات تاريخية تجعل من تطبيقه على غير المجتمعات ( المسيحية ) أمر لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.."، هكذا ينفي التهمة عن نفسه، وعن زملائه الذين يقررون كثيراً في كتاباتهم ـ كما سبق شيء من ذلك قريباً ـ ضرورة تحييد الديني عن المدني كما يقولون، وهو بهذا التعميم ينطبق عليه المثل القائل ( كاد المريب أن يقول خذوني).
ويقول آخر في مقال له بعنوان: ( الإسلاميون والمشاركة السياسية.. الحزب المسيحي الديمقراطي الألماني ) الوطن: : " أثناء وجودي في ألمانيا الشهر الماضي كان على مقربة من جامعة أيرلنجن حيث أتردد: مكتب حزبي للاتحاد المسيحي الديمقراطي الألماني. لقد ترددت بعض الشيء في دخول المقرّ سذاجة مني لتوهمي أنّه يشبه تلك التجمعات الإسلامويّة المتشددة الموجودة في بعض البلاد العربية، المليئة بالكتيبات والأشرطة الصوتية الصاخبة التي تتحدث عن الحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية التي يتبارى نوابها في المطالبة بإيقاف الكاتب فلان، أو محاكمة السياسي علان، أو حتى في أوقات الاستراحة السياسية يتم التصعيد في البرلمان ضد راقصة أو مغنية بحجّة حماية الأخلاق ومراقبة الذوق العام.." ثم راح بعد ذلك يكيل الثناء لذلك الحزب النصراني الكافر، ويصفه بالحزب الناجح، ويدافع عن تسميته بالحزب المسيحي ( نسبة إلى المسيح u ) في دولة تدعي العلمانية ...!!!! إلى آخر ما ذكر.. ويلاحظ في ما نقلته من هذا المقال سخريته من إخوانه المسلمين المحتسبين الذين يتحدثون عن قضايا شرعية كالحكم بغير ما أنزل الله، وعفن العلمانية، والمطالبة بإيقاف الكتّاب المنحرفين ومحاكمتهم، ومحاربة العفن الفني من رقص وغناء ماجن.. كلّ ذلك يسخر منه الكاتب، ويعدّه تشدداً، فهذا هو مفهوم التشدد عندهم، في الوقت الذي يثني فيه على حزب نصراني زاره للمرّة الأولى، فراح يكيل له عبارات الثناء.. إنّها قلوب مريضة، غطتها ظلمات الشهوات والشبهات، فلم تعد ترى الأشياء على حقيقتها، نعوذ بالله من الخذلان.
أمّا تفسير الأحداث التاريخية والصراعات العقدية تفسيراً سياسياً ( علمانياً ) فهو ديدنهم للتقليل من شأن الدين والعقيدة، وقد كتب أحدهم مقالاً بعنوان: ( خدعوك فقالوا نجد والشرك !! ) الرياض: 1423، قرر فيه بصفاقة عجيبة أنّ دعوة الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إنما كانت صراعاً مريراً حول السلطة والسياسة، وليست ضد الدين. حيث كانت الحالة الأمنية قبل قيام الدولة السعودية ـ كما يزعم ـ تعيش في تأزم وتناحر وتصارع وقد وحُدت بحمده تعالى تحت كيان واحد. بينما كانت الحالة الدينية على مذهب أهل السنة والجماعة ولم يدخل نجداً ما ذكر عنها ابن غنام وغيره من وجود الخرافات والشركيات المنتشرة في جنباتها..!!! هذا ملخّص ما ذكره.وهكذا بجرّة قلم يبطل هذا الأفّاك الأثيم كلّ جهود الشيخ في محاربة الشرك ومظاهره التي كانت منتشرة في نجد، ورسائل الشيخ تنضح بالكثير من هذه الجهود التي يراها الأعمى قبل البصير، لكن هؤلاء عميت بصائرهم، مع سلامة أبصارهم إلا إذا كان يتهم الشيخ بالكذب فتلك طامة آخرى أعظم وأطم.. ثم إنّ السياسة جزء لا يتجزأ من الدين كما سبق، فالفصل بينهما كالفصل بين الروح والجسد، لكنّ هؤلاء المتعلمنين لا يفقهون.
ولم يسلم من هذا التفسير العلماني السقيم حتى إئمّة السلف، فبمثل هذا التفسير فسّروا فتنة خلق القرآن التي تعرّض لها أئمّة السلف وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، حيث ذكروا أنّ الأمر لا يعدوا أن يكون صراعاً سياسياً محضاً بين أهل الحديث وأهل الاعتزال على السلطة، وليس للدين ولا للعقيدة شأن بهذا الصراع إلا من باب ذرّ الرماد في العيون كما يزعمون.. المهم عندهم ألا يكون للدين ولا للعقيدة سلطان على الحياة، لأنّ ذلك يزعجهم كثيراً، وهذا هو الذي يسعى إليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى لإخماد جذوة الإيمان والعقيدة في نفوس المسلمين، ومن ثم يسهل التغلّب عليهم واختراقهم، وما هذه الفئة المارقة إلا بمثابة الطابور الخامس لهؤلاء الأعداء كما سبق، كفانا الله شرّهم.
وأختم الحديث عن هذه السمة بطامة أخرى أتى بها أحدهم ـ وهو كاتب له روايات أفتى عدد من علمائنا بكفر ما في بعضها ـ، يقرر هذا الكاتب في مقال له بعنوان: ( من خطاب التدمير إلى خطاب التعمير ) الشرق الأوسط: 8952 ، أنّ: " منطق الدولة الحديثة متناقض مع منطق الدين " ثم يوضح ذلك قائلاً: " منطق الدولة محدود ومحدد، ومنطق الدين هو المطلق ذاته، وتأتي الكارثة للدولة والدين معاً حين محاولة الدمج بين منطقين لا يلتقيان، وهنا تكمن معضلة الإسلامويّة(!) المعاصرة وجوداً لا عقلاً .."..(14/379)
وعلى الرغم من العلمنة الواضحة فيما ذكر، مع الجهل الفاضح بدين الإسلام وحقيقته؛ إلا أنّه يحاول أن ينفي هذه التهمة عن نفسه على طريقة ( كاد المريب أن يقول خذوني ) فيقول: " قد يقول قائل هنا: إذن فهي دعوة للعلمانية!، والحقيقة أنّ القضية لا علاقة لها بعلمانية أو أصوليّة إذا كانت الغاية هي البحث عن جواب يخرجنا من المأزق أو المآزق التي نحن فيها .." وهكذا بكل بساطة ينفي التهمة الساطعة كالشمس عن نفسه إذ الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة هي الإساءة إلى ديننا وانتقاصه، والافتراء على نبينا صلى الله عليه وسلمليرضى عنّا أعداؤنا !!.
السمة السادسة:
الإعجاب بمن يسمّونه ( الآخر )
وحبّه، وكيل الثناء عليه بغير حساب، والدعوة إلى احتذائه حتى في ثقافته وأخلاقه، ويريدون بالآخر في الغالب: الغربي الكافر صاحب الحضارة الماديّة، والعقل الفلسفي، وهذا الإعجاب نتاج طبعي للهزيمة النفسيّة، والصدمة الحضارية التي أصابتهم، وعقدة النقص التي تلازم قلوبهم المظلمة الممتلئة بالشهوات والشبهات، ونحن لسنا ضدّ الاستفادة من علوم الآخرين فيما لا يتعارض مع ديننا وعقيدتنا، لكنّ هؤلاء فهموا الحضارة فهماً ناقصاً مغلوطاً، فاختزلوها في صناعة طائرة أو سيارة أو صاروخ، أو أيّ آله من الآلات الحديثة، أو في بناء ناطحات سحاب، أو تقدم طبي أو تقني، وكلّها أمور مادية يمكن لأيّ أمّة وأيّ شعب اللحاق بها والوصول إليها إذا تهيأت له الظروف المناسبة، وسلم من هيمنة هذا الآخر وجبروته وكيده..
إنّ الحضارة الحقيقية هي التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الروحي والأخلاقي، وهذا الأخير هو ما تفتقده الحضارة الغربية المعاصرة التي بلغت الحضيض في تردّي الأخلاق وموت الروح، فهي كما وصفها سيد قطب رحمه الله: كطائر ضخم، أحد جناحيه كبير يرفرف في السماء، والآخر مهيض كسير لا يكاد يقوى على الحركة، فماذا سيكون حاله سوى التخبط وإيذاء من حوله، وهذا هو حال الحضارة الغربية اليوم حيث إنّها ـ مع ما فيها من الجوانب الإيجابية المضيئة ـ نشرت الخراب والدمار، ونشرت معه أسوأ الأخلاق من تفسخ وعري وفساد أخلاقي.
وليس الغرب ملوماً في إقصاء الدين عن الحياة، فقد كان الدين الذي يدينون به محرّفاً، يحارب التقدّم المادي النافع، ويقتل المبدعين والنابغين في العلوم الطبيعية التي لا تتعارض مع ثوابت الدين الصحيح، ولذا فإنّه لا خلاص للبشرية اليوم، ولا سبيل لها إلى الوصول إلى الحضارة الحقّة المكتملة التي تجمع بين التقدّم المادي التقني، والسمو الأخلاقي والروحي إلا بأن تعتنق هذا الدين الحقّ ( الإسلام ) الذي تكفّل الله بحفظ مصادره، وجعله الدين الوحيد الذي لا يُقبل سواه، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[ آل عمران: 85].(14/380)
وفي هذا السياق يحاول أحدهم بجهل فاضح أن يؤصّل لهذه المسألة تأصيلاً شرعياً(!!)، فيزعم في مقال له بعنوان ( المقاومة الفكرية للإرهاب ) الرياض: 13561، أنّ الأصل في الولاء والبراء " موالاة ( الكافر ) المسالم الموادع مهما كانت ديانته"، وفي مقال آخر له بعنوان: ( فلسفة الولاء والبراء في الإسلام ) الرياض: 13546، أتى بما هو أطم، فيقول: " والرسول صلى الله عليه وسلم عندما أرسل صحابته الأول إبان الفترة المكية إلى الحبشة اتقاء لشر قريش قال لهم إنّ فيها ـ يعني الحبشة ـ ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولم يبرر إرساله لصحابته بإسلام المجتمع الحبشي بدليل أن ذلك المجتمع ظل حتى وفاة النجاشي نصرانياً خالصاً مما يؤكد(!) أن الولاء حين ينصب على العلاقة مع الآخر فهو يدشن لموالاة المسالم والبراءة من المعتدي بغض النظر عما يدين الله به وهذه العلاقة السلمية ـ الأهلية منها والدولية ـ المبنية على الولاء للمسالم والبراء من المعتدي منظمة بشكل واضح لا لبس فيه في القرآن الكريم إذ يقول تعالى في الآية الثامنة من سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، وهي إشارة إلى موالاة الآخر(!) المسالم الملتزم بشروط العلاقة السلمية ببرّه والقسط إليه.. " إلى أن يقول: " هذا هو المسار الصحيح(!) لمفهوم الولاء والبراء المتكيف مع أصول الإسلام وغاياته العظام(!) " إلى آخر ما ذكر، وأنا أتحدّى هذا الكاتب وغيره أن يأتي بنص واحد من كتاب الله أو سنة رسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى موالاة الكفار أياً كانوا، بل إن نصوص الكتاب والسنة تحذر من موالاة الكفار بإطلاق كما في قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }[آل عمران:28]، وقوله في سياق الحديث عن المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }[النساء:144]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[المائدة:51]، بل في السورة نفسها التي استشهد الكاتب بآية منها قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }[الممتحنة:4]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وذلك أنّ مقتضى الموالاة: المحبة والنصرة، وذلك لا يصدر من مؤمن لكافر على الإطلاق، وإنّما الذي أذن الله فيه تجاه الكافر المسالم: البر والعدل كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الممتحنة:8]، ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد أخرج البخاري عن أسماء بنت أبي بكر y، قالت: أتتني أمي راغبة، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ قال: " نعم " فأنزل الله فيها: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ }. فإذا كان للمسلم أب كافر أو قريب أو جار ونحو ذلك، ولم يكن محارباً، فلا حرج على المسلم أن يحسن إليه ويبره ولا يظلمه، لكن أن يحبه وينصره أو يفضله على إخوانه المسلمين مهما كانوا عاصين، فذلك خلل عقدي عظيم، وهذا هو حال هذه الفئة الضالة، كما سبق قريباً من تفضيل أحدهم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني على من أسماهم تهكماً بـ (الإسلامويين ) المتشددين الذين يتحدثون عن عفن العلمانية، ويطالبون بمحاكمة الكتّاب المنحرفين فكرياً !!!.
ثم هل الكافر الذي ( يوالونه ) الآن مسالم حقّاً، أم أنّّه يقتل المسلمين بالأسلحة المحرمة دولياً، ويسخر من نبي الإسلام في رسوم سخيفة ماجنة ؟؟؟؟؟، بل ويهين المصحف في معتقلات غير شرعية ولا قانونية.. فأين عقول هؤلاء؟!!!.(14/381)
وبمناسبة ذكر الآخر ( الكافر ) يلاحظ في مقال هذا الكاتب الذي امتد من أعلى الصفحة إلى أسفلها بما يزيد عن نصف المتر أنّه لم يذكر لفظ ( الكافر ) بتاتاً بناء على مذهبهم في ضرورة التخلي عن هذا المصطلح الشرعي الأصيل الذي امتلأ به القرآن والسنة، والعدول عنه إلى ألفاظ مثل: ( الآخر )، و ( غير المسلم )، وما شابه ذلك حتى لا يغضب هذا الآخر، بل بعضهم (يتوّرع ) عن اعتقاد كفر اليهود والنصارى، ويعدهم مؤمنين و(إخوة) لنا في الإنسانية(!)، كما مر سابقاً.
أمّا قضية النجاشي، والهجرة إلى الحبشة، فلا علاقة لها بموضوع الولاء والبراء. وذكرها في هذا المقام من الخلط العجيب، فإنّ المسلم إذا لم يتمكن من إظهار دينه في بلد فله أن يهاجر إلى بلد آخر يتمكن فيه من إظهار دينه، وهذا قبل أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشرع الله، فإذا قامت الدولة فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، كما قال الصادق المصدوق r ، فما علاقة ذلك بالولاء والبراء ؟!!.
ويقول آخر ـ وهو من أصحاب التحولات الإنفراجية ـ في مقال له في غاية السذاجة بعنوان: ( نحن وأمريكا والديموقراطية ) الشرق الأوسط: 9212 مدافعاً عن الآخر الكافر: ".. الغرب حينما يدعم الديموقراطية، ويفكر في وضع هذا الجزء من العالم، فليس ذلك من قبيل التبشير أو الاهتداء بروح الأم تيريزا، قدر أنها مصلحة غربية جوهرية تكمن في إنقاذ الشرق الأوسط المتعثر(!!!) "، وعلى الرغم من أن الآخر النصراني ممثلاً في زعيمه صرّح بأنّ الحرب على العالم الإسلامي حرب صليبية، إلا أنّ هؤلاء ( العقلانيين ) لا يزالون أشدّ إخلاصاً للآخر من الآخر نفسه، حيث يعدونه في سذاجة واضحة (جبهة إنقاذ) للشرق المتعثر!!!!.
ولم يكتف هذا الكاتب بالثناء على ( الآخر ) وديمقراطيته المزعومة، بل راح ينتقص دينه الحق ( الإسلام ) ومبدأ الشورى المذكور في القرآن، يقول: " طُرحت فكرة الشورى كبديل أصيل عن الديموقراطية، ولكن اتّضح(!) أنها تختلف اختلافاً فلسفياً ومفارقاً للديموقراطية، فرفضت من الإسلاميين الأصلاء(!)، والليبراليين الخلصاء(!)، أمّا الأخيرون فبحجة أنّ الشورى أبعد ما تكون عن العقد الاجتماعي والمشاركة الشعبية الواسعة، فهي ليست إلا تدبير أهل الحلّ والعقد، وهم طبقة ضيقة من كبار القوم والملأ.." إلى آخر ما ذكر.
السمة السابعة
الجهل
فعلى الرغم من أنّهم أشدّ الناس تعالماً وادّعاءً لفهم النصوص ومقاصد الشريعة، ورميهم العلماء وطلاب العلم السلفيين بالضدّ من ذلك!!؛ إلا أنّهم أكثر الناس جهلاً بالنصوص وبالمقاصد وبالناسخ والمنسوخ والعام والخاصّ والمطلق والمقيّد من نصوص الشريعة، كما تشهد بذلك كتاباتهم، والسر في ذلك أنّ معظمهم ليسوا من أهل التخصّص الشرعي، فإذا انضاف إلى ذلك الهوى وتمكن الشبهات من قلوبهم؛ كانت الطامة أكبر، وفيما يلي بعض الأمثلة على جهلهم بالنصوص الشرعيّة:
1. في مقال لأحدهم بعنوان: ( الذين يجلدون المختلفين معهم في الرأي بإطلاق التهم) الرياض: 13698، يقول: " أُعطي الرسو صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وهي ميزة خصّه الله تعالى بها من بين سائر الأنبياء والمرسلين u، فهو r يقول الكلمة أو اللفظة الواحدة لتكون جامعة لمعاني ومتطلبات موضوع بأكمله، ومن بين ما أخبر ب صلى الله عليه وسلم في ألفاظ قصيرة، لكنّها حملت معاني عظاماً، قول صلى الله عليه وسلم : ( الدين المعاملة ).. ".. ثمّ بنى مقاله على ما زعم أنّه حديث، وجزم بنسبته إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم !! وهو ليس بحديث، وإن اشتهر على ألسنة العامّة، بل إنّ معناه في غاية البطلان لمن تأمّله بعقل منضبط بالشرع، لا بعقل منفلت كعقول هؤلاء الزاعمين بأنّهم عقلانيون، فإنّ مقتضى هذا الحديث المزعوم أنّ الكافر إذا كان حسن المعاملة فهو مسلم ومتدين، والمسلم إذا كان سيء المعاملة ليس بمسلم، لأنّ المقصود بالدين هنا هو الإسلام كما قال تعالى: { إن ّالدين عند الله الإسلام }، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الإيمان، عن عائشة t قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان؛ كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال: " لا ينفعه. إنّه لم يقل يوماً: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين ". فلم ينفعه حسن خلقه، وإحسانه للناس مع كفره.(14/382)
2. وفي مقال آخر بعنوان فضائي: ( الحوار الوطني: سيرة وانفتحت ) الرياض: 13702، يقول الكاتب نفسه: " من غير المجدي وفقاً لمعطيات العمران البشري أن تقسر شخصاً على رؤية معينة، لمجرّد أنّك تعتقد بصوابها، فهذا الآخر الذي تودّ قسره على رؤيتك يملك من الأدلّة والطرائق الحكمية(!) ما يستطيع بها نفي صوابية ما تعتقده حتى وإن كنت لا تؤمن بمرجعيته الدلالية بنفس الوقت الذي لا يعترف فيه هو أيضاً بمرجعيتك في استنباط أدلة تصويبك لرؤيتك، وإذا كان الله تعالى يأمر نبيّه الكريم بأن يعتزل مقام مشركي قريش حين يخوضون في آيات الله تعالى حتى يصرفوا حديثهم إلى جانب آخر، ولم يأمره بحربهم أو قسرهم على رؤيته ممثلاً بقوله تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره... } أفلا نترك نحن غيرنا أحراراً ...".. فاستدلاله بهذه الآية في غاية البطلان، ودليل على جهله الفاضح ـ أو تجاهله ـ لنصوص الشريعة، والمراحل التي مرّت بها الدعوة، فماذا يصنع هذا الكاتب بمثل قوله تعالى في سورة التوبة: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد.. }، وقوله في السورة نفسها: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }، وقول صلى الله عليه وسلم :" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله.. " الحديث، وقوله: " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحقّ أطراً " أي تقسروهم عليه قسراً، يعني العصاة، فضلاً عن المبتدعة.. وليس في دين الله تعارض، ولكنّ الواجب أن تنزل النصوص منازلها، فاعتزال المشركين كان في العهد المكي، وأما آيات القتال والأطر على الحقّ ففي العهد المدني، وبهذا يتبين جهل هؤلاء بمدلولات النصوص مجتمعة، فكيف يؤتمنون على توجيه الناس في صحف سيّارة !!!!!.
3. وفي مقال بعنوان: ( هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة ؟) الجزيرة: 11980، كتب أحدهم ـ وهو وللأسف الشديد من سلالة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله !!! ـ مقللاً من شأن الحضارة الإسلامية يقول: " الثقافة الإسلامية ثقافة فقه ولغة، وليست ثقافة كشف واختراع وابتكار على مستوى المنجزات الدنيوية.." إلى أن يقول: " وهذا ما نلحظه بوضوح من خلال القراءة لكبار العلماء الدينيين المسلمين، فالإمام ابن تيمية رحمه الله ـ مثلاً ـ اتّخذ موقفاً مناهضاً بشدّة لعلم الكيمياء.." إلى آخر ما ذكر، وهو دليل على جهل فاضح، لأنّه ظن أنّ الكيمياء التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي الكيمياء المعروفة اليوم، وليس الأمر كذلك، فالكيمياء التي ذكرها شيخ الإسلام نوع من الغشّ، وصناعة ذهب مغشوش يشبه الذهب الذي خلقه الله، وبيعه على الناس على أنّه ذهب خالص، ولذا قال الشيخ رحمه الله: " وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً، ولهذا لا يُظهرون للناس إذا عاملوهم أنّ هذا من الكيمياء، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم.. " إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
4. وفي مقال بعنوان: ( فلا يلومنّ إلا نفسه.. فلسفة جديدة ) الوطن: 1173، كتب أحدهم ـ وهو طبيب يكثر من الحديث عن الدين والعبث بالآيات ـ كتب بعد أن ساق الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي) يقول: " وما يدفعني إلى سرد هذا الحديث فكرة التمعت في ذهني أن أفعل ما فعله النووي، فهذا الرجل جمع أربعين حديثاً اشتهرت باسمه، وهي رياض الصالحين..".. وهذا جهل فاضح، فهو يظن لجهله أنّ كتيب الأربعين النووية الصغير، هو نفسه كتاب رياض الصالحين المجلّد الضخم، وكلاهما للإمام النووي رحمه الله، وصغار طلاب العلم يعرفون الفرق بينهما.
5. وفي مقال بعنوان ( ذكريات غير صحوية وحديث عن الثبات والتحوّل ) الرياض: 12722، كتب أحدهم منظرّاً ـ وكان من هواة التكفير والتفجير ثم أصبح من غلاة المرجئة ـ يقول: " وقد نسمع أحياناً وصف الآخرين بالفسق أيضاً. وفي القرآن الكريم لم يأت وصف الفسق إلا في حقّ الكفّار والمشركين كما في سورة السجدة، غير أنها في فترة متأخّرة جرى التوسّع في استخدام لفظ الفاسق على المسلم الذي يأتي بعض المخالفات الشرعية..".. وهذا جهل فاضح، وجرأة على كلام الله تعالى، وقد يعجب هذا الكاتب إذا علم أنّ وصف الفسق جاء في القرآن الكريم في حقّ أحد أصحاب رسول ا صلى الله عليه وسلم وهو الوليد بن عقبة t، كما في قوله تعالى في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }، وذلك باتّفاق المفسّرين. ولكنّ الجهل داء لا دواء له.(14/383)
6. وفي نفس المقال يقول هذا الكاتب: " لبس جوارب اليدين أصبح اليوم دلالة على عفّة المرأة، وشدّة تديّنها، في وقت سابق لم تكن النساء تعرف ذلك.. " وهذا من جهله، فقد كان هذا معروفاً في زمن النبوّة، فقد صحّ عن صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين "، ففيه دليل بيّن على أنّ الصحابيات كن يلبسن القفازين لكمال الستر، وإنّما نهين عن ذلك وقت الإحرام.
هذا غيض من فيض من جهلهم بالنصوص الشرعيّة، وكيفية تعاملهم معها، ومع كلام الأئمة، ولو ذهبت أستقصي جهلهم، من خلال كتاباتهم لطال بي الأمر..
والعجيب أنّهم على الرغم من جهلهم الواضح الذي سبق الكثير منه؛ إلا أنّهم يزعمون أنّهم أكثر فهماً للإسلام ممّن شابت لحاهم في تعلّم العلم الشرعي، ومزاحمة العلماء بالركب، بل أكثر فهماً للإسلام حتى من العلماء الكبار، مع أنّ جلّ أصحاب هذا الفكر قد عاشوا ردحاً من الزمن في بلاد الغرب لتعلّم تخصّصات غير شرعية قد تكون مفيدة في مجالها لكنها لا تؤهل صاحبها للحديث عن الأمور الشرعية الدقيقة.. وفي هذا السياق كتب أحدهم ـ وهو رئيس تحرير إحدى صحفهم ـ في مقال له بعنوان: ( الأسهم تقول إنّهم أقليّة محدودة ) الرياض: 13770 يقول: " نحن جميعاً مسلمون.. بل إنّ معظم الليبراليين هم أكثر فهماً للإسلام وسعياً لحلّ مشاكله وتقديمه بصورته الحضارية للعالم الأجنبي..!! " قال ذلك في أعقاب تصدي بعض العلماء له في محاضرة أقيمت في فعاليات معرض الكتاب الدولي بالرياض.. والليبراليون يعني بهم نفسه وزمرته.
بل إنّ أحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ كتب مقالاً بعنوان: ( الجهل كخطاب: مقاربة أولية لنماذج وصور واقعية !! ) الرياض: 14136، رمى فيه جامعاتنا الإسلامية بأنّها معاقل لتفريخ الجهل وإنتاجه، يقول: " إن هذا يتم في نطاق المؤسسات العلمية، أو التي تدعي ذلك، حيث يتم استيراد آليات البحث العلمي، بل أحدثها، ووضعها في خدمة خطاب الجهل. وجراء ذلك، تعتمد الأطروحات، وتناقش في أجواء تشي بالعلمية، بينما هي تستخدم في تعزيز مستوى أعلى وأشد تعقيداً من الجهل الذي لا بد من تفكيكه من زوايا كثيرة، ليس أقلها كشف زيف ادعاء العلمية )!!! ".
وكان سبب هذا الهجوم وهذا التجهيل الجماعي لمؤسساتنا العلمية، أنّ بعض الأساتذة الغيورين حذّر من بعض الكتب المنحرفة فكرياً، وطالب بمنعها في معرض الكتاب وغيره، حيث يقول الكاتب: " لم نستطع أن نفهم كيف ينادي أستاذ جامعي، قضى عقوداً من عمره في القراءة، بضرورة منع هذا الكتاب أو ذاك. لن نستطيع أن نفهم؛ كيف يسمح له ضميره (العلمي!) بمصادرة حق الآخرين في الاختيار القرائي، ما لم نع أن بنيته الذهنية - رغم جامعيتها وقرائيتها - تكونت عبر خطاب الجهل. يحدث هذا، بينما رجل الشارع الذي ليس لديه أدنى اهتمام قرائي، يفتح فاه متعجبا، كيف يكون الكتاب محظوراً، وكيف تكون المعرفة محرمة!. وهذا دليل على أن رجل الشارع أقل جهلاً من ذلك المشتبك منذ عقود مع خطاب الجهل )!!! " وهكذا يجعل رجل الشارع مقياساً للحكم، ولا أدري كيف يصنع بحديث عمر الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ لمّا رأى معه النبيّ صلى الله عليه وسلم كتاباً أصابه من بعض أهل الكتاب، قال له مغضباً: "أمتهوّكون فيها يا ابن الخطّاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. "، أخرجه أحمد وغيره وهو حسن بشواهده، فإذا كان هذا مع عمر الفاروق الذي أجرى الله الحقّ على لسانه؛ فكيف بغيره من الشباب والمراهقين ومن ليس عنده حصانة شرعية كافية!! .
وسيأتي المزيد حول هذه المسألة في مبحث خاص بإذن الله تعالى.
السمة الثامنة:
تنزيل الآيات التي جاءت في حقّ الكفرة من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، على خصومهم المؤمنين من العلماء والدعاة وطلبة العلم:(14/384)
وقد سلك هذا المسلك أشدّهم تطرّفاً وحقداً على السلفية، ففي مقال له بعنوان: (التفكير وإشكالية الوصاية ) الرياض: 13065، شتم فيه السلفية عدة شتائم، يقول: " إنّ ما نراه في الخطاب التقليدي ـ السائد ثقافياً على المستوى الشعبوي(!) خاصّة ـ من محاولة التقليدية البلهاء ـ المتلبّسة بصيانة الأعراف والتقاليد و.. الخ ـ فرض الوصاية على أعين الناس، وعلى آذانهم، وألسنتهم وأقلامهم ليس بدعاً في سلوك المنظومة التقليدية أياً كانت طبيعتها، فهي ـ دائماً ـ تسعى لتعطيل هذه الحواس التي هي نوافذ العقل، ومنها يستمد العقل مادته وتجتهد في لتقنيتها في أتباعها بفرض الوصاية عليها ليصبح الناس ـ إذا تعطلت لديهم فاعلية هذه الحواس ومن ثم تعطل العقل ـ كالأنعام بل هم أضل وهذه الحال شعر الأيديولوجي التقليدي أو لم يشعر منتهى الأماني لديه ". فهو يرى أن تحصين الناس من الأفكار المضللة، وحمايتهم منها، ضرب من ضروب الوصاية، ويرى أن ترك الناس بلا تحصين كافٍ ليعتنقوا مثل أفكاره المنحرفة التي يدعو إليها، ويدافع عنها، لذا فهو يرى أنّ : " مفردات من نوع ( الإرشاد/ التوجيه/ الرعاية الفكرية/ الأمن الفكري/ التحصين ضد الأفكار الهدامة/ مروجي الشبهات/ التغريب/ البرامج الهابطة/ العهر الفضائي ) " مفردات تستخدمها الثقافة التقليدية ( السلفية ) في وقوفها ضد الفكر الحديث ( يعني فكره العفن ) وصدق والله، فهو تحصين ضد الأفكار الهدامة ومروجي الشبهات من أمثاله، وهذا هو سر عدائه للسلفية..
والشاهد هنا من مقاله تنزيل الآية التي وردت في الكفار وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[الأعراف:179]، وقد أنزلها في الناس السلفيين الذين يفرض عليهم السلفي ( التقليدي ) ـ كما يزعم هذا الكاتب ـ وصايته، وسيأتي المزيد من الحديث عن الوصاية لاحقاً بإذن الله تعالى..
وفي مقال له بعنوان: ( واحذرهم أن يفتنوك ) الرياض: 13128، وهو جزء من آية في سورة المائدة، نزلت في اليهود وأذنابهم من المنافقين، وقد أنزلها في خصومه السلفيين، في مقال شتم فيه السلفية على عادته، وقد سبق الحديث عن هذا المقال..
وفي مقال له بعنوان: ( من صور التطرف والاعتدال ) الرياض: 13282، سخر فيه من بعض مناصحيه من السلفيين، إضافة إلى شتم السلفية، والثناء على رموز التغريب؛ لم يكتف بآية واحدة، بل ثنّى بآيتين، إحداهما قوله تعالى: {اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[البقرة:15]، اقتصر على آخرها، وقد أنزلها في ما يراه ضحايا للمدرسة السلفية، وأطلق عليهم ( الأبرياء المذنبون ) حيث يجري توظيفهم من حيث لا يشعرون(!)، يقول: " في الغالب لا يكون التوظيف مباشراً ومقصوداً، بل تفعل المنظومة التي يجري الترويج لها فعلها بقوة الدفع الذاتي فيها، دون أن يشعر بنوها أنهم في طغيانهم يعمهون "(!).
ثم يختم مقاله باتهام الناصح له بالتكفير فضلاً عن بذيء السباب(!)، على الرغم من أنه في هذا المقال يصف الصحوة الإسلامية بالمتأسلمة أو ما أسماه بـ ( تيارات التأسلم ) و(تيار الجمود والارتياب )، وهي تهمة تعني عدم الإسلام الحقيقي.
أما السباب؛ فقد ضمّن مقاله هذا عدداً لا بأس به من الشتائم للسلفية، إضافة إلى تهم الإرهاب وغيره، فضلاً عما في سائر مقالاته من السباب البذيء ليس للأشخاص فحسب، بل للمذهب والمعتقد، وبعد أن اتهم ناصحه بالتكفير والإرهاب(!) راح ينزل عليه آية نزلت في المنافقين، يقول: " أَتَذَكّر كل هذا وأقول: صدق الله العظيم القائل: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }[التوبة:57 ] "، وهكذا يرمي كل من اختلف معه تارة بالآيات التي نزلت في الكفار، وتارة بالآيات التي نزلت في المنافقين، ثم يرميهم بتهم التكفير والإرهاب(!!!!)، فأي إرهاب فكري أعظم من هذا الإرهاب.
وفي مقال له بعنوان: ( ما بعد المعركة الخاسرة ) الرياض: 13303، شتم فيه السلفية على عادته، وتشفّى مما حدث في الفلّوجة من قتل ودمار، وسبب هذا التشفّي أنّ الفلّوجة تعدّ معقل السلفيّة في العراق، ثمّ أنزل عليهم آية نزلت في المنافقين بأسلوب تهكّمي ساخر، يقول: " انتهت معركة الفلّوجة، معركة خاسرة بلا ريب، انتهت معركة. ومعارك أخرى غيرها على صورتها ( صورة طبق الأصل ) في الانتظار ما دامت بيانات الحماس الديني والقومي تشعل أوارها، ومؤتمرات الأحزاب الحالمة تنفخ فيها بالكثير من غبائها التاريخي المجيد!. الإسلاموي(!) والقومي كلاهما نسي التاريخ خاصّة إذا ما كان تاريخ هزائم وعبر، مع أنّه تاريخ ليس بالبعيد، إنهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذكّرون "(!!)، وهذه آية من سورة التوبة نزلت في المنافقين.(14/385)
وفي مقال له بعنوان: ( الاتصال والانفصال بين الديني والمدني ) الرياض: 13324، تفوح منه رائحة العلمنة، يذكر فيه إشكالية العلاقة بين الديني والمدني عنده هو، وعلى عادته في شتم خصومه وتنزيل الآيات التي في الكفار عليهم، يقول: " حلُّ الإشكال يتمّ من خلال الوعي بدرجة تعقيده، لا بتبسيطه أو تجاهله في سبيل الأدلجة الماكرة بأصحابها قبل أن تمكر بغيرهم، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وهذه آية من سورة إبراهيم نزلت في المشركين !!!.
وفي مقال له بعنوان: ( المرأة من الأيديولوجيا إلى الإنسان ) الرياض: 13758، وعلى عادته قام بشتم السلفية، وعدّها ( الخصم الأيديولوجي الشرس ) للمرأة، ثمّ أنزل عليها آية نزلت في حقّ الكفار، يقول: " قبل استفحال الأيديولوجيا المتأسلمة ( ويعني بها الصحوة الإسلامية المباركة ) كانت المجتمعات على براءتها الأولى ( يعني الجهل والغفلة ) صحيح أنها كانت محكومة بأعراف وتقاليد تحدّ من حريّة الإنسان، وترسم له كثيراً من الخطوط التي قد لا يرضاها، لكنّها ـ على كلّ حال ـ كانت بريئة من الارتياب الذي يقود إلى التزمّت(!) وإلى خلق مسارات للمجتمع ما أنزل الله بها من سلطان [ ليته ذكر بعض هذه المسارات ] وليست إلا من اتباع الظنّ، والظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً "..
وهكذا يشبّه هذه الصحوة المباركة التي قامت برعاية علمائنا الكبار من أمثال الإمام عبد العزيز ابن باز والعلامة محمّد العثيمين وغيرهما من الأموات والأحياء؛ بحال المشركين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَى * وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }[ النجم: 27، 28 ]، ألا يعدّ هذا ضرباً من ضروب التكفير، أو في أقل الأحوال: التضليل الذي ينهون عنه من أجل إقامة مجتمعهم المدني المزعوم؟!!!.
والعجيب أنّ أحدهم كتب مقالاً في الجريدة نفسها بعنوان: ( الشيخ السعدي وميتافيزقيا اللغة ) الرياض: 13058، اتهم فيه الشيخ العلامة المفسّر عبد الرحمن ابن ناصر السعديّ ـ رحمه الله ـ بإنزال الآيات الواردة في أذى المشركين والكفار للمؤمنين الصالحين، على قومه الذين ثاروا عليه وآذوه، وعدّ الكاتب ذلك معضلة، وأنّ الشيخ ـ رحمه الله ـ أخطأ طريق الإصلاح(!!!).. أمّا عنوان كتاب الشيخ السعديّ الذي انتقده هذا الكاتب النكرة فهو: ( الإيضاحات السلفية لبعض المنكرات والخرافات الوثنية المنتشرة في قضاء الظفير )، ويلاحظ من خلال هذا العنوان أنّ القوم الذين أنزل الشيخ السعدي عليهم الآيات ذوو خرافات وثنية، أي أنّهم أهل شرك وخرافة، ولو أنّ هذا الكاتب بدلاً من التنقيب في كتب الأئمّة الأعلام، واتّهامهم بما هم منه براء؛ نظر إلى كتابات زميله في الصحيفة الذي نقلتُ بعض مقالاته آنفاً، وهو يقوم في القرن الحادي والعشرين بتنزيل الآيات التي نزلت في الكفّار والمنافقين على المختلفين معه من أصحاب العقيدة السلفية؛ لو أنّه نظر إلى هذه الكتابات، لوجد فيها ضالّته التي أراد إنكارها، إن كان هذا هو مراده حقّاً، لكنّه عمي عن الجذع في عينه وعين زميله البذيء، وأبصر الذرة في عين غيره، بل أبصر الوهم، فيا لله العجب كيف يفكّر هؤلاء، وكيف يحكمون !!.
والأعجب من ذلك أنّ الكاتب الأوّل نفسه في مقال له بعنوان ( الوحدة الاستراتيجية في التحالف الإرهابي ) الرياض: 13856، اتّهم بعض علمائنا الأجلاء بأنّهم ينزلون الآيات التي نزلت في المنافقين على أناس يعترفون بأنّهم أبناء مجتمعنا(!!) ثمّ يقول: " نسمع ونقرأ مثل هذا، ثمّ نسأل من أين يأتي التكفير.."، وهو الذي ما فتىء في مقالات كثيرة ينزل الآيات التي نزلت في المشركين واليهود على هؤلاء العلماء الأجلاء وغيرهم من عامّة السلفيين، فالحمد لله الذي جعله يحكم على نفسه بأنّه تكفيريّ جلد، بل خارجيّ كما ذكر في مقال له بعنوان ( بيانات التطرّف وبيان الاعتدال ) الرياض: 13863، بأنّ هذه الصفة من صفات الخوارج المارقين، ولا شكّ بأنّ هذه الفئة الليبرالية الاعتزالية الضالّة، خارجة مارقة عن جماعة المسلمين في هذا البلد السلفي الأمين.
السمة التاسعة:
عدم قبول النصيحة، والسخرية من الناصحين، وبغضهم، والتشهير بهم
بل وصلت الوقاحة بأحدهم ـ وهو أشدّهم تطرّفاً ـ إلى التندّر بأشكالهم وخَلْقهم الذي هو خلق الله ـ عزّ وجلّ ـ!!(14/386)
ففي مقال له بعنوان: ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13282 ذكر فيه صورًا عدّة لمن ناصحوه، فسخر في إحداها من رجل فاضل حذّره من عميل الفكر الغربيّ طه حسين ( أعمى البصر والبصيرة ). وفي صورة أخرى سخر فيها من قريب له ناصحه(!) ـ وهو شيخ فاضل وأستاذ في العقيدة ـ بل أظهر الرحمة والشفقة عليه(!) لأنّه كما يقول: " ضحيّة ثلاثين عامًا من الاشتغال على الصراع العقديّ ". وهكذا يصبح المشتغل بتصحيح العقيدة، وكشف فرق الضلال ضحيّة، ولا أدري ضحيّة ماذا؟!! ثمّ واصل سخريته باتّهام شيخ العقيدة بالتكفير، وبذيء السباب، وهو الذي ما فتىء يسب ويشتم السلفية وأئمّة السلف في صحيفة سيّارة!!
ثمّ يواصل في الجزء الثاني من مقاله ( من صور التطرّف والاعتدال ) الرياض: 13289 السخرية من الناصحين فيذكر قصّته مع أستاذ العقيدة في جامعته الذي زاره في البيت لمناصحته، وأطال عنده الجلوس، وهو لم يقرأ كتاباته ـ الرواية من طرف واحد ـ، إلى أن قال: " ولولا رقّة في أخلاقه، وسماحة تندى بها ملامحه ( لم تكن سماحة، وإنّما كانت بلادة وبلهًا وخمولاً ) لطردته غير آبه.. "، بهذه البذاءة يصف علنًا من جاء يناصحه سرًا ويحذّره من كتاباته البذيئة، وأفكاره المنحرفة.
ولم يكتف بذلك، بل واصل سخريته واستهزاءه ذاكرًا أنّ اللقاء استمرّ ساعات طويلة، وصف ما تمّ فيها بأنّه " من الهراء الميّت الذي لا طعم ولا رائحة له، ولم يكن للكلام من دور فيها إلا تحسين العلاقات الثنائية بين الطرفين عاطفيّاً لا فكريًا..".
ثمّ يضيف ساخرًا ـ وما أقبحها من سخرية ـ: " وكنت في تلك الأثناء وأنا أنظر إليه، لا أستمع إليه، بقدر ما أتأمّل مقدار ما تحمله تلك العيون الخاملة، والأهداب الذابلة، والجفون المسترخية، من معاني الغباء والبلادة والخمول التي تكاد لكثافتها أن تمتدّ بعدواها إلى متأمّلها، بل والجماد حولها "!!!! فهل ثمّة بذاءة ووقاحة أعظم من هذه البذاءة والوقاحة، وفي صحيفة سيّارة؟ لا أظنّ.
ثمّ ختم هذه الصورة باتّهام هذا الأستاذ الناصح بالتكفير، وهي تهمة جاهزة لكلّ من أقدم على نصح هذا الكاتب، وتحذيره من مغبّة ما يكتب، ومن أمن العقوبة، أساء الأدب.
وفي مقال ساخر لأحدهم بعنوان ( حرّاس الله !! ) الوطن: 293، ـ والسخرية بادية من العنوان ـ سخر فيه من أحد مناصحيه، بعد أن نشر هذا الكاتب النصيحة على الملأ، ثمّ عقّب على هذه النصيحة قائلاً بسخرية سمجة سخيفة: " يا رب ليس لنا إلا أنت، نحتمي بك سبحانك من ( حرّاسك )..".
وعلى عادتهم في قلب الحقائق والتلبيس على الناس وإلقاء التهم جزافاً، فقد اتّهم مناصحه بالحكم على نواياه وما في قلبه قائلاً: " ولكنّ ( حرّاسك ) يؤذون قلوبنا حين يدّعون معرفة ما فيها، وكأنّهم أنت والعياذ بالله ممّا يصفون.. "، مع العلم بأنّ هذا الكاتب قد كتب عدّة مقالات تهجّم فيها على المحاكم الشرعيّة، وسخر فيها من الحجاب!! والناس ليس لهم إلا الظاهر، أمّا ما في القلوب فعلمه عند الله تعالى.
وفي مقال لأحدهم بعنوان: ( الفرق بين العادة والعبادة ) الرياض: 13883، سخر فيه من شابّ ناصحه، يقول هذا الكاتب: " بينما كنت أيمّم وجهي شطر باب المسجد هامًّا بالخروج منه بعد انقضاء إحدى الصلوات؛ اندفع إليّ شابّ حدث لا يكاد يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وبدأ في إبداء نصائحه لي تجاه ما يراه أخطاء وقعت بها أثناء قضاء ما فاتني من الصلاة، وهي في الحقيقة لم تكن أخطاء بقدر ما صوّرت له ذهنيته الآحاديّة أنّها كذلك..". وهكذا نجد أنّ التهم عند هؤلاء جاهزة لإلصاقها بالناصحين، فبدلاً من تقبّل النصيحة بصدر رحب، وشكر الناصحين عليها، نراهم يسخرون منهم علنًا في صحف سيّارة، ويرمونهم بالتهم الجائرة. وحتى لو كان هذا الناصح مخطئاً أو مستعجلاً، كان الواجب تشجيعه على هذه الروح الناصحة، المشفقة على الغير، وتعليمه الطريقة المثلى للنصح، بدلاً من السخرية به، وكيل التهم له، انتصارًا للنفس.
السمة العاشرة:
التناقض الصارخ فيما يأمرون به وينهون عنه
وهو نتاج طبعي للتخبط، واختلال المنهج، والبعد عن منهج الحقّ، فكلمّا كان المرء قريباً من منهج الحقّ؛ كان أقلّ تناقضاً في أقواله وأفعاله، والعكس صحيح: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[ النساء: 82].
ومن ذلك:(14/387)
1. أنّهم ينهون عن التضليل والتبديع والتفسيق، وهم يفعلون ذلك، فيبدّعون العلماء والدعاة وطلاب العلم الذين هم على منهج السلف، وقد كتب أحدهم مقالاً نشره في أحد مواقع الأنترنت المشبوهة، وتواطأت الصحف المحليّة على نشره، وكان عنوان المقال (الصحوية والصحويون!! ) الجزيرة: 12318، شكّك فيه بالصحوة الإسلامية المباركة، وضمّنه الكثير من المغالطات والافتراءات والتهم والنقولات المبتسرة، وفاحت منه رائحة العلمنة، خلص فيه إلى ما نصّه: " ممّا تقدّم يتّضح لنا بجلاء أنّ الصحوة هي التي فجّرت منابع الإرهاب، وأنّ أدلجة المذهب السنّي أدلجة سياسية محضة هي قلب الصحوة النابض، وأنّ فكرة التنظيم - الكهنوت هو الوسيلة، وهو أسّ البلاد، وأنّ استثمار قضايا المرأة السعوديّة هو استثمار سياسي بحت، وأنّ مذهب أهل السنّة والجماعة شيء، والصحوة في جوهرها وأهدافها شيء آخر ".
وهكذا بجرّة قلم يحكم الكاتب الصحفيّ(!) على قطاع كبير من مجتمعنا يمثّل الأغلبيّة من العلماء والدعاة والصالحين ومن يثق بهم من سائر أبناء مجتمعنا، وهم عامّة الناس، بل على مجموعات كبيرة في العالم أجمع تفتخر بانتمائها إلى هذه الصحوة ولله الحمد، يحكم عليهم بأنّهم ليسوا على مذهب أهل السنّة والجماعة، وإنّما هم شيء آخر، أي ضلاّل مبتدعة، ولعمر الله إنّ هذا لشيء عجيب، وقلب واضح للحقائق المبينة، فالذين ينافحون عن مذهب أهل السنّة والجماعة وسلف الأمّة أصبحوا اليوم ليسوا من أهل السنّة والجماعة، أمّا الذين يطعنون في مذهب أهل السّنّة والجماعة وسلف الأمّة كابن تيمية الذي قال عنه هذا الكاتب ـ كذباً وزوراً ـ إنّه يحرّم الكيمياء المعروفة اليوم(!) والذين يبالغون في الثناء على الغرب، فهم الهداة المهتدون، وهم أهل السنّة عند هذا الكاتب، فأيّ تناقض بعد هذا التناقض.
2.
البحث لما يكتمل.....
(1) صواب الآية: ( يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة.. ) [ النساء: 1 ].
===================(14/388)
(14/389)
تركيا تتخبط في سياستها
الإسلام اليوم / طه عودة /اسطنبول 19/2/1424
21/04/2003
ركزت الصحافة التركية الأسبوع الماضي على العديد من القضايا المهمة، منها التحركات الدبلوماسية التركية للمشاركة في إعمار العراق، والتأكيدات الأمريكية التي حصلت عليها تركيا حول استقرار الأوضاع في مدينة كركوك، بالإضافة إلى الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي إلى أنقرة، والتصريحات الحادة التي أطلقها، الأمر الذي دفع وزير الخارجية التركي للتأكيد على حصر الحرب في العراق فقط، وعدم شمولها لدول أخرى مثل سوريا.
والآن جاء دور سوريا
وعن التهديدات الأمريكية بضرب سوريا بمباركة إسرائيلية، والموقف التركي من ذلك، يقول الكاتب الصحفي (عاصم أسيالي) من صحيفة (يني آسيا) الإسلامية:" عدول وزير الخارجية التركي عبد الله غول عن الزيارة التي كان يخطط لها منذ أسابيع إلى سوريا بناء على طلب من (كولن باول) الذي زار أنقرة مؤخرا، يوضح الضغوط الخارجية لعزل تركيا عن الترابط مع جيرانها، وإقامة علاقات متينة معهم، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا تنصاع الحكومة التركية لرغبة الدولة الأمريكية التي اجتازت آلاف الكيلومترات من أجل احتلال العراق، بقطع الاتصالات مع جيرانها أمثال سوريا وإيران، رغم عدم وجود أية مشاكل لتركيا مع دول الجوار المسلمة في الوقت الراهن؟. و لماذا يتهرب وزير خارجية حكومة حزب العدالة والتنمية من إقامة الحوارات المقربة مع هذه الدول التي تربطنا بها علاقات تاريخية وثقافية، وحتى التي يعيش فيها معظم أقاربنا ؟!
يا للمفارقات الساخرة! وزير الخارجية التركي يلغي زيارته المخطط لها منذ أسابيع لسوريا، إطاعة لرغبة الولايات المتحدة التي أغرقت العراق بالقنابل، وارتكبت أبشع المذابح فيه، وأباحت النهب والسرقة والإرهاب أمام جواسيسها المستديمة التابعة للطالباني في العراق وشماله، وحرضت على تشتيت العراق وتفرقه، ومقابل ذلك هو يستقبل وزير خارجية دولة إسرائيل الإرهابية التي قتلت -قبل أيام بصواريخها- تسعة عشر فلسطينيا مدنيا، معظمهم من النساء والأطفال وجرحت أكثر من خمسين فلسطينيا، لتماثل بذلك الوحشية التي ارتكبتها أمريكا في العراق، وحكومة حزب العدالة مع وزير خارجيتها تناقش في هذه الزيارة سبل تعزيز العلاقات الإسرائيلية التركية، وبحث المواضيع الإقليمية!.
استطلاعات الرأي العام أثبتت أن 97% من الشعب التركي يرفض أي نوع من الدعم التركي للعدوان الأمريكي على العراق، بمذكرة كان أو غير ذلك، ولكن -مع الأسف- فإن حكومة حزب العدالة التي وصلت -بفضل هذا الشعب إلى الأغلبية المطلقة في البرلمان قبل عدة أشهر- تنكرت للمطالب الشعبية وتجاهلتها. في البداية هي تنتزع قرارا برلمانيا بالسماح لنحو أربعة آلاف جندي أمريكي بالمجيء إلى تركيا بحجة تحديث القواعد والموانئ فيها، ومن ثم تفتح أجواءها أمام الطائرات الأمريكية ومعداتها وجنودها، وهي بذلك تلعب على حبل البرلمان دون الحاجة إلى استصدار مذكرة منه، فتقدم مختلف أنواع الدعم اللوجستي لأمريكا في العراق، حتى وإن كان الثمن -طبقا للقوانين الدولية- هو مشاركتها فعلا في الحرب. بل ذهبت تركيا إلى أبعد من ذلك، وطردت ثلاثة دبلوماسيين عراقيين من أراضيها، دون أن يرتكبوا أي جرم، فقط من أجل استرضاء (كولن باول) وأمريكا، وكأن هناك حربا دائرة بين تركيا والعراق! وبعدها تبدأ الإدارة الأمريكية -من أول بوش إلى أخر دونالد رامسفيلد- بتوجيه أسهم الحرب إلى سوريا، وبما أن الحرب بدأت تطال جارتنا سوريا، فإن وزير الخارجية التركية يتجنب زيارتها ويلغي مواعيده فيها!!.
والسؤال الذي كان ينبغي على تركيا أن تطرحه على الولايات المتحدة: كيف يمكن بعد أسابيع من حملة التنقيب والتفتيش الأمريكية في كل بقعة من أرض العراق، والتي لم تجد فيه الأسلحة المحظورة أن يتم نقلها إلى سوريا؟. ولاسيما أن أمريكا منذ الأسبوع الأول وهي تحاصر العراق من كل جوانبه، حتى أن طائرات الكشف الأمريكية البريطانية نجحت -من خلال الأقمار الصناعية- في تحديد مكان عائلة تتألف من أربعة أشخاص كانت قد هربت من الحرب وبيدها تحمل الراية البيضاء، ورغم ذلك قصفتها تحت حجة الإرهاب، كيف يمكن لهذه الطائرات، ألا ترى وسط الصحراء كبار القادة العراقيين، وهم يهربون إلى سوريا دون أن تقصفهم؟!.
شالوم في أنقرة وغول في عالم التمني ..
من الواضح أن وزير الخارجية السوري (فاروق الشرع) صدق القول عندما أكد أن الولايات المتحدة التي دمرت العراق من أجل نفطه، تبحث الآن عن حجة وأكاذيب لضرب سوريا، الولايات المتحدة تركض وراء حساب ربط الطريق بين العراق والأردن من أجل إقامة الحلم اليهودي الأكبر بالأرض الموعودة التي تمتد من النيل إلى الفرات ودجلة. في البداية العراق ومن ثم سوريا، إيران، السعودية، السودان واليمن وغيرها، وتركيا أرض العثمانيين الإسلامية تراقب بجمود خطط الاحتلال الأمريكية الصهيونية، والمجازر التي ترتكب بحق المسلمين دون أن تحرك ساكنا.(14/390)
أنقرة في معرض ردها على الاتهامات العلنية التي وجهها (شالوم الإسرائيلي) تكتفي بالقول: "يجب أن تكون الحرب محصورة في العراق، وألا تمتد إلى دولة أخرى" ووزير خارجية حزب العدالة والتنمية يقوم بعدها بإلغاء زيارته إلى سوريا !!!.
لا لدمشق .. نعم لشارون !!
أما الكاتب الصحفي (فهمي كورو) من صحيفة (يني شفق) الإسلامية الموالية للحكومة الحالية، فيشير إلى الموقف التركي الحيادي من تطورات الأحداث في المنطقة فيقول:" تركيا منذ مدة طويلة وهي تمارس سياسة تقوم على الإذعان للأمر الواقع "الغربي" في علاقاتها ومباحثاتها مع الدول المسلمة الجارة لها. وفي هذا الإطار، فقد زار كمال خرازي وزير الخارجية الإيرانية أنقرة بهدف تدعيم الرأي الإيراني - التركي في ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية بعد الحرب، وأيضا على ضرورة انتفاع الشعب العراقي كله من مصادر النفط والطاقة في العراق. زيارة خرازي هذه أخرجت ما يسمى "باللوبي الموالي للغرب" داخل تركيا عن صوابه. فبالنسبة لهم، فإن تركيا يجب ألا تقيم أي حوار مع أي دولة جارة باستثناء إسرائيل، بل وحتى يجب ألا تجتمع بها أبدا. ولا سيما أن المديح الذي أغدقه وزير الخارجية الإيراني على تركيا يعتبر بالنسبة لهذا اللوبي فاجعة كبيرة وخطيرة بحد ذاتها، لهذا كان ينبغي على (عبد الله غول) إلغاء زيارته إلى سوريا !!00 ولم تمض فترة طويلة حتى قام غول بإطاعة نصائح ما يسمى "بالصحافة والرأي الحر" والذين هم أصلا موالون لواشنطن وتل أبيب، وفي اليوم التالي أعلنت هذه الصحف انتصارها تحت عنوان "غول استمع إلى تحذيراتنا، وغير رأيه في الذهاب إلى سوريا00 هو لن يذهب" وهم بذلك قد أثبتوا علنا مدى تأثيرهم على حكومة حزب العدالة والتنمية ووزير خارجيتها عبد الله غول. بالنسبة لهذه الزمرة الموالية للغرب في تركيا، فإن ثناء (الخرازي) على أنقرة لا يحمل في مضمونه بشير خير بالنسبة لتركيا، بينما الثناء الإسرائيلي على تركيا هو الخير بعينه، وأيضا بالنسبة لهم فإن تركيا فيما إذا واصلت حواراتها مع سوريا وإيران فإنها ستبتعد عن "المثالية الغربية"، وستعرض نفسها لخطر المواجهة غير السارة مع أمريكا التي تستهدف هذين البلدين حاليا. وردة فعلهم هذه لم تقتصر فقط على هذه الادعاءات، بل أرفقوها بادعاء كاذب: أن بعض الفئة الشعبية التركية ترفض إقامة الحوار بين تركيا وسوريا!! وأي فئة هذه التي تنزعج من تقارب تركيا وسوريا!؟ هل يقصدون بهذه الفئة (اللوبي اليهودي في أمريكا أم الرأي العام الإسرائيلي)؟. ومن سينزعج من تقارب دولتين مسلمتين سوى إسرائيل؟. ومن ثم وهو ما أعجز عن فهمه، لماذا من شأن التقارب التركي السوري أن يبعد تركيا عن الغرب؟. من الواضح أن هذه المراجع الموالية للغرب في تركيا تقصد من وراء "المثالية الغربية" هي القتل الأمريكي - البريطاني للمدنيين والنساء والأطفال وتدمير البيوت والمخازن الغذائية وشبكات المياه والسماح بالنهب والسرقة في العراق، وتشريع المذابح والوحشية في سبيل الحفاظ على النفط والأمن الإسرائيلي في المنطقة، وإلا فإن ألمانيا وفرنسا اللتين تمثلان محورين أساسيين في الاتحاد الأوروبي رفضتا منذ البداية هذه الوحشية الأمريكية - البريطانية التي ترتكب في العراق، كما أن الاتحاد الأوروبي هو ضد ظلم مجرم الحرب شارون صانع مذبحة صبرا وشاتيلا، والذي يبيح لجنوده قتل المدنيين الفلسطينيين بكل حرية وبساطة. وهل أن إلغاء أنقرة لدعوة (فاروق الشرع) -الخبير السياسي الفذ، ووزير خارجية دولة مسلمة جارة- التي وافقت عليها منذ أسابيع مقابل استقبالها وزير خارجية إسرائيل (شالوم) الذي هو شريك مجرم الحرب مرتكب المذابح في صبرا وشاتيلا سوف يقرب تركيا من "المثالية الغربية"!!.البروفيسور الدكتور (عيشة بوجرا) يقول: "مساندة الولايات المتحدة في شرورها سوف يجعل من تركيا إسرائيل ثانية" وأيضا يحذر (جنكيز أكتار) الخبير في الشئون الأوربية من المسيرة التركية إزاء الولايات المتحدة بقوله: "إن صقور إدارة بوش الأمريكية الذين هم تجار الأسلحة يحاولون استقطاع تركيا من الاتحاد الأوروبي؛ لجعلها إسرائيل ثانية تخضع لأوامرها في الشرق الأوسط". أما (إرتغول إوزكوك) فيحذر حكومة حزب العدالة والتنمية من مغبة التعاطي المضر للمصالح مع الولايات المتحدة بقوله " إذا لم نطمئن الرغبات الأمريكية قد نجدها بمواجهتنا في المستقبل، لذا يجب ألا 'نغضب الولايات المتحدة". ومن بعده يأتي تحذير آخر من (أوفوك غول دمير) "يجب أن يلغي عبد الله غول زيارته إلى سوريا فورا"، وعقبها تلغى الزيارة بالفعل ... ورجب طيب إردوغان زعيم حكومة حزب العدالة والتنمية يتغنى أمام مجموعته البرلمانية بحسن "سياسة حكومته في العراق" !!!.
الدعم السوري لحزب العمال الكردستاني(14/391)
عن الدعم الذي كانت تقدمه سوريا لمنظمة حزب العمال الكردستانية، يقول الكاتب الصحفي (فاتح التايلي) من صحيفة (حرييت):" ما إن بدأت الولايات المتحدة باتهام سوريا على أنها "دولة إرهابية" حتى بدأت فجأة تتوسع الأطراف المساندة لسوريا في تركيا، كما كان الحال قبل أسابيع قليلة مع مؤيدي صدام. ولعل هناك نوعاً ما من القبول بموقف "الصداميين" في تركيا كون نظامه لم يشكل أي تهديد مباشر على تركيا، ولكن من المستحيل أن نستوعب الدعم المفاجئ لبعض الأطراف التركية لسوريا. فإذا عدنا بذاكرتنا إلى ما قبل الأعوام الخمسة القليلة الماضية نذكر بأن تركيا كانت على وشك إعلان الحرب ضد سوريا، وبفضل هذا الموقف التركي المتشدد، فقد قامت سوريا بطرد (عبد الله أوجلان) الذي كانت تأويه في أراضيها لسنين طويلة، مما ساهم في وضعه بسجن إمرالي حاليا. ولكن بما أن ميزة استيعابنا محدودة، فإننا ننسى بسرعة، علما أن الشعب التركي كان ينظر إلى سوريا طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية بكراهية لا توصف، وهذه الكراهية ليست دون سبب؛ لأن سوريا التي كانت تدعم منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، وتأوي زعيمها أوجلان، وتغذي وحتى تدير هذه المنظمة، هي السبب في مقتل ثلاثين ألف مواطن تركي، وتسببت في خسارة تركيا لمئات المليارات من الدولارات، وحتى في اللقاء الصحفي -الذي أجريته مع عبد الله أوجلان في لبنان- كان أحد رجال المخابرات السورية موجوداً معنا. وإذا أردنا اختصار الموقف، نقول بأن سوريا هي من أهم الأسباب في ارتفاع العجز في الديون التركية الخارجية، وتضرر العلاقات التركية مع أوروبا بسبب التحركات العسكرية التي أجبرت على القيام بها في جنوب شرق الأناضول، وسجلها السيئ في حقوق الإنسان بسبب محاربتها للإرهاب. وفي ظل هذا الوضع الذي يدركه الشعب التركي بعمومه، فإن هناك من يتأهب ليكون "سندا لسوريا". لماذا ؟؛ لأن الولايات المتحدة تتهم سوريا بأنها دولة داعمة للإرهاب ..
مع الأسف الشديد هناك نوع من القومية التي بدأت تنتشر في تركيا تحت اسم "عدو أمريكا هو صديقنا" دون أن يخطر على بال أحد أن أمريكا هذه تقوم بتطهير الأوساخ المتراكمة حول تركيا، بل وعكس ذلك ينادون: "اللعنة على أمريكا" .. والآن لم يتبق أمامنا سوى أن نبتهل إلى الله ألا تصف أمريكا عبد الله أوجلان "بالإرهابي الخطر" وإلا فإن مثل هذه الرؤوس التركية سوف تعمد إلى تنصيبه كرئيس لوزراء الدولة !!!.
البارازاني على حق
وحول التطورات التي شهدها شمال العراق في الأيام الماضية، والتوتر الموجود في مديني كركوك والموصل يقول الكاتب الصحفي (فكرت بيل) من صحيفة الملييت العلمانية واسعة الانتشار:" التوتر المتصاعد في الموصل وكركوك بين الأكراد والتركمان والعرب وصل إلى حد القتال حتى الموت". مسعود البارازاني في تصريح له لجريدة الحياة قال: بأن الفصائل الكردية اتفقت مع الولايات المتحدة بعدم الدخول إلى الموصل وكركوك، مقابل التعهد التركي بعدم اجتياح شمال العراق. مشيراً إلى أن جلال الطالباني نقض هذا العهد وهاجم المدينتين وأضاف: "وتحت هذه الظروف، فأنا قلق جدا على مستقبل كركوك". جلال الطالباني الذي أراد استغلال الموقف لصالح إضعاف منافسه (مسعود البارازاني) أوعز لمجموعته باجتياح كركوك بهدف إخضاعها لسيطرته، وقرر مكافأة رجاله من الذين قاموا بعمليات السلب والنهب في هذه المدينة، لهذا السبب فإن البارازاني شعر بالحاجة إلى كسر سيطرة الطالباني في كركوك عبر مهاجمة الموصل، وهكذا فقد تحولت الموصل وكركوك إلى مسرح للصراعات العرقية الدموية. البارازاني صدق القول عندما أعرب عن قلقه على مستقبل كركوك، فاجتياح الطالباني لكركوك ما دفع بالبارازاني إلى اجتياح الموصل حول أنظار العالم كله إلى هاتين المدينتين، وهو ما سهل دخول قوات من خلية الاتصالات التركية إلى الموصل وكركوك، وسرَّع كذلك من دخول القوات الأمريكية إلى هاتين المدينتين لطرد البشمركة منها. البارازاني كان يخطط للتغيير العرقي في المنطقة على المدى المتوسط، فيما أحبط اجتياح مجموعة الطالباني لكركوك حساباته. هذه المستجدات التي كان الطالباني سببا فيها، أدت إلى تسلح وتحزب العرب ضدهم كرد فعل طبيعي على هجومهم، مما أربك الحسابات الكردية برمتها.
الموافقة على المطالب الأمريكية(14/392)
تركيا تحاول أن تقوم بدور نشط في إعمار العراق، الأمر الذي دفع وزير الدفاع التركي (وجدي غونول) للتصريح بأنه يجب على تركيا الموافقة على المطالب الأمريكية. في هذا الخصوص يقول الكاتب الصحفي (حسن جمال) من صحيفة الملييت: "هل تقدمت الولايات المتحدة بأي طلبات لتركيا بشأن العراق"؟. وبالتحديد هل طلبت منها جنودا؟. هذا هو السؤال الذي يشغل أنقرة منذ الأمس!. وزير الدفاع (وجدي غونول) وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بهذا الأمر، وقال في معرض لقائي به أمس: " أصدقاؤنا الصحفيون سألوني ما إذا كان الناتو قد تقدم بأي طلب لتركيا. وكان جوابي: لا 00 ولكن هناك طلباً غير رسمي من الولايات المتحدة حول مدى الإمكانيات التي يمكن أن نتعاون بها من أجل إعادة إعمار العراق، وتأمين استقراره لمرحلة ما بعد الحرب. ولقد قدمت واشنطن لائحة طويلة وتفصيلية بشأن الطلبات التي يمكن أن تقدمها تركيا، ومن بينها جنود و خبراء في الأسلحة النووية والصورايخ الباليستية، ومستخدمين فنيين في مجال الإعمار، ونحن نقيِّم هذه الطلبات حاليا". وبعد تقييم وزير الدفاع للوضع فقد تعرض إلى مسألة تمويل الخدمات التركية في العراق. فقال :" نحن نجهل إلى الآن الجهة التي ستمول مصاريف الخدمات التركية، وما زلنا في معرض تقييم الوضع". وبدوري فقد وجهت سؤالا إلى وزير الدفاع، عن رأيه في مقابلة تركيا للطلبات الأمريكية فقال: " بالطبع يجب أن نقابلها حتى بالنسبة لي يجب أن ترد تركيا إيجابيا حتى لو اضطرت إلى مواجهة كافة المصاريف وحدها؛ لأن إعادة إعمار العراق واستقراره مهم جدا بالنسبة لنا، وتركيا يجب أن يكون لها دور في هذا الإعمار. لذا فأنا أرى فائدة كبيرة في إرسال الجنود الأتراك إلى العراق، وتلبية غيره من المطالب في العراق؛ لأن هذه المشاركة ستعود عليها بفوائد كبيرة في المستقبل. ممالا شك فيه أن تضميد جراح العراق بمشاركة تركيا سيسعدنا جدا".
ومن خلال كلام وزير الدفاع نفهم أن أنقرة تميل إلى توطيد علاقاتها المستقبلية مع الولايات المتحدة، والمشاركة الفعلية في العراق؛لتعزز دورها فيه وفي المنطقة بأكملها. لقد نجحت أنقرة في تبديد أجواء التوتر مع الولايات المتحدة بعد رفض البرلمان التركي للمذكرة الثانية، وتبدو مصرة على مواصلة مسيرتها على نفس الخط في المرحلة القادمة؛ كما أن المطالب الأمريكية من تركيا تؤكد أن رفض المذكرة لم يؤثر كما كان متوقعا على علاقات الصداقة بين البلدين التي تجاوزت الخمسين عاما. وكلما وثقنا في أنفسنا، كلما شعرت الولايات المتحدة بالحاجة إلى مساهمتنا أكثر في المنطقة.
==============(14/393)
(14/394)
تحولات السلطة والموارد .
عرض : إبراهيم غرايبة 21/2/1424
23/04/2003
يُكمل كتاب " Powe r Shift" الذي تُرجم إلى العربية بعنوان " تحول السلطة " ثلاثية ( ألفن توفلر ) التي بدأت بكتاب " صدمة المستقبل " والذي صدر في السبعينيات ، ثم كتاب " الموجة الثالثة " في الثمانينيات ، وقد لقيت هذه الكتب رواجاً واهتماماً كبيرين ، وهي ظاهرة تؤكد جدية الموضوع ، فأن يباع عشرة ملايين نسخة من كتاب ليس روائياً ولا جنسياً ولا سياسياً فذلك يشير إلى أهمية الموضوع الذي يتناوله توفلر ، ومدى شغل الناس به.
كان كتاب " تحول السلطة "تتويجاً لجهد استغرق خمسة وعشرين عاماً حاول فيها توفلر استكشاف التغيرات التي يعلن عنها القرن الحادي والعشرون ، وفي كتاب " صدمة المستقبل " عرض للتغيرات التي تحدث ، وطرق تأثيرها على البشر والمنظمات ، وفي كتاب " الموجة الثالثة " يعرض اتجاهات هذا التغيرات وأبعادها ، فالسرعة المتزايدة للأحداث وتسارع ردود الأفعال تؤدي إلى تأثيرات تنحني لها الأمم والدول ، وتحتاج معها إلى معرفة صحيحة بالتكيف والاستجابة لهذه المتغيرات .
وتعبر فكرة الموجة الثالثة عن مرحلة جديدة رئيسة تمر بها البشرية بعد الموجة الأولى ، وهي الثورة الزراعية التي بدأ معها الإنسان التحول من الصيد والرعي إلى الاستقرار ، ثم إقامة الحضارات والمجتمعات والعلاقات المختلفة ، وكانت الموجة الثانية مع الثورة الصناعية في القرن السابع عشر الميلادي التي صحبتها تحولات سياسية واقتصادية وحضارية غيرت العالم كله ، واليوم تبدو موجة ثالثة تتشكل معتمدة على تقنيات المعلومات والاتصالات.
ذهل العالم في نهاية الثمانينيات ، بسبب انهيار أعظم إمبراطورية وأشدها قوة عسكرية وهي الاتحاد السوفيتي ، والمنظومة الشيوعية في أوروبا الشرقية ، غير أن هذا الحادث لم يكن وحده مما تشكل من ظواهر وأحداث في السنوات الأخيرة تنبئ عن مراجعات شاملة ، وتحولات جذرية تجري في العالم والحضارات والمجتمعات.
فحتى سنوات قليلة مضت كانت شركة ( جنرال الكتريك ) إمبراطورية مالية وحتى سياسية ، وهي اليوم تصارع لأجل البقاء ، وصارت شركة ( مايكروسوفت ) التي بدأت عملها قبل سنوات قليلة تصوغ حياة الناس وحتى أحلامهم ، ويملك اليوم " بيل غيش " مدير مايكروسوفت أكثر من سبعين مليار دولار، ومن بين أغنى خمسين شخصية في العالم يشتغل أكثر من ربعهم بالمعلومات التي لم تكن حتى فترة قريبة سوقاً يعتد به ، واختفى أباطرة ماليون وبليونيرات عرفهم العالم.
وفي خلفيات ملاعب المونديال لاحظ جمهور كرة القدم إعلانات لشركات ترعى هذه المباريات لم يسمع بها من قبل من تلك التي تعمل بالمعلومات والاتصالات إلى جانب الشركات التي ملأت الأفق ، وقد لا يعلم الكثير أن هذه الشركات شبه المجهولة تبلغ قيمة العقد الواحد من عقودها مليارات الدولارات ، ومحطات التلفزيون المشهورة والتقليدية التي كانت محدودة العدد وتحتكر الجمهور تبدو اليوم وكأنها تعمل في غابة من المحطات والقنوات الكثيرة جداً ، بحيث أصبحت فرصة المشاهد في الانتقال والانتقاء من بينها أسهل بكثير من اختيار المجلات والصحف ، ويتدفق عبر الانترنت من الأموال والرسائل والمعلومات والعقود والندوات ما يجعل سلطة الدول ورقابتها المالية والفنية شكلاً من الماضي العتيق .
ثمة تحولات كبيرة وجذرية في السلطة والموارد يجب الالتفات إليها وملاحظتها قبل فوات الأوان ، فسلطة المعرفة والمعلومات بدأت تحتل مكانة متفوقة على سلطة المال والسلاح ، والقوة العسكرية التي كانت أساساً مستمدة من السلاح والهيمنة أصبحت تعتمد تماماً على تقنية المعلومات ولم تعد الطائرات والصواريخ والغواصات بدون أجهزة الكمبيوتر سوى كتل من الحديد لا تفيد شيئاً ، بل إنها توصف بأنها أجهزة معرفية تجري مليون استنتاج منطقي في الثانية الواحدة ، وأن قوتها مستمدة من قدرتها المعرفية والذهنية.
وأزمة الكمبيوتر عام 2000 التي تحدثت عنها وسائل الإعلام تشير إلى حجم الاعتماد الهائل على الكمبيوتر في العمل والإدارة والحياة ، فاقتصاد الدول المتقدمة اليوم لا يستطيع العمل لمدة نصف ساعة بدون أجهزة الكمبيوتر.(14/395)
ويقول الخبراء : إن تقنيات المعلومات والاتصالات هي الآن في مرحلة بدائية ، وأنها تتطور بسرعة كبيرة بحيث يبدو حديثنا اليوم عن آثارها وتحولاتها وصدماتها وتداعياتها ساذجاً بدائياً أيضاً ؛ لأنها ستكون بعد عقود من الزمن على درجة من التقدم والتداخل في حياة الناس يصعب تصورها أو تخيل إمكانية تطبيقها، ولكن يمكن اليوم ملاحظة كيف أن المعرفة والمعلومات تحولت من عامل مساعد للسلطة أو مكسب إضافي إلى أنها جوهر السلطة ، ومن ثم فإن الصراع على السلطة سيكون صراعاً على المعرفة ، ولهذا السبب فإن قوانين الملكية الفكرية تأخذ اليوم أولوية قصوى في السياسة الدولية ، وسيكون التنافس أيضاً هو توزيع المعرفة وإمكانية الوصول إليها، وإذا لم نفهم كيف تنتشر المعرفة ومن هم الذين يتلقونها فلن نستطيع أن نحمي أنفسنا من استغلال السلطة ولا إقامة المجتمع الذي نريد، وستكون السيطرة على المعرفة هي العنصر الحاسم في الصراع العالمي والمحلي.
الاقتصاد الجديد يزدهر في ظل قدر أكبر من حرية التعبير وتغذية راجعة أفضل بين الحكام والمحكومين ، ومشاركة شعبية أوسع في صنع القرارات قد يفرز حكومات أقل بيروقراطية وأكثر لامركزية ومرونة ، كما قد يؤدي إلى قدر أكبر من الاستقلال الذاتي للفرد ، ويؤدي إلى تحول السلطة بعيدا عن الدولة ليس بهدق تعجيزها ولكن من أجل إضفاء صبغة إنسانية عليها.
ويربط " توفلر" بين البعث الديني المنتشر في العالم كله وبين أتباع جميع الأديان وبين الكمبيوتر، وقد بدأت هذه التحولات بجماعات الهيبيز التي شنت هجمات ساخطة على القواعد الثقافية للعصر الصناعي بما في ذلك علمانيته ، كما زادت في الغرب موجات التصوف والحكمة وديانات غريبة غير معروفة ، وبالطبع فإن العلمانية التي ارتبطت بالمرحلة الصناعية ستتعرض للانهيار مع أفول نجم المرحلة الصناعية ، وبدء مرحلة جديدة لتحل محلها ثقافات جديدة ، وتتلاقى جميع الموجات الدينية على العداء للعلمانية ورفضها.
ورافق أيضا الموجة الثالثة موجة المعلوماتية تنامي العمل البيئي، مثل جماعات الخضر وحماية البيئة ، والعودة إلى الحياة التقليدية في اللباس والزراعة والطعام لأجل حماية البيئة والموارد وتخفض التلوث ، أو ما يمكن تسميته أصولية بيئية والتي يأخذ بعضها أبعادا متطرفة تجاه كل منتجات الحضارة الحديثة ، ويمكن أن نلاحظ في الوسط العربي ذلك الإقبال الكبير الذي تشهده برامج مريم نور، والتداوي بالأعشاب الذي بدأت تتبناه جامعات ومؤسسات أكاديمية وشركات كبرى لتصينع الأدوية.
وكانت الظاهرة الثالثة الجدية : هي تنامي موجة القوميات والتعصب الوطني وتفشي كراهية الأجانب ، وقد استطاع حزب الحرية النازي في النمسا أن يحصد أكبر حصة في الانتخابات النيابية ، وتعد الحركات اليمينية المتطرفة والمعادية للأجانب أكبر منافس على الحكم اليوم في بلدان أوروبا وأمريكا.
وبالطبع فإن هذه الموجات والظواهر مرشحة للتنامي والتطور في صيغ مختلفة ، فهي مازالت في بداية مسارها وستكون أنظمة الحكم والسياسة من أول ضحايا هذا التطور والتغير، فإلى أين تتجه الديمقراطيات الغربية العريقة على سبيل المثال، وقد رأينا كيف شرعت قوانين في الولايات المتحدة تبيح الاعتقال بدون أدلة علنية وبدون محاكمة، وهو أمر كانت الدعوة إليه أو مجرد الحديث عنه في الغرب يعد جنونا لا يمكن الإصغاء إليه.
ومن أهم تجليات هذه التحولات وتطبيقاتها هو التقدم الياباني المذهل والقائم على المعرفة ، وكيف استطاعت أوروبا بعد أن كانت في المؤخرة وتحتضر اقتصاديا وتقنيا أن تلتقط هذه التحولات فتبني وحدة أوروبية قائمة على العمل الاقتصادي والسياسي والعسكري ، وكان واضحا كيف بدأت تستقل أوروبا عن الولايات المتحدة بل وتتحداها في اتجاه يبشر بقطبية جديدة قد يكون طرفاها أوروبا والولايات المتحدة ، وكانت أوروبا إلى عهد قريب كيانا تابعا للولايات المتحدة ومتطفلا عليه.
إن نتائج وتأثيرات ظاهرة المعلوماتية والعولمة والاتصالات مازالت في بدايتها وتدهشنا وتفاجئنا كل يوم بأحداث وتحولات جديدة وغير متوقعة ، ولكنها صحيحة ومؤثرة وتعيد النظر في كل ما استقرت عليه الدول والمجتمعات والأفراد والقوى الإقليمية والعالمية من تقاليد وأدوات عمل وتنافس وضغط .
============(14/396)
(14/397)
اشكاليات أفرزتها الحرب على العراق
عبدالرحمن عبدالله الجميعان كاتب كويتي مهتم بالفكر السياسي والحركات الإسلامية 22/4/1424
22/06/2003
التاريخ العربي الحديث تاريخ مؤلم، وتاريخ مليء بالدماء والتضحيات، والخداع والكذب! فوعود الغرب لنا في مطالع هذا القرن بحياة رغيدة هنيئة، ثم تخلفه عن هذه المواثيق، وزرعه قيادات عربية في أرض عربية لتمتص رحيق الشعوب، وتصبها في جيوب الغربي المستعمر، وتقسم الأرض العربية والإسلامية أمام مرأى ومسمع العالم، ثم زرع الخنجر الحاد(إسرائيل) في قلب العروبة والإسلام النابض، ثم الضحك على الشعوب بشتى أنواع الكذب والضحك على (الذقون) منذ فجر القرن الماضي إلى يومنا الحاضر، كل هذا إنما يمثل سلسلة من اللاوعي العربي، والاقتناع بالوعود المكذوبة والمعسولة! وكلما جاءنا نذير بل نُذر التففنا بدثار الماضي، والتحفنا بغباء عربي كبير، وتصديق لكل ما يقال، وكذبنا أي صوت للمؤامرة، إنها سلسلة من المخازي والآلام العربية، والجرح الإسلامي النازف! واليوم نصدق ما تقوله لنا الوكالات، ونعزي أنفسنا على آلام مضنية، ونتجرع مرارة وقسوة الزمن، ولا نحاول أن نستفيد من أخطائنا، ولا من تاريخنا العتيد والتليد! إنها صورة من تغييب الوعي العربي والإسلامي في بلادنا الواسعة، وصورة من الانكفاء على الذات.
واليوم بعد الحرب الدائرة على العراق وتطورها على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تكاد تكون حلقة من السلسلة الأليمة، وفصلاً من فصول القصة الحزينة الطويلة، لهذا كان لا بد من الوقوف طويلاً، وطويلاً جداً أمام هذه الظاهرة الغريبة، وعلينا الالتفات إلى ما أفرزته هذه الحرب على العالم الإسلامي، من هنا نقول: لا بد من الوقوف على هذه الإشكاليات التي قد تدمر التفكير الإسلامي وتنشئ نوعاً من اللامبالاة، وتصنع تفكيراً لا يستطيع استيعاب الأمور، ولا يستطيع رؤيتها إلا من خلال منظار الغرب الكافر! من أجل ذلك لا بد من النظر إلى هذه الأمور والاشكالات ثم محاولة وضعها في موضعها:
أولاً: الأنظمة الدكتاتورية والشعوب المسلمة:
وجوب الفصل بين النظام البعثي الكافر وبين الشعب العراقي المسلم؛ فالشعب العراقي مسلم عربي يعيش على أرض مسلمة، وهذه حقيقة لا تغيرها الظروف ولا الحوادث على مر الدهور وكل العصور، واستلام زمرة ظالمة زمام الأمور فيها لا يعني البتة أنها ستكون يوماً من الأيام خارج هذا الإطار، فالذي دافع عن العراق ضد الحرب إنما دافع عن الأرض المسلمة والشعب المسلم، وهنا تبدو إشكالية كبرى في المسألة، فهدف أمريكا المعلن إسقاط هذا النظام الذي بسقوطه سيكون سقوط العراق، فالنظام أصبح رمزاً للعراق أبينا ذلك أم رضينا! هذه الإشكالية لم يستطع الشارع العربي حلها أو التخلص منها، وظلت توجه العقل العربي والمسلم إلى آخر لحظة من لحظات سقوط النظام، فكنا نراهم يرفعون صور الرئيس العراقي بل البعض يهتف بالموت لأجله، وهذه مسألة خطيرة تدخل ضمن اعتقاد المسلم. لأجل ذلك يجب الحديث طويلاً حول هذه القضية الخطيرة، كما يجب التفريق على المستوى العسكري بين النظام والشعب، وتبقى هذه الإشكالية تتطلب حلاً عاجلاً من طلبة العلم والمشايخ والعلماء والدعاة، حتى نستطيع تبيان وجه الصراع الحقيقي، وتبيان مواقفنا منها. ومما يندرج تحت هذه القضية الخطيرة ما نلمحه من تطور خطير جداً في قضية مفادها: أن تسلط النظام وديكتاتوريته، واستفراد الرأي الواحد، ومحاربة أي رأي آخر، وتكميم الأفواه، وإقصاء الشورى ومصادرة حريات الشعوب، وسكوت الشعوب عن المطالبة بحقها في التعبير عن رأيها، وعدم الدفاع عن هذا الحق، والتنازل عنه، إنما تكون نتيجته هذه النتيجة، المزرية والمخزية. إن هذه القضية لم تأخذ من العلماء وطلبة العلم مكانها اللائق بها، بل لم تكن لها الأولوية عند الكثيرين، والبعض الآخر يلتهي بقضايا فقهية قد لا تهم المسلم كثيراً اليوم، ويتعامى عن هذه الأمور العظام، والأمور التي تحدد مصير الأمة.
ثانياً:الموازنة بين النظام القائم واستعمار الأمة من الأجنبي:
أعلنت التقارير والدراسات السياسية والمقالات الرصينة أن الولايات المتحدة الأمريكية اندفعت نحو الحرب ضد العراق، لتحقق أهدافاً استراتيجية منها على سبيل المثال؛ لا الحصر:
1-تفتيت وتمزيق وحدة العراق، مما سيزيد في ضعف ووهن هذه الأمة ويجعلها لقمة سائغة في حلوق أعدائها المتربصين بها، ويجعلها أكثر تبعية للغرب.
2-تحطيم جيش العراق ذي الخبرة الطويلة وانهاكه، مما سيضمن سلامة العدو الصهيوني، وسهولة السيطرة على العراق، وإمرار معاهدات الاستسلام دون معارضة أو مشاكسات محسوبة .
3-السيطرة على النفط الخليجي العراقي حيث إنه يشكل أكبر مخزون نفطي عالمي، واستخدامه نفوذاً قوياً يلوح على رؤوس المعاندين والمشاكسين، وتمريره إلى إسرائيل.
4-سهولة الحصول على المياه التي تريدها إسرائيل، وتحارب من أجلها، من خلال نهري دجلة والفرات.(14/398)
5-مسخ الهوية الإسلامية في المنطقة، ومحاولات صنع الأجيال الإسلامية الراكضة وراء السراب الغربي، وإنشاء جيل علماني لا يعرف الصلة بهذا الدين، مع قتل التوجه الإسلامي في الشخصية العراقية المسلمة.
6-تجريد العرب والمسلمين من أي سلاح فعال تقليدي، أو أسلحة الدمار الشامل..
7-مراقبة الحركات الإسلامية عن كثب ومحاولة الحد من عنفوانها، ثم ترشيدها بما يتناسب مع التغيير الجديد للخريطة السياسية المرتقبة. هذه المسألة لم تأخذ عند الكثيرين الأهمية التي تستحقها، وهي مرتبطة بالنقطة الأولى، فتبيان الهدف الاستراتيجي من ضرب العراق، وتعميق التداول في هذا الجانب المهم على المستوى السياسي والعسكري والإعلامي، ربما يفيد في فهم قضية الصراع الدائر اليوم، وربما يدفع بعض الحكومات لتغيير سياساتها خوفاً على مصالحها ومكتسباتها،خاصة إذا تبين لنا أن وجود النظام العربي الدكتاتوري في العراق سيبقى أثره محدوداً على الداخل وقد يطول الكويت فقط، أما أثر الاستعمار الجديد فسيكون وبالاً على الأمة برمتها، فهذا الميزان لا يزال غائباً في كثير من الأطروحات الإسلامية بل العربية!.
ثالثاً: إفرازات الحرب:
أفرزت الحرب على العراق من الصليبية الماكرة عدة من الأمور السياسية الشرعية، والتي تحتاج إلى نظرة تجديدية وفق المعطيات الدائرة والأحوال المتجددة،مثل:
1-العلاقة بين الحاكم والمحكوم: وهنا تتبدى لنا الصور التالية: ما مفهوم ولي الأمر، هل هو أي حاكم مسلم؟ أم أنه من تنطبق عليه الشروط الشرعية مثل: تطبيق الشريعة، وغيرها...إلخ! ما حدود طاعة ولي الأمر ؟حيث بتنا نسمع نغمة لم نألفها في الفقه الإسلامي، وهي تلك التي تعطي ولي الأمر كل السلطات، وأي سلوك لا يرضى به ولي الأمر فهو خارج عن النمط الإسلامي، وغير جائز، مثل الدعاء العام في المساجد، وتقنين بعض الأمور التي كانت محرمة مادام ولي الأمر قد رضي بها فهي جائزة، وتلك مفاهيم خطيرة جداً، وإشكالية كبرى تعيشها الدول الإسلامية، ويطبّلُ لها البعض؛ حتى من العلماء أنفسهم، لهذا لابد من فض الاشتباك الناتج، ومحاولة التعرف على وجهة النظر الصحيحة، وتدعيمها بالأدلة، ونشرها على عموم الناس وطلبة العلم، لأن هذه القضية قد تفرز نوعاً من الاستبداد بالرأي، وتجرد العلماء من مناصحة السلطان، وهو أمر في غاية الخطورة إذا ترك هكذا!
2-إشكالية العلاقة بين المسلم والكافر: يظن البعض أن بيننا وبين الغرب معاهدات واتفاقيات لا يجوز نقضها مادام ولاة الأمور قاموا بها، فما هي حدود هذه القضية؟ وما هي العلاقة الصحيحة؟ وما هي حدود الائتلاف والاختلاف بيننا وبينهم؟ أين يتحقق الولاء والبراء عندما تكون المسألة متعلقة بعدوان ظالم على أي بلد مسلم؛ خاصة في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم، والتي خلقت نوعاً من الحب والولاء لهذا الكافر، بذرائع التحرير والتخلص من الديكتاتورية!، وهكذا كثير من الأمور الشائكةالتي هي بحاجة إلى تحرير من أصحاب العلم والمعرفة؛ دون تناسي الجانب السياسي فيها.
3-ما العمل ؟ فكثير من الناس تستولي عليهم حالات من اليأس والقنوط فيتراكضون إلى المنامات والرؤى، ومن قبل كانوا يتراكضون إلى القبور والأضرحة والمقامات، فما هو السبيل للخروج من هذه الأزمة الخانقة، التي باتت تشل تفكير الكثيرين؛ حتى من أصحاب العلم وطلبته؟ ثم ما موقفنا مما يدور الآن؟ ماذا أعددنا لهذه المرحلة؟ ما هي مخططاتنا للوقوف أمام الهجمة الشرسة القادمة على الإسلام والمسلمين؟ إنها حياة أمة أو موتها!
هذه بعض الإشكاليات التي تشكل، أو نخشى إن استمرت أن تشكل التفكير العام وتدخل ضمن ما يسمى بالتفكير العام للأمة، والدور منوط بالقيادات الإسلامية أن تعي حجم وخطورة المخطط الصليبي، الذي ينوي افتراسها وعلى أيدي أبنائها الذين سيشكلون رأس الحربة في طعن الأمة من قبل الدوائر الاستعمارية والصليبية، فهل سيعي هؤلاء ضخامة المهمة المناطة بهم؟!
============(14/399)
(14/400)
ما بعد العراق 1/3
سلمان بن فهد العودة 10/2/1424
12/04/2003
قوات غازية تجتاح عدة ولايات أمريكية -بما فيها واشنطن- وتقتحم البيت الأبيض، واختفاء الرئيس الأمريكي ونوابه ومساعديه وسط حالة من الفزع والذهول !.
الثوار الغاضبون المحتجون على السياسة الأمريكية يحتلون الشوارع، ويهتفون ضد الإدارة، ويتهمونها بممارسة جرائم حرب وإبادة، وبتضليل الشعب، وبانتهاك وخرق القوانين ومصادرة الحقوق.
مجموعة من السجناء تقتحم السجن، وتنضم إلى الثوار .
مدمنو مخدرات يرفعون لافتات تقول:"كفى ترويعاً للشعب كفى ترويعاً للآمنين" .
محتجون يدمرون تمثال الحرية، ويضعون عليه خرقة مكتوب عليها : انتهى وقت الخداع، اكشفوا الأقنعة عن وجهوكم البشعة يا تجار النفط، الشعب يرفضكم ولن يختاركم بعد اليوم .
أيدٍ خفية تحرص على الفوضى والدمار؛ نكاية بالإدارة وإظهاراً للشماتة بها .
خمسون ألفاً من اللصوص في سان فرانسيسكو يتجولون في الشوارع .
هل أنت في حلم لذيذ ؟!
هذا الحلم اللذيذ المنبعث من عمق الخيال هو انعكاس لما يجري في عاصمة الرشيد اليوم، ولعله صورة من صور المستقبل.
لقد هجم عليّ البارحة موجة عارمة من الحزن والكآبة، لا أظن أحداً من المسلمين بقي بمعزل عنها وهو يرى ويسمع سقوط مدينة الخلافة بأيدي علوج الروم.
يا دجلة الخير ما يُغليك من حنق … …
يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني
ما إن تناهت سياط البغي ناصعة … …
في مائك الطهر بين الحين والحين
ووالغات خيول البغي مصبحة … …
على القرى آمنات و الدهاقين
أدري بأنك في حزن وفي لغب … …
والناس حولك عدوا بالملايين
يرون سود الرزايا في حقيقتها … …
ويفزعون إلى حدس وتخمين !
الوداع يا بغداد، يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد والكرخي والجنيد وإسحاق ومطيع وحماد، يا منزل القادة والخلفاء والمحدثين والفقهاء والزهاد والأتقياء والشعراء والظرفاء، يا مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى، يا دنيا فيها من كل شيء شيء .
الوداع يا دار السلام، ويا موئل العربية، ويا قبة الإسلام، ويا منارة التاريخ، ويا منبر الحضارة.
منذ أوائل الألف الخامس (قبل الميلاد) تاريخ موغل في القِدم، شهد سهل الرافدين قفزة مهمة في التاريخ، بالانتقال من القرى الزراعية إلى حياة المدن، ومر على هذا السهل زمن كانت فيه شبكات القنوات معجزة من معجزات الري في العالم .
مرت عليه قرون وأجيال وأمم لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى، السامريون وهم من أقدم بناة الحضارة في التاريخ كله، ومن العراق انطلقت أكبر إمبراطورية معروفة في التاريخ، ثم جاء البابليون والآشوريون والكلدانيون، وكان الفتح الإسلامي درة العقد في هذا البلد الطيب، فحفظ للإسلام وده ووفاءه وبقاءه، وظلت العراق عاصمة للخلافة مئات السنين.
بنيت بغداد في عصر أبي جعفر المنصور؛ لتكون عاصمة الخلافة، وبلغت أوجها في عهد الرشيد، ولذلك كانت تسمى (عاصمة الرشيد)، كما تسمى دار السلام والمدورة والزوراء وبغداد.
التاريخ يعيد نفسه، ففي عام 656هـ انطفأت تلك الشعلة الوهاجة، وذلك عندما أقبل التتار -بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان- واستباحوا بغداد، واصطبغت دجلة بلون الدم؛ لكثرة ما ألقي فيها من الجثث، كما اصطبغت بلون الحبر؛ لكثرة ما ألقي فيها من الكتب، فكانت نهاية لمجد وحضارة، واشتعلت الحرائق حتى اعتكر دخانها غيماً أسود عظيماً في سماء بغداد، واغتيلت حضارة من أغنى الحضارات الإنسانية، إنها حضارة الإسلام.
توجيهات قرآنية
أولاً : يقول الله عز وجل: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ"[الأعراف:34] قد يكون هذا الأجل الذي ضربه الله للأمم -كما يضرب للأفراد آجالاً- انقراضاً وزوالا بالكلية، وقد يكون انتكاساً وضعفاً وتراجعاً يحيط بأمة من الأمم أو شعب من الشعوب، والله تعالى- كما يقول نبيه عليه الصلاة والسلام-: ( وكل شيء عنده بأجل مسمى ) رواه مسلم، فللأمم آجال كما للأفراد، ولها نهوض وهبوط، ولها شباب وهرم، ولكن هذه الأمة المحمدية تتميز عن الأمم الأخرى بأن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، فإنها أمة تمرض، ولكنها لا تموت.
ثانياً: "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ "[آل عمران:140-141] أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا ذل ولا عز، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار، كما يقول بعض الشعراء من أبناء الخلفاء:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت … …
لنا رغبة أو رهبة عظماؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا … …
شدائد أيام قليل رخاؤها
وكان إلينا في السرور ابتسامها … …
فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه … …
رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت … …(14/401)
علينا الليالي لم يدعنا حياؤها
يقول الأمريكيون: إن هذه نهاية التاريخ، كما سطر (فوكوياما) في كتابه المشهور، ونظريته الذائعة. ولعلنا نقول : بل هو تاريخ النهاية، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله عن الظالمين المجرمين : "أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ"[إبراهيم:44] كنت أقرأ هذه الآية، ثم أتعجب وأقول: سبحان الله منزل القرآن، كل البشر يعرفون أن لهم نهاية، وأن لهم أجلاً يموتون فيه، فمن هؤلاء الذين أقسموا ما لهم من زوال؟! ثم رأينا بأعيننا هؤلاء القوم الذين غرتهم قوتهم وغطرستهم وغرهم من ربهم الغرور، فصاروا يتكلمون بأن حضارتهم هي نهاية التاريخ، وأن بقاءهم سوف يكون أبدياً سرمدياً، فأقسموا ما لهم من زوال، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.
هذه الوثبة العالية للقوة الأمريكية هي من المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل "وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" وهي نتيجة للاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرعوا بالسنن، فاكتشفوا واخترعوا وتعلموا وجربوا واتحدوا وتعاونوا، حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا هذه الفترة بحكم العالم تقريباً، فصار العالم أحادي القطب تديره أمريكا وفق مزاجها ونظرها.
إن انتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، وعندما نرى ذلك الجندي المتغطرس يظهر قوته، ويرفع علَمه على أرضنا، نشعر بالغيظ والمقت، لكننا ندري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعة من التفوقات التي حصلت عليها إدارته في غيبة وغفلة من الأطراف الأخرى.
فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصولوا إلى ما وصلوا إليه، فانتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، بل هو انتصار حياتي علمي تقني اقتصادي إداري سياسي وهو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر وتقابل بالمدافعة، ولهذا فإن في قول الله عز وجل: " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"[البقرة:251] دليلاً على ذلك،ودليلاً على أن ما يصنعه الله في أرضه وعباده من القضاء والقدر لا يمكن أن يكون شراً محضاً ولابد أن يكون فيه جوانب من الخير والحكمة، وإن كانت هذه الجوانب قد تخفى على بعض العباد خصوصاً في وقت الأزمات، حينما يستحر الحزن والقلق والكآبة والتوتر في قلوب الناس، ولكن المؤمن يظل راضياً، مدركاً أن وراء الأمر -من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره- ما يحمد الناس له العواقب.
رابعاً: "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[آل عمران:165] نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حين نسمع من المحللين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلم في هذه الدولة الظالمة، وأعتقد أن كل ما يقال عنها هو جزء قليل مما تستحق، ولكن علينا ألا نغفل أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكن أن يخفى قبحها، لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أوتينا من قبل أنفسنا، وهاهو ربنا سبحانه وتعالى يقول للمبشرين بالجنة : " قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة والدماء نازفة والآلام حية، هو من عند أنفسنا، علينا أن نعتبر هذه فرصة لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى الله سبحانه وتعالى بتوبة صادقة على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأم
ثالثاً : ما بعد الحرب
لقد ذهبت الحرب بالكثير الكثير، لقد ذهبت بالشعارات الجوفاء التي طالما تحدث عنها هؤلاء الناس، والتي تتكلم عن الحريات وعن القوانين الدولية وعن حقوق الإنسان وعن العدالة والقيم الأخلاقية، فإذا بهذه الحرب تكشف عن الوجه الأسود الذي لا يمكن أن يستر أو يخفى !
أين الشعارات أين المالئون بها الد … …
دنيا ؟ لكم زوروا التاريخ والكتبا
فلا خيول بني حمدان راكضة … …
زهواً ولا المتنبي مالئ حلبا
وقبر خالد في حمص تلامسه … …
فيرجف القبر من زواره غضبا
يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره … …
فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا
لقد انكشف الزور وبانت هذه الشعارات التي طالما ضللت كثيراً من شباب الأمة
والعالم، فظنوا أن هذه الحضارة استثناء، وأنها لون ونمط من الحرية للبشر كلهم، وأنها تجردت عن كل المعاني الرديئة، فإذا بها تبين في أكلح وأقبح صورها :
عدوان على الآمنين .
استهداف للأبرياء .
تحدٍ للقوانين .
محاولة لمصادرة الحقيقة والقضاء عليها .
ولهذا انكشف أن الحرية الإعلامية المدعاة أو الحرية السياسية ليست إلا نوعاً من التسلط، وربما تكون أحياناً بقفازات ناعمة، ومظاهر جميلة، وعبارات معسولة تخفي وراءها ما تخفي.(14/402)
الكل يعاني نوعاً من التسلط ، ربما في كثير من دول العالم الإسلامي تواجه الشعوب نوعاً من التسلط الواضح المكشوف، سواءً من تسلط الإعلام أو مصادرة الرأي والحرية ، لكن شعب الولايات المتحدة الأمريكية ربما يعاني نوعاً آخر من التسلط؛ بمحاولة غسيل عقول الناس وحجب الحقيقة عنهم والتأثير على إرادتهم بحيث يتقبلون هذه الأشياء بقناعة، فأنت تعمل ما تريد ما دمت تعمل ما نريد.
ذهبت هذه الحرب بالقوانين الدولية والمنظمات التي كان الحديث يتم حولها، وتبين أن ما يتحدثون عنه من استقلال الدول ما هو إلا هراء، فهذه دول مستقلة يتم العدوان عليها وغزوها لأغراض مختلفة، ويعتبر الذين يدافعون أو يقاومون خارجين عن القانون الدولي مخالفين للأنظمة، يتم اعتقالهم وأسرهم وقتلهم ومحاكمتهم وضربهم وتعذيبهم.
وقوانين الحرب التي تقتضي عدم العدوان على الأبرياء وعلى المؤسسات الإعلامية ذهبت في دوامة هذه الحرب العمياء الظالمة.
أدعياء الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية يهاجمون الإسلام ونبيه -عليه الصلاة والسلام- ويتهمونه بالدموية والعنف والإرهاب، بينما نحن نتحدى أن يكون عدد القتلى في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين وغيرهم، يقاوم عدد القتلى في اليوم الواحد في هذه الحرب الظالمة، فضلاً عن ما قبلها من الحروب وما قد يكون بعدها.
ذهبت هذه الحرب بالحياد والاستقلال السياسي والثقافي والعسكري ، فالولايات المتحدة الأمريكية تحاول أن تفرض نفسها كسلطة عالمية بلا منازع ولا مقاوم ، ومن حقها الإجهاز على كل محاولات الاستقلال والتميز وتحصيل القوة .
ذهبت هذه الحرب بالنظام العربي الذي تبين من خلاله أنه نظام مكشوف عاجز غير قادر على المقاومة ولا الاستقلال بالقرار.
ذهبت هذه الحرب ربما بالإدارة الأمريكية التي انغمست في رمال متحركة لا تعرف إلى أين تودي بها ؟
ولعل الانتخابات القادمة تصدق هذا الظن أو تكذبه ، خصوصاً إذا لم تفتعل الإدارة مواجهة جديدة وتشغل الشارع بها!.
فهل جاءت هذه الحرب لهم بشيء ؟ نعم جاءت بمناطق نفوذ، ونفط وقوة كبيرة وهيبة في أماكن شتى من العالم، ففيما يتعلق بالنفط مثلاً فإن الشركات الأمريكية سوف تظفر بحصة الأسد بعلاقتها مع أي إدارة عراقية، وبدورها الأساس في الحرب، وسيكون لذلك فائدة إضافية وهي تدمير ما يسمى بمنظمة (أوبك)، أو تحجيمها عن أن تقوم بأي موقف فيه إضرار بالمصالح الأمريكية ، يقول المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي : إن نجاح الحملة العسكرية على العراق سوف يصب في صالح الأعمال والشركات الأمريكية .
إن معنى تغيير النظام في العراق هو ضخ ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين برميل نفط يومياً بشكل إضافي إلى سوق النفط ، وربما بعد خمس سنوات يضخ عشرة ملايين برميل يومياً من النفط العراقي إلى أسواق العالم ، وسوف تكون حصة الأسد من ذلك للشركات الأجنبية.
ماذا ستفعل الحرب بوحدة العراق ؟
قد يتخوف الكثيرون أن تتحول العراق إلى دول، فدولة للأكراد ودولة للشيعة ودولة للسنة، وهذا لا يبعد أن يكون، ولو لم يكن بالاحتمال القوي ، إن العراق كدولة موحدة لا يتعلق وجوده بالرئيس ولا بالحزب الحاكم ، فالرئيس العراقي ليس هو( تيتو يوغسلافيا) الذي جمع رقعا متفرقة حتى تثور المخاوف من بعده حول وجود العراق من عدمها ، وحيال عدد من الحالات السابقة لم تظهر نزعات انفصالية جدية إلا عند الأكراد، الذين يشكلون حوالي 15 إلى 20% من الشعب العراقي ، ومع ذلك فإن الأكراد يفضلون نوعاً من العلاقة مع حكومة مركزية، نعم قد تعم الفوضى في المرحلة الانتقالية - كما يسمونها - خصوصاً مع مصالح الدول المجاورة التي لكل واحدة منها أجنده خاصة فيما يتعلق بالعراق أو بالجزء المتاخم لها، ويتضح هذا جلياً في إيران وتركيا وغيرها.
هل ستأتي الحرب بالديمقراطية ؟
تستطيع أمريكا أن تلون غزوها كما تشاء ، لكن هذا التلوين لا يعدو أن يكون ورقة التوت ليس أكثر، فالديمقراطية المزعومة هي ضرب من الخيال، ليس لأن العراقيين ألفوا الاستبداد مثلاً فهم غير قادرين على تجاوز هذا ، لكن لما قد يحدث من الفوضى أولاً ، وهذا متوقع ، بل نحن نراه اليوم في بغداد والبصرة والموصل وتكريت وفي غيرها من مدن العراق ؛ ولأن أمريكا جاءت لتبقى، وليس المهم عندها شكل الحكام، أو نوع الحكم، بقدر ما المهم هو ضمان ولاء المقيمين في بغداد لها ولمصالحها.
العراقيون وإن كانوا غير متعاطفين مع النظام السابق، إلا أنهم يكنون كرهاً أكبر لأمريكا، خصوصاً منذ أن فرضت عليهم الحصار على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة، وقتلت من أطفالهم ما يزيد عن مليوني طفل، بسبب الأمراض التي لا تجد لها شفاء .
إضافة إلى شعورهم الوطني المعروف ، فهم من أول من ثار على الاستعمار البريطاني .
تفيد التقارير الأمريكية أنه سوف يكون على أمريكا نشر ما يزيد على أكثر من خمسة وسبعين ألف جندي؛ للحفاظ على الاستقرار في العراق على مدى سنة كاملة على أقل تقدير، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى وجود خمسة آلاف جندي على مدى خمس سنوات في العراق ، دعك من اتفاقيات الدفاع المشترك أو الحماية !.(14/403)
إذاً الديمقراطية نموذج هش يمكن أن يوجد منها في العراق ما هو مفصل على وفق المصالح الأمريكية، مما يحقق للناس بعض الحرية الشخصية، وما يحقق لهم المتعة العابرة وقدراً من المشاركة يضمن استقرار البلد ليس أكثر .
الأهداف المعلنة للحملة الأمريكية على العراق كانت تدمير الأسلحة والذخائر الكيماوية والبيولوجية وإسقاط نظام البعث القائم الذي يرونه تهديداً لإسرائيل ولمصالحهم الحيوية ، وبالتالي قد يطرحون ما يسمى بالتحول الديمقراطي في العراق على النمط الغربي العلماني كمثل يحتذى لدول الجوار وفي تقديري فإن أهم أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في المدى القريب والمتوسط ما بين 15 إلى 20 سنة هو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط السياسية الغني بثرواته والذي ينفرد بأفضل وأخطر مركز بين الأقاليم في العالم والذي تمثل بعض دوله في نظر واشنطن بيئة مناسبة لنمو التطرف الديني والإرهاب.
والهدف الثاني هو تغيير نظم الحكم في عدد من الدول العربية المحورية لإقامة حكومات حليفة للغرب، وفي نفس الوقت تتمتع بنوع من القوة والنفوذ وقدر مناسب من التأييد الشعبي بما يتيح لهم في بضع سنوات مقبلة محاولة تجاوز الأشكال الديمقراطية بدرجة أو بأخرى، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تعتزم الانفراد بحكم عسكري أو مدني مباشر في العراق لفترة معينة بما يحمي المصالح الحيوية والأمنية للولايات المتحدة في المنطقة العربية بأسرها وبما يحقق اتخاذ العراق قاعدة انطلاق لعمليات عسكرية مرجحة في المستقبل المنظور ضد سوريا أو إيران أو الدول المجاورة بما يخدم أمن إسرائيل، والتخطيط الأمريكي لمزيد من السيطرة على الثروات الطبيعية في الخليج وفي بحر قزوين وفي أسيا الوسطى.
إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أراضي العراق وفي بحارها وأجواءها وحرمان القوى الكبرى المنافسة من بناء وتنمية مصالحها في الشرق الأوسط.
إن الإدارة الأمريكية ترى أنه يمكن الوصول إلى السعودية أو مصر أو سوريا أو لبنان أو إيران عبر العراق بسهولة أكثر وكلفة أقل ويبدوا أن هذا من الأهداف الأساسية للحرب، فالهجوم على العراق واحتلاله يجعله مركزاً لتخويف إيران وسوريا ويمكن من خلاله التحرك باتجاه السعودية ودول الخليج لإحداث تغييرات تتوافق مع السياسة الأمريكية كما أنه يمكن من خلاله التحرك باتجاه سوريا ولبنان للسيطرة على كل فلسطين والقيام بعملية تهجير واسعة ضد الفلسطينيين وخصوصاً أن قادة اليهود باتوا مقتنعين أن تغييرات جذرية قد حصلت بعد انتفاضة الأقصى وأدت إلى إسقاط اتفاقية أوسلو ومن ثم فإنهم يعتقدون أن الظروف بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تغيرت وأن اتفاقية أوسلو وملحقاتها لم تعد مقبولة.
وبطلب من الإدارة الأمريكية أعد الدكتور ماكس زنجر المختص في تحليل السياسات - وهو مؤسس معهد هدسون للدراسات الاستراتيجية- وثيقة رسم فيها وجهات محتملة للعالم خلال العقدين المقبلين وأهمها هو:
أولاً : أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تقوم بهجمات عدة ضد دول، وربما يؤدي ذلك إلى سقوط حكومات إسلامية، وستمتلك مصر وإيران والسعودية أسلحة نووية وأن دولاً أخرى ستمتلك أسلحة بيولوجية تستخدمها في النزاعات فيما بينها وأن إسرائيل ستظل موجودة إلى ما بعد عشرات السنين إلا أنها سوف تواجه خطراً كبيراً على وجودها وقد تتعرض للإبادة بواسطة سلاح إسلامي غير تقليدي يتوافر بكثرة في الشرق الأوسط.
ثانياً: كما تحدث التقرير بتفصيل عن هذا السيناريو وقسم الدول الإسلامية إلى حكمين، الدول المؤيدة لما سماه بالإسلام الكفاحي أو الإسلام المقاوم والدول المعارضة له، أما الإسلام الكفاحي الجهادي المقاوم فسوف يسيطر على الدول العربية والجاليات الإسلامية في أوروبا وأفريقيا، وأما تركيا فإنها سوف ترفض هذا اللون من الإسلام.
تتضمن الوثيقة خطة لمكافحة الإسلام يقسمها لعشر مراحل منها حل الصراع العربي الصهيوني، وذلك بحل مشكلة اللاجئين من خلال إعادة توطينهم، أما أين ؟ فالله أعلم، وحضر استخدام الإرهاب، وهنا نطرح سؤالاً: ما هو الإرهاب ؟ وسيكون الجواب عندهم وحسب مقاسهم.
ومن ضمن المراحل دولة فلسطينية ملتزمة بأمن إسرائيل ضمن خارطة الطريق أو غيرها، ويفترض أنه من الممكن العمل على إخضاع الفلسطينيين حتى يخنعوا للحل الذي تريده إسرائيل، ومن هنا فإن المنطقة متجهة إلى مرحلة شديدة السواد وفق هذه السيناريوهات التي ترسمها الإدارة الأمريكية، وتحاول فرضها ليس على العالم الإسلامي فحسب بل على العالم كله ، لكن تبقى إرادة الممانعة والرفض والإصرار على التغيير وفرض الوجود تبقى قادرة على إفشال هذه المخططات وعلى البقاء على ساحة الحياة "إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا*وَأَكِيدُ كَيْدًا*فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا"[الطارق:15-17].(14/404)
هناك تقرير استراتيجي أمريكي كل بضع سنوات ، وهذا هو التقرير الأخير الذي صدر بعد أحداث أيلول بسنة تقريباً بعنوان استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية وخرج في 20 أيلول سبتمبر 2002 وهو يرسم السياسة الأمريكية ومفاصلها الرئيسة .
أولاً: السياسية الأمريكية بشكل عام تستهدف تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي وفي نفس الوقت يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الأمن والمعيشة ولذلك يقول ريجان أحد الرؤساء الأمريكيين في تجديد انتخابه: أيها الأمريكيون تعالوا لنقيم الجنة على هذه الأرض.
فهذا الحلم الذي يسعون إليه رفاهية في الداخل وأمن قومي مستتب إضافة إلى السيطرة على العالم، وقد تطورت الأسس التي قامت عليها عبر الأوضاع المحلية والمتغيرات الدولية ففي البداية كانت استراتيجيتهم تقوم على العزلة التي عبر عنها الرئيس مونرو حينما رسم خريطة الولايات المتحدة الأمريكية ووضع حولها أسلاكاً شائكة ووضع أمامها شعاراً يقول:نحن نرحب بالزائر إذا لم يكن معه بندقية.
معنى ذلك أنهم منعزلون على أنفسهم، ولكنهم يرحبون بالزائر ومن هنا كانت أمريكا مكاناً لاستقبال المهاجرين من أنحاء العالم.
المرحلة الثانية هي المشاركة في صياغة النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وملء الفراغ الذي نجم عن تراجع الدور الأوروبي في العالم الإسلامي وغيره.
ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي الحرب الباردة واستراتيجية الأحلاف العسكرية حتى سقوط الاتحاد السوفيتي.
ونستطيع أن نقول إن المرحلة الرابعة التي نعيشها هي هذه المرحلة التي يتكلم عنها هذا التقرير الذي أعدته لجان عمل وأوصلته إلى البيت الأبيض ووزع في 23 صفحة .
ويؤكد هذا التقرير أن الرؤية الجديدة للإدارة الأمريكية لا تقوم على رد الاعتداء وإنما تأخذ زمام المبادرة بالهجوم على أي طرف يحتمل أن يكون عدواً في المستقبل، حتى ولو من دون دليل أو من دون أسباب تؤكد نية الاعتداء، وهذا ما يسميه التقرير بالضربات الاستباقية إذاً هم يقولون: إنه لا ينبغي لنا أن ننتظر حتى تأتي الضربة أو العدوان وإنما أقرب وسيلة للدفاع هي الهجوم فعلينا أن نقوم بضربات استراتيجية ذات أسبقية لكسب الموقف، ولعل مما يؤكد مصداقية هذا التقرير بدايتهم من العراق.
وهم يقولون في التقرير نفسه إننا نسعى إلى أعمالنا ومشاريعنا ضمن إطار عالمي من التحالف، ولكننا مستعدون أن نمضي قدماً بمفردنا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، وهكذا فعلوا هنا فهم قد تجاوزوا المنظمات الدولية وتجاوزوا حلفاء الأمس الذين اجتمعوا معهم فيما يسمى الحرب على الإرهاب وانطلقوا بمفردهم مع حلفائهم البريطانيين في حرب منعزلة استباقية.
إذاً تقوم أمريكا على أساس نظرة استراتيجية تمارس ضربات استباقية لكل ما يمكن أن يشكل خطراً مستقبلياً، وبناء على ذلك فهم سوف يقومون بحرمان كل دول العالم التي تنضوي ضمن سياستهم وأهدافهم من الحق في التقدم والتصنيع والتسليح؛ لأنهم ربما يشكلون خطراً عليهم، وهذه يسمونها عادة بـ "الدول المارقة " كما يتحدثون عن كوريا الشمالية أو عن سوريا أو عن إيران أو غيرها.
تقدم أمريكا نفسها على أنها شرطي العالم تراقب وتحاسب وتكافئ وتعاقب وتمنع من الحصول على التقنية، وتنشر ثقافتها ورؤيتها الخاصة المتعلقة بالحرية أو الحرب والسلام أو الحقوق والتعليم أو الإرهاب أو تمويل الجمعيات الخيرية وغيرها وتفرضها على الحكومات والشعوب.
يقول هذا التقرير في هذه الاستراتيجية : سنحول المحنة إلى فرصة سانحة .
يعني أنهم سيحولون الأزمة التي مرت بهم بعد 11 سبتمبر إلى فرصة ليقوموا باستدراك كثير من الخلل والنقص والعيب الذي يعتري سياستهم، و من لا ينطوي تحت لوائهم فهو مارق أو خارج عن القانون إذ هم الذين يكتبون القانون وهم الذين ينفذونه!
(فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) .
ودعوى القوي كدعوى السباع … …
من الناب والظفر برهانها
يتحدث التقرير بشكل متعاظم عن أهمية الشكل الاقتصادي وكأنه يقول : إن العالم عبارة عن شركة اقتصادية وإن الولايات المتحدة الأمريكية هي رئيس هذه الشركة، فالاتحاد السوفيتي مع أنه كان دولة تملك قوة عسكرية ضاربة إلا أن الذي هزمه هو الاقتصاد، ولذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تكوّن ضمن تحالفات دولية قوة اقتصادية وشراكات اقتصادية تضمن لها تفوقاً دائماً، ثم يخلص التقرير إلى أهمية وجود قوات أمريكية في مناطق مختلفة من العالم ومنها منطقة الخليج لحماية حلفائها وأصدقائها من أي خطر محتمل.
إن آلية العلاقة بين العالم الإسلامي والولايات المتحدة قد اختلفت اليوم اختلافاً كبيراً في ظل هذا التحول الاستراتيجي الجديد، وهذا يفرض على دول العالم الإسلامي جميعاً وهي طرفٌ أساس في هذه العلاقة أن يراجع مفاهيمه، وهو بين خيارين لا ثالث لهما:
إما أن يرسم لنفسه رؤية خاصة صادقة تقوم على قيمه ومبادئه أولا،ً وتقوم على مصالحه ثانياً، وتتكيف مع هذا الواقع المتغير.(14/405)
فإن لم يفعل فسيظل مكتفياً بالمراقبة والانتظار، ومن الواجب على أي دولة من دول العالم أن يكون لها رؤيتها الخاصة المعبرة عن تطلعاتها ورغبات شعوبها وعن قيمها ومبادئها ومصالحها وحاضرها ومستقبلها.
ففيما يخص العالم الإسلامي هناك حماية إسرائيل والتأكيد على تفوقها وعلى التحالف الاستراتيجي الأمريكي معها، إن أمريكا ملتزمة بالتحالف مع إسرائيل وملتزمة أيضاً بضمان التفوق العسكري وغير العسكري لهذه الدولة المسخ، ليس فقط في مواجهة دولة إسلامية، بل في مواجهة العالم الإسلامي كله مجتمعاً.
والتقرير المشار إليه يوجه لهجةً رادعةً صارمةً إلى الدول الإسلامية التي تعارض السياسة الأمريكية بشكل جزء أو كلي كإيران وسوريا والسعودية وغيرها ويتهم هذه الدول بدعمها للإرهاب، وأن هذا الدعم إذا لم يتراجع سوف يعرضها لضربات موجعة.
إن دعم الشعب الفلسطيني يعتبر دعماً للإرهاب ، ودعم الجمعيات الخيرية هو دعم للإرهاب، بل لست أبالغ إذا قلت إن إقامة المدارس والمؤسسات والمساجد والأربطة وجوانب النشاط الإنساني والخيري هو دعم للإرهاب، والدوائر الأمريكية تقوم بمتابعته ومراقبته ومحاسبة القائمين عليه حساباً دقيقاً.
يتحدث التقرير عن محاربة الإرهاب دون أن يحدد المقصود بالإرهاب! إنهم يمارسون نوعاً سيئاً من الإرهاب البشري البشع بآلياتهم العسكرية الضخمة في حق المدنيين وغير المدنيين في العراق وفي أفغانستان وفي فلسطين، لكن كل هذا له غطاء مزور من الدفاع عن النفس والمحافظة على الحياة وعلى الحقوق وعلى الحريات، أما ما يقوم به المسلمون فهو الإرهاب بعينه.
لقد قبضوا على يهودي في الولايات المتحدة الأمريكية يسعى لتفجير مؤسسات ومراكز إسلامية فلم يقيدوا هذه الجريمة على أنها نوع من الإرهاب ولكن اعتبروها نوعاً من الاعتداء على الممتلكات الخاصة فهم إذاً يتحكمون في مصطلح الإرهاب ويضعونه على من يشاءون ويرفعونه عمن يشاءون.
النقطة الأخيرة هي التدخل في الشئون الداخلية للدول وهذا أمر واضح فربما لفترة قادمة الله أعلم بأمدها ستواجه كثير من الدول الإسلامية ألواناً من التدخل المؤذي في شئونها الخاصة، في إعلامها، في مناهج تعليمها، في المناهج الدينية والكليات الشرعية، في قضايا المرأة، في قضايا الأقليات كما يسمونها، في الحريات الدينية إلى غير ذلك من العبارات التي كثيراً ما تتردد في التقارير التي تصدر سواء عن وزارة الخارجية أو عن منظمات الحقوق أو عن وزارة الدفاع وغيرها.
و لا شك أن الدول الإسلامية كلما أبدت نوعاً من طأطأة الرأس والاستسلام والقبول أغرتهم بمزيد من التدخل، وكلما استطاعت أن تراهن على شعوبها وتوحد صفها وتقاوم وتفرض سيادتها فإنهم يعيدون حساباتهم ويؤخرون مخططاتهم .
هناك ما يسمى بمبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والتي أعلنتها وزارة الخارجية الأمريكية قبل بضعة أشهر ورصدت لها 29 مليون دولار ربما هذه فقط نفقات الدعاية للمشروع، وأما المشروع نفسه فلا شك أنه سوف يستغرق مبالغ ضخمة ، لكن السؤال من سيدفع فاتورة هذه المبالغ ؟
الهدف الأساسي لما يسمى بالشراكة الأمريكية الشرق أوسطية هو إلحاق النظم العربية كلها بالمنظومة الأمريكية بواسطة إدارة مفروضة بقوة السلاح وقوة التهديد وقاعدتهم تقول: تكلم بلطف واحمل عصا غليظة، وذلك في ظل اختلال واضح للقوى بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، بل بين العالم الإسلامي ودولة إسرائيل بمفردها.
إن الإدارة الأمريكية بتوجهها الصهيوني المسيحي المتطرف مصرة على التدخل في خصوصيات المسلمين وعلى ممارسة لون من التغيير في داخل المجتمع الإسلامي على المستوى الثقافي والعلمي والتعليمي والسياسي وغيره.
وهاهنا السؤال: هل يمكن بروز محور عالمي جديد يواجه هذه القوة المستفردة المتغطرسة؟
هذا السؤال يطرحه الكثيرون ، وفي تقديري أن هذا هو المتفق مع السنن الإلهية فإن الله سبحانه وتعالى يقول: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"[البقرة:251] فسنة المدافعة قائمة في الغالب والآن هناك استفراد أمريكي، وإن كنا ندرك أن ثمة قوى لا توافق الإدارة الأمريكية على منطلقاتها، لكنها لم تصل بعد إلى أن تبلور نفسها وموقفها بحيث تستطيع أن تواجهه أمريكا وعدوانها.
لماذا لم يبرز حتى الآن محور جديد سواء في أوروبا أو في الصين أو في آسيا أو في غيرها ؟
كثير من هذه الدول قد تطرح هذا المحور المشاكس؛ لأجل الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، لكن ليس بشكل جدي وعملي لعدة أسباب أولاً: الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن معظم دول العالم بما فيها الصين وأوروبا مرتبطة مع الولايات المتحدة الأمريكية بشراكة استراتيجية اقتصادية وسياسية يصعب عليها التخلي عنها.
ثانياً: التفوق الأمريكي الساحق في مجال القوة العسكرية، فيكفي أن تعرف مثلاً أن ميزانية الدفاع الأمريكية عام 2001/ 2002م لسنة واحدة تعادل 370 مليار دولار بما يعادل الميزانية العسكرية للدول الست الكبرى مجتمعة.(14/406)
هذا التفوق الهائل في مجال القوة العسكرية، فضلاً عن تفوقها في مجال التقنية والتصنيع يجعل كثيراً من الدول تحجم عن مثل هذا الموقف.
إن دول أوروبا تشعر أن الهوة بدأت تتسع مع أمريكا وأن حلف الأطلسي بدأ يتحجم دوره، بل بدأ يفقد دوره وفي مؤتمر السياسة الأمنية الذي عقد في ميونخ في ألمانيا بدأت بوادر الخلاف بين أمريكا وبين دول أوروبا مع أن هذا المؤتمر يمثل أحد المؤسسات التي ترسم السياسة العالمية تقريباً، ومع ذلك برز فيه نوع من الخلاف، لكن السؤال متى يتحول هذا الخلاف إلى نوع من المواجهة مع الاستفراد والغطرسة الأمريكية ؟
نحن أمام مرحلة جديدة صعبة وطويلة والمهم ألا ننسى بعد هدوء الأحداث أننا فعلاً دخلنا إلى مرحلة جديدة وأن لهذه المرحلة تبعاتها ومقتضياتها الواجبة علينا أفراداً ومجموعات وشعوباً وحكومات.
من الخطأ أن نفترض أن جميع الخيوط هي بأيدي هؤلاء القوم أو أولئك ؛ فإن الضعف يبدأ من القوة، والقوة تبدأ من الضعف والإشارة القرآنية معبرة "خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً "[الروم:54] وقد رأينا كيف أن الشعب الفلسطيني بضعفه وقلة إمكانياته استطاع من خلال الحجر ـ الذي يرمي به عدوه ـ أن يقلب كثيراً من القوى والموازيين.
علينا أن ندرك أن في أيدينا خيوطاً كثيرة وأعظم خيط في أيدينا أن نستمسك بحبل الله عز وجل فإنه الركن إن خانتك أركان، والله جل وعلا يقول: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا"[آل عمران:103] فإن الاستمساك بحبل الله والصدق مع الله تبارك وتعالى وإرادة التغيير في نفوسنا جديرة بإذن الله عز وجل أن تصنع لنا شيئاً كثيراً في هذه المرحلة الحرجة والخطيرة من تاريخنا.
علينا أن نحذر من التشاؤم واليأس من الإصلاح في ظل الظروف التي نعيشها الآن لنعطي أنفسنا فرصة في أن نفرح بفضل الله تعالى وبرحمته وبمستقبل منشود وبألوان من الخير وإن أصابنا غم وكآبة من جراء ما نرى ونشهد من التفوق العدواني والتسلط على البلاد الإسلامية.
إن الإنسانية في الإصلاح قائمة الآن وهي موجودة في أيدينا ووفق رؤيتنا وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم أن التقرير الأمريكي يقول: سنحول المحنة إلى فرصة سانحة لنا للتغير واستدراك ألوان من الخلل الموجود لدينا، فعلينا نحن أن نطلق الشعار ذاته، إنه شعار قرآني "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا*إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا"[الشرح:5-6] يسر من عند الله عز وجل لا شأن للبشر فيه ، لكن ثمة يسر آخر يصنعه الناس يستخدم فيه الناس قدراتهم وإمكانياتهم وطاقتهم وما أعطاهم الله عز وجل لتحويل هذا العسر إلى يسر وكما يقول سبحانه : "فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ"[الشرح:7-8] ارغب في العبادة و الاستعانة بقدرته جل وعلا وقوته واستخدام ما أقدرك الله عليه .
العالم الإسلامي اليوم يملك قوات لا يستهان بها في العديد البشري والموقع الجغرافي و الثروات الهائلة و إمكانيات كبيرة وكثيرة يمكن أن نراهن عليها فيما لو وجدت إرادة التغيير في العالم الإسلامي، إذاً بإمكاننا أن نصنع الإصلاح وفق رؤيتنا الإسلامية الخاصة متى ما وجدت الإرادة لدينا.
من المهم وجود المؤسسات والتجمعات والمبادرات العامة والخاصة في المجتمعات الإسلامية.
إن البناء هو خير تعبير عن الدفاع، نحن الآن في موقع حرب و أزمة و نازلة، بل في هزيمة، إن البناء هو خير تعبير عن هذا الدفاع والحدث أحياناً يصنع لدينا عقلية الدفاع أكثر مما يصنع لدينا عقلية البناء والواجب أن نسعى وننهمك في مشاريع إصلاحية بنائية في الدعوة والتعليم والاقتصاد و العلم و العمل وفي كل مجالات الحياة التي نحتاجها، إن الهزيمة التي منينا بها ليست هزيمة عسكرية فحسب، وهكذا الإصلاح يجب أن يكون إصلاحاً شمولياً في نواحي الحياة كلها.
إن من المهم إحياء روح الأممية في العالم الإسلامي، ما زلت أتذكر عام 1981 حينما ضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي وأن كثيراً من الناس من الإسلاميين وغيرهم ربما شعروا بنوع من البهجة والاغتباط لأنهم اعتبروا أن تلك القوة هي ملك لحزب البعث فحسب، وهانحن نشهد اليوم أن تلك الضربة ربما كانت تمهيداً لما نراه الآن من القضاء على أصل النظام في العراق ولا أعني بالنظام النظام الحاكم، ولكن أعني النظام الذي يضبط حياة الناس ويمنعهم من الفوضى ويحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم.
إن ذلك الاغتباط الذي عاشه بعضنا يوماً ما بضرب المفاعل النووي العراقي أو الذي عاشه آخرون بهزيمة الجيوش العربية أمام "إسرائيل"؛ لأنهم يقولون: هذه جيوش لو انتصرت لظلت على ما هي عليه، إنما يعبر هذا عن قدر من عدم الشعور بالأخوة الإيمانية بين أفراد العالم الإسلامي، وعدم حزن المسلم لكل ما يصيب أخاه المسلم حتى لو كان على خلاف معه أو كان له أجنده خاصة أو نظام خاص فإن روح الإسلام ينبغي أن تكون أقوى من الفواصل بين المسلمين ما دام الإسلام هو المرجع الأساسي لها.(14/407)
وإذا كان لدينا إمكانية القوة في العالم الإسلامي والله تبارك وتعالى يقول لنا: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ"[الأنفال:60] فإن الواجب على العالم الإسلامي اليوم هو السعي الصادق الجاد في الإعداد بكل صوره وألوانه وأشكاله.
" مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ " كل القوة مطلوب أن نعدها نعم يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: ( ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ) هذا لون من القوة العسكرية يتعلق بالرمي ولا شك أننا نرى اليوم أن رمي الصواريخ ورمي القنابل ورمي المدافع يحدث أثراً كبيراً في المعركة يتحكم غالباً في نتائجها كما رأيناه في أفغانستان والعراق ويوغسلافيا وغيرها.
فالرمي هو أساس القوة العسكرية، لكن علينا أن ندرك أن القوة العسكرية هي الحماية والإطار الذي يحفظ العالم الإسلامي ويحفظ مكاسب المسلمين وإنجازاتهم، ولكننا نحتاج معها وقبلها وبعدها إلى قوة علمية، قوة في الإدارة، قوة في الاقتصاد، قوة في التصنيع، قوة في الوحدة وترك التفرق.
إن الاتحاد قوة والاختلاف فرقة وعذاب ، ونحن نجد أن عدونا اليوم يتترس بأكثر من 285 مليون إنسان يشكلون ما يسمى بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال قدرته على توظيف كل القوى والطاقات والأحزاب بمختلف الاتجاهات لدعم وخدمة هذا الكيان المتسلط على العالم اليوم، ولذلك صار لها هذه القوة، بينما قَتَلَ المسلمين جميعاً أفراداً وجماعات وشعوباً ومدناً ودولاً داء التفرق والاختلاف فيما بينهم، وأصبحت ترى العدو يسهل عليه أن يوظف هذه التناقضات الإثنية و المذهبية والحزبية والطائفية في تدمير بعض المسلمين بعضاً، والقضاء على قوتهم وإنسانيتهم وتوفير قدراته الذاتية.
وأخيراً لابد من استشعار المسئولية الفردية "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا*لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*وَكُلُّهُمْ آتِيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا"[مريم:93-95] إن علينا مسئولية فردية وشخصية كبيرة تجاه بناء الفرد ذاته، نجاحك في مدرستك أو تعليمك أو وظيفتك أو بيتك نجاحك في تفكيرك وعقلك نجاحك في تعاملك مع الحدث نجاح الأسرة نجاح المؤسسة التجارية نجاح المؤسسة الدعوية نجاح المؤسسة الإعلامية كل هذه الأشياء ذات أثر كبير كلها تصب في نجاح الأمة.
ينبغي علينا في مثل هذه الظروف أن نحيي روحاً من روح الاجتماع في مسئوليتنا الفردية، أن نعقد اجتماعات ومجالس في الحي وفي المدرسة و على مستوى الأسرة وعلى مستوى البلد وعلى مستوى الجامعة أو المؤسسة وأن نتدارس قضايانا والمخاطر المحيطة بنا، وأن نستمع ونقرا ونتناقش ونتدرب على روح الحوار والاستماع إلى الآخرين وتقديم الرأي وتصحيح الرأي .
إننا بحاجة إلى أن نصحح أوضاعنا على الصعيد الفردي والجماعي قبل أن تنزل بنا النازلة أو تحل علينا الكارثة والله المستعان.
==============(14/408)
(14/409)
المرأة المسلمة والتحديات المعاصرة بين حديث القرآن والواقع (1- 3)
إنّ هناك نماذج من التحديات التي تتعرض لها المجتمعات المسلمة في هذا العصر، وهناك أفكارٌ تُطرح وتمثّل تلوثاً فكرياً خطير الأثر على مجتمعات المسلمين، ذلك أن الإنسان مجهز لاستقبال المؤثرات من حوله والإنفعال بها والاستجابة لها، وكمّا أنّه مستعد بحسب تكوينه الذاتي للرقي والارتفاع، فإنه مستعد كذلك لأن ينحطّ إلى أدنى من دركات الحيوان البهيم، يقول الله تعالى فيمن حادوا عن طريق الهدى وتنكبوا الصراط المستقيم: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ). الأعراف 179.
ومن العوامل المؤثرة في ارتفاع أو هبوط الإنسان ما يتلقى من تربية، وما تشيع البيئة حوله من مؤثرات، وما يشتغل به، ويوجه عبره غرائزه.
ومن أخطر ما يواجهنا في هذا العصر هذه الملوثات الفكرية التي تشكّك في الدين، وتهز الثوابت، وتفسد الأخلاق، وتنشر الرذيلة عبر وسائل الاتصال في وقتنا الحاضر، والتي أُسئ استخدامها أيما إساءة.
وما الحديث عن قضية المرأة التي تثار هنا وهناك، والمطالبة بحريتها المزعومة ونفيها عن أسباب الصيانة إلا أحد الأبواب الواسعة لإشاعة الرذيلة في المجتمع.
المرأة أمام التحديات:
إنّ المرأة تمثّل ثغراً من ثغور الفضيلة؛ ففي حفظها حفظٌ للفضيلة، وصيانة للنشء، وفي إفسادها إفسادٌ وتضييعٌ للمجتمع.
وإن مما يؤسف له أن كثيراً من هذه الدعوات صار يحمل لواءها بعضُ أبناء المسلمين، وهذا نتيجة للغزو المبكر لبلاد المسلمين، والذي سعى منذ البداية إلى تخريج جيل بعيد عن الدين، قد أُشربَ الولاء للغرب وقيمه وأنماط حياته، وذلك عن طريق المدارس الأجنبية (التنصيرية) التي تفتح في بلاد المسلمين.
جاء في تقرير إحدى اللجان التابعة للمؤتمر التبشيري الذي عقد عام 1910م:
"إن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثيراً على حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها".
وفي هذه المدارس تخرجت أجيال من أبناء المسلمين أو بالأحرى من متعلميهم ومثقفيهم متأثرة بضرب هذا الغزو المنظم، متطلعة إلى الأفق الغربي تستلهمه الرشد وترى فيه النموذج والمثل الأعلى، وتتشرب في نهم أنماط حياته سلوكاً وفكراً، بلا فحص، ولا بصيرة، ولا رأي سديد" .
وإذا أضفنا إلى ذلك البعثات التي كانت تتقاطر على الدول الأوروبية من أبناء المسلمين الذين يستكملون تعليمهم العالي، كانت هذه نهاية المطاف في الإجهاز على بقايا الإسلام في نفوسهم وطباع الشرق وعاداته، حيث لا يرجعون في الغالب إلا وقد تأثروا بوجهة الغرب وفلسفته، وبذلك أصبحوا رصيداً في حساب أعداء الإسلام بالسلوك والتربية والعادات الجديدة.
وقاسم أمين يُعدُّ واحداً من رواد تحرير المرأة في مصر، وهو نموذج لهذا الغزو، يقول د. عبدالستار فتح الله: "قاسم أمين كان نموذجاً لما يمكن للغزو الفكري وللتعليم الأجنبي أن يفعلاه في النفوس من خلع ولائها لأصلها، وفصل مشاعرها عن ظروف أمتها".
والتعليم كان أحد أخطر ميادين الغزو الفكري وأعمقها أثراً، إلا أن ميادين الغزو الفكري تعددت بأسلحته المتنوعة: "الفكرة والكلمة، والرأي والحيلة، والشبهات والنظريات، وخلابة المنطق، وبراعة العرض، وشدة الجدل، ولدادة الخصومة، وتحريف الكلام عن مواضعه" والقصة والصورة والقيم.
ولقد كان لهذا الغزو من الآثار السيئة في زعزعة المسلمين عن دينهم ما لم يستطعه الغزو العسكري على مدى قرون عديدة. وقال سبحانه: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).البقرة 217 .
ومعنى الفتنة في الآية على ما نقل القرطبي عن الجمهور: "فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا". "وكان المشركون يفتنون المسلمين عن دينهم بإلقاء الشبهات وبما علم من الإيذاء والتعذيب" .
ولهذا عقّب تعالى على هذا بقاعدة تمثل قانوناً من قوانين الصراع بين الإسلام والجاهلية على مر العصور فقال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا).البقرة217.
والقتال المذكور هنا عام يراد به ما وقع فعلاً من أساليب المشركين في محاولة صد المسلمين عن دينهم بالتعذيب والإيذاء أو التضييق عليهم في أرزاقهم أو تشريدهم في البلاد أو ضربهم بالشبهات وأنواع التشكيك، وما هو محقّق الوقوع في الغد القريب من الحرب المسلحة التي شنها المشركون على المسلمين بعد نزول الآيات، ثم ما يشابه ذلك ويشاكله إلى يوم القيامة .
فهذه التحديات التي يُجابه بها المسلمون في هذا العصر طرف من المعركة التي تركت آثار في بلاد المسلمين.
بعض آثار التحديات التي تواجه المرأة المسلمة:
وسأقف هنا مع بعض الآثار البارزة لتلك التحديات:
1- فقدان الهوية:
لكل أمة شخصيتها المميزة التي تتفرد بها عن غيرها، وهذه الشخصية تنبع من العقيدة التي تدين بها الأمة وما يتبع ذلك من خلق ومنهج وسلوك. وكل أمة واعية تحرص على هذا التفرد، وتنأى بنفسها عن أن تكون عرضة لفقد عناصر تميزها، وأن تصير تابعاً ذليلاً لغيرها.(14/410)
والغزو الفكري وعملية التغريب هدفها أن تستسلم الأمة المسلمة للثقافة والحضارة الغربية، فتذوب الشخصية المسلمة وتقبل الفناء والتلاشي في بوتقة أعدائها "بحيث لا ترى إلا بالمنظور الغربي، ولا تعجب إلا بما يعجب به الغرب، ولا تعتنق من الأفكار والمناهج إلا ما هو مستورد من الغرب، وتبتعد عن قيمها وعقائدها وأخلاقها المستمدة من شريعة الإسلام وتتنق هذه الديانة الجديد التغريبية" .
والناظر إلى حال المجتمعات المسلمة يجد وللأسف أن عملية التغريب والغزو الفكري الموجه إلى المجتمعات المسلمة نجحت إلى حد بعيد في محو ملامح تلك الشخصية والعبث بمقوماتها.
والناظر في حال المرأة المسلمة - خاصة - مربية الأجيال وحصن الفضيلة يروعه "فقدان المرأة المسلمة لهويتها الإسلامية وتمييز شخصيتها، وسحب قدر كبير من انتمائها لدينها" . حتى ضمر الفارق في الاهتمامات والممارسات في كثير من بلاد المسلمين بين المرأة المسلمة والمرأة الغربية . ولو أردنا أن نعقد مقارنة بين الملامح البارزة لشخصية المرأة المسلمة في ضوء الضوابط الشرعية، وبين ما آل إليه حال المرأة المسلمة في كثير من بلاد المسلمين لهالنا الفرق وبعد الشقة بين المثال والواقع.
فشعار المرأة المسلمة الظاهر هو الحجاب بالصفة التي حددها الشرع، يقول الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ). النور 31.
وهذا أمر من الله لنساء المؤمنين أن يلقين بالخمار إلقاءاً محكماً على المواضع المكشوفة؛ وهي الرأس والوجه والعنق والنحر والصدر، خلافاً لما كان عليه نساء الجاهلية من سدل الخمار من ورائها وتكشف ما هو قدامها.
ونهاها تعالى - لكمال الاستتار - عن الضرب بالارجل حتى لا يصوّت ما عليها من حلى فتعلم زينتاه بذلك فيكون سبباً للفتنة بها. قال تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ). النور: 31. ونهاها الله تعالى عن التبرج فقال سبحانه: (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى).الأحزاب 33.
والتبرج يكون بعدة أمور:
• يكون التبرج بخلع الحجاب، وإظهار المرأة شيئاً من بدنها أمام الرجال الأجانب عنها.
• ويكون التبرج بأن تبدي المرأة شيئاً من زينتها المكتسبة.
• ويكون التبرج بتثنّى المرأة في مشيتها وتبخترها وترفّلها وتكسّرها أمام الرجال.
• ويكون التبرج بالخضوع بالقول والملاينة بالكلام.
• ويكون التبرج بالاختلاط بالرجال وملامسة أبدانهن أبدان الرجال، بالمصافحة والتزاحم في المراكب والممرات الضيقة ونحوها .
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الخلوة والسفر بغير محرم: "لا يخلونّ أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" . "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم لها" .
فما نصيب المرأة المسلمة من هذه الضوابط التي أوجبها الله تعالى عليها؟!.
إن أكثر النساء المسلمات بعيدات كل البعد عما شرع الله تعالى وأوجب عليهن.
لقد صارت المرأة تخرج في كثير من بلاد المسلمين حاسرة الرأس، مكشوفة الصدر والساقين، متزينة متعطرة متبرجة، تخالط الرجال، وتزاحمهم في كل مكان وميدان.
بل قد بلغ ببعضهن النأي عن أوامر الله سبحانه والإمعان في تقليد المرأة الغربية الكافرة إلى حدّ العري على الشواطئ بلا حياء، والأعتى من ذلك والأمرُّ أن بعض النساء تفخر بهذه التبعية والانسلاخ عن أوامر الله وتعدّه تقدماً ومدنية، تقول إحداهن - وهي فتاة تركية - في بعض الموانئ الإنجليزية: "إننا نعيش اليوم مثل نساءكم الإنجليزيات، نلبس أحدث الأزياء الأوروبية، ونرقص وندخن ونسافر وننتقل بغير أزواجنا".
ومن لم تصل إلى هذه الدرجة ولا يزال المكر بها في أول الطريق فقد تدخلت الموضة في عباءتها وحجابها حتى أفقدتها غايتها من الستر والحشمة "وأصبحت العباءة رمز لإبداء الزينة وإظهار الفتنة وإبراز المفاتن والمحاسن. فهناك تفنن في إدخال بعض النقوش والزخارف والتطريزات، وهناك شفافية في نوع القماش وظهور ألوان متعددة على جوانب العباءة وأطرافها، وهكذا أصبحت العباءة رمزاً للموضة والفتنة" . وهذا التدرج في الإخلال بشروط الحجاب طريق إلى نزع الحجاب كما حدث في كثير من بلاد المسلمين، حتى انسلخت المرأة عن دينها وفقدت هويتها الإسلامية.
سئل حذيفة رضي اله عنه: "في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينهم؟! قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه حتى انسلخوا عن دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه).
إن الحجاب جاء ستراً وشعاراً للمرأة المسلمة، وهو أوضح مظاهر الطاعة والتسليم لأمر الله تعالى وأمر رسول صلى الله عليه وسلم .(14/411)
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: " إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار؛ أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيمانا بالتنزيل؛ ولقد أنزلت سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها، ويتلو الرجل على امرأته، وابنته، وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها(1) المرحل فاعتجرت(2) به، تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول ا صلى الله عليه وسلم متعجرات كأن على رؤسهن من الغربان"(3).
وعنها رضي الله عنها قالت: "يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن أكثف مروطهن فأختمرن به" (4).
هذا حال المسلمات الأُوَل، أمّا اليوم فقد وصلت كثير من المسلمات إلى حال يرثى لها في فقد الصلة بدينها، فلم يعد هو الموجه لما تمارسه، بل إنها تتلقف كل ما يأتيها من الغرب الكافر، وكأنه ليس لها مرجع ترد إليه أمورها، وإليك هذه الصورة المزرية من التقليد الأعمى وفقدان الهوية:
نشرت مجلة الأسرة (عدد 81 ذو الحجة 1420هـ) ما يلي: "لفيف من البنات دخلن قاعات المحاضرات يوم 14 فبراير وقد ارتدت كل واحدة منهن ثوباً أحمر، وألصقت على وجهها رسوماً لقلوب حمراء بعد أن وضعت مساحيق التجميل الحمراء على وجهها، وبدأن يتبادلن الهدايا ذات اللون الأحمر مع القبلات الحارة، هذا ما حدث في أكثر من جامعة في بلد إسلامي، بل وفي جامعة إسلامية احتفالاً بعيد الحب، أو بالأحرى عيد القديس فالنتاين" .أ.هـ.
إن التقليد وفي هذه الأمور - فضلاً عن تحريمه - فهو صورة للتبعية الذليلة التي ينبغي أن يرغب عنها.
وملامح التبعية في أقطار كثيرة من أقطار المسلمين واضحة جليّة سواءاً في ملايين المسلمات الكاسيات العاريات ومحترفات اللهو والمجون وفي الألوف المؤلفة الذين يعبون عبئاً من فكر الحضارة المادية الملحدة ويستقون من مستنقعات ثقافتها وتصوراتها، ثم يقذفون بها أمتهم في كل ميدان (5).
"وإذا كانت الأمم تحرص على استقلالها الفكري والاجتماعي بدافع من العزة القومية أو الكرامة الوطنية أو غيرهما فإن المسألة عندنا تختلف تماماً، لأن استقلالنا في هذه الأمور هو قضية عقيدة ودين، ومسألة وجود ومصير، ومسئولية رسالة ودعوة، وضرورة بعث وإنقاذ لأنفسنا وللعالمين، ثم هي مهمة قيادة وهداية، وتمكين لخط الوعي المشرق، وتمييز له عن المناهج والنماذج البشرية التي سيطرت على الأرض وملأتها ضلالاً وإلحاداً وعناداً.
وهذا كله يأبى علينا التبعية كل الإباء، بل إن التبعية هنا تصبح خيانة لرسالتنا وجناية على أمتنا، وشروداً بالقافلة عن طريق ربها الواحد القهار" (6).
2- الفراغ الفكري والروحي والإغراق في التوافه:
لقد اعتنى الإسلام بما يقود النفوس إلى الخير ويعمل على تزكيتها من العلم النافع والأدب الحسن، يقول الشيخ السعدي في تفسير قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً).] التحريم: 6 :"وقاية الأهل والأولاد بتأديبهم وتعليمهم وإجبارهم على أمر على أمر الله" (7).
وجعل صلى الله عليه وسلم العلم فريضة على كل مسلم(8). وأرشد إلى فضيلة تعليم المرأة: "أيما رجل كانت عنده وليدة، فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم اعتقها وتزوجها فله أجران"(9).
وخصّ النساء بالحديث "جاءت امرأة إلى رسول ا صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، فقا صلى الله عليه وسلم : اجتمعن يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا. فاجتمعن فأتاهن فعلمهن مما علمه الله" (10).
وفي هذا الجو حرصت النساء المسلمات على التفقه في الدين، فعن أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعن الحياء من التفقه في الدين" (11).
ولا شك أن تربية المرأة هو مجال إصلاح الأسرة وإنشاء جيل صالح، ولذا حرص الإسلام على تعليمها وتأديبها لما لها من دور عظيم في بناء الأسرة، إلا أن المرأة في ظل هذه الدعوات الفاسدة والإعلام الموجه للمرأة أبعدت كثيراً من أن تكون محضناً صالحاً للأجيال، حيث مارست هذه الوسائل تهميشاً واضحاً لفكر المرأة وتعاملت معها على أنها جسد وحسب، سيل من البرامج الترفيهية التافهة وصفحات تعج بالغث من الموضوعات التي تحصر اهتمامات المرأة بالشكل والجمال وكيفية جذب الأنظار إليها(12).
"وهذا كله جعل المرأة نفسها تعيش خواء فكرياً وفراغاً روحياً، وخلجاً عجيباً بين الغايات والوسائل" (13). "ففي الوقت الذي يتبلور المفهوم الإسلامي المعتدل للجمال على أنه وسيلة تأخذ من المرأة قدراً معيناً تحقق به أنوثتها، يزرع الإعلام في حسّ المرأة أن الجمال المظهري غاية تستحق أن تبدد المرأة جهدها ووقتها ومالها لأجله"(14).(14/412)
وفي حين نجد النماذج الحرية بالأسوة من أزواج رسول ا صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين كان لهن قصب السبق في العلم والعمل، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عالمة عاملة.
عن أبي موسى قال: "ما أشكل علينا أصحاب صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما"(15).
وعن عروة قال: "لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة، ولا بسنّة، ولا بشِعر، ولا بقضاء، ولا طبّ منها" (16).
وتقول عائشة عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: "ولم أرَ امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي يتصدق به ويتقرب إلى الله عز وجل" (17).
إلا أن المرأة في وقتنا الحاضر قُدم لها نموذجٌ للأسوة من الفارغين والفارغات، بل في أحيان كثيرة من الساقطين والساقطات من أعلام الفن ورائدات السفور.
ولذا صار من المألوف في هذا الوقت أن تجد المرأة والفتاة - خاصة - تعرف من أسماء ماركات الأزياء العالمية وأسماء الفنانين والفنانات، بل تفاصيل حياتهم الخاصة الشيء الكثير، لكن لو سئلت عن بعض أحكام الطهارة والصلاة لوجدت جهلاً فاضحاً، فضلاً عن أن تعرف سير الصحابيات ومعالم نهجهن، ولا يقتصر هذا الفراغ والخواء على الفتيات بل يشمل الشباب من الجنسين.
وفي بحث قامت به مجلة الأسرة (العدد 83، صفر 1421هـ) عن طريق استبانة وزعت على (1000) شاب وفتاة من طلاب الجامعات في الرياض، والدمام، وجدة، حول ما هو معلوم بالضرورة من الدين والجغرافيا والتاريخ والأدب والفن والرياضة، كانت أعلى نسبة في معدل الإجابات الصحيحة هي:للفن 88%، ثم الرياضة 87%.
وفي أدنى القائمة كانت الثقافة الإسلامية، فالتاريخ، بنسبة 58% للثقافة الإسلامية، و57% للتاريخ!.
وأشارت المجلة في العدد نفسه إلى استطلاع قامت به صحيفة الرأي العام الكويتية على (100) طالب وطالبة من كليات مختلفة عُرضت عليهم قائمة تضم 32 اسماً لشخصيات وأحداث عامة، كانت الشخصية الوحيدة التي عرفها الجميع ولم يخطئ فيها أحد مطربةٌ إماراتية تُدعى (أحلام).
إنّ هذا الخواء وتفاهة الاهتمامات للأسرة دورٌ فيه، وهو يدل على مدى قصور المرأة علميا ودينياً عن الوفاء بتوجيه الأبناء إلى ما يدلهم على الخير ويرفعهم فكرياً وروحياً، حتى يكاد ينطبق على كثير من أبناء المسلمين اليوم قوله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ). ]الروم:7 [.
ولا شك أن كثيراً من انحرافات ومشكلات الشباب والفتيات تتصل بهذا الجانب وتنبع منه، فافتقاد العلم النافع، والموعظة التي توقظ القلوب والتوجيه إلى النماذج الحرية بالاقتداء يفرغ معه القلب عن ما يعين على الخير.
3- الجرأة على الدين:
أصل الدين يقوم على تعظيم الله وتعظيم رسول صلى الله عليه وسلم ، والتسليم لحكم الله وحكم رسوله، يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم). ]الأحزاب: 36[.
يقول ابن كثير: "فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفيه ولا اختيار لأحد ها هنا، ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)" (18). ] النساء: 65 [.
... يُتبَع إن شاء الله تعالى،،،،،،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرط: كساء.
(2) الاعتجار: أن يلف الكساء على الرأس ويرد طرفه على الوجه.
(3) رواه أرو داود.
(4) رواد أبو داود.
(5) انظر الغزو الفكري ص272.
(6) المرجع السابق ص270 باختصار وتيسير.
(7) تفسير السعدي ص809.
(8) في حديث رواه ابن ماجه.
(9) متفق عليه.
(10) رواه البخاري.
(11) رواه البخاري.
(12) انظر البيان ع149 ص79.
(13) المرجع السابق.
(14) المرجع السابق.
(15) الترمذي عن سير أعلام النبلاء (2/179).
(16) أبو نعيم في الحلية. عن سير أعلام النبلاء (2/183).
(17) رواه مسلم. ش
(18) تفسر ابن كثير (6/423).
---------------
إنّ مما ابتلى به كثيرٌ من الناس في هذا العصر اقتحام كثير منهم لسياج الدين وحرماته، وتعدّيهم على قاعدة التسليم لكتاب الله وسنة نبي صلى الله عليه وسلم .
فالسمة البارزة لكثير من الكتابات والأقوال التي تناولت موضوع المرأة مثلاً؛ السمة البارزة لها: الجرأة على النصوص، والتطاول على أحكام الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، والاستخفاف بالدين القيّم، هذه حال كثير ممن يسمون المتنورين (المستغربين) الذين تتلمذوا على مدارس الفكر الغربي وعبوا من مناهجه وأصوله.(14/413)
ولو لا الحاجة من جهة لمعرفة الخطر الذي يتهدد المجتمعات المسلمة - وفئة الناشئة خاصة - من مثل هذا المنهج، ثم من جهة أخرى تلمس ما أحدثه التغريب في أبناء المسلمين لكنت أربأ عن نقل أقوالهم لما فيها من جرأة صارخة على الدين، واستهانة برموزه.
فهذا باحث مغربي يُدعى (عبد الصمد الديميالي) يقول في مؤتمر نسوي عقد في اليمن وأشارت لما ورد في هذا المؤتمر مجلة الأسرة (العدد 81 ذو الحجة 1420هـ): " إن الدين ظلمَ المرأة حينما لم يسوّ صراحة بينها وبين الرجل ". ويقول وبكل صفاقة ما نصه: " إذا لم تكن النصوص القرآنية صريحة وواضحة في المساواة بين الرجل والمرأة فلنلق بها في مزبلة الأيدلوجية ".
واختتم ورقته التي أثارت غضب المسلمين في اليمن بالدعوة صراحة إلى الحرية الجنسية بعيداً عن نظام الأسرة التي وصفها بأنها نظام برجوازي.أ.هـ.
وتتضح علة هذا الرجل عندما ننظر إلى الثقافة التي استقاها حيث يقول عن نفسه: " إنني شخصياً وحينما كنت في الثالثة والعشرين من عمري تأثرت بكتاب (الحرية الجنسية) لريشين الذي يهاجم نظام الأسرة ".أ.هـ.
وطالبت نوال السعداوي في مؤتمر صحفي عقدته ودعت إليه الوكالات الغربية العاملة في مصر وحدها مطلع هذا العام طالبت: " بتشريعات نسوية علمانية لا يكون فيها أي سلطان أو حق على حد تعبيرها " (1).
وسبحان الله ما أحلمه على خلقه!.
وينقل عبد السلام بسيوني في كتابه (ماذا يريدون من المرأة)، ينقل عن إحداهن مناقشتها ربها - عز وجل - وردّ أحكامه، ودفعها لأراء الفقهاء الذين عمقوا - كما تقول - دونية المرأة، منطلقين من تركيبها البيولوجي، وينقل عنها قولها: " لا أفهم - كامرأة - علاقة الحيض والإنجاب أو عدمه بتخصيص، أو عدم تخصيص جنس دون آخر بالرسالات والتنبؤات، وقيادة الحروب، ولا سبب نقصان الثواب ".(2).
وللمزيد من هذه الأقوال الفجة يُراجع ما نقله البسيوني عن أمثال هؤلاء، وكذلك ما نقله المقدم في (عودة الحجاب) وغيرهما.
إنّ هؤلاء المتطاولين الناقمين على الدين وأهله هم ثمرة من ثمار التغريب، وحملات التشكيك والهجوم على الدين وأحكامه، وهذه السموم والأقوال التي يبثونها في الصحف والندوات والمنابر الإعلامية المختلفة لها أثرها السيئ الظاهر في المجتمعات الإسلامية.
فها نرى أكثرهم يسلّم بكلام الطبيب والفيزيائي وغيرهم، أمّا أحكام الشرع وأحاديث الرسو صلى الله عليه وسلم فتناقش وترد ويتطاول عليها.
4- ضعف عقيدة الولاء والبراء
إنّ الحب في الله والبغض في الله هو أوثق عرى الإيمان كما بين الرسو صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حيث قال: " يا أبا ذر، أيّ عرى الإيمان أوثق؟! قال: الله ورسوله أعلم: قال: الموالاة في الله والحب في الله والبغض في الله " (3).
إنّ هذه الشعيرة التي لها هذا القدر العظيم في ميزان الإيمان ذابت ملامحها في حس كثير من المسلمين في هذا الوقت، وسأعرض هنا لمظاهر بارزة من ذلك عبر النقاط التالية:
أ- هذا التمجيد للنموذج الغربي وعرضه عرضاً مغرياً عبر وسائل الإعلام المختلفة قربه إلى النفوس وكسر حاجز الشعور بفوارق العقيدة وعداوة الكفار.
تقول د. زينت حسن أستاذة الاجتماع بكلية البنات بجامعة عين شمس وهي تتحدث عن أثر السينما في مصر خلال فترة الاحتلال الإنجليزي:
" من ناحية فقد سعت إلى كسر حاجز الرفض الشعبي ضد الاحتلال الإنجليزي وضد الدول ذات الأطماع الاستعمارية الأخرى مثل فرنسا وأمريكا، وبناء علاقة أخرى تقوم على أساس القبول والإعجاب، وهي علاقة كانت تجد رفضاً من بعض المشتغلين بالسياسة باعتبار أن هذا القبول يعد نوعاً من التطبيع مع المستعمر، وبذلك أفادت السينما هذه الدول الاستعمارية، فيكفي أن يحب الجمهور ممثلة إنجليزية أو ممثلاً فرنسياً لتنكسر حدة العداء المستحكم بينه وبين هذه الدول "(4).
هذه وسيلة واحدة أثرت هذا التأثير في فترة احتلال، فما بالك بأنواع الوسائل المبثوثة في هذا الوقت؟!.
ب- من آثار هذا التمجيد والفرض للنموذج الغربي مع عقدة النقص التي يستشعرها المغلوب دائماً دفعاً للتقليد والمشابهة، فالمغلوب "مولع أبداً بالاقتداء بالغالب" كما يقول ابن خلدون.
ومعلوم أن المشابهة تورث التقارب والمودة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ( المشاركة في الهدى توجب أيضاً مناسبة وائتلافاً بعد المكان والزمان)(5). ويقول أيضاً: ( المشابهة في الظاهر تورث نوع ومودة، ومحبة، وموالاة في الباطن ) (6).
ت- ربط قضية المرأة بالمرأة، وهذا فيما يمكن أن يسمى قومية نسائية لا تفرق بين يهودية ولا نصرانية ولا وثنية، فلا عجب أن نجد امرأة مسلمة ممن تولين إدارة تحرير مجلة سيدتي في فترة مضت تجري مقابلة مع الهندوسية أنديراً غاندي في إجلال وإعظام، وتذكر أنها سعت لهذه المقابلة العظيمة شهوراً حتى قابلتها، وتقول هذه الدكتورة المسلمة: " بدأ اختيار مدخل الحديث عن السيدة إنديراً غاندي أمراً محيراً وليس سهلاً "(7).
وكل هذا الإعظام لهندوسية تعبد البقر وقتلت آلافاً مؤلفة من المسلمين!.
لكن ليست هذه قضيتهم! فجُل ما يعنيهم أنها رئيسة وزراء (امرأة)!.
5- الانحلال الأخلاقي(14/414)
يقول الله تعالى: (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).
العفة وطهارة المجتمع يمزقهما الاختلاط والسفور، وهذا أمرٌ ظاهر في حياة المجتمعات، فمنهج الله تعالى سبيل حفظ المجتمع من الانحلال والفساد الأخلاقي، ومنهج دعاة التحرير هدم الأخلاق والأعراض.
يقول محمد فريد وجدي : " إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، أصبحت المحاكم غاصّة بقضايا الأعراض، وهربت الشابات من دور أهلهن " (8).
ولو نظرنا إلى حال المجتمعات الغربية - التي هي النموذج الأعلى للمستغربين، والتي يسعون سعياً حثيثاً إلى أن تحذو المرأة المسلمة حذو نسائها - لوجدنا فساداً أخلاقياً مريعاً، وهذه نظرة عجلى على بعض الشواهد من واقع تلك المجتمعات، وعبر بعض الإحصائيات والدراسات المنشورة عن أحوال تلك المجتمعات، والصادرة عن مؤسسات عالمية أو جهات محلية في تلك البلاد، وهي بهذا تكسب قيمة خاصة، لأنها تنبع من معاناة هؤلاء القوم أنفسهم، وليست انطباعات لدى من يخالفهم الاعتقاد والمنهج.
** هناك دراسة علمية أجراها باحثان أمريكيان حول المجتمع الأمريكي وشملت الدراسة عينة كبيرة من المواطنين الأمريكيين الذين شاركوا بآرائهم في القضايا المطروحة للدراسة ونشر الكتاب عام 1991م تحت عنوان: (يوم أن أعترفت أمريكا بالحقيقة).
وردت في هذا الكتاب حقائق خطيرة عن واقع هذا المجتمع، ومن ذلك مشكلة الاغتصاب المنتشرة هناك، فقد ذكر الكاتبان ما نصه: "20% من النساء اللاتي تحدثنا معهن أخبرتنا بأنهن قد اغتصبن في لقاء مع أحد أصدقائهن!، وعندما نتصور هذا الرقم على المستوى الوطني فإنّ هذه المسألة تعني ما يقارب من تسعة عشر مليونا من النساء في أنحاء الولايات المتحدة كن ضحايا الاغتصاب ".
ويشير الكاتبان إلى أن الإحصاء الرسمي لا يعبر عن حجم المشكلة، لأن 3% من ضحايا الاغتصاب يبلغن الشرطة ويسجل الحادث رسمياً وفق ما ورد في دراسة قامت بها إحدى الجامعات الأمريكية.
وفي إيطاليا ذكر تقرير حديث صدر هناك، وأشارت إليه مجلة الأسرة في (العدد 7، محرم 1420هـ) أن:" 40% من نساء إيطاليا من أعمار (14) إلى (59) من ضحايا الاغتصاب." .
وتوصل التقرير إلى: إن 14 مليون امرأة في إيطاليا يخشين السير بغير رفقة في الشوارع المظلمة، أو في الأماكن المهجورة، في أي وقت من أوقات النهار، وأن عمليات الاغتصاب تجري في المنازل وأماكن العمل بلا تمييز، وأن كثير من عمليات الاغتصاب تمر دون الإبلاغ عنها.
وفي جنوب أفريقيا ذكرت صحافية جنوب أفريقية أنه في كل نصف دقيقة تغتصب امرأة في ذلك البلد.
وتقدر الجهات الأمنية عدد حالات الاغتصاب التي يتم البلاغ عنها بأنه لا يتجاوز (2,8%) من إجمالي حالات الاغتصاب التي تحدث بالفعل في جنوب أفريقيا مما يرفع العدد الإجمالي للنساء المغتصبات كل سنة إلى مليون امرأة. وقد نشرت ذلك مجلة الأسرة (العدد 73، ربيع الآخر 1420هـ).
أما عن المضايقات غير الأخلاقية:
فقد ذكرت التقارير إن: " 42% من النساء الأمريكيات يتعرضن لتحرشات غير أخلاقية في أماكن العمل والدراسة، والمنتديات، وفي الشوارع.
أما في بريطانيا فالنسبة (4,7%) " .
وفي ألمانيا اضطرت 6% من النساء الألمانيات سنة 1990م إلى هجر وظائفهن بسبب تطاول زملائهن عليهن، والتحرش بهن جنسياً. نشر ذلك في مجلة الأسرة (العدد 80، ذو القعدة 1420هـ).
ونشرت جريدة الرياض في عدد الجمعة 29 صفر 1421هـ خبراً حول تفاقم مشكلة التحرش بالنساء في اليابان والذي بلغ درجة القتل، وأن القضية أثيرت بقوة بعد مقتل فتاتين من قبل صديقين سابقين أصرّا على ملاحقة الفتاتين. وقالت: هيرومي شيراهاما خبيرة القضايا القانونية في الحزب الديمقراطي: " إن حوادث التحرش تكاثرت جداً في السنوات الأخيرة، وبات من الضروري وضع قانون وطني لمكافحتها ". أ.هـ.
وجاء في الخبر أن التحرش في القطارات متفاقم إلى درجة أن المسئولين في شركة القطارات الأرضية يفكرون بتخصيص عربات خاصة بالنساء.أ.هـ.
وسبحان الله، صيانة المرأة وإبعادها عن أن تكون موطن فتنة أمرٌ شرعه الله العالم بطبيعة النفوس، وها هو الواقع يضطرهم إلى إبعادها عن مخالطة الرجال. هذا حال المجتمعات المتحللة. والعاقل يبدأ من حيث انتهى الآخرون.
6- انقلاب قائمة الأولويات عند المرأة
إنّ هذه الدعوات التي لا تقيم وزناً لدور المرأة العظيم في المنزل - أمّا وزوجة ومربية أجيال - أثّرت في حس المرأة، وقلصت من اهتمامها بذلك ولم تعد رسالتها الأولى لها الأولوية في حياتها، وصارت تبحث عن نفسها - كما يقولون - خارج المنزل وتلقي بكثير من مسئوليات المنزل على عاملة مستقدمة غير مؤهلة لهذه المهمة، بل قد تكون سبباً لإفساد الأسرة والأولاد.(14/415)
والتهاون بهذا الدور - دور المرأة داخل المنزل - يمثّل أثراً واضحاً لهذه الدعوات التي صورت البيت على أنه سجن ظلمت المرأة بقرارها وبقائها فيه، وأنّه تعطيل لنفعها، فهي عضو غير منتج ، وغاب عن شعور الكثيرات عظم هذا الدور في حياة المجتمعات، ثم عظم الأجر الذي تناله المرأة بالإحسان في هذا الجانب.
أتت أسماء بنت يزيد رضي اله عنها صلى الله عليه وسلم فقالت: " إني رسول من ورائي من جماعة نساء المسلمين، فهن يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي: إن الله تعالى بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك، واتبعناك، ونحن معاشر النساء مقصورات مخدرات قواعد بيوت، وإن الرجال فضلوا بالجمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربينا أولادهم، أفنشاركهم الأجر يا رسول الله؟. فألتفت رسول ا صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: " هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالاً عن دينها؟! فقالوا: بلى يا رسول الله. فقا صلى الله عليه وسلم : " انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال "(9).
هذا ما تيسّرت الإشارة إليه من آثار هذه الهجمة الشرسة على المرأة المسلمة والمجتمع المسلم في هذا الزمن.
وهذا الحديث محاولة لتلمس جوانب الداء، لندرك الأثر السيئ لمثل هذه الدعوات، فنسعى للنأي بمجتمعنا عن تلك المنزلقات.
والله أسأل أن يحفظ علينا - في بلدنا هذا خاصة وفي بلاد المسلمين عامة - ديننا وأمتنا وعفافنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تمّ بحمد الله تعالى،،،،،،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البيام العدد 149 ص60.
(2) ماذا يريدون ص21، والقاتلة هي سلوى حماش.
(3) حسن بشوهده كما نقل المقدم في عودة الحجاب من محقق شرح السنة للبغوي.
(4) الأسرة عدد 72 ربيع الأول 1420هـ.
(5) اقتضاء السراط المستقيم ص220.
(6) المرجع السابق ص221.
(7) عن المرأة المسلمة أما التحديات ص322-323.
(8) عن المرأة المسلمة أمام التحديات ص294.
(9) رواه أحمد وصحح الألباني إسناده
================(14/416)
(14/417)
الأطر المتعددة وحقوقها
حامد بن عبدالعزيز الحامد 17/9/1424
11/11/2003
" حامد الحامد يتحدث عن الأطر المتعددة في العلاقة بين الناس وحقوقها التي تتكامل ولا تتقاطع فهل من واع ؟ " .
(المشرف على النافذة)
وأعني بهذه الأطر العلاقات التي تربط الإنسان بمن حوله، كالدين والبيئة والرحم والتوافق الفكري والوظيفي وغير ذلك من العلاقات.
إن الإنسان بفطرته يعلم أن لكل علاقة من هذه العلاقات حقوقا خاصة.
وإذا أردنا أن نمثل هذه الأطر المتعددة على شكل دائرة هندسية فإننا نجعل الإسلام في إطار، والبيئة في إطار، والرحم في إطار، والتوافق الفكري - كمذهب فقهي أو مشروع إصلاحي أو انتماء حزبي أو نحو ذلك- في إطار.
وبعد تحديد هذه الأطر وتمييزها ومعرفتنا لحقوقها نعطي كل إطار حقه، لنعيش في عالم الإنصاف الذي ننشده من رجال التصنيف، المتفرغين للرد على الملحدين، بارك الله في ما عندهم من حسن الأعمال، وشغلهم بها عن سيء الأقوال.
إن معرفتي للحقوق التي تجب لي وعلي من هذه الأطر المتعددة يجعلني لا أبخس المسلم حقه الذي شرعه له هذا الإطار لأنه يخالفني في الإطار الآخر، فلا مجال هنا للمداينة واستلاف الحقوق، فضلا عن انتهاب ما في إطار الإسلام بعدما تم تفريغ الإطار الآخر من الحقوق التي علي للآخر.
إن قضية الأطر المتعددة هي التي جعلت صلى الله عليه وسلم يتعامل مع اليهود كما ينبغي، وكما وفر لهم الإطار الذي ربطهم بالرسو صلى الله عليه وسلم ، فهو يعاهدهم ويضيفهم ويقبل دعوتهم ويساكنهم في المدينة ويضحك لقولهم، بل مات ودرعه مرهونة عند اليهودي.
وكمثال آخر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع ما اشتهر به من الردود على الأشاعرة إلا أنه في التعامل معهم يعرف ما لهم من حقوق بموجب الأطر التي تربطه بهم، إنه يعلم أنهم هم القطاع الأكبر من شرائح المسلمين، ومع ذلك كان يصلي معهم، ويتعامل معهم كما يتعامل المسلم مع أخيه، ويجاهد معهم ويعدهم بالنصر.
وفي العصر الحاضر الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله الذي عرف بسعة صدره، وتقبله للخصوم، فلم يتهجم عليهم باسم الدين، ولم يعقد ضدهم الولاء والبراء غضبا لله ورسوله!! لأنه يعلم أن القرآن نزل على محمد بن عبد الله النبي الأمي، ولم ينزل عليه.
إن إجادة التصنيف التي يحتكرها قوم من بني جلدتنا هو الفن الذي كان يستمطر منه الحطيئة رزقه في القرون المفضلة، إلا أن هذا الفن اجترفته الحداثة، فأدخلته محل التخسيس، وأجرت عليه بعض التجميلات، ليلائم القرن الحادي والعشرين، ويتفق مع عصر العولمة، فتغيرت سلوكياته من هجاء شعري إلى خطاب ديني، يجعل من الحبة قبة، ومن الفرع أصلا، ويتكلم باسم الله، ليدخل الجنة من شاء، ويحرمها من شاء، ويصدر صك الحرمان بمجموعة أوراق تصنف المحروم بأنه علماني، لينال التصفيق الحار من الجمهور المبارك، مع العلم بأن هذا فكر غربي، مستورد من الكنيسة التي تحرم من خرجوا عليها من العلماء صكوك الغفران!!.
إن لغة الهجاء في الخطاب الديني بدعة حدثت بعد القرون المفضلة، وترجع أصولها إلى الشيعة الإمامية التي أحدثت في كتبها "المثالب"، عوضا عما في كتب أهل السنة "المناقب".
ولغة الهجاء هذه نوع من السحر، تفرق فيه بين الأخ وأخيه، والأب وبنيه، والمرء وفصيلته التي تؤويه.
علما بأن هذه اللغة قد رخص الشيطان سعرها، وأعظم قدرها، لتكون مبتذلة يمتلكها من له لسان، أو تعلم حرفة البنان.
ما أجمل أن أناقشك أفكارك، أو أخالفك آراءك، مع احتفاظي لك بالحقوق التي توفرها لك هذه الأطر المتعددة.
لا بأس أن تخالفني، بل يجب أن تخالفني، لا لذات المخالفة، بل لأن العقول لا يمكن أن تتحد إلا إذا كانت ملكا للمجانين أو المنافقين.
إنك لو بحثت عن هذا المصنف الذي يتكلم باسم الدين والذي ينتهك حقوق إطار الإسلام لوجدت سبب تصنيفه إنما هو انتصار لإطار الطائفة أو الحزب الذي ينتمي إليه، بينما يزعم أنه انتصار لإطار الإسلام، مما يجعله يرمي بالمخالف خارج الإطار الإسلامي.
ولذلك فليس غريبا أن تجد التصنيف رائجا عند من ينتمي إلى طائفة معينة، أو حزب معين، قد أشرب مسائلهم وآراءهم، ولم يعرف رأيا لغيرهم - وإن كان يعرف فهو مما حَكَته عليه طائفته من نوادر الطوائف الأخرى ومثالبها، لتؤكد له على أحقية آرائها، وصدق نظرياتها-.
وكذلك ليس غريبا أن تُكثر القطعياتُ عنده أفراخها، لأنه تعود على أحادية الرأي، ومن ثَم على حدة المزاج.
إن إطار الإسلام - وهو الذي يعنينا في هذا الموضوع- رحب الفناء، قوي الحصون، فالقطعيات التي يكفر مخالفها قليلة بالنسبة إلى الظنيات.
فالقرآن قطعي الثبوت، لكن دلالته تكون ظنية - وهنا لا يكفر المخالف- وتكون قطعية، والسنة إما أن تكون متواترة، والمتواتر إما قطعي الدلالة أو ظني، أو تكون آحادا، وكله ظني.
والإجماع إن نقل بطريق التواتر فهو قطعي، وإلا كان ظنيا.
وبهذا تعلم قلة القطعيات، ولا يكفر الشخص إلا إذا خالف فيما هو قطعي الثبوت والدلالة.
وفي هذا يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلا في مسألة واحدة، وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلى الله عليه وسلم (14/418)
وقد نقل الحافظ ابن حجر عن القرطبي قوله: حيث جاء الكفر في لسان الشارع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية.
ويقول حسن البنا رحمه الله: لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاها برأي أو معصية إلا إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر.
والإمام الشافعي رحمه الله لا يرى الإجماع إلا في الفرض الذي لا يسع جهله من الصلوات والزكاة وتحريم الحرام. وعلى هذا فلا تكفير عنده إلا على ما علم من الدين بالضرورة.
ومحمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسل ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله. فهذا هو الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك.
ويقول في رسالة أخرى: وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول بعد كلام: وهذا يبين أن كل من أقر بالله فعنده من الإيمان بحسب ذلك. ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار لم يكفر بجحده، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته، إلا من كان منافقا يظهر الإسلام ويبطن الكفر بالرسول فهذا ليس بمؤمن، وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم.
ويقول بعد عرضه لمسألة التوسل بالنبي والخلاف فيها: ولم يقل أحد: أن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية، ليست أدلتها ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها ونحو ذلك. واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح، وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين. وأما من قال: أن من نفى التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر، وتكفيره من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المكفر بمثل هذه الأمور يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله من المفترين على الدين، لاسيما مع قول صلى الله عليه وسلم "من قال لأخيه: كافر، فقد باء بها أحدهما. ا.هـ
وهنا كلام جميل لبعض العلماء يقول فيه عن الشريعة الإسلامية: هي أشد الشرائع في التوحيد، والإبعاد عن الشرك، وأسمح الشرائع في العمل.
ولكن المشكلة في هذا القول تبرز مع بروز فن تخريج الفروع على الأصول!!.
وتخريج الفروع على الأصول بقدر ما هو استهتار بالشريعة الإسلامية، والملة الحنيفية، فهو تقليل من شأنها، وتهميش لحصونها، ذلك أن توسيع دائرة القطعيات وابتذالها، يجعل الأنظار تنظر إلى قيمتها كما تنظر إلى قيمة التراب.
قد يرضي المرء نفسه في سل سيف القطعيات لضرب الخصوم، لكن سيكون هذا على حساب الدين الإسلامي.
وإذا كانت كافة الأفراد تؤمن بالخلاف فإن المشكلة جعل هذا الإيمان إيمانا بخلاف معين، يرجع تأصيله إلى أمثلة أملتها عليه الطائفة التي ينتمي إليها، ولذا فليس من حاجة إلى ذكر فائدة الخلاف إذ الجميع يؤمن به
==============(14/419)
(14/420)
حجاب المرأة ودعاوى الحرية
عز الدين فرحات 25/9/1424
19/11/2003
في قرار غريب وعجيب أقرت حكومتا مقاطعتي بادي فورتنبورج وبافاريا الألمانيتان يوم الثلاثاء 11/11/2003م مشروع قانون يمنع المدرسات المسلمات من لبس الحجاب، لكنه يسمح لهن بإبراز رموز دينية مسيحية ويهودية.
وأوضح رئيس الحكومة المحلية في مقاطعة بادي فورتنبورج أن الهدف من مشروع القانون هو منع المدرسات في التعليم العام من ارتداء ما يمكن أن يفسر على أنه موقف سياسي.
فيما قالت وزيرة التربية التي قدمت المشروع إن الحجاب يمكن أن يشكل رمزاً ثقافياً وعنصرياً يشير إلى عصر قمع المرأة.
بالمقابل ولتبرير إبراز الرموز المسيحية واليهودية تذرعت الحكومة المحلية بقرار المحكمة العليا الذي أجاز لكل مقاطعة أن تتخذ قراراتها وفق تقاليدها.
إلى هنا ينتهي الخبر، وهو على ما ينطوي عليه من عنصرية بغيضة وتحامل على المسلمين؛ إلا أننا يجب أن لا ننظر إليه منفرداً، بل لا بد من النظر إليه من خلال السياق العام السائد في دول الحرية والديمقراطية الأوروبية. حيث الهجمة الشرسة على كل ما هو إسلامي حتى قطعة القماش على رأس تلميذة في إحدى المدارس.
يحدث هذا في ألمانيا كما يحدث في فرنسا وعلى أعلى مستوى سياسي حيث يتدخل رئيس الجمهورية في فرنسا بتكوين لجنة رئاسية للنظر في تطبيق أحسن للعلمانية يرأسها برنارد ستازي المقرب من الرئيس جاك شيراك. في الوقت الذي يحتد فيه النقاش على صفحات الجرائد والمجلات حول موضوع الحجاب الإسلامي في محاولات لاستصدار قانون يمنع المسلمات من ارتداء الحجاب.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية راعية الديمقراطية والمبشرة بها في العالم تتعرض موظفة مسلمة في أحد البنوك للفصل من عملها بسبب ارتدائها للحجاب!.
وإذا تركنا الغرب جانباً وتحولنا إلى بعض دول الإسلام تثار أزمة سياسية في تركيا لأن رئيس الدولة يدعو بعض أعضاء البرلمان لحضور احتفال رسمي ويتجاهل آخرين لأن زوجاتهم يرتدين الحجاب. وتحرم النساء من التعليم والعمل لارتدائهن الحجاب!.
وفي مصر خمس مذيعات يرفعن قضية ضد وزير الإعلام المصري لأنه أصدر قراراً بمنعهن من الظهور على شاشات التلفاز مرتديات للحجاب الإسلامي، وقبلهن إحدى مضيفات الطيران تُمنع من الصعود إلى الطائرة لأنها ارتدت الحجاب.
وفي تونس تتعرض النساء المحجبات إلى الحرمان من العمل والدراسة، بل يتعدى ذلك إلى تطاول رجال الأمن عليهن بالسب والإهانة والتعنيف وإجبارهن على التوقيع على تعهدات بعدم ارتداء الحجاب مستقبلاً.
هذه الأمثلة وغيرها كثير وكثير في أماكن متفرقة من العالم.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو:
أين دعاة حقوق الإنسان والمطالبون بأن تنال المرأة حقوقها؟!.
أليس من حقوق المرأة حق الحرية؟!
أليس من الحرية أن تعتقد المرأة ما تشاء - كما يدعون - وتفعل ما تشاء؟ أليس الداعون إلى حرية المرأة يزعمون أنهم يطالبون بحرية المرأة من تسلط الآخرين عليها؟!
فلماذا يتسلطون هم عليها ويجبرونها على نزع حجابها الذي ارتدته بحريتها وكامل إرادتها عن اقتناع وعقيدة ؟!
لماذا يسمحون للمرأة بالتعري ويمنعونها من الاحتشام؟!
أليس ذلك مصادرة لحريتها؟ وحجراً على عقلها وإرادتها؟!
أم أن المقصود بحرية المرأة - عند هؤلاء الدعاة- هو حرية التعري واتخاذ الخلان؟!
أم أنهم يستعبدونها بدعوى تحريرها؛ فتكون عندهم كالأًمَة مسلوبة الإرادة تلبس ما يقترحونه وتفعل ما يأمرون وتباع وتشترى في سوق النخاسة الإعلامية ما بين الإعلانات التجارية و الفيديو كليب؟!
أسئلة تنتظر الإجابة عنها من دعاة تحرير المرأة....
فهل من مجيب...؟
===========(14/421)
(14/422)
شاهين:أحفاد أتاتورك يمارسون مهمتهم
حوار: طه عبد الرحمن 25/2/1424
27/04/2003
- العلمانية جزء من الغارة الاستعمارية على العالم الإسلامي
- أحفاد أتاتورك من كتاب وفنانين وإعلاميين يمارسون مهمتهم بكل إخلاص للقضاء على الإسلام
- العدو الصهيوني يخطط لقطع قضية فلسطين عن العرب والمسلمين
تحدث المفكر الإسلامي المعروف الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ بجامعة القاهرة عن الأسباب التي أدت إلى تراجع المسلمين عن السبق الحضاري في مقابل تقدم الأمم الأخرى، واعتبر أن عدم التمسك بالشريعة الإسلامية وعدم تطبيقها هي السبب وراء ذلك .
ودعا د. شاهين في حديثه لموقع " الإسلام اليوم " إلي ضرورة وحدة المسلمين والتكاتف لاستعادة زمام الحضارة وهو ما سيؤدي أيضا إلى حماية الأقليات المسلمة في شتى بقاع العالم من محاولات الاضطهاد والتشويه التي يتعرضون لها ويحقق لهم حفظ هويتهم الإسلامية
وطرح تفسيره لبروز الاتجاه العلماني في العالم الإسلامي مؤكدا أنه ليس دينا ولكنه جاء عقب سقوط الخلافة العثمانية وتزكية إسرائيل لهذا الاتجاه الذي وصفه بأنه استعمار جديد يستهدف تقويض الحياة في العالم الإسلامي
واستعرض د. شاهين قضايا إسلامية عديدة جاءت في الحديث التالي :
حماية الأقليات المسلمة
سؤال:في الفترة الأخيرة تعرضت الأقليات الإسلامية في الدول الغربية لحملات اضطهاد واسعة، شملت إهداراً لحقوقها وحريتها فكيف يمكن حماية الهوية الإسلامية لهذه الأقليات مما تتعرض له ؟
جواب:للأسف هناك عجز من العالم الإسلامي عن حماية هذه الأقليات فهو يجهل الكثير عن هذه الأقليات المسلمة، ويعجز أيضا عن الدفاع عنها، فمأساة الأقليات المسلمة هي مأساة العالم الإسلامي كله، ولا أمل في استرداد الأمة الإسلامية لعافيتها إلا إذا توحدت في وجودها ووعيها وقوتها ووحدتها.. فحينئذ يمكن إن نتحرك لحماية هذه الأقليات وإنقاذها وأعتقد أن وجود مشكلة أقليات مسلمة في العالم دليل على تحرك الروح الإسلامية في هذه الأقليات وشعورها بأهمية الالتزام بالدين الإسلامي،
ويجب أن يعي المسلمون جيدا أن تمزقهم وتفرقهم سينعكس كثيرا على هذه الأقليات كما أن هذا التفرق هو سبب تخلفهم وضعفهم وضياعهم وإذا وعوا هذه الحقيقة فإن أوضاعا كثيرة سوف تتغير لصالح مستقبل العالم الإسلامي.
سؤال:في تقديرك ما الأسباب التي أدت إلى ضعف العالم الإسلامي وتراجعه عن النهضة الحضارية التي امتلك زمامها منذ مئات السنين ؟
جواب:هناك سببان أساسيان لتخلف المسلمين:
الأول: ذاتي وهو يرجع إلى أن المسلمين قد تخلوا عن مبادئهم الحضارية، فبعد أن كان الإسلام عزهم وحضارتهم ضعفت علاقتهم به في فترة تاريخية معينة، وأدى هذا الضعف إلى انهزامهم في أول لقاء جاد بينهم وبين الحضارة الغربية في الأندلس وطرد المسلمون من هناك.. ومن وقتها بدأ المسلمون يدخلون في مرحلة التمزق والضياع وظهرت بينهم ألوان من التنافس القبلي والارتداد إلى العصبيات، مما أدى إلى ضعف الرابطة الإسلامية التي كانت تجمع الأمة، وأصبح الوضع لا إسلامي مما شجع أعداء الإسلام على تحطيم وجود هذه الأخلاط من البشر التي تخلت عن دينها مصدر قوتها وعزتها وتقدمها .
وأما السبب الثاني فهو خارجي ويتمثل في أن صولجان الحضارة عندما انتقل إلى الغرب.. كان هم الغرب أن يعمل في اتجاهين: الأول أن يطور نفسه لينشئ حضارته المادية، والثاني أن يعمل على تأخر وتعويق وتدمير حياة المسلمين حتى لا يعودوا إلى سيرتهم الحضارية، وبالفعل تحقق لهم ذلك فالمسلمون اليوم في حالة غير حضارية، لأنهم ليسوا أصحاب الحضارة المادية القائمة اليوم .
سؤال:وكيف يمكن التوصل إلى حلول عملية لمعالجة هذه الأسباب ومواجهة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية ؟
جواب:الحل هو ضرورة الاتفاق حول مفاهيم المصطلحات الفقهية والشرعية ومضامينها حتى تتفق الأحكام على صيغة واحدة واضحة، وتبتعد عن إطار المتشابهة وتمييع الحقائق ويختلف الناس حول الهوامش، وهذه مهمة مجتمعات البحوث الإسلامية في بلاد العالم الإسلامي، والتي يجب إن تخلق مناخاً فكريا وسطاً تجتمع حوله العقول المختلفة لتتفق بشرط ألا تتحول هذه الاتفاقات إلى مجرد مناظرات عقيمة لا طائل من ورائها ولا تفيد الأمة وأن يكون لدى كل طرف استعداد مسبق للاتفاق وقبول ما لدى الطرف الآخر وليس مجرد الاختلاف
وأؤكد أن الوحدة الإسلامية وتطبيق تعاليم الدين الإسلامي على أنفسنا ومحاولة الاستقلال الفكري والسياسي والاقتصادي عن الحضارات الأخرى؛ لأن الحضارة الإسلامية قادرة بخصوصيتها على حل جميع مشكلات أبنائها ولا داعي للحلول المستوردة، وأدعو الله أن تتسع الجهود التي تبذل للتنسيق بين الدول الإسلامية عن طريق المنظمات الإسلامية المتعددة وأن تنجح هذه الجهود لتشمل كل المجالات وتتحقق الأهداف الكبرى لهذه الأمة في الوحدة وإعلاء كلمة الإسلام .
العلمانية ... مؤامرة
سؤال:ما تفسيركم للامتداد العلماني الغربي في بعض الدول الإسلامية وما الصلة بينه وبين الغزو الفكري الحديث ؟(14/423)
جواب:العلمانية هي جزء من الغارة الاستعمارية على العالم الإسلامي، فالاستعمار لا يوجد خيار أمامه إلا السيطرة العلمانية على أجهزة الإعلام والإدارة والتوجيه في العالم الإسلامي ويتخذ من بعض الجهات والمؤسسات ذريعة للتدخل ويدفع لأصحابها أموالاً، ولذلك لا أستغرب إذا ما وجدنا كتابا يدافعون عن الغرب مقابل هجومهم على الإسلام، وكانت البدايات وراء دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي عن طريق مؤامرة أوروبية على الخلافة العثمانية لتقسيم العالم الإسلامي من خلال حركة أتاتورك العالمية في تركيا والتي ثبت تواطؤها مع الصهيونية العالمية، فأتاتورك وهو أساسا من يهود الدونما كان أول صيحة دخلت بها العلمانية واقع العالم الإسلامي، وهو في الحقيقة عميل عريق من عملاء الاستعمار، استطاع أن يمكن الغرب من رقبة الخلافة الإسلامية واستطاع أن يقضي على شخصية تركيا الإسلامية وبذلك خدم الغرب أكبر خدمة ومازال أحفاده في شكل كتاب وفنانين وإعلاميين يمارسون مهمتهم بكل إخلاص وتفان حتى يقضوا على الإسلام وهؤلاء هم رسل الاستعمار لإبعاد الجماهير المسلمة عن روح الإسلام ومساعدة الاستعمار بكل صوره على فرض الهيمنة على العالم الإسلامي .
ولا شك أن إسرائيل تزكي الاتجاه العلماني وتؤيدها بعض الاتجاهات في الغرب، فالعلمانية ليست دينا جديدا يجب أن يؤمن به الناس، ولكنها دفع استعماري خطير يريد تقويض الحياة في العالم الإسلامي ليسيطر الغرب على كل شيء في حياتنا .
الجهاد لإنقاذ القدس
سؤال:في هذا الإطار كيف يمكن للمسلمين مواجهة الصلف الإسرائيلي وممارسات قوات الاحتلال تجاه المقدسات الإسلامية وجرائمه في حق الشعب الفلسطيني ؟
جواب:أؤكد أنه لا أمل لنا نحن المسلمين إلا أن نحيي قضية القدس إسلاميا ونشعلها جذوة حتى لا ينسى العالم أن المسلمين هم أصحاب القضية، ولا ينسى المسلمون أن عليهم الجهاد من أجل أولى القبلتين وثالث الحرمين، وعلينا أن نعلم أن الصهاينة هم عدونا الأول, وقد تجمعوا في فلسطين وعددهم لا يزيد عن أربعة ملايين أي أنهم قلة، ونحن المسلمون نزيد على المليار مسلم, ولا يأتينا الضعف من قلتنا ولكن من تفرقنا، وقد خطط العدو الصهيوني لقطع قضية فلسطين عن العرب والمسلمين وحصرها في أضيق الحدود، وإسرائيل تخشى ما تخشاه أن تتحول قضية القدس إلي قضية إسلامية فالمفاوضون العرب سلموا القدس لليهود ولم يبق للقدس إلا إسلاميتها وجدار الإسلام وحضنه يقوي هذه القضية.. أما المنظور العربي وحده فإنه يضعفها .
الإسلام والغرب
سؤال:برأيكم.. كيف تقيمون العلاقة بين الإسلام والغرب ؟ وهل سيحقق الحوار المشترك نتائج إيجابية مع مراعاة حملة التشويه التي يقودها بعض الأشخاص في الغرب تجاه الحضارة الإسلامية ؟
جواب:للأسف فإن الحضارة الغربية وبعض مفكريها ومنظريها لم يجدوا عدواً لهم سوى الإسلام وحضارته وشعوبه أيضا وكان الأولى بهم أن يوجهوا دعوة لحوار مشترك مع المفكرين والعلماء الإسلاميين ولكنهم للأسف أرادوا أن يطلقوا شعارات جوفاء حول العداء للإسلام بدعوى مواجهة الإرهاب بإرهاب أكثر منه، ومن الضروري أن نفتح باب الحوار المشترك بين الأديان المختلفة خاصة بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الغربية؛لتكون لغة الحوار هي السائدة بدلا من لغة الصراع، فالأديان كلها تدعو إلى التسامح والحوار بين كافة البشر.
سؤال:ولكن الغرب دائما ينظر إلى المسلمين وحضارتهم نظرة أخرى "سلبية " فما رأيك ؟
جواب:أرى أنه حين يفهم المسلمون شريعتهم بدقة ويأخذون بأسباب التقدم الذي سار عليها الأولون وأولها العلم فستتوهج حضارتنا مرة أخرى ونكون أنداداً لهؤلاء وغيرهم، وقد نتفوق عليهم كما كان الأصل،
كما أرى أن المشكلة فينا بالتأكيد فنحن لم نفهم ما تأمر به الشريعة الإسلامية وتركنا الأمم الأخرى تتفوق علينا بعد أن أقاموا حضارتهم على أنقاض حضارتنا فأخذوا علومهم التي قامت عليها حياتهم منا بعد أن فهموا أسس قيام الحضارة وطوعوها لصالحهم .
============(14/424)
(14/425)
العولمة والإسلام
إعداد: سهى عبيد* 28/2/1424
01/05/2003
المقدمة
في هذه الورقة البحثية سيكون حديثنا عن الإسلام والعولمة، وذلك لعدة اعتبارات أهمها: (أن عالمنا شهد مجموعة من التحولات المفزعة دولياً والتي أتخذت مظاهر متعددة:(1)
*"انهيارية" وذلك من حيث انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية.
*"استقطابية أحادية" من حيث استقطاب الاتحاد السوفيتي إلى الحشد الدولي في الحملة الدولية على منطقة الخليج العربي، وكسر عزلة النهوض الذاتي للصين.
*"ابتلاعية" أي محاولة تنميط العالم اقتصادياً وسياسياً وإعلامياَ وثقافياً عبر إبتلاع الشركات المتعددة الجنسيات للمسافات الحضارية التاريخية والجغرافية للشعوب والدول القومية.
إذاً عالماً اليوم له سمات ثلاثة أساسية، انهيار الكتلة الشرقية، وأحادية القطبية، والهيمنة الرأسمالية على كافة مظاهر الحياة، وضمن هذه الظروف يكمن سؤال هام:
أين يقع الإسلام في ظل عالمنا اليوم؟!
ذلك الدين صاحب الرسالة الخالدة العالمية ما هي طبيعة علاقته بالعولمة؟ هل هي علاقة تصارعية؟ أم اندماجية؟
انطلاقاً من الفرضية السابقة ستكون خطة البحث كما يلي:
الباب الأول: موقع الإسلام في النظام العالمي الجديد.
الفصل الأول: ماهية العولمة والنظام العالمي الجديد.
الفصل الثاني: علاقة الإسلام بالعولمة.
الباب الثاني: تقييم عام.
الفصل الأول: مخاطر العولمة على الإسلام.
الفصل الثاني: الخيارات المطروحة أمام مسألة الإسلام والعولمة.
الباب الأول: موقع الإسلام في النظام العالمي الجديد:
الفصل الأول: ماهية العولمة والنظام العالمي الجديد
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية وتحديداً خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش "الأب" عن نظام عالمي جديد، هذا النظام في الحقيقة يقوم على هيمنة قطب واحد يحاول فرض سلطته على كافة الصعد الثقافية والسياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. وللوقوف على حقيقة الموضوع لابد لنا في البداية أن نتعرف على مصطلح النظام العالمي الجديد أو ما عُبر عنه بالعولمة
في الحقيقة هناك العديد من المفاهيم لهذا المصطلح حتى أنك تجد في حال بحثك عن هذا الموضوع أنك في شبكة هائلة من المفاهيم على أن الكثير من المفكرون اعتبروا العولمة تراكماً تاريخياً وأمراً لم يكن مستحدثاً فهي صيغة طُرحت قديماً بعدة أشكال وطرق فيقول أحمد سلامة (2)(لقد بشر شوبنهاور ونيتشة بعولمة تقوم على أساس نقاء العرق واختطف تلك الفكرة النظرية هتلر الذي كان يسعى للعولمة بطريقته العرقية الخاصة ثم جاء ستالين بطريقة جديدة للعولمة عبر العولمة اللا إلهية، ثم تأتي العولمة اليوم بكونها: فكرة تجمع بين القوة والقدرة والرغبة والمناخ الملائم ليجعل اتباعها من أنفسهم نموذجاً يحتذى إما بالفرض القسري وإما بالتبشير المرغوب فيه فيصير العالم قرية كونية".
في حين يرى الدكتور سيار الجميل (3)"أن العولمة نظام عالمي جديد له أدواته ووسائله وعناصره وجاءت منجزاتها حصيلة تاريخية لعصر تنوعت فيه تلك التطورات التي ازدحم بها التاريخ الحديث للإنسان بدءً باستكشافه للعالم الجديد عند نهاية القرن الخامس عشر وصولاً لاستكشافه العولمة الجديدة عند نهايات القرن العشرين مروراً بأنظمة وظواهر وأنساق متنوعة كالإصلاحات الدينية والذهنية والسياسية والثورات الصناعية والرأسمالية والاشتراكية والمرور بأزمات وكوارث وصراعات وحروب أشعلتها الدول، هكذا تأتي فلسفة العولمة لتجسد حصيلة ما حفل به التاريخ الحديث للبشرية".
أما العولمة من وجهة نظر د. برهان غليون (4)فإنها تتجسد في نشوء شبكات اتصال عالمية تربط جميع الاقتصاديات والبلدان والمجتمعات ليخضعها لحركة واحدة، ويتمثل باندماج منظومات رئيسية:
1.المنظمة المالية عبر سوق واحدة رأس المال وبورصة عالمية واحدة.
2. المنظومة الإعلامية والاتصالية.
3. المنظومة المعلوماتية التي تجسدها بشكل واضح شبكة المعلومات فالمقصود هو الدخول في مرحلة من الاندماج العالمي العميق.
إذن هناك العديد من المفاهيم لظاهرة العولمة والتي لا يمكن أن نقترب من تعريف شامل لها إلا إذ وضعنا في الاعتبار ثلاث عمليات تكشف عن جوهر هذه الظاهرة، كما يرى د.ياسين(5):
1.انتشار المعلومات.
2.تذويب الحدود بين الدول.
3.زيادة معدل التشابه بين الجماعات والمؤسسات.
فالعولمة ظاهرة تعكس معالم النظام العالمي الحديث وهذه المعالم على النحو التالي:(6)
1.تخلي الاتحاد السوفيتي كطرف مؤثر في العالم وعن أصدقائه في حلف وارسو، الأمر الذي شجع على حدوث التغييرات السريعة في أوروبا الشرقية وبالتالي انهيار الكتلة الشرقية.
2.أدت التغييرات التي حدثت في أوروبا الشرقية إلى اختلال في ميزان القوى لصالح الولايات المتحدة حيث أصبحت مرتكز للنظام العالمي الجديد الذي يخضع لنظام القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة.
3.نظام يقسم العالم إلى طرفين لا إلى ثلاثة: أغنياء وفقراء، الشمال للأغنياء والجنوب للفقراء.(14/426)
4.جعل المنظمات الدولية والإقليمية هيئات موظفة لخدمة مركز الزعامة في النظام الدولي وهي الولايات المتحدة ومبررة لسياساتها وأهدافها.
5.بروز مفاهيم الديموقراطية، حقوق الإنسان، التعددية السياسية.
6.الاقتصاديات العملاقة ذات التكنولوجيا العالية، جعلت الاقتصاديات القطرية عاجزة عن التأثير في العلاقات الاقتصادية الدولية خاصة في ظل وجود الشركات متعددة الجنسيات.
وبما أننا تعرفنا في هذا الباب إلى مفهوم العولمة ومعالم النظام العالمي الجديد لابد لنا أن نوضح مفهوم الإسلام وذلك حتى تكتمل المصطلحات الأساسية التي يرتكز عليها البحث.
فإذا نظرنا للمفهوم التقليدي الشائع، فالإسلام هو الدين الذي أُنزل على سيدنا محمد عليه السلام، وهو خاتم الرسالات السماوية.
لكم ما يميّز الإسلام حقاً هو عالمية رسالته وكونيتها . والبحث قائم في الأساس على الفرق بين العالمية والعولمة، فالعالمية هي طموح الارتقاء بالخصوصي إلى مستوى عالمي وهذا ما كرّسه القرآن الكريم:((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين))، ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيرا))، لكن مع ملاحظة هامة ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي))، ((أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)).
بالإضافة لما سبق يجب أن نلاحظ أن عالمية الإسلام لم تجعله يرفض التباين بين الأمم فالإسلام يؤمن بأن لكل أمة خصوصيتها ((لكلٍ جعلنا شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة))(7).
فمنذ فجر الإسلام كان الرسول الكريم محاطاً ببلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي. وكل هؤلاء ليسوا بعرب.
في حين أن إطار العولمة الحديث يقوم على إقصاء الطرف المقابل وعدم قبول ثقافته ومن هنا العالمية على عكس العولمة، تقبل بالتبادل بين الثقافات فهي تقبل بالآخر ولا تعمل على إقصائه، فخصائص عالمية الإسلام تنطلق مما يلي:
1.الخلود، وخلود الإسلام هو استمرار بقائه وامتداد رسالته، ودعوته ما دامت البشرية تواصل حياتها على سطح هذه الأرض. وسر الخلود يكمن في:
أ. السعة والشمول، والتي تظهر في العقيدة والقوانين والنظم والأفكار والمفاهيم الإيمانية والحضارية.
ب. الاجتهاد، أي استنباط الأحكام والقوانين والمفاهيم والأفكار من القرآن والسنة، فكل حادثة وأمر جديد محدث في المجتمع الإسلامي ولم يكن له حكم مجدي، فإن الشريعة أذنت باستنباط ذلك الحكم من القواعد والأسس والمفاهيم الكلية العامة.
2.اليسر والسهولة، فالتكليف بمستوى القدرة، فليس في الشريعة الإسلامية تكليفاً فوق طاقة الإنسان فكل العبادات في الصوم والصلاة والحج والزكاة والجهاد في سبيل الله كلها وضعت بمستوى طاقة الإنسان واستطاعته قال تعالى ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)).
3.الإنسانية فالإسلام ينظر للناس جميعاً بأنهم من أصل واحد متساوون في الإنسانية ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى وبذلك قال تعالى ((يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) وفي الحديث الصحيح عن الرسول الكريم "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".
4. العقلانية فرسالة الإسلام تقوم على أساس قناعة العقل والتوافق مع منطقه وإقناعه بالحجة والدليل والبرهان وبذلك قال تعالى((وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمين)).
5.الاعتدال بين الدنيا والآخرة تأمر الشريعة بالاعتدال في كل شيء حتى في العبادة وقال تعالى ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله إليك)).
ومن كل ما سبق يمكننا القول أن العولمة ظاهرة متعددة الأبعاد والزوايا "سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية"و أنها ظاهرة ولدت في نهاية القرن العشرين وهذا يعني أنها مرت في مراحل متعددة حتى أصبحت ظاهرة قابلة للوجود وبالتالي كان وجودها في نهاية القرن الماضي وفي نهاية هذا الباب من الفصل الأول يجب أن أنوه بأن هناك عولمة وعالمية وكلاهما مفهومان مختلفان كما يقول د.محمد عابد الجابري" هناك عولمة Globalization وهي تعني إرادة الهيمنة أي قمع وإقصاء للخصوص والذاتي وهناك عالمية
Unive r salism وهي طموح للارتقاء والارتفاع بالخصوصي إلى مستوى عالمي.فالعولمة احتواء للعالم أما العالمية تفتح على كل ما هو كوني وعالمي(8)وبغض النظر عن وجهة نظري الشخصية إزاء العولمة فإنني اتفق مع داني روديك أستاذ الاقتصاد السياسي في هارفارد حيث يقول (يجب أن لا نفزع من العولمة كما يجب أن لا نأخذها بخفة، فالعولمة تفتح أفاقاً واسعة وتتيح فرصاً أولئك الذين لديهم المهارة والقدرة والمؤهلات التي تمكنهم من الحركة والازدهار في الأسواق العالمية).
ومن هذا المنطلق ومن منطلقات أخرى أهمها أن لكل شيء جانبان إحداهما سلبي والآخر إيجابي اخترت أن أتحدث عن الإسلام والعولمة.
الفصل الثاني: علاقة الإسلام بالعولمة
في الفصل السابق تحدثت عن مفهوم العولمة وعن طبيعة العالم الحالي وما يسمى بالنظام العالمي الجديد، وفي هذا الفصل سأتحدث عن موقع الإسلام في ظل هذا النظام وفي ظل ما أطلق عليه بالعولمة.(14/427)
يقترن الإسلام بالإرهاب والأصولية فالحركات الإسلامية أُلصقت بها هذه تهمة الإرهاب والعنف والتطرف والسؤال هو لماذا؟
إن النظر لواقع الإسلام اليوم يتنازعه رأيان(9):
1. يقول غير المسلمين أن هناك مشكلة ما تتسبب في إضطراب علاقات الإسلام مع الأديان الأخرى وأن هذه المشكلة تعبر عن نفسها في سلسلة من الصراعات.
2. هو أن المسلمين يقولون أن الإسلام مستهدف وأن ثمة حرباً معلنة ضده وأن الإسلام في دفاعه عن عقيدته وفي صموده أمام سلسلة من الهجمات التي يتعرض لها يجد نفسه في حالة صراع دائم.
فالمسلمين يرون أن المشكلة هي في نظرة الآخرين للإسلام، وغير المسلمين يعتقدون بوجود المشكلة في الإسلام.
وعلى أي حال بدأ الحديث عن الإسلام بإعتباره ضمن دائرة صراع الحضارات وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فبعدما انتهى العدو الأول للغرب الرأسمالي ما لبث أن وجد عدو جديداً ألا وهو الإسلام وهذا يظهر في العديد من الكتابات بل وحتى في الخطابات الرسمية وغير الرسمية ويقول هنري كيسنجر في خطاب ألقاه أمام المؤتمر السنوي لغرفة التجارة الدولية (بأن الجبهة الجديدة التي على الغرب مواجهتاها هي العالم العربي الإسلامي باعتبار هذا العالم هو العدو الجديد للغرب) وهذا ما أكده الأمين العام للناتو "حلف شمال الأطلسي" ويلي كلايس willy Claes الذي وصف الأصولية الإسلامية في خطاب رسمي له بأنها أعظم خطر راهن يواجه الحلف(10).
من خلال التصريحين السابقين يتضح لنا أن الإسلام مستهدف خاصة أن بعض الجماعات والحركات التي تدعي الإسلام تتيح للغرب استهداف الإسلام. وعلى أي حال يجب أن نلاحظ أن العالم الإسلامي يعاني العديد من المشاكل والتي لابد أن تتفاقم في ظل العولمة إذا لم يوجد حل لهذه المشاكل.
حتى أننا نجد أن الأدبيات الغربية تجعل من الإسلام عدواً لها خاصة في ظل رأي هنتغتون في "صراع الحضارات" حيث يقول (بأن النظام العالمي السابق كان يقوم على صراع بين ثلاث قوى رئيسية: الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفيتي والعالم الثالث، أما النظام العالمي الجديد نظام ما بعد الحرب الباردة فيقوم على الصراع بين ثماني حضارات(11)
"الغربية واليابانية والكنوفشسية والهندوسية والأمريكية اللاتينية والأرثذوكسية والحضارة الإسلامية والحضارة الإفريقية". وهو يرى أن حروب المستقبل سوف تجد جبهات لها في نقاط التماس بين الحضارات وخاصة مع الإسلام وكل واحدة من هذه الحضارات على حدى وهذه النقاط كما يراها: (المواجهة بين الإسلام والغرب من خلال الصراع بين البوسنة وكل من كرواتيا وسلوفينيا. المواجهة بين الإسلام والأرثذوكسية من خلال الصراع بين البوسنة وصربيا وتركيا واليونان وبلغاريا.المواجهة بين الإسلام والهندوسية من خلال الصراع الهندي الباكستاني). بمعنى أن الغرب وضع الإسلام في موضع العدو والمواجهة وفي الحقيقة ازداد عجبي بعدما قرأت كتاب (أحجار على رقعة الشطرنج) حيث يقول مؤلفه أن الاتحاد السوفيتي سينهار وبعدها ستبحث الرأسمالية عن عدو لها وسيكون هو الإسلام، والذي سيعمل على محاربته هو الصهيونية، عبر دولتها إسرائيل.
والغريب أن هذا الكتاب تم تأليفه عام 1950، وهذا يعني أنه جاء بعد قيام إسرائيل بعامين فقط، وأنه جاء ليتحدث عن سقوط الاتحاد السوفيتي قبل حوالي أربعين عاماً، ولنتذكر أن الاتحاد السوفيتي عام 1950 كان قلعة عسكرية وعلمية دخل في حرب النجوم مع الولايات المتحدة الأمريكية وتفوق عليها في مرحلة من المراحل، فكيف استطاع الكاتب في ظل هذه المعطيات أن يتوقع كل ذلك؟!.
اعتقد فعلاً أن الإسلام حقاً في مواجهة الغرب، والعولمة هي الصيغة المطروحة حالياً.
وعلى أي حال، إن الإسلام كدين جاء يحمل طابعاً عالمياً على خلاف اليهودية التي جاءت مقتصرة على بني إسرائيل، جاء الإسلام كرسالة لبني البشر أجمعين قال تعالى ((وما أرسلناك إلا نذيراً وبشيراً للعالمين)).
فالإسلام في كثير من تعاليمه وفي الكثير من تطبيقاته وفي الكثير من ممارسات الرسول الكريم دلالة على الطابع العالمي: ((لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى)).
هذا يعني أن الإسلام له طابع عالمي وليس مُعَولماً بمعنى أنه Unive r salim وليس Globalization حيث أن الإسلام وجهت له ضربات تتخذ شكلاً عالمياً معولماً:
1.وذلك بضرب قوات التحالف الدولي للعراق على إثر ما درج على تسميته الآن بالحالة العراقية الكويتية.
2.محاولة طبع المنطقة العربية "الإسلامية" بالطابع الشرق أوسطي.
فخطوات عولمة العالم العربي بدت متسارعة جداً وذات هدف لا يستهان به هو عولمة المنطقة العربية لابعادها وسلخها عن أي محاولة لأسلمتها. فبعد أن خرج العرب منهكين من أثار التحالف الدولي المعولم على العراق طُلب منهم للسلام في مدريد.
ومما سبق نخلص إلى أن الإسلام شيء والعولمة شيء آخر وفي هذا رد على من يدعي ترابطهما، لكن هذا لا ينفي أبداً كون الإسلام دين عالمياً لكنه يبقى في الحقيقة موقع وهدف للمواجهة في ظل النظام العالمي الجديد.(14/428)
فبعد نهاية الحرب الباردة أصبح هناك العديد من التنظيرات حول شكل العالم الجديد وبزت جملة من السيناريوهات والتوقعات تطرح أشكالاً متعددة مثل، فكرة صعود قطب آخر غير الولايات المتحدة، وتحول النظام إلى ثنائي القطبية، وأحياناً يتطرق الحديث إلى استحكام قطب واحد تمثله الولايات المتحدة، بينما هناك تصور ثالث يشير إلى التعددية القطبية بحيث تشارك فيه أطراف أخرى مثل أوروبا الموحدة والهند والصين. (ومن العجيب أن هذه الاحتمالات التي تشير إلى قوى صاعدة لا تتضمن وجود أي دولة إسلامية كدولة رائدة فإذا كان هناك وفق التصور الذي يؤكد تحكم قطب واحد مهيمن على العالم، فهل يصبح كل العالم بذلك "دار حرب"؟).
ومن جهة أخرى، للعولمة العديد من التجليات السياسية والتي تتركز في رفع شعارات الديموقراطية والتعددية الفكرية واحترام حقوق الإنسان.
هنا الإسلام لا يتعارض مع حقوق الإنسان، وفي الكثير من نصوصه ما يؤكد ذلك ((يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)). إلا أن الإسلام لا يمكن أن ينسجم مع مصطلح الديموقراطية بالمفهوم الغربي، وهذا لا يعني أن الإسلام ديكتاتوري لكن الإسلام له خصوصيته فلا يمكن تأطيره وقولبته بالقلب وإطار معين وإلا كان هذا تقزيماً له.
فالإسلام شيء والديموقراطية شيء آخر لأن الأخيرة تقوم على العلمانية والحرية التي لا سقف لها.
أما الإسلام يؤمن بالحرية المنسجمة مع حدود الشرع، ولا علمانية في الإسلام فالسلطة الدينية هي الأساس وحتى أن السلطة السياسية تُعد مكسباً من مكاسب السلطة الدينية، لذلك الإسلام شيء والعولمة شيء آخر. وإن كان الإسلام في بعض جوانبه يلتقي مع العولمة مثلاً في حقوق الإنسان، إلا أن هذا الالتقاء لا يعبر عنه بالعولمة وإنما بالعالمية.
الباب الثاني: تقييم عام
الفصل الأول: مخاطر العولمة على الإسلام
لقد ذكرنا سابقاً أن الإسلام يحمل صورة تم تشويهها اليوم في العالم الغربي حيث أن صورة الإسلام في الغرب تمثل صورة الإرهاب والتطرف والكثير من العنف إزاء هذه الصورة المشوهه يعاني الإسلام والشعوب الإسلامية العديد من المشكلات والتي بدورها تجعل موقف هذه الشعوب ضعيفاً في مواجهة العولمة خاصة إذا ما علمنا أن أبرز مواقع الجوع الكبرى تقع في العالم الإسلامي، فمن أصل 200 مليون شخص جائع في العالم هناك 173 مليون منهم من المسلمين موزعين على النحو التالي:(12)
70مليون جائع في الهند.
12 مليون جائع في الصين.
50 مليون في آسيا الجنوبية.
26 مليون جائع في أفريقيا السوداء.
15مليون جائع في الشرق الأوسط و الشمال الإفريقي.
ومن جهة أخرى العالم الإسلامي يعاني من ضعف الإنتاج(13)فمثلاً مدينة واحدة في ألمانيا دوسلدروف يقدر ناتجها المحلي 1.8 مليار دولار ويقدر عدد سكانها ب 2 مليون نسمة، وهذا الناتج المحلي يعادل تماماً الناتج القومي لأكبر دولة إسلامية سكانياً وهي أندونيسيا التي تضم أكثر من 200 مليون نسمة. هذا يعني أن العالم الإسلامي يعاني من العديد من المشاكل ولنتذكر أن خلاصة الفصل السابق من البحث أن الإسلام والعولمة كلاهما في مواجهة والسؤال هنا:
هل يستطيع الإسلام والدولة الإسلامية مواجهة العولمة؟ وكيف ستتعامل هذه الدول مع الإسلام ومع العولمة في وقت واحد؟
وعلى أي حال يتضح لنا في هذا البحث أن الإسلام كحضارة جاء في مواجهة الحضارة الغربية والتي تتمثل بالعولمة نجد أن الإسلام يتعرض للكثير من التحديات والمصاعب فالعولمة كظاهرة حضارية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية(14)تواجه الإسلام كحضارة وكأفراد إذ أن هناك محاولات الغزو الثقافي عبر استغلال الجامعات والمعاهد فمثلاً الجامعة الأمريكية في القاهرة طرحت الاستبيان التالي على أحد الطلبة الراغبين في الدراسة للحصول على درجة الماجستير:
-ما رأيك في إذاعة أذان الصلاة في الإذاعة والتلفزيون؟
-هل توافق على إذاعة بعض الأحاديث النبوية عقب الآذان؟
-ماذا نسمي المقاتلين في الشيشان؟ هل هم مناضلون أم إرهابيون؟
في الحقيقة إني أرى أن مثل هذه الأسئلة تحاول أن تضلل الفرد المسلم وتجعله يقع في دائرة الشك ويبتعد عن الإسلام ديناً وحضارة ليقترب أكثر نحو العولمة والحضارة الغربية.
وتبرز خطورة الغزو الثقافي للحضارة الإسلامية في أن أبناء هذه الحضارة لا يقرؤون إذا ما قارنهم بأبناء الحضارة الغربية، كما أن أبناء الحضارة الإسلامية يتلقون الأبناء والمعارف ولا يصدرونها للعالم بعكس أبناء الحضارة الإسلامية في العصور السابقة الذين تتلمذ الغرب على أيديهم أما اليوم فنحن ننتظر أن يأتي الخبر وتأتي المعلومة إلينا ولا نقوم بصنعها.(14/429)
وبهذا يقول الدكتور السيد يسين "إن الخصوصية الثقافية للمسلمين والعرب مهددة على اعتبارات المشكلة التي يثيرها الباحثين في العالم الثالث والذي يعد العالم الإسلامي من ضمنه هي أن تدفق الرسائل الإعلامية والثقافية يأتي من المراكز الرأسمالية الإعلامية بكل قوتها وقدراتها التكنولوجية ويصب في دول الأطراف كمجتمعات والتي تصبح في الواقع مجرد مستقبله لهذه الرسائل الإعلامية بكل ما فيها من قيم وهي في الغالب قيم سلبية مدمرة".
وإذا نظرنا لسلبيات العولمة اقتصادياً فإننا نجد أن إحدى آليات العولمة وهي التكنولوجيا قد أدت إلى البطالة وبالتالي أصبح عندنا حوالي مليار عاطل عن العمل في العالم منهم 15% من الدول العربية الإسلامية.
وفي الحقيقة إن مخاطر العولمة ستزداد في ظل المجتمعات التي تعاني من الأمية والجهل فنسبة الأمية نسبة لا يستهان بها في العالم الإسلامي ففي موريتانيا حوالي 62% والسودان 53% وهذا يعني أن هذه المجتمعات غير مؤهلة لمواجهة النظام العالمي الجديد "العولمة".
وإذا نظرنا للعولمة كظاهرة حضارية تسيطر عليها حالياً الولايات المتحدة: "على اعتبار بروز أقطاب أخرى لتقوم بتمثيل العولمة لاحقاً" فإن الأوضاع حالياً تشير إلى كون العولمة هي الأمركة ومن مخاطر ذك على العالم الإسلامي هو سياسة التدخل في شؤون الدول الأخرى بحجة الاضطهاد الديني قررت الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة العظمى الوحيدة حالياً أن تقوم بدور الزعيم الأخلاقي الكوني وقد دار جدل واسع حول إنشاء مكتب في البيت الأبيض لمراقبة الاضطهاد الديني تحت اسم قانون "التحرر من الاضطهاد الديني" لعام 1997 والذي يقوم بمراقبة معاملة الأقليات الدينية في بلدان معينة منها السودان(15).
ولا يعد بعيداً عن الموضع إصدار أمريكا لقائمة الدول الداعمة للإرهاب والتي على رأسها سوريا، السودان، ليبيا، وغيرها من الدول العربية الإسلامية. وغير بعيد عن ذلك أيضاً ما أصدره مجلس العموم البريطاني في شهر آذار 2001 من قانون ملاحقة المنظمات والحركات الإسلامية التي وسمها بالإرهاب والأصولية.
ويجب أن نلاحظ أن الدول الإسلامية تواجه العديد من التحديات أمام العولمة لكونها دولاً وليس لكونها تمثل حضارة الإسلام، وخاصة أن هذه التحديات تواجه منظومة دول العالم الثالث التي تقع ضمنها، إضافة إلى تحديات أخرى أهمها(16):
1.تحويل الاستثمار إلى مناطق العمالة الرخيصة، وهذا ما يؤدي إلى إغلاق المصانع المحلية وانتشار البطالة.
2.سيطرة الشركات المتعددة الجنسيات على مقدرات هذه الدول.
3.مساهمة تكنولوجيا المعلومات في ازدياد الهوة بين العالم الصناعي المتقدم والنامي الفقير إلى درجة التصدع الكامل لبنية المجتمع الإنساني.
4.تخوف الدول النامية والأمم ذات الحضارات العريقة من ضياع هويتها الحضارية والثقافية وسيطرة نسق قيمي واحد من الحضارة الغربية بكل ما فيها من مثالب وإيجابيات.
ويزاد أثر هذه التحديات على الفرد المسلم بصورة عامة والعربي بصورة خاصة وذلك لأنه يعيش في ظل دول قطرية جعلت الانتماء إلى الوطن يحل محل الانتماء للأمة، ويستوعب في الوقت نفسه الانتماء العصبوي، فأدى ذلك إلى خلق ما يعرف بإنسان (مأزوم الهوية)(17).
فازداد "تشرنق" الفرد داخل عصبيته أو مذهبيته، مما أدى إلى عدم قدرته على الاندماج في مؤسسات الدولة، كما ازداد ضعف مشاعر الانتماء للأمة وذلك بسبب انقطاع التواصل العضوي الحر بين أجزاء الأمة مع وجود ثقافة قطرية تحاول "قومنة" الدولة وترسيخها.
لقد نجحت الدولة القُطرية منذ نشأتها وحتى الآن أن تثبت نفسها في مواجهة فكرة الدولة القومية ولكنها ضلت عالة على إرث الأمة ولم تستطع أن تؤسس هوية خاصة بها تجعل الفرد يحس بأنها تعبر عن خصوصية جماعته فظل يشعر بأن محددات هويته الثقافية والحضارية تتجاوز حدود هذه الدولة بينما انتماؤه الاجتماعي يقصر عن تلك الحدود وبالتالي وجد الفرد المسلم والعربي نفسه إنساناً مأزوماً في هويته وليس ذلك فقط بل يواجه عصر العولمة.
وفي النهاية أقول أن الحضارة الإسلامية تقبل بالحوار والجدل المنطقي ففيها من المرونة ما يجعلها قابلة للانفتاح على ثقافات العالم خاصة إذا كان التحاور يقوم على حرية التواصل والاحترام بين الثقافات العالمية، وأخطر ما يواجه القائمين على استنهاض الثقافة العربية الشعور بالدنيوية والاستسلام التبعي لمنتج الثقافة الغيرية والرضى بأن نكون مستهلكين لا منتجين وفاعلين في صناعة ثقافتنا ولو لم يكن للعولمة من أثر على الثقافة العربية الإسلامية إلا تحريك وايقاظ الوعي الإسلامي فهذا يعد أمر هام.(14/430)
وفي نهاية هذا الباب يجب أن أذكر وللأمانة العلمية أن هناك من يفرق بين نظرة الأوروبيين ونظرة الأمريكيين له ومنهم عبد الإله بلقزيز(18)(الأوروبيون يهتموا كثيراً ببناء نظرة ثقافية وموقف أيديولوجي من الإسلام تحت وطأة الشعور بالمغايرة الثقافية وبمركزية المرجعية الحضارية الغربية فعداء مثقفيهم وسياسيّهم للإسلام يتغذى من هذه الخلفية الثقافية والشعور بالأنا الحضاري والتفوق الثقافي، بل أن هذا العداء ليس بمستغرب من ثقافات أنتجتها ثورات عقلية مريرة ضد الكنيسة. أما الأمريكيون وبسبب غياب خلفية حضارية لمجتمعه الحديث التكوين والمتعدد الأصول والمشارب الثقافية فلا يهمهم من الإسلام إلا مقدار العائدات التي يمكن أن يحصلوها منه فلا يهتموا بموقف عقائدي منه لأنهم برغماتيون، فهم مثلاً يتصالحون مع إسلام يعقد الولاية الكونية لواشنطن، أو مع الإسلام الطيّع الذي يقم خدمات استراتيجية إقليمية، لكنهن يشحذون أسلحتهم ويستنفذون قواتهم حين يصبح إسلاماً تحرري المنزع، أو إسلاماً جهادياً كما في فلسطين وجنوب لبنان لأنه يخالف منطق مصلحتهم وبالجملة لا يخيف الولايات المتحدة من الإسلام إلا أن يسيطر على النفط وهنا يصبح الإسلام عدواً استراتيجياً للولايات المتحدة.
الفصل الثاني: الخيارات المطروحة أمام مسألة الإسلام والعولمة
في الفصل الأخير من هذا البحث لابد أن أوضح أن العولمة كظاهرة تمثل حضارة الغرب في وجه الإسلام، وتخشى الاتجاهات القومية بشقيها العربي والأوربي من العولمة باعتبارها ظاهرة تمثل محاولات الهيمنة الأمريكية، وعلى أي حال فإن معظم المراجع تميل إلى طرح خيارات متعددة لمواجهة العولمة ومنها:
1.الاندماج: بمعنى التعايش بين العولمة وأي حضارة أو ظاهرة مقابلة لها، لذا فإن الطرف المقابل يجب أن يكون مؤهلاً لهذا الاندماج وإلا فإنه سيذوب ويتلاشى أمامها.
2.المواجهة: بمعنى التحدي والصمود أمام هذه الظاهرة ومحاولة الحفاظ على الذات.
3.التهميش: بمعنى أن الطرف المقابل لن يكون له أي قيمة أمام هذه الظاهرة.
وإنني أرى أن التهميش سيحصل في حالتين، الأولى إذا تم اندماج الإسلام في ظل النظام العالمي الجديد دون أن يكون هناك تحسين لظروف وأوضاع المسلمين والبلاد الإسلامية. أما الثانية هي إذا دخلنا في مواجهة مع النظام العالمي الجديد دون استعداد حقيقي وتحضير لهذه المجابهة. وهذا يعني أيضاً تهميشنا وعلى أي حال فإنني أعتقد أن التهميش ليس خياراً وإنما هو نتيجة لخيارين، وهما الاندماج أو المواجهة لكن دون استعداد و تحضير ومحافظة على الهوية الذاتية.
هناك عدة خيارات طرحها كامل أبو صقر(19):
1.أن لا نعمل شيئاً أكثر مما نعمل ولا أقل مما نعمل، وهو خيار على الأقل يحقق لنا الوجود (ونحن موجودون كثيرو الشكوى لم نسترد حقوقنا المسلوبة، كرماء، مستهلكون، لا نضيف ولا نجدد ونتغنى بالماضي، وننتظر المجهول، نطيع أكثر من في الأرض قوة و نقلدهم). هذا الخيار سلبي.
2.أن ننسحب من التاريخ والسوق الكونية والعولمة لأننا أفلسنا عقلياً وأصبح وجودنا مكلفاً ومقدار ما نأخذه أكثر مما نعطيه، وتوقفنا عن دفع فاتورة استحقاقاتنا العلمية، وتركنا كتاب الله وهجرناه فكان أكثرنا عُمياً.
3.الابقاء على ما هو كائن وهو يشبه الخيار الأول ولكنه يختلف عنه من حيث أنه يتضمن تغييراً في الأساليب والطرق ومن هنا يجب علينا أن نبحث عن ذاتنا ولا نسعى للتقليد، فلنعد إلى خصوصيتنا ومنهجنا القرآني الذي سيهدينا للطريق الصحيح.
وإذا أردنا دراسة الخيارات المطروحة فيجب أن نقول أن أنصار المواجهة والتحدي يرفضون المعايير العالمية لحقوق الإنسان، فمثلاً بحجة الخصوصية الثقافية يرفض البعض كل ما هو جديد، وبالتالي يقوم أنصار هذا الخيار برفض الديموقراطية الغربية على أساس أن لدينا نظاماً للشورى, والأهم من ذلك كله أن الحديث يتم حول الهوية العربية وكأن هناك اتفاق على محتواها فالحقيقة أن هناك صراع ثقافي دائر ومحتوم بين جماعات سياسية وثقافية عربية، إذ أن هناك صراع بين القوميين والإسلاميين يدور حول سؤال: هل نحن عرب أولاً أم نحن مسلمون أساساً؟
وهذا الصراع الخطير أدى إلى نشوء الفكر المتطرف لدى جماعات متعددة في المجتمع الإسلامي، وأخطر من ذلك بزغت حركات إرهابية تحاول تحقيق الهدف الإستراتيجي وهو إقامة الدولة الإسلامية.
ويرى محي الدين اللاذقاني أننا في العالم العربي والإسلامي أسرفنا في الهجوم على العولمة قبل أن تصل وحفرنا كافة "المتاريس" اللازمة للدفاع عن الهوية العربية دون أن نسأل أنفسنا إن كانت تلك الهوية موجودة أو نتأكد في حال وجودها من أن العولمة قادمة لمحوها مع غيرها من الهويات المحلية في دول الأطراف لصالح مركز لا يقبل إلا أن يكون كل شيء في العالم على شاكلته.(14/431)
ومن هنا يمكن القول أن الحضارة الإسلامية عليها أن تواجه العولمة لأنه إذا كان الخيار هو الاندماج والتعايش معها فهذا يعني في ظل الظروف الراهنة أن هذه الحضارة ستذوب في ظل العولمة. وإذا ما اخترنا هذا الخيار "خيار الاندماج" فيجب أن نكون مؤهلين لذلك لنتمكن من الصمود ولا ندخل في إطار التهميش بمعنى حتى لا تكون أثار العولمة مميتة لنا يجب الاستفادة من كل الامكانات التي توفرها العولمة للنهوض وليس للخضوع.
*بكالوريوس علوم سياسية /باحثة سياسية في مركز جنين للدراسات السياسية، إلى جانب القيام ببعض المهمات الصحفية.
(1)ياسر عبد الجواد، مجلة المستقبل العربي، عدد 252، شباط 2000، تحليل لكتاب العولمة ليست الخيار الوحيد، منير خمش، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، صفحة 182
(2) أحمد سلامة، العولمة والعروبة من الصراع إلى الأمل، عمان، دائرة المكتبة الوطنية 1999، صفحة 37
(3) سيار الجميل، العولمة والمستقبل استراتيجية تفكير من أجل العرب والمسلمين في القرن الحادي والعشرين، عمان، الأهلية للنشر،ط1،2000، صفحة 77
(4) د.برهان غليون، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة،دار الفكر المعاصر،ط1، 1999، صفحة 16+17
(5) مهيوب غالب أحمد، المستقبل العربي، عدد 256 ،حزيران 2000،صفحة 61
(6) سيار الجميل، مرجع سابق،صفحة 91+92
(7) أ.د محمد الحارثي، العولمة والهوية، جامعة فيلادلفيا،ط1،1999،صفحة 169
(8) مهيوب غالب أحمد ، المستقبل العربي، مرجع سابق، صفحة 61
(9) محمد السمان، موقع الإسلام في صراع الحضارات والنظام العالمي الجديد، دار النفائس، ط1،1995، صفحة 15
(10) محمد السماك، المرجع السابق، صفحة 17
(11) محمد السماك، المرجع السابق،صفحة 153
(12) د.سيار الجميل، مرجع سابق، صفحة 124.
(13) د. سيار الجميل، مرجع سابق، صفحة 128.
(14) اني أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تستمر في قيادة العالم وعولمته ولابد أن تبرز قوى أخرى، وإني أرجح أوروبا واليابان والصين لذلك،وأشترك في هذا الرأي مع الكثير من المفكرين من هم الأستاذ فخري الهواري في مقال له مجلة السياسة الدولية عدد 126 بعنوان "هل يشهد القرن الواحد والعشرون انهيار الولايات المتحدة؟"
(15)د.السيد يسين، العولمة والطريق الثالث، ميريت للنشر، القاهرة، 199،صفحة 41
(16) د.عبد الباري الدرة، العولمة والهوية، أوراق المؤتمر العالمي الرابع لكلية الأداب، جامعة فيلادلفيا،ط1،1999، صفحة 61
(17)صالح السنوسي، العولمة والهوية، أوراق المؤتمر العالمي الرابع، مرجع سابق، صفحة 45
(18)أسامة الخولي، العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1998، صفحة 256
(19) كامل أبو صقر، العولمة، دار الإسلام، بيروت،ط2،2000،صفحة 145
============(14/432)
(14/433)
عولمة الأسرة الجزائرية...
عبد الباقي صلاي * 26/2/1424
28/04/2003
لا يزال الصراع في الجزائر قائما على أشده بين العروبيين أصحاب التوجهات الشرقية المؤمنين بضرورة التمسك بقانون الأحوال الشخصية(قانون الأسرة الحالي المستوحاة بنوده من الشريعة الإسلامية و المصادق عليه من قبل البرلمان الجزائري أيام الحزب الواحد في 1984) وبين أصحاب التوجه التغريبي العلماني الذين يرجعون سبب التفكك الأسري وتخلف المرأة إلى هذا القانون.. الذي يعود حسب زعمهم إلى القرون الوسطى، وأيام الحكم التيوقراطي الغاشم، وبالتالي يجب قبره إلى الأبد، وقد زاد هذا التيار العلماني من سرعة تحركاته في الآونة الأخيرة، ظنا منه أن الفرصة مواتية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر جراء الزلزلة التي ألمت بأمريكا أكبر دولة إمبريالية على وجه الأرض؛ لأن أمريكا ولت وجهها شطر الإسلاميين من أجل المواجهة ميدانيا، ويمثل هذا التيار العلماني الفرانكوماني(1) الجمعيات النسوية، خاصة اتحاد النساء الجزائريات المقرب جدا من الشيوعيين، وطبعا يشاطرهن الاستئصاليون من الرجال الذين يتخفون وراء هذه الجمعيات؛ لأن النسوة تكتيكيا واستراتيجيا أفضل محارب لمواجهة هذا القانون، خصوصا وأن المدخل العام لهدم بنود هذا القانون المستمد عامة أركانه من الشريعة الإسلامية هو المرأة التي هي الآن حسب الزعم لهذه الشرذمة تعيش وضعا بائسا لا تحسد عليه جراء الظلم المسلط عليها من تطبيقات هذا القانون الذي ينحاز إلى سلطة الرجل، وعموما ما تدعو إليه هذه الجمعيات النسوية وتركز عليه تحديدا في ما يخص هذا القانون، هو ما تعلق بتعدد الزوجات، والخلع، وقوامة الرجل، وحالات الطلاق، وكل هذه الدعوات لها ما يقابلها في قاموس هذه الجمعيات التي تنادي بأعلى صوتها بأن هذا القانون غير مستمد من الشريعة الإسلامية، مما يعني بالضرورة أن إمكانية تغييره أو قبره ممكنة، وطبيعي جدا أن تنطلق هذه النسوة في دعواها من هذا المنطلق حسب مهماز الضفة الأخرى، وتحاول إيهام الرأي العام بأن هذا القانون ليس قرآنا لا يمكن تغييره أو إجراء تعديل عليه، وقد صرحت ممثلة المرأة بدون مواربة بل بالمكشوف الصريح السيدة " بثينة شريط" الوزيرة الحالية في حكومة (بن فليس) أن قانون الأسرة هذا - سوف يعرض على البرلمان في السداسي القادم من أجل المصادقة على تغييره جملة وتفصيلا .. كما هددت السيدة الوزيرة الرجل عموما بقولها " على الرجل أن يفهم قدره" أي عليه معرفة نفسه؛ لأن الرجل حسب فهمها لا يزال يظن بأن بإمكانه ضرب المرأة بالمسطرة التي يختار طولها على حسب حجم العقوبة، وقد ارتبط ظرف الصيحات بضرورة تغيير هذا القانون بتلك الندوة الصحفية التي أقامها الفريق محمد العماري في يوليو الماضي إذ أعلن بأن الأصولية لا تزال منتشرة في المجتمع، وقد أعطتها جهات عارفة بالشفرات بعدا سياسيا اجتماعيا مرتبط بالأساس بقانون الأسرة الذي يعد القانون الوحيد الذي له رابطة أصولية، كما أن هذه الصيحات دعمت موقعها بما كان يقول به الرئيس عبد العزيز بو تفليقة في كون النموذج التونسي يروقه بمعية ديمقراطية زين العابدين بن علي، على الرغم من أن عبد العزيز بوتفليقة نفسه في حملته الانتخابية كان يقول بصوت جهوري بأنه لا يقف حائلا أمام أي أحد، فمن أرادت ارتداء الحجاب فلها ذلك، ومن أرادت ارتداء الفيزو فلها ذلك، فالديمقراطية هي الفيصل بين الرغبات. إن ما تدعو إليه الجهة الفرانكومانية لا ينأى بالضرورة على ما هو حاصل على الساحة العالمية، وحسب تصورات هذه الجهة أن الانخراط في النظام الدولي الجديد ومقارعة التطور المطلوب كما هو كائن في الضفة العلمانية يتأتى في القضاء على الخصوصيات وإلغاء كل ما له صلة بالعاطفة الإسلامية، وسنام كل هذا قانون الأسرة الذي يعد عند المحافظين من جبهة التحرير الوطني والإسلاميين زبدة النضال الذي كان حقا مريرا موصولا بالنمطية الحضارية التي وضع لبناتها رائد الإصلاح الجزائري عبد الحميد بن باديس في الثلاثينات. إن التنازل عن هذا الموروث حسب المحافظين من جبهة التحرير الوطني والوطنيين عامة والإسلاميين خاصة هو تنازل عن أربعين عاما من الاستقلال مهما كانت أخطاء هذا الاستقلال، ودعوة صريحة لفتح الباب على مصراعيه لاستعمار جديد شعاره العصرنة بأثر رجعي، ومن يضمن بأن تلحق الجزائر بالتقدم والأخذ التكنولوجية لو تم إلغاء قانون الأسرة، ومن يضمن بألا يلغى الحجاب بعد ذلك كخطوة تالية اقتداءً ببعض الدول العربية ؟ ومن يضمن بأن المرأة سوف تجد حريتها وتتزوج الستة ملايين عانس حسب التقرير الرسمي من الإحصاء؟ .. كلها تساؤلات تتم بين العروبيين ومن يقف ضد هذا الإلغاء و بين الداعين للإلغاء والتنصل نهائيا من هذا القانون.الساحة الجزائرية حبلى بالمفاجآت في المستقبل من خلال ما يجري من صراع حول الرؤية الصحيحة لمشروع المجتمع، فما موقع أصحاب التوجه العربي الإسلامي من الإعراب إذن، لو كانت الغلبة للتيار الفرانكوماني وفرضت عنوة جل طروحاته العولمية؟!(14/434)
* الفرانكومانية: الموالاة للطرح الفرانكفوني والدفاع المستميت عن الفرنسة
* رئيس تحرير مجلة النور الجديد - الجزائر
(1) الفرانكومانية: الموالاة للطرح الفرانكفوني والدفاع المستميت عن الفرنسة
================(14/435)
(14/436)
حتى لا نلدغ من بني صهيون مرتين!
أميمة بنت أحمد الجلاهمة 27/2/1424
29/04/2003
من النظر إلى مجريات الأمور المتعلقة بالردود الرسمية للكيان الصهيوني أثناء حرب العراق وما بعدها؛ يتبين للمحايد أن دعوة (شارون) الموجهة لليهود القلائل - الحاملين للجنسية العراقية والمتعلقة بالهجرة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذين لا يتجاوز عددهم حالياً الخمسين فرداً- لا تتطابق والتوجهات للكيان الصهيوني، سواء العلماني منه أو الأصولي ، فكلاهما يفكر إلى أبعد من ذلك بكثير .
ولنترك الحقائق تتحدث عن نفسها ..
أصدر حاخامات اليهود مؤخراً فتوى تنص على أن "العراق جزء من إسرائيل الكبرى " ووجه أصحاب تلك الفتوى النداءات للجنود اليهود المنضمين لقوات الجيشين الأمريكي والبريطاني- وعددهم يتجاوز الألفين بقليل - إقامة صلاة خاصة كلما شرعوا في نصب خيمة، أو بناء على أرض عراقية تقع غرب نهر الفرات بالذات ، فتلك المناطق تعد في نظرهم جزء من أرض (إسرائيل الكبرى)، هذا التوضيح صرح به الحاخام ( نحيما ههوري) .
ويستوجب على أولئك الجنود عندما يشاهدون( بابل) و تطبيقاً لتعاليم رجال دينهم اليهودي أن يقولوا: " مبارك أنت يا رب ملك العالم لأنك دمرت بابل المجرمة".
ولاأعتقد أن تلك الشعائر التي يطبقها الجنود اليهود - والتي أُمِروا بتطبيقها من قِبَل رجال دينهم- تتوافق مع دعوة(شارون) المضحكة لهجرة خمسين من يهود العراق والذين آثروا- والله أعلم- البقاء تحت جبروت صدام من الهجرة إلى الأراضي المحتلة!
بل إن (الوكالة اليهودية) التي من أهم أهدافها الدعم المادي وبشتى صوره ليهود العالم ؛ تسعى حالياً -وقبل استتباب الأمن في الأرض العراقية- لتواجد اليهود في العراق المحتل ، سعياً لتحقيق الأمل ( إسرائيل الكبرى )، فهي إن سعت لتنظيم وفود سياحية لليهود لزيارة العراق - وذلك قبل سقوط نظام صدام حسين وبالأصح قبل البدء الفعلي للحرب ؛ فذلك، وكما أكده المحللون بغرض السيطرة على الأراضي العراقية ، خاصة وأن وضع المواطنين العراقيين المزري من الناحية الإنسانية - والذين قل ما يجد منهم قوت يومه- يفسح المجال لتحقيق مآرب صهيون التوسعية .
وبالتالي فإن السيناريو الصهيوني اليهودي الذي طبق في فلسطين المحتلة مع فقراء فلسطين - وتحت حماية الاحتلال البريطاني ، في بداية القرن العشرين ، وقبل نكسة 1948م - من شرائهم الأراضي الفلسطينية ، وبأسعار بدت مغرية لأصحابها العرب المغيبين آنذاك - مع الأسف - عن الغرض الأساسي من وراء إقبال اليهود على الاستيطان في الأراضي الفلسطينية ؛ هذه السياسة ستعتمدها بلا أدنى شك ( الوكالة اليهودية) ومن يذهب مذهبها ، فيعمدوا على تطبيقها ، وبصورة أوسع نطاقاً في العراق المحتل .
وما تطبيقها اليوم في العراق المحتلة بأصعب من تطبيقها بالأمس في فلسطين المحتلة، فإن كانت فلسطين آنذاك محتلة من قبل حليفة اليهود الفضلى (بريطانيا) الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ؛ فقد وجد اليهود اليوم حليفاً يفوق حليف الأمس في قوته وجبروته ، بعد أن نفضوا عنهم حليف الأمس الذي أنهكت قواه وشاخت بنيته ، وأصبح مسيراً لهم لا مخيراً .. !!
نعم سيسعون لشراء الأراضي العراقية من أهلها -والله اعلم - وسيعمدون على ترسيخ الاستيطان اليهودي تحت العلم الأمريكي على أرض العراق ، ونخشى أن يتحقق لهم ذلك ببذل المال للفقراء المعوزين من أهلها، الذين قد يجدوا أمامهم ما ينهي الأيام العجاف ، أيام من البؤس والفقر التي أكلت الأخضر واليابس ..!!
آمل أن نفيق، ونعين أهلنا في العراق قبل أن نرى الأيادي الملوثة قد أطبقت على أنفاسنا هناك، كما هو حالنا مع فلسطين المحتلة حتى لانلدغ من بني صهيون مرتين ..
هذه هي السياسة التي ستحاول( الوكالة اليهودية )تحقيقها وبكل نفوذها ، وإلا فكيف نفسر سعي هؤلاء اليهود لتشيد خمس كنائس يهودية في العراق التي تكاد تخلو من اليهود حالياً ، ومن فيها منهم لا يتجاوز عددهم الخمسين فرداً، وبالتالي يمكن جمعهم في قاعة متوسطة الحجم!
أبعد هذا نصدق دعوة (شارون) وهو يطلق دعوته للجالية اليهودية العراقية للهجرة إلى فلسطين المحتلة ؛ أم أنه يأمل في هجرة معاكسة ؟!
ثم لم تُشيّد تلك المعابد اليهودية الخمسة في العراق إذا تحقق هجرة البقية الباقية من يهود العراق لفلسطين المحتلة؟! ثم من هو المرشح لرعاية شؤونها ، والعراق خالية الوفاض من روادها؟!.
============(14/437)
(14/438)
عيد شم النسيم..أصله، شعائره، حكم الاحتفال به
إبراهيم بن محمد الحقيل 25/12/1425
05/02/2005
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى اختار لنا الإسلام ديناً كما قال تعالى:"إن الدين عند الله الإسلام" [آل عمران:19]، ولن يقبل الله تعالى من أحد ديناً سواه كما قال تعالى:"ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" [آل عمران:85]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم (153)، وجميع الأديان الموجودة في هذا العصر -سوى دين الإسلام- أديان باطلة لا تقرب إلى الله تعالى؛ بل إنها لا تزيد العبد إلا بعداً منه سبحانه وتعالى بحسب ما فيها من ضلال.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فئاماً من أمته سيتبعون أعداء الله تعالى في بعض شعائرهم وعاداتهم، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن؟" أخرجه البخاري (732) ومسلم (2669).
وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله" أخرجه الحاكم (1/129).
وقد وقع ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانتشر في الأزمنة الأخيرة في كثير من البلاد الإسلامية؛ إذ اتبع كثير من المسلمين أعداء الله تعالى في كثير من عاداتهم وسلوكياتهم، وقلدوهم في بعض شعائرهم، واحتفلوا بأعيادهم.
وكان ذلك نتيجة للفتح المادي، والتطور العمراني الذي فتح الله به على البشرية، وكان قصب السبق فيه في الأزمنة المتأخرة للبلاد الغربية النصرانية العلمانية، مما كان سبباً في افتتان كثير من المسلمين بذلك، لا سيما مع ضعف الديانة في القلوب، وفشو الجهل بأحكام الشريعة بين الناس.
وزاد الأمر سوءاً الانفتاح الإعلامي بين كافة الشعوب، حتى غدت شعائر الكفار وعاداتهم تُنقل مزخرفة مبهرجة بالصوت والصورة الحية من بلادهم إلى بلاد المسلمين عبر الفضائيات والشبكة العالمية -الإنترنت- فاغتر بزخرفها كثير من المسلمين.
وقد لاحظت -كما لاحظ غيري- احتفال كثير من المسلمين في مصر بعيد شم النسيم واحتفال غيرهم في كثير من البلدان العربية والغربية بأعياد الربيع على اختلاف أنواعها ومسمياتها وأوقاتها، وكل هذه الأعياد الربيعية -فيما يظهر- هي فرع من عيد شم النسيم، أو تقليد له.
لأجل ذلك رأيت تذكير إخواني المسلمين ببيان خطورة الاحتفال بمثل هذه الأعياد الكفرية على عقيدة المسلم.
منشأ عيد شم النسيم وقصته:
عيد شم النسيم من أعياد الفراعنة، ثم نقله عنهم بنو إسرائيل، ثم انتقل إلى الأقباط بعد ذلك، وصار في العصر الحاضر عيداً شعبياً يحتفل به كثير من أهل مصر من أقباط ومسلمين وغيرهم.
كانت أعياد الفراعنة ترتبط بالظواهر الفلكية، وعلاقتها بالطبيعة، ومظاهر الحياة؛ ولذلك احتفلوا بعيد الربيع الذي حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل.
ويقع في الخامس والعشرين من شهر برمهات -وكانوا يعتقدون- كما ورد في كتابهم المقدس عندهم - أن ذلك اليوم هو أول الزمان، أو بدء خلق العالم.
وأطلق الفراعنة على ذلك العيد اسم (عيد شموش) أي بعث الحياة، وحُرِّف الاسم على مر الزمن، وخاصة في العصر القبطي إلى اسم (شم) وأضيفت إليه كلمة النسيم نسبة إلى نسمة الربيع التي تعلن وصوله.
يرجع بدء احتفال الفراعنة بذلك العيد رسمياً إلى عام 2700 ق.م أي في أواخر الأسرة الفرعونية الثالثة، ولو أن بعض المؤرخين يؤكد أنه كان معروفاً ضمن أعياد هيليوبوليس ومدينة (أون) وكانوا يحتفلون به في عصر ما قبل الأسرات.
بين عيد الفصح وشم النسيم:
نقل بنو إسرائيل عيد شم النسيم عن الفراعنة لما خرجوا من مصر، وقد اتفق يوم خروجهم مع موعد احتفال الفراعنة بعيدهم.
واحتفل بنو إسرائيل بالعيد بعد خروجهم ونجاتهم، وأطلقوا عليه اسم عيد الفصح، والفصح كلمة عبرية معناها (الخروج) أو (العبور)، كما اعتبروا ذلك اليوم - أي يوم بدء الخلق عند الفراعنة- رأساً لسنتهم الدينية العبرية تيمناً بنجاتهم، وبدء حياتهم الجديدة.
وهكذا انتقل هذا العيد من الفراعنة إلى اليهود، ثم انتقل عيد الفصح من اليهود إلى النصارى وجعلوه موافقاً لما يزعمونه قيامة المسيح، ولما دخلت النصرانية مصر أصبح عيدهم يلازم عيد المصريين القدماء -الفراعنة- ويقع دائماً في اليوم التالي لعيد الفصح أو عيد القيامة.(14/439)
كان الفراعنة يحتفلون بعيد شم النسيم؛ إذ يبدأ ليلته الأولى أو ليلة الرؤيا بالاحتفالات الدينية، ثم يتحول مع شروق الشمس إلى عيد شعبي تشترك فيه جميع طبقات الشعب كما كان فرعون، وكبار رجال الدولة يشاركون في هذا العيد.
من مظاهر الاحتفال به:
يخرج المحتفلون بعيد شم النسيم جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنزهات؛ ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها، وقد اعتادوا أن يحملوا معهم طعامهم وشرابهم، ويقضوا يومهم في الاحتفال بالعيد ابتداء من شروق الشمس حتى غروبها، وكانوا يحملون معهم أدوات لعبهم، ومعدات لهوهم، وآلات موسيقاهم، فتتزين الفتيات بعقود الياسمين (زهر الربيع)، ويحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهور، فتقام حفلات الرقص الزوجي والجماعي على أنغام الناي والمزمار والقيثار، ودقات الدفوف، تصاحبها الأغاني والأناشيد الخاصة بعيد الربيع، كما تجري المباريات الرياضية والحفلات التمثيلية.
كما أن الاحتفال بالعيد يمتد بعد عودتهم من المزارع والمتنزهات والأنهار إلى المدينة ليستمر حتى شروق الشمس سواء في المساكن حيث تقام حفلات الاستقبال، وتبادل التهنئة أو في الأحياء والميادين والأماكن العامة حيث تقام حفلات الترفيه والندوات الشعبية.
أطعمة هذا العيد:
كان لشم النسيم أطعمته التقليدية المفضلة، وما ارتبط بها من عادات وتقاليد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الاحتفال بالعيد نفسه، والطابع المميز له والتي انتقلت من الفراعنة عبر العصور الطويلة إلى عصرنا الحاضر.
وتشمل قائمة الأطعمة المميزة لمائدة شم النسيم: (البيض-والفسيخ-والبصل-والخس-والملانة)
وقد أخذ كثير ممن يحتفلون بأعياد الربيع في دول الغرب والشرق كثيراً من مظاهر عيد شم النسيم ونقلوها في أعيادهم الربيعية.
بيض شم النسيم:
يعتبر البيض الملون مظهراً من مظاهر عيد شم النسيم، ومختلف أعياد الفصح والربيع في العالم أجمع، واصطلح الغربيون على تسمية البيض (بيضة الشرق).
بدأ ظهور البيض على مائدة أعياد الربيع -شم النسيم- مع بداية العيد الفرعوني نفسه أو عيد الخلق حيث كان البيض يرمز إلى خلق الحياة، كما ورد في متون كتاب الموتى وأناشيد (أخناتون الفرعوني).
وهكذا بدأ الاحتفال بأكل البيض كأحد الشعائر المقدسة التي ترمز لعيد الخلق، أو عيد شم النسيم عند الفراعنة.
أما فكرة نقش البيض وزخرفته، فقد ارتبطت بعقيدة قديمة أيضاً؛ إذ كان الفراعنة ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات ويجمعونه أو يعلقونه في أشجار الحدائق حتى تتلقى بركات نور الإله عند شروقه -حسب زعمهم- فيحقق دعواتهم ويبدأون العيد بتبادل التحية (بدقة البيض)، وهي العادات التي ما زال أكثرها متوارثاً إلى الآن -نعوذ بالله من الضلال-.
أما عادة تلوين البيض بمختلف الألوان وهو التقليد المتبع في جميع أنحاء العالم، فقد بدأ في فلسطين بعد زعم النصارى صلب اليهود للمسيح -عليه السلام- الذي سبق موسم الاحتفال بالعيد، فأظهر النصارى رغبتهم في عدم الاحتفال بالعيد؛ حداداً على المسيح، وحتى لا يشاركون اليهود أفراحهم. ولكن أحد القديسين أمرهم بأن يحتفلوا بالعيد تخليداً لذكرى المسيح وقيامه، على أن يصبغوا البيض باللون الأحمر ليذكرهم دائماً بدمه الذي سفكه اليهود.
وهكذا ظهر بيض شم النسيم لأول مرة مصبوغاً باللون الأحمر، ثم انتقلت تلك العادة إلى مصر وحافظ عليه الأقباط بجانب ما توارثوه من الرموز والطلاسم والنقوش الفرعونية.
ومنهم انتقلت عبر البحر الأحمر إلى روما، وانتشرت في أنحاء العالم الغربي النصراني في أوربا وأمريكا، وقد تطورت تلك العادة إلى صباغة البيض بمختلف الألوان التي أصبحت الطابع المميز لأعياد شم النسيم والفصح والربيع حول العالم.
الفسيخ (السمك المملح):
ظهر الفسيخ، أو السمك المملح من بين الأطعمة التقليدية في العيد في الأسرة الفرعونية الخامسة عندما بدأ الاهتمام بتقديس النيل: نهر الحياة، (الإله حعبى) عند الفراعنة الذي ورد في متونه المقدسة عندهم أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل من الجنة حيث ينبع -حسب زعمهم-.
وقد كان للفراعنة عناية بحفظ الأسماك، وتجفيفها وتمليحها وصناعة الفسيخ والملوحة واستخراج البطارخ -كما ذكر هيرودوث [هو مؤرخ إغريقي اعتنى بتواريخ الفراعنة والفرس، وفاته كانت 425 قبل الميلاد كما في الموسوعة العربية الميسرة (2/1926)] فقال عنهم:"إنهم كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم، ويرون أن أكله مفيد في وقت معين من السنة، وكانوا يفضلون نوعاً معيناً لتمليحه وحفظه للعيد، أطلقوا عليه اسم (بور) وهو الاسم الذي حور في اللغة القبطية إلى (يور) وما زال يطلق عليه حتى الآن.
بصل شم النسيم:(14/440)
ظهر البصل ضمن أطعمة عيد شم النسيم في أواسط الأسرة الفرعونية السادسة وقد ارتبط ظهوره بما ورد في إحدى أساطير منف القديمة التي تروى أن أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد، وكان محبوباً من الشعب، وقد أصيب الأمير الصغير بمرض غامض عجز الأطباء والكهنة والسحرة عن علاجه، وأقعد الأمير الصغير عن الحركة، ولازم الفراش عدة سنوات، امتُنِع خلالها عن إقامة الأفراح والاحتفال بالعيد مشاركة للملك في أحزانه.
وكان أطفال المدينة يقدمون القرابين للإله في المعابد في مختلف المناسبات ليشفى أميرهم، واستدعى الملك الكاهن الأكبر لمعبد آمون، فنسب مرض الأمير الطفل إلى وجود أرواح شريرة تسيطر عليه، وتشل حركته بفعل السحر.
وأمر الكاهن بوضع ثمرة ناضجة من ثمار البصل تحت رأس الأمير في فراش نومه عند غروب الشمس بعد أن قرأ عليها بعض التعاويذ، ثم شقها عند شروق الشمس في الفجر ووضعها فوق أنفه ليستنشق عصيرها.
كما طلب منهم تعليق حزم من أعواد البصل الطازج فوق السرير وعلى أبواب الغرفة وبوابات القصر لطرد الأرواح الشريرة.
وتشرح الأسطورة كيف تمت المعجزة وغادر الطفل فراشه، وخرج ليلعب في الحديقة وقد شفى من مرضه الذي يئس الطب من علاجه، فأقام الملك الأفراح في القصر لأطفال المدينة بأكملها، وشارك الشعب في القصر في أفراحه، ولما حل عيد شم النسيم بعد أفراح القصر بعدة أيام قام الملك وعائلته، وكبار رجال الدولة بمشاركة الناس في العيد، كما قام الناس -إعلاناً منهم للتهنئة بشفاء الأمير- بتعليق حزم البصل على أبواب دورهم، كما احتل البصل الأخضر مكانه على مائدة شم النسيم بجانب البيض والفسيخ.
ومما هو جدير بالذكر أن تلك العادات التي ارتبطت بتلك الأسطورة القديمة سواء من عادة وضع البصل تحت وسادة الأطفال، وتنشيقهم لعصيره، أو تعليق حزم البصل على أبواب المساكن أو الغرف أو أكل البصل الأخضر نفسه مع البيض والفسيخ ما زالت من العادات والتقاليد المتبعة إلى الآن في مصر وفي بعض الدول التي تحتفل بعيد شم النسيم أو أعياد الربيع.
خس شم النسيم:
كان الخس من النباتات التي تعلن عن حلول الربيع باكتمال نموها ونضجها، وقد عرف ابتداء من الأسرة الفرعونية الرابعة حيث ظهرت صوره من سلال القرابين التي يقربونها لآلتهم من دون الله -تعالى- بورقه الأخضر الطويل وعلى موائد الاحتفال بالعيد، وكان يسمى الهيروغليفية (حب) كما اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة الخاصة بالمعبود (من) إله التناسل، ويوجد رسمه منقوشاً دائماً تحت أقدام الإله في معابده ورسومه -تعالى الله عن إفكهم وشركهم-.
حمس شم النسيم:
هي ثمرة الحمص الأخضر، وأطلق عليه الفراعنة اسم (حور -بيك) أي رأس الصقر لشكل الثمرة التي تشبه رأس حور الصقر المقدس عندهم.
وكان للحمص -كما للخس- الكثير من الفوائد والمزايا التي ورد ذكرها في بردياتهم الطبية.
وكانوا يعتبرون نضج الثمرة وامتلاءها إعلاناً عن ميلاد الربيع، وهو ما أخذ منه اسم الملانة أو الملآنة.
وكانت الفتيات يصنعن من حبات الملانة الخضراء عقوداً، وأساور يتزين بها في الاحتفالات بالعيد، كما يقمن باستعمالها في زينة الحوائط ونوافذ المنازل في الحفلات المنزلية.
ومن بين تقاليد شم النسيم الفرعونية القديمة التزين بعقود زهور الياسمين وهو محرف من الاسم الفرعوني القديم (ياسمون) وكانوا يصفون الياسمين بأنه عطر الطبيعة التي تستقبل به الربيع، وكانوا يستخرجون منه في موسم الربيع عطور الزينة وزيت البخور الذي يقدم ضمن قرابين المعابد عند الاحتفال بالعيد. [انظر: هذه المعلومات وغيرها في: موسوعة أغرب الأعياد وأعجب الاحتفالات لسيد صديق عبد الفتاح (516-526)، وأعياد مصر بين الماضي والحاضر للدكتور سعيد محمد حسن الملط (19-22)].
حكم الاحتفال بعيد شم النسيم:
مما سبق عرضه في قصة نشأة هذا العيد وأصله ومظاهره قديماً وحديثاً يتبين ما يلي:
أولاً: أن أصل هذا العيد فرعوني، كانت الأمة الفرعونية الوثنية تحتفل به ثم انتقل إلى بني إسرائيل بمخالطتهم للفراعنة، فأخذوه عنهم، ومنهم انتقل إلى النصارى، وحافظ عليه الأقباط -ولا يزالون-.
فالاحتفال به فيه مشابهة للأمة الفرعونية في شعائرها الوثنية؛ إن هذا العيد شعيرة من شعائرهم المرتبطة بدينهم الوثني، والله تعالى حذرنا من الشرك ودواعيه وما يفضي إليه؛ كما قال سبحانه مخاطباً رسوله - صلى الله عليه وسلم -:"ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين*بل الله فاعبد وكن من الشاكرين" [الزمر:65-66]، ولقد قضى الله سبحانه -وهو أحكم الحاكمين- بأن من مات على الشرك فهو مخلد في النار؛ كما قال سبحانه:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً" [النساء:116].(14/441)
ثانياً: أن اسم هذا العيد ومظاهره وشعائره من بيض مصبوغ أو منقوش وفسيخ (سمك مملح) وبصل وخس وغيرها هي عين ما كان موجوداً عند الفراعنة الوثنين،ولها ارتباط بعقائد فاسدة كاعتقادهم في البصل إذا وضع تحت الوسادة أو علق على الباب أو ما شابه ذلك فإنه يشفي من الأمراض ويطرد الجان كما حصل في الأسطورة الفرعونية، ومن فعل ذلك فهو يقتدي بالفراعنة في خصيصة من خصائص دينهم الوثني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:"من تشبه بقوم فهو منهم" رواه أحمد (3/50) وأبو داود (5021).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى_:(هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى:"ومن يتولهم منكم فإنه منهم" أ.هـ (الاقتضاء 1/314).
وقال الصنعاني -رحمه الله تعالى-:(فإذا تشبه بالكفار في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال: يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر ولكن يؤدب) سبل السلام (8/248).
وهذه الاعتقادات التي يعتقدونها في طعام عيد شم النسيم وبيضه وبصله مناقضة لعقيدة المسلم، فكيف إذا انضم إلى ذلك أنها مأخوذة من عباد الأوثان الفراعنة؟ لا شك أن حرمتها أشد؛ لأنها جمعت بين الوقوع في الاعتقاد الباطل وبين التشبه المذموم.
ثالثاً: ذكر الشيخ الأزهري علي محفوظ رحمه الله تعالى - عضو هيئة كبار العلماء في وقته في مصر- بعض ما شاهده من مظاهر هذا العيد، وما يجري فيه من فسوق وفجور فقال -رحمه الله تعالى-:(وناهيك ما يكون من الناس من البدع والمنكرات والخروج عن حدود الدين والأدب في يوم شم النسيم، وما أدراك ما شم النسيم؟ هو عادة ابتدعها أهل الأوثان لتقديس بعض الأيام تفاؤلاً به أو تزلفاً لما كانوا يعبدون من دون الله، فعمرت آلافاً من السنين حتى عمت المشرقين، واشترك فيها العظيم والحقير، والصغير والكبير..) إلى أن قال:(فهل هذا اليوم -يوم شم النسيم- في مجتمعاتنا الشرعية التي تعود علينا بالخير والرحمة؟ كلا، وحسبك أن تنظر في الأمصار بل القرى فترى في ذلك اليوم ما يزري بالفضيلة، ويخجل معه وجه الحياء من منكرات تخالف الدين، وسوءات تجرح الذوق السليم، وينقبض لها صدر الإنسانية.
الرياضة واستنشاق الهواء، ومشاهدة الأزهار من ضرورات الحياة في كل آن لا في ذلك اليوم الذي تمتلئ فيه المزارع والخلوات بجماعات الفجار وفاسدي الأخلاق، فتسربت إليها المفاسد، وعمتها الدنايا، فصارت سوقاً للفسوق والعصيان، ومرتعاً لإراقة الحياء، وهتك الحجاب، نعم، لا تمر بمزرعة أو طريق إلا وترى فيه ما يخجل كل شريف، ويؤلم كل حي، فأجدر به أن يسمى يوم الشؤم والفجور!! ترى المركبات والسيارات تتكدس بجماعات عاطلين يموج بعضهم في بعض بين شيب وشبان ونساء وولدان ينزحون إلى البساتين والأنهار، ترى السفن فوق الماء مملوءة بالشبان يفسقون بالنساء على ظهر الماء، ويفرطون في تناول المسكرات، وارتكاب المخازي، فاتبعوا خطوات الشيطان في السوء والفحشاء في البر والبحر، وأضاعوا ثمرة الاجتماع فكان شراً على شر، ووبالاً على وبال.
تراهم ينطقون بما تصان الأذان عن سماعه، ويخاطبون المارة كما يشاؤون من قبيح الألفاظ، وبذيء العبارات؛ كأن هذا اليوم قد أبيحت لهم فيه جميع الخبائث، وارتفع عنهم فيه حواجز التكليف (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون).
فعلى من يريد السلامة في دينه وعرضه أن يحتجب في بيته في ذلك اليوم المشؤوم، ويمنع عياله وأهله، وكل من تحت ولايته عن الخروج فيه حتى لا يشارك اليهود والنصارى في مراسمهم، والفاسقين الفاجرين في أماكنهم، ويظفر بإحسان الله ورحمته) أ.هـ من الإبداع في مضار الابتداع (275-276).
رابعاً: ظهر من كلام الشيخ علي محفوظ الآنف الذكر، وكلام من نقلنا عنهم في مظاهر هذا العيد الوثني الفرعوني، أنه عيد ينضح بالفجور والفسوق، ويطفح بالشهوات والموبقات، وكل من كتب عن هذا العيد من المعاصرين -فيما وقفت عليه من مصادر- يذكرون ما فيه من اختلاط، وتهتك في اللباس، وعلاقات محرمة بين الجنسين، ورقص ومجون، إضافة إلى المزامير والطبول وما شاكلها من آلات اللهو، فيكون قد أنضاف إليه مع كونه تشبهاً بالوثنيين في شعائرهم جملة من مظاهر الفسق والفجور كافية في التنفير عنه، والتحذير منه.
موقف المسلم من عيد شم النسيم:
من عرضنا السابق لأصل هذا العيد ونشأته ومظاهره وشعائره فإنه يمكن تلخيص ما يجب على المسلم في الآتي:
أولاً: عدم الاحتفال به، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم، أو حضور الاحتفال به؛ وذلك لما فيه من التشبه بالفراعنة الوثنيين ثم باليهود والنصارى، والتشبه بهم فيما يخصهم محرم فكيف بالتشبه بهم في شعائرهم؟!
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله-:(فإذا كان للنصارى عيد ولليهود عيد كانوا مختصين به فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم) أ.هـ من تشبه الخسيس بأهل الخميس (رسالة منشورة في مجلة الحكمة 4/193).(14/442)
ثانياً: عدم إعانة من يحتفل به من الكفار أقباطاً كانوا أم يهوداً أم غيرهم بأي نوع من أنواع الإعانة، كالإهداء لهم، أو الإعلان عن وقت هذا العيد أو مراسيمه أو مكان الاحتفال به، أو إعارة ما يعين على إقامته، أو بيع ذلك لهم، فكل ذلك محرم؛ لأن فيه إعانة على ظهور شعائر الكفر وإعلانها، فمن أعانهم على ذلك فكأنه يقرهم عليه، ولهذا حرم ذلك كله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:(لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم لا من طعام ولا لباس ولا اغتسال ولا إيقاد نار ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا يحل فعل وليمة ولا الإهداء ولا البيع بما يستعان به على ذلك لأجل ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم من اللعب الذي في الأعياد ولا إظهار الزينة، وبالجملة: ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام) (مجموع الفتاوى 25/329).
وقال ابن التركماني الحنفي -رحمه الله-:(فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم) (اللمع في الحوادث والبدع (2/519-520).
وقد أحسن الشيخ محفوظ -رحمه الله- حينما أوصى كل مسلم في بلاد يحتفل بهذا العيد فيها أن يلزم بيته، ويحبس أهله وأولاده عن المشاركة في مظاهر هذا العيد واحتفالاته.
ثالثاً: الإنكار على من يحتفل به من المسلمين، ومقاطعته في الله تعالى إذا صنع دعوة لأجل هذا العيد، وهجره إذا اقتضت المصلحة ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:(وكما لا نتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم في ذلك؛ بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تُجب دعوته، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر) (الاقتضاء 2/519-520).
وبناء على ما قرره شيخ الإسلام فإنه لا يجوز للتجار المصريين من المسلمين أو في أي بلاد يحتفل فيها بشم النسيم أن يتاجروا بالهدايا الخاصة بهذا العيد من بيض منقوش، أو مصبوغ مخصص لهذا العيد، أو سمك مملح لأجله، أو بطاقات تهنئة به، أو غير ذلك مما هو مختص به؛ لأن المتاجرة بذلك فيها إعانة على المنكر الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. كما لا يحل لمن أهديت له هدية هذا العيد أن يقبلها؛ لأن في قبولها إقراراً لهذا العيد، ورضاً به.
ولا يعني ذلك الحكم بحرمة بيع البيض أو السمك أو البصل أو غيره مما أحله الله تعالى، وإنما الممنوع بيع ما خصص لهذا العيد بصبغ أو نقش أو تمليح أو ما شابه ذلك، ولكن لو كان المسلم يتاجر ببعض هذه الأطعمة، ولم يخصصها لهذا العيد لا بالدعاية، ولا بوضع ما يرغب زبائن هذا العيد فيها فلا يظهر حرج في بيعها ولو كان المشترون منه يضعونها لهذا العيد.
رابعاً: عدم تبادل التهاني بعيد شم النسيم؛ لأنه عيد للفراعنة ولمن تبعهم من اليهود والنصارى، وليس عيداً للمسلمين، وإذا هنئ المسلم به فلا يرد التهنئة، قال ابن القيم -رحمه الله-:(وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل: أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه) أ.هـ (أحكام أهل الذمة 1/441-442).
خامساً: توضيح حقيقة عيد شم النسيم وأمثاله من الأعياد التي عمت وطمت في هذا الزمن، وبيان حكم الاحتفال بها لمن اغتر بذلك من المسلمين، والتأكيد على ضرورة تميز المسلم بدينه، ومحافظته على عقيدته، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد، أو بما يختصون به من سلوكياتهم وعاداتهم؛ نصحاً للأمة، وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح البلاد والعباد.
والواجب على علماء مصر أن يحذروا المسلمين من مغبة الاحتفال بعيد شم النسيم، أو مشاركة المحتفلين به، أو إعانتهم بأي نوع من أنواع الإعانة على إقامته، وحث الناس على إنكاره ورفضه؛ لئلا يكون الدين غريباً بين المسلمين.
وقد لاحظت أن كثيراً من إخواننا المسلمين في مصر يحتفلون بهذا العيد ولا يعرفون حقيقته وأصله، وحكم الاحتفال به، وبعضهم يعرف حقيقته، ولكنهم يقللون من خطورة الاحتفال به ظناً منهم أنه أصبح عادة وليس عبادة، وحجتهم أنهم لا يعتقدون فيه ما يعتقده الفراعنة أو اليهود والنصارى، وهذا فهم خاطئ فإن التشبه في شعائر الدين يؤدي إلى الكفر سواء اعتقد المتشبه بالكفار في هذه الشعيرة ما يعتقدون فيها أم لم يعتقد؟(14/443)
بخلاف التشبه فيما يختصون به من السلوكيات والعادات فهو أخف بكثير، ولا سيما إذا انتشرت بين الناس ولم تعد خاصة بهم، وكثير من الناس لا يفرق بين الأمرين.
ولذا فإننا نرى المسلم يأنف من لبس الصليب؛ لأنه شعار النصارى الديني بينما نراه يحتفل بأعيادهم أو يشارك المحتفلين بها، وهذا مثل هذا إن لم يكن أعظم، لأن الأعياد من أعظم الشعائر التي تختص بها الأمم.
وكون عيد شم النسيم تحول إلى عادة كما يقوله كثير من المحتفلين به وهم لا يعتقدون فيه ما يعتقده أهل الديانات الأخرى لا يبيح الاحتفال به؛ ودليل ذلك ما رواه ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال:"نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلاً ببوانه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا:لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود (3313) وصححه شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/436) والحافظ في البلوغ (1405).
فيلاحظ في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر أصل البقعة، ولم يلتفت إلى نية هذا الرجل في اختيار هذه البقعة بعينها، ولا سأله عن ذبحه لمن يكون: أهو لله -تعالى- أم للبقعة، لأن ذلك ظاهر واضح، وإنما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تاريخ هذه البقعة: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ وهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فلما أجيب بالنفي أجاز الذبح فيها لله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:"وهذا يقتضي أن كون البقعة مكاناً لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر، كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك، وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال، ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها، أو لإحياء شعار عيدهم فيها، ونحو ذلك؛ إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه،.. وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذوراً فكيف نفس عيدهم؟"أ.هـ (الاقتضاء 1/443).
قلت: وعيد شم النسيم ليس في زمان العيد ومكانه فحسب، بل هو العيد الوثني الفرعوني عينه في زمانه وشعائره ومظاهر الاحتفال به، فحرم الاحتفال به دون النظر إلى نية المحتفل به وقصده، كما يدل عليه هذا الحديث العظيم.
فالواجب على المسلم الحذر مما يخدش إيمانه، أو يخل بتوحيده، وتحذير الناس من ذلك.
أسأل الله تعالى أن يحفظني والمسلمين من موجبات سخطه، وأن يمنَّ علينا بالتقوى والإخلاص في الأقوال والأعمال.
والحمد لله رب العالمين
=============(14/444)
(14/445)
قراءة في كتاب الرئيس الأميركي الأسبق " نيكسون "
د . عبد الحكيم الفيتوري 6/3/1424
07/05/2003
( اقتناص اللحظة )
صدر للرئيس نيكسون قبل هذا الكتاب ثمانية كتب سياسية ، إلا أن هذا الكتاب الجديد قد يكون أهمها على الإطلاق لأنه يعالج موضوعا يشغل بال كل دول العالم ، ويهمنا نحن المسلمين والعرب بصورة خاصة ؛ ذلك أن الرئيس نيكسون قسم العالم إلى ثلاث مناطق رئيسة من حيث دور الولايات المتحدة وظيفتها في قيادة العالم الجديد . وهذه المناطق هي المثلث الباسيفيكي ( روسيا - الصين - اليابان ) ، العالم الأطلسي ( أميركا - أوروبا ) ، النصف الجنوبي ( العالم الثالث ) .
وإذا كان هذا التقسيم اعتمد الجغرافيا أساسا له ، فإنه تجاوز ذلك تماما عندما خصص فصلاً كاملاً عن ( العالم الإسلامي ) ، راسما صورة هذا العالم كما هي في الذهن الأميركي والغربي ، محاولا تحليل أوضاعه وبنيته الإيديولوجية والسياسية ، محددا الاقتراحات والمخططات التي يدعو الولايات المتحدة إلى اعتمادها في تعاملها معه .
والذي يهمنا من هذا الكتاب هذا الفصل بالذات الخاص بالعالم الإسلامي ؛ لما يتضمنه من تصوير للعالم الإسلامي بعين أميركية ؛ ولما يقدمه المؤلف من وصفات ومقترحات محددة لاعتمادها أساسا في التعامل مع هذا العالم الإسلامي تحت مظلة النظام العالمي الجديد.
رؤية نيكسون للعالم الثالث :
يخصص " نيكسون " الفصل السادس من الكتاب للنصف الجنوبي من الكرة الأرضية ( العالم الثالث ) وهو يصف هذه المنطقة من العالم بأن طريقها إلى التطور الاقتصادي تعترضها عراقيل صعبة ، وحكومات فاسدة ، وسوء سياسة اقتصادية ، وسوء توجيه للإستراتيجيات الإنمائية (ص233) . ويصف كل هذه المشكلات بأنها مشكلات ذاتية وضعت دول المنطقة في حلقة مفرغة من الفقر تعجز عن الخروج منها .
ويرى نيكسون أنه ( لا يمكن التغلب على هذه العراقيل ما لم نطمئن إلى أن نجاح الحرية في النصف الجنوبي سوف يحل محل سقوط الشيوعية في العالم ) (ص234) . يستعمل نيكسون كلمة الحرية كتعبير ايديولوجي بديل عن الشيوعية ، معتبرا أن المفهوم الأميركي للحرية هو البديل الوحيد ، نافيا وجود أي مفهوم آخر ، أو أي بديل ايديولوجي آخر .
رؤية نيكسون للعالم الإسلامي المعاصر :
يعالج نيكسون في الفصل الخامس من الكتاب موضوع العالم الإسلامي .
ويستهل هذا الفصل بتقديم صورة بالغة السوء عن نظرة الأميركيين إلى المسلمين . فيقول : إن الأميركيين ينظرون إلى المسلمين على أنهم غير متحضرين ، برابرة ، مزاجيين ، لا يستقطبون الانتباه إلا لأن بعض قادتهم يحكمون مناطق تحتوى على ثلثي الاحتياطي العالمي المعروف من النفط . ( ص194)
والأميركيون يذكرون الحروب الثلاثة التي شنها العرب للقضاء على إسرائيل ، ويذكرون الرهائن الأميركيين الذي يعتقلهم الخمينيون المتعصبون ، ويذكرون عملية الهجوم الإرهابي على أولمبياد ميونيخ التي قام بها فلسطينيون من منظمة أيلول الأسود ، ويذكرون مذابح الميليشيات الإسلامية في لبنان ، وتفجير الطائرات المدنية بواسطة سوريا وليبيا ، ومحاولة صدام حسين ضم الكويت على الطريقة الهتلرية . ويلخص " نيكسون " هذه الصورة بقوله : ليس لأي أمة في العالم ، ولا حتى للصين صورة سلبية في الضمير الأميركي مثل صورة العالم الإسلامي . (195) .
رؤية الإدارة الأمريكية للإسلام :
وينتقل نيكسون بعد ذلك إلى الأمر الجوهري الذي يبدو أنه هو بيت القصيد ، فينقل عن مراقبين قولهم : إن الإسلام سوف يصبح قوة جيو سياسية متعصبة ، فمن خلال نمو سكانه ومن خلال تبوئه مركزاً مالياً مهما ، سيفرض تحديا رئيساً يحتم على الغرب أن يقيم تحالفا جديدا مع موسكو للتصدي لعالم إسلامي معاد وعدواني . ( ص 195) . ويذكر " نيكسون" أن هذا التحليل ينطلق من اعتبار الإسلام والغرب عالمين لا يلتقيان ، وأن للإسلام نظرية تقسم العالم إلى قسمين : دار الإسلام ودار الحرب ؛ حيث يجب القضاء على القوى غير الإسلامية .
نيكسون يجرح ويداوي :
لكن " نيكسون" يبادر بعد ذلك إلى طمأنة الغرب بأن كابوس هذا السيناريو لن يتحقق ابدا ، فالعالم الإسلامي أكبر وأكثر تنوعا من أن يحركه قرع طبل واحد . ( 195) . ويقول: إن العالم الإسلامي ليس الشرق الأوسط والوطن العربي ، ولكنه أكثر من 850 مليون إنسان سدس البشرية ، يعيشون في 37 دولة . إن هذه الأمم تنقسم إلى 190 اثنية ، وتتكلم مئات اللغات واللهجات الخاصة ، وتنتمي إلى ثلاث مجموعات دينية : السنة ، والشيعة ، والصوفية . ويدعي نيكسون أن ثمة عاملين مشتركين في العالم الإسلامي ، وهما الإسلام والاضطرابات السياسية (ص169) .
نيكسون يعرف الإسلام كما يعرف أبناءه !(14/446)
ويعترف في الوقت نفسه أن الإسلام ليس دينا فقط ، ولكنه أساس حضارة رئيسة ، يقول : إننا نتحدث عن العالم الإسلامي كشخصية واحدة ، ليس لأنه يوجد مكتب سياسي يوجه شؤونه السياسية ، ولكن لأن كل الأمم الإسلامية تشترك في تيارات سياسية وثقافية تصب في مجموع الحضارة الإسلامية . (ص196) . ويقول : إن اللحن السياسي نفسه يتردد في طول العالم الإسلامي وعرضه بصرف النظر عن الفوارق بين الدول المختلفة . (ص196) . ويقول : إن المشاركة في العقيدة والسياسة تولد تضامنا مائعا ولكنه تضامن حقيقي ، فعندما يقع حادث رئيسي في جزء من العالم الإسلامي تهتز له سائر الأجزاء . (ص196) .
نيكسون يحدد عوامل الصراع مع الإسلام :
يحدد نيكسون ثلاثة عوامل تجعل الصراع أمراً لا مفر منه مع العالم الإسلامي ، وهذه العوامل هي : الديموغرافيا ، والاقتصاد ، والتوجهات السياسية .
عن الديموغرافيا يقول : إن الانفجار السكاني في العلم يتمركز في العالم الإسلامي(ص197) فعدد سكان الشرق الأوسط وحده سوف يتضاعف في حدود عام 2010 .
وعن الاقتصاد يقول : إن النمو الاقتصادي لن يتحقق بنفس وتيره النمو الديموغرافي ليمنع هبوطا في مستوى المعيشة مما يحول دون قدرة الحكومات على مقايضة السلام بالتهديدات بعدم الاستقرار . ويذكر في هذا الإطار مشاكل المياه ، والحدود الوطنية . إلا أنه لا يذكر شيئا عن دور الولايات المتحدة في إثارة هذه المشاكل وعرقلة حلها .
وعن التوجهات السياسية يقول: إن الأنظمة السياسية وهي أوتوقراطية بغالبيتها ، ودكتاتورية في أصولها ، تعتمد على احتكارها للقوة أكثر مما تعتمد على دعم الشعوب لها ، والليبرالية السياسية أدت غالبا إلىالتمزق أكثر مما أدت إلى الديمقراطية (197) .
وشهد شاهد من أهلها :
يقول:إن نجاح الإسلام في امتحان التصدي للشيوعية كان أفضل من نجاح المسيحية (198) .
ويتحدث " نيكسون " عن التراث الحضاري الإسلامي بموضوعية ويقول : إنه في الوقت الذي كانت أوروبا غارقة في ظلمات العصور الوسطى كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي ، فقد قدم العالم الإسلامي مساهمات جمة في العلوم والطب والفلسفة (199).
وهنا يربط " نيكسون " بين هذا الماضي وآفاق المستقبل الإسلامي عندما يقول : تمثل هذه الانجازات ما كان عليه العالم الإسلامي في الماضي ، وتشير إلى ما يمكن أن يكون عليه في المستقبل إذا وضع حد لعواصف الحرب المميتة ولعدم الاستقرار السياسي . فالعالم الإسلامي عبارة عن حضارة ضخمة تبحث عن شخصيتها التاريخية (199) .
رؤية نيكسون للحركات السياسية في المنطقة :
يقسم " نيكسون" الحركات السياسية في العالم الإسلامي إلى ثلاثة تيارات فكرية هي : الأصولية - الراديكالية - الحداثة .
ويقول : إن سكان العالم الإسلامي مرشحون للثورة : إنهم شباب أكثر من 60 بالمئة منهم تحت سن الخامسة والعشرين ، إنهم فقراء ، إن متوسط الدخل الفردي - بما في ذلك الدول الغنية بالنفط في الخليج - يبلغ 1600 دولار في السنة مقارنة بمبلغ 21,000 دولار في الولايات المتحدة (203) .
ويقول : إن 27 بالمئة فقط من شعوب العالم الإسلامي تعيش في دول ديمقراطية ، وتلقى الحركات الأصولية الإسلامية هوى لدى الناس ليس بسبب ما تطرحه ولكن بسبب ما تعترض عليه ( 203).
نيكسون يدعو للوقف في وجهة المد الإسلامي :
يدعو " نيكسون " إلى ( دعم مصالحنا ومصالح أهل التحديث في العالم الإسلامي ) . ويقول عنهم : إنهم يريدون إن يقدموا إلى شعوبهم بديلا عن الإيديولوجية الأصولية المتطرفة وعن العلمانية الراديكالية .
ويقول في موضع أخر : للتأثير على التطور التاريخي في العالم الإسلامي ينبغي علينا عدم صياغة استراتيجية تطبق سياسة واحدة في كل الدول الإسلامية ، إنما علينا اختيار نقاط مفصلية من أجل وجودنا ، علينا إرساء شراكة مع دولة عصرية مختارة نشاركها المصالح والأولويات ويكون لها ثقلها في المنطقة (ص205) .
كما يقول : ومن خلال العمل معها لمعالجة قضايا سياسية وأمنية ، ومن خلال تقديم النصح والمساعدة لتطوير نموها الاقتصادي وبروزها التدريجي كنماذج ناجحة داخل العالم الإسلامي ، فإننا نسرع إمكانات التحديث في كل المنطقة . (ص205) . ومن الواضح أن الهدف هو الاستيعاب ( عن طريق التحديث ) وقطع الطريق أمام أي انفلات إسلامي من قبضة الهيمنة الأميركية .
وفي هذا الإطار يسمي " نيكسون " أربع دول يرى أنها منطقيا ، أقرب إلى الشراكة مع الولايات المتحدة وهي : تركيا ، وباكستان ، ومصر ، واندونيسيا . ويتابع : إن سياسة اختيار الشركاء لن تحقق نجاحا فوريا ، ولكن سيكون للولايات المتحدة بعد جيل واحد تأثير على التطور التاريخي للعالم الإسلامي . (208) .
الإسلام هو التحدي الحقيقي للإستراتيجية الأميركية :
ويعترف " نيكسون " أن العالم الإسلامي يطرح أعظم تحد للسياسية الخارجية الأميركية في القرن الواحد والعشرين (209) ، ولذلك فإنه يقترح على السياسة الأميركية تجنب ( ثلاثة أوهام قاتلة ) وهي :
1-وهم الإطار الأمني الشامل .
2-وهم مراقبة التسلح الإقليمي .
3- وهم إعادة توزيع الثروة الإقليمية .(14/447)
اسرائيل والنفط لا غير :
وكم يبدو نيكسون صادقاً وموضوعياً عندما يقول : إن المصالح الأميركية المباشرة في الشرق الأوسط تنحصر في اثنين هما النفط وإسرائيل ) (ص217) .
ويتحدث عن اشكالية هذه العلاقة ، مؤكدا على قاعدة أساسية وهي : علينا تأمين حياة إسرائيل والعمل مع الدول العربية المعتدلة لتأمين سلامة الخليج الفارسي . (217) .
أمن إسرائيل بعد عقدي وليس سياسي !!
يقرر " نيكسون" ذلك بقوله : إن التزامنا بوجود وسلامة إسرائيل هو التزام عميق ، فنحن لسنا مجرد حلفاء ، ولكنا مرتبطون مع بعض بأكثر من قصاصة ورق ، إنه التزام معنوي ، وخلافاً للاعتقاد فإن إسرائيل ليست مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة .. إن التزامنا بإسرائيل ينطلق من شرعية الحرب العالمية الثانية ، ومن المصالح المعنوية ولايديولوجية بتأمين بقاء الديمقراطيات . لن يجرؤ رئيس أميركي أو مجلس كونغرس أبدا على السماح بتدمير دولة إسرائيل . (ص218) .
ويحدد نيكسون ثلاثة أسباب للمضي قدما في مسيرة التسوية السياسية في الشرق الأوسط :
السب الأول : هو أن اسرائيل حصلت منذ منتصف السبعينات من الولايات المتحدة على مساعدات مباشرة وغير مباشرة تبلغ قرابة 70 مليار دولار .
السبب الثاني : أن الصراع يخلق وضعا يمكن أن يجر الولايات المتحدة إلى حرب تضطرها إلى استعمال الأسلحة النووية .
السبب الثالث : أن خدمة مصالح الولايات المتحدة واسرائيل معا تكن من خلال تسوية تقوم على مقايضة الأرض بالسلام .
وينهي " نيكسون " هذا الفصل من كتابه معترفا بأن العالم الإسلامي قاد المسيحية لمدة خمسة قرون من عام 700حتى عام 1200في ميادين قوة الجغرافيا السياسية ( الجغراسيا ) ومستوى المعيشة ، والدين ، والقانون ، ومستوى التعليم في الفلسفة والعلوم الثقافية . ولكن عقودا من الحروب قلبت الطاولة ( ص231) فكما أن المعرفة التي جاءت من الشرق اطلقت حركة النهضة في الغرب ، فقد حان الوقت ليساهم الغرب في نهضة العالم الإسلامي
===============(14/448)
(14/449)
كيف نستثمر المعركة؟
د. سليمان بن حمد العودة * 11/3/1424
12/05/2003
بعد التحولات الخطرة والجولات المتعاقبة هنا سؤال أو عدة أسئلة تطرح، وتحتاج الإجابة إلى رويِّة وتفحص، ليس فراراً من الواقع، أو تسلية للنفس حين يقع المصاب، كلا؛ بل هو تلمس للحكمة الربانية فيما تكره النفوس ، إذ يقول تعالى " فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" [النساء: 19] وقوله تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" [البقرة:216] وهو تصديق لخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
والسؤال يقول: كيف نستثمر المعركة؟ أو ما هي مكاسبنا وخسائر أعدائنا؟ ومرة أخرى لا بد من الواقعية، والقول بأن هناك خسائر لحقت وستلحق المسلمين في هذه الحرب على العراق، وثمة مكاسب لعدونا حققها وقد يُحقق غيرها، ولكن السؤال المطروح استثمار أمثل لنتائج المعركة، وتلمس واعٍ للمكاسب تحت ركام الخسائر، وما من شك أن لكل معركة مكاسب ظاهرة وأخرى خفية، وما من شك كذلك أن مكاسبنا خسارة لعدونا والعكس، والمتأمل في التاريخ الماضي والحاضر يرى صوراً للنصر رآها الناس بعد حين لمن ظنوه منهزماً ، وأذكَّر بنموذجين: الأول: في مؤتة حين قابل المسلمون الروم والنصارى بعدد وعُدَّة غير متكافئة ومع ذلك ثبت المسلمون - وإن استشهد أمراؤهم الثلاثة- وقتل من قتل من المسلمين، واستطاع سيف الله المسلول خالد -رضي الله عنه- أن ينحاز بالبقية الباقية من المسلمين، ويفتح الله عليه ما لم يفتح على أصحابه، ومهما اختلفت عبارات السلف في تقييم نتائج المعركة (بين نصر أو هزيمة أو انحياز) فقد استطاع المسلمون أن يستثمروا المعركة لصالحهم، إذ تحطمت هيبة الروم في نفوسهم، وخبروا أساليب قتالهم، وتعرفوا على نقاط القوة والضعف في جيشهم، ولذا جاء بعث أسامة تأكيداً على قوة المسلمين وعدم خوفهم من الروم، ثم جاءت معركة اليرموك بعد برهاناً على تفوق المسلمين وسقوط دولة الروم على أيديهم.
أما النموذج الحديث: فيمثله تجربة اليابان، حين كانت كارثة هيروشيما ونجازاكي على أيدي الغربيين، ولكن اليابانيين وإن هزموا عسكرياً؛ فقد انتصروا علميا ًوتقنياً واقتصادياً، ونفضوا غبار المعركة وأزاحوا ذل الهزيمة وشقوا طريقاً أخرى للنجاح، وإذا وقع هذا لغير المسلمين؛ أفيعجز المسلمون عن استثمار الفرص، وتحويل الهزيمة إلى نصر؟!.
إن من الإيجابية أن يصبر المسلم على ما يلقى من أذى، وفي الوقت نفسه يفتش عن الجوانب المضيئة- وسط الظلام وفوق الركام - ليتقوى بها ويتسلى، ويُنتج ويستثمر الفرص، ويتجاوز دائرة الإحباط واليأس والقعود والسلبية إلى محيط الأمل والإنتاج والعمل والإيجابية.
ومن هذا المنطلق تعالوا بنا لنقف على شيء من مكاسبنا وخسائرهم في الحرب ولا شك أن مكاسبنا خسائر لأعدائنا، ومكاسبهم خسارة علينا .
01 تقاربنا وفرقتهم، لا شك أن المسلمين يعيشون حالة من الفرقة والتشرذم لا يُحسدون عليها، ولكن الأحداث يمكن أن تضيَّق هذه الهوة، وكفيلة - إذا ما استثمرت- لتوحيد الكلمة وجمع طاقة الأمة، فالخطر يحيط بها، والمخطط يستهدفها برمتها، وفرقتها وتناقضاتها أمضى سلاح يلعب به أعداؤها، وهو مذهب لريحها ومضعف لقوتها وحين تجتمع أو تتقارب تبدأ الطريق الصحيح لمقارعة عدوها. ولا شك أن عاطفة المسلم في المشرق حين تلتقي مع عاطفة المسلم في المغرب شيء عظيم، وهذا ما بدأنا نلمسه في هذه الحروب الظالمة الغاشمة، والمؤمل أن تُنمى هذه المشاعر وتُستثمر.
وفي المقابل كشفت الأحداث عن خلل وفرقة في المواقف بين أعدائنا، ومهما كانت مصالحهم وتبريراتهم فهي خرق في سفينتهم، وهي سهم يصيب القوم ويمكن أن يبيدهم، والمسلمون مطالبون باستثمار هذا الصدع لصالح قضاياهم.
02 وفي الحرب هزيمة لمبادئ القوم، وسقوط لشعاراتهم، وإخفاق لمؤسساتهم وهيئاتهم، فالحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان - وما شابهها- باتت مصطلحات مُحنطة من مخلفات الماضي، ومجلس الأمن يحتضر، وهيئة الأمم المتحدة تُركل بأقدامهم .
وهكذا تتسارع في السقوط مصطلحات وهيئات طالما اتكأ عليها الغرب في اتخاذ القرار، وروّج لها في سبيل العولمة والنفوذ والاستعمار، فهل يقيم المسلمون بديلاً صالحاً عن هذه المؤسسات والشعارات في أجواء صراع الحضارات ومقارعة الثقافات؟
03 كما أن من خسائر الغرب في هذه الحرب أنها وسَّعت دائرة الكره لهم ولمبادئهم، وكثّرت من سواد الرافضين لأفكارهم ومبادراتهم، وإذا شهدت عواصمهم موجة من الغضب والمظاهرات المنكرة للحرب، والمطالبة بمحاكمة مجرميها؛ فلا شك أن في تلك الخسارة لهم مكسباً للمسلمين ورصيداً يُضاف إلى رصيدهم، فهل يستثمروه؟ وإذا كان هذا تعبيراً من القوم عن كره الحرب ومجرميها فلا تسأل عن كره المسلمين لهم.(14/450)
04 ومن مكاسبنا في الحرب أنها صدّقت رؤيا الغيورين من أهل الدعوة والإصلاح، الذين طالما حذروا أمتهم من مكائد اليهود والنصارى وحربهم للإسلام والمسلمين، فجاءت الأحداث الراهنة شاهداً على صدق مقولتهم وبرهاناً على نصحهم لأمتهم، وبالتالي فهم محل ثقتها وعيبةُ نُصِحها، وينبغي أن تسمع الأمة لنصحهم مستقبلاً، وأن تستضيء بآرائهم في كشف عداوة الأعداء ومكرهم .
وفي المقابل كشفت الأحداث الوحشية في التدمير عن زيف الدعاوى، والتي طالما خدع بها المتأمركون والعلمانيون وأدلاء الطريق وأهل النفاق أمتهم حين ضللوها فترة من الزمن، وحسَّنوا لها التشبث بالنموذج الغربي في ممارسة الحياة، فهل يستيقظ هؤلاء، وتحذر الأمة أمثالهم مستقبلاً لاسيما وقد خيّب أسيادهم ظنهم فيهم، وكشفوا عن ظلمهم وطغيانهم؟
05 ومن خسائر الغرب في الحرب أنها أفقدت الثقة بآلاتهم العسكرية، فهي لا تستخدم لتأمين العدل والسلام كما يقولون؛ بل استخدمت بشكل سلبي للتدمير والاحتلال لا تفرق هذه الآلة المدمرة بين مدني أو عسكري، بل ربما تقصَّدت المدنيين الإعلاميين، الذين لا يروقون للغرب فيما ينقلون من أخبار، وكشفت الحرب عن تأسيس خطير لمبدأ التدخل في شؤون الدول، بما يعيد للأذهان حقبة الاستعمار البائدة، وهذا النمط الصارخ للتغيير بلغة السلاح مهما حقق اليوم من نتائج للقوم؛ فسيوقظ في الأمة روح الجهاد والمقاومة للمستعمر مستقبلاً.
06 وإذا كانت هذه الخسارة لهم على مستوى الآلة العسكرية، فقد مُنوا بخسارة إعلامية، وآلتهم الإعلامية كشفت كذباً وتزويراً للحقائق وخداعاً للشعوب واستخفافا بالعقول، وهو ما كان الغرب يروج لخلافة، ويزعمون المصداقية لإعلامهم، وسيكتشف العالم كم حجبت هذه الآلة الإعلامية من حقائق، وكم ضللت، وهذا سقوط مريع لإعلامهم وعلى المسلمين أن يستثمروه لصالحهم.
07 ومن مكاسب المسلمين في هذه الحرب أنها أحيت في نفوسهم مشاعر العزة بالإسلام، فقد كانت الضربة من الوحشية واللؤم بحيث أيقظت نيام المسلمين، وأذكت مشاعر الغافلين، وبات المسلمون - عربُهم وعجمهم- يشعرون بأنهم وحدهم هدف الحاضر والمستقبل لهؤلاء، ويشعرون في مقابل ذلك أن تأمين دولة اليهود في المنطقة هدفٌ يراد للغرب، ولذا فسيعمَّق ذلك شعوراً بالكره لليهود والنصارى المتحالفين، ويحيي ما ذبل من مفاهيم الولاء والبراء عند المسلمين. وبات يتردد على الألسنة كثيراً عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، وأحسّ المُفرَّطون من المسلمين بحاجتهم إلى التوبة والعودة إلى الدين، ولم يعد الحديث عن الجهاد للغزاة المستعمرين حديثاً نظرياً؛ بل واقعاً ملموساً، ولقد كان حمق القوم وصلفهم سبباً في إشعال هذا الفتيل، وبدلاً أن يحذروا مجاهداً واحداً، فإذا بهم يواجهون أسراباً من المجاهدين المتطوعين .
08 ومن مكاسبنا في الحرب تعميق الوعي بشكل كبير في أفراد الأمة المسلمة، فقد تكشفت الحقائق والمخططات أكثر من ذي قبل، وكانت الحرب بصلفها وتسارعها وما صاحبها من تصريحات وأهداف أكبر وسيلة للتعبير وكشف الخطط، الأمر الذي كان يحتاج - قبل الحرب- إلى كم من المحاضرات والندوات والكتب المؤلفة حتى يقتنع عوام المسلمين والمنخدعين منهم، ولكن الحرب جاءت لتقصر مسافة الوعي، وجاءت الحرب لتصنف الناس، وتكشف عن المواقف والتحالفات المريبة، وظهرت على جانب راية الصليب راياتٌ للكذب والنفاق، والتدليس والخداع "وما ربك بغافل عما يعملون" .
09 ومن مكاسبنا في الحرب أن الفرصة للدعوة مواتية في الدعوة للدين الحق، وكشف محاولة الأعداء لتشويه صورة الإسلام، ونبي الإسلام، وبلاد المسلمين وتعرية عقيدة اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، ودعوة المسلمين للتمسك بدينهم في ظل هذه الهجمة الصليبية الصهيونية الشرسة، إلى غير ذلك من مفردات الدعوة باتت الآذان مهيأة لسماعها أكثر من ذي قبل، فهل يا ترى يستثمر المسلمون عامة، والدعاة والعلماء والمفكرون المسلمون خاصة هذه الفرصة المواتية للدعوة؟.
10 ومن مكاسبنا في ظل هذه الهجمة أن كثيراً من المفاهيم والأنماط والسلوكيات الاجتماعية سيُعاد النظر فيها، أعني تلك التي صُدَّرت لنا من الغرب على مستوى الرجل والمرأة وعلى مستوى المثقفين وغيرهم، فالكره للغرب سيسري على كره صادراتهم الفكرية وأنماط حياتهم الاجتماعية، ولا مجال اليوم وغداً لمن كانوا ينظرون للغرب عامة ولأمريكا خاصة على أنها قبلة الفكر، ونموذج القيم، فقد كشف القوم عن حقيقتهم، وآن الأوان للمسلمين أن يعتزوا بقيمهم الإسلامية، وأنماط حياتهم الاجتماعية.(14/451)
11 ومن مكاسبنا في الحرب أنها كشفت عن تفاعلات جيدة، ومواقف مشكورة لدى أفراد الأمة المسلمة، فهذا يستنكر وآخر يتحسر، وثالث يقنت داعياً، ورابع يكتب في جريدة، أو يتحدث في إذاعة أو يظهر في قناة مرئية، وكل أولئك يُسهم في النصح والدعوة حسب ما يسر الله له، ومهما كانت هذه المواقف دون مستوى المأمول من الأمة، فهي إسهامات تحسب، وهي بدايات تشجع، والموفق من سدده الله، وآثر الحق على الخلق، وأرضى الله وإن سخط الناس عنه، فالكلمة أمانة ومسؤولية وفي التنزيل "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"، "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا"، وبكل حال تبقى هذه الإسهامات وغيرها نماذج للتفاعل مع قضايا الأمة، يمكن لها أن تتطور وتتعمق أكثر في المستقبل، إذا ثُمنت وشجعت وقيمت واستُنفرت لها طاقات الأمة .
12 التفكير الجماعي والمشورة، والتفكير بأساليب للخروج من الأزمة غانمين، وليس مجرد سالمين.. هذه إيجابية طالما غفل عنها المسلمون، إذ اعتادوا على التفكير الأحادي، والمشاريع الفردية، وهذه مع أهميتها إلا أن المشورة على الخير والتعاون على البر والتقوى من سمات المسلمين ودينهم، ولقد كان لهذه الأزمات أثر في تحريكها وتقريب وجهات النظر، وتشديد بعض المسلمين لبعض في ما يعملون أو يدعون، والمأمول أن تزيد هذه الإيجابية، وأن يستمر هذا التعاون على الخير والمشورة لصالح الإسلام وقضايا المسلمين فالمؤمنون إخوة، والمسلم أخو المسلم .
13 وأخيراً- وليس آخراً - دعوة للمساهمة! فأنت مدعو أخي المسلم للمساهمة في استثمار الأزمة ورد مكائد الأعداء عن الأمة، فماذا قدمت؟ هل ساهمت بكلمة طيبة؟ هل تقدمت بمقترح مفيد؟ هل فكرت في مشروع دعوي نافع ؟ هل أعنت ملهوفاً؟ هل دعوت - من قلب- لمكروب؟ أي نوع من المساهمة قدمت لنفسك ولأمتك؟ هل يكفي أو يصح أن تقول لا أستطيع على شيء؟ هل ترضى أن تكون رقماً هامشياً في أمتك؟ وهل يكفيك أن تدير موجات المذياع بحثاً عن آخر الأخبار - ثم ماذا؟
أو تنظر بسلبية إلى المشاهد الدامية في القنوات عن إخوانك المسلمين وهم يحاصرون ويقتلون وتحتل أرضهم ويُسطى على مقدراتهم؟ إنها دعوة للمساهمة، ومن عمل صالحاً فلنفسه، والإسلام مسؤوليتنا جميعاً، وكيد الأعداء يستهدفنا جميعاً، وحقوق المسلمين علينا جميعاً .
*- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام فرع القصيم
- إمام وخطيب جامع العودة بحي سلطانة
- عضو المجمع الخيري في شمال بريدة
=============(14/452)
(14/453)
فرنسا...تعارض الحرب والحجاب!
إدريس الكنبوري 9/3/1424
10/05/2003
شن رئيس الوزراء الفرنسي )جان بيير رافاران( يوم الخميس 3/4/2003 -خلال لقاء مباشر على القناة الفرنسية الفرنكوفونية الخامسة- حملة قوية على الحجاب الإسلامي في المدارس الفرنسية، وذلك في أول تصريح رسمي لمسؤول فرنسي حول قضية الحجاب، التي اختفت من النقاش الداخلي منذ نهاية التسعينات ؛ حينما شنت السلطات الفرنسية حملة عنيفة على المحجبات المسلمات .
وقال (رافاران) في معرض حديثه عن مشروع وزير الداخلية الفرنسي (نيكولاس سار كوزي) المتعلق بتشكيل مجلس موحد لمسلمي فرنسا وصلاحياته:" في أي جمهورية لدينا الحق في ممارسة شعائرنا الدينية، ولكن لدى ممارسة مواطنتنا لا يمكننا إظهار علامات تديننا أو انتمائنا الديني بشكل تفاخري"، وردا على سؤال إن كان سيتخذ قرارا بمنع ارتداء الحجاب كرر رئيس الوزراء الفرنسي:"بالتأكيد، بالتأكيد".
تلميحات (رافاران) في هذه الظرفية الداخلية والدولية تؤشر إلى حدوث تحول قريب في الموقف الفرنسي اتجاه مسألة الحجاب والجاليات الإسلامية في فرنسا، التي تقدرها المصادر الفرنسية ما بين أربعة وخمسة ملايين، جلهم متحدرون من منطقة المغرب العربي، وعلى الأخص من المغرب والجزائر. فهذه التلميحات تتزامن وسياقين هامين في الداخل والخارج: على المستوى الداخلي هناك المشروع الذي طرحه وزير الداخلية وشؤون الأديان الفرنسي (نيكولاس ساركوزي) قبل أشهر، حول تجميع مسلمي فرنسا في مجلس موحد يكون المخاطب الوحيد أمام السلطات الفرنسية، وعلى المستوى الخارجي فإن أحداث 11 سبتمبر 2001 قد ألقت بكثير من ظلالها على طبيعة التعاطي الرسمي للحكومة الفرنسية مع قضايا المسلمين بها، وأحدثت فرزا بين أنصار التدخل في قضايا الإسلام بفرنسا وأنصار الحرية الدينية.
تعديل قانون 1905!
في هذا السياق المزدوج طرحت في العام الماضي في فرنسا اقتراحات متعددة بتعديل قانون 1905، الذي يقضي بفصل الدين عن الدولة ، ورفع هذه الأخيرة يدها عن الشؤون الدينية ، سواء منها الرموز أو المراكز الدينية أو رجال الدين، وقد جاء هذا القانون بعد أربع سنوات من قانون آخر صدر عام 1901 يتعلق بحرية تأسيس الجمعيات الثقافية. ويشير الفصل الأول من قانون عام 1905 أو "قانون العلمانية" إلى أن"الجمهورية(الفرنسية) تضمن حرية الاعتقاد، وحرية ممارسة الطقوس الدينية"، بناء على الدستور الفرنسي ، الذي يشير إلى أن فرنسا"جمهورية علمانية تحترم جميع المعتقدات"، كما يقول الفصل الثاني من القانون المشار إليه إن"الجمهورية لا تعترف ولا تمول ولا تدعم أي معتقد". ويعتبر قانونا 1901 و 1905 مكسبا مهما للحريات الدينية والثقافية والفكرية في فرنسا بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر الميلادي، من دون أن يعني ذلك أن الحكومات الفرنسية كانت تلتزم بهما، خصوصا فيما يتعلق بالتعامل مع المسلمين والجمعيات الثقافية الإسلامية بفرنسا.
وقد انقسمت الآراء في فرنسا بين مؤيد ومعارض لتعديل قانون فصل الدين عن الدولة. إذ يرى الفريق المؤيد أن التعديل سيجعل الدولة الفرنسية قادرة على مراقبة شؤون الجاليات المسلمة التي يتزايد عددها، بحيث يعد الإسلام الديانة الثانية في فرنسا، وبالتالي التحكم في توجيه الحساسيات الإسلامية ؛ خوفا من "الإرهاب الإسلامي"، كما يرى أن تنامي الوجود الإسلامي في فرنسا عما كان عليه في الماضي يبرر مثل هذه المراجعة. ويقول عمدة"إيفلينس" وهو من أشد المدافعين عن اتجاه المراجعة" في عام 1905 كانت الحكومة ترى في الكاثوليك ألد أعداء الجمهورية، ويشكلون تهديدا حقيقيا، أما اليوم فإن الإسلام هو الذي أصبح يطرح هذه المشكلة".
أما منتقدو التعديل، وهم يعتبرون أقلية، فيرون أن ذلك يعد تراجعا خطيرا عن مكسب العلمانية ومبادئ الثورة الفرنسية، وبالتالي بداية تحيز الدولة إلى ديانة معينة لحساب ديانة أخرى، وتوجها نحو ضرب الحريات الدينية ، والتضييق على بناء المراكز الدينية والمساجد في المدن الفرنسية. ويربط هؤلاء بين سياسة وزير الداخلية الجديد (ساركوزي) المتعلقة بمسائل الأمن وحوادث العنف في المدارس والأحياء الشعبية الفرنسية ؛ وبين مشروعي التعديل وتأسيس المجلس الموحد لمسلمي فرنسا، باعتبار أن ذلك كله موجه إلى الجاليات المسلمة ؛ وخاصة منها المتمركزة في الأحياء الشعبية ، التي ركز عليها الإعلام الفرنسي كثيرا في الأشهر الأخيرة ؛ بحسبانها المراتع الأساسية لأعمال العنف والشغب، وترهيب الفرنسيين من الخطر الإسلامي.
من"الإسلام في فرنسا" إلى"إسلام فرنسا"!
ومنذ طرح مشروع (ساركوزي) في السنة الماضية بعد توليه منصب وزير الداخلية تحول الحديث عن الإسلام من"الإسلام في فرنسا" إلى"إسلام فرنسا"، ما يعني أن هناك سياسة جديدة للدولة الفرنسية ناحية الأقليات الإسلامية تهدف إلى وضع الإسلام تحت عين المراقبة والمتابعة ، وتسييج الوجود والأنشطة الإسلامية للجاليات المسلمة، ومحاربة ما أسماه (ساركوزي) "إسلام المغارات والمرائب" أو"الإسلام السري".(14/454)
أما فكرة تجميع المسلمين الفرنسيين في مجلس أو هيئة موحدة فقد انطلق التفكير فيها في العام 1984 في عهد الاشتراكي (فرانسوا ميتران) ، حيث كان قد أعلنها وزير الداخلية آنذاك (بيير جوكس)، لكنها لم تفعّل في ذلك الوقت، ربما تجنبا من الاشتراكيين الفرنسيين للمساس بـ"السياسة العربية" لفرنسا وموقعها في منطقة المغرب العربي، اعتبارا لأن أغلب المسلمين في فرنسا هم من المغاربيين. وفي بداية التسعينات عاد الحديث عن ضرورة تنظيم المسلمين في فرنسا على خلفية أحداث الجزائر والحرب الأهلية ، بعد انقلاب العسكر على الديمقراطية ، ونتائج الانتخابات التي حملت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى البلديات ثم مجلس الشعب(البرلمان) ، وأطلقها وزير الداخلية الأسبق (جان بيير شوفنمان)، لكنها توقفت لتعود من جديد عام 1995 مع وزير الداخلية في تلك الفترة (شارل باسكوا) المعروف بسياسته المعادية للمسلمين وللمهاجرين من العرب، والذي قال أثناء افتتاح مسجد (ليون) متوجها إلى المسلمين الفرنسيين:" إن تسرب تأثيرات مناقضة لتقاليدنا وقيمنا ومفهومنا لحقوق الإنسان والمرأة، وتنامي هذه التأثيرات في صفوف جاليتكم ستؤدي إلى مخاطر رئيسية بالنسبة للجالية أولا، وأيضا بالنسبة للتلاحم الوطني، وهذا ما لن نقبل أو نسمح به".
وقد عاد هذا الخطاب العدائي السابق إلى الظهور بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وما فجرته من أجواء محتقنة في العلاقة بين الجاليات المسلمة في أوروبا وحكومات البلدان الأوروبية التي أصبحت أكثر فأكثر توجسا وخيفة من الوجود الإسلامي بها. ولعب الإعلام الفرنسي ؛ خاصة منه اليميني المتطرف دورا رئيسيا في التحريض على المسلمين بفرنسا، حيث نشرت العديد من المقالات والتعاليق والتحليلات التي نصحت بـ"ضبط" الوجود الإسلامي في فرنسا ، ووضعه داخل مربع بشكل يسمح بمراقبته من الانفلات والتطرف ، وإدماجه في النسيج الثقافي الفرنسي، كما لم يكن غائبا التلويح بإمكانية تعرض فرنسا لأعمال شبيهة بتلك التي استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية.
ضمن هذا السياق طرح وزير الداخلية (ساركوزي) مشروعه، متحدثا عن "إسلام فرنسا" متوافق مع"القيم الجمهورية" للجمهورية الفرنسية، وخال من "التوجهات المتطرفة" وموجود"تحت دائرة الضوء". وقد قاد (ساركوزي) مفاوضات شاقة طيلة أشهر مع أبرز ممثلي الجاليات المسلمة في مدن فرنسية عدة ؛ من أجل إقناعهم بفكرة إنشاء مجلس موحد للمسلمين ، على غرار المجلس الموحد لليهود الفرنسيين الذي أنشأه نابليون عام 1806. وفي 20 من شهر ديسمبر 2002 نجح (ساركوزي) في عقد لقاء بين ثلاث أكبر فيدراليات تمثل الجاليات المسلمة في فرنسا ، وتعكس الأطياف المتعددة(المغرب العربي، مصر، تركيا، الهند وباكستان)، حيث تم الاتفاق على إنشاء مجلس موحد للمسلمين ، سيجري انتخاب أعضائه في النصف الثاني من شهر أبريل الجاري في 1500 مركزٍ ومسجدٍ في جميع أنحاء فرنسا.
ووفق ما صرح به وزير الداخلية الفرنسي ؛ فإن صلاحيات المجلس الجديد تتحدد في أن يصبح المخاطب الوحيد للحكومة الفرنسية ، والناطق باسم الجاليات المسلمة بكافة انتماءاتها القومية واللغوية، كما يختص المجلس بتكوين أئمة المساجد ، وقضية الذبائح الشرعية ، والحجاب والتعليم الديني وبناء المساجد والمراكز التعليمية الإسلامية ، وجمع وتوزيع الزكاة.
وحسب (ساركوزي) فإن قضية بناء المساجد وتعيين الأئمة - الذين صار يشترط فيهم الإلمام باللغة الفرنسية - ستكون أبرز قضية توكل إلى المجلس الجديد، إذ تسعى الحكومة الفرنسية إلى الحد من تدخل البلدان الإسلامية في شؤون الجاليات المسلمة عبر تمويل بناء المساجد وتعيين الأئمة.
تجدد الحملة على الحجاب
لكن تصريحات رئيس الوزراء الفرنسي (رافاران) الأسبوع الماضي جاءت لترفع النقاب عن النهج الجديد الذي تريد الدولة الفرنسية السير فيه اتجاه الإسلام والمسلمين في فرنسا، وتعيد إلى الأذهان الحملات السابقة التي استهدفت الحجاب في السابق، عندما أصدر وزير التعليم والتربية الفرنسي (فرانسوا بايرو) في بداية التسعينات من القرن الماضي مذكرة بمنع ارتداء الحجاب في صفوف التلميذات المسلمات في المدارس والثانويات الفرنسية، الأمر الذي أثار الكثير من الجدل بين الفرنسيين والمسلمين على حد سواء.
وتقول بعض المصادر الإعلامية الفرنسية إن تصريحات (رافاران) ربما تشير من الآن إلى إلغاء القرار الصادر في 27 نوفمبر 1989 ، والذي يشير إلى أن ارتداء الحجاب"ليس معاكسا في ذاته للعلمانية"، وهو القرار الذي استند إليه مجلس الدولة الفرنسي في إلغاء القرارات الصادرة عن وزراء التعليم والتربية في الماضي بحظر الحجاب في المدارس والمؤسسات التعليمية. كما يمكن أن تطرح الحكومة الفرنسية خلال الأسابيع أو الأشهر القادمة أمام البرلمان مشروع قانون جديد يحظر جميع العلامات والرموز الدينية، وعلى رأسها الحجاب الإسلامي، ولكن ليس كرمز ديني فقط، بل باعتباره مسا بحرية المرأة وبمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، وهذا ينبئ بتجدد معركة الحجاب مستقبلا(14/455)
==============(14/456)
(14/457)
حزب العدالة بين الواقعية والوقوع
محمد ابورمان 11/3/1424
12/05/2003
لقيت تجربة حزب العدالة والتنمية أصداءً كبيرة داخل الدول العربية والإسلامية، وأثارت جملة من المناظرات الفكرية حول التجربة بين مؤيد ومعارض ومرحِّب ومتشكك، بين من يقدِّر خصوصية الواقع التركي ومن يدعو إلى التعميم، وربما لم يكن انتصار حزب العدالة والتنمية جديداً في إطار الانتصارات التي حققتها -سابقاً- الأحزاب الإسلامية التركية، خاصة حزب الرفاه في الفترة الأخيرة؛ لكن تجربة العدالة اتسمت بعناصر جديدة على المستوى الفكري والحركي، حيث أعاد الحزب إنتاج أفكاره بثوب جديد، مبتعداً عن الشعارات الإسلامية، واستطاع أن يحصد أصواتاً من فئات اجتماعية مختلفة، كانت أصواتها محجوبة عن الأحزاب الإسلامية، كالعلويين والأكراد والطبقة الرأسمالية.
وفي حين تتعدد وتتحاور الآراء والتفسيرات في تحليل هذا الانتصار الكبير للحزب، والذي اعتبرته العديد من مراكز الدراسات والمؤسسات الغربية بمثابة (الهزة السياسية)،فإنّ المرحلة الأصعب التي تواجه الحزب هي ما بعد الانتخابات، وذلك في تعامله مع تعقيدات السياسة التركية، والتي تتنوع بين المستوى الداخلي كالأزمة الاقتصادية الأخيرة، والتعدد العرقي والطائفي، وبين المستوى الخارجي، كالعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومحاولات الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، والحرب ضد العراق، بيد أنّ أخطر التحديات التي تواجه الحزب في المرحلة القادمة، هو العلاقة مع الجيش والمؤسسة العلمانية المتطرفة، وهي بمثابة حقل الأشواك الذي يتطلب من الحزب حذراً شديداً في سلوكه ومواقفه. لكن يبقى السؤال في تجربة حزب العدالة والتنمية هو:
إلى أي مدى يمكن للأحزاب الإسلامية اتخاذ دافع المصلحة ومبدأ المرونة في التحايل على الواقع السياسي الذي تتفاعل معه؟..
العلمانية والعسكر في تركيا
تتميّز العلمانية التركية بأنها (علمانية عسكرية)، فهي أقرب إلى الطابع الفرنسي في معاداة الدين، والذي يطلق عليه )اللائكية( (1)(Laicism) ، فالجمهورية التركية التي أسسها (كمال أتاتورك) على أنقاض الخلافة العثمانية عام1924، قامت على هذا النوع من العلمانية في العداء للدين، وتعتبر المؤسسة العسكرية التركية هي الحامي الكبير لها، حيث تدخلت أكثر من مرة لمنع حدوث أي اختراق، مثلما حدث في انقلاب عام 1960، وعام1971 وانقلاب عام 1980، والإنذار الذي وجهه الجيش لحزب الرفاه عام 1997، وتلا ذلك استقالة (أربكان) من رئاسة الجمهورية في العام نفسه، ثم إلغاء الحزب(2)، كما أنّ هناك مجلس الأمن القومي التركي الذي أسس عام 1961، ومن أبرز وظائفه التدخل عندما تتعرّض الجمهورية للخطر.
لقد عمل الجيش والعلمانيون على مدى العقود السابقة على منع أي نفوذ إسلامي حقيقي، وواجها معا (نجم الدين أربكان) مؤسس الحركة الإسلامية التركية، والذي أسس حزب النظام الوطني وحزب السلام الوطني، ثمّ حزب الرفاه الذي شكّل الثورة الأولى لانتصار الإسلام الانتخابي في تركيا عام 1996، وقام بتشكيل الحكومة الائتلافية مع حزب الطريق القويم، إلاّ أنّ الجيش عاد وتدخّل ومنع (أربكان) نفسه من ممارسة السياسة فرعى (أربكان) تأسيس حزب جديد هو حزب الفضيلة.
لقد رافق عدد من مؤسسي حزب العدالة والتنمية ومنظريه السياسيين تجربة أربكان، ونالوا نصيباً وافراً منها، ومن قربهم من المعلّم الأول، لكنهم خرجوا فيما بعد وأنشأوا حزبا جديدا على أنقاض حزب الفصيلة، لكنه لم يحظ بمباركة (أربكان) رسمياً والذي أيّد الحزب الآخر وهو حزب السعادة (3).
وقد حاول مؤسسو حزب العدالة تقديم طرح متقدم -عن خطاب أربكان- في الطابع البراغماتي، ومتصالح مع المؤسسة العسكرية والجمهورية الأتاتوركية. وهنا يبرز السؤال: إذا كان أربكان -الذي قدم خطاباً براغماتياً، وسعى إلى تجنب المواجهة مع العسكر- قد وصل إلى طريق مسدود، وقام العسكر -على الرغم من الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها حزب الرفاه، وعلى الرغم من المرونة والبراغماتية الواسعة التي تحلّى بها أربكان- بإلغائه واعتقال عدد من قياداته؛ بحجة حماية الجمهورية والمبادئ الأتاتوركية، فعلى ماذا يعوِّل (أردوغان) وقادة حزب العدالة((AKP في ضمان الاستمرارية، وعدم الوصول إلى نفس المصير السابق الذي وصل إليه معلمهم؟..
الإسلاميون الجدد
لقد قرأ مؤسسو حزب العدالة والتنمية المعادلة الداخلية والإقليمية والدولية جيداً، وقدّموا برنامجهم الانتخابي بعناية شديدة، تحاول أن توازن بين كل هذه الاعتبارات، وتضمن لهم البقاء والخروج من الحلقة المفرغة في الصراع مع الجيش، والتي كانت تنتهي دائما لصالح الجيش، ومن أهم الاعتبارات التي تعامل معها المؤسسون في صياغة هوية الحزب، وتوجهاته الفكرية والسياسية المبدئية:(14/458)
أولا: أنّ هناك حساسية بالغة لدى المؤسسة السياسية العلمانية والعسكرية التركية اتجاه الإسلاميين والشعارات الإسلامية؛ ولتجنب هذه الحساسية -والتي تعطي كذلك المبرر لمصادرة الحزب- يصمم مؤسسو الحزب -كما هو واضح من الوثائق والتصريحات العديدة الصادرة عنهم- على تجنب أي تبرير يؤدي إلى إلغائه ووصوله إلى نفس مصير حزب الرفاه والأحزاب الإسلامية التي سبقته، وكانت البداية من خلال إعادة هيكلة وتأسيس كل شيء حتى الشعارات والأسماء، والانتقال بالحزب من دائرة الشعار الديني إلى دائرة (اليمين المحافظ)، ومن البعد الأيدلوجي الإسلامي، إلى البعد الإصلاحي الوطني (4)، حيث يعلن (عبد الله غول) -بإصرار- : "نحن لسنا حزبا دينيا، نريد أن نثبت أن المجتمع المسلم يمكن أن يكون شفّافا وديمقراطيا ومتوافقا مع العالم الحديث"(5) . بل يصرّح غول نفسه: "نحن حزب أوروبي محافظ" . و يؤكّد البرنامج الانتخابي للحزب في هذا السياق على الاعتراف بالعلمانية، واعتبارها متطلباً(6) أساسياً للعملية الديمقراطية P r e صلى الله عليه وسلمequisite of democ r acy)) (7).
هنا يبرز التساؤل حول كيفية التوفيق التي تتم داخل تفكير الحزب بين العلمانية والديمقراطية والإسلام (الذي يمثّل الجذور الفكرية لحزب العدالة)، فالعدالة يقدّم نفسه حزبا يمينيا لا يستبعد الإسلام، وإنما يضعه ضمن إطار فكري وسياسي يتعايش فيه مع العلمانية والديمقراطية، من خلال اعتبار الإسلام قالبا روحيا لغالبية المجتمع التركي، بينما العلمانية والديمقراطية أسلوب أمثل لإدارة الحكم (8)، لكنه يعيد تعريف العلمانية، ويزيل الاشتباك بينها وبين الدين، الأمر الحاصل في العلمانية التركية (التي تمنع حتّى الفتيات المحجبات من دخول الجامعات، والمؤسسات العامة، في نفس الوقت الذي يُسمح في الغرب بذلك)، فالعلمانية -كما يعرّفها البرنامج الانتخابي للحزب- تعني: "السماح للناس من كل الأديان والاعتقادات في الممارسة المريحة للأديان، والقدرة على التعبير عن قناعتهم الدينية والعيش وفقها، وفي الوقت نفسه السماح للناس بلا اعتقادات؛ لينظموا حياتهم وفق هذه الرؤية. انطلاقا من ذلك فالعلمانية مبدأ للحرية والسلام الاجتماعي" (9). أما الدين فهو البعد الروحي والأخلاقي للناس، والذي يشكل الموروث الثقافي الذي يميّز الشعب التركي(10) ، هذه المعادلة القائمة على تقاسم الأدوار يوضّحها (أردوغان) في إجابته عن سؤال في إحدى المقابلات حول محاولة حزبه التوفيق بين الشريعة والديمقراطية، على الرغم من أن القرآن يؤكد -على سبيل المثال- بأن المسلم لا يجوز له أن يقيم علاقات صداقة ومحبة مع المسيحيين واليهود، إذ يقول:-بما يعزز التقسيم السابق لديه بين البعد الروحي والأخلاقي والبعد السياسي البراغماتي - : " أن القرآن كتاب ديني، والديمقراطية شكل للحكومة، فمن الخطأ أن نضع الاثنين ضمن تقسيم واحد، القرآن يشكل اعتقاداتي، والديمقراطية تشكل اعتقادي بالحكومة كما يجب أن تكون"(12)، وفي تصريح آخر له يقول: "الإسلام دين مقدّس والسياسة ليست معصومة " (1).الرؤية السابقة للعلاقة بين الإسلام والعلمانية تقوم على مصالحة تستند على انتقاد لنمط العلمانية التركي المحارب للإسلام ولحقوق المسلمين الدينية في اختيار منهج حياتهم الذي يريدون(13)، وعلى انتقاد ما يسميه البرنامج الانتخابي لحزب العدالة باستغلال الدين وتوظيفه في السياسة(14)، وضمن هذه الموازنات والاعتبارات ينتقد حزب العدالة منع الحجاب في المؤسسات والجامعات الرسمية، لكنه لا يعطي الموضوع الأولوية، ولا يريد أن يكون سببا في صدام مع المؤسسة العسكرية، في الوقت نفسه يعلن أنه لا يرى ضرورة زيادة المدارس الدينية، لكنه في جانب آخر لا يرى مبررا لإغلاقها (15).
لقد حظيت هذه الهيكلة في الشعارات والبرامج بالقبول مبدئيا من قبل مؤسسة الجيش، والتي أعلن أحد رموزها بأنهم لن يقفوا ضد إرادة الشعب التركي، وأنهم سيعطون حزب العدالة الفرصة الكافية (16). كما أنّ هذه البداية -يعتبرها عدد من المحللين- جيدة، وتساهم في التقليل من مسألة التخوف والتشكيك في نوايا الحزب ومبادئه من قبل العسكر.
مكمن الفرق مع تجربة أربكان
في هذا السياق يطرح عدد من المحللين طبيعة الاختلاف بين تجربة أربكان الطويلة وتجربة العدالة الناشئة، حيث يرى عدد من الخبراء أن أربكان قد وقف في منتصف الطريق بين الأيدلوجيا والبراغماتية، بينما أردوغان تجاوز الأيدلوجيا إلى درجة كبيرة، كما أن أربكان لم يتردد في الاشتباك مع المؤسسة العلمانية والجيش، وكان يضع الإسلام أمامه بينما أردوغان تجنب هذه المواجهة الخاسرة ووضع الإسلام في قلبه، أيضا أربكان بنى قاعدته الجماهيرية على أنصار الحل الإسلامي من السنة، بينما أردوغان استقطب الفئات الاجتماعية الأخرى (17) من الأكراد والعلويين، والذين يشكلون مجتمعين نسبة مئوية كبيرة في الشعب التركي (18).(14/459)
ثانيا: أن انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، وتزايد ثورة الاتصال والمعلومات، وبروز ما يسمى بنظام العولمة المبني على الأفكار الليبرالية، وتقليص دور السلطة وغياب مفهوم الدولة الشمولية، كل ذلك قد أدّى إلى تغيّر كبير في مفهوم الدولة والسلطة، وظهور تحولات عالمية كبيرة للتوافق مع المفاهيم الجديدة التي تنسجم مع مطالب المؤسسات الدولية الاقتصادية: IMF))، والبنك الدولي، والمؤسسات الأخرى وبروز نظام العولمة. في حين أن الجمهورية التركية التي أسسها (أتاتورك) مازالت تخضع للمعايير السابقة من الدور الكبير والمسيطر للسلطة، واقتصاد مبني على القطاع العام، بالإضافة إلى إعطاء دور سياسي مهم للجيش، وعدم الاعتراف الموضوعي بحقوق الأقليات..الخ (19).
هذه (المفارقة)، يعتبرها حزب العدالة نقطة رئيسة يمكن الانطلاق منها، وذلك بالاستناد على الخارج الغربي القوي، والذي كان يعد في السابق حليفا للجيش، إلاّ أنّه يوجه اليوم للعلمانية التركية انتقادات كبيرة؛ وذلك للخروقات التي تحدث فيها في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة وحقوق الأقليات والفساد السياسي الذي طغى في الفترة الأخيرة بشكل كبير، ويطالب بإصلاح الوضع السياسي ليتلاءم مع المعايير الغربية، و تقليص دور السلطة والمؤسسات البيروقراطية(20) . وهذا يعطي الحزب دافعا كبيرا في مواجهة التسلط العسكري والتعنت من قبل المؤسسة العلمانية، من خلال الدعوة والتأكيد على ضرورة التخلص من انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة التي تحدث في تركيا، ومواجهة الفساد السياسي المستشري هناك(21)، وتبني مبادئ سياسية تقوم على المفاهيم والمعايير الغربية والأوروبية تحديدا ( Copenhagen C r ite r ia) لحقوق الإنسان والديمقراطية والحريات... ويطالب بالالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والإعلان الأوروبي وتوصيات قمة (هلسينكي) عام 1999 (22).
كما أنّ هذه القضية من أبرز القضايا التي يتناولها برنامج الحزب الانتخابي ووثائقه المتعددة، حيث يدعو البرنامج الانتخابي للحزب بشكل أساس إلى بناء دولة المؤسسات والقانون، وإلى استكمال عناصر الديمقراطية دون إنقاص أو تحديد، ويرى الحزب أن مشاكل تركيا كلها بسبب نقص تطبيق الديمقراطية(23). كما ينتقد الحزب في هذا المجال ضعف المؤسسات السياسية والفساد السياسي الكبير الموجود، ويعتبر أن من أهدافه الأساسية محاربة الفساد(24) .
ثالثاً: ما حدث من تطورات في النظام العالمي، والسياسة الخارجية الأمريكية، والعلاقة بين الغرب والإسلام خاصة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)؛ فعلى الرغم من إدانة الحزب للأحداث وإدانته للإرهاب الدولي(25)، إلاّ أنّ الحزب التقط بذكاء إدراك مؤسسات سياسية وأكاديمية غربية بأن الاتجاه الشعبي العربي والإسلامي العام يؤيد ويناصر الحركات الإسلامية، وأن القمع السياسي والتهميش الاقتصادي هي شروط إنتاج ما تسميه استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بـ(الدول الفاشلة) أو الهشة، وهي البيئة الحاضنة للإرهاب السياسي، وبالتالي حرص هذه المؤسسات الغربية على اختبار مدى القدرة على التعامل مع حركات وتوجهات إسلامية (معتدلة)، ودراسة مدى نجاح العلاقة معها في حفظ المصالح الغربية، والتعامل بعقلانية مع القضايا السياسية (وفق المقياس الغربي)، الأمر الذي سيتيح -إن حصل- احتواء المد الإسلامي بما لا يتعارض مع الأجندة الغربية في المنطقة، والوصول إلى معادلة تقتضي قبول هذه الحركات بسياسات التكيف الهيكلي، ومشاريع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية، والالتزام بالديمقراطية، وحقوق الإنسان والحريات السياسية والاقتصادية والدينية، وحريات وحقوق الأقليات، والتسوية السلمية مع إسرائيل، وبناء علاقة صداقة منفتحة مع الغرب (26).
الجذور الإسلامية للحزب
فحزب العدالة والتنمية على الرغم من نفيه بأنه حزب ديني، إلاّ أنه يعرض نفسه بأنه يريد التأكيد على عدم وجود تناقض بين الديمقراطية والإسلام، وأنه يمكن أن يقدم إسلاما معتدلا في مواجهة الإسلام (الراديكالي) لحركات إسلامية أخرى(27)، حيث يقول غول: "نريد أن نثبت ونبرهن أنّ الديمقراطية والإسلام لا يتناقضان ولا يتعارضان مع بعضهما البعض، وكل منهما يكمل الآخر"(28).(14/460)
من هنا يكون التوجه المتوقع للولايات المتحدة وأوروبا هو مطالبة الجيش بإعطاء الحزب فرصة في اختبار التعامل معه، بدلاً من الطبقة السياسية الفاسدة التي كانت تحكم تركيا- كما تصفها المؤسسات الغربية- وباعتباره كذلك يمثل الاتجاه الشعبي العام، وهذا ما حصل فعلا عندما رحبت الولايات المتحدة وأوروبا بنتائج الانتخابات وفوز الحزب(29)، كما أنّ هذا يساعد الحزب على الوصول إلى تحييد الجيش من خلال الإصلاحات الديمقراطية والتوافق مع المعايير الغربية، وهي شرط لانضام تركيا للاتحاد الأوروبي كما سيأتي، وصولا إلى إلغاء دور الجيش نهائيا في الحياة السياسية. بمعنى آخر: إنّ رؤية الحزب لا تقوم على مواجهة الجيش بالشعار والأيدلوجيا الإسلامية، وإنما بالمطالب الغربية الأوروبية والأمريكية بضرورة القيام بإصلاحات سياسية وديمقراطية، تحد من انتهاكات حقوق الإنسان والحريات العامة، هذه الحريات والحقوق التي ستتيح مساحة أكبر وأفضل لحركته السياسية، وحصوله على مكتسبات واقعية تخرجه من حلقة الصراع مع المؤسسة العسكرية.
لكن يبقى السؤال الآخر حول مساحة التمييز بين التكتيكي والاستراتيجي في خطاب الحزب السياسي ،بخصوص الشعار الإسلامي والعلاقة بين العلمانية والإسلام؟ فهل تخلي الحزب عن شعاره وبرنامجه الإسلامي هو تخلٍ تكتيكي مؤقت، في مواجهة مؤسسة الجيش والعلمانية، وتحايل على الواقع السياسي التركي؟ أم أنّ الأمر يصل إلى حدود حدوث تغييرات استراتيجية في نمط تفكير ورؤية الحزب؟..
يمكن القول -بالاستناد إلى تصريحات قيادة الحزب وإلى البرنامج المطروح- أن هذه الرؤية هي التي سيعتمدها الحزب ليس فقط على المدى القصير، وإنما على المدى البعيد نسبيا، وهذا ما يؤكده أردوغان بقوله:" إنّ هذه هي رؤية الحزب الحقيقية، وسيلاحظ المتتبعون له صدقه في الالتزام بهذه الشعارات"(30).
كما أن هذه المعادلات الدولية والإقليمية والمحلية التي ساهمت بشكل كبير في إدراك الحزب وبناء خطابه السياسي لا يتوقع لها أن تزول بين يوم وليلة، ولكنها بحاجة إلى وقت طويل.
ولكن ماذا يبقى من الجذور الإسلامية التي يحملها قيادات الحزب وفق ما سبق؟..
يرى بعض المحللين: أنّ الصراع مع المؤسسة العسكرية والعلمانية في تركيا يفرض على الحزب القبول بالحد المتاح من المطالب وصولا إلى الأكثر، فالحديث الدائم عن الحرية الدينية يعني وقف ومنع تدخل مؤسسة الجيش ضد الممارسات الإسلامية الاجتماعية، كالحجاب والمدارس الدينية التي يفتقدها المجتمع التركي الآن، وهي موجودة ومعترف بها من قبل غالبية الدول العربية، وليست مطلبا للحركات الإسلامية العربية، أيضا الإصرار على المؤسسة الدينية على أنها جزء أساس من المجتمع التركي ومشكّل أساس لهويته، والذي يصفه الحزب بأنه مجتمع مسلم معاصر؛ أي يجمع بين الإسلام والحداثة، وهذا أيضا يعدُّ اختراقا موضوعيا غير مباشر لمبادئ الكمالية التي أرادت أن تفصل تركيا عن محيطها الإسلامي، وهو سير في الطريق العملي للخروج من الديكتاتورية العلمانية الأتاتوركية المسيطرة هناك(31). وفق استراتيجية تدريجية تقوم على الطريقة الإنجليزية Slow but su r e""
بينما يرى آخرون أنّ الحزب قد تخلّى نهائيا عن هويته الإسلامية وطروحاته السابقة، وأنّه بدأ يتوجه بشكل مختلف تماما عما سبق، ويستشهدون بتصريح أردوغان لأصدقاء عرب مقربين له: أننا قد غيّرنا موقفنا فلماذا لا تريدون أن تصدقوا ؟، ويدللون كذلك بالعلاقة الجيدة التي يريد الحزب إقامتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وقبوله بسياسات التكيف الهيكلي (32).
في حين يرى آخرون أن رؤية حزب العدالة والتنمية المرنة للإسلام تتجاوب مع الحس العام، والفهم التركي المعتدل للإسلام -على النمط الأوروبي-، حيث يميل الأتراك إلى نمط من الإسلام المتصالح مع الثقافة الغربية (33).
(1) هي طريقة فرنسية اتجاه الدين، وتقوم على نظام عسكري أكثر منه علماني، متأثرة بحالة فرنسا خاصة خلال فترة الجمهورية الثالثة (1870-1940) في هذه السنوات السبعين كان السياسيون الذين يذهبون إلى المعبد في يوم الأحد غير قادرين على الدخول إلى المجلس الوزاري. انظر:Binnas Top r ak, r eligion and State in Tu r key (a lectu r e at a dayan cente r on 20 June 1999.
(2) انظر محمد نور الدين، مستقبل الحركة الإسلامية في تركيا، في: محمد الأرناؤوط، بعض قضايا العالم الإسلامي في القرن العشرين، منشورات جامعة آل البيت، 2001، ص120. وانظر: Pulent Ali r iza & Seda Ciftci, Tu r key's post-Election, Political Landscape, Tu r key P r og r am, Cente r Fo r St r ategic and Inte r national Studies, www.csis.o r g/tu r key/TU021108.htm. Novembe r 08, 2002.
(3) انظ: فهمي هويدي، قراءة أخرى للمشهد التركي، العرب اليوم 10/12/2002.
(4) Newsweek,, Novembe r ,19, 2002
(5)توفيق شومان، أردوغان رمز "الإسلاميين الجدد" وقائدهم من الأيدلوجيا إلى البرنامج، الحياة 4 كانون الأول 2002.
(6)انظر البرنامج الانتخابي لحزب العدالة ( المبادئ السياسية) www. Akpa r ti.o r g.t صلى الله عليه وسلم p r og r ameng3.asp.(14/461)
(7)انظر: فهمي هويدي، قراءة أخرى للمشهد التركي، العرب اليوم، 10/12/2002، حيث يعتبر الكاتب حزب
(8)العدالة أقرب إلى صيغة حزب الوفد منه إلى جماعة الإخوان المسلمين وإلى حركة وطنية أكثر من جماعة إسلامية.
(9)انظر المرجع السابق.
(10)انظر Newsweek, النسخة العربية 19 نوفمبر 2002.
(11)انظر: Meeting with M صلى الله عليه وسلم Recep Tayyip E r dogan, the Chai r man of Justice and Development Pa r ty in Tu r key, Tu r key P r og r am, Cente r fo r St r ategic and Inte r national Studies, Janua r y28, 2002. http://www.csis.o r g/tu r key/020128e r dogan
(12)انظر: توفيق شومان، مرجع سابق.
(13) : Meeting with M صلى الله عليه وسلم Recep Tayyip E r dogan, the Chai r man of Justice and Development Pa r ty , op.cit
، حيث رأى اردوغان أن النظام العلماني الحالي في تركيا ليس متوافقا مع المعايير الغربية الموجودة، كذلك رفضه لمصطلح الحزب ذي النزعات الدينية " r eligious inclinations" عند توصيف حزب العدالة وإصراره على أنّ شخصية الحزب علمانية، ديمقراطية، واجتماعية.
(14)انظر البرنامج الانتخابي لحزب العدالة، مرجع سابق.
(15)انظر: Newsweek، النسخة العربية 19 نوفمبر، 2002.
(16)انظر: Pulent Ali r iza & Seda Ciftci,op.cit
(17)انظر: فهمي هويدي، مرجع سابق، وتوفيق شومان، مرجع سابق.
(18)انظر Newsweek، النسخة العربية، 19/نوفمبر/2002: حيث تذكر المجلة أن0 4% من الأصوات لمصوتين صوّتوا لأول مرّة، و70% من الذين صوّتوا له لم يصوتوا لحزب ديني قط قبل ذلك. انظر كذلك توفيق شومان، مرجع سابق.
(19) انظر: محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحول قلق الهوية وصراع الخيارات، دار رياض الريس، بيروت، ط1، 1997،ص 18.
(20)انظر: Shah r am Chubin, Je r rold D.G r een, Ian O. Lesse r , Tu r kish Society and Fo r eign Policy in T r oubled Times, Confe r ence P r oceedings, Geneva, Ap r il 25-27- 2001. www. r and.o r g
(21) انظر حول الفساد السياسي في تركيا: د. جلال عبدالله معوّض، الفساد السياسي في تركيا، في: إكرام بدر الدين وآخرون، الفساد السياسي النظرية والتطبيق، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1992،ص57- 86، ويرى د. معوّض أن أخطر أنواع الفساد السياسي المنتشر في تركيا هو: فساد القمة الكثيف Top-heavy co r ruptionوالإطار العام له هو نموذج "الرئيس- العملاء" وقد ارتبط بشكل كبير بالرئيس أوزال وأبنائه وحاشيته، ص60.
(22) انظر البرنامج الانتخابي للحزب، المبادئ السياسية، مرجع سابق.
(23) نفس المرجع.
(24) نفس المرجع، ويضع الحزب في برنامجه عدة آليات في مواجهة الفساد من ضمنها استحداث مؤسسات خاصة تعمل على متابعة قضايا الفساد، وإيجاد دائرة في كل مؤسسة لهذه الغاية، كما يعطي البرنامج المنظمات غير الحكومية دورا كبيرا في مواجهة الفساد
(25) انظر: حول تعريف أردوغان وحزبه للبيئة الدولية بعد 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب التي وصفها بـCold peace، في مؤتمر صحفي عقده الحزب في أنقرة في 7/1/2002 قيّموا فيه حالة تركيا عام 2001: P r ess Confe r ence, www.akpa r ti.o r g.t r /cizgi.jpg"" ، انظر كذلك موقفه من أحداث 11 سبتمبر ومن تأييده لمحاكمة أسامة بن لادن في محكمة= دولية في: Meeting with M صلى الله عليه وسلم Recep Tayyip E r dogan, the Chai r man of Justice and Development Pa r ty , op.cit
(26) انظر: ناهض حتّر، الإسلاميون في الحكم، العرب اليوم، 7/11/2002.
(27) Meeting with M صلى الله عليه وسلم Recep Tayyip E r dogan, the Chai r man of Justice and Development Pa r ty, op.cit، حيث يعرض أردوغان أن يقوم حزبه العدالة والتنمية ودولته تركيا بدور في تنمية تفاهم متبادل بين الإسلام والعالم الغربي في سبيل مكافحة الإرهاب، الذي يرى أردوغان أنه لا يجوز فقط الاكتفاء في الجانب الأمني في معالجة ظاهرته.
(28)انظر: مقابلة صحفية مع غول أجرتها: DIE WEL، ترجمة مصطفى عبدالله، العرب اليوم 10/12/2002.
(29) انظر www.b.b.c.com 4/11/2002.
(30) انظر: Meeting with M صلى الله عليه وسلم Recep Tayyip E r dogan, the Chai r man of Justice and Development Pa r ty , op.cit
(31) انظر: ياسر الزعاترة، المقارنة الخاطئة بين التجربة التركية والعربية في الديمقراطية،www.aljazee r a.net وجهات نظر 4/12/2002. وحازم صاغية، معالم على تقاطع الطريق الإيراني- التركي، الحياة 6/11/2002.
(32) انظر: منير شفيق، معضلة حزب العدالة والتنمية، صحيفة السبيل، 31 كانون الأول 2002.(14/462)
(33) انظر: Binnas Top r ak, r eligion and State in Tu r key, op.cit. ، حيث تستشهد باستفتاء شعبي تركي أظهر أن 61% من العينة ترى أنه لا يجوز وجود أحزاب ذات جذور دينية، 1،04% فقط رأوا أن الزانية المحصن يجب أن ترجم، و87% رأوا أن واحدا يمكن أن يكون مسلما، فقط بإيمان بسيط بالله ورسوله دون أن يصلي. على الرغم من علامات الاستفهام التي يمكن ان أبديها على نمط الأسئلة واتجاهها إلاّ أن النتائج تقدم مؤشرات معينة. إذا أضفنا إلى ذلك أنّ الإحصائيات تقول أن المتشددين دينيا صوتوا لحزب السعادة ولم يصوتوا لحزب العدالة، انظر: Newsweek، النسخة العربية، 19 نوفمبر 2002.
=============(14/463)
(14/464)
الإسلام وثقافته كما تريده أوروبا
د. محمد يحيى 12/3/1424
13/05/2003
عندما أطلق وزير الخارجية الإيطالي دعوة لمسلمي إيطاليا - والمتزايدة أعدادهم خلال السنوات الأخيرة - للخروج بإسلام إيطالي يتوافق مع قيم إيطاليا وتقاليدها حسب قوله، ويسهل اندماج المسلمين في المجتمع الإيطالي، وأن تطوير مثل هذا النوع من الإسلام أمر ضروري .. لقيت هذه الدعوة الترحيب من جانب الأساقفة الإيطاليين.
وهكذا وبعد الدعوة إلى الإسلام الفرنسي والإسلام البريطاني والإسلام الهولندي جاءت الدعوة إلى الإسلام الإيطالي، وليس من المستبعد أن تتبعها الدعوة إلى الإسلام الألماني، ثم الأسباني، ثم البرتغالي ..، وإن كان من المستبعد أن تعقبها دعوة إلى إسلام في دول شرق أوروبا، حيث حسم الصرب قضية الإسلام اليوغوسلافي بالقضاء على الإسلام والمسلمين هناك، كما حسمتها ألبانيا قبل ذلك بإعلان العلمانية الغربية " الديمقراطية "، وفحوى كل هذه الدعوات هي أن أوروبا تضع شرطا أساسيا لمجرد وجود الإسلام على أراضيها، وهو أن يتحول هذا الإسلام ليصبح مجرد نسخة من تصورات أوروبا وعقائدها وقيمها وتقاليدها التي هي بالأساس نصرانية علمانية ..، أي أن شرط وجود الإسلام هو ألا يكون موجوداً .
وهذا الكلام يقال لنا وسط العظات والحديث المتكرر حول الاعتراف بالآخر وحوار الحضارات والأديان والتعددية والتسامح ..إلخ ، ونفس الذين يلقون علينا الدروس في هذه الأمور هم الذين يضعون شروط وجود الإسلام، ويلخصونها في إعدامه .
نلوم أنفسنا أولاً
والحق أن الأوروبيين لا يجب أن يوجه لهم اللوم هنا ؛ لأن البعض في بلاد المسلمين -ومنهم من يسمون بالرؤساء الدينيين- وقف أحدهم ذات مرة يلقي على المسلمين نفس كلام وزراء الداخلية الأوروبيين بالحرف الواحد، ويقول :إن عليهم احترام قوانين أوروبا "التي تمنع الحجاب" وإذا لم يعجبهم ذلك فعليهم ترك أوروبا !.
وإذا كان هذا هو كلام العلماء الرؤساء الروحيين -وهم كثر- فلا يستغرب أن يقول الساسة الأوروبيون كلاماً أشد، وأن يقول المتطرفون الأوروبيون كلاما أكثر حدة .
ومن الغريب أن دعوة البوليس الأوروبي ومعه الساسة الأوروبيين إلى إسلام معدَّل تلتقي مع دعوة البعض في بلاد المسلمين إلى الخروج بإسلام جديد معتدل ومنقح ومطور ومجهز يناسب الأجواء العصرية، التي هي في الواقع ليست سوى القيم والتقاليد والتصورات الأوروبية الغربية .. كما أن حكاية الإسلام المفصَّل على مقاس أوروبا أو مقاس كل بلد في أوروبا على حدة ؛ تلتقي هي الأخرى مع الغزوة الأمريكية التي تريد تعديل الإسلام في بلاده نفسها، بحيث يصبح مجرد نسخة من الأفكار والتصورات الأمريكية .
وهكذا يصبح عندنا صناعة محلية وتصميم أجنبي لإسلام أمريكي، سوف يضاف هو الآخر إلى القائمة مع الإسلام الروسي الذي أعلن عنه؛ ليتعدل ويتبدل ويتغير، لكي يصبح إسلاما آخر، أي أن يُلْغى وجوده .
وللمرة العاشرة لا يجب أن نستغرب فالكبار يسمعون هذا الكلام من أوروبا ولا يردون عليه، والمثقفون - كما يقولون عن أنفسهم - يسمعون هذا الكلام ويصفقون له، وينصبون أنفسهم متحدثين باسم إدارات الشرطة الغربية، ويكتبون في أوسع الجرائد انتشاراً يطالبون المسلمين بأن يقوموا بإصلاح ديني يخرجون معه بما يعجب الغرب ويتلاءم معه، باعتبار ذلك الغرب هو النموذج الأعلى .
مسخ و تشويه
ولقد سبق أن قلنا وقال غيرنا إن حكاية الإصلاح الديني والتجديد الديني المزعوم الذي تطالب به أمريكا والغرب لا يهدف إلا إلى مسخ الإسلام وتشويهه، وتفصيل دين جديد يكون على هوى الغربيين ومزاجهم وميولهم ، لكن البعض الآن داخل وخارج المؤسسات أصبح يتبين هذه الدعوة ويفرضها على أنها مطلب محلى خطير ونابع من التربية الوطنية، بينما هي عملية عندهم تقتصر على مجرد التطويع وليِّ أعناق الأحكام ؛ لكي يخرجون منها بما يريدون .
ولعل في هوجة (الإسلام على المقاس) ما يفسر مسألة تحديث الخطاب الديني التي جعلوا منها قضية الموسم في الفترة الماضية . إنهم يريدون ألا يجهدوا أنفسهم في تفصيل أشكال وأزياء الإسلام المختلفة؛ بل يريدون من المسلمين أنفسهم أن يقوموا لهم مشكورين -في الغالب- بإعدام أنفسهم ودينهم، وإمساك المقص لكي يمزقوا الخرقة ويفصلوا منها ستين جلبابا في وقت واحد!.
وأخيراً فمن المضحك أن بعض الكتاب المنسوبين إلى الإسلام يخرجون علينا بشعار "بيدي لا بيد بوش" لكي يقولوا إننا كمسلمين يجب أن نقوم نيابة عن الأوروبيين بعملية التفصيل والقص و اللصق، لكي نضمن أن يكون التشويه للإسلام أكثر أمانة مما يقوم به الغربيون!.
==============(14/465)
(14/466)
الرنتيسي:نتلاءم مع المستجدات دون تفريط في الحقوق
حوار: أنور العسيري 27/2/1425
17/04/2004
تعرض قائد حركة حماس في قطاع غزة الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي إلى عملية اغتيال غادرة نفذتها الآلة الصهيونية مساء يومنا هذا السبت .. وكان موقع الإسلام اليوم قد أجرى مقابلة معه رحمه الله خصّ بها الموقع نعيد نشرها مرة أخرى .. تغمد الله الدكتور بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون
- صدمة سقوط بغداد كبيرة على الشعب الفلسطيني ولكنها لم تفت في عضده.
- خشية الحكومات العربية من أمريكا ستدفعها إلى مزيد من القطيعة بينها وبين شعوبها.
- الخلاف بين عرفات وأبومازن سببه الأول الصراع على المكانة القيادية.
في لقاء متميِّز مع موقع (الإسلام اليوم) نثر المجاهد الدكتور (عبد العزيز الرنتيسي) -أحد أبرز قيادات حركة الجهاد الفلسطيني (حماس)- أوراقه الخصبة بكل تفاصيلها الممتلئة بالألم والأمل الذي تعيشه الأمة في واقعها وتطلعات مستقبلها، فمن دهاليز الخلافات داخل السلطة الفلسطينية إلى واقع العلاقة بين الإنسان المسلم والحكومات التي تمثله، ومن وهج الجهاد في أرض المعركة ضد العدو الإسرائيلي، حتى حركة الشارع الفلسطيني الذي بات يشهد يقظة إسلامية تنذر بفجر قادم !.. نبض اللقاء كان ساخناً ممتعاً وثرياً مع شخصية جهادية إسلامية مرابطة في أرض فلسطين الحبيبة ... فإلى تفاصيل هذا اللقاء مع ضيف قامته لا تعرف الانحناء، قامة صلبة تعمل عقلها المسلم، وتبذل جسدها المتوثب في جهاد متواصل، تتسابق فيه دقات قلب الأمة أملاً في النصر...
سقوط بغداد
1- كيف ينظر الفلسطينيون إلى سقوط العراق في يد (تنار العصر الأمريكي) وخاصة من ناحية أثره على إسكات صوت فلسطين المنادي بالاستقلال ؟.
ما من شك أن سقوط بغداد -المفاجئ- كان له أثر سلبي كبير على معنويات الناس، ولقد ساهم الخبراء العسكريون -وهم محقون فيما ذهبوا إليه- في خلق الأمل لدى عامة الناس أن معركة بغداد هي المعركة الفاصلة، والتي لن تكون سهلة على القوات الأمريكية، ثم فوجئ الناس أن مخيم (جنين) -الذي لم تزد مساحته عن كيلومتر مربع واحد، والذي دافع عنه عدد قليل من المجاهدين- كان أعظم بصموده من بغداد التي كان يدافع عنها أكثر من مليون مقاتل!.
صدمة كبيرة أذهلت الشعب الفلسطيني، ولكنها لم تفت في عضده؛ لأنه لم يعتمد يوماً في جهاده إلا على الله، ثم على سواعد المجاهدين، ولقد ازداد الشعب الفلسطيني ثقة بأن الله لن يضيعه، فاستردَّ عافيته ومعنوياته بسرعة فائقة، ليعود إلى معركته الخالدة التي ستنتهي بالنصر بإذن الله.
2- هل ترون أن الحكومات العربية والإسلامية خلال أزمة العراق بدأت في توطيد العلاقة مع الشعوب وكسب ثقتها، أم أن العكس هو الذي حصل ؟.
برأيي أن الحكومات العربية والإسلامية لم تقرأ أزمة العراق قراءة صحيحة، وعلى ما يبدو أن خشيتها من أمريكا ستدفعها إلى مزيد من القطيعة بينها وبين شعوبها، ولو أنها استفادت من أزمة العراق لعمدت إلى مصالحة مع شعوبها، وقطع دابر الفساد، وتضييق الفجوة التي تعزلها عن شعوبها، خاصة أن ما جرى في العراق -بعد الغزو الأمريكي- يشير بوضوح إلى أن نتائج الانتخابات في عالمنا العربي لم تكن إلا مزوَّرة، ولم تكن إلا ثمرة طبيعية لسياسة القمع والإرهاب التي تعيشها الشعوب على يد الأنظمة القائمة، فمتى تعلم الأنظمة أن الشعوب قادرة على حمايتها من الطغيان الأمريكي -الذي بات يهددها واحدة تلو الأخرى- إذا أعطتها الشعوب ولاء ًحقيقياً، ولا يكون ذلك إلا باستقامة الأنظمة، وعودتها إلى عدالة السماء.
3-يتهمكم معارضوكم بعدم قدرتكم على حمل بدائل تتلاءم والمتغيرات المستجدة في الساحة الداخلية والدولية لمواجهة العدو، ويطالبونكم في المقابل بمنح خيار السلام فرصته الكاملة ... فما موقفكم تجاه مثل هذا الطرح ؟.
نحن ندرك أن هناك متغيرات مستجدة على الساحة الداخلية والدولية، ولا نألوا جهداً في دراستها بعمق، ثم نقوم بوضع الخطط التي تتلاءم مع المستجدات ولا تؤدي إلى التفريط في الحقوق المشروعة، ومعارضونا لا يرون من وسيلة للتعامل مع المستجدات إلا من خلال التنازلات المتتالية، ويطالبوننا دائماً بإعطائهم فرصة ليس لصناعة السلام، ولكن ليتمكنوا من مواصلة متوالية التنازلات، فإذا طالبنا معارضونا أن نعطيهم فرصة للتنازل عن 80% من فلسطين، والاعتراف بإسرائيل، ثم التفاوض على البقية من فلسطين؛ للوصول إلى حل وسط، فهل يجوز لنا أن نلبي لهم هذا الطلب فنعطيهم فرصة؟ وإذا أخذ معارضونا فرصتهم على مدى عشر سنوات من المفاوضات استثمرها العدو في بناء المستوطنات وشق الطرق الالتفافية وتهويد المقدسات، فهل ينبغي علينا أن نعطي فرصة ثانية بعد هذه العشر سنوات الكارثية؟ الواقع يقول إن معارضينا إنما يسترون عجزهم وفشلهم في مواجهة المستجدات من خلال اتهامنا بعدم قدرتنا على حمل بدائل تتلاءم والمتغيرات المستجدة، ولن يتوقفوا عن ذلك؛ لأنهم لن يخرجوا من دائرة العجز والفشل.(14/467)
4-ما هو برأيكم السبب الرئيس في الخلاف الذي ثار في تشكيلة الحكومة الفلسطينية الجديدة (بين عرفات وأبي مازن)؟ أهو في مستوى الأهداف التي ستتحقق للفلسطينيين، أم في حجم الصلاحيات التي ستتاح للأفراد داخل إطار السلطة؟.
للأسف الشديد أن زوبعة الخلاف لم تكن حول الرؤى السياسية، أو بسبب تباين في الأهداف، ولا بسبب خطط مختلفة لمواجهة التحديات، ولكن بكل وضوح كان الخلاف بسبب الصراع على المكانة القيادية، هناك قيادة جديدة يراد لها أن تتسلم مقاليد الأمور على حساب مكانة القيادة السابقة الممثلة بعرفات، فعرفات كان يدافع عن مكانته ورمزيته ووجوده على الخارطة السياسية، ومن هنا دبَّ الخلاف في وقت كان الصهاينة يذبحون شعبنا في نابلس ورفح وباقي مدننا وقرانا، بينما شاشات التلفزة تسلط الأضواء على الخلاف القائم على الكراسي في رام الله.
5-اشترطت إسرائيل على (محمود عباس أبو مازن) محاربة ما تسميه بالإرهاب، كشرط لبدء التفاوض معه كحكومة شرعية، كيف ترى شكل الموقف المستقبلي إزاء مثل هذا الطرح الإسرائيلي، خاصة ونحن نعلم مدى الضغوط الأجنبية التي ساهمت في تحقيق صفقة تشكيل هذه الحكومة الفلسطينية الجديدة؟.
نحن نرى أن محاربة الإرهاب واجب ديني، ولكن أين هو الإرهاب في فلسطين؟ أهو ما يمارسه الصهاينة من احتلال لفلسطين، وعدوان وحشي على الشعب الفلسطيني تمثل في الاغتيالات والمذابح والاعتقالات والإبعاد وهدم البيوت وتجريف الأراضي الزراعية ومصادرتها، والحصار والإذلال لشعب كان يعيش في وطنه آمنا مطمئنا، ولم يعتد على أحد؟ أم أن الإرهاب هو الدفاع عن النفس والوطن الذي يقوم به شعب فلسطين؟ ولذا فنحن مع محاربة الإرهاب الحقيقي المتمثل في العدوان الصهيوني. أما إذا استجابت الحكومة الجديدة للضغوط الصهيونية الأمريكية، وأعلنت الحرب على الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة، فإننا نرى في ذلك تهديداً حقيقياً للقضية الفلسطينية والوجود الفلسطيني، مما يجعلنا نقوم بحماية مشروعنا الجهادي بكل الطرق المشروعة، ونحن واثقون من النصر بإذن الله.
6-وعد شارون أن يكسر أجنحة المقاومة بمجرد وجوده، لكنه ورغم المجازر الدموية التي تفنن في اختراع وسائلها وصناعة أهدافها مازال غارقا في بحر الانتفاضة الفلسطينية.. فهل حقاً استطاعت هذه الانتفاضة أن تشكل خطراً على إسرائيل ككيان، أم أن دورها لا يعدو كونه مدافعة لعدو شرس تنتهي بمجرد توقف هذا العدو عن ممارسة بطشه؟ وكيف يمكن للمفاوض الفلسطيني أن يستغل مثل هذا التقدم، لا أن يقاومه أو أن يحاول كسره في أوج قوته؟..
لقد فشل شارون فشلا ذريعاً في وقف الانتفاضة وتوفير الأمن للمحتلين الغاصبين، ومن هنا استمر استنزاف هذا الكيان بشرياً واقتصادياً ومعنوياً ونفسياً، حيث أصبحت الهجرية هجرة عكسية، وكل الوعود الشارونية تبخَّرت، وكل الخطط الإرهابية الصهيونية تحطمت على صخرة الإرادة الفولاذية لشعب فلسطين، مما اضطر شارون للبحث عن حيل سياسية لوقف المقاومة والانتفاضة، فكانت خارطة الطريق عصارة الدهاء الصهيوني المغلفة بالعلم الأمريكي، ومن الواضح أن هدفها الوحيد هو وقف المقاومة، وإنقاذ الكيان الصهيوني المستنزف، وأنا على ثقة لو أن المقاومة تعطى فرصتها -مع التوقف التام للغزل السياسي بين السلطة والكيان الصهيوني- لحققت أهدافها، ولكن الكيان الصهيوني لا زال يراهن على تفجير الانتفاضة من الداخل عن طريق خلق قيادات مستعدة لإشعال حرب أهلية من أجل مصالحها الذاتية، ونتمنى أن تدرك السلطة هذه الحقيقة فتستغل المقاومة لصالح القضية الفلسطينية بدلا من التصدي لها، والمقاومة اليوم فعلاً في أوج تأثيرها على العدو الذي تحطمت دباباته على بوابات غزة، وتحطَّمت غطرسته في جنين.
7-ما مستوى رضاكم عن الأداء الفعلي لقوى العمل الإسلامي الفردي والجماعي لمناهضة المشروع الأمريكي المضاد لعقيدتنا وقيمنا ؟.
كنا ولا زلنا نأمل أن يرتقي مستوى الأداء إلى مستوى التحديات من جانب، وإلى مستوى الأمل الذي يمثله المشروع الإسلامي في إنقاذ الأمة من جانب آخر، لقد بات المشروع الإسلامي هو المشروع الوحيد القادر على مناهضة المشروع (الصهيو أمريكي) المضاد لعقيدتنا وقيمنا، ولذلك لابد لنا من شحذ كل الطاقات والهمم، وأن نوظف كل الإمكانات في معركة المصير، وأن نطور أساليب المواجهة، مع أنني لا أنكر أن ما قامت به قوى العمل الإسلامي كان عظيماً بكل المقاييس، ولكن إذا علمنا أن آمال الأمة باتت معلقة بالعمل الإسلامي كمنفذ وحيد سنظل نطمح إلى رؤية ما هو أعظم.
8-ما الذي ينقص الأمة لاستعادة الأقصى، أهو عنصر مفقود في ذاتنا ينبغي علينا -كمسلمين- أن نستكمله ؟ أم أن البيئة الدولية -بكل تعقيدات تركيبتها- قد فرضت واقع غياب الأقصى عنا، ويجب علينا كمسلمين التسليم بأي مرحلة تاريخية تمر بنا ؟!.(14/468)
لا أنكر أبداً دور تعقيدات البيئة الدولية وما لعبته من دور في تغييب الأقصى عن الحضن الإسلامي، ولكن هل كان في إمكان هذه التعقيدات أن تغيِّب الأقصى لو أننا تخلصنا من عوامل الضعف والهزيمة؟ أي لو أننا أقمنا الإسلام واقعاً في حياتنا نحكم به ونحتكم إليه، فوحدنا صفوفنا في كيان يضم ما يقارب (مليار وربع المليار)، وقضينا على الفساد بكل أشكاله (الإداري والأخلاقي والسياسي والمالي والأمني والفكري) وغير ذلك، وتخلصنا من عقدة التبعية والشعور بالدونية، ووظفنا طاقات وإمكانات الأمة الاقتصادية والبشرية والعقائدية والجغرافية والعسكرية والحضارية لنصرة الأقصى الأسير، وكتاب الله يبين لنا الحقيقة فيقول: "قل هو من عند أنفسكم" .
9- كيف يمكن تقييم رؤية الشارع الفلسطيني للحل الإسلامي، خاصة بعد اندحار كثير من الدعاوى القومية العلمانية وسقوطها أمام شراسة العدو ؟.
الشارع الفلسطيني هو أكثر الشوارع في عالمنا العربي والإسلامي معاناة من الدعاوى القومية العلمانية، لا لشيء إلا لأنه دفع ثمناً باهظاً من دمائه وكرامته وحريته، يوم انصرفت الراية عن مصدر عزته وكرامته، وهو اليوم يعود إلى الإسلام بطريقة مذهلة، فكل محاولات الكيان الصهيوني الإفسادية وقفت عاجزة أمام أسلمة الشارع الفلسطيني الذي لم يعد يرى حلاً إلا في الإسلام، حتى التنظيمات العلمانية أصبحت تستخدم من الأدبيات ما يقربها من نبض الشارع الفلسطيني، سواء في خطابها الإعلامي، أو في بياناتها أو في شعاراتها المرفوعة.
10-كثير من الشباب يتمنون أن يكونوا جزءاً من هذه المقاومة التي تحملون لواءها، فما رسالتكم لهؤلاء الشباب في أنحاء العالم الإسلامي ؟.
هذه مشاعر صادقة وصادرة من قلوب عامرة بالإيمان، فنحن في فلسطين على ما نحن فيه من معاناة يومية وجهاد واستشهاد لا نتمنى أن نكون خارج هذه الدائرة، ونحمد الله -سبحانه- على نعمة الرباط والجهاد، وتمنيات هؤلاء الشباب تعكس واقع هذا الجيل المؤمن الذي سيحقق الله -بإذنه تعالى- النصر على يديه، وأود أن أقول لهذا الشباب: ثقوا بأنكم على ثغر أينما كنتم، وأنكم في جهاد، وإن كان جهادكم يأخذ أحيانا نمطاً مختلفا لا شوكة فيه، ولكن كل منكم مرابط على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتينّ الإسلام من قبله، كما أقول لكم بأن اليوم الذي ستحملون فيه السلاح -دفاعاً عن الكرامة والعقيدة- ليس ببعيد بإذن الله، فوطنوا النفس على ذلك، "وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
=============(14/469)
(14/470)
الأدب بين الالتزام والإلزام
الدكتور عبد القدوس أبو صالح* 22/5/1424
22/07/2003
تعريف الالتزام في اللغة والاصطلاح:
"الالتزام" لفظة عربية فصيحة وقديمة ، فقد جاء في لسان العرب:" لزم الشيء يلزمه... والتزمه .. وألزمه إياه فالتزمه ". وجاء في أساس البلاغة:" والتزم الأمر، ومن المجاز:التزمه: عانقه ". وجاء في القاموس المحيط:" التزم الشيء لزمه من غير أن يفارقه، والتزم العمل والمال:أوجبه على نفسه".
أما تعريف "الالتزام"في الاصطلاح الحديث فهو لا ينصرف إذا أطلق إلى "الالتزام الأدبي"فقط ؛ لأن هناك أنواعاً من الالتزام العقدي أو الخلقي أو السياسي أو الحزبي أو العسكري إلى آخر ما هنالك من أنواع الالتزام التي يحددها الوصف.
كذلك لم يتفق الأدباء والنقاد على تعريف "الالتزام الأدبي" وذلك لاختلاف مذاهبهم ونزعاتهم ومواقفهم من هذا المصطلح. ومع ذلك فلا بأس أن نورد طرفاً من هذه التعريفات لتقريب هذا المصطلح من الأذهان.
فقد عرفه الروائي الأمريكي نورمان مالر بأنه" نوع من التعاقد أو الارتباط بشيء خارج الذات.(1)
وعرفه الشاعر الاسكتلندي هيوماكد يارميد بأنه "الالتزام السياسي والجهاد في سبيله، وتسخير الأدب للدعوة له ".
وقصره الدكتور محمد غنيمي هلال على الشعر - مجاريا سارتر في موقفه الأول - فقال(2):"ويراد بالتزام الشاعر وجوب مشاركته بالفكرة والشعور والفن في القضايا الوطنية والإنسانية وفيما يعانون من آلام وما يبنون من آمال".وعرفه الدكتور محمد مصطفى هدارة بأنه يعني"ارتباط الأديب بقيم أو مبادئ أو قضايا محددة، تشرَّبها عقله ووجدانه، فكل تفكير أو تعبير صادر عنه، يكون في نطاق هذا الارتباط أو الالتزام"(3).
وعرفه جبور عبد النور في المعجم الأدبي بقوله:"هو حزم الأمر على الوقوف بجانب قضية سياسية أو اجتماعية أو فنية، والانتقال من التأييد الداخلي إلى التعبير الخارجي عن هذا الموقف بكل ما ينتجه الأديب أو الفنان من آثار.وتكون هذه الآثار محصلاً لمعاناة صاحبها ولإحساسه العميق بواجب الكفاح والمشاركة الفعلية في تحقيق الغاية من الالتزام "(4).
وعرفه الدكتور عبد الرحمن الباشا رحمه الله - وهو أحد رواد الأدب الإسلامي - بقوله(5):" هو أن يلتزم الأديب في كل ما يصدر عنه من أدب فكراً محدداً من الأفكار أو عقيدة من العقائد ، أو نظرية من النظريات ، أو فلسفة من الفلسفات ، سواء أكان ما يلتزم به دينياً أم سياسياً أم اجتماعياً أم نحو ذلك بحيث يكون أدبه نابعاً مما اعتقده ممثلاً لما اعتنقه ، غير حائد عنه ، أو خارج عليه".
موقف الآداب العالمية من الالتزام:
نستطيع أن نقسم الآداب العالمية من حيث موقفها من الالتزام إلى مذاهب عقدية " إيديولوجية" كالواقعية الاشتراكية والوجودية ، وإلى مذاهب حرة "ليبرالية" يأتي في مقدمتها مذهب الفن للفن، ويضاف إليها مواقف فردية لبعض المشهورين من الأدباء والنقاد الذين ترددوا بين الالتزام ورفضه.
وما من شك في أن مصطلح "الالتزام" وهو في الأصل مصطلح حيادي، قد استغلته الشيوعية أسوأ استغلال في نظريتها الأدبية التي سميت بالواقعية الاشتراكية ، وذلك أن أقطاب الشيوعية أدركوا أثر الفنون بعامة ، والأدب بخاصة، في بناء المجتمعات وتكوين العقول، وصياغة الوجدان، ووعَوْا أثرها في دعم الأنظمة والمذاهب حتى قال ستالين:"الفنانون والأدباء هم مهندسو البشرية".. ومن ثم فقد حرم (النظام الشيوعي) على كل أديب أن ينتج أي لون من ألوان الأدب ، يعارض المذهب الذي اعتنقته الدولة، وارتضته للشعب .. وبذلك عُدَّ الأديب المعارض للعقيدة الماركسية خائناً لأمته وقضاياها، منحازاً إلى أعدائها "(6).
وأخذت الشيوعية تطبق مبدأ "الإلزام" القسري عن طريق سلطة الحزب أو سلطة الدولة، فهي تغدق على الأدباء الملتزمين أصناف الرتب والامتيازات بينما تضيق الخناق على غير الملتزمين تضييقاً ، يبدأ من تسليط النقاد الملتزمين عليهم لينتهي بنفي بعضهم إلى مجاهل سيبيريا أو إدخالهم إلى بعض المصحات العقلية.
وهكذا نرى أن الالتزام الأدبي أصبح في قبضة الدولة الشيوعية إلزاماً قسرياً سمي بالجبرية الشيوعية في الأدب، أو ديكتاتورية الواقعية الاشتراكية.
وما لبث مذهب "الإلزام" القسري أن تجاوز أسوار روسيا الشيوعية إلى دول الستار الحديدي، بل تجاوزها أيضاً إلى معتنقي الشيوعية والاشتراكية في دول العالم ، ومنها بعض الدول العربية التي كان نفر كبير من أدبائها وشعرائها يحتلون الساحة الأدبية، ويتفاخرون بأنهم من دعاة الواقعية الاشتراكية الملتزمين بها، وهم لا يعرفون اليوم كيف يوارون وجوههم بعد أن سقطت الشيوعية ،وهي الخلفية العقدية (الإيديولوجية) لمذهب الواقعية الاشتراكية.
كذلك اتخذت الفسلفة الوجودية، وعلى رأسها سارتر،من مصطلح الالتزام وسيلة لنشر مبادئها، بل لعلنا لا نبالغ حين نزعم أن الوجودية ذاعت وانتشرت عن طريق قصص سارتر ومسرحياته بأكثر مما استشرت عن طريق مؤلفاته الفلسفية.(14/471)
على أن الوجودية لم تقلب "الالتزام" إلى "إلزام" قسري كما فعلت الشيوعية، بل تركته التزاماً حراً، ينبع من شعور الأديب الوجودي بمسؤوليته ،كما أن سارتر أخرج الشعر من دائرة الالتزام ، وحصره في فن النثر بحجة "أن الحقائق هي التي تعبر عن مضمونات الالتزام، وليست غاية الشعراء استطلاع الحقائق أو عرضها(7)"بالإضافة إلى أن الصلة بين الشاعر والنص تنقطع بعدإبداعه إياه ، والشعراء -على حد زعمه -قوم يترفعون باللغة عن أن تكون نفعية"..على أن سارتر انتهى أخيراً غلى أن تراجع عن موقفه من الشعر ، فأدخله مع النثر في دائرة الالتزام.
أما في المذاهب الحرة (الليبرالية) ولدى كبار الأدباء في العالم بما في ذلك بعض كبار الأدباء في العالم العربي فإننا نستظهر ثلاثة مواقف متباينة :أولها:موقف يرفض الالتزام تحت شعار "الفن للفن" أو "الفن الصافي".وتعريف "الأدب"عند دعاة "الفن للفن" أنه فن جميل مهمته أن يستثير الشعور بالجمال، والجمال وسيلته وغايته"(8).
وهكذا "تنظر هذه المدرسة إلى جمال الشكل وبراعة الصنعة ، فما دام الأديب ماهراً في صناعته بحيث يثير فينا الإحساس بالمتعة ، فلا ينبغي أن ننظر في مضمون قوله: إن كان صدقاً أو كذباً نافعاً أو ضاراً ، بنَّاءً أو هداماً. ويشير الناقد "وولتر باتر" صراحة إلى الغاية من هذا الاتجاه الأدبي فيقول:"الغاية من الأدب ليست ثمار التجربة ، بل التجربة نفسها ". ويقول غوتييه (9):"لا يوجد الجمال الحق إلا فيما لا فائدة منه ، وكل مفيد سمج لأنه تعبير عن حاجة ما ، وحاجات الإنسان دنيئة ومقززة كطبيعته المسكينة المعقدة.. وكل فنان يقترح شيئاً غير الجمال فليس فناناً في نظرنا ".ويعزز هذه النظرة الكاتب الإنجليزي أو سكار وايلد حين يقول "ليس هناك كتاب أخلاقي" وكتاب مناف للأخلاق "إنما الكتب إما جيدة الصياغة أو رديئة الصياغة ، هذا كل ما في الأمر"فكأن هذا المذهب يعزل الأدب عن الدين والقيم والمبادئ والأخلاق، بل عن كل عناصر الحياة الإنسانية الأصيلة النقية بدعوى المتعة الفنية الخالصة"(10).
ومع أن الدكتور محمد مندور يقرر أن مذهب الفن للفن لم يعد له وجود فإن الدكتور محمد مصطفى هدارة يقرر أن المدرسة التعبيرية تشترك مع مذهب الفن للفن في النظرة نفسها ، حيث يقول سبنجارن:" إنه ليس من شأن الأديب نشر أي دعوة أخلاقية أو اجتماعية ،وغاية ما يعنيه من الأدب توقد الإحساس وتوهجه "(11).
ويقال الأمر ذاته في "مدرسة اللاوعي أو السيريالية أو ما فوق الواقع لأنها تقوم على استبعاد المنطق ومجافاة العقل ومعاداة الواقع ، وتحاول أن ترد الإنسان إلى غرائزه وقواه الفطرية بعيداً عن العقل ، أو كما يعرفها رائدها أندرية بريتون في أول بيان سيريلاي أصدره بأنها" إملاءات فكرية في غيبة كل ضابط يفرضه العقل ، وبعيداً عن كل اهتمام جمالي أو أخلاقي"(12).
أما الموقف الثاني لدى غير الملتزمين بالمذاهب السابقة فهوموقف محايد أو متردد بين رفض الالتزام أو قبوله ، وفي هذا يقول الأديب الفرنسي جان كوكتو(13):" أنا محايد ، أتردد أمام الالتزام ".
ونستطيع أن نضيف إلى هذا الموقف المحايد أو المتردد ذلك الموقف المتناقض الذي نراه لدى عدد من كبار الأدباء العرب وعلى رأسهم طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم.
أما الموقف الثالث لدى غير الملتزمين بالمذاهب السابقة فهو موقف يقبل الالتزام ويحض عليه ، ويأخذ بهذا الموقف كثير من الأدباء والنقاد العالميين حتى ليقول الدكتور محمد غنيمي هلال:(14)" يخطئ من يعتقد أن الاتجاه العام في الأدب الملتزم يمثله الوجوديون وحدهم ، أو يمثله سارتر وحده من بينهم ، والحق أن الأسس العامة للالتزام تتمثل في تيار النقد الغالب على العالم الغربي ".
وقد لخص الدكتور لويس عوض ما دار في مؤتمر الكتاب الذي عقد في مدينة أدنبره، وشارك فيه نحو من عشرين كاتباً - حول موضوع الالتزام فقال (15)" فإذا أردت أن تعرف نتيجة هذه المناظرة خرجت بأن أكثر الكتاب الذين اشتركوا في الحديث وقفوا وأعلنوا أنهم يؤمنون بالالتزام ،أي يعتقدون بأن كل كاتب لا بد أن يكون مرتبطاً بقضية أو أخرى".
ومن كبار الكتاب العالميين الذين أدركوا أهمية الالتزام الأديبُ الروسي الكبير توليستوي الذي يقول في قصته المشهورة "أنا كارنينا":" كان الحكم الذي أصدره رفاقي من رجال الأدب على الحياة مؤداة أن الحياة عامة تعبر عن حالة من التقدم وأننا نحن معشرَ رجال الأدب نقوم بالدور الرئيسي في هذا التطور ، وأن وظيفتنا نحن معاشرَ الفنانين والشعراء هي أن نثقف العالم ".
ويقول الشاعر والناقد المعروف ت.س. إليوت(16)عن مهمة الشعر وعلاقته بالمجتمع:" أظن أن أول مهمة من مهمات الشعر هي على وجه اليقين : إثارة المتعة ، ولكن للشعر دائماً هدفاً أبعد من الهدف الخاص أو المعين، وهو أن الشعر يحاول دائماً إيصال تجربة جديدة ما، أو إلقاء ضوء جديد على شيء مألوف، أو التعبير عن شيء بيدنا ولم نستطع أن نصفه في كلمات ، مما من شأنه أن يغني وعينا ، ويرهف حساسياتنا وليس بشعر على الإطلاق ما لا يثير في الإنسان هذين الأمرين ".(14/472)
وفي هذا أيضاً يقول الشاعر والناقد الأمريكي الكبير ستيفن سبندر(17):" الشعر ليس مجرد تصوير لحظة احمرار وجنات الحبيبين أو رؤية جمال زهرة أو روعة لون الغروب ، بل الشعر هو الذي يروي الحياة كلها...والشاعر يضع نصب عينيه دائماً الظروف التي تحيط بالحياة ، إذ لا يمكن أن يجرب الحياة دون أن يضطر إلى التفكير في المشاكل الإنسانية الجوهرية . وما النظم السياسة والاجتماعية إلا محاولات لحل هذه المشاكل حتى نستطيع أن نختار الحياة .لذلك نجد أن الشعر يجبر على أن يعيد النظر في هذه الحلول وحينئذ قد يتبين له أنها تتحقق فيها إلى حد ما الشروط الجوهرية للوجود الإنساني ، وقد يتبين له العكس أيضاً ، وبهذا المعنى لا شك أن الشعر نقد للحياة".ويقول الروائي الأمريكي نورمان مالر في مؤتمر أدنبره الذي سبقت الإشارة إليه:(18)" إن الالتزام هو بمثابة طوق النجاة في خضم القيم المتصادمة في عالم اليوم صداماً أفضى إلى الفوضى".
وقد سئل الشاعر والناقد الأمريكي ألن تيت عن مسؤولية الشاعر: أمام من تكون ؟ وعمَّ تكون ؟ فأجاب ما خلاصته (19)"إن دعاة الالتزام في العالم الحر يرون أنه لو نهض الشعراء والأدباء بمسؤولياتهم الأدبية لما وقع النظام الحر فيما وقع فيه من مخاطر. ولما كنا تعرضنا للحرب العالمية الثاني, ورزحنا تحت ويلاتها. كما يرون أن قيام (النازية الهتلرية)يصور إخفاقنا في تطبيق المبادئ الديمقراطية ، وهو إخفاق سببه فقدان الشعور بالمسؤولية لدى أولئك الذين يملكون فن الكلمة ، وهم الكتاب عامة والشعراء خاصة ".
موقف الأدب العربي من الالتزام:
قدمنا أن عدداً من كبار الأدباء العرب الذين يعدون من رواد النهضة الأدبية كانوا في موقفهم من الالتزام أقرب إلى الموقف المحايد أو المتردد ، قد رفضوا الالتزام والتسخير الذي يصادر حرية الأديب دون أن يرفضوا عملياً الالتزام الطوعي العفوي.
فبينما نرى طه حسين يلتزم في كثير من نتاجه الأدبي بأفكار معينة ،يعمل على نشرها، ويخوض المعارك الأدبية والفكرية في سبيلها إذا به يقول(20) " وإذن فالذين يقولون: يجب أن يكون الأدب للحياة ، ويظنون أنهم يقولون شيئاً جديداً لا يقولون في حقيقة الأمر شيئاً. فكل أديب في أي أمة من الأمم إنما هو يصور نوعاً من أنواع حياتها.. فأما أن يسخر ليكون وسيلة من وسائل الإصلاح أو سبيلاً من سبل التغيير في حياة الشعوب ، فهذا تفكير لا ينبغي أن نساق إليه ، ولا نتورط فيه . وليس معنى هذا أن الأدب بطبعه عقيم ، وأن الأديب أثِرٌ بطبعه ، ولكن معناه أن الإصلاح والتغيير ، وتحسين حال الشعوب وترقية شؤون الإنسان أشياء تصدر عن الأدب ، كما يصدر الضوء عن الشمس ، وكما يصدر العبير عن الزهرة". ويقول في إحدى المناظرات الأدبية(21):" لسنا محتاجين دائماً أن نتخذ كل شيء وسيلة ، وأن نجعل كل شيء غاية . إنما نتخذ الأدب غاية في نفسه. ليس من الضروري أن نسخِّر الأدب لهذا الغرض أو ذاك".
وبينما نرى توفيق الحكيم يعلن أن(22): الأديب يجب أن يكون حراً ، لأن الحرية هي نبع الفن ، وبغير الحرية لا يكون أدب ولا فن ". ويقول أيضاً (23):" إن مطامع الناس شاءت أن تمتد أياديها الفانية إلى هذا الجوهر السامي (الفن) لتسخره لمدح الحكام من أجل المال والثراء ، أو لنشر الدعوة في الدين والسياسة من أجل الثواب أو الجزاء ، ولكن كلمة الفن هي العليا دائماً "، إذا به يستدرك فيقول(24):" أما إذا كان في الإمكان وجود فن يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا فإني أرحب به ، وأسلم على الفور بأنه الأرقى ، ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان". ويقول أيضاً(25):" هنالك صلة في اعتقادي بين رجل الفن ورجل الدين ، ذلك أن الدين والفن كلاهما (يضيء) من مشكاة واحدة هي ذلك القبس العلوي الذي يملأ قلب الإنسان بالراحة والصفاء والإيمان...وأن مصدر الجمال في الفن هو ذلك الشعور بالسمو الذي يغمر نفس الإنسان عند اتصاله بالأثر الفني .. ومن أجل هذا كان لا بد للفن أن يكون مثل الدين قائماً على قواعد الأخلاق " ..
ويقول مرة ثالثة(26):" لو علم رجل الفن خطر مهمته لفكر دهراً قبل أن يخط سطراً ..وأخيراً يعلن توفيق الحكيم (27)أن " حرية الأديب لا تتنافى عنده مع مبدأ الالتزام ، فهو يريد أن يكون التزام الأديب أو الفنان شيئاً حراً ينبع من أعماق نفسه ..إذ يجب أن يلتزم وهو لا يشعر أنه يلتزم " ثم يصرح توفيق الحكيم بأن أدبه في أكثر كتبه هو من صميم الأدب الملتزم .(14/473)
ولعل من المفيد أن نتحدث عن حوار تم بين كل من توفيق الحكيم والعقاد وأحمد أمين على صفحات مجلتي الرسالة والثقافة(28)، ولباب الحوار لا يخرج عمّا عرف بمذهب الفن للفن مقارناً بمذهب الفن للإصلاح ، إذ دعا الأستاذ أحمد أمين في العدد /275/ من مجلة الثقافة إلى أن يتجه الأدباء إلى المجتمع كما يتجهون إلى أنفسهم ، وإلى أن يتعرف الأديب الحياة الجديدة للأمة العربية ، ويقودها ويجدَّ في إصلاح عيوبها .. ليكون الأديب داعية خير ورسول أمة وراسم هدف . فردَّ عليه الأستاذ توفيق الحكيم في العدد/ 562 من مجلة الرسالة قائلاً : إن أحمد أمين يريد أن يستخدم الأدب في الدعاية الانتخابية والتجارية وما يجري هذا المجرى. وقد ردّ عليه الأستاذ أحمد أمين لأن هناك فرقاً بين الدعوة إلى أن تكون الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي من مصادر الأدب، وبين الدعوة إلى مادية الأدب وتسخيره للأغراض الوضعية.
وقد سئل العقاد عن هذا النقاش فأجاب بأن اليوم الذي يستخدم فيه الأدب للدعاية الاجتماعية لهو اليوم الذي ينقلب فيه الإنسان طفلاً .. ومضى العقاد يؤيد أن أمل الإنسانية أكبر من أن يتعلق بحاجة الطعام والكساء ، ويحبّذ كلام الأستاذ توفيق الحكيم حين شبه المجتمع الذي يستخدم الفن للرغيف بالطفل الذي يضع الحلية في فمه، لأنه لا يحسن أن يتملاها بنظره. وختم العقاد التعليق بأنه لم يخطّئ أحمد أمين في حرصه على المصالح الاجتماعية ، لأنّه مثلُه يحرص على هذه المصالح ، ولكن الفنون ذات هدف أقوى من النفع المادي.
وقد ردّ الأستاذ أحمد أمين على تعقيب العقاد بما يضيق شقة الخلاف إذ قال(29): إن الفردية التي يعنيها هي الأنانية والأثرة ، وأن الاجتماعية[ التي يدعو إليها]هي الغيرية والإيثار، وبهذا التحديد يتفق الحكيم والعقاد معه [أو يلزم أن يتفق الأستاذان معه]على أن الرقي الأخلاقي والاجتماعي سائر نحو الاجتماعية. وإذا كانت المشكلة في جوهرها هي مشكلة اتجاه الأدب إلى الفن وحده بعيداً عن الإصلاح أم اتجاهه للفن والإصلاح معاً، فقد حسم الأمر لدى المختلفين جميعاً ، حين يوازنون بين قطعة فنية رائعة تخدم هدفاً إصلاحياً، وقطعة لا تقل عنها جودة تقتصر على الوصف الأدبي دون هدف .. على أن المرادَّ في الفن على التأثير المستَشَف، لا على التقرير السارد. وقد حصر الأستاذ أحمد أمين المجال في أضيق نطاقه حين قال ببساطته الواضحة(30):" لعل نقطة الخلاف الحقيقية بين الأستاذ الحكيم وبيني هو أنه يريد أن يقدر الفن بجماله فقط ، وأنا أريد أن أقدره بجماله وأخلاقياته معاً ".
ومن رواد النهضة الأدبية الذين أخذوا بالالتزام كاتب الإسلام الكبير الأستاذ مصطفى صادق الرافعي الذي التزم بالتصدي لدعاة التغريب في الفكر والأدب.
ومن كبار الأدباء العرب الذين وقفوا من الالتزام هذا الموقف الإيجابي دون أن يكونوا منضوين تحت مذهب أدبي عقدي أو غير عقدي الأديب الكبير محمود تيمور الذي يقرر أن الرسالة الملقاة على عاتق الفنان -أيا كان-هي رسالة إنسانية تقتضي منه"الإحساس بالحياة التي يحياها، والتعمق في المجتمع الذي يعيش فيه،وتزكية ما يلتمع في ذلك المجتمع وفي تلك الحياة من مثل كريمة،تدعو إلى حرية وحق وخير وسلام(31).
ويقول الدكتور شوقي ضيف عن علاقة الأديب بالمجتمع(32):" الذي لا شك فيه أن الأديب لا يكتب أدبه لنفسه ، وإنما يكتبه لمجتمعه . وكل ما يقال عن فرديته المطلقة غير صحيح ، فإنه بمجرد أن يمسك بالقلم يفكر فيمن سيقرؤونه ، ويحاول جاهداً أن يتطابق معهم ، ويعي َ مجتمعهم وعياً كاملاً بكل قضاياه وأحداثه ومشاكله لسبب بسيط ،وهو أنه اجتماعي بطبعه ، ومن ثَمَّ كانت مطالبته أن يكون اجتماعياً في أدبه مطالبة طبيعية".
ومن الأدباء الذين نادوا بالالتزام الناقد المعروف الأستاذ محمد النويهي الذي ألف كتاباً سماه " الأدب الهادف " وكان من قوله فيه(33):" الرسالة الملقاة على عاتق الفنان - أيا كان- هي رسالة إنسانية تقتضي منه الإحساس بالحياة التي يحياها ، والتعمق في المجتمع الذي يعيش فيه ، وتزكية ما يلتمع في ذلك المجتمع وفي تلك الحياة من مثل كريمة ، تدعو إلى حرية وحق وخير وسلام ".
أما الأدباء والنقاد الذين أخذوا بالالتزام منطلقين من مذاهب عقدية متنوعة فقد كانوا فريقين اثنين : فريق يلتزم بالمذاهب العقدية المأخوذة عن الغرب وهي المذاهب الاشتراكية والوجودية والحداثية بصورة عامة، وفريق يلتزم بالتصور الإسلامي الذي جاء رداً على التزام الفريق الأول .
يقول الأستاذ غالي شكري مؤكداً التزام الشاعر المعاصر بالمذاهب العقدية(34):"والحق أنه إذا أثير السؤال: هل للشاعر الحديث إيديولوجية أم لا؟ .. أجبنا على الفور بأن الشعر لم يكن في يوم من الأيام إيديولوجياً بالمعنى العميق المسؤول ، كما هو الآن".(14/474)
ويتحدث الدكتور إحسان عباس عن تداخل السيريالية والماركسية والوجودية في الشعر العربي المعاصر فيقول(35):" هذان - أي السيريالية والماركسية- تياران ثوريان يفعلان بعمق في الشعر العربي المعاصر ، ويتبنيان قضية الالتزام ، فإذا أضفت إليهما تياراً ثورياً ثالثاً يأخذ من هذا وذاك ، وهو التيار الوجودي ، الذي يبني مضمونه للأدب والشعر على أساس من الالتزام أيضاً وَضُحَ لك أن تطبيق مفهوم الالتزام لن يتحدّد في شكل واحد، ولكنه يجيء على أشكال متفاوتة تنبني جميعاً على أصل مشترك هو الدفاع عن إنسانية الإنسان".
ولعل الدكتور إحسان عباس- وهو منحاز إلى الملتزمين بهذه التيارات- يكون أكثر إنصافاً لو قال: إن الأصل المشترك بين هذه الفئات المختلفة هو الاتجاه اليساري الذي يتحدث الدكتور إبراهيم الحاوي عن محاوره فيقول(36):" وتبنّى الشعر المعاصر قيماً محددة فرضها عليه الواقع السياسي الذي مرّت به الأمة العربية منذ نكبة فلسطين عام 1948م. وتحدّد مضمون هذه القيم بالثورية حيناً ، والتمرد والرفض حيناً آخر، حتى كادت هذه المضامين تستحوذ على اهتمامات معظم الشعراء في بلدان العالم العربي المختلفة ، وتصبح النزعات المسيطرة والسمات الواضحة لاتجاهات الشعر المعاصر وميوله".
وعندما سقطت الواقعية الاشتراكية بسقوط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي كان لسقوطها صدىً كبير أدى إلى إحباط النقاد الملتزمين بها .. وسرعان ما تخلّوا عن الانتساب المباشر إليها ليعملوا مع ألفافهم من الوجوديين ودعاة الواقعية بأنواعها وسائر الملتزمين بتيار التغريب تحت اسم جديد هو " التنويريون" وتحت خيمة واحدة استظلوا بها جميعاً ، وهي خيمة " الحداثة " الفلسفية الشاملة التي كان أدونيس رافع لوائها ومنظرها الأول.
وقد بيّن أدونيس بكل صراحة أن الحداثة ليست تحديثاً للشكل ، وإن كانت قد انطلقت من دعوى التجديد في الشكل الشعري لتصل إلى مضمون الحديثة بمعناها الفلسفي الشامل ، وهذا ما عبّر عنه أدونيس بقوله(37):"لا يكفي أن يتحدث الشاعر عن ضرورة الثورة على التقليد ، وإنما عليه أن يتبنّى الحداثة. وليست الحداثة أن يكتب قصيدة ذات شكل مستحدث ، شكل لم يعرفه الماضي بل الحداثة موقف وعقلية ، إنها طريقة نظر وطريقة فيهم ، وهي فوق ذلك وقبله:ممارسة ومعاناة ، إنها قبول بكل مستلزمات الحداثة : الكشف ، والمغامرة ، واحتضان المجهول".
وهكذا تجلّت حقيقة الحداثة في قول كمال أبو ديب في مجلة فصول(38):" الحداثة انقطاع معرفي ، ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث في كتب ابن خلدون الأربعة، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني وكون الله مركز الوجود.. الحداثة انقطاع لأن مصدرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني (اللاديني) وكون الإنسان مركز الوجود ، وكون الشعب الخاضع للسلطة مدار النشاط الفني ، وكون الداخل مصدر المعرفة اليقينية ، إذا كان هناك معرفة يقينية ، وكون الفن خلقاً لواقع جديد".
كما تجلّت حقيقة الحداثة في قول أودنيس في كتابه " مقدمة للشعر العربي(39):"إنها -أي الحداثة- تجاوز الواقع أو اللاعقلانية ، أي الثورة على قوانين المعرفة العقلية ، وعلى المنطق ، وعلى الشريعة من حيث هي أحكام تقليدية ، تُعنى بالظاهر .. وهذا الثورة تَعني التوكيد على الباطن ، وتَعني الخلاص من المقدس وإباحة كل شيء " .
ومن هنا أظهر الدكتور محمد مصطفى هدارة في محاضرة ألقاها في مركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية تم نشرها في كتابه "دراسات في النقد الأدبي" خطرَ هذه الحداثة المدمرة الحالقة لكل شيء إذ يقول(40):" والحقيقة أن الحداثة أخطر من ذلك بكثير ، فهي اتجاه فكري أشد خطورة من الليبرالية ، والعلمانية ، والماركسية ، وكلّ ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك أنها تتضمن كل هذه المذاهب والاتجاهات ، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني أو النقد الأدبي ، ولكنها تعمّ الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء .. وهي بمفهومها الاصطلاحي اتجاه جديد بشكل ثورة كاملة على كل ما كان ، وما هو كائن في المجتمع".
على أن من الإنصاف أن نقول: إن كثرة من الحداثيين في هذا البلد الكريم أعلنوا رفضهم لحداثة أدونيس ، وتبنوا الحداثة على أنها تجديد فني يلتزم بثوابت الدين ، ولا يقبل القطيعة مع التراث.
موقف الأدب الإسلامي من الالتزام:
وأمام طغيان الإلزام الشيوعي والالتزام بالوجودية والواقعية المنحرفة والحداثة الفلسفية المدمرة لم يكن ثمة بد من الدعوة إلى الالتزام الإسلامي في الأدب.
فما هو هذا الالتزام الإسلامي ؟وما هي حجيته ومسوغاته؟وما هي خصائصه وسماته ؟.
وأول ما يقال في الرد على هذه التساؤلات أن الأدب الإسلامي أدب هادف ملتزم ، بل لا يتصور وجود الأدب الإسلامي دون التزام..ذلك أننا يمكن أن نعرف الإنسان المسلم بأنه إنسان ملتزم بالإسلام لن والأديب المسلم إنسان مسلم فهو بالضرورة ملتزم بالإسلام..إلا أن يكون إسلامه اسمياً بالهُويّة فقط ، أو لا يكون فاهماً لحقيقة الإسلام.(14/475)
والأديب الإسلامي مسلم أولاً ، ثم أديب ثانياً ، وليس للأديب - كما يقول الأستاذ محمد قطب - خصوصية تبيح له أن يخرج عن الإسلام بحجة الموهبة الأدبية، فالموهبة الأدبية لا تستلزم الخروج عن حدود الدين.
وفي بدهية الالتزام الإسلامي في الأدب يقول الأستاذ محمد قطب أيضاً(41):" إن المفروض على المسلم أن يعيش الإسلام في كل دقيقة من حياته ، فالله عز وجل يقول:" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ". وهذا العبير القرآني يعني أن غاية الوجود البشري محصورة في عبادة الله ، ولكن هذا المعنى قد يحتاج في أجيالنا المتأخرة إلى توضيح ..على خلاف الأجيال الأولى التي لم تكن تتصور أن العبادة هي الشعائر فقط.. ولو تصورنا أن العبادة محصورة في هذه الشعائر..فكم تستغرق إذن من عمر الإنسان ؟ لا يستغرق ذلك إلا جزءاً قليلاً منه، ففيم ينقضي عمر الإنسان ؟ في العبادة أم خارجها ؟ لو كان خارجها ما كنا كما أراد الله أن نكون..ولو كان ينقضي داخلها فيجب أن نوسع مفهوم العبادة. فلا نقصرها على الشعائر فقط ، وهذه العبادة المقصودة في الآية الكريمة تشمل الحياة كلها بمختلف أنشطتها. وبما أن الأدب التعبير الجمالي هو نشاط بشري ، لزم إذن أن يكون ضمن دائرة الإسلام التي شملت كل نشاط الجمالي في حياتنا. ومن البدهيات أيضاً أن المسلم -أدبياً أو غير أديب- يجب أن تكون حياته داخل دائرة العبادة الإسلامية. وكذلك النشاط الأدبي يجب أن يكون ملتزماً بتلك الدائرة ، فلا يظنَّ الأديب أنه في مجال الأدب يسقط عنه التكليف فيفكر كيف يشاء ، ويكتب كيف يشاء.. فهذا خطأ ، والصحيح أن يشعر أنه مسلم أولاً، وأديب ثانياً ، فيكون نشاطه ملتزماً بالعبادة في مفهومها الواسع".
وفي القرآن الكريم أيضاً نجد مسوغاً آخر للالتزام الإسلامي في الأدب ، فالله عز وجل يقول (42):( والشعراء يتبعهم الغاوون *ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون * إلا اللذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون *).
وهذه الآيات الكريمة تعني أن الشعراء سيكونون دائماً عرضة للغواية والإغواء إلا أن يلتزموا بالصفات التالية:
1)أن يكونوا مؤمنين حقاً: " إلا الذين آمنوا...".
2)أن يكون إيمانهم مصدقاً بالعمل الصالح :" وعملوا الصالحات".
3)أن يكثروا من ذكر الله حتى تتحقق فيهم تقوى الله :" وذكروا الله كثيراً".
4)وأن يكون شعرهم سلاحاً ينتصرون به من الظلم:"وانتصروا من بعد ما ظلمونا ".
وهذه السمات الأربع التي تميز الشعراء المؤمنين هي التي تحدد التزامهم بالإسلام قولاً وعملاً ،وهي التي تجعل الشعر سلاحاً بأيدي المؤمنين كما جعله رسول ا صلى الله عليه وسلم في المعركة التي دارت رحاها بين الإسلام ومشركي قريش ، حين قال أصحابه(43):" جاهدوا المشركين بألسنتكم ". وقال أيضاً: " اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل. وكان من قوله صلى الله عليه وسلم " أمرت عبد الله بن رواحة فقال وأحسن ، وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن ، وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى".
قالت عائشة فسمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك، نافحت عن الله ورسوله، وقالت عائشة : سمعت رسول ا صلى الله عليه وسلم يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى"(44).
والالتزام في الأدب الإسلامي التزام عقدي، والعقيدة في الفن سمو به إلى أكبر حقيقة في الكون ، (وهي عقيدة التوحيد ) وهذا ما يجعل الفن كونياً واسعاً(45).
والالتزام في الأدب الإسلامي التزام عفوي لأنه لا إكراه في الدين، ولأن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز" أفنلزمكموها وأنتم لها كارهون" ولأن الالتزام في الأدب الإسلامي التزام عفوي فهو لا يفسد التجربة الأدبية ولا يجعلها ضيقة مصطنعة، أو مزيفة.
والالتزام شامل لكل التجارب الإنسانية في كل زمان ومكان. ومن هنا كان تعريف الأدب الإسلامي بأنه التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي. وما دام الأدب الإسلامي قائماً على التصور الإسلامي الصحيح فلن يَضل ولن يُضل إن شاء الله.
وفي مجال الدعوة إلى هذا الأدب الذي ينطلق من عقيدة الأمة وتراثها يقول الدكتور محمد مصطفى هدارة:"(46)فإذا دعونا إلى أدب إسلامي عنينا به مذهباً أدبيا له خصائصه الفكرية والفنية ، التي تعبر عن شخصيتنا الإسلامي وتراثنا .. وقاعدته الفكرية التي ينطلق منها هي الإسلام، وهو أرقى وأشمل في نظرته للكون والإنسان من كل الفلسفات المثالية والعقلية والمادية التي قامت عليها المذاهب الأدبية المختلفة ، وهو لا ينبع من تعصب فكري ، ولا يؤمن بالمفارقة بين ما تدعو إليه العقيدة من التزام ديني ، وما يدعو إليه الفن من انطلاق وتحرر لتحقيق الجمال ومتعة الذوق".
*رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية
ورئيس تحرير مجلة الأدب الإسلامي .(1)- الاشتراكية والأدب- وليس عوض 180 ( نقلا عن الالتزام الإسلامي في الشعر ، د. ناصر الخنين ص 26)
(2) النقد الأدبي الحديث- محمد غنيمي هلال 456.(14/476)
(3)- الالتزام في الأدب الإسلامي - محمد مصطفى هدارة ص 1 ( من بحوث ندوة الأدب الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سنة 1405هـ.
(4) المعجم الأدبي - جبور عبد النور ص 31.
(5) نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد - د. عبد الرحمن الباشا ص 119 ، نشر جامعة الإمام 1404 هـ/1985م.
(6) انظر "المصدر السابق ص 120.
(7) انظر كتاب "ما الأدب لسارتر . ترجمة د.محمد غنيمي هلال . درا نهضة مصر .
(8) انظر كتاب "ما الأدب " لسارتر . ترجمة د . محمد غنيمي هلال درا نهضة مصر.
(9) المذاهب الأدبية . فان تيفم ص 622 - 265.
(10) ،(11)الالتزام في الأدب الإسلامي (المصدر السابق) ص 3 ، وانظر الأدب وقيم الحياة د. محمد زكي العشماوي ص 177 - الهيئة المصرية للكتاب سنة 1974م.
(12) الالتزام في الأدب الإٍسلامي - هدارة ص 3 " المصدر السابق.
(13) الالتزام في الشعر العربي - د. أحمد أبو حاقة ص 13 -دار العلم للملايين ، بيروت سنة 1979م.
(14) قضايا معاصرة في الأدب والنقد - د. محمد غنيمي هلال ص 174 -دار نهضة مصر.
(15) الاشتراكية في الأدب ص 174 ( نقلا عن الالتزام الإسلامي " المصدر السابق " ص 98.
(16) مقالات في النقد الأدبي - ترجمة د. لطيفة الزيات ص 45 ( نقلا عن الالتزام الإسلامي ص 96).
(17) الأدب وقيم الحياة المعاصرة "المصدر السابق" ص 194.
(18) الاشتراكية في الأدب " المصدر السابق " ص 180
(19)دراسات في النقد-ألن تيت ترجمة د.عبد الرحمن ياغي ص 138 وما بعدها (الالتزام الإسلامي -المصدر السابق 97)
(20) نماذج أدبية د. عبد القدوس أبو صالح ص 170 - مكتبة الجماعية العربية - حلب.
(21) قضايا النقد الأدبي - د. بدوي طبانة ص 70 " المصدر السابق ".
(22) الالتزام في الشعر العربي - أبو حاقة ص 367 " المصدر السابق
(23)، (24)، (25)، (26) -فن الأدب توفيق الحكيم ص 74-76 القاهرة - مكتبة الآداب
(27) فن الأدب - توفيق الحكيم ص 74-76 القاهرة - مكتبة الآداب.
(28) انظر : حديث القلم للدكتور محمدرجب البيومي ص 353.
(29)، (30) مجلة الثقافة، العدد 279.
(31) الأدب الهادف - محمد النويهي ص 67 (عن الالتزام الإسلامي"المصدر السابق "331).
(32) في النقد الأدبي -د. شوقي ضيف ص 191 - دار المعارف بمصر .
(33) الأدب الهادي ص 67 " المصدر السابق".
(34) شعرنا الحديث .. إلى أين .. غالي شكري ص 174 (دار الآفاق الجديدة - بيروت).
(35) اتجاهات الشعر العربي المعاصر -د. إحسان عباس ص 204 (عالم المعرفة - الكويت)
(36) حركة النقد الحديث والمعاصر في الشعر العربي د. إبراهيم الحاوي ص 164 (مؤسسة الرسالة - بيروت).
(37) زمن الشعر - أودنيس 88 (دار العودة - بيروت).
(38) مجلة فصول مجلد 4 عدد 3 ص 37 - القاهرة
(39) مقدمة للشعر العربي - أدونيس ص 127- دار العودة بيروت.
(40) دراسات في النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق -د. محمد مصطفى هدارة - الدار الأندلسية للأوفست 1989م
(41) في المحاضرة التي ألقاها في مركز الملك فيصل بالرياض عن الأدب الإسلامي ولخصتها صحيفة المسلمون في العدد 209 بتاريخ 27 جمادى الثانية سنة 1409هـ.
(42) سورة الشعراء 224 وما بعدها .
(43) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.
(44) صحيح مسلم في باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه.
(45) منهج الفن الإسلامي - محمد قطب ص 176.
(46) مجلة الأدب الإسلامي-المجلد الأول-العدد الثاني ص12.
=============(14/477)